عشرةُ النِّساءِ للإمامِ للنسائيِّ
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } (19) سورة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة هامة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد هيأ الله سحانه وتعالى لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من يحفظها وينقيها من كل شائية ألصقت فيها من قبل الرواة ، مما لم يتوافر لنبي قبله بتاتاً .
ومن هؤلاء الحفاظ الأفذاذ الإمام أبو عبد الرحمن النسائي رحمه الله ، فقد جمع كتبا عديدة في النسة النبوية وأهمها كتابه الكبير السنن الكبرى ، وقد اختصره بعض طلابه بما يسمَّى المجتبى ، وليس هو ، بدليل حذف كتب كاملة منه تزيد على العشرين ، ومن الكتب التي احتوت عليها السنن الكبرى (كتاب عشرة النساء) وهو الكتاب رقم 51 منها .
ويوجد في المجتبى قطعة من كتاب عشرة النساء وهو الكتاب 37-عشرة النساء
وقد حوى أربعة أبواب ليس إلا وهي :
1 - باب حُبِّ النِّسَاءِ. (1)
2 - باب مَيْلِ الرَّجُلِ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ دُونَ بَعْضِ. (2)
3 - باب حُبِّ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ. (3)
4 - باب الْغَيْرَةِ. (4)
وهي تبدأ من الحديث رقم 3956 وتنتهي بالحديث رقم 3982 (نسخة المكنز)
بينما في السنن الكبرى تزيد على المائة باب
===============
وسيكون حديثنا عن كتاب (عشرة النساء للنسائي )من خلال المباحث التالية :
المبحث الأول-طبعات السنن الكبرى للنسائي
المبحث الثاني -طبعات كتاب عشرة النساء
المبحث الثالث- عملنا في هذا الكتاب
المبحث الرابع -ترجمة مختصرة للنسائي رحمه الله
-------------------
المبحث الأول-طبعات السنن الكبرى للنسائي
الطبعة الأولى - طبعة دار الكتب العلمية
مراجعة : د.عبد الغفار سليمان البنداري , سيد كسروي حسن
بلد النشر : بيروت
س.النشر : 1991م-1411هـ
عدد الأجزاء : 6 - وعدد أحاديثها (11770) حديثا
وهي مدققة على عدة نسخ خطية ، وعليها تعليقات جيدة ، ولكنها غير مخرجة كاملة ، وتحتاج لشرح وينقصها بعض الكتب
والنسخة التي على النت( والمنقولة عنها ) ليس فيها تعليقات ولا تشكيل وفيها اخطاء مطبعية عدبدة .
الطبعة الثانية - طبعة مؤسسة الرسالة ، وعادة ما تكون طبعاتهم متقنة ومدققة على عدة نسخ خطية ، وهذه النسخة عدد أحاديثها ( 11949 ) وفيها زيادة كتاب المواعظ والرقائق والملائكة، ولكنه لا يوجد فيها كتاب الإيمان الموجود في النسخة الأولى
فالنسخة الموجودة على النت فيها ذكر ترقيم للتحفة والجزء والصفحة للمجتبى ، ولكنها خالية من التعليق والتخريج والتشكيل ، ومع هذا فهي نسخة مدققة بشكل لا بأس به ، ولا تخلو من الأخطاء المطبعية وغيرها
وهناك طبعة ثالثة تحقيق حسن عبد المنعم شلبي
المجلدات 12 مجلد
قدم له : عبد الله بن عبد المحسن التركي
أشرف عليه : شعيب الأرناؤوط
وهي نفس الطبعة السابقة 2001م 1421 هـ طبع مؤسسة الرسالة .
وهي مشكلة إلى حدٍّ ما ، ومقارنة بين النسخ الخطية للكتاب ، وفيها شرح بعض الغريب بشكل مقتضب .
والمحقق قام بتخريج الأحاديث بشكل مختصر ،
الطبعة الرابعة - وهي موجودة بموقع جامع الحديث النبوي ، وهذه طريقتهم في العمل :
منهج العمل في ضبط النصوص
تمهيد:
مما لا شك فيه أن الكتب المطبوعة التي نتعامل معها كأصول للمشروع، بها كثير، وكثير جدا من الأخطاء، والتصحيفات، والتحريفات، والإقحامات، والأوهام ونحو ذلك.
الأمر الذي يجعل اعتبارها أصولا غير مفيد، ولا مجدٍ، ومن المعلوم أنه لا مفر من التعامل مع هذه المطبوعات؛ إذ ليس لها بدائل ميسرة. وانطلاقا من هذا المفهوم أخذنا على عاتقنا ما يلي:
1 ـ ضبط النسخ المتاحة ـ قدر المستطاع ـ عن طريق مقابلتها على ما تيسر لدينا من نسخ أخرى، أو الاكتفاء بضبط النسخة المتوفرة لدينا.
2 ـ تصويب التصحيفات والتحريفات التي تمتلئ بها النسخ مع الإشارة إلى المثبت في المطبوع، وذكر الحيثيات إن لزم الأمر، أو الإبقاء على محل الإشكال مع التحشية بحسب القرائن التي تحف كل موضع يتطلب تدخل أو تصرف منا.
3 ـ إثبات بعض الفوائد في تعيين الرواة من جهة الجمع والتفريق والمشتبه والمفترق ونحو هذه الفنون الحديثية الدقيقة.
4 ـ بعض الفوائد المتعلقة بضبط بعض ألفاظ المتون، والخلف الحاصل فيها، ونحوذلك.
هذه النقاط قمنا بصياغتها، ومنهجيتها عن طريق آلية عمل يدوية، وبرمجية بحيث تظهر في صورة حواشي يتزين بها المشروع، وتثري مادته العلمية. ومن المتوقع أن تصبح هذه الحواشي مرجعا علميا لضبط النسخ المطبوعة الرديئة في سوق المطبوعات، ولعلها تساهم في تنقيح التراث الإسلامي المطبوع، والذي يعرف كل من تعامل معه مدى احتياجه للتنقيح، والضبط، والتحرير.
المنهج:
تم تحرير فروق النسخ المشار إليها في خدمة ضبط النص، وكذلك ما يتعلق بمواضع إشكال تعيين بعض الرواة، وكذا الفوائد التي نقع عليها في أي فرع يتعلق بالأحاديث سواء كانت فائدة على سند، أو راو فيه، أو على متن، أو لفظة فيه، أو على الحديث كله سندا ومتنا. وكان ذلك عن طريق بعض الأدوات البرمجية المساعدة التي من خلالها يتم استدعاء هذه النقاط التي كان يسجلها الباحث أثناء عمله، ثم تحريرها، مراعين في ذلك ما يجب أن يتوفر في الحواشي من:
* الإفادة
* حسن الصياغة
* وحدة الأسلوب
* الاختصار غير المخل.
وقد ندعم ذلك ـ مستقبلا ـ بإلحاق بعض الكتب المعنية بتعيين بعض المهملات أو المبهمات، أو وصل المعلقات، وكذا فوائد الجمع والتفريق، والمفترق والمفترق، ونحو هذه الفنون التي يعتني بها أهل الصناعة. والله الموفق.
وقد تمت هذه الخدمة من خلال مراحل أربعة سبقت الإشارة إليها ـ عرضا ـ في منهج التعيين، هذه المراحل هي:
مرحلة النسخ:
وهي مرحلة نسخ الكتب على الحاسوب ثم مقابلة المنسوخ على الحاسوب على الكتاب لضمان تطابق النسخ.
مرحلة العرض والمقابلة:
وهي مرحلة مقابلة النص المنسوخ على الحاسوب بما تيسر لنا من نسخ أخرى، أو الاكتفاء بالنسخة المتوفرة لدينا. هذا وقد اعتمدنا في خدمة المقابلة على طريقة النسخة الأم، ومن له اشتغال بهذا العلم الشريف يعرف أن أهل الصناعة لهم منهجان مشهوران في مقابلة وعرض النسخ،
الأول: منهج النسخة الأم: وهو المنهج الذي يعنى باعتماد نسخة كأصل، وتنزيل الفروق فروق النسخ الأخرى عليها، مع التحشية.
الثاني: منهج النص المختار: وهو المنهج الذي يعنى بإثبات الصواب أينما وجد مع الإشارة.
مرحلة التحشية وإثبات الفروق:
وهي مرحلة إثبات فروق النسخ الواقعة بين الأصول المعتمدة عندنا، وبين ما تيسر من نسخ أخرى على نحو ما سبقت الإشارة إليه، وكذلك التحشية بتصويب التصحيفات، والتحريفات، والأوهام، والتي أظهرتها مرحلة العرض والمقابلة، كذلك إثبات الفوائد المشار إليها في التمهيد، والتحشية بها.
مرحلة تحرير الفروق، والحواشي:
وهي مرحلة تحرير فروق النسخ المثبتة عن طريق استدعائها بأدوات وطرق ونظم برمجية مساعدة، وذلك لإثبات الصواب مع التعليق على ما كان مثبتا في الأصل المعتمد، والإشارة إلى المصدر الذي تم التصويب منه. هذا إن كان الفرق المثبت، أو التصحيف مما لا تستنكر النفوس أن يصوب في أصل متن الأصل المعتمد عليه كنسخة أم، وإلا أبقينا محل الإشكال على ما هو عليه، وأشرنا في الحاشية إلى الحيثيات.
هذا وقد اعتنى المشروع بضبط نصوصه رسما، وشكلا بحيث يخرج النص مشكولا من أجل أن يسهل على المستخدم قراءته، ومعرفة بيان المراد منه، وهي خدمة كبيرة جليلة نقدمها للأمة الإسلامية، ولم نسبق إليها من جهة كم النصوص التي تعاملنا معها، والحمد لله وحده، وبالله التوفيق.
---------------
قلت :
هذا وقد بلغ عدد أحاديثها ( 10633 ) و سبب قلة الأرقام ، عدم ذكر رقم الحديث المكرر أو المحال عليه
وهذه النسخة هي أدق النسخ على الإطلاق ولذا سأعتمد عليها في نقل نص الكتاب
===================(1/1)
المبحث الثاني -طبعات كتاب عشرة النساء
هناك طبعات عديدة لكتاب عشرة النساء وعندي طبعة منذ ربع قرن
الطبعة رقم: 1
صفحة: 144
القياس: 17×24cm
الناشر: دار الكتب العلمية
وقد بلغت 403 أحاديث.
وهي مرقمة وعليها بعض التعليقات ،ولكنها غير مخرجة بشكل دقيق .
ولا توجد في مكتبة مشكاة الإسلامية على النت
ولا توجد في مكتبة صيد الفوائد كذلك
ولا في الوقفية
وقد بحثت عنها في النت فلم أعثر عليها
وهو موجودة ضمن الطبعات اللتي أشرت إليها :
ففي الطبعة الأولى بيروت - يبدأ كتاب عشرة النساء فيها من الحديث رقم 8887 وينتهي بالحديث رقم 9285
وفي طبعة مؤسسة الرسالة يبدأ من الحديث رقم 8836 وينتهي بالحديث رقم 9240
وفي الوقفية نفس طبعة مؤسسة الرسالة وهي مشكلة إلى حدٍّ ما ، ومخرجة الأحاديث وهي بتحقيق حسين عبد المنعم شلبي بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط الطبعة الأولى 2001م 1421هـ بيروت
وقد قام المحقق بالمقارنة بين نسخ الكتاب وخرج الأحاديث بشكل مختصر ، وفيها شرح لبعض الكلمات الغريبة .
الملاحظات على الهامة التخريج :
أولا- لا يحكم على الأحاديث التي ليست في الصحيحين من حيث الصحة والحسن والضعف ،ولكنه كثيرا ما يحيل القارئ إلى الكتب التي قامت مؤسسة الرسالة بطبعها مثل صحيح ابن حبان ومسند الإمام أحمد ومشكل الآثار للطحاوي ، يعني أنك لا تعرف حكم الحديث حتى ترجع لهذه الكتب ، وكأنها دعاية لكتب مؤسسة الرسالة !!!
ثانيا- هناك محلاظات عديدة على التخريج :
منها أنه قال عن الحديث رقم (8847) الرسالة رقم(10) من نسختنا أنه قد تفرد به النسائي من بين أصحاب الكتب الستة ، ولم يبين نوع هذا التفرد هل هو في المتن أو في السند ، والحديث نفسه في صحيح البخاري برقم(2392) المكنز مطولا ، والفرق بينهما أنه عند النسائي عن أم سلمة وعند البخاري عن عائشة
والمتن واحد مع اختلاف طفيف بالألفاظ .
والحديث رقم (14) من نسختنا رقم(8851) قال النسائي عقبه قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : هَذَا الصَّوَابُ وَالَّذِي قَبْلَهُ خَطَأٌ
ولم يتعقبه المحقق بشيء والصواب أن الحديثين كلاهما صحيح بلا ريب
والحديث رقم (16) من نسختنا لم يقم بتخريجه (8854) وإنما أحال على الحديث الذي قبله ،ولكنهما مختلفان سندا ومتنا وإن تشابها في أصل القصة وكلاهما صحيح .
والحديث رقم(19) من نسختنا رقم(8857) لم يقم بتخريجه وإنما قال تفرد به النسائي ، والتفرد ليس بعلة قادحة ، فكلُّ إمام تفرد برواية أحاديث عن غيره ، ولا يكون علة قادحة إلا إذا خالف الثقات ولم يوجد ما يقويه ، وهذا الحديث صحيح
وقال عن الحديث الذي بعده (20) رقم(8858) تفرد به النسائي من بين أصحاب الكتب الستة ،والحديث في صحيح مسلم بسياق أتم برقم(7288) المكنز
الحديث (29) رقم(8868) قال عنه تفرد به النسائي .. ولم يزد ، وهذا ليس بتخريج أصلاً !!!
وهو حديث حسن
الحديث (38) رقم(8879) قال عنه تفرد به النسائي !
قلت : هو حديث صحيح
قلت : ومن هفواته أن الإمام النسائي يذكر الحديث مختصرا من طريق ومطولا من طريق آخر ، فلا يقوم المحقق بتخريج الطريق المختصر وإنما يحيل على الآخر ، وهذا ليس بسديد فهو حديث مفصول عن الذي بعده كالحديث (39) رقم(8881) وقد أخرجه البخاري بهذا اللفظ مقتصرا على أوله ،و هذه طريقة المحدثين عادة يحدثون بالحديث حسب المقام أو أن الراوي رواه مرتين مرة مختصرا ومرة مطولا .
الحديث (48) رقم(8889) قال عنه تفرد به النسائي
قلت : وهو حديث صحيح
والحديثان (49و50) رقم(8890و8891) لم يزد على أن قال في تخريجهما سلف قبله !!!!
الحديث (52) رقم(8893) قال في التخريج أخرجه أبو داود (2578) وإنما أخرج أبو داود الرواية التي بعده وليس هذه ، بل لم يخرج هذه اللفظة (هَذِهِ بِتِيكِ)
أحد من أصحاب الكتب الستة!!!
الحديث (57) رقم(8898) أحال في تخريجه على الذي قبله ، وهذا ليس بدقيق فالذي قبله مخرج في الصحيحين ، وهذا ليس فيهما وهناك اختلاف في النص كبير !!!
وقد أخرجه أحمد برقم(25030) والآحاد برقم(2681) والطبراني برقم(18799) والحميدي برقم(277) صحيح
والحديث الذي بعده أحال على الذي قبله ، وهو عجيب أيضاً !!!
فالحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب التسعة بهذا اللفظ وهو عند البخاري في الأدب المفرد برقم(1341) وهو صحيح
وعنده خلط كثير من هذا القبيل
والحديث (66) رقم(8907) قال عنه تفرد به النسائي
وهو حديث صحيح
والحديث (70) رقم(8911) قال تفرد به النسائي
وهو حديث صحيح
الحديث (86) رقم(8931) قال عنه تفرد به النسائي
وفيه ضعف
الحديث (134) رقم(8982) قال عقبه النسائي : هذا حديث منكر
فلم يذكر المحقق شيئا عن هذه اللفظة
قلت : أما متن الحديث فصحيح ، وإنما حكم عليه النسائي رحمه الله بالنكاره بسبب سنده لأن المشهور أنه من رواية كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس فخالفت هذه الرواية المشهور في السند ، وقد يكون المقصود بالنكاره عند الأقدمين التفرد ليس إلا
الحديث (144) رقم(8993) قال عنه النسائي في الذي بعده الصَّوَابُ حَدِيثُ إِسْحَاقَ ، وَحِدِيثُ عَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ خَطَأٌ
ولم يتعقبه المحقق بشيء ويظهر أنه ليس من أهل هذا الفن
قلت : الصواب أنه صحيح وليس بخطأ فهو بنفس لفظ الحديث الذي قبله وهو في صحيح مسلم
وفي الحديث (270) رقم(9123) وفيه أنه لَا يُسْأَلُ الرَّجُلُ فِيمَ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ
ولم يعقب عليه بشيء ولا على غيره .
قلت: ولايخفى أن هذا في الضرب غير المبِّرح ، أما ما سواه فيسأل عنه
وغير ذلك
وكذلك فهو لا يتعرض لشرح الحديث بتاتاً في سائر الكتاب
وقال عن الحديث (276) رقم(9129) أخرجه ابن عدي في الكامل ...
وفاته أنه في هذه المصادر سنن الترمذى برقم( 1807 )ومستخرج أبي عوانة برقم( 5684) وابن حبان برقم( 4569و4570 ) و فتح الباري 113/13 وقال : إسناده صحيح والسلسلة الصحيحة برقم( 1636) وأخرجه في المعجم الأوسط للطبراني برقم( 1770) موصولا والأحاديث المختارة للضياء - (ج 3 / ص 200) برقم(2458 و2459)
وقال عقبه أيضا وانظر ما بعده موقوفا
والصواب أنه مرسل وليس بموقوف !!!
فهذا خلط عجيب بين الحديث المرسل والحديث الموقوف لو صح قوله لكان مقطوعا وليس موقوفا فالحسن هو البصري تابعي وليس بصحابي !!!
والخلاصة أنه يجب الانتباه لمن كان عنده هذه النسخة فعليها ملاحظات كثيرة ، والله أعلم .
================(1/1)
المبحث الثالث- عملنا في هذا الكتاب
هذا الكاتب يعتبر من أهم الكتب التي تتحدث عن عشرة النساء ، فقد تحدث فيه الإمام النسائي عن أمور النساء وكيفية معاملتهن وطبيعتهن ، وتحدث عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وعلاقتهن به ، وبين ما يجوز وما لا يجوز في العلاقة بين الزوجين ، ومن طبيعته في السنن الكبرى أنه يستقصي الطرق والأسانيد والألفاظ للحديث الواحد ، وهذه ميزة هامة جدًّا فيه انظر على سبيل المثال حديث النهي عن نكاح الدبر تجده قد ذكر كل رواياته وطرقه.....
وتعود صلتي بهذا الكتاب للطبعة الأولى له في بيروت ، فقد قمت باحتصاره منذ حوالي عشرين سنة وحذفت أسانيده وحذفت المكرر والضعيف منه فأصبح حوالي (170) حديثا ، ثم قمت بشرح كل باب على حدة باختصار ، وذلك ليكون سهل التناول بين أيدي عامة الناس ، ولكن لم يقدر الله تعالى له النشر ، فبقي بين طيات رفوف مكتبتي .
وأما هذه النسخة فقد قمت بجمعها من جامع الحديث النبوي حديثا حديثاً ، وأبقيت على ترتيب الأبواب وعلى الترقيم العام له في جامع الحديث النبوي ، ووضعت قبله ترقيما للأحاديث تبدأ بالحديث رقم (1) وتنتهي بالحديث رقم (384) وقد سقط منها حديث سهوا فاستدركته فصار العدد (385)
وأما طريقة عملي فهي كما يلي :
1. قارنت بين نسخ الكتاب وخاصة هذه ونسخة مؤسسة الرسالة وزدت الفروق الموجودة في طبعة مؤسسة الرسالة ، وهي فروق طفيفة جدا في بعض العناوين ، وليس في الأحاديث
2. قمت بتخريج جميع الأحاديث فيه تخريخا مختصرا من مظانها الأساسية وذلك بذكر رقم الحديث في الكتب التي أخرجته أو الجزء والصفحة.
3. الحكم على الحديث إذا لم يكن في الصحيحين أو أحدهما ، وغالب أحاديثه يدور بين الصحة والحسن ، وفيه بعض الضعيف .
4. حكمي على الأحاديث التي ليست في الصحيحين يدور بين الاتباع والاجتهاد ، ولم أكن مقلدا لمدرسة معينة من المدارس الحديثة
5. قمت بنقل شرح الحديث من سائر كتب الحديث سواء شروح النسائي أو شروح الكتب الأخرى وكذلك من كتب أحاديث الأحكام وكتب الفقه وكتب الفتاوى المعاصرة ، بحيث استقصيت في الشرح ، وكل واحد منها معزوٌّ لصاحبه ، مع ذكر الجزء والصفحة وغالبها نسخة الشاملة 2
6. قمت بشرح الآيات التي ساقها من كتب التفسير ولا سيما تفسير آيات الأحكام
7. رددت على بعض الشبهات التي أثيرت حول بعض الأحاديث النبوية
8. عملت له فهرسا على الورد كالكتاب الإلكتروني تماما وهو للأبواب فقط
9. ذكرت ترجمة مختصرة للإمام النسائي رحمه الله من سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه الله .
10. ذكرت أهم المصادر والمراجع التي اعتمدت عليها في آخر الكتاب
================
المبحث الرابع -ترجمة مختصرة للنسائي رحمه الله
هذه الترجمة من كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الحافظ الذهبي رحمه الله
النَّسَائِيُّ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدُ بنُ شُعَيْبِ بنِ عَلِيٍّ
الإِمَامُ، الحَافِظُ، الثَّبْتُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، نَاقِدُ الحَدِيْثِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدُ بنُ شُعَيْبِ بنِ عَلِيِّ بنِ سِنَانَ بنِ بَحْرِ الخُرَاسَانِيُّ، النَّسَائِيُّ، صَاحِبُ(السُّنَنِ).
وُلِدَ بِنَسَا فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمائَتَيْنِ، وَطَلَبَ العِلْمَ فِي صِغَرِهِ، فَارْتَحَلَ إِلَى قُتَيْبَةَ فِي سَنَةِ ثَلاَثِيْنَ وَمائَتَيْنِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ بِبَغْلاَنَ سَنَةً، فَأَكْثَرَ عَنْهُ.
وَسَمِعَ مِنْ:إِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه، وَهِشَامِ بنِ عَمَّارٍ، وَمُحَمَّدِ بنِ النَّضْرِ بنِ مُسَاوِرٍ، وَسُوَيْدِ بنِ نَصْرٍ، وَعِيْسَى بنِ حَمَّادٍ زُغْبَةَ، وَأَحْمَدَ بنِ عَبْدَةَ الضَّبِّيِّ، وَأَبِي الطَّاهِرِ بنِ السَّرْحِ، وَأَحْمَدَ بنِ مَنِيْعٍ، وَإِسْحَاقَ بنِ شَاهِيْنَ، وَبِشْرِ بنِ مُعَاذٍ العَقَدِيِّ، وَبِشْرِ بنِ هِلاَلٍ الصَّوَّافِ، وَتَمِيْمِ بنِ المُنْتَصِرِ.(14/126)
وَالحَارِثِ بنِ مِسْكِيْنٍ، وَالحَسَنِ بنِ الصَّبَّاحِ، البَزَّارِ، وَحُمَيْدِ بنِ مَسْعَدَةَ، وَزِيَادِ بنِ أَيُّوْبَ، وَزِيَادِ بنِ يَحْيَى الحَسَّانِيّ، وَسَوَّارِ بنِ عَبْدِ اللهِ العَنْبَرِيِّ، وَالعَبَّاسِ بنِ عَبْدِ العَظِيْمِ العَنْبَرِيِّ، وَأَبِي حُصَيْن عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ اليَرْبُوْعِيِّ، وَعَبْدِ الأَعْلَى بنِ وَاصِلٍ، وَعَبْدِ الجَبَّارِ بنِ العَلاَءِ العَطَّارِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ الحَلَبِيِّ، ابْنِ أَخِي الإِمَامِ، وَعَبْدِ المَلِكِ بنِ شُعَيْبٍ بنِ اللَّيْثِ، وَعَبْدَةَ بنِ عَبْدِ اللهِ الصَّفَّارِ، وَأَبِي قُدَامَةَ عُبَيْدِ اللهِ بنِ سَعِيْدٍ، وَعتبَةَ بنِ عَبْدِ اللهِ المَرْوَزِيِّ، وَعَلِيِّ بنِ حُجْرِ، وَعَلِيِّ بنِ سَعِيْدِ بنِ مَسْرُوْقٍ الكِنْدِيِّ، وَعَمَّارِ بنِ خَالِدٍ الوَاسِطِيِّ، وَعِمْرَانَ بنِ مُوْسَى القَزَّازِ، وَعَمْرو بنِ زُرَارَةَ الكِلاَبِيِّ، وَعَمْرو بنِ عُثْمَانَ الحِمْصِيِّ، وَعَمْرو بنِ عَلِيٍّ الفَلاَّسِ، وَعِيْسَى بنِ مُحَمَّدٍ الرَّمْلِيِّ، وَعِيْسَى بنِ يُوْنُسَ الرَّمْلِيِّ، وَكَثِيْرِ بنِ عُبَيْدٍ، وَمُحَمَّدِ بنِ أَبَانٍ البَلْخِيِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ آدَمَ المَصِّيْصِيِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ بنِ عُلَيَّةَ قَاضِي دِمَشْقَ، وَمُحَمَّدِ بنِ بَشَّارٍ، وَمُحَمَّدِ بنِ زُنْبُوْرٍ المَكِّيّ، وَمُحَمَّدِ بنِ سُلَيْمَانَ لُوَيْن، وَمُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمَّارٍ، وَمُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ المُخَرِّمِيِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ أَبِي رِزْمَةَ، وَمُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، وَمُحَمَّدِ بنِ عُبَيْدِ المُحَارِبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ العَلاَءِ الهَمْدَانِيِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ قُدَامَةَ المَصِّيْصِيِّ الجَوْهَرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ مُثَنَّى، وَمُحَمَّدِ بنِ مُصَفَّى، وَمُحَمَّدِ بنِ مَعْمِرِ القَيْسِيِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ مُوْسَى الحَرَشِيّ، وَمُحَمَّدِ بنِ هَاشِمٍ البَعْلَبَكِّيِّ، وَأَبِي المُعَافَى مُحَمَّدِ بنِ وَهْبٍ، وَمجَاهِدِ بنِ مُوْسَى، وَمَحْمُوْدِ بنِ غَيْلاَنَ، وَمَخْلَدِ بنِ حَسَنِ الحَرَّانِيِّ، وَنَصْرِ بنِ عَلِيٍّ الجَهْضَمِيِّ، وَهَارُوْنَ بنِ عَبْدِ اللهِ الحَمَّالِ، وَهَنَّادِ بنِ السَّرِيِّ، وَالهَيْثَمِ بنِ أَيُّوْبَ الطَّالْقَانِيّ، وَوَاصِلِ بنِ عَبْدِ الأَعْلَى، وَوَهْبِ بنِ بيَان، وَيَحْيَى بنِ دُرُسْت البَصْرِيِّ، وَيَحْيَى بنِ مُوْسَى خَتِّ، وَيَعْقُوْبَ الدَّوْرَقِيِّ، وَيَعْقُوْبَ بنِ مَاهَانِ البَنَّاءِ، وَيُوْسُفَ بنِ حَمَّادِ المَعْنِيِّ، وَيُوْسُفَ بنِ عِيْسَى الزُّهْرِيِّ، وَيُوْسُفَ بنِ وَاضِحٍ المُؤَدِّبِ، وَخَلْقٍ كَثِيْرٍ، وَإِلَى أَنْ يَرْوِي عَنْ رُفَقَائِهِ.(14/127)
وَكَانَ مِنْ بُحُوْرِ العِلْمِ، مَعَ الفَهْمِ، وَالإِتْقَانِ، وَالبَصَرِ، وَنَقْدِ الرِّجَالِ، وَحُسْنِ التَّأْلِيْفِ.
جَالَ فِي طَلَبِ العِلْمِ فِي خُرَاسَانَ، وَالحِجَازِ، وَمِصْرَ، وَالعِرَاقِ، وَالجَزِيْرَةِ، وَالشَّامِ، وَالثُّغُوْرِ، ثُمَّ اسْتَوْطَنَ مِصْرَ، وَرَحَلَ الحُفَّاظُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ نَظِيْرٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ.
حَدَّثَ عَنْهُ:أَبُو بِشْرٍ الدُّوْلاَبِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيّ، وَأَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُوْرِيُّ، وَحَمْزَةُ بنُ مُحَمَّدٍ الكِنَانِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ النَّحَّاس النَّحْوِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ الحَدَّادِ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الكَرِيْمِ بنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، وَالحَسَنُ بنُ الخَضِرِ الأُسْيُوْطِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ السِّنِيّ، وَأَبُو القَاسِمِ سُلَيْمَانُ بنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بنُ مُعَاوِيَةَ بنِ الأَحْمَرِ الأَنْدَلُسِيُّ، وَالحَسَنُ بنُ رَشِيْقٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ حَيُّوْيَه النَّيْسَابُوْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بنُ مُوْسَى المَأْمُوْنِيُّ، وَأَبْيَضُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أَبْيَضَ، وَخَلْقٌ كَثِيْرٌ.
وَكَانَ شَيْخاً مَهِيْباً مَلِيْحَ الوَجْهِ ظَاهِرَ الدَّمِ حَسَنَ الشَّيْبَةِ.
قَالَ قَاضِي مِصْرَ أَبُو القَاسِمِ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أَبِي العَوَّامِ السَّعْدِيُّ:حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ، أَخْبَرْنَا إِسْحَاقُ بنُ رَاهْوَيْه، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَعْيَنَ قَالَ:قُلْتُ لاِبْنِ المُبَارَكِ:إِنَّ فلاَنَا يَقُوْلُ:مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] مَخْلُوْقٌ فَهُوَ كَافِرٌ.
فَقَالَ ابْنُ المُبَارَكِ:صَدَقَ، قَالَ النَّسَائِيُّ:بِهَذَا أَقُوْلُ.(14/128)
وَعَنِ النَّسَائِيِّ، قَالَ:أَقَمْتُ عِنْدَ قُتَيْبَةَ بنِ سَعِيْدٍ سَنَةً وَشَهْرَيْنِ.
وَكَانَ النَّسَائِيُّ يَسْكُنُ بِزُقَاقِ القَنَادِيْلِ بِمِصْرَ.
وَكَانَ نَضِرَ الوَجْهِ مَعَ كِبَرِ السِّنِّ، يُؤْثِرُ لِبَاسَ البُرُوْدِ النَّوْبِيَّةِ وَالخُضْرِ، وَيُكْثِرُ الاسْتِمَتَاعَ، لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، فَكَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ، وَلاَ يَخْلُو مَعَ ذَلِكَ مِنْ سُرِّيَّةٍ، وَكَانَ يُكْثِرُ أَكْلَ الدُّيُوْكِ تُشْترَى لَهُ وَتُسَمَّن وَتُخْصَى.
قَالَ مَرَّةً بَعْضُ الطَّلَبَةِ:مَا أَظُنُّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلاَّ أَنَّهُ يَشْرَبُ النَّبِيْذَ لِلنُّضْرَةِ الَّتِي فِي وَجْهِهِ.
وَقَالَ آخَرُ:لَيْتَ شِعْرِي مَا يَرَى فِي إِتيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ؟
قَالَ:فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:النَّبِيْذُ حَرَامٌ، وَلاَ يَصِحُّ فِي الدُبُرِ شَيْءٌ.
لَكِنْ حَدَّثَ مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:(اسقِ حَرْثَكَ حَيْثُ شِئْتَ).
فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَاوَزَ قَوْلُهُ.
قُلْتُ:قَدْ تَيَقَنَّا بِطُرُقٍ لاَ مَحِيْدَ عَنْهَا نهِيَ النَّبِيّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-عَنْ أَدْبَارِ النِّسَاءِ، وَجَزَمْنَا بِتَحْرِيْمِهِ، وَلِيَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ كَبِيْرٌ.(14/129)
وَقَالَ الوَزِيْرُ ابْنُ حِنْزَابَةُ:سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ مُوْسَى المأَمونِيَّ-صَاحِبُ النَّسَائِيّ قَالَ:سَمِعْتُ قَوْماً يُنْكِرُوْنَ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ كِتَاب(الخَصَائِص)لِعَلِيٍّ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-وَتَرْكَهُ تَصْنِيْفَ فَضَائِلَ الشَّيْخَيْنِ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ:دَخَلتُ دِمَشْقَ وَالمُنْحَرِفُ بِهَا عَنْ عَلِيٍّ كَثِيْر، فَصَنَّفْتُ كِتَابَ(الخَصَائِصِ)رَجَوْتُ أَنْ يَهْدِيَهُمُ الله تَعَالَى.
ثُمَّ إِنَّهُ صَنَّفَ بَعْدَ ذَلِكَ فَضَائِلَ الصَّحَابَةِ، فَقِيْلَ لَهُ:وَأَنَا أَسْمَعُ أَلاَ تُخْرِجُ فَضَائِلَ مُعَاوِيَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؟
فَقَالَ:أَيُّ شَيْءٍ أُخْرِجُ؟حَدِيْثَ:(اللَّهُمَّ لاَ تُشْبِعْ بَطْنَهُ)فَسَكَتَ السَّائِلُ.(14/130)
قُلْتُ:لَعَلَّ أَنْ يُقَالْ هَذِهِ مَنْقَبَةٌ لِمُعَاوِيَةَ لِقَوْلِهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:(اللَّهُمَّ مَنْ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجعَلْ ذَلِكَ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً).
قَالَ مَأْمُوْن المِصْرِيُّ، المُحَدِّثُ:خَرَجْنَا إِلَى طَرَسُوْسَ مَعَ النَّسَائِيّ سَنَةَ الفِدَاءِ، فَاجتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الأَئِمَّةِ:عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ مُرَبَّعٌ، وَأَبُو الآذَانِ، وَكِيْلَجَةُ، فَتَشَاوَرُوا:مَنْ يَنْتَقِي لَهُمْ عَلَى الشُّيُوْخِ؟فَأَجْمَعُوا عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ، وَكَتَبُوا كُلُّهُم بَانتِخَابِهِ.
قَالَ الحَاكِمُ:كَلاَمُ النَّسَائِيِّ عَلَى فَقْهِ الحَدِيْثِ كَثِيْرٌ، وَمَنْ نَظَرَ فِي(سُنَنِهِ)تَحَيَّرَ فِي حُسْنِ كَلاَمِهِ.
قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ فِي أَوَّلِ(جَامِعِ الأُصُوْلِ):كَانَ شَافِعِيّاً لَهُ مَنَاسِكٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ وَرِعاً مُتَحَرّياً.
قِيْلَ:إِنَّهُ أَتَى الحَارِثَ بنَ مِسْكِيْنٍ فِي زِيٍّ أَنْكَرَهُ، عَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ وَقَبَاءٌ، وَكَانَ الحَارِثُ خَائِفاً مِنْ أُمُورٍ تَتَعَلَّقُ بِالسُّلْطَانِ، فَخَافَ أَنْ يَكُوْنَ عَيناً عَلَيْهِ، فَمَنَعَهُ، فَكَانَ يَجِيْءُ فَيَقْعُدُ خَلْفَ البَابِ وَيَسْمَعُ، وَلذَلِكَ مَا قَالَ:حَدَّثَنَا الحَارِثُ وَإِنَّمَا يَقُوْلُ:قَالَ الحَارِثُ بنُ مِسْكِيْنٍ قِرَاءةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ.(14/131)
قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ:وَسَأَل أَمِيْرٌ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ(سُنُنِهِ):أَصَحِيْحٌ كُلَّهُ؟
قَالَ:لاَ.
قَالَ:فَاكتُبْ لَنَا مِنْهُ الصَّحِيْحَ.
فَجَرَّدَ المُجْتَنَى.
قُلْتُ:هَذَا لَمْ يَصِحَّ، بَلِ المُجْتَنَى اخْتِيَارُ ابْنُ السُّنِّيّ.
قَالَ الحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُوْرِيُّ:أَخْبَرَنَا الإِمَامُ فِي الحَدِيْثِ بِلاَ مُدَافَعَةٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ.
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ أَحْمَدُ بنُ نَصْرٍ الحَافِظُ:مَنْ يَصْبُرُ عَلَى مَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ النَّسَائِيّ؟!عِنْدَهُ حَدِيْثُ ابْنِ لُهِيْعَةَ تَرْجَمَةً-يَعْنِي:عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ لُهِيْعَةَ-قَالَ:فَمَا حَدَّثَ بِهَا.
قَالَ أَبُو الحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ:أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يُذْكَرُ بِهَذَا العِلْمِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ طَاهِرٍ:سَأَلْتُ سَعْدَ بنَ عَلِيٍّ الزِّنْجَانِيَّ عَنْ رَجُلٍ، فَوَثَّقَهُ.
فَقُلْتُ:قَدْ ضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ.
فَقَالَ:يَا بُنَيَّ!إِنَّ لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَرْطاً فِي الرِّجَالِ أَشَدَّ مِنْ شَرْطِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.
قُلْتُ:صَدَقَ فَإِنَّهُ لَيَّنَ جَمَاعَةً مِنْ رِجَالِ صَحِيْحَي البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.(14/132)
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ المُظَفَّرِ الحَافِظُ:سَمِعْتُ مَشَايخَنَا بِمِصْرَ يَصِفُونَ اجتِهَادَ النَّسَائِيّ فِي العِبَادَةِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الفِدَاءِ مَعَ أَمِيْرِ مِصْرِ فَوُصِفَ مِنْ شَهَامَتِهِ وَإِقَامَتِهِ السُّنَنِ المَأْثُورَةِ فِي فَدَاءِ المُسْلِمِينَ، وَاحْتِرَازِهِ عَنْ مَجَالِسِ السُّلْطَانِ الَّذِي خَرَجَ مَعَهُ، وَالاَنبسَاطِ فِي المَأْكَلِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبهُ إِلَى أَنِ اسْتُشْهِدَ بِدِمَشْقَ مِنْ جِهَةِ الخَوَارِجِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ:كَانَ أَبُو بَكْرٍ بنُ الحَدَّادِ الشَّافِعِيُّ كَثِيْرَ الحَدِيْثِ وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْ غَيْرِ النَّسَائِيِّ، وَقَالَ:رَضِيْتُ بِهِ حُجَّةً بَيْنِي وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي(مُعْجَمِهِ):حَدَّثَنَا أَبُو عَبِدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ القَاضِي بِمِصْرَ.
فَذَكَرَ حَدِيْثاً.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ فِي(صَحِيْحِهِ):حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ قَاضِي حِمْصَ:حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ قُدَامَةَ.
فَذَكَرَ حَدِيْثاً.
رَوَى أَبُو عَبْدِ اللهِ بنُ مَنْدَةَ، عَنْ حَمْزَةَ العَقْبِيِّ المِصْرِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّ النَّسَائِيَّ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ إِلَى دِمَشْقَ فَسُئِلَ بِهَا عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَمَا جَاءَ فِي فَضَائِلِهِ.
فَقَالَ:لاَ يَرْضَى رَأْساً برَأْسٍ حَتَّى يُفَضَّلَ؟
قَالَ:فَمَا زَالُوا يَدْفَعُوْنَ فِي حِضْنَيْهِ حَتَّى أُخْرِجَ مِنَ المَسْجَدِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى مَكَّةَ فَتُوُفِّيَ بِهَا.
كَذَا قَالَ، وَصَوَابهُ:إِلَى الرَّمْلَةِ.(14/133)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ:خَرَجَ حَاجّاً فَامتُحِنَ بِدِمَشْقَ، وَأَدْرَكَ الشَّهَادَةَ فَقَالَ:احمِلُونِي إِلَى مَكَّةَ.
فَحُمِلَ وَتُوُفِّيَ بِهَا، وَهُوَ مَدْفُونٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِ مائَةٍ.
قَالَ:وَكَانَ أَفْقَهَ مَشَايِخِ مِصْرَ فِي عَصْرِهِ، وَأَعْلَمَهُم بِالحَدِيْثِ وَالرِّجَالِ.
قَالَ أَبُو سَعِيْدٍ بنُ يُوْنُسَ فِي(تَارِيْخِهِ):كَانَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ إِمَاماً حَافِظاً ثَبْتاً، خَرَجَ مِنْ مِصْرَ فِي شَهْرِ ذِي القَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِ مائَةٍ، وَتُوُفِّيَ بفِلَسْطِيْنَ فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ لِثَلاَثِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ صَفَرِ، سَنَةَ ثَلاَثٍ.
قُلْتُ:هَذَا أَصحُّ، فَإِنَّ ابْنَ يُوْنُسَ حَافِظٌ يَقِظٌ وَقَدْ أَخَذَ عَنِ النَّسَائِيِّ، وَهُوَ بِهِ عَارِفٌ.
وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي رَأْسِ الثَّلاَثِ مائَةٍ أَحْفَظ مِنَ النَّسَائِيِّ، هُوَ أَحْذَقُ بِالحَدِيْثِ وَعِلَلِهِ وَرِجَالِهِ مِنْ مُسْلِمٍ، وَمِنْ أَبِي دَاوُدَ، وَمِنْ أَبِي عِيْسَى، وَهُوَ جَارٍ فِي مِضْمَارِ البُخَارِيِّ، وَأَبِي زُرْعَةَ إِلاَّ أَنَّ فِيْهِ قَلِيْلَ تَشَيُّعٍ وَانحِرَافٍ عَنْ خُصُومِ الإِمَامِ عَلِيٍّ، كمُعَاوِيَةَ وَعَمْرو، وَاللهِ يُسَامِحُهُ.
وَقَدْ صَنَّفَ(مُسْنَدَ عَلِيٍّ)وَكِتَاباً حَافِلاً فِي الكُنَى، وَأَمَّا كِتَاب:(خَصَائِص عَلِيٍّ)فَهُوَ دَاخِلٌ فِي(سُنَنِهِ الكَبِيْرِ)وَكَذَلِكَ كِتَاب(عَمَل يَوْمٍ وَليْلَةٍ)وَهُوَ مُجَلَّدٌ، هُوَ مِن جُمْلَةِ(السُّنَنِ الكَبِيْرِ)فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَلَهُ كِتَابِ(التَّفْسِيْرِ)فِي مُجَلَّدٍ، وَكِتَابِ(الضُّعَفَاءِ)وَأَشيَاء، وَالَّذِي وَقَعَ لَنَا مِنْ(سُنَنِهِ)هُوَ الكِتَابُ(المُجْتَنَى)مِنْهُ، انتِخَابِ أَبِي بَكْرٍ بنِ السُّنِّيّ، سَمِعْتُهُ مَلَفَّقاً مِنْ جَمَاعَةٍ سَمِعُوهُ مِنِ ابْنِ بَاقَا بِرِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ المَقْدِسِيِّ، سَمَاعاً لِمُعْظَمِهِ، وَإِجَازَةً لِفَوْتِ لَهُ مُحَدَّدٍ فِي الأَصْلِ.
قَالَ:أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ حَمَدٍ الدُّونِيُّ، قَالَ:أَخْبَرَنَا القَاضِي أَحْمَدُ بنُ الحُسَيْنِ الكَسَّارِ، حَدَّثَنَا ابْنُ السُّنِّيّ عَنْهُ.
وَمِمَّا يُرْوَى اليَوْمَ فِي عَامِ أَرْبَعَةٍ وَثَلاَثِيْنَ وَسَبْعِ مائَةٍ مِنَ السُّنَنِ عَالِياً جُزْآنِ الثَّانِي مِنَ الطَّهَارَةِ وَالجُمُعَةِ، تَفَرَّدَ البُوصِيرِيُّ بِعُلُوِّهِمَا فِي وَقْتِهِ، وَقَدْ أَنْبَأَنِي أَحْمَدُ بنُ أَبِي الخَيْرِ بِهِمَا، عَنِ البُوصِيْرِيِّ فَبَيْنِي وَبَيْنَ النَّسَائِيِّ فِيْهِمَا خَمْسَة رِجَالٍ.(14/134)
وعِنْدِي جُزْءٌ مِنْ حَدِيْثِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ النَّسَائِيِّ، وَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ أَيْضاً.
وَوَقَعَ لَنَا جُزْءٌ كَبِيْرٌ انتَخَبَهُ السِّلَفِيُّ مِنَ(السُّنَنِ)، سَمِعْنَاهُ مِنَ الشَّيْخِ أَبِي المَعَالِي بنِ المُنَجَّا التَّنُوْخِيّ:أَخْبَرَنَا جَعْفَرٌ الهَمْدَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ، أَخْبَرَنَا الدُّوْنِيُّ، وَبَدْرُ بنُ دُلَفٍ الفَركِيُّ بِسَمَاعِهِمَا مِنَ الكَسَّارِ، قَالَ:أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ السُّنِّيّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ:
عَنْ رَسُوْلِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:(أَنَّهُ نَهَى عَنِ البَوْلِ فِي المَاءِ الرَّاكِدِ).
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا عَبِيْدَة بن حُمَيْد، عَنْ يُوْسُفَ بنِ صُهَيْبٍ، عَنْ حَبِيْبِ بنِ يَسَارٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَرْقَمِ، قَالَ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:(مَنْ لَمْ يَأْخُذْ شَارِبَهُ فلَيْسَ مِنَّا).
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الحَافِظُ سَأَلْتُ النَّسَائِيَّ مَا تَقُولُ فِي بَقِيَّةَ؟
فَقَالَ:إِنْ قَالَ:حَدَّثَنَا، وَأَخْبَرَنَا، فَهُوَ ثِقَةٌ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ المرَاغِيُّ:سَمِعْتُ النَّسَائِيَّ يَقُوْلُ:مُحَمَّدُ بنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ كَذَّابٌ.(14/135)
قَرَأْتُ عَلَى عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ، وَشُهْدَةَ العَامِرِيَّةِ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرٌ، أَخْبَرَنَا السِّلَفِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ طَاهِرٍ بِهَمَذَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ قَالَ:قَالَ لِي أَبُو عَبْد اللهِ بنُ مَنْدَةَ:الَّذِيْنَ أَخْرَجُوا الصَّحِيْحَ وَمِيَّزُوا الثَّابِتَ مِنَ المَعْلُوْلِ، وَالخَطَأَ مِنَ الصَّوَابِ أَرْبَعَةٌ:البُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ.
وَمِمَّنْ مَاتَ مَعَهُ:المُحَدِّثُ، أَبُو الحَسَنِ أَحْمَدُ بنُ الحُسَيْنِ بنِ إِسْحَاقَ الصُّوْفِيُّ الصَّغِيْرُ بِبَغْدَادَ، وَالمُفَسِّرُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بنُ فَرَحٍ البَغْدَادِيُّ الضَّرِيْرُ، المُقْرِئُ، وَالمُفَسِّرُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ إِسْحَاقَ النَّيْسَابُوْرِيُّ الأَنْمَاطِيُّ، الحَافِظُ، وَالمُسْنِدُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ مُوْسَى الجَوْزِيُّ، وَالمُحَدِّثُ إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ نَصْرٍ النَّيْسَابُوْرِيُّ البُشْتِيُّ، وَالحَافِظُ جَعْفَرُ بنُ أَحْمَدَ بنِ نَصْرٍ الحَصِيْرِيّ، وَالحَسَنُ بنُ سُفْيَانَ الحَافِظُ، وَالمُحَدِّثُ، أَبُو الحُسَيْنِ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يُوْنُسَ السِّمْنَانِيّ، وَالمُحَدِّثُ عُمَرُ بنُ أَيُّوْبَ السَّقَطِيُّ بِبَغْدَادَ، ورَأْسُ المُعْتَزِلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الجُبَائِيُّ، وَالحَافِظُ مُحَمَّدُ بنُ المُنْذِرِ الهَرَوِيُّ شَكَّرُ.(14/136)
================
هذا وأسأل الله تعالى ربَّ العرش العظيم أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يتقبَّله بقول حسنٍ .
وأسأله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه والدال عليه وناشره في الدارين آمين .
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (19) سورة النساء
وكتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 23 شعبان 1428 هـ الموافق ل 5/9/2007 م(1/1)
كتابُ عشرةِ النِّساءِ
للإمامِ النَّسائيِّ رحمَهُ اللهُ
حُبُّ النِّسَاءِ
1- 7656 أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى الْقُومَسِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَامٌ أَبُو الْمُنْذِرِ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ (1)
__________
(1) - نص برقم(3956) وأحمد برقم(12627و12628و14401) وأبو عوانة برقم(3261و3262) والمقاصد برقم(380) من طرق وهو صحيح
شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 363)
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْلُهُ ( حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ )
قِيلَ إِنَّمَا حُبِّبَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ لِيَنْقُلْنَ عَنْهُ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ أَحْوَالِهِ وَيُسْتَحَيَا مِنْ ذِكْرِهِ وَقِيلَ حُبِّبَ إِلَيْهِ زِيَادَةً فِي الِابْتِلَاء فِي حَقِّهِ حَتَّى لَا يَلْهُوَ بِمَا حُبِّبَ إِلَيْهِ مِنْ النِّسَاء عَمَّا كُلِّفَ بِهِ مِنْ أَدَاء الرِّسَالَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَكْثَر لِمَشَاقِّهِ وَأَعْظَم لِأَجْرِهِ وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ وَأَمَّا الطِّيبُ فَكَأَنَّهُ يُحِبُّهُ لِكَوْنِهِ يُنَاجِي الْمَلَائِكَةَ وَهُمْ يُحِبُّونَ الطِّيبَ وَأَيْضًا هَذِهِ الْمَحَبَّةُ تَنْشَأُ مِنْ اِعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَكَمَال الْخِلْقَة وَهُوَ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدُّ اِعْتِدَالًا مِنْ حَيْثُ الْمِزَاجُ وَأَكْمَلُ خِلْقَة و
قَوْلُهُ ( قُرَّة عَيْنِي فِي الصَّلَاة )
إِشَارَة إِلَى أَنَّ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ غَيْر مَا نَعْقِلُهُ عَنْ كَمَالِ الْمُنَاجَاةِ مَعَ الرَّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَلْ هُوَ مَعَ تِلْكَ الْمَحَبَّة مُنْقَطِعٌ إِلَيْهِ تَعَالَى حَتَّى أَنَّهُ بِمُنَاجَاتِهِ تَقَرُّ عَيْنَاهُ وَلَيْسَ لَهُ قَرِيرَةُ الْعَيْن فِيمَا سِوَاهُ فَمَحَبَّتُهُ الْحَقِيقِيَّة لَيْسَتْ إِلَّا لِخَالِقِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَمَا قَالَ لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا أَحَدًا خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْر وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيل الرَّحْمَن أَوْ كَمَا قَالَ وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ مَحَبَّة النِّسَاء وَالطِّيب إِذَا لَمْ يَكُنْ مُخِلًّا لِأَدَاءِ حُقُوق الْعُبُودِيَّةِ بَلْ لِلِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ تَعَالَى يَكُونُ مِنْ الْكَمَال وَإِلَّا يَكُونُ مِنْ النُّقْصَانِ فَلْيُتَأَمَّلْ وَعَلَى مَا ذَكَرَ فَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هِيَ ذَات رُكُوع وَسُجُود وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي صَلَاة اللَّه تَعَالَى عَلَيَّ أَوْ فِي أَمْر اللَّه تَعَالَى الْخَلْق بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ .
حَاشِيَةُ السِّيُوطِيِّ :
( عَنْ أَنَس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاء وَالطِّيب وَجُعِلَتْ قُرَّة عَيْنِي فِي الصَّلَاة )
قَالَ بَعْضهمْ فِي هَذَا قَوْلَانِ أَحَدهمَا أَنَّهُ زِيَادَة فِي الِابْتِلَاء وَالتَّكْلِيف حَتَّى يَلْهُو بِمَا حُبِّبَ إِلَيْهِ مِنْ النِّسَاء عَمَّا كُلِّفَ مِنْ أَدَاء الرِّسَالَة فَيَكُون ذَلِكَ أَكْثَر لِمَشَاقِّهِ وَأَعْظَم لِأَجْرِهِ وَالثَّانِي لِتَكُونَ خَلَوَاته مَعَ مَا يُشَاهِدهَا مِنْ نِسَائِهِ فَيَزُول عَنْهُ مَا يَرْمِيه بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّهُ سَاحِر أَوْ شَاعِر فَيَكُون تَحْبِيبهنَّ إِلَيْهِ عَلَى وَجْه اللُّطْف بِهِ وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل عَلَى وَجْه الِابْتِلَاء وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ لَهُ فَضِيلَة وَقَالَ التُّسْتُرِيّ فِي شَرْح الْأَرْبَعِينَ مِنْ فِي هَذَا الْحَدِيث بِمَعْنَى فِي لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ الدِّين لَا مِنْ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا وَالْإِضَافَة فِي رِوَايَة دُنْيَاكُمْ لِلْإِيذَانِ بِأَنْ لَا عَلَاقَة لَهُ بِهَا وَفِي هَذَا الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى وَفَائِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْلَيْ الدِّين وَهُمَا التَّعْظِيم لِأَمْرِ اللَّه وَالشَّفَقَة عَلَى خَلْق اللَّه وَهُمَا كَمَالَا قُوَّتَيْهِ النَّظَرِيَّة وَالْعَمَلِيَّة فَإِنَّ كَمَال الْأُولَى بِمَعْرِفَةِ اللَّه وَالتَّعْظِيم دَلِيل عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّق بِدُونِهَا وَالصَّلَاة لِكَوْنِهَا مُنَاجَاة اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبّه نَتِيجَة التَّعْظِيم عَلَى مَا يَلُوح مِنْ أَرْكَانهَا وَوَظَائِفهَا وَكَمَال الثَّانِيَة فِي الشَّفَقَة وَحُسْن الْمُعَامَلَة مَعَ الْخَلْق وَأَوْلَى الْخَلْق بِالشَّفَقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلّ وَاحِد مِنْ النَّاس نَفْسه وَبَدَنه كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُول وَالطِّيب أَخَصّ الذَّات بِالنَّفْسِ وَمُبَاشَرَة النِّسَاء أَلَذّ الْأَشْيَاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَدَن مَعَ مَا يَتَضَمَّن مِنْ حِفْظ الصِّحَّة وَبَقَاء النَّسْل الْمُسْتَمِرّ لِنِظَامِ الْوُجُود ثُمَّ إِنَّ مُعَامَلَة النِّسَاء أَصْعَب مِنْ مُعَامَلَة الرِّجَال لِأَنَّهُنَّ أَرَقّ دِينًا وَأَضْعَف عَقْلًا وَأَضْيَق خُلُقًا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَات عَقْل وَدِين أَذْهَب لِلُّبِّ الرَّجُل الْحَازِم هُنَّ إِحْدَاكُنَّ فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَحْسَنَ مُعَامَلَتهنَّ بِحَيْثُ عُوتِبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِك وَكَانَ صُدُورُ ذَلِكَ مِنْهُ طَبْعًا لَا تَكَلُّفًا كَمَا يَفْعَل الرَّجُل مَا يُحِبّهُ مِنْ الْأَفْعَال فَإِذَا كَانَتْ مُعَامَلَته مَعَهُنَّ هَذَا فَمَا ظَنّك بِمُعَامَلَتِهِ مَعَ الرِّجَال الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلَ عَقْلًا وَأَمْثَلَ دِينًا وَأَحْسَنَ خَلْقًا وَقَوْله وَجُعِلَتْ قُرَّة عَيْنِي فِي الصَّلَاة إِشَارَة إِلَى أَنَّ كَمَال الْقُوَّة النَّظَرِيَّة أَهَمّ عِنْده وَأَشْرَف فِي نَفْس الْأَمْر وَأَمَّا تَأْخِيره فَلِلتَّدَرُّجِ التَّعْلِيمِيّ مِنْ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى وَقَدَّمَ الطِّيب عَلَى النِّسَاء لِتَقَدُّمِ حَظّ النَّفْس عَلَى حَظّ الْبَدَن فِي الشَّرَف وَقَالَ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي نَوَادِر الْأُصُول الْأَنْبِيَاء زِيدُوا فِي النِّكَاح لِفَضْلِ نُبُوَّتهمْ وَذَلِكَ أَنَّ النُّور إِذَا اِمْتَلَأَ مِنْهُ الصَّدْر فَفَاضَ فِي الْعُرُوق اِلْتَذَّتْ النَّفْس وَالْعُرُوق فَأَثَارَ الشَّهْوَة وَقَوَّاهَا وَرُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب أَنَّ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاة وَالسَّلَام يُفَضَّلُونَ بِالْجِمَاعِ عَلَى النَّاس وَرُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أُعْطِيت قُوَّة أَرْبَعِينَ رَجُلًا فِي الْبَطْش وَالنِّكَاح وَأُعْطِيَ الْمُؤْمِن قُوَّة عَشَرَة فَهُوَ بِالنُّبُوَّةِ وَالْمُؤْمِن بِإِيمَانِهِ وَالْكَافِر لَهُ شَهْوَة الطَّبِيعَة فَقَطْ قَالَ وَأَمَّا الطِّيب فَإِنَّهُ يُزَكِّي الْفُؤَاد وَأَصْل الطِّيب إِنَّمَا خَرَجَ مِنْ الْجَنَّة تَزَوَّجَ آدَم مِنْهَا بِوَرَقَةٍ تَسَتَّرَ بِهَا فَتُرِكَتْ عَلَيْهِ وَرَوَى أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي أَيُّوب قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَع مِنْ سُنَن الْمُرْسَلِينَ التَّعَطُّر وَالْحَيَاء وَالنِّكَاح وَالسِّوَاك وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدِّين السُّبْكِيُّ السِّرّ فِي إِبَاحَة نِكَاح أَكْثَر مِنْ أَرْبَع لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرَادَ نَقْل بَوَاطِن الشَّرِيعَة وَظَوَاهِرهَا وَمَا يُسْتَحَيَا مِنْ ذِكْره وَمَا لَا يُسْتَحَيَا مِنْهُ وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدّ النَّاس حَيَاء فَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى لَهُ نِسْوَة يَنْقُلْنَ مِنْ الشَّرْع مَا يَرَيْنَهُ مِنْ أَفْعَاله وَيَسْمَعْنَهُ مِنْ أَقْوَاله الَّتِي قَدْ يَسْتَحْيِي مِنْ الْإِفْصَاح بِهَا بِحَضْرَةِ الرِّجَال لِيَتَكَمَّل نَقْل الشَّرِيعَة وَكَثُرَ عَدَد النِّسَاء لِيَكْثُر النَّاقِلُونَ لِهَذَا النَّوْع وَمِنْهُنَّ عُرِفَ مَسَائِل الْغُسْل وَالْحَيْض وَالْعِدَّة وَنَحْوهَا قَالَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِشَهْوَةٍ مِنْهُ فِي النِّكَاح وَلَا كَانَ يُحِبّ الْوَطْء لِلَّذَّةِ الْبَشَرِيَّة مَعَاذ اللَّه وَإِنَّمَا حُبِّبَ إِلَيْهِ النِّسَاء لِنَقْلِهِنَّ عَنْهُ مَا يَسْتَحْيِي هُوَ مِنْ الْإِمْعَان فِي التَّلَفُّظ بِهِ فَأَحَبَّهُنَّ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَة عَلَى نَقْل الشَّرِيعَة فِي هَذِهِ الْأَبْوَاب وَأَيْضًا فَقَدْ نَقَلْنَ مَا لَمْ يَنْقُلهُ غَيْرهنَّ مِمَّا رَأَيْنَهُ فِي مَنَامه وَحَالَة خَلْوَته مِنْ الْآيَات الْبَيِّنَات عَلَى نُبُوَّته وَمِنْ جِدّه وَاجْتِهَاده فِي الْعِبَادَة وَمِنْ أُمُور يَشْهَد كُلّ ذِي لُبّ أَنَّهَا لَا تَكُون إِلَّا لِنَبِيٍّ وَمَا كَانَ يُشَاهِدهَا غَيْرهنَّ فَحَصَلَ بِذَلِكَ خَيْر عَظِيم . وَقَالَ الْمُوَفَّق عَبْد اللَّطِيف الْبَغْدَادِيّ لَمَّا كَانَتْ الصَّلَاة جَامِعَة لِفَضَائِل الدُّنْيَا وَالْآخِرَة خَصَّهَا بِزِيَادَةِ صِفَة وَقَدَّمَ الطِّيب لِإِصْلَاحِهِ النَّفْس وَثَنَّى بِالنِّسَاءِ لِإِمَاطَةِ أَذَى النَّفْس بِهِنَّ وَثَلَّثَ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّهَا تَحْصُل حِينَئِذٍ صَافِيَة عَنْ الشَّوَائِب خَالِصَة عَنْ الشَّوَاغِل(1/5)
، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ "
2- 7657 أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا سَيَّارٌ قَالَ : حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قَالَ : حَدَّثَنَا ثَابِتٌ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ "(1)
7658 أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ ابْنُ طَهْمَانَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : " لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ النِّسَاءِ مِنَ الْخَيْلِ (2)
مَيْلُ الرَّجُلِ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ دُونَ بَعْضٍ
3-7659 أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ : حَدَّثَنَا هَمَّامٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ بَشِيرِ بْنٍ نَهِيكٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ "(3)
__________
(1) - نص برقم(3957) وأحمد برقم(13398) والحاكم برقم(2676) وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الشيخ برقم(678) من طرق وهو صحيح
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 30 / ص 92)
الطيب مشروع للمتزوجين وغير المتزوجين رقم الفتوى:45380تاريخ الفتوى:19 محرم 1425السؤال:
ما حكم استعمال العطور للرجال غير المتزوجين؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاستعمال الطيب الطاهر في حق الرجال أمر مشروع بل مطلوب، لما ثبت أن من هديه صلى الله عليه وسلم محبة الطيب واستعماله والحرص على أن لا تشم منه إلا رائحة طيبة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة. رواه النسائي وصححه الشيخ الألباني، وبمعناه في مسند الإمام أحمد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من عرض عليه طيب فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة. رواه أبو داود والنسائي وصححه الشيخ الألباني.
وعليه فيشرع استعمال الطيب للرجال غير المتزوجين، وكذلك المتزوجون لأن المطلوب من الرجل التجمل لزوجته كما يطلب منها التجمل لزوجها، كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، فإن كان الطيب الذي يستعمله الرجل من طيب النساء الذي يخصهن فلا يجوز ذلك لما فيه من التشبه بهن الذي يترتب عليه الوعيد الشديد.
ففي سنن الترمذي وأبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات بالرجال من النساء والمتشبهين بالنساء من الرجال.
والله أعلم.
(2) - نص برقم(3579)و3958) وأبو عوانة برقم(3262) وهو صحيح
شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 197)
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْلُهُ ( مِنْ الْخَيْل )
لَعَلَّ تَرْكَ ذِكْرِهَا فِي حَدِيث حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ النِّسَاء وَالطِّيب لِعَدِّهَا مِنْ الدِّينِ لِكَوْنِهَا آلَة الْجِهَاد وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 12 / ص 31)
أي للجهاد وقال الطيبي ذكر الخيل هنا كناية عن الغزو والمجاهدة في سبيل الله وقرانه مع النساء هنا لإرادة التكميل كما جاء في حديث آخر حبب إلي الطيب والنساء وجعل قرة عيني في الصلاة فإنه لما أخبر أن النساء كان أحب إلى رسول الله والخيل لمصلحة العباد على ما مر في حديث الاستغفار أحس في نفسه أن هذا الوصف يوهم أنه كان مائلا إلى معاشرة أرباب الخدور ومشتغلا بهن عن أعالي الأمور فكمل بقوله من الخيل ليؤذن بأنه مع ذلك مقدام يظل في الكر والفر مجاهد مع أعداء الله كما كمل في الحديث الآخر بقوله وجعل قرة عيني في الصلاة فآذن بأنه مجاهد مع نفسه واصل إلى مخدع القرب اه قيل وقد أعطى قوة أربعة آلاف رجل في الجماع فعلى هذا كان غاية في التصبر عنهن ونهاية في الامتناع عن اجتماعهن رواه النسائي
طرح التثريب - (ج 8 / ص 54)
{ الثَّامِنَةُ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ تَفْضِيلُ الْخَيْلِ عَلَى سَائِرِ الدَّوَابِّ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ فِي غَيْرِهَا مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ ، وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد النِّسَاءِ مِنْ الْخَيْلِ }
(3) - نص برقم(3959) وصحيح النسائي برقم(3942) وهو صحيح
شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 364)
3881 -
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْلُهُ ( مَنْ كَانَ لَهُ اِمْرَأَتَانِ )
الظَّاهِر أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مَقْصُور عَلَى اِمْرَأَتَيْنِ بَلْ هُوَ اِقْتِصَار عَلَى الْأَدْنَى فَمَنْ لَهُ ثَلَاث أَوْ أَرْبَع كَانَ كَذَلِكَ
( يَمِيلُ )
أَيْ فِعْلًا لَا قَلْبًا وَالْمَيْل فِعْلًا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْل أَيْ بِضَمِّ الْمَيْل فِعْلًا إِلَى الْمَيْل قَلْبًا
( أَحَد شِقَّيْهِ )
بِالْكَسْرِ أَيْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَة غَيْر مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ بَلْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا كَالرَّاجِحِ وَزْنًا كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا غَيْر مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَتَيْنِ بَلْ كَانَ يُرَجِّحُ إِحْدَاهُمَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم .
المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 9 / ص 77)
مَسْأَلَةٌ الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ
1884 - مَسْأَلَةٌ: وَالْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فَرْضٌ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ فِي قِسْمَةِ اللَّيَالِي - وَلا يَجُوزُ أَنْ يُفَضِّلَ فِي قِسْمَةِ اللَّيَالِي حُرَّةً عَلَى أَمَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ، وَلا مُسْلِمَةً عَلَى ذِمِّيَّةٍ، فَإِنْ عَصَتْهُ حَلَّ لَهُ هِجْرَانُهَا حَتَّى تُطِيعَهُ، وَضَرَبَهَا بِمَا لَمْ يُؤْلِمْ، وَلا يَجْرَحْ، وَلا يَكْسِرْ، وَلا يَعْفِنْ - فَإِنْ ضَرَبَهَا بِغَيْرِ ذَنْبٍ أُقِيدَتْ مِنْهُ.
وَلا يَجُوزُ لَهُ الْمَبِيتُ عِنْدَ أَمَتِهِ، وَلا عِنْدَ أُمِّ وَلَدِهِ، وَلا فِي دَارِ غَيْرِهِ إلا بِعُذْرٍ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } (1).
وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } (2).
وَقَالَ تَعَالَى: { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } (3).
فَلَمْ يُبِحْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هِجْرَانَهَا فِي الْمَضْجَعِ إلا إذَا خَافَ نُشُوزَهَا، وَإِنَّمَا أَبَاحَ مَضْرِبًا، وَلَمْ يُبِحْ الْجِرَاحَ، وَلا كَسْرَ الْعِظَامِ، وَلا تَعْفِينَ اللَّحْمِ.
وَقَالَ تَعَالَى: { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } (4).
فَصَحَّ أَنَّهُ إنْ اعْتَدَى عَلَيْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِ.
__________
(1) - سورة النساء آية : 3.
(2) - سورة النساء آية : 129.
(3) - سورة النساء آية : 34.
(4) - سورة البقرة آية : 194.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ - هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ - نا هَمَّامُ - هُوَ ابْنُ يَحْيَى - عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ لإِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ " (1).
فَلَمْ يَخُصَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ حُرَّةً مُتَزَوِّجَةً، مِنْ أَمَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ، وَلا مُسْلِمَةً مِنْ ذِمِّيَّةٍ - وَأَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ خَافَ أَنْ لا يَعْدِلَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ الزَّوْجَاتِ، أَوْ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ.
فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ إمَائِهِ.
وَكُلُّ مَا قُلْنَا فَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لا فَضْلَ لِلزَّوْجَةِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ فِي الْقِسْمَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ حُرَّةً وَزَوْجَةٌ مَمْلُوكَةً فَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَانِ وَلِلْمَمْلُوكَةِ لَيْلَةٌ.
وَرُوِّينَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَمَسْرُوقٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: الْقِسْمَةُ لَهُمَا سَوَاءٌ.
__________
(1) - النسائي : عشرة النساء (3942) ، أبو داود : النكاح (2133) ، الدارمي : النكاح (2206).
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى لِلْحُرَّةِ يَوْمَيْنِ وَلِلأَمَةِ يَوْمًا بِأَنَّهُ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وَأَنَّهُ عَنْ عَلِيٍّ - وَلا يُعْرَفُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ.
وَقَالُوا: لَمَّا كَانَتْ عِدَّةُ الأَمَةِ وَحْدَهَا نِصْفَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ وَحْدَهَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ قِسْمَتُهَا نِصْفَ قِسْمَةِ الْحُرَّةِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْمُرْسَلُ لا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، وَعَهِدْنَا بِهِمْ يَرُدُّونَ السُّنَنَ الثَّابِتَةَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَمَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَاتِ بِأَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ وَتَرَكُوا هَهُنَا عُمُومَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ عُمُومًا بِخَبَرٍ سَاقِطٍ مُرْسَلٍ، مُخَالِفٍ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَلا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وَقَدْ خَالَفُوا طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ فِيمَا لا يُعْرَفُ لَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ فِي الْقَضَاءِ بِوَلَدِ الأَمَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِسَيِّدِ أُمِّهِ، أَوْ فِدَائِهِ بِرَأْسٍ أَوْ رَأْسَيْنِ، وَإِلْزَامِ الْبَائِعِ الْخَلاصَ.
وَخَالَفُوهُمْ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا.
وَأَمَّا قِيَاسُ الْقِسْمَةِ عَلَى الْعِدَّةِ فَبَاطِلٌ، لأَنَّ الْقِيَاسَ كُلَّهُ بَاطِلٌ، وَتَعَارُضُهُمْ بِقِيَاسٍ أَدْخَلَ فِي الإِيهَامِ مِنْ قِيَاسِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتَا فِي النَّفَقَةِ سَوَاءً وَجَبَ أَنْ يَكُونَا فِي الْقِسْمَةِ سَوَاءً -. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13292)
«د - محبّة إحدى الزّوجات أو أحد الأولاد أكثر من غيره»
8 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الإنسان لا يؤاخذ إذا مال قلبه إلى إحدى زوجاته وأحبّها أكثر من غيرها , وكذا إذا أحبّ أحد أولاده أكثر من الآخرين , لأنّ المحبّة من الأمور القلبيّة الّتي ليس للإنسان فيها خيار ولا قدرة له على التّحكم فيها , لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقسم لنسائه فيعدل ويقول : اللّهمّ هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك » , قال التّرمذي - في تفسير قوله فيما تملك ولا أملك - يعني به الحبّ والمودّة .
وقال الصّنعانيّ : والحديث يدل على أنّ المحبّة , وميل القلب أمر غير مقدورٍ للعبد بل هو من اللّه تعالى لا يملكه العبد .
وإنّما يحرم عليه أن يفضّل المحبوب على غيره بالعطايا , أو بغيرها من الأمور الّتي يملكها الإنسان بغير مسوّغٍ لقوله تعالى : « وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ » .
ولقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « من كان له امرأتان يميل لإحداهما جاء يوم القيامة أحد شقّيه مائل » , قال العلماء : المراد الميل في القسم والإنفاق لا في المحبّة , لما عرفت من أنّها ممّا لا يملكه العبد .
ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في التّسوية بين الأولاد بالعطايا ونحوها لبشير رضي الله عنه : « أكلّ ولدك نحلت مثله ؟ قال : لا ، قال : فأرجعه » وفي روايةٍ : « أعطيت سائر ولدك مثل هذا ؟ قال : لا ، قال : فاتّقوا اللّه واعدلوا بين أولادكم » وفي ثالثةٍ : « أكلّهم وهبت له مثل هذا ؟ قال : قال : فلا تشهدني إذن فإنّي لا أشهد على جورٍ » .
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 81 / ص 6)
ما يسن في النكاح
أ- أن لا يزيد على امرأة واحدة
41 220 ما يسن في النكاح
ذهب الفقهاء إلى أنه تسن في النكاح أمور، اتفقوا على بعضها واختلفوا في بعضها على التفصيل التالي
أ- أن لا يزيد على امرأة واحدة
18- ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يستحب أن لا يزيد الرجل في النكاح على امرأة واحدة من غير حاجة ظاهرة، إن حصل بها الإعفاف لما في الزيادة على الواحدة من التعرض للمحرم، قال الله تعالى { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( "من كان له امرأتان يميل إلى إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل " )
وقال الأذرعي لو أعفته واحدة لكنها عقيم استحب له نكاح ولود.
ويرى الحنفية إباحة تعدد الزوجات إلى أربع إذا أمن عدم الجور بينهن فإن لم يأمن اقتصر على ما يمكنه العدل بينهن، فإن لم يأمن اقتصر على واحدة لقوله تعالى { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة }
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 12 / ص 155)
طلب الطلاق إذا تزوج الزوج
المجيب د. نايف بن أحمد الحمد
القاضي بمحكمة رماح
التصنيف الفهرسة/ فقه الأسرة/ عشرة النساء/تعدد الزوجات
التاريخ 25/3/1424هـ
السؤال
هل الزواج بالمرأة الثانية يبيح للأولى طلب الطلاق أو الفسخ؟
الجواب
الحمد لله وحده، وبعد..
يجوز أن يتزوج الرجل زوجة ثانية، وثالثة، ورابعة، وجواز التعدد مشروط بالقدرة على العدل بين الزوجات، قال الله تعالى: "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا" [النساء: 3]، لذا ذهب بعض العلماء إلى أن الأصل التعدد، وليس زواج الزوج بزوجة ثانية مما يبيح للزوجة الأولى أن تطلب الطلاق، إلا إذا لم يعدل زوجها بينهما، وقد جاء الوعيد للزوج الظالم، حيث قال - صلى الله عليه وسلم- "من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل" رواه النسائي (3942) والبيهقي في الشعب (8713) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-، هذا إذا كانت المرأة لم تشترط عليه في العقد ألا يتزوج عليها، فإن كانت قد اشترطت عليه ألا يتزوج عليها فتزوج فلها الفسخ في أصح قولي العلماء؛ لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج"، رواه البخاري (2572) ومسلم (1418) والله تعالى أعلم - وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه-.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 38 / ص 447)
حكم الحب في الإسلام. رقم الفتوى:5714تاريخ الفتوى:16 صفر 1420السؤال : السلام عليكم عفوا على هذا السؤال و لكن اعذروني .
هل الحب حرام؟ مع جزيل الشكر
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الحب ـ وهو الميل إلى الشيءـ أنواع شتى، منه ما هو مشروع ومنه ما هو مذموم، ومنه الجبلي الفطري، والاختياري المكتسب.
- فمحبة الله ورسوله فرض على كل مسلم ومسلمة، بل إن تلك المحبة شرط من شروط الإيمان. قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله) [البقرة: 165]. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" متفق عليه. وهذه المحبة تستلزم طاعة المحبوب، إذ من أحب أحداً سارع في رضاه، ومن زعم أنه يحب الله ورسوله ثم خالف أمرهما أو اتبع سبيلاً لم يشرعاه فقد أقام البرهان على بطلان دعواه.
- وحب المؤمنين والعلماء والصالحين: وذلك من أفضل القرب وأجل العبادات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل. قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود للكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" متفق عليه. وللطبراني عنه صلى الله عليه وسلم قال: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله عز وجل" وكما يحب العبد المؤمنين الصالحين، واجب عليه كذلك أن يبغض الكافرين وأهل الفجور والمعاصي، كل بحسبه.
ومن أنواع الحب:
- محبة الزوجة والأولاد: فحب الزوجة أمر جبلي مكتسب، إذ يميل المرء إلى زوجته بالفطرة ويسكن إليها، ويزيد في حبه لها إن كانت جميلة، أو ذات خلق ودين، أو لديها من الصفات ما يجعل قلب زوجها يميل إليها. وكذا محبة الولد أمر فطري. ولا يؤاخذ المرء إذا أحب أحد أولاده أكثر من الآخر، ولا إحدى زوجتيه ـ إن كان له زوجتان أكثر من الزوجة الأخرى. لأن المحبة من الأمور القلبية التي ليس للإنسان فيها خيار، ولا قدرة له على التحكم فيها، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لنسائه ويقول: "اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" رواه الترمذي. وإنما يحرم أن يفضل المحبوب على غيره بالعطايا أو بغيرها مما يملك من غير مسوغ. قال تعالى: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة" [النساء: 128]. وعنه صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له امرأتان يميل لإحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل" رواه النسائي والحاكم. وعنه أيضاً قال: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" متفق عليه. والمراد بالميل: الميل في القسم والإنفاق، لا في المحبة.
- محبة الوالدين وسائر القرابات: فكل إنسان مفطور على حب أبويه. إذ هما من أحسن إليه صغيراً وسهر عليه وتعب من أجله. وهذه الأنواع من الحب مندوب إليها مأمور بها، أمر إيجاب أو استحباب، على تفصيل في الشرع، ليس هذا مكان تفصيله.
- الحب بين الفتيان والفتيات: وهذا قسمان: الأول: رجل قُذف في قبله حب امرأة فاتقى الله تعالى وغض طرفه، حتى إذا وجد سبيلاً إلى الزواج منها تزوجها وإلا فإنه يصرف قلبه عنها، لئلا يشتغل بما لا فائدة من ورائه فيضيع حدود الله وواجباته.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم ير للمتاحبين مثل النكاح" رواه ابن ماجه.
الثاني: من تمكن الحب من قلبه مع عدم قدرته على إعفاف نفسه حتى انقلب هذا إلى عشق، وغالب ذلك عشق صور ومحاسن. وهذا اللون من الحب محرم، وعواقبه وخيمة.
والعشق مرض من أمراض القلب مخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه، وإذا تمكن واستحكم عز على الأطباء علاجه وأعيى العليل دواؤه، وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه، المتعوضة بغيره عنه، وأقبح ذلك حب المردان من الذكور، فإنه شذوذ وقبح.
وإذا امتلأ القلب بمحبة الله والشوق إليه دفع ذلك عنه مرض عشق الصور.
وأكثر من يقيم علاقات من حب أو نحوه قبل الشروع في الزواج إذا ظفر بمحبوبه وتزوجه يصيبه الفتور وتحدث نفرة في العلاقة بينهما، لأن كلا منهما يطلع على عيوب من صاحبه لم يكن يعلمها من قبل. وإذا كان عاشقاً صده ذلك عن كثير من الواجبات. ولقد بين الشارع الحكيم علاج الحب بصورة عملية، وحدد مصارف الشهوة التي تذكي جذوته، بدءاً بغض البصر، والبعد عن المثيرات، ودوام المراقبة، وكسر الشهوة بالصيام وعند القدرة على النكاح بالزواج، وحدد المعيار في الاختيار، وأن الرجل عليه أن يظفر بذات الدين، وهذا هو المقياس الذي به يختار به المرء شريكة حياته. قال صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" متفق عليه.
والله أعلم.(1/6)
4- 7660أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ ثُمَّ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ هَذَا فِعْلِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ " قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَرْسَلَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْد(1)
__________
(1) - أبو داود برقم(2136) والترمذي برقم(1170)وسنن البيهقي برقم(15142)ونص برقم(3960) وابن ماجة برقم(2047)وأحمد برقم(25853) والحاكم برقم(2761) وهو صحيح ولا يضر إرساله ، فالوصل زيادة ثقة
مشكل الآثار للطحاوي - (ج 1 / ص 239)
باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله عند قسمته بين أزواجه بالعدل عليهن : « اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك »
199 - حدثنا محمد بن خزيمة ، ثنا حجاج بن منهال ، ثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن يزيد الخطمي ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه ويقول : « اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك » حدثنا عبيد الله بن عبيد بن عمران الطبراني بطبرية أبو أيوب وهو المعروف كان بابن خلف ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن يزيد الخطمي ، عن عائشة ، عن رسول الله عليه السلام مثله قال أبو جعفر : فتأملنا ما في هذا الحديث وما المعنى الذي قصد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك » ، وهو غير ملوم في ذلك إذ كان ذلك مما لا فعل له فيه فكان معنى ذلك عندنا والله أعلم على الإشفاق والرحمة منه عليه السلام من الله أن يكون قد علم منه في قسمته بينهن ، وإن كان لم يخرج فيها عن العدل ميلا من قلبه إلى بعضهن بما لم يمل بمثله إلى بقيتهن ، وذلك مما هو منهي عنه ومما العباد فيه سواء كما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير من مثل ذلك
200 - كما قد حدثنا أحمد بن الحسن بن القاسم الكوفي أبو الحسن ، حدثنا وكيع بن الجراح ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، قال قال رسول الله عليه السلام : « من كانت له زوجتان فكان يميل مع إحداهما عن الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل ، أو قال : ساقط » وقد روي في تأويل قول الله تعالى : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم (1) . أن ذلك أريد به ما يقع في قلوبكم لبعضهن دون بعض ، وذلك معفو لهم عنه إذ لا يستطيعون دفعه عن قلوبهم غير أنه قد يجوز أن يكون يزيد على ذلك ما يجتلبوه إلى قلوبهم فكان الذي كان من رسول الله عليه السلام مما أراده من ربه على الإشفاق وعلى الرهبة مما يسبق إلى قلبه مما قد يستطيع رده عنه مع قربه من غلبته عليه ، وهذا عندنا والله أعلم مثل الذي في حديث حصين الخزاعي مما قد علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه أن يدعو به ربه تعالى أن يغفر له ما أخطأ ، وما تعمد ، وما أخطأه فهو غير مأخوذ به لما خاف عليه أن يكون تقربه مما تعمده وقد روينا هذا الحديث فيما تقدم منا في كتابنا هذا ، والله نسأله التوفيق
__________
(1) سورة : النساء آية رقم : 129
تحفة الأحوذي - (ج 3 / ص 215)
1059 - قَوْلُهُ : ( كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ )
اِسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ أَنَّ الْقَسْمَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } الْآيَةَ ، وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ
( وَيَقُولُ اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ )
أَيْ أَقْدِرُ عَلَيْهِ
( فَلَا تَلُمْنِي )
أَيْ لَا تُعَاتِبْنِي وَلَا تُؤَاخِذْنِي
( فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ )
أَيْ مِنْ زِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَيْلِ . قَالَ اِبْنُ الْهُمَامِ : ظَاهِرُهُ أَنَّ مَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ مِلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ يَجِبُ التَّسْوِيَةُ فِيهِ . وَمِنْهُ عَدَدُ الْوَطَآتِ وَالْقُبُلَاتِ وَالتَّسْوِيَةُ فِيهِمَا غَيْرُ لَازِمَةٍ إِجْمَاعًا .
قَوْلُهُ : ( وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ )
وَكَذَا أَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ عَلَى وَصْلِهِ : وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا أَحْمَدُ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الدَّارِمِيُّ وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ .
قَوْلُهُ : ( كَذَا فَسَّرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ )
أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ) قَالَ فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ وَعِنْدَ عُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرٍو السَّلْمَانِيِّ مِثْلُهُ .
شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 365)
3882 -
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْله ( فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ )
أَيْ الْمَحَبَّة بِالْقَلْبِ فَإِنْ قُلْت بِمِثْلِهِ لَا يُؤَاخَذُ وَلَا يُلَامُ غَيْره صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُلَامَ هُوَ إِذْ لَا تَكْلِيفَ بِمِثْلِهِ فَمَا مَعْنَى هَذَا الدُّعَاء قُلْت لَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمِثْلِهِ وَأَنَّ رَفْعَ التَّكْلِيفِ تَفَضُّلٌ مِنْهُ تَعَالَى فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَضَرَّعَ فِي حَضَرْته تَعَالَى لِيُدِيمَ هَذَا الْإِحْسَان أَوْ الْمَقْصُود إِظْهَارُ اِفْتِقَار الْعُبُودِيَّة وَفِي مِثْله لَا اِلْتِفَات إِلَى مِثْل هَذِهِ الْأَبْحَاث وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 11 / ص 302)
7127 - (كان يقسم بين نسائه فيعدل) أي لا يفضل بعضهن على بعض في مكثه حتى أنه كان يحمل في ثوب فيطاف به عليهن فيقسم بينهن وهو مريض كما أخرجه ابن سعد عن علي بن الحسين مرسلاً (ويقول اللّهم هذا قسمي) وفي رواية قسمتي (فيما أملك) مبالغة في التحري والإنصاف (فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) مما لا حيلة لي في دفعه من الميل القلبي والدواعي الطبيعية. قال القاضي: يريد به ميل النفس وزيادة المحبة لواحدة منهن فإنه بحكم الطبع ومقتضى الشهوة لا باختياره وقصده إلى الميز بينهن. وقال ابن العربي: قد أخبر تعالى أن أحداً لا يملك العدل بين النساء والمعنى فيه تعلق القلب ببعضهن أكثر من بعض فعذرهم فيما يكنون وأخذهم بالمساواة فيما يظهرون وذلك لأن للمصطفى صلى اللّه عليه وسلم في ذلك مزية لمنزلته فسأل ربه العفو عنه فيما يجده في نفسه من الميل لبعضهن أكثر من بعض وكان ذلك لعلو مرتبته أما غيره فلا حرج عليه في الميل القلبي إذا عدل في الظاهر بخلاف المصطفى صلى اللّه عليه وسلم حتى همَّ بطلاق سودة لذلك فتركت حقها لعائشة. وقال ابن جرير: وفيه أن من له نسوة لا حرج عليه في إيثاره بعضهن على بعض بالمحبة إذا سوى بينهن في القسم والحقوق الواجبة فكان يقسم لثمان دون التاسعة وهي سودة فإنها لما كبرت وهبت نوبتها لعائشة قال ابن القيم: ومن زعم أنها صفية بنت حيي فقد غلط وسببه أنه وجد على صفية في شيء فوهبت لعائشة نوبة واحدة فقط لتترضاه ففعل فوقع الاشتباه.
- (حم 4) في القسم (ك عن عائشة) قال النسائي: وروي مرسلاً قال الترمذي: وهو أصح قال الدارقطني: أقرب إلى الصواب.
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 8 / ص 352)
بَابُ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِامْرَأَتَيْنِ وَإِحْدَاهُمَا يُحِبُّهَا وَيَكْسُوهَا وَيُعْطِيهَا وَيَجْتَمِعُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ صَاحِبَتِهَا ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ } . فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ فِي الْقَسْمِ . فَإِذَا بَاتَ عِنْدَهَا لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بَاتَ عِنْدَ الْأُخْرَى بِقَدْرِ ذَلِكَ وَلَا يُفَضِّلُ إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ يُحِبُّهَا أَكْثَرَ وَيَطَؤُهَا أَكْثَرَ : فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ ؛ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أَيْ : فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ وَيَعْدِلُ فَيَقُولُ : هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ } يَعْنِي : الْقَلْبَ . وَأَمَّا الْعَدْلُ فِي " النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ " فَهُوَ السُّنَّةُ أَيْضًا اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فِي النَّفَقَةِ ؛ كَمَا كَانَ يَعْدِلُ فِي الْقِسْمَةِ ؛ مَعَ تَنَازُعِ النَّاسِ فِي الْقَسْمِ : هَلْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ؟ أَوْ مُسْتَحَبًّا لَهُ ؟ وَتَنَازَعُوا فِي الْعَدْلِ فِي النَّفَقَةِ : هَلْ هُوَ وَاجِبٌ ؟ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَوُجُوبُهُ أَقْوَى وَأَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَهَذَا الْعَدْلُ مَأْمُورٌ لَهُ مَا دَامَتْ زَوْجَةً ؛ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ إحْدَاهُمَا فَلَهُ ذَلِكَ فَإِنْ اصْطَلَحَ هُوَ وَاَلَّتِي يُرِيدُ طَلَاقَهَا عَلَى أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهُ بِلَا قَسْمٍ وَهِيَ رَاضِيَةٌ بِذَلِكَ جَازَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَتَطُولُ صُحْبَتُهَا فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا ؛ فَتَقُولُ : لَا تُطَلِّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ يَوْمِي : فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . وَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ سَوْدَةَ فَوَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ فَأَمْسَكَهَا بِلَا قِسْمَةٍ } وَكَذَلِكَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ جَرَى لَهُ نَحْوُ ذَلِكَ وَيُقَالُ إنَّ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِيهِ .
طرح التثريب - (ج 8 / ص 349)
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهُ { وَلَا تَبَاغَضُوا } أَيْ لَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ الْبُغْضِ ؛ لِأَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ مَعَانٍ قَلْبِيَّةٌ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى اكْتِسَابِهَا وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ : } يَعْنِي الْحُبَّ وَالْبُغْضَ قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْمَعَانِي { تَبَاغَضُوا : } إشَارَةٌ إلَى النَّهْيِ عَنْ الْأَهْوَاءٍ الْمُضِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّبَاغُضِ .
.
سبل السلام - (ج 5 / ص 112)
( عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ ، وَيَعْدِلُ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي } ) بِفَتْحِ الْقَافِ ( { فِيمَا أَمْلِكُ } ) وَهُوَ الْمَبِيتُ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ فِي نَوْبَتِهَا ( { فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ ، وَلَا أَمْلِكُ } ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ يَعْنِي بِهِ الْحُبَّ وَالْمَوَدَّةَ ( رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ لَكِنْ رَجَحَ التِّرْمِذِيُّ إرْسَالَهُ ) قَالَ أَبُو زُرْعَةَ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ عَلَى وَصْلِهِ لَكِنْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْمُرْسَلُ أَصَحُّ قُلْت بَعْدَ تَصْحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ لِلْوَصْلِ فَقَدْ تَعَاضَدَ الْمَوْصُولُ وَالْمُرْسَلُ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ ، وَتَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّهُ هَلْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَمْ لَا قِيلَ ، وَكَانَ الْقَسْمُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ وَاجِبٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } الْآيَةَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إنَّهُ أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ التَّسْوِيَةَ وَالْقِسْمَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ حَتَّى إنَّهُ لَيُؤَخِّرُ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ عَنْ نَوْبَتِهَا ، وَيَطَأُ مَنْ يَشَاءُ فِي غَيْرِ نَوْبَتِهَا ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُنَّ لِلزَّوْجَاتِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِسْمَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ مِنْ حُسْنِ عِشْرَتِهِ وَكَمَالِ حُسْنِ خُلُقِهِ ، وَتَأْلِيفِ قُلُوبِ نِسَائِهِ .
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَمَيْلَ الْقَلْبِ أَمْرٌ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ بَلْ هُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ ، وَيَدُلُّ لَهُ { ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } بَعْدَ قَوْلِهِ { لَوْ أَنْفَقْت مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْت بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } وَبِهِ فُسِّرَ { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } .
الروضة الندية - (ج 2 / ص 264)
ومن كان له زوجان فصاعداً عدل بينهن في القسمة وما تدعو الحاجة إليه لحديث أبي هريرة عند أحمد وأهل السنن والدارمي وابن حبان والحاكم وقال : إسناده على شرط الشيخين وصححه الترمذي عن النبي صلى الله وسلم عليه قال : من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الآخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطاً أو مائلاً وقد كان رسول الله صلى الله وسلم عليه يقسم بين نسائه فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها كما في الصحيح . وأخرج أهل السنن وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله وسلم عليه يقسم فيعدل ويقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك قال في الحجة البالغة : والظاهر أن ذلك منه صلى الله وسلم عليه كان تبرعاً وإحساناً من غير وجوب عليه لقوله تعالى: ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء وأما في غيره فموضع تأمل واجتهاد . ولكن جمهور الفقهاء أوجبوا القسم واختلفوا في القرعة . أقول : وفيه أن قوله فلم يعدل مجمل لا يدري أي عدل أريد به انتهى .
يسألونك فتاوى - (ج 3 / ص 247)
العدل بين الزوجات
تقول السائلة : إنها امرأة متزوجة منذ أكثر من عشرين سنة وإن زوجها قد تزوج امرأة ثانية وصار يقضى معظم وقته عند الثانية وينفق على الثانية ويبخل عليَّ مع أنني ساندته في أول حياته حتى استطاع الوقوف على رجليه فما حكم الشرع في ذلك ؟
الجواب : إن كثيراً من الأزواج يظلمون نسائهم وخاصة الذين يعددون فيميلون إلى الزوجة الثانية وينسون الأولى . وإن التعامل السيء للأزواج الذين يعددون مع زوجاتهم قد أساء إلى قضية تعدد الزوجات وأعطى الناس صورة سلبية عن التعدد حتى صار التعدد مقروناً بالظلم .
وأصل تعدد الزوجات مشروع وقد نصت الآية الكريمة على ذلك قال الله تعالى :( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ) سورة النساء الآية 3 .
وقد أجمع المسلمون على جواز التعدد ولكن التعدد مشروط بشرطين الشرط الأول : العدل وهو مأخوذ من قوله تعالى :( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) .
والشرط الثاني هو المقدرة على الإنفاق على الزوجتين أو أكثر ويدل على ذلك قوله تعالى :( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) سورة النور الآية 33
[ فقد أمر الله تعالى بهذه الآية الكريمة من يقدر على النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعفف ، ومن وجوه تعذر النكاح من لا يجد ما ينكح به من مهر ، ولا قدرة له على الإنفاق على زوجته . وكذلك يستدل على شرط الإنفاق بقوله تعالى :( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) سورة النساء الآية 3 .
فقد روي عن الإمام الشافعي أنه قال في معنى :( ألا تعولوا ) أي لا يكثر عيالكم . وفي هذا إشارة إلى شرط الإنفاق ؛ لأن الخوف من كثرة العيال لما تؤدي إليه هذه الكثرة من ضرورة كثرة الإنفاق التي قد يعجز عنها من يريد الزواج بأكثر من واحدة ، فيفهم من ذلك أن القدرة على الإنفاق على الزوجات عند إرادة التعدد شرط لإباحة هذا التعدد ، كذلك قد يستدل على شرط القدرة على الإنفاق بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله :( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغضُّ للبصر وأحفظ للفرج ، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) . فإذا لم يستطع على مؤونة الزواج لم يجز له الزواج وإن كان هو زواجه الأول ، فمن باب أولى أن لا يباح له الزواج بالثانية - وعنده زوجة - إذا كان عاجزاً عن الإنفاق على الثانية مع إنفاقه على الأولى ثم إن الإقدام على الزيجة الثانية - مع علمه بعجزه عن الإنفاق عليها مع الأولى- عمل يتسم بعدم المبالاة بأداء حقوق الغير ، ويعتبر من أنواع الظلم ، والظلم لا يجوز في شرعة الإسلام .
وبناء على جميع ما تقدم ، يعتبر من الظلم المحظور أن يقدم الرجل على الزواج بأخرى مع وجود زوجة عنده ، ومع علمه بعجزه عن الإنفاق على زوجتيه الجديدة والقديمة ] المفصل في أحكام المرأة 6/ 289 .
وينبغي أن يعلم أن العدل بين الزوجات واجب شرعي ومن آثار العدل بين الزوجات القسمة بينهن بأن يقسم وقته بين زوجاته كأن يكون عند الأولى ليلة وعند الثانية ليلة أخرى وهكذا .
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي :[ لا نعلم بين أهل العلم في وجوب التسوية بين الزوجات في القسم خلافاً ، وقد قال الله تعالى :( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) سورة النساء الآية 19 . ، وليس مع الميل معروف ، وقال الله تعالى :( فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ) سورة النساء الآية 129 ] المغني 7/301 .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين زوجاته فيعدل بينهن وكان صلى الله عليه وسلم يقول :( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي . ...
ولا بد لمن عدد الزوجات من العدل في النفقة والكسوة والمسكن وغير ذلك من الأمور المادية التي يملكها الإنسان وأما الأمور التي لا يملكها الإنسان كالحب أو الميل القلبي فهذه خارجة عن إرادة الإنسان فلا حرج عليه فيها وعلى ذلك يحمل قوله تعالى :
( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) سورة النساء الآية 129 . قال الإمام القرطبي:[ قوله تعالى :( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ) أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء ، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب . فوصف الله تعالى حالة البشر وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض ؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول :
( اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) . ثم نهى فقال :
( فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ) ، قال مجاهد : لا تتعمدوا الإساءة بل الزموا التسوية في القسم والنفقة ؛ لأن هذا مما يستطاع ] تفسير القرطبي 5/ 407 . وهذه الآية الكريمة في الأمور المعنوية وأما الأمور المادية فالعدل فيها واجب وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج من عدم العدل فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط ) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وهو حديث صحيح كما قال الألباني في إرواء الغليل 7/ 80 .
وفي رواية أبي داود ( جاء يوم القيامة وشقه مائل ) وهذا الحديث دليل على وجوب العدل بين الزوجات وحرمة الميل في الإنفاق والقسمة والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم :( وشقه ساقط أو مائل ) أي نصفه مائل بحيث يراه أهل العرصات يوم القيامة ليكون هذا زيادة في التعذيب ، انظر تحفة الأحوذي 4/ 248 .
وقد اعتبر الشيخ ابن حجر المكي ترجيح إحدى الزوجات على الأخرى ظلماً وعدواناً من كبائر الذنوب فقال :[ أخرج الترمذي وتكلم فيه الحاكم وصححه على شرطهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط ) وأبو داود ( من كانت له إمرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) والنسائي :( من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل ) ، وفي رواية لابن ماجة وابن حبان في صحيحهما ( وأحد شقيه ساقط ) . والمراد بقوله
( فمال ) وقوله ( يميل ) الميل بظاهره بأن يرجح إحداهما في الأمور الظاهرة التي حرم الشارع الترجيح فيها لا الميل القلبي لخبر أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب ) وقال الترمذي : روي مرسلاً وهو أصح . وروى مسلم وغيره ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) .
تنبيه :عدُّ هذا هو قضية هذا الوعيد الذي في هذه الأحاديث وهو ظاهر وإن لم يذكروه لما فيه من الإيذاء العظيم الذي لا يحتمل ] الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/80 -81 .
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في العدل بين الزوجات وهذه صورة من عدله صلى الله عليه وسلم بين نسائه : روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا ، وكان قلَّ يوم إلا هو يطوف علينا جميعاً ، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها ) .
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت :( إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ، وكان يقسم لكل منهن يومها وليلتها ) .
ويقول جابر بن زيد :[ كانت لي امرأتان فكنت أعدل بينهما حتى في القُبَل ].
وقال مجاهد :[ كانوا يستحبون أن يعدلوا بين النساء حتى في الطيب : يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه ] .
وقال ابن سيرين :[ إنه يكره للزوج أن يتوضأ في بيت إحدى زوجتيه دون الأخرى ]
وقال أبو القاسم :[ ويكفيك ما مضى من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين في هذا ، ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه قسم إلا يوماً هاهنا ، ويوماً هاهنا ].
وقال ابن قدامة :[ ويقسم الرجل بين نسائه ليلة ليلة ، ويكون النهار في معاشه وقضاء حقوق الناس ، إلا أن يكون معاشه ليلاً كالحراسة ، فإنه يقسمه نهاراً ، ويكون ليله كنهاره ] عشرة النساء ص 320- 321 .
وخلاصة الأمر أن العدل واجب بين الزوجات في الأمور المادية .
فتاوى الشيخ عبدالله بن عقيل - (ج 1 / ص 351)
سائل بعث يقول: إن لي زوجتين، وإني أكثر الجلوس عند الصغرى منهما؛ بحيث يكون طعامي وشرابي وفطوري وغدائي في بيتها، أما القديمة فلا أذهب إليها إلا ليلة بعد ليلة. ويسأل هل عليه حرج في هذا؟ وما طريق العدل بين الزوجتين؟
الإجابة:
طريق العدل بين الزوجتين أن تقسم لكل واحدة منهما يوما وليلة تخصصهما لكل منهما، سواء في صحتك وفي مرضك، فتجعل عندها نومك وأوقات راحتك وجلوسك وفطورك وغداءك وغير ذلك، ما لم تأذن لك بشيء من ذلك تفعله في بيت الأخرى. ولا بأس بالدخول على الأخرى لحاجة والجلوس عندها، إذا لم تطل الجلوس، ولكن من غير مسيس. كما يجب عليك أن تسوي بينهما في النفقة والكسوة وكل شيء، أما المحبة والمودة والوطء، فذلك مما لا يستطاع التسوية فيه، فعلى الإنسان أن يتقي اللَّه ويعدل بينهما حسب استطاعته، ولا لوم عليه فيما كان خارجًا عن حدود استطاعته؛ لما روي عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: «اللَّهم هذا قَسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» ( ) . رواه الأربعة، وصححه ابن حبان والحاكم، وهو معلول بالإرسال .
وقد جاء التحذير من الميل في معاشرة الزوجات وظلمهن، فروى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « من كانت له امرأتان فيميل لإحداهما على الأخرى؛ جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطًا أو مائلاً» .( ) . رواه الخمسة.
وفي الباب عدة أحاديث وآثار، وعن عروة بن الزبير قال: قالت عائشة -رضي اللَّه عنها-: يا بن أختي كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القَسْم ،من مكثه عندنا، وكان قَلَّ يومٌ إلا وهو يطوف علينا جميعا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس. وفي رواية: -من غير وِقاع- حتى يبلغ التي هو عندها فيبيت عندها . رواه أهل السنن .
وبهذا تعلم يا أخي الكريم أنك قد ارتكبت في عملك مع زوجتك القديمة خلاف العدل المأمور به شرعًا، ولا يعتبر ما تعللت به مسوغًا لذلك. فاتق اللَّه واعدل بين زوجتيك، وتحمل أذى القديمة الذي قد يعتبر من الغيرة من دون قصد إلى إيذائك، ولك أسوة بالكاظمين الغيظ والعافين عن الناس واللَّه يحب المحسنين. واللَّه المستعان.
مقالات عن المرأة - (ج 60 / ص 68)
سئل الشيخ د. عبد الرحمن بن علوش المدخلي عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين هل الأصل في الزواج التعدد ؟ وهل الزواج بأخرى ينبغي أن يكون بعذر.
فإن الأصل في الزواج التعدد؛ لقوله تعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا" [النساء:3]، فدلت الآية على أن الأصل هو التعدد، وهذه القضية ثابتة شرعاً وعقلاً، فإن عدد النساء أكثر من عدد الرجال، سيما إذا حدثت حروب وغيرها، وليس شرطاً أنه لا يعدد إلا من كان له عذر في ذلك؛ لأن التعدد أبيح بدون شروط إلا شرط العدل، والعدل المقصود في الآية هو في الأمور الظاهرة المقدور عليها كالقسم في المبيت، والعدل في النفقة والتعامل، وأما الميل القلبي فلا يشترط فيه ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك". رواه أبو داود (2134)، والترمذي (1140)، والنسائي (3943)، وابن ماجة (1971) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
أما إذا كان الإنسان متيقناً أنه سيظلم إحدى زوجاته ويضر بها ولا يعطيها حقوقها؛ فإن التعدد يكون في حقه حراماً؛ لقوله تعالى: " فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً" [النساء: 3].
وأما إذا كان الإنسان يخشى على نفسه الوقوع في الفاحشة لمرض زوجته الأولى، أو عدم قيامها بحقه، أو كبرها أو غير ذلك؛ فإن التعدد يكون في حقه فرضاً واجباً والله أعلم.
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8360)
«العدل بين الزّوجات»
17 - من حقّ الزّوجة على زوجها العدل بالتّسوية بينها وبين غيرها من زوجاته ، إن كان له زوجات ، في المبيت والنّفقة وغير ذلك من ضروب المعاملة المادّيّة ، وذلك ما يدلّ عليه قوله تعالى : «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً» وجاء في الخبر : « إذا كان عند الرّجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقّه ساقط ».
وقالت عائشة رضي الله عنها : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : اللّهمّ هذه قسمتي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ».
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10839)
«و - القسم»
25 - من حقّ الزّوجة على زوجها القسم ، وذلك فيما إذا كان الزّوج متزوّجاً بأكثر من واحدة .
فعن عائشة قالت : « كان رسول اللّه يقسم فيعدل ، ويقول : اللّهمّ هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك » .
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12083)
6 - ذهب الفقهاء إلى أنه يجب على الزوج العدل بين زوجتيه أو زوجاته في حقوقهن من القسم والنفقة والكسوة والسّكنى ، وهو التسوية بينهن في ذلك ، والأصل فيه قول الله تعالى : « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً » عقيب قوله تعالى : « فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ » ، ندب الله تعالى إلى نكاح الواحدة عند خوف ترك العدل في الزّيادة ، وإنما يخاف على ترك الواجب ، فدل على أن العدل بينهن في القسم والنفقة واجب ، وإليه أشار في آخر الآية
بقوله عز وجل : « ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ » ،أي تجوروا ، والجور حرام فكان العدل واجباً ضرورةً ; ولأن العدل مأمور به في قوله تعالى : « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ » على العموم والإطلاق إلا ما خص أو قيّد بدليل ; ولأن النّساء رعية الزوج ، فإنه يحفظهن وينفق عليهن ، وكلّ راع مأمور بالعدل في رعيته .
والعدل الواجب في القسم يكون فيما يملكه الزوج ويقدر عليه من البيتوتة والتأنيس ونحو ذلك ، أما ما لا يملكه الزوج ولا يقدر عليه كالوطء ودواعيه ، وكالميل القلبيّ والمحبة .. فإنه لا يجب على الزوج العدل بين الزوجات في ذلك ; لأنه مبنيّ على النشاط للجماع أو دواعيه والشهوة ، وهو ما لا يملك توجيهه ولا يقدر عليه ، وكذلك الحكم بالنّسبة للميل القلبيّ والحبّ في القلوب والنّفوس فهو غير مقدور على توجيهه ، وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى : « وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ » يعني في الحبّ والجماع ، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويعدل ثم يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك » يعني المحبة وميل القلب ; لأن القلوب بيد الله تعالى يصرّفها كيف شاء .
ونص الحنفية والشافعية والحنابلة على أنه يستحبّ للزوج أن يسوّي بين زوجاته في جميع الاستمتاعات من الوطء والقبلة ونحوهما لأنه أكمل في العدل بينهن ، وليحصنهن عن الاشتهاء للزّنا والميل إلى الفاحشة ، واقتداءً في العدل بينهن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روي « أنه كان يسوّي بين نسائه حتى في القُبَل » .
ونص المالكية على أن الزوج يترك في الوطء لطبيعته في كلّ حال إلا لقصد إضرار لإحدى الزوجات بعدم الوطء - سواء تضررت بالفعل أم لا - ككفّه عن وطئها مع ميل طبعه إليه وهو عندها لتتوفر لذته لزوجته الأخرى ، فيجب عليه ترك الكفّ ; لأنه إضرار لا يحلّ .
ونقل ابن عابدين عن بعض أهل العلم أن الزوج إن ترك الوطء لعدم الداعية والانتشار عذر ، وإن تركه مع الداعية إليه لكن داعيته إلى الضرة أقوى فهو مما يدخل تحت قدرته .
7- وإذا قام الزوج بالواجب من النفقة والكسوة لكلّ واحدة من زوجاته ، فهل يجوز له بعد ذلك أن يفضّل إحداهن عن الأخرى في ذلك ، أم يجب عليه أن يسوّي بينهن في العطاء فيما زاد على الواجب من ذلك كما وجبت عليه التسوية في أصل الواجب ؟ اختلف الفقهاء في ذلك :
فذهب الشافعية والحنابلة وهو الأظهر عند المالكية إلى أن الزوج إن أقام لكلّ واحدة من زوجاته ما يجب لها ، فلا حرج عليه أن يوسّع على من شاء منهن بما شاء ، ونقل ابن قدامة عن أحمد في الرجل له امرأتان قال : له أن يفضّل إحداهما على الأخرى في النفقة والشهوات والكسوة إذا كانت الأخرى كفايةً ، ويشتري لهذه أرفع من ثوب هذه وتكون تلك في كفاية ، وهذا لأن التسوية في هذا كلّه تشقّ ، فلو وجب لم يمكنه القيام به إلا بحرج ، فسقط وجوبه ، كالتسوية في الوطء. لكنهم قالوا : إن الأولى أن يسوّي الرجل بين زوجاته في ذلك ، وعلل بعضهم ذلك بأنه للخروج من خلاف من أوجبه .
وقال ابن نافع : يجب أن يعدل الزوج بين زوجاته فيما يعطي من ماله بعد إقامته لكلّ واحدة منهن ما يجب لها .
ونص الحنفية على وجوب التسوية بين الزوجات في النفقة على قول من يرى أن النفقة تقدر بحسب حال الزوج ، أما على قول من يرى أن النفقة تقدر بحسب حالهما فلا تجب التسوية وهو المفتى به ، فلا تجب التسوية بين الزوجات في النفقة لأن إحداهما قد تكون غنيةً وأخرى فقيرةً.
«الزوج الذي يستحقّ عليه القسم»
8 - ذهب الفقهاء إلى أن القسم للزوجات مستحقّ على كلّ زوج - في الجملة - بلا فرق بين حرّ وعبد ، وصحيح ومريض ، وفحل وخصيّ ومجبوب ، وبالغ ومراهق ومميّز يمكنه في الوطء، وعاقل ومجنون يؤمن من ضرره ... لأن القسم للصّحبة والمؤانسة وإزالة الوحشة وهي تتحقق من هؤلاء جميعاً .
لكن الفقهاء خصّوا قسم بعض الأزواج بالتفصيل ، ومن ذلك :
«أ - قسم الصبيّ لزوجاته»
9 - ذهب الفقهاء إلى أن الزوج الصبي المراهق أو المميّز الذي يمكنه الوطء يستحقّ عليه القسم ; لأنه لحقّ الزوجات ، وحقوق العباد تتوجه على الصبيّ عند تقرّر السبب ، وعلى وليّه إطافته على زوجاته ، والإثم على الوليّ إن لم يطف به عليهن أو جار الصبيّ أو قصر وعلم بذلك .
وأما الزوج الصبيّ الصغير فلا يجب على وليّه الطواف به على زوجاته لعدم انتفاعهن بوطئه ، وقال بعض الشافعية : لو نام عند بعض زوجاته وطلبت الباقيات بياته عندهن لزم وليه إجابتهن لذلك .
«ب - قسم الزوج المريض»
10 - ذهب الفقهاء إلى أن الزوج المريض يقسم بين زوجاته كالصحيح ، لأن القسم للصّحبة والمؤانسة وذلك يحصل من المريض كما يحصل من الصحيح ، وقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنه كان يسأل في مرضه الذي مات فيه : أين أنا غداً ، أين أنا غداً ؟ »
واختلفوا فيما لو شق على المريض الطواف بنفسه على زوجاته :
فنقل ابن عابدين عن صاحب البحر قوله : لم أر كيفية قسمه في مرضه حيث كان لا يقدر على التحوّل إلى بيت الأخرى ، والظاهر أن المراد أنه إذا صح ذهب عند الأخرى بقدر ما أقام عند الأولى مريضاً ، ونقل عن صاحب النهر قوله : لا يخفى أنه إذا كان الاختيار في مقدار الدور إليه حال صحته ففي مرضه أولى ، فإذا مكث عند الأولى مدةً أقام عند الثانية بقدرها . قال ابن عابدين : وهذا إذا أراد أن يجعل مدة إقامته دوراً حتى لا ينافي أنه لو أقام عند إحداهما شهراً هدر ما مضى .
وقال المالكية : إذا لم يستطع الزوج الطواف بنفسه على زوجاته لشدة مرضه أقام عند من شاء الإقامة عندها ، أي لرفقها به في تمريضه ، لا لميله إليها فتمتنع الإقامة عندها ، ثم إذا صح ابتدأ القسم .
وقال الشّربينيّ الخطيب : من بات عند بعض نسوته بقرعة أو غيرها لزمه - ولو عنّيناً ومجبوباً ومريضاً - المبيت عند من بقي منهن لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقّه ساقط » .
« وكان صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ويطاف به عليهن في مرضه حتى رضين بتمريضه ببيت عائشة رضي الله عنها » ، وفيه دليل على أن العذر والمرض لا يسقط القسم .
وقال الحنابلة : إن شق على الزوج المريض القسم استأذن أزواجه أن يكون عند إحداهن ، لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى نسائه فاجتمعن فقال : « إنّي لا أستطيع أن أدور بينكن فإن رأيتن أن تأذن لي فأكون عند عائشة فعلتن فأذن له» ، فإن لم يأذن له أن يقيم عند إحداهن أقام عند من تعيّنها القرعة أو اعتزلهن جميعاً إن أحب ذلك تعديلاً بينهن .
«ج - قسم الزوج المجنون»
11 - ذهب الفقهاء إلى أن المجنون الذي أطبق جنونه لا قسم عليه ; لأنه غير مكلف ، لكن القسم المستحق عليه لزوجاته يطالب به - في الجملة - وليّه ، على التفصيل التالي :
قال المالكية : يجب على وليّ المجنون إطافته على زوجتيه أو زوجاته ، كما يجب عليه نفقتهن وكسوتهن ; لأنه من الأمور البدنية التي يتولى استيفاءها له أو التمكين حتى تستوفى منه كالقصاص ، فهو من باب خطاب الوضع .
وقال الشافعية : لا يلزم الولي الطواف بالمجنون على زوجاته ، أمن منه الضرر أم لا ، إلا إن طولب بقضاء قسم وقع منه فيلزمه الطواف به عليهن قضاءً لحقّهن كقضاء الدين ، وذلك إذا أمن ضرره ، فإن لم يطالب فلا يلزمه ذلك ; لأن لهن التأخير إلى إفاقته لتتم المؤانسة ، ويلزم الولي الطواف به إن كان الجماع ينفعه بقول أهل الخبرة ، أو مال إليه ، فإن ضره الجماع وجب على وليّه منعه منه ، فإن تقطع الجنون وانضبط كيوم ويوم ، فأيام الجنون كالغيبة فتطرح ويقسم أيام إفاقته ، وإن لم ينضبط جنونه وأباته الوليّ في الجنون مع واحدة وأفاق في نوبة الأخرى قضى ما جرى في الجنون لنقصه .
وقال الحنابلة : المجنون المأمون الذي له زوجتان فأكثر يطوف به وليّه وجوباً عليهن ، لحصول الأنس به ، فإن خيف منه لكونه غير مأمون فلا قسم عليه لأنه لا يحصل منه أنس لهن، فإن لم يعدل الوليّ في القسم ثم أفاق الزوج من جنونه قضى للمظلومة ما فاتها استدراكاً لظلامته ، لأنه حقّ ثبت في ذمته فلزمه إيفاؤه حال الإفاقة كالمال .
«الزوجة التي تستحقّ القسم»
12 - يستحقّ القسم للزوجات المطيقات للوطء ، مسلمات أو كتابيات أو مختلفات ، حرائر أو إماء أو مختلفات ، وإن امتنع الوطء شرعاً كمحرمة ، وحائض ونفساء ومظاهر منها ومولىً منها ، أو امتنع عادةً كرتقاء ، أو امتنع طبعاً كمجنونة مأمونة ، ولا فرق بين مريضة وصحيحة، وصغيرة يمكن وطؤها وكبيرة ، وقسم الزوج لذوات الأعذار من الزوجات كما يقسم لغيرهن ; لأن الغرض من القسم الصّحبة والمؤانسة والسكن والإيواء والتحرّز عن التخصيص الموحش ، وحاجتهن داعية إلى ذلك ، والقسم من حقوق النّكاح ولا تفاوت بين الزوجات فيها ; لأن النّصوص الواردة بالعدل بين الزوجات والنهي عن الميل في القسم جاءت مطلقةً ، ونقل ابن المنذر الإجماع على أن القسم بين المسلمة والذّمّية سواء ; ولأن القسم من حقوق الزوجية فاستوت فيه المسلمة والكتابية كالنفقة والسّكنى .
وانظر مصطلح « رقّ ف /85 » .
لكن القسم في بعض الزوجات فيه مزيد تفصيل ومن ذلك :
«أ - القسم للمطلقة الرجعية»
13 - ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه ليس على الزوج أن يقسم لمطلقته الرجعية مع سائر زوجاته ; لأنها ليست زوجةً من كلّ وجه .
وذهب الحنفية إلى أن الزوج يقسم لمطلقته الرجعية مع غيرها من زوجاته وذلك إن قصد رجعتها ، وإلا فلا .
«ب - القسم للزوجة المعتدة من وطء شبهة»
14 - ذهب الشافعية إلى أن الزوجة المعتدة من وطء بشبهة لا يقسم لها الزوج ; لأن القسم للسكن والأنس والإيواء ، وهي في عدتها لا يحلّ لزوجها الخلوة بها ، بل يحرم .
واختلف الحنفية في القسم لها ، فنقل ابن عابدين صورةً من هذا الخلاف في قوله : قال في النهر : وعندي أنه يجب - أي القسم - للموطوءة بشبه أخذاً من قولهم إنه لمجرد الإيناس ودفع الوحشة ، واعترضه الحمويّ بأن الموطوءة بشبهة لا نفقة لها على زوجها في هذه العدة، ومعلوم أن القسم عبارة عن التسوية في البيتوتة والنفقة والسّكنى ، وزاد بعض الفضلاء أنه يخاف من القسم لها الوقوع في الحرام ; لأنها معتدة للغير ويحرم عليه مسّها وتقبيلها ، فلا يجب لها .
«القسم للزوجة الجديدة»
15 - اختلف الفقهاء في القسم للزوجة الجديدة لمن عنده زوجة أو زوجات غيرها ، هل يقسم لها قسماً خاصّاً ، أم تدخل في دور القسم كغيرها من الزوجات ؟
فذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الزوجة الجديدة - حرةً كانت أو أمةً - تختصّ بسبع ليال بلا قضاء للباقيات إن كانت بكراً ، وبثلاث ليال بلا قضاء إن كان ثيّباً ، وذلك لحديث : « للبكر سبع ، وللثيّب ثلاث » ، واختصت الزوجة الجديدة بذلك للأنس ولزوال الحشمة ، ولهذا سوى الشرع بين الحرة والأمة ، والمسلمة والكتابية في ذلك ; لأن ما يتعلق بالطبع لا يختلف بالرّقّ والحرّية ولا باختلاف الدّين ، وزيد للبكر الجديدة ; لأن حياءها أكثر ; ولأنها لم تجرّب الرّجال فتحتاج إلى إمهال وجبر وتأنّ ، أما الثيّب فإنها استحدثت الصّحبة فأكرمت بزيادة الوصلة وهي الثلاث .
واختصاص الزوجة الجديدة - بكراً أو ثيّباً - بهذا القسم هو حقّ لها على الصحيح عند المالكية، وهو واجب عند الشافعية ، ومن السّنة عند الحنابلة .
ويستحبّ للزوج أن يخيِّر زوجته الجديدة إن كانت ثيّباً بين ثلاث بلا قضاء للزوجات الباقيات وبين سبع مع قضاء لهن ، اقتداءً بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع زوجته أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها حيث قال لها : « إن شئت سبعت عندك ، وإن شئت ثلثت ثم درت » وفي لفظ : « إن شئت أن أسبِّع لك ، وأسبِّع لنسائي ، وإن سبَّعت لك ، سبَّعت لنسائي » أي بلا قضاء بالنّسبة للثلاث وإلا لقال : « وثلثت لنسائي » كما قال : « وسبعت لنسائي » .
وإن تزوج امرأتين - بكرين كانتا أو ثيبتين أو بكراً وثيّباً - فزفتا إليه في ليلة واحدة ..
فقال الشافعية والحنابلة : يكره ذلك ; لأنه لا يمكنه الجمع بينهما في إيفاء حقّهما وتستضرّ التي يؤخّر حقها وتستوحش . ويقدّم أسبقهما دخولاً فيوفيها حق العقد ; لأن حقها سابق ، ثم يعود إلى الثانية فيوفيها حق العقد ; لأن حقها واجب عليه ترك العمل به في مدة الأولى لأن حق الأولى عارضه ورجّح عليه ، فإذا زال المعارض وجب العمل بالمقتضى .
ثم يبتدئ القسم بين زوجاته ليأتي بالواجب عليه من حقّ الدور ، فإن أدخلتا عليه في وقت واحد قدم إحداهما بالقرعة ; لأنهما استوتا في سبب الاستحقاق والقرعة مرجّحة عند التساوي .
وإن زفت إليه امرأة في مدة حقّ عقد امرأة زفت إليه قبلها تمم للأولى حق عقدها لسبقها ، ثم قضى حق عقد الثانية لزوال المعارض . ولو زفت إليه جديدة وله زوجتان قد وفاهما حقهما ، وفَّى الجديدة حقها واستأنف بعد ذلك القسم بين الجميع بالقرعة .
16 - وإن أراد من زفت إليه امرأتان معاً السفر بإحدى نسائه فأقرع بينهن فخرجت القرعة لإحدى الجديدتين سافر بها ، ودخل حقّ العقد في قسم السفر ; لأنه نوع قسم يختصّ بها ، فإذا قدم من سفره بدأ بالأخرى فوفاها حق العقد ; لأنه حقّ وجب لها ولم يؤدّه فلزمه قضاؤه كما لو لم يسافر بالأخرى معه ، فإن قدم من سفره قبل مضيّ مدة ينقضي فيها حقّ الأولى تممه في الحضر وقضى للحاضرة حقها ، فإن خرجت القرعة لغير الجديدتين وسافر بها قضى للجديدتين حقهما واحدةً بعد واحدة ، يقدّم السابقة دخولاً إن دخلت عليه إحداهما قبل الأخرى ، أو بقرعة إن دخلتا معاً ، وإن سافر بجديدة وقديمة بقرعة أو رضاً تمم للجديدة حق العقد ثم قسم بينها وبين الأخرى على السواء .
وقيد المالكية في المشهور من مذهبهم حق الزوجة الجديدة - بكراً أو ثيّباً - في هذا القسم بما إذا تزوجها الرجل على غيرها ، ومقابل المشهور عندهم أن الزوجة الجديدة لها هذا القسم مطلقاً . تزوجها على غيرها أم لا .
واختلف المالكية فيما تقدم به إحدى الزوجتين الجديدتين إن زفتا إلى الزوج في ليلة واحدة : فقال اللخميّ عن ابن عبد الحكم يقرع بينهما ، وقبله عبد الحقّ ، وفي أحد قولي مالك : إن الحق للزوج فهو مخير دون قرعة ، وقال ابن عرفة : الأظهر أنه إن سبقت إحداهما بالدّعاء للبناء قدّمت ، وإلا فسابقة العقد ، وإن عقدتا معاً فالقرعة .
وذهب الحنفية إلى أنه لا حق للزوجة الجديدة في زيادة قسم تختصّ به ، وقالوا : البكر والثيّب والقديمة والجديدة سواء في القسم ، لقوله تعالى : « وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ » وغايته القسم ، ولإطلاق أحاديث النهي عن الجور في القسم ; ولأن القسم من حقوق النّكاح ولا تفاوت بين الزوجات في ذلك ; ولأن الوحشة في الزوجة القديمة متحقّق حيث أدخل عليها من يغيظها وهي في الجديدة متوهمة ; ولأن للقديمة زيادة حرمة بالخدمة ، وإزالة الوحشة والنّفرة عند الجديدة تمكن بأن يقيم عندها السبع ثم يسبّع للباقيات ولم تنحصر في تخصيصها بالزّيادة .
«بدء القسم وما يكون به»
17 - اختلف الفقهاء في الوقت الذي يبدأ فيه الزوج القسم بين زوجاته ، وفيما يكون به الابتداء :
قال الحنفية والمالكية وهو مقابل الصحيح عند الشافعية : الرأي في البداءة في القسم إلى الزوج.
وأضاف المالكية : وندب الابتداء في القسم بالليل ; لأنه وقت الإيواء للزوجات ، ويقيم القادم من سفر نهاراً عند أيتهن أحب ولا يحسب ، ويستأنف القسم بالليل لأنه المقصود ، ويستحبّ أن ينزل عند التي خرج من عندها ليكمل لها يومها .
وذهب الشافعية - في الصحيح عندهم - والحنابلة إلى وجوب القرعة على الزوج بين الزوجات للابتداء إن تنازعن فيه ، وليس له إذا أراد الشّروع في القسم البداءة بإحداهن إلا بقرعة أو برضاهن ; لأن البداءة بإحداهن تفضيل لها على غيرها ، والتسوية بينهن واجبة ، ولأنهن متساويات في الحقّ ولا يمكن الجمع بينهن فوجب المصير إلى القرعة إن لم يرضين ، فيبدأ بمن خرجت قرعتها ، فإذا مضت نوبتها أقرع بين الباقيات ، ثم بين الأخريين ، فإذا تمت النوبة راعى الترتيب ولا حاجة إلى إعادة القرعة ، بخلاف ما إذا بدأ بلا قرعة فإنه يقرع بين الباقيات، فإذا تمت النوبة أقرع للابتداء .
وقالوا : للزوج أن يرتّب القسم على ليلة ويوم قبلها أو بعدها ; لأن المقصود حاصل بكلّ ولا يتفاوت ، لكن تقديم الليل أولى ; لأن النهار تابع لليل وللخروج من خلاف من عينه .
«الأصل في القسم»
18 - الأصل في القسم وعماده الليل ، وذلك باتّفاق الفقهاء ; لأنهم قالوا : التسوية الواجبة في القسم تكون في البيتوتة ; ولأن الليل للسكن والإيواء ، يأوي فيه الرجل إلى منزله ، ويسكن إلى أهله ، وينام في فراشه مع زوجته عادةً ، والنهار وقت العمل لكسب الرّزق والانتشار في الأرض طلباً للمعاش ، قال الله تعالى : « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً » ، وقال سبحانه : « هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً » .
وفصل الشافعية والحنابلة ، ووافقهم بعض الحنفية ، فقالوا : الأصل في القسم لمن عمله الليل وكان النهار سكنه كالحارس ونحوه يكون النهار ; لأنه وقت سكونه ، وأما الليل فإنه وقت عمله، والأصل في القسم لمسافر وقت نزوله ; لأنه وقت خلوته ليلاً كان أو نهاراً ، قل أو كثر ، وإن تفاوت حصل لواحدة نصف يوم ولأخرى ربع يوم ، فلو كانت خلوته وقت السير دون وقت النّزول - كأن كان بمحفة وحالة النّزول يكون مع الجماعة في نحو خيمة - كان هو وقت القسم، والأصل في القسم لمجنون وقت إفاقته ، أو كما قال الشافعيّ : إنما القسم على المبيت كيف كان المبيت .
والنهار يدخل في القسم تبعاً لليل ، لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي » ، وإنما قبض النبيّ صلى الله عليه وسلم نهاراً ، ويتبع اليوم ، الليلة الماضية أي التي سبقت ذلك اليوم ، وإن أحب الزوج أن يجعل النهار في القسم لزوجاته مضافاً إلى الليل الذي بعده جاز له ذلك ; لأنه لا يتفاوت ، والغرض العدل بين الزوجات وهو حاصل بذلك .
«مدة القسم»
19 - صرح الفقهاء بأن أقل نوب القسم لمن عمله نهاراً ليلة ، فلا يجوز ببعضها لما في التبعيض من تشويش العيش وتنغيصه ، إلا أن ترضى الزوجات بذلك .
واختلفوا في أكثر مدة القسم ، أي أكثر مقدار النوبة الواحدة من القسم ، على أقوال :
فذهب المالكية والحنابلة في المعتمد عندهم إلى أن القسم بين الزوجات يكون ليلةً وليلةً ولا يزيد على ذلك إلا برضاهن ، فإن رضين بالزّيادة على ذلك جاز ; لأن الحق لهن لا يعدوهن ، واستدلّوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قسم ليلةً وليلةً ولأن التسوية بينهن واجبة ، وإنما جوّزت البداءة بواحدة لتعذّر الجمع ، فإذا بات عند واحدة تعينت الليلة الثانية حقّاً للأخرى فلم يجز جعلها للأولى بغير رضاها ; ولأن الزوج إن قسم ليلتين وليلتين أو أكثر كان في ذلك تأخير لحقّ من لها الليلة الثانية ، وتأخير حقوق بعضهن لا يجوز بغير رضاهن ; ولأنه إذا كان له أربع نسوة فجعل لكلّ واحدة منهن ثلاثاً حصل تأخير الرابعة تسع ليال وذلك كثير فلم يجز كما لو كان له امرأتان فأراد أن يجعل لكلّ واحدة تسعاً ; ولأن للتأخير آفات فلا يجوز مع إمكان التعجيل بغير رضا المستحقّ كتأخير الدين الحالّ .
ونقل الحطاب عن الجواهر أن الزوج لا يزيد في القسم على ليلة إلا أن ترضى الزوجات ويرضى بالزّيادة ، أو يكن في بلاد متباعدة فيقسم الجمعة أو الشهر على حسب ما يمكنه بحيث لا يناله ضرر لقلة المدة ، ونقل عن اللخميّ أن الرجل إن كانت له زوجتان ببلدين جاز قسمه جمعةً وشهراً وشهرين على قدر بعد الموضعين مما لا يضرّ به ، ولا يقيم عند إحداهن إلا لتجرٍ أو ضيعة .
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13292)
«د - محبّة إحدى الزّوجات أو أحد الأولاد أكثر من غيره»
8 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الإنسان لا يؤاخذ إذا مال قلبه إلى إحدى زوجاته وأحبّها أكثر من غيرها , وكذا إذا أحبّ أحد أولاده أكثر من الآخرين , لأنّ المحبّة من الأمور القلبيّة الّتي ليس للإنسان فيها خيار ولا قدرة له على التّحكم فيها , لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقسم لنسائه فيعدل ويقول : اللّهمّ هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك » , قال التّرمذي - في تفسير قوله فيما تملك ولا أملك - يعني به الحبّ والمودّة .
وقال الصّنعانيّ : والحديث يدل على أنّ المحبّة , وميل القلب أمر غير مقدورٍ للعبد بل هو من اللّه تعالى لا يملكه العبد .
وإنّما يحرم عليه أن يفضّل المحبوب على غيره بالعطايا , أو بغيرها من الأمور الّتي يملكها الإنسان بغير مسوّغٍ لقوله تعالى : « وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ » .
ولقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « من كان له امرأتان يميل لإحداهما جاء يوم القيامة أحد شقّيه مائل » , قال العلماء : المراد الميل في القسم والإنفاق لا في المحبّة , لما عرفت من أنّها ممّا لا يملكه العبد .
ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في التّسوية بين الأولاد بالعطايا ونحوها لبشير رضي الله عنه : « أكلّ ولدك نحلت مثله ؟ قال : لا ، قال : فأرجعه » وفي روايةٍ : « أعطيت سائر ولدك مثل هذا ؟ قال : لا ، قال : فاتّقوا اللّه واعدلوا بين أولادكم » وفي ثالثةٍ : « أكلّهم وهبت له مثل هذا ؟ قال : قال : فلا تشهدني إذن فإنّي لا أشهد على جورٍ » .
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 12 / ص 172)
إتيان الزوجة في غير ليلتها
المجيب أ.د. ياسين بن ناصر الخطيب
أستاذ بقسم القضاء في جامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ فقه الأسرة/ عشرة النساء/تعدد الزوجات
التاريخ 15/09/1426هـ
السؤال
مَنْ عنده زوجتان، وأراد وطئ إحداهما في غير ليلتها مع كونه يقسم يومياً بينهما، لكنه يريد مواقعة من يحب في غير ليلتها، فهل يجوز له ذلك؟ أرجو الإفادة.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذا لا يجوز؛ لأنه لا يجوز الدخول على الزوجة في يوم الأخرى إلا لحاجة مهمة هذه ليست منها، ولا بأس أن يطأ إحدى زوجتيه أكثر من الأخرى، فهذا لا حرج فيه، لكن في ليلتها، جاء في فتاوى ابن تيميّة في الفقه (32/269)، باب القسم بين الزوجات، سئل -رحمه الله تعالى- عن رجل متزوج بامرأتين إحداهما يحبها ويكسوها ويعطيها ويجتمع بها أكثر من صاحبتها؟ فأجاب:
يجب عليه العدل بين الزوجين باتفاق المسلمين، وفي السنن الأربعة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل"، فعليه أن يعدل في القسم، فإذا بات عندها ليلة أو ليلتين أو ثلاثاً؛ بات عند الأخرى بقدر ذلك، ولا يفضل إحداهما في القسم، لكن إن كان يحبها أكثر، ويطأ أكثر؛ فهذا لا حرج عليه فيه، وفيه أنزل الله تعالى: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم" أي في الحب والجماع.
وفي السنن الأربعة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم ويعدل؛ فيقول: "هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"، يعني القلب. انتهى.
وفي متن أبي شجاع (ص:168) "التسوية في القسم بين الزوجات واجبة، ولا يدخل على غير المقسوم لها لغير حاجة". والله أعلم.
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 18 / ص 246)
مضى عمري معه ولا أحبه
المجيب د. عبد الوهاب بن ناصر الطريري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية -سابقا-ً
التصنيف الفهرسة/ الاستشارات/ استشارات اجتماعية / العلاقات الزوجية/ المشكلات الزوجية/المشكلات العاطفية
التاريخ 7/01/1426هـ
السؤال
تزوجت منذ عشرين سنة، وعمري 28 سنة، وكنت أعيش في بيت إخوتي في وضع غير مستقر، وعندما تقدم لي أول خاطب وافقت حالاً؛ كي أتخلص من الواقع الذي أعيشه، ولكن اتضح لي بعد أني لا أحبه، ولا أستطيع التحمل عندما يقربني، وأمثِّل كي لا أشعره بذلك، وأتهرب منه عندما يطلبني، وأتشاغل عنه، وأعلم أنه يصبر علي كثيراً، وأنا أتعذب من الداخل من أجله، ولا أستطيع مصارحته؛ كي لا أجرح شعوره، عندي منه عدة أولاد، وهو ملتزم وحسن الخلق، ولكن ضعيف الشخصية، وأنا أفوقه بذلك ومتعلمة.
سؤالي: هل أنا آثمة وسيحاسبني الله على ذلك؟. أرجوكم أفيدوني أنا أخاف الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
ابنتي الكريمة، أما حالتك ومعاناتك فهي واضحة، أما سؤالك فلم يتضح لي، هل أنتِ تسألين عن مشاعرك، هل هي مما تأثمين به؟ فالجواب أن مشاعرك ليست مما تملكين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" أخرجه الترمذي (1140)، وأبو داود (3124) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. وليس من السهولة أن يحدد الإنسان اتجاه مشاعره، فإذا كنتِ لا تشعرين بحب له فهذا أمر فطري راجع إلى تكوينك النفسي ولا ذنب لك فيه، ولكن الشيء المهم هو ألا يتجاوز ذلك إلى التعامل بطريقة سيئة فيها سوء عشرة، والذي ظهر لي من خلال سؤالك أنك لست كذلك، وأنك تجاهدين نفسك كي تحافظي على مشاعره وكرامته وقيمته الشخصية.
فأنت -بحمد الله- غير آثمة، بل مثابة على صبرك ومعاناتك وتحملك ما لا تتقبله نفسك، والله يعظم لك الأجر والمثوبة، أما إذا كنت تسألين: هل لك الحق بطلب الطلاق؟.
الجواب نعم، لك الحق بطلب الطلاق إذا كنت تشعرين بنفرة منه، كما أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- جميلة بنت أبي بن سلول زوجة ثابت بن قيس بن شماس أن ترد عليه حديقته، ولم ينكر عليها طلبها الطلاق منه. صحيح البخاري (5273). وكما فعلت بريرة زوجة مغيث التي كان زوجها يحبها أشد الحب، ولكنها كانت تبغضه، فأذن لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بمفارقته بعد أن تحررت من الرق، وكان صلى الله عليه وسلم يقول لعمه العباس: "ألا تعجب من حب مغيث لبريرة وبغض بريرة لمغيث" صحيح البخاري (5283).
أما إن كنت تسألين: هل من المصلحة أن تطلبي الطلاق منه؟، فإن الذي يظهر لي أن المصلحة ليست في ذلك، والسبب أنك قد تأخرت كثيراً في اتخاذ هذا القرار، فبعد عشرين سنة من العُشرة، وبعد عدة أولاد ليس في مصلحتك إطلاقاً مفارقة هذا الرجل مهما كانت عواطفك؛ لأن مضي عشرين سنة معه أثبتت أنك قادرة على احتمال هذه الحياة، كما أن طول هذه المدة وإن لم يصنع حباً فإنه يوجد إلفاً وتفاهماً ووفاءً متبادلاً، وفي المقابل فإن هذا الطلاق لن يفتح أمامك خيارات أفضل، خصوصاً مع ما ذكرت من استقامة هذا الرجل، ووداعته وحسن خلقه.
الذي أتصوره لحالك بعد الطلاق -وأنت في هذا السن، وهؤلاء الأولاد معك- أن خيارات الزواج الثاني معك ستكون محدودة جداً، وأشك في أنك ستتزوجين بشخص تجدين عنده ما يلاقي عواطفك ومشاعرك؛ ولذلك فإن الصبر وتمضية بقية العمر مع الأولاد ربما كان هو الخيار الأفضل لك، وألا تشعري زوجك بشيء من مشاعرك، وتحاولي ما أمكن القيام بحقوقه؛ لأني -كما قلت لك- لا أنكر حقك في طلب الطلاق، ولكن ينبغي التفكر والتفكير في الخيارات المستقبلية، هل هذا الطلاق سيؤدي إلى حياة أفضل أم سيؤدي إلى تشردك وبقائك بلا زوج، وبعدك عن أولادك وتشتت حياتك؟!.
فكري في الأمر بروية، واسألي الله الخيرة والله يوفقك لما يحب ويرضى.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 2 / ص 247)
تفسير ما ورد في القرآن في شأن تعدد الزوجات رقم الفتوى:10506تاريخ الفتوى:09 رجب 1422السؤال : أريد أن أعرف ترتيب نزول الآيات في القرآن الكريم المتعلقه بزواج الرجل أكثر من امرأة واحدة.
وشكرا جزيلا .
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلعلك تقصد بالآيات الواردة في زواج الرجل بأكثر من واحدة قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) [النساء:3].
وقوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء:129].
ولا تعارض بين الآيتين حتى نقول يلزم معرفة أيهما نزلت أولاً، فنحكم على الثانية أنها ناسخة لها، ويكفي أن تعرف معنى الآيتين والمقصود منهما، وبالرجوع إلى كلام المفسرين يتضح لك الأمر، قال الإمام ابن كثير عند قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) [النساء:129].
"أي: لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة، فلابد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن عباس، وعبيدة السلماني... وقال ابن أبي حاتم.. عن ابن أبي مليكة قال: نزلت هذه الآية (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) في عائشة، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها أكثر من غيرها، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن... عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" يعني: القلب.
هذا لفظ أبي داود، وهذا إسناد صحيح... وقوله (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي: فإذا ملتم إلى واحدة منهن، فلا تبالغوا في الميل بالكلية (فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) أي: فتبقى هذه الأخرى معلقة... لا ذات زوج ولا مطلقة.
وقال أبو داود الطيالسي: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط" تفسير ابن كثير 1/738.
وانظر تفسير القرطبي (5/261).
وحديث أبي هريرة هذا في المسند والسنن فمعنى الآية إذا: هو أنكم لا تستطيعون العدل في الميل القلبي والمحبة والجماع، وهذا لا يملكه الإنسان، وإنما يطالب بالعدل في المبيت والنفقة، وهذا هو المقصود من الآية الأخرى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً). قال الإمام ابن كثير: وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أي: فإن خشيتم من تعداد النساء أن لا تعدلوا بينهن، كما قال تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) فمن خاف من ذلك، فليقتصر على واحدة، أو على الجواري السراري، فإنه لا يجب قسم بينهن. تفسير ابن كثير (1/588).
فتحصل أن الميل على قسمين: ميل يمكن للمرء تجنبه، كعدم العدل في المبيت والنفقة، فمن خشي من الوقوع فيه وجب عليه الاقتصار على واحدة، أو ما ملكت يمينه، وهذا هو المراد بقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ).
وميل لا يمكن للمرء تجنبه، كميل القلب والشهوة، وهذا معفو عنه، ووجوده لا يمنع التعدد، وهو المراد بقوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ).
وقد سبقت بعض الأجوبة المفصلة التي تتعلق بتعدد الزوجات نحيلك عليها للفائدة، وهي تحت الرقمين: 3604، 5191.
والله أعلم.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 5 / ص 9)
شرط التعدد العدل بين الزوجات رقم الفتوى:1342تاريخ الفتوى:19 ذو الحجة 1424السؤال : ما المقصود بالآية الكريمة الوارده في سورة النساء:( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) ؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقال تعالى: ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم )) النساء (3) فالمقصود من الآية الكريمة بيان منهج الله في الزواج ، وأن الزواج بأكثر من واحدة - اثنتين ، أو ثلاث ، أو أربع - مشروط بشرط العدل بين الزوجات في المبيت والطعام ، والشراب والمسكن ، فإن لم يستطع ذلك فعليه بأن لا يزيد على واحدة فقط ، فكلمة ( فواحدة ) تعني الأمر بزواج واحدة فقط ، أي إن خفتم الجور في التعدد فتزوجوا بواحدة ، ولا تزيدوا عليها .والله أعلم .
وأما قوله تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) [ النساء:129] . فذلك في الميل القلبي ، لأن القلب قد يميل إلى إحداهن دون الأخرى , روى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول:" اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك "، يعنى القلب . ولذلك قال جل شأنه : ( فلا تميلوا كل الميل ) أي فلا تبالغوا في المحبة القلبية، حتى تكون الأخرى كالمعلقة ، لا هي زوجة ، ولا هي خالية عن النكاح ، والله أعلم .
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 6 / ص 49)
يجب على المعدد العدل في النفقة والمبيت بين زوجاته رقم الفتوى:1497تاريخ الفتوى:16 صفر 1420السؤال : أريد أن أعرف ما هي كل التفاصيل: العدل بين الزوجتين والبيتين مع أدق التفاصيل الشرعية والدينية؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وسلم أما بعد:
سؤالك أخي الكريم تتلخص إجابته فيما يلي : الرجل يجب عليه العدل في المبيت والإنفاق أما المحبة والمودة التي في القلوب، فهذه تتفاوت من امرأةٍ لامرأة. فلا يؤاخذ بها المرء ولكن لا يميل كل الميل في المحبة فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يقسم لنسائه فيعدل ويقول : "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك". [ رواه أبو داود والترمذي وصححه السيوطي] وعندك قاعدة عامة في كتاب الله : (فلا تميلوا كل الميل). [النساء :129]. وقال تعالى : (فاتقوا الله ما استطعتم). [ التغابن: 16]. ويمكنك مراجعة الكتب المتعلقة بمثل هذا الأمر.والله تعالى أعلم.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 24 / ص 124)
احكام يجب مراعاتها عند تعدد الزوجات رقم الفتوى:3604تاريخ الفتوى:16 صفر 1420السؤال : لدي بعض الأسئلة حول تعدد الزوجات 1) كيف يعدل الرجل بين زوجاته؟وهل العدل يقتصر على المبيت فقط ؟ أي لو كان ينام عند كل واحدة في ليلتها فقد عدل ؟؟ وهل هناك خلاف بين الفقهاء في ذلك؟؟ 2) هل يجوز للرجل السفر بإحدى زوجاته دون رضا الأخريات ؟؟ وهل يختلف الحكم إن كان السفر من أجل العلاج أو طلب العلم ؟؟ وهل يقضي للأخريات إذا رجع من السفر أم لا ؟ وما الدليل ؟ 3) هل يجوز للرجل الدخول أو المكوث عند واحدة من زوجاته في يوم الأخرى؟ وهل يختلف ذلك باختلاف عدد الأطفال أو احتياجاتهم ؟وهل يباح الخروج للنزهة مع إحدى زوجاته في يوم الأخرى؟ 4) هل يجوز للرجل أن يدخل بزوجته في بيت ضرتها و أن يجامعها على فراشها (في عدم وجود صاحبة البيت وعدم رضاها) وهل هناك خلاف ؟؟وما موقف المرأة من ذلك ؟ 5) هل تعدد الزوجات قد يصبح واجبا على الرجل ؟؟ وفي أي الحالات(باستثناء حاجة الرجل لزوجة أخرى تعفه)؟؟ 6) إذا علم الرجل أن امرأته شديدة الغيرة ولا تستطيع العيش معه في وجود الأخرى وقد يسبب له ضررا نفسيا ... هل يفضل هنا الاقتصار على زوجته و المحافظة على أهله وبيته .. أم يفضل التعدد؟؟ 7) هل يجوز للرجل الأخذ بالرأي الذي يعجبه في مسائل تعدد الزوجات والبحث عن ما يناسبه أم يلتزم بمذهب معين أو بالراجح في المسائل؟؟ أعتذر عن كثرة الأسئلة ولكني في أمس الحاجة إليها
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
1- فالعدل بين الزوجات هو أن تعطي لكل حقها من النفقة والمسكن ونحو ذلك، ومن العدل كذلك القسم بينهن في المبيت، ولا يشترط عليه أن يعدل بينهن في الجماع، لكن لا يجوز له أن يترك التلذذ بواحدة لتتوفر لذته للأخرى، وأما القسم في المحبة فهذا ليس في مقدور البشر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك".
2- أما السفر بإحدى الزوجات، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها سافر بها، ولا فرق بين السفر للعلاج أو طلب العلم، فلا بد من إذن الزوجات إذا أراد السفر بواحدة منهن دون القرعة، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: "أين أنا غداً؟ أين أنا؟ يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها"، ولا قضاء عليه حينئذ إذا رجع من السفر للاتي لم يخرج بهن.
3- يجوز للرجل الدخول على زوجته في يوم ضرتها، لكن لا يمكث عندها كثيراً، قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم ما من يوم إلا ويطوف علينا جميعاً امرأة امرأة فيدنوا ويلمس من غير مسيس، حتى يفضي إلى التي هو يومها فيبيت عندها، أما الخروج للنزهة مع إحدى زوجاته في غير ليلتها فلا ينبغي، لأنه جور على صاحبة الليلة.
4- جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم جامع مارية في بيت حفصة وهي غائبة، علماً بأن مارية ليست زوجة لأنها مما ملكت اليمين، وطبعاً يوجد فرق كبير بين الجنسين، لكن إذا كان اليوم يوم التي جامعها في بيت الأخرى، وكان البيت ملكاً له، فالأظهر جواز ذلك، وإن كان الأولى تركه إذا كان لكل واحدة بيت وفراش، لما علم من شدة الغيرة بين الضرائر.
5- تعدد الزوجات غير واجب أصلاً، وقد يجب إذا احتاج الرجل إلى أكثر من واحدة بحيث أصبحت الواحدة لا تعفه، ووجوبه في غير هذه الحالة غير معروف.
6- الأفضل له في هذه الحالة الاقتصار على زوجته لقوله تعالى: (وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) [النساء: 3 ] والتعدد كما تقدم ليس واجباً في حد ذاته، وإنما يشرع للشخص إذا احتاج إليه، وأما إذا كان ربما تنشأ عنه مفاسد كالأمراض النفسية وتمزيق البيت وغير ذلك، فالأفضل إن شاء الله في هذه الحالة الاقتصار على الواحدة التي عنده.
7- الذي ينبغي أن يأخذ به المسلم هو القول الراجح في أي مذهب كان، وقد ذكر بعض العلماء أن غير المجتهد يلزمه تقليد مذهب معين ثم التزامه، وإلى ذلك أشار صاحب مراقي السعود بقوله:
ثم التزام مذهب قد ذكرا صحة فرضه على من قصرا
أما أن يأخذ المرء قولاً يعجبه هو، أو يلائمه أو يوافق مزاجه، من غير مراعاة لضعف القول أو قوته فهذا لا يجوز، لكن إذا كان في المسألة خلاف متقارب من جهة القوة والضعف فله أن يختار قولاً يعمل به، قيل: يأخذ بالأخف، وقيل: بالأغلظ، والمسألة مبسوطة في كتب الأصول.
والله أعلم.(1/7)
حُبُّ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ
5- 7661 أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَمِّي قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : " أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي مِرْطِي فَأَذِنَ لَهَا " فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ وَأَنَا سَاكِتَةٌ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَيْ بُنَيَّةُ أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ " قَالَتْ : بَلَى قَالَ : " فَأَحِبِّي هَذِهِ فَقَامَتْ فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَرَجَعَتْ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ : وَالَّذِي قَالَ لَهَا فَقُلْنَ لَهَا : مَا نَرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولِي لَهُ : " إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ " فَقَالَتْ فَاطِمَةُ : " لَا وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا " قَالَتْ عَائِشَةُ : " فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ ، وَأَتْقَى لِلَّهِ ، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا ، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً ، وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ ، وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا تُسْرِعُ فِيهَا الْفَيْئَةَ " فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ " إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ ، وَوَقَعَتْ بِي ، فَاسْتَطَالَتْ ، وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْقُبُ طَرَفَهُ ، هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ ، حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا حَتَّى أَنْحَيْتُ عَلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ " أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْحِمْصِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ : أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : فَذَكَرَ نَحْوَهُ ، وَقَالَتْ : فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ فَاسْتَأْذَنَتْ فَأَذِنَ لَهَا فَدَخَلَتْ فَقَالَتْ : نَحْوَهُ ، خَالَفَهُمَا مَعْمَرٌ فَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ (1)
__________
(1) - أخرجه مسلم برقم(6443) ونص برقم(3961) وأحمد برقم(25312)
شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 190)
4472 - قَوْلهَا : ( يَسْأَلْنَك الْعَدْل فِي اِبْنَة أَبِي قُحَافَة )
مَعْنَاهُ يَسْأَلْنَك التَّسْوِيَة بَيْنَهُنَّ فِي مَحَبَّةِ الْقَلْبِ ، وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْأَفْعَالِ وَالْمَبِيت وَنَحْوه ، وَأَمَّا مَحَبَّةُ الْقَلْبِ فَكَانَ يُحِبُّ عَائِشَة أَكْثَر مِنْهُنَّ . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُنَّ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْعَدْلِ فِي الْأَفْعَال . وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ يَلْزَمُهُ الْقَسْمُ بَيْنهنَّ فِي الدَّوَام ، وَالْمُسَاوَاة فِي ذَلِكَ كَمَا يَلْزَمُ غَيْره أَمْ لَا يَلْزَمُهُ ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنْ إِيثَارٍ وَحِرْمَانٍ ؟ فَالْمُرَاد بِالْحَدِيثِ طَلَبُ الْمُسَاوَاة فِي مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لَا الْعَدْلِ فِي الْأَفْعَالِ ، فَإِنَّهُ كَانَ حَاصِلًا قَطْعًا ، وَلِهَذَا كَانَ يُطَافُ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ عَلَيْهِنَّ ، حَتَّى ضَعُفَ ، فَاسْتَأْذَنَهُنَّ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ ، فَأَذِنَّ لَهُ .
قَوْلهَا : ( يَنْشُدْنَك )
أَيْ يَسْأَلْنَك .
قَوْلهَا : ( هِيَ الَّتِي تُسَامِينِي )
أَيْ تُعَادِلُنِي وَتُضَاهِينِي فِي الْحَظْوَة وَالْمَنْزِلَة الرَّفِيعَة ، مَأْخُوذٌ مِنْ السُّمُوِّ ، وَهُوَ الِارْتِفَاع .
قَوْلهَا : ( مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّة كَانَتْ فِيهَا تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَة )
هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ : ( سَوْرَة مِنْ حِدَّة ) بِفَتْحِ الْحَاء بِلَا هَاءٍ ، وَفِي بَعْضهَا ( مِنْ حِدَّة ) بِكَسْرِ الْحَاء وَبِالْهَاءِ . وَقَوْلهَا : ( سَوْرَة ) هِيَ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ وَاو سَاكِنَة ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ تَاء . وَالسَّوْرَة الثَّوَرَان وَعَجَلَة الْغَضَب . وَأَمَّا ( الْحِدَّة ) فَهِيَ شِدَّةُ الْخُلُق وَثَوَرَانُهُ . وَمَعْنَى الْكَلَام أَنَّهَا كَامِلَةُ الْأَوْصَافِ إِلَّا أَنَّ فِيهَا شِدَّة خُلُق وَسُرْعَة غَضَب تُسْرِعُ مِنْهَا . ( الْفَيْئَة ) بِفَتْحِ الْفَاء وَبِالْهَمْزِ وَهِيَ الرُّجُوع أَيْ إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهَا رَجَعَتْ عَنْهُ سَرِيعًا ، وَلَا تُصِرُّ عَلَيْهِ . وَقَدْ صَحَّفَ صَاحِب التَّحْرِير فِي هَذَا الْحَدِيث تَصْحِيفًا قَبِيحًا جِدًّا ، فَقَالَ : ( مَا عَدَا سَوْدَة ) بِالدَّالِ ، وَجَعَلَهَا سَوْدَة بِنْت زَمْعَة ، وَهَذَا مِنْ الْغَلَط الْفَاحِش نَبَّهْت عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ .
قَوْلهَا : ( ثُمَّ وَقَعَتْ بِي ، فَاسْتَطَالَتْ عَلَيَّ ، وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَرْقُبُ طَرْفه هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا ؟ فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَب حَتَّى عَرَفْت أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ ، فَلَمَّا وَقَعْت بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا حِين أَنْحَيْت عَلَيْهَا )
أَمَّا ( أَنْحَيْت ) فَبِالنُّونِ الْمُهْمَلَة أَيْ قَصَدْتهَا وَاعْتَمَدْتهَا بِالْمُعَارَضَةِ . وَفِي بَعْض النُّسَخ ( حَتَّى بُدِّلَ حِين ) ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ ، وَرَجَّحَ الْقَاضِي ( حِين ) بِالنُّونِ . وَمَعْنَى ( لَمْ أَنْشَبْهَا ) لَمْ أُمْهِلْهَا . وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة ( لَمْ أَنْشَبْهَا أَنْ أَثْخَنْتهَا عَلْيَة ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة وَبِالْيَاءِ ، وَفِي بَعْض النُّسَخ بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَة . وَ ( أَثْخَنْتهَا ) بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة أَيْ قَمَعْتهَا وَقَهَرْتهَا . وَقَوْلهَا أَوَّلًا ( ثُمَّ وَقَعَتْ بِي ) أَيْ اِسْتَطَاعَتْ عَلَيَّ ، وَنَالَتْ مِنِّي بِالْوَقِيعَةِ فِيَّ . اِعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِعَائِشَة ، وَلَا أَشَارَ بِعَيْنِهِ وَلَا غَيْرهَا ، بَلْ لَا يَحِلّ اِعْتِقَاد ذَلِكَ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ خَائِنَة الْأَعْيُن ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهَا اِنْتَصَرَتْ لِنَفْسِهَا فَلَمْ يَنْهَهَا .
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّهَا اِبْنَة أَبِي بَكْر )
فَمَعْنَاهُ الْإِشَارَة إِلَى كَمَال فَهْمِهَا ، وَحُسْنِ نَظَرِهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 1 / ص 472)
بين أمهات المؤمنين رضي الله عنهن
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 24/06/1425هـ
السؤال
إلى فضيلة الشيخ: - حفظه الله - كيف نجمع بين هذين الحديثين؟ الحديثان بالمعنى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخلت عليه إحدى أمهات المؤمنين ومعه غيرها منهن، فجعلت تسبها، فقال عليه الصلاة والسلام للتي عنده: دونك فانتصري".
والآخر: أن إحدى زوجاته عليه الصلاة والسلام جعلت تسب أخرى منهن وهي صامتة، ثم أخذت ترد عليها، فقال: "كان ملك يذب عنك فلما تكلمت ذهب وتركك".
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
الحديث الأول أخرجه باللفظ المذكور الإمام أحمد بإسناد حسن (24664) من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "مَا عَلِمْتُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَهِيَ غَضْبَى، ثُمَّ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَحْسِبُكَ إِذَا قَلَبَتْ لَكَ بُنَيَّةُ أَبِي
بَكْرٍ ذُرَيِّعَيْهَا ثُمَّ أَقْبَلَتْ إِلَيَّ فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دُونَكِ فَانْتَصِرِي"، فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا قَدْ يَبِسَ رِيقُهَا فِي فَمِهَا مَا تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ. وهذا الحديث أصله في الصحيحين البخاري (2581)، ومسلم ( 2442 ) بسياق مطول من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: " أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي مِرْطِي فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ وَأَنَا سَاكِتَةٌ قَالَتْ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَيْ بُنَيَّةُ أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟ فَقَالَتْ بَلَى قَالَ: فَأَحِبِّي هَذِهِ قَالَتْ فَقَامَتْ فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَرَجَعَتْ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ وَبِالَّذِي قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَقُلْنَ لَهَا مَا نُرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَقُولِي لَهُ إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا، قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ وَأَتْقَى لِلَّهِ وَأَصْدَقَ حَدِيثًا وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ وَأَعْظَمَ صَدَقَةً وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ، قَالَتْ فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا وَهُوَ بِهَا، فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ قَالَتْ ثُمَّ وَقَعَتْ بِي فَاسْتَطَالَتْ عَلَيَّ وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَرْقُبُ طَرْفَهُ هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا قَالَتْ: فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ، قَالَتْ: فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا حَتَّى أَنْحَيْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَبَسَّمَ إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ و حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ فِي الْمَعْنَى، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا أَنْ أَثْخَنْتُهَا غَلَبَةً " واللفظ لمسلم.
والحديث الثاني: حديث حسن، قد رواه جماعة من الصحابة ، فقد أخرجه أحمد(23796) من حديث النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَبَّ رَجُلٌ رجلاً عِنْدَهُ قَالَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمَسْبُوبُ يَقُولُ عَلَيْكَ السَّلَامُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " أَمَا إِنَّ مَلَكًا بَيْنَكُمَا يَذُبُّ عَنْكَ كُلَّمَا يَشْتُمُكَ هَذَا قَالَ لَهُ بَلْ أَنْتَ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيْكَ السَّلَامُ قَالَ لَا بَلْ لَكَ أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ" وأخرجه الإمام أحمد ( 9622 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَقَامَ فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ قَالَ إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ ثُمَّ قَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ ...." الحديث، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد(419) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما- وأخرجه عبد الرزاق مرسلاً(20255) من حديث زيد بن أثيع. ومن خلال استعراض هذه الأحاديث يتبين أن السباب وقع بين رجلين، وفي بعض هذه الأحاديث أن المسبوب أبو بكر -رضي الله عنه-، وليس كما ورد في السؤال أن السباب كان بين زوجتين من أزواج الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-والله أعلم. ولا تعارض بين الحديثين، فيجوز للإنسان أن ينتصر ممن ظلمه كما فعلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- مع أم المؤمنين زينب رضي الله عنها حينما نالت منها، وتطاولت عليها بالكلام، ولكن العفو والصفح أفضل إذا لم يكن في الانتصار مصلحة أكبر، قال الله -عز وجل-: "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ "إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ" [الشورى: 39-41]، والانتصار مشروط بشرطين:
1- القدرة على ذلك ، فإذا كان عاجزاً أو كان الانتصار يفضي إلى عدوان زائد أو مفسدة أكبر ترك، وهو أصل النهي عن الفتنة.
2- ألا يعتدي . قال الله عز وجل : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ" أخرجه مسلم (2587) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- وعلى هذا فالمباح في الانتصار أن يرد مثل ما قال الجاني، أو يقاربه لأنه قصاص، فلو قال له: يا كلب - مثلاً - فالانتصار أن يرد عليه بقوله: بل هو الكلب .وهكذا فلا يتجاوز المنتصر في السباب وغيره. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 3 / ص 42)
ادعاء عصمة فاطمة -رضي الله عنها-
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
العقائد والمذاهب الفكرية/الصحابة وآل البيت
التاريخ 12/08/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كنت أتحاور مع أحد الشيعة عن العصمة، وسار بنا الموضوع إلى عصمة فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنها- قال بأن فاطمة -رضي الله عنها- معصومة وغضبها من غضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو غضب الله، فهي معصومة، وذكر حديثاً في صحيح البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: " فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني"، وكذلك حديث في صحيح البخاري أن عليًّا -رضي الله عنه- خطب بنت أبي جهل، فسمعت بذلك فاطمة -رضي الله عنها- فأتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالت إنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمعته حين تشهد يقول أما بعد: أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني وصدقني وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها والله لا يجمع بين ابنة رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد فترك علي الخطبة، ومن الحديثين قال يدل على عصمتها؛ لأنها غضبت على شيء ليس لها حق أن تغضب له، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاد أن يغضب لغضبها لو تم هذا الزواج فما الرد على أدلته؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري (3110)، ومسلم (2449)، من حديث الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، رضي الله عنه، خَطَبَ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ عَلَى مِنْبَرِهِ هَذَا، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ، فَقَالَ: "إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّي، وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا". ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ، قَالَ: "حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي، وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا أُحِلُّ حَرَامًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبَدًا".من المتقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة أن أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم- هم المعصومون فيما يبلغونه عن الله تبارك تعالى، ولا يُقَرُّون على خطأ في دين الله، ولا عصمة لأحد بعد أنبياء الله ورسله، وفاطمة، رضي الله عنها وأرضاها، كغيرها من الصحابة، رضي الله عنهم، ليست معصومة، ولم تدَّع العصمة لنفسها، وليس في هذا الحديث ما يدل على عصمتها، بل هو يدل على أن غضبها رضي الله عنها كان بحق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك وغضب لغضبها، ومن المعلوم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يغضب إلا بحق، ولهذا لما كان عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، يكتب كل شيء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهته قريش، وقالت له: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ فَأَمْسَك عَنْ الْكِتَابِ، ثم ذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ: "اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ". أخرجه أبو داود (3646 ). ولكن قد يُستشكل في هذه القصة بأن ما أراد أن يفعله علي، رضي الله عنه، من الزواج على فاطمة، رضي الله عنها، حقٌ له؛ لأنه يجوز للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، وللعلماء توجيهات لما جاء في هذه القصة يتضح من خلالها زوال الإشكال، ومن هذه التوجيهات:
1- أن هذه القصة تُحمل على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حرَّم على علي، رضي الله عنه، أن يجمع بين ابنته وبين ابنة أبي جهل، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبَدًا ". ومعنى ذلك أن الضرة تكون بمنزلة ضرتها، ولا يليق أن تكون ابنة أبي جهل مع فاطمة في درجة واحدة.
2- أنه يفهم من سياق القصة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَرَط على علي،رضي الله عنه، ألا يتزوج على فاطمة،رضي الله عنها؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكَر صهره الآخر وأنه وفَّى بما قال، ويظهر أنه وفَّى بالشرط وهو ألا يتزوج على ابنته، حيث قال صلى الله عليه وسلم عنه: "حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي". قال الحافظ ابن حجر: قوله: "حدثني فصدقني". لعله كان شرط على نفسه ألا يتزوج على زينب، وكذلك علي، رضي الله عنه، فإن لم يكن كذلك فهو محمول على أن عليًّا نسي ذلك الشرط، فلذلك أقدم على الخطبة، أوْ لم يقع عليه شرط إذ لم يصرح بالشرط، لكن كان ينبغي له أن يراعي هذا القدر، فلذلك وقعت المعاتبة. [ فتح الباري (7/86 )]. وقال الحافظ ابن القيم: إن الرجل إذا شرط لزوجته ألا يتزوج عليها، لزمه الوفاء بالشرط، ومتى تزوج عليها فلها الفسخ، ووجه تضمن الحديث لذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك يؤذي فاطمة ويريبها، وأنه يؤذيه صلى الله عليه وسلم ويريبه، ومعلوم قطعًا أنه صلى الله عليه وسلم إنما زوجه فاطمة، رضي الله عنها، على أن لا يؤذيها ولا يريبها، ولا يؤذي أباها صلى الله عليه وسلم ولا يريبه، وإن لم يكن هذا مشترطًا في صلب العقد، فإنه من المعلوم بالضروة أنه إنما دخل عليه، وفي ذكره صلى الله عليه وسلم صهره الآخر، وثنائه عليه بأنه حدثه فصدقه، ووعده فوفى له تعريض بعلي، رضي الله عنه، وتهييج له على الاقتداء به، وهذا يشعر بأنه جرى منه وعد له بأنه لا يريبها ولا يؤذيها، فهيجه على الوفاء له كما وفى صهره الآخر. [ زاد المعاد ( 5/ 117- 118 ) ].
3- أن مراعاة ذلك في حق فاطمة، رضي الله عنها، أنها إذ ذاك فاقدة لمن تركن إليه، ومن يؤنسها ويزيل عنها وحشتها من أم أو أخت، لأنها رضي الله عنها كانت أصيبت بأمها، ثم بأخواتها واحدة بعد واحدة؛ فلم يبق لها من تستأنس به ممن يخفف عليها الأمر ممن تفضي إليه بسرها إذا حصلت لها الغيرة. [ ينظر: فتح الباري (7/86)]. هذا ملخص توجيهات العلماء لهذا الحديث، وهي توجيهات واضحة يندفع بها الإشكال. والحمد لله ..
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُقِرَّ فاطمة، رضي الله عنها، حين أرسلها أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يطلبن منها أن تناشد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العدل في بنت أبي بكر، كما جاء عن عائشة، رضي الله عنها، قَالَتْ: أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي مِرْطِي، فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ . وَأَنَا سَاكِتَةٌ. قَالَتْ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْ بُنَيَّةُ، أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟". فَقَالَتْ: بَلَى. قَالَ: "فَأَحِبِّي هَذِهِ". قَالَتْ: فَقَامَتْ فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَجَعَتْ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ، وَبِالَّذِي قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْنَ لَهَا: مَا نُرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُولِي لَهُ: إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ، رضي الله عنها: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا . أخرجه البخاري (2581)، ومسلم (2442).
وخفي على فاطمة، رضي الله عنها، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ....". فطالبت أبا بكر، رضي الله عنه، بميراثها من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ففي صحيح البخاري (4241) وصحيح مسلم (1759)، من حديث عَائِشَةَ،رضي الله عنها، أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، رضي الله عنه، تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكٍ وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، رضي الله عنه: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذَا الْمَالِ". وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ، رضي الله عنه، أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ، رضي الله عنها، مِنْهَا شَيْئًا، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ فَهَجَرَتْهُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ.
ففاطمة، رضي الله عنها، وهي سيدة نساء العالمين، وابنة سيد ولد آدم أجمعين، ليست معصومة، ولم تدع العصمة لنفسها، فمن ادعى لها العصمة فقد أساء وغَلاَ وضل عن الطريق المستقيم. نسأل الله تبارك وتعالى- أن يهدينا للحق، ويرزقنا اتباعه.(1/8)
6-7662 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ النَّيْسَابُورِيُّ ، ثِقَةٌ مَأْمُونٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " اجْتَمَعْنَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلْنَ فَاطِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ لَهَا : " إِنَّ نِسَاءَكَ ، وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ " قَالَتْ : فَدَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا ، فَقَالَتْ لَهُ : " إِنَّ نِسَاءَكَ أَرْسَلْنَنِي وَهُنَّ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ " فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتُحِبِّينَنِي ؟ " فَقَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : " فَأَحِبِّيهَا " قَالَتْ : فَرَجَعْتُ إِلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِمَا قَالَ لَهَا : فَقُلْنَ : إِنَّكِ لَمْ تَصْنَعِي شَيْئًا ، فَارْجِعِي إِلَيْهِ ، فَقَالَتْ : وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبَدًا ، وَكَانَتِ ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : " وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَقَالَتْ : إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي ، وَهُنَّ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيَّ فَشَتَمَتْنِي ، فَجَعَلْتُ أَرْقُبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنْظُرُ طَرْفَهُ هَلْ يَأْذَنُ لِي فِي أَنْ أَنْتَصِرَ مِنْهَا ، قَالَتْ : " فَشَتَمَتْنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ مِنْهَا ، فَاسْتَقْبَلْتُهَا فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ أَفْحَمْتُهَا ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ " قَالَتْ عَائِشَةُ : " وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً أَكْثَرَ خَيْرًا ، وَلَا أَكْثَرَ صَدَقَةً ، وَأَوْصَلَ لِرَحِمٍ ، وَأَبْذَلَ لِنَفْسِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ زَيْنَبَ مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدٍّ كَانَ فِيهَا ، تُوشِكُ فِيهَا الْفَيْئَةُ " . قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : هَذَا خَطَأٌ ، وَالصَّوَابُ الَّذِي قَبْلَهُ(1)
__________
(1) - نص برقم(3963) والمسند الجامع برقم(17253) وهو صحيح
طرح التثريب - (ج 7 / ص 180)
بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ .
( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { اجْتَمَعْنَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلْنَ فَاطِمَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ لَهَا قُولِي لَهُ : إنَّ نِسَاءَك يَنْشُدْنَك الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ قَالَتْ فَدَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ لَهُ إنَّ نِسَاءَك أَرْسَلْنَنِي إلَيْك وَهُنَّ يَنْشُدْنَك الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُحِبِّينَنِي ؟ قَالَتْ نَعَمْ ، قَالَ : فَأَحِبِّيهَا فَرَجَعَتْ إلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ مَا قَالَ لَهَا فَقُلْنَ : إنَّك لَمْ تَصْنَعِي شَيْئًا فَارْجِعِي إلَيْهِ فَقَالَتْ : وَاَللَّهِ لَا أَرْجِعُ إلَيْهِ فِيهَا أَبَدًا .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَكَانَتْ ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ قَالَتْ عَائِشَةُ وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : إنَّ أَزْوَاجَك أَرْسَلْنَنِي إلَيْك وَهُنَّ يَنْشُدْنَك الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيَّ تَشْتُمُنِي فَجَعَلْت أَرْقُبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْظُرُ طَرْفَهُ هَلْ يَأْذَنُ لِي فِي أَنْ أَنْتَصِرَ مِنْهَا فَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَشَتَمَتْنِي حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ مِنْهَا فَاسْتَقْبَلْتهَا فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ أَفْحَمْتهَا قَالَتْ : فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً خَيْرًا مِنْهَا وَأَكْثَرَ صَدَقَةً وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ وَأَبْذَلَ لِنَفْسِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ زَيْنَبَ مَا عَدَا سَوْرَةَ مِنْ غَرْبٍ حَدٍّ كَانَ فِيهَا يُوشِكُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ هَذَا خَطَأٌ وَالصَّوَابُ الَّذِي قَبْلَهُ
يُرِيدُ جَعْلَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ مَكَانَ عُرْوَةَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ : أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ النَّيْسَابُورِيُّ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَذَكَرَهُ ثُمَّ قَالَ : هَذَا خَطَأٌ وَالصَّوَابُ الَّذِي قَبْلَهُ يُرِيدُ مَا رَوَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ وَشُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ وَيُونُسَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ .
وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا فَقَالَ : وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ وَهُوَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّا الْغَسَّانِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَرَجُلٍ مِنْ الْمَوَالِي عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَتْ عَائِشَةُ : { كُنْت عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنْت فَاطِمَةُ } ، هَذِهِ اللَّفْظَةُ غَيْرُ زِيَادَةٍ فَطَوَى الْقِصَّةَ لِتَقَدُّمِهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَقَدْ يُتَوَهَّمُ فِي قَوْلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا فِي الْبُخَارِيِّ مُسْنَدَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هِيَ فِيهِ مُعَلَّقَةٌ كَمَا عَرَفْته وَمَا صَوَّبَهُ النَّسَائِيّ وَافَقَهُ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَتَبِعَهُمَا أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَبَسَطَ فِيهِ الِاخْتِلَافَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى هَذِهِ أَرْجَحُهَا .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ حِزْبَيْنِ فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ وَالْحِزْبُ الْآخَرُ فِيهِ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَهَا حَتَّى إذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ بَعَثَ صَاحِبُ الْعَطِيَّةِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ لَهَا : كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَيَقُولُ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً فَلْيُهْدِ إلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ : مَا قَالَ لِي شَيْئًا فَقُلْنَ لَهَا : فَكَلِّمِيهِ فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إلَيْهَا فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ مَا قَالَ لِي شَيْئًا فَقُلْنَ لَهَا كَلِّمِيهِ حَتَّى يُكَلِّمَك فَدَارَ إلَيْهَا فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَ لَهَا : لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إلَّا عَائِشَةَ قَالَتْ : فَقَالَتْ : أَتُوبُ إلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ثُمَّ إنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ دُونَ قَوْلِ عَائِشَةَ وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً خَيْرًا مِنْهَا إلَى آخِرِهِ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهَا : اجْتَمَعْنَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ بِإِثْبَاتِ النُّونِ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ وَرَدَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَالسُّنَّةِ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ النَّاسِ بِلُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ ، وَلَوْ قَالَتْ : أَكَلَنِي لَكَانَ أَفْصَحَ ، وَقَدْ تَبَيَّنَّ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي سُقْنَاهَا مِنْ عِنْدِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَدَا حَفْصَةَ وَصَفِيَّةَ وَسَوْدَةَ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ يَنْشُدْنَك هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَبِضَمِّ الشِّينِ أَيْ يَسْأَلْنَك كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأُخْرَى يُقَالُ : نَشَدْت فُلَانًا إذَا قُلْت لَهُ : نَشَدْتُك اللَّهَ أَيْ سَأَلْتُك اللَّهَ كَأَنَّك ذَكَّرْته إيَّاهُ أَيْ تَذَكَّرَ ، وَنِسْبَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إلَى أَبِي قُحَافَةَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا سَائِغًا إلَّا أَنَّ فِيهِ نَوْعُ غَضٍّ مِنْهَا لِنَقْصِ رُتْبَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَبِيهَا الصِّدِّيقِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إسْلَامِ أَبِي قُحَافَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ يَسْأَلْنَك التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ فِي مَحَبَّةِ الْقَلْبِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْأَفْعَالِ وَالْمَبِيتِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا مَحَبَّةُ الْقَلْبِ فَكَانَ يُحِبُّ عَائِشَةَ أَكْثَرَ مِنْهُنَّ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُنَّ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا وَلَا يَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْعَدْلِ فِي الْأَفْعَالِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَلْ كَانَ يَلْزَمُهُ الْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ عَلَى الدَّوَامِ وَالْمُسَاوَاةُ فِي ذَلِكَ كَمَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ أَمْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بَلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنْ إيثَارٍ وَحِرْمَانٍ فَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ طَلَبُ الْمُسَاوَاةِ فِي مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لَا الْعَدْلِ فِي كَانَ حَاصِلًا قَطْعًا وَلِهَذَا كَانَ يُطَافُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ عَلَيْهِنَّ حَتَّى ضَعُفَ فَاسْتَأْذَنَهُنَّ فِي أَنْ يَمْرَضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَأَذِنَّ لَهُ .
( قُلْت ) الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَالْبَغَوِيِّ وُجُوبُ الْقَسْمِ عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ وَإِنَّمَا قَالَ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ الْإِصْطَخْرِيُّ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَارٍ عَلَيْهِنَّ فَمَنْعُهُنَّ حَقًّا هُوَ لَهُنَّ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَكِنْ صَدَرَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ بِمُقْتَضَى الْغَيْرَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُنَّ مِثْلُ مَا كَانَ لِعَائِشَةَ مِنْ إهْدَاءِ النَّاسِ لَهُ إذَا كَانَ فِي بُيُوتِهِنَّ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُنَّ طَلَبْنَ مِنْهُ التَّسْوِيَةَ فِي مَحَبَّةِ الْقَلْبِ ؛ وَلِذَلِكَ { قَالَ لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ : أَلَسْت تُحِبِّينَ مَنْ أُحِبُّ قَالَتْ : بَلَى ، قَالَ : فَأَحَبِّي هَذِهِ } وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ لَا يَجِبُ الْعَدْلُ بَيْنَ النِّسَاءِ فِيهِ أَمَّا الْهَدِيَّةُ فَلَا تُطْلَبُ مِنْ الْمُهْدِي فَلَا يَتَعَيَّنُ لَهَا وَقْتٌ وَأَمَّا الْحُبُّ فَغَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ وَلَا كَسْبِهِ .
( قُلْت ) مُقْتَضَى الْقِصَّةِ الَّتِي سُقْنَاهَا مِنْ عِنْدِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الَّذِي طَلَبْنَهُ مِنْهُ مُسَاوَاتُهُنَّ لِعَائِشَةَ فِي الْإِهْدَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُيُوتِهِنَّ وَقَدْ صَرَّحَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِذَلِكَ مِرَارًا قَبْلَ حُضُورِ فَاطِمَةَ وَزَيْنَبَ وَلَمْ يَصْدُرْ ذَلِكَ مِنْهُنَّ عَنْ اعْتِدَالٍ وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِطَلَبِ الْهَدِيَّةِ وَاسْتِدْعَائِهَا وَذَلِكَ يُنَافِي كَمَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْ أَنْ يَقُولَهُ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ .
أَمَّا قَوْلُهُ ذَلِكَ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ عَلَى سَبِيلِ الِانْبِسَاطِ إلَيْهِ وَتَكْرِيمِهِ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ بَلْ آحَادٌ ذَوِي الْمَوَدَّاتِ يَمْتَنِعُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي جَوَابِ أُمِّ سَلَمَةَ { لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إلَّا عَائِشَةَ } إشَارَةً إلَى أَنَّ تَقْلِيبَ قُلُوبِ النَّاسِ لِلْإِهْدَاءِ فِي نَوْبَةِ عَائِشَةَ أَمْرٌ سَمَاوِيٌّ لَا حِيلَةَ لِي فِيهِ وَلَا صُنْعَ بِدَلِيلِ اخْتِصَاصِهَا بِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيَّ وَأَنَا فِي ثَوْبِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُمْكِنُنِي قَطْعُ ذَلِكَ وَلَا أَمْرُ النَّاسِ بِخِلَافِهِ .
( الْخَامِسَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ دُخُولُ فَاطِمَةَ وَزَيْنَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ إذْ لَيْسَ فِيهِ كَشْفُ عَوْرَةٍ وَلَا مَا يُسْتَقْبَحُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ خَاصَّتِهِ وَأَهْلِهِ .
( قُلْت ) قَدْ تَبَيَّنَ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَمْ يَدْخُلْ إلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانٍ فَلَوْ كُرِهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُخُولُهُمَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَحَجَبَهُمَا أَوْ تَغَيَّرَ عَنْ حَالَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا .
( فَإِنْ قُلْت ) فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ النَّهْيِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَا عَلِمْت حَتَّى دَخَلْت عَلَى زَيْنَبَ بِغَيْرِ إذْنٍ وَهِيَ غَضْبَى فَذَكَرْت شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ .
( قُلْت ) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ وَاقِعَةٌ أُخْرَى وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ إيضَاحًا .
( السَّادِسَةُ ) الْمِرْطُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كِسَاءٌ مُعَلَّمٌ يَكُونُ تَارَةً مِنْ خَزٍّ وَتَارَةً مِنْ صُوفٍ وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي وَصْفِهِ أَنْ يَكُونَ مُرَبَّعًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ سَدَاه مِنْ شَعْرٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ بَعْضُهُمْ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا أَيْ لَهُ عَلَمٌ .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهَا تُسَامِينِي أَيْ تُعَادِينِي مِنْ قَوْلِهِمْ سَامَهُ خُطَّةَ خَسْفٍ أَيْ كَلَّفَهُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيُذِلُّهُ .
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَفِيهِ بُعْدٌ مِنْ جِهَةِ اللِّسَانِ وَالْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهَا يَشْتِمُنِي بِكَسْرِ التَّاءِ وَالطَّرْفُ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ الْبَصَرُ .
قَالَ النَّوَوِيُّ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِعَائِشَةَ فِي ذَلِكَ وَلَا أَشَارَ بِعَيْنِهِ وَلَا غَيْرِهَا بَلْ لَا يَحِلُّ اعْتِقَادُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهَا انْتَصَرَتْ لِنَفْسِهَا فَلَمْ يَنْهَهَا ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : كَأَنَّ زَيْنَبَ لَمَّا بَدَأَتْهَا بِالْعَتْبِ وَاللَّوْمِ كَانَتْ كَأَنَّهَا ظَالِمَةٌ فَجَازَ لِعَائِشَةَ أَنْ تَنْتَصِرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } .
( قُلْت ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ النَّهْيِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ { عَائِشَةَ فَأَعْرَضْت عَنْهَا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَك فَانْتَصِرِي فَأَقْبَلْت عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتهَا قَدْ يَبِسَتْ رِيقُهَا فِي فِيهَا مَا تَرُدُّ عَلَى شَيْءٍ } وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا وَاقِعَةٌ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ .
( التَّاسِعَةُ ) قَوْلُهَا حَتَّى أَفْحَمْتهَا بِالْفَاءِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ أَسْكَتُّهَا ، يُقَالُ : أَفْحَمَهُ إذَا أَسْكَتَهُ فِي خُصُومَةٍ أَوْ غَيْرِهَا .
( الْعَاشِرَةُ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إلَى كَمَالِ فَهْمِهَا وَحُسْنِ نَظَرِهَا ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَصْلِهَا الْكَرِيمِ الَّذِي نَشَأَتْ عَنْهُ وَاكْتَسَبَتْ الْجَزَالَةَ وَالْبَلَاغَةَ وَالْفَضِيلَةَ مِنْهُ وَطِيبُ الْفُرُوعِ بِطِيبِ عُذُوقِهَا ، وَغِذَاؤُهَا مِنْ عُرُوقِهَا كَمَا قَالَ : طِيبُ الْفُرُوعِ مِنْ الْأُصُولِ وَلَمْ يُرَ ، فَرْعٌ يَطِيبُ وَأَصْلُهُ الزَّقُّومُ .
فَفِيهِ مَدْحُ عَائِشَةَ وَأَبِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
( قُلْت ) وَلَعَلَّهُ اسْتَحْسَنَ مِنْهَا كَوْنَهَا لَمْ تَبْدَأْ زَيْنَبُ بِالْكَلَامِ حَتَّى تَكَلَّمَتْ زَيْنَبُ وَزَادَتْ فَصَارَتْ عَائِشَةُ مُنْتَصِرَةً لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بَلَغَتْ مَا أَرَادَتْ فَكَانَ لَهَا الْعَاقِبَةُ وَالظَّفَرُ بِالْمَقْصُودِ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأُمَّتَيْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَمَّا زَيْنَبُ فَلِمَا اتَّصَفَتْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ .
وَأَمَّا عَائِشَةُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهَا مَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَصْفِهَا بِمَا تَعْرِفُهُ مِنْهَا وَقَوْلُهَا .
( وَأَبْذُلُ لِنَفْسِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ) هُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْبَذْلِ وَهُوَ الْعَطَاءُ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الْبِذْلَةِ وَهُوَ الِامْتِهَانُ بِالْعَمَلِ وَالْخِدْمَةِ فَكَانَتْ زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَعْمَلُ بِيَدِهَا عَمَلَ النِّسَاءِ مِنْ الْغَزْلِ وَالنَّسْجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ عَادَةُ النِّسَاءِ بِعَمَلِهِ وَالتَّكَسُّبِ بِهِ ، وَكَانَتْ تَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ وَتَصِلُ بِهِ ذَوِي رَحِمِهَا وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا بِالْعَمَلِ وَالصَّدَقَةِ وَأَشَارَ إلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { أَسْرَعُكُنَّ لِحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا } ، وَقَوْلُهَا مِنْ زَيْنَبَ وَضَعَتْ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ تَقُولَ مِنْهَا كَمَا قَالَتْ أَوَّلًا وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً خَيْرًا مِنْهَا .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهَا .
( مَا عَدَا ) مِنْ صِيَغِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهِيَ مَعَ مَا ، فِعْلٌ يُنْصَبُ مَا بَعْدَهُ وَبِدُونِهَا حَرْفٌ يُخْفَضُ مَا بَعْدَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَ ( السَّوْرَةِ ) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَبَعْدَهَا رَاءٌ ثُمَّ هَاءٌ الثَّوَرَانُ وَعَجَلَةُ الْغَضَبِ وَمِنْهُ سَوْرَةُ الشَّرَابِ وَهِيَ قُوَّتُهُ وَحِدَّتُهُ وَ ( الْغَرْبُ ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ الْحِدَّةُ وَهِيَ شِدَّةُ الْخُلُقِ وَثَوَرَانُهُ وَمِنْهُ غَرْبُ السَّيْفِ وَهُوَ حَدُّهُ وَغَرْبُ كُلِّ شَيْءٍ حَدُّهُ ، يُقَالُ : فِي لِسَانِهِ غَرْبٌ أَيْ حِدَّةٌ وَالْحَدُّ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ مِنْ حَدِّ الشَّرَابِ وَهُوَ صَلَابَتُهُ وَحَدُّ الرَّجُلِ وَهُوَ بَأْسُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ غَضَبٌ بَالِغٌ أَقْصَى الْغَايَةِ مِنْ حَدِّ الشَّيْءِ وَهُوَ مُنْتَهَاهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ : " غَرْبٍ " فَإِنَّ الْحِدَّةَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَآخِرُهُ هَاءٌ وَالْحَدُّ بِفَتْحِ الْحَاءِ بِلَا هَاءٍ آخِرُهُ مَا يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ النَّزَقِ وَالْغَضَبِ وَكَذَا فِي رِوَايَتِنَا مِنْ غَرْبٍ حَدٍّ بِتَنْوِينِهِمَا ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ سُورَةً مِنْ حَدٍّ لَيْسَ فِيهِمَا لَفْظُ غَرْبٍ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ مِنْ حِدَّةٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَبِالْهَاءِ وَقَوْلُهَا يُوشِكُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ تُسْرِعُ وَقَوْلُهُ الْفَيْئَةَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَبِالْهَمْزِ أَيْ الرُّجُوعُ ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ يُوشِكُ وَمَعْنَى الْكَلَامِ وَصْفُهَا بِأَنَّهَا كَامِلَةُ الْأَوْصَافِ إلَّا أَنَّ فِيهَا شِدَّةَ خُلُقٍ وَسُرْعَةَ غَضَبٍ تَرْجِعُ عَنْهَا سَرِيعًا وَلَا تُصِرُّ عَلَيْهَا فَهِيَ سَرِيعَةُ الْغَضَبِ سَرِيعَةُ الرِّضَا فَتِلْكَ بِتِلْكَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَقَدْ صَحَّفَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَصْحِيفًا قَبِيحًا جِدًّا فَقَالَ مَا عَدَا سَوْدَةَ بِالدَّالِ وَجَعَلَهَا سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَذَا مِنْ فَاحِشِ الْغَلَطِ نَبَّهْت عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ .(1/9)
7-7663 أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرٌ يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ مُرَّةَ ، عَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ "(1)
__________
(1) - أخرجه البخاري برقم( 3411 و 3433 و 3769 و5418) ومسلم برقم(6425و6452) والترمذي برقم(4261) ونص برقم(3964و3965) وابن ماجة برقم(3405) وغيرهم من طرق
شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 180)
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَفَضْل عَائِشَة عَلَى النِّسَاء كَفَضْلِ الثَّرِيد عَلَى سَائِر الطَّعَام )
قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ أَنَّ الثَّرِيدَ مِنْ كُلِّ الطَّعَامِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَرَقِ ، فَثَرِيدُ اللَّحْمِ أَفْضَلُ مِنْ مَرَقه بِلَا ثَرِيدٍ ، وَثَرِيد مَا لَا لَحْم فِيهِ أَفْضَل مِنْ مَرَقه ، وَالْمُرَاد بِالْفَضِيلَةِ نَفْعُهُ ، وَالشِّبَع مِنْهُ ، وَسُهُولَة مَسَاغه ، وَالِالْتِذَاذ بِهِ ، وَتَيَسُّر تَنَاوُله ، وَتَمَكُّن الْإِنْسَان مِنْ أَخْذ كِفَايَته مِنْهُ بِسُرْعَةٍ ، وَغَيْر ذَلِكَ ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَرَقِ كُلِّهِ ، وَمِنْ سَائِر الْأَطْعِمَة وَفَضْل عَائِشَة عَلَى النِّسَاء زَائِد كَزِيَادَةِ فَضْل الثَّرِيد عَلَى غَيْره مِنْ الْأَطْعِمَة . وَلَيْسَ فِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى مَرْيَم وَآسِيَة ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَاد تَفْضِيلهَا عَلَى نِسَاء هَذِهِ الْأُمَّة .
فتح الباري لابن حجر - (ج 10 / ص 209)
قَوْله : ( وَلَمْ يَكْمُل مِنْ النِّسَاء إِلَّا آسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن وَمَرْيَم بِنْت عِمْرَان )
اِسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَصْر عَلَى أَنَّهُمَا نَبِيَّتَانِ لِأَنَّ أَكْمَلَ النَّوْع الْإِنْسَانِيّ الْأَنْبِيَاء ثُمَّ الْأَوْلِيَاء وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء ، فَلَوْ كَانَتَا غَيْر نَبِيَّتَيْنِ لَلَزِمَ أَلَّا يَكُون فِي النِّسَاء وَلِيَّة وَلَا صِدِّيقَة وَلَا شَهِيدَة ، وَالْوَاقِع أَنَّ هَذِهِ الصِّفَات فِي كَثِير مِنْهُنَّ مَوْجُودَة فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَمْ يُنَبَّأ مِنْ النِّسَاء إِلَّا فُلَانَة وَفُلَانَة ، وَلَوْ قَالَ لَمْ تَثْبُت صِفَة الصِّدِّيقِيَّة أَوْ الْوِلَايَة أَوْ الشَّهَادَة إِلَّا لِفُلَانَةَ وَفُلَانَة لَمْ يَصِحّ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي غَيْرهنَّ ، إِلَّا أَنْ يَكُون الْمُرَاد فِي الْحَدِيث كَمَال غَيْر الْأَنْبِيَاء فَلَا يَتِمّ الدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَاد مِنْ تَقَدُّم زَمَانه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ يَتَعَرَّض لِأَحَدِ مِنْ نِسَاء زَمَانه إِلَّا لِعَائِشَة ، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِأَفْضَلِيَّةِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا عَلَى غَيْرهَا لِأَنَّ فَضْل الثَّرِيد عَلَى غَيْره مِنْ الطَّعَام إِنَّمَا هُوَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَيْسِير الْمُؤْنَة وَسُهُولَة الْإِسَاغَة ، وَكَانَ أَجَلّ أَطْعِمَتهمْ يَوْمئِذٍ ، وَكُلّ هَذِهِ الْخِصَال لَا تَسْتَلْزِم ثُبُوت الْأَفْضَلِيَّة لَهُ مِنْ كُلّ جِهَة ، فَقَدْ يَكُون مَفْضُولًا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهِ مِنْ جِهَات أُخْرَى . وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الزِّيَادَة بَعْد قَوْله : وَمَرْيَم اِبْنَة عِمْرَان " وَخَدِيجَة بِنْت خُوَيْلِد وَفَاطِمَة بِنْت مُحَمَّد " أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ يُوسُف بْن يَعْقُوب الْقَاضِي عَنْ عَمْرو بْن مَرْزُوق عَنْ شُعْبَة بِالسَّنَدِ الْمَذْكُور هُنَا ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم فِي " الْحِلْيَة " فِي تَرْجَمَة عَمْرو بْن مُرَّة أَحَد رُوَاته عِنْد الطَّبَرَانِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَاد ، وَأَخْرَجَهُ الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره مِنْ طَرِيق عَمْرو بْن مَرْزُوق بِهِ ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيق صَحِيح مَا يَقْتَضِي أَفْضَلِيَّة خَدِيجَة وَفَاطِمَة عَلَى غَيْرهمَا وَذَلِكَ فِيمَا سَيَأْتِي فِي قِصَّة مَرْيَم مِنْ حَدِيث عَلِيّ بِلَفْظِ " خَيْر نِسَائِهَا خَدِيجَة " وَجَاءَ فِي طَرِيق أُخْرَى مَا يَقْتَضِي أَفْضَلِيَّة خَدِيجَة وَفَاطِمَة وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ اِبْن حِبَّانَ وَأَحْمَد وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ فِي " كِتَاب الزُّهْد " وَالْحَاكِم كُلّهمْ مِنْ طَرِيق مُوسَى بْن عُقْبَة عَنْ كُرَيْب عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَفْضَل نِسَاء أَهْل الْجَنَّة خَدِيجَة بِنْت خُوَيْلِد وَفَاطِمَة بِنْت مُحَمَّد وَمَرْيَم بِنْت عِمْرَان وَآسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن " وَلَهُ شَاهِد مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي " الْأَوْسَط لِلطَّبَرَانِيّ " وَلِأَحْمَد فِي حَدِيث أَبِي سَعِيد رَفَعَهُ " فَاطِمَة سَيِّدَة نِسَاء أَهْل الْجَنَّة إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَم بِنْت عِمْرَان " وَإِسْنَاده حَسَن ، وَإِنْ ثَبَتَ فَفِيهِ حُجَّة لِمَنْ قَالَ إِنّ آسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن لَيْسَتْ نَبِيَّة ، وَسَيَأْتِي فِي مَنَاقِب فَاطِمَة قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا إِنَّهَا سَيِّدَة نِسَاء أَهْل الْجَنَّة مَعَ مَزِيد بَسْط لِهَذِهِ الْمَسْأَلَة هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ، وَيَأْتِي فِي الْأَطْعِمَة زِيَادَة فِيمَا يَتَعَلَّق بِالثَّرِيدِ ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ : الصَّحِيح أَنَّ مَرْيَم نَبِيَّة لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهَا بِوَاسِطَةِ الْمَلَك ، وَأَمَّا آسِيَة فَلَمْ يَرِد مَا يَدُلّ عَلَى نُبُوَّتهَا . وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : لَا يَلْزَم مِنْ لَفْظَة الْكَمَال ثُبُوت نُبُوَّتهَا لِأَنَّهُ يُطْلَق لِتَمَامِ الشَّيْء وَتَنَاهِيهِ فِي بَابه ، فَالْمُرَاد بُلُوغهَا النِّهَايَة فِي جَمِيع الْفَضَائِل الَّتِي لِلنِّسَاءِ . قَالَ : وَقَدْ نُقِلَ الْإِجْمَاع عَلَى عَدَم نُبُوَّة النِّسَاء ، كَذَا قَالَ ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْأَشْعَرِيّ أَنَّ مِنْ النِّسَاء مِنْ نُبِّئَ وَهُنَّ سِتّ : حَوَّاء وَسَارَة وَأُمّ مُوسَى وَهَاجَر وَآسِيَة وَمَرْيَم ، وَالضَّابِط عِنْده أَنَّ مَنْ جَاءَهُ الْمَلَك عَنْ اللَّه بِحُكْم مِنْ أَمْر أَوْ نَهْي أَوْ بِإِعْلَامِ مِمَّا سَيَأْتِي فَهُوَ نَبِيّ ، وَقَدْ ثَبَتَ مَجِيء الْمَلَك لِهَؤُلَاءِ بِأُمُورِ شَتَّى مِنْ ذَلِكَ مِنْ عِنْد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ، وَوَقَعَ التَّصْرِيح بِالْإِيحَاءِ لِبَعْضِهِنَّ فِي الْقُرْآن . وَذَكَر اِبْن حَزْم فِي " الْمِلَل وَالنِّحَل " أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَة لَمْ يَحْدُث التَّنَازُع فِيهَا إِلَّا فِي عَصْره بِقُرْطُبَة ، وَحَكَى عَنْهُمْ أَقْوَالًا ثَالِثهَا الْوَقْف ، قَالَ : وَحُجَّة الْمَانِعِينَ قَوْله تَعَالَى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك إِلَّا رِجَالًا ) قَالَ : وَهَذَا لَا حُجَّة فِيهِ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَدَّعِ فِيهِنَّ الرِّسَالَة ، وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي النُّبُوَّة فَقَطْ . قَالَ : وَأَصْرَح مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ قِصَّة مَرْيَم ، وَفِي قِصَّة أُمّ مُوسَى مَا يَدُلّ عَلَى ثُبُوت ذَلِكَ لَهَا مِنْ مُبَادَرَتهَا بِإِلْقَاءِ وَلَدهَا فِي الْبَحْر بِمُجَرَّدِ الْوَحْي إِلَيْهَا بِذَلِكَ ، قَالَ : وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى بَعْد أَنْ ذَكَرَ مَرْيَم وَالْأَنْبِيَاء بَعْدهَا ( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ ) فَدَخَلَتْ فِي عُمُومه وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَمِنْ فَضَائِل آسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن أَنَّهَا اِخْتَارَتْ الْقَتْل عَلَى الْمُلْك وَالْعَذَاب فِي الدُّنْيَا عَلَى النَّعِيم الَّذِي كَانَتْ فِيهِ ، وَكَانَتْ فِرَاسَتهَا فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام صَادِقَة حِين قَالَتْ : ( قُرَّةُ عَيْنٍ لِي )
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 380)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : فَصْلٌ وَأَمَّا " نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَلَمْ يَقُلْ : إنَّهُنَّ أَفْضَلُ مِنْ الْعَشْرَةِ إلَّا أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ مَنْ بَلَّغَهُ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ وَنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ . وَحُجَّتُهُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا فَاسِدَةٌ ؛ فَإِنَّهُ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَعَ زَوْجِهَا فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ وَدَرَجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فَيَكُونُ أَزْوَاجُهُ فِي دَرَجَتِهِ وَهَذَا يُوجِبُ عَلَيْهِ : أَنْ يَكُونَ أَزْوَاجُهُ أَفْضَلَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ جَمِيعِهِمْ وَأَنْ تَكُونَ زَوْجَةُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَفْضَلَ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ وَأَنَّ يَكُونَ مَنْ يَطُوفُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَمَنْ يُزَوَّجُ بِهِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَعْلَمُ بُطْلَانَهُ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ } " فَإِنَّمَا ذَكَرَ فَضْلَهَا عَلَى النِّسَاءِ فَقَطْ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَمُلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ؛ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا عَدَدٌ قَلِيلٌ إمَّا اثْنَتَانِ أَوْ أَرْبَعٌ } " وَأَكْثَرُ أَزْوَاجِهِ لَسْنَ مِنْ ذَلِكَ الْقَلِيلِ . وَالْأَحَادِيثُ الْمُفَضِّلَةُ لِلصَّحَابَةِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا } " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ أَهْلٌ : لَا مِنْ الرِّجَالِ وَلَا مِنْ النِّسَاءِ أَفْضَلُ عِنْدَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ . وَمَا دَلَّ عَلَى هَذَا مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي لَا يَتَّسِعُ لَهَا هَذَا الْمَوْضِعُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَأَبُو مُحَمَّدٍ مَعَ كَثْرَةِ عِلْمِهِ وَتَبَحُّرِهِ وَمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الْفَوَائِدِ الْعَظِيمَةِ : لَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُنْكَرَةِ الشَّاذَّةِ مَا يَعْجَبُ مِنْهُ كَمَا يَعْجَبُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْحَسَنَةِ الْفَائِقَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ : إنَّ مَرْيَمَ نَبِيَّةٌ وَإِنَّ آسِيَةَ نَبِيَّةٌ وَإِنَّ أَمْ مُوسَى نَبِيَّةٌ . وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُمْ : الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ دَلَّا عَلَى ذَلِكَ : كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } وَقَوْلِهِ : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } ذَكَرَ أَنَّ غَايَةَ مَا انْتَهَتْ إلَيْهِ أُمُّهُ : الصديقية وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
مجموع رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية - (ج 15 / ص 12)
( فَصْلٌ ) : وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : سَلَامَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } وَطَاعَةُ النَّبِيِّ فِي قَوْلِهِ : " { لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي . فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } . وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ : مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ . فَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ - وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ - وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِهِ وَقَاتَلَ وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ { اللَّهَ قَالَ لِأَهْلِ بَدْرٍ - وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ - : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ } وَبِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ قَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ . وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ وَكَثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانِ وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ فِي الْبَيْعَةِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ وَسَكَتُوا أَوْ رَبَّعُوا بِعَلِيِّ وَقَدَّمَ قَوْمٌ عَلِيًّا وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا ؛ لَكِنْ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ - مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - لَيْسَتْ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّة لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا هِيَ " مَسْأَلَةُ الْخِلَافَةِ " وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلَافَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ . وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتولونهم وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ : " { أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي } وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّهِ - وَقَدْ اشْتَكَى إلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ - فَقَالَ : " { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِي } وَقَالَ " { إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى بَنِي إسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ } . وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الْآخِرَةِ خُصُوصًا خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُمُّ أَكْثَرِ أَوْلَادِهِ وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاضَدَهُ عَلَى أَمْرِهِ وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ وَالصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 4 / ص 212)
زوجات النبي صلى الله عليه وسلم:
زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل نساء الأمة لمكانتهن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنهن أمهات المؤمنين ولأنهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة ولطهارتهن من الرجس ولذلك يكفر من قذف واحدة منهن لأن ذلك يستلزم نقص النبي صلى الله عليه وسلم وتدنيس فراشه وأفضلهن خديجة وعائشة وكل واحدة منهما أفضل من الأخرى من وجه، فمزية خديجة أنها أول من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم وأنها عاضدته على أمره في أول رسالته وأنها أم أكثر أولاده بل كلهم إلا إبراهيم وأن لها منزلة عالية عنده فكان يذكرها دائماً ولم يتزوج عليها حتى ماتت.
ومزية عائشة: حسن عشرتها مع النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أمره وأن الله برأها في كتابه مما رماها به أهل الإفك وأنزل فيها آيات تتلى إلى يوم القيامة وأنها حفظت من هدي النبي صلىالله عليه وسلم وسنته ما لم تحفظه امراة سواها وأنها نشرت العلم الكثير بين الأمة وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً سواها فكانت تربيتها الزوجية على يده وأن النبي صلىالله عليه وسلم قال فيها: " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام".
فتاوى ابن باز 1-18 - (ج 4 / ص 233)
ولقد جاء الإسلام بالمحافظة على كرامة المرأة وصيانتها ، ووضعها في المقام اللائق بها وحث على إبعادها عما يشينها أو يخدش كرامتها ، لذلك حرم عليها الخلوة بالأجنبي ونهاها عن السفر بدون محرم ، ونهاها عن التبرج الذي ذم الله به الجاهلية لكونه من أسباب الفتنة بالنساء وظهور الفواحش ، كما قال عز وجل : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى والتبرج إظهار المحاسن والمفاتن ، ونهاها عن الاختلاط بالرجال الأجانب عنها ، والخضوع بالقول عند مخاطبتهم حسما لأسباب الفتنة والطمع في فعل الفاحشة كما في قوله سبحانه : يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا والمرض هنا هو مرض الشهوة .
كما أمرها بالحشمة في لباسها وفرض عليها الحجاب لما في ذلك من الصيانة لهن ، وطهارة قلوب الجميع فقال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وقال سبحانه : وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ الآية .وقد امتثلن رضي الله عنهن لأمر الله ورسوله فبادرن إلى الحجاب والتستر عن الرجال الأجانب ، فقد روى أبو داود بسند حسن عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : ( لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية وعليهن أكسية سود يلبسنها ) ، وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها فإذا جاوزونا كشفناه ) . وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي أكمل النساء دينا وعلما وخلقا وأدبا ، قال في حقها المصطفى صلى الله عليه وسلم : " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " والثريد هو : اللحم والخبز . وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج النساء إلى مصلى العيد قلن يا رسول الله : إحدانا لا يكون لها جلباب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لتلبسها أختها من جلبابها " رواه البخاري ومسلم ، فيؤخذ من هذا الحديث أن المعتاد عند نساء الصحابة أن لا تخرج المرأة إلا بجلباب فلم يأذن لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج بغير جلباب درءا للفتنة وحماية لهن من أسباب الفساد ، وتطهيرا لقلوب الجميع ، مع أنهن يعشن في خير القرون ورجاله ونساؤه من أهل الإيمان من أبعد الناس عن التهم والريب ، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس ) ، فدل هذا الحديث على أن الحجاب والتستر كان من عادة نساء الصحابة الذين هم خير القرون وأكرمها على الله عز وجل وأعلاها أخلاقا وآدابا وأكملها إيمانا وأصلحها عملا ، فهم القدوة الصالحة في سلوكهم وأعمالهم لغيرهم ممن يأتي بعدهم .
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 28 / ص 281)
نبذة عن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رقم الفتوى:43062تاريخ الفتوى:22 ذو القعدة 1424السؤال : من هي السيدة عائشة ؟
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد :
فسنذكر إن شاء الله تعالى نبذة تُعَرِّف بأم المؤمنين عائشة مختصرة من كتاب "الإصابة" للحافظ ابن حجر، فنقول وبالله التوفيق:
هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، عبد الله بن عثمان القرشي، من بني تيم بن مرة، أمها أم رومان بنت عامر بن عويم الكنانية، ولدت بعد المبعث بأربع سنين أو خمس، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست سنين، وقيل سبع، ودخل بها وهي بنت تسع، وكان دخوله بها في شوال في السنة الأولى وقيل الثانية من الهجرة.
حوت علما غزيرا بفضل الله تعالى، ثم ببركة صحبتها كثيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن مسروق: رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض، وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيا في العامة.
وقال أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه: ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها علما.
وفي الصحيح عن أبي موسى الأشعري مرفوعا: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة: من أزواجك في الجنة؟ قال: أنت منهن.
وكانت وفاتها في ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة ثمان وخمسين للهجرة النبوية رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
والله أعلم.(1/10)
8-7664 أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا عِيسَى ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ "(1)
__________
(1) - صحيح انظر ما قبله
لما سأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه قال: "عائشة" [متفق عليه].
وعندما جاءت أم المؤمنين أم سلمة -رضى اللَّه عنها- إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتشتكى من أمر يتعلق بعائشة، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم "يا أم سلمة لا تؤذينى في عائشة؛ فإنه -واللَّه- ما نزل على الوحى وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها" [متفق عليه].
وُلدت السيدة عائشة أم المؤمنين - رضى اللَّه عنها - قبل الهجرة بحوالى ثمانى سنوات، في بيت عامر بالإيمان، ممتلئ بنور القرآن، فأبوها الصديق أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثانى اثنين إذ هما في الغار، وأول من آمن من الرجال، وأول خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمها السيدة أم رومان بنت عامر، من أشرف بيوت قريش وأعرقها في المكانة.
وقد شاركت السيدة عائشة -رضى اللَّه عنها- منذ صباها في نصرة الإسلام، فكانت تساعد أختها الكبيرة أسماء في تجهيز الطعام للنبى صلى الله عليه وسلم وأبيها وهما في الغار عند الهجرة.
وبعد أن استقر مقام المسلمين في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أبو بكر الصديق إلى ابنه عبد اللَّه يطلب منه أن يهاجر بأهل بيته: عائشة، وأسماء، وأم رومان، فاستجاب عبد اللَّه بن أبى بكر ومضى بهم مهاجرًا، وفى الطريق هاج بعير عائشة فصاحت أم رومان: وابنتاه وا عروساه. ولكن اللَّه لطف، وأسرع الجميع إلى البعير ليسكن، وكان في ركب الهجرة السيدة فاطمة الزهراء والسيدة أم كلثوم بنتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين السيدة سودة بنت زمعة، ونزلت السيدة عائشة مع أهلها في دار بنى الحارث بن الخزرج، ونزل آل النبي صلى الله عليه وسلم في منزل حارثة بن النعمان.
وبدأتْ مرحلة جديدة في حياة أم المؤمنين عائشة - رضى اللَّه عنها - فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهى بنت ست سنين، وبنى بها وهى بنت تسع سنين. [البخاري].
وكان بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي دخلت فيه أم المؤمنين عائشة -رضى اللَّه عنها- حجرة واحدة من الطوب اللَّبِن - النَّيِّئ - والطين ، ملحق بها حجرة من جريد مستورة بالطين، وكان باب حجرة السيدة عائشة مواجهًا للشام، وكان بمصراع واحد من خشب، سقفه منخفض وأثاثه بسيط: سرير من خشبات مشدودة بحبال من ليف عليه وسادة من جلد حَشْوُها ليف، وقربة للماء، وآنية من فخارٍ للطعام والوضوء.
وفى زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة -رضى اللَّه عنها- تقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "أُرِيتُك في المنام مرتين: أرى أنك في سَرقة (قطعة) من حرير، ويقول: هذه امرأتك. فأكشف فإذا هي أنتِ، فأقول: إن يك هذا من عند اللَّه يُمضِه" [البخارى ومسلم وأحمد]. وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخطب عائشة حتى جاءته خولة زوج صاحبه عثمان بن مظعون ترشحها له.
أحبت السيدة عائشة النبي حبَّا كبيرًا، ومن فرط هذا الحب كانت فطرتها - مثل النساء - تغلبها فتغار.
ومرت الأيام بالسيدة عائشة هادئة مستقرة حتى جاءت غزوة بنى المصطلق، فأقرع النبي صلى الله عليه وسلم بين نسائه (أى أجرى القرعة بينهن لتخرج معه واحدة في السفر) وكان من عادته ( أن يفعل ذلك مع أزواجه إذا خرج لأمر، فخرج سهمها فخرجت معه (، حتى إذا فرغ النبي من غزوته، وعاد المسلمون منتصرين، استراح المسلمون لبعض الوقت في الطريق، فغادرت السيدة عائشة هودجها، فانسلّ عِقدها من جيدها (عنقها)، فأخذت تبحث عنه.. ولما عادت كانت القافلة قد رحلت دون أن يشعر الرَّكْبُ بتخلفها عنه، وظلَّت السيدة عائشة وحيدة في ذلك الطريق المقفر الخالى حتى وجدها أحد المسلمين - وهو الصحابى الجليل صفوان بن المعطل - رضى اللَّه عنه - فركبت بعيره، وسار بها، واللَّه ما كلمها ولاكلمته، حتى ألحقها برسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن أعداء اللَّه تلقفوا الخبر ونسجوا حوله الخزعبلات التي تداعت إلى أُذن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأثرت في نفسه، ونزلت كالصاعقة عليه وعلى أبيها"أبى بكر" وأمها "أم رومان" وجميع المسلمين، لكن اللَّه أنزل براءتها من فوق سبع سماوات فنزل في أمرها إحدى عشرة آية؛ لأنه يعلم براءتها وتقواها، فقال تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 11].
وتقول السيدة عائشة لما علمت بحديث الإفك: وبكيت يومى لا يرقأ لى دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندى أبواى وقد بكيت ليلتى ويومًا، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندى وأنا أبكى استأذنتْ امرأة من الأنصار، فأذنتُ لها، فجلست تبكى معي، فبينما نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس - ولم يجلس عندى من يوم قيل في ما قيل قبلها- وقد مكث شهرًا لا يُوحى إليه في شأنى شيء، فتشهَّد، ثم قال: "يا عائشة، فإنه بلغنى عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك اللَّه، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفرى اللَّه وتوبى إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب اللَّه عليه". فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قَلَص دمعى حتى ما أُحِس منه قطرة، وقلتُ لأبي: أجب عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قال: واللَّه لا أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت لأمي: أجيبى عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قالت: ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن. إنى واللَّه لقد علمت أنكم سمعتم ما يُحَدِّثُ به الناس، ووقر في أنفسكم وصدقتم به، وإن قلتُ لكم إنى بريئة - واللَّه يعلم أنى بريئة - لا تصدقوننى بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر - واللَّه يعلم أنى بريئة - لتصدقني، واللَّه ما أجد لى ولكم مثلا إلا قول أبى يوسف: فّصّبًرِ جّمٌيلِ $ّاللَّهٍ بًمٍسًتّعّانٍ عّلّي" مّا تّصٌفٍون [يوسف:18]. ثم تحولت على فراشى وأنا أرجو أن يبرئنى الله، ولكن واللَّه ما ظننتُ أن يُنزِل في شأنى وحيًا، ولأنا أحقر في نفسى من أن يُتكلم بالقرآن في أمري، ولكنى كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا تبرئني، فواللَّه ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أُنزل عليه الوحى ... فلما سُرِّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو يضحك (أى انكشف عنه الوحى ثم ابتسم)، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: "يا عائشة، احمدى الله، فقد برأك اللَّه". فقالت لى أمي: قومى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقلت: لا واللَّه لا أقوم إليه ولا أحمد إلا اللَّه، فأنزل اللَّه تعالي: إن الذين جاءوا بالإفك. [البخاري].
وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالحها فقال لها ذات يوم : "إنى لأعلم إذا كنت عنى راضية، وإذا كنتِ على غَضْبَي". فقالت رضى اللَّه عنها: من أين تعرف ذلك؟ فقال : "أما إذا كنت عنى راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنتِ غضبى قلت: لا ورب إبراهيم". فأجابت: أجل، واللَّه يا رسول اللَّه، ما أهجر إلا اسمك. [البخاري].
تلك هي المؤمنة ،لا يخرجها غضبها عن وقارها وأدبها، فلا تخرج منها كلمة نابية، أو لفظة سيئة.
ولما اجتمعت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ومعهن السيدة عائشة لطلب الزيادة في النفقة منه رغم علمهن بحاله، قاطعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة وعشرين يومًا حتى أنزل اللَّه تعالى قوله الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا.وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 28-29]. فقام النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه فبدأ بعائشة فقال: "يا عائشة إنى ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن تستعجلى حتى تستأمرى أبويك".
قالت: وقد علم أن أبواى لم يكونا ليأمرانى بفراقه، قالت: ثم قال: "إن اللَّه تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ)[الأحزاب: 82]. حتى بلغ: (لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 29]. فقلت: في هذا أستأمر أبوي؟ فإنى أُريد اللَّه ورسوله والدار الآخرة. وكذا فعل أزواج النبي جميعًا.
وعاشت السيدة عائشة مع رسول اللَّه حياة إيمانية يملأ كيانها نور التوحيد وسكينة الإيمان، وقد حازت -رضى اللَّه عنها- علمًا غزيرًا صافيًا من نبع النبوة الذي لا ينضب، جعلها من كبار المحدثين والفقهاء، فرُوى عنها من صحيح الحديث أكثر من ألفين ومائة حديث، فكانت بحرًا زاخرًا في الدين، وخزانة حكمة وتشريع، وكانت مدرسة قائمة بذاتها، حيثما سارت يسير في ركابها العلم والفضل والتقي، فقد ورد عن أبى موسى -رضى اللَّه عنه- قال: ما أُشْكِلَ علينا -أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - حديث قط، فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا.
وكان للسيدة عائشة -رضى الله عنها- علم بالشعر والطب، بالإضافة إلى علمها بالفقه وشرائع الدين.
وكان عروة بن الزبير -رضى الله عنه- يقول: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشِعْر من عائشة -رضى الله عنها-.
ومن جميل ما أسدته السيدة عائشة للمسلمين أنها كانت سببًا في نزول آية التيمم، يروى عنها أنها قالت: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بِتُرْبان (بلد يبعد عن المدينة عدة أميال وهو بلد لا ماء به) وذلك وقت السحر، انسلت قلادة من عنقى فوقعت، فحبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم (أى أمر بالبقاء لالتماسها في الضوء) حتى طلع الفجر، وليس مع القوم ماء، فلقيت من أبى ما اللَّه به عليم من التعنيف والتأفُّف، وقال: في كل سفر للمسلمين يلقون منك عناء وبلاء، فأنزل اللَّه الرخصة في التيمم، فتيمم القوم وصلوا، قالت: يقول أبى حين جاء من اللَّه الرخصة للمسلمين: واللَّه ما علمت يا بنية إنك لمباركة !! ما جعل اللَّه للمسلمين في حبسك إياهم من البركة واليسر!! وفى رواية قال لها أُسيد بن حضير: جزاك اللَّه خيرًا، فواللَّه ما نزل بك أمر تكرهينه قط إلا جعل اللَّه لك منه مخرجًا، وجعل للمسلمين فيه بركة.
لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرًا غيرها، فلقد تزوجها بعد أم المؤمنين خديجة وأم المؤمنين سودة بنت زمعة رضى اللَّه عنهن جميعًا-؛ رغبة منه في زيادة أواصر المحبة والصداقة بينه وبين الصدِّيق -رضى اللَّه عنه-. وكانت منزلتها عنده ( كبيرة، وفاضت روحه الكريمة في حجرها. وعاشت -رضى اللَّه عنها- حتى شهدت الفتنة الكبرى بعد مقتل عثمان بن عفان - رضى اللَّه عنه - وحضرت معركة الجمل، وكانت قد خرجت للإصلاح.
واشتهرت - رضى اللَّه عنها - بحيائها وورعها، فقد قالت: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى - رضى اللَّه عنه - واضعة ثوبى وأقول إنما هو زوجى وهو أبي، فلما دُفِن عمر - رضى اللَّه عنه - (معهما) واللَّه ما دخلته إلا مشدودة على ثيابى حياءً من عمر - رضى اللَّه عنه-.
وكانت من فرط حيائها تحتجب من الحسن والحسين، في حين أن دخولهما على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حل لهما.
وكانت -رضى الله عنها- كريمة؛ فيُروى أن "أم درة" كانت تزورها، فقالت: بُعث إلى السيدة عائشة بمال في وعاءين كبيرين من الخيش: ثمانين أو مائة ألف، فَدَعت بطبق وهى يومئذ صائمة، فجلست تقسم بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك المال درهم، فلما أمست قالت: يا جارية هلُمى إفطاري، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم درة: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشترى لنا لحمًا بدرهم فنفطر به. فقالت: لا تُعنِّفيني، لو كنتِ ذكَّرتينى لفعلت.
ومن أقوالها :
* لا تطلبوا ما عند اللَّه من عند غير اللَّه بما يسخط اللَّه.
* كل شرف دونه لؤم، فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه شرف فالشرف أولى به.
* إن للَّه خلقًا قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح؛ خفقت معها، فَأفٍّ للجبناء، فأفٍّ للجبناء.
* أفضل النساء التي لا تعرف عيب المقال، ولا تهتدى لمكر الرجال، فارغة القلب إلا من الزينة لبعلها، والإبقاء في الصيانة على أهلها.
* التمسوا الرزق في خبايا الأرض.
* رأت رجًلا متماوتًا فقالت: ماهذا؟ فقيل لها: زاهد. قالت: كان عمر بن الخطاب زاهدًا ولكنه كان إذا قال أسمع،وإذا مشى أسرع،وإذا ضرب في ذات اللَّه أوجع.
* علِّموا أولادكم الشعر تعذُب ألسنتهم.
هذه هي السيدة عائشة بنت الصديق -رضى اللَّه عنها- حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتى بلغت منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغًا عظيمًا، فقد رضى الله عنها لرضا رسوله صلى الله عليه وسلم عنها، فعن عائشة -رضى الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: "يا عائش! هذا جبريل يقرئك السلام". فقلتُ: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته" [متفق عليه].
وفى ليلة الثلاثاء 17 من رمضان في السنة 57 من الهجرة توفيت أم المؤمنين السيدة عائشة وهى في سن السادسة والستين من عمرها، ودفنت في البقيع، وسارت خلفها الجموع باكية عليها في ليلة مظلمة حزينة، فرضى اللَّه عنها وأرضاها.(1/11)
9-7665 أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ : حَدَّثَنَا شَاذَانُ قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أُمَّ سَلَمَةَ " لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا أَتَانِي الْوَحْيُ فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ إِلَّا هِيَ (1)
__________
(1) - أخرجه البخاري برقم(2581و3775) والترمذي برقم(4253) ونص برقم(3966و3967) وأحمد برقم(278271)
وهذا لفظ البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ حِزْبَيْنِ فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ وَالْحِزْبُ الْآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ لَهَا كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَيَقُولُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً فَلْيُهْدِهِ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ مَا قَالَ لِي شَيْئًا فَقُلْنَ لَهَا فَكَلِّمِيهِ قَالَتْ فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ مَا قَالَ لِي شَيْئًا فَقُلْنَ لَهَا كَلِّمِيهِ حَتَّى يُكَلِّمَكِ فَدَارَ إِلَيْهَا فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَ لَهَا لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ قَالَتْ فَقَالَتْ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَ يَا بُنَيَّةُ أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ قَالَتْ بَلَى فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ فَقُلْنَ ارْجِعِي إِلَيْهِ فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فَأَتَتْهُ فَأَغْلَظَتْ وَقَالَتْ إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَكَلَّمُ قَالَ فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ حَتَّى أَسْكَتَتْهَا قَالَتْ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَائِشَةَ وَقَالَ إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ
قَالَ الْبُخَارِيُّ الْكَلَامُ الْأَخِيرُ قِصَّةُ فَاطِمَةَ يُذْكَرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَرَجُلٍ مِنَ المَوَالِي عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَتْ عَائِشَةُ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَتْ فَاطِمَةُ
فتح الباري لابن حجر - (ج 8 / ص 64)
2393 - قَوْله : ( حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل ) هُوَ اِبْن أَبِي أُوَيْس ( حَدَّثَنِي أَخِي )هُوَ أَبُو بَكْر عَبْد الْحَمِيد
( عَنْ سُلَيْمَان ) هُوَ اِبْن بِلَال . وَقَدْ تَابَعَ الْبُخَارِيّ حُمَيْد بْن زَنْجُوَيْهِ عِنْد أَبِي نُعَيْم وَإِسْمَاعِيل الْقَاضِي عِنْد أَبِي عَوَانَة فَرَوَيَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أَبِي أُوَيْس كَمَا قَالَ ، وَخَالَفَهُمْ مُحَمَّد بْن يَحْيَى الذُّهْلِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيل " حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بْن بِلَال " حَذَفَ الْوَاسِطَة بَيْن إِسْمَاعِيل وَسُلَيْمَان وَهُوَ أَخُو إِسْمَاعِيل .
قَوْله : ( عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة ) زَادَ فِيهِ عَلَى رِوَايَة حَمَّاد بْن زَيْد فِي آخِره : " فَقَالَتْ - أَيْ أُمّ سَلَمَة - أَتُوبُ إِلَى اللَّه مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُول اللَّه " وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا إِرْسَالهنَّ فَاطِمَة ثُمَّ إِرْسَالهنَّ زَيْنَب بِنْت جَحْش ، وَقَدْ تَصَرَّفَ الرُّوَاة فِي هَذَا الْحَدِيث بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْص ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ ثَلَاثَة أَحَادِيث . قَالَ الْبُخَارِيّ " الْكَلَام الْأَخِير قِصَّة فَاطِمَة - أَيْ إِرْسَال أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَة بِنْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ - يُذْكَرُ عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ رَجُل عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن " يَعْنِي أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هِشَام بْن عُرْوَة فَرَوَاهُ سُلَيْمَان بْن بِلَال عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة فِي جُمْلَةِ الْحَدِيث الْأَوَّل ، وَرَوَاهُ عَنْهُ غَيْره بِهَذَا الْإِسْنَاد الْأَخِير .
قَوْله : ( وَالْحِزْب الْآخَرُ أُمّ سَلَمَة وَسَائِر نِسَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
أَيْ بَقِيَّتهنَّ ، وَهِيَ زَيْنَب بِنْت جَحْش الْأَسَدِيَّة وَأُمّ حَبِيبَة الْأُمَوِيَّة وَجُوَيْرِيَةُ بِنْت الْحَارِث الْخُزَاعِيَّة وَمَيْمُونَة بِنْت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة دُون زَيْنَب بِنْت خُزَيْمَةَ أُمّ الْمَسَاكِينِ . رَوَاهُ اِبْن سَعْد مِنْ طَرِيق رُمَيْثَة الْمَذْكُورَة وَهِيَ رُمَيْثَة بِالْمُثَلَّثَةِ مُصَغَّرَة عَنْ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ : " كَلَّمَنِي صَوَاحِبِي وَهُنَّ - فَذَكَرَتْهُنَّ - وَكُنَّا فِي الْجَانِب الثَّانِي وَكَانَتْ عَائِشَة وَصَوَاحِبهَا فِي الْجَانِب الْآخَر ، فَقُلْنَ كَلِّمِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ النَّاس يُهْدُونَ إِلَيْهِ فِي بَيْت عَائِشَة وَنَحْنُ نُحِبُّ مَا تُحِبُّ " الْحَدِيث قَالَ اِبْن سَعْد : مَاتَتْ زَيْنَب بِنْت خُزَيْمَةَ قَبْل أَنْ يَتَزَوَّج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمّ سَلَمَة ، وَأَسْكَنَ أُمّ سَلَمَة بَيْتهَا لَمَّا دَخَلَ بِهَا .
قَوْله : ( فَقُلْنَ لَهَا كَلِّمِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمِ النَّاسَ )
بِالْجَزْمِ وَالْمِيم مَكْسُورَة لِالْتِقَاءِ السَّاكِنِينَ وَيَجُوزُ الرَّفْع .
قَوْله : ( فَلْيُهْدِهَا )
فِي رِوَايَة الْْكُشْمِيهَنِيّ " فَلْيُهْدِ " بِحَذْفِ الضَّمِير .
قَوْله : ( فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْب اِمْرَأَة إِلَّا عَائِشَة )
يَأْتِي شَرْحُهُ فِي مَنَاقِب عَائِشَةِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَة )
فِي رِوَايَة الْْكُشْمِيهَنِيّ " دَعَيْنَ " وَرَوَى اِبْن سَعْد مِنْ مُرْسَل عَلِيّ بْن الْحُسَيْن أَنَّ الَّتِي خَاطَبَتْهَا بِذَلِكَ مِنْهُنَّ زَيْنَب بِنْت جَحْش ، وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهَا " أَرْسَلَتْك زَيْنَب ؟ قَالَتْ : زَيْنَب وَغَيْرهَا ، قَالَ : أَهِيَ الَّتِي وَلِيَتْ ذَلِكَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ " .
قَوْله : ( إِنَّ نِسَاءَك يَنْشُدْنَك الْعَدْل فِي بِنْت أَبِي بَكْر )
أَيْ يَطْلُبْنَ مِنْك الْعَدْل ، وَفِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ " يُنَاشِدْنَك اللَّه الْعَدْل " أَيْ يَسْأَلْنَك بِاللَّهِ الْعَدْل ، وَالْمُرَاد بِهِ التَّسْوِيَة بَيْنهنَّ فِي كُلّ شَيْء مِنْ الْمَحَبَّة وَغَيْرهَا ، زَادَ فِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَائِشَة عِنْد مُسْلِم " أَرْسَلَ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَة بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجِع مَعِي فِي مِرْطِي فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه إِنَّ أَزْوَاجك أَرْسَلْنَنِي يَسْأَلْنَك الْعَدْل فِي بِنْت اِبْن أَبِي قُحَافَة " وَأَبُو قُحَافَة هُوَ وَالِد أَبِي بَكْر .
قَوْله : ( فَقَالَ : يَا بُنَيَّة أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ ؟ قَالَتْ : بَلَى )
زَادَ مُسْلِم فِي الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة " قَالَ : فَأَحِبِّي هَذِهِ ، فَقَامَتْ فَاطِمَة حِين سَمِعْت ذَلِكَ " .
قَوْله : ( فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهنَّ )
زَادَ مُسْلِم " فَقُلْت لَهَا مَا نَرَاك أَغْنَيْت عَنَّا مِنْ شَيْء " .
قَوْله : ( فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ )
فِي رِوَايَة مُسْلِم " فَقَالَتْ : وَاللَّه لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا " .
قَوْله : ( فَأَرْسَلْنَ زَيْنَب بِنْت جَحْش )
زَادَ مُسْلِم " وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ فِي الْمَنْزِلَة عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْحَدِيث وَفِيهِ ثَنَاء عَائِشَة عَلَيْهَا بِالصَّدَقَةِ وَذِكْرهَا لَهَا بِالْحِدَّةِ الَّتِي تُسْرِعُ مِنْهَا الرَّجْعَة .
قَوْله : ( فَأَتَتْهُ )
فِي مُرْسَل عَلِيّ بْن الْحُسَيْن " فَذَهَبَتْ زَيْنَب حَتَّى اِسْتَأْذَنَتْ ، فَقَالَ : اِئْذَنُوا لَهَا . فَقَالَتْ : حَسْبك إِذَا بَرَقَتْ لَك بِنْت اِبْن أَبِي قُحَافَة ذِرَاعَيْهَا " وَفِي رِوَايَة مُسْلِم " وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَائِشَة فِي مِرْطهَا عَلَى الْحَال الَّتِي دَخَلَتْ فَاطِمَة وَهُوَ بِهَا " .
قَوْله : ( فَأَغْلَظَتْ )
فِي رِوَايَة مُسْلِم " ثُمَّ وَقَعَتْ بِي فَاسْتَطَالَتْ " وَفِي مُرْسَل عَلِيّ بْن الْحُسَيْن " فَوَقَعَتْ بِعَائِشَة وَنَالَتْ مِنْهَا " .
قَوْله : ( فَسَبَّتْهَا حَتَّى أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَنْظُر إِلَى عَائِشَة هَلْ تَكَلَّم )
فِي رِوَايَة مُسْلِم " وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْقُب طَرَفه هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا . قَالَتْ : فَلَمْ تَبْرَح زَيْنَب حَتَّى عَرَفْت أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ " وَفِي هَذَا جَوَاز الْعَمَل بِمَا يُفْهَمُ مِنْ الْقَرَائِن ، لَكِنْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه الْبَهِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : " دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَب بِنْت جَحْش فَسَبَّتْنِي ، فَرَدَعَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَتْ ، فَقَالَ سُبِّيهَا ، فَسَبَبْتهَا حَتَّى جَفَّ رِيقهَا فِي فَمِهَا " وَقَدْ ذَكَرْته فِي " بَاب اِنْتِصَار الظَّالِم " مِنْ كِتَاب الْمَظَالِم فَيُمْكِن أَنْ يُحْمَل عَلَى التَّعَدُّد .
قَوْله : ( فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَة تَرُدّ عَلَى زَيْنَب حَتَّى أَسْكَتَتْهَا )
فِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ " فَلَمَّا وَقَعْت بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا أَنْ أَثْخَنْتهَا غَلَبَة " وَلِابْنِ سَعْد " فَلَمْ أَنْشَبْهَا أَنْ أَفْحَمْتهَا " .
قَوْله : ( فَقَالَ : إِنَّهَا بِنْت أَبِي بَكْر )
أَيْ إِنَّهَا شَرِيفَة عَاقِلَة عَارِفَة كَأَبِيهَا ، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسْلِم ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ الْمَذْكُورَة " فَرَأَيْت وَجْهه يَتَهَلَّلُ " وَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى أَنَّ أَبَا بَكْر كَانَ عَالِمًا بِمَنَاقِب مُضَر وَمَثَالِبهَا فَلَا يُسْتَغْرَبُ مِنْ بِنْته تَلَقِّي ذَلِكَ عَنْهُ " وَمَنْ يُشَابه أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ " . وَفِي هَذَا الْحَدِيث مَنْقَبَة ظَاهِرَة لِعَائِشَة ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى الْمَرْء فِي إِيثَار بَعْض نِسَائِهِ بِالتُّحَفِ ، وَإِنَّمَا اللَّازِم الْعَدْل فِي الْمَبِيت وَالنَّفَقَة وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْأُمُور اللَّازِمَة ، كَذَا قَرَّرَهُ اِبْن بَطَّال عَنْ الْمُهَلَّب ، وَتَعَقَّبَهُ اِبْن الْمُنِير بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ الَّذِينَ أَهْدَوْا لَهُ وَهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَمْنَعْهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَمَالِ الْأَخْلَاق أَنْ يَتَعَرَّض الرَّجُل إِلَى النَّاس بِمِثْلِ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّض لِطَلَبِ الْهَدِيَّة ، وَأَيْضًا فَالَّذِي يُهْدِي لِأَجْلِ عَائِشَة كَأَنَّهُ مَلَّكَ الْهَدِيَّة بِشَرْطٍ ، وَالتَّمْلِيك يَتْبَعُ فِيهِ تَحْجِير الْمَالِك ، مَعَ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُشْرِكُهُنَّ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الْمُنَافَسَة لِكَوْنِ الْعَطِيَّة تَصِلُ إِلَيْهِنَّ مِنْ بَيْتِ عَائِشَةَ . وَفِيهِ قَصْدُ النَّاس بِالْهَدَايَا أَوْقَات الْمَسَرَّة وَمَوَاضِعهَا لِيَزِيدَ ذَلِكَ فِي سُرُورِ الْمُهْدِي إِلَيْهِ . وَفِيهِ تَنَافُسُ الضَّرَائِرِ وَتَغَايُرهنَّ عَلَى الرَّجُلِ ، وَأَنَّ الرَّجُل يَسَعُهُ السُّكُوت إِذَا تَقَاوَلْنَ ، وَلَا يَمِيلُ مَعَ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ . وَفِيهِ جَوَاز التَّشَكِّي وَالتَّوَسُّل فِي ذَلِكَ ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَهَابَتِهِ وَالْحَيَاء مِنْهُ حَتَّى رَاسَلْنَهُ بِأَعَزّ النَّاس عِنْده فَاطِمَة . وَفِيهِ سُرْعَة فَهْمهنَّ وَرُجُوعهنَّ إِلَى الْحَقّ وَالْوُقُوف عِنْده . وَفِيهِ إِدْلَال زَيْنَب بِنْت جَحْش عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهَا كَانَتْ بِنْت عَمَّته ، كَانَتْ أُمّهَا أُمَيْمَة بِالتَّصْغِيرِ بِنْت عَبْد الْمُطَّلِب . قَالَ الدَّاوُدِيّ : وَفِيهِ عُذْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْنَب ، قَالَ اِبْن التِّين : وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ .
قُلْت : كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ مُخَاطَبَتهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَلَبِ الْعَدْل مَعَ عِلْمهَا بِأَنَّهُ أَعْدَل النَّاس ، لَكِنْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْغَيْرَة فَلَمْ يُؤَاخِذْهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاقِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا خَصَّ زَيْنَب بِالذِّكْرِ لِأَنَّ فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام كَانَتْ حَامِلَة رِسَالَة خَاصَّة ، بِخِلَافِ زَيْنَب فَإِنَّهَا شَرِيكَتهنَّ فِي ذَلِكَ بَلْ رَأْسهنَّ ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَوَلَّتْ إِرْسَال فَاطِمَة أَوَّلًا ثُمَّ سَارَتْ بِنَفْسِهَا . وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقَسْم كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَسَيَأْتِي الْبَحْث فِي ذَلِكَ فِي النِّكَاح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( وَقَالَ أَبُو مَرْوَان الْغَسَّانِيّ )
كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِغَيْنٍ مُعْجَمَة وَسِين مُهْمَلَة ثَقِيلَة ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ عَنْ أَبِي زَيْد فِيهِ تَغْيِير فَغَيَّرَهُ " الْعُثْمَانِيّ " حَكَاهُ أَبُو عَلِيّ الْجَيَّانِيّ وَقَالَ إِنَّهُ خَطَأ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لِأَبِي مَرْوَان هَذَا رِوَايَة مَوْصُولَة فِي كِتَاب الْحَجّ ، وَوَقَعَ لِلْقَابِسِيِّ فِيهِ تَصْحِيف غَيْر هَذَا . وَقَوْله : " وَقَالَ أَبُو مَرْوَان إِلَخْ " يَعْنِي أَنَّ أَبَا مَرْوَان فَصَلَ بَيْن الْحَدِيثَيْنِ فِي رِوَايَته عَنْ هِشَام فَجَعَلَ الْأَوَّل - وَهُوَ التَّحَرِّي - كَمَا قَالَ حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ هِشَام ، وَجَعَلَ الثَّانِي - وَهُوَ قِصَّة فَاطِمَة - عَنْ هِشَام عَنْ رَجُل مِنْ قُرَيْش وَرَجُل مِنْ الْمَوَالِي عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن هِشَام عَنْ عَائِشَة . قُلْت : وَطَرِيق مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَائِشَة بِهَذِهِ الْقِصَّة مَشْهُورَة مِنْ غَيْر هَذَا الْوَجْه ، أَخْرَجَهَا مُسْلِم وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيق صَالِح بْن كَيْسَانَ ، زَادَ مُسْلِم " وَيُونُس " ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ " وَشُعَيْب بْن أَبِي حَمْزَة " ثَلَاثَتهمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ ، وَهَكَذَا قَالَ مُوسَى بْن أَعْيَن عَنْ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيِّ ، وَخَالَفَهُ عَبْد الرَّزَّاق فَقَالَ : " عَنْ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة " وَخَالَفَهُمْ إِسْحَاق الْكَلْبِيّ فَجَعَلَ أَبَا بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن بَدَل مُحَمَّد بْن الرَّحْمَن ، قَالَ الذُّهْلِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرهمَا : الْمَحْفُوظ مِنْ حَدِيث الزُّهْرِيِّ " عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَائِشَة " وَأَبُو مَرْوَان هَذَا هُوَ يَحْيَى بْن أَبِي زَكَرِيَّا الْغَسَّانِيّ ، وَهُوَ شَامِيّ نَزَلَ وَاسِط ، وَاسْم أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى أَيْضًا ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُحَمَّد بْن عُثْمَان الْعُثْمَانِيّ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُكَنَّى أَبَا مَرْوَان لَكِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ وَإِنَّمَا يَرْوِي عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ ، وَطَرِيقه هَذِهِ وَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي " الزُّهْرِيَّات " . وَقَدْ اخْتُلِفَ عَلَى هِشَام فِيهِ اِخْتِلَافًا آخَر فَرَوَاهُ حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْهُ " عَنْ عَوْف بْن الْحَارِث عَنْ أُخْته رُمَيْثَة عَنْ أُمّ سَلَمَة أَنَّ نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَ لَهَا : إِنَّ النَّاس يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْم عَائِشَة " الْحَدِيث أَخْرَجَهُ أَحْمَد ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِهِشَامٍ فِيهِ طَرِيقَانِ ، فَإِنَّ عَبْدَة بْن سُلَيْمَان رَوَاهُ عَنْهُ بِالْوَجْهَيْنِ ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقه بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّل كَمَا مَضَى فِي الْبَاب الَّذِي قَبْلَهُ ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقه مُتَابِعًا لِحَمَّادِ بْن سَلَمَة ، وَاللَّه أَعْلَم .
مشكل الآثار للطحاوي - (ج 1 / ص 325)
باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله عليه السلام فيمن كان ينزل عليه الوحي ، وهو في لحافها
274 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، ثنا عفان ، ثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، حدثني عوف بن الحارث ، عن أخته رميثة ابنة الحارث ، عن أم سلمة ، أن النساء ، قلن لها : إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة وإنا نحب الخير كما تحبه عائشة فإذا جاءك النبي عليه السلام فقولي له : إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة وإنا نحب الخير كما تحبه عائشة فلو أمرت الناس يهدون لك حيث كنت ، قالت : فلما جاء النبي عليه السلام قلت له ، فأعرض عني ، فلما خرج قلن لها : ما فعلت ؟ قالت : قد قلت له فأعرض عني فقلن : عاوديه فعاودته فأعرض عني ، ثم قال : « يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فوالله ما منكن امرأة ينزل علي الوحي وأنا في لحافها ليس عائشة » قالت : قلت : لا جرم (1) والله لا أوذيك فيها أبدا فقال قائل : فقد روي عن أم سلمة في غير هذا الحديث ما يضاد ما في هذا الحديث
__________
(1) لا جرم : هذه كلمة تَرِد بمعْنى تَحْقِيق الشَّيء. وقد اخْتُلف في تقديرها، فقِيل : أصْلُها التَّبْرِئة بمعنى لا بُدَّ، ثم اسْتُعْمِلت في معْنى حَقًّا. وقيل جَرَم بمعْنى كسَبَ. وقيل بمعْنى وجَبَ وحُقَّ.
275 - وذكر ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، عن صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب وكان قائد كعب حين عمي قال : سألت كعبا عن حديثه حين تخلف عن رسول الله عليه السلام في غزوة تبوك فذكر أنه حدثه إياه وقال فيه : قال كعب : وأخبرتني أم سلمة زوج النبي عليه السلام وكانت محسنة في شأني أن رسول الله عليه السلام كان عندها تلك الليلة تعني التي نزلت فيها توبته قالت : فلما بقي ثلث من الليل نزلت عليه توبتنا فقال : « يا أم سلمة تيب على كعب وصاحبيه » قالت : فقلت : يا رسول الله أفلا أرسل إليه أبشره قال : « إذا يحطمكم الناس ويمنعونك النوم سائر الليلة » وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا بعد ما صلى الصبح فكان جوابنا له عن ذلك بتوفيق الله أن ما في هذا الحديث غير مضاد لما في الحديث الأول ؛ لأن الذي في هذا الحديث إنما هو إخبار أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت عليه توبة كعب وصاحبيه في بيتها وفي ليلتها لا ما سوى ذلك وقد يجوز أن يكون نزل ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في غير لحافها وفي الحديث الأول إثبات أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « والله ما منكن امرأة ينزل علي الوحي وأنا في لحافها ليس عائشة » ففي ذلك إثبات أن نزول الوحي كان عليه ، وهو في لحاف عائشة وليس ذلك في الحديث الثاني الذي ذكرناه في هذا الباب والله نسأله التوفيق
شرح ابن بطال - (ج 13 / ص 93)
قال المهلب: فى هذا الحديث من الفقه: أنه ليس على الرجل حرج فى إيثار بعض نسائه بالتحف والطرف من المأكل، وإنما يلزمه العدل فى المبيت والمقام معهن، وإقامة نفقاتهن وما لابد منه من القوت والكسوة، وأما غير ذلك فلا، وفيه تحرى الناس بالهدايا أوقات المسرة ومواضعها من المهداة إليه؛ ليزيد بذلك فى سروره، وفيه أن الرجل يسعه السكوت بين نسائه إذا تناظرن، ولا يميل مع بعضهن على بعض، كما سكت النبى - صلى الله عليه وسلم - حين تناظرت زينب وعائشة، ولكن قال آخرًا: « إنها بنت أبى بكر » ، ففى هذا إشارة إلى التفضيل بالشرف والفهم.
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 1 / ص 443)
صحة حديث أحب النساء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-
المجيب عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 28/11/1424هـ
السؤال
أرجو بيان صحة الحديث التالي:
روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر على زوجاته في ليلة، وقدم لهن خواتم، وقال: "أحبك أكثر، وفي اليوم التالي اجتمع بهن كلهن، وقال: أتدرين من أحب أكثر؟ فسألت أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن-: من ؟ فقال: التي أحبها أكثر هي من أعطيتها خاتماً.
الجواب
هذا الأثر، ليس موجوداً في كتب السنة المشهورة - كما تبين لي بعد بحث وتقصٍ- والثابت في هذا الباب، ما رواه البخاري في الفضائل(3662)، وفي المغازي(4358) عن خالد الحذاء عن أبي عثمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعث عمرو بن العاص - رضي الله عنه- على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها".
وهذا الحديث صحيح صريح الدلالة على أن أحب نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه عائشة - رضي الله عنها-، يؤيده أحاديث أخرى كثيرة، منها ما رواه البخاري في صحيحه في الفضائل (3774) عن أبي أسامة عن هشام عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: "أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟" حرصاً على بيت عائشة - رضي الله عنها- قالت عائشة - رضي الله عنها-: فلما كان يومي سكن.
وفي البخاري أيضاً في الفضائل(3775)، عن هشام عن أبيه قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة - رضي الله عنها-، قالت عائشة - رضي الله عنها-: "فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة - رضي الله عنها- فقلن: يا أم سلمة: والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة - رضي الله عنها- وإنا نريد الخير كما تريده عائشة - رضي الله عنها- فمري رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث ما كان، أو حيثما دَارَ، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة - رضي الله عنها- للنبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: فأعرض عنِّي، فلما عاد إليَّ ذكرت له ذلك، فأعرض عنِّي، فلما كان في الثالثة ذكرت له، فقال: "يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها". والله سبحانه أعلم. اهـ.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 10 / ص 364)
أحب زوجات الرسول إليه. وأقرب الرجال لقلبه رقم الفتوى:19801تاريخ الفتوى:14 جمادي الأولى 1423السؤال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السؤال هو :- من أحب الزوجات إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وأحب الصحابة إلى قلبه وأقربهم له وشكرا لكم وجزاكم الله عنا كل خير
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فأحب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إليه هي عائشة بنت أبي بكر أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها فعن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم: بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب.. فعدَّ رجالاً. متفق عليه.
ولقد تواتر هذا الأمر لدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لدرجة أنهم كان الواحد منهم إذا أراد أن يهدي هدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان ينتظر اليوم الذي يكون فيه صلى الله عليه وسلم عند عائشة فيهدي إليه، مما أثار حفيظة سائر أمهات المؤمنين، فعن هشام عن أبيه قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن: يا أم سلمة والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأعرض عني، فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها. رواه البخاري.
وتأكدت مكانة عائشة السامية في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، حيث كان يهتم جداً بأن يكون عندها دون غيرها وتحقق له صلى الله عليه وسلم ما أراد. فعن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يسأل في مرضه الذي مات فيه أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ يريد عائشة.. فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات.
ومما لا شك فيه أن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها كان لها كذلك نصيب كبير من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح شاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها الولد. متفق عليه.
أما أحب الرجال إليه صلى الله عليه وسلم فأبو بكر ثم عمر بن الخطاب كما في حديث عمرو المتقدم ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر ثم عمر ثم أبو عبيدة بن الجراح. رواه الترمذي وابن ماجه وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط ورجاله ثقات.
والله أعلم.(1/12)
10-7666 أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ ، عَنْ عَبْدَةَ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنْ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ ، عَنْ رُمَيْثَةَ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمْنَهَا أَنْ تُكَلِّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرُّونَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ وَتَقُولُ لَهُ : " كَانَ النَّاسُ يَتَحَرُّونَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ ، فَكَلَّمَتْهُ ، فَلَمْ يُجِبْهَا ، فَلَمَّا دَارَ عَلَيْهَا ، كَلَّمَتْهُ أَيْضًا ، فَلَمْ يُجِبْهَا " وَقُلْنَ : مَا رَدَّ عَلَيْكِ قَالَتْ : " لَمْ يُجِبْنِي " قُلْنَ : لَا تَدَعِيهِ ، حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْكِ تَنْظُرِينَ مَا يَقُولُ : فَلَمَّا دَارَ عَلَيْهَا الثَّالِثَةَ كَلَّمَتْهُ فَقَالَ : " لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ الْوَحْيُ ، وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ إِلَّا فِي لِحَافِ عَائِشَةَ "(1)
11- 7667 أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّاسُ يَتَحَرُّونَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : " وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ عَنْ عَبْدَةَ(2)
__________
(1) - صحيح انظر ما قبله
(2) -صحيح انظر ما قبله
شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 370)
قَوْلُهُ ( كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْم عَائِشَة )لِمَا يَرَوْنَ مِنْ حُبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا أَكْثَر مِنْ حُبِّهِ غَيْرهَا وَمُرَادهنَّ أَنْ يَأْمُرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهْدُوا إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ كَمَا جَاءَ فِي الْبُخَارِيّ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا كَلَام لَا يَلِيقُ بِصَاحِبِ الْمُرُوءَة ذَكَرَهُ فِي الْمَجْلِس فَطَلَبُهُنَّ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَذْكُرَ لِلنَّاسِ مِثْل هَذَا الْكَلَام إِمَّا لِعَدَمِ تَفَطُّنِهِنَّ لِمَا فِيهِنَّ مِنْ شِدَّة الْغَيْرَة أَوْ هُوَ كِنَايَة عَنْ التَّسْوِيَة بَيْنهنَّ فِي الْمَحَبَّة بِأَلْطَفِ وَجْهٍ لِأَنَّ مَنْشَأَ تَحَرِّي النَّاس زِيَادَة الْمَحَبَّة لِعَائِشَة فَعِنْد التَّسْوِيَة بَيْنهنَّ فِي الْمَحَبَّة يَرْتَفِعُ التَّحَرِّي مِنْ النَّاس فَكَأَنَّهُ إِذَا سَاوَى بَيْنهنَّ فِي الْمَحَبَّة فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِعَدَمِ التَّحَرِّي وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .
تحفة الأحوذي - (ج 9 / ص 322)
3814 - قَوْلُهُ : ( كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ ) مِنْ التَّحَرِّي وَهُوَ الْقَصْدُ وَالِاجْتِهَادُ فِي الطَّلَبِ وَالْعَزْمُ عَلَى تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ
( يَوْمَ عَائِشَةَ ) أَيْ يَوْمَ نَوْبَتِهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، زَادَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ : يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
( قَالَتْ ) أَيْ عَائِشَةُ
( فَاجْتَمَعَ صَوَاحِبَاتِي ) أَرَادَتْ بِهِنَّ بَقِيَّةَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّاتِي كُنَّ فِي حِزْبِ أُمِّ سَلَمَةَ . فَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ حِزْبَيْنِ : فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ ، وَالْحِزْبُ الْآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ ، فَكَلَّمَ حِزْبَ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ لَهَا كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُ النَّاسَ إِلَخْ
( يَأْمُرْ النَّاسَ ) بِالْجَزْمِ وَالرَّاءُ مَكْسُورَةٌ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ ، يُهْدُونَ إِلَيْهِ أَيْنَ مَا كَانَ ، أَيْ مِنْ حُجُرَاتِ الْأُمَّهَاتِ ، وَمُرَادُهُنَّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّحَرِّي فِي ذَلِكَ لَا لَهُنَّ وَلَا لِغَيْرِهِنَّ بَلْ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ الْأَمْرُ فِيهِنَّ لِيَرْتَفِعَ التَّمْيِيزُ الْبَاعِثُ لِلْغِيرَةِ عَنْهُنَّ
( فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ ) أَيْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
( ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا ) أَعَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فِي يَوْمِ نَوْبَتِهَا
" لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ" أَيْ فِي حَقِّهَا وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ لَا تُؤْذِي عَائِشَةَ لِمَا تُفِيدُ مِنْ أَنَّ مَا آذَاهَا فَهُوَ يُؤْذِيهِ
" مَا أُنْزِلَ"بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ " عَلَيَّ"بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ
" وَأَنَا فِي لِحَافِ اِمْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا"بِالْجَرِّ صِفَةٌ لِامْرَأَةٍ . فَإِنْ قُلْت : مَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الْآخَرُ مِنْ اللَّيْلِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ . قُلْت : قَالَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ : لَعَلَّ مَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ كَانَ قَبْلَ الْقِصَّةِ الَّتِي نَزَلَ الْوَحْيُ فِيهَا فِي فِرَاشِ أُمِّ سَلَمَةَ اِنْتَهَى ، قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ : ظَفِرْت بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَابٌ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا فَرَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أُعْطِيت تِسْعًا الْحَدِيثَ وَفِيهِ : وَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ لَيَنْزِلُ عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ فَيَنْصَرِفُونَ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ لَيَنْزِلُ عَلَيْهِ وَأَنَا مَعَهُ فِي لِحَافِهِ . وَعَلَى هَذَا لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ اِنْتَهَى . وَفِي الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعَائِشَةَ ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى الْمَرْءِ فِي إِيثَارِ بَعْضِ نِسَائِهِ بِالتُّحَفِ وَإِنَّمَا اللَّازِمُ الْعَدْلُ فِي الْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ ، كَذَا قَرَّرَهُ اِبْنُ بَطَّالٍ عَنْ الْمُهَلَّبِ . وَتَعَقَّبَهُ : اِبْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ الَّذِينَ أَهْدَوْا لَهُ وَهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَمْ يَمْنَعْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَمَالِ الْأَخْلَاقِ أَنْ يَتَعَرَّضَ الرَّجُلُ إِلَى النَّاسِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِطَلَبِ الْهَدِيَّةِ .(1/13)
12- 7668 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ ، عَنْ عَبْدَةَ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنْ صَالِحِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هُدَيْرٍ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " أُوحِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ ، فَقُمْتُ فَأَجَفْتُ الْبَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، فَلَمَّا رُفِّهَ عَنْهُ قَالَ لِي : " يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ جِبْرِيلَ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ "(1)
13-7669 أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : " إِنَّ جِبْرِيلَ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ " قُلْتُ : " وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، تَرَى مَا لَا نَرَى(2)
__________
(1) نص برقم(3969) والطبراني برقم(18627) حسن
شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 371)
3890 -
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْلُهُ ( فَأَجَفْت ) مِنْ أَجَافَ الْبَاب رَدَّهُ
( فَلَمَّا رُفِّهَ ) عَلَى بِنَاء الْمَفْعُول مِنْ رَفَّهَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ أُزِيحَ وَأُزِيلَ عَنْهُ الضِّيق وَالتَّعَب .
حَاشِيَةُ السِّيُوطِيِّ :
( فَلَمَّا رُفِّهَ عَنْهُ ) أَيْ أُزِيحَ وَأُزِيل عَنْهُ الضِّيق وَالتَّعَب
(2) - أخرجه البخاري برقم( 3217 و 3768 و 6201 و 6249 ) والترمذي برقم(4255) وقال حسن صحيح ونص برقم(3970) وأحمد برقم(25599و25917)
( تَرَى مَا لَا نَرَى ) مَا مَوْصُولَةٌ أَيْ تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي لَا نَرَاهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ وَتَقَدَّمَ بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ تَبْلِيغِ السَّلَامِ مِنْ أَبْوَابِ الِاسْتِئْذَانِ .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 17 / ص 479)
قَوْله ( يَا عَائِشَة هَذَا جِبْرِيل يَقْرَأ عَلَيْك السَّلَام ) تَقَدَّمَ شَرْحه فِي الْمَنَاقِب ، وَحَكَى اِبْن التِّين أَنَّ الدَّاوُدِيّ اِعْتَرَضَ فَقَالَ : لَا يُقَال لِلْمَلَائِكَةِ رِجَال ، وَلَكِنَّ اللَّه ذَكَّرَهُمْ بِالتَّذْكِيرِ . وَالْجَوَاب أَنَّ جِبْرِيل كَانَ يَأْتِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صُورَة الرَّجُل ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْء الْوَحْي وَقَالَ اِبْن بَطَّال عَنْ الْمُهَلَّب : سَلَام الرِّجَال عَلَى النِّسَاء وَالنِّسَاء عَلَى الرِّجَال جَائِز إِذَا أُمِنَتْ الْفِتْنَة ، وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّة بَيْن الشَّابَّة وَالْعَجُوز سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ ، وَمَنَعَ مِنْهُ رَبِيعَة مُطْلَقًا . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : لَا يُشْرَع لِلنِّسَاءِ اِبْتِدَاء السَّلَام عَلَى الرِّجَال لِأَنَّهُنَّ مُنِعْنَ مِنْ الْأَذَان وَالْإِقَامَة وَالْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ ، قَالُوا وَيُسْتَثْنَى الْمَحْرَم فَيَجُوز لَهَا السَّلَام عَلَى مَحْرَمهَا . قَالَ الْمُهَلَّب : وَحُجَّة مَالِك حَدِيث سَهْل فِي الْبَاب ، فَإِنَّ الرِّجَال الَّذِينَ كَانُوا يَزُورُونَهَا وَتُطْعِمهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ مَحَارِمهَا اِنْتَهَى . وَقَالَ الْمُتَوَلِّي : إِنْ كَانَ لِلرَّجُلِ زَوْجَة أَوْ مَحْرَم أَوْ أَمَة فَكَالرَّجُلِ مَعَ الرَّجُل ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّة نَظَرَ : إِنْ كَانَتْ جَمِيلَة يُخَاف الِافْتِتَان بِهَا لَمْ يُشْرَع السَّلَام لَا اِبْتِدَاء وَلَا جَوَابًا ، فَلَوْ اِبْتَدَأَ أَحَدهمَا كُرِهَ لِلْآخَرِ الرَّدّ ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لَا يُفْتَتَن بِهَا جَازَ . وَحَاصِل الْفَرْق بَيْن هَذَا وَبَيْن الْمَالِكِيَّة التَّفْصِيل فِي الشَّابَّة بَيْن الْجَمَال وَعَدَمه ، فَإِنَّ الْجَمَال مَظِنَّة الِافْتِتَان ، بِخِلَافِ مُطْلَق الشَّابَّة . فَلَوْ اِجْتَمَعَ فِي الْمَجْلِس رِجَال وَنِسَاء جَازَ السَّلَام مِنْ الْجَانِبَيْنِ عِنْد أَمْن الْفِتْنَة .
طرح التثريب - (ج 8 / ص 380)
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا هَذَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ ، فَقَالَتْ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ تَرَى مَا لَا نَرَى } رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَقَالَ هَذَا خَطَأٌ يُرِيدُ أَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ نُوحِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَ هَذَا خَطَأٌ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ لِذِكْرِ عُرْوَةَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ رِوَايَتُهُ لَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ عَلَى إخْرَاجِهِ كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) : فِيهِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِسَلَامِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهَا لَكِنَّ مَنْقَبَةَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ وَهِيَ سَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا وَالْمَشْهُورُ تَفْضِيلُ خَدِيجَةَ عَلَى عَائِشَةَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
.( الثَّالِثَةُ ) : قَوْلُهُ { يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ : } بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ يُسَلِّمُ عَلَيْك يُقَالُ قَرَأْت عَلَى فُلَانٍ السَّلَامَ فَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ عَلَى ، كَانَ رُبَاعِيًّا نَقُولُ أَقْرَأْته السَّلَامَ ، وَهُوَ يُقْرِئُك السَّلَامَ فَتُضَمُّ يَاءُ الْمُضَارَعَةِ مِنْهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ .
( الرَّابِعَةُ ) : فِيهِ اسْتِحْبَابُ بَعْثِ السَّلَامِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ تَبْلِيغُهُ فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ وَيَجِبُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إذَا الْتَزَمَ وَقَالَ لِلْمُرْسِلِ إنِّي تَحَمَّلْت ذَلِكَ وَسَأُبَلِّغُهُ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ كَمَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلَمْ يَقْبَلْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) : وَفِيهِ بَعْثُ الْأَجْنَبِيِّ السَّلَامَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ الصَّالِحَةِ إذَا لَمْ يَخَفْ تَرَتُّبَ مَفْسَدَةٍ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ( سَلَامُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ ) .
( السَّادِسَةُ ) : وَفِيهِ أَنَّ الَّذِي يُبَلِّغُ سَلَامَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ يَرُدُّهُ قَالَ أَصْحَابُنَا وَهَذَا الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ وَكَذَا لَوْ بَلَغَهُ سَلَامٌ فِي وَرَقَةٍ مِنْ غَائِبٍ لَزِمَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ بِاللَّفْظِ عَلَى الْفَوْرِ إذَا قَرَأَهُ .
( السَّابِعَةُ ) : ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُبَلِّغِ أَيْضًا فَيَقُولُ وَعَلَيْهِ وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَيَشْهَدُ لِمَا ذَكَرَهُ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَصَاحِبُهُ ابْنُ السُّنِّيِّ كِلَاهُمَا فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَنَّ { رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَبْلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِيهِ فَقَالَ وَعَلَيْك وَعَلَى أَبِيك السَّلَامُ } لَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِيهِ تَقْدِيمُ الرَّدِّ عَلَى الْغَائِبِ وَاَلَّذِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَقْدِيمُ الرَّدِّ عَلَى الْحَاضِرِ وَلَمْ يَقَعْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الرَّدُّ عَنْهَا الرَّدُّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ مُبَلِّغُ السَّلَامَ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَقَدْ يُقَالُ الْوَاقِعُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إبْلَاغُ السَّلَامِ عَنْ حَاضِرٍ إلَّا أَنَّهُ غَائِبٌ عَنْ الْعَيْنِ وَلِهَذَا { قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَرَى مَا لَا نَرَى : } أَيْ إنَّك يَا رَسُولَ اللَّهِ تَرَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ لَا نَرَاهُ بِخِلَافِ قَضِيَّةِ التَّمِيمِيِّ فَإِنَّهُ إبْلَاغُ سَلَامٍ عَنْ غَائِبٍ وَقَدْ يُقَالُ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِي رَدِّ السَّلَامِ عَلَى الْمُبَلِّغِ وَتَرْكِهِ .
( الثَّامِنَةُ ) : فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ فِي الرَّدِّ : بِالْوَاوِ فَيَقُولُ فِي جَوَابِ الْحَاضِرِ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَفِي جَوَابِ الْغَائِبِ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِغَيْرِ وَاوٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا يُجْزِيهِ .
( التَّاسِعَةُ ) : فِيهِ اسْتِحْبَابُ الزِّيَادَةِ فِي رَدِّ السَّلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ .
( الْعَاشِرَةُ ) : كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ زِيَادَةُ { وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ } وَكَذَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَةُ { وَرَحْمَةُ اللَّهِ } فَقَطْ وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ وَاجِبٌ وَهَذَا غَايَةُ السَّلَامِ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ { انْتِهَاءُ السَّلَامِ إلَى الْبَرَكَةِ : } .(1/14)
14-7670 أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا عَائِشُ " هَذَا جِبْرِيلُ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ " مِثْلَهُ سَوَاءً قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : هَذَا الصَّوَابُ وَالَّذِي قَبْلَهُ خَطَأٌ (1)وَعَنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْوَزِيرِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُفَيْرٍ ، عَنِ اللَّيْثِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري في الأدب برقم(1076) والبخاري برقم(3678 و6201) ومسلم برقم(6457) ولفظه عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ إِنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا « يَا عَائِشَ ، هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلاَمَ » . فَقُلْتُ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، تَرَى مَا لاَ أَرَى . تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وكلاهما صحيح بلا ريب
فتح الباري لابن حجر - (ج 11 / ص 71)
3484 - قَوْله : ( يَا عَائِشُ )
بِضَمِّ الشِّين وَيَجُوز فَتْحهَا ، وَكَذَلِكَ يَجُوز ذَلِكَ فِي كُلّ اِسْم مُرَخَّم .
قَوْله : ( تَرَى مَا لَا أَرَى ، تُرِيد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
هُوَ مِنْ قَوْل عَائِشَة ، وَقَدْ اِسْتَنْبَطَ بَعْضهمْ مِنْ هَذَا الْحَدِيث فَضْل خَدِيجَة عَلَى عَائِشَة لِأَنَّ الَّذِي وَرَدَ فِي حَقّ خَدِيجَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : " إِنَّ جِبْرِيل يُقْرِئك السَّلَام مِنْ رَبّك " وَأَطْلَقَ هُنَا السَّلَام مِنْ جِبْرِيل نَفْسه ، وَسَيَأْتِي تَقْرِير ذَلِكَ فِي مَنَاقِب خَدِيجَة .
شرح ابن بطال - (ج 17 / ص 438)
أما قوله عليه السلام: « ياعائش » « يا أنجش » فهو من باب النداء المرخم، والترخيم: نقصان أواخر الأسماء، تفعل ذلك العرب على وجه التخفيف، ولاترخم ماليس منادى إلا فى ضرورة الشعر ولاترخم من الأسماء إلا ماكان من ثلاثة أحرف؛ لأن الثلاثة أقل الأصول إلا ماكان فى آخره هاء التأنيث فإنه يرخم قلت حروفه أو كثرت، فتقول فى ترخيم عائشة وأنجشة: ياعائش، وياأنجش، وفى ترخيم مالك: يامال أقبل، ويا حار للحارث، وفى ترخيم جعفر: ياجعف أقبل فنخذف الراء وندع ماقبلها على حركته، ومن العرب من إذا رخم الاسم حذف منه آخره وجعل مابقى اسمًا على حيالة بمنزلة اسم لم يكن فيه ماحذف منه فبناه على الضم فقال: يامال، وياحار، وياجعف، فيجوز على هذا ياعائش وياأنجش.
وأما قوله: « ياأبا هر » فليس من باب الترخيم، وإنما هو نقل اللفظ من التصغير والتأنيث إلى التكبير والتذكير؛ لأن أبا هريرة كناه النبى عليه السلام بتصغير هرة كانت له فخطابه باسمها مذكرًا فهو وإن كا نقصانًا من اللفظ ففيه زيادة فى المعنى.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 22 / ص 434)
حكم المناداة الشخص باسمه ناقصا حرفا أو أكثر رقم الفتوى:34339تاريخ الفتوى:07 جمادي الأولى 1424السؤال : س6/ هل يجوز للخطيبين أن يصغرا اسميهما، على سبيل المثال هي اسمها "بسمة" فيراسلها ويناديها باسم "بسُّوم" وهي تناديه باسم "حسُّون" بدلاً من "حسن"؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا بأس بذلك ما لم يكن في تصغير الاسم أو الزيادة على حروفه تنقيص وسخرية، وقد بوب البخاري في صحيحه باب: من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفاً. وأورد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها: يا عائش. هذا جبريل يقرئك السلام. قلت: وعليه السلام ورحمة الله... وقوله صلى الله عليه وسلم لـ أنجشة غلام النبي صلى الله عليه وسلم: يا أنجش رويدك سوقك بالقوارير.
ومعلوم أن نقص الاسم كالزيادة فيه، فلا يمنع منه إلا إذا أصبح من باب التنابز بالألقاب والتنقص، لقوله تعالى: يَاأَيُّها الْذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزِوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئَكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[الحجرات:] والله أعلم.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 44 / ص 18)
فضيلة الشيخ هل يجوز الإتيان بكلمة (تعالى) عند ذكر السلام، كالنحو الآتي: (السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته)؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم نقف على ورود كلمة (تعالى) عند ذكر السلام في شيء من كتب السنة، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خلق الله آدم وطوله ستون ذراعاً ثم قال: اذهب فسلم على أولئك من الملائكة فاستمع ما يحيونك تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله.
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الترمذي وأبو داود وغيرهما أن عمران بن حصين قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه السلام ثم جلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عشر. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه فجلس فقال: عشرون، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه فجلس فقال: ثلاثون. قال الشيخ الألباني: صحيح.
وفي التشهد يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ولم نقف على من روى فيه زيادة كلمة: تعالى، وعليه فلا نرى زيادة هذه الكلمة في السلام.
والله أعلم.
موسوعة الأسرة المسلمة معدلة - (ج 2 / ص 113)
رد التحية: إلقاء السلام سنة مستحبة، أما الرد عليه فواجب، فيجب رد التحية متى أُلقيت عليه شفاهة كانت أو كتابة، وسواء رأينا من يلْقيها أو لم نره، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال صلى الله عليه وسلم يومًا: (يا عائشُ، هذا جبريل يقرئُك السلام) فقالت (وهي لم تره): وعليه السلام ورحمة الله وبركاته. [متفق عليه].
تكرار التحية: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا لقى أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو حائط أو حجر ثم لقيه، فلْيُسلم عليه) [أبوداود].
(2) - انظر سائر الروايات في المسند الجامع - (ج 51 / ص 383) برقم ( 17248)(1/15)
الْغَيْرَةُ
15- 7671أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِدٌ قَالَ : حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ : قَالَ أَنَسٌ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَأَرْسَلَتْ أُخْرَى بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ ، فَضَرَبَتْ يَدَ الرَّسُولِ فَسَقَطَتِ الْقَصْعَةُ ، فَانْكَسَرَتْ ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِسْرَتَيْنِ فَضَمَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى فَجَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ وَيَقُولُ : " غَارَتْ أُمُّكُمْ كُلُوا ، فَأَكَلُوا فَأَمَرَ حَتَّى جَاءَتْ بِقَصْعَتِهَا الَّتِي فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الرَّسُولِ ، وَتَرَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْهَا "(1)
__________
(1) - نص برقم(3972) والبخاري برقم(5225) وأبو داود برقم(3569) وابن ماجة برقم(2424) والمسند الجامع برقم(827) وغيرهم
شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 373)
3893 -
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْله ( فَضَرَبَتْ ) أَيْ الَّتِي عِنْدَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
( الْكِسْرَتَيْنِ ) الْقِطْعَتَيْنِ وَزْنًا وَمَعْنًى وَكَذَا الْفِلْقَتَيْنِ وَفِي الْمَجْمَع الْكِسْرُ بِكَسْرِ كَافٍ الْقِطْعَةُ مِنْ الشَّيْء الْمَكْسُور
( وَيَقُولُ غَارَتْ أُمُّكُمْ ) اِعْتِذَارًا عَنْهَا
( فَدَفَعَ الْقَصْعَة ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَصْعَتَيْنِ كَانَتَا مِلْكًا لَهُ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَهُ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ كَانَ لِإِرْضَاءِ مَنْ أَرْسَلَتْ الطَّعَام وَإِلَّا فَضَمَان التَّلَف يَكُونُ بِالْمِثْلِ وَهُوَ هَاهُنَا الْقِيمَةُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْقَصْعَتَانِ كَانَتَا مُتَمَاثِلَتَيْنِ فِي الْقِيمَة بِحَيْثُ كَانَ كُلّ مِنْهُمَا صَالِحَة أَنْ تَكُونَ بَدَلًا لِلْأُخْرَى وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .
شرح الزرقاني على موطأ مالك - (ج 7 / ص 184)
(مالك: الأمر عندنا فيمن استهلك شيئاً من الحيوان بغير إذن صاحبه أن عليه قيمته يوم استهكله ليس عليه أن يوجد بمثله من الحيوان ولا يكون له أن يعطي صاحبه فيما استهلك شيئاً من الحيوان ولكن عليه قيمته يوم استهكله القيمة أعدل ذلك فيما بينهما في الحيوان والعروض) لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى فيمن أعتق شركاً له في عبد بقيمة حصة شريكه دون حصة من عبد مثله، وقيمة العدل في الحقيقة مثل، وهذا هو الصحيح المشهور عن مالك، وعنه أيضاً كأبي حنيفة والشافعي وداود لا يقضى بالقيمة في شيء إلا عند عدم المثل لظاهر قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} (سورة النحل: الآية 126) ولحديث عائشة: «ما رأيت صانعاً مثل صفية صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فبعثت به فغرت فكسرت الإناء فقال: إناء مثل إناء وطعام مثل طعام» وفي رواية فقال: غارت أمكم كلوا وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة. وأجاب أبو عمر بأن حديث الشقص أصح من حديث القصعة فهو أولى. والباجي بأن بيوت أمّهات المؤمنين وما فيها من إناء وطعام له صلى الله عليه وسلم فيفعل في ذلك ما شاء ويرضى من ذلك بما شاء. (ومن استهلك شيئاً من الطعام بغير إذن صاحبه فإنما يردّ على صاحبه مثل طعامه بمكيلته من صنفه) إن علمت مكيلته وإلا فقيمته لأنه لو دفع إليه مثل حرزها لم يأمن من التفاضل من الطعام (وإنما الطعام بمنزلة الذهب والفضة) وعليه في ذلك كله مثله اتفاقاً. (وليس الحيوان بمنزلة الذهب في ذلك فرق بين ذلك السنة والعمل المعمول به، وإذا استودع الرجل مالاً فابتاع به لنفسه وربح فيه فإن ذلك الربح له لأنه ضامن للمال حتى يؤديه إلى صاحبه) هذا قول مالك وجماعة. وقال أبو حنيفة وآخرون: يتصدق بالربح ولا يطيب له. وقال الشافعي: إذا اشترى بمال بغير عينه وفقد المغصوب أو الوديعة فالربح له، وإن اشتراه بالمال بعينه خير ربه بين أخذ المال والسلعة والربح له، وقالت طائفة: الربح على كل حال لرب المال.
فتح الباري لابن حجر - (ج 15 / ص 31)
قَوْله ( غَارَتْ أُمّكُمْ )
الْخِطَاب لِمَنْ حَضَرَ ، وَالْمُرَاد بِالْأُمِّ هِيَ الَّتِي كَسَرَتْ الصَّحْفَة وَهِيَ مِنْ أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " أُمّكُمْ " سَارَة ، وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام عِنْده لَا تَتَعَجَّبُوا مِمَّا وَقَعَ مِنْ هَذِهِ مِنْ الْغَيْرَة فَقَدْ غَارَتْ قَبْل ذَلِكَ أُمّكُمْ حَتَّى أَخْرَجَ إِبْرَاهِيم وَلَده إِسْمَاعِيل وَهُوَ طِفْل مَعَ أُمّه إِلَى وَادٍ غَيْر ذِي زَرْع ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ بَعْض تَوْجِيه لَكِنَّ الْمُرَاد خِلَافه وَأَنَّ الْمُرَاد كَاسِرَة الصَّحْفَة وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ جَمِيع مَنْ شَرَحَ هَذَا الْحَدِيث وَقَالُوا : فِيهِ إِشَارَة إِلَى عَدَم مُؤَاخَذَة الْغَيْرَاء بِمَا يَصْدُر مِنْهَا لِأَنَّهَا فِي تِلْكَ الْحَالَة يَكُون عَقْلهَا مَحْجُوبًا بِشِدَّةِ الْغَضَب الَّذِي أَثَارَتْهُ الْغَيْرَة . وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ لَا بَأْس بِهِ عَنْ عَائِشَة مَرْفُوعًا " أَنَّ الْغَيْرَاء لَا تُبْصِر أَسْفَل الْوَادِي مِنْ أَعْلَاهُ " قَالَهُ فِي قِصَّة . وَعَنْ اِبْن مَسْعُود رَفَعَهُ " إِنَّ اللَّه كَتَبَ الْغَيْرَة عَلَى النِّسَاء ، فَمَنْ صَبَرَ مِنْهُنَّ كَانَ لَهَا أَجْر شَهِيد " أَخْرَجَهُ الْبَزَّار وَأَشَارَ إِلَى صِحَّته وَرِجَاله ثِقَات ، لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي عُبَيْد بْن الصَّبَاح مِنْهُمْ . وَفِي إِطْلَاق الدَّاوُدِيّ عَلَى سَارَة أَنَّهَا أُمّ الْمُخَاطَبِينَ نَظَر أَيْضًا ، فَإِنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيل فَأُمّهمْ هَاجَر لَا سَارَة ، وَيَبْعُد أَنْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل حَتَّى يَصِحّ أَنَّ أُمّهمْ سَارَة .
مشكل الآثار للطحاوي - (ج 7 / ص 378)
باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الواجب في إتلاف الأشياء التي ليست موزونات ولا مكيلات ، ما الواجب على متلفها مكانها
2839 - حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي المتوكل ، عن أم سلمة أنها جاءت بطعام في صحفة (1) لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فجاءت عائشة ملتفة بكساء ومعها فهر (2) ففلقت الصحفة ، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقي الصحفة وقال : « كلوا ، غارت أمكم » مرتين . ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة رضي الله عنها ، وأعطى صحفة أم سلمة لعائشة
__________
(1) الصحفة : إِناءٌ كالقَصْعَة المبْسُوطة ونحوها، وجمعُها صِحَاف
(2) الفهر : حجر ملء الكف
2840 - وحدثنا بكار بن قتيبة ، وعلي بن شيبة قالا : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي قال : حدثنا حميد الطويل ، عن أنس قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه ، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بقصعة (1) فيها طعام ، فضربت يد الخادم فسقطت القصعة فانفلقت ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم فضم الكسرتين وجمع فيها الطعام ، ويقول : » غارت أمكم ، غارت أمكم « ، وقال للقوم : » كلوا « ، وحبس الرسول حتى جاءت الأخرى بقصعتها ، فدفع القصعة الصحيحة إلى رسول التي كسرت قصعتها ، وترك المنكسرة للتي كسرت »
__________
(1) القصعة : وعاء يؤكل ويُثْرَدُ فيه وكان يتخذ من الخشب غالبا
2841 - حدثنا فهد بن سليمان قال : حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني قال : أخبرنا شريك بن عبد الله ، عن قيس بن وهب ، عن رجل من بني سواءة قال : قلنا لعائشة : حدثينا عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : أما تقرءون القرآن ؟ قلنا : على ذلك حدثينا عن خلقه ، فقالت : « كان عنده أصحابه ، فصنعت له حفصة طعاما وصنعت له طعاما ، فسبقتني إليه حفصة ، فأرسلت مع جاريتها بقصعة (1) ، فقلت لجاريتي : إن أدركتيها قبل أن تهوي (2) بها فارمي بها ، فأدركتها وقد أهوت بها ، فرمت بها فوقعت على النطع فانكسرت القصعة وتبدد الطعام ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطعام فأكلوه ، ثم وضعت جاريتي قصعة الطعام ، فقال لجارية حفصة : » خذي هذا الطعام فكلوا ، واقبضوا الجفنة (3) مكان ظرفكم (4) « . قالت : » ولم أر في وجهه غضبا ، ولم يعاتبني صلى الله عليه وسلم « . فقال قائل : من أين جاز لكم ترك ما في هذه الآثار التي رويتموها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الوجوه المقبولة فلم تقولوا بها وخالفتموها إلى أضدادها ؟ فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أنه لو تدبر هذه الآثار لما وجدنا لها مخالفين ، ولا عنها راغبين ، وذلك أن المرأتين اللتين كان من إحداهما في صحفة الأخرى ما كان كانتا زوجتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كل واحدة منهما في بيت من بيوته ، وهما في عوله ، فكانت الصحفتان المذكورتان في هذه الآثار جميعا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فحول الصحفة الصحيحة التي كانت من المرأة المتلفة لصحفة صاحبتها إلى بيت المتلف عليها صحفتها ، وحول الصحفة المكسورة إلى بيت التي كسرتها ، ولم يكن في ذلك شيء مما توهم هذا المحتج علينا بما احتج به مما ذكرنا . ومما يدل على صحة ما نحن عليه من القول الذي أنكره علينا وعدنا به مخالفين لما في هذه الآثار ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ما أهل العلم جميعا عليه مجمعون ، وبه قائلون في العبد إذا كان بين رجلين فأعتقه أحدهما وهو موسر فأتلف بعتاقه نصيب شريكه منه أن عليه لشريكه فيه ضمان قيمة نصيبه لا نصف عبد مثله ، وسنذكر هذا ، وما روي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى ، وفي اتفاقهم على ذلك مع إيجابهم فيه إتلاف الأشياء ذوات الأمثال من الأشياء المكيلات ، ومن الأشياء الموزونات أمثالها لا قيمتها ما قد دل أن الواجب في إتلاف الأشياء التي لا أمثال لها بكيل ولا بوزن قيمها لا أمثالها . قال : فقد جعلتم في قتل الخطأ مائة من الإبل على أهل الإبل ، وجعلتم في الجنين الملقى في بطن أمه ميتا غرة عبد أو أمة ، وفي ذلك ما قد دل على وجوب الحيوان في الأشياء المتلفات . فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن الذي احتج به علينا ليس مما كنا نحن وهو منه في شيء ؛ لأن النفس المجعول فيها مائة من الإبل ليست الإبل أمثالا لها ؛ ولأن الجنين الملقى من بطن أمه ميتا ليست الغرة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم فيه مثلا له ، ولكن ذلك عبادة تعبدنا الله عز وجل بها فلزمناها ، ولم نخالفها إلى ضدها . فقال : فقد رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم إجازته لاستقراض الحيوان . فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كما روي عنه فيه ، وكان ذلك عندنا ، والله أعلم ، قبل تحريم الربا ، وقبل تحريم رد الأشياء إلى مقاديرها ، لا زيادة في ذلك على مقاديرها ، ولا نقصان فيه عنها . والدليل على ذلك أن ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في استقراض الحيوان إنما روي عنه في استقراض بعير استقرضه ، وكأن الذين ذهبوا إلى ذلك وتمسكوا بهذا الحديث وعملوا به ولم يجعلوه منسوخا قد أجازوه في استقراض ذكور الحيوان ، وفي ذلك ما قد دل على رفع الخصوص من ذلك ، وعلى استعمال ذلك الحكم فيما استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وفي سائر الحيوان ، وكان القياس حتما واستعماله واجبا في الأشياء التي لا توقيف فيها ، وكان الذين أجازوا ما ذكرنا قد منعوا من استقراض الإماء فلم يجيزوا ذلك ، والأمة المستقرضة تخرج من ملك مقرضها إن جاز القرض فيها إلى ملك الذي استقرضها ، كما تخرج بالبيع من ملك بائعها إلى ملك مبتاعها . فكان في ذلك ما قد دل أن الحرمة لما وقعت في استقراض الأمة وقعت في استقراض سائر الحيوان ، وأنه لا يمنع من استقراض الأمة لو كان القرض في الحيوان مطلقا أن يكون في ذلك ما يبيح مستقرض الأمة وطأها وردها إلى مقرضها ، كما لم تقع الحرمة في بيع الأمة التي ينطلق لمبتاعها وطؤها ، وإقالة بائعها منها . فقال هذا القائل : فقد أجزتم أنتم وجوب الحيوان في معنى ما وجعلتموها فيه دينا ، من ذلك ما قد قلتموه في التزويج على أمة وسط أنه جائز ، فكان يلزمكم أن تجيزوا البيع بأمة وسط بدار . فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أنا أجزنا من ذلك ما أجزنا ، ومنعنا مما منعنا اتباعا لما وجدنا المسلمين عليه ، وذلك أنهم حكموا في الجنين من الحرة بغرة ، وحكموا في الجنين من الأمة بخلاف ذلك ، من ذلك ما قال قائلون : إن عليه نصف عشر قيمة أمه إذا ألقته ميتا ، وممن قال ذلك مالك ، والشافعي وقال قائلون : فيه ما نقص أمه كما يكون مثل ذلك في جنين البهيمة إذا ضرب بطنها فألقته ميتا ، وقد روي هذا القول عن أبي يوسف . وقال آخرون : إن الجنين إذا كان أنثى ففيه عشر قيمته لو ألقته حيا فمات ، وإن كان ذكرا ففيه نصف عشر قيمته لو ألقته حيا ثم مات . وممن كان يقول ذلك أبو حنيفة ومحمد بن الحسن ، وهو المشهور عن أبي يوسف . فلما جعلوا في جنين الحرة الذي ليس بمال غرة ، وفي جنين الأمة الذي هو مال قيمة عقلنا بذلك أن ما هو مال لا يجوز استعمال الحيوان فيه ، وأن ما ليس بمال جائز فيه استعمال الحيوان ، وفي ذلك ما قد دل على جواز التزويج على الحيوان ، ومنع الابتياع بالحيوان الذي يكون في الذمم ، والله عز وجل نسأله التوفيق .
__________
(1) القصعة : وعاء يؤكل ويُثْرَدُ فيه وكان يتخذ من الخشب غالبا
(2) تهوي : تلقي بها بين أيدي الآكلين
(3) الجفان : جمع جفنة وهي القصعة أو البئر الصغيرة
(4) الظرف : الوعاء
عون المعبود - (ج 8 / ص 65)
قَالَ فِي السُّبُل : وَالْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ اِسْتَهْلَكَ عَلَى غَيْرِهِ شَيْئًا كَانَ مَضْمُونًا بِمِثْلِهِ ، وَهُوَ مُتَّفَق عَلَيْهِ فِي الْمِثْلِيّ مِنْ الْحُبُوب وَغَيْرهَا ، وَأَمَّا فِي الْقِيمِيّ فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال الْأُولَى لِلشَّافِعِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ يَجِب فِيهِ الْمِثْل حَيَوَانًا كَانَ أَوْ غَيْره وَلَا تُجْزِي الْقِيمَة إِلَّا عِنْد عَدَمه . وَالثَّانِي أَنَّ الْقِيمِيّ يُضْمَن بِقِيمَتِهِ .
وَقَالَ مَالِك وَالْحَنَفِيَّة : أَمَّا مَا يُكَال أَوْ يُوزَن فَمِثْله ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْعُرُوض فِي الْحَيَوَانَات فَالْقِيمَة اِنْتَهَى .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ . وَاَلَّتِي كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتهَا عَائِشَة بِنْت أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهَا . وَاَلَّتِي أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحْفَة هِيَ زَيْنَب بِنْت جَحْش ، وَقِيلَ أُمّ سَلَمَة ، وَقِيلَ صَفِيَّة بِنْت حُيَيّ رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِنَّ . اِنْتَهَى
اللقاء الشهري - (ج 31 / ص 13)
حكم غيرة المرأة على زوجها
ـــــــــــــــــــــــــــ
[ السؤال: ] يحصل بيني وبين زوجي خصام في أكثر الأحيان وذلك بسبب غيرتي عليه فأنا أغار عليه وأراقب نظراته، وإذا لمحت منه أي نظرة أو اشتبهت فيها غرت عليه، وهو يحتج عليَّ دائماً بأن الغيرة المحبوبة إلى الله هي الغيرة في محارم الله، وأما الغيرة التي تقع مني فهي تسبب الطلاق، ولم أقتنع بكلامه لأنني أعتقد أن من حقي أن أغار عليه حتى ولو لم يقصد، علماً أنه ملتزم ولا أشك فيه، وجهني بما تراه وفقك الله؟
الجواب: أوجه هذه السائلة أن تخفف من غيرتها، وإلا فإن من طبيعة المرأة أن تغار على زوجها، وهذا دليل على محبتها له، ولكني أقول: الغيرة إذا زادت صارت غبرة وليست غيرة، ثم تتعب المرأة تعباً شديداً، لذلك أشير على هذه المرأة أن تخفف من غيرتها، وأشير على الرجل أيضاً أن يحمد الله على أن هيأ له امرأة صالحة تحبه، لأن هذا -أعني: التحاب بين الزوجين- مما يجعل الحياة بينهما سعيدة، وإلا فإن الغيرة أمر فطري لا بد منه. أرسلت إحدى أمهات المؤمنين إلى النبي عليه الصلاة والسلام طعاماً في إناء، وهو في بيت إحدى نسائه، فلما دخل الرسول بالطعام والإناء فرحاً به يهديه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن من امرأة أخرى، هذه المرأة التي هو في بيتها غارت فضربت يد الرسول وطاح الإناء وتكسر وتبعثر الطعام، ولكن الرسول لم يوبخها، بل قال: (غارت أمكم) أو كلمة نحوها، أخذ الطعام والإناء وأخذ طعام المرأة التي هو في بيتها وإناءها وقال: (إناء بإناء، وطعام بطعام) وأرسله مع الرسول، لأن الرسول إذا رجع وقال: إن المرأة هذه فعلت كذا وكذا سوف تتكدر المرسلة، فإذا جاءها إناء ضرتها وطعام ضرتها سوف تبرد وهذا من حكمة الرسول عليه الصلاة والسلام. المهم أن الغيرة بين النساء أمر لا بد منه، وأرى أن من نعمة الله على الزوج أن تكون المرأة تحبه إلى هذا الحد، ولكني أقول للمرأة: خففي من الغيرة لئلا تشقي على نفسك وتتعبي، وأقول للرجل: احمد ربك على هذه النعمة،
ولا يزداد ذلك إلا رغبة في أهلك ومحبة لهم. أما مسألة الطلاق فلا تذكره أبداً عند المرأة، الرجل إذا ذكر الطلاق عند المرأة صار هذا الشبح أمام عينها نائمة ويقضانه، وهذا غلط، ولهذا من السفه أن بعض الناس يذكر كلمة الطلاق لامرأته، حتى ولو للتهديد. يا أخي: هددها بغير هذا، تهددها بالطلاق فيبقى الشيطان دائماً يعمل في قلبها حتى تؤدي النهاية إلى الفراق والعياذ بالله.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 21 / ص 185)
حكم الانتفاع بالإناء المكسور في الأكل والشرب رقم الفتوى:32379تاريخ الفتوى:19 ربيع الأول 1424السؤال : سمعت أن الأكل في الإناء الذي فيه جزء منه مكسور حرام، فهل هذا صحيح؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الإناء الذي انكسر بعضه يجوز استعماله في الأكل وغيره مما يصح أن يستعمل فيه، والدليل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أُتِيَ بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرَت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرت.
وأخرج الإمام أحمد في المسند من حديث أنس أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، قال: أظنها عائشة، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام، قال: فضربت الأخرى بيد الخادم فكسرت القصعة نصفين، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: غارت أمكم، قال: وأخذ الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل فيها الطعام، ثم قال: كلوا فأكلوا، وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع إلى الرسول قصعة أخرى وترك المكسورة مكانها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد أكلوا مما في هذه القصعة المكسورة، ثم أيضاً لم يأمر برميها والتخلص بل تركها ينتفع بها. وهذا في الأكل.
وأما الشرب من مكان الثلمة الموجودة في القدح أو الإناء فقد رود النهي عن ذلك في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما عن أبي سعيد الخدري أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح، وأن ينفخ في الشراب. وصححه ابن حبان وحسنه السيوطي.
والنهي نهي كراهة عند أئمة الإسلام كما ذكر ذلك الإمام ابن عبد البر، قال الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار: وقد قال قوم: إنما نهى عن ذلك لأنه الموضع الذي يقصده الهوام فنهى عن ذلك خوف أذاها. انتهى.
وهذا ما أثبته العلم الحديث.. حيث إن هذه الأماكن من القدح مكان اجتماع الجراثيم.
والله أعلم.(1/16)
16-7672 أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، أَنَّهَا تَعْنِي أَتَتْ بِطَعَامٍ فِي صَحْفَةٍ لَهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ، فَجَاءَتْ عَائِشَةُ مُؤْتَزِرَةً بِكِسَاءٍ وَمَعَهَا فِهْرٌ ، فَفَلَقَتْ بِهِ الصَّحْفَةَ ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ فِلْقَتَيِ الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ : " كُلُوا غَارَتْ أُمُّكُمْ " مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحْفَةَ عَائِشَةَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، وَأَعْطَى صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ لِعَائِشَةَ (1)
__________
(1) - نص برقم(3973) وابن أبي شيبة برقم(36282) والدارمي برقم(2653)وأبويعلى برقم(3250و3746)
وهو صحيح
قَوْله ( وَمَعَهَا فِهْرٌ ) فِي الْقَامُوس الْفِهْر بِالْكَسْرِ حَجَر قَدْر مَا يُدَقُّ بِهِ الْجَوْز أَوْ مَا يُمْلَأُ الْكَفّ وَيُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ أَفَهَار وَفُهُور .
عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 14 / ص 252)
مطابقته للترجمة في قوله فكسرت القصعة ويحيى بن سعيد القطان قوله كان عند بعض نسائه وروى الترمذي من رواية سفيان الثوري عن حميد عن أنس قال أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعاما في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم طعام بطعام وإناء بإناء ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وأخرجه أحمد عن ابن أبي عدي ويزيد بن هارون عن حميد به وقال أظنها عائشة وقال الطيبي إنما أبهمت عائشة تفخيما لشأنها قيل إنه مما لا يخفى ولا يلتبس إنها هي لأن الهدايا إنما كانت تهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها ورد بأن هذا مجرد دعوى يحتاج إلى البيان وقال شيخنا لم يقع في رواية أحد من البخاري والترمذي وابن ماجه تسمية زوج النبي صلى الله عليه وسلم التي أهدت له الطعام وقد ذكر ابن حزم من طريق الليث عن جرير بن حازم عن حميد عن أنس أن التي أهدته إليه زينب بنت جحش أهدت إلى رسول الله وهو في بيت عائشة ويومها جفنة من حيس فقامت عائشة فأخذت القصعة فضربت بها فكسرتها فقام رسول الله إلى قصعة لها فدفعها إلى رسول زينب فقال هذه مكان صحفتها وروى أبو داود والنسائي من رواية جسرة بنت دجاجة عن عائشة قالت ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية صنعت لرسول الله طعاما فبعثت به فأخذني أفكل يعني رعدة فكسرت الإناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت قال إناء مثل إناء وطعام مثل طعام قال الخطابي في إسناده مقال وقال الشيخ يحتمل أنهما واقعتان وقعت لعائشة مرة مع زينب ومرة مع صفية فلا مانع من ذلك فإن كان ذلك واقعة واحدة رجعنا إلى الترجيح وحديث أنس أصح وفي بعض طرقه زينب والله أعلم وذكر أبو محمد المنذري في الحواشي أن مرسلة القصعة أم سلمة رضي الله تعالى عنها وروى النسائي من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي المتوكل عن أم سلمة أنها أتت بطعام في صحفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت الصحفة الحديث وفي ( الأوسط ) للطبراني من طريق عبيد الله العمري عن ثابت عن أنس أنهم كانوا عند رسول الله في بيت عائشة إذ أتى بصحفة خبز ولحم من بيت أم سلمة فوضعنا أيدينا وعائشة تصنع طعاما عجلة فلما فرغنا جاءت به ورفعت صحفة أم سلمة فكسرتها وروى ابن أبي شيبة وابن ماجه من طريق رجل من بني سواءة غير مسمى عن عائشة قالت كان رسول الله مع أصحابه فصنعت له طعاما وصنعت له حفصة طعاما فسبقتني فقلت للجارية إنطلقي فأكفئي قصعتها فألقتها فانكسرت وانتثر الطعام فجمعه على النطع فأكلوا ثم بعث بقصعتي إلى حفصة فقال خذوا ظرفا مكان ظرفكم والظاهر أنها قصة أخرى لأن في هذه القصة أن الجارية هي التي كسرت وفي الذي تقدم أن عائشة نفسها هي التي كسرتها قوله فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين قد تقدم من الأحاديث أن التي أرسلت دائرة بين عائشة وزينب بنت جحش وصفية وأم سلمة رضي الله تعالى عنهن فإن كانت القصة متعددة فلا كلام فيها وإلا فالعمل بالترجيح كما ذكرنا قوله مع خادم يطلق الخادم على الذكر والأنثى وهنا المراد الأنثى بدليل تأنيث الضمير في قوله فضربت بيدها فكسرت القصعة وذكر هنا القصعة وفي غيره ذكر الجفنة والصحفة كما مر قوله فيها طعام قد ذكر في حديث زينب أنه حيس بفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة وهو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن وقد يجعل عوض الأقط الدقيق أو الفتيت وفي حديث الطبراني خبز ولحم قوله فضمها أي ضم القصعة التي انكسرت رسول الله قوله وقال كلوا أي قال لأصحابه الذين كانوا معه قوله وحبس الرسول صلى الله عليه وسلم أي أوقف الخادم الذي هو رسول إحدى أمهات المؤمنين قوله والقصعة أي حبس القصعة المكسورة أيضا عنده قوله حتى فرغوا أي حتى فرغت الصحابة الذين كانوا معه من الأكل قوله فدفع أي أمر بإحضار قصعة صحيحة من عند التي هو في بيتها فدفعها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وحبس القصعة المكسورة عنده ورأيت في بعض المواضع في أثناء مطالعتي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ القصعة المكسورة وكانت قطعا فاستوت صحيحة في كفه المبارك كما كانت أولا
ذكر ما يستفاد منه قال ابن التين احتج بهذا الحديث من قال يقضي في العروض بالأمثال وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن مالك وفي رواية أخرى كل ما صنع الآدميون غرم مثله كالثوب وبناء الحائط ونحو ذلك ولك ما كان من صنع الله عز وجل مثل العبد والدابة ففيه القيمة والمشهور من مذهبه أن كل ما كان ليس بمكيل ولا موزون ففيه القيمة وما كان مكيلا أو موزونا فيقضى بمثله يوم استهلاكه وقال ابن الجوزي فإن قيل الصحفة من ذوات القيم فكيف غرمها فالجواب من وجهين أحدهما أن الظاهر ما يحويه بيته أنه ملكه فنقل من ملكه إلى ملكه لا على وجه الغرامة بالقيمة الثاني أن أخذ القصعة من بيت الكاسرة عقوبة والعقوبة بالأموال مشروعة ولما استدل ابن حزم بحديث القصعة قال هذا قضاء بالمثل لا بالدراهم قال وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وابن مسعود أنهما قضيا فيمن استهلك فصلانا بفصلان مثلها وشبهه داود بجزاء الصيد في العبد العبد وفي العصفور العصفور وفي ( التوضيح ) واختلف العلماء فيمن استهلك عروضا أو حيوانا فذهب الكوفيون والشافعي وجماعة إلى أن عليه مثل ما استهلك قالوا ولا يقضي بالقيمة إلا عند عدم المثل وذهب مالك إلى أن من استهلك شيئا من العروض أو الحيوان فعليه قيمته يوم استهلاكه والقيمة أعدل في ذلك ثم قال واتفق مالك والكوفيون والشافعي وأبو ثور فيمن استهلك ذهبا أو ورقا أو طعاما مكيلا أو موزونا أن عليه مثل ما استهلك في صفته ووزنه وكيله قلت مذهب أبي حنيفة أن كل ما كان مثليا إذا استهلكه شخص يجب عليه مثله وإن كان من ذوات القيم يجب عليه قيمته والمثلي كالمكيل مثل الحنطة والشعير والموزون كالدراهم والدنانير ولكن بشرط أن لا يكون الموزون مما يضر بالتبعيض يعني غير المصوغ منه فهو يلحق بذوات القيم وغير المثلي كالعدديات المتفاوتة كالبطيخ والرمان والسفرجل والثياب والدواب والعددي المتقارب كالجوز والبيض والفلوس كالمكيل والجواب عن حديث الباب ما قاله ابن الجوزي المذكور آنفا وقد ذكرنا في أول الباب ما يكفي عن الجواب عن الحديث وفيه بسط عذر المرأة في حالة الغيرة لأنه لم ينقل أنه عاتب عائشة على ذلك فإنما قال غارت أمكم ويقال إنما لم يؤدبها ولو بالكلام لأنه فهم أن المهدية كانت أرادت بإرسالها ذلك إلى بيت عائشة أذاها والمظاهرة عليها فلما كسرتها لم يزد على أن قال غارت أمكم وجمع الطعام بيده وقال قصعة بقصعة وأما طعام بطعام لأنه كان يعلم بإتلافه قبول له أو في حكمه وقال القاضي أبو بكر ولم يغرم الطعام لأنه كان مهدي فإتلافه قبوله له أو في حكم القبول قيل فيه نظر لأن الطعام لم يتلف فإنه دعى بقصعة فوضعه فيها وقال كلوا غارت أمكم وأجيب بأن هذا الطعام إن كان هدية فيستدعى أن يكون ملكا للمهدي فلا غرامة وإن كان ملكا للنبي باعتبار أن ما كان في بيوت أزواجه فهو ملك له فلا يتصور فيه الغرامةوقال ابن أبي مريم قال أخبرنا يحيى بن أيوب قال حدثنا حميد قال حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم
ابن أبي مريم اسمه سعيد بن محمد بن الحكم بن أبي مريم وهو أحد شيوخ البخاري وأراد بهذا الكلام بيان التصريح بتحديث أنس لحميد(1/17)
17-7673 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ فُلَيْتٍ ، عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ صَانِعَةَ طَعَامٍ مِثْلَ صَفِيَّةَ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَاءً فِيهِ طَعَامٌ فَمَا مَلَكَتْ نَفْسِي أَنْ كَسَرْتَهُ ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَقَالَ : " إِنَاءٌ كَإِنَاءٍ ، وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ "(1)
__________
(1) - نص برقم(3974) وأحمد برقم(25898) والبيهقي في السنن برقم(11856) وهو حديث حسن
فتح الباري لابن حجر - (ج 7 / ص 417)
قَوْلُهُ : ( فَدَفَعَ الْقَصْعَة الصَّحِيحَة ) زَادَ اِبْن عُلَيَّة " إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا ، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ " زَادَ الثَّوْرِيّ " وَقَالَ : إِنَاءٌ كَإِنَاءٍ وَطَعَام كَطَعَام " قَالَ اِبْن بَطَّال : اِحْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيّ وَالْكُوفِيُّونَ فِيمَنْ اِسْتَهْلَكَ عُرُوضًا أَوْ حَيَوَانًا فَعَلَيْهِ مِثْل مَا اِسْتَهْلَكَ ، قَالُوا : وَلَا يُقْضَى بِالْقِيمَةِ إِلَّا عِنْدَ عَدَم الْمِثْل . وَذَهَبَ مَالِك إِلَى الْقِيمَةِ مُطْلَقًا . وَعَنْهُ فِي رِوَايَة كَالْأَوَّلِ . وَعَنْهُ مَا صَنَعَهُ الْآدَمِيُّ فَالْمِثْل . وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَالْقِيمَة . وَعَنْهُ مَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَالْقِيمَة وَإِلَّا فَالْمِثْل وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ . وَمَا أَطْلَقَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِيهِ نَظَر ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ فِي الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ إِذَا كَانَ مُتَشَابه الْأَجْزَاء وَأَمَّا الْقَصْعَةُ فَهِيَ مِنْ الْمُتَقَوِّمَاتِ لِاخْتِلَافِ أَجْزَائِهَا . وَالْجَوَابُ مَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِأَنَّ الْقَصْعَتَيْنِ كَانَتَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتَيْ زَوْجَتَيْهِ فَعَاقَبَ الْكَاسِرَة بِجَعْلِ الْقَصْعَة الْمَكْسُورَة فِي بَيْتِهَا وَجَعْلِ الصَّحِيحَةِ فِي بَيْتِ صَاحِبَتِهَا وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَضْمِين وَيُحْتَمَلُ عَلَى تَقْدِير أَنْ تَكُونَ الْقَصْعَتَانِ لَهُمَا أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ سَدَادًا بَيْنَهُمَا فَرَضِيَتَا بِذَلِكَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الَّذِي كَانَتْ الْعُقُوبَة فِيهِ بِالْمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا ، فَعَاقَبَ الْكَاسِرَة بِإِعْطَاء قَصْعَتهَا لِلْأُخْرَى . قُلْت : وَيَبْعُدُ هَذَا التَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ : " إِنَاء كَإِنَاء " وَأَمَّا التَّوْجِيهُ الْأَوَّلُ فَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اِبْن أَبِي حَاتِم " مَنْ كَسَرَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ " زَادَ فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ " فَصَارَتْ قَضِيَّة " وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُكْمًا عَامًّا لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ لَهُ مِثْل ذَلِكَ وَيَبْقَى دَعْوَى مَنْ اِعْتَذَرَ عَنْ الْقَوْلِ بِهِ بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهَا ، لَكِنَّ مَحَلّ ذَلِكَ مَا إِذَا أَفْسَدَ الْمَكْسُور ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكَسْرُ خَفِيفًا يُمْكِنُ إِصْلَاحُهُ فَعَلَى الْجَانِي أَرْشُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا مَسْأَلَة الطَّعَام فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَعُونَةِ وَالْإِصْلَاح دُونَ بَتّ الْحُكْم بِوُجُوب الْمِثْل فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِثْل مَعْلُوم ، وَفِي طُرُقِ الْحَدِيث مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الطَّعَامَيْنِ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ وَاللَّه أَعْلَمُ . وَاحْتَجَّ بِهِ الْحَنَفِيَّة لِقَوْلِهِمْ إِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْل الْغَاصِب حَتَّى زَالَ اِسْمُهَا وَعِظَم مَنَافِعهَا زَالَ مِلْك الْمَغْصُوب عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِب وَضَمِنَهَا ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ بِهَذَا الْحَدِيث نَظَر لَا يَخْفَى ، قَالَ الطِّيبِيّ : وَإِنَّمَا وُصِفَتْ الْمُرْسَلَة بِأَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ إِيذَانًا بِسَبَبِ الْغَيْرَةِ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْ عَائِشَة وَإِشَارَة إِلَى غَيْرَة الْأُخْرَى حَيْثُ أَهْدَتْ إِلَى بَيْتِ ضَرَّتِهَا وَقَوْله : " غَارَتْ أُمُّكُمْ " اِعْتِذَار مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يُحْمَلَ صَنِيعهَا عَلَى مَا يُذَمُّ ، بَلْ يَجْرِي عَلَى عَادَة الضَّرَائِر مِنْ الْغَيْرَةِ فَإِنَّهَا مُرَكَّبَة فِي النَّفْسِ بِحَيْثُ لَا يُقْدَرُ عَلَى دَفْعِهَا ، وَسَيَأْتِي مَزِيد لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَيْرَةِ فِي كِتَاب النِّكَاح حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَفِي الْحَدِيث حُسْن خُلُقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْصَافه وَحِلْمُه ، قَالَ اِبْن الْعَرَبِيِّ : وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُؤَدِّبْ الْكَاسِرَة وَلَوْ بِالْكَلَامِ لِمَا وَقَعَ مِنْهَا مِنْ التَّعَدِّي لِمَا فَهِمَ مِنْ أَنَّ الَّتِي أَهْدَتْ أَرَادَتْ بِذَلِكَ أَذَى الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا وَالْمُظَاهَرَة عَلَيْهَا فَاقْتَصَرَ عَلَى تَغْرِيمِهَا لِلْقَصْعَةِ ، قَالَ : وَإِنَّمَا لَمْ يُغَرِّمْهَا الطَّعَام لِأَنَّهُ كَانَ مُهْدًى فَإِتْلَافهمْ لَهُ قَبُول أَوْ فِي حُكْم الْقَبُول ، وَغَفَلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا وَرَدَ فِي الطُّرُقِ الْأُخْرَى وَاللَّهُ الْمُسْتَعَان .
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11335)
19 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا تلف المغصوب في يد الغاصب أو نقص أو أتلفه ، أو حدث عيب مفسد فيه ، أو صنع شيء منه حتّى سمّي باسم آخر ، كخياطة القماش ، وصياغة الفضّة حليّاً ، وصناعة النّحاس قدراً ، وجب على الغاصب ضمانه ، وحقّ للمالك المغصوب منه تضمينه ، بأن يدفع له مثله إن كان من المثليّات ، وهي المكيلات كالحبوب ، والموزونات كالأقطان والحديد ، والذّرعيّات كالأقمشة ، والعدديّات المتقاربة كالجوز واللّوز ; لأنّ الواجب الأصليّ في الضّمانات هو المثل ، لقوله تعالى : « فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ » ولأنّ المثل أعدل ، لما فيه من مراعاة الجنس والماليّة ، فكان أدفع للضّرر وأقرب إلى الأصل ، فالمثل أقرب إلى الشّيء من القيمة ، وهو مماثل له صورةً ومعنًى ، فكان الإلزام به أعدل وأتمّ لجبران الضّرر ، والواجب في الضّمان الاقتراب من الأصل بقدر الإمكان تعويضاً للضّرر ، ولما روي عن عائشة رضي الله عنها « أنّها قالت : ما رأيت صانعة طعام مثل صفيّة : أهدت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم إناءً فيه طعام ، فما ملكت نفسي أن كسرته ، فسألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن كفّارته ؟ فقال : إناء كإناء وطعام كطعام » .
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12415)
7 - من غصب شيئاً لزمه ردّه ما كان باقياً لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي » ، فإن تلف في يده لزمه بدله ; لأنّه لما تعذر ردّ العين وجب ردّ ما يقوم مقامها في المالية ، فإن كان المغصوب مما له مثل كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة فعلى الغاصب مثله ; لأنّ ضمان الغصب ضمان اعتداء ، والاعتداء لم يشرع إلا بالمثل ، قال الله تعالى : « فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ » ، والمثل المطلق هو المثل صورةً ومعنىً ، فأما القيمة فمثل من حيث المعنى دون الصّورة .
ولأنّ ضمان الغصب ضمان جبر الفائت ، ومعنى الجبر بالمثل أكمل منه من القيمة ، فلا يعدل عن المثل إلى القيمة إلا عند التعذّر .
وإن كان مما لا مثل له فعليه قيمته ; لأنّه تعذر إيجاب المثل معنىً وهو القيمة ; لأنّها المثل الممكن .
والأصل في ضمان القيمة ما روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أعتق شركًا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوّم عليه قيمة العدل » ، فأمر صلى الله عليه وسلم بالتقويم في حصة الشريك ; لأنّها متلفة بالعتق ولم يأمر بالمثل ; ولأنّ هذه الأشياء لا تتساوى أجزاؤها وتتباين صفاتها ، فالقيمة فيها أعدل وأقرب إليها فكانت أولى ، والنص الوارد في العبد يكون وارداً في إتلاف كلّ ما لا مثل له دلالةً .
وحكي عن العنبريّ أنّه يجب في كلّ شيء مثله مثليّاً كان أو متقوماً ، لما ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت : « ما رأيت صانعة طعام مثل صفية أهدت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إناء فيه طعام ، فما ملكت نفسي أن كسرته ، فسألت النّبي صلى الله عليه وسلم عن كفارته فقال : إناء كاناء ، وطعام كطعام » .وعن أنس « أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه ، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام ، فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام ، وقال : كلوا ، وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا ، فدفع القصعة الصحيحة ، وحبس المكسورة » .
ولأنّ « النّبي صلى الله عليه وسلم استسلف بعيراً ورد مثله » .
السيل الجرار للشوكاني - (ج 3 / ص 42)
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم تضمين القيمي بمثله كما ثبت في الصحيح البخاري وغيره من حديث أنس قال أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاما في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم طعام بطعام وإناء بإناء وهذا اللفظ للترمذي وللبخاري في هذا الحديث ألفاظ منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال كلوا ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس المكسورة وأخرج نحو هذا الحديث أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عائشة أنها قالت ما رأيت صانعة طعام مثل صفية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إناء من طعام فما ملكت نفسي أن كسرته فقلت يا رسول الله ما كفارته فقال إناء كإناء وطعام كطعام وفي إسناده أفلت بن خليفة قال أحمد ما أرى به بأسا وحسن ابن جحر في الفتح إسناده
إذا عرفت هذا فأعلم أن الواجب رد العين المغصوبة مثلية كانت أو قيمية فإن تلفت كان المالك مخيرا بين أخذ مثلها أو قيمتها على وجه يرضى به من غير فرق بين مثلي وقيمي ولكن إرجاع المثلى من أعلى أنواع الجنس وقيمة القيمي على هذا الاصطلاح أقرب إلى دفع التشاجر وأقطع لمادة النزاع
نيل الأوطار - (ج 9 / ص 137)
قَوْلُهُ : ( إنَاءٌ بِإِنَاءٍ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقِيَمِيَّ يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ وَلَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ بِلَفْظِ وَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ لِلرَّسُولِ " وَبِهِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ وَقَالَ مَالِكٌ : إنَّ الْقِيَمِيَّ بِقِيمَتِهِ مُطْلَقًا ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ كَالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أُخْرَى : مَا صَنَعَهُ الْآدَمِيُّ فَالْمِثْلُ وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَالْقِيمَةُ وَعَنْهُ أَيْضًا : مَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَالْقِيمَةُ وَإِلَّا فَالْمِثْلُ ، قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ مِنْ ضَمَانِ الْقِيَمِيِّ بِقِيمَتِهِ مُطْلَقًا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ الْهَادَوِيَّةُ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمِثْلِيَّ بِمِثْلِهِ وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ بِمَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ أَنَّ الْقَصْعَتَيْنِ كَانَتَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتَيْ زَوْجَتَيْهِ فَعَاقَبَ الْكَاسِرَةَ بِجَعْلِ الْقَصْعَةِ الْمَكْسُورَةِ فِي بَيْتِهَا وَجَعْلِ الصَّحِيحَةِ فِي بَيْتِ صَاحِبَتِهَا وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَضْمِينٌ وَتُعُقِّبَ بِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ بِلَفْظِ : { مَنْ كَسَرَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ } وَبِهَذَا يُرَدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهَا وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَجَابُوا بِهِ عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَتْ الْعُقُوبَةُ فِيهِ بِالْمَالِ ، فَعَاقَبَ الْكَاسِرَةَ بِإِعْطَاءِ قَصْعَتِهَا لِلْأُخْرَى وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِقَوْلِهِ : " إنَاءٌ بِإِنَاءٍ " يُبْعِدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : ( طَعَامٌ بِطَعَامٍ ) قِيلَ : إنَّ الْحُكْمَ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَعُونَةِ وَالْإِصْلَاحِ دُونَ بَتِّ الْحُكْمِ بِوُجُوبِ الْمِثْلِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ مَعْلُومٌ قَالَ الْحَافِظُ : فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّعَامَيْنِ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ قَوْلُهُ : ( فَمَا مَلَكْت نَفْسِي أَنْ كَسَرْته ) لَفْظُ أَبِي دَاوُد " فَأَخَذَنِي أَفْكَلُ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ ثُمَّ لَامٌ وَوَزْنُهُ أَفْعَلُ ، وَالْمَعْنَى أَخَذَتْنِي رِعْدَةٌ .
الْأَفْكَلُ : وَهِيَ الرِّعْدَةُ مِنْ بَرْدٍ أَوْ خَوْفٍ وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهَا لَمَّا رَأَتْ حُسْنَ الطَّعَامِ غَارَتْ وَأَخَذَتْهَا مِثْلُ الرِّعْدَةِ
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 5 / ص 343)
تسديد الدين بالمثل وليس بالقيمة رقم الفتوى:14409تاريخ الفتوى:03 محرم 1423السؤال : ما هو السداد المثلي للدين ، والسداد القيمي للدين وما هو وجه الاختلاف .
وهل إذا كان عليَّ دين أسده بالمثلي أم القيمي.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن سداد الديون التي يتحملها الإنسان يكون بأداء كل ما تحمل، سواء كان مثلياً أو مقوماً، ولذلك لا بد من ذكر الأوصاف التي تخرج ما يتحمله الإنسان في ذمته من الجهالة، وتضبطه ضبطاً يقطع النزاع والاختلاف فيه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم" أخرجه البخاري. وقال العلماء كل ما ضبط بصفات تنفي عنه الجهالة جاز أن يسلم فيه.
أقول: ما في الحديث من الأمر بعلم كيل المكيل أو وزن الموزون، وما اشترطه العلماء من وجوب ذكر الصفات التي ينضبط بها المبيع ويتميز، يدل على أن تسديد الدين بالمثل وليس بالقيمة، وهذا أمر لا خلاف فيه حسب علمنا، لكن إذا استهلك الإنسان شيئاً لغيره من العروض أو الحيوانات فقد اختلف العلماء في ما يجب عليه رده في هذه الحالة، فمنهم من قال: تلزمه القيمة إذا كان المستهلك مقوَّماً، مثل الحيوان ونحوه، والمثل إذا كان مثلياً، مثل المكيل والموزون، وهذا مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة، ومنهم من قال: يلزمه المثل ولو كان مقوماً، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لما كسرت عائشة رضي الله عنها إناء لإحدى أمهات المؤمنين غَيْرة: "إناء كإناء، وطعام كطعام" رواه البخاري. وهذا الأخير هو مذهب الإمام الشافعي.
والله أعلم.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 60 / ص 214)
التعويضات عن الأضرار.. مشروعيتها.. وأدلتها رقم الفتوى:9215تاريخ الفتوى:27 ربيع الثاني 1422السؤال : ما حكم أخذ التعويض عن الضرر ؟ مثلا أحدهم تسبب له شخص في ضرر ثم رفع الأمر إلى القاضي من أجل رفع الظلم عن نفسه ، فحكمت المحكمة على الشخص الذي ألحق الضرر بغيره بغرامة مالية تعوض المتضرر عن المصاريف التي أنفقها في المحاكمة .
السؤال ما حكم أخذ هذه التعويضات ؟ وبارك الله فيكم
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد دلت نصوص الشرع من الكتاب والسنة على مشروعية التعويض عن الأضرار، ومن ذلك قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [البقرة:194].
وقوله سبحانه: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل:126].
وقوله سبحانه: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40].
وقد نص المفسرون على أن هذه الآيات وما في معناها تدل على جواز أخذ التعويض قال الإمام ابن جرير: وفي رواية عن ابن سيرين أنه قال: إن أخذ منك رجل شيئاً فخذ منه مثله.
وقال الإمام القرطبي: يجوز أخذ العوض كما لو تمكن الآخذ بالحكم من الحاكم. 10/201.
ومما يدل على مشروعية التعويض عن الضرر تلك الحادثة التاريخية التي حكم فيها داود وسليمان عليهما السلام بالتعويض لصاحب الزرع الذي تضرر من نفش الغنم فيه، وقد سجلها القرآن الكريم حيث قال الله سبحانه: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ) [الأنبياء:78].
وخلاصة القصة: أن غنماً لرجل رعت ليلاً في زرع آخر فأتلفته، فاحتكما إلى داود عليه السلام، فقضى بتسليم الغنم إلى صاحب الزرع تعويضاً له عما لحقه من ضرر، وجبراً للنقص الذي أصابه.
وحكم سليمان عليه السلام بأن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها، ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم فيها في السنة المقبلة رد كل واحد منهما المال إلى صاحبه، فأعجب داود عليه السلام بحكم سليمان عليه السلام وأنفذه. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (11/307).
فدلت هذه القصة بوضوح على مشروعية التعويض بالمال، كما دلت السنة المطهرة على مشروعية التعويض، ومن ذلك ما رواه البخاري وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاماً في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها فكسرتها، وألقت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "طعام بطعام، وإناء بإناء"، وفي لفظ: فقالت عائشة: يا رسول الله ما كفارته؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إناء كإناء، وطعام كطعام".
كما دل على مشروعية التعويض أيضاً: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناقة البراء بن عازب، فعن حرام بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها" رواه أحمد، والدارقطني.
وقوله: "ضامن على أهلها" أي: مضمون عليهم، ومعنى الضمان هنا: إلزام أصحابها بتعويض ما أفسدته مواشيهم من الزرع والشجر ليلاً.
وقالصلى الله عليه وسلم: "من أوقف دابة في سبيل من سبل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن" رواه الدارقطني من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
وما أحسن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جاداً ولا لاعباً، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها عليه" رواه أبو داود والترمذي.
بهذه النصوص وغيرها استدل الفقهاء رحمهم الله على مشروعية التعويض، وأصلوا لذلك قواعد كلية صيانة لأموال الناس من كل اعتداء، وجبراً لما فات منها بالتعويض كقولهم: الضرر يزال، والضرر لا يزال بالضرر... إلخ.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : اقتضت السنة التعويض بالمثل... إلخ، وقال: الأصل الثاني: أن جميع المتلفات تضمن بالجنس بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة، حتى الحيوان، فإنه إذا اقترضه رد مثله... وإذا كانت المماثلة من كل وجه متعذرة حتى في المكيل والموزون، فما كان أقرب إلى المماثلة، فهو أولى بالصواب، ولا ريب أن الجنس إلى الجنس أقرب مماثلة من الجنس إلى القيمة، فهذا هو القياس وموجب النصوص، وبالله التوفيق.
إعلام الموقعين (2/20).
وقال الكاساني: إذا تعذر نفي الضرر من حيث الصورة، فيجب نفيه من حيث المعنى، ليقوم الضمان مقام المتلف. بدائع الصنائع (7/165).
وعلى أية حال، فليس هذا المقام مقام تفصيل، وما ذكرناه نحسبه كافياً، وعلى هذا، فلا حرج في أخذ الغرامة المالية أي: التعويض الذي حكمت به المحكمة، فهو مال حلال إذا لم يكن زائداً على القدر الذي فقدته، فإن زاد، فلا يجوز لك أخذ الزيادة.
والله أعلم.(1/18)
18-7674 أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ، فَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا ، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : " لَا ، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا لِقَوْلِهِ " بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا " (1)
__________
(1) - أخرجه البخاري برقم( 4912 و5216 و5268 و 5268 و 5431 و5599 و 5614 و 5682 و 6691 و 6972 ) ومسلم برقم(3751) وأبو داود برقم(3716و3717) ونص برقم(3434 و3811و3975)وأحمد برقم(26603) وغيرهم
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 225)
2694 - قَوْلهَا : ( فَتَوَاطَيْت أَنَا وَحَفْصَة ) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ ( فَتَوَاطَيْت ) وَأَصْله ( فَتَوَاطَأَتْ ) بِالْهَمْزِ أَيْ اِتَّفَقَتْ .
قَوْلهَا : ( إِنِّي أَجِد مِنْك رِيح مَغَافِير ) هِيَ بِفَتْحِ الْمِيم وَبِغَيْنٍ مُعْجَمَة وَفَاء وَبَعْد الْفَاء يَاء هَكَذَا هُوَ فِي الْمَوْضِع الْأَوَّل فِي جَمِيع النُّسَخ ، وَأَمَّا الْمَوْضِعَانِ الْأَخِيرَانِ فَوَقَعَ فِيهِمَا فِي بَعْض النُّسَخ بِالْيَاءِ وَفِي بَعْضهَا بِحَذْفِهَا ، قَالَ الْقَاضِي : الصَّوَاب إِثْبَاتهَا لِأَنَّهَا عِوَض مِنْ الْوَاو الَّتِي فِي الْمُفْرَد ، وَإِنَّمَا حُذِفَتْ فِي ضَرُورَة الشِّعْر وَهُوَ جَمْع مَغْفُور ، وَهُوَ صَمْغ حُلْو كَالنَّاطِفِ وَلَهُ رَائِحَة كَرِيهَة يَنْضَحهُ شَجَر يُقَال لَهُ : الْعُرْفُط بِضَمِّ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَالْفَاء يَكُون بِالْحِجَازِ وَقِيلَ إِنَّ الْعُرْفُط نَبَات لَهُ وَرَقَة عَرِيضَة تَفْتَرِش عَلَى الْأَرْض لَهُ شَوْكَة حَجْنَاء وَثَمَرَة بَيْضَاء كَالْقُطْنِ مِثْل زِرّ الْقَمِيص خَبِيث الرَّائِحَة . قَالَ الْقَاضِي : وَزَعَمَ الْمُهَلَّب أَنَّ رَائِحَة الْمَغَافِير وَالْعُرْفُط حَسَنَة ، وَهُوَ خِلَاف مَا يَقْتَضِيه الْحَدِيث وَخِلَاف مَا قَالَهُ النَّاس . قَالَ أَهْل اللُّغَة : الْعُرْفُط مِنْ شَجَر الْعِضَاه وَهُوَ كُلّ شَجَر لَهُ شَوْك وَقِيلَ رَائِحَته كَالنَّبِيذِ ، وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَه أَنْ تُوجَد مِنْهُ رَائِحَة كَرِيهَة .
قَوْلهَا : ( فَقَالَ : بَلْ شَرِبْت عَسَلًا عِنْد زَيْنَب بِنْت جَحْش وَلَنْ أَعُود فَنَزَلَ : { لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللَّه لَك }
هَذَا ظَاهِر فِي أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي سَبَب تَرْك الْعَسَل وَفِي كُتُب الْفِقْه أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَحْرِيم مَارِيَة ، قَالَ الْقَاضِي : اُخْتُلِفَ فِي سَبَب نُزُولهَا فَقَالَتْ عَائِشَة : فِي قِصَّة الْعَسَل ، وَعَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَحْرِيم مَارِيَة جَارِيَته وَحَلَفَ أَنْ لَا يَطَأهَا . قَالَ : وَلَا حُجَّة فِيهِ لِمَنْ أَوْجَبَ بِالتَّحْرِيمِ كَفَّارَة مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّه لَكُمْ تَحِلَّة أَيْمَانكُمْ } لِمَا رَوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " وَاَللَّه لَا أَطَأهَا " ثُمَّ قَالَ : " هِيَ عَلَيَّ حَرَام " ، وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ مِنْ حَلِفه عَلَى شُرْبه الْعَسَل وَتَحْرِيمه ، ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ : " لَنْ أَعُود لَهُ وَقَدْ حَلَفْت أَنْ أَلَّا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا " . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شُرْب الْعَسَل : " لَنْ أَعُود إِلَيْهِ أَبَدًا " وَلَمْ يَذْكُر يَمِينًا ، لَكِنْ قَوْله تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّه لَكُمْ تَحِلَّة أَيْمَانكُمْ } يُوجِب أَنْ يَكُون قَدْ كَانَ هُنَاكَ يَمِين ، قُلْت : وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون مَعْنَى الْآيَة قَدْ فَرَضَ اللَّه عَلَيْكُمْ فِي التَّحْرِيم كَفَّارَة يَمِين ، وَهَكَذَا يُقَدِّرهُ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَمُوَافِقُوهُمْ .
قَوْلهَا : ( فَقَالَ : بَلْ شَرِبْت عَسَلًا عِنْد زَيْنَب بِنْت جَحْش ) وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْدهَا : ( أَنَّ شُرْب الْعَسَل كَانَ عِنْد حَفْصَة ) قَالَ الْقَاضِي : ذَكَرَ مُسْلِم فِي حَدِيث حَجَّاج عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ أَنَّ الَّتِي شَرِبَ عِنْدهَا الْعَسَل زَيْنَب ، وَأَنَّ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ عَلَيْهِ عَائِشَة وَحَفْصَة ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي حَدِيث عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْن عَبَّاس أَنَّ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ عَائِشَة وَحَفْصَة ، وَذَكَرَ مُسْلِم أَيْضًا مِنْ رِوَايَة أَبِي أُسَامَة عَنْ هِشَام أَنَّ حَفْصَة هِيَ الَّتِي شَرِبَ الْعَسَل عِنْدهَا ، وَأَنَّ عَائِشَة وَسَوْدَة وَصْفِيَّة مِنْ اللَّوَاتِي تَظَاهَرْنَ عَلَيْهِ . قَالَ : وَالْأَوَّل أَصَحّ . قَالَ النَّسَائِيُّ : إِسْنَاد حَدِيث حَجَّاج صَحِيح جَيِّد غَايَة . وَقَالَ الْأَصِيلِيّ : حَدِيث حَجَّاج أَصَحّ وَهُوَ أَوْلَى بِظَاهِرِ كِتَاب اللَّه تَعَالَى وَأَكْمَل فَائِدَة - يُرِيد قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } فَهُمَا اِثْنَتَانِ لَا ثَلَاث ، وَأَنَّهُمَا عَائِشَة وَحَفْصَة كَمَا قَالَ فِيهِ ، وَكَمَا اِعْتَرَفَ بِهِ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَقَدْ اِنْقَلَبَتْ الْأَسْمَاء عَلَى الرَّاوِي فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى . كَمَا أَنَّ الصَّحِيح فِي سَبَب نُزُول الْآيَة أَنَّهَا فِي قِصَّة الْعَسَل لَا فِي قِصَّة مَارِيَة الْمَرْوِيّ فِي غَيْر الصَّحِيحَيْنِ وَلَمْ تَأْتِ قِصَّة مَارِيَة مِنْ طَرِيق صَحِيح . قَالَ النَّسَائِيُّ : إِسْنَاد حَدِيث عَائِشَة فِي الْعَسَل جَيِّد صَحِيح غَايَة . هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي .
ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي بَعْد هَذَا : الصَّوَاب أَنَّ شُرْب الْعَسَل كَانَ عِنْد زَيْنَب . قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيّ إِلَى بَعْض أَزْوَاجه حَدِيثًا } لِقَوْلِهِ : ( بَلْ شَرِبْت عَسَلًا ) ، هَكَذَا ذَكَرَهُ مُسْلِم . قَالَ الْقَاضِي : فِيهِ اِخْتِصَار ، وَتَمَامه : وَلَنْ أَعُود إِلَيْهِ وَقَدْ حَلَفْت أَنْ لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ . وَهَذَا أَحَد الْأَقْوَال فِي مَعْنَى السِّرّ . وَقِيلَ : بَلْ ذَلِكَ فِي قِصَّة مَارِيَة وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ .
فتح الباري لابن حجر - (ج 15 / ص 95)
4862 - قَوْله ( حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ )
هُوَ اِبْن مُحَمَّد الْمِصِّيصِيّ .
قَوْله ( زَعَمَ عَطَاء )
هُوَ اِبْن أَبِي رَبَاح ، وَأَهْل الْحِجَاز يُطْلِقُونَ الزَّعْمَ عَلَى مُطْلَقِ الْقَوْلِ . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة هِشَام بْنِ يُوسُف عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاء وَقَدْ مَضَى فِي التَّفْسِير .
قَوْله ( إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُث عِنْد زَيْنَب بِنْت جَحْش وَيَشْرَب عِنْدهَا عَسَلًا )
فِي رِوَايَة هِشَام " يَشْرَب عَسَلًا عِنْد زَيْنَب ثُمَّ يَمْكُث عِنْدهَا " وَلَا مُغَايَرَة بَيْنهمَا لِأَنَّ الْوَاو لَا تُرَتِّبُ .
قَوْله ( فَتَوَاصَيْت )
كَذَا هُنَا بِالصَّادِ مِنْ الْمُوَاصَاةِ ، وَفِي رِوَايَة هِشَام " فَتَوَاطَيْتُ " بِالطَّاءِ مِنْ الْمُوَاطَأَة ، وَأَصْله تَوَاطَأْت بِالْهَمْزَةِ فَسُهِّلَتْ الْهَمْزَة فَصَارَتْ يَاء ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَة أَبِي ذَرّ .
قَوْله ( أَنَّ أَيَّتُنَا دَخَلَ )
فِي رِوَايَة أَحْمَد عَنْ حَجَّاج بْن مُحَمَّد " أَنَّ أَيَّتُنَا مَا دَخَلَ " بِزِيَادَةِ مَا وَهِيَ زَائِدَةٌ .
قَوْله ( إِنِّي لِأَجِد رِيح مَغَافِير ، أَكَلْت مَغَافِير )
فِي رِوَايَة هِشَام بِتَقْدِيمِ أَكَلْت مَغَافِير وَتَأْخِير إِنِّي أَجِد . وَأَكَلْت اِسْتِفْهَام مَحْذُوف الْأَدَاة ، وَالْمَغَافِير بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة وَالْفَاء وَبِإِثْبَاتِ التَّحْتَانِيَّة بَعْد الْفَاء فِي جَمِيع نُسَخ الْبُخَارِيّ ، وَوَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ عَنْ مُسْلِم فِي بَعْض الْمَوَاضِع مِنْ الْحَدِيث بِحَذْفِهَا ، قَالَ عِيَاض وَالصَّوَاب إِثْبَاتهَا لِأَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ الْوَاو الَّتِي فِي الْمُفْرَد وَإِنَّمَا حُذِفَتْ فِي ضَرُورَة الشِّعْر ا ه ، وَمُرَاده أَنَّ الْمَغَافِير جَمْع مَغْفُور بِضَمِّ أَوَّله وَيُقَال بِثَاءٍ مُثَلَّثَة بَدَل الْفَاء حَكَاهُ أَبُو حَنِيفَة الدِّينَوَرِيّ فِي النَّبَات ، قَالَ اِبْن قُتَيْبَة : لَيْسَ فِي الْكَلَام مَفْعُول بِضَمِّ أَوَّله إِلَّا مُغْفُور وَمُغْزُول بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة مِنْ أَسْمَاء الْكَمْأَة وَمُنْخُور بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة مِنْ أَسْمَاء الْأَنْف وَمُغْلُوق بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة وَاحِد الْمَغَالِيق ، قَالَ : وَالْمُغْفُور صَمْغ حُلْوٌ لَهُ رَائِحَة كَرِيهَة ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ أَنَّ الْمُغْفُور شَبِيه بِالصَّمْغِ يَكُون فِي الرِّمْث بِكَسْرِ الرَّاء وَسُكُون الْمِيم بَعْدهَا مُثَلَّثَة وَهُوَ مِنْ الشَّجَر الَّتِي تَرْعَاهَا الْإِبِل وَهُوَ مِنْ الْحَمْض ، وَفِي الصَّمْغ الْمَذْكُور حَلَاوَة ، يُقَال أَغَفَرَ الرِّمْث إِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فِيهِ . وَذَكَرَ أَبُو زَيْد الْأَنْصَارِيّ أَنَّ الْمُغْفُور يَكُون أَيْضًا فِي الْعُشَر بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَفَتْح الْمُعْجَمَة ، وَفِي الثُّمَام وَالسِّلْم وَالطَّلْح . وَاخْتُلِفَ فِي مِيم مُغْفُور فَقِيلَ زَائِدَة وَهُوَ قَوْل الْفَرَّاء وَعِنْد الْجُمْهُور أَنَّهَا مِنْ أَصْل الْكَلِمَة ، وَيُقَال لَهُ أَيْضًا مِغْفَار بِكَسْرِ أَوَّله وَمُغْفَر بِضَمِّ أَوَّله وَبِفَتْحِهِ وَبِكَسْرِهِ عَنْ الْكِسَائِيّ وَالْفَاء مَفْتُوحَة فِي الْجَمِيع ، وَقَالَ عِيَاض : زَعَمَ الْمُهَلَّب أَنَّ رَائِحَة الْمَغَافِير وَالْعُرْفُط حَسَنَة وَهُوَ خِلَاف مَا يَقْتَضِيه الْحَدِيث وَخِلَاف مَا قَالَهُ أَهْل اللُّغَة ا ه ، وَلَعَلَّ الْمُهَلَّب قَالَ " خَبِيثَة " بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَة ثُمَّ تَحْتَانِيَّة ثُمَّ مُثَلَّثَة فَتَصَحَّفَتْ أَوْ اِسْتَنَدَ إِلَى مَا نُقِلَ عَنْ الْخَلِيل وَقَدْ نَسَبَهُ اِبْن بَطَّالٍ إِلَى الْعَيْن أَنَّ الْعُرْفُط شَجَر الْعِضَاه وَالْعِضَاه كُلّ شَجَر لَهُ شَوْك وَإِذَا اِسْتَيْك بِهِ كَانَتْ لَهُ رَائِحَة حَسَنَة تُشْبِه رَائِحَة طَيِّبِ النَّبِيذ ا ه ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُون رِيح عِيدَانِ الْعُرْفُط طَيِّبًا وَرِيح الصَّمْغ الَّذِي يَسِيل مِنْهُ غَيْر طَيِّبَة وَلَا مُنَافَاة فِي ذَلِكَ وَلَا تَصْحِيف ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيّ فِي " الْمُفْهِم " أَنَّ رَائِحَة وَرَق الْعُرْفُط طَيِّبَة فَإِذَا رَعَتْهُ الْإِبِل خَبُثَتْ رَائِحَته ، وَهَذَا طَرِيق آخَر فِي الْجَمْع حَسَن جِدًّا .
قَوْله ( فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا )
لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهَا ، وَأَظُنّهَا حَفْصَة .
قَوْله ( فَقَالَ لَا بَأْس شَرِبْت عَسَلًا ) كَذَا وَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَة أَبِي ذَرّ عَنْ شُيُوخه ، وَوَقَعَ لِلْبَاقِينَ " لَا بَلْ شَرِبْت عَسَلًا " وَكَذَا وَقَعَ فِي كِتَاب الْأَيْمَان وَالنُّذُور لِلْجَمِيعِ حَيْثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّف مِنْ هَذَا الْوَجْه إِسْنَادًا وَمَتْنًا ، كَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَد عَنْ حَجَّاج وَمُسْلِم وَأَصْحَاب السُّنَن وَالْمُسْتَخْرَجَات مِنْ طَرِيق حَجَّاج ، فَظَهَرَ أَنَّ لَفْظَة " بَأْس " هُنَا مُغَيَّرَة مِنْ لَفْظه " بَلْ " وَفِي رِوَايَة هِشَام " فَقَالَ لَا وَلَكِنِّي كُنْت أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْد زَيْنَب بِنْت جَحْش " .
قَوْله ( وَلَنْ أَعُود لَهُ )
زَادَ فِي رِوَايَة هِشَام " وَقَدْ حَلَفْت لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا " وَبِهَذِهِ الزِّيَادَة تُظْهِرُ مُنَاسَبَةَ قَوْله فِي رِوَايَة حَجَّاج بْن مُحَمَّد فَنَزَلَتْ " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك " قَالَ عِيَاض حُذِفَتْ هَذِهِ الزِّيَادَة مِنْ رِوَايَة حَجَّاج بْن مُحَمَّد فَصَارَ النَّظْم مُشْكِلًا ، فَزَالَ الْإِشْكَال بِرِوَايَةِ هِشَام بْن يُوسُف . وَاسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيّ وَغَيْره بِقَوْلِهِ " حَلَفْت " عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَة الَّتِي أُشِير إِلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى ( قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ) هِيَ عَنْ الْيَمِين الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ " حَلَفْت " فَتَكُون الْكَفَّارَة لِأَجْلِ الْيَمِين لَا لِمُجَرَّدِ التَّحْرِيم ، وَهُوَ اِسْتِدْلَال قَوِيّ لِمَنْ يَقُول إِنَّ التَّحْرِيم لَغْو لَا كَفَّارَة فِيهِ بِمُجَرَّدِهِ ، وَحَمَلَ بَعْضهمْ قَوْله " حَلَفْت " عَلَى التَّحْرِيم وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْله ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ )
أَيْ تَلَا مِنْ أَوَّل السُّورَة إِلَى هَذَا الْمَوْضِع ( فَقَالَ لِعَائِشَة وَحَفْصَة ) أَيْ الْخِطَاب لَهُمَا ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة غَيْر أَبِي ذَرّ " فَنَزَلَتْ " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك - إِلَى قَوْله - إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ " وَهَذَا أَوْضَحُ مِنْ رِوَايَة أَبِي ذَرّ .
قَوْله ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا ، لِقَوْلِهِ بَلْ شَرِبْت عَسَلًا )
هَذَا الْقَدْر بَقِيَّة الْحَدِيث ، كُنْت أَظُنّهُ مِنْ تَرْجَمَة الْبُخَارِيّ عَلَى ظَاهِر مَا سَأَذْكُرُهُ عَنْ رِوَايَة النَّسَفِيّ حَتَّى وَجَدْته مَذْكُورًا فِي آخِر الْحَدِيث عِنْد مُسْلِم وَكَأَنَّ الْمَعْنَى : وَأَمَّا الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا ) فَهُوَ لِأَجْلِ قَوْله " بَلْ شَرِبْت عَسَلًا " ، وَالنُّكْتَة فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة دَاخِلَة فِي الْآيَات الْمَاضِيَة لِأَنَّهَا قَبْل قَوْله ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ ) وَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَات عَنْ الْبُخَارِيّ عَلَى هَذَا إِلَّا النَّسَفِيّ فَوَقَعَ عِنْده بَعْد قَوْله " فَنَزَلَتْ : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك " مَا صُورَته : قَوْله تَعَالَى ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ ) لِعَائِشَة وَحَفْصَة ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا ) لِقَوْلِهِ " بَلْ شَرِبْت عَسَلًا " فَجَعَلَ بَقِيَّة الْحَدِيث تَرْجَمَة لِلْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيه ، وَالصَّوَاب مَا وَقَعَ عِنْد الْجَمَاعَة لِمُوَافَقَةِ مُسْلِم وَغَيْره عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّة حَدِيث اِبْن عُمَيْر .
شرح ابن بطال - (ج 11 / ص 156)
اختلف العلماء فيمن حرم على نفسه طعامًا أو شرابًا أحله الله له، فقالت طائفة: لا يحرم عليه ذلك وعليه كفارة يمين. هذا قول أبى حنيفة وأصحابه والأوزاعى.
وقال مالك: لا يكون الحرام يمينًا فى طعام ولا شراب إلا فى المرأة فإنه يكون طلاقًا يحرمها عليه.
وروى الربيع عن الشافعى: إن حرم على نفسه طعامًا أو شرابًا فهو حلال له ولا كفارة عليه، كقول مالك.
وروى عن بعض التابعين أن التحريم ليس بشىء، وسواء حرم على نفسه زوجته أو شيئًا من ماله لا تلزمه كفارة فى شىء من ذلك، وهو قول أبى سلمة ومسروق والشعبى.
وحجة من لم يوجب الكفارة حديث عائشة أن الآية نزلت فى شرب العسل الذى حرمه النبى - صلى الله عليه وسلم - على نفسه لم تذكر فى ذلك كفارة.
وحجة من أوجب الكفارة فى ذلك أنه زعم أن سبب نزل الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم جاريته القبطية على نفسه؛ لأنه أصابها فى بيت حفصة وفى يومها، وقيل: كان فى بيت عائشة، ذكره الزجاج فوجدت حفصة من ذلك وقالت: يا رسول الله، لقد جئت إلى شيئًا ما جئته إلى أحد من أزواجك فى يومى، وفى بيتى وعلى فراشى، فقال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها، فحرمها وقال لها: لا تذكرى ذلك لأحد، فذكرت ذلك لعائشة، فأظهره الله عليه، فنزلت الآيات، وكفر النبى يمينه وأصاب جاريته، هذا قول قتادة وغيره.
قال إسماعيل بن إسحاق: والحكم فى ذلك واحد؛ لأن الأمة لا يكون فيها طلاق فتطلق بالتحريم، فكان تحريمها كتحريم ما يؤكل ويشرب، ولعل القصتين كانتا جميعًا فى وقتين مختلفين، غير أن أمر الجارية فى هذا الموضع أشبه، لقوله تعالى: {تبتغى مرضات أزواجك} ولقوله تعالى: {وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثا} فكان ذلك فى الأمة أشبه؛ لأن الرجل يغشى أمته فى ستر، ولا يشرب العسل فى ستر، وتحريم الأمة فيه مرضاة لهن، وتحريم الشراب إنما حرمه للرائحة، وقد يمكن أن يكون حرمها وحلف كما روى، ويمكن أن يكون حرمها بيمينه بالله؛ لأن الرجل إذا قال لأمته: والله لا أقربك. فقد حرمها على نفسه باليمين فإذا غشيها وجبت عليه اليمين، وإذا قال لأمته: أنت على حرام، فلم يحلف وإنما أوجب على نفسه شيئًا لا يجب فلم تحرم عليه، ولم تكن كفارة؛ لأنه لم يحلف، وقوله لامرأته: أنت على حرام مثل قوله: أنت طالق، فلا تحرم به، وكذلك أنت خلية وبرية وبائن، ليس فى شىء منه يمين، وإنما هو فراق أوجبه الإنسان على نفسه، فإن كان شيئًا يجب وجب، وإن كان شيئًا لا يجب لم يجب، وقد قال عليه السلام: « من نذرك أن يعصى الله فلا يعصه » ، فلم يوجب عليه كفارة كما أوجبها فى قوله: « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه » .
قال المهلب: والتحريم إنما هو لله - تعالى - ولرسوله، فلا يحل لأحد أن يحرم شيئًا، وقد وبخ الله من فعل ذلك فقال تعالى: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} الآية فجعل ذلك من الاعتداء، وقال: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} فهذا كله حجة فى أن تحريم الناس ليس بشىء.
وقال الكسائى وأبو عمرو المغافير: شىء شبيه بالصمغ يكون فى الرمث، وفيه حلاوة. وقال غيره: وهو شىء ينضحه العُرفط، حلو كالناطف، وله ريح منكرة. وقال أبو عمرو: يقال منه: أغفر الرمث: إذا ظهر ذلك فيه.
وفال الكسائى: يقال: قد خرج الناس يتمغفرون: إذا خرجوا يجنونه من ثمره، وواحد المغافير مغفور.
وقال غيره: ويقال: مغثور - بالثاء - أيضًا كما يقال: فوم وثوم، وجدف وجدث.
شرح ابن بطال - (ج 13 / ص 406)
أما ما ذكره البخارى عن ابن عباس أنه قال: إذا حرم الرجل امرأته فليس بشىء، يعنى فليس بتحريم مؤبد، وعليه كفارة يمين، روى يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: إذا حرم الرجل امرأته فهى يمين يكفرها، أما لكم فى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة؟ وروى عنه أن عليه كفارة الظهار، وقد تقدم ذلك فى الباب قبل هذا، وتقدم فيه مذاهب الفقهاء فى هذه المسألة.
وقال الطحاوى: روى فى قوله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1]، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: « لن أعود لشرب العسل » ، ولم يذكر يمينًا، فالقول هو الموجب للكفارة، إلا أنه يوجب أن يكون قد كان هناك يمين؛ لقوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 2]، فدل هذا أنه حلف مع ذلك التحريم. وقال زيد بن أسلم فى هذه الآية: إنه حلف، عليه السلام، ألا يطأ مارية أم ولده، ثم قال بعد ذلك: هى حرام، ثم أمره الله فكفر، فكانت كفارته ليمينه لا لتحريمه.
قال ابن المنذر: والأخبار دالة على أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان حرم على نفسه شربة من عسل، وحلف على ذلك، فإنما لزمته الكفارة ليمينه لا لتحريمه ما أحل الله له، فلا حجة لمن أوجب فيه كفارة يمين.
قال المهلب: قوله تعالى: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1]، هذا فيما لم يشرع فيه التحريم من المطاعم وغيرها والإماء، وأما الزوجات فقد شرع الله التحريم فيهن بالطلاق، وبألفاظ أخر مثل الظهار وغيره، فالتحريم فيهن بأى لفظ فهم أو عبر عنه لازم؛ لأنه مشروع، وغير ذلك من الإماء والأطعمة والأشربة، وسائر ما يملك ليس فيه شرع على التحريم، بل التحريم فيه منهى عنه؛ لقوله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1]، وهذه نعمة أنعم الله بها على محمد وأمته بخلاف ما كان فى سائر الأديان.
ألا ترى أن إسرائيل حرم على نفسه أشياء، وكان نص القرآن يعطى أن من حرم على نفسه شيئًا أن ذلك التحريم يلزمه، وقد أحل الله ذلك الإلزام إذا كان يمينًا بالكفارة، فإن لم يكن بيمين لم يلزم ذلك التحريم إنعامًا من الله علينا وتخفيفًا عنا.
وكذلك ألزمنا كل طاعة جعلناها لله على أنفسنا كالمشى إلى بيت الله الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ومسجد إيلياء، وجهاد الثغور، والصوم، وشبه ذلك ألزمنا هذا، لما فيه لنا من المنفعة، ولم يلزم ما حرمناه على أنفسنا، ألا ترى قوله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك} [التحريم: 1]، فلم يجعل الله تعالى لنبيه، عليه السلام، أن يحرم إلا ما حرم الله، {والله غفور رحيم} [التحريم: 1]، أى قد غفر الله لك ذلك التحريم.
وفيه من الفقه: أن إفشاء السر وما تفعله المرأة مع زوجها ذنب ومعصية تجب التوبة منه؛ لقوله: {إن تتوبا إلى الله} [التحريم: 4]، ويحتمل أن يتوبا إلى الله من هذا الذنب، ومن التظاهر عليه فى الغيرة والتواطؤ على منعه ما كان يناله من ذلك الشراب. وفيه: دليل أن ترك أكل الطيبات لمعنى من معانى الدنيا لا يحل، وإن كان ورعًا وتأخيرًا لها إلى الآخرة كان محمودًا.
والمغافير شبيه بالصمغ تكون فى الرمث فيه حلاوة تطيب نكهة آكله، يقال: أغفر الرمث إذا ظهر فيه، واحدها مغفور.
وقال صاحب العين: جرست النحل العسل تجرسه جرسًا، وهو لحسها إياها.
والعرفط شجر العضاة، والعضاة كل شجر له شوك، وإذا استيك به كانت له رائحة حسنة تشبه رائحة طيب النبيذ.
يسألونك فتاوى - (ج 1 / ص 283)
يحرم على المسلم أن يحرم الحلال وكفارة ذلك
يقول السائل : قال شخص لزوجته: هذا الطعام حرام عليَّ ، فما حكم ذلك ؟
الجواب : لا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله له ، لأن ذلك من الإعتداء على شرع الله، ويدل على ذلك قوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) سورة المائدة /87 .
ومن حرَّم شيئاً مما أحله الله ، سواءً كان طعاماً أو شراباً أو لباساً ، فهو كالحلف يميناً على تركه ، فإذا أكل الطعام أو شرب الشراب أو لبس الثوب ، فقد حنث بيمينه ، وتلزمه كفارة يمين ، وهذا قول الحنفية والحنابلة ، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: " ويروى نحو هذا عن ابن مسعود والحسن وجابر بن زيد وقتادة وإسحاق وأهل العراق ، وقال سعيد بن جبير ، فيمن قال الحلال حرام عليَّ ، يمين من الأيمان يكفرها .... وعن الضحاك ، أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا الحرام يمين .... " المغني 9/508 .
ويدل على ذلك قوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) سورة التحريم /2,1 .
فالله سبحانه وتعالى سمَّى تحريم ما أحل الله يميناً ، وفرض تحلة اليمين ، وهي كفارة اليمين ، وقد ثبت في الحديث ، عن عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يمكث عند زينب ابنة جحش ، ويشرب عندها عسلاً ، فتواصيت أنا وحفصة ، أنَّ أيَتنا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: " إني لأجد ريح مغافير ، أكلت مغافير ؟ " - وهو نوع من النبات له رائحة كريهة - فدخل على إحداهما فقالت له ذلك ، فقال: لا بأس شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش ، ولن أعود ، فنزلت الآية
(يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ .... إلى ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا (لعائشة وحفصة) ، ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا )-لقوله بل شربت عسلاً ) رواه البخاري ومسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وسبب نزول هذه الآية إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية القبطية ، وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية وليس يميناً بالله ، ولهذا أفتى جمهور الصحابة ، كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم ، أن تحريم الحلال يمين مكفرة " مجموع الفتاوى 35/271 - 272 .
ومما يدل على أن تحريم الإنسان الحلال من الطعام والشراب على نفسه يعتبر يميناً ، ما جاء في الأثر عن ابن مسعود " أنه جيء عنده بطعام فتنحى رجل فقال: إني حرمته أن لا آكله ، فقال: ادن فكل وكفِّر عن يمينك ، ثم تلا هذه الآية (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) سورة المائدة /87، قال الحافظ ابن حجر وسنده صحيح فتح الباري 14/385 .
وروى عبد الرزاق في المصنف بسنده عن الحسن البصري قال: " إن قال: كل حلالٍ عليَّ حرام ، فهو يمين ، وكان قتادة يفتي به " المصنف 6/402 .
وروى ابن أبي شيبة بأسانيده عن عمر وعائشة وابن عباس أنهم قالوا: " الحرام يمين " المصنف 5/37 .
وروى ابن أبي شيبة عن عمر بن ذر قال: " سألت الشعبي عن رجلٍ قال " كل حلالٍ عليَّ حرام " ، قال: لا يوجب طلاقاً ولا يحرم حلالاً ، يكفر عن يمينه " المصنف 5/75 .
والله الهادي إلى سواء السبيل
يسألونك فتاوى - (ج 5 / ص 155)
حكم تحريم الزوجة زوجها على نفسها
يقول السائل: تخاصمت امرأة مع زوجها فسبها مسبة قذرة جداً... فأقسمت المرأة أنها تُحرم العيش معه وهي تقصد بالعيش معه الحياة الزوجية فهجرته وهجرها أسبوعاً ثم اصطلحا وقد صامت ثلاثة أيام كفارة عن قسمها فما حكم ذلك؟
الجواب: الأصل في الحياة الزوجية أن تقوم على المودة والرحمة والمحبة والتفاهم قال تعالى:(وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( سورة الروم الآية 21. قال بعض أهل التفسير: المودة المحبة والرحمة الشفقة وقال ابن عباس رضي الله عنهما:[المودة حب الرجل امرأته والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء] تفسير القرطبي 14/17. ولكن من المشاهد أنه لا بد أن تشوب الحياة الزوجية مشكلات ونفور بين الزوجين ومهما حصل من مشكلات فلا يجوز استعمال الألفاظ البذيئة فذلك محرم على الزوجين فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه. كما ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز للزوج أن يهجر زوجته في الكلام فوق ثلاثة أيام لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :(لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) رواه البخاري ومسلم. وأما الهجر في المضجع المذكور في قوله تعالى:(وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع( سورة النساء الآية 34. فهذا الهجر سببه النشوز وأجازه جماعة من العلماء إلى شهر كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم نسائه شهراً.
إذا تقرر هذا فإن تحريم المرأة العيش مع زوجها أو تحريمه على نفسها لا أثر له على الزواج ولا عبرة به ولكنه أمر محرم فلا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله له، لأن ذلك من الاعتداء على شرع الله ويدل على ذلك قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ( سورة المائدة /87.
وإنما يعتبر هذا التحريم يميناً على الراجح من أقوال أهل العلم. فهذه المرأة حرمت على نفسها ما أحل الله تعالى فيلزمها كفارة يمين ويدل على ذلك قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( سورة التحريم الآيتان1-2. فالله سبحانه وتعالى سمَّى تحريم ما أحل الله يميناً، وفرض تحلة اليمين، وهي كفارة اليمين، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[ويروى نحو هذا عن ابن مسعود والحسن وجابر بن زيد وقتادة وإسحاق وأهل العراق، وقال سعيد بن جبير، فيمن قال الحلال حرام عليَّ، يمين من الأيمان يكفرها... وعن الضحاك، أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا الحرام يمين...] المغني 9/508.
وقد ثبت في الحديث، عن عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول:(إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب ابنة جحش، ويشرب عندها عسلاً، فتواصيت أنا وحفصة، أنَّ أيَتنا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني لأجد ريح مغافير، أكلت مغافير؟ -وهو نوع من النبات له رائحة كريهة- فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا بأس شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش، ولن أعود، فنزلت الآية (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا( (لعائشة وحفصة) (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا( -لقوله بل شربت عسلاً) رواه البخاري ومسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:[وسبب نزول هذه الآية إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية القبطية، وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية وليس يميناً بالله، ولهذا أفتى جمهور الصحابة، كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم، أن تحريم الحلال يمين مكفرة] مجموع الفتاوى 35/271 - 272. وروى عبد الرزاق بسنده عن الحسن البصري قال:[ إن قال: كل حلالٍ عليَّ حرام، فهو يمين، وكان قتادة يفتي به] المصنف 6/402 .وروى ابن أبي شيبة بأسانيده عن عمر وعائشة وابن عباس أنهم قالوا:[الحرام يمين] المصنف 5/37. وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن عمر بن ذر قال:[سألت الشعبي عن رجلٍ قال: كل حلالٍ عليَّ حرام، قال: لا يوجب طلاقاً ولا يحرم حلالاً، يكفر عن يمينه] المصنف 5/75 .
وبناءً على ما تقدم فيلزم هذه المرأة أن تكفر كفارة يمين وصومها ثلاثة أيام لا يصح كفارةً ليمينها إلا إذا عجزت عن إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فكفارة اليمين هي المذكورة في قوله تعالى:(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( سورة المائدة الآية 89 . فكفارة اليمين إما إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة على التخيير أي أن الحالف يختار واحدة من هذه الخصال الثلاث فإذا كان فقيراً عاجزاً عن التكفير بإحدى هذه الخصال فإنه يصوم ثلاثة أيام وبناء على ذلك لا يجوز التكفير بصيام ثلاثة أيام إذا كان الشخص قادراً على ما سبق. ويجوز إخراج قيمة الإطعام أو الكسوة نقداً كما هو مذهب الحنفية. وينبغي أن يعلم أنه كما اعتبرنا تحريم المرأة زوجها على نفسها لا أثر له على الزواج فكذلك لو تلفظت المرأة بطلاق زوجها أو ظاهرت منه ونحو ذلك فكله يعتبر لغواً لا أثر له على الزواج لأن العبرة أن يصدر الطلاق أو الظهار من الزوج وعلى ذلك دلت النصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ( سورة الأحزاب الآية 49. وقال تعالى:(وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ( سورة البقرة الآية231. وقال تعالى:(وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ( سورة المجادلة الآية 3.
وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الطلاق بيد الزوج لا بيد غيره كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه ( قال أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله سيدي زوجني أمته وهو يريد أن يفرق بيني وبينها. قال فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال:(يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) رواه ابن ماجة والدار قطني والبيهقي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/108. وقال العلامة ابن القيم:[وحديث ابن عباس المتقدم وإن كان في إسناده ما فيه فالقرآن يعضده وعليه عمل الناس] زاد المعاد في هدي خير العباد 5/278.
وخلاصة الأمر أن تحريم هذه المرأة العيش مع زوجها لا أثر له على الزواج ويعتبر يميناً وتلزمها كفارة اليمين المذكورة في الآية الكريمة كما بينت.(1/19)
19-7675 أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدِ حَرَمِيٌّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا ، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حَتَّى حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (1) سورة التحريم (1)
__________
(1) - نص برقم(3976) والضياء برقم( 1695 و1696) صحيح
شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 375)
قَوْله ( فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَة وَحَفْصَة ) أَيْ لَمْ تَزَالَا مُلَازِمَتَيْنِ بِهِ سَاعِيَتَيْنِ فِي تَحْرِيمهَا عَلَيْهِ .
نيل الأوطار - (ج 10 / ص 328)
حَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ الْحَافِظُ : سَنَدُهُ صَحِيحٌ وَهُوَ أَصَحُّ طُرُقِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ ، وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ عَنْ الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ التَّابِعِيِّ الْمَشْهُورِ قَالَ : { أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ إبْرَاهِيمَ وَلَدِهِ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي وَعَلَى فِرَاشِي ؟ فَجَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَامًا ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُحَرِّمُ عَلَيْك الْحَلَالَ ؟ فَحَلَفَ لَهَا بِاَللَّهِ لَا يُصِيبُهَا ، فَنَزَلَتْ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } } .
وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ قَالَتْ { آلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَرَّمَ فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا ، وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً } وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيلَاءِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ حَدِيثِ هَذَا الْبَابِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : إنِّي جَعَلْت امْرَأَتِي حَرَامًا ، قَالَ : لَيْسَتْ ، عَلَيْك بِحَرَامٍ ، قَالَ : أَرَأَيْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ } الْآيَةَ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ إسْرَائِيلَ كَانَ بِهِ عِرْقُ الْإِنْسِيِّ فَجَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ إنْ شَفَاهُ اللَّهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ الْعُرُوقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَيْسَتْ بِحَرَامٍ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ " وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا ، فَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى أَقْوَالٍ بَلَّغَهَا الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قَوْلًا .
قَالَ الْحَافِظُ : وَزَادَ غَيْرُهُ عَلَيْهَا .
وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيهَا تَفَاصِيلُ يَطُولُ اسْتِيفَاؤُهَا .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : سَبَبُ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ صَرِيحًا وَلَا فِي السُّنَّةِ نَصٌّ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَتَجَاذَبَهَا الْعُلَمَاءُ ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالْبَرَاءَةِ قَالَ : لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا يَمِينٌ ، أَخَذَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } بَعْدَ قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } وَمَنْ قَالَ : تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْيَمِينِ فَوَقَعَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَعْنَى .
وَمَنْ قَالَ : يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى أَقَلِّ وُجُوهِهِ الظَّاهِرَةِ وَأَقَلُّ مَا تُحَرَّمُ بِهِ الْمَرْأَةُ طَلْقَةٌ مَا لَمْ يَرْتَجِعْهَا .
وَمَنْ قَالَ : بَائِنَةٌ ، فَلِاسْتِمْرَارِ التَّحْرِيمِ بِهَا مَا لَمْ يُجَدِّدْ الْعَقْدَ .
وَمَنْ قَالَ : ثَلَاثًا ، حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى مُنْتَهَى وُجُوهِهِ .
وَمَنْ قَالَ : ظِهَارٌ .
نَظَرَ إلَى مَعْنَى التَّحْرِيمِ وَقَطَعَ النَّظَرَ عَنْ الطَّلَاقِ فَانْحَصَرَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ فِي الظِّهَارِ انْتَهَى .
وَمِنْ الْمُطَوِّلِينَ لِلْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْحَافِظُ ابْنُ الْقَيِّمِ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا فِي الْهَدْيِ كَلَامًا طَوِيلًا وَذَكَرَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا أُصُولًا تَفَرَّعَتْ إلَى عِشْرِينَ مَذْهَبًا ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِأَعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ خَمْسَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِصَارِ وَنَزِيدُ عَلَيْهِ فَوَائِدَ : الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ : أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَدَاوُد وَجَمِيعُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْمَالِكِيَّةِ ، وَاخْتَارَهُ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ مِنْهُمْ ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا تَقَدَّمَ ، وَبِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .
الْقَوْلُ الثَّانِي : إنَّهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَاعْتَرَضَ ابْنُ الْقَيِّمِ الرِّوَايَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَقَالَ : الثَّابِتُ عَنْهُمَا مَا رَوَاهُ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُمَا قَالَا : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُمَا خِلَافُ ذَلِكَ .
وَرَوَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْوَقْفَ فِي ذَلِكَ .
وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهُ يَمِينٌ .
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهَا لَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ إلَّا بِالثَّلَاثِ فَكَانَ وُقُوعُ الثَّلَاثِ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا حَرَامًا .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا بِهَذَا الْقَوْلِ حَرَامٌ عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ : صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَقَتَادَةَ قَالَ : لَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ طَلَاقًا بَلْ أَمَرُوهُ بِاجْتِنَابِهَا فَقَطْ .
قَالَ : وَصَحَّ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ ، أَوْ يَكُونَ أَرَادَ تَحْرِيمَ الثَّلَاثِ ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ لَفْظَهُ إنَّمَا اقْتَضَى التَّحْرِيمَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِعَدَدِ الطَّلَاقِ فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى تَحْرِيمِهِ .
الرَّابِعُ : الْوَقْفُ فِيهَا .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : صَحَّ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ ، وَالزَّوْجُ لَا يَمْلِكُ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ ، إنَّمَا يَمْلِكُ السَّبَبَ الَّذِي تُحَرَّمُ بِهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ وَلَا هُوَ مِمَّا لَهُ عُرْفٌ فِي الشَّرْعِ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِيهِ الْخَامِسُ : إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ كَانَ يَمِينًا ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْحَسَنِ ، وَحَكَاهُ أَيْضًا فِي الْفَتْحِ عَنْ النَّخَعِيّ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ .
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ فَإِنْ نَوَاهُ كَانَ طَلَاقًا ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ كَانَ يَمِينًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } إلَى قَوْلِهِ : { تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } .
السَّادِسُ : أَنَّهُ إنْ نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ، وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ كَذْبَةٌ لَا شَيْءَ فِيهَا ، قَالَهُ سُفْيَانُ : وَحَكَاهُ النَّخَعِيّ عَنْ أَصْحَابِهِ ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِمَا نَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ فَتُتْبَعُ نِيَّتُهُ .
السَّابِعُ : مِثْلُ هَذَا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فَإِذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا ، فَإِذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَ يَمِينًا .
الثَّامِنُ : مِثْلُ هَذَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَوَاحِدَةٌ بَائِنًا إعْمَالًا لِلَفْظِ التَّحْرِيمِ ، هَكَذَا فِي أَعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ وَلَمْ يَحْكِهِ عَنْ أَحَدٍ .
وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ التَّاسِعُ : أَنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ ظِهَارٍ .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي قِلَابَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ التَّشْبِيهَ بِمَنْ تُحَرَّمُ عَلَيْهِ ظِهَارًا ، فَالتَّصْرِيحُ بِالتَّحْرِيمِ أَوْلَى .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : وَهَذَا أَقَيْسُ الْأَقْوَالِ .
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُكَلَّفِ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَيْهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ مُبَاشَرَةَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا التَّحْرِيمُ ، فَإِذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ، أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَقَدْ قَالَ الْمُنْكَرَ مِنْ الْقَوْلِ وَالزُّورِ وَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهَا عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ وَلَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَامًا فَقَدْ أَوْجَبَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ أَغْلَظَ الْكَفَّارَتَيْنِ وَهِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ .
الْعَاشِرُ : أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ شَيْخِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ تَطْلِيقَ التَّحْرِيمِ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ بِالثَّلَاثِ بَلْ يَصْدُقُ بِأَقَلِّهِ ، وَالْوَاحِدَةُ مُتَيَقَّنَةٌ فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهَا الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّهُ يَنْوِي مَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ فِي إرَادَةِ أَصْلِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمًا بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَيَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ هُوَ الْقَوْلُ الْخَامِسُ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ فِي فَتْحِ الْبَارِي ، بَلْ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَيِّمِ نَفْسُهُ .
الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّهُ يَنْوِي أَيْضًا مَا شَاءَ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا نَوَى وَاحِدَةً كَانَتْ بَائِنَةً ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَإِيلَاءٌ ، وَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ هَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ .
وَفِي الْفَتْحِ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إذَا نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا فَهُوَ يَمِينٌ وَيَصِيرُ مُوَلِّيًا .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا نَوَى الْكَذِبَ دِينَ وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ وَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا عِنْدَهُ ، نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ : أَعْنِي بِهِ الظِّهَارَ ، لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا ؛ وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ احْتِمَالُ اللَّفْظِ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّهُ يَمِينٌ يُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ عَلَى حَالٍ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : صَحَّ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَنَافِعٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَخَلْقٍ سِوَاهُمْ ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فَرْضَ تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ عَقِبَ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ يَقِينًا .
الرَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّهُ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ يَتَعَيَّنُ بِهَا عِتْقُ رَقَبَةٍ .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : صَحَّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَمِينًا مُغَلَّظَةً غُلِّظَتْ كَفَّارَتُهَا .
الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّهُ طَلَاقٌ ، ثُمَّ إنَّهَا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَهُوَ مَا نَوَاهُ مِنْ الْوَاحِدَةِ فَمَا فَوْقَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَهُوَ ثَلَاثٌ ، وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْهَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ، وَرَوَاهُ فِي نِهَايَةِ الْمُجْتَهِدِ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ؛ وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا اقْتَضَى التَّحْرِيمَ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ ، وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا تُحَرَّمُ بِوَاحِدَةٍ ، وَالْمَدْخُولُ بِهَا لَا تُحَرَّمُ إلَّا بِالثَّلَاثِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ رَجَّحَ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدِي إذَا أَرَادَ تَحْرِيمَ الْعَيْنِ ، وَأَمَّا إذَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ فَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِهِ بِهِ ، أَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ } وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِ ذَلِكَ : فَمَنْ أَرَادَ تَحْرِيمَ عَيْنِ زَوْجَتِهِ لَمْ تُحَرَّمْ .
وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ طَلَاقَهَا بِذَلِكَ اللَّفْظِ فَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الطَّلَاقِ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَعَدَمِ جَوَازِهِ بِمَا سِوَاهَا ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ } مَا يَقْضِي بِانْحِصَارِ الْفُرْقَةِ فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ .
وَقَدْ وَرَدَ الْإِذْنُ بِمَا عَدَاهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْفُرْقَةِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنَةِ الْجَوْنِ : { الْحَقِي بِأَهْلِك } قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : وَقَدْ أَوْقَعَ الصَّحَابَةُ الطَّلَاقَ بِأَنْتِ حَرَامٌ ، وَأَمْرُكِ بِيَدِكِ ، وَاخْتَارِي ، وَوَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ ، وَأَنْتِ خَلِيَّةٌ وَقَدْ خَلَوْت مِنِّي ، وَأَنْتِ بَرِيَّةٌ وَقَدْ أَبْرَأْتُك وَأَنْتِ مُبَرَّأَةٌ ، وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك ، انْتَهَى .
وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : سَرَّحْتُك لَكَفَى فِي إفَادَةِ مَعْنَى الطَّلَاقِ وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى جَوَازِ التَّجَوُّزِ لِعَلَاقَةٍ مَعَ قَرِينَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ إلَّا مَا خُصَّ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِهِ فِي بَابِ الطَّلَاقِ ؟ وَأَمَّا إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا غَيْرَ زَوْجَتِهِ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، فَظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ أَنَّهُ لَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ إلَيْهِ تَحْرِيمًا وَلَا تَحْلِيلًا فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ الْوَاقِعُ مِنْهُ لَغْوًا ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى مِثْلِ هَذَا الشَّافِعِيُّ ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ .
الروضة الندية - (ج 2 / ص 287)
ولا يقع بالتحريم لما في الصحيحين عن ابن عباس قال إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وأخرج عنه النسائي أنه قال أتاه رجل فقال إني جعلت امرأتي علي حراماً فقال : كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك عليك أغلظ الكفارة عتق رقبة . وأخرج النسائي أيضاً بإسناد صحيح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه فأنزل الله عز وجل يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآية . وفي الباب روايات عن جماعة من الصحابة في تفسير الآية بمثل ما ذكر . وفي هذه المسألة مذاهب قد ذكر الحافظ ابن القيم منها ثلاثة عشر مذهب وقال : إنها تزيد على عشرين مذهباً ، والذي أرجحه منها هو أن التحريم ليس من صرائح الطلاق ولا من كناياته بل هو يمين من الإيمان كما سماه الله عز وجل في كتابه فقال يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فهذه الآية مصرحة بأن التحريم يمين ، والسبب وإن كان خاصاً وهو العسل الذي حرمه على نفسه ، أو الأمة التي كان يطؤها فلا اعتبار بخصوص السبب ، فإن لفظ ما أحل الله لك عام ، وعلى فرض عدم العموم فلا فرق بين الأعيان التي هي حلال . وأخرج الترمذي عن عائشة قالت : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه فجعل الحرام حلالاً وجعل في اليمين كفارة أي جعل الشئ الذي حرمه حلالاً بعد تحريمه . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها ثم قال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وفي الباب عن جماعة من الصحابة في تفسير الآية بمثل ما ذكرناه . وبالجملة الحق ما ذكرناه وقد ذهب إليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم وجميع أهل الظاهر وأكثر أصحابه الحديث * وهذا إذا أراد تحريم العين وأما إذا أراد الطلاق بلفظ التحريم غير قاصد لمعنى اللفظ بل قصد التسريح فلا مانع من وقوع الطلاق بهذه الكناية كسائر الكنايات .
والرجل أحق بامرأته في عدة طلاقه يراجعها متى شاء إذا كان الطلاق رجعياً لحديث ابن عباس عند أبي داود والنسائي في قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن الآية . قال : وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً فنسخ ذلك الطلاق مرتان وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال . وأخرج الترمذي عن عائشة قالت : كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا راجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته والله لا أطلقك فتبيني مني ولا آويك أبداً وقالت : وكيف ذلك قال : أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها فسكتت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قالت عائشة : فاستأنف الناس الطلاق مستقبلاً من كان طلق ومن لم يكن طلق وأخرج أبو داود وابن ماجه والبيهقي والطبراني عن عمران بن حصين أنه سأل عن الرجل يطلق امرأته يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال طلقت لغير سنة ،
الفتاوى الكبرى - (ج 4 / ص 213)
وَذَكَرَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا حُكْمَ طَلَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاَللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } .
وَقَالَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حُكْمَ الطَّلَاقِ ، وَبَيَّنَ فِي تِلْكَ حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ .
وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْرِفُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ، فَيَعْرِفُوا مَا يَدْخُلُ فِي الطَّلَاقِ وَمَا يَدْخُلُ فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَحْكُمُوا فِي هَذَا بِمَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَلَا يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فَيَجْعَلُوا حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ ، وَحُكْمَ طَلَاقِهِمْ حُكْمَ أَيْمَانِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ اشْتَبَهَ بَعْضُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَاَلَّذِينَ مَيَّزُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُمْ أَجَلُّ قَدْرًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ هَذَا وَهَذَا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } .
فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَالِاعْتِبَارِ - الَّذِي هُوَ أَصَحُّ الْقِيَاسِ وَأَجْلَاهُ - إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إذَا فَرَّقُوا بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُ ، فَإِنَّ الَّذِينَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا أَوْقَعَهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهُ : إمَّا فِي آصَارٍ وَأَغْلَالٍ ، وَأَمَّا فِي مَكْرٍ وَاحْتِيَالٍ : كَالِاحْتِيَالِ فِي أَلْفَاظِ الْأَيْمَانِ ، وَالِاحْتِيَالِ بِطَلَبِ إفْسَادِ النِّكَاحِ ، وَالِاحْتِيَالِ بِدَوْرِ الطَّلَاقِ وَالِاحْتِيَالِ بِخَلْعِ الْيَمِينِ ، وَالِاحْتِيَالِ بِالتَّحْلِيلِ .
وَاَللَّهُ أَغْنَى الْمُسْلِمِينَ بِنَبِيِّهِمْ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } .
أَيْ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ ؛ وَمِنْ الدُّخُولِ فِي مُنْكَرَاتِ أَهْلِ الْحِيَلِ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 11 / ص 405)
حرم زوجته إن حضرت زواج أختها
المجيب د. نايف بن أحمد الحمد
القاضي بمحكمة رماح
التصنيف الفهرسة/ فقه الأسرة/الإيلاء والظهار
التاريخ 4/6/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما حكم قول الزوج: (إذا ذهبت لهذا الزواج فأنت عليَّ حرام، ولا أجيز حضورك لزواج أختك)، وكانا (أي الزوجين) في ساعة غضب ومشاجرة. فهل إذا ذهبت لزواج أختها تعتبر طالقاً؟
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله وحده، وبعد: فأنصح المرأة ألاَّ تذهب لزواج أختها خروجاً من الخلاف، فإن ذهبت فإن كان الأخ السائل قد أوقع التحريم فعليه كفارة الظهار، وهي المذكورة في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [المجادلة:3-4]، ويحرم عليه جماع زوجته حتى يكفِّر، وإن لم يوقع التحريم بل حلف به فقط كان يمينا مكفرة، لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" [التحريم:1-2]، وكفارة اليمين هي المذكورة في قوله تعالى: "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [المائدة:89]، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، انظر إعلام الموقعين (3/83 - 93)، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 12 / ص 119)
تحريم الزوجة لزوجها
المجيب محمد بن سليمان المسعود
القاضي بالمحكمة الكبرى بجدة
التصنيف الفهرسة/ فقه الأسرة/ عشرة النساء/حقوق الزوج على زوجته والزوجة على زوجها
التاريخ 13/2/1425هـ
السؤال
ما كفارة حلفان الزوجة لزوجها(تحرم عليّ ليوم الدين)؟.
الجواب
الحمد لله تعالى وحده، وبعد:
فإن المرأة السائلة تسأل عن كفارة حلفان الزوجة لزوجها: تحرم علي ليوم الدين، وهذا اللفظ صادر منها لزوجها، فأقول إن ذلك من باب التحريم لما أحل الله وكفارته كفارة اليمين وهي إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام على هذا الترتيب، الاثنتان الأوليان على التخيير وذلك للآية في سورة المائدة، وكذلك لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"[التحريم:1-2]، وأنصح السائلة بترك مثل هذه الألفاظ حتى لا توقع زوجها في الحرج. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 8 / ص 284)
حكم تحريم المرأة زوجها عليها!!! رقم الفتوى:17696تاريخ الفتوى:02 ربيع الثاني 1423السؤال : تشاجرت مع زوجي فحرمته على نفسي في ساعة غضب ما الحكم الشرعي في ذلك؟ مع كيفية المعالجة؟
وشكراً.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فيحرم على المرأة أن تحرم زوجها أو غيره مما أباحه الله لها، ومن حرمت شيئاً من ذلك فحكمه حكم اليمين تلزمها فيه كفارة يمين، ومثله تحريم الرجل لما أحل الله له سوى زوجته، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [التحريم:1-2].
والله أعلم.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 14 / ص 374)
أقوال أهل العلم فيما يترتب على تحريم الحلال رقم الفتوى:24416تاريخ الفتوى:26 شعبان 1423السؤال : الوالدة حرمت على نفسها زيارة الجيران بسبب مشاكل عائلية ولبس الذهب أيضاً وهي الآن تريد زيارة الجيران فماذا عليها؟ علماً بأنها لا تملك مالاً لأنها لا تأخذ من مال أحد أبدا حتى أبي..
أفتونا مأجورين.
جزاكم الله خير.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن تحريم الشخص الحلال على نفسه لا يجعل ذلك الشيء محرماً.
وقد اختلف أهل العلم فيما يترتب على تحريم الحلال، فذهب بعضهم إلى أن تحريم الحلال لا يترتب عليه شيء، فهو لغو؛ إلا في تحريم الزوجة، فإنه يحرمها.. هذا ما قاله المالكية، ومن معهم.
قال في مختصر خليل المالكي: وتحريم الحلال في غير الزوجة والأمة لغو.
وذهب بعضهم إلى أن تحريم الحلال تترتب عليه كفارة يمين، وإلى هذا ذهب الأحناف ومن وافقهم.
قال الجصاص في أحكام القرآن: إذا قال: حرمت هذا الطعام على نفسي فلا يحرم عليه، وعليه الكفارة إن أكل منه.
والراجح وجوب الكفارة، لأن الله تعالى سمى التحريم يميناً، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) [التحريم:1-2].
وعلى هذا، فإن على والدتك أن تزور جيرانها، وأن تلبس الذهب إذا شاءت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه" رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والأحوط لها أن تكفر كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن لم تجد، فصيام ثلاثة أيام.
والله أعلم.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 36 / ص 217)
الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر رقم الفتوى:54423تاريخ الفتوى:25 شعبان 1425السؤال :
بما أن الأنبياء معصومون من الخطأ فبماذا نفسر موضوع نزول آدم من الجنة \"وعصى آدم ربه فغوى\"، وكذلك قتل موسى للرجل، وكذلك تحريم التبني في حالة النبي صلى الله عليه وسلم وحادثة الأعمى \"عبس وتولى؟ شكراً لكم.
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اتفقت الأمة على أن الرسل معصومون في تحمل الرسالة، وفي التبليغ عن رب العزة سبحانه وتعالى، ومعصومون من الوقوع في الكبائر، وأما الصغائر فأكثر علماء الإسلام على أنهم ليسوا بمعصومين منها، وإذا وقعت منهم فإنهم لا يقرون عليها.
قال ابن تيمية: القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام،كما ذكر أبو الحسن الآمدي أن هذا قول الأشعرية، وهو أيضاً قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول. انتهى كلامه، والدليل على وقوع الصغائر منهم مع عدم إقرارهم عليها:
- قوله تعالى عن آدم: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى* ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى {طه: 121-122}، وهذا دليل على وقوع المعصية من آدم، وعدم إقراره عليها، مع توبته إلى الله منها.
- قوله تعالى: قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ* قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {القصص: 15-16}، فموسى اعترف بذنبه وطلب المغفرة من الله بعد قتله القبطي، وقد غفر الله له ذنبه.
- وقوله تعالى: فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب* فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ {ص: 24-25}، وكانت معصية داود هي التسرع في الحكم قبل أن يسمع من الخصم الثاني.
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يعاتبه ربه سبحانه وتعالى في أمور كثيرة ذكرت في القرآن، منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {التحريم:1}، وكذا عاتبه في الأسرى، وفي قصة ابن أم مكتوم، علما بأنه قد ذكر بعض أهل العلم أن ما وقع في شأن ابن أم مكتوم لا يعد ذنباً لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخاطبه بسوء وكان ابن أم مكتوم أعمى لا يرى ملامح وجه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد يستعظم بعض الناس القول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر، ويذهبون إلى تأويل النصوص من الكتاب والسنة الدالة على هذا ويحرفونها، والدافع لهم إلى هذا القول شبهتان: الأولى: أن الله تعالى أمر باتباع الرسل والتأسي بهم، والأمر باتباعهم يستلزم أن يكون كل ما صدر عنهم محلا للاتباع، وأن كل فعل أو اعتقاد منهم طاعة، ولو جاز أن يقع الرسول في معصية لحصل التناقض، لأن ذلك يقتضي أن يجتمع في هذه المعصية التي وقعت من الرسول الأمر باتباعها وفعلها، من حيث إننا مأمورون بالتأسي به، والنهي عن موافقتها من حيث كونها معصية.
وهذه الشبهة صحيحة وفي محلها لو كانت المعصية خافية غير ظاهرة بحيث تختلط بالطاعة، ولكن الله تعالى ينبه رسله ويبين لهم المخالفة، ويوفقهم إلى التوبة منها من غير تأخير.
الثانية: أن الذنوب تنافي الكمال وأنها نقص، وهذا صحيح إن لم يصاحبها توبة، فإن التوبة تغفر الحوبة، ولا تنافي الكمال، ولا يتوجه إلى صاحبها اللوم، بل إن العبد في كثير من الأحيان يكون بعد توبته خيراً منه قبل وقوعه في المعصية كما نقل عن بعض السلف (كان داود عليه السلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة) وقال آخر: (لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه)، ومعلوم أنه لم يقع ذنب من نبي إلا وقد سارع إلى التوبة والاستغفار، فالأنبياء لا يقرون على ذنب، ولا يؤخرون توبة، فالله عصمهم من ذلك، وهم بعد التوبة أكمل منهم قبلها، وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 12519، 27512، 29447، 38915.
والله أعلم.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 36 / ص 424)
من قال لزوجته:حرام علي الفراش معك .يقع على حسب نيته رقم الفتوى:54766تاريخ الفتوى:05 رمضان 1425السؤال :
أرجو الاجابة على أسئلتي وجزاكم الله خيراً
ماحكم قول الرجل لزوجته والله حرام علي الفراش معك..ولم ينو الطلاق..ولاتحريم المعاشرة..بل نوى فقط الاستلقاء على الفراش معها
وهل يقع الطلاق إذا قال الرجل لزوجته أنت طالق في طهر جامعها فيه
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقول الرجل لزوجته والله حرام علي الفراش معك لا يقع الطلاق به إلا إذا نواه وحيث لم ينو الطلاق فلا يقع، ولا يكون إيلاء لأنه لم ينو تحريم الجماع ولو نوى تحريم الجماع لكان مولياً وانظر الفتوى رقم 32116. لمعرفة معنى الإيلاء.
وإنما هو من باب تحريم الحلال ومن حرم على نفسه شيئاً من الحلال فإنه يصير في حقه محرماً وعليه أن يكفر كفارة يمين إن حنث، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو الراجح لقول الله تعالى ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم ) {التحريم:1-2}.
فسمى الله التحريم للحلال يميناً، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن تحريم الحلال لغو لا يترتب عليه شيء، وانظر ذلك في الفتوى رقم 24416.
ويجب التنبه إلى عدم جواز تحريم الحلال، لقول الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) {المائدة:87} ولقوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم) {التحريم:1}.
و أما طلاق الرجل امرأته وهي في طهر جامعها فيه فهو من الطلاق البدعي، وجماهير أهل العلم قديماً وحديثاً يقولون بوقوع الطلاق البدعي، وهو الذي نراه صواباً لقوة أدلته وكثرة القائلين به، وهو الأحوط، وانظر الفتوى رقم 24444. لمزيد من الفائدة حول موضوع الطلاق البدعي.
والله أعلم.(1/20)
20-7676 أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ يَحْيَى ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : الْتَمَسْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْخَلْتُ يَدِي فِي شَعْرِهِ فَقَالَ : " قَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ " فَقُلْتُ : أَمَا لَكَ شَيْطَانٌ ؟ قَالَ : " بَلَى ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ " (1)
__________
(1) - نص برقم(3977) والطبراني في الأوسط برقم(3765) صحيح
وفي صحيح مسلم برقم(7288) عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلاً. قَالَتْ فَغِرْتُ عَلَيْهِ فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ « مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ ». فَقُلْتُ وَمَا لِى لاَ يَغَارُ مِثْلِى عَلَى مِثْلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ ». قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَمَعِىَ شَيْطَانٌ قَالَ « نَعَمْ ». قُلْتُ وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَالَ « نَعَمْ ». قُلْتُ وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « نَعَمْ وَلَكِنْ رَبِّى أَعَانَنِى عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ ».
شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 376)
3898 - حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْله ( فَقَالَ قَدْ جَاءَك شَيْطَانك ) أَيْ فَأَوْقَعَ عَلَيْك أَنِّي قَدْ ذَهَبْت إِلَى بَعْض أَزْوَاجِي فَأَنْتِ لِذَلِكَ مُتَحَيِّرَة مُتَفَتِّشَة عَنِّي
( فَقُلْت أَمَا لَك شَيْطَان ) أَيْ فَقَطَعْت ذَاكَ الْكَلَام وَاشْتَغَلْت بِكَلَامٍ آخَرَ
( فَأَسْلَمَ ) عَلَى صِيغَة الْمَاضِي فَصَارَ مُسْلِمًا فَلَا يَدُلُّنِي عَلَى سُوءِ لِذَلِكَ وَإِسْلَام الشَّيْطَان غَيْر عَزِيز فَلَا يُنْكَرُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَاب خَرْقِ الْعَادَة فَلَا يُرَدُّ أَوْ عَلَى صِيغَة الْمُضَارِع مِنْ سَلِمَ بِكَسْرِ اللَّام أَيْ فَأَنَا سَالِمٌ مِنْ شَرِّهِ .
حَاشِيَةُ السِّيُوطِيِّ :
( وَلَكِنَّ اللَّه أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ )
قَالَ أَبُو الْبَقَاء فِي إِعْرَابه يُرْوَى بِالْفَتْحِ لِأَنَّهُ فِعْل مَاضٍ قَالَ فَأَسْلَمَ شَيْطَانِي أَيْ إِنْفَاذًا لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَبِالرَّفْعِ أَيْ فَأَنَا أَسْلَم مِنْهُ وَهُوَ فِعْل مُسْتَقْبَل يَحْكِي بِهِ الْحَال
شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 195)
( فَأَسْلَم ) بِرَفْعِ الْمِيم وَفَتْحهَا ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فَمَنْ رَفَعَ قَالَ : مَعْنَاهُ : أَسْلَمُ أَنَا مِنْ شَرّه وَفِتْنَته ، وَمَنْ فَتَحَ قَالَ : إِنَّ الْقَرِين أَسْلَمَ ، مِنْ الْإِسْلَام وَصَارَ مُؤْمِنًا لَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَيْرٍ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَرْجَح مِنْهُمَا فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : الصَّحِيح الْمُخْتَار الرَّفْع ، وَرَجَّحَ الْقَاضِي عِيَاض ، الْفَتْح وَهُوَ الْمُخْتَار ، لِقَوْلِهِ : " فَلَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَيْرٍ " ، وَاخْتَلَفُوا عَلَى رِوَايَة الْفَتْح ، قِيلَ : أَسْلَمَ بِمَعْنَى اِسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ ، وَقَدْ جَاءَ هَكَذَا فِي غَيْر صَحِيح مُسْلِم ( فَاسْتَسْلَمَ ) وَقِيلَ : مَعْنَاهُ صَارَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر ، قَالَ الْقَاضِي : وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّة مُجْتَمِعَة عَلَى عِصْمَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الشَّيْطَان فِي جِسْمه وَخَاطِره وَلِسَانه . وَفِي هَذَا الْحَدِيث : إِشَارَة إِلَى التَّحْذِير مِنْ فِتْنَة الْقَرِين وَوَسْوَسَته وَإِغْوَائِهِ ، فَأَعْلَمَنَا بِأَنَّهُ مَعَنَا لِنَحْتَرِز مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَان .
مشكل الآثار للطحاوي - (ج 1 / ص 103)
باب بيان مشكل ما روي عنه ، عليه السلام في الشيطان أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم وهل النبي عليه السلام كان في ذلك كمن سواه من الناس أو بخلافهم
88 - حدثنا فهد ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، حدثني علي بن حسين ، أن صفية ، زوج النبي عليه السلام أخبرته أنها جاءت النبي عليه السلام تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان ، فتحدثت عنده ساعة ، ثم قامت تنقلب ، وقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند باب أم سلمة مر بهما رجلان من الأنصار فسلما على النبي عليه السلام ، ثم نفذا فقال لهما النبي عليه السلام : « على رسلكما إنها صفية بنت حيي » فقالا : سبحان الله يا رسول الله ، وكبر ذلك عليهما فقال : « إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما » . حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن علي بن حسين ، عن صفية بنت حيي ، ثم ذكر مثله .
89 - حدثنا عبد الله بن محمد بن خشيش البصري أبو الحسين ، حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس أن رسول الله عليه السلام كان مع إحدى نسائه مر به رجل فدعاه فقال : « يا فلان ، إنها زوجتي فلانة » فقال : يا رسول الله ، من كنت أظن به ، فإني لم أكن أظن بك ، فقال رسول الله عليه السلام : « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » قال أبو جعفر : فكان فيما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الحديثين ما قد يحتمل أن يكون رسول الله عليه السلام قد كان في ذلك كمن سواه من الناس ويحتمل أن يكون كان فيه بخلافهم فتأملنا ما روي في هذا الباب من سوى هذين الحديثين هل فيه ما يدل على شيء من ذلك
90 - فوجدنا فهدا قد حدثنا قال : حدثنا عبد الله بن رجاء ، ووجدنا أبا أمية قد حدثنا قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قالا : أخبرنا شيبان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن أبيه ، عن ابن مسعود ، عن النبي عليه السلام قال : « ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن » فقيل : وإياك ؟ قال : « وإياي ولكن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير »
91 - ووجدنا فهدا قد حدثنا قال : حدثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني ، أخبرنا عيسى بن يونس ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر ، قال : قال لنا النبي عليه السلام : « لا تدخلوا على المغيبات ، فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم » قيل : ومنك يا رسول الله ؟ قال : « ومني ولكن الله أعانني عليه فأسلم »
92 - ووجدنا إبراهيم بن أبي داود قد حدثنا قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا يحيى بن أيوب ، حدثني عمارة بن غزية ، قال سمعت أبا النضر ، يقول : سمعت عروة ، يقول : قالت عائشة : فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وكان معي على فراشي فوجدته ساجدا راصا عقبيه مستقبلا بأطراف أصابعه القبلة فسمعته يقول : « أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك لا أبلغ كل ما فيك » فلما انصرف قال : « يا عائشة أخذك شيطانك » ؟ فقلت : أما لك شيطان ؟ قال : « ما من آدمي إلا له شيطان » فقلت : وأنت يا رسول الله ؟ قال : « وأنا ، ولكني دعوت الله فأعانني عليه فأسلم » قال أبو جعفر : فوقفنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان في هذا المعنى كسائر الناس سواه ، وأن الله أعانه عليه فأسلم بإسلامه الذي هداه له حتى صار صلى الله عليه وسلم في السلامة منه بخلاف غيره من الناس فيمن هو معه من جنسه فإن قال قائل فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء مما يوجب أن يوقف على ارتفاع التضاد عنه وعما رويت مما قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خص به من إسلام شيطانه لكي يسلم منه . وذكر في ذلك
93 - ما حدثنا محمد بن خزيمة بن راشد الأسدي البصري أبو عمرو ، وفهد ، قالا حدثنا أبو مسهر ، حدثني يحيى بن حمزة ، حدثني ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن أبي الأزهر الأنماري ، أن رسول الله عليه السلام كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال : « بسم الله وضعت جنبي اللهم اغفر ذنبي وأخسئ (1) شيطاني وفك رهاني وثقل ميزاني واجعلني في الندي الأعلى » قيل له : هذا عندنا والله أعلم كان رسول الله عليه السلام قبل إسلام شيطانه فلما أسلم استحال أن يكون صلى الله عليه وسلم يدعو الله فيه بذلك مع إسلامه الذي هو عليه
__________
(1) أخسأ : طرد وأبعد
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 28)
فَصْلٌ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ بَعْضُ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ وَاَلَّتِي قَبِلَهَا كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعِذْ الْمُسْتَعِيذُونَ بِمِثْلِهِمَا فَإِنَّ الْوَسْوَاسَ أَصْلُ كُلِّ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ فَهُوَ أَصْلُ الشَّرِّ كُلِّهِ فَمَتَى وُقِيَ الْإِنْسَانُ شَرَّهُ وَقَى عَذَابَ جَهَنَّمَ وَعَذَابَ الْقَبْرِ وَفِتْنَةَ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَفِتْنَةَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإِنَّ جَمِيعَ هَذِهِ إنَّمَا تَحْصُلُ بِطَرِيقِ الْوَسْوَاسِ وَوُقِيَ عَذَابَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُعَذَّبُ عَلَى الذُّنُوبِ وَأَصْلُهَا مِنْ الْوَسْوَاسِ ثُمَّ إنْ دَخَلَ فِي الْآيَةِ وَسْوَاسٌ غَيْرُهُ بِحَيْثُ يَكُونُ قَوْلُهُ { مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ } اسْتِعَاذَةً مِنْ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ وَاَلَّذِي يَعْرِضُ لِلنَّاسِ بِسَبَبِهِ فَقَدْ وَقَى ظُلْمَهُمْ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُرِيدُ وَسْوَاسَهُ فَهُمْ إنَّمَا يُسَلِّطُونَ عَلَيْهِ بِذُنُوبِهِ وَهِيَ مِنْ وَسْوَاسِهِ قَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وَقَالَ : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وَقَالَ : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } . وَالْوَسْوَاسُ مِنْ جِنْسِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ { مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } قَالُوا : مَا تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسُهُ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } . وَهُوَ نَوْعَانِ : خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ . فَالْخَبَرُ : إمَّا عَنْ مَاضٍ وَإِمَّا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ . فَالْمَاضِي يُذَكِّرُهُ بِهِ وَالْمُسْتَقْبَلُ يُحَدِّثُهُ بِأَنْ يَفْعَلَ هُوَ أُمُورًا أَوْ أَنَّ أُمُورًا سَتَكُونُ بِقَدَرِ اللَّهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ فَهَذِهِ الْأَمَانِيُّ وَالْمَوَاعِيدُ الْكَاذِبَةُ وَالْإِنْشَاءُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِبَاحَةٌ . وَالشَّيْطَانُ تَارَةً يُحَدِّثُ وَسْوَاسَ الشَّرِّ وَتَارَةً يَنْسَى الْخَيْرَ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَا يَشْغَلُهُ بِهِ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ . قَالَ تَعَالَى فِي النِّسْيَانِ : { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ فَتَى مُوسَى : { فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إلَّا الشَّيْطَانُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ فَيَقُولُ : اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى } فَالشَّيْطَانُ ذَكَرَهُ بِأُمُورٍ مَاضِيَةٍ حَدَّثَ بِهَا نَفْسَهُ مِمَّا كَانَتْ فِي نَفْسِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ وَمِنْ غَيْرِ أَفْعَالِهِ فَبِتِلْكَ الْأُمُورِ نَسِيَ الْمُصَلِّي كَمْ صَلَّى وَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى فَإِنَّ النِّسْيَانَ أَزَالَ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ الذِّكْرِ وَشَغَلَهَا بِأَمْرٍ آخَرَ حَتَّى نَسْي الْأَوَّلَ . وَأَمَّا إخْبَارُهُ بِمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْمَوَاعِيدِ وَالْأَمَانِيِّ فَكَقَوْلِهِ : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمْرُهُ وَوَعْدُهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا } { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا } { أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا } وَقَالَ تَعَالَى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } فَفِي هَذِهِ أَيْضًا أَمْرُهُ وَوَعْدُهُ . وَقَالَ مُوسَى لَمَّا قَتَلَ الْقِبْطِيَّ : { هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ : كَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَا يَقُولُونَهُ بِاجْتِهَادِهِمْ : إنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ . فَجَعَلُوا مَا يُلْقَى فِي النَّفْسِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مُطَابِقَةً مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا آثِمًا لِأَنَّهُ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ كَمَا لَا يَأْثَمُ بِالْوَسْوَاسِ الَّذِي يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَلَا بِمَا يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ وَقَدْ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : قَدْ فَعَلْت . وَالنِّسْيَانُ لِلْحَقِّ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالْخَطَأُ مِنْ الشَّيْطَانِ . قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } وَلَمَّا نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ قَالَ : لِأَصْحَابِهِ : { ارْتَحِلُوا فَإِنَّ هَذَا مَكَانٌ حَضَرَنَا فِيهِ شَيْطَانٌ } وَقَالَ : { إنَّ الشَّيْطَانَ أَتَى بِلَالًا فَجَعَلَ يُهَدِّئُهُ كَمَا يُهَدِّئُ الصَّبِيَّ حَتَّى نَامَ } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ بِلَالًا أَنْ يُوقِظَهُمْ عِنْدَ الْفَجْرِ وَالنَّوْمِ الَّذِي يَشْغَلُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ وَالنُّعَاسُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنْ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ : النُّعَاسُ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَكَذَلِكَ الِاحْتِلَامُ فِي الْمَنَامِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنَّائِمُ لَا قَلَمَ عَلَيْهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ : رُؤْيَا مِنْ اللَّهِ وَرُؤْيَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَرُؤْيَا مَا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي الْيَقَظَةِ فَيَرَاهُ فِي النَّوْمِ } وَقَدْ قِيلَ : إنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ سيرين لَكِنَّ تَقْسِيمَ الرُّؤْيَا إلَى نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ مِنْ اللَّهِ وَنَوْعٌ مِنْ الشَّيْطَانِ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا رَيْبٍ . فَهَذَانِ النَّوْعَانِ : مِنْ وَسْوَاسِ النَّفْسِ وَمِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ وَكِلَاهُمَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ فَإِنَّ النَّائِمَ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ وَوَسْوَاسُ الشَّيْطَانِ يَغْشَى الْقَلْبَ كَطَيْفِ الْخَيَالِ فَيُنْسِيهِ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْمَى عَنْ الْحَقِّ فَيَقَعُ فِي الْبَاطِلِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ [ كَانَ ] كَمَا قَالَ اللَّهُ : { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَسَّهُمْ بِطَيْفٍ مِنْهُ يَغْشَى الْقَلْبَ وَقَدْ يَكُونُ لَطِيفًا وَقَدْ يَكُونُ كَثِيفًا إلَّا أَنَّهُ غِشَاوَةٌ عَلَى الْقَلْبِ تَمْنَعُهُ إبْصَارُ الْحَقِّ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ . فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الران الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } } . لَكِنَّ طَيْفَ الشَّيْطَانِ غَيْرُ رَيْنِ الذُّنُوبِ هَذَا جَزَاءٌ عَلَى الذَّنَبِ وَالْغَيْنِ أَلْطَفُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً } فَالشَّيْطَانُ يُلْقِي فِي النَّفْسِ الشَّرَّ وَالْمَلَكُ يُلْقِي الْخَيْرَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَقَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ . قَالُوا : وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : وَإِيَّايَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرِ } أَيْ اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ . وَكَانَ ابْنُ عيينة يَرْوِيه فَأَسْلَمَ بِالضَّمِّ وَيَقُولُ : إنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُسْلِمُ لَكِنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ يَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَهَذَا إسْلَامُهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ خُضُوعِهِ وَذِلَّتِهِ لَا عَنْ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ كَمَا يَقْهَرُ الرَّجُلُ عَدُوَّهُ الظَّاهِرَ وَيَأْسِرُهُ وَقَدْ عَرَفَ الْعَدُوَّ الْمَقْهُورَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَاهِرَ يَعْرِفُ مَا يُشِيرُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ . فَلَا يَقْبَلُهُ بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ لِانْقِهَارِهِ مَعَهُ إلَى أَنَّهُ لَا يُشِيرُ عَلَيْهِ إلَّا بِخَيْرٍ لِذِلَّتِهِ وَعَجْزِهِ لَا لِصَلَاحِهِ وَدِينِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرِ } وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ . وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبُ بِالْحَقِّ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاؤُهُ بِمَا يَقْذِفُ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ الْوَسْوَسَةِ الْمُرْعِبَةِ كَشَيْطَانِ الْإِنْسِ الَّذِي يُخَوِّفُ مِنْ الْعَدُوِّ فَيَرْجُفُ وَيَخْذُلُ . وَعَكْسُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } وَالتَّثَبُّتُ جَعَلَ الْإِنْسَانَ ثَابِتًا لِأَمْرِ تَابَا وَذَلِكَ بِإِلْقَاءِ مَا يُثْبِتُهُ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ وَالْوَعْدِ بِالْخَيْرِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَمَّةُ الْمَلَكِ وَعْدٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ فمتى عَلِمَ الْقَلْبُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ حَقٌّ صَدَّقَهُ وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَهُ بِالتَّصْدِيقِ وَثِقَ بِوَعْدِ اللَّهِ فَثَبَتَ فَهَذَا يَثْبُتُ بِالْكَلَامِ كَمَا يُثَبِّتُ الْإِنْسَانُ الْإِنْسَانَ فِي أَمْرٍ قَدْ اضْطَرَبَ فِيهِ بِأَنْ يُخْبِرَهُ بِصِدْقِهِ وَيُخْبِرَهُ . بِمَا يُبَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ مَنْصُورٌ فَيَثْبُتُ وَقَدْ يَكُونُ التَّثَبُّتُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يُمْسِكَ الْقَلْبَ حَتَّى يَثْبُتَ كَمَا يَمْسِكُ الْإِنْسَانُ الْإِنْسَانَ حَتَّى يَثْبُتَ . وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِّلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ } فَهَذَا الْمَلَكُ يَجْعَلُهُ سَدِيدَ الْقَوْلِ بِمَا يُلْقِي فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ وَالْوَعْدِ بِالْخَيْرِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ سَبَبٌ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَقَدْ ذَكَرَ إخْرَاجَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ فِي غَيْرِ آيَةٍ . كَقَوْلِهِ : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ } وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَقَالَ : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ } وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا بِتَعْلِيمِهِ الْخَيْرَ يُخْرِجُ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَلِهَذَا كَانَ الرَّسُولُ أَحَقَّ النَّاسِ بِكَمَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } . وَالصَّلَاةُ هِيَ الدُّعَاءُ إمَّا بِخَيْرٍ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ وَإِمَّا بِصِيغَةِ الدُّعَاءِ فَالْمَلَائِكَةُ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَالْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ } فَبَيَّنَ أَنَّ صَلَاتَهُمْ قَوْلُهُمْ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ . وَفِي الْأَثَرِ { إنَّ الرَّبَّ يُصَلِّي فَيَقُولُ : سَبَقَتْ - أَوْ غَلَبَتْ - رَحْمَتِي غَضَبِي } وَهَذَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ هُوَ خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الرَّحْمَةَ تَسْبِقُ الْغَضَبَ وَتَغْلِبُهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَدْعُو غَيْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا يَدْعُوهُ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْخَلْقِ بَلْ طَلَبَهُ بِأَمْرِهِ وَقَوْلُهُ وَقَسَمِهِ كَقَوْلِهِ : لَأَفْعَلَنَّ كَذَا . وَقَوْلُهُ : كُنْ فَيَكُونُ ؛ وَقَوْلِهِ : لَأَفْعَلَنَّ كَذَا قَسَمٌ مِنْهُ كَقَوْلِهِ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ } وَقَوْلِهِ : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } وَقَوْلِهِ : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَهَذَا وَعْدٌ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فَإِنَّ هَذَا وَعْدٌ وَخَبَرٌ لَيْسَ فِيهِ قَسَمٌ لَكِنَّهُ مُؤَكَّدٌ بِاللَّامِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ جَوَابَ قَسَمٍ وَقَوْلِهِ : { وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } وَقَوْلِهِ : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ } وَنَحْوُ ذَلِكَ وَعْدٌ مُجَرَّدٌ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُوحِي إلَى الْبَشَرِ تَارَةً وَحْيًا مِنْهُ وَتَارَةً يُرْسِلُ رَسُولًا فَيُوحِي إلَى الرَّسُولِ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ . وَالْمَلَائِكَةُ رُسُلُ اللَّهِ . وَلَفْظُ الْمَلَكِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الرِّسَالَةِ فَإِنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مَلْأَك عَلَى وَزْنِ مفعل لَكِنْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ خُفِّفَتْ . بِأَنْ أُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا وَحُذِفَتْ الْهَمْزَةُ وَمَلَاك مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَأْلُك وَالْمَلْأَك بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ عَلَى اللَّامِ وَاللَّامِ عَلَى الْهَمْزَةِ وَهُوَ الرِّسَالَةُ وَكَذَلِكَ الْأَلُوكَةُ بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ عَلَى اللَّامِ قَالَ الشَّاعِرُ : أَبْلِغْ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكًا أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي وَهَذَا بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ . لَكِنَّ الْمَلَكَ هُوَ بِتَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْهَمْزَةِ وَهَذَا أَجْوَدُ فَإِنَّ نَظِيرَهُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ لَاكَ يَلُوكُ إذَا لَاكَ الْكَلَامَ وَاللِّجَامَ وَالْهَمْزُ أَقْوَى مِنْ الْوَاوِ وَيَلِيهِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَوْسَطِ : أَكَلَ يَأْكُلُ فَإِنَّ الْآكِلَ يَلُوكُ مِمَّا يَدْخُلُهُ فِي جَوْفِهِ مِنْ الْغِذَاءِ وَالْكَلَامِ وَالْعِلْمِ مَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِنِ وَيُغَذِّي بِهِ صَاحِبَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ كُلَّ آدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ وَإِنَّ مَأْدُبَةَ اللَّهِ الْقُرْآنُ . وَالْآدِبُ الْمُضِيفُ وَالْمَأْدُبَةُ الضِّيَافَةُ وَهُوَ مَا يُجْعَلُ مِنْ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ . فَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ ضَيَّفَ عِبَادَهُ بِالْكَلَامِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إلَيْهِمْ فَهُوَ غِذَاءُ قُلُوبِهِمْ وَقُوتِهَا وَهُوَ أَشَدُّ انْتِفَاعًا بِهِ وَاحْتِيَاجًا إلَيْهِ مِنْ الْجَسَدِ بِغِذَائِهِ . وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الرَّبَّانِيُّونَ هُمْ الَّذِينَ يُغَذُّونَ النَّاسَ بِالْحِكْمَةِ وَيُرَبُّونَهُمْ عَلَيْهَا وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي أَبِيت عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَالنَّاسُ إلَى الْغِذَاءِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إلَى الشِّفَاءِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَشَرِبَ النَّاسُ وَسَقُوا وَزَرَعُوا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً . فَذَلِكَ مِثْلُ مِنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَمَثَلُ مِنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْت بِهِ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا بُعِثَ بِهِ لِلْقُلُوبِ كَالْمَاءِ لِلْأَرْضِ تَارَةً تَشْرَبُهُ فَتَنْبُتُ وَتَارَةً تَحْفَظُهُ وَتَارَةً لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَالْأَرْضُ تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتُغْتَذَى بِهِ حَتَّى يَحْصُلَ الْخَيْرُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ رُوحٌ تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ فَقَالَ : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَإِذَا كَانَ مَا يُوحِيهِ إلَى عِبَادِهِ تَارَةً يَكُونُ بِوَسَاطَةِ مَلَكٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ وَسَاطَةٍ فَهَذَا لِلْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ مُطْلَقًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ . قَالَ تَعَالَى : { وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } وَإِذَا كَانَ قَدْ قَالَ : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ } الْآيَةَ . فَذَكَرَ أَنَّهُ يُوحِي إلَيْهِمْ فَإِلَى الْإِنْسَانِ أَوْلَى وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُلْهِمُ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى لِلنَّفْسِ وَالْفُجُورُ يَكُونُ بِوَاسِطَةِ الشَّيْطَانِ وَهُوَ إلْهَامُ وَسْوَاسٍ وَالتَّقْوَى بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ وَهُوَ إلْهَامُ وَحْيٍ هَذَا أَمْرٌ بِالْفُجُورِ وَهَذَا أَمْرٌ بِالتَّقْوَى وَالْأَمْرُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ خَبَرٌ .
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 7 / ص 131)
القرين...ماهيته...وسائله في الغواية..وحاله مع نبي الله رقم الفتوى:16408تاريخ الفتوى:26 محرم 1425السؤال : هل حقاً أن لكل إنسان قريناً؟ وهل القرين هو من الجان؟ وكيف يمكن السيطرة عليه ليكون طيباً وليس كافراً؟
جزاكم الله خيراً.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد ثبت شرعاً أن لكل إنسان قريناً من الشياطين، قال سبحانه: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [قّ:27] ، وقد ذكر القرطبي أن القرين في الآية هو: الشيطان، وحكى المهدوي : عدم الخلاف في هذا.
وأخرج أحمد ومسلم عَن عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ وَقَدْ وُكّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنّ". قَالُوا: وَإِيّاكَ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ "وَإِيّايَ. إِلاّ أَنّ اللّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ. فَلاَ يَأْمُرُنِي إِلاّ بِخَيْرٍ" .
وأخرج مسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها: "أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلاً. قَالَتْ فَغِرْتُ عَلَيْهِ. فَجَاءَ فَرَأَىَ مَا أَصْنَعُ. فَقَالَ: "مَا لَكِ؟ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ؟" فَقُلْتُ: وَمَا لِي لاَ يَغَارُ مِثْلِي عَلَىَ مِثْلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ؟" قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَوَ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟! قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: وَمَعَ كُلّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: وَمَعَكَ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ "نَعَمْ. وَلَكِنْ رَبّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتّىَ أَسْلَمَ".
والمقصود بالقرين شيطان يقترن بابن آدم، ويسعى جاهداً ليضله عن سواء السبيل، ولا يمكن للمسلم أن يسيطر على قرينه ويدخله في الإسلام، لأن الله سبحانه جعل ذلك ابتلاءً للعبد، ليعلم المؤمن من غيره، وقرين النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمن ويصبح مسلماً على الراجح من أقوال أهل العلم، وإنما استسلم له وانقاد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأسلم" روي برفع الميم وفتحها، فعلى الرفع فهو فعل مضارع، ويكون المعنى: أسلمُ من شره وفتنته، وعلى الفتح، فهو فعلٍ ماض ويحتمل معنيين:
الأول: أنه أسلم ودخل في الإسلام، وهذا مدفوع كما سيأتي.
الثاني: أن أسلم هنا بمعنى: استسلم وانقاد. وقد جاءت الرواية كهذا في غير صحيح مسلم، كما قال النووي في شرحه.
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية عدم إسلام قرين النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: أي استسلم وانقاد، وكان ابن عيينه يرويه فأسلم بالضم، ويقول: إن الشيطان لا يُسلم، لكن قوله في الرواية الأخرى: فلا يأمرني إلا بخير، دل على أنه لم يبق يأمره بالشر، وهذا إسلامه، وإن كان ذلك كناية عن خضوعه وذلته لا عن إيمانه بالله، كما يقهر الرجل عدوه الظاهر ويأسره، وقد عرف العدو المقهور أن ذلك القاهر يعرف ما يشير به عليه من الشر فلا يقبله، بل يعاقبه على ذلك، فيحتاج لانقهاره معه إلى أنه لا يشير عليه إلا بخير لذلته وعجزه لا لصلاحه ودينه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إلا أن الله أعانني عليه، فلا يأمرني إلا بخير" انتهى.
وعلى كلٍ، فعلى المسلم مدافعة هذا الشيطان، وهذا هو المطلوب منه شرعاً، وهو أمر مقدور عليه، وهذا القرين تارة يوسوس بالشر، ولذا جاء الأمر بالاستعاذة من شر وسوسته في سورة الناس: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس:3-6]
وتارة ينسي الخير، قال سبحانه: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) [يوسف:42] .
وتارة يعدُ ويُمَنِّي، قال تعالى: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء:120] .
وتارة يقذف في القلب الوسوسة المرعبة، قال سبحانه: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ) [آل عمران:175] .
فكيده محصور في ما ذكرنا.
فاستعن بالله على مدافعته، والانتصار عليه، وانظر في ذلك الجواب رقم: 4403.
والله أعلم.(1/21)
21-7677 أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ ، عَنْ حَجَّاجٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَتَحَسَّسْتُهُ ، فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ يَقُولُ : " سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ " فَقَالَتْ : " بِأَبِي وَأُمِّي إِنَّكَ لَفِي شَأْنٍ وَإِنِّي لَفِي آخَرَ (1)
__________
(1) - أخرجه مسلم برقم(1117) ونص برقم(3978)و3979) رأحمد برقم(25922 و25924)
شرح النووي على مسلم - (ج 2 / ص 236)
قَوْلهَا : ( فَوَقَعَتْ يَدَيَّ عَلَى بَطْن قَدَمه وَهُوَ فِي الْمَسْجِد وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ ) اِسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَقُول لَمْس الْمَرْأَة لَا يَنْقُض الْوُضُوء ، وَهُوَ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَآخَرِينَ ، وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى وَالْأَكْثَرُونَ : يَنْقُض وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيل ذَلِكَ ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْحَدِيث بِأَنَّ الْمَلْمُوس لَا يُنْتَقَض عَلَى قَوْل الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَغَيْره ، وَعَلَى قَوْل مَنْ قَالَ يُنْتَقَض وَهُوَ الرَّاجِح عِنْد أَصْحَابنَا يُحْمَل هَذَا اللَّمْس عَلَى أَنَّهُ كَانَ فَوْق حَائِل فَلَا يَضُرّ . وَقَوْلهَا : ( وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ ) فِيهِ أَنَّ السُّنَّة نَصْبهمَا فِي السُّجُود .
وَقَوْلهَا : ( وَهُوَ يَقُول : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِرِضَاك مِنْ سَخَطك . وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتك ، وَأَعُوذ بِك مِنْك لَا أُحْصِي ثَنَاء عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسك ) قَالَ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذَا مَعْنَى لَطِيف ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ اِسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَسَأَلَهُ أَنْ يُجِيرهُ بِرِضَاهُ مِنْ سَخَطه ، وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَته ، وَالرِّضَاء وَالسَّخَط ضِدَّانِ مُتَقَابِلَانِ . وَكَذَلِكَ الْمُعَافَاة وَالْعُقُوبَة فَلَمَّا صَارَ إِلَى ذِكْر مَا لَا ضِدّ لَهُ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى اِسْتَعَاذَ بِهِ مِنْهُ لَا غَيْر ، وَمَعْنَاهُ الِاسْتِغْفَار مِنْ التَّقْصِير فِي بُلُوغ الْوَاجِب مِنْ حَقِّ عِبَادَته وَالثَّنَاء عَلَيْهِ . وَقَوْله : لَا أُحْصِي ثَنَاء عَلَيْك أَيْ لَا أُطِيقهُ وَلَا آتِي عَلَيْهِ ، وَقِيلَ : لَا أُحِيط بِهِ ، وَقَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى : مَعْنَاهُ لَا أُحْصِي نِعْمَتك وَإِحْسَانك وَالثَّنَاء بِهَا عَلَيْك وَإِنْ اِجْتَهَدْت فِي الثَّنَاء عَلَيْك . وَقَوْله : ( أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسك ) اِعْتِرَاف بِالْعَجْزِ عَنْ تَفْصِيل الثَّنَاء ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِر عَلَى بُلُوغ حَقِيقَته ، وَرَدّ لِلثَّنَاءِ إِلَى الْجُمْلَة دُون التَّفْصِيل وَالْإِحْصَار وَالتَّعْيِين ، فَوَكَّلَ ذَلِكَ إِلَى اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى الْمُحِيط بِكُلِّ شَيْء جُمْلَة وَتَفْصِيلًا ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا نِهَايَة لِصِفَاتِهِ لَا نِهَايَة لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّنَاء تَابِع لِلْمَثْنَى عَلَيْهِ ، وَكُلّ ثَنَاء أَثْنَى بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَثُرَ وَطَالَ وَبُولِغَ فِيهِ فَقَدَرُ اللَّه أَعْظَم ، وَسُلْطَانه أَعَزّ ، وَصِفَاته أَكْبَر وَأَكْثَر ، وَفَضْله وَإِحْسَانه أَوْسَع وَأَسْبَغ .
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِأَهْلِ السُّنَّة فِي جَوَاز إِضَافَة الشَّرّ إِلَى اللَّه تَعَالَى كَمَا يُضَاف إِلَيْهِ الْخَيْر لِقَوْلِهِ : أَعُوذ بِك مِنْ سَخَطك وَمِنْ عُقُوبَتك وَاَللَّه أَعْلَم .
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 412)
فَصْلٌ " الْأَعْلَى " عَلَى وَزْنِ أَفْعَلْ التَّفْضِيلِ مِثْلُ الْأَكْرَمِ وَالْأَكْبَرِ وَالْأَجَلِّ . وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ اُعْلُ هُبَلُ اُعْلُ هُبَلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تُجِيبُونَهُ ؟ قَالُوا : وَمَا نَقُولُ ؟ قَالَ : قُولُوا : اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ } . . وَهُوَ مَذْكُورٌ بِأَدَاةِ التَّعْرِيفِ " الْأَعْلَى " مِثْلُ { وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ " اللَّهُ أَكْبَرُ " فَإِنَّهُ مُنَكَّرٌ . وَلِهَذَا مَعْنًى يَخُصُّهُ يَتَمَيَّزُ بِهِ وَلِهَذَا مَعْنًى يَخُصُّهُ يَتَمَيَّزُ بِهِ كَمَا بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ . فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَةً بَلْ مُتَلَازِمَةً فَبَيْنَهَا فُرُوقٌ لَطِيفَةٌ ؛ وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى : الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته } . فَجَعَلَ الْكِبْرِيَاءَ بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ وَهُوَ أَعْلَى مِنْ الْإِزَارِ . وَلِهَذَا كَانَ شَعَائِرُ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانُ وَالْأَعْيَادِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَالِيَةِ هُوَ التَّكْبِيرَ . وَهُوَ أَحَدُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَمْ يَجِئْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَثَرِ بَدَلَ قَوْلِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " " اللَّهُ أَعْظَمُ " وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ . فَلَوْ قَالَ : " اللَّهُ أَعْظَمُ " لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الصَّلَاةُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي يُوسُفَ وداود وَغَيْرِهِمْ . وَلَوْ أَتَى بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَذْكَارِ مِثْلَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الصَّلَاةُ . وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ مُخْتَصٌّ بِالذِّكْرِ فِي حَالِ الِارْتِفَاعِ كَمَا أَنَّ التَّسْبِيحَ مُخْتَصٌّ بِحَالِ الِانْخِفَاضِ كَمَا فِي السُّنَنِ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا هَبَطْنَا سَبَّحْنَا فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ } . { وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قَالَ : اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ } { وَلَمَّا نَزَلَ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قَالَ : اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ } . { وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى } وَلَمْ يَكُنْ يُكَبِّرْ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . لَكِنْ قَدْ كَانَ يَقْرِنُ بِالتَّسْبِيحِ التَّحْمِيدَ وَالتَّهْلِيلَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } أَيْ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . فَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ . وَكَذَلِكَ قَدْ كَانَ يَقْرِنُ بِالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ التَّهْلِيلَ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : افْتَقَدْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَظَنَنْت أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَتَحَسَّسْت ثُمَّ رَجَعْت فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ يَقُولُ سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ . فَقُلْت : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إنِّي لَفِي شَأْنٍ وَإِنَّك لَفِي شَأْنٍ } . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا أَنَّهُ كَانَ يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَكِنْ قَدْ يَقْرِنُ بِالتَّسْبِيحِ التَّحْمِيدَ وَالتَّهْلِيلَ وَقَدْ يَقْرِنُ بِهِ الدُّعَاءَ . وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَبَّرَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِيهِمَا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا وَسَاجِدًا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يُتْلَى إلَّا فِي حَالِ الِارْتِفَاعِ وَالتَّكْبِيرِ أَيْضًا مَحَلُّهُ حَالَ الِارْتِفَاعِ . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهُ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ . فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وداود وَغَيْرِهِمْ وُجُوبُهُ . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ اسْتِحْبَابُهُ . وَالْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَتَعَيَّنُ " سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ " و " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " لِلْأَمْرِ بِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ يَذْكُرُ بَعْضَ الْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ . وَالْأَقْوَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ التَّسْبِيحُ إمَّا بِلَفْظِ " سُبْحَانَ " وَإِمَّا بِلَفْظِ " سُبْحَانَك " وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ سَمَّاهَا " تَسْبِيحًا " فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّسْبِيحِ فِيهَا وَقَدْ بَيَّنَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ كَمَا سَمَّاهَا اللَّهُ " قُرْآنًا " وَقَدْ بَيَّنَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ الْقِيَامُ . وَسَمَّاهَا " قِيَامًا " و " سُجُودًا " و " رُكُوعًا " وَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ عِلَّةَ ذَلِكَ وَمَحَلَّهُ . وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَقَدْ نُقِلَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ و سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ؛ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ؛ و سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } . وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ أَبِي داود { سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ } وَفِي اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ { سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوت وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ } . فَهَذِهِ كُلُّهَا تَسْبِيحَاتٌ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ [ كَانَ يَكْرَهُ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى ذَلِكَ . فَإِنْ ] كَانَ كَرَاهَةُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَالْعَظِيمِ " فَلَهُ وَجْهٌ وَإِنْ كَانَ كَرَاهَةُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى جِنْسِ التَّسْبِيحِ فَلَا وَجْهَ لَهُ وَأَظُنُّهُ الْأَوَّلَ . وَكَذَلِكَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ كَرَاهَةُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى " سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ " لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهَا فَرْضٌ ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَالِكًا أَنْكَرُ أَنْ تَكُونَ فَرْضًا وَاجِبًا . وَهَذَا قَوِيٌّ ظَاهِرٌ بِخِلَافِ جِنْسِ التَّسْبِيحِ فَإِنَّ أَدِلَّةَ وُجُوبِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى التَّسْبِيحِ بِأَلْفَاظِ مُتَنَوِّعَةٍ . وَقَوْلُهُ " اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَفِي سُجُودِكُمْ " يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا مَحَلٌّ لِامْتِثَالِ هَذَا الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُقَالُ إلَّا هِيَ مَعَ مَا قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ غَيْرَهَا . وَالْجَمْعُ بَيْنَ صِيغَتَيْ تَسْبِيحٍ بَعِيدٍ بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ . فَإِنَّ هَذِهِ أَنْوَاعٌ وَالتَّسْبِيحَ نَوْعٌ وَاحِدٌ فَلَا يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ صِيغَتَيْنِ . وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } . فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا . فَإِنْ جُعِلَ التَّسْبِيحُ نَوْعًا وَاحِدًا ف " سُبْحَانَ اللَّهِ " و " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " سَوَاءٌ وَإِنْ جُعِلَ مُتَفَاضِلًا ف " سُبْحَانَ اللَّهِ " أَفْضَلُ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } و { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } أَمْرٌ بِتَسْبِيحِ رَبِّهِ لَيْسَ أَمْرًا بِصِيغَةِ مُعَيَّنَةٍ . فَإِذَا قَالَ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ " " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك " فَقَدْ سَبَّحَ رَبَّهُ الْأَعْلَى وَالْعَظِيمَ . فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَظِيمُ وَاسْمُهُ " اللَّهُ " يَتَنَاوَلُ مَعَانِيَ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّن وَإِنْ كَانَ التَّصْرِيحُ بِالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ لَيْسَ هُوَ فِيهِ . فَفِي اسْمِهِ " اللَّهُ " التَّصْرِيحُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَاسْمُهُ " اللَّهُ " أَعْظَمَ مِنْ اسْمِهِ " الرَّبُّ " . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } . فَالْقِيَامُ فِيهِ التَّحْمِيدُ [ و ] فِي الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ وَفِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ التَّسْبِيحُ وَفِي الِانْتِقَالِ التَّكْبِيرُ وَفِي الْقُعُودِ التَّشَهُّدُ وَفِيهِ التَّوْحِيدُ . فَصَارَتْ الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ فِي الصَّلَاةِ . وَالْفَاتِحَةِ أَيْضًا فِيهَا التَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ . فَالتَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ رُكْنٌ يَجِبُ فِي الْقِرَاءَةِ ؛ وَالتَّكْبِيرُ رُكْنٌ فِي الِافْتِتَاحِ ؛ وَالتَّشَهُّدُ الْآخِرُ رُكْنٌ فِي [ الْقُعُودِ كَمَا هُوَ ] الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَفِيهِ التَّشَهُّدُ الْمُتَضَمِّنُ لِلتَّوْحِيدِ . يَبْقَى التَّسْبِيحُ وَأَحْمَد يُوجِبُهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رُكْنٌ وَهُوَ قَوِيٌّ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ . فَكَيْفَ يُوجِبُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجِئْ أَمْرٌ بِهَا فِي الصَّلَاةِ خُصُوصًا وَلَا يُوجِبُ التَّسْبِيحَ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ فِي الصَّلَاةِ وَمَعَ كَوْنِ الصَّلَاةِ تُسَمَّى " تَسْبِيحًا " ؟ وَكُلُّ مَا سُمِّيَتْ بِهِ الصَّلَاة مِنْ أَبْعَاضِهَا فَهُوَ رَكْنٌ فِيهَا كَمَا سُمِّيَتْ " قِيَامًا " و " رُكُوعًا " و " سُجُودًا " " وَقِرَاءَةً " وَسُمِّيَتْ أَيْضًا " تَسْبِيحًا " . وَلَمْ يَأْتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَنْفِي وُجُوبَهُ فِي حَالِ السَّهْوِ كَمَا وَرَدَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمَّا تَرَكَهُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : لَمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ لَيْسَ بِرُكْنِ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ قَدْ خُصَّ بِهِ حَالُ الِانْخِفَاضِ كَمَا خُصَّ حَالُ الِارْتِفَاعِ بِالتَّكْبِيرِ . فَذَكَّرَ الْعَبْدَ فِي حَالِ انْخِفَاضِهِ وَذُلِّهِ مَا يَتَّصِفُ بِهِ الرَّبُّ [ مُقَابِلَ ] ذَلِكَ . فَيَقُولُ فِي السُّجُودِ " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " وَفِي الرُّكُوعِ " سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ " . و " الْأَعْلَى " يَجْمَعُ مَعَانِي الْعُلُوِّ جَمِيعهَا وَأَنَّهُ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ مَعَانِي الْعُلُوِّ . وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ عَلَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَاهِرٌ لَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ كَمَا قَالَ : { إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } وَعَلَا أَنَّهُ عَالٍ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ فَهُوَ عَالٍ عَنْ ذَلِكَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إنَاثًا إنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا } { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلَّا نُفُورًا } { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } فَقَرَنَ تَعَالِيَهُ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّسْبِيحِ . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } { عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَالَتْ الْجِنُّ : { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا } وَفِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ : " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ اسْتِفْتَاحِهِ : { تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك } فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الْمُبْطِلُونَ وَعَمَّا يُشْرِكُونَ . فَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلَادِ كَمَا أَنَّهُ مُسَبَّحٌ عَنْ ذَلِكَ . وَتَعَالِيهِ سُبْحَانَهُ عَنْ الشَّرِيكِ هُوَ تَعَالِيهِ عَنْ السَّمِيِّ وَالنِّدِّ وَالْمِثْلِ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِثْلَهُ . وَقَدْ ذَكَرُوا مِنْ مَعَانِي الْعُلُوِّ الْفَضِيلَةَ كَمَا يُقَالُ : الذَّهَبُ أَعْلَى مِنْ الْفِضَّةِ . وَنَفْيُ الْمِثْلِ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا شَيْءَ مِثْلَهُ . وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ أَفْضَلُ وَخَيْرٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ . وَفِي الْقُرْآنِ : { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ } . وَيَقُولُ : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } وَيَقُولُ : { أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى } وَقَالَتْ السَّحَرَةُ : { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَعْبُودِينَ دُونَهُ لَيْسُوا مِثْلَهُ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلَّا ظَنًّا إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ وَأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ . وَيُبَيِّنُ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَانْتِفَائِهَا عَمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ . وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ يَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَعَمَّا يَقُولُونَ مِنْ إثْبَاتِ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ لَهُ . وَقَالَ : { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } وَهْم كَانُوا يَقُولُونَ إنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ . لَكِنْ كَانُوا يُثْبِتُونَ الشَّفَاعَةَ بِدُونِ إذْنِهِ فَيَجْعَلُونَ الْمَخْلُوقَ يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ . فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } فَالشَّفَاعَةُ لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ غَيْرَ اللَّهِ . كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ السدي فِي قَوْلِهِ : { إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } يَقُولُ : لَابْتَغَتْ الْحَوَائِجُ مِنْ اللَّهِ . وَعَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قتادة : { لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } لَابْتَغَوْا التَّقَرُّبَ إلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ . وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ قتادة : { لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ } يَقُولُ : لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ إذًا لَعَرَفُوا لَهُ فَضْلَهُ وَمَزِيَّتَهُ عَلَيْهِمْ وَلَابْتَغَوْا إلَيْهِ مَا يُقَرِّبُهُمْ إلَيْهِ . وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ : لَتَعَاطَوْا سُلْطَانَهُ . وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الهذلي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : سَبِيلًا إلَى أَنْ يُزِيلُوا مُلْكَهُ والهذلي ضَعِيفٌ . فَقَدْ تَضَمَّنَ الْعُلُوَّ الَّذِي يَنْعَتُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ مُتَعَالٍ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلَادِ فَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . وَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ . وَأَنَّهُ لَا يُمَاثِلُهُ غَيْرُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ بَلْ هُوَ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ شَيْءٌ . وَتَضَمَّنَ أَنَّهُ عَالٍ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ قَاهِرٌ لَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ نَافِذَةٌ مَشِيئَتُهُ فِيهِ وَأَنَّهُ عَالٍ عَلَى الْجَمِيعِ فَوْقَ عَرْشِهِ . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٌ فِي اسْمِهِ " الْعَلِيِّ " . وَإِثْبَاتُ عُلُوِّهِ عُلُوُّهُ عَلَى مَا سِوَاهُ وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهِ وَقَهْرُهُ يَقْتَضِي رُبُوبِيَّتَهُ لَهُ وَخَلْقَهُ لَهُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْكَمَالِ . وَعُلُوُّهُ عَنْ الْأَمْثَالِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ . وَهَذَا وَهَذَا يَقْتَضِي جَمِيعَ مَا يُوصَفُ بِهِ فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ . فَفِي الْإِثْبَاتِ يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَفِي النَّفْيِ يُنَزَّهُ عَنْ النَّقْصِ الْمُنَاقِضِ لِلْكَمَالِ وَيُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ . كَمَا قَدْ دَلَّتْ عَلَى هَذَا وَهَذَا سُورَةُ الْإِخْلَاصِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } . وَتَعَالِيهِ عَنْ الشُّرَكَاءِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ : { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } أَيْ وَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولُونَ يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَيُقَرِّبُونَكُمْ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ الرَّبُّ وَالْإِلَهُ دُونَهُمْ وَكَانُوا يَبْتَغُونَ إلَيْهِ سَبِيلًا بِالْعِبَادَةِ لَهُ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ . هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ . كَمَا قَالَ : { إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ { إنَّهُ تَذْكِرَةٌ } { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } وَقَالَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } ثُمَّ قَالَ : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } فَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إلَهٌ غَيْرُهُ أَوْ أَحَدٌ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ أَوْ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانُوا يَقُولُونَ . وَلَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ إنَّ آلِهَتَهُمْ تَقْدِرُ أَنْ تُمَانَعَهُ أَوْ تُغَالِبَهُ . بَلْ هَذَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ إلَهٍ آخَرَ يَخْلُقُ كَمَا يَخْلُقُ وَإِنْ كَانُوا هُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ كَمَا قَالَ : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَهُ " الْأَعْلَى " يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا يُنَافِيهَا مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَعَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ وَأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ .(1/22)
22- 7678 أَخْبَرَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : افْتَقَدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَتَحَسَّسْتُهُ ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ يَقُولُ : " سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ " فَقُلْتُ : " بِأَبِي وَأُمِّي إِنَّكَ لَفِي شَأْنٍ ، وَإِنِّي لَفِي آخَرَ "(1)
23-7679 أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ : أَلَا أُحَدِّثَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِّي ؟ قُلْنَا : بَلَى قَالَتْ : " لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ نَعْلَيْهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ ، وَوُضِعَ رِدَاءَهُ ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ ، وَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنِّي قَدْ رَقَدْتُ ، ثُمَّ انْتَعَلَ رُوَيْدًا ، وَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا ، ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ رُوَيْدًا ، فَخَرَجَ وَأَجَافَهُ رُوَيْدًا ، وَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي ، وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي ، وَانْطَلَقْتُ فِي أَثَرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَطَالَ الْقِيَامَ ، ثُمَّ انْحَرَفَ وَانْحَرَفْتُ ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ ، وَأَحْضَرَ وَأَحْضَرْتُ ، وَسَبَقْتُهُ ، فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ ، فَدَخَلَ " فَقَالَ : " مَا لَكِ يَا عَائِشُ رَابِيَةً ؟ " قَالَ سُلَيْمَانُ : حَسِبْتُهُ قَالَ : " حَشْيَا " قُلْتُ : لَا شَيْءَ قَالَ : " لَتُخْبِرِنِّي ، أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ قَالَ : " أَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي " قُلْتُ : نَعَمْ قَالَتْ : " فَلَهَدَنِي لَهْدَةً فِي صَدْرِي أَوْجَعَنِي " قَالَ : أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ قَالَتْ : " مَهْمَا يَكْتُمُ النَّاسُ فَقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ " قَالَ : " نَعَمْ ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ ، وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ فَنَادَانِي ، وَأَخْفَى مِنْكِ وَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَأَسْتَغْفِرَ لَهُمْ " خَالَفَهُ حَجَّاجٌ فَقَالَ : عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ (2)
__________
(1) - أخرجه مسلم برقم(1117) والمسند الجامع برقم(16363)
(2) - نص برقم(3980) وعبد الرزاق برقم(6713) والدعا طب برقم(1148) ومسلم برقم (2301)
شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 401)
قَوْلهَا : ( فَلَمْ يَلْبَث إِلَّا رَيْثَمَا ) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء وَإِسْكَان الْيَاء وَبَعْدهَا ثَاء مُثَلَّثَة أَيْ قَدْر مَا .
قَوْلهَا : ( فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا ) أَيْ قَلِيلًا لَطِيفًا لِئَلَّا يُنَبِّهَهَا .
قَوْلهَا : ( ثُمَّ أَجَافَهُ ) بِالْجِيمِ أَيْ أَغْلَقَهُ ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُفْيَة لِئَلَّا يُوقِظهَا وَيَخْرُج عَنْهَا ، فَرُبَّمَا لَحِقَهَا وَحْشَة فِي اِنْفِرَادهَا فِي ظُلْمَة اللَّيْل .
قَوْلهَا : ( وَتَقَنَّعْت إِزَارِي ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول ( إِزَارِي ) بِغَيْرِ بَاءَ فِي أَوَّله ، وَكَأَنَّهُ بِمَعْنَى لَبِسْت إِزَارِي فَلِهَذَا عُدِّيَ بِنَفْسِهِ .
قَوْلهَا : ( جَاءَ الْبَقِيع فَأَطَالَ الْقِيَام ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاث مَرَّات ) فِيهِ : اِسْتِحْبَاب إِطَالَة الدُّعَاء وَتَكْرِيره ، وَرَفْع الْيَدَيْنِ فِيهِ . وَفِيهِ : أَنَّ دُعَاء الْقَائِم أَكْمَل مِنْ دُعَاء الْجَالِس فِي الْقُبُور .
قَوْلهَا : ( فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْت ) الْإِحْضَار : الْعَدْوُ .
قَوْلهَا : ( فَقَالَ : مَا لَك يَا عَائِش حَشْيَا رَابِيَة ) يَجُوز فِي عَائِش فَتْح الشِّين وَضَمّهَا ، وَهُمَا وَجْهَانِ جَارِيَانِ فِي كُلّ الْمُرَخَّمَات . وَفِيهِ : جَوَاز تَرْخِيم الِاسْم إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِيذَاء لِلْمُرَخَّمِ ( وَحَشْيَا ) بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الشِّين الْمُعْجَمَة مَقْصُور مَعْنَاهُ : وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْك الْحَشَا وَهُوَ الرَّبْو وَالتَّهَيُّج الَّذِي يَعْرِض لِلْمُسْرِعِ فِي مَشْيه وَالْمُحْتَدّ فِي كَلَامه مِنْ اِرْتِفَاع النَّفْس وَتَوَاتُره . يُقَال : اِمْرَأَة حَشْيَاء وَحَشْيَة وَرَجُل حَشْيَان وَحَشَش ، قِيلَ : أَصْله مَنْ أَصَابَ الرَّبْو حَشَاهُ . وَقَوْله : ( رَابِيَة ) أَيْ مُرْتَفِعَة الْبَطْن .
قَوْلهَا : ( لَا بِي شَيْء ) وَقَعَ فِي بَعْض الْأُصُول ( لَا بِي شَيْء ) بِبَاءِ الْجَرّ ، وَفِي بَعْضهَا ( لِأَيِّ شَيْء ) بِتَشْدِيدِ الْيَاء وَحَذْف الْبَاء عَلَى الِاسْتِفْهَام ، وَفِي بَعْضهَا ( لَا شَيْء ) وَحَكَاهَا الْقَاضِي قَالَ : وَهَذَا الثَّالِث أَصْوَبهَا .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَأَنْتِ السَّوَاد ) أَيْ الشَّخْص .
قَوْلهَا : ( فَلَهَدَنِي ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَاء وَالدَّال الْمُهْمَلَة ، وَرُوِيَ ( فَلَهَزَنِي ) بِالزَّايِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ . قَالَ أَهْل اللُّغَة : لَهَدَهُ وَلَهَّدَهُ بِتَخْفِيفِ الْهَاء وَتَشْدِيدهَا أَيْ دَفَعَهُ ، وَيُقَال : لَهَزَهُ إِذَا ضَرَبَهُ بِجَمْعِ كَفّه فِي صَدْره ، وَيَقْرَب مِنْهُمَا لَكَزَهُ وَوَكَزَهُ .
قَوْله : ( قَالَتْ : مَهْمَا يَكْتُم النَّاس يَعْلَمهُ اللَّه نَعَمْ ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول ، وَهُوَ صَحِيح ، وَكَأَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ : مَهْمَا يَكْتُم النَّاس يَعْلَمهُ اللَّه صَدَّقَتْ نَفْسهَا فَقَالَتْ : نَعَمْ .
قَوْلهَا : ( قُلْت : كَيْف أَقُول يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : قُولِي : السَّلَام عَلَى أَهْل الدِّيَار مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ ، وَيَرْحَم اللَّه الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَمِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى بِكُمْ لَلَاحِقُونَ )
فِيهِ : اِسْتِحْبَاب هَذَا الْقَوْل لِزَائِرِ الْقُبُور . وَفِيهِ : تَرْجِيح لِقَوْلِ مَنْ قَالَ : فِي قَوْله ( سَلَام عَلَيْكُمْ دَار قَوْم مُؤْمِنِينَ ) أَنَّ مَعْنَاهُ أَهْل دَار قَوْم مُؤْمِنِينَ . وَفِيهِ : أَنَّ الْمُسْلِم وَالْمُؤْمِن قَدْ يَكُونَانِ بِمَعْنًى وَاحِد ، وَعَطْفُ أَحَدهمَا عَلَى الْآخَر لِاخْتِلَافِ اللَّفْظ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْر بَيْت مِنْ الْمُسْلِمِينَ } وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْمُسْلِمِ فِي هَذَا الْحَدِيث غَيْر الْمُؤْمِن ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِن إِنْ كَانَ مُنَافِقًا لَا يَجُوز السَّلَام عَلَيْهِ وَالتَّرَحُّم . وَفِيهِ : دَلِيل لِمَنْ جَوَّزَ لِلنِّسَاءِ زِيَارَة الْقُبُور ، وَفِيهَا خِلَاف لِلْعُلَمَاءِ وَهِيَ ثَلَاثَة أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا :
أَحَدهَا : تَحْرِيمهَا عَلَيْهِنَّ لِحَدِيثِ : " لَعَنَ اللَّه زَوَّارَات الْقُبُور "
وَالثَّانِي : يُكْرَه . وَالثَّالِث : يُبَاح ، وَيُسْتَدَلّ لَهُ بِهَذَا الْحَدِيث وَبِحَدِيثِ " كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَة الْقُبُور فَزُورُوهَا " وَيُجَاب عَنْ هَذَا بِأَنْ نَهَيْتُكُمْ ضَمِير ذُكُور فَلَا يَدْخُل فِيهِ النِّسَاء عَلَى الْمَذْهَب الصَّحِيح الْمُخْتَار فِي الْأُصُول . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 16)
سُئِلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ دَاوَمُوا عَلَى " الرِّيَاضَةِ " مَرَّةً فَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ تجوهروا فَقَالُوا : لَا نُبَالِي الْآنَ مَا عَمِلْنَا وَإِنَّمَا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي رُسُومُ الْعَوَامِّ وَلَوْ تجوهروا لَسَقَطَتْ عَنْهُمْ وَحَاصِلُ النُّبُوَّةِ يَرْجِعُ إلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا ضَبْطُ الْعَوَامِّ وَلَسْنَا نَحْنُ مِنْ الْعَوَامِّ فَنَدْخُلُ فِي حِجْرِ التَّكْلِيفِ لِأَنَّا قَدْ تجوهرنا وَعَرَفْنَا الْحِكْمَةَ . فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ مِنْ قَائِلِهِ ؟ أَمْ يُبَدَّعُ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ . وَهَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ عَمَّنْ فِي قَلْبِهِ خُضُوعٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ .
الْجَوَابُ
لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ جَاهِلًا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ جَهْلًا يُعْذَرُ بِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ أَحَدٍ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مِنْ جِهَةِ بَلَاغِ الرِّسَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَلِهَذَا لَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ؛ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْخَمْرَ يَحْرُمُ لَمْ يَكْفُرْ بِعَدَمِ اعْتِقَادِ إيجَابِ هَذَا وَتَحْرِيمِ هَذَا ؛ بَلْ وَلَمْ يُعَاقَبْ حَتَّى تَبْلُغَهُ الْحُجَّةُ النَّبَوِيَّةُ . بَلْ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ ثُمَّ عَلِمَ . هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ فِي حَالِ الْجَهْلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : ( أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَ ( الثَّانِي : يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بَلْ النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا قَبْلَ بُلُوغِ الْحِجَّةِ : مِثْلُ تَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يَحْسَبُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ بِتَيَمُّمِ أَوْ مِنْ أَكْلٍ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَيَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ كَمَا جَرَى ذَلِكَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ مَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ أَكَلَ لَحْمَ الْإِبِلِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ وُجُوبُ ذَلِكَ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَأَصْلُ ذَلِكَ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ سَمَاعِهِ ؟ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَثْبُتُ مُطْلَقًا وَقِيلَ : لَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا ؛ وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ الْخِطَابِ النَّاسِخِ ؛ وَالْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ . كَأَهْلِ الْقِبْلَةِ وَالصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ : أَنَّ الْخِطَابَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ أَحَدٍ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ سَمَاعِهِ ؛ فَإِنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ وَنَظَائِرِهَا مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِثْمِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَفَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّأْثِيمِ فَكَيْفَ فِي التَّكْفِيرِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ يَنْشَأُ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ الَّذِي يَنْدَرِسُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ عُلُومِ النُّبُوَّاتِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَنْ يُبَلِّغُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ فَلَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا يَبْعَثُ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُهُ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَكَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ فَأَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَعْرِفُونَ فِيهِ صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا صَوْمًا وَلَا حَجًّا إلَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ يَقُولُ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا وَهُمْ يَقُولُونَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا حَجًّا . فَقَالَ : وَلَا صَوْمَ يُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ } . وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَالَ رَجُلٌ - لَمْ يُعَجِّلْ حَسَنَةً قَطُّ - لِأَهْلِهِ إذَا مَاتَ فَحَرَقُوهُ ثُمَّ أَذَرُّوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ . فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ثُمَّ قَالَ : لِمَ فَعَلْت هَذَا ؟ قَالَ : مِنْ خَشْيَتِك يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ ؛ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ } وَفِي لَفْظٍ آخَرَ { أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ : إذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ أَذْرُونِي فِي الْبَحْرِ . فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا . قَالَ : فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ . فَقَالَ لِلْأَرْضِ : أَدِّ مَا أَخَذْت فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ . فَقَالَ لَهُ : مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت . قَالَ : خَشْيَتُك يَا رَبِّ . أَوْ قَالَ : مَخَافَتُك فَغُفِرَ لَهُ بِذَلِكَ } وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ { قَالَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا : أَدِّ مَا أَخَذْت مِنْهُ } . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَعُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَ رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ . فَقَالَ لِأَهْلِهِ : إذَا أَنَا مُتّ فَخُذُونِي فذروني فِي الْبَحْرِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ . ثُمَّ قَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى الَّذِي فَعَلْت ؟ فَقَالَ : مَا حَمَلَنِي إلَّا مَخَافَتُك . فَغُفِرَ لَهُ } . وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ : { أَنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إذَا أَنَا مُتّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا وَأَوْقِدُوا فِيهِ نَارًا حَتَّى إذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَوَصَلَتْ إلَى عَظْمِي فَامْتَحَشَتْ فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا ثُمَّ اُنْظُرُوا يَوْمًا فذروني فِي الْيَمِّ . فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ : لَهُ لِمَ فَعَلْت ذَلِكَ ؟ قَالَ : مِنْ خَشْيَتِك . فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ } قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو أَنَا سَمِعْته - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ ذَلِكَ . وَكَانَ نَبَّاشًا . فَهَذَا الرَّجُلُ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذَا تَفَرَّقَ هَذَا التَّفَرُّقَ فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يُعِيدُهُ إذَا صَارَ كَذَلِكَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ إنْكَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْكَارِ مَعَادِ الْأَبْدَانِ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ كَفَرَ . لَكِنَّهُ كَانَ مَعَ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَإِيمَانِهِ بِأَمْرِهِ وَخَشْيَتِهِ مِنْهُ جَاهِلًا بِذَلِكَ ضَالًّا فِي هَذَا الظَّنِّ مُخْطِئًا . فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ . وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الرَّجُلَ طَمِعَ أَنْ لَا يُعِيدَهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَأَدْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ شَاكًّا فِي الْمَعَادِ وَذَلِكَ كُفْرٌ - إذَا قَامَتْ حُجَّةُ النُّبُوَّةِ عَلَى مُنْكِرِهِ حُكِمَ بِكُفْرِهِ - هُوَ بَيِّنٌ فِي عَدَمِ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ : لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ بِمَعْنَى قَضَى أَوْ بِمَعْنَى ضَيَّقَ فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ وَحَرَّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِتَحْرِيقِهِ وَتَفْرِيقِهِ لِئَلَّا يُجْمَعَ وَيُعَادَ . وَقَالَ : إذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذروني فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا . فَذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ بِحَرْفِ الْفَاءِ عَقِيبَ الْأُولَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لَهَا وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقْدِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ مُقِرًّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ فَائِدَةٌ لَهُ ؛ وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ عَلَيْهِ وَالتَّضْيِيقَ مُوَافِقَانِ لِلتَّعْذِيبِ وَهُوَ قَدْ جَعَلَ تَفْرِيقَهُ مُغَايِرًا لِأَنْ يَقْدِرَ الرَّبُّ . قَالَ : فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ . فَلَا يَكُونُ الشَّرْطُ هُوَ الْجَزَاءُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ لَقَالَ : فَوَاَللَّهِ لَئِنْ جَازَانِي رَبِّي أَوْ لَئِنْ عَاقَبَنِي رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا كَمَا هُوَ الْخِطَابُ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ : وَلِأَنَّ لَفْظَ " قَدَرَ " بِمَعْنَى ضَيَّقَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ . وَمَنْ اسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } فَقَدْ اسْتَشْهَدَ بِمَا لَا يَشْهَدُ لَهُ . فَإِنَّ اللَّفْظَ كَانَ بِقَوْلِهِ : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } أَيْ اجْعَلْ ذَلِكَ بِقَدْرِ وَلَا تَزِدْ وَلَا تَنْقُصْ وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } أَيْ جَعَلَ رِزْقَهُ قُدِرَ مَا يُغْنِيه مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ إذْ لَوْ يَنْقُصُ الرِّزْقُ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَعِشْ . وَأَمَّا " قَدَرَ " بِمَعْنَى قَدَّرَ . أَيْ أَرَادَ تَقْدِيرَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَهُوَ لَمْ يَقُلْ : إنْ قَدَّرَ عَلَيَّ رَبِّي الْعَذَابَ بَلْ قَالَ : لَئِنْ قَدَّرَ عَلَيَّ رَبِّي وَالتَّقْدِيرُ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ ؛ لَئِنْ قَضَى اللَّهُ عَلَيَّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى وَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّقْدِيرَ أَوْ التَّضْيِيقَ لَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ فِي ظَنِّهِ . وَدَلَائِلُ فَسَادِ هَذَا التَّحْرِيفِ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا فَغَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجَمِيعِ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَبِتَفْصِيلِ أَنَّهُ الْقَادِرُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ يَجْهَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ كَافِرًا . وَمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَجَدَ فِيهَا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا يُوَافِقُهُ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : { أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا : بَلَى قَالَتْ : لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ وَاضْطَجَعَ فَلَمْ يَثْبُتْ إلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنِّي رَقَدْت فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا وَانْتَقَلَ رُوَيْدًا وَفَتَحَ الْبَابَ رُوَيْدًا فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا فَجَعَلْت دِرْعِي فِي رَأْسِي وَاخْتَمَرْت وَتَقَنَّعْت إزَارِي ثُمَّ انْطَلَقْت عَلَى إثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ . فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْت وَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْت فَهَرْوَلَ وَهَرْوَلْت وَأَحْضَرَ وَأَحْضَرْت فَسَبَقْته فَدَخَلْت فَلَيْسَ إلَّا أَنْ اضْطَجَعْت فَقَالَ : مَا لَك يَا عَائِشَةُ حشيا رَابِيَةً ؟ قَالَتْ : لَا شَيْءَ . قَالَ : لِتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ . قَالَتْ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْته . قَالَ : فَأَنْتَ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْت أَمَامِي ؟ قُلْت : نَعَمْ فَلَهَزَنِي فِي صَدْرِي لَهْزَةً أَوْجَعَتْنِي . ثُمَّ قَالَ : أَظْنَنْت أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْك وَرَسُولُهُ قَالَتْ : قُلْت مَهْمَا يَكْتُمْ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَإِنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَانِي حِينَ رَأَيْت فَنَادَانِي - فَأَخْفَاهُ مِنْك فَأَجَبْته وَأَخْفَيْته مِنْك وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْك وَقَدْ وَضَعْت ثِيَابَك وَظَنَنْت أَنَّك رَقَدْت وَكَرِهْت أَنْ أُوقِظَك وَخَشِيت أَنْ تَسْتَوْحِشِي - فَقَالَ : إنَّ رَبَّك يَأْمُرُك أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ . قُلْت : كَيْفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : قُولِي : السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِين وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ لَلَاحِقُونَ } . فَهَذِهِ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ : سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يَعْلَمُ اللَّهُ كُلَّ مَا يَكْتُمُ النَّاسُ ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ مَعْرِفَتِهَا بِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ يَكْتُمُهُ النَّاسُ كَافِرَةً وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ [ بِذَلِكَ ] بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَإِنْكَارِ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ كَإِنْكَارِ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هَذَا مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ عَلَى الذَّنْبِ وَلِهَذَا لَهَزَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : أَتَخَافِينَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْك وَرَسُولُهُ وَهَذَا الْأَصْلُ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ وَلَكِنَّ تَكْفِيرَ قَائِلِهِ لَا يُحْكَمُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ قَدْ بَلَغَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا وَدَلَائِلُ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَمَشَايِخِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَسْطِهَا . بَلْ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْعِبَادِ إلَى الْمَوْتِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : هَلْ يَصْدُرُ ذَلِكَ عَمَّنْ فِي قَلْبِهِ خُضُوعٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ . فَيُقَالُ : هَذَا لَا يَصْدُرُ عَمَّنْ هُوَ مُقِرٌّ بِالنُّبُوَّاتِ مُطْلَقًا بَلْ قَائِلُ ذَلِكَ كَافِرٌ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا أَتَوْا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلْعِبَادِ إلَى حِينِ الْمَوْتِ بَلْ لَا يَصْدُرُ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ خُضُوعٌ لِلَّهِ وَإِقْرَارٌ بِأَنَّهُ إلَهُ الْعَالَمِ فَإِنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَبْدًا لِلَّهِ خَاضِعًا لَهُ وَمَنْ سَوَّغَ لِإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّدٍ بِعِبَادَةِ اللَّهِ فَقَدْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ إلَهَهُ .(1/23)
24-7680 أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمِصِّيصِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ، أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ يَقُولُ : سَمِعْتُ عَائِشَةَ ، تُحَدِّثُ قَالَتْ : " أَلَا أُحَدِّثَكُمْ عَنِّي وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ " قُلْنَا : بَلَى قَالَتْ : " لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي هُوَ عِنْدِي تَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْقَلَبَ ، فَوَضَعَ نَعْلَيْهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ ، وَوَضَعَ رِدَاءَهُ ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنِّي قَدْ رَقَدْتُ ، ثُمَّ انْتَعَلَ رُوَيْدًا ، وَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا ، ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ رُوَيْدًا ، وَخَرَجَ فَأَجَافَهُ رُوَيْدًا ، وَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي ، وَاخْتَمَرْتُ ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي ، وَانْطَلَقْتُ فِي أَثَرِهِ ، فَجَاءَ الْبَقِيعَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَطَالَ الْقِيَامَ ، ثُمَّ انْحَرَفَ ، فَانْحَرَفْتُ ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ ، وَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ ، وَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ ، فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ " فَقَالَ : مَا لَكِ يَا عَائِشُةُ حَشْيَا رَابِيَةً ؟ قَالَتْ : " لَا " قَالَ : لَتُخْبِرِنِّي ، أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ " بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ " قَالَ : فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي قَالَتْ : " نَعَمْ ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي " ثُمَّ قَالَ : " أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ " قَالَتْ : مَهْمَا يَكْتُمُ النَّاسُ فَقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ قَالَ : " نَعَمْ ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتُ ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ ، وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ ، فَنَادَانِي فَأَخْفَى مِنْكِ ، فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُ مِنْكِ ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فأسْتَغْفِرَ لَهُمْ " قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي ابْنِ جُرَيْجٍ أَثْبَتُ عِنْدَنَا مِنَ ابْنِ وَهْبٍ ، رِوَاهُ عَاصِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَلَى غَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ(1)
__________
(1) - نص برقم(2049و3981) صحيح
شرح سنن النسائي - (ج 3 / ص 278)
2010 -
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْله ( لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي هُوَ عِنْدِي ) أَيْ لَيْلَة مِنْ جُمْلَة اللَّيَالِي كَانَ فِيهَا عِنْدهَا
( اِنْقَلَبَ ) أَيْ رَجَعَ مِنْ صَلَاة الْعِشَاء
( إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ ) بِفَتْحِ رَاءٍ وَسُكُون يَاء بَعْدهَا مُثَلَّثَة أَيْ قَدْر مَا ظَنَّ
( رُوَيْدًا ) أَيْ بِرِفْقٍ
( وَتَقَنَّعْت إِزَارِي ) كَذَا فِي الْأُصُول بِغَيْرِ بَاء وَكَأَنَّهُ بِمَعْنَى لَبِسْت إِزَارِي فَلِذَا عُدِّيَ بِنَفْسِهِ
( فَأَحْضَرَ ) مِنْ الْإِحْضَار بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَضَاد مُعْجَمَة بِمَعْنَى الْعَدْو
( فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ اِضْطَجَعْت ) أَيْ فَلَيْسَ بَعْد الدُّخُول مِنِّي إِلَّا الِاضْطِجَاع فَالْمَذْكُورُ اِسْمُ لَيْسَ وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ
( حَشْيَا ) بِفَتْحِ حَاء مُهْمَلَة وَسُكُون شِين مُعْجَمَة مَقْصُور أَيْ مُرْتَفِعَة النَّفْس مُتَوَاتِرَته كَمَا يَحْصُل لِلْمُسْرِعِ فِي الْمَشْي
( رَابِيَة ) أَيْ مُرْتَفِعَة الْبَطْن
( لَتُخْبِرَنِّي ) بِفَتْحِ لَامٍ وَنُون ثَقِيلَة مُضَارِع لِلْوَاحِدَةِ الْمُخَاطَبَة مِنْ الْإِخْبَارِ فَتُكْسَرُ الرَّاءُ هَاهُنَا وَتُفْتَحُ فِي الثَّانِي
( فَأَنْتِ السَّوَادُ ) أَيْ الشَّخْص
( فَلَهَزَنِي ) بِزَايٍ مُعْجَمَةٍ فِي آخِرِهِ وَاللَّهْزُ الضَّرْبُ بِجُمْعِ الْكَفِّ فِي الصَّدْر وَفِي بَعْض النُّسَخ فَلَهَدَنِي بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ اللَّهْد وَهُوَ الدَّفْع الشَّدِيد فِي الصَّدْر وَهَذَا كَانَ تَأْدِيبًا لَهَا مِنْ سُوءِ الظَّنِّ
( أَنْ يَحِيف اللَّه عَلَيْك وَرَسُوله ) مِنْ الْحَيْفِ بِمَعْنَى الْجَوْرِ أَيْ بِأَنْ يَدْخُل الرَّسُولُ فِي نَوْبَتِك عَلَى غَيْرِك وَذِكْرُ اللَّهِ لِتَعْظِيمِ الرَّسُولِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الرَّسُول لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ بِدُونِ إِذْنٍ مِنْ اللَّه تَعَالَى فَلَوْ كَانَ مِنْهُ جَوْرٌ لَكَانَ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى لَهُ فِيهِ وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَفِيهِ دَلَالَة عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ إِذْ لَا يَكُونُ تَرْكُهُ جَوْرًا إِلَّا إِذَا كَانَ وَاجِبًا
( وَقَدْ وَضَعْت ) بِكَسْرِ التَّاء لِخِطَابِ الْمَرْأَةِ
( أَهْل الدِّيَار ) أَيْ الْقُبُور تَشْبِيهًا لِلْقَبْرِ بِالدَّارِ فِي الْكَوْن مَسْكَنًا
( الْمُسْتَقْدِمِينَ ) أَيْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَا طَلَبَ فِي السِّينِ وَكَذَا الْمُسْتَأْخِرِينَ
( إِنْ شَاءَ اللَّه ) لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِلْمَوْتِ عَلَى الْإِيمَانِ .
حَاشِيَةُ السِّيُوطِيِّ :
( فَلَمْ يَلْبَث إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ ) أَيْ قَدَّرَ ذَلِكَ وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاء وَإِسْكَان الْيَاء وَبَعْدهَا مُثَلَّثَة
( وَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا ) أَيْ بِرِفْقٍ
( وَتَقَنَّعْت إِزَارِي ) قَالَ النَّوَوِيّ كَذَا فِي الْأُصُول بِغَيْرِ بَاء وَكَأَنَّهُ بِمَعْنَى لَبِسْت إِزَارِي فَلِذَا عُدِّيَ بِنَفْسِهِ
( فَأَحْضَرَ ) بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَضَاد مُعْجَمَة أَيْ عَدَا وَالْإِحْضَار وَالْحُضْر بِالضَّمِّ الْعَدْو
( مَا لَك يَا عَائِشَة حَشْيَا ) بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الشِّين الْمُعْجَمَة مَقْصُور قَالَ فِي النِّهَايَة أَيْ مَا لَك قَدْ وَقَعَ عَلَيْكِ الْحَشَا وَهُوَ الرَّبْو وَالنَّهَج الَّذِي يَعْرِض لِلْمُسْرِعِ فِي مَشْيه وَالْمُحْتَدّ فِي كَلَامه مِنْ اِرْتِفَاع النَّفَس وَتَوَاتُره يُقَال رَجُل حَشٍ وَحَشْيَان
( رَابِيَة ) أَيْ مُرْتَفِعَة الْبَطْن
( قَالَتْ لَا ) فِي مُسْلِم لَا شَيْء وَفِي رِوَايَة لَا بِي شَيْء
( وَأَنْتَ السَّوَاد ) أَيْ الشَّخْص
( فَلَهَزَنِي ) بِالزَّايِ أَيْ دَفَعَنِي وَاللَّهْز الضَّرْب بِجَمْعِ الْكَفّ فِي الصَّدْر وَرُوِيَ فَلَهَدَنِي بِالدَّالِ الْمُهْمَلَة قَالَ النَّوَوِيّ : وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ قَالَ وَيَقْرَب مِنْهُمَا لَكَزَهُ وَوَكَزَهُ .
شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 377)
3902 -
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْله ( لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي هُوَ عِنْدِي ) أَيْ بِلَيْلَةٍ مِنْ جُمْلَة اللَّيَالِي الَّتِي كَانَ فِيهَا عِنْدِي
( اِنْقَلَبَ ) رَجَعَ مِنْ صَلَاة الْعِشَاء
( إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ ) بِفَتْحِ رَاءٍ وَسُكُون يَاء بَعْدهَا مُثَلَّثَة أَيْ قَدْرَ مَا ظَنَّ
( رُوَيْدًا ) أَيْ بِرِفْقٍ
( وَأَجَافَهُ ) أَيْ رَدَّهُ
( وَتَقَنَّعْت إِزَارِي ) كَذَا فِي الْأُصُول بِغَيْرِ يَاء وَكَأَنَّهُ بِمَعْنَى لَبِسْت إِزَارِي فَلِذَا عَدَّى بِنَفْسِهِ
( فَأَحْضَرَ ) مِنْ الْإِحْضَار بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَضَاد مُعْجَمَة بِمَعْنَى الْعَدُوّ
( وَلَيْسَ إِلَّا أَنْ اِضْطَجَعْت ) أَيْ وَلَيْسَ بَعْدَ الدُّخُول مِنِّي إِلَّا الِاضْطِجَاع فَالْمَذْكُورُ اِسْم لَيْسَ وَخَبَرهَا مَحْذُوف
( عَائِش ) تَرْخِيم وَاخْتِصَار بِهِ ظَهَرَ أَنَّهُ قَدْ يُزَادُ عَلَى التَّرْخِيم بِالِاخْتِصَارِ فِي الْوَسَط عِنْد ظُهُور الدَّلِيل عَلَى الْمَحْذُوف
( رَابِيَة ) مُرْتَفِعَة الْبَطْن
( حَشْيَا ) بِفَتْحِ حَاء مُهْمَلَة وَسُكُون شِين مُعْجَمَة مَقْصُور أَيْ مُرْتَفِع النَّفْس مُتَوَاتِره كَمَا يَحْصُلُ لِلْمُسْرِعِ فِي الْمَشْي
( لَتُخْبِرِنِّي ) بِفَتْحِ لَام وَنُون ثَقِيلَة مُضَارِع لِلْوَاحِدَةِ الْمُخَاطَبَة مِنْ الْإِخْبَار فَتُكْسَرُ الرَّاء هَاهُنَا وَتُفْتَحُ فِي الثَّانِي
( فَلَهَدَنِي ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَة مِنْ اللَّهْد وَهُوَ الدَّفْعُ الشَّدِيدُ فِي الصَّدْر وَهَذَا كَانَ تَأْدِيبًا لَهَا مِنْ سُوءِ الظَّنِّ
( أَنْ يَحِيفَ اللَّه عَلَيْك وَرَسُوله ) مِنْ الْحَيْف بِمَعْنَى الْجَوْر أَيْ بِأَنْ يَدْخُلَ الرَّسُولُ فِي نَوْبَتِك عَلَى غَيْرك وَذِكْرُ اللَّهِ لِتَعْظِيمِ الرَّسُولِ وَالدَّلَالَة عَلَى أَنَّ الرَّسُول لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ بِدُونِ إِذْن مِنْ اللَّه تَعَالَى وَلَوْ كَانَ مِنْهُ جَوْر لَكَانَ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى لَهُ فِيهِ وَهَذَا غَيْر مُمْكِن وَفِيهِ دَلَالَة عَلَى أَنَّ الْقَسَم عَلَيْهِ وَاجِب إِذْ لَا يَكُونُ تَرْكُهُ جَوْرًا إِلَّا إِذَا كَانَ وَاجِبًا
( وَقَدْ وَضَعْت ) بِكَسْرِ التَّاء لِخِطَابِ الْمَرْأَة .(1/24)
25-7880- مكرر- أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " فَقَدْتَهُ مِنَ اللَّيْلِ ، فَتَبِعْتُهُ فَإِذَا هُوَ بِالْبَقِيعِ " قَالَ : " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ ، وَإِنَّا لَاحِقُونَ ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ " قَالَتْ : ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ : " وَيْحَهَا ، لَوْ تَسْتَطِيعُ مَا فَعَلَتْ "(1)
__________
(1) - أخرجه أحمد برقم(25159و25209و25542) والفوائد الشهير برقم(964) والمسند الجامع برقم(16393) وابن ماجة برقم(1613) والدعاطب ( 1235 - 1245 ) من طرق عنها وعن أبي هريرة وبريدة حديث حسن صحيح
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 6 / ص 29)
قال الخطابي فيه والسلام على الموتى كالسلام على الأحياء في تقديم الدعاء على الاسم خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية من تقديم الاسم على الدعاء قال الحماسي عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما يؤيده قوله تعالى رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت هود وقوله عز وجل سلام على آل ياسين الصافات ونحوه وفيه أبلغ الرد بل لبعض الشافعية وغيرهم أن الأولى عليكم السلام لأنهم ليسوا أهلا للخطاب مع ظهور بطلان تعليلهم ولا فرق من حيث الخطاب بين تقدمه وتأخره على أن الصواب أن الميت أهل للخطاب مطلقا لما سبق من حديث ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام وأما قوله لمن قال عليك السلام إن عليك السلام تحية الموتى فإخبار عن عادتهم السابقة أو المراد بالموتى كفار الجاهلية أي تحية موتى القلوب فلا تفعلوه أهل الديار بالنصب على النداء ويؤيده ما في الرواية الآتية بياء النداء وقال ابن حجر نصبه على الاختصاص أفصح وبالجر على البدل من الضمير قال الطيبي سمى موضع القبور دارا لاجتماعهم فيه كالأحياء في الديار من المؤمنين بيان لأهل الديار والمسلمين ذكره للتأكيد باعتبار تغاير الوصفين أو المراد بالمسلمين المخلصين لوجهه تعالى وإنا إن شاء الله بكم للاحقون وفي نسخة لاحقون قيل معناه إن شاء الله تعالى وقيل إن شرطية ومعناه لاحقون بكم في الموافاة على الإيمان وقيل هو للتبرك والتفويض كقوله تعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين الفتح وقيل هو للتأديب عن أحمد بن يحيى استثنى الله تعالى فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون وأمر بذلك في قوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله الكهف ذكره الطيبي وقيل التعليق باعتبار اللحوق بخصوص أهل المقبرة ذكره الطيبي نسأل الله لنا ولكم العافية أي الخلاص من المكاره رواه مسلم قال ميرك ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه اه وزاد ابن ماجه وأنا بكم لاحقون اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم اه ولا بأس أن يزيد واغفر لنا ولهم وفي رواية زيادة أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع والأولى أن يقول ذلك قبالة وجه الميت قبل جلوسه كما في رواية الفصل الثاني عن ابن عباس قال مر النبي بقبور بالمدينة فأقبل عليهم أي على أهل القبور وفيه دلالة على أن المستحب في حال السلام على الميت أن يكون وجهه لوجه الميت وأن يستمر كذلك في الدعاء أيضا وعليه عمل عامة المسلمين خلافا لما قاله ابن حجر من أن السنة عندنا أنه حالة الدعاء يستقبل القبلة كما علم من أحاديث أخر في مطلق الدعاء اه وفيه أن كثيرا من مواضع الدعاء ما وقع استقباله للقبلة منها ما نحن فيه ومنها حالة الطواف والسعي ودخول المسجد وخروجه وحال الأكل والشرب وعيادة المريض وأمثال ذلك فيتعين أن يقتصر الاستقبال وعدمه على المورد إن وجدوا لا فخير المجالس ما استقبل القبلة كما ورد به الخبر وأما ما فعله بعض السلف بعد الزيارة النبوية من استقبال القبلة للأدعية فهو أمر زائد لا مسطور فيه للأئمة بوجهه قال المظهر واعلم أن زيارة الميت كزيارته في حال حياته يستقبله بوجهه فإن كان في الحياة إذا زاره يجلس منه على البعد لكونه عظيم القدر فكذلك في زيارته يقف أو يجلس على البعد منه وإن كان يجلس منه على القرب في حياته كذلك يجلس بقربه إذا زاره اه وإذا زاره يقرأ فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد ثلاث مرات ثم يدعو له ولا يمسحه ولا يقبله فإن ذلك من عادة النصارى وقال بعض العلماء لا بأس بتقبيل قبر الوالدين فقال السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم قدم مغفرة الله له على مغفرته للميت إعلاما بتقديم دعاء الحي على الميت والحاضر على الغائب أنتم سلفنا بفتحتين في النهاية هو من سلف المال كأنه أسلفه وجعله ثمنا للأجر على الصبر عليه وقيل سلف الإنسان من تقدمه بالموت من الآباء وذوي القرابة ولذا سمى الصدر الأول من التابعين بالسلف الصالح اه وتعقبه ابن حجر بأن الصدر الأول من الصحابة والتابعين وتابعيهم هم السلف الصالح اه وهو مردود بأنه لا مشاحة للاصطلاح والصحابة مخصوصون بالنسبة الشريفة والسلف الصالح لا شك إنهم التابعون والخلف الصالح هم التبع والمصنف جعل في أول الكتاب السلف عبارة عن الصحابة لأنهم السلف حقيقة والخلف من بعدهم من التابعين وأتباعهم ووهم ابن حجر هناك فنبهت على ذلك ونحن بالأثر بفتحتين وفي نسخة بكسر الهمزة وسكون المثلثة يعني تابعون لكم من ورائكم لاحقون بكم رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 5 / ص 469)
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ - وَفَّقَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِمَرْضَاتِهِ - فِي الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ هَلْ تَصِلُ إلَيْهِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَالْأُجْرَةُ عَلَى ذَلِكَ وَطَعَامُ أَهْلِ الْمَيِّتِ لِمَنْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ وَالصَّدَقَةُ عَنْ الْمَيِّتِ أَيُّهُمَا الْمَشْرُوعُ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ ؟ وَالْمَسْجِدُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقُبُورِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ وَمَا يُعْلَمُ هَلْ بُنِيَ قَبْلَ الْقُبُورِ ؟ أَوْ الْقُبُورُ قَبْلَهُ ؟ وَلَهُ ثَلَاثٌ : رِزْقٌ وَأَرْبَعُمِائَةِ اصددمون قَدِيمَةٌ مِنْ زَمَانِ الرُّومِ مَا هُوَ لَهُ بَلْ لِلْمَسْجِدِ وَفِيهِ الْخُطْبَةُ كُلَّ جُمُعَةٍ وَالصَّلَاةُ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَلَهُ كُلَّ سَنَةٍ مَوْسِمٌ يَأْتِي إلَيْهِ رِجَالٌ كَثِيرٌ وَنِسَاءٌ وَيَأْتُونَ بِالنُّذُورِ مَعَهُمْ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي الْبَلَدِ ؟ أَفْتُونَا يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ مَأْجُورِينَ .
الْجَوَابُ
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْقَبْرِ فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَد فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَرَخَّصَ فِيهَا فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَوْصَى أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ دَفْنِهِ بِفَوَاتِحِ الْبَقَرَةِ وَخَوَاتِمِهَا . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ أَوْصَى عِنْدَ قَبْرِهِ بِالْبَقَرَةِ وَهَذَا إنَّمَا كَانَ عِنْدَ الدَّفْنِ فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا فُرِّقَ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ حِينَ الدَّفْنِ وَالْقِرَاءَةِ الرَّاتِبَةِ بَعْدَ الدَّفْنِ فَإِنَّ هَذَا بِدْعَةٌ لَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَيُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } . فَالْمَيِّتُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُثَابُ عَلَى سَمَاعٍ وَلَا غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ وَيَسْمَعُ سَلَامَ الَّذِي يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَيَسْمَعُ غَيْرَ ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَمَلٌ غَيْرُ مَا اسْتَثْنَى . وَأَمَّا بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَتُسَمَّى " مَشَاهِدَ " فَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ ؛ بَلْ جَمِيعُ الْأُمَّةِ يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا } . قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } . وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَشَاهِدِ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهَا لَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ . وَلَا فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ وَنَحْوِهَا فَضِيلَةٌ عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ فَضْلًا عَنْ الْمَسَاجِدِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَهَا فِيهَا فَضْلٌ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهَا أَوْ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ فَقَدْ فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَمَرَقَ مِنْ الدِّينِ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ وَإِنْ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ : هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهَةٌ ؟ أَوْ مُبَاحَةٌ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَنْبُوشَةِ وَالْقَدِيمَةِ فَذَلِكَ لِأَجْلِ تَعْلِيلِ النَّهْيِ بِالنَّجَاسَةِ لِاخْتِلَاطِ التُّرَابِ بِصَدِيدِ الْمَوْتَى . وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ . قَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَلِهَذَا لَا يُشْرَعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنْذَرَ لِلْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ لَا زَيْتٌ وَلَا شَمْعٌ وَلَا دَرَاهِمُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَلِلْمُجَاوِرِينَ عِنْدَهَا وَخُدَّامِ الْقُبُورِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَعَنَ مَنْ يَتَّخِذُ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ ، وَمَنْ نَذَرَ ذَلِكَ فَقَدْ نَذَرَ مَعْصِيَةً ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَهِيَ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . لَكِنْ إنْ تَصَدَّقَ بِالنَّذْرِ فِي الْمَشَاهِدِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَ بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ فِي ذَلِكَ وَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْقُلَ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَخُطَبَهُمْ مِنْ مَسْجِدٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ إلَى مَشْهَدٍ مِنْ مَشَاهِدِ الْقُبُورِ وَنَحْوِهَا . بَلْ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الضَّلَالَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ حَيْثُ تَرَكُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَفَعَلُوا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَتَرَكُوا السُّنَّةَ وَفَعَلُوا الْبِدْعَةَ تَرَكُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَارْتَكَبُوا مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ يَجِبُ إعَادَةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ { أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } . وَأَمَّا الْقُبُورُ الَّتِي فِي الْمَشَاهِدِ وَغَيْرِهَا فَالسُّنَّةُ لِمَنْ زَارَهَا أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمَيِّتِ وَيَدْعُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقُولُوا إذَا زَارُوا الْقُبُورَ : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ عَنْ قَرِيبٍ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } . وَأَمَّا التَّمَسُّحُ بِالْقَبْرِ أَوْ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ أَوْ قَصْدُهُ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ عِنْدَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ الدُّعَاءَ هُنَاكَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ فِي غَيْرِهِ أَوْ النَّذْرُ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُوَ مِمَّا أُحْدِثَ مِنْ الْبِدَعِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شُعَبِ الشِّرْكِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 5 / ص 475)
بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْمَشْرُوعِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ ؟ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : أَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ : فَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ : شَرْعِيَّةٌ وَبِدْعِيَّةٌ . فَالشَّرْعِيَّةُ : مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَالْمَقْصُودُ بِهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ كَمَا يُقْصَدُ بِذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَتِهِ . كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُ أَهْلَ الْبَقِيعِ وَيَزُورُ شُهَدَاءَ أُحُدٍ وَيُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } . وَهَكَذَا كُلُّ مَا فِيهِ دُعَاءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ : كَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّلَامِ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَا مِنْ مُسْلِمٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَأَمَّا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ : وَهِيَ زِيَارَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ جِنْسِ زِيَارَةِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقْصِدُونَ دُعَاءَ الْمَيِّتِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ وَطَلَبَ الْحَوَائِجِ عِنْدَهُ فَيُصَلُّونَ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَدْعُونَ بِهِ فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ قَدْ سَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بَابَ الشِّرْكِ " . فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا } قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ . لَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا ، وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . فَالزِّيَارَةُ الْأُولَى مِنْ جِنْسِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِحْسَانِ إلَى خَلْقِ اللَّهِ وَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الزَّكَاةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا . وَالثَّانِي : مِنْ جِنْسِ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَالظُّلْمِ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ وَفِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ وَصَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى وَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالتَّابِعُونَ يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ كَرِهَ الْأَئِمَّةُ وُقُوفَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلدُّعَاءِ وَقَالُوا هَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ بَلْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ ثُمَّ يَذْهَبُونَ . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتَاهُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَنَصَّ أَبُو يُوسُف وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ بِمَخْلُوقِ لَا النَّبِيِّ وَلَا الْمَلَائِكَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ . وَقَدْ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ جَدْبٌ وَشِدَّةٌ وَكَانُوا يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَسْقُونَ وَيَدْعُونَ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَيَسْتَنْصِرُونَ وَيَتَوَسَّلُونَ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ : بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ } . وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا صَالِحٍ وَلَا الصَّلَاةَ عِنْدَهُ وَلَا طَلَبَ الْحَوَائِجِ مِنْهُ وَلَا الْإِقْسَامَ عَلَى اللَّهِ بِهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : أَسْأَلُك بِحَقِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ ؛ بَلْ كُلُّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ طِبَاقِ الْأُمَّةِ .
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 2 / ص 190)
( 306) وسئل رعاه الله بمنه وكرمه : هل ترد أرواح الموتى إليهم يومي الاثنين والخميس ليردوا السلام على الزوار؟ .
فأجاب بقوله : هذا لا أصل له وزيارة المقابر مشروعة كل وقت لقول النبي ، صلى الله عليه وسل،: "زوروا القبور فإنهم تذكركم الآخرة" . وينبغي للزائر أن يفعل ما كان يفعله النبي ، صلى الله عليه وسلم ، من السلام عليهم دون القراءة فقد كان مما يقوله ،صلى الله عليه وسلم: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم للاحقون يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم" . ولا تنبغي القراءة على القبر لأن ذلك لم يرد عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وما لم يرد عنه فإنه لاينبغي للمؤمن أن يعمله .
واعلم ان المقصود بالزيارة أمران:
أحدهما : انتفاع الزائر بتذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ ، فإن هؤلاء القوم الذين هم الآن في بطن الأرض ، كانوا بالأمس على ظهرها وسيجري لهذا الزائر ما جرى لهم ، فيعتبر ويغتنم الأوقات والفرص ، ويعمل لهذا اليوم الذي سيكون في هذا المثوى الذي كان عليه هؤلاء .
وثانيهما : الدعاء لأهل القبور بما كان الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، يدعو به من السلام وسؤال الرحمة ، وأما أن يسأل الأموات ويتوسل بهم فإن هذا محرم ومن الشرك ؛ ولا فرق في هذا بين قبر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وقبر غيره فإنه لا يجوز أن يتوسل أحد بقبر النبي ، عليه الصلاة والسلام ، أو بالنبي ، صلى الله عليه وسلم ، بعد موته فإن هذا من الشرك
لأنه لو كان هذا حقاً لكان أسبق الناس إليه الصحابة- رضي الله عنهم- ومع ذلك فإنهم لا يتوسلون به بعد موته فقد استسقى عمر -رضي الله عنه - ذات يوم فقال:"اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" ثم قام العباس - رضي الله عنه - فدعا وهذا دليل على أنه لا يتوسل بالميت مهما كانت درجته ومنزلته عند الله - تعالى - وإنما يتوسل بدعاء الحي الذي ترجى إجابة دعوته ؛ لصلاحه واستقامته في دين الله - عز وجل - فإذا كان الرجل ممن عرف بالدين والاستقامة وتوسل بدعائه، فإن هذا لا بأس به كما فعل أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - ، وأما الأموات فلا يتوسل بهم أبداً ، ودعاؤهم شرك أكبر مخرج من الملة قال الله - تعالى - : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين(
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8387)
«زيارة قبر الكافر»
2 - ذكر الشّافعيّة والحنابلة أنّ زيارة قبر الكافر جائزة.
وقال الماورديّ : تحرم زيارة قبر الكافر.
قال الحنابلة : ولا يسلّم من زار قبر كافر عليه ، ولا يدعو له بالمغفرة.
«شدّ الرّحال لزيارة القبور»
3 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّه يجوز شدّ الرّحل لزيارة القبور ، لعموم الأدلّة ، وخصوصاً قبور الأنبياء والصّالحين.
ومنع منه بعض الشّافعيّة ، وابن تيميّة - من الحنابلة - لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى » ، وأخرج أحمد في المسند عن عمر بن عبد الرّحمن بن الحارث قال : « لقي أبو بصرة الغفاريّ أبا هريرة ، وهو جاء من الطّور فقال : من أين أقبلت ؟ قال : من الطّور ، صلّيت فيه.
قال أما لو أدركتك قبل أن ترحل إليه ما رحلت ، إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ».
ونقل ابن تيميّة هذا المذهب عن بعض الصّحابة والتّابعين.
وحمل القائلون بالجواز الحديث على أنّه خاصّ بالمساجد ، فلا تشدّ الرّحال إلاّ لثلاثة منها.
بدليل جواز شدّ الرّحال لطلب العلم وللتّجارة ، وفي رواية « لا ينبغي للمطيّ أن تشدّ رحاله إلى مسجد ينبغي فيه الصّلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ».
«زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم»
4 - لا خلاف بين العلماء في استحباب زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفي زيارة قبور الأنبياء والأولياء تفصيل ينظر في «زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم» .
«آداب زيارة القبور»
5 - قال الحنفيّة : السّنّة زيارتها قائمًا ، والدّعاء عندها قائماً ، كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البقيع ، ويقول : « السّلام عليكم يا أهل القبور ، يغفر اللّه لنا ولكم ، أنتم سلفنا ونحن بالأثر ».
- أو يقول : « السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء اللّه بكم للاحقون ، نسأل اللّه لنا ولكم العافية » ثمّ يدعو قائماً ، طويلاً.
وفي شرح المنية : يدعو قائماً مستقبل القبلة ، وقيل : يستقبل وجه الميّت.
وقال الشّافعيّة : يندب أن يقول الزّائر : سلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون ، اللّهمّ لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنّا بعدهم ، وأن يقرأ ما تيسّر من القرآن ويدعو لهم ، وأن يسلّم على المزور من قبل وجهه ، وأن يتوجّه في الدّعاء إلى القبلة ، وعن الخراسانيّين إلى وجهه ، وعليه العمل.
وقال الحنابلة : سنّ وقوف زائر أمامه قريباً منه ، وقول السّلام عليكم دار قوم مؤمنين ، أو أهل الدّيار من المؤمنين ، وإنّا إن شاء اللّه بكم للاحقون ، ويرحم اللّه المستقدمين منكم أخرين ، نسأل اللّه لنا ولكم العافية ، اللّهمّ لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنّا بعدهم ، واغفر لنا ولهم.
وفي القنية من كتب الحنفيّة : قال أبو اللّيث : لا نعرف وضع اليد على القبر سنّةً ولا مستحبّاً ولا نرى بأساً ، وعن جار اللّه العلّامة : إنّ مشايخ مكّة ينكرون ذلك ، ويقولون : إنّه عادة أهل الكتاب ، وفي إحياء علوم الدّين : إنّه من عادة النّصارى.
قال شارح المنية : لا شكّ أنّه بدعة ، لا سنّة فيه ولا أثر عن صحابيّ ولا عن إمام ممّن يعتمد عليه فيكره ، ولم يعهد الاستلام في السّنّة إلاّ للحجر الأسود ، والرّكن اليمانيّ خاصّةً.
وقال الحنابلة : لا بأس بلمس قبر بيد لا سيّما من ترجى بركته ، وقال ابن تيميّة : اتّفق السّلف على أنّه لا يستلم ولا يقبّل إلاّ الحجر الأسود ، والرّكن اليمانيّ يستلم ولا يقبّل.(1/25)
26- 7681 أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيِّ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا قَالَتْ : " وَتَزَوَّجَنِي بَعْدَهَا بِثَلَاثِ سِنِينَ "(1)
__________
(1) - أخرجه البخاري برقم( 3816 - 3818 و 5229 و 6004 و 7484 ) ومسلم برقم(6430)
فتح الباري لابن حجر - (ج 11 / ص 132)
قَوْله : ( وَتَزَوَّجَنِي بَعْدهَا بِثَلَاثِ سِنِينَ )
قَالَ النَّوَوِيّ : أَرَادَتْ بِذَلِكَ زَمَن دُخُولهَا عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْعَقْد فَتَقَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ بِمُدَّةِ سَنَة وَنِصْف أَوْ نَحْو ذَلِكَ ، كَذَا قَالَ ، وَسَيَأْتِي فِي " بَاب تَزْوِيج عَائِشَة " مَا يُوَضِّح أَنَّ الْمُدَّة بَيْن الْعَقْد عَلَيْهَا وَالدُّخُول كَانَ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ .
قَوْله : ( وَأَمَرَهُ رَبّه عَزَّ وَجَلَّ أَوْ جِبْرِيل )
هُوَ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي هَذَا الْبَاب أَنَّ الْبِشَارَة بِذَلِكَ مِنْ اللَّه كَانَتْ عَلَى لِسَان جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام .
وَقَوْله فِيهِ : " وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَح الشَّاة ثُمَّ لِيُهْدِيَ فِي خُلَّتهَا مِنْهَا "
أَيْ مِنْ الشَّاة الْمَذْبُوحَة ، وَزَادَ فِي رِوَايَة اللَّيْث عَنْ هِشَام فِي فَضْل خَدِيجَة مَا يَسَعهُنَّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ بَيَان الِاخْتِلَاف فِي ضَبْط هَذِهِ اللَّفْظَة ، وَإِنْ مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة ، وَخُلَّتهَا بِضَمِّ الْمُعْجَمَة أَيْ خَلَائِلهَا . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : الْخُلَّة مَصْدَر يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّر وَالْمُؤَنَّث وَالْوَاحِد وَالْجَمَاعَة ، تَقُول : رَجُل خُلَّة وَامْرَأَة خُلَّة وَقَوْم خُلَّة ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فِيهِ مَحْذُوف تَقْدِيره : إِلَى أَهْل خُلَّتهَا ، أَيْ أَهْل صَدَاقَتهَا ، وَالْخُلَّة الصَّدَاقَة وَالْخَلِيل الصَّدِيق . قُلْت : وَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم مِنْ هَذَا الْوَجْه بِلَفْظِ " ثُمَّ نُهْدِيهَا إِلَى خَلَائِلهَا " وَسَبَقَ فِي الْمَنَاقِب مِنْ وَجْه آخَر عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة " وَإِلَى أَصْدِقَائِهَا " وَلِلْبُخَارِيِّ فِي " الْأَدَب الْمُفْرَد " مِنْ حَدِيث أَنَس " كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ ، بِالشَّيْءِ يَقُول : اِذْهَبُوا بِهِ إِلَى فُلَانَة فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَة لِخَدِيجَة " .
عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 23 / ص 283)
مطابقته للترجمة في حسن العهد وهو إهداء النبي صلى الله عليه وسلم اللحم لإخوان خديجة ومعارفها ورعبا منه لذمامها وحفظا لعهدها وقد أخرج الحاكم والبيهقي في الشعب من طريق صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف أنتم كيف حالكم كيف كنتم بعدنا قالت بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله فلما خرجت قلت يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال فقال يا عائشة إنها كانت تأتينا زمان خديجة وأن حسن العهد من الإيمان
وأبو أسامة حماد بن أسامة وهشام يروي عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة
والحديث مضى في المناقب في باب تزيج خديجة رضي الله عنها
قوله ما غرت كلمة ما فيه نافية وفي ماغرت ثانيا موصولة أي الذي غرت على خديجة قوله لما كنت يتعلق به أي لأجل ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها أي خديجة قوله من قصب أي قصب الدر وإصطلاح الجوهريين أن يقولوا قصب من اللؤلؤ كذا وقصب من الجوهر كذا ومن الدر كذا للخيط منه وقيل كان البيت من القصب تفاؤلا بقصب سبقها إلى الإسلام قوله وإن كان كلمة إن هذه مخففة من المثقلة وأصله وإنه كان ليذبح الشاة اللام فيه للتأكيد قوله في خلتها أي في أهل بيتها يعني أخلاءها وأحبابها وقال الخطابي الخلة ههنا بمعنى الأخلاء موضع المصدر وضع الإسم وأراد بالقصب قصب اللؤلؤ وهو المجوف منه ووقع في رواية مسلم ثم يهديها إلى خلائلها وتقدم في المناقب إلى أصدقائها
شرح ابن بطال - (ج 17 / ص 259)
قال المؤلف: حسن العهد فى هذا الحديث هو إهداء النبى عليه السلام اللحم لأجوار خديجة ومعارفها رعيًا منه لذمامها وحفظًا لعهدها كذلك قال أبو عبيد: العهد فى هذا الحديث الحفاظ ورعاية الحرمة والحق، فجعل ذلك البخارى من الإيمان؛ لأنه فعل بر وجميع أفعال البر من الإيمان.
وقولها: « ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت فى الجنة من قصب » فالقصب قصب اللؤلؤ، وهو مااستطال منه فى تجويف، وكل مجوف قصب.
وقولها: « ببيت » أى بقصر يقال: هذا بيت فلان أى قصره. قاله أبو سليمان الخطابى.
وقد روى أن خديجة قالت لرسول الله حين بشرها بذلك: « ما بيت من قصب؟ بيت من لؤلؤ مجبأة » وفسره ابن وهب قال يريد: مجوفة.
قال أبو سليمان: وهذا لا يستقيم على ما قاله ابن وهب إلا أن يكون من المقلوب فتكون مجوبة من الجوب وهو القطع قدم الباء على الواو كقوله تعالى: هار والصل هائر، وكقول الشاعر:
لاث به الشياء والعبرى وإنما هو لائث
وقوله: لاوصب فيه ولا نصب أى لا أذى فيه ولا عناء
شرح ابن بطال - (ج 20 / ص 157)
قال المهلب: استدل البخارى بقوله تعالى: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ: 23]. ولم يقل: ماذا خلق ربكم. على أن قوله تعالى قائم بذاته، صفة من صفاته، لم يزل موجودًا ولا يزال، وأنه لا يشبه كلام المخلوقين، وليس بذى حروف، خلافًا للمعتزلة التى نفت كلام الله تعالى، وقالت: إن كلامه كناية عن الفعل والتكوين، قالوا: وهذا سائغ فى كلام العرب، ألا ترى أن الرجل يعبر عن حركته بيده فيقول: قلت بيدى هكذا، وهم يريدون حركت يدى، ويحتجون بأنه كلام لا يعقل منا إلا بأعضاء ولسان، والبارى تعالى لا يجوز أن يكون له أعضاء وآلات الكلام؛ إذ ليس بجسم.
فرد البخارى عليهم بقوله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا قضى الله الأمر فى السماء، فزعت الملائكة وضربت بأجنحتها فكان لها صوت، كأنه سلسلة على صفوان خضعانًا » لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23]، أى أذهب الفزع عن قلوبهم، قالوا للذى فوقهم: ماذا قال ربكم؟ فدل ذلك على أنهم سمعوا قولا لم يفهموا معناه من أجل فزعهم، فقالوا: ماذا قال ربكم؟ ولم يقولوا: ماذا خلق ربكم، وأكد ذلك بما حكاه عن الملائكة أيضًا؟ {قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ: 23]، والحق إحدى صفتى القول الذى لا يجوز على الله غيره؛ لأنه لا يجوز على كلامه الباطل.
ولو كان القول منه خلقًا وفعلا لقالوا حين سألوا ماذا قال، أخلق خلقًا كذا، إنسانًا، أو جبلا، أو شيئًا من المخلوقات، فلما وصفوا قوله بما يوصف به الكلام من الحق، لم يجز أن يكون القول بمعنى الخلق والتكوين، وكذلك قوله لآدم: يا آدم، وهو كلام مسموع، ولو كان بمعنى الخلق والتكوين ما أجاب بلبيك وسعديك، التى هى جواب المسموعات، وكذلك قول عائشة: « ولقد أمره ربه أن يبشرها » هو كلام، وقول مسموع من الله تعالى ولو كان خلقًا لما فهم منه عن ربه له بالبشرى.(1/26)
الِانْتِصَارُ
27-7682أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَارُ الْبَصْرِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنِ الْبَهِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَا عَلِمْتُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَهِيَ غَضْبَى ، ثُمَّ قَالَتْ : لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَسْبُكَ إِذَا قَلَبَتْ لَكَ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ذُرَيْعَتَيْهَا ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيَّ فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دُونَكِ فَانْتَصِرِي فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا ، حَتَّى رَأَيْتُهَا قَدْ يَبِسَتْ رِيقُهَا فِي فِيهَا ، مَا تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ " (1)
__________
(1) - اعتلال القلوب برقم(608) وابن ماجة برقم(2057) وأحمد برقم(25357) صحيح لغيره
حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 4 / ص 228)
1971 - قَوْله ( مَا عَلِمْت ) أَيْ بِقِيَامِ الْأَزْوَاج الطَّاهِرَات عَلَيَّ فِي تَخْصِيص النَّاس بِالْهَدَايَا يَوْم عَائِشَة وَقَدْ جَاءَتْ فَاطِمَة قَبْل ذَلِكَ وَكَأَنَّهَا مَا صَرَّحَتْ بِتَمَامِ الْحَقِيقَة وَعِنْد مَجِيء زَيْنَب ظَهَرَ لَهَا تَمَام الْحَقِيقَة
قَوْله ( أَحْسَبُك ) الْهَمْزَة لِلِاسْتِفْهَامِ أَيْ أَيَكْفِيك فِعْل عَائِشَة حِين تَقْلِب لَك الذِّرَاعَيْنِ أَيْ كَأَنَّك لِشِدَّةِ حُبّك لَهَا لَا تَنْظُر إِلَى أَمْر آخَر
( إِذَا قَلَبَتْ ) هِيَ لَك الذِّرَاعَيْنِ
( بُنَيَّةُ أَبِي بَكْر ) تَصْغِير بِنْت وَهُوَ فَاعِل قَلَبَتْ
( ذُرَيْعَتَيْهَا ) الذُّرَيْعَة بِضَمِّ ذَال مُعْجَمَة وَتَشْدِيد يَاء تَصْغِير الذِّرَاع وَلُحُوق الْهَاء فِيهَا لِكَوْنِهَا مُؤَنَّثَة ثُمَّ تَثْنِيَة وَأُضِيف كَذَا فِي الْمَجْمَع وَالنِّهَايَة وَفِي بَعْض الْأُصُول بِلَا هَاء التَّأْنِيث عَلَى الْأَصْل
قَوْله ( دُونَك ) أَيْ خُذِيهَا
( فَانْتَصِرِي ) كَأَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَاز وَدَفْع الْخِصَام فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ مَحْمُود حَيْثُ يُرْجَى بِهِ دَفْع الْخِصَام وَإِلَّا فَالْعَفْو أَحْسَن
( حَتَّى رَأَيْتهَا ) أَيْ مِمَّا ذَكَرْت لَهَا مِنْ الْكَلَام الشَّدِيد وَفِي الزَّوَائِد إِسْنَاده صَحِيح وَرِجَاله ثِقَات وَزَكَرِيَّا بْن أَبِي زَائِدَة كَانَ يُدَلِّس .
طرح التثريب - (ج 7 / ص 185)
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهَا يَشْتِمُنِي بِكَسْرِ التَّاءِ وَالطَّرْفُ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ الْبَصَرُ .
قَالَ النَّوَوِيُّ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِعَائِشَةَ فِي ذَلِكَ وَلَا أَشَارَ بِعَيْنِهِ وَلَا غَيْرِهَا بَلْ لَا يَحِلُّ اعْتِقَادُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهَا انْتَصَرَتْ لِنَفْسِهَا فَلَمْ يَنْهَهَا ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : كَأَنَّ زَيْنَبَ لَمَّا بَدَأَتْهَا بِالْعَتْبِ وَاللَّوْمِ كَانَتْ كَأَنَّهَا ظَالِمَةٌ فَجَازَ لِعَائِشَةَ أَنْ تَنْتَصِرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } .
( قُلْت ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ النَّهْيِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ { عَائِشَةَ فَأَعْرَضْت عَنْهَا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَك فَانْتَصِرِي فَأَقْبَلْت عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتهَا قَدْ يَبِسَتْ رِيقُهَا فِي فِيهَا مَا تَرُدُّ عَلَى شَيْءٍ } وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا وَاقِعَةٌ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ .
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 1 / ص 472)
بين أمهات المؤمنين رضي الله عنهن
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 24/06/1425هـ
السؤال
إلى فضيلة الشيخ: - حفظه الله - كيف نجمع بين هذين الحديثين؟ الحديثان بالمعنى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخلت عليه إحدى أمهات المؤمنين ومعه غيرها منهن، فجعلت تسبها، فقال عليه الصلاة والسلام للتي عنده: دونك فانتصري".
والآخر: أن إحدى زوجاته عليه الصلاة والسلام جعلت تسب أخرى منهن وهي صامتة، ثم أخذت ترد عليها، فقال: "كان ملك يذب عنك فلما تكلمت ذهب وتركك".
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
الحديث الأول أخرجه باللفظ المذكور الإمام أحمد بإسناد حسن (24664) من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "مَا عَلِمْتُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَهِيَ غَضْبَى، ثُمَّ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَحْسِبُكَ إِذَا قَلَبَتْ لَكَ بُنَيَّةُ أَبِي
بَكْرٍ ذُرَيِّعَيْهَا ثُمَّ أَقْبَلَتْ إِلَيَّ فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دُونَكِ فَانْتَصِرِي"، فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا قَدْ يَبِسَ رِيقُهَا فِي فَمِهَا مَا تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ. وهذا الحديث أصله في الصحيحين البخاري (2581)، ومسلم ( 2442 ) بسياق مطول من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: " أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي مِرْطِي فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ وَأَنَا سَاكِتَةٌ قَالَتْ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَيْ بُنَيَّةُ أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟ فَقَالَتْ بَلَى قَالَ: فَأَحِبِّي هَذِهِ قَالَتْ فَقَامَتْ فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَرَجَعَتْ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ وَبِالَّذِي قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَقُلْنَ لَهَا مَا نُرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَقُولِي لَهُ إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا، قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ وَأَتْقَى لِلَّهِ وَأَصْدَقَ حَدِيثًا وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ وَأَعْظَمَ صَدَقَةً وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ، قَالَتْ فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا وَهُوَ بِهَا، فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ قَالَتْ ثُمَّ وَقَعَتْ بِي فَاسْتَطَالَتْ عَلَيَّ وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَرْقُبُ طَرْفَهُ هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا قَالَتْ: فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ، قَالَتْ: فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا حَتَّى أَنْحَيْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَبَسَّمَ إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ و حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ فِي الْمَعْنَى، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا أَنْ أَثْخَنْتُهَا غَلَبَةً " واللفظ لمسلم.
والحديث الثاني: حديث حسن، قد رواه جماعة من الصحابة ، فقد أخرجه أحمد(23796) من حديث النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَبَّ رَجُلٌ رجلاً عِنْدَهُ قَالَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمَسْبُوبُ يَقُولُ عَلَيْكَ السَّلَامُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " أَمَا إِنَّ مَلَكًا بَيْنَكُمَا يَذُبُّ عَنْكَ كُلَّمَا يَشْتُمُكَ هَذَا قَالَ لَهُ بَلْ أَنْتَ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيْكَ السَّلَامُ قَالَ لَا بَلْ لَكَ أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ" وأخرجه الإمام أحمد ( 9622 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَقَامَ فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ قَالَ إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ ثُمَّ قَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ ...." الحديث، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد(419) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما- وأخرجه عبد الرزاق مرسلاً(20255) من حديث زيد بن أثيع. ومن خلال استعراض هذه الأحاديث يتبين أن السباب وقع بين رجلين، وفي بعض هذه الأحاديث أن المسبوب أبو بكر -رضي الله عنه-، وليس كما ورد في السؤال أن السباب كان بين زوجتين من أزواج الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-والله أعلم. ولا تعارض بين الحديثين، فيجوز للإنسان أن ينتصر ممن ظلمه كما فعلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- مع أم المؤمنين زينب رضي الله عنها حينما نالت منها، وتطاولت عليها بالكلام، ولكن العفو والصفح أفضل إذا لم يكن في الانتصار مصلحة أكبر، قال الله -عز وجل-: "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ "إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ" [الشورى: 39-41]، والانتصار مشروط بشرطين:
1- القدرة على ذلك ، فإذا كان عاجزاً أو كان الانتصار يفضي إلى عدوان زائد أو مفسدة أكبر ترك، وهو أصل النهي عن الفتنة.
2- ألا يعتدي . قال الله عز وجل : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ" أخرجه مسلم (2587) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- وعلى هذا فالمباح في الانتصار أن يرد مثل ما قال الجاني، أو يقاربه لأنه قصاص، فلو قال له: يا كلب - مثلاً - فالانتصار أن يرد عليه بقوله: بل هو الكلب .وهكذا فلا يتجاوز المنتصر في السباب وغيره. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(1/27)
28- 7683 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ : حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبِي ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنِ الْبَهِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " مَا عَلِمْتُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَهِيَ غَضْبَى " ثُمَّ قَالَتْ : حَسْبُكَ إِذَا قَلَبَتْ لَكَ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ذُرَيْعَتَيْهَا ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيَّ فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دُونَكِ فَانْتَصِرِي ، فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا قَدْ يَبِسَتْ رِيقُهَا فِي فَمِهَا فَمَا رَدَّتْ عَلَيَّ شَيْئًا ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ " خَالَفَهُ إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ، عَنْ زَكَرِيَّا ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنِ الْبَهِيِّ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَا عَلِمْتُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَهِيَ غَضْبَى . . . . . . . فَذَكَرَ نَحْوَهُ(1)
29-7684 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : زَارَتْنَا سَوْدَةُ يَوْمًا فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا إِحْدَى رِجْلَيْهِ فِي حِجْرِي ، وَالْأُخْرَى فِي حِجْرِهَا ، فَعَمِلْتُ لَهَا حَرِيرَةً ، أَوْ قَالَ : " خَزِيرَةً " فَقُلْتُ : كُلِي ، فَأَبَتْ فَقُلْتُ : " لَتَأْكُلِي ، أَوْ لَأُلَطِّخَنَّ وَجْهَكِ ، فَأَبَتْ ، فَأَخَذْتُ مِنَ الْقَصْعَةِ شَيْئًا فَلَطَّخْتُ بِهِ وَجْهَهَا ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجْلَهُ مِنْ حِجْرِهَا تَسْتَقِيدُ مِنِّي ، فَأَخَذَتْ مِنَ الْقَصْعَةِ شَيْئًا فَلَطَّخَتْ بِهِ وَجْهِي ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ ، فَإِذَا عُمَرُ يَقُولُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قُومَا فَاغْسِلَا وُجُوهَكُمَا ، فَلَا أَحْسِبُ عُمَرَ إِلَّا دَاخِلًا "(2)
__________
(1) - صحيح انظر ما قبله وانظر المسند الجامع برقم(16714)
(2) - المسند الجامع برقم(6713) والمجمع برقم( 6783) وفضائل الصحابة برقم(483) وهو حديث حسن
المنهج النبوي في التعامل مع النساء
لقد أمر الله تعالى بأن يُعاشر النساء بالمعروف فقال جل ذكره: (وعاشروهن بالمعروف)، والمعروف كلمة جامعة لكل فعل وقول وخلق نبيل يقول الحافظ بن كثير رحمه الله في التفسير: أي طيبوا أقوالكم لهن وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله كما قال تعالى: ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر يداعب أهله ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته ويضاحك نساءه''.
لقد كان عليه الصلاة والسلام القدوة الحسنة لأمته، والنموذج البشري الكامل قال جلّ ذكره: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، والحديث عن هديه عليه الصلاة والسلام مع النساء حديث طويل متشعب ولا غرو فقد أوضح لأمته: (أنهن شقائق الرجال)، ولعلي أقصر حديثي عن هديه الشريف مع نسائه، أو بعبارة أخرى: كيف عاش عليه الصلاة والسلام زوجا؟ وكيف تعامل مع نسائه؟ وكيف راعى نفسياتهن؟ وماهي وصاياه وإرشاداته للرجال بضرورة رعاية حقهن زوجات، وأمهات لأولادهم؟ وحسبي أن أسوق بعض الأحاديث دون شرح أو تعليق فهي كافية في إيضاح المراد مكتفيا بالإشارة إلى بعض ماتدل عليه تلك الأحاديث الشريفة:
* فقد أوصى بهن خيرا في نصوص كثيرة: منها حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة)، وحديث أبي ذر عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة خلقت من ضلع فإن أقمتها كسرتها فدارها تعش بها). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خيارهم لنسائهم) وفي لفظ (وألطفهم بأهله).
وعن بهز قال حدثني أبي عن جدي قال قلت يا رسول الله نساؤنا ما نأتي منها و ما ندع؟ قال: حرثك أنى شئت غير أن لا تقبح الوجه ولا تضرب وأطعمها إذا طعمت واكسها إذا اكتسيت ولا تهجرها إلا في بيتها كيف وقد أفضى بعضكم إلى بعض إلا بما حل عليها
* وخوّف ورهّب من تزوج بأكثر من واحدة ثم لم يعدل بينهن: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل).
* وأرشد بفعاله ومقاله إلى أهمية مراعاة ما طبعن عليه من الغيرة: عن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم عند إحدى أمهات المؤمنين فأرسلت أخرى بقصعة فيها طعام فضربت يد الرسول فسقطت القصعة فانكسرت فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل يجمع فيها الطعام ويقول غارت أمكم كلوا فأكلوا فأمر حتى جاءت بقصعتها التي في بيتها فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وترك المكسورة في بيت التي كسرتها)، وعن عائشة قالت: ( افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه فتحسست ثم رجعت فإذا هو راكع أو ساجد يقول سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت فقلت بأبي وأمي إنك لفي شأن وإني لفي آخر)، وقالت أيضاً: ( التمست رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخلت يدي في شعره فقال قد جاءك شيطانك فقلت أما لك شيطان؟ قال: بلى، ولكن الله أعانني عليه فأسلم).
* وكان وفيا لبعض نسائه غاية الوفاء حتى بعد وفاتهن: فعن عائشة قالت: (ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لها قالت وتزوجني بعدها بثلاث سنين).
* كما كان عليه الصلاة والسلام يتيح لهن أن ينفذن شيئا من غيرتهن بحيث لا يتجاوزن الحد المشروع، ويضفي على سلوكهن ذلك المرح والابتسامة: فعن أبي سلمة قال: قالت عائشة: ''زارتنا سودة يوما فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينها إحدى رجليه في حجري والأخرى في حجرها فعملت لها حريرة أو قال خزيرة فقلت كلي فأبت فقلت لتأكلي أو لألطخن وجهك فأبت فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهها فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله من حجرها تستقيد مني فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فإذا عمر يقول: يا عبد الله بن عمر يا عبد الله بن عمر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ''قوما فاغسلا وجوهكما فلا أحسب عمر إلا داخلا''.
* بل إنه عليه الصلاة والسلام بيّن لأمته أن اللهو واللعب مع الزوجة مما يثاب عليه الرجل ، بل لا يعد من اللهو أصلا: ففي حديث عطاء بن أبي رباح قال: رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عمير الأنصاريين يرميان فمل أحدهما فجلس فقال الآخر كسلت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل شيء ليس من ذكر الله فهو لغو ولهو إلا أربعة خصال مشي بين الغرضين وتأديبه فرسه وملاعبته أهله وتعليم السباحة ) .
* وكان يراعي فيهن حالهن والسن التي كان عليها بعضهن: فعن عائشة قالت: (كنت ألعب بالبنات فربما دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصواحباتي عندي فإذا رأين رسول الله صلى الله عليه وسلم فررن فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنت وكما أنتن).
* وكان إذا بدر منهن شيء يسوؤه لم يكن يقابله إلا بالحكمة واللطف: فعن أنس بن مالك قال كانت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكان ذلك يومها فأبطت في المسير فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي وتقول حملتني على بعير بطيء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه عينيها ويسكتها فأبت إلا بكاء فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركها فقدمت فأتت عائشة فقالت يومي هذا لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنت أرضيتيه عني فعمدت عائشة إلى خمارها وكانت صبغته بورس وزعفران فنضحته بشيء من ماء ثم جاءت حتى قعدت عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك فقالت ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث فرضي عن صفية وانطلق إلى زينب فقال لها إن صفية قد أعيا بها بعيرها فما عليك أن تعطيها بعيرك قالت زينب أتعمد إلى بعيري فتعطيه اليهودية فهاجرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر فلم يقرب بيتها وعطلت زينب نفسها وعطلت بيتها وعمدت إلى السرير فأسندته إلى مؤخر البيت وأيست أن يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هي ذات يوم إذا بوجس رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل البيت فوضع السرير موضعه فقالت زينب يا رسول الله جاريتي فلانة قد طهرت من حيضتها اليوم هي لك فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها).
----------
* عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بجدة
د.محمد علي الغامدي
-------------------------
فن التعامل مع الزوجة - طبقوه وأفرحوا بزوجاتكم
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأحبة: الزواج كلمة يرقص القلب لها طربا ,وينشرح الصدر لها طلبا, وهي نعمة من أعظم نعم الله عز وجل على عباده.
قال تعالى:
(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
وركنا هذا الزواج هما الزوج والزوجة جمع الله بين هذين القلبين الغريبين وجعل بينهما مودة ورحمة وطمأنينة وسكينة وراحة واستقرارا وأنسا وسعادة وجعل القوامة بيد الرجل فقال عز وجل :
(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) .
وحديثي الليلة إلى صاحب هذه المملكة الصغيرة نعم فالزوج ملك لهذه الأسرة الصغيرة فيا أيها الملك إن أردت السعادة لهذه المملكة الصغيرة وأردت الاستقرار والراحة النفسية فلا بد من تحقيق هذه القوامة بأركانها وشروطها وآدابها الشرعية.
معنى القوامة في أسمى مراتبها أن يحفظ المرء أنثاه ويكفيها
وإن تَخَلَّى فهل تغني قوامته هذا الذي يرخص الأنثى ويرديها
إذاً فلا بد أن تختار من عقلت كفئا لتحفظ مرساها ومجريها
شكا بعض الإخوة حالهم مع أزواجهم, فقائل يقول: أين السعادة والراحة النفسية فإنني لم أشعر بشيء من ذلك .
وقائل يقول: لم أعد أطيق تصرفاتها وحنقها،
وقائل آخر: أزعجتني بكثرة خروجها وزياراتها .
وقائل آخر يقول أرهقتني بكثرة طلباتها ومصاريفها .
وقائل: تعبت من كثرة هجرها للفراش وتمنعها ،
وقائل: لم أعد أري ذلك الجمال ولا التجمل إلا في المناسبات والأفراح وقائل يقول: لا تهتم بأولادها وتربيتهم ومتابعتهم ،
وقائل: تعبت من إلحاحها بجلب خادمة أعتورها وأفتن بها ،
وقائل : لا تهتم بي ولا ترعى خاطري ،
وقائل: لم اسمع منها كلمة طيبة أو عبارة رقيقة
وقائل : لم أعد أطيق فسأطلق .......
وغير ذلك مما تسمعون و تقرءون وتشاهدون ، وكأن حال لسان كل واحد من أولئك يلقي باللوم كله على الزوجة المسكينة ويبرئ نفسه.
وأنا هنا أعرف أنني أوقعت نفسي في موقف حرج فهل أنتصر لبني جنسي من الرجال فتغضب عليّ النساء ، أو أنني أميل للجنس الآخر فيغضب عليّ الرجال.
وبعد جهد جهيد وتفكير عميق عرفت أنه لا نجاة لي إلا بالرجوع إلى المصدر الأصلي ,إلى الاعتصام بالكتاب والسنة إلى الله عز وجل الذي خلق الرجال والنساء وفضل كلا منهما بفضائل ومميزات فيكمل كل منهما الآخر.
فخرجت أن سبب تلك المشاكل كلها يتحملها الرجل والمرأة بحد سواء فكلٌ عليه تبعات وله مهمات فإن كنت تشكو أيها الرجل فإن المرأة تشكو أيضا,
فقائلة تقول: الصباح في وظيفته وفي الليل مع شلته ولا نراه إلا قليلا.
وقائلة: لا يسمح لي بزيارة أهلي والجلوس معهم ،
وقائلة: لا ينظر إلى أولاده ولا يهتم بهم ولا بمطالبهم
وقائلة : لا ينظر إلى أولاده ولا يهتم بهم ولا بمطالبهم
وقائلة: يشتمني ويضربني ويسيء إليّ أمام أولادي ،
وقائلة: آذاني برائحة الدخان وتركه للصلاة
وقائلة: كثير النقد والملاحظات والسباب واللعان،
قائلة : دائما يهددني بالطلاق والزواج من أخرى ،
و قائلة تقول: أتجمل وأتزين ولم أسمع منه كلمة إعجاب أو غزل وقائلة تقول : يمنعني من الدروس والمحاضرات ولم يحضر لي شريطا أو كتابا فيه خير ،
وقائلة : كثير السهر والجلوس أمام الأفلام و المباريات
وقائلة: لا يشاورني ولا يجلس معي ويثور لأتفه الأسباب ،
وقائلة: آذاني بكثرة جلساء السوء تدخين وغناء وشقاء ،
وقائلة: لا يهتم بي وبطلباتي الخاصة ، حتى ولا بالمنزل وطلباته ، وقائلة: يسافر كثيرا وليس لنا نصيب ولو عمرة في السنة ،
وأقول : الحياة الزوجية تعاون وتآلف وحب ووئام ,
وإنَّ أمثل قاعدة للسعادة والراحة أن نفهم جيدا قول الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم :
: "كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"
" وقول أبي ذر لزوجه إذا رأيتني غَضِبْتُ فَرَضِّنِي ، وإذا رأيتك غَضْبَى فإني رَضَّيْتُكِ وإلا لم نصطحب،
وقول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
لنفهم المعنى من هذه الكلمات, وعندها نعلم أن كل مشكلة سببها الزوجان وليس واحدا منهما.
ولذلك سيكون حديثي لكل منهما إن شاء الله تعالى .
أما الليلة فهو خاص بالأزواج ,
وقد يقول الرجال: لماذا بدأت بنا ؟ فأقول لأمور ، لأن الرجال أكثر تحملا وتعقلا وصبرا ،
وثانيا لقوامة الرجل على المرأة ولأنه السيد ولأنه الآمِر الناهي فلا أحد غيره يملك حق التصرف في مملكته هذه ,
فهل يعقل الرجال هذا ؟
وسبب ثالث لأن الرجل لو عرف كيف يتعامل أي مع زوجه لعلم أن مفتاح السعادة بيده ، لو عرف الرجل كيف يتعامل مع زوجه لعلم أن مفتاح السعادة بيده .
كيف كان التعامل مع الزوجة فناً.. ؟
أقول نعم إن التعامل مع الزوجة فن ويجب علينا نحن معاشر الرجال أن نتعلم هذا الفن فليس الزواج مجرد متعة وشهوة, وليس الزواج القيام بالبيت وتأسيسه, وليس الزواج هو إنجاب الأولاد والبنات ,وليس الزواج هو مجرد إطعامهم الطعام أو إلباسهم الثياب,
فإن الكثير من الرجال قادر على ذلك والرزاق هو الله لا الزوج ,لكن الزواج حقوق شرعية وحسن تعاون ومسئولية فللمرأة حقوق وواجبات جاء بها الإسلام بالأدلة القرآنية والنصوص النبوية :
(ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)
لابد أن يعرفها الرجل جيدا ولا يفضُّ الخاتم إلا بحقه ،
ومن أين نأخذ هذا الفن ؟
لا نأخذه عبر وسائل الإعلام, ولا نأخذه من المجلات الهابطة, وإنما نأخذه بالرجوع إلى سيرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وشتان بين الأمرين ، لما لجأ كثير من الناس إلى مثل هذه المصادر رأينا الفرقة والخصام, ورأينا كثرة الأخطار التي تهدد كيان هذه الأسرة,
وغفلنا في خِضَمِّ هذه الحياة وشهواتها أن نرجع حقيقة إلى سيرته صلى الله عليه وسلم ,نستقي منها الدروس والعبر في كل شأن من شئون حياتنا .
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)
ولذلك كيف كان يتعامل مع أزواجه صلى الله عليه وسلم ؟ لذلك أمر الله عز وجل نساء النبي أن يخبرن بكل ما يدور في بيته صلى الله عليه وسلم حتى ولو كانت هذه الأخبار أسرارا زوجية فقال عز وجل خطاب لنساء النبي :
(واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)
أمر من الله عز وجل ,فلنتخذ هذه الحياة دستورا ومنهجا للتعامل مع الأزواج .
أسباب اختيار الموضوع كثيرة منها:
أولا:منهج الإسلام وشرعه في حسن معاشرة الزوجة وصحبتها وبيان كثير من حقوقها مما يجهله كثير من الناس وخاصة بعض الرجال أو أن بعضهم يتجاهلون هذه الحقوق ،
ثانيا: تلك الصورة السيئة والمفهوم الخاطئ عند بعض الرجال عن أن المرأة يجب الحذر منها وأن تشد عليها الوطأة من أول ليلة يدخل بها الرجل ،
وقد يتواصى بعض الشباب وبعض الرجال بمثل هذه الوصية,وكما يقال في المثل العامي لعود على أول ركزة)
فيتناقل الناس والرجال والشباب مثل هذه الأمثال ومثل هذه الوصايا ويحدث مالا تحمد عقباه ومن الخطأ أن نقول كما قال ذاك الشاعر:
رأيت الهم في الدنيا كثيرا وأكثره يكون من النساء
فلا تأمن لأنثي قط يوما ولو قالت نزلت من السماء
ولا نقول كما قال الآخر أيضا:
إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين
فهن أصل البليات التي ظهرت بين البرية في الدنيا وفي الدين
نقول كما قال هذا ولا ذاك وإنما نقول كما قال ذلك الشاعر المنصف:
إن النساء رياحين خلقن لنا وكلنا يشتهي شم الرياحين
ثالثا : شكوى كثير من النساء لسوء معاملة زوجها وقبح أخلاقه معها وقد يصل الأمر في بعض الأحايين إلى ضربها وحبسها وقد يتمنى البعض موتها كما قال أحدهم:
لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي ولكن قرين السوء باق معمر
فيا ليتها صارت إلى القبر عاجلا وعذبها فيه نكير ومنكر
وكقول الآخر يخاطب زوجه :
تنحى فاجلسي منى بعيدا أراح الله منك العالمين
أغربالا إذا استودعت سر وكانونا على المتحدثين
حياتك ما علمت حياة سوء وموتك قد يسر الصالحين
أقول:
ليس هذا هو النهج النبوي في معاملة الزوجة ,وإنما كما سنعرض له بعد قليل ،
ومن الأسباب أيضا الحياة الزوجية في بيته صلى الله عليه وسلم وآله وسلم نموذج رائع يذكر به الرجال للاتباع والتأسي.
هذه الأسباب الأربعة هي التي جعلتني أتحدث عن مثل هذا الموضوع .وأبدأ الآن بعناصر فن التعامل مع الزوجة وأقول بدءا أول فن من الفنون :
- التلطف والدلال ، التلطف مع الزوجة والدلال لها ومن صور الملاطفة والدلال نداء الزوجة بأحب الأسماء إليها أو بتصغير اسمها للتلميح أو ترخيمه يعني تسهيله و تليينه ، وهذا أيضا من حياته صلى الله عليه وسلم ...
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لـ[عائشة] :" يا عائش ، يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام ".
والحديث متفق عليه.
وكان يقول لعائشة أيضا: يا حميراء .
والحميراء تصغير حمراء يراد بها البيضاء كما قال ذلك [ابن كثير] في النهاية وقال [الذهبي]: الحمراء في لسان أهل الحجاز البيضاء بحمرة وهذا نادر فيهم .
إذاً فقد كان صلى الله عليه وسلم يلاطف عائشة ويناديها بتلك الأسماء مصغرة مرخمة .
وأخرج [مسلم] من حديث عائشة في الصيام قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل إحدى نسائه وهو صائم ثم تضحك رضي الله تعالى عنها"
وفي حديث عائشة أيضا أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم ذكر كلمة معناها أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله" والحديث أخرجه النسائي و[الترمذي] و[أحمد] وفيه انقطاع،
من خلال هذه الأحاديث يتبين لنا ملاحظة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأزواجه وحسن التعامل معها أي مع عائشة رضي الله تعالى عنها ومن صور المداعبة والملاطفة أيضا إطعام الطعام فقد أخرج [البخاري] و[مسلم] من حديث [سعد بن أبي وقاص] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم ذكر الحديث إلى قوله:
"وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى فِي امرأتك"
حتى اللقمة التي ترفعها بيدك إلى فم امرأتك هي صدقة ليست فقط كسباً للقلب وليست فقط حسن تعاون مع الزوجة بل هي صدقة تؤجر بها من الله عز وجل
إذاً فمن صور المداعبة والملاطفة للزوجة إطعامها للطعام .
وكم لذلك من أثر نفسي على الزوجة.
وإني أسألك أيها الأخ أيها الرجل ماذا يكلفك مثل هذا التعامل ؟
لا شيء إلا حسن التأسي والاقتداء وطلب المثوبة وحسن التعاون وبناء النفس فالملاطفة والدلال والملاعبة مأمور أنت بها شرعا بما تفضي إليه من جمع القلوب والتآلف .
أيضا من الفن :
- التجاوز عن الأخطاء في الحياة الزوجية وغض البصر ، خاصة إذا كانت هذه الأخطاء في الأمور الدنيوية فأقول لا تنس أيها الأخ الحبيب أنك تتعامل مع بشر وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ولا تنس أنك تتعامل مع امرأة وكما قال صلى الله عليه وسلم: "قد خلقت من ضلع أعوج"
- " لا تكن شديد الملاحظة لا تكن مرهف الحس فتجزع عند كل ملاحظة أو كل خطأ انظر لنفسك دائما فأنت أيضا تخطئ لا تنس أن المرأة كثيرة أعمالها في البيت ومع الأولاد والطعام والنظافة والملابس وغيرها ولا شك أن كثرة هذه الأعمال يحدث من خلالها كثير من الأخطاء لا تنس أن المرأة شديدة الغيرة سريعة التأثر احسب لهذه الأمور كلها حسابها واسمع لهذه الأمثلة :
عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها كما تحدث [أم سلمة] "أنها أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ، من الذي جاء بالطعام ؟ أم سلمة، فجاءت عائشة متزرة الكساء ومعها فهر أي: حجر ناعم صلب ففلقت به الصحفة فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة وقال: كلوا ، يعنى أصحابه ، كلوا غارت أمكم غارت أمكم ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة وأعطى صحفة أم سلمة لعائشة"، .
أقول :
انظر لحسن خلقه صلى الله عليه وسلم وإنصافه وحلمه,
وانظر لحسن تصرفه عليه الصلاة والسلام وحله لهذا الموقف بطريقة مقنعة معللا هذا الخطأ من عائشة رضي الله عنها بقوله: "غارت أمكم، غارت أمكم" فهو يقدر نفسية عائشة زوجه اعتذارا منه صلى الله عليه وسلم لعائشة هو لم يحمل عائشة نتيجة هذا الخطأ ونتيجة هذا العمل ولم يذمها صلى الله عليه وآله وسلم ولماذا ؟ لأن أم سلمة هي التي جاءت إلى بيت عائشة تقدم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا الطعام ولذلك قَدَّرَ صلى الله عليه وآله وسلم هذا الموقف وتعامل معه بلطف وحكمة صلوات الله وسلامه عليه وقدر ما يجرى عادة بين الضرائر من الغيرة لمعرفته صلى الله عليه وسلم أنها مركبة في نفس المرأة .
لم يؤدب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة وبين أنها غارت مع أنها كسرت الإناء ومع أنها تصرفت أيضا أمام أصحابه هذا التصرف ولكن (وإنك لعلى خلق عظيم)
انظر للحكمة وانظر لحسن التعامل وتصور لو أن هذا الموقف حصل معك كيف سيكون حالك أيها الزوج..؟ ؟
بل ربما لو حصل هذا الموقف بينك وبين زوجك مثلا في المطبخ والرجال موجودون في المجلس ، كيف ستكون نفسيتك وكيف سيكون التصرف ؟
إذن فالعفو والصفح إذا قصرت الزوجة وشكرها والثناء عليها إن أحسنت كل ذلك من شيم الرجال ومن محاسن الأخلاق .
وبعض الأزواج قد يختلق المشاكل ويَنْفَخُ فيها وقد تنتهي هذه المشاكل بحقيقة مرة وهي الطلاق ، واسمع لهذا الموقف:
روي أن رجلا جاء إلى [عمر بن الخطاب] رضى الله تعالى عنه وأرضاه ليشكو سوء خلق زوجته فوقف على بابه ينتظر خروجه فسمع هذا الرجل امرأة عمر تستطيل عليه بلسانها وتخاصمه وعمر ساكت لا يرد عليها.
فانصرف الرجل راجعا وقال: إن كان هذا حال عمر مع شدته وصلابته وهو أمير المؤمنين فكيف حالي؟
وخرج عمر فرآه موليا عن بابه فناداه وقال: ما حاجتك أيها الرجل؟
فقال: يا أمير المؤمنين جئت أشكو إليك سوء خلق امرأتي واستطالتها عَلَيّ فسمعت زوجتك كذلك فرجعت وقلت: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي ؟
قال عمر ـ يا أخي اسمع لمواقفهم رضوان الله تعالى عليهم ـ يا أخي إني أحتملها لحقوق لها عليّ إنها لطباخة لطعامي، خبازة لخبزي، غسالة لثيابي، مرضعة لولدي وليس ذلك كله بواجب عليها ويسكن قلبي بها عن الحرام فأنا أحتملها لذلك ، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين وكذلك زوجتي قال عمر: فاحتملها يا أخي فإنما هي مدة يسيرة (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)
هذه الآية تسلية لوعد قدري لكل زوج بُلِىَ بما يكره في زوجته بأن يجعل الله لمن صبر على بليته خيرا موعودا وجزاء موفورا وحظا قادما لا يعلمه إلا هو سبحانه ، هكذا كانت حياتهم الزوجية ذكر للحسنات وغض البصر عن الأخطاء والسيئات.
والسيئات ويقال أن بدوية جلست تحادث زوجها وتطرق الحديث إلى المستقبل كعادة الأزواج فقالت : أنها ستجمع صوفا وتغزله وتبيعه وتشترى به بكرا، فقال زوجها إذا اشتر يتيه فسأكون أنا الذي سأركبه، قالت: لا، فألح زوجها فرفضت وأصرت ولم ترجع هي حتى غضب زوجها فطلقها .
الأصل لا يوجد هناك مشكلة القضية قضية أماني في المستقبل لو كان تقول: أنني سأعمل صوفا وأغزله ثم أبيعه ثم أشترى به بكرا فتخاصما على هذا البَكْر من يركبه الأول فحصل الطلاق هذا المثل يوضح حقيقة حال كثير من الطلاق الذي يحصل بين الرجل والمرأة لأسباب تافهة عندما يقف أهل الخير أو القضاة أو غيرهم على بعض أسباب الطلاق يجد أن أسباب الطلاق أسبابا تافهة لا تذكر وهكذا كثير من المشكلات وهمية تافهة تنتهي بنهاية للحياة الزوجية وللأسف ،
ويروى أن عائشة قالت مرة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد غضبت عليه قالت له: "أنت الذي تزعم أنك نبي" فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ما أروع هذا التوجيه النبوي الذي يجعل البيت جنة فإذا غضب أحد الزوجين وجب على الآخر الحلم فحال الغضبان كحال السكران لا يدرى ما يقول وما يفعل.
يا ليت الرجل ويا ليت المرأة يسحب كل منها كلام الإساءة وجرح المشاعر والاستفزاز يا ليت أنهما يذكران الجانب الجميل المشرق في كل منهما ويغضان الطرف عن جانب الضعف البشري في كليهما.
أيضا من الفن:
- التزين والتجمل والتطيب للزوجة,
أما الجمال والزينة للرجل فبحدودها الشرعية فلا إسبال ولا حلق للحية ولا وضع للمساحيق والأصباغ كما يفعل بعض شبابنا.
سُئِلَتْ عائشة: "بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك"
والحديث أخرجه مسلم، ذكر بعض أهل العلم فائدة ونكتة علمية دقيقة قالوا: فَلَعَلَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ليستقبل زوجاته بالتقبيل
وعند البخاري أن عائشة قالت: "كنت أُطَيِّبُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأطيب ما أجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته"
وفي البخاري أيضا أن عائشة قالت: كنت أُرَجِّلُ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أسرح شعره
"كنت أُرَجِّلُ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض" وفي الصحيحين من حديث [أبي هريرة] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"خمس من الفطرة: الختان ، والاستحداد ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظافر، وقص الشارب" والحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب اللباس وفي البخاري أيضا من حديث [ابن عمر] أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأَحِفُّوا الشوارب"
في هذه الأحاديث كلها وغيرها بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التجمل والتزين الشرعي الذي يحبه الله بخلاف ما عليه بعض الرجال اليوم من إفراط في قضية الزينة أو حتى من تفريط في قضية الزينة والتجمل للمرأة ومن مبالغة في التجمل وعجيب للمتناقضات التي يعيشها بعض الرجال فتجده يحلق لحيته للتجمل والزينة كما يقول ، ثم تشم منه رائحة كريهة عفنة وهي رائحة التدخين فأين أنت والتجمل أيها الأخ الحبيب ؟ أين أنت والتجمل الذي تريده يوم أن حلقت لحيتك وشربت الدخان ؟ وآخر وقع في تفريط عظيم وتقصير عجيب في قضية التجمل والزينة تبذل في اللباس وإهمال للشعر وترك للأظافر والشوارب والآباط وروائح كريهة والخير كل الخير في امتثال المنهج النبوي في التجمل والتزين والاهتمام بالمظهر وهو حق للمرأة هو حق شرعي للمرأة وسبب أكيد في كسب قلبها وحبها فالنفس جُبِلَتْ على حب الأفضل والأنظف والأجمل وتعال واسمع لحال السلف رضوان الله تعالى عليهم جميعا وكيف كانوا في هذا الباب.
قال [ابن عباس]: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لى وما أحب أن أستطف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها عليَّ لأن الله تعالى يقول: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وقد دخل على الخليفة عمر زوج أشعت أغبر ومعه امرأته وهي تقول: لا أنا ولا هذا لا تريده ، لا أنا ولا هذا ، ما هو السبب ؟ اسمع فعرف كراهية المرأة لزوجها فأرسل الزوج ليستحم ويأخذ من شعر رأسه ويقلم أظافره فلما حضر أمره أن يتقدم من زوجته فاستغربته ونفرت منه ثم عرفته فقبلت به ورجعت عن دعواها رجعت تراجعت إذن عن طلب الطلاق فقال عمر: وهكذا فاصنعوا لهن فوالله إنهن ليحببن أن تتزينوا لهن كما تحبون أن يتزين لكم ، وقال [يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي]: أتيت [محمد بن الحنفية] فخرج إلى في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية ، والغالية هي خليط الأطياب بل خليط أفضل الأطياب ، ولحيته تقطر من الغالية ، يقول يحيى فقلت له: ما هذا ؟ قال محمد : إن هذه الملحفة ألقتها على امرأتى ودهنتنى بالطيب وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن ، ذكر ذلك القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن
إذن فالمرأة تريد منك كما تريد أنت منها في التجمل والتزين
فن آخر :
القناعة والرضا بالزوجة وعدم الاستجابة لدعاة التبرج ودعاة الفتنة والسفور وذلك بالنظر إلى النساء ، وهذا حال كثير أو حال بعض الرجال النظر إلى النساء في الأفلام وفي التلفاز والمجلات وقد زيفتها الألوان والمكاييج وغير ذلك ونفخ الشيطان في بعض الرجال فقارن وصَوَّرَ زوجته العفيفة الطاهرة بتلك السافرات العاهرات وأطق ذلك الرجل لبصره العنان في تتبع هذه النساء .
(قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون)
) ولا شك أن ذلك شر مستطير وأنه سبب أكيد في تدمير كيان الأسرة وهذا أمر ملموس ومشاهد وعلاج ذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديث جابر:
"أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى امرأة فأتي امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها" أي: تدلك جلدا "فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه فقال: إن المرأة تُقْبِلُ في صورة شيطان وتُدْبِرُ في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه"
صلى الله عليه وآله وسلم علاج لا نبحث عنه في المجلات الطبية والمجلات الأسرية إنما نبحث عنه في سنته النبوية صلى الله عليه وآله وسلم والحديث أخرجه مسلم في صحيحه،
والنفس دائما ترغب كل جديد خاصة عند الرجل النفس ترغب كل جديد وكما يقال كل ممنوع مرغوب ولو ملك أي الرجل لو ملك أجمل النساء ثم سمع بامرأة أخرى لتهافتت نفسه ولكزه شيطانه
ولم أجد مثل القناعة والرضا حلا لذلك .
ولذلك نهى صلى الله وعليه وسلم الرجل أن يطلب عثرات زوجته فأخرج مسلم من حديث [جابر] قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا أن يتخونهم أو يلتمس عثراتهم"
إنما على الزوج أن يغض الطرف وأن يقنع بما وهبه الله إياه ولينظر إلى من هو أسفل منه ليزداد قناعة ورضا وليشكر نعمة الله عز وجل عليه ثم إني أقول لك أيضا إن بليت بمثل هذه الأمور وبمثل حديث النفس هذا الجأ إلى الله عز وجل بالدعاء ولسان حالك يقول كما قال الحق عز وجل على لسان يوسف عليه السلام: (وإلا تصرف عنى كيدهن أصبُ إليهن وأكن من الجاهلين) إذن ادعُ الله عز وجل وألح عليه بالدعاء وأنت موقن بالإجابة لأن الله تكفل بها ليوسف فقال: (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم).
فن آخر من فن التعامل مع الزوجة:
- الجلوس مع الزوجة والتحدث إليها والشكاية لها ومشاورتها,
فإنه كثيرا من الأزواج كثير الترحال ،كثير الخروج ، كثير الارتباطات ، بل سمعنا عن الكثير منهم أنه يخرج للبراري والاستراحات كل يوم وليلة ، بل سمعنا أن بعض الأزواج يسهر كل ليلة إلى ساعة متأخرة من الليل فأي حياة هذه وأين حق الزوجة وحق الأولاد والجلوس معهم ؟
وانظر مثال لهذا الفن للجلوس مع الزوجة والحديث معها حديث [أم زرع] الطويل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع لعائشة تحكيه عائشة تروي هذا الحديث الطويل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع لحكاية عائشة قال ابن حجر : وفيه ـ أي وفي هذا الحديث من الفوائد ـ حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس والمحادثة في الأمور المباحة ما لم يفض ذلك إلى ما يمنع ، انتهي كلامه رحمه الله ،
والشكاية للزوجة واستشارتها فهذا مما يشعرها أيضا بقيمتها وحبها استشر المرأة ولو لم تكن أيها الأخ الحبيب بحاجة إلى هذه المشورة فإنك تشعر هذه الزوجة بقيمتها وحبك لها ولن تعدم الرأي والمشورة أبداً إن شاء الله لن تعدم الرأي والمشورة وربما فتحت عليك برأي صائب كان السبب في سعادتك ومثال ذلك انظر للنبي ولحبيبنا صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي يا رسول الله كان يستشير حتى أزواجه ومن ذلك استشارته صلى الله عليه وسلم لأم سلمة في صلح الحديبية عندما أمر أصحابه بنحر الهدي وحلق الرأس فلم يفعلوا لأنه شق عليهم أن يرجعوا ولم يدخلوا مكة ، فدخل مهموما حزينا على أم سلمة في خيمتها فما كان منها إلا أن جاءت بالرأي الصائب : أخرج يا رسول الله فاحلق وانحر فحلق ونحر وإذا بأصحابه كلهم يقومون قومة رجل فيحلقوا وينحروا ، أيضا أنظر لاستشارته لـ[خديجة] رضي الله تعالى عنها في أمر الوحي ووقوفها معه وشدها من أزره رضوان الله تعالى عليها
هكذا المرأة فإنها معينة لزوجها متى ؟ إذا أشعرها زوجها بقيمتها ولذلك أقول : العلاقة بين الزوجين تنمو وتتأصل كلها تجددت ودارت الأحاديث بينهما فالأحاديث وسيلة التعارف الذي يؤدي إلى التآلف وكما قال صلى الله عليه وسلم:"فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف"
فالحذر من تعود الصمت الدائم بينهما ,فتتحول الحياة إلى روتين بغيض كأنها ثكنة عسكرية فيها أوامر من الزوج وطاعة من الزوجة: خذي هاتى كلى اشربي قومي اقعدي تعالي اذهبي نامي استيقظي ماذا تريدين؟
متى تخرجين؟
أسطوانة مكرورة مكروهة تجعل الحياة الزوجية بغيضة باهتة باردة فأين الحب وأين اللطافة ؟
وأين المودة والرحمة وما بينهما ؟
أين الأحاديث الحسان منك أيها الرجل عن جمال عيونها وعذوبة ألفاظها ورقة ذوقها وحسن اختيارها للباسها,
وأين كلمات الشكر والثناء عند الطبخ والغسل والكنس ، وأين الحديث عن تربية الأولاد وصلاحهم ؟
وأين الحديث عن هموم المسلمين ومشاكلهم ، فيا أيها الرجل العاقل إن من فن التعامل مع الزوجة أن تخصص وقتا للجلوس معها تحدثها و تحدثك وتفضي إليك بما في نفسها, بدل أن تكبت ذلك الحديث الذي في النفس ...
اجعلها تفضفض تعطي بما يدور في نفسها بدل ذلك الكبت وسيتضح ذلك جليا على سلوكها وتصرفاتها ,
ثم ينعكس ذلك على أولادها وأعمالها وأشغالها ثم ينعكس ذلك على تصرفاتها وسلوكها معك أنت كزوج ..
أرأيت أيها الأخ الحبيب أنك تملك مفتاح السعادة وهذه المملكة الصغيرة بحسن تصرفاتك وأفعالك .
ومن فن التعامل أيضا:
- مداراة المرأة وعدم التضييق عليها والاعتذار إليها
فعن [أبي هريرة] قال صلى الله عليه وسلم: "واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته"
لا تطلب المحال افهم جيدا نفسية المرأة وافهم جيدا خلقة المرأة:
"فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوجا فاستوصوا بالنساء خيرا"
والحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما .
ومعنى استوصوا؛ أي أوصيكم بهن خيرا فاقبلوا وصيتي فيهن واعملوا بها قاله [البيضاوي]،
انتبه في الحديث إشارة إلى ترك المرأة على اعوجاجها في الأمور المباحة ، وألا يتركها على الاعوجاج إذا تعدت ما طبعت عليه من النقص كفعل المعاصي وترك الواجبات ، وأيضا في الحديث سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر عليهن وعلى عوجهن.
فقال صلى الله عليه وسلم أيضا في الحديث الآخر: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر" والحديث في صحيح مسلم ومعنى يفرك أي يبغض منها شيئا يفض به إلى تركها، وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم"
انظر للتصوير ....
أنظر للصورة الجميلة: فإنما هن عوان عندكم. والعوان أي هن كأسيرات عندك أيها الرجل أي المرأة كأسيرة عندك فهي أشبه بالأسير كسيرة القلب مهيضة الجناح .
فوجب على الرجل أن يجبر قلبها وأن يرفع من معنوياتها ويحسن إليها ويكرمها ,
أما الاعتذار إليها عند الخطأ والاعتراف به فهو أدب جَم وخلق رفيع خاصة عند غضبها .
واسمع لهذه الأحاديث أرجعكم دائما إلى حياته صلى الله عليه وسلم حتى نتبين أيها الأحبة أن حياته صلى الله عليه وآله وسلم في كل شئون الحياة هي قدوة ونبراس ومرجع يجب أن نرجع إليه وأن ندرسه أي حياته صلى الله عليه وآله وسلم (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا).
روى النسائي في كتابه عِشْرَة النساء عن أنس قال: "كانت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكان ذلك يومها فأبطأت في المسير" تأخرت في المسير عنهم "فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكى وتقول "ـ اسمع الذنب الذي وقع به النبي صلى الله عليه وسلم ـ "حملتني على بعير بطئ "فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر التصرف ماذا فعل؟ قال والله أيش أسوى السيارة هذه وضعها وهذه خربانة ؟ لا، ما ناقش صلى الله عليه وسلم "وإنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه عينيها ويسكتها فأبت إلا بكاء" يعني كأنها طورت فأبت إلا بكاء فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركها فقدمت فأتت عائشة" أي صفية ذهبت إلى عائشة فقالت: "يومي هذا لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنت أرضيتيه عنى" فماذا فعلت عائشة ؟ انظر أيضا واسمعي أيتها المرأة أنت وإن كان هذا الحديث سيأتيك بمشيئة الله لكن انظري إلى عقل عائشة رضي الله تعالى عنها وانظري إلى تصرفها كيف تملكين أيتها المرأة مفتاح قلب الزوج ، أو اعلمي أيتها الأخت أنك ساحرة لقلب الرجل ولذلك قلت: إن موضوع الدرس القادم سيكون بعنوان السحر الحلال ، لأن المرأة تملك فعلا هذا السحر بما وهبها الله عز وجل من عذوبة ورقة ونعومة فماذا فعلت عائشة ، تقول: "فعمدت عائشة إلى خمارها وكانت صبغته بورس وزعفران فنضحته بشيء من ماء حتى تخرج رائحته ثم جاءت حتى قعدت عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: مالك هذا اليوم ليس لك ، فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث فرضي عن صفية"
وانظر أيضا واسمع لمثال آخر في حياته صلى الله عليه وسلم، فعن [النعمان بن بشير] رضي الله تعالى عنهما قال جاء [أبو بكر] رضي الله عنه يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع عائشة وهي رافعة صوتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له أي الرسول أذن لأبى بكر بالدخول فدخل فقال أي أبو بكر: يا ابنة أم رومان ؟ يعني كأنه يهددها أو يغضب عليها يا ابنة أم رومان ؟ وتناولها ، أترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أنظر لتصرف النبي صلى الله عليه وسلم قال:" فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينهما" يعنى كأنه جعلها خلفه يريد أن يخلصها من أبيها ، رضي الله تعالى عنه ، فلما خرج أبو بكر جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها يترضاها يقول لها: "ألا ترين أني قد حلت بين الرجل وبينك ؟ قال: ثم جاء أبو بكر فاستأذن عليه فوجده يضاحكها" رجعت العلاقة مرة أخرى بملاطفة النبي، بحسن مداراته لزوجه بالاعتذار منه صلى الله عليه وسلم انظر لقمة الأخلاق (وإنك لعلى خلق عظيم) صلوات الله وسلامه عليه" فرجع أبو بكر فوجد العلاقة قد رجعت ووجد النبي صلى الله عليه وسلم يضاحكها فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالدخول فقال أبو بكر: يا رسول الله أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في حربكما "
، وفي الحديث بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحلم والتواضع وحسن معاشرة زوجه فلم تدفعه مكانته أو قوامته للتكبر أو المكابرة عن الاعتذار ، وأن يكون هو البادئ بالإصلاح صلى الله عليه وسلم إذاً فأقول لك أيها الرجل عليك بكسر حاجز المعاندة والمكابرة وإنك إن فعلت هذا فإنك أنت بنفسك تعود زوجك على هذا العمل تعودها على هذا التصرف ، عودتها على هذا الأدب إذا أخطأت وكان الخطأ منك ذهبت إليها واعتذرت منها فإنها ستأخذ هذا التصرف فإن قصرت وإن أخطأت فستذهب هي وترجع إليك بالاعتذار ونذكر هنا مرة أخرى بقاعدة [أبي الدرداء] رضي الله تعالى عنه وأرضاه مع [أم الدرداء] بقوله: إذا رأيتني غضبت فرضني وإذا رأيتك غضبي رضيتك وإلا لم نصطحب ، تعامل بهذه القاعدة في بيتك
ومن الفن أيضا:
- إظهار المحبة والمودة للزوجة وذلك بالقول والفعل
أما القول:
فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم زرع الطويل قال لعائشة : "كنت لك كأبي زرع لأم زرع"
والحديث عند البخاري أي في الوفاء والمحبة فقالت عائشة واسمع أيضا لحكمة عائشة واسمع لعقل هذه المرأة رضى الله عنها وأرضاها لما قال لها النبي: كنت لك كأبي زرع لأم زرع يعني في الوفاء والمحبة قالت عائشة :
بأبي وأمي لأنت خير لي من أبي زرع لأم زرع.
وأما الفعل أي إظهار المحبة بالفعل فكثير في حياته صلى الله عليه وسلم ومن ذلك ففي صحيح مسلم في كتاب الحيض عن عائشة قالت: "كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فِيَّ" اسمع انظر للتصرف "فيضع فاه على موضع فِيَّ فيشرب، وأتعرق العَرْقَة وأنا حائض ثم أناوله النبي فيضع فاه على موضع فِيَّ"
والعَرْق: العظم عليه بقية من اللحم وأتعرق أي آخذ عنه اللحم بأسناني ونحن ما نسميه بالعرمشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضع فمه مكان فم عائشة رضى الله تعالى عنها في المأكل أو المشرب يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم وعائشة حائض وهنا نكتة أيضا أشار إليها بعض أهل العلم قالوا : لم يكن يفعل ذلك لشهوة صلى الله عليه وسلم وإنما إظهار المودة والمحبة لأن المرأة حائض وإنما إظهار المودة والمحبة ثم لا بأس أيضا من تقديم الزوجة عليك بالشرب والأكل قبلك كل ذلك إظهارا للمودة والمحبة .
ومن ذلك أيضا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن"
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية هذا الموقف الجميل [للمهدي] قال: حدث [الخيزران] زوجة المهدي في حياة المهدي فكتب إليها وهي بمكة كتب إليها يستوحش لها ويتشوق إليها بهذا الشعر ، قال المهدي:
نحن في غاية السرور ولكن ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي أنكم غُيَّبُ ونحن حضور
فأجدوا في السير بل إن قدرتم أن تطيروا مع الرياح فطيروا
تصور هذه الكلمات لما يقولها الرجل لزوجه كيف ستكون الزوجة ...؟؟
ولذلك لما وصلت هذه الأبيات للخيزران أجابته أو أمرت كما يقول ابن كثير أجابته بهذه الأبيات:
قد أتانا الذي وصفت من الشوق فكدنا وما قدرنا نطير
ليت أن الرياح كن يؤدين إليكم ما قد يكن الضمير
لم أزل صبةً فإن كنت بعدي في سرور فدام ذاك السرور
هذا من المواقف التي تبين كيف كان التعامل أيضا مع الأزواج وإظهار المحبة والشوق
ومن الفن أيضا بل من أعظم وسائل السعادة للبيت المسلم:
- تعاون الزوجين على العبادات والنوافل والأذكار...
ففي ذلك مرضاة لله ,وفي ذلك إحياء للبيت وطرد لروتين الحياة الممل .
فما أحلى أن ترى زوجين صالحين يتعاونا على طاعة الله فالدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة.
ومثال ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن أم المؤمنين [جويرية بنت الحارث] رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: مازلت على الحال التي فارقتك عليها؟
قالت: نعم،
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته " والحديث عند مسلم في صحيحه وأخرجه أيضا [الإمام أحمد] في مسنده.
الشاهد ...انظر لحرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إرشاد وتعليم زوجه .
وأسألكم بالله أيها الأحبة من منا وقف مع زوجه ساعات أو لحظات يعلمها ويذكرها في بعض الأذكار أو النوافل أو العبادات ؟
وأيضا أخرج البخاري في كتاب الوتر في صحيحه باب إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم أهله في الوتر اسمع للباب اسمع للترجمة، عن عائشة قالت "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى وأنا راقدة معترضة على فراشه فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت" وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت فإن أبت نضح في وجهها الماء ، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبي نضحت في وجهه الماء" والحديث أخرجه [أبو داود] وقال [الألباني] عنه: حسن صحيح .
وانظر قضية مبادلة إن قصرت الزوجة فإذا بالزوج يذكر ويعين وإن قصر الزوج فإذا بالزوجة تذكر وتعين فكل منهما مطالب بتذكير الآخر فنحن مطالبون بالتعاون التعاون بين الزوجين في العبادات والنوافل ،
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضى الله تعالى عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته وصليا ركعتين جميعا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات" وأيضا الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال الألباني: صحيح، صلاة النافلة في البيت نغفل عنها كثيرا صلاة النافلة في البيت بعض الرجال يحرص كثيرا أن يصلى النافلة في المسجد مع أن السنة أن تصلى النوافل في البيت والسنن الرواتب في البيت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "فإن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة"
لماذا ...؟؟
ليذكر الأهل ويشجعهم بل ويربى أولاده وصغاره على هذه الأفعال وما أجمل البيت يوم أن تغيب الشمس ذلك اليوم وقد استعد الزوجان للجلوس لجلسة الإفطار معا,,,
ما أحلى هذه الجلسة وما أسعد هذين الزوجين في التعاون على مثل هذه العبادات ، وقل مثل ذلك في قراءة القرآن وفي حضور على الأقل ولو درس أسبوعي أو محاضرة ، القيام على الفقراء والمساكين في الحي وغيرها من الأعمال الصالحة والخيرة التي لو تعاون الزوجان على مثل هذه الأمور لكان ذلك عماد السعادة الزوجية وحلاوتها وروحها ومن جرب هذا وجد طعم هذه الحياة ....
(من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
من الفن أيضا:
- الممازحة والمرح مع الأهل
ومن هذا ما أخرج النسائي أيضا في كتابة عشرة النساء من حديث عائشة رضى الله تعالى عنها قالت: "زارتنا سودة يوما" اسمع لهذا الموقف وهذه القصة الجميلة زارتنا سودة يوما تعنى أم المؤمنين "فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينهما" ضرتين "جلس النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها إحدى رجليه في حجري والأخرى في حجرها ، فعملت لها حريرة أو قال خزيرة" والخزيرة أو الحريرة: لحم مع دقيق مع ماء يخلط في بعضه وهو نوع من أنواع الطعام، تقول عائشة: فعملت لها حريرة أو قال: خزيرة، فقلت: كلى أى لسودة ، فأبت فقلت: لتأكلي أو لألطخن وجهك فأبت" تقول عائشة: "فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهها، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله من حجرها تستقيد منى" أي تأخذ حقها مني "فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فإذا عمر يقول: يعني عند الباب يا عبد الله بن عمر يا عبد الله بن عمر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما فاغسلا وجوهكما فلا أحسب عمر إلا داخلا"
هذا موقف وانظر لحياته صلى الله عليه وسلم والممازحة بين الأزواج :
وأيضا أخرج النسائي في عشرة النساء من حديث عائشة رضى الله تعالى عنها و[ابن ماجة] أيضا في كتاب النكاح "أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي جارية فقال لأصحابه: تقدموا ، ثم قال: تعالى أسابقك فسابقته فسبقته ، تقول : فَسَبَقْتُهُ على رجلي فلما كان بعد خرجت معه في سفر فقال لأصحابه: تقدموا" ما أشغله ما كان فيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال" تعالى أسابقك، ونسيت الذي كان وقد حملت اللحم فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه الحال فقال: لتفعلن، فسابقته فسبقني فقال: هذه بتلك السبقة" (وإنك لعلى خلق عظيم)
فينبغي للزوج أن ينمي في نفسه صفات الفكاهة والمرح في بعض الأحايين مع زوجة لتقوية أواصر المحبة ،
و[علي بن أبي طالب] يروى عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يمازح زوجه فدخل عليها في يوم من الأيام فوجد في فيها عود أراك فأراد أن يمازحها فنظر إلى عود الأراك يخاطبه بهذين البيتين الجميلين قال
قضيت يا عود الأراك بثغرها أما خفت يا عود الأراك أراكا
لو كنت من أهل القتال قتلتك ما فاز منى يا سواك سواكا
وهذا يبين حالهم التي كانوا عليها مع أزواجهم رضوان الله تعالى عليهم ، فلا بأس أن ينظم الزوج أوقاتا خاصة للعب والمرح مع الزوجة فهذه سنة فهي تضفي على الحياة الزوجية البهجة والسعادة وتقطع الروتين البغيض في الحياة الزوجية.
أيضا من الفن :
- في التعامل مع الزوجة إعانتها ومساعدتها إذا تعبت ، فالزوجة بشر تمرض وتتعب ...
فعلى زوجها أن يراعي ذلك فيقوم بمساعدتها وقضاء حوائجها والقيام ببعض أعمال المنزل عنها فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم على خدمة أهله بنفسه,
يخصف نعله ويرقع ثوبه ويكنس الدار ,حتى إذا أذن المؤذن كأنه لا يعرفنا كما تقول عائشة .
إذاً: فالتواضع والبساطة مع شريكة العمر من أسباب السعادة ، والمرأة في البيت ليست هَمَلاً أو متاعا بل هي إنسان كالرجل تشاركه وتشاطره الأفراح والأتراح فعلى الزوج أن يقف مع زوجه ويعينها ...
واسمع لهذه المرأة وهي تمدح زوجها الوفي المخلص فقالت : زوجي لما عناني كاف ولما أسقمني شاف ، عرقه كالمسك ، ولا يمل طول العهد ، إذا غضبت لطف ، وإذا مرضت عطف ، أنيسي حين أفرد ، صفوح حين أحفد ، إذا دخل الدار دخل بساما ، وإن خرج خرج ضحاكا ما غضب عليَّ مرة ولا حقد ، يأكل ما وجد ويدرك ما قصد ، ويفي بما وعد ولا يأسي على ما فقد ، أديب أريب حسيب نسيب ، كسوب خجول لا كسول ولا ملول ، إذا طلبت منه أعطاني وإن سكتُّ عنه ابتداني ، وإذا رأى مني خيرا ذكر ذلك ونشر ، أو رأى تقصيرا ستر ذلك وغفر" فهنيئا لهذه المرأة بزوجها .
- مراعاة شعورها ونفسيتها ،
عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم إذا كنت عنى راضية " اسمع لكلامه صلى الله عليه وسلم "إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت على غضبي ، قالت : فقلت : من أين تعرف ذلك ؟ قال : أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين لا ورب محمد وإذا كنت غضبى قلت : لا ورب إبراهيم ، قالت : قلت : أجل والله يا رسول الله ، ما أهجر إلا اسمك " والحديث عند البخاري ومسلم في صحيحيهما
وهذا الحديث يتبين لنا كيف كان صلى الله عليه وسلم بدقة ملاحظته ومراعاة شعور نفسية زوجه حتى عرف عنها هذا الأمر...
فإذا استقر الزوجان واستقر حال كل منهما, عرف كل منهما ما يغضب الآخر وما يرضيه ,
وأسباب كل ذلك فقد تمكنا بإذن الله من توطيد أسس العلاقة الزوجية والسير بها في الدروب الآمنة المفروشة بالورود والرياحين ...
وأمكنهما أيضا تجنيب أسرتها مسالك العسر ومواضع الزلل والنكد ونلحظ في هذا الحديث دقة عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاعر عائشة رضي الله تعالى عنها حتى صار يعلم رضاها وغضبها عند مجرد حلفها ، إذاً فمراعاة النفسيات أمر مهم لدوام المحبة ، والزوج الذكي يحرص على احترام نفسية زوجته فيغض الطرف ولا يكثر العتاب إلا في التجاوزات الشرعية.
فلابد أن يأخذ على يدها أما ما عداها فالكمال عزيز ، وبعض الخصال جبلة في المرأة يصعب تغييرها فاصبر ، واحتسب (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).
ومن الفن :
- أيضا الحذر من شتمها أو ضربها والإساءة إليها...
قال الله تعالى:
(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك الآيات لقوم يتفكرون) .
وقال سبحانه وتعالى آمراً الزوج بحسن عشرة زوجته فقال: (وعاشروهن بالمعروف) .
وكلمة العشرة هنا مشتقة من المعايشة والمخالطة ,
والمعروف كلمة جامعة شاملة لكل خير.
وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجالا يضربون زوجاتهم ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم :
"وما أولئك من خياركم خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " وقال صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم" والحديث أخرجه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده وهو صحيح كما في صحيح الجامع
وروى لـ[شريح] أنه قال:
رأيت رجالا يضربون نساءهم فشلت يميني حين أضرب زينبا.
وزينب شمس والنساء كواكب إذا طلعت لم تبق منهن كوكبا
ومن الفن أيضا :
- التوسيع على الزوجة في المطعم والملبس والنفقة .
قال تعالى :(أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) وقال صلى الله عليه وسلم:
"فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذ تموهن بكلمة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" والحديث أخرجه مسلم في صحيحه ،
وقال صلى الله عليه وسلم: "كفي بالمرء إثما أن يضيع من يعول" وهو متفق عليه،
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنك إن شاء الله لا تنفق نفقة إلا أجرت حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك" والحديث أيضا متفق عليه،
فأقول: التوسيع عليها في بعض المباحات أمر مطلوب وانظر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان إذا هويت زوجه شيئا لا محذور فيه تابعها عليه أي وافقها.
فعن عائشة زوج النبي أنها قالت:
"دخل الحبشة المسجد يوما يلعبون فقال لي: يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم؟ فقالت: نعم، فقام بالباب وجئته فوضعت ذقني على عاتقه فأسندت وجهي إلى خده قالت: ومن قولهم يومئذ أبا القاسم طيبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك، فقلت: يا رسول الله لا تعجل فقال لي قال: حسبك فقلت: لا تعجل يا رسول الله، قالت: وما بي حب النظر إليهم ولكنى أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه"
والحديث أخرجه أيضا النسائي في عشرة النساء .
وأخرج النسائي أيضا في السنن الكبرى أنه قال صلى الله عليه وسلم:"أفضل دينار دينار ينفقه الرجل على عياله" إلى آخر الحديث .
وروى [ابن أبي الدنيا] في كتاب العيال أن [ابن عائشة] قال: حدثت أن أيوب كان يقول لأصحابه كثيرا: تعاهدوا أولادكم وأهليكم بالبر والمعروف ولا تدعوهم تطمع أبصارهم إلى أيدي الناس، قال وكان له زنبيل يغدو به إلى السوق في كل يوم فيشترى فيه الفواكه والحوائج لأهله وعياله هكذا كانوا في التوسيع على الزوجة والأولاد في المطعم والملبس والنفقة ،
ومن الفن أيضا وهو آخرها :
- عدم التساهل مع الزوجة فيما يغضب الله..
(لُعِنَ الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) والله عز وجل يقول: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)
وبعض الرجال وللأسف تنازل عن هذه القوامة وضعف أمام إغراءات المرأة ......
وأمثلة ذلك تبرج زوجته أو بناته في المناسبات والأفراح,
ولبس الملابس الضيقة والمفتوحة والبنطلونات وغير ذلك مما نسمعه ويتناقله الناس .
وأيضا من ذلك خروج نسائه إلى الأسواق بدون محرم, فتخاطب البائع وتجادله وربما تكثرت بكلماتها ,وقد يحدث هذا والزوج الضعيف موجود .
وأيضا من ذلك إدخال الأجهزة والأفلام والمجلات وغير ذلك من وسائل الإعلام الهابطة لبيته بدون أن يحرك ساكنا أو أن يفعل تجاه ذلك شيئا ....
وغير ذلك من المحرمات التي استهان بها كثير من الأزواج فغلبته نساؤه عليها وكل ذلك مما جعل حياته جحيما .والدليل فمن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط الناس لا زوجته ولا أولاده ولا هو راضى حتى عن نفسه فهو في هم وغم .
واسمع أيها الزوج واسمعي أيتها الزوجة لهذه الكلمة أقول: كل خلاف يجرى بين الزوجين كبر الخلاف أم صغر إنما هو بمعصية الله تعالى، وقال سبحانه وتعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) واسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف كان يتعامل مع أزواجه ففي صحيح مسلم عن عائشة قالت :
"دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة فتلون وجهه" لم يرض "فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه ثم قال: إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله"
فيا سبحان الله كم من صورة وكم من تمثال في بيوت المسلمين اليوم كم من صورة في بيوتنا أيها الأحبة؟ وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة" كما في حديث [أبي طلحة] عند مسلم والبيت إن لم تدخله الملائكة دخلته الشياطين ثم نعرف بعد ذلك سبب كثرة المشاكل في كثير من البيوت لماذا؟ عشعش الشيطان في هذا البيت بسبب كثرة الصور وكثرة المشاكل وكثرة وسائل الإعلام والفساد في البيت ؛عشعش الشيطان فلم يكن هناك وجود للملائكة ولم يكن هناك تطهير لهذا البيت فلا شك حلت المصائب والهم والغم بين الزوجين، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول أيضا: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" إلى قوله "والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته" وقال أيضا صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من عبد يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" والحديث متفق عليه اسمع لهذا الحديث مخيف مرعب "ما من عبد يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة"
أليس من الغش إدخال وسائل الإعلام والأفلام والمجلات الهابطة أو حتى السماح بدخولها والله إن لم يكن من الغش فما ندري ما هو الغش، أليس من الغش عدم مراقبة الزواج للباس زوجه وبناته وأولاده عند الخروج للمناسبات والأسواق إن لم يكن هذا من الغش فلا ندري والله ما هو الغش،
وأيضا في الحديث السابق الذي ذكرناه عن صفية "أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى زينب فقال لها: إن صفية قد أعيا بها بعيرها فما عليك أن تعطيها بعيرك، قالت زينب: أتعمد إلى بعيري فتعطيه ليهودية "، كلمة منها فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم انظر عدم الرضا فيما يغضب الله عز وجل " فهاجرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر فلم يقرب بيتها، وعطرت زينب نفسها وعطرت بيتها وعمدت إلى السرير فأسندته إلى مؤخرة البيت وأيست أن يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين هي ذات يوم إذ بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بخياله فدخل البيت فوضع السرير موضعه فقالت زينب: يا رسول الله جاريتي فلانة قد طهرت من حيضتها اليوم هي لك فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها" وفي حديث أيضا أخرجه مسلم في صحيحه رواه [عبد الله بن مسعود] في حديث أيضا أخرجه مسلم في صحيحه رواه عبد الله بن مسعود في حديث الواشمة والمستوشمة واللعن لهما والمتنمصة والمتفلجة إلى آخر الحديث قال في آخر الحديث: فقالت المرأة: فإني أرى شيئا من هذا على امرأتك تقصد عبد الله بن مسعود الآن قال اذهبي فانظري قال: فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئا فجاءت إليه فقالت: لم أر شيئا، قال: أما لو كان ذلك لم أجامعها أي لم أصاحبها ولم نجتمع نحن وهي بل كنا نطلقها ونفارقها هكذا كانوا رضوان الله تعالى عليهم لم يكونوا يرضون عن فعل المرأة إن كان فعلها يغضب الله عز وجل (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى).
وأخيرا أقول خلاصة هذا الموضوع :
اعلم أيها الأخ الحبيب يا أيها الرجل إني أخاطب فيك الرجولة والعقل والحكمة والتروي وحسن الخلق,,,,
فإن السعادة مفتاحها بيدك فلا تضيعه,
فأنت القادر أن تجعل حياتك نعيما أو أن تجعلها جحيما...
متى...؟؟؟؟
إذا علمت أن التعامل مع الزوجة فن،
وأخيرا تنبيه للمرأة فأقول أيتها المرأة إني أعلم أنك ستحرصين على سماع هذا الموضوع وهو خاص بالرجل وكما أسلفنا كل ممنوع مرغوب وستعلمين كيف نخاطب الرجل بمثل هذه الكلمات ,,,,
فإذا حرصت وسمعت هذه الكلمات فإني أذكرك أيضا بأن لهذا الدرس بقية وجزء لا يتجزأ عنه فكما حرصت وسمعت هذا فاحرصي واسمعي بقيته حتى تتكامل سعادتك فإن السعادة لا تتحقق للبيت إلا بالتعاون وقيام كل من الزوجين بحقوقه تجاه الآخر وكما أن التعامل معك فن فإن التعامل مع زوجك فن آخر ستسمعينه بمشيئة الله في الدرس القادم بعنوان السحر الحلال،
أسأل الله عز وجل أن ينفع بما قلنا الجميع وأن يجمع بين قلبي كل زوجين وأن يوفق بيوت المسلمين وأن يحفظ بيوتهم وأن يحفظ أحوال المسلمين مع أزواجهم اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام اللهم من على بيوت المسلمين بعيشة هنية راضية ترضيك يا حي يا قيوم وفق المسلمين لكل ما تحبه وترضاه اللهم من أراد بهم سوءا فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبير تدميرا عليه يا حي يا قيوم أنت ولي ذلك والقادر عليه سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
--------------
الشيخ / إبراهيم بن عبدالله الدويش
محاضرة التعامل مع الزوجة(1/28)
الِافْتِخَارُ
30-7686 أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : بَلَغَ صَفِيَّةَ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ : " ابْنَةُ يَهُودِيٍّ ، فَبَكَتْ ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَبْكِي " فَقَالَ : " مَا يُبْكِيكِ ؟ " قَالَتْ : قَالَتْ لِي حَفْصَةُ : ابْنَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ ، وَإِنَّ عَمَّكِ نَبِيٌّ ، وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ ، فَبِمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ ؟ " ثُمَّ قَالَ : " اتَّقِي اللَّهَ يَا حَفْصَةُ " (1)
__________
(1) - أخرجه الترمذي برقم(4268) وعبد الرزاق برقم(20922) والطبراني برقم(19676) وغيرهم وهو صحيح
تحفة الأحوذي - (ج 9 / ص 337)
( أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ ) أَيْ فِي حَقِّ صَفِيَّةَ
( بِنْتَ يَهُودِيٍّ ) أَيْ نَظَرًا إِلَى أَبِيهَا
( قَالَتْ ) أَيْ صَفِيَّةُ
( قَالَتْ لِي حَفْصَةُ ) أَيْ فِي حَقِّي
" وَإِنَّك لَابْنَةُ نَبِيٍّ " أَيْ هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
" وَإِنَّ عَمَّك لَنَبِيٌّ " أَيْ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
" إِنَّك لِتَحْتِ نَبِيٍّ " أَيْ الْآنَ
" فَفِيمَ تَفْخَرُ عَلَيْك" بِفَتْحِ الْخَاءِ أَيْ فِي أَيِّ شَيْءٍ تَفْخَرُ حَفْصَةُ عَلَيْك
" ثُمَّ قَالَ اِتَّقِي اللَّهَ" أَيْ مُخَالَفَتَهُ أَوْ عِقَابَهُ بِتَرْكِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ .
قَوْلُهُ : ( هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ) وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ .
-----------------
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الزوجة
سلمان بن يحي المالكي
slman_955@hotmail.com
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " أما بعد فيا أيها المسلمون: لقد أمرنا الله تعالى برعاية الأهل والقيام عليهم، وأخبرنا أن القيامَ عليهم وأمرُهم بالمعروف ونهيُهم عن المنكر هو وقايةٌ لهم من عذاب الله، فقال جل وعلا " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ" وتقع المسؤوليةُ على كل ذي مسئوليةٍ أيا كان من زوج أو أب أو أخ أو راعٍ يقومُ على رعايةِ أهله، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إن الله سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاه، أحفِظ ذلك أم ضيع، حتى يسألَ الرجلْ على أهل بيته" [رواه النسائي] فأهلُ بيتك أيها المسلمُ هي مسئوليةٌ ستسأل عنها يوم القيامةِ وتحاسبُ على التقصير فيها، لأنها أمانةٌ من ضمن الأماناتِ التي حُمِّلتهَا ونأت عن حملها السماواتِ والأرضِ والجبال، عباد الله: إن الأسرةَ المسلمةَ ترتكز في بدايتها على شخصين كريمين، الزوجُ والزوجة، ونظراً في التفريطِ الواضحِ في تربيةِ الزوجاتِ من قِبَل أزواجهن وكثرةِ إهمالهن والتفريطِ في شؤونهن الدينيةِ والتقصيرِ في تعليمهن، شاعت الفواحشُ في كثير من الزوجات، وانتشرت المنكراتُ في حياتهن، وكثُرة الخيانات مع أزواجهن، وعمّ الجهل في أوساطهن، وما ذاك إلا بسبب تفريطِ الرجالِ في تعليمهنِ أمورَ دينهن. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم زوجاتهِ أمورَ العقيدة، ويخبرهن بتوحيد الله وعظمته سبحانه، كان عليه الصلاة والسلام فيما يقول لعائشةَ رضي الله عنها " مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ، فتقول له عائشة: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ" فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً؟" أي كيف تقولُ يا رسولَ الله من حوسب يوم القيامةِ عُذِّب، والله يقول عن صاحب اليمين الذي يُؤتَى كتابه بيمينه " فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً " فيقول النبي صلى الله عليه وسلم موضحاً ومعلماً وشارحاً لها أمرا من أمور العقيدة " لَيْسَ ذَاكِ الْحِسَابُ، إِنَّمَا ذَاكِ الْعَرْضُ، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ" وكان مما يعلمه عليه الصلاة والسلام لزوجاته الأذكارْ والاستعاذةَ من الشرور كأذكار الصباح والمساء، وكيف تستعيذُ بالله من الشرور، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم أشار إلى القمر، فقال: يا عائِشَةُ اسْتَعِيذِي بالله مِنْ شَرِّ هذا، فإنَّ هذا هوَ الغاسقُ إذا وَقَبَ " [رواه أحمد] لقد فسر لها تلك الآية من سورة الفلق " وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ " وأوضح لها المراد لما أخذ بيدها وأشار إلى هذا القمر، وأنه آية الليل في السماء، وأمرها أن تستعيذ بالله من شره؛ فإن الشرور تحدث في الليل كما تحدث في النهار، وكان يربي صلى الله عليه وسلم نسائه على الخوف من الله تعالى فإذا ظهر سحاب في السماء أو أقبلت ريح من هنا وهاهنا دخل وخرج وتغير لونه وانزعج، تقول عائشة رضي الله عنها " وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْماً أَوْ رِيحاً، عُرِفَ ذلِكَ فِي وَجْهِهِ، فتقول له: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَى النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ ؟ فبماذا كان رده صلى الله عليه وسلم؟ لقد انتهز هذا السؤال ليخوفها بالله، ويبين لها كيف يكون المؤمنُ في عدم أمنه من مكر الله، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا" هذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا"[رواه مسلم] وهكذا يكون تخويف الزوجة بالله، وتوضيحُ عذابِ الله لها، وأن المسلمَ لا يأمن مكر الله جل وعلا، وحتى لا تستعجلَ الزوجةُ في الإجابة عن شيء أو تتسرعْ في الحكم على شيء كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تربيته لزوجاته تحذيرهِن من القول على الله بغير علم، وهنا يعلِّم الزوج زوجته مفهوماً مهماً من المفاهيم الإسلاميةِ وقاعدةً من القواعد العظيمة في الدين، وهي: عدمُ جوازِ القولِ على الله بغير علم، أو الحكمِ على الأشياء بغير دليل شرعي، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: دُعِيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنَازَةِ صَبِي مِنَ الأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ طُوبَى لِهَذَا عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، قَالَ: أَوَ غَيْرَ ذلِكَ، يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلاً، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلاَبِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلاً، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلاَبِ آبَائِهِمْ" [رواه مسلم] قال الإمام النووي: أجمع علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة، والجواب عن هذا الحديث أنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل أو قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة" ونظراً لكثرة آفات اللسان عند النساء؛ فإن على الزوجِ المسلمِ أن يراعي ذلك في زوجته، فإن الله تعالى قد ذكرهن داخلاتٍ في القوم وذكرهن منفصلاتٍ عنهم فقال جل وعلا " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ " فهؤلاء النساءِ داخلاتٍ في القوم، ثم كرر التنبيه سبحانه وخصهن بالنهي أيضاً، ولذلك ترى الغيبةَ والنميمةَ في أوساط النساء كثيرة، فماذا فعلْتَ أيها الزوجُ في موعظةِ ومقاومةِ هذه الأخلاق الرديئة؛ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يرضى من زوجاته شيئاً ولو كان قليلاً يسيراً، جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، تَعْني قَصِيرَةً [ولم يكن الباعثُ لكلامها الازدراءُ والسخرية وإنما كان الغيرة] فقَالَ لها موجها ومؤدبا ومحذرا: لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَت بِهَا الْبَحْرُ لَمَزَجَتْهُ[ لمزجته وطغت عليه من شدة وعظم هذه الكلمة] قالت: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَاناً [ أي أنها مثلت له حركة أو قولاً ] فقالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّي حَكَيْتُ إِنْسَاناً وَإِنَّ لِي كَذَا وكَذَا" [ أي ما يسرني أن أتحدث بعيبه" [ رواه أبو داود] وروى النسائي بإسناد صحيح في كتاب عشرة النساء، عن أنس رضي الله عنه قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: ابنةُ يهودي [ أي أن حفصة قالت لصفية هي ابنةُ يهودي ] فبكت صفية، فدخل عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يُبكيك؟ قالت: قالت لي حفصة: أني ابنة يهودي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنك لابنة نبي، وإن عمك نبي، وإنك لتحت نبي [ أي: إنك من سلالة موسى وهارون، فجدك موسى نبي، وأخوه هارونَ عمك نبي، وإنك لتحت نبي صلى الله عليه وسلم ] فبم تفخر عليك، ثم قال: اتقي الله يا حفصة " [ رواه النسائي ] هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه لزوجاته وكيف يكون الموقف ممن زلَّ لسانها في حق أختها، ولو كان الدافع قوياً، ومما ينبغي على الزوجِ المسلم في تربية لزوجته: مقاومةَ ما يحصل لديها من المنكرات، مما تتخذه من اللباس أو الزينة ونحوِ ذلك، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها اشترت نمرقة [ أي ستارة ] فيها تصاوير [ من ذوات الأرواح ] فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت عائشة في وجهه الكراهية، فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ قال: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتتوسدها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، ثم قال: إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة " وهكذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة بالفعل والقول، وليس بالضرب كما يفعل بعض الأزواج أو بتقبيح الوجه أو بالكلام الفاحش البذيء، وقارنوا يا عباد الله بين هذه التصرفات النبوية الشريفة اللبيبة، وبين ما يفعله بعض الناس اليوم، عندما يذهبون بزوجاتهم إلى السوق فيتركونهن في السوق ويعطونهن الأموال بناءً على طلبهن ورغبتهن، ثم تشتري المرأةُ ما تشتري من غير رقيب ولا حسيب من الأمور التي فيها منكراتٌ ومحرمات، من الألبسةِ التي فيها التصاويرِ أو صلبان، أو الآنية المطلية بالذهب والفضة، أو التماثيلِ من ذوات الأرواح لتوضع في البيوت للزينة، أو غيرِ ذلك من الأمور المحرمة، التي قد تُزين بها المرأةُ بيتها، والزوج ساكتٌ، بل إنه لا ينتبه فضلاً عن أن ينظر ويدقق، وليس هناك متابعةٌ ولا محاسبة، بل لم تعد القضيةُ قضيةَ تصاويرٍ منقوشةٍ أو مرسومة، لقد تعدت المسألةُ إلى أمور محرمةٍ تدخُلِ البيوت، أمورٍ فيها إهدارٌ للعرض الذي صانه الله، والشرفِ والكرامة التي جاءت بهما الشريعة، أمورٌ فيها إفساد للأولاد والبيت عموماً، أشياءٌ من اللهو المحرم الذي يبعث عليه الشيطان، كل ذلك يدخل بيت الزوج عن طريق الزوجة أو غيرها، ولا يحرك ساكناً، ولا يمنع منكراً، فما هذه العيشة؟! وأي حياةٍ هذه؟! وعلى أيِّ شيء تقوم الأسرة ؟ " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ" لقد كان رسول الله عليه وسلم يربي زوجاته على العبادة، كان يوقظهن صلى الله عليه وسلم ويقول" أيقظوا صواحب الحجرات، أيقظوهن، ربَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ يوم القيامة" هكذا كان ينذر عليه الصلاة والسلام ويخوف، كان بيته شعلةً من النشاط الدائم في طاعة الله .. ذكرٌ بالنهار، وقيامٌ بالليل.. والآيات تتنزل على بيته وحجراته" وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ " وكانت المتابعة على العبادة، سواءٌ كانت بدنية أو مالية، فيقول عليه الصلاة والسلام " يا عائشة ! لا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك " أي :لا تبخلي بالصدقة وتمنعيها، إذاً: كانت المتابعة حتى في قضايا المستحبات، وليس فقط في قضايا الواجبات أو النهيِ عن المحرمات فقط، وكان صلى الله عليه وسلم يراعي أمور اللسان وفلتاته، حتى قضايا الفحش في الأعداء، فقد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: أنَّ اليهودَ أتوُا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: السامُ عليك، قال: وعليكم، فقلت: السامُ عليكم ولعنَكمُ اللَّهُ وغَضِبَ عليكم، فقال رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم: مَهلاً يا عائشة، عليكِ بالرفق، وإياكِ والعُنف أَوِ الفُحش، قالت: أوَ لم تَسمعْ ما قالوا؟ قال: أَوَ لم تَسمعي ما قلتُ؟ ردَدْتُ عليهم، فيُستجابُ لي فيهم، ولا يُستَجاب لهم فيَّ " [رواه البخاري] فحتى في الأعداء لا يكون الإنسان فاحشاً ولا متفحشاً إلا فيما دعت إليه المصلحة الشرعية الواضحة، كما حصل في بعض المواقف، أما أن يُطلق الإنسان لسانه في كل شيء فهذا مذموم، فالتُنَبَّه الزوجة حتى لا تكون متفحشةً في القول فتكونَ مذمومة أو مكروهة مبغوضة من خلق الله منبوذة، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني في ظل ما يعتني به الغيرة، والغيرة أمر طبعي عند النساء، وهي: الحمية والأنفة، وقد كانت تربيته صلى الله عليه وسلم لزوجاته في قضيةِ الغيرة تربيةً عظيمة، تدل على حكمته صلى الله عليه وسلم، وعلاجِه للأمور بالرفق والتأني، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند إحدى أمهات المؤمنين، فأرسلت إليه أخرى بصحفة فيها طعام، وكان صلى الله عليه وسلم عند عائشة، فضربت عائشةُ يدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت الصحفة فانكسرت، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام الذي انسكب على الأرض، ويقول عليه الصلاة والسلام لمن معه" غارت أمكم، غارت أمكم، كلوا" فهذا تعليقه صلى الله عليه وسلم، غارت أمكم, إنه غاية العدل والهدوء والاتزان منه صلى الله عليه وسلم في علاج هذا الأمر، لقد كان صلى الله عليه وسلم يراعي زوجاته، ويدقق في الملاحظة والعبارة والكلمات، كان يراعي مشاعر الزوجة ويعرف هل الزوجةُ راضيةٌ عليه أم ساخطة، هل هي متضايقة أو مسرورة، لم يكن عليه الصلاة والسلام من نوع الرجال الذي لا يبالي بزوجته، أرضيت أم سخطت، أفرحت أم اغتمت، كلا! بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يتابع كل هذا في بيته ومع زوجاته، هاهو يقول لعائشة رضي الله عنها " إِنِّي لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَمِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذلِكَ؟ قَالَ: أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنتِ غضْبَى قُلتِ: لاَ. وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ" [رواه البخاري] وكان عليه الصلاة والسلام له مواقف طريفةٌ مع زوجاته في هذه المراعاة، كما حدَّث النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عالياً، وهي تقول: والله لقد علمت أن علياً أحب إليك من أبي، فأهوى إليها أبو بكر ليلطمها، وقال: يا ابنة فلانة! أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فأمسكه رسول الله، وخرج أبو بكر مغضباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟ ثم استأذن أبو بكر بعد ذلك، وقد اصطلح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة فقال: أدخلاني في السلم كما أدخلتماني في الحرب، فقال رسول الله: قد فعلنا" [رواه النسائي] وقد كان من مراعاته لزوجاته عليه الصلاة والسلام: إباحةُ اللهو البريء والمتعةِ المباحة للزوجة.. فكان يلاعبهن ويسامرهن ويلاطفهن، وكان يُسرِّب إلى عائشة جواري صغيراتِ السنِ في مثلِ سنها، فيلعبن معها باللعب، وكان عليه الصلاة والسلام يتحاشا تنفير هؤلاء الضيوف من عند زوجته، وسابق زوجته صلى الله عليه وسلم، هكذا كانت ملاطفته عليه الصلاة والسلام لزوجته، وهي جزء من تربيته عليه الصلاة والسلام، فكان يراعي كل ذلك، اللهم اجعلنا من القائمين بحقوق أهلينا، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله خلق فسوى، وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان وسار على سنته إلى يوم الدين، أما بعد أيها المسلمون: إن هذا التقصير الذي يوجد من قبلنا في حقوق أهلينا أمر مؤسف، يعود ضرره ووباله علينا، فكم من إنسان أرْدَتْه زوجته المهالك! وكم من إنسان جرته زوجته إلى الفتن والمحرمات! فينجرُّ إلى المهلكة ويكون عبداً لزوجته، فلا يكون الزوج قاسياً فظاً غليظاً، ضرابا لنسائه مقبحا الوجه كاسرا العظم، ولكن لتكن التربيةُ تربيةَ النبي صلى الله عليه وسلم فهذه السنة ، وهذه معالمه ظاهرةً بينة، فعليك الاتباع، والأخذ بهذه السنن، والقيام على الأهل، والاحتساب عليهم في إنكار المنكرات، وأمرهم بالمعروف والعبادة والتقوى والطاعة، والحج والعمرة والصدقة، ومتابعتهم في الصلاة، اللهم إنا نسألك أن توفقنا للقيام بحقوق أهالينا وإحسان تربيتهم، اللهم قنا وأهلينا ناراً وقودها الناس والحجارة، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل بيوت الطهر والعفاف، وأن تطهر بيوتنا من المنكرات والسيئات، اللهم اجعلنا ممن يقيم حدودك في بيوتهم، اللهم اجعلنا ممن أقاموا شريعتك في مساكنهم، اللهم طهر بيوتنا ومجتمعاتنا من النفاق والرياء والكذب والفحش يا رب العالمين، واجعلنا من عبادك الأخيار، اللهم ارحمنا برحمتك إنك أنت أرحم الرحمين، واغفر لنا يا غفار إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، وارفع عنهم الظلم والاعتداء يا رب العالمين، اللهم انشر السنة والتوحيد في أرجاء الأرض إنك أنت أكرم الأكرمين، وأقر أعيننا بنصرة دينك يا رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
-------------------
الحياة الزوجية
التزين .. حب متبادل
التزين للزوج واجب على الزوجة له، وحق لزوجها ولنفسها، بل ولربها، فإن النظافة رأس الزينة، والنظافة من الإيمان.
أيتها الأخت الفاضلة، احرصي أن تكوني أنثى، وعلى الفطرة التي فطر الله عليها النساء من حب الجمال والتجمل، والتجمل فن من فنون المعاشرة الزوجية، وأظنك -أيتها الأخت الفاضلة- أنك كنت حريصة على ذلك منذ عقد عليك زوجك حتى لا تقع عينه إلا على ما يرضيه ويزيده رغبة وتعلقًا بك، وأنت تعلمين أنه يحب ذلك، وقد يصرح بذلك وقد يسكت عن غير رضى منه، فهل تظنين أنه لم يعد له عين تحب أن ترى ذلك منك؟! وهل بتركك للتزين له تضمنين أنه لم يعد يرغب في أن يرى امرأة ذات زينة؟! وهل تضمنين برغم كل شيء جميل منك وفيك أن رغبته في ذلك ماتت أو ضعفت؟! مهما كان الأمر أنت واهمة.
املكي عينيه:
أيتها الأخت الفاضلة، اعلمي أن شياطين الإنس والجن تُزَيِّن لزوجك كسائر الناس، فزوجك رجل ابتلاه الله، يقول U: }زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ{ [آل عمران: 14]. وعن جابر t أن النبي e قال: "إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ" [رواه مسلم]. أي يرد ما في نفسه من الميل إلى النساء والنظر إليهن؛ لذلك -أيتها الأخت الفاضلة- اللوم كله عليك إن لم يجد زوجك عندك من الزينة والتجمل ما عند النساء في خارج بيتك، وما أكثرهن وأحرصهن على جذب أنظار زوجك وسائر الرجال، وإياك إياك -هداك الله- أن تتزيني لغير الزوج أو عند الخروج من المنزل فيحلّ عليك غضب الجبار، واسمعي هذا الحديث لعل فيه زاجرًا..عن ميمونة بنت سعد، خادمة رسول الله e أن النبي e قال: ((مَثَلُ الرَّافِلَةِ[1] فِي الزِّينَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا، كَمَثَلِ ظُلْمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لا نُورَ لَهَا)) [رواه الترمذي - ضعيف الجامع 5236].
نافسيهن بزينتك:
أيتها الفاضلة، اسمعي هذه الوصية من أمنا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وهي توجز القول النافع الجامع لكل زوجة، فعن بكرة بنت عقبة أنها دخلت على عائشة -رضي الله عنها- فسألتها عن الحناء فقالت: ((شَجَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُور))، وسألتها عن الحفاف فقالت: ((إنْ كَانَ لَكِ زَوْجٌ فَاسْتَطَعْتِ أنْ تَنْزَعِي مُقْلَتَيْكِ فَتَصْنَعِيهِمَا أحْسَنَ مِمَّا هُمَا فَافْعَلِي)). [رواه ابن سعد في الطبقات والذهبي في سير أعلام النبلاء]. نعم، إلى هذا الحد تخبر زوج النبي e بما يجب أن تبذله الزوجة من التزين، فتخرج عينيها لتصنعهما أحسن مما هما تحببًا للزوج، وتطميعًا له في الإقبال عليها.
واسمعي - رعاك الله - لهذه القصة اللطيفة التي تحدثنا عن منافسة زوجات النبي e في التزين له، والخوف عليه من أن يرى غيرهن في صورة من الزينة أفضل منهن. فعن رزينة - رضي الله عنها - مولاة رسول الله e أن سودة اليمانية جاءت عائشة تزورها وعندها حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- فجاءت سودة في هيئة وفي حال حسنة، عليها بُرْد من دروع اليمن وخمار كذلك، وعليها نقطتان مثل الفِرْستين[2] من صبر وزعفران إلى عينها، فقالت حفصة لعائشة: يا أم المؤمنين، يجيء رسول الله e وهذه بيننا تبرق! فقالت أم المؤمنين: اتقي الله يا حفصة، فقالت: لأفسدن عليها زينتها، قالت سودة: ما تقلن؟ وكان في أذنها ثقل[3]، قالت لها حفصة: يا سودة، خرج الأعور -أي المسيح الدجال- قالت: نعم؟! ففزعت فزعًا شديدًا، فجعلت تنتفض، قالت: أين أختبئ؟ قالت: عليك بالخيمة -خيمة لهم من سعف النخيل يختبئون فيها- فذهبت فاختبأت فيها، وفيها القذر ونسيج العنكبوت، فجاء رسول الله e وهما تضحكان لا تستطيعان أن تتكلما من الضحك، فقال: ((مَاذَا الضَّحِكُ؟)) ثلاث مرات، فأومأتا بأيديهما إلى الخيمة، فذهب فإذا سودة ترعد، فقال لها: ((يَا سَوْدَةُ، مَا لَكِ؟)) قالت: يا رسول الله، خرج الأعور!! قال: ((مَا خَرَجَ وَلَيَخْرُجَنَّ، مَا خَرَجَ وَلَيَخْرُجَنَّ))، فأخرجها ينفض عنها الغبار ونسيج العنكبوت. [رواه الطبراني].
________________________________________
[1]- الرافلة: المتفاخرة المتبخترة المتبرجة بالزينة.[2]- الفِرْس: نبات صغير، وقيل: التمر الأسود.[3]- كان في أذنها ثقل: كناية عن ضعف سمعها.(1/29)
الْمُتَشَبِّعَةُ بِغَيْرِ مَا أُعْطِيَتْ وَذِكْرُ الِاخْتِلَافِ عَلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي ذلك
31-7687 أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي زَوْجًا وَلِي ضَرَّةٌ أَفَأَقُولُ أَعْطَانِي كَذَا ، وَكَسَانِي كَذَا ، وَهُوَ كَذِبٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ "(1)
__________
(1) - البخاري برقم(5219) ومسلم برقم( 5705و5706)
شرح النووي على مسلم - (ج 7 / ص 245)
3972 - قَوْلهَا : ( أَنَّ اِمْرَأَة قَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه أَقُول : إِنَّ زَوْجِي أَعْطَانِي مَا لَمْ يُعْطِنِي ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّع بِمَا لَمْ يُعْطِ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُور )
. قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ الْمُتَكَثِّر بِمَا لَيْسَ عِنْده بِأَنْ يَظْهَر أَنَّ عِنْده مَا لَيْسَ عِنْده ، يَتَكَثَّر بِذَلِكَ عِنْد النَّاس ، وَيَتَزَيَّن بِالْبَاطِلِ ، فَهُوَ مَذْمُوم كَمَا يُذَمّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَيْ زُور . قَالَ أَبُو عُبَيْد وَآخَرُونَ : هُوَ الَّذِي يَلْبَس ثِيَاب أَهْل الزُّهْد وَالْعِبَادَة وَالْوَرَع ، وَمَقْصُوده أَنْ يَظْهَر لِلنَّاسِ أَنَّهُ مُتَّصِف بِتِلْكَ الصِّفَة ، وَيَظْهَر مِنْ التَّخَشُّع وَالزُّهْد أَكْثَر مِمَّا فِي قَلْبه ، فَهَذِهِ ثِيَاب زُور وَرِيَاء . وَقِيلَ : هُوَ كَمَنْ لَبِسَ ثَوْبَيْنِ لِغَيْرِهِ ، وَأَوْهَمَ أَنَّهُمَا لَهُ . وَقِيلَ : هُوَ مَنْ يَلْبَس قَمِيصًا وَاحِدًا وَيَصِل بِكُمَّيْهِ كُمَّيْنِ آخَرَيْنِ ، فَيَظْهَر أَنَّ عَلَيْهِ قَمِيصَيْنِ . وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ قَوْلًا آخَر أَنَّ الْمُرَاد هُنَا بِالثَّوَابِ الْحَالَة وَالْمَذْهَب ، وَالْعَرَب تَكْنِي بِالثَّوْبِ عَنْ حَال لَابِسه ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَالْكَاذِبِ الْقَائِل مَا لَمْ يَكُنْ . وَقَوْلًا آخَر أَنَّ الْمُرَاد الرَّجُل الَّذِي تُطْلَب مِنْهُ شَهَادَة زُور ، فَيَلْبَس ثَوْبَيْنِ يَتَجَمَّل بِهِمَا ، فَلَا تُرَدّ شَهَادَته لِحُسْنِ هَيْئَته . وَاللَّه أَعْلَم
-----------------
عون المعبود - (ج 11 / ص 34)
4345 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( إِنَّ لِي جَارَة )
: قَالَ الْخَطَّابِيُّ : إِنَّ الْعَرَب تُسَمِّي اِمْرَأَة الرَّجُل جَارَة وَتَدْعُو الزَّوْجَيْنِ وَالضَّرَّتَيْنِ جَارَتَيْنِ وَذَلِكَ لِقُرْبِ مَحَلّ أَشْخَاصهمَا كَالْجَارَيْنِ الْمُتَضَايِقَيْنِ فِي الدَّارَيْنِ يَسْكُنَانِهِمَا كَقَوْلِ اِمْرِئِ الْقَيْس أَجَارَتنَا إِنَّا غَرِيبَانِ هَا هُنَا وَكُلّ غَرِيب لِلْغَرِيبِ أَنِيس
( تَعْنِي ضَرَّة )
: فِي الْقَامُوس الضَّرَّتَانِ زَوْجَتَاك وَكُلّ ضَرَّة لِلْأُخْرَى وَهُنَّ ضَرَائِر
( هَلْ عَلَيَّ جُنَاح )
: أَيْ إِثْم وَبَأْس
( إِنْ تَشَبَّعْت لَهَا بِمَا لَمْ يُعْطِ زَوْجِي )
: أَيْ تَكَثَّرْت بِأَكْثَر مِمَّا عِنْدِي وَأَظْهَرْت لِضَرَّتِي أَنَّهُ يُعْطِينِي أَكْثَر مِمَّا يُعْطِيهَا إِدْخَالًا لِلْغَيْظِ عَلَيْهَا
( قَالَ الْمُتَشَبِّع إِلَخْ )
: قَالَ النَّوَوِيّ : مَعْنَاهُ الْمُتَكَثِّر بِمَا لَيْسَ عِنْده بِأَنْ يَظْهَر أَنَّ عِنْده مَا لَيْسَ عِنْده وَيَتَكَثَّر بِذَلِكَ عِنْد النَّاس وَيَتَزَيَّن بِالْبَاطِلِ فَهُوَ مَذْمُوم كَمَا يُذَمّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَيْ زُور . قَالَ أَبُو عُبَيْد وَآخَرُونَ : هُوَ الَّذِي يَلْبَس أَهْل الزُّهْد وَالْعِبَادَة وَالْوَرَع وَمَقْصُوده أَنْ يُظْهِر لِلنَّاسِ أَنَّهُ مُتَّصِف بِتِلْكَ الصِّفَة وَيُظْهِر مِنْ التَّخَشُّع وَالزُّهْد أَكْثَر مِمَّا فِي قَلْبه ، فَهَذِهِ ثِيَاب زُور وَرِيَاء ، وَقِيلَ هُوَ كَمَنْ لَبِسَ ثَوْبَيْنِ لِغَيْرِهِ وَأَوْهَمَ أَنَّهُمَا لَهُ اِنْتَهَى . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالنَّسَائِيُّ .
-----------------
شرح ابن بطال - (ج 13 / ص 343)
قال أبو عبيد: قوله: المتشبع بما لم يعط، يعنى المتزين بأكثر مما عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل، كالمرأة تكون للرجل ولها ضرة، فتتشبع بما تدعيه من الحظوة عند زوجها بأكثر مما عنده لها تريد بذلك غيظ صاحبتها وإدخال الأذى عليها، وكذلك هذا فى الرجل أيضًا، وأما قوله: كلابس ثوبى زور، فإنه الرجل يلبس ثياب أهل الزهد فى الدنيا، يريد بذلك الناس ويظهر من التخشع والتقشف أكثر مما فى قلبه، فهذه ثياب الزور والرياء.
وفيه وجه آخر أيضًا: أن يكون أراد بالثياب الأنفس، والعرب تفعل ذلك كثيرًا، يقال: فلان نقى الثوب، إذا كان بريئًا من الدنس والآثام، وفلان دنس الثياب، إذا كان مغموصًا عليه فى دينه، ومنه قوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4].
وقال أبو سعيد الضرير فى معنى قوله: كلابس ثوبى زور، هو أن يستعير شاهد الزور ثوبين يتجمل بهما ويتحلى بهما عند الحاكم، وإنما يريد أن يقيم شهادته. وقال بعض أهل المعرفة بلسان العرب: ولقوله: ثوبى، التثنية معنى صحيح؛ لأن كذب المتحلى بما لم يعط مثنى، فهو كاذب على نفسه بما لم يأخذ، وكاذب على غيره بما لم يبذل.
----------------
المحلى بالآثار - (ج 1 / ص 5206)
1909 - مَسْأَلَةٌ : وَلَا يَحِلُّ النَّفْحُ بِالْبَاطِلِ - : كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِي ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام : الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ }
---------------
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 10 / ص 445)
كتابة البحوث للآخرين
المجيب سامي بن عبد العزيز الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ المعاملات/الرشوة والغش والتدليس
التاريخ 12/2/1424هـ
السؤال
تعمل زوجتي موظفة في شركة خاصة. في بعض الأحيان وبعد ساعات الدوام الرسمي تطلب منها بعض طالبات المدارس أن تقوم بكتابة الواجبات المدرسية أو ترجمة أوراق معينة أو كتابة بحوث وتقارير، مقابل الحصول على مبالغ مالية معينة، حيث تقوم الطالبات بتقديم تلك الواجبات والتقارير على أنها من عملهن . تقوم زوجتي في البيت وبعد مغادرتها للعمل ببذل جهدها للقيام بالواجبات وكتابة التقارير والأبحاث المطلوبة . السؤال : هل العمل الذي تقوم به زوجتي فيه مخالفة للشرع حيث إنها تعد تقارير وبحوثاً وترجمات من جهدها، وتقدمها للطالبات اللواتي يقدمن تلك البحوث والواجبات على أنها من عملهن؟ وللعلم فإن زوجتي لا تربطها أي علاقة بالطالبات، فهي لا تعمل مدرسة وليس لها علاقة عمل معهن.
أرجو إفادتي وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فما تقوم به زوجتك من هذه الأعمال يُعد إعانة على الغش وأكلاً للسحت، وهو عمل ينافي المروءة وهو من الأخلاق التي يستقبحها العقل ولو لم يرد بتحريمها الشرع، فاتق الله ولتتق الله زوجتك ولتبادر إلى التوبة النصوح، وينبغي عليها أن تناصح من تسول لها نفسها من الطالبات هذا الغش والتلبيس، ولتذكرهن بقوله -صلى الله عليه وسلم-:"المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور"أخرجه البخاري (5219)، ومسلم (2130)، ولا شك أن التي تسأل غيرها أن تكتب لها بحثاً أو تترجم لها كتاباً كلفت هي بترجمته، ثم تقدم ذلك على أنه من جهدها وعملها لا شك أنها داخلة في وعيد الحديث.
فإن كانت لا تعلم من قبل حكم تكسبها من هذا العمل فأرجو أن يعفو الله عما سلف منها، ولكن لا يجوز أن تتكسب به فيما تستقبل من أيامها، وقد قال الله:"فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" [البقرة: 275].
وجزاك الله خيراً على سؤالك عما يريبك ويشكل عليك، ولا شك أن هذا نابع من عظم خوفك من الله وحرصك على إطابة مطعمك.
وفقك الله لكل خير، وأبدلكما -أنت وزوجك- خيراً من هذا المطعم الخبيث.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
-------------
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 4 / ص 24)
قيام الغير بتأليف بحث باسمك لا يجوز رقم الفتوى:12224تاريخ الفتوى:13 شوال 1422السؤال : 1- ماحكم قيام الطالب الجامعي بإسناد غيره في عمل بحث دراسي يخصه لعدم وجود الوقت الكافي أو لأنه بحث ضخم وذلك بإعطاء المسند إليه المراجع المطلوبة ومبلغا من المال وبعد مدة من الزمن يكون البحث جاهزاً ويعطى لأستاذ المادة على أن الطالب هو الذي قام بعمل البحث
وشكراً
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن ما ذكرت من إعطاء الطالب مبلغاً من المال لشخص يعمل له بحثاً ثم يقدم ذلك البحث للجامعة على أن الطالب هو الذي عمله لا يجوز، وهو من الكذب والغش والزور الذي حرمه الله سبحانه وتعالى في كتابه، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويقول الله عز وجل: (واجتنبوا قول الزور*حنفاء لله غير مشركين به) وقال عز وجل: (ألا لعنة الله على الكاذبين) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" قال العلماء: معناه المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر للناس أن عنده ما ليس عنده يتكثر بذلك، ويتزين بالباطل.
وفي صحيح مسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غشنا فليس منا" ولا شك أن هذا العمل من أعظم الغش، لأنه يؤدي إلى أن يحمل هذا الطالب شهادة علمية عالية، وربما وُكِلَ إليه منصب تقتضيه هذه الشهادة، وهو في نفس الوقت بينه وبينها مراحل طويلة، فتضيع الدنيا والدين بسبب ذلك. وعليه، فيجب على المسلم أن يبتعد عن مثل هذا العمل، أجيراً أو مستأجراً.
والله أعلم.
--------------
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 58 / ص 94)
حكم الاقتباس من مؤلفات الغير دون ذكر أسمائهم رقم الفتوى:74931تاريخ الفتوى:07 جمادي الأولى 1427السؤال:
أنا طالب جامعي قدمت بحث التخرج قبل فترة، وكان هناك في البحث أخطاء ومنها عدم توثيق بعض المواضيع التي تخص البحث، بحيث إنني لم أوثق تلك المواضيع ، علما أن شريكي اقتبسها اقتباسا مباشرا ولم يكتب عليها المرجع وهو المكلف بتجهيزها وعندما سألته أعطاني المرجع ولكن ذلك بعد تسليم البحث، علما أنني لم أتعمد عدم كتابة المرجع، فهل عدم كتابة المرجع سرقة، وإذا كانت فما شروط التوبة، وقد أخبرنا المشرف على البحث وقال لنا انسوا ذلك ؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا مانع للمرء من أن يقتبس من مؤلفات الغير ، ولكن ينبغي أن يتوفر لذلك شرطان هما : أن يتم النقل بأمانة، وأن ينسب ما اقتبس إلى قائله دونما غموض أو تدليس أو إخلال ، والاقتباس من مؤلفات الغير دون أي إشارة إلى المراجع التي تم الاقتباس منها يخشى على صاحبه من أن يكون من الذين يتشبعون بما ليس لهم وقد قال صلى الله عليه وسلم : المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور . رواه مسلم ، ينضاف إلى هذا أنه إذا ترتب على ذلك حصول على درجة علمية تم تقييم صاحبها على أساس أنه مبدع وأنه هو الذي توصل إلى تلك النتائج بنفسه فإن في ذلك غشا للمجتمع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : من غش فليس منا . رواه مسلم .
ولكن بما أنك لم تكن متعمدا لما ارتكبت فعسى أن لا يكون عليك إثم فيما حصل، فقد قال الله تعالى : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {الأحزاب: 5 } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه . أخرجه أحمد وابن ماجه عن أبي ذر وهو صحيح .
والله أعلم(1/30)
32-7688 أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ : حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ : حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ ، عَنْ أَسْمَاءَ ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ " إِنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي بِغَيْرِ الَّذِي يُعْطِينِي ؟ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ " قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : " هَذَا الصَّوَابُ وَالَّذِي قَبْلَهُ خَطَأٌ " أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ ، عَنْ عَبْدَةَ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنْ فَاطِمَةَ ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ : " أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . . . . فَذَكَرَ نَحْوَهُ " (1)
__________
(1) -بل كله صحيح(1/31)
الْقَسْمُ لِلنِّسَاءِ
33-7689 أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي يُونُسُ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَنَّ عُرْوَةَ ، حَدَّثَهُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ، غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "(1)
----------------
(1) - أخرجه البخاري برقم(2593و 2637 و 2661 و 2688 و2879 و4025 و 4141 و4690 ، 4749 و 4750 و 4757 و 5212 و6662 و 6679 و 7369 و 7370 و 7500 و7545) وأبو داود برقم(2140) وأحمد برقم(25601و27068)
عون المعبود - (ج 5 / ص 22)
1826 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( إِذَا أَرَادَ سَفَرًا ) : مَفْهُومه اِخْتِصَاص الْقُرْعَة بِحَالَةِ السَّفَر وَلَيْسَ عَلَى عُمُومه بَلْ لِتُعَيِّن الْقُرْعَة مَنْ يُسَافِر بِهَا وَتُجْرَى الْقُرْعَة أَيْضًا فِيمَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْسِم بَيْن زَوْجَاته فَلَا يَبْدَأ بِأَيِّهِنَّ شَاءَ بَلْ يُقْرِع بَيْنهنَّ فَيَبْدَأ بِاَلَّتِي تَخْرُج لَهَا الْقُرْعَة إِلَّا أَنْ يَرْضَيْنَ بِشَيْءٍ فَيَجُوز بِلَا قُرْعَة . قَالَهُ الْحَافِظ
( خَرَجَ بِهَا مَعَهُ ) : الْبَاء لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ أَخْرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَة الَّتِي خَرَجَ سَهْمهَا مَعَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَر . وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْقُرْعَة فِي الْقِسْمَة بَيْن الشُّرَكَاء وَغَيْر ذَلِكَ . وَالْمَشْهُور عَنْ الْحَنَفِيَّة وَالْمَالِكِيَّة عَدَم اِعْتِبَار الْقُرْعَة . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : هُوَ مَشْهُور عَنْ مَالِك وَأَصْحَابه لِأَنَّهَا مِنْ بَاب الْخَطَر وَالْقِمَار ، وَحُكِيَ عَنْ الْحَنَفِيَّة إِجَازَتهَا اِنْتَهَى .
-----------------
شرح ابن بطال - (ج 15 / ص 80)
القرعة فى المشكلات سنة عند جمهور الفقهاء فى المستوين فى الحجة؛ ليعدل بينهم، وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن تولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعًا للكتاب والسنة. قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ومحمد نبينا، قاله ابن المنذر. واستعماله القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردها ورد الآثار الواردة المتواترة بالعمل بها.
قال الشافعى: ولا يعدم المقترعون على مريم أن يكونوا تنافسوا كفالتها، فكان أرفق بها وأعطف عليها، وأعلم بما فيه مصلحتها أن تكون عند كافل واحد، ثم يكفلها آخر مقدار تلك المدة، أو تكون عند كافل واحد ويغرم من بقى مئونتها بالحصص، وهم بأن يكونوا تشاحوا كفالتها أشبه من أن يكونوا تدافعوها؛ لأنها كانت صبية غير ممتنعة مما يمتنع منه من عقل ستره ومصالحه، فإن يكفلها واحد من الجماعة أستر عليها وأكرم لها، وأى المعنيين كان، فالقرعة تلزم أحدهم ما يدفعه عن نفسه أو يخلص له ما يرغب فيه.
وهكذا معنى قرعة يونس، وقفت بهم السفينة فقالوا: ما عليها إلا مذنب، فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس، فأخرجوه منها. وذكر أهل التفسير أنه قيل ليونس: إن قومك يأتيهم العذاب يوم كذا. فخرج ذلك اليوم، ففقده قومه فخرجوا فأتاهم العذاب ثم صرف عنهم، فلما لم يصبهم العذاب ذهب مغاضبًا، فركب البحر فى سفينة مع ناس، فلما لجُّوا ركدت السفينة فلم تسر فقالوا: إن فيكم لشرا. فقال يونس: أنا صاحبكم فألقونى. قالوا: لا حتى نضرب بالسهام. فطار عليه السهم مرتين فألقوه فى البحر، فالتقمه الحوت، فأوحى الله إلى الحوت أن يلتقمه ولا يكسر له عظمًا.
قال الشافعى: وكذلك كان إقراع النبى - صلى الله عليه وسلم - فى العدل بين نسائه حين أراد السفر ولم يمكنه الخروج بهن كلهن فأقرع بينهن ليعدل بينهن ولا يخص بعضهن بالسفر، ويكل ذلك إلى الله، ويخرج ذلك من اختياره، فأخرج من خرج سهمها، وسقط حق غيرها، فلما رجع عاد للقسمة بينهن ولم يقسم أيام سفره، فكذلك قسم خيبر وكان أربعة أخمساها لمن حضر فأقرع على كل جزء، فمن خرج فى سهمه أخذه وانقطع منه حق غيره، وقد تقدم فى كتاب الشركة شىء من الكلام فى القرعة.
وقوله: « المدهن فى حدود الله » يعنى: المداهن فيها المضيع لها الذى لا يغير المعاصى ولا يعملها فهو مستحق بالعقوبة على سكوته ومداهنته.
ومعنى المثل الذى ضربه - صلى الله عليه وسلم - فى السفينة وقوله: « طار لهم سهمه » يقال: طار له فى سهمه كذا. إذا خصه ذلك وأصابه فى سهمه.
---------------
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 329)
فَصْلٌ وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ وَالْأَحْكَامُ فَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْقَوَدَ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ وَكَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ بَلْ بَالَغَ مَالِكٌ حَتَّى أَنْكَرَ الْخَطَأَ شِبْهَ الْعَمْدِ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ لِهَجْرِ الشِّبْهِ لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنْ الْخَطَأِ امْتَازَ بِمَزِيدِ حُكْمٍ فَلَيْسَ هُوَ قِسْمًا مِنْ الْخَطَأِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ . وَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَالذِّمِّيِّ وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ لِلنَّاسِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : يُقْتَلُ بِهِ بِكُلِّ حَالٍ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ . وَالثَّانِي : لَا يُقْتَلُ بِهِ بِحَالِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَالثَّالِثُ : لَا يُقْتَلُ بِهِ إلَّا فِي الْمُحَارَبَةِ ؛ فَإِنَّ الْقَتْلَ فِيهَا حَدٌّ لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ فَلَا تَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ بَلْ يُقْتَلُ فِيهِ الْحُرُّ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا وَالْمُسْلِمُ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ ذِمِّيًّا . وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِأَحْمَدَ وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمُحَارَبِينَ وَغَيْرِهِمْ إجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الرَّدْءِ وَالْمُبَاشِرِ كَمَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ . وَمَنْ نَازَعَهُ فِي هَذَا سَلَّمَ أَنَّ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الْقَتْلِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَوَدُ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ كَمَا قَالَ عُمَرُ لَوْ تَمَالَأَ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ بِهِ فَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مُبَاشِرِينَ فَلَا نِزَاعَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مُبَاشِرٍ لَكِنَّهُ مُتَسَبِّبٌ سَبَبًا يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ غَالِبًا : كَالْمُكْرَهِ وَشَاهِدِ الزُّورِ إذَا رَجَعَ وَالْحَاكِمِ الْجَائِرِ إذَا رَجَعَ : فَقَدْ سَلَّمَ لَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ يَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ رَجَعَا وَقَالَا : أَخْطَأْنَا قَالَ : " لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا " فَدَلَّ عَلَى قَطْعِ الْأَيْدِي بِالْيَدِ وَعَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى شَاهِدِ الزُّورِ . وَالْكُوفِيُّونَ يُخَالِفُونَ فِي هَذَيْنِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ رَقَبَةَ الْمُحَارَبِينَ بَيْنَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مُشْتَرِكِينَ فِي الْعُقُوبَةِ أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَفْظًا وَمَعْنًى مِمَّنْ لَمْ يُوجِبْ الْعُقُوبَةَ إلَّا عَلَى نَفْسِ الْمُبَاشِرِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَتَّبِعُونَ مَا خَطَبَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ زَنَى مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا أُحْصِنَّ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ . كَذَلِكَ يَحُدُّونَ فِي الْخَمْرِ بِمَا إذَا وُجِدَ سكرانا أَوْ تَقَيَّأَ ؛ أَوْ وُجِدَتْ مِنْهُ الرَّائِحَةُ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ . وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَوْنَ الْحَدَّ إلَّا بِإِقْرَارِ أَوْ بَيِّنَةٍ عَلَى الْفِعْلِ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ شُبْهَةٌ وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوَّلَ أَشْبَهُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَهُوَ حِفْظٌ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِهَا وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا كَالشُّبْهَةِ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ وَالْخَطَأَ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ " الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةَ " مَشْرُوعَةٌ حَيْثُ مَضَتْ بِهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ كَمَا أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ حَيْثُ مَضَتْ بِهَا السُّنَّةُ وَقَدْ أَنْكَرَ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةَ مَنْ أَنْكَرَهَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ وَادَّعَوْا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَمِنْ أَيْنَ يَأْتُونَ عَلَى نَسْخِهَا بِحُجَّةِ ؟ وَهَذَا يَفْعَلُونَهُ كَثِيرًا إذَا رَأَوْا حَدِيثًا صَحِيحًا يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ وَأَمَّا عُلَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُلَمَاءُ الْحَدِيثِ فَرَأَوْا السُّنَنَ وَالْآثَارَ قَدْ جَاءَتْ بِالْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ كَمَا جَاءَتْ بِالْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ : مِثْلَ كَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَشَقِّ ظُرُوفِهَا وَتَحْرِيقِ حَانُوتِ الْخَمَّارِ كَمَا صَنَعَ مُوسَى بِالْعِجْلِ وَصَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَصْنَامِ وَكَمَا أَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو بِتَحْرِيقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ وَكَمَا أَمَرَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي فِيهَا لَحْمُ الْحُمُرِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فِي غَسْلِهَا وَكَمَا ضُعِّفَ الْقَوَدُ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ غُرْمُ الضَّالَّةِ الْمَكْتُومَةِ وَضِعْفَ ثَمَنِ دِيَةِ الذِّمِّيِّ الْمَقْتُولِ عَمْدًا . وَكَذَلِكَ مَذْهَبُهُمْ فِي " الْعُقُودِ وَالدِّيَاتِ " مِنْ أَصَحِّ الْمَذَاهِبِ فَمِنْ ذَلِكَ دِيَةُ الذِّمِّيِّ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : دِيَتُهُ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا قِيلَ ؛ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ دِيَتَهُ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ : أَبُو داود وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْ ذَلِكَ الْعَاقِلَةُ تَحْمِلُ جَمِيعَ الدِّيَةِ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ أَوْ تَحْمِلُ الْمُقَدَّرَاتِ كَدِيَةِ الْمُوضِحَةِ وَالْأَصَابِعِ فَمَا فَوْقَهَا كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ تَحْمِلُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الْمَأْثُورُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَفِي الثُّلُثِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَيُذْكَرُ أَنَّهُ تَنَاظَرَ مَدَنِيٌّ وَكُوفِيٌّ فَقَالَ الْمَدَنِيُّ لِلْكُوفِيِّ : قَدْ بُورِكَ لَكُمْ فِي الرُّبُعِ كَمَا تَقُولُ : يُمْسَحُ رُبُعُ الرَّأْسِ وَيُعْفَى عَنْ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ عَنْ رُبُعِ الْمَحَلِّ وَكَمَا تَقُولُونَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ . فَقَالَ لَهُ الْكُوفِيُّ : وَأَنْتُمْ بُورِكَ لَكُمْ فِي الثُّلُثِ كَمَا تَقُولُونَ : إذَا نَذَرَ صَدَقَةَ مَالِهِ أَجْزَأَهُ الثُّلُثُ ؛ وَكَمَا تَقُولُونَ : الْعَاقِلَةُ تَحْمِلُ مَا فَوْقَ الثُّلُثِ وَعَقْلُ الْمَرْأَةِ كَعَقْلِ الرَّجُلِ إلَى الثُّلُثِ فَإِذَا زَادَتْ كَانَتْ عَلَى النِّصْفِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ وَلَكِنْ يُقَالُ لِلْكُوفِيِّ : لَيْسَ فِي الرُّبُعِ أَصْلٌ لَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِنَّمَا قَالُوا : الْإِنْسَانُ لَهُ أَرْبَعُ جَوَانِبَ وَيُقَالُ : رَأَيْت الْإِنْسَانَ إذَا رَأَيْت أَحَدَ جَوَانِبِهِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ فَيُقَامُ الرُّبُعُ مَقَامَ الْجَمِيعِ . وَأَمَّا الثُّلُثُ فَلَهُ أَصْلٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَرِيضَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ لَا أَكْثَرَ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا عَادَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فِي الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةً مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَجَزَّأَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَكَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي لُبَابَةَ " يَجْزِيك الثُّلُثُ " وَكَمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا ؟ وَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ [ بِهِ ] أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْقُرْعَةُ فِيهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسِتَّةُ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا هَذَا الْحَدِيثُ . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يستهموا عَلَيْهِ } . وَمِنْهَا : { إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ } وَمِنْهَا أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يستهمون عَلَى الْمُهَاجِرِينَ لَمَّا هَاجَرُوا إلَيْهِمْ وَمِنْهَا فِي الْمُتَدَاعِيَيْنِ اللَّذَيْنِ أَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِينِ حَبَّا أَمْ كَرِهَا وَمِنْهَا فِي { اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ دُرِسَتْ فَقَالَ لَهُمَا : تَوَخَّيَا الْحَقَّ وَاسْتَهِمَا وَلْيَحْلِلْ كُلٌّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ } . وَالْقُرْعَةُ يَقُولُ بِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَمَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْكُوفِيِّينَ لَا يَقُولُ بِهَا بَلْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : الْقُرْعَةُ قِمَارٌ وَجَعَلُوهَا مِنْ الْمَيْسِرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقُرْعَةِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَهُ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ ؛ فَإِنَّ الْقُرْعَةَ إنَّمَا تَكُونُ مَعَ اسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ وَعَدَمِ إمْكَانِ تَعْيِينِ وَاحِدٍ وَعَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ مُعَيَّنًا كَالْمُشْتَرَكِينَ إذَا عُدِمَ الْمَقْسُومُ فَيُعَيَّنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالْقَرْعَةِ وَكَالْعَبِيدِ الَّذِينَ جَزَّأَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ وَكَالنِّسَاءِ اللَّاتِي يُرِيدُ السَّفَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَهَذَا لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْقُرْعَةِ أَنَّهُ يُقْرَعُ فِيهِ . وَالثَّانِي : مَا يَكُونُ الْمُعَيَّنُ مُسْتَحَقًّا فِي الْبَاطِنِ كَقِصَّةِ يُونُسَ والمتداعيين وَكَالْقُرْعَةِ فِيمَا إذَا أَعْتَقَ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ أُنْسِيَهُ وَفِيمَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ أُنْسِيَهَا أَوْ مَاتَ : أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْقُرْعَةُ فِيهَا نِزَاعٌ وَأَحْمَد يُجَوِّزُ ذَلِكَ دُونَ الشَّافِعِيِّ .
--------------
طرح التثريب - (ج 2 / ص 69)
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ جَوَازُ مُسَافَرَةِ الرَّجُلِ بِزَوْجَتِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ خُرُوجُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْأَسْفَارِ قَالَ وَخُرُوجُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْغَزَوَاتِ وَغَيْرِ الْغَزَوَاتِ مُبَاحٌ إذَا كَانَ الْعَسْكَرُ كَثِيرًا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْغَلَبَةُ وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ وَنِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى } .
( الثَّالِثَةُ ) يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ خُرُوجِ الرَّجُلِ بِزَوْجَتِهِ فِي سَفَرٍ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ زَوْجَةٌ حُرَّةٌ غَيْرُهَا فَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى فَأَكْثَرُ فَإِنَّمَا يَجُوز تَخْصِيصُ بَعْضِهِنَّ بِالْخُرُوجِ بِالْقُرْعَةِ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا } .
الْحَدِيثَ فَقَوْلُ عَائِشَةَ خَرَجْنَا هَلْ أَرَادَتْ نَفْسَهَا فَقَطْ مَعَ جُمْلَةِ النَّاسِ أَوْ أَرَادَتْ نَفْسَهَا وَبَعْضَ زَوْجَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْتَمَلُ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ السَّفْرَةُ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهِيَ الْمُرَيْسِيعُ كَمَا قِيلَ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْفَائِدَةِ الَّتِي تَلِيهَا فَقَدْ خَرَجَ مَعَهُ فِيهَا بِعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي السِّيَرِ .
----------------
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12025)
قُرعَة
«التعريف»
1 - القرعة في اللّغة : السّهمة والنصيب ، والمقارعة : المساهمة ، وأقرعت بين الشّركاء في شيء يقسمونه ، ويقال : كانت له القرعة ، إذا قرع أصحابه ، وقارعه فقرعه يقرعه : أي أصابته القرعة دونه ، وتستعمل في معان أخرى غير ما تقدم .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ، قال البركتيّ : القرعة السهم والنصيب ، وإلقاء القرعة : حيلة يتعين بها سهم الإنسان أي نصيبه .
الألفاظ ذات الصّلة
«القسمة»
2 - القسمة في اللّغة من قسمته قسماً أي فرزته أجزاءً .
واصطلاحاً : تمييز الحصص بعضها من بعض .
والصّلة بين القسمة والقرعة أن القرعة طريق من طرق القسمة ، والقرعة نوع من أنواع القسمة عند المالكية .
«الحكم التكليفيّ»
3 - القرعة مشروعة باتّفاق الفقهاء ، وقد تكون مباحةً أو مندوبةً أو واجبةً أو مكروهةً أو محرمةً في أحوال سيأتي بيانها .
ودليل مشروعيتها الكتاب والسّنة .
فأما مشروعيتها من القرآن الكريم فقوله تعالى « وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ » ، أي يحضنها فاقترعوا عليها . وقال تعالى « وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ » .
عن ابن عباس رضي الله عنهما : قوله « فَسَاهَمَ » يقول : « أقرع » .
وأما مشروعيتها من السّنة المطهرة فحديث أبي هريرة رضي الله عنه : « عرض النبيّ صلى الله عليه وسلم على قوم اليمين فأسرعوا ، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيّهم يحلف » .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه » .
«الحكمة من مشروعيتها»
4 - قال المرغينانيّ : القرعة لتطييب القلوب وإزاحة تهمة الميل حتى لو عين القاضي لكلّ منهم نصيباً من غير إقراع جاز لأنه في القضاء فيملك الإلزام .
وجاء في تكملة فتح القدير : " ألا يرى أن يونس عليه السلام في مثل هذا استعمل القرعة مع أصحاب السفينة كما قال الله تعالى : « فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ » ، وذلك لأنه علم أنه هو المقصود ولكن لو ألقى بنفسه في الماء ربما نُسب إلى ما لا يليق بالأنبياء فاستعمل القرعة لذلك، وكذلك زكريا عليه السلام استعمل القرعة مع الأحبار في ضمّ مريم إلى نفسه مع علمه بكونه أحق بها منهم لكون خالتها عنده تطييباً لقلوبهم كما قال تعالى : « إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ » ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم « يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً تطييباً لقلوبهن » .
«كيفية إجراء القرعة»
5 - للقرعة عند الفقهاء طريقتان :
الأولى : كتابة أسماء الشّركاء في رقاع .
والثانية : كتابة أجزاء المقسوم في رقاع ، وقد شرط المالكية لإجراء الطريقة الثانية أن تكون الأنصباء متساويةً فإن اختلفت فتجوز في العروض خاصةً .
وقد أجاز كلّ من الشافعية والحنابلة إجراءها في الصّورتين إلا أن طريقة كتابة الأسماء أولى عند الشافعية .
«ما تجري فيه القرعة»
6 - تجري القرعة في مواضع منها :
الأول : في تمييز المستحقّ إذا ثبت الاستحقاق ابتداءً لمبهم غير معين عند تساوي المستحقّين ، كمن أوصى بعتق عدة أعبد من ماله ولم يسع ثلثه عتق جميعهم ، وفي الحاضنات إذا كن في درجة واحدة ، وكذا في ابتداء القسم بين الزوجات عند من يقول به لاستوائهن في الحقّ فوجبت القرعة لأنها مرجّحة .
الثاني : في تمييز المستحقّ المعين في نفس الأمر عند اشتباهه والعجز عن الاطّلاع عليه ، سواء في ذلك الأموال والأبضاع عند من يقول بجريان القرعة في الأبضاع .
الثالث : في تمييز الأملاك .
وقيل : إنه لم يأت إلا في ثلاث صور :
أحدها : الإقراع بين العبيد إذا لم يف الثّلث بهم .
وثانيها : الإقراع بين الشّركاء عند تعديل السّهام في القسمة .
وثالثها : عند تعارض البيّنتين عند من يقول بذلك .
الرابع : في حقوق الاختصاصات كالتزاحم على الصفّ الأول ، وفي إحياء الموات .
الخامس : في حقوق الولايات كما إذا تنازع الإمامة العظمى اثنان وتكافآ في صفات الترجيح قدّم أحدهما بالقرعة ، وكاجتماع الأولياء في النّكاح ، والورثة في استيفاء القصاص فتجري بينهم القرعة لترجيح أحدهم .
«ما لا تجري فيه القرعة»
7 - إذا تعينت المصلحة أو الحقّ في جهة فلا يجوز الإقراع بينه وبين غيره ; لأن القرعة ضياع ذلك الحقّ المعين والمصلحة المتعيّنة ، وعلى ذلك فلا تجري القرعة فيما يكال أو يوزن واتفقت صفته ، وإنما يقسم كيلاً أو وزناً لا قرعةً ; لأنه إذا كيل أو وزن فقد استغنى عن القرعة فلا وجه لدخولها فيهما ، وهذا ما ذهب إليه المالكية ، خلافاً للشافعية والحنابلة .
ومما لا تجري فيه القرعة الأبضاع عند الشافعية وقول عند الحنابلة ، ولا في لحاق النسب عند الاشتباه عند الحنفية والمالكية والشافعية والظاهر من مذهب الحنابلة ، ولا في تعيين الواجب المبهم من العبادات ونحوها ابتداءً عند الشافعية والحنابلة ، ولا في الطلاق عند الشافعية .
«إجبار الشّركاء على قسمة القرعة»
8 - ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن القسمة إذا تمت عن طريق قاسم من قبل القاضي بالقرعة كانت ملزمةً وليس لبعضهم الإباء بعد خروج بعض السّهام .
وعند الحنابلة وهو مقابل الأظهر عند الشافعية أنه إن كان القاسم مختاراً من جهتهم ، فإن كان عدلاً كان كقاسم الحاكم في لزوم قسمته بالقرعة ، وإن لم يكن عدلاً لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما ، والأظهر عند الشافعية أنه يشترط رضا المتقاسمين بعد خروج القرعة في حالة ما إذا كان القاسم مختاراً من قبلهما وهو المعتمد .
وذهب المالكية إلى أن قسمة القرعة يجبر عليها كلّ من الشّركاء الآبين إذا طلبها البعض إن انتفع كلّ من الآبين وغيرهم انتفاعاً تامّاً عرفاً بما يراد له كبيت السّكنى ، ومفهوم الشرط أنه إذا لم ينتفع كلّ انتفاعاً تامّاً لا يجبر .
«القرعة في معرفة الأحقّ بغسل الميّت»
9 - ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الأحق في غسل الميّت أقاربه ، فإن استووا كالإخوة والأعمام المستوين والزوجات ولا مرجّح بينهم فالتقديم بقرعة ، فمن خرجت له القرعة قدّم لعدم المرجّح سواها .
«القرعة في تقديم الأحقّ بالإمامة في الصلوات وصلاة الجنازة»
10 - ذهب الفقهاء إلى أنه إذا استوى اثنان فأكثر في الصّفات التي يقدم بها للإمامة أقرع بينهم عند التنازع .
والتفاضل بينهم ينظر في مصطلح « إمامة الصلاة ف /14 - 18 » وانظر مصطلح « جنائز ف /41 » .
«القرعة بين الزوجات في السفر»
11 - ذهب الحنفية والمالكية في قول إلى أنه إذا أراد الزوج السفر فله اختيار من يشاء من زوجاته ، ولا تجب عليه القرعة إلا أن الحنفية استحبّوا القرعة تطييباً لقلوبهن .
وأوجب المالكية القرعة بين الزوجات في سفر القربة كالغزو والحجّ في المشهور عندهم ; لأن المشاحة تعظم في سفر القربة .
وفي قول آخر عند المالكية أن القرعة تجب مطلقاً .
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن القرعة في السفر بين الزوجات واجبة سواء أكان السفر طويلاً أم قصيراً ، وفي قول للشافعية إذا كان السفر قصيراً فلا تجب ولا يستصحب لأنه كالإقامة . وللتفصيل انظر مصطلح « قسم بين الزوجات » .
وقال الشافعية : إن الزوج إذا سافر لنقلة حرم أن يستصحب بعض زوجاته بقرعة أو بدونها وأن يخلفهن حذراً من الإضرار بهن ، بل ينقلهن أو يطلّقهن .(1/31)
34-7690 أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ : حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَرِفَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " هَذِهِ زَوْجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلَا تُزَعْزِعُوهَا ، وَلَا تُزَلْزِلُوهَا ، وَارْفُقُوا ، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعٌ فَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ وَلَا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ " (1)
__________
(1) - أخرجه البخاري برقم(5067)
فتح الباري لابن حجر - (ج 14 / ص 297)
4679 - حَدِيث عَطَاء قَالَ " حَضَرْنَا مَعَ اِبْن عَبَّاس جِنَازَة مَيْمُونَة "
زَادَ مُسْلِم مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن بَكْر عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ " زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
قَوْله ( بِسَرِف ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَكَسْر الرَّاء بَعْدهَا فَاء : مَكَان مَعْرُوف بِظَاهِرِ مَكَّة ، تَقَدَّمَ بَيَانه فِي الْحَجّ ، وَأَخْرَجَ اِبْن سَعْد بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ يَزِيد بْن الْأَصَمّ قَالَ " دَفَنَّا مَيْمُونَة بِسَرِف فِي الظُّلَّة الَّتِي بَنَى بِهَا فِيهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَمِنْ وَجْه آخَر عَنْ يَزِيد بْن الْأَصَمّ قَالَ " صَلَّى عَلَيْهَا اِبْن عَبَّاس ، وَنَزَلَ فِي قَبْرهَا عَبْد الرَّحْمَن بْن خَالِد بْن الْوَلِيد " . قُلْت : وَهِيَ خَالَة أَبِيهِ " وَعُبَيْد اللَّه الْخَوْلَانِيّ " . قُلْت : وَكَانَ فِي حِجْرهَا " وَيَزِيد بْن الْأَصَمّ " . قُلْت : وَهِيَ خَالَته كَمَا هِيَ خَالَة اِبْن عَبَّاس .
قَوْله ( فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشهَا ) بِعَيْنٍ مُهْمَلَة وَشِين مُعْجَمَة : السَّرِير الَّذِي يُوضَع عَلَيْهِ الْمَيِّت .
قَوْله ( فَلَا تُزَعْزِعُوهَا ) بِزَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ وَعَيْنَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ ، وَالزَّعْزَعَة تَحْرِيك الشَّيْء الَّذِي يُرْفَع . وَقَوْله " وَلَا تُزَلْزِلُوهَا " الزَّلْزَلَة الِاضْطِرَاب .
قَوْله ( وَارْفُقُوا )إِشَارَة إِلَى أَنَّ مُرَاده السَّيْر الْوَسَط الْمُعْتَدِل ، وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّ حُرْمَة الْمُؤْمِن بَعْد مَوْته بَاقِيَة كَمَا كَانَتْ فِي حَيَاته ، وَفِيهِ حَدِيث " كَسْر عَظْم الْمُؤْمِن مَيِّتًا كَكَسْرِهِ حَيًّا " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْن مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان .
قَوْله ( فَإِنَّهُ كَانَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْع نِسْوَة ) أَيْ عِنْد مَوْته ، وَهُنَّ سَوْدَة وَعَائِشَة وَحَفْصَة وَأُمّ سَلَمَة وَزَيْنَب بِنْت جَحْش وَأُمّ حَبِيبَة وَجُوَيْرِيَّة وَصَفِيَّة وَمَيْمُونَة . هَذَا تَرْتِيب تَزْوِيجه إِيَّاهُنَّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُنَّ ، وَمَاتَ وَهُنَّ فِي عِصْمَته . وَاخْتُلِفَ فِي رَيْحَانَة هَلْ كَانَتْ زَوْجَة أَوْ سُرِّيَّة ، وَهَلْ مَاتَتْ قَبْله أَوْ لَا ؟
قَوْله ( كَانَ يَقْسِم لِثَمَانٍ وَلَا يَقْسِم لِوَاحِدَةٍ ) زَادَ مُسْلِم فِي رِوَايَته " قَالَ عَطَاء : الَّتِي لَا يُقْسَم لَهَا صَفِيَّة بِنْت حُيَيّ بْن أَخْطَبَ " قَالَ عِيَاض قَالَ الطَّحَاوِيُّ : هَذَا وَهْم وَصَوَابه سَوْدَة كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا وَهَبَتْ يَوْمهَا لِعَائِشَة . وَإِنَّمَا غَلِطَ فِيهِ اِبْن جُرَيْجٍ رَاوِيه عَنْ عَطَاء كَذَا قَالَ ، قَالَ عِيَاض : قَدْ ذَكَرُوا فِي قَوْله تَعَالَى ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ ) أَنَّهُ آوَى عَائِشَة وَحَفْصَة وَزَيْنَب وَأُمّ سَلَمَة فَكَانَ يُسْتَوْفَى لَهُنَّ الْقَسْم ، وَأَرْجَأَ سَوْدَة وَجُوَيْرِيَّة وَأُمّ حَبِيبَة وَمَيْمُونَة وَصَفِيَّة فَكَانَ يَقْسِم لَهُنَّ مَا شَاءَ ، قَالَ : فَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون رِوَايَة اِبْن جُرَيْجٍ صَحِيحَة وَيَكُون ذَلِكَ فِي آخِر أَمْرِهِ حَيْثُ آوَى الْجَمِيع فَكَانَ يَقْسِم لِجَمِيعِهِنَّ إِلَّا لِصَفِيَّة . قُلْت : قَدْ أَخْرَجَ اِبْن سَعْد مِنْ ثَلَاثَة طُرُق أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِم لِصَفِيَّة كَمَا يَقْسِم لِنِسَائِهِ ، لَكِنْ فِي الْأَسَانِيد الثَّلَاثَة الْوَاقِدِيُّ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ . وَقَدْ تَعَصَّبَ مُغَلْطَايْ لِلْوَاقِدِيّ فَنَقَلَ كَلَامَ مَنْ قَوَّاهُ وَوَثَّقَهُ وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ مَنْ وَهَّاهُ وَاتَّهَمَهُ وَهُمْ أَكْثَر عَدَدًا وَأَشَدّ إِتْقَانًا وَأَقْوَى مَعْرِفَة بِهِ مِنْ الْأَوَّلِينَ ، وَمِنْ جُمْلَة مَا قَوَّاهُ بِهِ أَنَّ الشَّافِعِيّ رَوَى عَنْهُ . وَقَدْ أَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ كَذَّبَهُ ، وَلَا يُقَال فَكَيْف رَوَى عَنْهُ لِأَنَّا نَقُول : رِوَايَة الْعَدْل لَيْسَتْ بِمُجَرَّدِهَا تَوْثِيقًا ، فَقَدْ رَوَى أَبُو حَنِيفَة عَنْ جَابِر الْجُعْفِيِّ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا رَأَيْت أَكْذَب مِنْهُ ، فَيَتَرَجَّح أَنَّ مُرَاد اِبْن عَبَّاس بِالَّتِي لَا يَقْسِم لَهَا سَوْدَة كَمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ ، لِحَدِيثِ عَائِشَة " إِنَّ سَوْدَة وَهَبَتْ يَوْمهَا لِعَائِشَة ، وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِم لِعَائِشَة يَوْمهَا وَيَوْم سَوْدَة " وَسَيَأْتِي فِي بَاب مُفْرَد وَهُوَ قَبْل كِتَاب الطَّلَاق بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا وَيَأْتِي بَسْطُ الْقِصَّة هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ، لَكِنْ يَحْتَمِل أَنْ يُقَال لَا يَلْزَم مِنْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَبِيت عِنْد سَوْدَة أَنْ لَا يَقْسِم لَهَا ، بَلْ كَانَ يَقْسِم لَهَا لَكِنْ يَبِيت عِنْد عَائِشَة لِمَا وَقَعَ مِنْ تِلْكَ الْهِبَة . نَعَمْ يَجُوز نَفْي الْقَسْمِ عَنْهَا مَجَازًا ، وَالرَّاجِح عِنْدِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيّ حَذَفَ هَذِهِ الزِّيَادَة عَمْدًا . وَقَدْ وَقَعَ عِنْد مُسْلِم أَيْضًا فِيهِ زِيَادَة أُخْرَى مِنْ رِوَايَة عَبْد الرَّزَّاق عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ ، قَالَ عَطَاء : وَكَانَتْ آخِرهنَّ مَوْتًا مَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ . كَذَا قَالَ ، فَأَمَّا كَوْنهَا آخِرهنَّ مَوْتًا فَقَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ اِبْن سَعْد وَغَيْره قَالُوا : وَكَانَتْ وَفَاتهَا سَنَة إِحْدَى وَسِتِّينَ ، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ فَقَالُوا : مَاتَتْ سَنَة سِتّ وَخَمْسِينَ ، وَيُعَكِّر عَلَيْهِ أَنَّ أُمّ سَلَمَة عَاشَتْ إِلَى قَتْلِ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ وَكَانَ قَتْله يَوْم عَاشُورَاء سَنَة إِحْدَى وَسِتِّينَ ، وَقِيلَ بَلْ مَاتَتْ أُمّ سَلَمَة سَنَة تِسْع وَخَمْسِينَ ، وَالْأَوَّل أَرْجَح . وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُونَا مَاتَتَا فِي سَنَة وَاحِدَة لَكِنْ تَأَخَّرَتْ مَيْمُونَة . وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا إِنَّهَا مَاتَتْ سَنَة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَقِيلَ ، سَنَة سِتّ وَسِتِّينَ ، وَعَلَى هَذَا لَا تَرْدِيد فِي آخِرِيّتهَا فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْله : وَمَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ ، فَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ عِيَاض فَقَالَ : ظَاهِره أَنَّهُ أَرَادَ مَيْمُونَة ، كَيْف يَلْتَئِم مَعَ قَوْله فِي أَوَّل الْحَدِيث إِنَّهَا مَاتَتْ بِسَرِف ، وَسَرِف مِنْ مَكَّة بِلَا خِلَاف ، فَيَكُون قَوْله بِالْمَدِينَةِ وَهْمًا . قُلْت : يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِالْمَدِينَةِ الْبَلَد وَهِيَ مَكَّة . وَالَّذِي فِي أَوَّل الْحَدِيث أَنَّهُمْ حَضَرُوا جِنَازَتهَا بِسَرِف ، وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا مَاتَتْ بِسَرِف فَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون مَاتَتْ دَاخِل مَكَّة وَأَوْصَتْ أَنْ تُدْفَن بِالْمَكَانِ الَّذِي دَخَلَ بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ فَنَفَّذَ اِبْن عَبَّاس وَصِيَّتهَا ، وَيُؤَيِّد ذَلِكَ أَنَّ اِبْن سَعْد لَمَّا ذَكَرَ حَدِيث اِبْن جُرَيْجٍ هَذَا قَالَ بَعْده : وَقَالَ غَيْر اِبْن جُرَيْجٍ فِي هَذَا الْحَدِيث تُوُفِّيَتْ بِمَكَّة فَحَمَلَهَا اِبْن عَبَّاس حَتَّى دَفَنَهَا بِسَرِف .(1/32)
الْحَالُ الَّتِي يَخْتَلِفُ فِيهِ حَالُ النِّسَاءِ
35-7691 أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا : حَدَّثَنَا يَحْيَى ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا وَقَالَ يَعْقُوبُ : " فَلَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا " وَقَالَ لَهَا : " لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ ، سَبَّعْتُ لِنِسَائِي "(1)
__________
(1) - أخرجه مالك في الموطأ برقم(1108) ومسلم برم(3694)
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 190)
أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ بِك عَلَى أَهْلك هَوَان ) فَمَعْنَاهُ لَا يَلْحَقك هَوَان وَلَا يَضِيع مِنْ حَقّك شَيْء بَلْ تَأْخُذِينَهُ كَامِلًا ثُمَّ بَيَّنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقّهَا وَأَنَّهَا مُخَيَّرَة بَيْن ثَلَاث بِلَا قَضَاء وَبَيْن سَبْع وَيَقْضِي لِبَاقِي نِسَائِهِ لِأَنَّ فِي الثَّلَاثَة مَزِيَّة بِعَدَمِ الْقَضَاء ، وَفِي السَّبْع مَزِيَّة لَهَا بِتَوَالِيهَا وَكَمَال الْأُنْس فِيهَا ، فَاخْتَارَتْ الثَّلَاث لِكَوْنِهَا لَا تُقْضَى وَلِيَقْرَب عَوْده إِلَيْهَا فَإِنَّهُ يَطُوف عَلَيْهِنَّ لَيْلَة لَيْلَة ثُمَّ يَأْتِيهَا ، وَلَوْ أَخَذَتْ سَبْعًا طَافَ بَعْد ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ سَبْعًا سَبْعًا فَطَالَتْ غَيْبَته عَنْهَا . قَالَ الْقَاضِي : الْمُرَاد بِأَهْلِك هُنَا نَفْسه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ لَا أَفْعَل فِعْلًا بِهِ هَوَانك عَلَيَّ .
وَفِي هَذَا الْحَدِيث اِسْتِحْبَاب مُلَاطَفَة الْأَهْل وَالْعِيَال وَغَيْرهمْ وَتَقْرِيب الْحَقّ مِنْ فَهْم الْمُخَاطَب لِيَرْجِع إِلَيْهِ ، وَفِيهِ الْعَدْل بَيْن الزَّوْجَات .
وَفِيهِ أَنَّ حَقّ الزِّفَاف ثَابِت لِلْمَزْفُوفَةِ وَتَقَدَّمَ بِهِ عَلَى غَيْرهَا فَإِنْ كَانَتْ بِكْر كَانَ لَهَا سَبْع لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا بِلَا قَضَاء ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا كَانَ لَهَا الْخِيَار إِنْ شَاءَتْ سَبْعًا ، وَيَقْضِي السَّبْع لِبَاقِي النِّسَاء ، وَإِنْ شَاءَتْ ثَلَاثًا وَلَا يَقْضِي . هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن جَرِير وَجُمْهُور الْعُلَمَاء . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْحَكَم وَحَمَّاد : يَجِب قَضَاء الْجَمِيع فِي الثَّيِّب وَالْبِكْر وَاسْتَدَلُّوا بِالظَّوَاهِرِ الْوَارِدَة بِالْعَدْلِ بَيْن الزَّوْجَات .
وَحُجَّة الشَّافِعِيّ هَذِهِ الْأَحَادِيث وَهِيَ مُخَصَّصَة لِلظَّوَاهِرِ الْعَامَّة .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَنَّ هَذَا الْحَقّ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ الْجَدِيدَة ، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّهُ حَقّ لَهَا ، وَقَالَ بَعْض الْمَالِكِيَّة : حَقّ لَهُ عَلَى بَقِيَّة نِسَائِهِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي اِخْتِصَاصه بِمَنْ لَهُ زَوْجَات غَيْر الْجَدِيدَة . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : جُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَقّ لِلْمَرْأَةِ بِسَبَبِ الزِّفَاف سَوَاء كَانَ عِنْده زَوْجَة أَمْ لَا لِعُمُومِ الْحَدِيث ( إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْر أَقَامَ عِنْدهَا سَبْعًا وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّب أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا ) ، لَمْ يَخُصّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجَة . وَقَالَتْ طَائِفَة : الْحَدِيث فِيمَنْ لَهُ زَوْجَة أَوْ زَوْجَات غَيْر هَذِهِ لِأَنَّ مَنْ لَا زَوْجَة لَهُ فَهُوَ مُقِيم مَعَ هَذِهِ كُلّ دَهْره مُؤْنِس لَهَا مُتَمَتِّع بِهَا مُسْتَمْتِعَة بِهِ بِلَا قَاطِع بِخِلَافِ مَنْ لَهُ زَوْجَات فَإِنَّهُ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَيَّام لِلْجَدِيدَةِ تَأْنِيسًا لَهَا مُتَّصِلًا لِتَسْتَقِرّ عِشْرَتهَا لَهُ وَتَذْهَب حِشْمَتهَا وَوَحْشَتهَا مِنْهُ ، وَيَقْضِي كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا لَذَّته مِنْ صَاحِبه وَلَا يَنْقَطِع بِالدَّوَرَانِ عَلَى غَيْرهَا . وَرَجَّحَ الْقَاضِي عِيَاض هَذَا الْقَوْل وَبِهِ جَزَمَ الْبَغَوِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا فِي فَتَاوِيه فَقَالَ : إِنَّمَا يَثْبُت هَذَا الْحَقّ لِلْجَدِيدَةِ إِذَا كَانَ عِنْده أُخْرَى يَبِيت عِنْدهَا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُخْرَى أَوْ كَانَ لَا يَبِيت عِنْدهَا لَمْ يَثْبُت لِلْجَدِيدَةِ حَقّ الزِّفَاف ، كَمَا لَا يَلْزَمهُ أَنْ يَبِيت عِنْد زَوْجَاته اِبْتِدَاء ، وَالْأَوَّل أَقْوَى وَهُوَ الْمُخْتَار لِعُمُومِ الْحَدِيث .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْمَقَام عِنْد الْبِكْر وَالثَّيِّب إِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَة أُخْرَى وَاجِب أَمْ مُسْتَحَبّ فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَمُوَافِقِيهِمْ أَنَّهُ وَاجِب وَهِيَ رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك وَرُوِيَ عَنْهُ اِبْن عَبْد الْحَكَم أَنَّهُ عَلَى الِاسْتِحْبَاب .
--------------
المنتقى - شرح الموطأ - (ج 3 / ص 187)
973 - ( ش ) : قَوْلُهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ وَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَالَ لَهَا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ أَصْبَحَتْ فِيهِ عِنْدَهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَخَذَتْ بِثَوْبِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ شِئْتِ زِدْتُكِ وَحَاسَبْتُكِ بِهِ ، الْبِكْرُ سَبْعٌ وَالثَّيِّبُ ثَلَاثٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهَا ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ يَوْمٍ فَاخْتَارَتْ الثَّلَاثَةَ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ حِينَ تَعَلَّقَتْ بِثَوْبِهِ إعَادَةً لِلتَّخْيِيرِ .
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِك عَلَى أَهْلِك هَوَانٌ يُرِيدُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِهَيِّنَةٍ عَلَيْهِ بَلْ يُرِيدُ إكْرَامَهَا وَمُوَافَقَةَ إرَادَتِهَا فِي الْمَقَامِ عِنْدَهَا وَأَنَّهُ إِنْ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ عِنْدَ الْبِكْرِ سَبْعٌ فَلَيْسَ لِهَوَانِهَا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ سَائِرِ الزَّوْجَاتِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَقَامِ عِنْدَهَا فَإِنْ سَبَّعَ عِنْدَهَا وَزَادَ عَلَى الْمَقَامِ عِنْدَ الثَّيِّبِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْضِيَ سَائِرَ نِسَائِهِ مِنْ الْمُدَّةِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَسْقُطُ حُكْمُ الثَّلَاثِ عِنْدَ الثَّيِّبِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لَهَا فِي مَقَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَّصِلَ بِمَا بَعْدَهَا فَيَسْقُطُ لِذَلِكَ حُكْمُ الثَّلَاثِ وَيَبْقَى مُجَرَّدُ التَّسْبِيعِ تَضَمُّنًا لِإِرَادَةِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِىَ اللَّهَ عَنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ اقْتَصَرَتْ عَلَى الْحَقِّ الْوَاجِبِ لَهَا مِنْ التَّثْلِيثِ لَمْ يَقْضِ سَائِرَ الْأَزْوَاجِ شَيْئًا وَاسْتَأْنَفَ الْقِسْمَةَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمَقَامَ عِنْدَ الثَّيِّبِ حَقٌّ لَا يَقْضِي بِهِ سَائِرَ الزَّوْجَاتِ مَقَامًا وَلَا لَهُنَّ فِيهِ اعْتِرَاضٌ لِتَعْلِيقِهِ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ أُمِّ سَلَمَةَ دُونَ مَشِيئَتِهِنَّ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ . قَالَ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ حَقًّا لَهُ جَازَ لَهُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ وَإِذَا كَانَ حَقًّا لِلزَّوْجَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرْكُهُ إِلَّا بِإِذْنِهَا فَوَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حَقٌّ لِلزَّوْجِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ لَيْسَ بِك عَلَى أَهْلِك هَوَانٌ إِنْ شِئْتَ سَبَّعْتَ عِنْدَكَ وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ وَدُرْتُ فَأَخْبَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَامِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِهَا لِأَنَّ الْإِكْرَامَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي إيتَاءِ الْحُقُوقِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي إعْطَاءِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لِلْمَكْرُومِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهَا لَقَالَ لَيْسَ بِنَا مُنِعَ حَقُّك . وَوَجْهُ قَوْلِنَا بِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ لِلْبِكْرِ سَبْعٌ وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ وَقَدْ أَسْنَدَهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْغَرَضَ تَأْنِيسُ الْمَرْأَةِ وَبَسْطُهَا وَإِذْهَابُ مَا يَلْحَقُهَا مِنْ الِانْقِبَاضِ وَالْخَجَلِ وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهَا وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ إنَّهُ حَقٌّ لَهُمَا جَمِيعًا وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ عِنْدِي .
( فَرْعٌ ) فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ فَهَلْ يَقْضِي بِهِ عَلَى الزَّوْجِ أَمْ لَا ؟ قَالَ أَصْبَغُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ هُوَ حَقٌّ عَلَيْهِ وَلَا يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ كَالْمُتْعَةِ وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ . فَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ سَبَبُهُ الْمُكَارَمَةُ فَلَمْ يُقْضَ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ كَالْإِمْتَاعِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ مِنْ الْمَقَامِ عِنْدَهَا فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِهِ عَلَى الزَّوْجِ كَالْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ .
( فَرْعٌ ) وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِلزَّوْجَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ غَيْرُهَا رَوَى أَبُو الْفَرْجِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِسَاءٌ غَيْرَهَا وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَا يَلْزَمُهُ الْمَقَامُ عِنْدَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهَا وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ التَّأْنِيسُ وَحَاجَتُهَا إِلَى ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهَا كَحَاجَتِهَا إِذَا كَانَ لَهُ غَيْرُهَا وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ هَذَا مَقَامٌ عِنْدَ الزَّوْجَةِ فَلَا يَلْزَمُ مَنْ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا كَالْقَسَمِ .
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ يُرِيدُ التَّخْيِيرَ لَهَا فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ إِنْ اخْتَارَتْ التَّسْبِيعَ قَضَى سَائِرَ نِسَائِهِ سَبْعًا سَبْعًا وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ لَا يُخَيِّرُهَا فِي ذَلِكَ وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ بِأَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا . وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ التَّعَلُّقُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي التَّعَلُّقُ بِمَا يَثْبُتُ مِنْ الْفِعْلِ فَصَارَ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَى جَمِيعِ الزَّوْجَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
---------------
شرح ابن بطال - (ج 13 / ص 334)
اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: يقيم عند البكر سبعًا وعند الثيب ثلاثًا إذا كانت له امرأة أخرى أو أكثر على نص هذا الحديث، ثم يقسم بينهن ولا يقضى المتقدمات بدل ما أقام عند الجديدة، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وأبى عبيد، واحتجوا بحديث أنس. وقال ابن المسيب، والحسن: للبكر ثلاثًا، وللثيب ليلتين، وهو قول الأوزاعى، قال: إذا تزوج البكر على الثيب مكث ثلاثًا، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام يومين. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقيم عند البكر إلا كما يقيم عند الثيب، وهما سواء فى ذلك، واحتجوا بحديث أم سلمة، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لها: « إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت ودرت » ، قالت: ثلث ودر، قالوا: فلم يعطها فى السبع شيئًا إلا أعلمها أنه يعطى غيرها مثلها، فدل ذلك على المساواة بينهن.
قالوا: وكذلك قوله: « وإن شئت ثلثت ودرت » ، أى أدور مثلثًا أيضًا لهن، كما أدور مسبعًا إن سبعت، قالوا: ولو استحقت الثيب ثلاثة أيام قسم لها لوجب إذا سبع عندها أن يربع لهن.
وقال لهم أهل المقالة الأولى: قول النبى، عليه السلام: « ليس بك على أهلك هوان » ، يدل أنه رأى منها أنها استقلت الثلاث التى هى حق الثيب، فآنسها عليه السلام بقوله: « ليس بك على أهلك هوان » ، أى ليس أقسم ثلاثًا لهوانك عندى، وإنما أقسمها لك؛ لأنه حق الثيب، وخيرها بين أعلى حقوق النساء وأشرفها عندهن وهى السبع وبين الثلاث، على شرط إن اختارت السبع قسم لكل ثيب مثلها، وإن اختارت الثلاث التى هى حقها لم يقسم لغيرها مثلها، فرأت أن الثلاث التى هى حقها أفضل لها، إذ لا يقسم لغيرها مثلها ولسرعة رجوعه إليها، فاختارتها وطابت نفسها عليها، ورأت أنها أرجح عندها من أن يسبع عندها على أن يسبع عند غيرها.
وفى هذا ضرب من اللطف والرفق بمن يخشى منه كراهة قبول الحق حتى يتبين له فضله ويختار الرجوع إليه، ومما يبطل قول الكوفيين أنه إن ثلث عندها ثلث عندهن ثم يستأنف القسم أنه، عليه السلام، لما ذكر السبع قرنها بالقضاء، فقال: « سبعت عندك وسبعت عندهن » ، ولما ذكر الثلاث لم يقرنها بالقضاء؛ لأن الدوران عليهن يقتضى ابتداء قسم لا قضاء، فسقط قولهم، هذا قول ابن القصار. قال: وقد خالف الكوفيون حديث أم سلمة؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لها: « إن شئت سبعت عندك » ، فجعل لها الخيار فى القسم، وأبو حنيفة يجعل الخيار إلى الزوج، وفى هذا مخالفة الخبر.
قال أحمد بن خالد: هذا الباب عجب؛ لأنه صار فيه أهل المدينة إلى ما رواه أهل العراق؛ لأن حديث أنس حديث بصرى، وصار فيه أهل العراق إلى ما رواه اهل المدينة، وقول أهل المدينة أولى؛ لقول أنس: السنة للبكر سبع، وللثيب ثلاث، والصحابى إذا ذكر السنة بالألف واللام، فإنما أشار إلى سنته، عليه السلام، واللام فى قوله: للبكر سبع وللثيب ثلاث، لام الملك، فدل أن ذلك حق من حقوقها، فمحال أن يحاسبها بذلك، وقول ابن المسيب، والحسن، خلاف الآثار، فلا معنى له.
----------------
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10740)
8 - ذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّ صاحب النّسوة إذا تزوّج امرأةً جديدةً وأعرسها قطع الدّور ، وأقام عندها سبعاً إن كانت بكراً ، وثلاثاً إن كانت ثيّباً ، وتكون السّبع والثّلاث متتاليات ، ولا يقضيها لزوجاته الباقيات ، ثمّ يعود للدّور بين زوجاته ، لما ورد عن أنس رضي الله عنه قال : من السّنّة إذا تزوّج الرّجل البكر على الثّيّب أقام عندها سبعاً وقسم ، وإذا تزوّج الثّيّب على البكر أقام عندها ثلاثاً ثمّ قسم ، وإلى هذا ذهب الشّعبيّ ، والنّخعيّ ، وإسحاق .
وقال الجمهور : إنّ ذلك حقّ للمرأة بسبب الزّفاف ، وإنّ الثّيّب العروس إذا شاءت أن يقيم عندها سبعاً فعل ، وقضي للبواقي من ضرّاتها ، لما ورد عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا تزوّجها أقام عندها ثلاثاً وقال : « إنّه ليس بك على أهلك هوان ، إن شئت سبّعت لك ، وإن سبّعت لك سبّعت لنسائي » وفي رواية : « وإن شئت زدتك وحاسبتك به ، للبكر سبع وللثّيّب ثلاث » وفي لفظ : « إن شئت أقمت معك ثلاثاً خالصةً لك ، وإن شئت سبّعت لك ثمّ سبّعت لنسائي » .
وذهب الحنفيّة إلى : أنّه لا فضل للجديدة في القسم على القديمة ، لإطلاق قوله تعالى : « وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ » .
وقوله تعالى : « وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ » .
وقال سعيد بن المسيّب والحسن البصريّ ونافع والأوزاعيّ : للبكر ثلاث وللثّيّب ليلتان وتفصيل ذلك في مصطلح : « قسم بين الزّوجات » .(1/33)
36-7692 أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ الْقَطَّانُ الرَّقِّيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ ، أَنَّ عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو ، وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا ، سَمِعَا أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ ، يُخْبِرُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ : لَمَّا وَضَعَتْ زَيْنَبُ جَاءَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَنِي فَقُلْتُ : " مَا مِثْلِي تُنْكَحُ ، أَمَا أَنَا فَلَا وَلَدَ فِيَّ ، وَأَنَا غَيُورٌ ذَاتُ عِيَالٍ " قَالَ : " أَنَا أَكْبَرُ مِنْكِ ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ فَيُذْهِبُهَا اللَّهُ ، وَأَمَّا الْعِيَالُ فَإِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَتَزَوَّجَهَا فَجَعَلَ يَأْتِيهَا " وَيَقُولُ : " أَيْنَ زُنَابُ ؟ " حَتَّى جَاءَ عَمَّارٌ يَوْمًا فَاخْتَلَجَهَا فَقَالَ : " هَذِهِ تَمْنَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَتْ تُرْضِعُهَا فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَقَالَ : " أَيْنَ زُنَابُ ؟ " قَالَتْ : قُرَيْبَةٌ " وَوَافَقَهَا عِنْدَهَا أَخَذَهَا عَمَّارٌ " فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَا أَجِيئُكُمُ اللَّيْلَةَ " فَبَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَصْبَحَ فَقَالَ : حِينَ أَصْبَحَ : " إِنَّ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ كَرَامَةً ، فَإِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ ، وَإِنْ أُسَبِّعْ أُسَبِّعْ لِنِسَائِي " (1)
__________
(1) - أخرجه عبد الرزاق برقم(10645) وأحمد برقم(27479) وأبو عوانة برقم(3500) ومسلم برقم(3694) مختصرا وهو صحيح
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 190)
أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ بِك عَلَى أَهْلك هَوَان ) فَمَعْنَاهُ لَا يَلْحَقك هَوَان وَلَا يَضِيع مِنْ حَقّك شَيْء بَلْ تَأْخُذِينَهُ كَامِلًا ثُمَّ بَيَّنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقّهَا وَأَنَّهَا مُخَيَّرَة بَيْن ثَلَاث بِلَا قَضَاء وَبَيْن سَبْع وَيَقْضِي لِبَاقِي نِسَائِهِ لِأَنَّ فِي الثَّلَاثَة مَزِيَّة بِعَدَمِ الْقَضَاء ، وَفِي السَّبْع مَزِيَّة لَهَا بِتَوَالِيهَا وَكَمَال الْأُنْس فِيهَا ، فَاخْتَارَتْ الثَّلَاث لِكَوْنِهَا لَا تُقْضَى وَلِيَقْرَب عَوْده إِلَيْهَا فَإِنَّهُ يَطُوف عَلَيْهِنَّ لَيْلَة لَيْلَة ثُمَّ يَأْتِيهَا ، وَلَوْ أَخَذَتْ سَبْعًا طَافَ بَعْد ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ سَبْعًا سَبْعًا فَطَالَتْ غَيْبَته عَنْهَا . قَالَ الْقَاضِي : الْمُرَاد بِأَهْلِك هُنَا نَفْسه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ لَا أَفْعَل فِعْلًا بِهِ هَوَانك عَلَيَّ .
وَفِي هَذَا الْحَدِيث اِسْتِحْبَاب مُلَاطَفَة الْأَهْل وَالْعِيَال وَغَيْرهمْ وَتَقْرِيب الْحَقّ مِنْ فَهْم الْمُخَاطَب لِيَرْجِع إِلَيْهِ ، وَفِيهِ الْعَدْل بَيْن الزَّوْجَات .
وَفِيهِ أَنَّ حَقّ الزِّفَاف ثَابِت لِلْمَزْفُوفَةِ وَتَقَدَّمَ بِهِ عَلَى غَيْرهَا فَإِنْ كَانَتْ بِكْر كَانَ لَهَا سَبْع لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا بِلَا قَضَاء ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا كَانَ لَهَا الْخِيَار إِنْ شَاءَتْ سَبْعًا ، وَيَقْضِي السَّبْع لِبَاقِي النِّسَاء ، وَإِنْ شَاءَتْ ثَلَاثًا وَلَا يَقْضِي . هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن جَرِير وَجُمْهُور الْعُلَمَاء . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْحَكَم وَحَمَّاد : يَجِب قَضَاء الْجَمِيع فِي الثَّيِّب وَالْبِكْر وَاسْتَدَلُّوا بِالظَّوَاهِرِ الْوَارِدَة بِالْعَدْلِ بَيْن الزَّوْجَات .
وَحُجَّة الشَّافِعِيّ هَذِهِ الْأَحَادِيث وَهِيَ مُخَصَّصَة لِلظَّوَاهِرِ الْعَامَّة .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَنَّ هَذَا الْحَقّ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ الْجَدِيدَة ، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّهُ حَقّ لَهَا ، وَقَالَ بَعْض الْمَالِكِيَّة : حَقّ لَهُ عَلَى بَقِيَّة نِسَائِهِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي اِخْتِصَاصه بِمَنْ لَهُ زَوْجَات غَيْر الْجَدِيدَة . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : جُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَقّ لِلْمَرْأَةِ بِسَبَبِ الزِّفَاف سَوَاء كَانَ عِنْده زَوْجَة أَمْ لَا لِعُمُومِ الْحَدِيث ( إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْر أَقَامَ عِنْدهَا سَبْعًا وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّب أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا ) ، لَمْ يَخُصّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجَة . وَقَالَتْ طَائِفَة : الْحَدِيث فِيمَنْ لَهُ زَوْجَة أَوْ زَوْجَات غَيْر هَذِهِ لِأَنَّ مَنْ لَا زَوْجَة لَهُ فَهُوَ مُقِيم مَعَ هَذِهِ كُلّ دَهْره مُؤْنِس لَهَا مُتَمَتِّع بِهَا مُسْتَمْتِعَة بِهِ بِلَا قَاطِع بِخِلَافِ مَنْ لَهُ زَوْجَات فَإِنَّهُ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَيَّام لِلْجَدِيدَةِ تَأْنِيسًا لَهَا مُتَّصِلًا لِتَسْتَقِرّ عِشْرَتهَا لَهُ وَتَذْهَب حِشْمَتهَا وَوَحْشَتهَا مِنْهُ ، وَيَقْضِي كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا لَذَّته مِنْ صَاحِبه وَلَا يَنْقَطِع بِالدَّوَرَانِ عَلَى غَيْرهَا . وَرَجَّحَ الْقَاضِي عِيَاض هَذَا الْقَوْل وَبِهِ جَزَمَ الْبَغَوِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا فِي فَتَاوِيه فَقَالَ : إِنَّمَا يَثْبُت هَذَا الْحَقّ لِلْجَدِيدَةِ إِذَا كَانَ عِنْده أُخْرَى يَبِيت عِنْدهَا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُخْرَى أَوْ كَانَ لَا يَبِيت عِنْدهَا لَمْ يَثْبُت لِلْجَدِيدَةِ حَقّ الزِّفَاف ، كَمَا لَا يَلْزَمهُ أَنْ يَبِيت عِنْد زَوْجَاته اِبْتِدَاء ، وَالْأَوَّل أَقْوَى وَهُوَ الْمُخْتَار لِعُمُومِ الْحَدِيث .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْمَقَام عِنْد الْبِكْر وَالثَّيِّب إِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَة أُخْرَى وَاجِب أَمْ مُسْتَحَبّ فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَمُوَافِقِيهِمْ أَنَّهُ وَاجِب وَهِيَ رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك وَرُوِيَ عَنْهُ اِبْن عَبْد الْحَكَم أَنَّهُ عَلَى الِاسْتِحْبَاب .
موطأ محمد بشرح اللكنوي - (ج 2 / ص 115)
قوله: على أهلك، يريد به نفسه صلى الله عليه وسلم . يقول ليس عليَّ بك احتقار وإذلال بالنسبة إلى باقي الأزواج، فلا أفعل فعلاً يكون فيه هوانك، بل الأمر بيدك إن شئتِ سبَّعتُ عندكِ وإن شئتِ ثلَّثت.
قوله: هوان، قال النووي: معناه لا يلحقك هوان ولا يضيع من حقك شيء بل تأخُذِينه كاملاً، وقال الأبَّي: قيل: المراد بالأهل قبيلتها لأن الإعراض عن المرأة وعدم المبالاة بها يدل على عدم المبالاة بأهلها فالباء على الأول متعلقة بهوان، وعلى الثاني للسببية أي لا يلحق أهلك بسببك هوان، كذا قال الزرقاني.
أي أقمتُ عندك سبعاً.
أي عند بقية الزوجات.
أي أقمت ثلاثاً.قوله: ودُرْت، ظاهره أن الثلاث حق للجديدة الثيبة فإن معنى درت الدوران المعتاد وهو القسم يوماً يوماً، فكأنه قال لأم سلمة: وكانت ثيبة إن شئتِ سبَّعتُ عندك فأسبِّع عند بقية الأزواج للتسوية، إذ لا حق لك في السبعة، وأن شئتِ ثلَّثتُ عندك فتُوَفِّي حقك، ثم درت على بقية النساء يوماً يوماً بالسوية، وفُهم منه جواز تخيير الثيب بين الثلاث بلا قضاء، والسبع مع القضاء، وإليه ذهب الجمهور والشافعي وأحمد كما ذكره النووي وغيره، وقال مالك وأصحابه: لا تُخيَّر بل للبكر الجديدة سبع وللثيب ثلاث يرون التخيير والقضاء، قال ابن عبد البر: هذا أي حديث أم سلمة تركه مالك وأصحابه للحديث الذي رواه مالك عن أنس. انتهى. وأشار به إلى ما في صحيح البخاري عن أنس أنه قال : السنَّة إذا تزوُّج البكر أقام عندها سبعاً، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً، وفيه أيضاً عنه: من السنَّة إذا تزوَّج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعاً وقسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثاً ثم قسم. وأخرج ابن ماجه والدارمي وابن خزيمة والإسماعيلي والدارقطني والبيهقي وابن حبان هذا الحديثَ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سَبعٌ للبكر وثلاث للثيب. واعتذر أصحاب مالك عن حديث أم سلمة الدال صريحاً على التخيير بأن مالكاً رأى ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خُصَّ في النكاح بخصائص فاحتمال الخصوصية مَنَع من الأخذ به، وفيه ضعفٌ ظاهر لأن مجرد الاحتمال لا يمنع الاستدلال، وقال أصحابنا الحنفية: لا فرق بين الجديدة والقديمة ولا بين البكر والثيبة، بل يجب القسم على السوية بينهن يوماً يوماً لإِطلاق قوله تعالى: {ولَنْ تَستَطيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَين النِّسَاءِ ولو حَرَصْتُم فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيلِ} سورة النساء: الآية 129، وقوله تعالى: {فإنْ خِفْتُم ألا تَعدِلُوا فَواحدة أو مَا ملكتْ أَيمَانُكُم} سورة النساء: الآية 3، وإطلاق ما روى أصحاب السنن الأربعة عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويعدل ويقول: اللَّهم هذا قَسْمي فيما أملك فلا تَلُمْني فيما تملك ولا أملك يعني القلب أي زيادة المحبة. فظاهره أنَّ ماعداه داخل تحت ملكه فتجب السوية فيه، ولما روى أصحاب السنن وأحمد والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعاً، من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقّه مائل. فظاهر هذه النصوص يقتضي التسوية من غير فصل، فإن سبَّع عند الجديدة سبَّع عند غيرها، وإن ثلَّث عندها ثلث عند غيرها، ولا حق لها في الزيادة بكراً كانت أم ثيباً، كذا قرره ابن الهمام وغيره. وعلى هذا حملوا حديث أم سلمة، وقالوا: معنى دُرتُ: الدوران عند البقية بالثلاث ليحصل المساواة إلاَّ أنه خلاف الظاهر، وخلاف ما أخرجه النسائي والدارقطني بطريق فيه الواقدي: أنه قال لأم سلمة: إن شئتِ أقمتُ عندك ثلاثاً خالصةً لك، وإن شئتِ سبَّعتُ لك وسبَّعت لنسائي.
قوله: قالت: ثلاث، قال القاضي عياض: اختارت التثليث مع أخذها بثوبه حرصاً على طول إقامتِه عندها لأنها رأت أنه إذا سبَّع لها وسبَّع لغيرها لم يقرب رجوعه إليها.
أي الجديدة.
أي القديمة.
قوله: أن يثلِّث عندهن، لعله مبني على حمل الدَّوْر المذكور في الحديث على الدَّوْر بالتثليث، وقد عرفتَ ما فيه، ولذا قال القاري في شرحه تحت هذا القول: فيه أن ظاهر الحديث السابق أن بعد التثليث هو الدور ولا يفهم منه التثليث عندهن إلاَّ من دليل خارج يحتاج إلى بيانه. انتهى.
قوله: وهو قول أبي حنيفة، قال علي القاري في "المرقاة شرح المشكاة": عندنا لا فرق بين القديمة والجديدة لإطلاق قوله تعالى: {فإن خفتُم ألاَّ تَعدِلُوا فواحدة} وقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أن تَعْدِلُوا بَينَ النِّسَاءِ} سورة النساء: الآية 129. وخبر الواحد لا ينسخ الكتاب. انتهى. فأشار إلى بناء الكلام على مسألة أصولية وهي عدم جواز نسخ إطلاق الكتاب القطعي بخبر الآحاد الظني، ففي ما نحن فيه لما ثبت بإطلاق الكتاب وجوب عموم المساواة ومنع الميل إلى إحدى الزوجات مطلقاً أفاد ذلك وجوب المساواة في القديمة والجديدة أيضاً والبكر والثيب أيضاً، فإن فُرِّق بينهما بحديث أنس أو أم سلمة وغيرها يلزم إبطال إطلاق الكتاب بالخبر الظني، وأشار في شرحه لهذا الكتاب إلى الإِيراد على هذا المسلك حيث قال بعد ذكر استناد علمائنا بآية: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا} وغيره فيه أنه إذا كان التخصيص وقع شرعاً يكون عدلاً فلا منافاة ولا معارضة أصلاً. انتهى.
---------------------
المحلى لابن حزم - (ج 6 / ص 5)
أَحْكَامُ قَسْمِ الزَّوْجَاتِ
1899 - مَسْأَلَةٌ : وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِكْرًا حُرَّةً أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً , وَلَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخُصَّ الْبِكْرَ بِمَبِيتِ سَبْعِ لَيَالٍ عِنْدَهَا , ثُمَّ يُقَسِّمَ فَيَعُودَ ، وَلاَ يُحَاسِبَهَا بِتِلْكَ السَّبْعِ , وَلاَ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَإِنْ تَزَوَّجَ ثَيِّبًا حُرَّةً أَوْ أَمَةً وَعِنْدَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ أَوْ كِتَابِيَّةٌ فَلَهُ أَنْ يَخُصَّهَا بِمَبِيتِ ثَلاَثِ لَيَالٍ , ثُمَّ يُقَسِّمُ وَيَعْدِلُ , وَلاَ يُحَاسِبُهَا بِتِلْكَ الثَّلاَثِ , فَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ أَقَامَ عِنْدَ غَيْرِهَا كَمَا أَقَامَ عِنْدَهَا سَوَاءً سَوَاءً , وَيَسْقُطُ حُكْمُهَا فِي التَّفْضِيلِ ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا كَانَتْ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ غَيْرَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ أَنْ يَتَخَلَّفَ ، عَنْ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ , وَلاَ عَنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ , فَإِنْ فَعَلَ فَهِيَ مَعْصِيَةٌ وَجُرْحَةٌ فِيهِ , كَسَائِرِ النَّاسِ ، وَلاَ فَرْقَ ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخُصَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ بِأَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ إِلاَّ بِقُرْعَةٍ برهان ذَلِكَ : مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ ، حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْبِكْرِ سَبْعًا وَلِلثَّيِّبِ ثَلاَثًا وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي قَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ ، حَدَّثَنَا جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ ، حَدَّثَنَا أَبُو قِلاَبَةَ هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَزِيدَ الرَّقَاشِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ هُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ , وَخَالِدٍ الْحَذَّاءِ كِلاَهُمَا ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْجَرْمِيُّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا , وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا وَقَدْ رُوِّينَاهُ بِأَنَّ أَنَسًا قَالَ : هِيَ السُّنَّةُ وَكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ , وَاَلَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانٌ وَاضِحٌ فِي إسْنَادِهِ
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ هُوَ الْقَعْنَبِيُّ ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنَ بِلاَلٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حُمَيْدٍ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حِينَ تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَخَذَتْ بِثَوْبِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنْ شِئْتُ زِدْتُكِ وَحَاسَبْتُكِ بِهِ لِلْبِكْرِ سَبْعٌ وَلِلثَّيِّبِ ثَلاَثٌ
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ وَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ قَالَ لَهَا : لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ , إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ , وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ ثُمَّ دُرْتُ قَالَتْ : ثَلِّثْ
وَرُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ بَيْنَ الإِسْنَادِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ , قَالاَ جَمِيعًا : ، حَدَّثَنَا يَحْيَى ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَهَا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا , وَقَالَ : لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ , إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ , وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي .
وَبِهِ يَقُولُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ , وَالشَّعْبِيُّ , وَمَالِكٌ , وَالشَّافِعِيُّ , وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ , وَأَبُو ثَوْرٍ , وَأَبُو عُبَيْدٍ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ , وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِمْ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ : وَهُوَ أَنَّ لِلْبِكْرِ ثَلاَثَ لَيَالٍ , وَلِلثَّيِّبِ لَيْلَتَانِ :
رُوِّينَا ذَلِكَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَطَاءً ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَطَاءٌ : يُؤْثِرُونَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّهُ قَالَ : لِلْبِكْرِ ثَلاَثٌ , وَلِلثَّيِّبِ لَيْلَتَانِ
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : لِلْبِكْرِ ثَلاَثٌ , وَلِلثَّيِّبِ لَيْلَتَانِ
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : يَمْكُثُ عِنْدَ الْبِكْرِ ثَلاَثًا ثُمَّ يُقَسِّمُ , وَعِنْدَ الثَّيِّبِ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يُقَسِّمُ
وَهُوَ قَوْلُ خِلاَسِ بْنِ عَمْرٍو , وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَالأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لاَ يُقِيمُ عِنْدَ ثَيِّبٍ ، وَلاَ بِكْرٍ إِلاَّ مَا يُقِيمُ عِنْدَ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ عِنْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ , وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ , وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَأَصْحَابِهِ
وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى قَوْلِ الْحَسَنِ , وَابْنِ الْمُسَيِّبِ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ , وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالاَ جَمِيعًا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لِلْبِكْرِ ثَلاَثٌ
قال أبو محمد رحمه الله : هَذَا مُرْسَلٌ ، وَلاَ حُجَّةَ فِيهِ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ وَوَجَدْنَا مَنْ ذَهَبَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْتَجُّونَ بِمَا يَجِبُ مِنْ الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَبِالْخَبَرِ الثَّابِتِ الَّذِي فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ
قال أبو محمد رحمه الله : الَّذِي قَالَ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَمَ لِلْبِكْرِ بِسَبْعٍ زَائِدَةٍ , وَلِلثَّيِّبِ بِثَلاَثٍ زَائِدَةٍ , وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ قَوْلاً لَهُ عليه الصلاة والسلام لِقَوْلٍ لَهُ آخَرَ مَا دَامَ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهَا جَمِيعًا , بِأَنْ يَضُمَّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ , أَوْ بِأَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ , وَمَنْ تَعَدَّى هَذَا فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ الْمُخَالِفِينَ بِأَهْوَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَهُنَا يُوجِبُونَ فِي الْقِسْمَةِ لِلزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ وَلِلزَّوْجَةِ الأَمَةِ لَيْلَةً , وَهَذَا هُوَ الْمِيلُ حَقًّا , وَالْجَوْرُ صِرَاحًا , لاَ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِمْ : إنَّ لِلْحُرَّةِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لَيْلَتَيْنِ , وَلِلأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ لَيْلَةً , وَلاَ يَسْتَحْيُونَ مِنْ هَذَا التَّفْضِيلِ بِالْبَاطِلِ
وقال بعضهم : قَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا لاَ يُعْرَفُ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ لاَ يَجُوزُ الأَخْذُ بِهِ , لأََنَّهُ مُرْسَلٌ وَعَجَبٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ لِمَنْ لَهُ زَوْجَةٌ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ , وَأَمَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ , أَنْ يُقَسِّمَ لِلْحُرَّةِ لَيْلَةً , وَلِلْمَمْلُوكَةِ الْيَهُودِيَّةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ , فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الْفَضَائِحِ. وَلَهُمْ هَهُنَا اعْتِرَاضَاتٌ تَشْهَدُ بِقِلَّةِ حَيَاءِ الْمُعْتَرِضِ بِهَا , وَرِقَّةِ دِينِهِ كَتَعَلُّقِهِمْ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : إنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي فَقَالُوا : هَذَا حَدِيثٌ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ , وَنَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ : وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ وَدُرْتُ فَاعْتَرَضُوا بِعُقُولِهِمْ الرَّكِيكَةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَّمُوهُ الْعَدْلَ وَالْحِسَابَ وَقَالُوا : إنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي لَوْ سَبَّعَ عِنْدَهَا أَنْ يُحَاسِبَهَا بِالأَرْبَعِ لَيَالٍ الزَّائِدَةِ عَلَى الثَّلاَثِ الَّتِي هِيَ حَقُّهَا
قال أبو محمد رحمه الله : وَهَذَا مِنْ الْحُمْقِ وَرِقَّةِ الدِّينِ فِي النِّهَايَةِ الْقُصْوَى , لأََنَّهُ لاَ يَجِبُ حَقٌّ لأََحَدٍ إِلاَّ أَنْ يُوجِبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَاَلَّذِي أَوْجَبَ لَهَا ثَلاَثَ لَيَالٍ أَلَمُّ بِهَا دُونَ ضَرَّتِهَا , هُوَ الَّذِي أَسْقَطَهَا إنْ سَبَّعَ عِنْدَهَا لاَ يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ إِلاَّ كَافِرٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ.
قال أبو محمد رحمه الله :
فَإِنْ قَالُوا : فَمَا قَوْلُكُمْ إنْ أَقَامَ عِنْدَ الثَّيِّبِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ وَأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ , أَوْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعٍ , أَوْ أَقَامَ عِنْدَ الْبِكْرِ أَوْ الثَّيِّبِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعٍ وَلَهَا ضَرَّةٌ , أَوْ ضَرَائِرُ زَوْجَاتٌ
قلنا : نَعَمْ , أَمَّا إنْ أَقَامَ عِنْدَ الثَّيِّبِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ وَأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ , فَلاَ يُحَاسِبُهَا إِلاَّ بِمَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ ,
وَأَمَّا إنْ أَقَامَ عِنْدَهَا أَوْ عِنْدَ الْبِكْرِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعٍ , فَإِنَّهُ يُحَاسِبُ الثَّيِّبَ بِجَمِيعِ مَا أَقَامَ عِنْدَهَا , وَيُوفِي ضَرَّتَهَا أَوْ ضَرَائِرَهَا مِثْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَلاَ يُحَاسِبُ الْبِكْرَ إِلاَّ بِمَا زَادَ عَلَى السَّبْعِ فَقَطْ برهان ذَلِكَ : أَنَّ الثَّلاَثَ حَقُّ الثَّيِّبِ , وَالسَّبْعَ حَقُّ الْبِكْرِ , فَمَا زَادَ عَلَى هَذَيْنِ فَهُوَ ظُلْمٌ يُحَاسِبُهَا بِهِ , وَلاَ يَسْقُطُ حَقُّ الثَّيِّبِ فِي أَنْ أَلَمَّ بِالثَّلاَثِ إِلاَّ حَيْثُ أَسْقَطَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ , وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُسَبِّعَ لَهَا وَزَادَ عَلَى السَّبْعِ , لأََنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى السَّبْعِ تَسْبِيعٌ وَزِيَادَةٌ , وَقَدْ سَقَطَ حَقُّهَا فِي الثَّلاَثِ بِالتَّسْبِيعِ , فَإِذَا سَقَطَ لَمْ يَعُدْ بِالزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد رحمه الله : وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ : يُقَسِّمُ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ , وَلِلزَّوْجَةِ الْمَمْلُوكَةِ لَيْلَةً بِرِوَايَةٍ [ فَاسِدَةٍ ] رُوِّينَاهَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أرنا ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ ذَرٍّ أَوْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَسَدِيِّ ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إذَا تَزَوَّجَ الْحُرَّةَ عَلَى الأَمَةِ قَسَّمَ لِلأَمَةِ الثُّلُثُ , وَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ وَهَذَا لاَ يَصِحُّ , لأََنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى سَيِّئُ الْحِفْظِ , وَالْمِنْهَالُ ضَعِيفٌ
وَرُوِيَ ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ ، أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَثْبُتْ لِلْمِنْهَالِ شَهَادَةٌ فِي الإِسْلاَمِ وَلَكِنَّهُ صَحِيحٌ مِنْ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ , وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , وَمَسْرُوقٍ , وَالشَّعْبِيِّ , وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَرُوِيَ ، عَنْ عَطَاءٍ , وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ , وَالشَّافِعِيِّ
وقال مالك , وَاللَّيْثُ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ : الْقَسَمُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ.
قال أبو محمد رحمه الله : لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَوَعَّدَ عليه الصلاة والسلام كَمَا أَوْرَدْنَا قَبْلُ عَلَى الْمَيْلِ إلَى زَوْجَةٍ دُونَ أُخْرَى وَلَمْ يَخُصَّ حُرَّةً مِنْ أَمَةٍ ، وَلاَ مُسْلِمَةً مِنْ كِتَابِيَّةٍ وَاحْتَجُّوا مِنْ قِيَاسِهِمْ الْفَاسِدِ بِأَنْ قَالُوا : لَمَّا كَانَتْ عِدَّةُ الأَمَةِ نِصْفَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ : وَجَبَ أَنْ يَكُونَا فِي الْقَسَمِ كَذَلِكَ
قال أبو محمد رحمه الله : وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ : أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّنَا لاَ نُوَافِقُهُمْ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الأَمَةِ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ , ثُمَّ عَلَى قَوْلِهِمْ الْمُخْتَلِطِ لاَ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ عِدَّةَ الأَمَةِ الْحَامِلِ كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ الْحَامِلِ فَهَلاَّ جَعَلُوا الْقِسْمَةَ لَهُمَا سَوَاءً مِنْ أَجْلِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْعِدَّةِ الْمَذْكُورَةِ. وَيَقُولُونَ : إنَّ عِدَّةَ الأَمَةِ بِالأَقْرَاءِ ثَلاَثًا عِدَّةَ الْحُرَّةِ , فَهَلاَّ قَسَمُوا لَهَا الثُّلُثَيْنِ مِنْ قَسَمِ الْحُرَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الأَمَةَ لاَ تَرِثُ , وَأَنَّ الْحُرَّةَ تَرِثُ , فَهَلاَّ جَعَلُوا الأَمَةَ لاَ قِسْمَةَ لَهَا , كَمَا لاَ مِيرَاثَ لَهَا , وَكَمَا لاَ شَهَادَةَ لَهَا عِنْدَهُمْ , وَلَكِنَّهُمْ فِي أَهْذَارِهِمْ مِثْلُ الْغَرِيقِ بِمَا أَحَسَّ تَعَلَّقَ. وَاحْتَجُّوا فِي قَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ : إنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْسِمَ لِلْحُرَّةِ لَيْلَةً , ثُمَّ يَبِيتَ ثَلاَثَ لَيَالٍ حَيْثُ شَاءَ , بِرِوَايَاتٍ سَاقِطَةٍ ، عَنْ كَعْبِ بْنِ سَوَّارٍ أَنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , فَأُعْجِبَ عُمَرُ بِذَلِكَ وَهَذَا لاَ يَصِحُّ ; لأََنَّهُ إنَّمَا رَوَاهُ ، عَنْ عُمَرَ : الشَّعْبِيُّ , وَقَتَادَةُ , وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ , وَكُلُّهُمْ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِي أَحَدٍ حُجَّةٌ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَأَمَّا التَّخَلُّفُ ، عَنْ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الصَّلاَةِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا وَغَيْرِهِ إيجَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ , وَتَوَعُّدَهُ بِحَرْقِ بُيُوتِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ وَقَدْ تَزَوَّجَ عليه الصلاة والسلام وَأَصْحَابُهُ فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ تَخَلَّفَ فِي التَّسْبِيعِ وَالتَّثْلِيثِ ، عَنْ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ , وَإِنَّمَا هِيَ ضَلاَلَةٌ أَحْدَثَهَا الشَّيْطَانُ.
وَأَمَّا السَّفَرُ بِامْرَأَةٍ مِنْ زَوْجَاتِهِ أَوْ بِامْرَأَتَيْنِ أَوْ بِثَلاَثٍ فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْقُرْعَةِ لأََنَّهُ ثَبَتَ ذَلِكَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَطَارَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى عَائِشَةَ , وَحَفْصَةَ , فَخَرَجَتَا مَعَهُ
قال أبو محمد رحمه الله : فَإِنْ خَرَجَ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَا بِقُرْعَةٍ لَمْ يُحَاسِبْهُنَّ بِلَيَالِيِهِنَّ مَعَهُ فِي السَّفَرِ , لأََنَّهُ خَرَجَ بِهِنَّ بِحَقٍّ لاَ بِمَيْلٍ ، وَلاَ بِحَيْفٍ , فَإِنْ خَرَجَ بِهَا بِغَيْرِ قُرْعَةٍ حَاسَبَهُنَّ بِتِلْكَ اللَّيَالِي , وَلَزِمَهُ فَرْضًا أَنْ يُوفِيَ الَّتِي لَمْ يُسَافِرْ بِهَا عَدَدَ تِلْكَ اللَّيَالِي وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ
وقال أبو حنيفة : وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُمَا : يَخْرُجُ بِهَا بِغَيْرِ قُرْعَةٍ
قال أبو محمد رحمه الله : وَهَذَا بَاطِلٌ , لأََنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فَرْضٌ , كَمَا أَوْرَدْنَا , فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ مَا خَصَّهُ نَصٌّ , وَلَمْ يَخُصَّ النَّصُّ إِلاَّ السَّفَرَ بِالْقُرْعَةِ فَقَطْ , فَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ ظُلْمٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل : إنْ لَهُ أَنْ لاَ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ
قلنا : نَعَمْ , وَهُوَ عَدْلٌ بَيْنَهُنَّ فِي الْمَنْعِ , فَلَيْسَ بِذَلِكَ مَائِلاً إلَى إحْدَاهُنَّ.
وَأَمَّا إذَا سَافَرَ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ , فَقَدْ مَالَ إلَيْهَا , وَهَذَا ظُلْمٌ لاَ يَحِلُّ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ
------------------
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10740)
8 - ذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّ صاحب النّسوة إذا تزوّج امرأةً جديدةً وأعرسها قطع الدّور ، وأقام عندها سبعاً إن كانت بكراً ، وثلاثاً إن كانت ثيّباً ، وتكون السّبع والثّلاث متتاليات ، ولا يقضيها لزوجاته الباقيات ، ثمّ يعود للدّور بين زوجاته ، لما ورد عن أنس رضي الله عنه قال : من السّنّة إذا تزوّج الرّجل البكر على الثّيّب أقام عندها سبعاً وقسم ، وإذا تزوّج الثّيّب على البكر أقام عندها ثلاثاً ثمّ قسم ، وإلى هذا ذهب الشّعبيّ ، والنّخعيّ ، وإسحاق .
وقال الجمهور : إنّ ذلك حقّ للمرأة بسبب الزّفاف ، وإنّ الثّيّب العروس إذا شاءت أن يقيم عندها سبعاً فعل ، وقضي للبواقي من ضرّاتها ، لما ورد عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا تزوّجها أقام عندها ثلاثاً وقال : « إنّه ليس بك على أهلك هوان ، إن شئت سبّعت لك ، وإن سبّعت لك سبّعت لنسائي » وفي رواية : « وإن شئت زدتك وحاسبتك به ، للبكر سبع وللثّيّب ثلاث » وفي لفظ : « إن شئت أقمت معك ثلاثاً خالصةً لك ، وإن شئت سبّعت لك ثمّ سبّعت لنسائي » .
وذهب الحنفيّة إلى : أنّه لا فضل للجديدة في القسم على القديمة ، لإطلاق قوله تعالى : « وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ » .
وقوله تعالى : « وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ » .
وقال سعيد بن المسيّب والحسن البصريّ ونافع والأوزاعيّ : للبكر ثلاث وللثّيّب ليلتان
----------------(1/34)
تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} (51) سورة الأحزاب(1)
37-7693 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَقُولُ أَوَ تَهِبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ، وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ قُلْتُ : " وَاللَّهِ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ لَكَ فِي هَوَاكَ " (2)
__________
(1) - وفي تفسير السعدي - (ج 1 / ص 669)
وهذا أيضًا من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته، على وجه الوجوب، وأنه إن فعل ذلك، فهو تبرع منه، ومع ذلك، فقد كان صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في القسم بينهن في كل شيء، ويقول "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك" .
فقال هنا: { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } [أي: تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تؤويها إليك، ولا تبيت عندها] { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي: تضمها وتبيت عندها.
{ و } مع ذلك لا يتعين هذا الأمر { مَنِ ابْتَغَيْتَ } أي: أن تؤويها { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } والمعنى أن الخيرة بيدك في ذلك كله [وقال كثير من المفسرين: إن هذا خاص بالواهبات، له أن يرجي من يشاء، ويؤوي من يشاء، أي: إن شاء قبل من وهبت نفسها له، وإن شاء لم يقبلها، واللّه أعلم] .
ثم بين الحكمة في ذلك فقال: { ذَلِكَ } أي: التوسعة عليك، وكون الأمر راجعًا إليك وبيدك، وكون ما جاء منك إليهن تبرعًا منك { أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } لعلمهن أنك لم تترك واجبًا، ولم تفرط في حق لازم.
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي: ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة، وعند المزاحمة في الحقوق، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه، لتطمئن قلوب زوجاتك.
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا } أي: واسع العلم، كثير الحلم. ومن علمه، أن شرع لكم ما هو أصلح لأموركم، وأكثر لأجوركم. ومن حلمه، أن لم يعاقبكم بما صدر منكم، وما أصرت عليه قلوبكم من الشر.
(2) -أخرجه مسلم برقم( 3704) ونص برقم(3212)
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 199)
هَذَا مِنْ خَصَائِص رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ زَوَاج مَنْ وَهَبَتْ نَفْسهَا لَهُ بِلَا مَهْر . قَالَ اللَّه تَعَالَى : { خَالِصَة لَك مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ } .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْآيَة وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { تُرْجِي مَنْ تَشَاء } فَقِيلَ نَاسِخَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ بَعْد } وَمُبِيحَة لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج مَا شَاءَ . وَقِيلَ بَلْ نُسِخَتْ تِلْكَ الْآيَة بِالسُّنَّةِ قَالَ زَيْد بْن أَرْقَم : تَزَوَّجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد نُزُول هَذِهِ الْآيَة مَيْمُونَة وَمُلَيْكَة وَصْفِيَّة وَجُوَيْرِيَّة ، وَقَالَتْ عَائِشَة : مَا مَاتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلّ لَهُ النِّسَاء وَقِيلَ عَكْس هَذَا وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء } نَاسِخَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { تُرْجِي مَنْ تَشَاء } . وَالْأَوَّل أَصَحّ . قَالَ أَصْحَابنَا : الْأَصَحّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تُوُفِّيَ حَتَّى أُبِيحَ لَهُ النِّسَاء مَعَ أَزْوَاجه .
قَوْلهَا : ( مَا أَرَى رَبّك إِلَّا يُسَارِع فِي هَوَاك )هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة مِنْ أَرَى وَمَعْنَاهُ يُخَفِّف عَنْك وَيُوَسِّع عَلَيْك فِي الْأُمُور وَلِهَذَا خَيَّرَك .
وفي شرح سنن النسائي - (ج 4 / ص 454)
3148 - حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْله ( كُنْت أَغَارَ ) مِنْ الْغِيرَة قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ أَعِيب عَلَيْهِنَّ لِأَنَّ مَنْ غَار عَابَ وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْلهَا أَوْ تَهَب الْمَرْأَة نَفْسهَا لِلرَّجُلِ وَهُوَ هَاهُنَا تَقْبِيح وَتَنْفِير لِئَلَّا تَهَبَ النِّسَاء أَنْفُسهنَّ لَهُ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيّ مَنْزِلَة أَشْرَف مِنْ الْقُرْب مِنْهُ لَا سِيَّمَا مُخَالَطَة اللُّحُوم وَمُسَابَكَة الْأَعْضَاء وَقَوْلهَا قُلْت وَاَللَّه مَا أَرَى رَبّك إِلَخْ كِنَايَة عَنْ تَرْكِ ذَلِكَ التَّنْفِير وَالتَّقْبِيح لِمَا رَأَتْ مِنْ مُسَارَعَة اللَّه تَعَالَى فِي مَرْضَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ كُنْت أُنَفِّر النِّسَاء عَنْ ذَلِكَ فَلَمَّا رَأَيْت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يُسَارِع فِي مَرْضَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكْت ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْلَال بِمَرْضَاتِهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم وَقَالَ النَّوَوِيّ مَعْنَى يُسَارِع فِي هَوَاك يُخَفِّف عَنْك وَيُوَسِّع عَلَيْك فِي الْأُمُور وَلِهَذَا خَيَّرَك وَقِيلَ قَوْلهَا الْمَذْكُور أَبْرَزَتْهُ الْغِيرَة وَالدَّلَالَة وَإِلَّا فَإِضَافَة الْهَوَى إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر مُنَاسِبَة فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّه عَنْ الْهَوَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا يَنْطِق عَنْ الْهَوَى وَهُوَ مَنْ يَنْهَى النَّفْس عَنْ الْهَوَى وَلَوْ قَالَتْ فِي مَرْضَاتك كَانَ أَوْلَى . وَقَدْ يُقَال الْمَذْمُوم هُوَ الْهَوَى الْخَالِي عَنْ الْهُدَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدَى مِنْ اللَّه وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم فَلْيُتَأَمَّلْ .
--------------.
وفي فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 11 / ص 273)
هل في كرهي للتعدد إساءة للشرع؟!
المجيب نزار بن صالح الشعيبي
القاضي بمحكمة الشقيق
التصنيف الفهرسة/ فقه الأسرة/النشوز
التاريخ 27/02/1426هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
أنا زوجة ثانية منذ أكثر من سنتين وقد اخترت ذلك رغبة مني؛ لأني أرى أنه لا يحق لي رفض زوج صالح لأنه متزوج، حيث إن التعدّد جائز في شرع الله، ولا يحق لي الاعتراض، ولكن في الآونة الأخيرة أصبحت أشعر بغيرة قاتلة لأسباب أرى أنه من حقي هذا الشعور، وأصبحت أعيش في عذاب، وأدعو الله أن يفرّج همي، وبدأت أشعر بأن التعدّد لا يفرض على المرأة، وأن النساء يختلفن في تحمله. فهل يجوز لي النظر في التعدد على أنه لا يناسبني؟ وهل من دعاء يخفف من غيرتي؟ وهل أستطيع تخيير الزوج إما أنا أو زوجته الأخرى؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أختي السائلة: قد تضمن سؤالك طلب الجواب عن ثلاثة أمور:
الأمر الأول: قولك هل يجوز لي النظر في التعدد على أنه لا يناسبني؟.
وسوف أجيب على هذا السؤال من خلال النقطتين التاليتين:
أولاً: لا شك أن التعدد مباح ومشروع للرجال بنص القرآن الكريم، قال تعالى: "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم" [النساء: 3]، ومن المعلوم أن إباحته للرجال مشروط بالعدل بينهن بنص الآية، وعلى المسلم والمسلمة أن يسلّم بهذه المقدمة، ولا ينازع فيها، قال تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" [الأحزاب: 36].
ثانياً: لا يفهم مما تقدم أن على المرأة أن تزيل ما في قلبها من شعور بالغيرة تجاه زوجها، إذا حصل ما يوجب ذلك؛ لأن هذه فطرة وغريزة قد لا تملك المرأة السيطرة عليها، ولا يفهم أيضاً أن على المرأة أن ترضى بالتعدد على نفسها، فلا تُلام على شعورها بذلك ما دامت لم تتجاوز حدودها التي رسمها لها الشارع، بحيث لا يحملها فرط غيرتها على ارتكاب ما يحرم عليها من سب وشتم للآخرين أو أذية للزوج.
ولقد كانت الغيرة تندلع في قلوب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: "مالك يا عائشة؟ أغرت؟" فقلت: ومالي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقد جاءك شيطانك"؟ الحديث أخرجه مسلم (2815).
وعن عائشة - رضي الله عنها- أيضاً قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقول: وتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله -عز وجل- "ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت" [الأحزاب: 51]، قالت: ... والله ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك. أخرجه البخاري (4788) ومسلم (1464).
كما تروي لنا عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أيضاً موقفاً من ضرتها صفية -رضي الله عنها- فتقول: ما رأيت صانعاً طعاماً مثل صفية، صنعت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعاماً فبعثت به، فأخذني أَفْكَلٌ فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله ما كفارة ما صنعت؟ قال: "إناء مثل إناء وطعام مثل طعام". أخرجه أبو داود (3568)، والنسائي (3957)، وقال محقق جامع الأصول. إسناده حسن.
وأَفْكَلٌ: الرعدة، والمراد أنها لما رأت حسن الطعام أصابتها رعشة من شدة الغيرة.
وقد ورد عن عائشة -رضي الله عنها- أيضاً كانت تغار من خديجة-رضي الله عنها- لكثرة ما يذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم-. أخرجه مسلم (2437).
ومما تقدم وغيره من النصوص وما تمليه الفطرة الإنسانية يظهر بأنه لا حرج من شعور المرأة أن التعدد لا يناسبها إذا كانت تؤمن بأنه شُرِعَ من الحكيم الخبير.
الأمر الثاني: قولك: هل من دعاء يخفف غيرتي؟
فالجواب أني لم أقف على دعاء خاص لهذا الشأن.
الأمر الثالث: هل أستطيع تخيير الزوج، إما أنا أو زوجته الأخرى؟
فالجواب: هذا الطلب حرام؛ لأن فيه إضرار بالغير من غير وجه حق، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح، فإن لها ما قدر لها" أخرجه البخاري (6601).
ولكن يجوز لها أن تشترط ألا يتزوج عليها قبل أن يعقد عليها، فإن نكث فيحق لها أن تطلب الفسخ لنكثه الشرط، كما يجوز لها أن تطلب منه أن يخالعها بعد أن ترد إليه مهره إذا خشيت ببقائها معه أن تضيع حدود الله -تعالى- بعصيان زوجها ...لفرط غيرتها أو كراهيتها له بدون أن تطلب طلاق ضرتها؛ لقول الله -تعالى-:"فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به"[البقرة: 229]. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن امرأة ثابت بن قيس - رضي الله عنهما- أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله: ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتردين عليه حديقته"؟ فقالت: نعم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" رواه البخاري (5273) وغيره.
ولكني أنصحها بألا تستعجل باتخاذ هذا القرار إلا بعد استخارة الله -تعالى- واستشارة العقلاء من أهلها واستنفاذ كافة السبل الممكنة لتخفيف غيرتها لعلها تعود إلى دائرة الاعتدال، وأنصحها بصدق الالتجاء إلى الله -تعالى- والإلحاح عليه أن يطمئن ما في قلبها، والله -سبحانه وتعالى- قريب مجيب، وأسأل الله -تعالى -لك التوفيق والسعادة في حياتك الأسرية، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/35)
38- 7694 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ : حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ ، أَنَّهَا " كَانَتْ فِيمَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (1)
_____
(1) - صحيح
أمُّ شَرِيك أمُّ شَرِيك امرأة أنصارية. النجَّارية.
عن قتادة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إني أحب أن أتزوج في الأنصار ; ثم إني أكره غَيْرَتَهُنّ قال : فلم يدخل بها .
نعم، وروى عروة بن الزبير ، عن أم شَرِيك : أنها كانت فيمن وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم .(1/36)
قُرْعَةُ الرَّجُلِ بَيْنَ نِسَائِهِ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ
39-7695 أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا " (1)
_____
(1) - أخرجه البخاري (2593و 2637 و 2661 و 2688 و 2879 و 4025 و 4141 و 4690 و 4749 و 4750 و 4757 و 5212 و 6662 و 6679 و7369 و 7370 و 7500 و 7545 )
عون المعبود - (ج 5 / ص 22)
1826 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( إِذَا أَرَادَ سَفَرًا ) : مَفْهُومه اِخْتِصَاص الْقُرْعَة بِحَالَةِ السَّفَر وَلَيْسَ عَلَى عُمُومه بَلْ لِتُعَيِّن الْقُرْعَة مَنْ يُسَافِر بِهَا وَتُجْرَى الْقُرْعَة أَيْضًا فِيمَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْسِم بَيْن زَوْجَاته فَلَا يَبْدَأ بِأَيِّهِنَّ شَاءَ بَلْ يُقْرِع بَيْنهنَّ فَيَبْدَأ بِاَلَّتِي تَخْرُج لَهَا الْقُرْعَة إِلَّا أَنْ يَرْضَيْنَ بِشَيْءٍ فَيَجُوز بِلَا قُرْعَة .
قَالَهُ الْحَافِظ
( خَرَجَ بِهَا مَعَهُ ) : الْبَاء لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ أَخْرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَة الَّتِي خَرَجَ سَهْمهَا مَعَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَر . وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْقُرْعَة فِي الْقِسْمَة بَيْن الشُّرَكَاء وَغَيْر ذَلِكَ . وَالْمَشْهُور عَنْ الْحَنَفِيَّة وَالْمَالِكِيَّة عَدَم اِعْتِبَار الْقُرْعَة . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : هُوَ مَشْهُور عَنْ مَالِك وَأَصْحَابه لِأَنَّهَا مِنْ بَاب الْخَطَر وَالْقِمَار ، وَحُكِيَ عَنْ الْحَنَفِيَّة إِجَازَتهَا اِنْتَهَى .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا .
سبل السلام - (ج 5 / ص 125)
( وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَيْنَ أَنَا غَدًا يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) وَفِي رِوَايَةٍ { ، وَكَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ مِنْ مَرَضِهِ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ } أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ كِتَابِ الْمَغَازِي ، وَقَوْلُهُ { فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ } ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدُورَ بُيُوتَكُنَّ فَإِنْ شِئْتُنَّ أَذِنْتُنَّ لِي فَأُذِنَ لَهُ } ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ { أَنَّ فَاطِمَةَ هِيَ الَّتِي خَاطَبَتْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقَالَتْ إنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ الِاخْتِلَافُ ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاسْتَأْذَنَتْ لَهُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا } فَيَجْتَمِعُ الْحَدِيثَانِ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ { أَنَّهُ دَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الَّذِي يَلِيهِ } ، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَذِنَتْ كَانَ مُسْقِطًا لِحَقِّهَا مِنْ النَّوْبَةِ ، وَأَنَّهُ لَا تَكْفِي الْقُرْعَةُ إذَا مَرِضَ كَمَا تَكْفِي إذَا سَافَرَ كَمَا دَلَّ لَهُ قَوْلُهُ .
( 1000 ) - وَعَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتَهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
( وَعَنْهَا ) أَيْ عَائِشَةَ ( قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ ، وَزَادَ فِيهِ عَنْهَا فَكَانَ { إذَا خَرَجَ سَهْمُ غَيْرِي عُرِفَ فِيهِ الْكَرَاهِيَةُ } .
دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى الْقُرْعَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ لِمَنْ أَرَادَ سَفَرًا ، وَأَرَادَ إخْرَاجَ إحْدَاهُنَّ مَعَهُ ، وَهَذَا فِعْلٌ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى وُجُوبِهِ ، وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّ لَهُ السَّفَرَ بِمَنْ شَاءَ وَأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْقُرْعَةُ قَالُوا لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسْمُ فِي السَّفَرِ ، وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ ، وَلُطْفِ شَمَائِلِهِ ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ فَإِنْ سَافَرَ بِزَوْجَةٍ فَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ لِغَيْرِ مَنْ سَافَرَ بِهَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ الْقَضَاءُ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ بِقُرْعَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ كَانَ بِقُرْعَةٍ لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى الْوُجُوبِ مُطْلَقًا ، وَلَا مُفَصَّلًا ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ الْقَسْمَ وَاجِبٌ ، وَأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِالسَّفَرِ جَوَابُهُ أَنَّ السَّفَرَ أَسْقَطَ هَذَا الْوَاجِبَ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ ، وَلَا يُخْرِجَ مِنْهُنَّ أَحَدًا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ عَوْدِهِ قَضَاءُ أَيَّامِ سَفَرِهِ لَهُنَّ اتِّفَاقًا ، وَالْإِقْرَاعُ لَا يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِهِ لِمَا عَرَفْت أَنَّهُ فِعْلٌ ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْقُرْعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ ، وَنَحْوِهِمْ وَالْمَشْهُورُ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْقُرْعَةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هُوَ مَشْهُورٌ عَنْ مَالِكٍ ، وَأَصْحَابِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَطْرِ وَالْقِمَارِ ، وَحُكِيَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ إجَازَتَهَا ا هـ .
وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ الْقُرْعَةَ بِأَنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ قَدْ تَكُونُ أَنْفَعَ فِي السَّفَرِ مِنْ غَيْرِهَا فَلَوْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِلَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا فِي السَّفَرِ لِأَضُرَّ بِحَالِ الزَّوْجِ ، وَكَذَا قَدْ يَقُومُ بَعْضُ النِّسَاءِ بِرِعَايَةِ مَصَالِحِ بَيْتِ الرَّجُلِ فِي الْحَضَرِ فَلَوْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهَا بِالسَّفَرِ لِأَضُرَّ بِحَالِ الزَّوْجِ مِنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ بَيْتِ الرَّجُلِ فِي الْحَضَرِ ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ تَخْتَصُّ مَشْرُوعِيَّةُ الْقُرْعَةِ بِمَا إذَا اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُنَّ لِئَلَّا يَخُصَّ وَاحِدَةً فَيَكُونَ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ قِيلَ هَذَا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ الْحُكْمُ ، وَالْجَرْيُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَقْوَمُ .
------------------
فقه السنة - (ج 2 / ص 110)
وجوب العدل بين الزوجات:
أباح الله تعدد الزوجات وقصره على أربع، وأوجب العدل بينهن في الطعام والسكن والكسوة والمبيت (1)، وسائر ما هو مادي من غير تفرقة بين غنية وفقيرة، وعظيمة وحقيرة، فان خاف الرجل الجور وعدم الوفاء بحقوقهن جميعا حرم عليه الجمع بينهن، فان قدر على الوفاء بحق ثلاث منهن دون الرابعة حرم عليه العقد عليها.
فان قدر على الوفاء بحق اثنتين دون الثالثة حرم عليه العقد عليها.
وكذلك من خاف الجور بزواج الثانية حرمت عليه لقول الله تعالى: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا ".
أي أقرب ألا تجوروا.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجه.
ولا تعارض بين ما أوجبه الله من العدل في هذه الاية وبين ما نفاه الله في الاية الاخرى من سورة النساء وهي: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة "
فان العدل المطلوب هو العدل الظاهر المقدور عليه وليس هو العدل في المودة والمحبة، فان ذلك لا يستطيعه أحد، بل العدل المبتغى هو العدل في المحبة والمودة والجماع.
قال محمد بن سيرين سألت عبيدة عن هذه الاية فقال هو الحب والجماع.
قال ابو بكر بن العربي: وصدق، فان ذلك لا يملكه أحد إذ قلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرفه كيف يشاء، وكذلك الجماع فقد ينشط للواحدة مالا ينشط للاخرى، فإذا لم يكن ذلك بقصد منه فلا حرج عليه فيه، فانه مما لا يستطيعه، فلا يتعلق به تكليف.
وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: " اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تلك ولا أملك " قال أبو داود: يعني القلب.
رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الخطابي في هذا دلالة على توكيد وجوب القسم بين الضرائر الحرائر، وإنما المكروه في الميل، هو ميل العشرة الذي يكون معه نجس الحق، دون ميل القلوب، فان القلوب لا تملك.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي في القسم بين نسائه ويقول: " اللهم هذا قسمي " الحديث.
وفي هذا نزل قوله تعالى: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ".
وإذا سافر الزوج فله أن يصطحب من شاء منهن وان أقرع بينهن كان حسنا.
ولصاحبة الحق في القسم أن تنزل عن حقها، إذ أن ذلك خالص حقها، فلها أن تهيه لغيرها.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة (1).
__________
(1) قال الخطابي: فيه اثبات القرعة، وفيه ان القسم قد يكون بالنهار كما يكون بالليل. وفيه أن الهبة قد تجري في حقوق عشرة الزوجية كما تجري في حقوق الاموال. واتفق أكثر أهل العلم على أن المرأة التي يخرج بها في السفر لا تحتسب عليها تلك المدة للبواقي، ولا يقاص بما فاتهن من أيام الغيبة إذا كان خروجها بقرعة.
وزعم بعض أهل العلم ان عليه أن يوفي للبواقي ما فاتهن ايام غيبته حتى يساوينها في الحظ.
والقول الاول أولى لاجتماع عامة أهل العلم عليه، ولانها أنما أرفقت بزيادة الحظ لكان في ذلك مما يلحقها من مشقة السفر وتعب السير: والقواعد خليات من ذلك. فلو سوى بينها وبينهن العدول عن الانصاف
---------------
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12025)
قُرعَة
«التعريف»
1 - القرعة في اللّغة : السّهمة والنصيب ، والمقارعة : المساهمة ، وأقرعت بين الشّركاء في شيء يقسمونه ، ويقال : كانت له القرعة ، إذا قرع أصحابه ، وقارعه فقرعه يقرعه : أي أصابته القرعة دونه ، وتستعمل في معان أخرى غير ما تقدم .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ، قال البركتيّ : القرعة السهم والنصيب ، وإلقاء القرعة : حيلة يتعين بها سهم الإنسان أي نصيبه .
الألفاظ ذات الصّلة
«القسمة»
2 - القسمة في اللّغة من قسمته قسماً أي فرزته أجزاءً .
واصطلاحاً : تمييز الحصص بعضها من بعض .
والصّلة بين القسمة والقرعة أن القرعة طريق من طرق القسمة ، والقرعة نوع من أنواع القسمة عند المالكية .
«الحكم التكليفيّ»
3 - القرعة مشروعة باتّفاق الفقهاء ، وقد تكون مباحةً أو مندوبةً أو واجبةً أو مكروهةً أو محرمةً في أحوال سيأتي بيانها .
ودليل مشروعيتها الكتاب والسّنة .
فأما مشروعيتها من القرآن الكريم فقوله تعالى « وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ » ، أي يحضنها فاقترعوا عليها . وقال تعالى « وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ » .
عن ابن عباس رضي الله عنهما : قوله « فَسَاهَمَ » يقول : « أقرع » .
وأما مشروعيتها من السّنة المطهرة فحديث أبي هريرة رضي الله عنه : « عرض النبيّ صلى الله عليه وسلم على قوم اليمين فأسرعوا ، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيّهم يحلف » .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه » .
«الحكمة من مشروعيتها»
4 - قال المرغينانيّ : القرعة لتطييب القلوب وإزاحة تهمة الميل حتى لو عين القاضي لكلّ منهم نصيباً من غير إقراع جاز لأنه في القضاء فيملك الإلزام .
وجاء في تكملة فتح القدير : " ألا يرى أن يونس عليه السلام في مثل هذا استعمل القرعة مع أصحاب السفينة كما قال الله تعالى : « فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ » ، وذلك لأنه علم أنه هو المقصود ولكن لو ألقى بنفسه في الماء ربما نُسب إلى ما لا يليق بالأنبياء فاستعمل القرعة لذلك، وكذلك زكريا عليه السلام استعمل القرعة مع الأحبار في ضمّ مريم إلى نفسه مع علمه بكونه أحق بها منهم لكون خالتها عنده تطييباً لقلوبهم كما قال تعالى : « إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ » ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم « يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً تطييباً لقلوبهن » .
«كيفية إجراء القرعة»
5 - للقرعة عند الفقهاء طريقتان :
الأولى : كتابة أسماء الشّركاء في رقاع .
والثانية : كتابة أجزاء المقسوم في رقاع ، وقد شرط المالكية لإجراء الطريقة الثانية أن تكون الأنصباء متساويةً فإن اختلفت فتجوز في العروض خاصةً .
وقد أجاز كلّ من الشافعية والحنابلة إجراءها في الصّورتين إلا أن طريقة كتابة الأسماء أولى عند الشافعية .
«ما تجري فيه القرعة»
6 - تجري القرعة في مواضع منها :
الأول : في تمييز المستحقّ إذا ثبت الاستحقاق ابتداءً لمبهم غير معين عند تساوي المستحقّين ، كمن أوصى بعتق عدة أعبد من ماله ولم يسع ثلثه عتق جميعهم ، وفي الحاضنات إذا كن في درجة واحدة ، وكذا في ابتداء القسم بين الزوجات عند من يقول به لاستوائهن في الحقّ فوجبت القرعة لأنها مرجّحة .
الثاني : في تمييز المستحقّ المعين في نفس الأمر عند اشتباهه والعجز عن الاطّلاع عليه ، سواء في ذلك الأموال والأبضاع عند من يقول بجريان القرعة في الأبضاع .
الثالث : في تمييز الأملاك .
وقيل : إنه لم يأت إلا في ثلاث صور :
أحدها : الإقراع بين العبيد إذا لم يف الثّلث بهم .
وثانيها : الإقراع بين الشّركاء عند تعديل السّهام في القسمة .
وثالثها : عند تعارض البيّنتين عند من يقول بذلك .
الرابع : في حقوق الاختصاصات كالتزاحم على الصفّ الأول ، وفي إحياء الموات .
الخامس : في حقوق الولايات كما إذا تنازع الإمامة العظمى اثنان وتكافآ في صفات الترجيح قدّم أحدهما بالقرعة ، وكاجتماع الأولياء في النّكاح ، والورثة في استيفاء القصاص فتجري بينهم القرعة لترجيح أحدهم .
«ما لا تجري فيه القرعة»
7 - إذا تعينت المصلحة أو الحقّ في جهة فلا يجوز الإقراع بينه وبين غيره ; لأن القرعة ضياع ذلك الحقّ المعين والمصلحة المتعيّنة ، وعلى ذلك فلا تجري القرعة فيما يكال أو يوزن واتفقت صفته ، وإنما يقسم كيلاً أو وزناً لا قرعةً ; لأنه إذا كيل أو وزن فقد استغنى عن القرعة فلا وجه لدخولها فيهما ، وهذا ما ذهب إليه المالكية ، خلافاً للشافعية والحنابلة .
ومما لا تجري فيه القرعة الأبضاع عند الشافعية وقول عند الحنابلة ، ولا في لحاق النسب عند الاشتباه عند الحنفية والمالكية والشافعية والظاهر من مذهب الحنابلة ، ولا في تعيين الواجب المبهم من العبادات ونحوها ابتداءً عند الشافعية والحنابلة ، ولا في الطلاق عند الشافعية .(1/36)
40-7696 أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنِي عَمِيِّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ " (1)
41-7697 أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ الْحَرَّانِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا ، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ ، قَالَ : وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ ، وَأَثْبَتَ لَهُ اقْتِصَاصًا ، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ ، قَالُوا : قَالَتْ عَائِشَةُ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : " فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا ، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي ، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ ، فَكُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ ، وَأَنْزِلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ ، وَقَفَلَ دَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي ، أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي فَالْتَمَسْتُ صَدْرِي ، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يُرَحِّلُونِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يُهَبَّلْنَ ، وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ وَحَمَلُوهُ ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا ، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْهُمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي ، فَنِمْتُ ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ ، فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي ، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي ، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي ، وَاللَّهِ مَا تَكَلَّمْنَا كَلِمَةً ، وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ ، وَهَوَى حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا ، فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَرَكِبْتُهَا ، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ ، وَهُمْ نُزُولٌ ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَ الْإِفْكِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ " قَالَ عُرْوَةُ : كَانَتْ عَائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانٌ وَتَقُولُ : إِنَّهُ قَدْ قَالَ :
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي لِعْرِضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
__________
(1) - صحيح انظر ما قبله(1/37)
قَالَتْ عَائِشَةُ : فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْنَا شَهْرًا ، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ لَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي ، إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ يَقُولُ : " كَيْفَ تِيكُمْ ؟ " ثُمَّ يَنْصَرِفُ ، فَذَلِكَ يَرِيبُنِي ، وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ حِينَ نَقِهْتُ ، فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ ، وَكَانَتْ مُتَبَرَّزَنَا ، وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُتَّخَذَ الْكُنُفُ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا ، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُولَى ، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا ، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا ، فَقَالَتْ : " تَعِسَ مِسْطَحٌ " فَقُلْتُ لَهَا : بِئْسَ مَا قُلْتِ ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا ؟ " قَالَتْ : أَيْ هَنْتَاهُ ، أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ ؟ قُلْتُ : وَمَا قَالَ ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثُمَّ قَالَ : " كَيْفَ تِيكُمْ ؟ " فَقُلْتُ لَهُ : " ائْذَنْ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا ، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ أَبَوَيَّ ، فَقُلْتُ لِأُمِّي : " يَا أُمَّتَاهُ ، مَاذَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ ؟ قَالَتْ : يَا بُنَيَّةُ ، هَوِّنِي عَلَيْكِ ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا ، فَقُلْتُ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، أَوَ لَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا ؟ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَ لْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ ، فَقَالَ أُسَامَةُ : " أَهْلُكَ ، وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا " وَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ ، وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ ، فَقَالَ : " أَيْ بَرِيرَةُ ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ ؟ " قَالَتْ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا قَطُّ أَمْرًا أَغْمِصُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا ، فَيَأْتِي الدَّاجِنُ فَيأْكُلُهُ ، قَالَتْ : فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي ، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا ، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا ، وَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي " . فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَا أَعْذِرُ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ ، قَالَتْ : وَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانٍ ابْنَةَ عَمِّهِ مِنْ فَخِذِهِ ، وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ ، قَالَتْ : وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا ، وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ : كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ ، لَا تَقْتُلُهُ ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ : كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ ، لَيَقْتُلَنَّهُ ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ ، فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَلَمْ يَزَلْ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ ، قَالَتْ : وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ، وَلَمْ أَكْتَحِلْ بِنَوْمٍ ، وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي ، وَقَدْ بَقِيتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي ، فَبَيْنَا أَبَوَايَ جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي ، اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَأَذِنْتُ لَهَا ، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ، ثُمَّ جَلَسَ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا ، وَلَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ ، فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ، ثُمَّ قَالَ : " أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ " فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً " وَقُلْتُ لِأَبِي : أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ ، فَقَالَ : " وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْتُ لِأُمِّي : أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ ، قَالَتْ : وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ ، لَا أَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ(1/38)
كَثِيرًا : إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ : إِنِّي بَرِيئَةٌ ، لَا تُصَدِّقُونِي ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي ، فَوَاللَّهِ لَا أَجِدُ لِي مَثَلًا وَلَا لَكُمْ إِلَّا أَبَا يُوسُفَ حِينَ قَالَ : فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ، ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنِّي بَرِيئَةٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مَنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى ، لَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ ، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا ، قَالَتْ : " فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلَسَهُ ، وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ الْعَرَقُ مِثْلُ الْجُمَانِ وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ ، قَالَ : فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ : يَا عَائِشَةُ " أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ " فَقَالَتْ لِي أُمِّي : قُومِي إِلَيْهِ ، فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ ، وَإِنِّي لَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ " قَالَتْ : وَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَفَقْرِهِ : وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : " بَلَى ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي ، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا ، قَالَتْ عَائِشَةُ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي ، فَقَالَ لِزَيْنَبَ : مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا ، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنِي مِنْ حَدِيثِ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ "(1)
__________
(1) - أخرجه البخاري برقم( 4141و4750) وأحمد برقم(26372) والبيهقي برقم(15165)
فتح الباري لابن حجر - (ج 13 / ص 260)
4381 - قَوْله : ( وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيث )
أَيْ بَعْضه هُوَ مَقُول الزُّهْرِيّ كَمَا فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " قَالَ الزُّهْرِيّ : إِلَخْ " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " قَالَ الزُّهْرِيّ : كُلّ حَدَّثَنِي بَعْض هَذَا الْحَدِيث وَقَدْ جَمَعْت لَك كُلّ الَّذِي حَدَّثُونِي " وَلَمَّا ضَمّ اِبْن إِسْحَاق إِلَى رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَنْ الْأَرْبَعَة رِوَايَته هُوَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر عَنْ عَمْرَة وَعَنْ يَحْيَى بْن عَبَّاد بْن عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر عَنْ أَبِيهِ كِلَاهُمَا عَنْ عَائِشَة قَالَ : " دَخَلَ حَدِيث هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يُحَدِّث بَعْضهمْ مَا لَمْ يُحَدِّث صَاحِبه وَكُلّ كَانَ ثِقَةً فَكُلّ حَدَّثَ عَنْهَا مَا سَمِعَ قَالَ " فَذَكَرَهُ . قَالَ عِيَاض : اِنْتَقَدُوا عَلَى الزُّهْرِيّ مَا صَنَعَهُ مِنْ رِوَايَته لِهَذَا الْحَدِيث مُلَفَّقًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة وَقَالُوا : كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْرِدَ حَدِيثَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ عَنْ الْآخَر اِنْتَهَى . وَقَدْ تَتَبَّعْت طُرُقه فَوَجَدْته مِنْ رِوَايَة عُرْوَة عَلَى اِنْفِرَاده ، وَمِنْ رِوَايَة عَلْقَمَة بْن وَقَّاص عَلَى اِنْفِرَاده ، وَفِي سِيَاق كُلّ مِنْهُمَا مُخَالَفَات وَنَقْص وَبَعْض زِيَادَة لِمَا فِي سِيَاق الزُّهْرِيّ عَنْ الْأَرْبَعَة ، فَأَمَّا رِوَايَة عُرْوَة فَأَخْرَجَهَا الْمُصَنِّف فِي الشَّهَادَات مِنْ رِوَايَة فُلَيْح بْن سُلَيْمَان أَنَّ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَقِبَ رِوَايَة فُلَيْحٍ عَنْ الزُّهْرِيّ قَالَ ، مِثْله ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظه ، وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُت كَبِير ، فَكَأَنَّ فُلَيْحًا تَجَوَّزَ فِي قَوْله : " مِثْله " وَقَدْ عَلَّقَهَا الْمُصَنِّف كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا لِأَبِي أُسَامَة عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ بِتَمَامِهِ ، وَوَصَلَهَا مُسْلِم لِأَبِي أُسَامَة إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسُقْهُ بِتَمَامِهِ ، وَوَصَلَهُ أَحْمَد وَأَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ أَبِي أُسَامَة بِتَمَامِهِ ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَالطَّبَرِيُّ وَالْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ رِوَايَة أَبِي أُسَامَة ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَة وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَة حَمَّاد بْن سَلَمَة وَأَبِي أُوَيْس وَأَبِي عَوَانَة وَابْن مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَة يُونُس بْن بُكَيْرٍ ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي " الْغَرَائِب " مِنْ رِوَايَة مَالِك ، وَأَبُو عَوَانَة عَنْ رِوَايَة عَلِيّ بْن مُسْهِر وَسَعِيد بْن أَبِي هِلَال ، وَوَصَلَهَا الْمُصَنِّف بِاخْتِصَارٍ فِي الِاعْتِصَام مِنْ رِوَايَة يَحْيَى بْن أَبِي زَكَرِيَّا كُلّهمْ عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا . وَأَمَّا رِوَايَة عَلْقَمَة بْن وَقَّاص فَوَصَلَهَا الطَّبَرِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيق يَحْيَى بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن حَاطِب عَنْهُ ، وَأَمَّا رِوَايَة سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعُبَيْد اللَّه فَلَمْ أَجِدهُمَا إِلَّا مِنْ رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَنْهُمَا ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ عَائِشَة غَيْر هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة فَأَخْرَجَهُ الْمُصَنِّف فِي الشَّهَادَات مِنْ رِوَايَة عَمْرَة بِنْت عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَائِشَة وَلَمْ يَسُقْ لَفْظهَا ، وَقَدْ سَاقَهُ أَبُو عَوَانَة فِي صَحِيحه وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيق أَبِي أُوَيْس وَأَبُو عَوَانَة وَالطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن إِسْحَاق كِلَاهُمَا عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر بْن حَزْم عَنْهَا ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَة أَيْضًا مِنْ رِوَايَة أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَائِشَة ، وَالْمُصَنِّف مِنْ رِوَايَة الْقَاسِم بْن مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر عَنْ عَائِشَة إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْقِ لَفْظه أَخْرَجَهُ فِي الشَّهَادَات ، وَكَذَا رِوَايَة عَمْرَة عَقِبَ رِوَايَة فُلَيْحٍ عَنْ الزُّهْرِيّ ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَة وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيق الْأَسْوَد بْن يَزِيد وَعَبَّاد بْن عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر وَمِقْسَم مَوْلَى اِبْن عَبَّاس ثَلَاثَتهمْ عَنْ عَائِشَة وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيث مِنْ الصَّحَابَة غَيْر عَائِشَة جَمَاعَة : مِنْهُمْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر وَحَدِيثه أَيْضًا عَقِبَ رِوَايَة فُلَيْحٍ عِنْدَ الْمُصَنِّف فِي الشَّهَادَات وَلَمْ يَسُقْ لَفْظه ، وَأُمّ رُومَان قَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثهَا فِي قِصَّة يُوسُف وَفِي الْمَغَازِي ، وَيَأْتِي بِاخْتِصَارٍ قَرِيبًا ، وَابْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَحَدِيثهمَا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَابْن مَرْدَوَيْهِ ، وَأَبُو هُرَيْرَة وَحَدِيثه عِنْدَ الْبَزَّار ، وَأَبُو الْيُسْر وَحَدِيثه بِاخْتِصَارٍ عِنْدَ اِبْن مَرْدَوَيْهِ ، فَجَمِيع مَنْ رَوَاهُ مِنْ الصَّحَابَة غَيْر عَائِشَة سِتَّة ، وَمِنْ التَّابِعِينَ عَنْ عَائِشَة عَشَرَة ؛ وَأَوْرَدَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ طَرِيق سَعِيد بْن جُبَيْر مُرْسَلًا بِإِسْنَادٍ وَاهٍ ؛ وَأَوْرَدَهُ الْحَاكِم فِي " الْإِكْلِيل " مِنْ رِوَايَة مُقَاتِل بْن حَيَّانَ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّة مُرْسَلًا أَيْضًا ، وَسَأَذْكُرُ فِي أَثْنَاء شَرْح هَذَا الْحَدِيث مَا فِي رِوَايَة هَؤُلَاءِ مِنْ فَائِدَة زَائِدَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( وَبَعْض حَدِيثهمْ يُصَدِّق بَعْضًا )
كَأَنَّهُ مَقْلُوب ، وَالْمَقَام يَقْتَضِي أَنْ يَقُول وَحَدِيث بَعْضهمْ يُصَدِّق بَعْضًا " ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون عَلَى ظَاهِره وَالْمُرَاد أَنَّ بَعْض حَدِيث كُلّ مِنْهُمْ يَدُلّ عَلَى صِدْق الرَّاوِي فِي بَقِيَّة حَدِيثه لِحُسْنِ سِيَاقه وَجَوْدَة حِفْظه .
قَوْله : ( وَإِنْ كَانَ بَعْضهمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْض )
هُوَ إِشَارَة إِلَى أَنَّ بَعْض هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة أَمْيَز فِي سِيَاق الْحَدِيث مِنْ بَعْض مِنْ جِهَة حِفْظ أَكْثَره ، لَا أَنَّ بَعْضهمْ أَضْبَط مِنْ بَعْض مُطْلَقًا ، وَلِهَذَا قَالَ : " أَوْعَى لَهُ " أَيْ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُور خَاصَّة ، زَادَ فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " وَأَثْبَتَ اِقْتِصَاصًا - أَيْ سِيَاقًا - وَقَدْ وَعَيْت عَنْ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ الْحَدِيث الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَة - أَيْ الْقَدْر الَّذِي حَدَّثَنِي بِهِ - لِيُطَابِقَ قَوْله ، وَكُلّ حَدَّثَنِي طَائِفَة مِنْ الْحَدِيث " وَحَاصِله أَنَّ جَمِيع الْحَدِيث عَنْ مَجْمُوعهمْ لَا أَنَّ مَجْمُوعه عَنْ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَفْلَح " وَبَعْض الْقَوْم أَحْسَن سِيَاقًا " وَأَمَّا قَوْله فِي رِوَايَة الْبَاب الَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَة عَنْ عَائِشَة فَهَكَذَا فِي رِوَايَة اللَّيْث عَنْ يُونُس ، وَأَمَّا رِوَايَة اِبْن الْمُبَارَك وَابْن وَهْب وَعَبْد اللَّه النُّمَيْرِيّ فَلَمْ يَقُلْ وَاحِد مِنْهُمْ عَنْ يُونُس الَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَة وَإِنَّمَا قَالُوا عَنْ عَائِشَة ، فَاقْتَضَتْ رِوَايَة اللَّيْث أَنَّ سِيَاق الْحَدِيث عَنْ عُرْوَة ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد أَوَّل شَيْء مِنْهُ ، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي الْهِبَة وَفِي الشَّهَادَات مِنْ طَرِيق يُونُس عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة وَحْدَهُ عَنْ عَائِشَة أَوَّل هَذَا الْحَدِيث وَهُوَ الْقُرْعَة عِنْدَ إِرَادَة السَّفَر ، وَكَذَلِكَ أَفْرَدَهَا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيق يُونُس ، وَكَذَا يَحْيَى بْن يَمَان عَنْ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عِنْدَ اِبْن مَاجَهْ ، وَالِاحْتِمَال الْأَوَّل أَوْلَى لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الرُّوَاة اِخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيم بَعْض شُيُوخ الزُّهْرِيّ عَلَى بَعْض ، فَلَوْ كَانَ الِاحْتِمَال الثَّانِي مُتَعَيِّنًا لَامْتَنَعَ تَقْدِيم غَيْر عُرْوَة عَلَى عُرْوَة وَلَأَشْعَرَ أَيْضًا أَنَّ الْبَاقِينَ لَمْ يَرْوُوا عَنْ عَائِشَة قِصَّة الْقُرْعَة ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ قِصَّة الْقُرْعَة خَاصَّة مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن شَافِع عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه وَحْده عَنْ عَائِشَة ، وَسَتَأْتِي الْقِصَّة مِنْ رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة وَحْده ، وَفِي سِيَاقه مُخَالَفَة كَثِيرَة لِلسِّيَاقِ الَّذِي هُنَا لِلزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَة ، وَهُوَ مِمَّا يَتَأَيَّد بِهِ الِاحْتِمَال الْأَوَّل ، وَاللَّهُ أَعْلَم .
قَوْله : ( عُرْوَة عَنْ عَائِشَة أَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : )
لَيْسَ الْمُرَاد أَنَّ عَائِشَة تَرْوِي عَنْ نَفْسهَا ، بَلْ مَعْنَى قَوْله : " عَنْ عَائِشَة " أَيْ عَنْ حَدِيث عَائِشَة فِي قِصَّة الْإِفْك . ثُمَّ شَرَعَ يُحَدِّث عَنْ عَائِشَة قَالَ : " إِنَّ عَائِشَة قَالَتْ : " وَوَقَعَ فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَة قَالَتْ " وَالزَّعْم قَدْ يَقَع مَوْضِع الْقَوْل إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَرَدُّد ، لَكِنْ لَعَلَّ السِّرّ فِيهِ أَنَّ جَمِيع مَشَايِخ الزُّهْرِيّ لَمْ يُصَرِّحُوا لَهُ بِذَلِكَ ، كَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْكَرْمَانِيُّ .
قَوْله ( كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُج )
زَادَ مَعْمَر " سَفَرًا " أَيْ إِلَى سَفَر ، فَهُوَ مَنْصُوب بِنَزْعِ الْخَافِض أَوْ ضُمِّنَ يَخْرُج مَعْنَى يُنْشِئ فَيَكُون سَفَرًا نَصْبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّة ، وَفِي رِوَايَة فُلَيْحٍ وَصَالِح بْن كَيْسَانَ كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا .
قَوْله : ( أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجه )
فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْقُرْعَة وَالرَّدّ عَلَى مَنْ مَنَعَ مِنْهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّعْرِيف بِهَا وَحُكْمهَا فِي أَوَاخِر كِتَاب الشَّهَادَات فِي " بَاب الْقُرْعَة فِي الْمُشْكِلَات " .
قَوْله : ( فَأَيَّتُهُنَّ )
وَقَعَ فِي رِوَايَة الْأَصِيلِيِّ مِنْ طَرِيق فُلَيْحٍ " فَأَيُّهُنَّ " بِغَيْرِ مُثَنَّاة وَالْأُولَى أَوْلَى .
قَوْله : ( فِي غَزْوَة غَزَاهَا )
هِيَ غَزْوَة بَنِي الْمُصْطَلِق ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته ، وَكَذَا أَفْلَح بْن عَبْد اللَّه عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ ، وَعِنْدَهُ فِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس " فَخَرَجَ سَهْم عَائِشَة فِي غَزْوَة بَنِي الْمُصْطَلِق مِنْ خُزَاعَة " وَعِنْدَ الْبَزَّار مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " فَأَصَابَتْ عَائِشَة الْقُرْعَة فِي غَزْوَة بَنِي الْمُصْطَلِق " وَفِي رِوَايَة بَكْر بْن وَائِل عِنْدَ أَبِي عَوَانَة مَا يُشْعِر بِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْغَزْوَة فِي حَدِيث عَائِشَة مُدْرَج فِي الْخَبَر .
قَوْله : ( فَخَرَجَ سَهْمِي )
هَذَا يُشْعِر بِأَنَّهَا كَانَتْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَة وَحْدَهَا ، لَكِنْ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ مِنْ طَرِيق عَبَّاد بْن عَبْد اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا خَرَجَتْ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَة أَيْضًا أُمّ سَلَمَة ، وَكَذَا فِي حَدِيث اِبْن عُمَر ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَلَمْ يَقَع لِأُمِّ سَلَمَة فِي تِلْكَ الْغَزْوَة ذِكْر ، وَرِوَايَة اِبْن إِسْحَاق مِنْ رِوَايَة عَبَّاد ظَاهِرَة فِي تَفَرُّد عَائِشَة بِذَلِكَ وَلَفْظه " فَخَرَجَ سَهْمِي عَلَيْهِنَّ ، فَخَرَجَ بِي مَعَهُ " .
قَوْله : ( بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ )
أَيْ بَعْدَمَا نَزَلَ الْأَمْر بِالْحِجَابِ ، وَالْمُرَاد حِجَاب النِّسَاء عَنْ رُؤْيَة الرِّجَال لَهُنَّ ، وَكُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُمْنَعْنَ ، وَهَذَا قَالَتْهُ كَالتَّوْطِئَةِ لِلسَّبَبِ فِي كَوْنهَا كَانَتْ مُسْتَتِرَةً فِي الْهَوْدَج حَتَّى أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى تَحْمِيلِهِ وَهِيَ لَيْسَتْ فِيهِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهَا فِيهِ ، بِخِلَافِ مَا كَانَ قَبْلَ الْحِجَاب ، فَلَعَلَّ النِّسَاء حِينَئِذٍ كُنَّ يَرْكَبْنَ ظُهُور الرَّوَاحِل بِغَيْرِ هَوَادِج ، أَوْ يَرْكَبْنَ الْهَوَادِج غَيْر مُسْتَتِرَات ، فَمَا كَانَ يَقَع لَهَا الَّذِي يَقَع ، بَلْ كَانَ يَعْرِف الَّذِي كَانَ يَخْدُم بَعِيرَهَا إِنْ كَانَتْ رَكِبَتْ أَمْ لَا .
قَوْله : ( فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ )
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَكُنْت إِذَا رَحَّلُوا بَعِيرِي جَلَسْت فِي هَوْدَجِي ثُمَّ يَأْخُذُونَ بِأَسْفَلِ الْهَوْدَج فَيَضَعُونَهُ عَلَى ظَهْر الْبَعِير " وَالْهَوْدَج بِفَتْحِ الْهَاء وَالدَّال بَيْنَهُمَا وَاو سَاكِنَة وَآخِرُهُ جِيمٌ : مَحْمِل لَهُ قُبَّة تُسْتَر بِالثِّيَابِ وَنَحْوه ، يُوضَع عَنْ ظَهْر الْبَعِير يَرْكَب عَلَيْهِ النِّسَاء لِيَكُونَ أَسْتَر لَهُنَّ . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس بِلَفْظِ " الْمِحَفَّة " .
قَوْله : ( فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ )
كَذَا اِقْتَصَرَتْ الْقِصَّة ، لِأَنَّ مُرَاد سِيَاق قِصَّة الْإِفْك خَاصَّةٌ وَإِنَّمَا ذَكَرْت مَا ذَكَرْت ذَلِكَ كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا أَرَادَتْ اِقْتِصَاصه ، وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون ذَكَرَتْ جَمِيع ذَلِكَ فَاخْتَصَرَهُ الرَّاوِي لِلْغَرَضِ الْمَذْكُور ، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنْهَا فِي قِصَّة غَزْوَة بَنِي الْمُصْطَلِق أَحَادِيث غَيْر هَذَا ، وَيُؤَيِّد الْأَوَّل أَنَّ فِي رِوَايَة الْوَاقِدِيِّ عَنْ عَبَّاد " قُلْت لِعَائِشَةَ : يَا أُمَّتَاهُ حَدِّثِينَا عَنْ قِصَّة الْإِفْك ، قَالَتْ : نَعَمْ " وَعِنْدَهُ " فَخَرَجْنَا فَغَنَّمَهُ اللَّه أَمْوَالهمْ وَأَنْفُسهمْ وَرَجَعْنَا " .
قَوْله : ( وَقَفَلَ )
بِقَافٍ وَفَاء أَيْ رَجَعَ مِنْ غَزْوَته .
قَوْله : ( وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَة قَافِلِينَ )
أَيْ رَاجِعِينَ ، أَيْ أَنَّ قِصَّتهَا وَقَعَتْ حَالَ رُجُوعهمْ مِنْ الْغَزْوَة قُرْبَ دُخُولهمْ الْمَدِينَة .
قَوْله : ( آذَنَ )
بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيف وَبِغَيْرِ مَدّ وَالتَّشْدِيد كِلَاهُمَا بِمَعْنَى أَعْلَمَ بِالرَّحِيلِ ، وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَبَاتَ بِهِ بَعْض اللَّيْل ثُمَّ آذَنَ بِالرَّحِيلِ " .
قَوْله : ( بِالرَّحِيلِ )
فِي رِوَايَة بَعْضهمْ " الرَّحِيل " بِغَيْرِ مُوَحَّدَة وَبِالنَّصْبِ ، وَكَأَنَّهُ حِكَايَة قَوْلهمْ : " الرَّحِيلَ " بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاء .
قَوْله : ( فَمَشَيْت حَتَّى جَاوَزْت الْجَيْشَ )
أَيْ لِتَقْضِي حَاجَتهَا مُنْفَرِدَة .
قَوْله : ( فَلَمَّا قَضَيْت شَأْنِي )
الَّذِي تَوَجَّهْت بِسَبَبِهِ ، وَوَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عُمَر خِلَاف مَا فِي الصَّحِيح ، وَأَنَّ سَبَب تَوَجُّههَا لِقَضَاءِ حَاجَتهَا أَنَّ رَحْل أُمّ سَلَمَة مَال فَأَنَاخُوا بَعِيرهَا لِيُصْلِحُوا رَحْلهَا قَالَتْ عَائِشَة : " فَقُلْت إِلَى أَنْ يُصْلِحُوا رَحْلهَا قَضَيْت حَاجَتِي ، فَتَوَجَّهْت وَلَمْ يَعْلَمُوا بِي فَقَضَيْت حَاجَتِي ، فَانْقَطَعَتْ قِلَادَتِي فَأَقَمْت فِي جَمْعهَا وَنِظَامهَا ، وَبَعَثَ الْقَوْم إِبِلهمْ وَمَضَوْا وَلَمْ يَعْلَمُوا بِنُزُولِي " وَهَذَا شَاذّ مُنْكَر .
قَوْله : ( عِقْد )
بِكَسْرِ الْعَيْن قِلَادَة تُعَلَّق فِي الْعُنُق لِلتَّزَيُّنِ بِهَا .
قَوْله : ( مِنْ جَزْع )
بِفَتْحِ الْجِيم وَسُكُون الزَّاي بَعْدَهَا مُهْمَلَة : خَرَز مَعْرُوف فِي سَوَاده بَيَاض كَالْعُرُوقِ ، قَالَ اِبْن الْقَطَّاع : هُوَ وَاحِد لَا جَمْع لَهُ ، وَقَالَ اِبْن سِيدَهْ : هُوَ جَمْع وَاحِدَة جَزِعَة وَهُوَ بِالْفَتْحِ ، فَأَمَّا الْجِزَع بِالْكَسْرِ فَهُوَ جَانِب الْوَادِي ، وَنَقَلَ كُرَاع أَنَّ جَانِب الْوَادِي بِالْكَسْرِ فَقَطْ وَأَنَّ الْآخَر يُقَال بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ ، وَأَغْرَبَ اِبْن التِّين فَحَكَى فِيهِ الضَّمّ ، قَالَ التِّيفَاشِيّ : يُوجَد فِي مَعَادِن الْعَقِيق وَمِنْهُ مَا يُؤْتَى بِهِ مِنْ الصِّين ، قَالَ : وَلَيْسَتْ فِي الْحِجَارَة أَصْلَب جِسْمًا مِنْهُ ، وَيَزْدَاد حُسْنه إِذَا طُبِخَ بِالزَّيْتِ لَكِنَّهُمْ لَا يَتَيَمَّنُونَ بِلُبْسِهِ وَيَقُولُونَ : مَنْ تَقَلَّدَهُ كَثُرَتْ هُمُومه وَرَأَى مَنَامَات رَدِيئَة ، وَإِذَا عُلِّقَ عَلَى طِفْل سَالَ لُعَابه . وَمِنْ مَنَافِعه إِذَا أُمِرَّ عَلَى شَعْر الْمُطْلَقَة سَهُلَتْ وِلَادَتهَا .
قَوْله : ( جَزْع أَظْفَار )
كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَة أَظْفَار بِزِيَادَةِ أَلِف ، وَكَذَا فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ . لَكِنْ فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ طَرِيقه " ظَفَار " وَكَذَا فِي رِوَايَة مَعْمَر وَصَالِح ، وَقَالَ اِبْن بَطَّال : الرِّوَايَة " أَظْفَار " بِأَلِفٍ ، وَأَهْل اللُّغَة لَا يَعْرِفُونَهُ بِأَلِفٍ وَيَقُولُونَ : " ظَفَار " قَالَ اِبْن قُتَيْبَة : جَزْع ظَفَارِي . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : وَقَعَ فِي بَعْض رِوَايَات مُسْلِم " أَظْفَار " وَهِيَ خَطَأ . قُلْت : لَكِنَّهَا فِي ، أَكْثَر رِوَايَات أَصْحَاب الزُّهْرِيّ ، حَتَّى إِنَّ فِي رِوَايَة صَالِح بْن أَبِي الْأَخْضَر عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ جَزْع الْأَظَافِير " فَأَمَّا ظَفَار بِفَتْحِ الظَّاء الْمُعْجَمَة ثُمَّ فَاء بَعْدَهَا رَاء مَبْنِيَّة عَلَى الْكَسْر فَهِيَ مَدِينَة بِالْيَمَنِ ، وَقِيلَ جَبَل ، وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِهِ الْمَدِينَة وَهِيَ فِي أَقْصَى الْيَمَن إِلَى جِهَة الْهِنْد ، وَفِي الْمِثْل " مَنْ دَخَلَ ظَفَار حَمَّرَ " أَيْ تَكَلَّمَ بِالْحِمْيَرِيَّةِ ، لِأَنَّ أَهْلهَا كَانُوا مِنْ حِمْيَر وَإِنْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَة أَنَّ جَزْع أَظْفَار فَلَعَلَّ عِقْدَهَا كَانَ مِنْ الظُّفْر أَحَد أَنْوَاع الْقُسْط وَهُوَ طَيِّب الرَّائِحَة يُتبَخَّر بِهِ ، فَلَعَلَّهُ عَمِلَ مِثْل الْخَرَز فَأَطْلَقَتْ عَلَيْهِ جَزْعًا تَشْبِيهًا بِهِ وَنَظَمَتْهُ قِلَادَة إِمَّا لِحُسْنِ لَوْنه أَوْ لِطِيبِ رِيحه ، وَقَدْ حَكَى اِبْن التِّين أَنَّ قِيمَته كَانَتْ اِثَّنَى عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَهَذَا يُؤَيِّد أَنَّهُ لَيْسَ جَزَعًا ظَفَارِيًّا إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ قِيمَته أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْوَاقِدِيِّ " فَكَانَ فِي عُنُقِي عِقْد مِنْ جَزْع ظَفَار كَانَتْ أُمِّي أَدْخَلَتْنِي بِهِ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
قَوْله : ( فَلَمَّا قَضَيْت شَأْنِي )
أَيْ فَرَغْت مِنْ قَضَاء حَاجَتِي ( أَقْبَلْت إِلَى رَحْلِي ) أَيْ رَجَعْت إِلَى الْمَكَان الَّذِي كَانَتْ نَازِلَة فِيهِ .
قَوْله : ( فَإِذَا عِقْد لِي )
فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " فَلَمَسْت صَدْرِي فَإِذَا عِقْدِي " .
قَوْله : ( قَدْ اِنْقَطَعَ )
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " قَدْ اِنْسَلَّ مِنْ عُنُقِي وَأَنَا لَا أَدْرِي " .
قَوْله : ( فَالْتَمَسْت عِقْدِي )
فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " فَرَجَعْت فَالْتَمَسْت وَحَبَسَنِي اِبْتِغَاؤُهُ " أَيْ طَلَبه ، فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَرَجَعْت عَوْدِي عَلَى بَدْئِي إِلَى الْمَكَان الَّذِي ذَهَبْت إِلَيْهِ " وَفِي رِوَايَة الْوَاقِدِيِّ " وَكُنْت أَظُنّ أَنَّ الْقَوْم لَوْ لَبِثُوا شَهْرًا لَمْ يَبْعَثُوا بَعِيرِي حَتَّى أَكُون فِي هَوْدَجِي " .
قَوْله : ( وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ )
هُوَ عَدَد مِنْ ثَلَاثَة إِلَى عَشَرَة وَقِيلَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّل الْكِتَاب فِي حَدِيث أَبِي سُفْيَان الطَّوِيل . وَلَمْ أَعْرِف مِنْهُمْ هُنَا أَحَدًا إِلَّا أَنَّ فِي رِوَايَة الْوَاقِدِيِّ أَنَّ أَحَدهمْ أَبُو مَوْهُوبَةَ مَوْلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ أَبُو مُوَيْهِبَةَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ حَدِيثًا فِي مَرَض رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَفَاته أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَغَيْره ، قَالَ الْبَلَاذُرِيّ : شَهِدَ أَبُو مُوَيْهِبَةَ غَزْوَة الْمُرَيْسِيع ، وَكَانَ يَخْدُم بَعِير عَائِشَة ، وَكَانَ مِنْ مُوَلَّدِي بَنِي مُزَيْنَةَ . وَكَأَنَّهُ فِي الْأَصْل أَبُو مَوْهُوبَة وَيُصَغَّر فَيُقَال أَبُو مُوَيْهِبَةَ .
قَوْله : ( يَرْحَلُونَ )
بِفَتْحِ أَوَّله وَالتَّخْفِيف ، رَحَلْت الْبَعِير إِذَا شَدَدْت عَلَيْهِ الرَّحْل . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي ذَرّ هُنَا بِالتَّشْدِيدِ فِي هَذَا وَفِي " فَرَحَلُوهُ " .
قَوْله : ( لِي )
فِي رِوَايَة مَعْمَر " بِي " وَحَكَى النَّوَوِيّ عَنْ أَكْثَر نُسَخ صَحِيح مُسْلِم " يَرْحَلُونَ لِي " قَالَ : وَهُوَ أَجْوَد ، وَقَالَ غَيْره بِالْبَاءِ أَجْوَد لِأَنَّ الْمُرَاد وَضْعهَا وَهِيَ فِي الْهَوْدَج فَشَبَّهَتْ الْهَوْدَج الَّذِي هِيَ فِيهِ بِالرَّحْلِ الَّذِي يُوضَع عَلَى الْبَعِير .
قَوْله : ( فَرَحَلُوهُ )
أَيْ وَضَعُوهُ ، وَفِيهِ تَجَوُّز وَإِنَّمَا الرَّحْل هُوَ الَّذِي يُوضَع عَلَى ظَهْر الْبَعِير ثُمَّ يُوضَع الْهَوْدَج فَوْقَهُ .
قَوْله : ( وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا )
قَالَتْ : هَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهَا : " وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ " .
قَوْله : ( لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْم )
فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " لَمْ يُثْقِلْهُنَّ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْم " قَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة : لَيْسَ هَذَا تَكْرَارًا لِأَنَّ كُلّ سَمِين ثَقِيل مِنْ غَيْر عَكْس ، لِأَنَّ الْهَزِيل قَدْ يَمْتَلِئ بَطْنُهُ طَعَامًا فَيَقِلّ بَدَنه ، فَأَشَارَتْ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ لَمْ يَكُونَا فِي نِسَاء ذَلِكَ الزَّمَان . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَعْنَى قَوْلهَا : " لَمْ يَغْشَهُنَّ " أَيْ لَمْ يَكْثُر عَلَيْهِنَّ فَيَرْكَب بَعْضُهُ بَعْضًا ، وَفِي رِوَايَة مَعْمَر " لَمْ يُهَبِّلْهُنَّ " وَضَبَطَهُ اِبْن الْخَشَّاب فِيمَا حَكَاهُ اِبْن الْجَوْزِيّ بِفَتْحِ أَوَّله وَسُكُون الْهَاء وَكَسْر الْمُوَحَّدَة ، وَمِثْله الْقُرْطُبِيّ لَكِنْ قَالَ : وَضَمّ الْمُوَحَّدَة ، قَالَ : لِأَنَّ مَاضِيه بِفَتْحَتَيْنِ مُخَفَّفًا ، وَقَالَ النَّوَوِيّ : الْمَشْهُور فِي ضَبْطه بِضَمِّ أَوَّله وَفَتْح الْهَاء وَتَشْدِيد الْمُوَحَّدَة ، وَبِفَتْحِ أَوَّله وَثَالِثه أَيْضًا ، وَبِضَمِّ أَوَّله وَكَسْر ثَالِثه مِنْ الرُّبَاعِيّ ، يُقَال هَبَّلَهُ اللَّحْم وَأَهْبَلَهُ إِذَا أَثْقَلَهُ ، وَأَصْبَحَ فُلَان مُهَبَّلًا أَيْ كَثِير اللَّحْم أَوْ وَارِمَ الْوَجْه . قُلْت : وَفِي رِوَايَة اِبْن جُرَيْجٍ " لَمْ يُهَبِّلْهُنَّ اللَّحْم " وَحَكَى الْقُرْطُبِيّ أَنَّهَا فِي رِوَايَة لِابْنِ الْحَذَّاء فِي مُسْلِم أَيْضًا ، وَأَشَارَ إِلَيْهَا اِبْن الْجَوْزِيّ وَقَالَ : الْمُهَبَّل الْكَثِير اللَّحْم الثَّقِيل الْحَرَكَة مِنْ السِّمَن ، وَفُلَان مُهَبَّل أَيْ مُهَيَّج كَأَنَّ بِهِ وَرَمًا .
قَوْله : ( إِنَّمَا يَأْكُلْنَ )
كَذَا لِلْأَكْثَرِ ، وَفِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا " إِنَّمَا نَأْكُل " بِالنُّونِ أَوَّله وَبِاللَّامِ فَقَطْ .
قَوْله : ( الْعُلْقَة )
بِضَمِّ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَسُكُون اللَّام ثُمَّ قَاف أَيْ الْقَلِيل ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ : كَأَنَّ الْمُرَاد الشَّيْء الْقَلِيل الَّذِي يُسَكِّنُ الرَّمَق ، كَذَا قَالَ . وَقَدْ قَالَ الْخَلِيل : الْعُلْقَة مَا فِيهِ بُلْغَة مِنْ الطَّعَام إِلَى وَقْت الْغَدَاء ، حَكَاهُ اِبْن بَطَّال قَالَ : وَأَصْلهَا شَجَر يَبْقَى فِي الشِّتَاء تَتَبَلَّغ بِهِ الْإِبِل حَتَّى يَدْخُل زَمَن الرَّبِيع .
قَوْله : ( فَلَمْ يَسْتَنْكِر الْقَوْم خِفَّة الْهَوْدَج )
وَقَعَ فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ وَمَعْمَر " ثِقَل الْهَوْدَج " وَالْأَوَّل أَوْضَح لِأَنَّ مُرَادهَا إِقَامَة عُذْرهمْ فِي تَحْمِيل هَوْدَجَهَا وَهِيَ لَيْسَتْ فِيهِ فَكَأَنَّهَا تَقُول : كَأَنَّهَا لِخِفَّةِ جِسْمهَا بِحَيْثُ إِنَّ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ هَوْدَجهَا لَا فَرْق عِنْدَهُمْ بَيْنَ وُجُودهَا فِيهِ وَعَدَمهَا ، وَلِهَذَا أَرْدَفَتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهَا : " وَكُنْت جَارِيَة حَدِيثَةَ السِّنّ " أَيْ أَنَّهَا مَعَ نَحَافَتهَا صَغِيرَة السِّنّ فَذَلِكَ أَبْلَغ فِي خِفَّتهَا ، وَقَدْ وُجِّهَتْ الرِّوَايَة الْأُخْرَى بِأَنَّ الْمُرَاد لَمْ يَسْتَنْكِرُوا الثِّقَل الَّذِي اِعْتَادُوهُ ، لِأَنَّ ثِقَله فِي الْأَصْل إِنَّمَا هُوَ مِمَّا رَكِبَ الْهَوْدَج مِنْهُ مِنْ خَشَب وَحِبَال وَسُتُور وَغَيْر ذَلِكَ ، وَأَمَّا هِيَ فَلِشِدَّةِ نَحَافَتهَا كَانَ لَا يَظْهَر بِوُجُودِهَا فِيهِ زِيَادَة ثِقَل ، وَالْحَاصِل أَنَّ الثِّقَل وَالْخِفَّة مِنْ الْأُمُور الْإِضَافِيَّة فَيَتَفَاوَتَانِ بِالنِّسْبَةِ ، وَيُسْتَفَاد مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ بَعِيرهَا كَانُوا فِي غَايَة الْأَدَب مَعَهَا وَالْمُبَالَغَة فِي تَرْك التَّنْقِيب عَمَّا فِي الْهَوْدَج بِحَيْثُ إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهَا فِيهِ ، وَكَأَنَّهُمْ جَوَّزُوا أَنَّهَا نَائِمَة .
قَوْله : ( وَكُنْت جَارِيَة حَدِيثَة السِّنّ )
هُوَ كَمَا قَالَتْ ، لِأَنَّهَا أُدْخِلَتْ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَة فِي شَوَّال وَلَهَا تِسْع سِنِينَ ، وَأَكْثَر مَا قِيلَ فِي الْمُرَيْسِيع كَمَا سَيَأْتِي أَنَّهَا عِنْدَ اِبْن إِسْحَاق كَانَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَة سِتّ فَتَكُون لَمْ تُكَمِّل خَمْسَ عَشْرَةَ ، فَإِنْ كَانَتْ الْمُرَيْسِيع قَبْلَ ذَلِكَ فَتَكُون أَصْغَر مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ أَشَرْت إِلَى فَائِدَة ذِكْرهَا ذَلِكَ قَبْلُ ، وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون أَشَارَتْ بِذَلِكَ إِلَى بَيَان عُذْرهَا فِيمَا فَعَلَتْهُ مِنْ الْحِرْص عَلَى الْعِقْد الَّذِي اِنْقَطَعَ ، وَمِنْ اِسْتِقْلَالهَا بِالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَال وَتَرْك إِعْلَام أَهْلهَا بِذَلِكَ وَذَلِكَ لِصِغَرِ سِنّهَا وَعَدَم تَجَارِبهَا لِلْأُمُورِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ لَيْسَتْ صَغِيرَة لَكَانَتْ تَتَفَطَّنُ لِعَاقِبَةِ ذَلِكَ . وَقَدْ وَقَعَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي ضَيَاع الْعِقْد أَيْضًا أَنَّهَا أَعْلَمَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ فَأَقَامَ بِالنَّاسِ عَلَى غَيْر مَاء حَتَّى وَجَدَتْهُ وَنَزَلَتْ آيَة التَّيَمُّم بِسَبَبِ ذَلِكَ ، فَظَهَرَ تَفَاوُت حَال مَنْ جَرَّبَ الشَّيْء وَمَنْ لَمْ يُجَرِّبهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحه فِي كِتَاب التَّيَمُّم .
قَوْله : ( فَبَعَثُوا الْجَمَل )
أَيْ أَثَارُوهُ .
قَوْله : ( بَعْدَمَا اِسْتَمَرَّ الْجَيْشُ )
أَيْ ذَهَب مَاضِيًا ، وَهُوَ اِسْتَفْعَلَ مِنْ مَرَّ .
قَوْلُهُ : ( فَجِئْت مَنَازِلهمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيب )
فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " وَلَيْسَ فِيهَا أَحَد " فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ تَسْتَصْحِب عَائِشَة مَعَهَا غَيْرهَا فَكَانَ أَدْعَى لِأَمْنِهَا مِمَّا يَقَع لِلْمُنْفَرِدِ وَلَكَانَتْ لَمَّا تَأَخَّرَتْ لِلْبَحْثِ عَنْ الْعِقْد تُرْسِل مَنْ رَافَقَهَا لِيَنْتَظِرُوهَا إِنْ أَرَادُوا الرَّحِيل ؟ وَالْجَوَاب أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَة مَا يُسْتَفَاد مِنْ قَوْله حَدِيثَة السِّنّ ، لِأَنَّهَا لَمْ يَقَع لَهَا تَجْرِبَة مِثْل ذَلِكَ ، وَقَدْ صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَتْ لِحَاجَتِهَا تَسْتَصْحِب كَمَا سَيَأْتِي فِي قِصَّتهَا مَعَ أُمِّ مِسْطَح ، وَقَوْله : فَأَمَمْت مَنْزِلِي بِالتَّخْفِيفِ أَيْ قَصَدْت ، وَفِي رِوَايَة أَبِي ذَرّ هُنَا بِتَشْدِيدِ الْمِيم الْأُولَى ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ ، : وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ( وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ) قَالَ اِبْن التِّين : هَذَا عَلَى أَنَّهُ بِالتَّخْفِيفِ اِنْتَهَى . وَفِي رِوَايَة صَالِح بْن كَيْسَانَ " فَتَيَمَّمْت " .
قَوْله : ( وَظَنَنْت أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي )
فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " سَيَفْقِدُونِي " بِنُونٍ وَاحِدَة ، فَإِمَّا أَنْ تَكُون حُذِفَتْ تَخْفِيفًا أَوْ هِيَ مُثَقَّلَة .
قَوْله : ( فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ )
وَقَعَ فِي رِوَايَة مَعْمَر " فَيَرْجِعُوا " بِغَيْرِ نُون وَكَأَنَّهُ عَلَى لُغَة مَنْ يَحْذِفهَا مُطْلَقًا . قَالَ عِيَاض : الظَّنّ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْم ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون عَلَى بَابه ، فَإِنَّهُمْ أَقَامُوا إِلَى وَقْت الظُّهْر وَلَمْ يَرْجِع أَحَد مِنْهُمْ إِلَى الْمَنْزِل الَّذِي كَانَتْ بِهِ وَلَا نُقِلَ أَنَّ أَحَدًا لَاقَاهَا فِي الطَّرِيق ، لَكِنْ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونُوا اِسْتَمَرُّوا فِي السَّيْر إِلَى قُرْب الظُّهْر ، فَلَمَّا نَزَلُوا إِلَى أَنْ يَشْتَغِلُوا بِحَطِّ رِحَالهمْ وَرَبْط رَوَاحِلهمْ وَاسْتَصْحَبُوا حَالهمْ فِي ظَنّهمْ أَنَّهَا فِي هَوْدَجهَا لَمْ يَفْتَقِدُوهَا إِلَى أَنْ وَصَلَتْ عَلَى قُرْب ، وَلَوْ فَقَدُوهَا لَرَجَعُوا كَمَا ظَنَّتْهُ . وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَعَرَفَتْ أَنْ لَوْ اِفْتَقَدُونِي لَرَجَعُوا إِلَيَّ " وَهَذَا ظَاهِر فِي أَنَّهَا لَمْ تَتَّبِعهُمْ ، وَوَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عُمَر خِلَاف ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ " فَجِئْت فَاتَّبَعْتهمْ حَتَّى أَعْيَيْت ، فَقُمْت عَلَى بَعْض الطَّرِيق فَمَرَّ بِي صَفْوَان " وَهَذَا السِّيَاق لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمُخَالَفَتِهِ لِمَا فِي الصَّحِيح وَأَنَّهَا أَقَامَتْ فِي مَنْزِلهَا إِلَى أَنْ أَصْبَحَتْ ، وَكَأَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهَا أَنْ تَتْبَعَهُمْ فَلَا تَأْمَن أَنْ يَخْتَلِف عَلَيْهَا الطُّرُق فَتَهْلَك قَبْلَ أَنْ تُدْرِكهُمْ ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ كَانَتْ فِي اللَّيْل ، أَوْ تُقِيم فِي مَنْزِلهَا لَعَلَّهُمْ إِذَا فَقَدُوهَا عَادُوا إِلَى مَكَانهَا الَّذِي فَارَقُوهَا فِيهِ ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ فَقَدْ شَيْئًا أَنْ يَرْجِع بِفِكْرِهِ الْقَهْقَرَى إِلَى الْحَدّ الَّذِي يَتَحَقَّق وُجُوده ثُمَّ يَأْخُذ مِنْ هُنَاكَ فِي التَّنْقِيب عَلَيْهِ . وَأَرَادَتْ بِمَنْ يَفْقِدهَا مَنْ هُوَ مِنْهَا بِسَبَبٍ كَزَوْجِهَا أَوْ أَبِيهَا ، وَالْغَالِب الْأَوَّل لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَايِر بَعِيرهَا وَيَتَحَدَّث مَعَهَا فَكَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَّفِق فِي تِلْكَ اللَّيْلَة ، وَلَمَّا لَمْ يَتَّفِق مَا تَوَقَّعَتْهُ مِنْ رُجُوعهمْ إِلَيْهَا سَاقَ اللَّه إِلَيْهَا مَنْ حَمَلَهَا بِغَيْرِ حَوْل مِنْهَا وَلَا قُوَّة .
قَوْله : ( فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَة فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْت )
، يُحْتَمَل أَنْ يَكُون سَبَب النَّوْم شِدَّة الْغَمّ الَّذِي حَصَلَ لَهَا فِي تِلْكَ الْحَالَة ، وَمِنْ شَأْن الْغَمّ - وَهُوَ وُقُوع مَا يُكْرَه - غَلَبَة النَّوْم ، بِخِلَافِ الْهَمّ وَهُوَ تَوَقُّع مَا يُكْرَه فَإِنَّهُ يَقْتَضِي السَّهَر ، أَوْ لِمَا وَقَعَ مِنْ بَرْد السَّحَر لَهَا مَعَ رُطُوبَة بَدَنهَا وَصِغَر سِنّهَا . وَعِنْدَ اِبْن إِسْحَاق " فَتَلَفَّفْت بِجِلْبَابِي ثُمَّ اِضْطَجَعْت فِي مَكَانِي " أَوْ أَنَّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى لَطَفَ بِهَا فَأَلْقَى عَلَيْهَا النَّوْم لِتَسْتَرِيحَ مِنْ وَحْشَة الِانْفِرَاد فِي الْبَرِّيَّة بِاللَّيْلِ .
قَوْله : ( وَكَانَ صَفْوَان بْن الْمُعَطَّل )
بِفَتْحِ الطَّاء الْمُهْمَلَة الْمُشَدَّدَة
( السُّلَمِيُ )
بِضَمِّ الْمُهْمَلَة
( ثُمَّ الذَّكْوَانِيّ )
مَنْسُوب إِلَى ذَكْوَانَ بْن ثَعْلَبَة بْن بُهْثَة - بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة وَسُكُون الْهَاء بَعْدَهَا مُثَلَّثَة - اِبْن سَلِيم ، وَذَكْوَان بَطْن مِنْ بَنِي سَلِيم ، وَكَانَ صَحَابِيًّا فَاضِلًا أَوَّل مَشَاهِده عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ الْخَنْدَق وَعِنْدَ اِبْن الْكَلْبِيّ الْمُرَيْسِيع ، وَسَيَأْتِي فِي أَثْنَاء شَرْح هَذَا الْحَدِيث مَا يَدُلّ عَلَى تَقَدُّم إِسْلَامه ، وَيَأْتِي أَيْضًا بَعْدَ خَمْسَة أَبْوَاب قَوْل عَائِشَة إِنَّهُ قُتِلَ شَهِيدًا فِي سَبِيل اللَّه ، وَمُرَادهَا أَنَّهُ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْأَيَّام . وَقَدْ ذَكَرَ اِبْن إِسْحَاق أَنَّهُ اُسْتُشْهِدَ فِي غَزَاة أَرْمِينِيَّةَ فِي خِلَافَة عُمَر سَنَة تِسْعَ عَشْرَةَ ، وَقِيلَ بَلْ عَاشَ إِلَى سَنَة أَرْبَع وَخَمْسِينَ فَاسْتُشْهِدَ بِأَرْضِ الرُّوم فِي خِلَافَة مُعَاوِيَة .
قَوْله : ( مِنْ وَرَاء الْجَيْش )
فِي رِوَايَة مَعْمَر " قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاء الْجَيْش " وَعَرَّسَ بِمُهْمَلَاتٍ مُشَدَّدًا أَيْ نَزَلَ ، قَالَ أَبُو زَيْد التَّعْرِيس : النُّزُول فِي السَّفَر فِي أَيّ وَقْت كَانَ ، وَقَالَ غَيْره : أَصْله النُّزُول مِنْ آخِر اللَّيْل فِي السَّفَر لِلرَّاحَةِ . وَوَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عُمَر بَيَان سَبَب تَأَخُّر صَفْوَان وَلَفْظه " سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلهُ عَلَى السَّاقَة فَكَانَ إِذَا رَحَلَ النَّاس قَامَ يُصَلِّي ثُمَّ اِتَّبَعَهُمْ فَمَنْ سَقَطَ لَهُ شَيْء أَتَاهُ بِهِ " وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " وَكَانَ صَفْوَان يَتَخَلَّف عَنْ النَّاس فَيُصِيب الْقَدَح وَالْجِرَاب وَالْإِدَاوَة " وَفِي مُرْسَل مُقَاتِل بْن حَيَّانَ " فَيَحْمِلهُ فَيَقْدَم بِهِ فَيُعَرِّفهُ فِي أَصْحَابه " وَكَذَا فِي مُرْسَل سَعِيد بْن جُبَيْر نَحْوه .
قَوْله : ( فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي )
أَدْلَجَ بِسُكُونِ الدَّال فِي رِوَايَتنَا وَهُوَ كَادَّلَجَ بِتَشْدِيدِهَا ، وَقِيلَ بِالسُّكُونِ سَارَ مِنْ أَوَّله وَبِالتَّشْدِيدِ سَارَ مِنْ آخِره ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُون الَّذِي هُنَا بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي آخِر اللَّيْل ، وَكَأَنَّهُ تَأَخَّرَ فِي مَكَانه حَتَّى قَرُبَ الصُّبْح فَرَكِبَ لِيَظْهَرَ لَهُ مَا يَسْقُط مِنْ الْجَيْش مِمَّا يُخْفِيهِ اللَّيْل ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون سَبَب تَأْخِيره مَا جَرَتْ بِهِ عَادَته مِنْ غَلَبَة النَّوْم عَلَيْهِ ، فَفِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَالْبَزَّار وَابْن سَعْد وَصَحِيح اِبْن حِبَّانَ وَالْحَاكِم مِنْ طَرِيق الْأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي سَعِيد " أَنَّ اِمْرَأَة صَفْوَان بْن الْمُعَطَّل جَاءَتْ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه إِنَّ زَوْجِي يَضْرِبُنِي إِذَا صَلَّيْت ، وَيُفَطِّرُنِي إِذَا صُمْت ، وَلَا يُصَلِّي صَلَاة الْفَجْر حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس . قَالَ وَصَفْوَان عِنْدَهُ ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ : أَمَّا قَوْلهَا يَضْرِبُنِي إِذَا صَلَّيْت فَإِنَّهَا تَقْرَأ سُورَتِي وَقَدْ نَهَيْتهَا عَنْهَا ، وَأَمَّا قَوْلهَا يُفَطِّرُنِي إِذَا صُمْت فَأَنَا رَجُل شَابٌّ لَا أَصْبِرُ ، وَأَمَّا قَوْلُهَا إِنِّي لَا أُصَلِّي حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس فَأَنَّا أَهْل بَيْت قَدْ عُرِفَ لَنَا ذَلِكَ فَلَا نَسْتَيْقِظ حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس " الْحَدِيثَ قَالَ الْبَزَّار : هَذَا الْحَدِيث كَلَامه مُنْكَرٌ ، وَلَعَلَّ الْأَعْمَش أَخَذَهُ مِنْ غَيْر ثِقَة فَدَلَّسَهُ فَصَارَ ظَاهِر سَنَده الصِّحَّة ، وَلَيْسَ لِلْحَدِيثِ عِنْدِي أَصْل اِنْتَهَى . وَمَا أَعَلَّهُ بِهِ لَيْسَ بِقَادِحٍ ، لِأَنَّ اِبْن سَعْد صَحَّ فِي رِوَايَته بِالتَّحْدِيثِ بَيْنَ الْأَعْمَش وَأَبِي صَالِح ، وَأَمَّا رِجَاله فَرِجَال الصَّحِيح ، وَلَمَّا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ بَعْدَهُ : رَوَاهُ حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ ثَابِت عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذِهِ مُتَابَعَة جَيِّدَة تُؤْذِن بِأَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا ، وَغَفَلَ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الطَّرِيقَة الثَّانِيَة عِلَّة لِلطَّرِيقِ الْأُولَى . وَأَمَّا اِسْتِنْكَار الْبَزَّار مَا وَقَعَ فِي مَتْنه فَمُرَاده أَنَّهُ مُخَالِف لِلْحَدِيثِ الْآتِي قَرِيبًا مِنْ رِوَايَة أَبِي أُسَامَة عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة فِي قِصَّة الْإِفْك قَالَتْ : فَبَلَغَ الْأَمْر ذَلِكَ الرَّجُل فَقَالَ : سُبْحَان اللَّه ، وَاَللَّه مَا كَشَفْت كَنَف أُنْثَى قَطُّ ، أَيْ مَا جَامَعْتهَا ، وَالْكَنَف بِفَتْحَتَيْنِ الثَّوْب السَّاتِر ، وَمِنْهُ قَوْلهمْ : أَنْتَ فِي كَنَف اللَّه أَيْ فِي سِتْره ، وَالْجَمْع بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيث أَبِي سَعِيد عَلَى مَا ذَكَرَ الْقُرْطُبِيّ أَنَّ مُرَاده بِقَوْلِهِ : مَا كَشَفْت كَنَف أُنْثَى قَطُّ أَيْ بِزِنًا ، قُلْت : وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فِي رِوَايَة سَعِيد بْن أَبِي هِلَال عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة فِي قِصَّة الْإِفْك " أَنَّ الرَّجُل الَّذِي قِيلَ فِيهِ مَا قِيلَ لَمَّا بَلَغَهُ الْحَدِيث قَالَ : وَاللَّهِ مَا أَصَبْت اِمْرَأَة قَطُّ حَلَالًا وَلَا حَرَامًا " وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ " وَكَانَ لَا يَقْرَب النِّسَاء " فَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّ مُرَاده بِالنَّفْيِ الْمَذْكُور مَا قَبْلَ هَذِهِ الْقِصَّة ، وَلَا مَانِع أَنْ يَتَزَوَّج بَعْدَ ذَلِكَ . فَهَذَا الْجَمْع لَا اِعْتِرَاض عَلَيْهِ إِلَّا بِمَا جَاءَ عَنْ اِبْن إِسْحَاق أَنَّهُ كَانَ حَصُورًا ، لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُت فَلَا يُعَارِض الْحَدِيث الصَّحِيح . وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيّ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَاءَتْ اِمْرَأَته تَشْكُوهُ وَمَعَهَا اِبْنَانِ لَهَا مِنْهُ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا : " أَشْبَهَ بِهِ مِنْ الْغُرَاب بِالْغُرَابِ " وَلَمْ أَقِف عَلَى مُسْتَنَد الْقُرْطُبِيّ فِي ذَلِكَ ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيث فِي كِتَاب النِّكَاح ، وَأُبَيِّن هُنَاكَ أَنَّ الْمَقُول فِيهِ ذَلِكَ غَيْر صَفْوَان ، وَهُوَ الْمُعْتَمَد إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( فَرَأَى سَوَاد إِنْسَان نَائِم )
السَّوَاد بِلَفْظِ ضِدّ الْبَيَاض يُطْلَق عَلَى الشَّخْص أَيّ شَخْص كَانَ ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ : رَأَى شَخْص آدَمِيّ ، لَكِنْ لَا يَظْهَر أَهُوَ رَجُل أَوْ اِمْرَأَة .
قَوْله : ( فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي )
هَذَا يُشْعِر بِأَنَّ وَجْههَا اِنْكَشَفَ لَمَّا نَامَتْ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّهَا تَلَفَّفَتْ بِجِلْبَابِهَا وَنَامَتْ ، فَلَمَّا اِنْتَبَهَتْ بِاسْتِرْجَاعِ صَفْوَان بَادَرَتْ إِلَى تَغْطِيَة وَجْهِهَا .
قَوْله : ( وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَاب )
أَيْ قَبْلَ نُزُول آيَة الْحِجَاب ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى قِدَم إِسْلَام صَفْوَان ، فَإِنَّ الْحِجَاب كَانَ فِي قَوْل أَبِي عُبَيْدَة وَطَائِفَة فِي ذِي الْقَعْدَة سَنَة ثَلَاث ، وَعِنْدَ آخَرِينَ فِيهَا سَنَةَ أَرْبَع وَصَحَّحَهُ الدِّمْيَاطِيّ ، وَقِيلَ بَلْ كَانَ فِيهَا سَنَة خَمْس ، وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ الْوَاقِدِيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْمُرَيْسِيع كَانَ فِي شَعْبَان سَنَة خَمْس وَأَنَّ الْخَنْدَق كَانَتْ فِي شَوَّال مِنْهَا وَأَنَّ الْحِجَاب كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَة مِنْهَا مَعَ رِوَايَته حَدِيث عَائِشَة هَذَا وَتَصْرِيحهَا فِيهِ بِأَنَّ قِصَّة الْإِفْك الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْمُرَيْسِيع كَانَتْ بَعْدَ الْحِجَاب ، وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا اِبْن إِسْحَاق فَإِنَّ الْمُرَيْسِيع عِنْدَهُ فِي شَعْبَان لَكِنْ سَنَة سِتّ ، وَسَلِمَ الْوَاقِدِيُّ مِنْ التَّنَاقُض فِي قِصَّة سَعْد بْن مُعَاذ الْآتِي ذِكْرُهَا ، نَعَمْ وَسَلِمَ مِنْهَا اِبْن إِسْحَاق فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُر سَعْد بْن مُعَاذ فِي الْقِصَّة أَصْلًا كَمَا سَأُبَيِّنُهُ ، وَمِمَّا يُؤَيِّد صِحَّة مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْحِجَاب كَانَ قَبْلَ قِصَّة الْإِفْك قَوْل عَائِشَة أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيث : " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَب بِنْت جَحْش عَنْهَا " وَفِيهِ " وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَفِيهِ " وَطَفِقَتْ أُخْتهَا حَمْنَة تُحَارِب لَهَا " فَكُلّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ زَيْنَب كَانَتْ حِينَئِذٍ زَوْجَته ، وَلَا خِلَاف أَنَّ آيَة الْحِجَاب نَزَلَتْ حِينَ دُخُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فَثَبَتَ أَنَّ الْحِجَاب كَانَ قَبْلَ قِصَّة الْإِفْك ، وَقَدْ كُنْت أَمْلَيْت فِي أَوَائِل كِتَاب الْوُضُوء أَنَّ قِصَّة الْإِفْك وَقَعَتْ قَبْلَ نُزُول الْحِجَاب وَهُوَ سَهْوٌ وَالصَّوَاب بَعْدَ نُزُول الْحِجَاب فَلْيُصْلَحْ هُنَاكَ .
قَوْله : ( فَاسْتَيْقَظْت بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي )
أَيْ بِقَوْلِهِ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَصَرَّحَ بِهَا اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته ، وَكَأَنَّهُ شَقَّ عَلَيْهِ مَا جَرَى لِعَائِشَةَ أَوْ خَشِيَ أَنْ يَقَع مَا وَقَعَ ، أَوْ أَنَّهُ اِكْتَفَى بِالِاسْتِرْجَاعِ رَافِعًا بِهِ صَوْته عَنْ مُخَاطَبَتِهَا بِكَلَامٍ آخَرَ صِيَانَةً لَهَا عَنْ الْمُخَاطَبَة فِي الْجُمْلَة ، وَقَدْ كَانَ عُمَر يَسْتَعْمِل التَّكْبِير عِنْدَ إِرَادَة الْإِيقَاظ ، وَفِيهِ دَلَالَة عَلَى فِطْنَة صَفْوَان وَحُسْن أَدَبِهِ .
قَوْله : ( فَخَمَّرْت )
أَيْ غَطَّيْت
( وَجْهِي بِجِلْبَابِي )
أَيْ الثَّوْب الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الطَّهَارَة .
قَوْله : ( وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً )
عَبَّرَتْ بِهَذِهِ الصِّيغَة إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ اِسْتَمَرَّ مِنْهُ تَرْك الْمُخَاطَبَة لِئَلَّا يُفْهَم لَوْ عَبَّرَتْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي اِخْتِصَاص النَّفْي بِحَالِ الِاسْتِيقَاظ فَعَبَّرَتْ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَة .
قَوْله : ( وَلَا سَمِعْت مِنْهُ كَلِمَة غَيْر اِسْتِرْجَاعه حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَته " وَوَقَعَ فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " حَتَّى " لِلْأَصِيلِيِّ وَ " حِينَ " لِلْبَاقِينَ ، وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِم عَنْ مَعْمَر . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ نَفْي أَنَّهُ كَلَّمَهَا بِغَيْرِ الِاسْتِرْجَاع لِأَنَّ النَّفْي عَلَى رِوَايَة حِينَ مُقَيَّد بِحَالِ إِنَاخَة الرَّاحِلَة لَا يَمْنَع مَا قَبْلَ الْإِنَاخَة وَلَا مَا بَعْدَهَا ، وَعَلَى رِوَايَة حَتَّى مَعْنَاهَا بِجَمِيعِ حَالَاته إِلَى أَنْ أَنَاخَ وَلَا يَمْنَع مَا بَعْدَ الْإِنَاخَة ، وَقَدْ فَهِمَ كَثِير مِنْ الشُّرَّاح أَنَّهَا أَرَادَتْ بِهَذِهِ الْعِبَارَة نَفْي الْمُكَالَمَة الْبَتَّة فَقَالُوا : اِسْتَعْمَلَ مَعَهَا الصَّمْت اِكْتِفَاء بِقَرَائِن الْحَال مُبَالَغَة مِنْهُ فِي الْأَدَب وَإِعْظَامًا لَهَا وَإِجْلَالًا اِنْتَهَى . وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق أَنَّهُ قَالَ لَهَا : مَا خَلْفَك ؟ وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا : اِرْكَبِي وَأَسْتَأْخِر . وَفِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس " فَاسْتَرْجَعَ وَأَعْظَمَ مَكَانِي - أَيْ حِينَ رَآنِي وَحْدِي - وَقَدْ كَانَ يَعْرِفُنِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَب عَلَيْنَا الْحِجَاب ، فَسَأَلَنِي عَنْ أَمْرِي فَسَتَرْت وَجْهِي عَنْهُ بِجِلْبَابِي وَأَخْبَرْته بِأَمْرِي ، فَقَرَّبَ بَعِيره فَوَطِئَ عَلَى ذِرَاعه فَوَلَّانِي قَفَاهُ فَرَكِبْت " وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر " فَلَمَّا رَآنِي ظَنَّ أَنِّي رَجُل فَقَالَ : يَا نَوْمَان قُمْ فَقَدْ سَارَ النَّاس " وَفِي مُرْسَل سَعِيد بْن جُبَيْر " فَاسْتَرْجَعَ وَنَزَلَ عَنْ بَعِيره وَقَالَ : مَا شَأْنُك يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَحَدَّثَتْهُ بِأَمْرِ الْقِلَادَة " .
قَوْله : ( فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا )
أَيْ لِيَكُونَ أَسْهَلَ لِرُكُوبِهَا وَلَا يَحْتَاج إِلَى مَسّهَا عِنْدَ رُكُوبِهَا . وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " فَغَطَّى وَجْهَهُ عَنْهَا ثُمَّ أَدْنَى بَعِيرَهُ مِنْهَا " .
قَوْله : ( فَانْطَلَقَ يَقُود بِي الرَّاحِلَة حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ )
هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيع الرِّوَايَات إِلَّا فِي مُرْسَل مُقَاتِل بْن حَيَّانَ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ رَكِبَ مَعَهَا مُرْدِفًا لَهَا ، وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيح هُوَ الصَّحِيحُ .
قَوْله : ( بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ )
بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمُهْمَلَة أَيْ نَازِلِينَ فِي وَقْت الْوَغْرَة بِفَتْحِ الْوَاو وَسُكُون الْغَيْن وَهِيَ شِدَّة الْحَرّ لَمَّا تَكُون الشَّمْس فِي كَبِدِ السَّمَاء ، وَمِنْهُ أَخَذَ وَغْر الصَّدْر وَهُوَ تَوَقُّده مِنْ الْغَيْظ بِالْحِقْدِ وَأَوْغَرَ فُلَان إِذَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت كَأَصْبَحَ وَأَمْسَى . وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِم عِنْدَ عَبْد بْن حُمَيْدٍ قَالَ : " قُلْت لِعَبْدِ الرَّزَّاق : مَا قَوْله مُوغِرِينَ ؟ قَالَ : الْوَغْرَة شِدَّة الْحَرّ . وَوَقَعَ فِي مُسْلِم مِنْ طَرِيق يَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِح بْن كَيْسَانَ مُوعِزِينَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَة وَزَاي ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ : كَأَنَّهُ مِنْ وَعَزْت إِلَى فُلَان بِكَذَا أَيْ تَقَدَّمْت ، وَالْأَوَّل أَوْلَى . قَالَ : وَصَحَّفَهُ بَعْضهمْ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ غَلَط . قُلْت : وَرُوِيَ مُغَوِّرِينَ بِتَقْدِيمِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الْوَاو ، وَالتَّغْوِير النُّزُول وَقْت الْقَائِلَة . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " مُعَرِّسِينَ " بِفَتْحِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الرَّاء ثُمَّ سِين مُهْمَلَة . وَالتَّعْرِيس نُزُول الْمُسَافِر فِي آخِر اللَّيْل ، وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي النُّزُول مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْمُرَاد هُنَا .
قَوْله : ( فِي نَحْر الظَّهِيرَة )
تَأْكِيد لِقَوْلِهِ : مُوغِرِينَ ، فَإِنَّ نَحْر الظَّهِيرَة أَوَّلهَا وَهُوَ وَقْت شِدَّة الْحَرّ ، وَنَحْر كُلّ شَيْء أَوَّله كَأَنَّ الشَّمْس لَمَّا بَلَغَتْ غَايَتهَا فِي الِارْتِفَاع كَأَنَّهَا وَصَلَتْ إِلَى النَّحْر الَّذِي هُوَ أَعْلَى الصَّدْر ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرَكْنَا النَّاس وَلَا اِفْتَقَدْت حَتَّى نَزَلُوا وَاطْمَأَنُّوا طَلَعَ الرَّجُل يَقُودُنِي " .
قَوْله : ( فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ )
زَادَ صَالِح فِي رِوَايَته " فِي شَأْنِي " وَفِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس " فَهُنَالِكَ قَالَ فِي وَفِيهِ أَهْل الْإِفْك مَا قَالُوا " فَأَبْهَمَتْ الْقَائِل وَمَا قَالَ وَأَشَارَتْ بِذَلِكَ إِلَى الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِالْإِفْكِ وَخَاضُوا فِي ذَلِكَ ، وَأَمَّا أَسْمَاؤُهُمْ فَالْمَشْهُور فِي الرِّوَايَات الصَّحِيحَة : عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ ، وَمِسْطَح بْن أُثَاثَة ، وَحَسَّان بْن ثَابِت ، وَحَمْنَة بِنْت جَحْش . وَقَدْ وَقَعَ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيق صَالِح بْن كَيْسَانَ عَنْ الزُّهْرِيّ قَالَ : قَالَ عُرْوَة : لَمْ يُسَمّ مِنْ أَهْل الْإِفْك أَيْضًا غَيْر عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ إِلَّا حَسَّان بْن ثَابِت وَمِسْطَح بْن أُثَاثَة وَحَمْنَة بِنْت جَحْش فِي نَاس آخَرِينَ لَا عِلْم لِي بِهِمْ غَيْر أَنَّهُمْ عُصْبَة كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى . اِنْتَهَى . وَالْعُصْبَة مِنْ ثَلَاثَة إِلَى عَشَرَة ، وَقَدْ تُطْلَق عَلَى الْجَمَاعَة مِنْ غَيْر حَصْر فِي عَدَد ، وَزَادَ أَبُو الرَّبِيع بْن سَالِم فِيهِمْ تَبَعًا لِأَنَّ الْخَطَّاب بْن دِحْيَة عَبْد اللَّه وَأَبَا أَحْمَد اِبْنَا جَحْش ، وَزَادَ فِيهِمْ الزَّمَخْشَرِيُّ زَيْد بْن رِفَاعَة وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ ، وَعِنْدَ اِبْن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيق اِبْن سِيرِينَ " حَلَفَ أَبُو بَكْر أَنْ لَا يُنْفِق عَلَى يَتِيمَيْنِ كَانَا عِنْدَهُ خَاضَا فِي أَمْر عَائِشَة أَحَدهمَا مِسْطَح " اِنْتَهَى ، وَلَمْ أَقِف عَلَى تَسْمِيَة رَفِيق مِسْطَح ، وَأَمَّا الْقَوْل فَوَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عُمَر فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ فَجَرَّ بِهَا وَرَبِّ الْكَعْبَة ، وَأَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَة وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْعَسْكَر . وَفِي مُرْسَل سَعِيد بْن جُبَيْر وَقَذَفَهَا عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ فَقَالَ : مَا بَرِئَتْ عَائِشَة مِنْ صَفْوَان وَلَا بَرِئَ مِنْهَا وَخَاضَ بَعْضهمْ وَبَعْضهمْ أَعْجَبَهُ .
قَوْله : ( وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْره )
أَيْ تَصَدَّى لِذَلِكَ وَتَقَلَّدَهُ ، وَكَبَّرَهُ أَيْ كَبَّرَ الْإِفْك وَكِبْر الشَّيْء مُعْظَمه وَهُوَ قِرَاءَة الْجُمْهُور بِكَسْرِ الْكَاف ، وَقَرَأَ حُمَيْدٌ الْأَعْرَج بِضَمِّهَا قَالَ الْفَرَّاء : وَهِيَ قِرَاءَة جَيِّدَة فِي الْعَرَبِيَّة ، وَقِيلَ : الْمَعْنَى الَّذِي تَوَلَّى إِثْمه .
قَوْله : ( عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ )
تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَته فِي تَفْسِير سُورَة بَرَاءَة وَقَدْ بَيَّنْت قَوْله فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ ، وَقَدْ اِقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ قِصَّة الْإِفْك عَلَى هَذِهِ الْقِصَّة كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَاب الَّذِي قَبْلَ هَذَا ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَرْبَعَة أَبْوَاب نَقْل الْخِلَاف فِي الْمُرَاد بِاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْره فِي الْآيَة ، وَوَقَعَ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيق صَالِح بْن كَيْسَانَ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة قَالَ : أَخْبَرْت أَنَّهُ كَانَ يُشَاع وَيَتَحَدَّث بِهِ عِنْدَهُ فَيُقِرّهُ - بِضَمِّ أَوَّله وَكَسْر الْقَاف - وَيَسْتَمِعهُ وَيَسْتَوْشِيه بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَة ، أَيْ يَسْتَخْرِجهُ بِالْبَحْثِ عَنْهُ وَالتَّفْتِيش ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ " يُقْرَأ " بِفَتْحِ أَوَّله وَضَمّ الْقَاف ، وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْر ذَلِكَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ فِي رِجَال مِنْ الْخَزْرَج " .
قَوْله : ( فَقَدِمْنَا الْمَدِينَة فَاشْتَكَيْت حِينَ قَدِمْت شَهْرًا وَالنَّاس يُفِيضُونَ فِي قَوْل أَصْحَاب الْإِفْك وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ )
وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَقَدْ اِنْتَهَى الْحَدِيث إِلَى رَسُول اللَّه : وَإِلَى أَبَوَيَّ وَلَا يَذْكُرُونَ لِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ " وَفِيهَا أَنَّهَا مَرِضَتْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ، وَهَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَا وَقَعَ فِي مُرْسَل مُقَاتِل بْن حَيَّانَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ قَوْل أَهْل الْإِفْك وَكَانَ شَدِيد الْغَيْرَة قَالَ : لَا تَدْخُل عَائِشَة رَحْلِي فَخَرَجَتْ تَبْكِي حَتَّى أَتَتْ أَبَاهَا فَقَالَ : أَنَا أَحَقّ أَنْ أُخْرِجَك فَانْطَلَقَتْ تَجُول لَا يُؤْوِيهَا أَحَد حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه عُذْرَهَا ، وَإِنَّمَا ذَكَرْته مَعَ ظُهُور نَكَارَته لِإِيرَادِ الْحَاكِم لَهُ فِي الْإِكْلِيل وَتَبِعَهُ بَعْض مَنْ تَأَخَّرَ غَيْر مُتَأَمِّل لِمَا فِيهِ مِنْ النَّكَارَة وَالْمُخَالَفَة لِلْحَدِيثِ الصَّحِيح مِنْ عِدَّة أَوْجُه فَهُوَ بَاطِل . وَوَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عُمَر : فَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْعَسْكَر فَبَلَغَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَة أَشَاعَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ ذَلِكَ فِي النَّاس فَاشْتَدَّ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَوْله : " وَالنَّاس يُفِيضُونَ " بِضَمِّ أَوَّله أَيْ يَخُوضُونَ ، مِنْ أَفَاضَ فِي قَوْل إِذَا أَكْثَرَ مِنْهُ .
قَوْله : ( وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي ) بِفَتْحِ أَوَّله مِنْ الرَّيْب وَيَجُوز الضَّمّ مِنْ الرُّبَاعِيّ يُقَال رَابَهُ وَأَرَابَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا .
قَوْله : ( اللُّطْف )
بِضَمِّ أَوَّله وَسُكُون ثَانِيه وَبِفَتْحِهِمَا لُغَتَانِ ، وَالْمُرَادُ الرِّفْق . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " أَنْكَرَتْ بَعْض لُطْفه " .
قَوْله : ( الَّذِي كُنْت أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي )
أَيْ حِينَ أَمْرَض .
قَوْله : ( إِنَّمَا يَدْخُل فَيُسَلِّم ثُمَّ يَقُول كَيْفَ تِيكُمْ )
وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَكَانَ إِذَا دَخَلَ قَالَ لِأُمِّي وَهِيَ تُمَرِّضُنِي : كَيْفَ تِيكُمْ " بِالْمُثَنَّاةِ الْمَكْسُورَة وَهِيَ لِلْمُؤَنَّثِ مِثْل ذَاكُمْ لِلْمُذَكَّرِ ، وَاسْتَدَلَّتْ عَائِشَة بِهَذِهِ الْحَالَة عَلَى أَنَّهَا اِسْتَشْعَرَتْ مِنْهُ بَعْض جَفَاء ، وَلَكِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ تَدْرِي السَّبَب ، وَلَمْ تُبَالِغ فِي التَّنْقِيب عَنْ ذَلِكَ حَتَّى عَرَفَتْهُ . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس " إِلَّا أَنَّهُ يَقُول وَهُوَ مَارٌّ كَيْفَ تِيكُمْ وَلَا يَدْخُل عِنْدِي وَلَا يَعُودنِي وَيَسْأَل عَنِّي أَهْل الْبَيْت " وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر " وَكُنْت أَرَى مِنْهُ جَفْوَة وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيّ شَيْء " .
قَوْله : ( نَقَهْت )
بِفَتْحِ الْقَاف وَقَدْ تُكْسَر وَالْأَوَّل أَشْهَر ، وَالنَّاقِه بِكَسْرِ الْقَاف الَّذِي أَفَاقَ مِنْ مَرَضه وَلَمْ تَتَكَامَل صِحَّته ، وَقِيلَ إِنَّ الَّذِي بِكَسْرِ الْقَاف بِمَعْنَى فَهِمْت لَكِنَّهُ هُنَا لَا يُتَوَجَّه لِأَنَّهَا مَا فَهِمَتْ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا بَعْدُ ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره أَنَّهُ بِفَتْحِ الْقَاف وَكَسْرهَا لُغَتَانِ فِي بَرَأَ مِنْ الْمَرَض وَهُوَ قَرِيب الْعَهْد لَمْ يَرْجِع إِلَيْهِ كَمَالُ صِحَّته .
قَوْله : ( فَخَرَجْت مَعَ أُمّ مِسْطَح )
فِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس " فَقُلْت يَا أُمّ مِسْطَح خُذِي الْإِدَاوَة فَامْلَئِيهَا مَاء فَاذْهَبِي بِنَا إِلَى الْمَنَاصِع " .
قَوْله : ( قِبَلَ الْمَنَاصِع )
أَيْ جِهَتهَا ، تَقَدَّمَ شَرْحه فِي أَوَائِل كِتَاب الْوُضُوء ، وَأَنَّ الْمَنَاصِع صَعِيد أَفْيَح خَارِجَ الْمَدِينَة .
قَوْله : ( مُتَبَرَّزنَا )
بِفَتْحِ الرَّاء قَبْلَ الزَّاي مَوْضِع التَّبَرُّز وَهُوَ الْخُرُوج إِلَى الْبِرَاز وَهُوَ الْفَضَاء ، وَكُلّه كِنَايَة عَنْ الْخُرُوج إِلَى قَضَاء الْحَاجَة . وَالْكُنُف بِضَمَّتَيْنِ جَمْع كَنِيف وَهُوَ السَّاتِر ، وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا الْمَكَان الْمُتَّخَذ لِقَضَاءِ الْحَاجَة . وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق الْكُنُف الَّتِي يَتَّخِذهَا الْأَعَاجِم .
قَوْله : ( وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَب الْأُوَل )
بِضَمِّ الْهَمْزَة وَتَخْفِيف الرَّاء صِفَة الْعَرَب ، وَبِفَتْحِ الْهَمْزَة وَتَشْدِيد الرَّاء صِفَة الْأَمْر ، قَالَ النَّوَوِيّ : كِلَاهُمَا صَحِيح تُرِيد أَنَّهُمْ لَمْ يَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ الْعَجَم . قُلْت : ضَبَطَهُ اِبْن الْحَاجِب بِالْوَجْهِ الثَّانِي وَصَرَّحَ بِمَنْعِ وَصْف الْجَمْع بِاللَّفْظِ الْأَوَّل ثُمَّ قَالَ : إِنْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَة خَرَجْت عَلَى أَنَّ الْعَرَب اِسْم جَمْع تَحْته جُمُوع فَتَصِير مُفْرَدَة بِهَذَا التَّقْدِير .
قَوْله : ( فِي التَّبَرُّز قِبَلَ الْغَائِط )
فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " فِي الْبَرِّيَّة " بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَة وَتَشْدِيد الرَّاء ثُمَّ التَّحْتَانِيَّة " أَوْ فِي التَّنَزُّه " بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ نُون ثُمَّ زَاي ثَقِيلَة هَكَذَا عَلَى الشَّكّ ، وَالتَّنَزُّه طَلَب النَّزَاهَة وَالْمُرَاد الْبُعْد عَنْ الْبُيُوت .
قَوْله : ( فَانْطَلَقْت أَنَا وَأُمّ مِسْطَح )
بِكَسْرِ الْمِيم وَسُكُون السِّين وَفَتْح الطَّاء بَعْدَهَا حَاء مُهْمَلَات ، قِيلَ اِسْمهَا سَلْمَى وَفِيهِ نَظَر لِأَنَّ سَلْمَى اِسْم أُمّ أَبِي بَكْر ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنْ لَا وَهْم فِيهِ فَإِنَّ أُمّ أَبِي بَكْر خَالَتُهَا فَسُمِّيَتْ بِاسْمِهَا .
قَوْله : ( وَهِيَ بِنْت أَبِي رُهْم )
بِضَمِّ الرَّاء وَسُكُون الْهَاءِ .
قَوْله : ( اِبْن عَبْد مَنَافٍ )
كَذَا هُنَا وَلَمْ يَنْسُبْهُ فُلَيْح ، وَفِي رِوَايَة صَالِح " بِنْت أَبِي رُهْم بْن الْمُطَّلِب بْن عَبْد مَنَافٍ " وَهُوَ الصَّوَاب وَاسْم أَبِي رُهْم أُنَيْس .
قَوْله : ( وَأُمّهَا بِنْت صَخْر بْن عَامِر )
أَيْ اِبْنكَعْبِ بْن سَعْد بْن تَيْم مِنْ رَهْط أَبِي بَكْر .
قَوْله : ( خَالَة أَبِي بَكْر الصِّدِّيق )
اِسْمهَا رَائِطَة حَكَاهُ أَبُو نُعَيْم .
قَوْله : ( وَابْنهَا مِسْطَح بْن أُثَاثَة )
بِضَمِّ الْهَمْزَة وَمُثَلَّثَتَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَة بَيْنَهُمَا أَلِف اِبْن عَبَّاد بْن الْمُطَّلِب فَهُوَ الْمُطَّلِبِيّ مِنْ أَبِيهِ وَأُمّه ، وَالْمِسْطَح عُود مِنْ أَعْوَاد الْخِبَاء ، وَهُوَ لَقَب وَاسْمه عَوْف وَقِيلَ عَامِر وَالْأَوَّل هُوَ الْمُعْتَمَد ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِم مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس قَالَ " قَالَ أَبُو بَكْر يُعَاتِب مِسْطَحًا فِي قِصَّة عَائِشَة : يَا عَوْف وَيْحَك هَلْ لَا قُلْت عَارِفَة مِنْ الْكَلَام وَلَمْ تَبْتَغِ بِهِ طَمَعًا وَكَانَ هُوَ وَأُمّه مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ ، وَكَانَ أَبُوهُ مَاتَ وَهُوَ صَغِير فَكَفَلَهُ أَبُو بَكْر لِقَرَابَةِ أُمّ مِسْطَح مِنْهُ ، وَكَانَتْ وَفَاة مِسْطَح سَنَةَ أَرْبَع وَثَلَاثِينَ وَقِيلَ سَنَة سَبْع وَثَلَاثِينَ بَعْدَ أَنْ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيّ .
قَوْله : ( فَأَقْبَلْت أَنَا وَأُمّ مِسْطَح قِبَل بَيْتِي وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْننَا فَعَثَرَتْ )
بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَة ( أُمّ مِسْطَح فِي مِرْطهَا ) بِكَسْرِ الْمِيم ، وَفِي رِوَايَة مِقْسَمٍ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا وَطِئَتْ عَلَى عَظْم أَوْ شَوْكَة ، وَهَذَا ظَاهِره أَنَّهَا عَثَرَتْ بَعْدَ أَنْ قَضَتْ عَائِشَة حَاجَتهَا ثُمَّ أَخْبَرَتْهَا الْخَبَر بَعْدَ ذَلِكَ ، لَكِنْ فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة الْآتِيَة قَرِيبًا أَنَّهَا عَثَرَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ عَائِشَة حَاجَتهَا وَأَنَّهَا لَمَّا أَخْبَرَتْهَا الْخَبَر رَجَعَتْ كَأَنَّ الَّذِي خَرَجَتْ لَهُ لَا تَجِد مِنْهُ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق قَالَتْ " فَوَاَللَّهِ مَا قَدَرْت أَنْ أَقْضِيَ حَاجَتِي " وَفِي رِوَايَة اِبْن أُوَيْس " فَذَهَبَ عَنِّي مَا كُنْت أَجِد مِنْ الْغَائِط ، وَرَجَعْت عَوْدِي عَلَى بَدْئِي " وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر " فَأَخَذَتْنِي الْحُمَّى وَتَقَلَّصَ مَا كَانَ مِنِّي " وَيُجْمَع بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلهَا : " وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا " أَيْ مِنْ شَأْن الْمَسِير ، لَا قَضَاء الْحَاجَة .
قَوْله : ( فَقَالَتْ : تَعِسَ مِسْطَح )
بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة وَكَسْر الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَبِفَتْحِهَا أَيْضًا بَعْدَهَا سِين مُهْمَلَة أَيْ كُبَّ لِوَجْهِهِ أَوْ هَلَكَ وَلَزِمَهُ الشَّرّ أَوْ بَعُدَ ، أَقْوَال ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحهَا أَيْضًا فِي الْجِهَاد .
قَوْله : ( فَقُلْت لَهَا : بِئْسَ مَا قُلْت ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا )
فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة أَنَّهَا عَثَرَتْ ثَلَاث مَرَّات كُلَّ ذَلِكَ تَقُول : " تَعِسَ مِسْطَح " وَأَنَّ عَائِشَة تَقُول لَهَا : " أَيْ أُمَّ أَتَسُبِّينَ اِبْنك " وَأَنَّهَا اِنْتَهَرَتْهَا فِي الثَّالِثَة فَقَالَتْ : " وَاللَّهِ مَا أَسُبّهُ إِلَّا فِيك " وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ " فَقُلْت : أَتَسُبِّينَ اِبْنك وَهُوَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ " وَفِي رِوَايَة اِبْن حَاطِب عَنْ عَلْقَمَة بْن وَقَّاص " فَقُلْت : أَتَقُولِينَ هَذَا لِابْنِك وَهُوَ صَاحِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَفَعَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَأَعَدْت عَلَيْهَا فَحَدَّثَتْنِي بِالْخَبَرِ فَذَهَبَ عَنِّي الَّذِي خَرَجْت لَهُ حَتَّى مَا أَجِد مِنْهُ شَيْئًا " قَالَ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون قَوْل أُمّ مِسْطَح هَذَا عَمْدًا لِتَتَوَصَّلَ إِلَى إِخْبَار عَائِشَة بِمَا قِيلَ فِيهَا وَهِيَ غَافِلَة ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون اِتِّفَاقًا أَجْرَاهُ اللَّه عَلَى لِسَانهَا لِتَسْتَيْقِظَ عَائِشَة مِنْ غَفْلَتِهَا عَمَّا قِيلَ فِيهَا .
قَوْله : ( قَالَتْ : أَيْ هَنْتَاهْ )
أَيْ حَرْف نِدَاء لِلْبَعِيدِ وَقَدْ يُسْتَعْمَل لِلْقَرِيبِ حَيْثُ يَنْزِل مَنْزِلَة الْبَعِيد ، وَالنُّكْتَة فِيهِ هُنَا أَنَّ أُمّ مِسْطَح نَسَبَتْ عَائِشَة إِلَى الْغَفْلَة عَمَّا قِيلَ فِيهَا لِإِنْكَارِهَا سَبَّ مِسْطَح فَخَاطَبَتْهَا خِطَاب الْبَعِيد ، وَهَنْتَاهْ بِفَتْحِ الْهَاء وَسُكُون النُّون وَقَدْ تُفْتَح بَعْدَهَا مُثَنَّاة وَآخِرُهُ هَاء سَاكِنَة وَقَدْ تُضَمّ أَيْ هَذِهِ وَقِيلَ اِمْرَأَة وَقِيلَ بُلْهَى ، كَأَنَّهَا نَسَبَتْهَا إِلَى قِلَّة الْمَعْرِفَة بِمَكَائِدِ النَّاس . وَهَذِهِ اللَّفْظَة تَخْتَصّ بِالنِّدَاءِ وَهِيَ عِبَارَة عَنْ كُلّ نَكِرَة ، وَإِذَا خُوطِبَ الْمُذَكَّر قِيلَ يَا هَنَة ، وَقَدْ تُشْبَع النُّون فَيُقَال يَا هَنَاه ، وَحَكَى بَعْضهمْ تَشْدِيد النُّون فِيهِ وَأَنْكَرَهُ الْأَزْهَرِيّ .
قَوْله : ( قَالَتْ : قُلْت : وَمَا قَالَ )
فِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس " فَقَالَتْ لَهَا : إِنَّك لَغَافِلَة عَمَّا يَقُول النَّاس " وَفِيهَا " أَنَّ مِسْطَحًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْت عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ يَتَحَدَّثُونَ عَنْك وَعَنْ صَفْوَان يَرْمُونَك بِهِ " وَفِي رِوَايَة مِقْسَمٍ عَنْ عَائِشَة " أَشْهَد أَنَّك مِنْ الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات " وَفِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة الْآتِيَة " فَنَقَّرَتْ لِي الْحَدِيث " وَهِيَ بِنُونٍ وَقَاف ثَقِيلَة أَيْ شَرَحَتْهُ ، وَلِبَعْضِهِمْ بِمُوَحَّدَةٍ وَقَاف خَفِيفَة أَيْ أَعْلَمَتْنِيهِ .
قَوْله : ( فَازْدَدْت مَرَضًا عَلَى مَرَضِي )
عِنْدَ سَعِيد بْن مَنْصُور مِنْ مُرْسَل أَبِي صَالِح " فَقَالَتْ : وَمَا تَدْرِينَ مَا قَالَ ؟ قُلْت : لَا وَاللَّهِ ، فَأَخْبَرَتْهَا بِمَا خَاضَ فِيهِ النَّاس ، فَأَخَذَتْهَا الْحُمَّى " وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ أَيُّوب عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : " لَمَّا بَلَغَنِي مَا تَكَلَّمُوا بِهِ هَمَمْت أَنْ آتِيَ قَلِيبًا فَأَطْرَحَ نَفْسِي فِيهِ " وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَة أَيْضًا .
قَوْله : ( فَلَمَّا رَجَعْت إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
فِي رِوَايَة مَعْمَر " فَدَخَلَ " قِيلَ : الْفَاء زَائِدَة وَالْأَوْلَى أَنَّ فِي الْكَلَام حَذْفًا تَقْدِيره : فَلَمَّا دَخَلْت بَيْتِي اِسْتَقْرَيْت فِيهِ فَدَخَلَ .
قَوْله : ( فَقُلْت : أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ )
فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة الْمُعَلَّقَة " فَقُلْت : أَرْسَلَنِي إِلَى بَيْت أَبِي ، فَأَرْسَلَ مَعِي الْغُلَام " وَسَيَأْتِي نَحْوه مَوْصُولًا فِي الِاعْتِصَام . وَلَمْ أَقِف عَلَى اِسْم هَذَا الْغُلَام .
قَوْله : ( فَقُلْت لِأُمِّي : يَا أُمَّتَاهُ مَا يَتَحَدَّث النَّاس ؟ قَالَتْ : يَا بُنَيَّة هَوِّنِي عَلَيْك )
فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة : فَقَالَتْ يَا بُنَيَّة خَفِّفِي عَلَيْك الشَّأْن .
قَوْله : ( وَضِيئَة )
بِوَزْنِ عَظِيمَة مِنْ الْوَضَاءَة أَيْ حَسَنَة جَمِيلَة ، وَعِنْدَ مُسْلِم مِنْ رِوَايَة اِبْن مَاهَانَ " حَظِيَّة " بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَة مِنْ الْحَظْوَة أَيْ رَفِيعَة الْمَنْزِلَة ، وَفِي رِوَايَة هِشَام " مَا كَانَتْ اِمْرَأَة حَسْنَاء " .
قَوْله : ( ضَرَائِر )
جَمْع ضَرَّة وَقِيلَ لِلزَّوْجَاتِ ضَرَائِر لِأَنَّ كُلّ وَاحِدَة يَحْصُل لَهَا الضَّرَرُ مِنْ الْأُخْرَى بِالْغَيْرَةِ .
قَوْله : ( أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " كَثَّرْنَ " بِالتَّشْدِيدِ أَيْ الْقَوْل فِي عَيْبهَا ، وَفِي رِوَايَة اِبْن حَاطِب " لَقَلَّمَا أَحَبَّ رَجُل اِمْرَأَته إِلَّا قَالُوا لَهَا نَحْو ذَلِكَ " وَفِي رِوَايَة هِشَام " إِلَّا حَسَدْنَهَا وَقِيلَ فِيهَا " وَفِي هَذَا الْكَلَام مِنْ فِطْنَة أُمِّهَا وَحُسْن تَأَتِّيهَا فِي تَرْبِيَتهَا مَا لَا مَزِيد عَلَيْهِ ، فَإِنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ ذَلِكَ يَعْظُم عَلَيْهَا فَهَوَّنَتْ عَلَيْهَا الْأَمْر بِإِعْلَامِهَا بِأَنَّهَا لَمْ تَنْفَرِد بِذَلِكَ ، لِأَنَّ الْمَرْء يَتَأَسَّى بِغَيْرِهِ فِيمَا يَقَع لَهُ ، وَأَدْمَجَتْ فِي ذَلِكَ مَا تُطَيِّب بِهِ خَاطِرَهَا مِنْ أَنَّهَا فَائِقَة فِي الْجَمَال وَالْحَظْوَة ، وَذَلِكَ مِمَّا يُعْجِب الْمَرْأَة أَنْ تُوصَف بِهِ ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِشَارَة إِلَى مَا وَقَعَ مِنْ حَمْنَة بِنْت جَحْش ، وَأَنَّ الْحَامِل لَهَا عَلَى ذَلِكَ كَوْن عَائِشَة ضَرَّة أُخْتهَا زَيْنَب بِنْت جَحْش ، وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاء فِي قَوْلهَا إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا مُتَّصِل لِأَنَّهَا لَمْ تَقْصِد قِصَّتهَا بِعَيْنِهَا بَلْ ذَكَرَتْ شَأْن الضَّرَائِر ، وَأَمَّا ضَرَائِرهَا هِيَ فَإِنَّهُنَّ وَإِنْ كُنَّ لَمْ يَصْدُر مِنْهُنَّ فِي حَقّهَا شَيْء مِمَّا يَصْدُر مِنْ الضَّرَائِر لَكِنْ لَمْ يُعْدَم ذَلِكَ مِمَّنْ هُوَ مِنْهُنَّ بِسَبِيلٍ كَمَا وَقَعَ مِنْ حَمْنَة لِأَنَّ وَرَع أُخْتهَا مَنَعَهَا مِنْ الْقَوْل فِي عَائِشَة كَمَا مَنَعَ بَقِيَّة أُمَّهَات الْمُؤْمِنَات ، وَإِنَّمَا اِخْتَصَّتْ زَيْنَب بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا الَّتِي كَانَتْ تُضَاهِي عَائِشَة فِي الْمَنْزِلَة .
قَوْله : ( فَقُلْت : سُبْحَان اللَّه ، أَوْ لَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاس بِهَذَا )
؟ زَادَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيق مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ " وَبَلَغَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ " . وَفِي رِوَايَة هِشَام " فَقُلْت : وَقَدْ عَلِمَ بِهِ أَبِي ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قُلْت : وَرَسُول اللَّه ؟ قَالَتْ : نَعَمْ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَقُلْت لِأُمِّي غَفَرَ اللَّه لَك ، يَتَحَدَّث النَّاس بِهَذَا وَلَا تَذْكُرِينَ لِي " . وَفِي رِوَايَة اِبْن حَاطِب عَنْ عَلْقَمَة " وَرَجَعْت إِلَى أَبَوَيَّ فَقُلْت : أَمَا اِتَّقَيْتُمَا اللَّه فِيَّ ، وَمَا وَصَلْتُمَا رَحِمِي ، يَتَحَدَّث النَّاس بِهَذَا وَلَمْ تُعْلِمَانِي " وَفِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " فَاسْتَعْبَرْت فَبَكَيْت ، فَسَمِعَ أَبُو بَكْر صَوْتِي وَهُوَ فَوْقَ الْبَيْت يَقْرَأ فَقَالَ لِأُمِّي : مَا شَأْنُهَا ؟ فَقَالَتْ : بَلَغَهَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ شَأْنهَا ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ : أَقْسَمْت عَلَيْك يَا بُنَيَّة إِلَّا رَجَعْت إِلَى بَيْتك ، فَرَجَعَتْ " وَفِي رِوَايَة مَعْمَر عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ " فَقَالَتْ أُمِّي : لَمْ تَكُنْ عَلِمْت مَا قِيلَ لَهَا فَأَكَبَّتْ تَبْكِي سَاعَةً ثُمَّ قَالَ : اُسْكُتِي يَا بُنَيَّة " .
قَوْله : ( فَقُلْت سُبْحَانَ اللَّه )
اِسْتَغَاثَتْ بِاَللَّهِ مُتَعَجِّبَة مِنْ وُقُوع مِثْل ذَلِكَ فِي حَقّهَا مَعَ بَرَاءَتهَا الْمُحَقَّقَة عِنْدَهَا .
قَوْله : ( لَا يَرْقَأ لِي دَمْع ) بِالْقَافِ بَعْدَهَا هَمْزَة أَيْ لَا يَنْقَطِعُ .
قَوْله : ( وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ )
اِسْتِعَارَة لِلسَّهَرِ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مَسْرُوق عَنْ أُمّ رُومَان كَمَا مَضَى فِي الْمَغَازِي " فَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا ، فَمَا اِسْتَفَاقَتْ إِلَّا وَعَلَيْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ ، فَطَرَحْت عَلَيْهَا ثِيَابَهَا فَغَطَّيْتهَا " وَفِي رِوَايَة الْأَسْوَد عَنْ عَائِشَة " فَأَلْقَتْ عَلَيَّ أُمِّي كُلّ ثَوْب فِي الْبَيْت " .
( تَنْبِيهٌ ) :
طُرُق حَدِيث الْإِفْك مُجْتَمِعَة عَلَى أَنَّ عَائِشَة بَلَغَهَا الْخَبَر مِنْ أُمّ مِسْطَح ، لَكِنْ وَقَعَ فِي حَدِيث أُمّ رُومَان مَا يُخَالِف ذَلِكَ وَلَفْظه " بَيْنَا أَنَا قَاعِدَة أَنَا وَعَائِشَة إِذْ وَلَجَتْ عَلَيْنَا اِمْرَأَة مِنْ الْأَنْصَار فَقَالَتْ : فَعَلَ اللَّه بِفُلَانٍ وَفَعَلَ ، فَقُلْت : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَتْ : اِبْنِي وَمَنْ حَدَّثَ الْحَدِيث .
قَالَتْ : وَمَا ذَلِكَ ؟ قَالَتْ : كَذَا وَكَذَا " هَذَا لَفْظ الْمُصَنِّف فِي الْمَغَازِي ، وَلَفْظه فِي قِصَّة يُوسُف " قَالَتْ : إِنَّهُ نَمَّى الْحَدِيث ، فَقَالَتْ عَائِشَة : أَيّ حَدِيث ؟ فَأَخْبَرَتْهَا ، قَالَتْ : فَسَمِعَهُ أَبُو بَكْر ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَتْ : وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . فَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا " وَطَرِيق الْجَمْع بَيْنَهُمَا أَنَّهَا سَمِعَتْ ذَلِكَ أَوَّلًا مِنْ أُمّ مِسْطَح . ثُمَّ ذَهَبَتْ لِبَيْتِ أُمّهَا لِتَسْتَيْقِنَ الْخَبَر مِنْهَا فَأَخْبَرَتْهَا أُمّهَا بِالْأَمْرِ مُجْمَلًا كَمَا مَضَى مِنْ قَوْلِهَا هَوِّنِي عَلَيْك وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْأَنْصَارِيَّة فَأَخْبَرَتْهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ أُمّهَا فَقَوِيَ عِنْدَهَا الْقَطْع بِوُقُوعِ ذَلِكَ ، فَسَأَلَتْ هَلْ سَمِعَهُ أَبُوهَا وَزَوْجهَا ؟ تَرَجِّيًا مِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَا سَمِعَا ذَلِكَ لِيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَيْهَا ، فَلَمَّا قَالَتْ لَهَا إِنَّهُمَا سَمِعَاهُ غُشِيَ عَلَيْهَا . وَلَمْ أَقِف عَلَى اِسْم هَذِهِ الْمَرْأَة الْأَنْصَارِيَّة وَلَا عَلَى اِسْم وَلَدهَا .
قَوْله : ( فَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ ) هَذَا ظَاهِره أَنَّ السُّؤَال وَقَعَ بَعْدَمَا عَلِمَتْ بِالْقِصَّةِ لِأَنَّهَا عَقَّبَتْ بُكَاءَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِهَذَا ثُمَّ عَقَّبَتْ هَذَا بِالْخُطْبَةِ ، وَرِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة تُشْعِر بِأَنَّ السُّؤَال وَالْخُطْبَة وَقَعَا قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ عَائِشَة بِالْأَمْرِ ، فَإِنَّ فِي أَوَّل رِوَايَة هِشَام عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة " لَمَّا ذُكِرَ مِنْ شَأْنِي الَّذِي ذُكِرَ وَمَا عَلِمْت بِهِ قَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا " فَذَكَرَ قِصَّة الْخُطْبَة الْآتِيَة ؛ وَيُمْكِن الْجَمْع بِأَنَّ الْفَاء فِي قَوْله " فَدَعَا " عَاطِفَة عَلَى شَيْء مَحْذُوف تَقْدِيره : وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ سَمِعَ مَا قِيلَ فَدَعَا عَلِيَّ .
قَوْله : ( عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَأُسَامَة بْن زَيْد ) فِي حَدِيث اِبْن عُمَر " وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَشِير أَحَدًا فِي أَمْر أَهْله لَمْ يَعُدّ عَلِيًّا وَأُسَامَة " لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَة الْحَسَن الْعَرَبِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَشَارَ زَيْد بْن ثَابِت فَقَالَ : دَعْهَا فَلَعَلَّ اللَّه يُحْدِث لَك فِيهَا أَمْرًا ، وَأَظُنّ فِي قَوْله : " اِبْن ثَابِت " تَغْيِير وَأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْل " اِبْن حَارِثَة " وَفِي رِوَايَة الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أُمّ أَيْمَنَ فَبَرَّأَتْهَا ، وَأُمّ أَيْمَن هِيَ وَالِدَة أُسَامَة بْن زَيْد وَسَيَأْتِي أَنَّهُ سَأَلَ زَيْنَب بِنْت جَحْش أَيْضًا .
قَوْله : ( حِينَ اِسْتَلْبَثَ الْوَحْي ) بِالرَّفْعِ أَيْ طَالَ لَبِثَ نُزُوله ، وَبِالنَّصْبِ أَيْ اِسْتَبْطَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُزُوله .
قَوْله : ( فِي فِرَاق أَهْله ) عَدَلَتْ عَنْ قَوْلِهَا فِي فِرَاقِي إِلَى قَوْلهَا فِرَاق أَهْله لِكَرَاهَتِهَا التَّصْرِيح بِإِضَافَةِ الْفِرَاق إِلَيْهَا .
قَوْله : ( أَهْلُك ) بِالرَّفْعِ فَإِنَّ فِي رِوَايَة مَعْمَر " هُمْ أَهْلك " وَلَوْ لَمْ تَقَع هَذِهِ الرِّوَايَة لَجَازَ النَّصْب أَيْ أَمْسِكْ وَمَعْنَاهُ هُمْ أَهْلك أَيْ الْعَفِيفَة اللَّائِقَة بِك ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون قَالَ ذَلِكَ مُتَبَرِّئًا مِنْ الْمَشُورَة وَوَكَّلَ الْأَمْر إِلَى رَأْي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتَّى أَخْبَرَ بِمَا عِنْدَهُ فَقَالَ : " وَلَا نَعْلَم إِلَّا خَيْرًا " وَإِطْلَاق الْأَهْل عَلَى الزَّوْجَة شَائِع ، قَالَ اِبْن التِّين : أَطْلَقَ عَلَيْهَا أَهْلًا وَذَكَرَهَا بِصِيغَةِ الْجَمْع حَيْثُ قَالَ : " هُمْ أَهْلُك " إِشَارَةً إِلَى تَعْمِيم الْأَزْوَاج بِالْوَصْفِ الْمَذْكُور اِنْتَهَى . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون جَمَعَ لِإِرَادَةِ تَعْظِيمهَا .
قَوْله : ( وَأَمَّا عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه لَمْ يُضَيِّق اللَّه عَلَيْك ، وَالنِّسَاء سِوَاهَا كَثِيرٌ ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِصِيغَةِ التَّذْكِير كَأَنَّهُ أَرَادَ الْجِنْس ، مَعَ أَنَّ لَفْظ فَعِيل يَشْتَرِك فِيهِ الْمُذَكَّر وَالْمُؤَنَّث إِفْرَادًا وَجَمْعًا . وَفِي رِوَايَة الْوَاقِدِيِّ " قَدْ أَحَلَّ اللَّه لَك وَأَطَابَ ، طَلِّقْهَا وَانْكِحْ غَيْرَهَا " وَهَذَا الْكَلَام الَّذِي قَالَهُ عَلِيّ حَمَلَهُ عَلَيْهِ تَرْجِيح جَانِب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى عِنْدَهُ مِنْ الْقَلَق وَالْغَمّ بِسَبَبِ الْقَوْل الَّذِي قِيلَ ، وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيد الْغَيْرَة ، فَرَأَى عَلِيّ أَنَّهُ إِذَا فَارَقَهَا سَكَنَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْقَلَق بِسَبَبِهَا إِلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ بَرَاءَتُهَا فَيُمْكِنُ رَجْعَتُهَا ، وَيُسْتَفَاد مِنْهُ اِرْتِكَاب أَخَفّ الضَّرَرَيْنِ لِذَهَابِ أَشَدّهمَا . وَقَالَ النَّوَوِيّ : رَأَى عَلِيّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَصْلَحَة فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْ اِنْزِعَاجه ، فَبَذَلَ جَهْده فِي النَّصِيحَة لِإِرَادَةِ رَاحَة خَاطِره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة : لَمْ يَجْزِم عَلِيّ بِالْإِشَارَةِ بِفِرَاقِهَا لِأَنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " وَسَلْ الْجَارِيَة تَصْدُقْك " فَفَوَّضَ الْأَمْر فِي ذَلِكَ إِلَى نَظَر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : إِنْ أَرَدْت تَعْجِيل الرَّاحَة فَفَارِقْهَا ، وَإِنْ أَرَدْت خِلَاف ذَلِكَ فَابْحَثْ عَنْ حَقِيقَة الْأَمْر إِلَى أَنْ تَطَّلِعَ عَلَى بَرَاءَتهَا . لِأَنَّهُ كَانَ يَتَحَقَّق أَنَّ بَرِيرَةَ لَا تُخْبِرهُ إِلَّا بِمَا عَلِمَتْهُ ، وَهِيَ لَمْ تَعْلَم مِنْ عَائِشَة إِلَّا الْبَرَاءَة الْمَحْضَة . وَالْعِلَّة فِي اِخْتِصَاص عَلِيّ وَأُسَامَة بِالْمُشَاوَرَةِ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ عِنْدَهُ كَالْوَلَدِ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ مِنْ حَال صِغَره ثُمَّ لَمْ يُفَارِقهُ ، بَلْ وَازْدَادَ اِتِّصَاله بِتَزْوِيجِ فَاطِمَة فَلِذَلِكَ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْمُشَاوَرَةِ فِيمَا يَتَعَلَّق بِأَهْلِهِ لِمَزِيدِ اِطِّلَاعه عَلَى أَحْوَاله أَكْثَر مِنْ غَيْره ؛ وَكَانَ أَهْل مَشُورَته فِيمَا يَتَعَلَّق بِالْأُمُورِ الْعَامَّة أَكَابِر الصَّحَابَة كَأَبِي بَكْر وَعُمَر . وَأَمَّا أُسَامَة فَهُوَ كَعَلِيٍّ فِي طُول الْمُلَازَمَة وَمَزِيد الِاخْتِصَاص وَالْمَحَبَّة ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ حِبُّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَخَصَّهُ دُونَ أَبِيهِ وَأُمّه لِكَوْنِهِ كَانَ شَابًّا كَعَلِيٍّ ، وَإِنْ كَانَ عَلِيّ أَسَنَّ مِنْهُ . وَذَلِكَ أَنَّ لِلشَّابِّ مِنْ صَفَاء الذِّهْن مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ جُرْأَة عَلَى الْجَوَاب بِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْمُسِنّ ، لِأَنَّ الْمُسِنّ غَالِبًا يَحْسُبُ الْعَاقِبَةَ فَرُبَّمَا أَخْفَى بَعْض مَا يَظْهَرُ لَهُ رِعَايَةً لِلْقَائِلِ تَارَةً وَالْمَسْئُول عَنْهُ أُخْرَى ، مَعَ مَا وَرَدَ فِي بَعْض الْأَخْبَار أَنَّهُ اِسْتَشَارَ غَيْرهمَا .
( تَنْبِيهٌ ) :
وَقَعَ بِسَبَبِ هَذَا الْكَلَام مِنْ عَلِيّ نِسْبَة عَائِشَة إِيَّاهُ إِلَى الْإِسَاءَة فِي شَأْنهَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن وَأَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَائِشَة فِي الْمَغَازِي وَمَا رَاجَعَ بِهِ الْوَلِيد بْن عَبْد الْمَلِك مِنْ ذَلِكَ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَته ، وَقَدْ وَضَحَ عُذْر عَلِيّ فِي ذَلِكَ .
قَوْله : ( وَسَلْ الْجَارِيَة تَصْدُقْك ) فِي رِوَايَة مِقْسَمٍ عَنْ عَائِشَة " أَرْسِلْ إِلَى بَرِيرَةَ خَادِمَتهَا فَسَلْهَا ، فَعَسَى أَنْ تَكُون قَدْ اِطَّلَعَتْ عَلَى شَيْء مِنْ أَمْرهَا " .
قَوْله : ( فَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَة ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَة وَكَسْر الرَّاء تَقَدَّمَ ضَبْطهَا فِي الْعِتْق ، فِي رِوَايَة مِقْسَمٍ " فَأَرْسَلَ إِلَى بَرِيرَة فَقَالَ لَهَا : أَتَشْهَدِينَ أَنِّي رَسُول اللَّه ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : فَإِنِّي سَائِلُك عَنْ شَيْء فَلَا تَكْتُمِينَهُ . قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : هَلْ رَأَيْت مِنْ عَائِشَة مَا تَكْرَهِينَهُ ؟ قَالَتْ : لَا " . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ تَسْمِيَتهَا هُنَا وَهْم ، لِأَنَّ قِصَّتهَا كَانَتْ بَعْدَ فَتْح مَكَّة ، كَمَا سَيَأْتِي أَنَّهَا لَمَّا خُيِّرَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَ زَوْجهَا يَبْكِي ، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ : يَا عَبَّاس أَلَا تَعْجَب مِنْ حُبّ مُغِيث بَرِيرَة ؟ الْحَدِيثَ . وَسَيَأْتِي وَيُمْكِن الْجَوَاب بِأَنْ تَكُون بَرِيرَة كَانَتْ تَخْدُم عَائِشَة وَهِيَ فِي رِقِّ مَوَالِيهَا وَأَمَّا قِصَّتهَا مَعَهَا فِي مُكَاتَبَتهَا وَغَيْر ذَلِكَ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ ، أَوْ أَنَّ اِسْم هَذِهِ الْجَارِيَة الْمَذْكُورَة فِي قِصَّة الْإِفْك وَافَقَ اِسْم بَرِيرَة الَّتِي وَقَعَ لَهَا التَّخْيِير ، وَجَزَمَ الْبَدْر الزَّرْكَشِيُّ فِيمَا اِسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَة عَلَى الصَّحَابَة أَنَّ تَسْمِيَة هَذِهِ الْجَارِيَة بِبَرِيرَةَ مُدْرَجَة مِنْ بَعْض الرُّوَاة وَأَنَّهَا جَارِيَة أُخْرَى ، وَأَخَذَهُ مِنْ اِبْن الْقَيِّم الْحَنْبَلِيّ فَإِنَّهُ قَالَ : تَسْمِيَتهَا بِبَرِيرَةَ وَهْم مِنْ بَعْض الرُّوَاة ، فَإِنَّ عَائِشَة إِنَّمَا اِشْتَرَتْ بَرِيرَة بَعْدَ الْفَتْح ، وَلَمَّا كَاتَبَتْهَا عَقِبَ شِرَائِهَا وَعَتَقَتْ خُيِّرَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ، فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ قَوْل عَلِيّ " وَسَلْ الْجَارِيَة تَصْدُقْك " أَنَّهَا بَرِيرَة فَغَلِطَ ، قَالَ : وَهَذَا نَوْع غَامِض لَا يَتَنَبَّه لَهُ إِلَّا الْحُذَّاق . قُلْت : وَقَدْ أَجَابَ غَيْره بِأَنَّهَا كَانَتْ تَخْدُم عَائِشَة بِالْأُجْرَةِ وَهِيَ فِي رِقِّ مَوَالِيهَا قَبْلَ وُقُوع قِصَّتهَا فِي الْمُكَاتَبَة ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ دَعْوَى الْإِدْرَاج وَتَغْلِيظ الْحُفَّاظ .
قَوْله : ( أَيْ بَرِيرَة ، هَلْ رَأَيْت مِنْ شَيْء يَرِيبُك ) فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " فَانْتَهَرَهَا بَعْض أَصْحَابه فَقَالَ : اُصْدُقِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَفِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ : شَأْنُك بِالْجَارِيَةِ ، فَسَأَلَهَا عَلِيّ وَتَوَعَّدَهَا فَلَمْ تُخْبِرهُ إِلَّا بِخَيْرٍ ، ثُمَّ ضَرَبَهَا وَسَأَلَهَا فَقَالَتْ : وَاَللَّه مَا عَلِمْت عَلَى عَائِشَةَ سُوءًا " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَقَامَ إِلَيْهَا عَلِيّ فَضَرَبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا يَقُول : اُصْدُقِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَوَقَعَ فِي رِوَايَة هِشَام " حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ " يُقَال أَسْقَطَ الرَّجُل فِي الْقَوْل إِذَا أَتَى بِكَلَامٍ سَاقِط ، وَالضَّمِير فِي قَوْله بِهِ لِلْحَدِيثِ أَوْ الرَّجُل الَّذِي اِتَّهَمُوهَا بِهِ . وَحَكَى عِيَاض أَنَّ فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَانَ فِي مُسْلِم " حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَاتَهَا " بِمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَة وَزِيَادَة أَلِف بَعْدَ الْهَاء ، قَالَ : وَهُوَ تَصْحِيف لِأَنَّهُمْ لَوْ أَسْقَطُوا لَهَاتَهَا لَمْ تَسْتَطِعْ الْكَلَام ، وَالْوَاقِع أَنَّهَا تَكَلَّمَتْ فَقَالَتْ : سُبْحَان اللَّه إِلَخْ ، وَفِي رِوَايَة حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ " فَقَالَ : لَسْت عَنْ هَذَا أَسْأَلك ، قَالَتْ : فَعَمَّهْ ؟ فَلَمَّا فَطِنَتْ قَالَتْ : سُبْحَان اللَّه " وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ حَتَّى صَرَّحُوا لَهَا بِالْأَمْرِ ، فَلِهَذَا تَعَجَّبَتْ . وَقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ أَيْ صَرَّحُوا لَهَا بِالْأَمْرِ ، وَقِيلَ جَاءُوا فِي خِطَابهَا بِسَقْطٍ مِنْ الْقَوْل . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيق أَبِي أُسَامَة " قَالَ عُرْوَة : فَعِيبَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ قَالَهُ " وَقَالَ اِبْن بَطَّال : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون مِنْ قَوْلهمْ : سَقَطَ إِلَيَّ الْخَبَر إِذَا عَلِمْته ، قَالَ الشَّاعِر : " إِذَا هُنَّ سَاقَطْنَ الْحَدِيث وَقُلْنَ لِي " قَالَ : فَمَعْنَاهُ ذَكَرُوا لَهَا الْحَدِيث وَشَرَحُوهُ .
قَوْله : ( إِنْ رَأَيْت عَلَيْهَا أَمْرًا ) أَيْ مَا رَأَيْت فِيهَا مِمَّا تَسْأَلُونَ عَنْهُ شَيْئًا أَصْلًا وَأَمَّا مِنْ غَيْره فَفِيهَا مَا ذَكَرْت مِنْ غَلَبَة النَّوْم لِصِغَرِ سِنّهَا وَرُطُوبَة بَدَنهَا .
قَوْله : ( أَغْمِصُهُ ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَة وَصَادٍ مُهْمَلَة أَيْ أَعِيبُهُ .
قَوْله : ( سِوَى أَنَّهَا جَارِيَة حَدِيثَة السِّنّ تَنَام عَنْ عَجِين أَهْلهَا ) فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " مَا كُنْت أَعِيب عَلَيْهَا إِلَّا أَنِّي كُنْت أَعْجِن عَجِينِي وَآمُرُهَا أَنْ تَحْفَظَهُ فَتَنَامَ عَنْهُ " وَفِي رِوَايَة مِقْسَمٍ " مَا رَأَيْت مِنْهَا مُذْ كُنْت عِنْدَهَا إِلَّا أَنِّي عَجَنْت عَجِينًا لِي فَقُلْت : اِحْفَظِي هَذِهِ الْعَجِينَة حَتَّى أَقْتَبِسَ نَارًا لِأَخْبِزَهَا ، فَغَفَلَتْ ، فَجَاءَتْ الشَّاة فَأَكَلَتْهَا " وَهُوَ يُفَسِّر الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَة الْبَاب : " حَتَّى تَأْتِي الدَّاجِن " وَهِيَ بِدَالٍ مُهْمَلَة ثُمَّ جِيم : الشَّاة الَّتِي تَأْلَفُ الْبَيْت وَلَا تَخْرُج إِلَى الْمَرْعَى ، وَقِيلَ هِيَ كُلّ مَا يَأْلَف الْبُيُوت مُطْلَقًا شَاةً أَوْ طَيْرًا . قَالَ اِبْن الْمُنِير فِي الْحَاشِيَة : هَذَا مِنْ الِاسْتِثْنَاء الْبَدِيع الَّذِي يُرَاد بِهِ الْمُبَالَغَة فِي نَفْي الْعَيْب ، فَغَفَلْتهَا عَنْ عَجِينهَا أَبْعَدُ لَهَا مِنْ مِثْل الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ وَأَقْرَب إِلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات . وَكَذَا فِي قَوْلهَا فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " مَا عَلِمْت مِنْهَا إِلَّا مَا يَعْلَم الصَّائِغ عَلَى الذَّهَب الْأَحْمَر " أَيْ كَمَا لَا يَعْلَم الصَّائِغ مِنْ الذَّهَب الْأَحْمَر إِلَّا الْخُلُوص مِنْ الْعَيْب فَكَذَلِكَ أَنَا لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا الْخُلُوص مِنْ الْعَيْب . وَفِي رِوَايَة اِبْن حَاطِب عَنْ عَلْقَمَة " فَقَالَتْ الْجَارِيَة الْحَبَشِيَّة : وَاَللَّه لَعَائِشَةُ أَطْيَب مِنْ الذَّهَب ، وَلَئِنْ كَانَتْ صَنَعْت مَا قَالَ النَّاس لَيُخْبِرَنَّك اللَّه . قَالَتْ : فَعَجِبَ النَّاس مِنْ فِقْهِهَا " .
قَوْله : ( فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس " ثُمَّ خَرَجَ حِينَ سَمِعَ مِنْ بَرِيرَة مَا قَالَتْ " وَفِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " قَامَ فِينَا خَطِيبًا فَتَشَهَّدَ وَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْله ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ " وَزَادَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ عَنْ الزُّهْرِيّ هُنَا قَبْلَ قَوْله فَقَامَ " وَكَانَتْ أُمّ أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّة قَالَتْ لِأَبِي أَيُّوب : أَمَا سَمِعْت مَا يَتَحَدَّث النَّاس ؟ فَحَدَّثَتْهُ بِقَوْلِ أَهْل الْإِفْك ، فَقَالَ : مَا يَكُون لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا ، سُبْحَانَك هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ " . قُلْت : وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَام مِنْ طَرِيق يَحْيَى بْن أَبِي زَكَرِيَّا عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة فِي قِصَّة الْإِفْك مُخْتَصَرَة وَفِيهِ بَعْدَ قَوْله " وَأَرْسَلَ مَعَهَا الْغُلَام " وَقَالَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار : " مَا يَكُون لَنَا أَنْ نَتَكَلَّم بِهَذَا ، سُبْحَانَك " فَيُسْتَفَاد مَعْرِفَته مِنْ رِوَايَة عَطَاء هَذِهِ . وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر قَالَ : " قَالَ أُسَامَة : مَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا ، سُبْحَانَك " الْآيَةَ . لَكِنَّ أُسَامَة مُهَاجِرِيّ ؛ فَإِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى التَّوَارُد . وَفِي مُرْسَل سَعِيد بْن جُبَيْر أَنَّ سَعْد بْن مُعَاذ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ . وَرَوَى الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيق اِبْن إِسْحَاق " حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ بَعْض رِجَال بَنِي النَّجَّار أَنَّ أَبَا أَيُّوب قَالَتْ لَهُ أُمّ أَيُّوب : أَمَا تَسْمَع مَا يَقُول النَّاس فِي عَائِشَة ؟ قَالَ : بَلَى ، وَذَلِكَ الْكَذِب ، أَكُنْت فَاعِلَة ذَلِكَ يَا أُمّ أَيُّوب ؟ قَالَتْ : لَا وَاللَّهِ ، قَالَ : فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ خَيْر مِنْك ، قَالَتْ : فَنَزَلَ الْقُرْآن ( لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ) الْآيَة " . وَلِلْحَاكِمِ مِنْ طَرِيق أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيُّوب عَنْ أَبِي أَيُّوب نَحْوه ، وَلَهُ مِنْ طَرِيق أُخْرَى قَالَ : " قَالَتْ أُمّ الطُّفَيْل لِأُبَيِّ بْن كَعْب " فَذَكَرَ نَحْوه .
قَوْله : ( فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ ) أَيْ طَلَبَ مَنْ يَعْذِرُهُ مِنْهُ ، أَيْ يُنْصِفُهُ . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ مَنْ يَقُوم بِعُذْرِهِ فِيمَا رَمَى أَهْلِي بِهِ مِنْ الْمَكْرُوه ، وَمَنْ يَقُوم بِعُذْرِي إِذَا عَاقَبْته عَلَى سُوء مَا صَدَرَ مِنْهُ ؟ وَرَجَّحَ النَّوَوِيّ هَذَا الثَّانِي وَقِيلَ : مَعْنَى مَنْ يَعْذِرُنِي مَنْ يَنْصُرُنِي ، وَالْعَزِير النَّاصِر . وَقِيلَ : الْمُرَاد مَنْ يَنْتَقِم لِي مِنْهُ ؟ وَهُوَ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ ، وَيُؤَيِّدهُ قَوْل سَعْد : أَنَا أَعْذِرُك مِنْهُ .
قَوْله : ( بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْل بَيْتِي ) فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي أُنَاس أَبَنُوا أَهْلِي " وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَة الْخَفِيفَة وَالنُّون الْمَضْمُومَة ، وَحَكَى عِيَاض أَنَّ فِي رِوَايَة الْأَصِيلِيِّ بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَة وَهِيَ لُغَة ، وَمَعْنَاهُ عَابُوا أَهْلِي أَوْ اِتَّهَمُوا أَهْلِي ، وَهُوَ الْمُعْتَمَد لِأَنَّ الْأَبَن بِفَتْحَتَيْنِ التُّهْمَة . وَقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : الْمُرَاد رَمَوْا بِالْقَبِيحِ ، وَمِنْهُ الْحَدِيث الَّذِي فِي الشَّمَائِل فِي ذِكْر مَجْلِسه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تُؤَبَّن فِيهِ الْحُرَم " وَحَكَى عِيَاض أَنَّ فِي رِوَايَة عَبْدُوس بِتَقْدِيمِ النُّون الثَّقِيلَة عَلَى الْمُوَحَّدَة ، قَالَ : وَهُوَ تَصْحِيف لِأَنَّ التَّأْنِيب هُوَ اللَّوْم الشَّدِيد وَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا ، اِنْتَهَى . قَالَ النَّوَوِيّ : وَقَدْ يُوَجَّه بِأَنَّ الْمُرَاد لَامُوهُمْ أَشَدّ اللَّوْم فِيمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ صَنَعُوهُ وَهُمْ لَمْ يَصْنَعُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ صُورَة الْحَال ، وَالْأَوَّل هُوَ الْمُعْتَمَد . قَالَ النَّوَوِيّ : التَّخْفِيف أَشْهَر وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " مَا بَالُ أُنَاس يُؤْذُونِي فِي أَهْلِي " وَفِي رِوَايَة اِبْن حَاطِب " مَنْ يَعْذِرنِي فِيمَنْ يُؤْذِينِي فِي أَهْلِي ، وَيَجْمَع فِي بَيْته مَنْ يُؤْذِينِي " وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْغَسَّانِيّ الْمَذْكُورَة " فِي قَوْم يَسُبُّونَ أَهْلِي " وَزَادَ فِيهِ " مَا عَلِمْت عَلَيْهِمْ مِنْ سُوء قَطُّ " .
قَوْله : ( وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا ) زَادَ الطَّبَرِيُّ فِي رِوَايَته " صَالِحًا " وَزَادَ أَبُو أُوَيْس فِي رِوَايَته " وَكَانَ صَفْوَان بْن الْمُعَطَّل قَعَدَ لِحَسَّانٍ فَضَرَبَهُ ضَرْبَة بِالسَّيْفِ وَهُوَ يَقُول : تَلَقَّ ذُبَاب السَّيْف مِنِّي فَإِنَّنِي غُلَام إِذَا هُوَ جِئْت لَسْت بِشَاعِرٍ فَصَاحَ حَسَّان ، فَفَرَّ صَفْوَان ، فَاسْتَوْهَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَسَّان ضَرْبَة صَفْوَان فَوَهَبَهَا لَهُ " .
قَوْله : ( فَقَامَ سَعْد بْن مُعَاذ الْأَنْصَارِيّ ) كَذَا هُنَا وَفِي رِوَايَة مَعْمَر وَأَكْثَر أَصْحَاب الزُّهْرِيّ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة صَالِح بْن كَيْسَانَ " فَقَامَ سَعْد أَخُو بَنِي عَبْد الْأَشْهَل " وَفِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " فَقَامَ سَعْد " وَلَمْ يَنْسُبهُ ، وَقَدْ تَعَيَّنَ أَنَّهُ سَعْد بْن مُعَاذ لِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَة الْبَاب وَغَيْرهَا . وَأَمَّا قَوْل شَيْخ شُيُوخنَا الْقُطْب الْحَلَبِيّ : وَقَعَ فِي نُسْخَة سَمَاعنَا " فَقَامَ سَعْد بْن مُعَاذ " وَفِي مَوْضِع آخَر " فَقَامَ سَعْد أَخُو بَنِي عَبْد الْأَشْهَل " فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون آخَر غَيْر سَعْد بْن مُعَاذ ، فَإِنَّ فِي بَنِي عَبْد الْأَشْهَل جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة يُسَمَّى كُلّ مِنْهُمْ سَعْدًا ، مِنْهُمْ سَعْد بْن زَيْد الْأَشْهَلِيّ شَهِدَ بَدْرًا وَكَانَ عَلَى سَبَايَا قُرَيْظَةَ الَّذِينَ بِيعُوا بِنَجْدٍ ، وَلَهُ ذِكْر فِي عِدَّة أَخْبَار مِنْهَا فِي خُطْبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَض وَفَاته ، قَالَ : فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون هُوَ الْمُتَكَلِّم فِي قِصَّة الْإِفْك . قُلْت : وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا حَكَاهُ عِيَاض وَغَيْره مِنْ الْإِشْكَال فِي ذِكْر سَعْد بْن مُعَاذ فِي هَذِهِ الْقِصَّة ، وَاَلَّذِي جَوَّزَهُ مَرْدُود بِالتَّصْرِيحِ بِسَعْدِ بْن مُعَاذ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة الثَّالِثَة ، فَأَذْكُرُ كَلَام عِيَاض وَمَا تَيَسَّرَ مِنْ الْجَوَاب عَنْهُ ، قَالَ عِيَاض : فِي ذِكْر سَعْد بْن مُعَاذ فِي هَذَا الْحَدِيث إِشْكَال لَمْ يَتَكَلَّم النَّاس عَلَيْهِ وَنَبَّهَنَا عَلَيْهِ بَعْض شُيُوخنَا ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِفْك كَانَ فِي الْمُرَيْسِيع وَكَانَتْ سَنَة سِتّ فِيمَا ذَكَرَ اِبْن إِسْحَاق ؛ وَسَعْد بْن مُعَاذ مَاتَ مِنْ الرَّمْيَة الَّتِي رُمِيَهَا بِالْخَنْدَقِ فَدَعَا اللَّه فَأَبْقَاهُ حَتَّى حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ثُمَّ اِنْفَجَرَ جُرْحُهُ فَمَاتَ مِنْهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَة أَرْبَع عِنْدَ الْجَمِيع إِلَّا مَا زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَنَة خَمْس ، قَالَ : وَعَلَى كُلّ تَقْدِير فَلَا يَصِحّ ذِكْر سَعْد بْن مُعَاذ فِي هَذِهِ الْقِصَّة ، وَالْأَشْبَه أَنَّهُ غَيْره ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرهُ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته ، وَجَعَلَ الْمُرَاجَعَة أَوَّلًا وَثَانِيًا بَيْنَ أُسَيْدِ بْن حُضَيْرٍ وَبَيْنَ سَعْد بْن عُبَادَةَ ، قَالَ : وَقَالَ لِي بَعْض شُيُوخنَا : يَصِحّ أَنْ يَكُون سَعْد مَوْجُودًا فِي الْمُرَيْسِيع بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَاف فِي تَارِيخ غَزْوَة الْمُرَيْسِيع ، وَقَدْ حَكَى الْبُخَارِيّ عَنْ مُوسَى بْن عُقْبَةَ أَنَّهَا كَانَتْ سَنَة أَرْبَع ، وَكَذَلِكَ الْخَنْدَق كَانَتْ سَنَة أَرْبَع ، فَيَصِحّ أَنْ تَكُون الْمُرَيْسِيع قَبْلَهَا لِأَنَّ اِبْن إِسْحَاق جَزَمَ بِأَنَّ الْمُرَيْسِيع كَانَتْ فِي شَعْبَان وَأَنَّ الْخَنْدَق كَانَتْ فِي شَوَّال ، فَإِنْ كَانَا مِنْ سَنَة وَاحِدَة اِسْتَقَامَ أَنْ تَكُون الْمُرَيْسِيع قَبْلَ الْخَنْدَق فَلَا يَمْتَنِع أَنْ يَشْهَدَهَا سَعْد بْن مُعَاذ اِنْتَهَى . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْمَغَازِي أَنَّ الصَّحِيح فِي النَّقْل عَنْ مُوسَى بْن عُقْبَةَ أَنَّ الْمُرَيْسِيع كَانَتْ سَنَة خَمْس وَأَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ الْبُخَارِيّ مِنْ أَنَّهَا سَنَة أَرْبَع سَبْق قَلَمٍ ، نَعَمْ وَالرَّاجِح أَنَّ الْخَنْدَق أَيْضًا كَانَتْ فِي سَنَة خَمْس خِلَافًا لِابْنِ إِسْحَاق فَيَصِحّ الْجَوَاب الْمَذْكُور . وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّ الْمُرَيْسِيع سَنَة خَمْس الطَّبَرِيُّ ، لَكِنْ يُعَكِّر عَلَى هَذَا شَيْء لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ أَصْلًا ، وَذَلِكَ أَنَّ اِبْن عُمَر ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ فِي غَزْوَة بَنِي الْمُصْطَلِق وَهُوَ الْمُرَيْسِيع كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثه فِي الْمَغَازِي ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا أَنَّهُ عُرِضَ فِي يَوْم أُحُد فَلَمْ يُجِزْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُرِضَ فِي الْخَنْدَق فَأَجَازَهُ ، فَإِذَا كَانَ أَوَّل مَشَاهِده الْخَنْدَق وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ شَهِدَ الْمُرَيْسِيع لَزِمَ أَنْ تَكُون الْمُرَيْسِيع بَعْدَ الْخَنْدَق فَيَعُود الْإِشْكَال ، وَيُمْكِن الْجَوَاب بِأَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ كَوْن اِبْن عُمَر كَانَ مَعَهُمْ فِي غَزْوَة بَنِي الْمُصْطَلِق أَنْ يَكُون أُجِيزَ فِي الْقِتَال ، فَقَدْ يَكُون صَحِبَ أَبَاهُ وَلَمْ يُبَاشِر الْقِتَال كَمَا ثَبَتَ عَنْ جَابِر أَنَّهُ كَانَ يَمْنَح الْمَاء لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْر وَهُوَ لَمْ يَشْهَد بَدْرًا بِاتِّفَاقٍ . وَقَدْ سَلَكَ الْبَيْهَقِيُّ فِي أَصْل الْإِشْكَال جَوَابًا آخَر بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَنْدَق قَبْلَ الْمُرَيْسِيع فَقَالَ : يَجُوز أَنْ يَكُون جُرْح سَعْد بْن مُعَاذ لَمْ يَنْفَجِر عَقِبَ الْفَرَاغِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ بَلْ تَأَخَّرَ زَمَانًا ثُمَّ اِنْفَجَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَكُون مُرَاجَعَته فِي قِصَّة الْإِفْك فِي أَثْنَاء ذَلِكَ ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَشْهَد غَزْوَة الْمُرَيْسِيع لِمَرَضِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ أَنْ يُجِيب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّة الْإِفْك بِمَا أَجَابَهُ ، وَأَمَّا دَعْوَى عِيَاض أَنَّ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا لَمْ يَتَكَلَّمُوا عَلَى الْإِشْكَال الْمَذْكُور فَمَا أَدْرِي مَنْ الَّذِينَ عَنَاهُمْ ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ مِنْ الْقُدَمَاء إِسْمَاعِيل الْقَاضِي فَقَالَ : الْأَوْلَى أَنْ تَكُون الْمُرَيْسِيع قَبْلَ الْخَنْدَق لِلْحَدِيثِ الصَّحِيح عَنْ عَائِشَة ، وَاسْتَشْكَلَهُ اِبْن حَزْم لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْخَنْدَق قَبْلَ الْمُرَيْسِيع ، وَتَعَرَّضَ لَهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ فَقَالَ : رِوَايَة مَنْ رَوَى أَنَّ سَعْد بْن مُعَاذ رَاجَعَ فِي قِصَّة الْإِفْك سَعْد بْن عُبَادَةَ وَهْم وَخَطَأ ، وَإِنَّمَا رَاجَعَ سَعْد بْن عُبَادَةَ أُسَيْدَ بْن حُضَيْرٍ كَمَا ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَاق ، وَهُوَ الصَّحِيح فَإِنَّ سَعْد بْن مُعَاذ مَاتَ فِي مُنْصَرَفِهِمْ مِنْ غَزْوَة بَنِي قُرَيْظَةَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ ، فَلَمْ يُدْرِك الْمُرَيْسِيع وَلَا حَضَرَهَا . وَبَالَغَ اِبْن الْعَرَبِيّ عَلَى عَادَتِهِ فَقَالَ : اِتَّفَقَ الرُّوَاة عَلَى أَنَّ ذِكْر اِبْن مُعَاذ فِي قِصَّة الْإِفْك وَهْم ، وَتَبِعَهُ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاق الْقُرْطُبِيّ .
قَوْله : ( أَعْذِرك مِنْهُ ) فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ فَقَالَ : " أَنَا وَاَللَّه أَعْذِرك مِنْهُ " وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مَعْمَر " أَعْذِرك مِنْهُ " بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأ .
قَوْله : ( إِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْس ) يَعْنِي قَبِيلَة سَعْد بْن مُعَاذ .
قَوْله : ( ضَرَبْنَا عُنُقَهُ ) فِي رِوَايَة صَالِح بْن كَيْسَانَ " ضَرَبْت " بِضَمِّ الْمُثَنَّاة ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ سَيِّدهمْ فَجَزَمَ بِأَنَّ حُكْمه فِيهِمْ نَافِذ .
قَوْله : ( وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَاننَا مِنْ الْخَزْرَج ) مِنْ الْأُولَى تَبْعِيضِيَّة وَالْأُخْرَى بَيَانِيَّة ، وَلِهَذَا سَقَطَتْ مِنْ رِوَايَة فُلَيْحٍ . قَوْله : ( أَمَرْتنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَك ) فِي رِوَايَة اِبْن جُرَيْجٍ أَتَيْنَاك بِهِ فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرك .
قَوْله : ( فَقَامَ سَعْد بْن عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّد الْخَزْرَج ) فِي رِوَايَة صَالِح بْن كَيْسَانَ " فَقَامَ رَجُل مِنْ الْخَزْرَج وَكَانَتْ أُمّ حَسَّان بْن ثَابِت بِنْت عَمّه مِنْ فَخْذه وَهُوَ سَعْد بْن عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّد الْخَزْرَج " اِنْتَهَى . وَأُمّ حَسَّان اِسْمهَا الْفُرَيْعَة بِنْت خَالِد بْن خُنَيْسٍ بْن لَوْذَان بْن عَبْدُود بْن زَيْد بْن ثَعْلَبَة ، وَقَوْله مِنْ فَخْذه بَعْدَ قَوْله بِنْت عَمّه إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْت عَمّه لَحًّا ، لِأَنَّ سَعْد بْن عُبَادَةَ يَجْتَمِع مَعَهَا فِي ثَعْلَبَة ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سِيَاق نَسَبه فِي الْمَنَاقِب .
قَوْله : ( وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا ) أَيْ كَامِل الصَّلَاح ، فِي رِوَايَة الْوَاقِدِيِّ " وَكَانَ صَالِحًا لَكِنَّ الْغَضَب بَلَغَ مِنْهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَغْمِص عَلَيْهِ فِي دِينِهِ " .
قَوْله : ( وَلَكِنْ اِحْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّة ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ " اِحْتَمَلَتْهُ " بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاة ثُمَّ مِيم أَيْ أَغْضَبَتْهُ ، وَفِي رِوَايَة مَعْمَر عِنْدَ مُسْلِم وَكَذَا يَحْيَى بْن سَعِيد عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ " اِجْتَهَلَتْهُ " بِجِيمٍ ثُمَّ مُثَنَّاة ثُمَّ هَاء وَصَوَّبَهَا الْوَقْشِيّ ، أَيْ حَمَلَتْهُ عَلَى الْجَهْل .
قَوْله : ( فَقَالَ لِسَعْدٍ ) أَيْ اِبْن مُعَاذ ( كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّه لَا تَقْتُلُهُ ) الْعَمْر بِفَتْحِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة هُوَ الْبَقَاء ، وَهُوَ الْعُمْر بِضَمِّهَا ، لَكِنْ لَا يُسْتَعْمَل فِي الْقَسَم إِلَّا بِالْفَتْحِ .
قَوْله : ( وَلَا تَقْدِر عَلَى قَتْله ، وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطك مَا أَحْبَبْت أَنْ يُقْتَل ) فَسَّرَ قَوْله لَا تَقْتُلهُ بِقَوْلِهِ : " وَلَا تَقْدِر عَلَى قَتْله " إِشَارَة إِلَى أَنَّ قَوْمه يَمْنَعُونَهُ مِنْ قَتْله ، وَأَمَّا قَوْله : " وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطك " فَهُوَ مِنْ تَفْسِير قَوْله : " كَذَبْت " أَيْ فِي قَوْلك " إِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْس ضَرَبْت عُنُقه " فَنَسَبَهُ إِلَى الْكَذِب فِي هَذِهِ الدَّعْوَى وَأَنَّهُ جَزَمَ أَنْ يَقْتُلهُ إِنْ كَانَ مِنْ رَهْطه مُطْلَقًا ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْر رَهْطه إِنْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ قَتَلَهُ وَإِلَّا فَلَا ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ : بَلْ الَّذِي نَعْتَقِدهُ عَلَى الْعَكْس مِمَّا نَطَقْت بِهِ ، وَأَنَّهُ لَوْ إِنْ كَانَ مِنْ رَهْطك مَا أَحْبَبْت أَنْ يُقْتَل ، وَلَكِنَّهُ مِنْ غَيْر رَهْطك فَأَنْتَ تُحِبّ أَنْ يُقْتَل ، وَهَذَا بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَة . وَنَقَلَ اِبْن التِّين عَنْ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْله : كَذَبْت لَا تَقْتُلهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْعَل حُكْمه إِلَيْك فَلِذَلِكَ لَا تَقْدِر عَلَى قَتْله ، وَهُوَ حَمْل جَيِّد ، وَقَدْ بَيَّنَتْ الرِّوَايَات الْأُخْرَى السَّبَب الْحَامِل لِسَعْدِ بْن عُبَادَةَ عَلَى مَا قَالَ ، فَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَقَالَ سَعْد بْن عُبَادَةَ : مَا قُلْت هَذِهِ الْمَقَالَة إِلَّا أَنَّك عَلِمْت أَنَّهُ مِنْ الْخَزْرَج " وَفِي رِوَايَة اِبْن حَاطِب " فَقَالَ سَعْد بْن عُبَادَةَ : يَا بْن مُعَاذ وَاَللَّه مَا بِك نُصْرَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنَّهَا قَدْ كَانَتْ بَيْنَنَا ضَغَائِن فِي الْجَاهِلِيَّة وَإِحَن لَمْ تَحْلُلْ لَنَا مِنْ صُدُوركُمْ ، فَقَالَ اِبْن مُعَاذ : اللَّه أَعْلَم بِمَا أَرَدْت " وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر " إِنَّمَا طَلَبْت بِهِ دُخُول الْجَاهِلِيَّة " قَالَ اِبْن التِّين : قَوْل اِبْن مُعَاذ : " إِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْس ضَرَبْت عُنُقه " إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوْس قَوْمه وَهُمْ بَنُو النَّجَّار ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي الْخَزْرَج لِمَا كَانَ بَيْنَ الْأَوْس وَالْخَزْرَج مِنْ التَّشَاحُن قَبْلَ الْإِسْلَام ثُمَّ زَالَ بِالْإِسْلَامِ وَبَقِيَ بَعْضه بِحُكْمِ الْأَنَفَة . قَالَ : فَتَكَلَّمَ سَعْد بْن عُبَادَةَ بِحُكْمِ الْأَنَفَة وَنَفَى أَنْ يَحْكُم فِيهِمْ سَعْد بْن مُعَاذ وَهُوَ مِنْ الْأَوْس . قَالَ : وَلَمْ يُرِدْ سَعْد بْن عُبَادَةَ الرِّضَا بِمَا نُقِلَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ ، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْل عَائِشَة : " وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا " أَيْ لَمْ يَتَقَدَّم مِنْهُ مَا يَتَعَلَّق بِالْوُقُوفِ مَعَ أَنَفَة الْحَمِيَّة ، وَلَمْ تَرِدْ أَنَّهُ نَاضَلَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ، إِلَّا أَنَّ دَعْوَاهُ أَنَّ بَنِي النَّجَّار قَوْم سَعْد بْن مُعَاذ خَطَأ وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ رَهْط سَعْد بْن عُبَادَةَ ، وَلَمْ يَجْرِ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّة ذِكْر . وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضهمْ مَا دَارَ بَيْنَ السَّعْدَيْنِ بِتَأْوِيلٍ بَعِيد فَارْتَكَبَ شَطَطًا ، فَزَعَمَ أَنَّ قَوْل سَعْد بْن عُبَادَةَ " لَا تَقْتُلْهُ وَلَا تَقْدِر عَلَى قَتْله " أَيْ إِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْس ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اِبْن مُعَاذ لَمْ يَقُلْ فِي الْخَزْرَجِيّ ضَرَبْنَا عُنُقه وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي الْأَوْسِيّ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اِبْن عُبَادَةَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ حَمِيَّة لِقَوْمِهِ ، إِذْ لَوْ كَانَ حَمِيَّة لَمْ يُوَجِّههَا رَهْط غَيْره قَالَ : وَسَبَب قَوْله ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي خَاضَ فِي الْإِفْك كَانَ يُظْهِر الْإِسْلَام ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُل مَنْ يُظْهِر الْإِسْلَام ، وَأَرَادَ أَنَّ بَقِيَّة قَوْمه يَمْنَعُونَهُ مِنْهُ إِذَا أَرَادَ قَتْله إِذَا لَمْ يَصْدُر مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْر بِقَتْلِهِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَا تَقُلْ مَا لَا تَفْعَل وَلَا تَعُدّ بِمَا لَا تَقْدِر عَلَى الْوَفَاء بِهِ . ثُمَّ أَجَابَ عَنْ قَوْل عَائِشَة : " اِحْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّة " بِأَنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ مُنْزَعِجَة الْخَاطِر لِمَا دَهَمَهَا مِنْ الْأَمْر ، فَقَدْ يَقَع فِي فَهْمِهَا مَا يَكُون أَرْجَح مِنْهُ ، وَعَنْ قَوْل أُسَيْدِ بْن حُضَيْرٍ الْآتِي بِأَنَّهُ حَمَلَ قَوْل اِبْن عُبَادَةَ عَلَى ظَاهِر لَفْظه وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ مَحْمَلًا سَائِغًا اِنْتَهَى . وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ التَّعَسُّف مِنْ غَيْر حَاجَة إِلَى ذَلِكَ . وَقَوْله : إِنَّ عَائِشَة قَالَتْ ذَلِكَ وَهِيَ مُنْزَعِجَة الْخَاطِر مَرْدُود ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمّ لَوْ كَانَتْ حَدَّثَتْ بِذَلِكَ عِنْدَ وُقُوع الْفِتْنَة ، وَالْوَاقِع أَنَّهَا إِنَّمَا حَدَّثَتْ بِهَا بَعْدَ دَهْر طَوِيل حَتَّى سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهَا عُرْوَة وَغَيْره مِنْ التَّابِعِينَ كَمَا قَدَّمْت الْإِشَارَة إِلَيْهِ ، وَحِينَئِذٍ كَانَ ذَلِكَ الِانْزِعَاج زَالَ وَانْقَضَى ، وَالْحَقّ أَنَّهَا فَهِمَتْ ذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعه : بِقَرَائِنِ الْحَال ، وَأَمَّا قَوْله : " لَا تَقْدِر عَلَى قَتْله " مَعَ أَنَّ سَعْد بْن مُعَاذ لَمْ يَقُلْ بِقَتْلِهِ كَمَا قَالَ فِي حَقّ مَنْ يَكُون مِنْ الْأَوْس فَإِنَّ سَعْد بْن عُبَادَةَ فَهِمَ أَنَّ قَوْل اِبْن مُعَاذ " أَمَرْتنَا بِأَمْرِك " أَيْ إِنْ أَمَرْتنَا بِأَمْرِك أَيْ أَمَرْتَنَا بِقَتْلِهِ قَتَلْنَاهُ وَإِنْ أَمَرْت قَوْمه بِقَتْلِهِ قَتَلُوهُ ، فَنَفَى سَعْد بْن عُبَادَةَ قُدْرَة سَعْد بْن مُعَاذ عَلَى قَتْله إِنْ كَانَ مِنْ الْخَزْرَج لِعِلْمِهِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْمُر غَيْر قَوْمه بِقَتْلِهِ ، فَكَأَنَّهُ أَيْأَسَهُ مِنْ مُبَاشَرَة قَتْله وَذَلِكَ بِحُكْمِ الْحَمِيَّة الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا عَائِشَة ، وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ مَا فَهِمَهُ الْمَذْكُور أَنَّهُ يَرُدّ أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ وَلَا يَمْتَثِلهُ ، حَاشَا لِسَعْدٍ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ اِعْتَذَرَ الْمَازِرِيُّ عَنْ قَوْل أُسَيْدِ بْن حُضَيْرٍ لِسَعْدِ بْن عُبَادَةَ " إِنَّك مُنَافِق " أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ عَلَى جِهَة الْغَيْظ وَالْحَنَق وَالْمُبَالَغَة فِي زَجْر سَعْد بْن عُبَادَةَ عَنْ الْمُجَادَلَة عَنْ اِبْن أُبَيٍّ وَغَيْره ، وَلَمْ يَرُدّ النِّفَاق الَّذِي هُوَ إِظْهَار الْإِيمَان وَإِبْطَان الْكُفْر ، قَالَ : وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تَرَكَ الْإِنْكَار عَلَيْهِ لِذَلِكَ . وَسَأَذْكُرُ مَا فِي فَوَائِد هَذَا الْحَدِيث فِي آخِر شَرْحه زِيَادَة فِي هَذَا .
قَوْله : ( فَقَامَ أُسَيْدُ بْن حُضَيْرٍ ) بِالتَّصْغِيرِ فِيهِ وَفِي أَبِيهِ ، وَأَبُوهُ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَة تَقَدَّمَ نَسَبه فِي الْمَنَاقِب .
قَوْله : ( وَهُوَ اِبْن عَمّ سَعْد بْن مُعَاذ ) أَيْ مِنْ رَهْطه ، وَلَمْ يَكُنْ اِبْن عَمّه لَحًّا ، لِأَنَّهُ سَعْد بْن مُعَاذ بْن النُّعْمَان بْن اِمْرِئِ الْقِيس بْن زَيْد بْن عَبْد الْأَشْهَل ، وَأُسَيْد بْن حُضَيْر بْن سِمَاك بْن عَتِيك بْن اِمْرِئِ الْقِيس ، إِنَّمَا يَجْتَمِعَانِ فِي اِمْرِئِ الْقِيس وَهُمَا فِي التَّعَدُّد إِلَيْهِ سَوَاء .
قَوْله : ( فَقَالَ لِسَعْدِ بْن عُبَادَةَ : كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّه لَنَقْتُلَنَّهُ ) أَيْ وَلَوْ كَانَ مِنْ الْخَزْرَج إِذَا أَمَرَنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ، وَلَيْسَتْ لَكُمْ قُدْرَة عَلَى مَنْعِنَا مِنْ ذَلِكَ .
قَوْله : ( فَإِنَّك مُنَافِق تُجَادِل عَنْ الْمُنَافِقِينَ ) أَطْلَقَ أُسَيْد ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي زَجْرِهِ عَنْ الْقَوْل الَّذِي قَالَهُ ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : " فَإِنَّك مُنَافِق " أَيْ تَصْنَع صَنِيع الْمُنَافِقِينَ ، وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ : " تُجَادِل عَنْ الْمُنَافِقِينَ " وَقَابَلَ قَوْله لِسَعْدِ بْن مُعَاذ : " كَذَبْت لَا تَقْتُلْهُ " بِقَوْلِهِ هُوَ : " كَذَبْت لَنَقْتُلَنَّهُ " . وَقَالَ الْمَازِرِيُّ : إِطْلَاق أُسَيْدٍ لَمْ يُرِدْ بِهِ نِفَاق الْكُفْر وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ يُظْهِر الْمَوَدَّة لِلْأَوْسِ ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّة ضِدّ ذَلِكَ فَأَشْبَهَ حَال الْمُنَافِق لِأَنَّ حَقِيقَته إِظْهَار شَيْء وَإِخْفَاء غَيْره ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَب فِي تَرْك إِنْكَار النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ .
قَوْله : ( فَتَثَاوَرَ ) بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَة : تَفَاعَلَ مِنْ الثَّوْرَة ، وَالْحَيَّانِ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّة تَثْنِيَة حَيّ وَالْحَيّ كَالْقَبِيلَةِ ، أَيْ نَهَضَ بَعْضهمْ إِلَى بَعْض مِنْ الْغَضَب . وَوَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عُمَر " وَقَامَ سَعْد بْن مُعَاذ فَسَلَّ سَيْفَهُ "
قَوْله : ( حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا ) زَادَ اِبْن جُرَيْجٍ فِي رِوَايَته فِي قِصَّة الْإِفْك هُنَا " قَالَ قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَقَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ مَوْعِدكُمْ الْحِرَّة " أَيْ خَارِجَ الْمَدِينَة لِتَتَقَاتَلُوا هُنَاكَ .
قَوْله : ( فَلَمْ يَزَلْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا ) وَفِي رِوَايَة اِبْن حَاطِب " فَلَمْ يَزَلْ يُومِئُ بِيَدِهِ إِلَى النَّاس هَاهُنَا حَتَّى هَدَأَ الصَّوْت " وَفِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا " وَيُحْمَل عَلَى أَنَّهُ سَكَّتَهُمْ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر ثُمَّ نَزَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا لِيُكْمِلَ تَسْكِيتَهُمْ . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ عَنْ الزُّهْرِيّ " فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ " .
قَوْله : ( فَمَكَثْت يَوْمِي ذَلِكَ ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " فَبَكَيْت " وَهِيَ فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ وَصَالِح وَغَيْرهمَا .
قَوْله : ( فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي ) أَيْ أَنَّهُمَا جَاءَا إِلَى الْمَكَان الَّذِي هِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِهِمَا ، لَا أَنَّهَا رَجَعَتْ مِنْ عِنْدِهِمَا إِلَى بَيْتِهَا . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن ثَوْر عَنْ مَعْمَر عِنْدَ الطَّبَرِيِّ " وَأَنَا فِي بَيْت أَبَوَيَّ " .
قَوْله : ( وَقَدْ بَكَيْت لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا ) أَيْ اللَّيْلَة الَّتِي أَخْبَرَتْهَا فِيهَا أُمّ مِسْطَح الْخَبَر وَالْيَوْم الَّذِي خَطَبَ فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاس وَاللَّيْلَة الَّتِي تَلِيهِ . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " وَقَدْ بَكَيْت لَيْلَتِي وَيَوْمًا " وَكَأَنَّ الْيَاء مُشَدَّدَة وَنَسَبَتْهُمَا إِلَى نَفْسهَا لِمَا وَقَعَ لَهَا فِيهِمَا .
قَوْله : ( فَبَيْنَا هُمَا ) وَفِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " فَبَيْنَمَا هُمَا " .
قَوْله : ( يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاء فَالِق كَبِدِي ) فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " حَتَّى أَظُنّ " وَيُجْمَع بِأَنَّ الْجَمِيع كَانُوا يَظُنُّونَ ذَلِكَ .
قَوْله : ( فَاسْتَأْذَنَتْ ) كَذَا فِيهِ وَفِي الْكَلَام حَذْفٌ تَقْدِيره جَاءَتْ اِمْرَأَة فَاسْتَأْذَنَتْ ، وَفِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " إِذْ اِسْتَأْذَنَتْ " .
قَوْله : ( اِمْرَأَة مِنْ الْأَنْصَار ) لَمْ أَقِف عَلَى اِسْمِهَا .
قَوْله : ( فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ " وَهِيَ رِوَايَة فُلَيْحٍ ، وَالْأَوْلَى رِوَايَة صَالِح .
قَوْله : ( دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) سَيَأْتِي فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة بِلَفْظِ " فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي فَلَمْ يَزَالَا حَتَّى دَخَلَ عَلَيَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ صَلَّى الْعَصْر وَقَدْ اِكْتَنَفَنِي أَبَوَايَ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي " وَفِي رِوَايَة اِبْن حَاطِب " وَقَدْ جَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى سَرِير وِجَاهِي " وَفِي حَدِيث أُمّ رُومَان " أَنَّ عَائِشَة فِي تِلْكَ الْحَالَة كَانَتْ بِهَا الْحُمَّى النَّافِض ، وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ فَوَجَدَهَا كَذَلِكَ قَالَ : مَا شَأْن هَذِهِ ؟ قَالَتْ : أَخَذَتْهَا الْحُمَّى بِنَافِضٍ ، قَالَ : فَلَعَلَّهُ فِي حَدِيث تُحُدِّثَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . فَقَعَدَتْ عَائِشَة " .
قَوْله : ( وَلَمْ يَجْلِس عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي ) حَكَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرَ أَنَّ الْمُدَّة كَانَتْ سَبْعَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا فَأَلْغَى الْكَسْر فِي هَذِهِ الرِّوَايَة ، وَعِنْدَ اِبْن حَزْم أَنَّ الْمُدَّة كَانَتْ خَمْسِينَ يَوْمًا أَوْ أَزْيَدَ ، وَيُجْمَع بِأَنَّهَا الْمُدَّة الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ قُدُومهمْ الْمَدِينَة وَنُزُول الْقُرْآن فِي قِصَّة الْإِفْك ، وَأَمَّا التَّقْيِيد بِالشَّهْرِ فَهُوَ الْمُدَّة الَّتِي أَوَّلهَا إِتْيَان عَائِشَة إِلَى بَيْت أَبَوَيْهَا حِينَ بَلَغَهَا الْخَبَر .
قَوْله : ( فَتَشَهَّدَ ) فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ " .
قَوْله : ( أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَة فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْك كَذَا وَكَذَا ) هُوَ كِنَايَة عَمَّا رُمِيَتْ بِهِ مِنْ الْإِفْك وَلَمْ أَرَ فِي شَيْء مِنْ الطُّرُق التَّصْرِيح ، فَلَعَلَّ الْكِنَايَة مِنْ لَفْظ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق فَقَالَ : يَا عَائِشَة إِنَّهُ قَدْ كَانَ مَا بَلَغَك مِنْ قَوْل النَّاس ، فَاتَّقِ اللَّه ، وَإِنْ كُنْت قَارَفْت سُوءًا فَتُوبِي .
قَوْله : ( فَإِنْ كُنْت بَرِيئَة فَسَيُبَرِّئُك اللَّه ) أَيْ بِوَحْيٍ يُنَزِّلُهُ بِذَلِكَ قُرْآنًا أَوْ غَيْره .
قَوْله : ( وَإِنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبٍ ) أَيْ وَقَعَ مِنْك عَلَى خِلَاف الْعَادَة ، وَهَذَا حَقِيقَة الْإِلْمَام ، وَمِنْهُ " أَلَمَّتْ بِنَا وَاللَّيْل مُرْخٍ سُتُوره " .
قَوْله : ( فَاسْتَغْفِرِي اللَّه وَتُوبِي إِلَيْهِ ) فِي رِوَايَة مَعْمَر " ثُمَّ تُوبِي إِلَيْهِ " وَفِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس " إِنَّمَا أَنْتِ مِنْ بَنَات آدَم إِنْ كُنْت أَخْطَأْت فَتُوبِي " .
قَوْله : ( فَإِنَّ الْعَبْد إِذَا اِعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّه تَابَ اللَّه عَلَيْهِ ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ : أَمَرَهَا بِالِاعْتِرَافِ وَلَمْ يَنْدُبْهَا إِلَى الْكِتْمَان لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهنَّ ، فَيَجِب عَلَى أَزْوَاجه الِاعْتِرَاف بِمَا يَقَع مِنْهُنَّ وَلَا يَكْتُمْنَهُ إِيَّاهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَحِلّ لِنَبِيٍّ إِمْسَاك مَنْ يَقَع مِنْهَا ذَلِكَ ، بِخِلَافِ نِسَاء النَّاس فَإِنَّهُنَّ نُدِبْنَ إِلَى السَّتْر . وَتَعَقَّبَهُ عِيَاض بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيث مَا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِالِاعْتِرَافِ ، وَإِنَّمَا أَمَرَهَا أَنْ تَسْتَغْفِر اللَّه وَتَتُوب إِلَيْهِ أَيْ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا ، فَلَيْسَ صَرِيحًا فِي الْأَمْر لَهَا بِأَنْ تَعْتَرِف عِنْدَ النَّاس بِذَلِكَ ، وَسِيَاق جَوَاب عَائِشَة يُشْعِر بِمَا قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ ، لَكِنَّ الْمُعْتَرِف عِنْدَهُ لَيْسَ إِطْلَاقه فَلْيُتَأَمَّلْ . وَيُؤَيِّد مَا قَالَ عِيَاض أَنَّ فِي رِوَايَة حَاطِب " قَالَتْ فَقَالَ أَبِي : إِنْ كُنْت صَنَعْت شَيْئًا فَاسْتَغْفِرِي اللَّه وَإِلَّا فَأَخْبِرِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُذْرِك " .
قَوْله : ( قَلَصَ دَمْعِي ) بِفَتْحِ الْقَاف وَاللَّام ثُمَّ مُهْمَلَة أَيْ اِسْتَمْسَكَ نُزُوله فَانْقَطَعَ وَمِنْهُ قَلَصَ الظِّلّ وَتَقَلَّصَ إِذَا شُمِّرَ ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ : سَبَبه أَنَّ الْحُزْن وَالْغَضَب إِذَا أَخَذَ أَحَدهمَا فُقِدَ الدَّمْع لِفَرْطِ حَرَارَة الْمُصِيبَة .
قَوْله : ( حَتَّى مَا أُحِسُّ ) بِضَمِّ الْهَمْزَة وَكَسْر الْمُهْمَلَة أَيْ أَجِدُ .
قَوْله : ( فَقُلْت لِأَبِي : أَجِبْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ ، قَالَ : وَاَللَّه مَا أَدْرِي مَا أَقُول ) قِيلَ إِنَّمَا قَالَتْ عَائِشَة لِأَبِيهَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّ السُّؤَال إِنَّمَا وَقَعَ عَمَّا فِي بَاطِن الْأَمْر وَهُوَ لَا اِطِّلَاع لَهُ عَلَى ذَلِكَ ، لَكِنْ قَالَتْهُ إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا لَمْ يَقَع مِنْهَا شَيْء فِي الْبَاطِن يُخَالِف الظَّاهِر الَّذِي هُوَ يَطَّلِع عَلَيْهِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ : بَرِّئْنِي بِمَا شِئْت وَأَنْتَ عَلَى ثِقَة مِنْ الصِّدْق فِيمَا تَقُول ، وَإِنَّمَا أَجَابَهَا أَبُو بَكْر بِقَوْلِهِ : لَا أَدْرِي لِأَنَّهُ كَانَ كَثِير الِاتِّبَاع لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَأَجَابَ بِمَا يُطَابِق السُّؤَال فِي الْمَعْنَى ، وَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَتَحَقَّق بَرَاءَتهَا لَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُزَكِّيَ وَلَده . وَكَذَا الْجَوَاب عَنْ قَوْل أُمّهَا لَا أَدْرِي . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة الْآتِيَة : " فَقَالَ مَاذَا أَقُول " وَفِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس " فَقُلْت لِأَبِي أَجِبْ ، فَقَالَ : لَا أَفْعَل ، هُوَ رَسُول اللَّه وَالْوَحْي يَأْتِيه " .
قَوْله : ( قَالَتْ : قُلْت وَأَنَا جَارِيَة حَدِيثَة السِّنّ لَا أَقْرَأ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآن ) قَالَتْ هَذَا تَوْطِئَة لِعُذْرِهَا لِكَوْنِهَا لَمْ تَسْتَحْضِر اِسْم يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا سَيَأْتِي ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة الْآتِيَة " فَلَمَّا لَمْ يُجِيبَاهُ تَشَهَّدْت فَحَمِدْت اللَّه وَأَثْنَيْت عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْله ثُمَّ قُلْت : أَمَّا بَعْدُ " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَلَمَّا اِسْتَعْجَمَا عَلَيَّ اِسْتَعْبَرْت فَبَكَيْت ثُمَّ قُلْت : وَاَللَّه لَا أَتُوب مِمَّا ذَكَرُوا أَبَدًا " .
قَوْله : ( حَتَّى اِسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسكُمْ ) فِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " وَقَرَ " بِالتَّخْفِيفِ أَيْ ثَبَتَ وَزْنًا وَمَعْنًى .
قَوْله : ( وَصَدَقْتُمْ بِهِ ) فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " لَقَدْ تَكَلَّمْتُمْ بِهِ وَأُشْرِبَتْهُ قُلُوبكُمْ " قَالَتْ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى حَقِيقَته عَلَى سَبِيل الْمُقَابَلَة لِمَا وَقَعَ مِنْ الْمُبَالَغَة فِي التَّنْقِيب عَنْ ذَلِكَ ، وَهِيَ كَانَتْ لِمَا تَحَقَّقَتْهُ مِنْ بَرَاءَة نَفْسهَا وَمَنْزِلَتهَا تَعْتَقِد أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ عَنْهَا ذَلِكَ أَنْ يَقْطَع بِكَذِبِهِ ، لَكِنَّ الْعُذْر لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا إِقَامَة الْحُجَّة عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَكْفِي فِيهَا مُجَرَّد نَفْي مَا قَالُوا وَالسُّكُوت عَلَيْهِ ، بَلْ تَعَيَّنَ التَّنْقِيب عَلَيْهِ لِقَطْعِ شُبَهِهِمْ ، أَوْ مُرَادهَا بِمَنْ صَدَّقَ بِهِ أَصْحَاب الْإِفْك ، لَكِنْ ضَمَّتْ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يُكَذِّبْهُمْ تَغْلِيبًا .
قَوْله : ( لَا تُصَدِّقُونَنِي بِذَلِكَ ) أَيْ لَا تَقْطَعُونَ بِصِدْقِي . وَفِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " مَا ذَاكَ بِنَافِعِي عِنْدَكُمْ " وَقَالَتْ فِي الشِّقّ الْآخَر " لَتُصَدِّقُنِّي " وَهُوَ بِتَشْدِيدِ النُّون وَالْأَصْل تُصَدِّقُونَنِي فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الْأُخْرَى ، وَإِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْء مُؤَاخَذ بِإِقْرَارِهِ . وَوَقَعَ فِي حَدِيث أُمّ رُومَان " لَئِنْ حَلَفْت لَا تُصَدِّقُونَنِي ، وَلَئِنْ قُلْت لَا تَعْذِرُونَنِي " .
قَوْله : ( وَاَللَّه مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلًا ) فِي رِوَايَة صَالِح وَفُلَيْح وَمَعْمَر " مَا أَجِد لَكُمْ وَلِي مَثَلًا " .
قَوْله : ( إِلَّا قَوْل أَبِي يُوسُف ) زَادَ اِبْن جُرَيْجٍ فِي رِوَايَته " وَاخْتَلَسَ مِنِّي اِسْمه " وَفِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " وَالْتَمَسْت اِسْم يَعْقُوب فَلَمْ أَقْدِر عَلَيْهِ " وَفِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس " نَسِيت اِسْم يَعْقُوب لِمَا بِي مِنْ الْبُكَاء وَاحْتِرَاق الْجَوْف " وَوَقَعَ فِي حَدِيث أُمّ رُومَان " مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِ " وَهِيَ بِالْمَعْنَى لِلتَّصْرِيحِ فِي حَدِيث هِشَام وَغَيْره بِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَحْضِر اِسْمه .
قَوْله : ( ثُمَّ تَحَوَّلْت فَاضْطَجَعْت عَلَى فِرَاشِي ) زَادَ اِبْن جُرَيْجٍ " وَوَلَّيْت وَجْهِي نَحْوَ الْجُدُر " .
قَوْله : ( وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَم أَنِّي بَرِيئَة ، وَأَنَّ اللَّه مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي ) زَعَمَ اِبْن التِّين أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ " وَأَنَّ اللَّه مُبَرِّئُنِي " بِنُونٍ قَبْلَ الْيَاء وَبَعْد الْهَمْزَة ، قَالَ : وَلَيْسَ بِبَيِّنٍ لِأَنَّ نُون الْوِقَايَة تَدْخُل فِي الْأَفْعَال لِتَسْلَمَ مِنْ الْكَسْر ، وَالْأَسْمَاء تُكْسَر فَلَا تَحْتَاج إِلَيْهَا اِنْتَهَى . وَاَلَّذِي وَقَفْنَا عَلَيْهِ فِي جَمِيع الرِّوَايَات " مُبَرِّئِي " بِغَيْرِ نُون ، وَعَلَى تَقْدِير وُجُود مَا ذُكِرَ فَقَدْ سُمِعَ مِثْل ذَلِكَ فِي بَعْض اللُّغَات .
قَوْله : ( وَلَكِنْ وَاَللَّه مَا كُنْت أَظُنّ أَنَّ اللَّه مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى ، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَر مِنْ أَنْ يَتَكَلَّم اللَّه فِيَّ بِأَمْرٍ ) زَادَ يُونُس فِي رِوَايَته " يُتْلَى " وَفِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " مِنْ أَنْ يُتَكَلَّم بِالْقُرْآنِ فِي أَمْرِي " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق يُقْرَأ بِهِ فِي الْمَسَاجِد وَيُصَلَّى بِهِ .
قَوْله : ( فَوَاَللَّهِ مَا رَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أَيْ فَارَقَ ، وَمَصْدَره الرَّيْم بِالتَّحْتَانِيَّةِ ، بِخِلَافِ رَامَ بِمَعْنَى طَلَبَ فَمَصْدَرُهُ الرَّوْم ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْمُضَارِع : يُقَال رَامَ يَرُوم رَوْمًا وَرَامَ يَرِيم رَيْمًا . وَحُذِفَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة الْفَاعِل . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة صَالِح وَفُلَيْح وَمَعْمَر وَغَيْرهمْ " مَجْلِسه " أَيْ مَا فَارَقَ مَجْلِسه .
قَوْله : ( وَلَا خَرَجَ أَحَد مِنْ أَهْل الْبَيْت ) أَيْ الَّذِينَ كَانُوا حِينَئِذٍ حُضُورًا . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي أُسَامَة " وَأَنْزَلَ اللَّه عَلَى رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَاعَتِهِ " .
قَوْله : ( فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاء ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة وَفَتْح الرَّاء ثُمَّ مُهْمَلَة ثُمَّ مَدّ : هِيَ شِدَّة الْحُمَّى ، وَقِيلَ شِدَّة الْكَرْب ، وَقِيلَ شِدَّة الْحَرّ ، وَمِنْهُ بَرِحَ بِي الْهَمّ إِذَا بَلَغَ مِنِّي غَايَته . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة إِسْحَاق بْن رَاشِد " وَهُوَ الْعَرَق " وَبِهِ جَزَمَ الدَّاوُدِيُّ ، وَهُوَ تَفْسِير بِاللَّازِمِ غَالِبًا لِأَنَّ الْبُرَحَاء شِدَّة الْكَرْب وَيَكُون عِنْدَهُ الْعَرَق غَالِبًا ، وَفِي رِوَايَة اِبْن حَاطِب " وَشَخَصَ بَصَره إِلَى السَّقْف " وَفِي رِوَايَة عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة عِنْدَ الْحَاكِم " فَأَتَاهُ الْوَحْي ، وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الْوَحْي أَخَذَهُ السَّبَل " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَسُجِّيَ بِثَوْبٍ وَوَضَعْت تَحْتَ رَأْسه وِسَادَة مِنْ أُدْمٍ "
قَوْله : ( حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْل الْجُمَان مِنْ الْعَرَق فِي الْيَوْم الشَّاتِي مِنْ ثِقَل الْقَوْل الَّذِي يَنْزِل عَلَيْهِ ) الْجُمَان بِضَمِّ الْجِيم وَتَخْفِيف الْمِيم اللُّؤْلُؤ ، وَقِيلَ حَبٌّ يُعْمَل مِنْ الْفِضَّة كَاللُّؤْلُؤِ ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ : خَرَز أَبْيَض ، وَالْأَوَّل أَوْلَى ، فَشُبِّهَتْ قَطَرَات عَرَقه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُمَانِ لِمُشَابَهَتِهَا فِي الصِّفَات وَالْحُسْن . وَزَادَ اِبْن جُرَيْجٍ فِي رِوَايَته " قَالَ أَبُو بَكْر : فَجَعَلْت أَنْظُرُ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْشَى أَنْ يَنْزِلَ مِنْ السَّمَاء مَا لَا مَرَدّ لَهُ ، وَأَنْظُر إِلَى وَجْه عَائِشَة فَإِذَا هُوَ مُنَبِّقٌ ، فَيُطْمِعُنِي ذَلِكَ فِيهَا " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَأَمَّا أَنَا فَوَاَللَّهِ مَا فَزِعْت قَدْ عَرَفْت أَنِّي بَرِيئَة ، وَأَنَّ اللَّه غَيْر ظَالِمِي . وَأَمَّا أَبَوَايَ فَمَا سُرِّيَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنْت لَتَخْرُجَن أَنْفُسهمَا فَرَقًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ اللَّه تَحْقِيق مَا يَقُول النَّاس " وَنَحْوه فِي رِوَايَة الْوَاقِدِيِّ .
قَوْله : ( فَلَمَّا سُرِّيَ ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الرَّاء الْمَكْسُورَة أَيْ كُشِفَ .
قَوْله : ( وَهُوَ يَضْحَكُ ) فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " فَرُفِعَ عَنْهُ وَإِنِّي لَأَتَبَيَّنُ السُّرُورَ فِي وَجْهه يَمْسَح جَبِينَهُ " وَفِي رِوَايَة اِبْن حَاطِب " فَوَاَلَّذِي أَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَاب مَا زَالَ يَضْحَك حَتَّى إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى نَوَاجِذه سُرُورًا ، ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ " .
قَوْله : ( فَكَانَ أَوَّل كَلِمَة تَكَلَّمَ بِهَا : يَا عَائِشَة أَمَّا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأَك ) فِي رِوَايَة صَالِح بْن كَيْسَانَ " قَالَ : يَا عَائِشَة " وَفِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " أَنْ قَالَ لِي : يَا عَائِشَة اِحْمَدِي اللَّه ، فَقَدْ بَرَّأَك " زَادَ فِي رِوَايَة مَعْمَر " أَبْشِرِي " وَكَذَا فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيّ مِنْ هَذَا الْوَجْه " الْبُشْرَى يَا عَائِشَة فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّه بَرَاءَتك " وَفِي رِوَايَة عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة " فَقَالَ : أَبْشِرِي يَا عَائِشَة " .
قَوْله : ( أَمَّا اللَّه فَقَدْ بَرَّأَك ) أَيْ بِمَا أَنْزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ .
قَوْله : ( فَقَالَتْ أُمِّي : قَوْمِي إِلَيْهِ ، قَالَ : فَقُلْت : وَاَللَّه لَا أَقُوم إِلَيْهِ ، وَلَا أَحْمَد إِلَّا اللَّه ) فِي رِوَايَة صَالِح " فَقَالَتْ لِي أُمِّي : قَوْمِي إِلَيْهِ ، فَقُلْت : وَاَللَّه لَا أَقُوم إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَدهُ وَلَا أَحْمَد إِلَّا اللَّه الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي " وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْه " أَحْمَد اللَّه لَا إِيَّاكُمَا " وَفِي رِوَايَة اِبْن جُرَيْجٍ " فَقُلْت بِحَمْدِ اللَّه وَذَمِّكُمَا " وَفِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس " نَحْمَد اللَّه وَلَا نَحْمَدكُمْ " وَفِي رِوَايَة أُمّ رُومَان وَكَذَا فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " فَقَالَتْ : نَحْمَد اللَّه لَا نَحْمَدك " وَمِثْله فِي رِوَايَة عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة ، وَكَذَا عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ ، وَفِي رِوَايَة اِبْن حَاطِب " وَاَللَّه لَا نَحْمَدك وَلَا نَحْمَد أَصْحَابك " وَفِي رِوَايَة مِقْسَمٍ وَالْأَسْوَد وَكَذَا فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس " وَلَا نَحْمَدك وَلَا نَحْمَد أَصْحَابك " وَزَادَ فِي رِوَايَة الْأَسْوَد عَنْ عَائِشَة " وَأَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَانْتَزَعْت يَدِي مِنْهُ ، فَنَهَرَنِي أَبُو بَكْر " . وَعُذْرهَا فِي إِطْلَاق ذَلِكَ مَا ذَكَرَتْهُ مِنْ الَّذِي خَامَرَهَا مِنْ الْغَضَب مِنْ كَوْنهمْ لَمْ يُبَادِرُوا بِتَكْذِيبِ مَنْ قَالَ فِيهَا مَا قَالَ مَعَ تَحَقُّقهمْ حُسْن طَرِيقَتهَا ، قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ إِدْلَالًا كَمَا يَدُلّ الْحَبِيب عَلَى حَبِيبه . وَقِيلَ : أَشَارَتْ إِلَى إِفْرَاد اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهَا : " فَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي " فَنَاسَبَ إِفْرَاده بِالْحَمْدِ فِي الْحَال . وَلَا يَلْزَم مِنْهُ تَرْك الْحَمْد بَعْدَ ذَلِكَ . وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون مَعَ ذَلِكَ تَمَسَّكَتْ بِظَاهِرِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا : " اِحْمَدِي اللَّه " فَفَهِمَتْ مِنْهُ أَمْرَهَا بِإِفْرَادِ اللَّه تَعَالَى بِالْحَمْدِ فَقَالَتْ ذَلِكَ ، وَمَا أَضَافَتْهُ إِلَيْهِ مِنْ الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة كَانَ مِنْ بَاعِث الْغَضَب . وَرَوَى الطَّبَرِيُّ وَأَبُو عَوَانَة مِنْ طَرِيق أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ مُجَاهِد قَالَ : " قَالَتْ عَائِشَة لَمَّا نَزَلَ عُذْرهَا فَقَبَّلَ أَبُو بَكْر رَأْسهَا فَقُلْت : أَلَا عَذَرْتنِي ؟ فَقَالَ : أَيّ سَمَاء تُظِلّنِي وَأَيّ أَرْض تُقِلّنِي إِذَا قُلْت مَا لَا أَعْلَمُ " .
قَوْله : ( فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَة مِنْكُمْ ) الْعَشْر الْآيَات كُلّهَا ) . قُلْت : آخِر الْعَشَرَة قَوْله تَعَالَى : ( وَاَللَّه يَعْلَم وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَة عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ عَنْ الزُّهْرِيّ " فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا - إِلَى قَوْله - أَنْ يَغْفِر اللَّه لَكُمْ وَاَللَّه غَفُور رَحِيم ) وَعَدَد الْآي إِلَى هَذَا الْمَوْضِع ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَة ، فَلَعَلَّ فِي قَوْلهَا الْعَشْر الْآيَات مَجَازًا بِطَرِيقِ إِلْغَاء الْكَسْر . وَفِي رِوَايَة الْحَكَم بْن عُتَيْبَة مُرْسَلًا عِنْدَ الطَّبَرِيِّ " لَمَّا خَاضَ النَّاس فِي أَمْر عَائِشَة - فَذَكَرَ الْحَدِيث مُخْتَصَرًا وَفِي آخِره - فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى خَمْسَ عَشْرَةَ آيَة مِنْ سُورَة النُّور حَتَّى بَلَغَ - الْخَبِيثَات لِلْخَبِيثِينَ " وَهَذَا فِيهِ تَجَوُّزٌ ، وَعِدَّة الْآي إِلَى هَذَا الْمَوْضِع سِتَّ عَشْرَةَ . وَفِي مُرْسَل سَعِيد بْن جُبَيْر عِنْدَ اِبْن أَبِي حَاتِم وَالْحَاكِم فِي " الْإِكْلِيل " فَنَزَلَتْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ آيَة مُتَوَالِيَة كَذَّبَتْ مَنْ قَذَفَ عَائِشَة ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا - إِلَى قَوْله - رِزْق كَرِيم ) وَفِيهِ مَا فِيهِ أَيْضًا . وَتَحْرِير الْعِدَّة سَبْعَ عَشْرَةَ . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : لَمْ يَقَع فِي الْقُرْآن مِنْ التَّغْلِيظ فِي مَعْصِية مَا وَقَعَ فِي قِصَّة الْإِفْك بِأَوْجَزِ عِبَارَة وَأَشْبَعهَا ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْوَعِيد الشَّدِيد وَالْعِتَاب الْبَلِيغ وَالزَّجْر الْعَنِيف ، وَاسْتِعْظَام الْقَوْل فِي ذَلِكَ وَاسْتِشْنَاعه بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَة وَأَسَالِيب مُتْقَنَة ، كُلّ وَاحِد مِنْهَا كَافٍ فِي بَابه ، بَلْ مَا وَقَعَ مِنْهَا مِنْ وَعِيد عَبَدَة الْأَوْثَان إِلَّا بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِإِظْهَارِ عُلُوّ مَنْزِلَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَطْهِير مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ . وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيق حُمَيْدٍ الْأَعْرَج عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة " جَلَسَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَشَفَ الثَّوْب عَنْ وَجْهه ثُمَّ قَالَ : أَعُوذ بِاَللَّهِ السَّمِيع الْعَلِيم مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَة مِنْكُمْ ) وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق : ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاس فَخَطَبَهُمْ وَتَلَا عَلَيْهِمْ " وَيُجْمَع بِأَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ عِنْدَ عَائِشَة ثُمَّ خَرَجَ فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاس .
قَوْله : ( فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّه هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْر ) يُؤْخَذ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّة تَرْك الْمُؤَاخَذَة بِالذَّنْبِ مَا دَامَ اِحْتِمَال عَدَمه مَوْجُودًا لِأَنَّ أَبَا بَكْر لَمْ يَقْطَع نَفَقَة مِسْطَح إِلَّا بَعْدَ تَحَقُّق ذَنْبه فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ .
قَوْله : ( لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ ) تَقَدَّمَ بَيَان ذَلِكَ قَبْلُ .
قَوْلُهُ : ( وَفَقْره ) عِلَّة أُخْرَى لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ .
قَوْله : ( بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ ) أَيْ عَنْ عَائِشَة ، وَفِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " فَحَلَفَ أَبُو بَكْر أَنْ لَا يَنْفَع مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا "
قَوْله : ( وَلَا يَأْتَلِ ) سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي بَاب مُفْرَد قَرِيبًا .
قَوْله : ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ) قَالَ مُسْلِم : حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْن مُوسَى أَنْبَأَنَا عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك قَالَ : " هَذِهِ أَرْجَى آيَة فِي كِتَاب اللَّه " اِنْتَهَى ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْقَائِل : فَإِنَّ قَدْر الذَّنْب مِنْ مِسْطَح يَحُطّ قَدْر النَّجْم مِنْ أُفُقه وَقَدْ جَرَى مِنْهُ الَّذِي قَدْ جَرَى وَعُوتِبَ الصِّدِّيق فِي حَقّه قَوْله : ( قَالَ أَبُو بَكْر : بَلَى وَاَللَّه ، إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّه لِي ) فِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " بَلَى وَاَللَّه يَا رَبَّنَا ، إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا " .
قَوْله : ( فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَح النَّفَقَة ) أَيْ رَدَّهَا إِلَيْهِ ، وَفِي رِوَايَة فُلَيْحٍ " فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَح الَّذِي كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِ " وَفِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " وَعَادَ لَهُ بِمَا كَانَ يَصْنَع " وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ صَارَ يُعْطِيه ضِعْف مَا كَانَ يُعْطِيه قَبْلَ ذَلِكَ .
قَوْله : ( يَسْأَل زَيْنَب بِنْت جَحْش ) أَيْ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ . ( أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي ) أَيْ مِنْ الْحِمَايَة فَلَا أَنْسُب إِلَيْهِمَا مَا لَمْ أَسْمَعْ وَأُبْصِرْ .
قَوْله : ( وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي ) أَيْ تُعَالِينِي مِنْ السُّمُوّ وَهُوَ الْعُلُوّ وَالِارْتِفَاع أَيْ تُطْلَب مِنْ الْعُلُوّ وَالرِّفْعَة وَالْحَظْوَة عِنْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَطْلُب ، أَوْ تَعْتَقِد أَنَّ الَّذِي لَهَا عِنْدَهُ مِثْل الَّذِي لِي عِنْدَهُ . وَذَهِلَ بَعْض الشُّرَّاح فَقَالَ : إِنَّهُ مِنْ سَوْم الْخَسْف ، وَهُوَ حَمْل الْإِنْسَان عَلَى مَا يَكْرَههُ ، وَالْمَعْنَى يُغَايِظُنِي . وَهَذَا لَا يَصِحّ فَإِنَّهُ لَا يُقَال فِي مِثْله سَامَ وَلَكِنْ سَاوَمَ .
قَوْله : ( فَعَصَمَهَا اللَّه ) أَيْ حَفِظَهَا وَمَنَعَهَا .
قَوْله : ( بِالْوَرَعِ ) أَيْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى دِينِهَا وَمُجَانَبَة مَا تَخْشَى سُوء عَاقِبَته . قَوْله : ( وَطَفِقَتْ ) بِكَسْرِ الْفَاء وَحُكِيَ فَتْحهَا ، أَيْ جَعَلَتْ أَوْ شَرَعَتْ . وَحَمْنَة بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْمِيم وَكَانَتْ تَحْتَ طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه .
قَوْله : ( تُحَارِب لَهَا ) أَيْ تُجَادِل لَهَا وَتَتَعَصَّب وَتَحْكِي مَا قَالَ أَهْل الْإِفْك لِتَنْخَفِضَ مَنْزِلَة عَائِشَة وَتَعْلُو مَرْتَبَة أُخْتهَا زَيْنَب .
قَوْله : ( فَهَلَكْت فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَاب الْإِفْك ) أَيْ حَدَّثَت فِيمَنْ حَدَّثَ أَوْ أَثِمَت مَعَ مَنْ أَثِمَ ، زَادَ صَالِحِ بْن كَيْسَانَ وَفُلَيْح وَمَعْمَر وَغَيْرهمْ " قَالَ اِبْنُ شِهَاب : فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا مِنْ حَدِيث هَؤُلَاءِ الرَّهْط " زَادَ صَالِحِ بْن كَيْسَانَ عَنْ اِبْنِ شِهَاب عَنْ عُرْوَة " قَالَتْ عَائِشَة : وَاَللَّه إِنَّ الرَّجُل الَّذِي قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ لَيَقُول : سُبْحَان اللَّه ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا كَشَفْت كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ " وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحه قَبْلُ . قَالَتْ عَائِشَة : " ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سَبِيل اللَّه " وَتَقَدَّمَ الْخِلَاف فِي سَنَة قَتْله وَفِي الْغَزَاة الَّتِي اُسْتُشْهِدَ فِيهَا فِي أَوَائِل الْكَلَام عَلَى هَذَا الْحَدِيث . وَوَقَعَ فِي آخِر رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة " وَكَانَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ مِسْطَح وَحَسَّان بْن ثَابِت وَالْمُنَافِق عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَوْشِيه وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْره هُوَ وَحَمْنَة " وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيّ مِنْ هَذَا الْوَجْه " وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْره عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ وَمِسْطَح وَحَمْنَة وَحَسَّان ، وَكَانَ كِبْر ذَلِكَ مِنْ قِبَل عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ " وَعِنْدَ أَصْحَاب السُّنَن مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر بْن حَزْم عَنْ عَمْرَة عَنْ عَائِشَة " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ حَدَّ الْقَذْف عَلَى الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِالْإِفْكِ " لَكِنْ لَمْ يَذْكُر فِيهِمْ عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ ، وَكَذَا فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عِنْدَ الْبَزَّار ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْهَدْي فَأَبْدَى الْحِكْمَة فِي تَرْك الْحَدّ عَلَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ ، وَفَاتَهُ أَنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ ذُكِرَ أَيْضًا فِيمَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدّ ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس وَعَنْ حَسَن بْن زَيْد عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر أَخْرَجَهُ الْحَاكِم فِي " الْإِكْلِيل " وَفِيهِ رَدّ عَلَى الْمَاوَرْدِيّ حَيْثُ صَحَّحَ أَنَّهُ لَمْ يَحُدّهُمْ مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّ الْحَدّ لَا يَثْبُت إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَار ، ثُمَّ قَالَ : وَقِيلَ إِنَّهُ حَدَّهُمْ . وَمَا ضَعَّفَهُ هُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمَد ، وَسَيَأْتِي مَزِيد بَيَان لِذَلِكَ فِي كِتَاب الْحُدُود إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَفِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا تَقَدَّمَ : جَوَاز الْحَدِيث عَنْ جَمَاعَة مُلَفَّقًا مُجْمَلًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْث فِيهِ . وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْقُرْعَة حَتَّى بَيْنَ النِّسَاء وَفِي الْمُسَافَرَة بِهِنَّ وَالسَّفَر بِالنِّسَاءِ حَتَّى فِي الْغَزْو ، وَجَوَاز حِكَايَة مَا وَقَعَ لِلْمَرْءِ مِنْ الْفَضْل وَلَوْ كَانَ فِيهِ مَدْح نَاسٍ وَذَمُّ نَاسٍ إِذَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ إِزَالَة تَوَهُّم النَّقْص عَنْ الْحَاكِي إِذَا كَانَ بَرِيئًا عِنْدَ قَصْد نُصْح مَنْ يَبْلُغهُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقَع فِيمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ سَبْق وَأَنَّ الِاعْتِنَاء بِالسَّلَامَةِ مِنْ وُقُوع الْغَيْر فِي الْإِثْم أَوْلَى مِنْ تَرْكه يَقَع فِي الْإِثْم وَتَحْصِيل الْأَجْر لِلْمَوْقُوعِ فِيهِ . وَفِيهِ اِسْتِعْمَال التَّوْطِئَة فِيمَا يُحْتَاج إِلَيْهِ مِنْ الْكَلَام ، وَأَنَّ الْهَوْدَج يَقُوم مَقَامَ الْبَيْت فِي حَجْب الْمَرْأَة ، وَجَوَاز رُكُوب الْمَرْأَة الْهَوْدَج عَلَى ظَهْر الْبَعِير وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقّ عَلَيْهِ حَيْثُ يَكُونُ مُطِيقًا لِذَلِكَ ، وَفِيهِ خِدْمَة الْأَجَانِب لِلْمَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَاب ، وَجَوَاز تَسَتُّر الْمَرْأَة بِالشَّيْءِ الْمُنْفَصِل عَنْ الْبَدَنِ ، وَتَوَجُّه الْمَرْأَة لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا وَحْدَهَا وَبِغَيْرِ إِذْن خَاصّ مِنْ زَوْجهَا بَلْ اِعْتِمَادًا عَلَى الْإِذْن الْعَامّ الْمُسْتَنِد إِلَى الْعُرْف الْعَامّ ، وَجَوَاز تَحَلِّي الْمَرْأَة فِي السَّفَر بِالْقِلَادَةِ وَنَحْوِهَا ، وَصِيَانَة الْمَال وَلَوْ قَلَّ لِلنَّهْيِ عَنْ إِضَاعَة الْمَال ، فَإِنَّ عِقْد عَائِشَة لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَهَب وَلَا جَوْهَر ، وَفِيهِ شُؤْم الْحِرْص عَلَى الْمَال لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُطِلْ فِي التَّفْتِيش لَرَجَعَتْ بِسُرْعَةٍ فَلَمَّا زَادَ عَلَى قَدْر الْحَاجَة أَثَّرَ مَا جَرَى . وَقَرِيب مِنْهُ قِصَّة الْمُتَخَاصِمَيْنِ حَيْثُ رُفِعَ عِلْم لَيْلَة الْقَدْر بِسَبَبِهِمَا فَإِنَّهُمَا لَمْ يَقْتَصِرَا عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ بَلْ زَادَا فِي الْخِصَام حَتَّى اِرْتَفَعَتْ أَصْوَاتهمَا فَأَثَّرَ ذَلِكَ بِالرَّفْعِ الْمَذْكُور ، وَتَوَقُّف رَحِيل الْعَسْكَر عَلَى إِذْن الْأَمِير ، وَاسْتِعْمَال بَعْض الْجَيْش سَاقَة يَكُونُ أَمِينًا لِيَحْمِل الضَّعِيف وَيَحْفَظ مَا يَسْقُط وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِح ، وَالِاسْتِرْجَاع عِنْدَ الْمُصِيبَة ، وَتَغْطِيَة الْمَرْأَة وَجْههَا عَنْ نَظَر الْأَجْنَبِيّ وَإِطْلَاق الظَّنّ عَلَى الْعِلْم ، كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَر قَدَّمْته . وَإِغَاثَة الْمَلْهُوف ، وَعَوْنِ الْمُنْقَطِع ، وَإِنْقَاذ الضَّائِع ، وَإِكْرَام ذَوِي الْقَدْر وَإِيثَارهمْ بِالرُّكُوبِ وَتَجَشُّم الْمَشَقَّة لِأَجْلِ ذَلِكَ ، وَحُسْنِ الْأَدَب مَعَ الْأَجَانِب خُصُوصًا النِّسَاء لَا سِيَّمَا فِي الْخَلْوَة ، وَالْمَشْي أَمَام الْمَرْأَة لِيَسْتَقِرَّ خَاطِرهَا وَتَأْمَنَ مِمَّا يُتَوَهَّم مِنْ نَظَره لِمَا عَسَاهُ يَنْكَشِف مِنْهَا فِي حَرَكَة الْمَشْي ، وَفِيهِ مُلَاطَفَة الزَّوْجَة وَحُسْنُ مُعَاشَرَتهَا وَالتَّقْصِير مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ إِشَاعَة مَا يَقْتَضِي النَّقْص وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّق ، وَفَائِدَة ذَلِكَ أَنْ تَتَفَطَّنَ لِتَغْيِيرِ الْحَال فَتَعْتَذِر أَوْ تَعْتَرِف ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْمَرِيض أَنْ يُعْلِمُوهُ بِمَا يُؤْذِي بَاطِنَهُ لِئَلَّا يَزِيد ذَلِكَ فِي مَرَضه ، وَفِيهِ السُّؤَال عَنْ الْمَرِيض وَإِشَارَة إِلَى مَرَاتِب الْهِجْرَان بِالْكَلَامِ وَالْمُلَاطَفَة ، فَإِذَا كَانَ السَّبَب مُحَقَّقًا فَيُتْرَك أَصْلًا ، وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا فَيُخَفَّف ، وَإِنْ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ أَوْ مُحْتَمَلًا فَيَحْسُن التَّقْلِيل مِنْهُ لَا لِلْعَمَلِ بِمَا قِيلَ بَلْ لِئَلَّا يُظَنّ بِصَاحِبِهِ عَدَم الْمُبَالَاة بِمَا قِيلَ فِي حَقِّهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَارِم الْمُرُوءَة . وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْأَة إِذَا خَرَجَتْ لِحَاجَةٍ تَسْتَصْحِب مَنْ يُؤْنِسُهَا أَوْ يَخْدِمهَا مِمَّنْ يُؤْمَن عَلَيْهَا . وَفِيهِ ذَبّ الْمُسْلِم عَنْ الْمُسْلِم خُصُوصًا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْفَضْل ، وَرَدْع مَنْ يُؤْذِيهِمْ وَلَوْ كَانَ مِنْهُمْ بِسَبِيلٍ ، وَبَيَان مَزِيد فَضِيلَة أَهْل بَدْر وَإِطْلَاق السَّبّ عَلَى لَفْظ الدُّعَاء بِالسُّوءِ عَلَى الشَّخْص . وَفِيهِ الْبَحْث عَنْ الْأَمْر الْقَبِيح إِذَا أُشِيعَ وَتُعْرَف صِحَّته وَفَسَاده بِالتَّنْقِيبِ عَلَى مَنْ قِيلَ فِيهِ هَلْ وَقَعَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يُشْبِهُهُ أَوْ يَقْرَب مِنْهُ وَاسْتِصْحَاب حَالِ مَنْ اُتُّهِمَ بِسُوءٍ إِذَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ إِذَا لَمْ يَظْهَر عَنْهُ بِالْبَحْثِ مَا يُخَالِف ذَلِكَ . وَفِيهِ فَضِيلَة قَوِيَّة لِأُمِّ مِسْطَح لِأَنَّهَا لَمْ تُحَابِ وَلَدَهَا فِي وُقُوعه فِي حَقِّ عَائِشَة بَلْ تَعَمَّدَتْ سَبَّهُ عَلَى ذَلِكَ . وَفِيهِ تَقْوِيَة لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَهْل بَدْر : " أَنَّ اللَّه قَالَ لَهُمْ : اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ " ، وَأَنَّ الرَّاجِح أَنَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ أَنَّ الذُّنُوب تَقَع مِنْهُمْ لَكِنَّهَا مَقْرُونَة بِالْمَغْفِرَةِ تَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرهمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَشْهَد الْعَظِيم وَمَرْجُوحِيَّة الْقَوْل الْآخَر أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَصَمَهُمْ فَلَا يَقَع مِنْهُمْ ذَنْب ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة نَفَعَ اللَّه بِهِ . وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة التَّسْبِيح عِنْدَ سَمَاع مَا يَعْتَقِد السَّامِع أَنَّهُ كَذِب ، وَتَوْجِيهه هُنَا أَنَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى يُنَزَّه أَنْ يَحْصُل لِقَرَابَةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدْنِيس ، فَيُشْرَع شُكْره بِالتَّنْزِيهِ فِي مِثْل هَذَا ، نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ . وَفِيهِ تَوَقُّف خُرُوج الْمَرْأَة مِنْ بَيْتهَا عَلَى إِذْن زَوْجهَا وَلَوْ كَانَتْ إِلَى بَيْت أَبَوَيْهَا . وَفِيهِ الْبَحْث عَنْ الْأَمْر الْمَقُول مِمَّنْ يَدُلّ عَلَيْهِ الْمَقُول فِيهِ ، وَالتَّوَقُّف فِي خَبَرِ الْوَاحِد وَلَوْ كَانَ صَادِقًا ، وَطَلَب الِارْتِقَاء مِنْ مَرْتَبَة الظَّنّ إِلَى مَرْتَبَة الْيَقِين ، وَأَنَّ خَبَر الْوَاحِد إِذَا جَاءَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْء أَفَادَ الْقَطْع لِقَوْلِ عَائِشَة : " لَأَسْتَيْقِنُ الْخَبَر مِنْ قِبَلِهِمَا " وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَوَقَّف عَلَى عَدَد مُعَيَّن . وَفِيهِ اِسْتِشَارَة الْمَرْء أَهْل بِطَانَته مِمَّنْ يَلُوذ بِهِ بِقَرَابَةٍ وَغَيْرهَا ، وَتَخْصِيص مَنْ جُرِّبَتْ صِحَّة رَأْيه مِنْهُمْ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ غَيْره أَقْرَبِ ، وَالْبَحْث عَنْ حَالِ مَنْ اُتُّهِمَ بِشَيْءٍ ، وَحِكَايَة ذَلِكَ لِلْكَشْفِ عَنْ أَمْره وَلَا يُعَدّ ذَلِكَ غِيبَةً . وَفِيهِ اِسْتِعْمَال " لَا نَعْلَم إِلَّا خَيْرًا " فِي التَّزْكِيَة ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي حَقِّ مَنْ سَبَقَتْ عَدَالَته مِمَّنْ يُطَّلَع عَلَى خَفِيّ أَمْره ، وَفِيهِ التَّثَبُّت فِي الشَّهَادَة ، وَفِطْنَة الْإِمَام عِنْدَ الْحَادِث الْمُهِمّ ، وَالِاسْتِنْصَار بِالْأَخِصَّاءِ عَلَى الْأَجَانِب ، وَتَوْطِئَة الْعُذْر لِمَنْ يُرَاد إِيقَاع الْعِقَاب بِهِ أَوْ الْعِتَاب لَهُ ، وَاسْتِشَارَة الْأَعْلَى لِمَنْ هُوَ دُونَهُ ، وَاسْتِخْدَام مَنْ لَيْسَ فِي الرِّقّ ، وَأَنَّ مَنْ اِسْتَفْسَرَ عَنْ حَالِ شَخْص فَأَرَادَ بَيَان مَا فِيهِ مِنْ عَيْب فَلْيُقَدِّمْ ذِكْر عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ إِنْ كَانَ يَعْلَمهُ كَمَا قَالَتْ بَرِيرَة فِي عَائِشَة حَيْثُ عَابَتْهَا بِالنَّوْمِ عَنْ الْعَجِينِ فَقَدَّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهَا جَارِيَة . حَدِيثَة السِّنّ . وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَحْكُم لِنَفْسِهِ إِلَّا بَعْدَ نُزُول الْوَحْي لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْزِم فِي الْقِصَّة بِشَيْءٍ قَبْلَ نُزُول الْوَحْي ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة نَفَعَ اللَّه بِهِ . وَأَنَّ الْحَمِيَّة لِلَّهِ وَرَسُوله لَا تُذَمّ . وَفِيهِ فَضَائِلُ جَمَّة لِعَائِشَةَ وَلِأَبَوَيْهَا وَلِصَفْوَانَ وَلِعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِبِ وَأُسَامَة وَسَعْد بْن مُعَاذ وَأُسَيْد بْن حُضَيْر . وَفِيهِ أَنَّ التَّعَصُّب لِأَهْلِ الْبَاطِل يُخْرِج عَنْ اِسْم الصَّلَاح ، وَجَوَاز سَبّ مَنْ يَتَعَرَّض لِلْبَاطِلِ وَنِسْبَته إِلَى مَا يَسُوءهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَة فِيهِ ، لَكِنْ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا يُشْبِه ذَلِكَ جَازَ إِطْلَاق ذَلِكَ عَلَيْهِ تَغْلِيظًا لَهُ ، وَإِطْلَاق الْكَذِب عَلَى الْخَطَأ ، وَالْقَسَم بِلَفْظِ لَعَمْر اللَّه . وَفِيهِ النَّدْب إِلَى قَطْع الْخُصُومَة ، وَتَسْكِين ثَائِرَة الْفِتْنَة ، وَسَدّ ذَرِيعَة ذَلِكَ ، وَاحْتِمَال أَخَفّ الضَّرَرَيْنِ بِزَوَالِ أَغْلَظهمَا ، وَفَضْل اِحْتِمَال الْأَذَى . وَفِيهِ مُبَاعَدَة مَنْ خَالَفَ الرَّسُول وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا حَمِيمًا . وَفِيهِ أَنَّ مَنْ آذَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْل يُقْتَل لِأَنَّ سَعْد بْن مُعَاذ أَطْلَقَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِيهِ مُسَاعَدَة مَنْ نَزَلَتْ فِيهِ بَلِيَّة بِالتَّوَجُّعِ وَالْبُكَاء وَالْحُزْن . وَفِيهِ تَثَبُّت أَبِي بَكْر الصِّدِّيق فِي الْأُمُور لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّة مَعَ تَمَادِي الْحَال فِيهَا شَهْرًا كَلِمَة فَمَا فَوْقَهَا ، إِلَّا مَا وَرَدَ عَنْهُ فِي بَعْض طُرُق الْحَدِيث أَنَّهُ قَالَ : " وَاَللَّه مَا قِيلَ لَنَا هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّة ، فَكَيْفَ بَعْدَ أَنْ أَعَزَّنَا اللَّه بِالْإِسْلَامِ " وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيث اِبْنِ عُمَر عِنْدَ الطَّبَرَانِيّ . وَفِيهِ اِبْتِدَاء الْكَلَام فِي الْأَمْر الْمُهِمّ بِالتَّشَهُّدِ وَالْحَمْد وَالثَّنَاء وَقَوْل أَمَّا بَعْدُ ، وَتَوْقِيف مَنْ نُقِلَ عَنْهُ ذَنْب عَلَى مَا قِيلَ فِيهِ بَعْدَ الْبَحْث عَنْهُ ، وَأَنَّ قَوْل كَذَا وَكَذَا يُكَنَّى بِهَا عَنْ الْأَحْوَال كَمَا يُكَنَّى بِهَا عَنْ الْأَعْدَاد وَلَا تَخْتَصّ بِالْأَعْدَادِ ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة التَّوْبَة وَأَنَّهَا تُقْبَل مِنْ الْمُعْتَرِف الْمُقْلِع الْمُخْلِص ، وَأَنَّ مُجَرَّد الِاعْتِرَاف لَا يُجْزِئ فِيهَا ، وَأَنَّ الِاعْتِرَاف بِمَا لَمْ يَقَع لَا يَجُوز وَلَوْ عُرِفَ أَنَّهُ يَصْدُق فِي ذَلِكَ ، وَلَا يُؤَاخَذ عَلَى مَا يَتَرَتَّب عَلَى اِعْتِرَافه ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقُول الْحَقّ أَوْ يَسْكُت ، وَأَنَّ الصَّبْر تُحْمَد عَاقِبَته وَيُغْبَط صَاحِبُهُ . وَفِيهِ تَقْدِيم الْكَبِير فِي الْكَلَام وَتَوَقُّف مَنْ اِشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْأَمْر فِي الْكَلَام . وَفِيهِ تَبْشِير مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَة أَوْ اِنْدَفَعَتْ عَنْهُ نِقْمَة . وَفِيهِ الضَّحِك وَالْفَرَح وَالِاسْتِبْشَار عِنْدَ ذَلِكَ ، وَمَعْذِرَة مَنْ اِنْزَعَجَ عِنْدَ وُقُوع الشِّدَّة لِصِغَرِ سِنٍّ وَنَحْوِهِ ، وَإِدْلَال الْمَرْأَة عَلَى زَوْجهَا وَأَبَوَيْهَا ، وَتَدْرِيج مَنْ وَقَعَ فِي مُصِيبَة فَزَالَتْ عَنْهُ لِئَلَّا يَهْجُم عَلَى قَلْبه الْفَرَح مِنْ أَوَّلِ وَهْلَة فَيُهْلِكهُ ، يُؤْخَذ ذَلِكَ مِنْ اِبْتِدَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُول الْوَحْي بِبَرَاءَةِ عَائِشَة بِالضَّحِكِ ثُمَّ تَبْشِيرهَا ثُمَّ إِعْلَامهَا بِبَرَاءَتِهَا مُجْمَلَة ثُمَّ تِلَاوَته الْآيَات عَلَى وَجْههَا . وَقَدْ نَصَّ الْحُكَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ اِشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَش لَا يُمَكَّن مِنْ الْمُبَالَغَة فِي الرَّيّ فِي الْمَاء لِئَلَّا يُفْضِي بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْهَلَكَة بَلْ يُجَرَّع قَلِيلًا قَلِيلًا . وَفِيهِ أَنَّ الشِّدَّة إِذَا اِشْتَدَّتْ أَعْقَبَهَا الْفَرَج ، وَفُضِّلَ مَنْ يُفَوِّض الْأَمْر لِرَبِّهِ ، وَأَنَّ مَنْ قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ خَفَّ عَنْهُ الْهَمّ وَالْغَمّ كَمَا وَقَعَ فِي حَالَتَيْ عَائِشَة قَبْلَ اِسْتِفْسَارهَا عَنْ حَالِهَا وَبَعْدَ جَوَابهَا بِقَوْلِهَا : وَاَللَّه الْمُسْتَعَان . وَفِيهِ الْحَثّ عَلَى الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الْخَيْر خُصُوصًا فِي صِلَة الرَّحِم ، وَوُقُوع الْمَغْفِرَة لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ أَوْ صَفَحَ عَنْهُ ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَل شَيْئًا مِنْ الْخَيْر اُسْتُحِبَّ لَهُ الْحِنْث ، وَجَوَاز الِاسْتِشْهَاد بِآيِ الْقُرْآن فِي النَّوَازِل ، وَالتَّأَسِّي بِمَا وَقَعَ لِلْأَكَابِرِ مِنْ الْأَنْبِيَاء وَغَيْرهمْ ، وَفِيهِ التَّسْبِيح عِنْدَ التَّعَجُّب وَاسْتِعْظَام الْأَمْر ، وَذَمُّ الْغِيبَة وَذَمّ سَمَاعهَا وَزَجْر مَنْ يَتَعَاطَاهَا لَا سِيَّمَا إِنْ تَضَمَّنَتْ تُهْمَة الْمُؤْمِن بِمَا لَمْ يَقَع مِنْهُ ، وَذَمّ إِشَاعَة الْفَاحِشَة ، وَتَحْرِيم الشَّكّ فِي بَرَاءَة عَائِشَة . وَفِيهِ تَأْخِير الْحَدّ عَمَّنْ يُخْشَى مِنْ إِيقَاعه بِهِ الْفِتْنَة ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ اِبْنُ بَطَّال مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّ عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ كَانَ مِمَّنْ قَذَفَ عَائِشَة وَلَمْ يَقَع فِي الْحَدِيث أَنَّهُ مِمَّنْ حُدَّ ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاض بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُت أَنَّهُ قَذَفَ بَلْ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَخْرِجهُ وَيَسْتَوْشِيه . قُلْت : وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ قَذَفَ صَرِيحًا ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي مُرْسَل سَعِيد بْن جُبَيْر عِنْدَ اِبْنِ أَبِي حَاتِم وَغَيْره وَفِي مُرْسَل مُقَاتِل بْن حَيَّانَ عِنْدَ الْحَاكِم فِي " الْإِكْلِيل " بِلَفْظِ " فَرَمَاهَا عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ " وَفِي حَدِيث اِبْنِ عُمَر عِنْدَ الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظٍ أَشْنَع مِنْ ذَلِكَ ، وَوَرَدَ أَيْضًا أَنَّهُ مِمَّنْ جُلِدَ الْحَدَّ ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس عَنْ الْحَسَنِ بْن زَيْد وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر بْن حَزْم وَغَيْرهمَا مُرْسَلًا أَخْرَجَهُ الْحَاكِم فِي " الْإِكْلِيل " فَإِنْ ثَبَتَا سَقَطَ السُّؤَال وَإِنْ لَمْ يَثْبُتَا فَالْقَوْل مَا قَالَ عِيَاض فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُت خَبَرٌ بِأَنَّهُ قَذَفَ صَرِيحًا ثُمَّ لَمْ يُحَدّ ، وَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيّ إِنْكَار وُقُوع الْحَدّ بِاَلَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَة أَصْلًا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَاعْتَلَّ قَائِله بِأَنَّ حَدَّ الْقَذْف لَا يَجِبُ إِلَّا بِقِيَامِ بَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَار ، وَزَادَ غَيْره " أَوْ بِطَلَبِ الْمَقْذُوف " قَالَ : وَلَمْ يُنْقَل ذَلِكَ . كَذَا قَالَ ، وَفِيهِ نَظَر يَأْتِي إِيضَاحه فِي كِتَاب الْحُدُود إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو عَلِيّ الْكَرَابِيسِيّ صَاحِبِ الشَّافِعِيّ فِي " كِتَاب الْقَضَاء " عَلَى مَنْع الْحُكْم حَالَة الْغَضَبِ لِمَا بَدَا مِنْ سَعْد بْن مُعَاذ وَأُسَيْد بْن حُضَيْر وَسَعْد بْن عُبَادَةَ مِنْ قَوْل بَعْضهمْ لِبَعْضٍ حَالَة الْغَضَب حَتَّى كَادُوا يَقْتَتِلُونَ ، قَالَ : فَإِنَّ الْغَضَب يُخْرِج الْحَلِيم الْمُتَّقِي إِلَى مَا لَا يَلِيق بِهِ ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْغَضَب قَوْمًا مِنْ خِيَار هَذِهِ الْأُمَّة بِحَضْرَةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا لَا يَشُكّ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَة أَنَّهَا مِنْهُمْ زَلَّة إِلَى آخِر كَلَامِهِ فِي ذَلِكَ . وَهَذِهِ مَسْأَلَة نَقَلَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهَا رِوَايَة عَنْ أَحْمَدَ ، وَلَمْ تَثْبُت . وَسَيَأْتِي الْقَوْل فِيهَا فِي كِتَاب الطَّلَاق إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَيُؤْخَذ مِنْ سِيَاق عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا جَمِيع قِصَّتهَا الْمُشْتَمِلَة عَلَى بَرَاءَتهَا بَيَان مَا أُجْمِلَ فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة لِسِيَاقِ أَسْبَاب ذَلِكَ ، وَتَسْمِيَة مَنْ يُعْرَف مِنْ أَصْحَاب الْقَصَص لِمَا فِي ضِمْن ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِد الْأَحْكَامِيَّة وَالْآدَابِيَّة وَغَيْر ذَلِكَ ، وَبِذَلِكَ يُعْرَف قُصُور مَنْ قَالَ : بَرَاءَة عَائِشَة ثَابِتَة بِصَرِيحِ الْقُرْآن فَأَيُّ فَائِدَة لِسِيَاقِ قِصَّتهَا ؟
-------------
وفي فتاوى يسألونك فتاوى - (ج 3 / ص 247)
العدل بين الزوجات
تقول السائلة : إنها امرأة متزوجة منذ أكثر من عشرين سنة وإن زوجها قد تزوج امرأة ثانية وصار يقضى معظم وقته عند الثانية وينفق على الثانية ويبخل عليَّ مع أنني ساندته في أول حياته حتى استطاع الوقوف على رجليه فما حكم الشرع في ذلك ؟
الجواب : إن كثيراً من الأزواج يظلمون نسائهم وخاصة الذين يعددون فيميلون إلى الزوجة الثانية وينسون الأولى . وإن التعامل السيء للأزواج الذين يعددون مع زوجاتهم قد أساء إلى قضية تعدد الزوجات وأعطى الناس صورة سلبية عن التعدد حتى صار التعدد مقروناً بالظلم .
وأصل تعدد الزوجات مشروع وقد نصت الآية الكريمة على ذلك قال الله تعالى :( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ) سورة النساء الآية 3 .
وقد أجمع المسلمون على جواز التعدد ولكن التعدد مشروط بشرطين الشرط الأول : العدل وهو مأخوذ من قوله تعالى :( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) .
والشرط الثاني هو المقدرة على الإنفاق على الزوجتين أو أكثر ويدل على ذلك قوله تعالى :( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) سورة النور الآية 33
[ فقد أمر الله تعالى بهذه الآية الكريمة من يقدر على النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعفف ، ومن وجوه تعذر النكاح من لا يجد ما ينكح به من مهر ، ولا قدرة له على الإنفاق على زوجته . وكذلك يستدل على شرط الإنفاق بقوله تعالى :( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) سورة النساء الآية 3 .
فقد روي عن الإمام الشافعي أنه قال في معنى :( ألا تعولوا ) أي لا يكثر عيالكم . وفي هذا إشارة إلى شرط الإنفاق ؛ لأن الخوف من كثرة العيال لما تؤدي إليه هذه الكثرة من ضرورة كثرة الإنفاق التي قد يعجز عنها من يريد الزواج بأكثر من واحدة ، فيفهم من ذلك أن القدرة على الإنفاق على الزوجات عند إرادة التعدد شرط لإباحة هذا التعدد ، كذلك قد يستدل على شرط القدرة على الإنفاق بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله :( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغضُّ للبصر وأحفظ للفرج ، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) . فإذا لم يستطع على مؤونة الزواج لم يجز له الزواج وإن كان هو زواجه الأول ، فمن باب أولى أن لا يباح له الزواج بالثانية - وعنده زوجة - إذا كان عاجزاً عن الإنفاق على الثانية مع إنفاقه على الأولى ثم إن الإقدام على الزيجة الثانية - مع علمه بعجزه عن الإنفاق عليها مع الأولى- عمل يتسم بعدم المبالاة بأداء حقوق الغير ، ويعتبر من أنواع الظلم ، والظلم لا يجوز في شرعة الإسلام .
وبناء على جميع ما تقدم ، يعتبر من الظلم المحظور أن يقدم الرجل على الزواج بأخرى مع وجود زوجة عنده ، ومع علمه بعجزه عن الإنفاق على زوجتيه الجديدة والقديمة ] المفصل في أحكام المرأة 6/ 289 .
وينبغي أن يعلم أن العدل بين الزوجات واجب شرعي ومن آثار العدل بين الزوجات القسمة بينهن بأن يقسم وقته بين زوجاته كأن يكون عند الأولى ليلة وعند الثانية ليلة أخرى وهكذا .
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي :[ لا نعلم بين أهل العلم في وجوب التسوية بين الزوجات في القسم خلافاً ، وقد قال الله تعالى :( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) سورة النساء الآية 19 . ، وليس مع الميل معروف ، وقال الله تعالى :( فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ) سورة النساء الآية 129 ] المغني 7/301 .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين زوجاته فيعدل بينهن وكان صلى الله عليه وسلم يقول :( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي . ...
ولا بد لمن عدد الزوجات من العدل في النفقة والكسوة والمسكن وغير ذلك من الأمور المادية التي يملكها الإنسان وأما الأمور التي لا يملكها الإنسان كالحب أو الميل القلبي فهذه خارجة عن إرادة الإنسان فلا حرج عليه فيها وعلى ذلك يحمل قوله تعالى :
( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) سورة النساء الآية 129 . قال الإمام القرطبي:[ قوله تعالى :( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ) أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء ، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب . فوصف الله تعالى حالة البشر وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض ؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول :
( اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) . ثم نهى فقال :
( فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ) ، قال مجاهد : لا تتعمدوا الإساءة بل الزموا التسوية في القسم والنفقة ؛ لأن هذا مما يستطاع ] تفسير القرطبي 5/ 407 . وهذه الآية الكريمة في الأمور المعنوية وأما الأمور المادية فالعدل فيها واجب وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج من عدم العدل فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط ) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وهو حديث صحيح كما قال الألباني في إرواء الغليل 7/ 80 .
وفي رواية أبي داود ( جاء يوم القيامة وشقه مائل ) وهذا الحديث دليل على وجوب العدل بين الزوجات وحرمة الميل في الإنفاق والقسمة والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم :( وشقه ساقط أو مائل ) أي نصفه مائل بحيث يراه أهل العرصات يوم القيامة ليكون هذا زيادة في التعذيب ، انظر تحفة الأحوذي 4/ 248 .
وقد اعتبر الشيخ ابن حجر المكي ترجيح إحدى الزوجات على الأخرى ظلماً وعدواناً من كبائر الذنوب فقال :[ أخرج الترمذي وتكلم فيه الحاكم وصححه على شرطهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط ) وأبو داود ( من كانت له إمرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) والنسائي :( من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل ) ، وفي رواية لابن ماجة وابن حبان في صحيحهما ( وأحد شقيه ساقط ) . والمراد بقوله
( فمال ) وقوله ( يميل ) الميل بظاهره بأن يرجح إحداهما في الأمور الظاهرة التي حرم الشارع الترجيح فيها لا الميل القلبي لخبر أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب ) وقال الترمذي : روي مرسلاً وهو أصح . وروى مسلم وغيره ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) .
تنبيه :عدُّ هذا هو قضية هذا الوعيد الذي في هذه الأحاديث وهو ظاهر وإن لم يذكروه لما فيه من الإيذاء العظيم الذي لا يحتمل ] الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/80 -81 .
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في العدل بين الزوجات وهذه صورة من عدله صلى الله عليه وسلم بين نسائه : روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا ، وكان قلَّ يوم إلا هو يطوف علينا جميعاً ، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها ) .
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت :( إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ، وكان يقسم لكل منهن يومها وليلتها ) .
ويقول جابر بن زيد :[ كانت لي امرأتان فكنت أعدل بينهما حتى في القُبَل ].
وقال مجاهد :[ كانوا يستحبون أن يعدلوا بين النساء حتى في الطيب : يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه ] .
وقال ابن سيرين :[ إنه يكره للزوج أن يتوضأ في بيت إحدى زوجتيه دون الأخرى ]
وقال أبو القاسم :[ ويكفيك ما مضى من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين في هذا ، ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه قسم إلا يوماً هاهنا ، ويوماً هاهنا ].
وقال ابن قدامة :[ ويقسم الرجل بين نسائه ليلة ليلة ، ويكون النهار في معاشه وقضاء حقوق الناس ، إلا أن يكون معاشه ليلاً كالحراسة ، فإنه يقسمه نهاراً ، ويكون ليله كنهاره ] عشرة النساء ص 320- 321 .
وخلاصة الأمر أن العدل واجب بين الزوجات في الأمور المادية .
----------------(1/39)
42-7698 أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنْ قَالَ : حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَطَارَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى عَائِشَةِ وَحَفْصَةَ فَخَرَجَتَا مَعَهُ جَمِيعًا ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ وَيَتَحَدَّثُ مَعَهَا ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ : أَلَا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي ، وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ فَتَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ ؟ قَالَتْ : " بَلَى ، فَرَكِبَتْ عَائِشَةُ عَلَى بَعِيرِ حَفْصَةَ ، وَرَكِبَتْ حَفْصَةُ عَلَى بَعِيرِ عَائِشَةَ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ ، وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ سَارَ مَعَهَا حَتَّى نَزَلُوا ، وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ فَغَارَتْ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ جَعَلَتْ تَجْعَلُ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الْإِذْخِرِ " وَتَقُولُ : " يَا رَبِّ سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي عَنْ رَسُولِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا " (1)
__________
(1) - أخرجه مسلم برقم(6450) والبخاري برقم(5211)
شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 195)
4477 - قَوْلهَا ( كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْن نِسَائِهِ فَطَارَتْ الْقُرْعَة عَلَى عَائِشَة وَحَفْصَة ) أَيْ خَرَجَتْ الْقُرْعَة لَهُمَا . فَفِيهِ صِحَّةُ الْإِقْرَاعِ فِي الْقَسْمِ بَيْن الزَّوْجَات ، وَفِي الْأَمْوَال ، وَفِي الْعِتْق ، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُقَرَّر فِي كُتُبِ الْفِقْه مِمَّا فِي مَعْنَى هَذَا ، وَبِإِثْبَاتِ الْقُرْعَة فِي هَذِهِ الْأَشْيَاء قَالَ الشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء . وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ سَفَرًا بِبَعْضِ نِسَائِهِ أَقْرَعَ بَيْنهنَّ كَذَلِكَ ، وَهَذَا الْإِقْرَاع عِنْدنَا وَاجِب فِي حَقّ غَيْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَّا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِي وُجُوب الْقَسْم فِي حَقّه خِلَاف قَدَّمْنَاهُ مَرَّات ، فَمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْقَسْم يَجْعَل إِقْرَاعه وَاجِبًا ، وَمَنْ لَمْ يُوجِبْهُ يَقُولُ : إِقْرَاعُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُسْن عِشْرَته وَمَكَارِم أَخْلَاقه .
قَوْلهَا : ( إِنَّ حَفْصَة قَالَتْ لِعَائِشَة : أَلَّا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَة بَعِيرِي وَأَرْكَب بَعِيرك ) قَالَ الْقَاضِي : قَالَ الْمُهَلَّب : هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْقَسْم لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلِهَذَا تَحَيَّلَتْ حَفْصَة عَلَى عَائِشَة بِمَا فَعَلَتْ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَحَرُمَ ذَلِكَ عَلَى حَفْصَة . وَهَذَا الَّذِي اِدَّعَاهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، فَإِنَّ الْقَائِل بِأَنَّ الْقَسْم وَاجِب عَلَيْهِ لَا يَمْنَع حَدِيث الْأُخْرَى فِي غَيْر وَقْت عِمَاد الْقَسْم . قَالَ أَصْحَابُنَا : يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي غَيْرِ وَقْتِ عِمَادِ الْقَسْم إِلَى غَيْر صَاحِبَة النَّوْبَة ، فَيَأْخُذُ الْمَتَاع أَوْ يَضَعُهُ ، أَوْ نَحْوه مِنْ الْحَاجَات ، وَلَهُ أَنْ يُقَبِّلَهَا وَيَلْمِسَهَا مِنْ غَيْر إِطَالَةٍ . وَعِمَاد الْقَسْم فِي حَقّ الْمُسَافِر هُوَ وَقْت النُّزُول ، فَحَالَة السَّيْر لَيْسَتْ مِنْهُ ، سَوَاء كَانَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا .
قَوْلهَا : ( جَعَلْت رِجْلهَا بَيْن الْإِذْخِر وَتَقُول إِلَى آخِره ) هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ وَقَالَتْهُ حَمَلَهَا عَلَيْهِ فَرْط الْغَيْرَة عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ أَمْر الْغَيْرَة مَعْفُوّ عَنْهُ .
فتح الباري لابن حجر - (ج 15 / ص 10)
قَوْله ( إِذَا أَرَادَ سَفَرًا ) مَفْهُومه اِخْتِصَاص الْقُرْعَة بِحَالَةِ السَّفَر ، وَلَيْسَ عَلَى عُمُومه بَلْ لِتَعَيُّنِ الْقُرْعَة مَنْ يُسَافِر بِهَا ، وَتَجْرِي الْقُرْعَة أَيْضًا فِيمَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْسِم بَيْن زَوْجَاته فَلَا يَبْدَأ بِأَيِّهِنَّ شَاءَ بَلْ يَقْرَع بَيْنهنَّ فَيَبْدَأ بِالَّتِي تَخْرُج لَهَا الْقُرْعَة ، إِلَّا أَنْ يَرْضَيْنَ بِشَيْءٍ فَيَجُوز بِلَا قُرْعَة .
قَوْله ( أَقْرَعَ بَيْن نِسَائِهِ ) زَادَ اِبْن سَعْد مِنْ وَجْه آخَر عَنْ الْقَاسِم عَنْ عَائِشَة " فَكَانَ إِذَا خَرَجَ سَهْم غَيْرِي عَرَفَ فِيهِ الْكَرَاهِيَة " وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْقُرْعَة فِي الْقِسْمَة بَيْن الشُّرَكَاء وَغَيْر ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِر الشَّهَادَات ، وَالْمَشْهُور عَنْ الْحَنَفِيَّة وَالْمَالِكِيَّة عَدَم اِعْتِبَار الْقُرْعَة ، قَالَ عِيَاض : هُوَ مَشْهُور عَنْ مَالِك وَأَصْحَابه لِأَنَّهُ مِنْ بَاب الْخَطَر وَالْقِمَار ، وَحُكِيَ عَنْ الْحَنَفِيَّة إِجَازَتهَا ا ه ، وَقَدْ قَالُوا بِهِ فِي مَسْأَلَة الْبَاب . وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ الْمَالِكِيَّة بِأَنَّ بَعْض النِّسْوَة قَدْ تَكُون أَنْفَع فِي السَّفَر مِنْ غَيْرهَا فَلَوْ خَرَجَتْ الْقُرْعَة لِلَّتِي لَا نَفْعَ بِهَا فِي السَّفَر لَأَضَرّ بِحَالِ الرَّجُل ، وَكَذَا بِالْعَكْسِ قَدْ يَكُون بَعْض النِّسَاء أَقْوَم بِبَيْتِ الرَّجُل مِنْ الْأُخْرَى ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِف ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَال النِّسَاء ، وَتَخْتَصّ مَشْرُوعِيَّة الْقُرْعَة بِمَا إِذَا اِتَّفَقَتْ أَحْوَالهنَّ لِئَلَّا تَخْرُج وَاحِدَة مَعَهُ فَيَكُون تَرْجِيحًا بِغَيْرِ مُرَجِّح ا ه . وَفِيهِ مُرَاعَاة لِلْمَذْهَبِ مَعَ الْأَمْن مِنْ رَدّ الْحَدِيث أَصْلًا لِحَمْلِهِ عَلَى التَّخْصِيص ، فَكَأَنَّهُ خَصَّصَ الْعُمُوم بِالْمَعْنَى .
قَوْله ( فَطَارَتْ الْقُرْعَة لِعَائِشَة وَحَفْصَة ) أَيْ فِي سَفْرَةٍ مِنْ السَّفْرَات ، وَالْمُرَاد بِقَوْلِهَا طَارَتْ أَيْ حَصَلَتْ ، وَطَيْر كُلّ إِنْسَان نَصِيبه ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِز قَوْل أُمّ الْعَلَاء لَمَّا اِقْتَسَمَ الْأَنْصَار الْمُهَاجِرِينَ قَالَتْ " وَطَارَ لَنَا عُثْمَان بْن مَظْعُون " أَيْ حَصَلَ فِي نَصِيبنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ .
قَوْله ( وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَة يَتَحَدَّث ) اِسْتَدَلَّ بِهِ الْمُهَلَّب عَلَى أَنَّ الْقَسْم لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا دَلَالَة فِيهِ لِأَنَّ عِمَاد الْقَسْم اللَّيْل فِي الْحَضَر ، وَأَمَّا فِي السَّفَر فَعِمَاد الْقَسْم فِيهِ النُّزُول ، وَأَمَّا حَالَة السَّيْر فَلَيْسَتْ مِنْهُ لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَاللَّفْظ لَهُ مِنْ طَرِيق اِبْن أَبِي الزِّنَاد عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة " قَلَّ يَوْم إِلَّا وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوف عَلَيْنَا جَمِيعًا فَيُقَبِّل وَيَلْمِس مَا دُون الْوِقَاع ، فَإِذَا جَاءَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمهَا بَاتَ عِنْدهَا " .
قَوْله ( فَقَالَتْ حَفْصَة ) أَيْ لِعَائِشَة .
قَوْله ( أَلَا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَة بَعِيرِي إِلَخْ ) كَأَنَّ عَائِشَة أَجَابَتْ إِلَى ذَلِكَ لِمَا شَوَّقَتْهَا إِلَيْهِ مِنْ النَّظَر إِلَى مَا لَمْ تَكُنْ هِيَ تَنْظُر ، وَهَذَا مُشْعِر بِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا حَال السَّيْر مُتَقَارِبَتَيْنِ بَلْ كَانَتْ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا مِنْ جِهَة كَمَا جَرَتْ الْعَادَة مِنْ السَّيْر قِطَارَيْنِ ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتَا مَعًا لَمْ تَخْتَصّ إِحْدَاهُمَا بِنَظَرِ مَا لَمْ تَنْظُرهُ الْأُخْرَى ، وَيَحْتَمِل أَنْ تُرِيد بِالنَّظَرِ وَطْأَة الْبَعِير وَجَوْدَة سَيْره .
قَوْله ( فَجَاءَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمَل عَائِشَة وَعَلَيْهِ ) فِي رِوَايَة حَكَاهَا الْكَرْمَانِيُّ " وَعَلَيْهَا " وَكَأَنَّهُ عَلَى إِرَادَة النَّاقَة .
قَوْله ( فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ) لَمْ يَذْكُر فِي الْخَبَر أَنَّهُ تَحَدَّثَ مَعَهَا فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أُلْهِمَ مَا وَقَعَ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون وَقَعَ ذَلِكَ اِتِّفَاقًا ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون تَحَدَّثَ وَلَمْ يُنْقَل .
قَوْله ( وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَة ) أَيْ حَالَة الْمُسَايَرَة ، لِأَنَّ قَطْع الْمَأْلُوف صَعْب .
قَوْله ( فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْن الْإِذْخَر ) كَأَنَّهَا لَمَّا عَرَفَتْ أَنَّهَا الْجَانِيَة فِيمَا أَجَابَتْ إِلَيْهِ حَفْصَة عَاتَبَتْ نَفْسهَا عَلَى تِلْكَ الْجِنَايَة . وَالْإِذْخَر نَبْتٌ مَعْرُوف تُوجَد فِيهِ الْهَوَامّ غَالِبًا فِي الْبَرِّيَّة .
قَوْله ( وَتَقُول رَبّ سَلِّطْ ) فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي " يَا رَبّ سَلِّطْ " بِإِثْبَاتِ حَرْف النِّدَاء وَهِيَ رِوَايَة مُسْلِم .
قَوْله ( تَلْدَغنِي ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة .
قَوْله ( وَلَا أَسْتَطِيع أَنْ أَقُول لَهُ شَيْئًا ) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ الظَّاهِر أَنَّهُ كَلَام حَفْصَة ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون كَلَام عَائِشَة ، وَلَمْ يَظْهَر لِي هَذَا الظَّاهِر بَلْ هُوَ كَلَام عَائِشَة ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم فِي جَمِيع مَا وَقَفْت عَلَيْهِ مِنْ طُرُقه إِلَّا مَا سَأَذْكُرُهُ بَعْد قَوْله تَلْدَغنِي " رَسُولك لَا أَسْتَطِيع أَنْ أَقُول لَهُ شَيْئًا " وَرَسُولك بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَر مُبْتَدَأ مَحْذُوف تَقْدِيره هُوَ رَسُولك ، وَيَجُوز النَّصْب عَلَى تَقْدِير فِعْل ، وَإِنَّمَا لَمْ تَتَعَرَّض لِحَفْصَةَ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَجَابَتْهَا طَائِعَة فَعَادَتْ عَلَى نَفْسهَا بِاللَّوْمِ ، وَوَقَعَ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ أَبِي نُعَيْم شَيْخ الْبُخَارِيّ فِيهِ بَعْد قَوْله تَلْدَغنِي " وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُر وَلَا أَسْتَطِيع أَنْ أَقُول لَهُ شَيْئًا " وَعَلَى هَذَا فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْقَوْلِ فِي قَوْلهَا أَنْ أَقُول أَيْ أَحْكِي لَهُ الْوَاقِعَة لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْذُرنِي فِي ذَلِكَ ، وَظَاهِر رِوَايَة غَيْره تُفْهِم أَنَّ مُرَادهَا بِالْقَوْلِ أَنَّهَا لَا تَسْتَطِيع أَنْ تَقُول فِي حَقّه شَيْئًا كَمَا تَقَدَّمَ ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ : يَحْتَمِل أَنْ تَكُون الْمُسَايَرَة فِي لَيْلَة عَائِشَة وَلِذَلِكَ غَلَبْت عَلَيْهَا الْغَيْرَة فَدَعَتْ عَلَى نَفْسهَا بِالْمَوْتِ ، وَيُعَقَّب بِأَنَّهُ يَلْزَم مِنْهُ أَنَّهُ يُوجِب الْقَسْم فِي الْمُسَايَرَة ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ لَوْ كَانَ لَمَا كَانَ يَخُصّ عَائِشَة بِالْمُسَايَرَةِ دُون حَفْصَة حَتَّى تَحْتَاج حَفْصَة تَتَحَيَّل عَلَى عَائِشَة ، وَلَا يُتَّجَه الْقَسْم فِي حَالَة السَّيْر إِلَّا إِذَا كَانَتْ الْخَلْوَة لَا تَحْصُل إِلَّا فِيهِ بِأَنْ يَرْكَب مَعَهَا فِي الْهَوْدَج وَعِنْد النُّزُول يَجْتَمِع الْكُلّ فِي الْخَيْمَة فَيَكُون حِينَئِذٍ عِمَاد الْقَسْم السَّيْر ، أَمَّا الْمُسَايَرَة فَلَا ، وَهَذَا كُلّه مَبْنِيّ عَلَى أَنَّ الْقَسْم كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ مُعْظَم الْأَخْبَار ، وَيُؤَيِّد الْقَوْل بِالْقُرْعَةِ أَنَّهُمْ اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مُدَّة السَّفَر لَا يُحَاسِب بِهَا الْمُقِيمَة بَلْ يَبْتَدِئ إِذَا رَجَعَ بِالْقَسْمِ فِيمَا يَسْتَقْبِل ، فَلَوْ سَافَرَ بِمَنْ شَاءَ بِغَيْرِ قُرْعَة فَقَدَّمَ بَعْضهنَّ فِي الْقَسْم لَلَزِمَ مِنْهُ إِذَا رَجَعَ أَنْ يُوَفِّي مَنْ تَخَلَّفَ حَقّهَا ، وَقَدْ نَقَلَ اِبْن الْمُنْذِر الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِب ، فَظَهَرَ أَنَّ لِلْقُرْعَةِ فَائِدَة وَهِيَ أَنْ لَا يُؤْثِر بَعْضهنَّ بِالتَّشَهِّي لِمَا يَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ الْعَدْل بَيْنهنَّ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم : لَوْ كَانَ الْمُسَافِر يَقْسِم لِمَنْ خَلَفَ لَمَا كَانَ لِلْقُرْعَةِ مَعْنَى بَلْ مَعْنَاهَا أَنْ تَصِير هَذِهِ الْأَيَّام لِمَنْ خَرَجَ سَهْمهَا خَالِصَة اِنْتَهَى . وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلّ الْإِطْلَاق فِي تَرْكِ الْقَضَاء فِي السَّفَر مَا دَامَ اِسْم السَّفَر مَوْجُودًا ، فَلَوْ سَافَرَ إِلَى بَلْدَة فَأَقَامَ بِهَا زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ سَافَرَ رَاجِعًا فَعَلَيْهِ قَضَاء مُدَّة الْإِقَامَة وَفِي مُدَّة الرُّجُوع خِلَاف عِنْد الشَّافِعِيَّة وَالْمَعْنَى فِي سُقُوط الْقَضَاء أَنَّ الَّتِي سَافَرَتْ وَفَازَتْ بِالصُّحْبَةِ لَحِقَهَا مِنْ تَعَب السَّفَر وَمَشَقَّته مَا يُقَابِل ذَلِكَ وَالْمُقِيمَة عَكْسهَا فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا
---------------
شرح ابن بطال - (ج 13 / ص 328)
قال ابن القصار: إذا أراد أن يسافر بإحدى نسائه، فاختلف قول مالك فى ذلك، فقال: ليس له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وقال مرة: له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة. ووجه القول الأول حديث عائشة، أن النبى، عليه السلام، كان إذا سافر أقرع بين نسائه، وفعله سنة لا يجوز العدول عنها. ووجه القول الثانى أن له ذلك بغير قرعة هو أن ضرورته فى السفر أشد منها فى الحضر، فيحتاج إلى من هى أرفق به من نسائه، وأعون له على أموره، وأقوى على الحركة، فلذلك جاز له بغير قرعة.
قال المهلب: وفيه العمل بالقرعة فى المقاسمات والاستهام، وقد تقدم فى كتاب القسمة والشركة، وهو مذكور أيضًا فى آخر كتاب الشهادات والأيمان.
وفيه: أن القسم يكون بالليل والنهار، وقد بان ذلك فى حديث عائشة، قالت: فكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها، ذكره البخارى فى باب القرعة فى المشكلات فى آخر كتاب الشهادات، فى غير موضع. وفيه: أن الاستهام بين النساء من السنن وليس من الفرائض، يدل على ذلك أن مدة السفر لا تحاسب بها المتخلفة من النساء الغادية، بل يبتدئ القسم بينهن إذا قدم على سبيل ما تقدم قبل سفره، ولا خلاف بين أئمة الفتوى فى أن الحاضرة لا تقاضى المسافرة بشىء من الأيام التى انفردت بها فى السفر عند قدومه، ويعدل بينهن فيما يستقبل، ذكره ابن المنذر، عن مالك، والكوفيين، والشافعى، وأبى عبيد، وأبى ثور.
قال المهلب: وفى تحيل حفصة على عائشة فى بدل بعيرها فى الركوب دليل على أنه ليس من الفروض؛ لأن حفصة لا يحل لها من النبى - صلى الله عليه وسلم - إلا ما أباحه لها وبذله من نفسه، وقد تحيلت ولم يبين لها النبى - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك لا يحل لها.
وذكر ابن المنذر أن القسمة تجب بينهن كما تجب النفقة، وهذا يدل أن القسم بينهن فريضة، وقول أهل العلم يدل على ذلك، قال مالك: الصغيرة التى قد جومعت والكبيرة البالغ فى القسم سواء. وقال الكوفيون فى المرأة لم تبلغ إذا كان قد جامعها: أنها والتى قد أدركت فى القسم سواء، وهو قول أبى ثور. وقال الشافعى: إذا أعطاها مالاً على أن تحلله من يومها وليلتها فقبلت، فالعطية مردودة، وعليه أن يوفيها حقها.
قال المهلب: ففيه أن دعاء الإنسان على نفسه عند الحرج وما شاكله يعفو الله عنه فى أغلب الحال؛ لقوله تعالى: {ولو يجعل الله للناس الشر} [يونس: 11]، وفيه أن الغيرة للنساء مسموح لهن فيها وغير منكر من أخلاقهن، ولا معاقب عليها ولا على مثلها لصبر النبى، عليه السلام، لسماع مثل هذا من قولها، ألا ترى قولها له: أرى ربك يسارع فى هواك، ولم يرد ذلك عليها ولا زجرها، وعذرها لما جعل الله فى فطرتها من شدة الغيرة.(1/40)
الْمَرْأَةُ تَهِبُ يَوْمَهَا لِامْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ زَوْجِهَا
43-7699 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادٌ ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ ، عَنْ سُمَيَّةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَفِيَّةَ فَقَالَتْ لِي : " هَلْ لَكِ إِلَى أَنْ تُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي وَأَجْعَلُ لَكِ يَوْمِي ؟ " قُلْتُ : نَعَمْ ، فَأَخَذْتُ خِمَارًا لَهَا مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانَ فَرَشَشْتُهُ بِالْمَاءِ ، ثُمَّ اخْتَمَرْتُ بِهِ ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي يَوْمِهَا فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ : إِلَيْكِ يَا عَائِشَةُ " فَلَيْسَ هَذَا بِيَوْمِكِ " فَقُلْتُ : " فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيَهُ مَنْ يَشَاءُ ، ثُمَّ أَخْبَرَتْهُ خَبَرِي "(1)
44-7700 أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً فِي مِسْلَاخِهَا مِثْلَ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ مِنَ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَةٌ فَلَمَّا كَبِرَتْ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ " جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ يَوْمَهَا ، وَيَوْمَ سَوْدَةَ " (2)
__________
(1) -أخرجه أحمد برقم(25864) وابن ماجة برقم(2049 ) وهو حديث حسن
وسمية لم يرو عنها غير ثابت البناني ولكنها تابعية وسكت عليها البخاري وأبو حاتم وقال عنها الحافظ في التقريب مقبولة
(2) -أخرجه البيهقي برقم(13815) ومسلم برقم(3702)
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 198)
2657 - قَوْله : ( عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا مَا رَأَيْت اِمْرَأَة أَحَبّ إِلَيَّ أَنْ أَكُون فِي مِسْلَاخهَا مِنْ سَوْدَة بِنْت زَمْعَة مِنْ اِمْرَأَة فِيهَا حِدَة ) ( الْمِسْلَاخ ) بِكَسْرِ الْمِيم وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَهُوَ الْجِلْد وَمَعْنَاهُ أَنْ أَكُون أَنَا هِيَ ، وَ ( زَمْعَة ) بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَانهَا وَقَوْلهَا ( مِنْ اِمْرَأَة ) قَالَ الْقَاضِي ( مِنْ ) هُنَا لِلْبَيَانِ وَاسْتِفْتَاح الْكَلَام ، وَلَمْ تَرُدّ عَائِشَة عَيْب سَوْدَة بِذَلِكَ ، بَلْ وَصَفَتْهَا بِقُوَّةِ النَّفْس وَجَوْدَة الْقَرِيحَة وَهِيَ الْحِدَة بِكَسْرِ الْحَاء .
قَوْلهَا : ( فَلَمَّا كَبِرَتْ جَعَلَتْ يَوْمهَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة ) فِيهِ جَوَاز هِبَتهَا نَوْبَتهَا لِضَرَّتِهَا ، لِأَنَّهُ حَقّهَا ، لَكِنْ يُشْتَرَط رِضَا الزَّوْج بِذَلِكَ ، لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْوَاهِبَة فَلَا يَفُوتهُ إِلَّا بِرِضَاهُ وَلَا يَجُوز أَنْ تَأْخُذ عَلَى هَذِهِ الْهِبَة عِوَضًا ، وَيَجُوز أَنْ تَهَب لِلزَّوْجِ فَيَجْعَل الزَّوْج نَوْبَتهَا لِمَنْ شَاءَ وَقِيلَ : يَلْزَمهُ تَوْزِيعهَا عَلَى الْبَاقِيَات ، وَيَجْعَل الْوَاهِبَة كَالْمَعْدُومَةِ وَالْأَوَّل أَصَحّ ، وَلِلْوَاهِبَةِ الرُّجُوع مَتَى شَاءَتْ ، فَتَرْجِع فِي الْمُسْتَقْبَل دُون الْمَاضِي لِأَنَّ الْهِبَات يَرْجِع فِيمَا لَمْ يَقْبِض مِنْهَا دُون الْمَقْبُوض .
وَقَوْلهَا : ( جَعَلَتْ يَوْمهَا ) ، أَيْ نَوْبَتهَا وَهِيَ يَوْم وَلَيْلَة .
وَقَوْلهَا : ( كَانَ يَقْسِم لِعَائِشَة يَوْمَيْنِ يَوْمهَا وَيَوْم سَوْدَة ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَكُون عِنْد عَائِشَة فِي يَوْمهَا وَيَكُون عِنْدهَا أَيْضًا فِي يَوْم سَوْدَة ، لَا أَنَّهُ يُوَالِي لَهَا الْيَوْمَيْنِ . وَالْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا أَنَّهُ لَا يَجُوز الْمُوَالَاة لِلْمَوْهُوبِ لَهَا إِلَّا بِرِضَى الْبَاقِيَات . وَجَوَّزَهُ بَعْض أَصْحَابنَا بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ وَهُوَ ضَعِيف .
قَوْلهَا : ( وَكَانَتْ أَوَّل اِمْرَأَة تَزَوَّجَهَا بَعْدِي ) ، كَذَا ذَكَرَهُ مُسْلِم مِنْ رِوَايَة يُونُس عَنْ شَرِيك أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ عَائِشَة قَبْل سَوْدَة ، وَكَذَا ذَكَرَهُ يُونُس أَيْضًا عَنْ الزُّهْرِيّ وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَقِيل وَرُوِيَ عَقِيل بْن خَالِد عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهُ تَزَوَّجَ سَوْدَة قَبْل عَائِشَة ، قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَهَذَا قَوْل قَتَادَة وَأَبِي عُبَيْدَة ، قُلْت : وَقَالَهُ أَيْضًا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَمُحَمَّد بْن سَعْد كَاتِب الْوَاقِدِيّ وَابْن قُتَيْبَة وَآخَرُونَ .
------------------
المحلى بالآثار - (ج 1 / ص 5188)
1899 - مَسْأَلَةٌ : وَإِنْ وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ لَيْلَتَهَا لِضَرَّتِهَا جَازَ ذَلِكَ , فَإِنْ بَدَا لَهَا فَرَجَعَتْ فِي ذَلِكَ , فَلَهَا ذَلِكَ بُرْهَانُ ذَلِكَ - : مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ نا إسْحَاقُ - هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ - أَنَا جَرِيرٌ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ - عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ : { أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ لَمَّا كَبِرَتْ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ ؟ فَكَانَ عليه الصلاة والسلام يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ , يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ } وَقَدْ صَحَّ { أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ فِي مَرَضِهِ - الَّذِي مَاتَ فِيهِ - أَنْ يَمْرَضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ ؟ فَأَذِنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ } وَأَمَّا قَوْلُنَا : إنَّ لَهَا الرُّجُوعَ فِي ذَلِكَ , فَلِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ غَيْرُ الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ بِلَا شَكٍّ , وَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَجْهُولٍ , فَإِنَّمَا هُوَ إبَاحَةُ حَادِثَةٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إذَا جَاءَ , فَلَهَا أَنْ لَا تُحْدِثَ تِلْكَ الْإِبَاحَةَ وَأَنْ تَتَمَسَّكَ بِحَقِّهَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا - وَبِهِ جَلَّ وَعَزَّ نَتَأَيَّدُ(1/41)
إِذَا اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ فَأَذِنَّ لَهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِنَّ وَيَدُرْنَ عَلَيْهِ
45-7701 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ : أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَتْ : " " اشْتَكَى ، فَعَلِقَ يَنْفُثُ فَكُنَّا نُشَبِّهُ نَفْثَهُ بِنَفْثِ آكِلِ الزَّبِيبِ ، وَكَانَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْمَرَضُ اسْتَأْذَنَهُنَّ أَنْ يُمَرَّضَ عِنْدِي وَيَدُرْنَ عَلَيْهِ ، فَأَذِنَّ لَهُ ، فَدَخَلَ عَلَيَّ وَهُوَ يَتَّكِئُ عَلَى رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلَاهُ الْأَرْضَ خَطًّا ، أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : " " أَلَمْ تُخْبِرْكِ مَنِ الْآخِرُ ؟ " " قُلْتُ : لَا قَالَ : " " هُوَ عَلِيٌّ " "(1)
__________
(1) -أخرجه البخاري برقم ( 198 و 664و665 و 679 و 683 و 687 و 712 و 713 و 716 و 2588 و 3099 و 3384 و4442 و 4445 و 5714 و 7303 ) وابن ماجة برقم(1686) وأحمد برقم(24831) وعوانة برقم(1295و3624) والحميدي برقم(248)
فتح الباري لابن حجر - (ج 2 / ص 493)
625 - قَوْله ( لَمَّا ثَقُلَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ) أَيْ اِشْتَدَّ بِهِ مَرَضه ، يُقَال ثَقُلَ فِي مَرَضه إِذَا رَكَدَتْ أَعْضَاؤُهُ عَنْ خِفَّةِ الْحَرَكَة .
قَوْله : ( فَأَذِنَّ لَهُ ) بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْر الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد النُّون أَيْ الْأَزْوَاج ، وَحَكَى الْكَرْمَانِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَكَسْر الذَّال وَتَخْفِيف النُّون عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجْهُولِ ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيث الزُّهْرِيِّ هَذَا فِي " بَاب الْغُسْل وَالْوُضُوء مِنْ الْمُخَضَّب " وَفِيهِ زِيَادَة عَلَى الَّذِي هُنَا ، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَة اِبْن أَبِي عَائِشَة عَنْ عُبَيْد اللَّه شَيْخ الزُّهْرِيِّ وَسِيَاقه أَتَمُّ مِنْ سِيَاق الزُّهْرِيِّ .
قَوْله : ( قَالَ هُوَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ رِوَايَة عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَرٍ " وَلَكِنَّ عَائِشَة لَا تَطِيبُ نَفْسًا لَهُ بِخَيْرٍ " وَلِابْنِ إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيّ " وَلَكِنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَذْكُرَهُ بِخَيْرٍ " وَلَمْ يَقِف الْكَرْمَانِيُّ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَة فَعَبَّرَ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ شَنِيعَةٍ ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ تَنَطَّعَ فَقَالَ لَا يَجُوز أَنْ يُظَنَّ ذَلِكَ بِعَائِشَةَ ، وَرَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا أَبْهَمَتْ الثَّانِي لِكَوْنِهِ لَمْ يَتَعَيَّن فِي جَمِيع الْمَسَافَة إِذْ كَانَ تَارَةً يَتَوَكَّأ عَلَى الْفَضْل وَتَارَةً عَلَى أُسَامَة وَتَارَةً عَلَى عَلِيّ ، وَفِي جَمِيع ذَلِكَ الرَّجُلُ الْآخَرُ هُوَ الْعَبَّاس ، وَاخْتُصَّ بِذَلِكَ إِكْرَامًا لَهُ ، وَهَذَا تَوَهُّمٌ مِمَّنْ قَالَهُ وَالْوَاقِع خِلَافه ، لِأَنَّ اِبْن عَبَّاس فِي جَمِيع الرِّوَايَات الصَّحِيحَة جَازِم بِأَنَّ الْمُبْهَم عَلِيٌّ فَهُوَ الْمُعْتَمَد وَاللَّهُ أَعْلَم . وَدَعْوَى وُجُودِ الْعَبَّاس فِي كُلّ مَرَّة وَاَلَّذِي يَتَبَدَّل غَيْرُهُ مَرْدُودَةٌ بِدَلِيلِ رِوَايَة عَاصِم الَّتِي قَدَّمْت الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا وَغَيْرهَا صَرِيح فِي أَنَّ الْعَبَّاس لَمْ يَكُنْ فِي مَرَّة وَلَا فِي مَرَّتَيْنِ مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَم . وَفِي هَذِهِ الْقِصَّة مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا مَضَى تَقْدِيم أَبِي بَكْر ، وَتَرْجِيحه عَلَى جَمِيع الصَّحَابَة ، وَفَضِيلَة عُمَر بَعْدَهُ ، وَجَوَاز الثَّنَاء فِي الْوَجْه لِمَنْ أُمِنَ عَلَيْهِ الْإِعْجَاب ، وَمُلَاطَفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَزْوَاجِهِ وَخُصُوصًا لِعَائِشَةَ ، وَجَوَاز مُرَاجَعَة الصَّغِير الْكَبِير ، وَالْمُشَاوَرَة فِي الْأَمْر الْعَامِّ ، وَالْأَدَب مَعَ الْكَبِير لِهَمِّ أَبِي بَكْر بِالتَّأَخُّرِ عَنْ الصَّفّ ، وَإِكْرَام الْفَاضِل لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَأَخَّر حَتَّى يَسْتَوِيَ مَعَ الصَّفّ فَلَمْ يَتْرُكهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَزَحْزَح عَنْ مَقَامِهِ . فِيهِ أَنَّ الْبُكَاء وَلَوْ كَثُرَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاة لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ حَالَ أَبِي بَكْر فِي رِقَّة الْقَلْب وَكَثْرَة الْبُكَاء لَمْ يَعْدِل عَنْهُ ، وَلَا نَهَاهُ عَنْ الْبُكَاء ، وَأَنَّ الْإِيمَاء يَقُوم مَقَامَ النُّطْق ، وَاقْتِصَار النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِشَارَة يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُون لِضَعْفِ صَوْته ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُون لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ مُخَاطَبَة مَنْ يَكُون فِي الصَّلَاة بِالْإِيمَاءِ أَوْلَى مِنْ النُّطْق ، وَفِيهِ تَأْكِيدُ أَمْر الْجَمَاعَة وَالْأَخْذ فِيهَا بِالْأَشَدِّ وَإِنْ كَانَ الْمَرَض يُرَخِّص فِي تَرْكهَا ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ جَوَاز الْأَخْذ بِالْأَشَدِّ وَإِنْ كَانَتْ الرُّخْصَة أَوْلَى ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَعْذُرَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّة بَعْدَهُ نَفْسَهُ بِأَدْنَى عُذْر فَيَتَخَلَّفَ عَنْ الْإِمَامَة ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُون قَصَدَ إِفْهَام النَّاس أَنَّ تَقْدِيمه لِأَبِي بَكْر كَانَ لِأَهْلِيَّتِهِ لِذَلِكَ حَتَّى إِنَّهُ صَلَّى خَلْفَهُ ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَاز اِسْتِخْلَاف الْإِمَام لِغَيْرِ ضَرُورَة لِصَنِيعِ أَبِي بَكْر ، وَعَلَى جَوَاز مُخَالَفَة مَوْقِف الْمَأْمُوم لِلضَّرُورَةِ كَمَنْ قَصَدَ أَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ ، وَيَلْتَحِق بِهِ مَنْ زَحَمَ عَنْ الصَّفّ ، وَعَلَى جَوَاز اِئْتِمَام بَعْض الْمَأْمُومِينَ بِبَعْضٍ وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيِّ وَاخْتِيَار الطَّبَرِيِّ وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيّ كَمَا سَيَأْتِي ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَبَا بَكْر إِنَّمَا كَانَ مُبَلِّغًا كَمَا سَيَأْتِي فِي " بَاب مَنْ أَسْمَعَ النَّاس التَّكْبِير " مِنْ رِوَايَة أُخْرَى عَنْ الْأَعْمَش ، وَكَذَا ذَكَرَهُ مُسْلِم عَلَى هَذَا ، فَمَعْنَى الِاقْتِدَاء اِقْتِدَاؤُهُمْ بِصَوْتِهِ ، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا وَكَانَ أَبُو بَكْر قَائِمًا فَكَانَ بَعْض أَفْعَاله يَخْفَى عَلَى بَعْض الْمَأْمُومِينَ فَمِنْ ثَمَّ كَانَ أَبُو بَكْر كَالْإِمَامِ فِي حَقِّهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَم . وَفِيهِ اِتِّبَاع صَوْت الْمُكَبِّر ، وَصِحَّة صَلَاة الْمُسْتَمِع وَالسَّامِع ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ فِي صِحَّته تَقَدُّمَ إِذْن الْإِمَام ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الطَّبَرِيُّ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ الِاقْتِدَاء بِهِ وَيَقْتَدِيَ هُوَ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْر أَنْ يَقْطَعَ الصَّلَاة . وَعَلَى جَوَاز إِنْشَاء الْقُدْوَة فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاة ، وَعَلَى جَوَاز تَقَدُّمِ إِحْرَام الْمَأْمُوم عَلَى الْإِمَام بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْر كَانَ دَخَلَ فِي الصَّلَاة ثُمَّ قَطَعَ الْقُدْوَة وَائْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ ظَاهِر الرِّوَايَة . وَيُؤَيِّدهُ أَيْضًا أَنَّ فِي رِوَايَة أَرْقَمَ بْن شُرَحْبِيلَ عَنْ اِبْن عَبَّاس " فَابْتَدَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِرَاءَة مِنْ حَيْثُ اِنْتَهَى أَبُو بَكْر ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّة صَلَاة الْقَادِر عَلَى الْقِيَام قَائِمًا خَلْفَ الْقَاعِد خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ مُطْلَقًا وَلِأَحْمَدَ حَيْثُ أَوْجَبَ الْقُعُودَ عَلَى مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ الْقَاعِد كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ فِي " بَاب إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَام لِيُؤْتَمَّ بِهِ " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
شرح ابن بطال - (ج 3 / ص 362)
قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وفيه من الفقه: جواز الأخذ بالشدة لمن جازت له الرخصة؛ لأن الرسول كان له أن يتخلف عن الجماعة لعذر المرض، فلما تحامل على نفسه وخرج بين رجلين تخط رجلاه الأرض، دلَّ على فضل الشدة على الرخصة، ورغب أمته فى شهود الجماعات؛ لما لهم فيها من عظيم الأجر، ولئلا يعذر أحد منهم نفسه فى التخلف عنها ما أمكنه وقدر عليها، إذ لم يعذر نفسه عليه السلام، ولم يرخص لها فى حال عجزه عن الاستقلال على قدميه مع علمه أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبذلك عمل السلف الصالحون، فكان الربيع بن خثيم يخرج إلى الصلاة يهادى بين رجلين، وكان أصابه الفالج، فيقال له: إنك لفى عذر، فيقول: أجل، ولكنى أسمع المؤذن يقول: حى على الصلاة، حى على الفلاح، فمن سمعها فليأتها ولو حبوًا.
وكان أبو عبد الرحمن السلمى يُحمل وهو مريض إلى المسجد.
وقال سفيان: كان سويد بن غفلة ابن ست وعشرين ومائة سنة يخرج إلى الصلاة.
وكان أبو إسحاق الهمدانى يهادى إلى المسجد، فإذا فرغ من صلاته لم يقدر أن ينهض حتى يقام.
وقال سعيد بن المسيب: ما أَذَّن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا فى المسجد.
وقول عائشة: « إن أبا بكر رجل أسيف » ، يعنى: سريع الحزن والبكاء، والأسف عند العرب: شدة الحزن والتندم، يقال منه: أسف فلان على كذا يأسف، إذا اشتد حزنه، وهو رجل أسيف وأسُوف، ومنه قول يعقوب: {يا أسفى على يوسف} [يوسف: 84]، يعنى: يا حزنا ويا جزعا؛ توجعًا لفقده وقيل: قال الخزاعى: الأسيف، الضعيف من الرجال فى بطشه، وأما الأسفُ، فهو الغضبان المتلهف، كما قال الله تعالى: {ولما رجع موسى إلى قومه غضبانٍ أسفًا} [الأعراف: 150].(1/42)
46-7702 أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ : حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ ، عَنْ مُعَاذَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنَّا فِي يَوْمِ إِحْدَانَا بَعْدَمَا نَزَلَتْ {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} (51) سورة الأحزاب(1)
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 4499)
فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ } قرىء مهموزاً وغير مهموز ، وهما لغتان ، يقال : أرجيت الأمر وأرجأته إذا أخرته . { وتؤوي } تَضُمّ ، يقال : آوى إليه ( ممدودة الألف ) ضمّ إليه . وأوى ( مقصورة الألف ) انضمّ إليه .
الثانية : واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، وأصح ما قيل فيها . التوسعة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في ترك القَسْم ، فكان لا يجب عليه القَسْم بين زوجاته . وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى ، وهو الذي ثبت معناه في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت : كنت أغار على اللائي وهبن أنفُسَهُن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول : أوتهب المرأة نفسها لرجل؟ فلما أنزل الله عز وجل : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ } قالت : قلت والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك . قال ابن العربيّ : هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعوّل عليه . والمعنى المراد : هو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مخيَّراً في أزواجه ، إن شاء أن يَقْسِم قَسَم ، وإن شاء أن يترك القَسم ترك . فخص النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن جعل الأمر إليه فيه؛ لكنه كان يقسم من قِبل نفسه دون أن فرض ذلك عليه ، تطييباً لنفوسهنّ ، وصوناً لهنّ عن أقوال الغَيْرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي . وقيل : كان القَسْم واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخ الوجوب عنه بهذا الآية . قال أبو رَزين : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد همّ بطلاق بعض نسائه فقلن له : اقسم لنا ما شئت . فكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب ، فكان قسمتهنّ من نفسه وماله سواء بينهنّ . وكان ممن أرجى سودة وجُوَيْرِية وأم حبيبة وميمونة وصفية؛ فكان يقسم لهنّ ما شاء . وقيل : المراد الواهبات . روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله : «تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ» قالت : هذا في الواهبات أنفسهنّ . قال الشعبيّ : هنّ الواهبات أنفسهنّ؛ تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم منهنّ وترك منهنّ . وقال الزُّهْري : ما علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجأ أحداً من أزواجه ، بل آواهن كلهن . وقال ابن عباس وغيره : المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته ، وإمساك من شاء . وقيل غير هذا . وعلى كلّ معنًى فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإباحة . وما اخترناه أصح والله أعلم .
الثالثة : ذهب هبة الله في الناسخ والمنسوخ إلى أن قوله : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ } الآية ، ناسخ لقوله : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ } [ الأحزاب : 52 ] الآية .
وقال : ليس في كتاب الله ناسخ تقدّم المنسوخَ سوى هذا . وكلامه يضعف من جهات . وفي «البقرة» عدّة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر ، وهو ناسخ للحول وقد تقدّم عليه .
الرابعة : قوله تعالى : { وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ } «ابْتَغَيْت» طلبت؛ والابتغاء الطلب . و«عَزَلْت» أزلت؛ والعزلة الإزالة ، أي إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن من القسمة وتضمّها إليك فلا بأس عليك في ذلك . وكذلك حكم الإرجاء ، فدلّ أحد الطرفين على الثاني .
الخامسة : قوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } أي لا ميل ، يقال : جنحت السفينة أي مالت إلى الأرض . أي لا ميل عليك باللوم والتوبيخ .
السادسة : قوله تعالى : { ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } قال قتادة وغيره : أي ذلك التخيير الذي خيّرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا؛ لأنهن إذا علمن أن الفعل من الله قرّت أعينهن بذلك ورضين؛ لأن المرء إذا علم أنه لا حق له في شيء كان راضياً بما أوتي منه وإن قلّ . وإن علم أن له حقًّا لم يقنعه ما أوتي منه ، واشتدت غَيْرته عليه وعَظُمَ حرصه فيه . فكان ما فعل الله لرسوله من تفويض الأمر إليه في أحوال أزواجه أقرب إلى رضاهن معه ، وإلى استقرار أعينهن بما يسمح به لهن ، دون أن تتعلق قلوبهن بأكثر منه . وقرىء : «تُقِرّ أعينَهن» بضم التاء ونصب الأعين . «وتُقَرّ أعينُهن» على البناء للمفعول . وكان عليه السلام مع هذا يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن ، تطييباً لقلوبهن كما قدّمناه ويقول : " اللهم هذه قدرتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " يعني قلبه؛ لإيثاره عائشة رضي الله عنها دون أن يكون يظهر ذلك في شيء من فعله . وكان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به محمولاً على بيوت أزواجه ، إلى أن استأذنهن أن يقيم في بيت عائشة . قالت عائشة : " أوّل ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة ، فاستأذن أزواجه أن يمرّض في بيتها يعني بيت عائشة فأذِنّ له . . . " الحديث ، خرجه الصحيح . وفي الصحيح أيضاً " عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد ، يقول : «أين أنا اليوم أين أنا غداً» استبطاء ليوم عائشة رضي الله عنها . قالت : فلما كان يومي قبضه الله تعالى بين سَحْري ونَحْري؛ صلى الله عليه وسلم " . السابعة : على الرجل أن يعدِل بين نسائه لكل واحدة منهن يوماً وليلة؛ هذا قول عامة العلماء . وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل دون النهار . ولا يُسقِط حقّ الزوجة مرضُها ولا حَيضُها ، ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها . وعليه أن يعدل بينهن في مرضه كما يفعل في صحته؛ إلا أن يَعْجِز عن الحركة فيقيم حيث غلب عليه المرض ، فإذا صحَّ استأنف القَسم .
والإماء والحرائر والكتابيات والمسلمات في ذلك سواء . قال عبد الملك : للحُرّة ليلتان وللأمة ليلة . وأما السراري فلا قَسْم بينهن وبين الحرائر ، ولا حظّ لهن فيه .
الثامنة : ولا يجمع بينهن في منزل واحد إلا برضاهن ، ولا يدخل لإحداهن في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة . واختلف في دخوله لحاجة وضرورة؛ فالأكثرون على جوازه؛ مالك وغيره . وفي كتاب ابن حبيب منعه . وروى ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان ، فإذا كان يوم هذه لم يشرب من بيت الأخرى الماء . قال ابن بكير : وحدّثنا مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان ماتتا في الطاعون . فأسهم بينهما أيهما تدلى أوّل .
التاسعة : قال مالك : ويعدل بينهن في النفقة والكسوة إذا كن معتدلات الحال ، ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب . وأجاز مالك أن يفضل إحداهما في الكسوة على غير وجه الميل . فأما الحُبّ والبغض فخارجان عن الكسب فلا يتأتّى العدل فيهما ، وهو المعنيّ بقوله صلى الله عليه وسلم في قَسْمه : " اللهم هذا فِعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " أخرجه النسائي وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها . وفي كتاب أبي داود «يعني القلب» ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [ النساء : 129 ] ، وقوله تعالى : { والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } . وهذا هو وجه تخصيصه بالذكر هنا ، تنبيهاً منه لنا على أنه يعلم ما في قلوبنا من ميل بعضنا إلى بعض مَن عندنا من النساء دون بعض ، وهو العالِم بكل شيء { لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } [ آل عمران : 5 ] { يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] لكنه سَمَح في ذلك ، إذ لا يستطيع العبد أن يصرف قلبه عن ذلك الميل ، وإلى ذلك يعود قوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } . وقد قيل في قوله : { ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } وهي :
العاشرة : أي ذلك أقرب ألاّ يحزنّ إذا لم يجمع إحداهن مع الأخرى ويعاين الأثَرَة والميل . وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشِقه مائل " { وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } توكيد للضمير ، أي ويرضين كلهن . وأجاز أبو حاتم والزجاج «وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ» على التوكيد للمضمر الذي في «آتيتهن» . والفراء لا يجيزه ، لأن المعنى ليس عليه ، إذ كان المعنى وترضى كل واحدة منهن ، وليس المعنى بما أعطيتهن كلهن . النحاس : والذي قاله حسن .
الحادية عشرة : قوله تعالى : { والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } خبر عام ، والإشارة إلى ما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص .
وكذلك يدخل في المعنى أيضاً المؤمن . وفي البخاريّ " عن عمرو بن العاص : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل ، فأتيته فقلت : أيّ الناس أحبّ إليك؟ فقال : «عائشة» فقلت : من الرجال؟ قال : «أبوها» قلت : ثم مَن؟ قال : «عمر بن الخطاب . . . » فعدّ رجالاً " وقد تقدّم القول في القلب بما فيه كفاية في أوّل «البقرة» ، وفي أول هذه السورة . يروى أن لقمان الحكيم كان عبداً نجاراً قال له سيّده : اذبح شاة وائتني بأطيبها بَضْعتين ، فأتاه باللسان والقلب . ثم أمره بذبح شاة أخرى فقال له : ألق أخبثها بَضْعتين ، فألقى اللسان والقلب . فقال : أمرتك أن تأتيني بأطيبها بَضْعتين فأتيتني باللسان والقلب ، وأمرتك أن تُلقي بأخبثها بَضْعتين فألقيت اللسان والقلب!؟ فقال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ، ولا أخبث منهما إذا خَبُثا .(1/43)
وَقَالَتْ مُعَاذَةُ فَقُلْتُ : مَا كُنْتِ تَقُولِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنَكِ ؟ قَالَتْ : كُنْتُ أَقُولُ : " إِنْ كَانَ ذَلِكَ إِلَيَّ لَمْ أُوثِرْ عَلَى نَفْسِي أَحَدًا "(1)
__________
(1) -أخرجه مسلم برقم(3755) وابو داود برقم(2138)
عون المعبود - (ج 5 / ص 20)
1824 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( يَسْتَأْذِنَّا ) : وَفِي بَعْض النُّسَخ يَسْتَأْذِننَا
( فِي يَوْم الْمَرْأَة ) : بِإِضَافَةِ يَوْم إِلَى الْمَرْأَة أَيْ يَوْم نَوْبَتهَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَوَجَّه إِلَى الْأُخْرَى
{ تُرْجِي } : بِالْهَمْزَةِ وَالْيَاء قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ مِنْ أَرْجَأَ مَهْمُوزًا أَوْ مَنْقُوصًا أَيْ تُؤَخِّر وَتَتْرُك وَتُبْعِد
{ مَنْ تَشَاء } : أَيْ مُضَاجَعَة مَنْ تَشَاء
{ وَتُؤْوِي إِلَيْك مَنْ تَشَاء } : أَيْ تَضُمّهَا إِلَيْك وَتُضَاجِعهَا . قَالَ الْحَافِظ فِي الْفَتْح فِي تَأْوِيل يُرْجِي أَقْوَال أَحَدهَا تُطَلِّق وَتُمْسِك ، ثَانِيهَا تَعْتَزِل مَنْ شِئْت مِنْهُنَّ بِغَيْرِ طَلَاق وَتَقْسِم لِغَيْرِهَا ثَالِثهَا تَقْبَل مَنْ شِئْت مِنْ الْوَاهِبَات وَتَرُدّ مَنْ شِئْت اِنْتَهَى . قَالَ الْبَغَوِيُّ : أَشْهَر الْأَقَاوِيل أَنَّهُ فِي الْقَسْم بَيْنهنَّ وَذَلِكَ أَنَّ التَّسْوِيَة بَيْنهنَّ فِي الْقَسْم كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة سَقَطَ عَنْهُ وَصَارَ الِاخْتِيَار إِلَيْهِ فِيهِنَّ
( إِنْ كَانَ ذَاكَ ) : أَيْ الِاسْتِئْذَان
( إِلَيَّ ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاء
( لَمْ أُوثِرَ أَحَدًا عَلَى نَفْسِي ) : قَالَ النَّوَوِيّ : هَذِهِ الْمُنَافَسَة فِيهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَتْ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِمْتَاع وَلِمُطْلَقِ الْعِشْرَة وَشَهَوَات النُّفُوس وَحُظُوظهَا الَّتِي تَكُون مِنْ بَعْض النَّاس ، بَلْ هِيَ مُنَافَسَة فِي أُمُور الْآخِرَة وَالْقُرْب مِنْ سَيِّد الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ، وَالرَّغْبَة فِيهِ وَفِي خِدْمَته وَمُعَاشَرَته وَالِاسْتِفَادَة مِنْهُ ، وَفِي قَضَاء لِحُقُوقِهِ وَحَوَائِجه وَتَوَقُّع نُزُول الرَّحْمَة وَالْوَحْي عَلَيْهِ عِنْدهَا وَنَحْو ذَلِكَ اِنْتَهَى .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالنَّسَائِيُّ .(1/44)
مُلَاعَبَةُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ
47-7703أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادٌ ، عَنْ عَمْرٍو ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : تَزَوَّجْتُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ ؟ " قُلْتُ : نَعَمْ قَالَ : " بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا ؟ " فَقُلْتُ : لَا بَلْ ثَيِّبًا قَالَ : " فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ "(1)
------------------
(1) -أخرجه البخاري برقم(5247) ونص برقم(3232)
شرح سنن النسائي - (ج 4 / ص 468)
3167 -
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْله ( فَهَلَّا بِكْرًا ) أَيْ فَهَلَّا تَزَوَّجْت بِكْرًا . و قَوْله ( تُلَاعِبهَا وَتُلَاعِبك )
تَعْلِيل لِلتَّرْغِيبِ فِي الْبِكْر سَوَاء كَانَتْ الْجُمْلَة مُسْتَأْنَفَة كَمَا هُوَ الظَّاهِر أَوْ صِفَة لِبِكْرِ أَيْ لِيَكُونَ بَيْنكُمَا كَمَال التَّأَلُّف وَالتَّأَنُّس فَإِنَّ الثَّيِّب قَدْ تَكُون مُعَلَّقَة الْقَلْب بِالسَّابِقِ .
طرح التثريب - (ج 7 / ص 106)
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادٍ { تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا .
{ أَوْ تُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ } وَفِي رِوَايَتِهِمَا وَرِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ { وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ أَوْ سَبْعًا } وَفِي رِوَايَتِهِمَا { فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْ قَالَ : خَيْرًا } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { فَبَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ } وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ { فَدَعَا لِي } وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جَابِرٍ وَفِيهِ فَقَالَ .
{ مَا لَك وَلِلْعَذَارَى وَلُعَابِهَا } ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فَقَالَ : سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ قَالَ .
{ فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ الْعَذَارَى وَلُعَابِهَا } ؛ قَالَ شُعْبَةُ : فَذَكَرْتُهُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فَقَالَ : قَدْ سَمِعْته مِنْ جَابِرٍ وَإِنَّمَا قَالَ { فَهَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ وَفِيهِ { أَنَّ الْمَرْأَةَ تُنْكَحُ عَلَى دِينِهَا وَمَالِهَا وَجَمَالِهَا فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ } وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ الْجَمَلِ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ وَوَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ كُلُّهُمْ عَنْ جَابِرٍ .
( الثَّانِيَةُ ) الْبِكْرُ هِيَ الْجَارِيَةُ الْبَاقِيَةُ عَلَى حَالَتِهَا الْأُولَى وَالثَّيِّبُ الْمَرْأَةُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ وَكَأَنَّهَا ثَابَتْ إلَى حَالِ كِبَارِ النِّسَاءِ غَالِبًا وَقَوْلُهُ : ( قُلْتُ ثَيِّبٌ ) بِالرَّفْعِ كَذَا فِي رِوَايَتِنَا هُنَا وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ أَيْ الْمَنْكُوحَةُ ثَيِّبٌ .
وَقَوْلُهُ { : هَلَّا بِكْرًا } مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَلَّا نَكَحْتَ بِكْرًا وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الصَّحِيحِ هَلَّا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا وَقَوْلُهُ { تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ } مِنْ اللِّعْبِ الْمَعْرُوفِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ { وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ } وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي عُبَيْدٍ { وَتُدَاعِبُهَا وَتُدَاعِبُكَ } مِنْ الدُّعَابَةِ وَهِيَ الْمَزْحُ ، هَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللُّعَابِ وَهُوَ الرِّيقُ وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ( وَلِعَابِهَا ) هُوَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ مَصْدَرُ لَاعَبَ مِنْ الْمُلَاعَبَةِ كَقَاتَلَ مُقَاتَلَةً قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالرِّوَايَةُ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرُ ، وَرِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْتَمْلِي لِصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَلُعَابُهَا بِالضَّمِّ يَعْنِي بِهِ رِيقَهَا عِنْدَ التَّقْبِيلِ .
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : وَفِيهِ بُعْدٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ ، وَقَالَ عِيَاضٌ : إنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ ، وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ { فَهَلَّا بِكْرًا تَعَضُّهَا وَتَعَضُّكَ } .
( الثَّالِثَةُ ) وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ نِكَاحِ الْبِكْرِ لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَضَّ عَلَى ذَلِكَ ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ غُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ } وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَوْلُهُ أَنْتَقُ أَرْحَامًا بِالنُّونِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ ، وَالْقَافِ أَيْ أَكْثَرُ أَوْلَادًا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ الْكَثِيرَةِ الْوَلَدِ : نَاتِقٌ ؛ لِأَنَّهَا تَرْمِي بِالْأَوْلَادِ رَمْيًا ، وَالنَّتْقُ الرَّمْيُ وَالنَّفْضُ وَالْحَرَكَةُ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا ، وَشَجَرَةٌ لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا فِي أَيُّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ ، قَالَ فِي الشَّجَرَةِ الَّتِي لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا قَالَتْ : فَأَنَا هِيَ ، تَعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا } وَقَدْ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ الْحَضَّ عَلَى الْبِكْرِ مَعَ الْحَضِّ عَلَى الْوَلُودِ وَقَالَ : إنَّهُمَا صِفَتَانِ مُتَنَافِيَتَانِ فَإِنَّهَا مَتَى عُرِفَتْ بِكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ لَا تَكُونُ بِكْرًا وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ تُعْرَفُ كَثْرَةُ أَوْلَادِهَا مِنْ أَقَارِبِهَا ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَقَدْ يُقَالُ : هُمَا صِفَتَانِ مُرَغَّبٌ فِيهِمَا فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ عَلَى الْبِكْرِ أَوْ عَلَى كَثْرَةِ الْأَوْلَادِ إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْوَلُودِ كَثْرَةَ الْأَوْلَادِ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْ هِيَ فِي مَظِنَّةِ الْوِلَادَةِ وَهِيَ الشَّابَّةُ دُونَ الْعَجُوزِ الَّتِي انْقَطَعَ حَبَلُهَا فَالصِّفَتَانِ حِينَئِذٍ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ وَهُمَا مُتَّفِقَتَانِ غَيْرُ مُتَنَافِيَتَيْنِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
----------------
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 1 / ص 258)
(131) سئل فضيلة الشيخ: عمن قال: إن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم كان لغرضين: أحدهما: مصلحة الدعوة، والثاني: التمشي مع ما فطره الله عليه من التمتع بما أحل الله له؟
فأجاب بقوله: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر أكرمه الله تعالى بالنبوة والرسالة إلى الناس كافة، وأن اتصافه بما تقتضيه الطبيعة البشرية من الحاجة إلى الأكل، والشرب، والنوم، والبول، والغائط ومدافعة البرد، والحر، والعدو، ومن التمتع بالنكاح، وأطايب المأكول والمشروب وغيرها من مقتضيات الطبيعة البشرية لا يقدح في نبوته ورسالته، بل قد قال الله له: ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ( وقال هو عن نفسه: " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون".
وانتفاء علم الغيب، وطرو النسيان على العلم قصور في مرتبة العلم من حيث هو علم، لكن لما كان من طبيعة البشر الذي خلقه الله ضعيفاً في جميع أموره، لم يكن ذلك قصوراً في مقام النبوة، ونقصاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا ريب أن شهوة النكاح من طبيعة الإنسان فكمالها فيه من كمال طبيعته، وقوتها فيه تدل على سلامة البنية واستقامة الطبيعة، ولهذا ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: " كنا نتحدث أنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم أعطي قوة ثلاثين".
يعني على النساء، وهذا والله أعلم، ليتمكن من إدراك ما أحل الله منهن بلا حصر ولا مهر، ولا ولي، فيقوم بحقوقهن، ويحصل بكثرتهن ما حصل من المصالح العظيمة الخاصة بهن والعامة للأمة جميعاً، ولولا هذه القوة التي أمده الله بها ما كان يدرك أن يتزوج بكل هذا العدد، أو يقوم بحقهن من الإحصان والعشرة.
ولو فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة لمجرد قضاء الوطر من الشهوة والتمشي مع ما تقتضيه الفطرة بل الطبيعة لم يكن في ذلك قصور في مقام النبوة، ولا نقص في حقه صلى الله عليه وسلم كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم :" تنكح المرأة لأربع: لمالها ، وحسبها، وجمالها، ودينها، فاظفر بذات الدين". بل قد قال الله له: ( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن ( (1). لكننا لا نعلم حتى الآن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة لمجرد قضاء الوطر من الشهوة، ولو كان كذلك لاختار الأبكار الباهرات جمالاً، الشابات سنّاً، كما قال لجابر رضي الله عنه حين أخبره أنه تزوج ثيباً، قال : " فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك " ؟ . وفي رواية : " وتضاحكها وتضاحكك" . وفي رواية : " مالك وللعذارى ولعابها "، رواه البخاري، وإنما كان زواجه صلى الله عليه وسلم إما تأليفاً، أو تشريفاً، أو جبراً أو مكافأة، أو غير ذلك من المقاصد العظيمة. وقد أجملها في فتح الباري ص 115ج 9 المطبعة السلفية حيث قال: " والذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه:
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية " 52 ".
أحدها: أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك.
ثانيها: لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم.
ثالثها: الزيادة في تألفهم لذلك.
رابعها: الزيادة في التكليف حيث كلف أن لا يشغله ما حبب إليه منهن عن المبالغة في التبليغ.
خامسها: لتكثر عشيرته من جهة نسائه فتزداد أعوانه على من يحاربه.
سادسها: نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله.
سابعها: الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة. فقد تزوج أم حبيبة وأبوها يعاديه، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن.
ثامنها: ما تقدم مبسوطاً من خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقلل من المأكول والمشروب، وكثرة الصيام والوصال. وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته، فانخرقت هذه العادة في حقه صلى الله عليه وسلم .
تاسعها وعاشرها: ما تقدم عن صاحب الشفاء من تحصينهن والقيام بحقوقهن . أ. هـ.
قلت: الثامنة حاصلة لأن الله أعطاه قوة ثلاثين رجلاً كما سبق.
وثم وجه حادي عشر: وهو إظهار كمال عدله في معاملتهن لتتأسى به الأمة في ذلك.
وثاني عشر: كثرة انتشار الشريعة فإن انتشارها من عدد أكثر من انتشارها من واحدة.
وثالث عشر: جبر قلب من فات شرفها كما في صفية بنت حيي وجويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق.
ورابع عشر: تقرير الحكم الشرعي وانتشال العقيدة الفاسدة التي رسخت في قلوب الناس من منع التزوج بزوجة ابن التبني، كما في قصة زينب فإن اقتناع الناس بالفعل أبلغ من اقتناعهم بالقول، وانظر اقتناع الناس بحلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه في الحديبية ومبادرتهم بذلك حين حلق بعد أن تباطؤوا في الحلق مع أمره لهم به.
وخامس عشر: التأليف وتقوية الصلة كما في أمر عائشة وحفصة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شد صلته بخلفائه الأربعة عن طريق المصاهرة، مع ما لبعضهم من القرابة الخاصة، فتزوج ابنتي أبي بكر وعمر وزوج بناته الثلاث بعثمان وعلي رضي الله عن الجميع فسبحان من وهب نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الحكم، وأمده بما يحققها قدراً وشرعاً، فأعطاه قوة الثلاثين رجلاً، وأحل له ما شاء من النساء يرجي من يشاء منهن، ويؤوي إليه من يشاء، وهو سبحانه الحكيم العليم.
وأما عدم تزوجه بالواهبة نفسها، فلا يدل على أنه تزوج من سواها لمجرد الشهوة، وقضاء وطر النكاح.
وأما ابنة الجون فلم يعدل عن تزوجها بل دخل عليها وخلا بها، ولكنها استعاذت بالله منه، فتركها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " لقد عذت بعظيم فالحقي بأهلك" . ولكن هل تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم لمجرد جمالها وقضاء وطر النكاح أو لأمر آخر؟ إن كان لأمر آخر سقط الاستدلال به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتزوج لمجرد قضاء الوطر، وإن كان لأجل قضاء الوطر فإن من حكمة الله تعالى أن حال بينه وبين هذه المرأة بسبب استعاذتها منه.
وأما سودة رضي الله عنها فقد خافت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم لكبر سنها فوهبت يومها لعائشة، وخوفها منه لا يلزم منه أن يكون قد هم به. وأما ما روي أنه طلقها بالفعل فضعيف لإرساله.
وأما زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب فليس لجمالها بل هو لإزالة عقيدة سائدة بين العرب، وهي امتناع الرجل من تزوج مفارقة من تبناه، فأبطل الله التبني وأبطل الأحكام المترتبة عليه عند العرب، ولما كانت تلك العقيدة السائدة راسخة في نفوس العرب كان تأثير القول في اقتلاعها بطيئاً، وتأثير الفعل فيها أسرع فقيض الله سبحانه بحكمته البالغة أن يقع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم في تزوجه بمفارقة مولاه زيد بن حارثة الذي كان تبناه من قبل ليطمئن المسلمون إلى ذلك الحكم الإلهي، ولا يكون في قلوبهم حرج منه، وقد أشار الله تعالى إلى هذه الحكمة بقوله تعالى : (فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً ( (1). ثم تأمل قوله تعالى : ( زوجناكها (. فإنه يشعر بأن تزويجها إياه لم يكن عن طلب منه، أو تشوف إليه، وإنما هو قضاء من الله لتقرير الحكم الشرعي وترسيخه وعدم الحرج منه وبهذا يعرف بطلان ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة فرأى زينب فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال: " سبحان الله مقلب القلوب". فأخبرت زينب زيداً بذلك ففطن له فكرهها وطلقها بعد مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: ( أمسك عليك زوجك واتق الله (. فهذا الأثر باطل مناقض لما ذكر الله تعالى من الحكمة في تزويجها إياه، وقد أعرض عنه ابن كثير رحمه الله فلم يذكره، وقال: أحببنا أن نضرب عنها أي عن الآثار الواردة عن بعض السلف صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها، ويدل على بطلان هذا الأثر أنه لا يليق بحال الأنبياء فضلاً عن أفضلهم وأتقاهم لله عز وجل وما أشبه هذه القصة بتلفيق قصة داود عليه الصلاة والسلام، وتحيله علي التزوج بزوجة من ليس له إلا زوجة واحدة، على ما ذكر في بعض كتب التفسير عند قوله تعالى: (وهل أتاك نبأ الخصم ( (2)
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية " 37 ".
(2) سورة ص، الآية " 21 ".
. إلى آخر القصة فإن من علم قدر الأنبياء وبعدهم عن الظلم والعدوان والمكر والخديعة علم أن هذه القصة مكذوبة على نبي الله دواد عليه الصلاة والسلام.
والحاصل أنه وإن جاز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج لمجرد قضاء الوطر من النكاح وجمال المرأة وأن ذلك لا يقدح في مقامه، فإننا لا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج زواجاً استقرت به الزوجة وبقيت معه من أجل هذا الغرض. والله أعلم.
---------------
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8356)
زوجة
التّعريف
1 - الزّوجة في اللّغة : امرأة الرّجل ، وجمعها زوجات ، ويقال لها : زوج ، فالرّجل زوج المرأة والمرأة زوجه.
هذه هي اللّغة العالية وبها جاء القرآن نحو قوله تعالى : «اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ» والجمع فيها أزواج قاله أبو حاتم.
وأهل نجد يقولون في المرأة : زوجة بالهاء ، وأهل الحرم يتكلّمون بها.
وعكس ابن السّكّيت فقال : وأهل الحجاز يقولون للمرأة زوج بغير هاء ، وسائر العرب زوجة بالهاء وجمعها زوجات ، والفقهاء يقتصرون في الاستعمال عليها للإيضاح وخوف لبس الذّكر بالأنثى.
«الأحكام المتعلّقة بالزّوجة»
«اتّخاذ الزّوجة»
2 - ذهب عامّة أهل العلم إلى أنّ الزّواج مستحبّ غير واجب ، إلاّ إذا خاف على نفسه الوقوع في محظور فيلزمه إعفاف نفسه ، ولا يزيد عن زوجة واحدة إن خاف الجور لقوله تعالى : «فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً» وقد تعتريه أحكام أخرى.
والتّفصيل في «نكاح» .
«اختيار الزّوجة»
3 - المرأة سكن للزّوج وحرث له ، وأمينته في ماله وعرضه ، وموضع سرّه ، وعنها يرث أولادها كثيراً من الصّفات ، ويكتسبون بعض عاداتهم منها ، لهذا حضّت الشّريعة على حسن اختيار الزّوجة ، وحدّدت صفات الزّوجة الصّالحة على النّحو التّالي
4 - يستحبّ أن تكون الزّوجة ذات دين ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدّين تربت يداك » أي أنّ الّذي يرغّب في الزّواج ، ويدعو الرّجال إليه أحد هذه الخصال الأربع ، فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ألاّ يعدلوا عن ذات الدّين إلى غيرها.
5- أن تكون ولوداً ، لحديث : « تزوّجوا الودود ، الولود ، فإنّي مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة ».
ويعرف كون البكر ولوداً بكونها من أسرة يعرف نساؤها بكثرة الأولاد.
6- أن تكون بكراً ، لخبر : « فهلاّ بكراً تلاعبها وتلاعبك ».
7- أن تكون حسيبةً نسيبةً أي طيّبة الأصل بانتسابها إلى العلماء والصّلحاء ، وصرّح الشّافعيّة بكراهة الزّواج ببنت الزّنى ، واللّقيطة ، وبنت الفاسق لخبر : « تخيّروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم ».
8- وأن لا تكون ذات قرابة قريبة ، لحديث : « لا تنكحوا القرابة القريبة فإنّ الولد يخلق ضاوياً ».
وصرّح الحنابلة باستحباب اختيار الأجنبيّة فإنّ ولدها أنجب.
9- أن تكون جميلةً لأنّها أسكن لنفسه وأغضّ لبصره ، وأكمل لمودّته ، ولذلك شرع النّظر قبل العقد ، ولحديث : « ما استفاد المؤمن بعد تقوى اللّه خيراً له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته ، وإن نظر إليها أسرّته ، وإن أقسم عليها أبرّته ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله ».
10 - أن تكون ذات عقل ، ويجتنب الحمقاء ، لأنّ النّكاح يراد للعشرة الدّائمة ، ولا تصلح العشرة مع الحمقاء ولا يطيب العيش معها ، وربّما تعدّى إلى ولدها.
--------------
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 22 / ص 17)
لا مانع من أن يتزوج الرجل امرأة أكبر منه رقم الفتوى:33123تاريخ الفتوى:03 ربيع الثاني 1424السؤال : أنا شاب أريد أن أتزوج وعمري23عاما ولكني لا أشتهي البنات اللاتي بمثل عمري، وأشتهي بشدة النساء الكبيرات ولكن عائلتي رافضة بشدة طلبي أن أتزوج من واحدة تكبرني بأعوام كثيرة، أنا أعرف أن عائلتي تريد مصلحتي، ولكنني لا أحب البنات الصغيرات، فماذا افعل؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فينبغي للأهل أن ينزلوا على رغبة الولد في اختيار الزوجه التي ير يد الزواج منها من حيث سنها وجمالها ونحو ذلك، ما دامت ذات خلق ودين، لأنه هو الذي سيتزوجها لا هم، ولا نعلم مانعاً من أن يتزوج الرجل امرأة أكبر منه إذا رضي بذلك أح رى إذا كان يحبه ويتمناه، ومع ذلك فإذا اصر الأبوان على أن يتزوج الولد من امرأة مع ينة فالأفضل له طاعتهما وتقديم هواهما على هواه، فعسى الله أن يجعل في تقديمه رضا أ بويه على هوى نفسه خيراً وبركة له، كما أن المستحب لمن أراد الزواج أن يقصد الأبكار لحديث جابر أنه تزوج ثيباً فقال له رسول ال له صلى الله عليه وسلم: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك. رواه البخاري.
وفي رواية مسلم: فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك. ففي الحديث أن الزواج بال بكر أولى من الثيب إلا لمقتضى لنكاح الثيب.
والله أعلم.
------------
موسوعة الأسرة المسلمة الشاملة - (ج 2 / ص 114)
اختيار الزوجة:
حثَّ الإسلام الشاب على أن يختار زوجته ممن تتوفر فيها عدة شروط، وهي:
الدين: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على اختيار ذات الدين الملتزمة بتعاليم الإسلام وآدابه، قال صلى الله عليه وسلم : (تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين) [الجماعة].
حسن الخلق: وذلك لأنه لا يخفى على الإنسان أن بعض الصفات تنتقل إلى الأبناء بالوراثة، وكذلك بالتربية، فالبيت الملتزم يربي أبناءه على الالتزام والقيم الأخلاقية والطاعة.
البكر: فقد روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (تزوجت يا جابر؟). فقلت: نعم. قال: (أبكرًا أم ثيبًا ؟). قلت: بل ثيبًا. قال: (فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك). فقلت له: إن عبد الله صلى الله عليه وسلم :والد جابر) هلك وترك تسع بنات، وإني كرهتُ أن أجيئهن بمثلهن، فأحببتُ أن أجيء بامرأة تقوم عليهن، وتصلحهنَّ). فقال صلى الله عليه وسلم : (بارك الله لك) [متفق عليه]. وإن كان الإسلام قد دعا إلى الزواج من البكر، فإنه لم يوجب ذلك، وقد تُفَضَّل المرأة الثيب على البكر أحيانًا كما ورد في حديث جابر السابق.
الولود: لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم) [أبو داود والنسائي]. ومن عظمة الإسلام ورحمته، أنه إذا كان قد أمر بالزواج بالودود الولود، فإنه أمر بالإحسان من سواها، إذ لا ذنب لها في قَدَر قدَّره الله عليها، وربما كان لها من الخلق والقدرات والمواهب ما يفوق ما حرمت منه.
-------------
موسوعة الأسرة المسلمة الشاملة - (ج 2 / ص 417)
الزواج
الزواج سنة من سنن الأنبياء، وضرورة من ضروريات الحياة، به تصان الأعراض وتحفظ الحرمات، ويقضى الإنسان شهوته، وهو وسيلة لحفظ النسل وبقاء الجنس البشرى واستمرار الحياة. كما أنه يُسهم في تقوية أواصر المحبة والتعاون من خلال المصاهرة أو النسب، فتتسع دائرة الأقارب ، ومن هنا دعا الإسلام إلى الزواج ورغَّب فيه، قال تعالى:{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}[الروم: 21]. وقال صلي الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومَنْ لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء (وقاية) [متفق عليه].
والزواج واجبٌ على كل مسلم إن كان قادرًا على القيام بأعبائه، وكان ممن يخاف على نفسه الوقوع في الفاحشة، ومن كان لا يستطيع الزواج لعدم القدرة المادية فليكثر من الصيام فيحفظه ويقيه من الانحراف.
وإن كان لديه القدرة على أعباء الزواج، ولكنه لا يخاف على نفسه الوقوع في الفاحشة كان الزواج في حقه مستحبًا.
صفات المرأة المخطوبة:
1- ذات الدين: على المسلم إذا أراد الزواج أن يحسن اختيار الزوجة، فيختار صاحبة الدين، الصالحة، المطيعة؛ لقول الرسول صلي الله عليه وسلم: (تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك) [متفق عليه]. وسئل النبي صلي الله عليه وسلم عن أي النساء خير للرجل؟ قال: (التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره ) [النسائي].
وقال أيضًا: (الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة) [مسلم والنسائي وابن ماجة]. وهذا لا يمنع أن يختار الرجل من بين الصالحات الجميلة أو الغنية أو صاحبة الحسب، وإنما يكون الدين هو الميزان الأول والسابق لأي معيار آخر.
2- الولود: وللرجل كذلك أن يختار المرأة الولود، ويعرف ذلك بسلامة بدنها وبمقارنتها بأخواتها وعماتها وخالاتها، قال صلي الله عليه وسلم: (تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) [أبو داود والنسائي].
3- البكر: كما يستحب أن تكون الزوجة بكرًا لقوله صلي الله عليه وسلم لجابر -رضى الله عنه-: (فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك) [متفق عليه].
4- أن تكون أجنبية: لأن ذلك أدعى للألفة والعشرة أكثر من القريبة، لما ذلك من فوائد، منها:
أ - الحفاظ على صلة الرحم وعدم قطعها، لأنه في الغالب ما تحدث خلافات بين الزوجين، فلا يفضي إلا إلى قطع الرحم.
ب- ليكون الولد أقوى؛ لأنه غالبًا ما يكون المولود من القريبة ضعيف الجسد. ولكن زواج الأقارب ليس فيه أية شبهة.
5- أن يكون بها نسبة من الجمال: لتسكن به نفسه، ويغض به بصره، ولتكمل المودة بين الزوجين؛ إن نظر إليها سرته. والجمال نسبي، يختلف من شخص لآخر.
وكما أن من حق الزوج أن يختار زوجته، فإن على الزوجة أن تختار لها صاحب الدين والخلق والقدرة على تحمل أعباء الزواج، الذي يصون عرضها ويحسن معاشرتها، قال صلي الله عليه وسلم: (إذا جاءكم مَنْ ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد) [الترمذي وابن ماجة].(1/44)
48-7704 أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَجَابِرَ بْنَ عُمَيْرٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ يَرْمِيَانِ قَالَ : " فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَجَلَسَ " فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : " أَكَسِلْتَ ؟ " قَالَ : " نَعَمْ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ لَعِبٌ ، لَا يَكُونُ أَرْبَعَةٌ : مُلَاعَبَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ ، وَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ ، وَمَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ ، وَتَعَلُّمُ الرَّجُلِ السَّبَّاحَةَ "(1)
49-7705 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ الْحَرَّانِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحِيمِ الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَجَابِرَ بْنَ عُمَيْرٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ يَرْمِيَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : لِصَاحِبِهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ فَهُوَ لَهْوٌ وَلَعِبٌ إِلَّا أَرْبَعَ ، مُلَاعَبَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ ، وَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ ، وَمَشْيُهُ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ ، وَتَعْلِيمُ الرَّجُلِ السَّبَّاحَةَ "(2)
50-7706 أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَجَابِرَ بْنَ عُمَيْرٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ يَرْمِيَانِ ، فَمَلَّ أَحَدُهُمَا فَجَلَسَ فَقَالَ الْآخَرُ : " كَسِلْتَ ؟ " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ لَغْوٌ وَلَهْوٌ إِلَّا أَرْبَعَةَ خِصَالٍ : مَشْيٌ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ ، وَتَأْدِيبُهُ فَرَسَهُ ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ ، وَتَعْلِيمُ السَّبَّاحَةِ "(3)
__________
(1) - المسند الجامع برقم(3088) وهو صحيح
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 10 / ص 380)
6316 - (كل شيء ليس من ذكر اللّه فهو لهو ولعب) فهو مذموم واللذة التي لا تعقب ألماً في الآخرة ولا التوصل إلى لذة هناك فهي باطلة إذ لا نفع فيها ولا ضرر وزمنها قليل ليس لتمتع النفس بها قدر (إلا أن يكون أربعة) أي واحد من أربعة هي (ملاعبة الرجل امرأته وتأديب الرجل فرسه ومشي الرجل بين الغرضين(1)) قال القرطبي: فيه تحريم الغناء لأنه لم يرخص في شيء منه إلا في هذه الثلاثة فيحرم ما سواها من اللهو لأنه باطل كما في خبر آخر (وتعليم الرجل السباحة) أي العوم فإنه عون ولهذا كانت لذة اللعب بالدف جائزة لإعانتها على النكاح كما تعين لذة الرمي بالقوس وتأديب الفرس على الجهاد وكلاهما محبوب للّه فما أعان على حصول محبوبه فهو من الحق ولهذا عد ملاعبة الرجل امرأته من الحق لإعانتها على النكاح المحبوب للّه ولما كانت النفوس الضعيفة كالمرأة والصبي لا تنقاد إلى أسباب اللذة العظمى إلا بإعطائها شيئاً من اللهو واللعب بحيث لو فطمت بالكلية طلبت ما هو شر لها منه رخص لهما في ذلك ما لم يرخص لغيرهما كما دخل عمر على النبي صلى اللّه عليه وسلم وعنده جوار يضربن بالدف فأسكتهنّ لدخوله قائلاً: هو لا يحب الباطل ولم يمنعهن لما يترتب عليه من المفسدة.
- (ن) من حديث عطاء بن أبي رباح (عن جابر بن عبد اللّه وجابر بن عمير) الأنصاري قال: رأيتهما يرميان فمل أحدهما فجلس فقال الآخر: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول فذكره رمز لحسنه وهو تقصير فقد قال في الإصابة: إسناده صحيح فكان حق المصنف أن يرمز لصحته وجابر هذا قال البخاري: له صحبة وقال ابن حبان: يقال له صحبة.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 12 / ص 355)
تعلم الرمي والسباحة محمود شرعاً رقم الفتوى:21898تاريخ الفتوى:29 جمادي الثانية 1423السؤال : الحديث :علموا أبناؤكم السباحة والرماية وركوب الخيل هل هذا الحديث صحيح أم ضعيف ؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد أورد هذا الأثر صاحب كتاب كنز العمال عن مكحول أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أهل الشام: أن علموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية. ونسبه إلى كتاب "القراب في فضائل الرمي"
وكذا ذكره المناوي في "فيض القدير" ولم يحكم عليه واحد منهما بصحة أو ضعف.
ومما ورد في معناه من الأحاديث المرفوعة ما ذكره السيوطي في الجامع الصغير؛ وهما حديثان: أحدهما بلفظ: علموا أبناءكم السباحة والرماية، ونعم لهو المؤمنة في بيتها المغزل.
والآخر بلفظ: علموا أبناءكم السباحة والرمي، والمرأة المغزل.
إلا أن الشيخ الألباني قد قال عن الأول إنه ضعيف، وعن الثاني إنه ضعيف جداً.
وقد ورد الأمر بتعلم الرمي في حديث صحيح رواه البخاري عن سلمه بن الأكوع رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً. وفي صحيح مسلم عن أبي علي ثمامة بن شفي أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي.
وورد في فضل الخيل ما رواه البخاري ومسلم عن عروة البارقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
وورد في تعلم السباحة ما رواه الطبراني والنسائي وصحح الألباني إسناده كما في صحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل شيء ليس فيه ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أربع: ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشيه بين الغرضين، وتعليم الرجل السباحة.
والله أعلم.
(2) -صحيح انظر ما قبله
(3) - المجمع برقم(9390) وصحيح الترغيب برقم(1282) صحيح انظر ما قبله(1/45)
مُضَاحَكَةُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ
51-7707 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كُنَّا نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي : " أَتَزَوَّجْتَ بَعْدَ أَبِيكَ ؟ " قُلْتُ : نَعَمْ قَالَ : " أَثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا ؟ " قُلْتُ : ثَيِّبًا قَالَ : " فَهَلَّا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُضَاحِكُكَ وَتُضَاحِكُهَا ، وَتُلَاعِبُكَ وَتُلَاعِبُهَا "(1)
----------------
(1) -أخرجه مسلم برقم(3715) والمسند الجامع برقم(2536)
شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 202)
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تُلَاعِبهَا ) عَلَى اللَّعِب الْمَعْرُوف وَيُؤَيِّدهُ تُضَاحِكهَا وَتُضَاحِكك . قَالَ بَعْضهمْ : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون مِنْ اللُّعَاب وَهُوَ الرِّيق
وَفِيهِ فَضِيلَة تَزَوُّج الْأَبْكَار وَثَوَابهنَّ أَفْضَل .
وَفِيهِ مُلَاعَبَة الرَّجُل اِمْرَأَته وَمُلَاطَفَته لَهَا وَمُضَاحَكَتهَا وَحُسْن الْعِشْرَة .
وَفِيهِ سُؤَال الْإِمَام الْكَبِير أَصْحَابه عَنْ أُمُورهمْ وَتَفَقُّد أَحْوَالهمْ وَإِرْشَادهمْ إِلَى مَصَالِحهمْ وَتَنْبِيههمْ عَلَى وَجْه الْمَصْلَحَة فِيهَا .
وفيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 10 / ص 121)
5902 - (فهلا) تزوجت جارية (بكراً) يا جابر بن عبد اللّه الذي أخبر بأنه تزوج ثيباً قال في المفتاح: وهلا يطلب بها حصول النسبة ولهذا امتنع هل عندك عمرو أم بشر بالاتصال دون الانقطاع فقوله فهلا بكراً أي فهلا تزوجت بكراً ثم علله بقوله (تلاعبها وتلاعبك) اللعب المعروف وقيل هم من اللعاب وهو الريق ويؤيد الأول قوله (وتضاحكها وتضاحكك) وذلك ينشأ عن الألفة التامة فإن الثيب قد تكون معلقة القلب بالزوج الأول فلم يكن لها محبة كاملة بخلاف البكر ذكره الطيبي فأفاد ندب تزويج البكر وملاعبة الرجل امرأته وملاطفتها ومضاحكتها وحسن العشرة وغير ذلك.
- (حم ق د ن ه) في النكاح (عن جابر) قال: قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أتزوجت بعد أبيك؟ قلت: نعم. قال: بكراً أم ثيباً قلت: ثيباً فذكره.
عون المعبود - (ج 4 / ص 432)
( تُلَاعِبهَا وَتُلَاعِبك ) : تَعْلِيل التَّزْوِيج الْبِكْر لِمَا فِيهِ مِنْ الْأُلْفَة التَّامَّة فَإِنَّ الثَّيِّب قَدْ تَكُون مُتَعَلِّقَة الْقَلْب بِالزَّوْجِ الْأَوَّل فَلَمْ تَكُنْ مَحَبَّتهَا كَامِلَة بِخِلَافِ الْبِكْر . وَذَكَرَ اِبْن سَعْد أَنَّ اِسْم اِمْرَأَة جَابِر الْمَذْكُور سَهْلَة بِنْت مَسْعُود بْن أَوْس بْن مَالِك الْأَنْصَارِيَّة الْأَوْسِيَّة . قَالَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ . وَفِي الْحَدِيث دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب نِكَاح الْأَبْكَار إِلَّا لِمُقْتَضٍ لِنِكَاحِ الثَّيِّب كَمَا وَقَعَ لِجَابِرٍ فَإِنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ هَلَكَ أَبِي وَتَرَكَ سَبْع بَنَات أَوْ تِسْع بَنَات فَتَزَوَّجْت ثَيِّبًا كَرِهْت أَنْ أَجِيئهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ ، فَقَالَ بَارَكَ اللَّه لَك . هَكَذَا فِي الْبُخَارِيّ فِي النَّفَقَات . وَفِي رِوَايَة لَهُ ذَكَرَهَا فِي الْمَغَازِي مِنْ صَحِيحه كُنَّ لِي تِسْع أَخَوَات فَكَرِهْت أَنْ أَجْمَع إِلَيْهِنَّ جَارِيَة خَرْقَاء مِثْلهنَّ وَلَكِنْ اِمْرَأَة تَقُوم عَلَيْهِنَّ وَتُمَشِّطهُنَّ ، قَالَ أَصَبْت .
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 81 / ص 8)
ما يستحب في الزوجة من أوصاف
ذهب الفقهاء إلى أنه يستحب لمن أراد النكاح أن يتخير المرأة التي تجتمع فيها الأوصاف التالية، أو بعضها
أ- أن تكون ذات دين
31 - ذهب الفقهاء إلى أنه يستحب للرجل أن يتخير للنكاح المرأة ذات الدين، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( "تنكح المرأة لأربع لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " ) أي استغنيت إن فعلت، أو افتقرت إن لم تفعل.
وفسر الشافعية ذات الدين بالتي توجد فيها صفة العدالة والحرص على الطاعات والأعمال الصالحة والعفة عن المحرمات، لا العفة عن الزنا فقط.
وقال الحنفية يندب أن يختار الزوج من فوقه خلقا وأدبا وورعا .
41 228 ب- أن تكون بكرا
32 - ذهب الفقهاء إلى أنه يستحب اختيار البكر للنكاح لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( عليكم بالأبكار، فإنهن أعذب أفواها، وأنتق أرحاما، وأرضى باليسير " ) أي أطيب كلاما وأكثر أولادا، وأرضى باليسير.
إلا أن الشافعية والحنابلة نصوا على أن الثيب أولى لمن له مصلحة أرجح في نكاح الثيب فيقدمها على البكر مراعاة للمصلحة، كالعاجز عن الافتضاض، ومن عنده عيال يحتاج إلى من تقوم عليهن ، كما استصوبه النبي صلى الله عليه وسلم من جابر رضي الله عنه، فقد ( روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "فهلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك؟ فقال جابر يا رسول الله، توفي والدي- أو استشهد - ولي أخوات صغار فكرهت أن أتزوج مثلهن فلا تؤدبهن ولا تقوم عليهن فتزوجت ثيبا". وفي رواية "فأحببت أن أتزوج امرأة تقوم عليهن وتمشطهن. فقال صلى الله عليه وسلم أصبت " ) وفي رواية أخرى ( "فقال جابر إن أبي قتل يوم أحد وترك تسع بنات كن لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تمشطهن وتقوم عليهن قال صلى الله عليه وسلم أصبت " )
ج- أن تكون حسيبة
33 - ذهب الفقهاء إلى أنه يستحب أن يتخير الرجل لنكاحه المرأة الحسيبة النسيبة، أي طيبة الأصل، وذات الحسب هي التي يكون أصولها ذوي شرف وكرم وديانة، لنسبتها إلى 41 229 العلماء والصلحاء، ( لقوله صلى الله عليه وسلم فيما تنكح له المرأة "لحسبها " ) وليكون ولدها نجيبا، فإنه ربما أشبه أهلها ونزع إليهم.
لكن الحنفية قالوا يندب أن تكون المرأة دون زوجها حسبا لتنقاد له ولا تحتقره، وإلا ترفعت عليه، لما روي عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( "من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلا، ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقرا، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة، ومن تزوج امرأة لم يتزوجها إلا ليغض بصره، أو ليحصن فرجه أو يصل رحمه بارك الله له فيها وبارك لها فيه " )
وزاد الحنابلة وسن أن تكون من بيت معروف بالدين والقناعة لأنه مظنة دينها وقناعتها .
د- أن تكون ودودا ولودا
34 - ذهب الفقهاء إلى أنه يستحب أن تكون المرأة التي تختار للنكاح ودودا ولودا لحديث أنس رضي الله تعالى عنه ( "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة " ) ويعرف كون البكر ولودا بكونها من نساء يعرفن بذلك .
هـ - أن تكون جميلة
35 - ذهب الفقهاء إلى أنه يستحب أن تختار للنكاح المرأة الحسناء ذات الجمال، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال ( "قيل يا رسول الله أي النساء خير؟ قال التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله " ) ولما روى يحيى بن جعدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( "خير فائدة أفادها المرء المسلم بعد إسلامه امرأة جميلة تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، 41 230 وتحفظه في غيبته وماله ونفسها ". ) ولأن جمال الزوجة أسكن لنفس الزوج وأغض لبصره وأكمل لمودته، ولذلك جاز النظر إليها قبل النكاح .
و- أن تكون عاقلة حسنة الخلق
36 - ذهب الفقهاء إلى أنه يستحب أن تكون المرأة التي تختار للنكاح وافرة العقل، حسنة الخلق، لا حمقاء ولا سيئة الخلق، لأن النكاح يراد للعشرة الحسنة، ولا تصلح العشرة مع الحمقاء، ولا يطيب معها عيش، وربما تعدى ذلك إلى ولدها، وقد قيل اجتنبوا الحمقاء فإن ولدها ضياع وصحبتها بلاء .
ز- أن تكون أجنبية
37 - ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يستحب فيمن تختار للنكاح أن تكون أجنبية من الزوج ولا تكون ذات قرابة قريبة، وقالوا يستحب للرجل أن لا يتزوج من عشيرته لأن ولد الأجنبية يكون أنجب، ولأنه لا يأمن الطلاق فيفضي مع القرابة إلى قطيعة الرحم المأمور بصلتها .
ح- أن تكون خفيفة المهر والمؤنة
38 - قال الحنفية والشافعية والحنابلة يستحب أن يتحرى الرجل فيمن ينكحها أن تكون أيسر النساء خطبة ومؤنة، وأن تكون خفيفة المهر ، لما ورد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( "إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها وتيسير رحمها، ) وقال عروة وأنا أقول من أول شؤمها أن يكثر صداقها " .
ط- أن لا تكون ذات ولد
39 - نص الحنفية والشافعية والحنابلة على أنه يستحب أن يتحرى الرجل فيمن ينكحها أن لا تكون ذات ولد من غيره إلا لمصلحة، فإن كانت مصلحة فلا قيد ، لأن ( رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة ومعها ولد أبي سلمة رضي الله تعالى عنهم )
ي- أن لا تكون مطلقة ولا في حلها خلاف
40 - نص الشافعية على أنه يستحب أن لا تكون المرأة التي يراد نكاحها مطلقة لها إلى مطلقها رغبة، وأن لا يكون في حلها لمن يريد نكاحها خلاف فقهي كأن زنى أو تمتع بأمها، أو بها، فرعه أو أصله، أو شك بنحو رضاع .(1/45)
مُسَابَقَةُ الرَّجُلِ زَوْجَتُهُ
52-7708 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سَابَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقْتُهُ حَتَّى إِذَا رَهِقَنَا اللَّحْمُ سَابَقَنِي فَسَبَقَنِي فَقَالَ : " هَذِهِ بِتِيكِ "(1)
__________
(1) - أخرجه أحمد برقم ( 24846) والحميدي برقم(278) وابن حبان برقم(4777) والمسند الجامع برقم(17006) صحيح
نيل الأوطار - (ج 12 / ص 413)
قَوْلُهُ : ( حَتَّى إذَا أَرْهَقَنِي اللَّحْمُ ) أَيْ كَثُرَ لَحْمِي ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ أَرْهَقَهُ طُغْيَانًا غَشَّاهُ إيَّاهُ ، وَقَالَ : رَهِقَهُ كَفَرِحَ غَشِيَهُ .
وَفِي الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَرْجُلِ وَبَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْمَحَارِمُ وَأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْوَقَارَ وَالشَّرَفَ وَالْعِلْمَ وَالْفَضْلَ وَعُلُوَّ السِّنِّ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَزَوَّجْ عَائِشَةَ إلَّا بَعْدَ الْخَمْسِينَ مِنْ عُمُرِهِ .
فتاوى الشيخ عبدالله بن عقيل - (ج 2 / ص 18)
[447] قصة تسابق النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة
قصة تسابق النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجته عائشة - رضي اللَّه عنها- هل هي ثابتة، وهل كانت في السفر أم في البلد؟
الإجابة:نعم القصة ثابتة صحيحة. رواها الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، ولفظ الحديث عن عائشة - رضي اللَّه عنها- أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر. قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني. فقال: «هذه بتلك السبقة» . وفي لفظ: سابقني النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني. فقال: «هذه بتلك» ( ) . وهذا منه صلى الله عليه وسلم من حسن خلقه مع أهله، وملاطفته لهم، وحسن المعاشرة، وفيه جواز المسابقة على الأقدام، وفيه إدخال الرجل السرور على زوجته بما يؤنسها، وهي سبقته في المرة الأولى؛ لأنها كانت فتاة شابة خفيفة لم تحمل من اللحم ما يثقلها، ويمنعها من قوة الجري؛ فلهذا سبقته، فصبر لها صلى الله عليه وسلم ، فلما كان بعد مدة، وجاءت مناسبة أخرى سابقها، وكانت في هذه المرة قد حملت من اللحم، وسمنت وأرهقها اللحم يعني: أثقلها فسبقها في هذه المرة. فقال صلى الله عليه وسلم تطييبًا لخاطرها: «هذه بتلك» ، يعني: هذه السبقة مني مقابل سبقتك الأولى لي؛ فحصل التعادل. وهذا من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم . رزقنا اتباع سنته، والاقتداء به، صلوات اللَّه وسلامه عليه.
-------------
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 10 / ص 164)
تمارس المرأة الرياضة بالشروط المذكورة رقم الفتوى:19381تاريخ الفتوى:06 جمادي الأولى 1423السؤال : هل الرياضة حرام بالنسبة للسيدات وبخاصة لعبة التنس؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الأصل أن ممارسة الرياضة جائزة في حق المرأة، ففي مسند أحمد وسنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سابقني النبي فسبقته، حتى إذا رهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال: "هذه بتلك" إسناده صحيح.
لكن لا بد لهذه الممارسة من ضوابط لتكون مشروعة منها:
أولاً: أن تكون هذه الرياضة تناسب طبيعة المرأة.
ثانياً: أن تكون هذه الممارسة -أحياناً- و ليس الغالب من حالها، حتى لا تشغل المرأة عن دورها الأساسي في الحياة.
ثالثاً: ألا تظهر مفاتنها بالصورة الفاضحة التي تمارس اليوم.
رابعاً: أن تكون بين نظيراتها من النساء أو مع محارمها، بعيداً عن الاختلاط بالرجال الأجانب.
فإذا توفرت هذه الشروط فلا حرج، وإلا فلا تجوز ممارسة المرأة للرياضة.
والله أعلم.
------------
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 35 / ص 230)
حكم لعب النساء رفع الأثقال رقم الفتوى:53237تاريخ الفتوى:28 رجب 1425السؤال:
هل لعب رفع الأثقال للنساء حرام؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأصل أن ممارسة الرياضة البدنية جائزة في حق المرأة، وقد دل على ذلك ما ورد في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود أن عائشة رضي الله عنها قالت: سابقني النبي فسبقته، حتى إذا رهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال: هذه بتلك.
ويشترط لإباحة رياضة المرأة أن لا تؤدي إلى كشف عورتها، أو إظهار مفاتنها أمام من لا يحل له أن يرى منها ذلك، وأن لا يشترك معها فيها رجال أو أجانب، وأن تكون ملائمة لطبيعتها وأنوثتها، وراجع في هذا فتوانا رقم: 11213.
وعليه، فلعب رفع الأثقال للنساء ليس حراماً إذا تقيد بهذه الضوابط.
والله أعلم.
-------------
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 57 / ص 83)
ممارسة المرأة الرياضة بإشراف مدربة غير مسلمة رقم الفتوى:74362تاريخ الفتوى:16 ربيع الثاني 1427السؤال:
أنا مع مجموعة من السيدات المسلمات نعيش في إحدى الدول الغربية وهذه الدول لديها نظام المركز الاجتماعي والذي يقدم خدمات رياضية وغيرها لسكان الحي المقيمين حوله وبأسعار مخفضة وسهولة التعامل عن المراكز الخاصة للسيدات والتي تبعد عنا خاصة ممن لا يقود السيارات منا وبحكم تواجدنا هناك في بعض البرامج الأخرى والتي نحرص على أن تكون سيدات فقط وإن استطعنا في الأغلب تكون للمسلمات فقط ولكننا لا نستطبع تأكيد هذا الطلب لأن العاملين قد بتفهموا كون الطلب للسيدات فقط فهذا مقبول لديهم ولكن لديانة محددة فقد تكون وهذا مع كل الديانات ولكن بإيجار عال وهو ما لا نستطيعه وقد قدمنا طلبا لتغطية قاعة بالستائر حتى لا تكون مكشوفة لاستخدامها في عمل تمارين رياضية فرحب المسؤولون بالفكرة وقاموا بإتمام الأمر وهذا كله مجاني فقط حرصا على أن يشارك كل أفراد الحي في أنشطة المركز وقاموا بتعيين مدربة حتى تعلمنا التمارين وسنسألها إن شاء الله إلا انه يكون هذا من خلال موسيقى وسيكون الأجر معقولا بالنسبة لنا ونقوم بدفعه للمركز ولأن الأمر من خلالهم فتعيين المدربة من العاملين في برامجهم الرياضية، وسؤالنا هو ما الحكم في قيام سيدة غير مسلمة بتدريبنا حيث لا توجد مدربة مسلمة هذا مع الحرص على ارتدائنا للحجاب ولكن بالطبع سنقوم بالقيام بالحركات أمامها والتي قد يكون بها تمدد على الأرض وغيرها مما يصاحب التمارين الرياضية
وجزاكم الله خيرا وعذرا للإطالة
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأصل أن ممارسة الرياضة جائزة في حق المرأة، ففي مسند أحمد وسنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سابقني النبي فسبقته، حتى إذا رهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال: "هذه بتلك" إسناده صحيح.
لكن لا بد لهذه الممارسة من ضوابط لتكون مشروعة منها:
أولا: أن تكون هذه الرياضة تناسب طبيعة المرأة.
ثانيا: أن تكون هذه الممارسة -أحيانا- و ليس الغالب من حالها، حتى لا تشغل المرأة عن دورها الأساسي في الحياة.
ثالثا: ألا تظهر مفاتنها بالصورة الفاضحة التي تمارس اليوم.
رابعا: أن تكون بين نظيراتها من النساء أو مع محارمها، بعيدا عن الاختلاط بالرجال الأجانب.
خامسا: أن لا تكون بحيث ترى منها المرأة الكافرة غير الوجه والكفين، وقد بينا ذلك من قبل، ولك أن تراجعي فيه فتوانا رقم: 7254.
فإذا توفرت هذه الشروط فلا حرج، وإلا فلا تجوز ممارسة المرأة للرياضة.
والله أعلم.(1/46)
53-7709 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، عَنْ هِشَامٍ يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأنا خَفِيفَةُ اللَّحْمِ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : " تَقَدَّمُوا " ثُمَّ قَالَ لِي : " تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ فَسَابَقَنِي فَسَبَقْتُهُ " ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ فِي سَفَرٍ آخَرَ ، وَقَدْ حَمَلْتُ اللَّحْمَ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : " تَقَدَّمُوا " ثُمَّ قَالَ لِي : تَعَالَيْ أُسَابِقُكِ " فَسَابَقَنِي فَسَبَقَنِي فَضَرَبَ بِيَدِهِ كَتِفِي وَقَالَ : " هَذِهِ بِتِلْكَ "(1)
__________
(1) - أبو داود برقم(2580) وأحمد برقم(27031) والببيهقي في السنن برقم( 20252 و20253) والحميدي برقم(278) صحيح
عون المعبود - (ج 5 / ص 493)
2214 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( عَنْ أَبِيهِ ) : عُرْوَة
( وَعَنْ أَبِي سَلَمَة ) : فَهِشَام يَرْوِيه عَنْ شَيْخَيْهِ عُرْوَة وَأَبِي سَلَمَة
( فَسَابَقْته ) : أَيْ غَالَبْته فِي السَّبْق أَيْ فِي الْعَدْو وَالْجَرْي
( فَسَبَقْته ) : أَيْ غَلَبْته وَتَقَدَّمْت عَلَيْهِ
( عَلَى رِجْلِي ) : أَيْ لَا عَلَى دَابَّة
( فَلَمَّا حَمَلْت اللَّحْم ) : أَيْ سَمِنْت
( سَابَقْته ) : أَيْ مَرَّة أُخْرَى
( هَذِهِ ) : أَيْ هَذِهِ السِّبْقَة ، وَالْمَعْنَى تَقَدُّمِي عَلَيْك فِي هَذِهِ النَّوْبَة فِي مُقَابَلَة تَقَدُّمك فِي النَّوْبَة الْأُولَى .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ .
المحلى لابن حزم - (ج 3 / ص 305)
971 - مَسْأَلَةٌ : وَالْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْلِ , وَالْبِغَالِ , وَالْحَمِيرِ , وَعَلَى الأَقْدَامِ : حَسَنٌ , وَالْمُنَاضَلَةُ بِالرِّمَاحِ , وَالنَّبَلِ , وَالسُّيُوفِ : حَسَنٌ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا أَبُو صَالِحٍ مَحْبُوبُ بْنُ مُوسَى الأَنْطَاكِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيّ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ قَالَتْ سَابَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلِي فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي , فَقَالَ : هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ نَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نَافِعٍ هُوَ مَوْلَى أَبِي أَحْمَدَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لاَ سَبَقَ إِلاَّ فِي حَافِرٍ , أَوْ خُفٍّ , أَوْ نَصْلٍ.قال أبو محمد رحمه الله : الْخُفُّ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الإِبِلِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالْحَافِرُ فِي اللُّغَةِ لاَ يَقَعُ إِلاَّ عَلَى الْخَيْلِ , وَالْبِغَالِ , وَالْحَمِيرِ. وَالنَّصْلُ لاَ يَقَعُ إِلاَّ عَلَى السَّيْفِ , وَالرُّمْحِ , وَالنَّبْلِ. وَالسَّبَقُ هُوَ مَا يُعْطَاهُ السَّابِقُ.
972 - مَسْأَلَةٌ : وَالسَّبَقُ هُوَ أَنْ يُخْرِجَ الأَمِيرُ , أَوْ غَيْرُهُ مَالاً يَجْعَلُهُ لِمَنْ سَبَقَ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ , فَهَذَا حَسَنٌ. وَيُخْرِجُ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَا مَالاً فَيَقُولُ لِصَاحِبِهِ : إنْ سَبَقْتنِي فَهُوَ لَك , وَإِنْ سَبَقْتُك فَلاَ شَيْءَ لَك عَلَيَّ , وَلاَ شَيْءَ لِي عَلَيْك , فَهَذَا حَسَنٌ. فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ يَجُوزَانِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا ، وَلاَ يَجُوزُ إعْطَاءُ مَالٍ فِي سَبَقٍ غَيْرِ هَذَا أَصْلاً لِلْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالاً يَكُونُ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ أَصْلاً إِلاَّ فِي الْخَيْلِ فَقَطْ. ثُمَّ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْخَيْلِ أَيْضًا إِلاَّ بِأَنْ يُدْخِلاَ مَعَهَا فَارِسًا عَلَى فَرَسٍ يُمْكِنُ أَنْ يَسْبِقَهُمَا , وَيُمْكِنُ أَنْ لاَ يَسْبِقَهُمَا , وَلاَ يُخْرِجُ هَذَا الْفَارِسُ مَالاً أَصْلاً فَأَيُّ الْمُخْرِجَيْنِ لِلْمَالِ سَبَقَ أَمْسَكَ مَالَهُ نَفْسَهُ وَأَخَذَ مَا أَخْرَجَ صَاحِبُهُ حَلاَلاً , وَإِنْ سَبَقَهُمَا الْفَارِسُ الَّذِي أَدْخَلاَ وَهُوَ يُسَمَّى الْمُحَلِّلُ أَخَذَ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا فَإِنْ سُبِقَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَمَا عَدَا هَذَا فَحَرَامٌ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى السَّابِقِ إطْعَامُ مَنْ حَضَرَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مُسَدَّدٌ نَا الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ نَا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ يَعْنِي وَهُوَ لاَ يُؤْمِنُ أَنْ يُسْبَقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ , وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يُسْبَقَ فَهُوَ قِمَارٌ.
قال أبو محمد رحمه الله : مَا عَدَا هَذَا فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2424)
«إكرام الأنثى حين تكون زوجةً»
8 - أمر اللّه تعالى بإحسان معاشرة الزّوجة فقال : «وعاشِرُوهُنَّ بالمعروف» قال ابن كثيرٍ : أي طيّبوا أقوالكم لهنّ ، وحسّنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم ، كما تحبّ ذلك منها فافعل أنت بها مثله ، قال تعالى : «ولهنّ مِثْلُ الّذي عليهنّ بالمعروف» .
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي » ، وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنّه جميل العشرة دائم البشر ، يداعب أهله ويتلطّف بهم ويوسّع عليهم في النّفقة ويضاحك نساءه ، حتّى أنّه كان يسابق عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها يتودّد إليها بذلك ، « قالت : سابقني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللّحم ، ثمّ سابقته بعدما حملت اللّحم فسبقني فقال : هذه بتلك » ، و « كان إذا صلّى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام » .
وينبغي الصّبر على الزّوجة حتّى لو كرهها ، قال اللّه تعالى : «فإنْ كَرِهْتمُوهنّ فعسى أن تَكْرهوا شيئاً ويجعَلَ اللّه فيه خيراً كثيراً» قال ابن كثيرٍ ، أي فعسى أن يكون صبركم في إمساكهنّ مع الكراهة فيه خير كثير لكم في الدّنيا والآخرة ، كما قال ابن عبّاسٍ : هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً ويكون في ذلك الولد خير كثير ، وفي الحديث الصّحيح : « لا يفرك مؤمن مؤمنةً ، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر » .
هذا ، وحقوق الزّوجة على زوجها مبسوطة في باب النّكاح من كتب الفقه ، ونذكر هنا مثلاً واحداً ممّا ذكره الفقهاء ، يتّصل بإكرام أمومة الأنثى ، فقد أكثر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الوصاية بالأمّ وقدّمها في الرّعاية على الأب ، روى البخاريّ ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : « جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه مَنْ أحقّ بِحُسْن صحابتي ؟ قال : أمّك ، قال : ثمّ من ؟ قال : أمّك ، قال : ثمّ من ؟ قال : أمّك ، قال : ثمّ من ؟ قال : أبوك » .
وجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رضاها طريقاً إلى الجنّة ، فقد قال رجل : « يا رسول اللّه أردت الغزو وجئت أستشيرك ، فقال : فهل لك من أمٍّ ؟ قال : نعم ، قال : فالزمها ، فإنّ الجنّة عند رجليها » .
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12944)
لَعِب
التّعريف
1 - اللَّعِب - بفتح اللام وكسر العين ويجوز لِعْب بكسر اللام وسكون العين - في اللغة : ضد الجدّ , يقال : لعب فلانٍ إذا كان فعله غير قاصدٍ به مقصداً صحيحاً , ومنه قوله تعالى : « قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ الََلاعِبِينَ » , ولعب : عمل عملاً لا يجدي نفعاً , واللّعبة : كل ما يلعب به , وهو بكسر اللام اسم للحال والهيئة الّتي يكون اللاعب عليها , وبالفتح المرّة الواحدة .
وقيل : اللّعب عمل للّذّة لا يراعى فيه داعي الحكمة كعمل الصّبيّ , لأنّه لا يعرف الحكمة وإنّما يعمل للّذّة .
ولا يخرج معناه الاصطلاحي عن معناه اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة
«اللّهو»
2 - اللّهو في اللغة : السلوان , والتّرويح عن النّفس بما لا تقتضيه الحكمة , وهو أيضاً : ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه أو يهمه من هوىً وطربٍ ونحوهما .
والفرق بين اللّهو واللّعب أنّه لا لهو إلا وهو لعب , وقد يكون لعب ليس بلهو , لأنّ اللّعب يكون للتّأديب كاللّعب بالشّطرنج وغيره , ولا يقال لذلك «لهو , وإنّما اللّهو لعب لا يعقب نفعاً. الحكم التّكليفي»
3 - اللّعب منه ما هو مباح ومنه ما هو مستحب ومنه ما هو مكروه ومنه ما هو محرّم . فمن اللّعب المباح المسابقة المشروعة على الأقدام والسفن ونحو ذلك , لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان في سفرٍ مع عائشة رضي الله عنها فسابقته على رجلها فسبقته قالت : فلمّا حملتُ اللّحم سابقته فسبقني فقال : هذه بتلك السّبقة » .
وإباحة اللّعب إنّما يكون بشرط أن لا يكون فيه دناءة يترفّع عنها ذوو المروءات , وبشرط أن لا يتضمّن ضرراً فإن تضمّن ضرراً لإنسان أو حيوانٍ كالتّحريش بين الديوك والكلاب ونطاح الكباش والتّفرج على هذه الأشياء فهذا حرام , وبشرط أن لا يشغل عن صلاةٍ أو فرضٍ آخر أو عن مهمّاتٍ واجبةٍ فإن شغله عن هذه الأمور وأمثالها حرم , وبشرط أن لا يخرجه إلى الحلف الكاذب ونحوه من المحرّمات ومن اللّعب المباح المزاح والانبساط مع الزّوجة والولد ليعطي الزّوجة والنّفس والولد حقّهم .
ومن اللّعب المستحبّ المناضلة على السّهام والرّماح والمزاريق وكل نافعٍ في الحرب لقول اللّه سبحانه وتعالى : « وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ » , وقال النّبي صلى الله عليه وسلم في تفسير القوّة في الآية : « ألا إنّ القوّة الرّمي ثلاث مرّاتٍ » .
والتّفصيل في مصطلح : « سباق ف 5 وما بعده » .
ومن اللّعب المكروه اللّعب بالطّير والحمام لأنّه لا يليق بأصحاب المروءات والإدمان عليه قد يؤدّي إلى إهمال المصالح ويشغل عن العبادات والطّاعات .
ومن اللّعب المحرّم عند الفقهاء : كل لعبةٍ فيها قمار لأنّها من الميسر الّذي أمر اللّه باجتنابه في قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ » .
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 13 / ص 329)
الاحتراف الرياضي
المجيب أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف الفهرسة/ وسائل الإعلام والترفيه والألعاب والتصوير والتمثيل /الترفيه والألعاب
التاريخ 21/1/1424هـ
السؤال
السلام عليكم.
ما حكم الدين في ممارسة لعبة كرة القدم؟ وما الحكم في الأموال المكتسبة منها؟ أرجو أن تفيدونا بالأدلة الشرعية وبالتفصيل، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الأصل في الرياضة في الإسلام الحل والجواز؛ لأنها تقوية للجسم وإعداد للقوة في سبيل الله قال -صلى الله عليه وسلم-:"لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر" ابن ماجة (2878)، والنسائي (3585)، وأحمد (10138)، وسابق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم المؤمنين عائشة مرتين مرة وهي خفيفة شابة سبقته ومرة وهي ثقيلة بعد أن أثقلها اللحم فسبقها فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"يا عائشة هذه بتلك" انظر الإرواء (1502) وصارع ركانة الأعرابي فصرعه فأسلم انظر الإرواء (1503)، ومن أنواع الرياضة كرة القدم وهي جائزة شرعاً؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل الحظر سواء كان لعبها عفوياً تقليدياً أو كان منتظماً مقنناً، غير أن الناظر في لعبة كرة القدم اليوم يلاحظ أنها تشتمل عل محظورات ومخالفات شرعية مثل كشف الفخذين وهما عورة -وهي بين الشباب أشد- وذلك لحديث "يا علي غط فخذك فإن الفخذ عورة" انظر الإرواء (269)، ومنها إثارة الفرقة والشحناء والتحزبات المقيتة التي قد تصل إلى القطيعة بين الشباب المسلم بل ربما بين الإخوة الأشقاء في البيت الواحد. وقد يتعدى ذلك إلى الاعتداء الجسدي والأخلاقي، وأخطر من ذلك كله أن هذه اللعبة -كرة القدم- قد شغلت الناس وألهتهم عن ذكر الله وعن الصلاة وكل ما ينفعهم، وقد فطن اليهود إلى هذه المعاني السيئة والخطيرة فعملوا على نشرها وشغل الناس بها ففي أحد بروتكولات حكماء صهيون (يجب أن نشغل الأميين _وهم ما عدا اليهود- بالرياضة والفن) فانتشرت بين الناس أنواع القنوات الهابطة ورياضة كرة القدم التي سلبت عقول الكثيرين حتى أصبحت غاية وهدفاً يجتمع الناس ويتفرقون عليها ولعل من التنبيه إلى أن تقوية الجسم بكرة القدم لا يستفيد منها غير اللاعبين في الميدان والذين لا يتجاوز عددهم (12) لاعباً أما الآلاف المؤلفة من المشاهدين والمشجعين فلا يستفيدون شيئاً بل يخسرون كثيراً، وإن تقوت أجسام أولئك اللاعبين واتسمت بالخفة والرشاقة لكنهم لم يتحملوا شيئاً من التعب في غيرها، وإن قل وما ذكره بعض السلف كشيخ الإسلام بن تيمية في الفتاوى من "أن لعب الكرة فيه تدريب على الجهاد والكر والفر" فلا أعتقد بحال إن هذا ينطبق على لعب كرة القدم اليوم لا من بعيد ولا من قريب وذلك لأن مفهوم الجهاد في قوانين كرة القدم غائب ومغيب علاوة على أن وسائل الجهاد لا تعتمد على الأقدام والأسلحة التقليدية، ولو قيل إن لعب كرة القدم ومشاهدتها نوع من التسلية المباحة لقلنا نعم ولكن التسلية تكون بقدر محدود في حياة المسلم وأوقاته فهي أي التسلية أشبه بالملح مع الطعام في الكم. أما أن تطغى التسلية على الواجبات والوسيلة على الهدف فكما لو طغى الملح على الطعام وهذا غير مقبول في الشرع والعقل على السواء.
أما ما ينفق على لعب كرة القدم من أموال تعطى للفريق الفائز فهي جائزة شرعاً إن كيفت وخرجت على باب الجعالة في الفقه كأنه قيل: من فاز من الفريقين فله كذا وكذا من المال.
كما يقول الفقهاء من دلني على طبيب مختص يعالج مرضي فله عندي كذا ومن وجد سيارتي المفقودة فله عندي كذا، أو تخرج على باب المسابقة على الأقدام فيجوز أخذ العوض حينئذ وإن كان في أخذ مثل هذا خلاف بين العلماء غير أن الراجح جوازه كما حققه ابن القيم الجوزية في كتابه (الفروسية) وهو مذهب الإمام الشافعي ورواية لأحمد ويخرج الحديث السابق "لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر" سبق تخريجه، يأتي بحمل النفي فيه على نفي الكمال لا الحقيقة كحديث "لا ربا إلا في النسيئة" البخاري (2179)، ومسلم (1596)، أي لا ربا تام كامل إلا في النسيئة بدليل وجود ربا الفضل المحرم، وكحديث "لا صلاة وهو يدافعه الأخبثان" مسلم (560)، أي لا صلاة تامة إذ من المعلوم أن صلاة من هذه حاله صحيحة جائزة وإن نقص أجرها لعدم الخشوع التام.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 44 / ص 213)
الهدي الشرعي في رياضة المشي رقم الفتوى:64285تاريخ الفتوى:27 جمادي الأولى 1426السؤال:
هل يوجد في السنة النبوية أي حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام أو أي كلام على لسان الصحابة عن المشي بالتحديد كرياضة؟ ولكم جزيل الشكر.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم قول في شأن المشي كرياضة ولا عن أحد من صحابته الكرام حسبما اطلعنا عليه من دواوين السنة وكتب السير والتاريخ، وإنما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سابق عائشة رضي الله عنها فسبقته، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها، وقال لها: هذه بتلك. وذلك حينما ثقلت عائشة وأرهقها اللحم؛ كما تقول رواية أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه وصححه الألباني.
وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مشى تكفأ تكفؤا، وكان أسرع الناس مشية وأحسنها، قال علي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى.. كأنما ينحط من صبب. قال ابن القيم رحمه الله: وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء وأبعدها عن مشية الهوج والمهانة والتماوت، وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: خَبَّ في طوافه ثلاثاً ، والخبب ضرب من السير فيه إسراع.
ومما ينسب لعلي رضي الله عنه أنه أمر بالمشي بعد العشاء، قال ابن القيم: والصحيح أن ذلك من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، ونقله الغزالي في الإحياء عن بعض الأطباء، وذكره اليعقوبي في كتابه أدبة الأدب حيث قال:
واجتنب المنام قبل تمشى مائة خطوة إذا تعشى.
وعند عبد الرزاق: أن عمر سابق الناس بالمخمص من عسفان فسبقهم عمر، ثم أعاد الكرة فسبقه ابن الزبير، وذكره علاء الدين كذلك في كنز العمال والبيهقي في السنن. وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لسلمة بن الأكوع في مسابقة رجل من الأنصار في قفولهم من غزاة إلى المدينة فسبقه ابن الأكوع ، وفي فتح الباري من حديث ابن عمر مرفوعاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سافروا تصحوا... قال ابن حجر لما فيه من الرياضة. وقد ذكر الأطباء أن في المشيء رياضة وقوة وتحليلا ، وأن مما يحفظ الصحة إتعاب البدن قليلاً.
هذا يعضد ما ذكر فيما اطلعنا عليه من كتب أهل العلم.
والله أعلم.
موسوعة الأسرة المسلمة الشاملة - (ج 1 / ص 104)
بيتنا مرح
البيت المسلم لا يخلو من الدعابة والمرح، رغم أنه بيت جهد وعمل، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة في ذلك، فكان ضحاكًا بسامًا، فعن أبى أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أضحك الناس وأطيبهم نفسًا._[الطبراني].
والمرح في البيت المسلم لا يخدش الحياء، ولا يزعج الجيران، ولا يميت القلوب، ليس فيه سخرية، ولا غيبة، ولا عيب في أحد، لكنه يجدد النشاط، ويقضى على الرتابة والملل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (روحوا القلوب ساعة فساعة) [أبو داود] .
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يداعب أهله ويمازحهم، فامتلأت بيوته صلى الله عليه وسلم بالمرح والسعادة؛ فعن عائشة -رضى الله عنها- أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قالت: فسابقته فسبقتُه على رِجْلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، قال: (هذه بتلك السبقة) [أبو داود].
وعنها أيضا قالت: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا التي أسأم (أملُّ). فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو._[متفق عليه].
وكان صلى الله عليه وسلم يداعب صغار أهل بيته ويمازحهم ويضاحكهم، فعن عبدالله بن الحارث -رضى الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصُفُّ عبدالله وعبيد الله وكثيرًا من بنى العباس -رضى الله عنهم- ثم يقول: (من سبق إلى فله كذا وكذا). قال :فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلزمهم._[أحمد].
وعن جابر -رضى الله عنه- قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعينا إلى طعام، فإذا الحسين -رضى الله عنه- يلعب في الطريق مع صبيان فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم ثم بسط يده، فجعل حسين يفر ههنا وههنا فيضاحكه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخذه فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى بين رأسه وأذنيه ثم اعتنقه وقبله._[الطبراني].
التليفزيون والفيديو في البيت المسلم :
يعتبر التليفزيون من أخطر وسائل الإعلام الحديثة، وهو سلاح ذو حدين، فقد يستغل في غرس المبادئ والقيم، أو يكون معول هدم يحطم القيم ويفسد الأخلاق. ودور التليفزيون لا يقل خطورة عن دور الأسرة والمدرسة خاصة مع الأطفال والشباب، والبعض يطلق عليه الأب الثالث تعبيرًا عن شدة تأثيره معرفيّا ووجدانيًّا وسلوكيًّا على الأبناء، ومن هنا فلابد من الحذر مما يقدمه التليفزيون، وهذا ليس معناه رفض التليفزيون لذاته، ولكن المطلوب استخدامه فيما يفيد وفيما يرضي الله -سبحانه- بحيث يغرس الأخلاق ويدعو للفضيلة، وبذلك يصبح وسيلة للتعليم والتربية، وليس وسيلة لتحطيم الأفكار التي تلقاها الطفل من بيته ومدرسته.
فيجب عدم مشاهدة البرامج غير النافعة، وإقناع الأبناء بطريقة لطيفة بأن كثيرًا مما يعرض على شاشة التليفزيون ضرره أكثر من نفعه، كما يجب أن يتفادى أفراد الأسرة السهر أمام شاشة التليفزيون، لما في ذلك من إضاعة للوقت مما ينتج عنه ضياع صلاة الفجر في وقتها، أو التأخر في الاستيقاظ بالإضافة إلى الكسل والخمول لعدم الحصول على قسط كافٍ من النوم .
والفيديو أحد الأجهزة الإعلامية المهمة، ويجب التحكم فيما يعرض فيه من خلال الأب والأم، عندئذٍ يمكن استخدام هذا الجهاز استخدامًا صحيحًا، وذلك بمشاهدة البرامج النافعة والهادفة التي تساعد في تربية الأبناء وتوجيههم وتعليمهم، وما ظهر من أفلام تعالج قضايا مهمة للأسرة.
وعلى المسلمة أن تزود مكتبة بيتها بشرائط الفيديو العلمية والدينية، كما يجب عليها أن تراقب أبناءها فيما لديهم من أشرطة، وتتابعهم حتى لا تتسرب إليهم أفلام فاسدة عن طريق أصدقاء السوء، مع توفير البديل الصحيح الذي يشبع رغباتهم.(1/47)
54-7710 أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ ، عَنِ الْفَزَارِيِّ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَتَقَدَّمَ أَصْحَابُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " سَابِقِينِي " قَالَتْ : فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ وَحَمَلْتُ اللَّحْمَ قَالَ : " سَابِقِينِي ، فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي " فَقَالَ : " هَذِهِ بِتِلْكَ " (1)
55-7711 أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمِصِّيصِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَبُو عُثْمَانَ الصَّيَّادُ ، فِي كِتَابِ السِّيَرِ قَالَ : حَدَّثَنَا الْفَزَارِيُّ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : أَخْبَرْتِنِي عَائِشَةُ ، أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ وَهِيَ جَارِيَةٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : " تَقَدَّمُوا " ثُمَّ قَالَ : " تَعَالَيْ أُسَابِقْكِ ، فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلِي ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ خَرَجْتُ مَعَهُ فِي سَفَرٍ " فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : " تَقَدَّمُوا " ثُمَّ قَالَ : " تَعَالَيْ أُسَابِقْكِ " وَنَسِيتُ الَّذِي كَانَ وَقَدْ حَمَلْتُ اللَّحْمَ فَقُلْتُ : كَيْفَ أُسَابِقُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ؟ فَقَالَ : " لَتَفْعَلِنَّ ، فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي " فَقَالَ : " هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ (2)
__________
(1) - صحيح انظر ما قبله
(2) -صحيح انظر ما قبله(1/48)
إِبَاحَةُ الرَّجُلِ اللَّعِبَ لِزَوْجَتِهِ بِالْبَنَاتِ
56- 7712أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا عَلِيٌّ يَعْنِي ابْنَ مُسْهِرٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكُنَّ لِي صَوَاحِبَ يَأْتِينَنِي فَيَلْعَبْنَ مَعِي ، فَيَتَقَمَّعْنَ إِذَا رَأَيْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَرِّ بِهِنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي(1)
-------------------
(1) -أخرجه البخاري برقم(6130) ومسلم برقم(6640 و6641)و الطبراني في الأوسط برقم(676) وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الشيخ برقم( 14) والآداب للبيهقي برقم(622)
فتح الباري لابن حجر - (ج 17 / ص 316)
5665 - حَدِيث عَائِشَة " كُنْت أَلْعَب بِالْبَنَاتِ "
وَمُحَمَّد
شَيْخه فِيهِ هُوَ اِبْن سَلَّامٍ .
قَوْله : ( وَكَانَ لِي صَوَاحِب يَلْعَبْنَ مَعِيَ )
أَيْ مِنْ أَقْرَانهَا .
قَوْله : ( يَتَقَمَّعَن )
بِمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيد الْمِيم الْمَفْتُوحَة وَفِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ بِنُونٍ سَاكِنَة وَكَسْر الْمِيم وَمَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ يَتَغَيَّبْنَ مِنْهُ وَيَدْخُلْنَ مِنْ وَرَاء السِّتْر ، وَأَصْله مِنْ قَمْع التَّمْرَة أَيْ يَدْخُلْنَ فِي السِّتْر كَمَا يُدْخِلْنَ التَّمْرَة فِي قِمْعهَا .
قَوْله : ( فَيُسَرِّبهُنَّ إِلَيَّ )
بِسِينٍ مُهْمَلَة ثُمَّ مُوَحَّدَة أَيْ يُرْسِلهُنَّ . وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى جَوَاز اِتِّخَاذ صُوَر الْبَنَات وَاللَّعِب مِنْ أَجْل لَعِب الْبَنَات بِهِنَّ ، وَخُصَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُوم النَّهْي عَنْ اِتِّخَاذ الصُّوَر ، وَبِهِ جَزَمَ عِيَاض وَنَقَلَهُ عَنْ الْجُمْهُور ، وَأَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْع اللَّعِب لِلْبَنَاتِ لِتَدْرِيبِهِنَّ مِنْ صِغَرهنَّ عَلَى أَمْر بُيُوتهنَّ وَأَوْلَادهنَّ . قَالَ وَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخ ، وَإِلَيْهِ مَالَ اِبْن بَطَّال ، وَحَكَى عَنْ اِبْن أَبِي زَيْد عَنْ مَالِك أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَشْتَرِي الرَّجُل لِابْنَتِهِ الصُّوَر ، وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخ ، وَقَدْ تَرْجَمَ اِبْن حِبَّان الْإِبَاحَة لِصِغَارِ النِّسَاء اللَّعِب بِاللِّعَبِ ، وَتَرْجَمَ لَهُ النَّسَائِيُّ إِبَاحَة الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ اللَّعِب بِالْبَنَاتِ فَلَمْ يُقَيَّد بِالصِّغَرِ وَفِيهِ نَظَر . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْد تَخْرِيجه ثَبَتَ النَّهْي عَنْ اِتِّخَاذ " الصُّوَر " فَيُحْمَل عَلَى أَنَّ الرُّخْصَة لِعَائِشَة فِي ذَلِكَ كَانَ قَبْل التَّحْرِيم وَبِهِ جَزَمَ اِبْن الْجَوْزِيّ ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ إِنْ كَانَتْ اللَّعِب كَالصُّورَةِ فَهُوَ قَبْل التَّحْرِيم وَإِلَّا فَقَدْ يُسَمَّى مَا لَيْسَ بِصُورَةٍ لُعْبَة ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْحَلِيمِيّ فَقَالَ : إِنْ كَانَتْ صُورَة كَالْوَثَنِ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ ، وَقِيلَ : مَعْنَى الْحَدِيث اللَّعِب مَعَ الْبَنَات أَيْ الْجَوَارِي وَالْبَاء هُنَا بِمَعْنَى مَعَ حَكَاهُ اِبْن التِّين عَنْ الدَّاوُدِيِّ ، وَرَدَّهُ . قُلْت : وَيَرُدّهُ مَا أَخْرَجَهُ اِبْن عُيَيْنَةَ فِي " الْجَامِع " مِنْ رِوَايَة سَعِيد بْن عَبْد الرَّحْمَن الْمَخْزُومِيّ عَنْهُ عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة فِي هَذَا الْحَدِيث " وَكُنَّ جِوَارِي يَأْتِينَ فَيَلْعَبْنَ بِهَا مَعِيَ " وَفِي رِوَايَة جَرِير عَنْ هِشَام " كُنْت أَلْعَب بِالْبَنَاتِ وَهُنَّ اللَّعِب " أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَة وَغَيْره ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : " قَدِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَة تَبُوك أَوْ خَيْبَر " فَذَكَرَ الْحَدِيث فِي هَتْكه السِّتْر الَّذِي نَصَبَتْهُ عَلَى بَابهَا قَالَتْ : " فَكَشَفَ نَاحِيَة السِّتْر عَلَى بَنَات لِعَائِشَة لَعِب فَقَالَ : مَا هَذَا يَا عَائِشَة ، قَالَتْ : بَنَاتِي . قَالَتْ : وَرَأَى فِيهَا فَرَسًا مَرْبُوطًا لَهُ جَنَاحَانِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قُلْت فَرَس . قَالَ فَرَس لَهُ جَنَاحَانِ ؟ قُلْت : أَلَمْ تَسْمَع أَنَّهُ كَانَ لِسُلَيْمَان خَيْل لَهَا أَجْنِحَة ؟ فَضَحِكَ " فَهَذَا صَرِيح فِي أَنَّ الْمُرَاد بِاللَّعِبِ غَيْر الْآدَمِيَّات . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ اللَّعِب بِالْبَنَاتِ لَيْسَ كَالتَّلَهِّي بِسَائِرِ الصُّوَر الَّتِي جَاءَ فِيهَا الْوَعِيد : وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لِعَائِشَة فِيهَا لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَانَتْ غَيْر بَالِغ . قُلْت : وَفِي الْجَزْم بِهِ نَظَرٌ لَكِنَّهُ مُحْتَمَل ؛ لِأَنَّ عَائِشَة كَانَتْ فِي غَزْوَة خَيْبَر بِنْت أَرْبَع عَشْرَة سَنَة إِمَّا أَكْمَلْتهَا أَوْ جَاوَزْتهَا أَوْ قَارَبْتهَا . وَأَمَّا فِي غَزْوَة تَبُوك فَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ قَطْعًا فَيَتَرَجَّح رِوَايَة مَنْ قَالَ فِي خَيْبَر ، وَيُجْمَع بِمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ التَّعَارُض .
شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 189)
قَالَ الْقَاضِي : فِيهِ جَوَاز اللَّعِب بِهِنَّ . قَالَ : وَهُنَّ مَخْصُوصَات مِنْ الصُّوَر الْمَنْهِيّ عَنْهَا لِهَذَا الْحَدِيث ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَدْرِيب النِّسَاء فِي صِغَرِهِنَّ لِأَمْرِ أَنْفُسِهِنَّ وَبُيُوتهنَّ وَأَوْلَادهنَّ . قَالَ : وَقَدْ أَجَازَ الْعُلَمَاء بَيْعَهُنَّ وَشِرَاءَهُنَّ ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةَ شِرَائِهِنَّ ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ الِاكْتِسَابِ بِهَا ، وَتَنْزِيه ذَوِي الْمُرُوءَات عَنْ تَوَلِّي بَيْع ذَلِكَ ، لَا كَرَاهَة اللَّعِب . قَالَ : وَمَذْهَب جُمْهُور الْعُلَمَاء جَوَاز اللَّعِب بِهِنَّ ، وَقَالَتْ طَائِفَة : هُوَ مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنْ الصُّوَر هَذَا كَلَام الْقَاضِي .
قَوْلهَا : ( وَكَانَتْ تَأْتِينِي صَوَاحِبِي ، فَكُنَّ يَنْقَمِعْنَ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكَانَ يُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ )
مَعْنَى ( يَنْقَمِعْنَ ) يَتَغَيَّبْنَ حَيَاء مِنْهُ وَهَيْبَة ، وَقَدْ يَدْخُلْنَ فِي بَيْتٍ وَنَحْوِهِ ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّل . ( وَيُسَرِّبُهُنَّ ) بِتَشْدِيدِ الرَّاء أَيْ يُرْسِلُهُنَّ ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُسْنِ مُعَاشَرَته .
شرح ابن بطال - (ج 17 / ص 374)
قال المؤلف: كان النبى عليه السلام أحسن الأمة أخلاقًا وابسطهم وجهًا، وقد وصف الله ذلك بقوله: (إنك لعلى خلق عظيم) فكان ينبسط إلى النساء والصبيان ويمازحهم ويداعبهم، وروى عنه أنه قال: « إنى لأمزح ولا أقول إلا حقًا » وكان يسرح إلى عائشة صواحباتها ليلعبن معها، فينبغى للمؤمنين الاقتداء بحسن أخلاقه وطلاقة وجهه - صلى الله عليه وسلم - .
وقال أبو عبيد: قوله: « يتقمعن » يعنى دخل البيت وتغيبن، يقال للإنسان قد انقمع وقمع إذا دخل فى الشىء أو دخل فى بعضه بعض.
وقال الصمعى: فيه سمى القمع الذى يصب فيه الدهن وغيره؛ لأنه يدخل فى الإناء.
والذى يراد من الحديث: الرخصة فى اللعب التى تلعب بها الجوارى وهى البنات فجاءت فيها الرخصة وهى تماثيل، وليس وجه ذلك عندنا إلا من أجل أنها لهو الصبيان ولو كان فى الكبار لكان مكروهًا كما جاء النهى فى التماثيل كلها وفى الملاهى.
وقال غيره: « كنت العب » : منسوخ بنهى النبى عليه السلام عن الصور؛ لأن كل من رخص فى الصور فيما كان رقمًا أو فى تصوير الشجر ومالاروح له، كلهم قد أجمعوا أنه لا يجوز تصوير ماله روح.
وذكر ابن أبى زيد أنه كره أن يشترى الرجل لأبنته الصور.
طرح التثريب - (ج 7 / ص 198)
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْهَا قَالَتْ { كُنْت أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ فَيَأْتِينِي صَوَاحِبِي فَإِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَرْنَ مِنْهُ فَيَأْخُذُهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرُدُّهُنَّ إلَيَّ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ بِمَعْنَاهُ وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ وَهُوَ اللَّعِبُ .
( الثَّانِيَةُ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهِ جَوَازُ اللَّعِبِ بِهِنَّ قَالَ : وَهُنَّ مَخْصُوصَاتٌ مِنْ الصُّوَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَدْرِيبِ النِّسَاءِ فِي صِغَرِهِنَّ لِأَمْرِ أَنْفُسِهِنَّ وَبُيُوتِهِنَّ وَأَوْلَادِهِنَّ قَالَ : وَقَدْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ بَيْعَهُنَّ وَشِرَاءَهُنَّ ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ شِرَائِهِنَّ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ الِاكْتِسَابِ بِهَا وَتَنْزِيهِ ذَوِي الْمُرُوآتِ عَنْ تَوَلِّي بَيْعِ ذَلِكَ لَا كَرَاهَةِ اللَّعِبِ ، قَالَ : وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ جَوَازُ اللَّعِبِ بِهِنَّ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هُوَ مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنْ الصُّوَرِ .
انْتَهَى .
وَمُقْتَضَاهُ اسْتِثْنَاءُ ذَلِكَ مِنْ امْتِنَاعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ صُورَةٌ ، وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ مِثْلُ الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ بَيْنَ الْخَطَّابِيِّ وَالنَّوَوِيِّ فِي الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ هَلْ تَمْتَنِعُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَا ، وَهُوَ أَرْجَحُ وَقَالَ النَّوَوِيُّ : نَعَمْ وَفِي اطِّرَادِ مِثْلِ ذَلِكَ هُنَا نَظَرٌ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولَ مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ فِي بَيْتِهِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّعِبُ بِهَا مُبَاحًا لِحِرْصِهِ عَلَى دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ إلَيْهِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ الْبَنَاتُ جَمْعُ بِنْتٍ وَهُنَّ الْجَوَارِي وَأُضِيفَتْ إلَى اللَّعِبِ وَهِيَ جَمْعُ لُعْبَةٍ وَهُوَ مَا تَلْعَبُ بِهِ الْبَنَاتُ ؛ لِأَنَّهُنَّ اللَّوَاتِي يَصْنَعْنَهَا وَيَلْعَبْنَ بِهَا قُلْت الْمُرَادُ بِالْبَنَاتِ هُنَا نَفْسُ اللَّعِبِ وَتَسْمِيَتُهُنَّ بِذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ التَّشْبِيهِ الصُّورِيِّ كَتَسْمِيَتِهِ الْمَنْقُوشَ فِي الْحَائِطِ أَسَدًا .وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ حُسْنُ خُلُقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَطِيفُ مُعَاشَرَتِهِ مَعَ زَوْجَتِهِ وَمَنْ يَزُورُهَا مِنْ صَوَاحِبِهَا بِتَمْكِينِهَا مِنْ ذَلِكَ وَجَمْعِ مَنْ يُسَاعِدُهَا عَلَى ذَلِكَ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ هَذَا إلَّا فِي زَمَانِ الصِّغَرِ قَبْلَ الْبُلُوغِ .
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 2 / ص 197)
(313) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم التصوير؟ وحكم اقتناء الصور وحكم الصور التي تمثل الوجه وأعلى الجسم؟ .
فأجاب- حفظه الله - بقوله : التصوير نوعان :
أحدهما : تصوير باليد .
والثاني : تصوير بالآلة .
فأما التصوير باليد فحرام بل هو كبيرة من كبائر الذنوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، لعن فاعله ، ولا فرق بين أن يكون للصورة ظل أو تكون مجرد رسم على القول الراجح لعموم الحديث ، وإذا كان التصوير هذا من الكبائر ، فتمكين الإنسان غيره أن يصور نفسه إعانة على الإثم والعدوان فلا يحل .
__________
(1) سورة الزخرف ، الآية "23".
(2) سورة الزخرف ، الآية "24".
(3) سورة الزخرف ، الآية "25".
وأما التصوير بالآلة وهي (الكاميرا) التي تنطبع الصورة بواسطتها من غير أن يكون للمصور فيها أثر بتخطيط الصورة وملامحها فهذه موضع خلاف بين المتأخرين فمنهم من منعها ، ومنهم من أجازها فمن نظر إلى لفظ الحديث منع لأن التقاط الصورة بالآلة داخل في التصوير ولولا عمل الإنسان بالآلة بالتحريك والترتيب وتحميض الصورة لم تلتقط الصورة ، ومن نظر إلى المعنى والعلة أجازها لأن العلة هي مضاهاة خلق الله ، والتقاط الصورة بالآلة ليس مضاهاة لخلق الله بل هو نقل للصورة التي خلقها الله - تعالى - نفسها فهو ناقل لخلق الله لا مضاه له ، قالوا: ويوضح ذلك أنه لو قلد شخص كتابة شخص لكانت كتابة الثاني غير كتابة الأول بل هي مشابهة لها ولو نقل كتابته بالصورة الفوتوغرافية لكانت الصورة هي كتابة الأول وإن كان عمل نقلها من الثاني فهكذا نقل الصورة بالآلة الفوتغرافية (الكاميرا) الصورة فيه هي تصوير الله نقل بواسطة آلة التصوير. والاحتياط الامتناع من ذلك ، لأنه من المتشابهات ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، لكن لو احتاج إلى ذلك لأغراض معينة كإثبات الشخصية فلا بأس به ، لأن الحاجة ترفع الشبهة لأن المفسدة لم تتحقق في المشتبه فكانت الحاجة رافعة لها.
وأما إقتناء الصور فعلى نوعين :
النوع الأول: أن تكون الصورة مجسمة أي ذات جسم فاقتناؤها حرام وقد نقل ابن العربي الإجماع عليه نقله عنه في فتح الباري ص 388 ج10ط . السلفية قال : "وهذا الإجماع محله في غير لعب البنات كما سأذكره في باب من صور صورة" وقد أحال في الباب المذكور على كتاب الأدب وذكره في كتاب الأدب في باب الانبساط إلى الناس ص 527 من المجلد المذكور على حديث عائشة - رضي الله عنها- قالت : كنت ألعب بالبنات عند النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي.
قال في شرحه: "واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن ، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور ، قال : وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ وخصه بعضهم بالصغار" .
وإن المؤسف أن بعض قومنا الآن ، صاروا يقتنون هذه الصور ويضعونها في مجالسهم أو مداخل بيوتهم ، نزلوا بأنفسهم إلى رتبة الصبيان مع اكتساب الإثم والعصيان نسأل الله لنا ولهم الهداية.
النوع الثاني : أن تكون الصورة غير مجسمة بأن تكون رقماً على شيء فهذه أقسام :
القسم الأول : أن تكون معلقة على سبيل التعظيم والإجلال مثل ما يعلق من صور الملوك ، والرؤساء، والوزراء، والعلماء، والوجهاء، والآباء، وكبار الإخوة ونحوها ، فهذا القسم حرام لما فيه من الغلو بالمخلوق والتشبه بعباد الأصنام والأوثان ، مع أنه قد يجر إلى الشرك فيما إذا كان المعلق صورة عالم أو عابد و ونحوه.
القسم الثاني : أن تكون معلقة على سبيل الذكرى مثل من يعلقون صور أصحابهم وأصدقائهم في غرفهم الخاصة فهذه محرمة فيما يظهر لوجهين :
الوجه الأول: أن ذلك يوجب تعلق القلب بهؤلاء الأصدقاء تعلقاً لا ينفك عنه وهذا يؤثر تأثيراً بالغاً على محبة الله ورسوله وشرعه ويوجب تشطير المحبة بين هؤلاء الأصدقاء وما تجب محبته شرعاً وكأن قارعاً يقرع قلبه كلما دخل غرفته. انتبه .انتبه. صديقك صديقك وقد قيل:
أحبب حبيبك هوناً ما * فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما.
الوجه الثاني : أنه ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي طلحة - رضي الله عنه- قال سمعت النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : : "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة" وهذه عقوبة ولا عقوبة إلا على فعل محرم.
القسم الثالث: أن تكون معلقة على سبيل التجميل والزينة ، فهذه محرمة أيضاً لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : قدم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ،هتكه وقال : "أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" . قالت : فجعلته وسادة أو وسادتين رواه البخاري . والقرام : خرقة تفرش في الهودج أو يغطى بها يكون فيها رقوم ونقوش ، والسهوة بيت صغير في جانب الحجرة يجعل فيه المتاع .
وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قام على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية قالت : فقلت : أتوب إلى الله ماذا أذنبت؟ قال : "ما هذه النمرقة؟" قلت : لتجلس عليها وتوسدها فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، : "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم :أحيوا ما خلقتم وإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه الصورة" .رواه البخاري .النمرقة:الوسادة العريضة تصلح للاتكاء والجلوس.
القسم الرابع : أن تكون ممتهنة كالصورة التي تكون في البساط والوسادة ، وعلى الأواني وسماط الطعام ونحوها ، فنقل النووي عن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين جوازها ، وقال : هو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي، وهو كذلك مذهب الحنابلة . ونقل في فتح الباري- ص 391- ج 10ط . السلفية - حاصل ما قيل في ذلك عن ابن العربي فقال : حاصل ما في اتخاذ الصور ؛ أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع ، وإن كانت رقماً فأربعة أقوال:
الأول : يجوز مطلقاً على ظاهر قوله في حديث الباب : " إلا رقماً في ثوب" .
الثاني : المنع مطلقاً حتى الرقم .
الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم ، وإن قطع الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز قال : وهذا هو الأصح .
الرابع : إن كان مما يمتهن جاز وإن كان معلقاً لم يجزأ . هـ .
والذي صححه هو ظاهر حديث النمرقة ، والقول الرابع هو ظاهر حديث القرام ويمكن الجمع بينهما بأن النبي، صلى الله عليه وسلم ، لما هتك الستر تفرقت أجزاء الصورة فلم تبق كاملة بخلاف النمرقة فإن الصورة كانت فيها كاملة فحرم اتخاذها وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : "أتاني جبريل فقال : أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل ،وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل ، وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة ، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطأان ، ومر بالكلب فليخرج" ففعل رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، رواه أهل السنن وفي رواية النسائي "إما أن تقطع رؤوسها أو تجعل بسطاً توطأ" . ذكر هذا الحديث في فتح الباري ص 392من المجلد العاشر السابق وزعم في ص390 أنه مؤيد للجمع الذي ذكرناه وعندي أن في ذلك نظراً فإن هذا الحديث ولا سيما رواية النسائي تدل على أن الصورة إذا كانت في شيء يمتهن فلا بأس بها وإن بقيت كاملة وهو رأي الجمهور كما سبق .
القسم الخامس: أن تكون مما تعم به البلوى ويشق التحرز منه كالذي يوجد في المجلات والصحف وبعض الكتب ولم تكن مقصودة لمقتنيها بوجه من الوجوه بل هي مما يكرهه ويبغضه ولكن لا بد له منها والتخلص منها فيه عسر ومشقة وكذلك ما في النقود من صور الملوك والرؤساء والأمراء مما ابتليت به الأمة الإسلامية فالذي يظهر لي أن هذا لا حرج فيه على من وقع في يده بغير قصد منه إلى اتخاذه من أجل صوره بل هو يكرهه أشد الكراهة ويبغضه ويشق عليه التحرز منه فإن الله - تعالى - لم يجعل على عباده في دينهم من حرج ولا يكلفهم شيئاً لا يستطيعونه إلا بمشقة عظيمة أو فساد مال ، ولا يصدق على مثل هذا أنه متخذ للصورة ومقتن لها .
وأما سؤالكم عن الصورة التي تمثل الوجه وأعلى الجسم ، فإن حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه يدل على أنه لا بد من قطع الرأس وفصله فصلاً تاماً عن بقية الجسم ، فأما إذا جمع إلى الصدر فما هو إلا رجل جالس بخلاف ما إذا أبين الرأس إبانة كاملة عن الجسم ، ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله - : الصورة الرأس . وكان إذا أراد طمس الصورة حك رأسها وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه قال: الصورة الرأس فإذا قطع الرأس فليس هو صورة . فتهاون بعض الناس في ذلك مما يجب الحذر منه . نسأل الله لنا ولكم ولإخواننا المسلمين السلامة والعافية مما لا تحمد عقباه إنه جواد كريم.
المحلى لابن حزم - (ج 4 / ص 457)
1538 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الصُّوَرِ إِلاَّ لِلَعِبِ الصَّبَايَا فَقَطْ , فَإِنَّ اتِّخَاذَهَا لَهُنَّ حَلاَلٌ حَسَنٌ , وَمَا جَازَ مِلْكُهُ جَازَ بَيْعُهُ إِلاَّ أَنْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ. وَقَالَ تَعَالَى وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَحِلُّ اتِّخَاذُ الصُّوَرِ إِلاَّ مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ : لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ ، وَلاَ صُورَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ يَعُودُهُ قَالَ : فَوَجَدَ عِنْدَهُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ فَأَمَرَ أَبُو طَلْحَةَ بِنَزْعِ نَمَطٍ كَانَ تَحْتَهُ فَقَالَ لَهُ سَهْلٌ : لِمَ نَزَعْتَهُ قَالَ : لأََنَّ فِيهِ تَصَاوِيرَ , وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : مَا قَدْ عَلِمْت قَالَ سَهْلٌ : أَلَمْ يَقُلْ إِلاَّ مَا كَانَ رَقْمًا قَالَ : بَلَى , وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ لِنَفْسِي.
قال أبو محمد رحمه الله : حَرَامٌ عَلَيْنَا تَنْفِيرُ الْمَلاَئِكَةِ ، عَنْ بُيُوتِنَا , وَهُمْ رُسُلُ اللَّهِ عَزّ وَجَلَّ وَالْمُتَقَرَّبُ إلَيْهِ عَزّ وَجَلَّ بِقُرْبِهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ : أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَأْتِينِي صَوَاحِبِي فَكُنَّ يَتَقَمَّعْنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُسَرِّبُهُنَّ إلَيَّ فَوَجَبَ اسْتِثْنَاءُ الْبَنَاتِ لِلصَّبَايَا مِنْ جُمْلَةِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الصُّوَرِ.
وَأَمَّا الصُّلُبُ فَبِخِلاَفِ ذَلِكَ , وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا فِي ثَوْبٍ , وَلاَ فِي غَيْرِهِ : لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ ، أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ عِمْرَانَ بْنَ حِطَّانَ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَدَعُ فِي بَيْتِهِ ثَوْبًا فِيهِ تَصْلِيبٌ إِلاَّ نَقَضَهُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَرِهَ السِّتْرَ الْمُعَلَّقَ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَجُعِلَتْ لَهُ مِنْهُ وِسَادَةً فَلَمْ يُنْكِرْهَا(1/48)
57-7713 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوِرٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ فَرُبَّمَا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَوَاحِبَاتِي عِنْدِي ، فَإِذَا رَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَرْنَ ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَمَا أَنْتِ وَكَمَا أَنْتُنَّ "(1)
58-7714 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا حُجَيْنٌ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَرِّبُ إِلَيَّ صَوَاحِبِي يَلْعَبْنَ مَعِي بِاللَّعِبِ : الْبَنَاتُ الصِّغَارُ (2)
__________
(1) -أحمد برقم(25030) والآحاد برقم(2681) والطبراني برقم(18799) والحميدي برقم(277) صحيح
(2) -الأدب المفرد برقم(1341) صحيح
لقاءات الباب المفتوح - (ج 95 / ص 20)
نصيحة لأولياء الأمور بشأن ملابس الأطفال:
السؤال: انتشر في الوقت الأخير لبس الملابس القصيرة بين البنات والأولاد، وكذلك لبس البناطيل للبنات، فهل من كلمة توجيهية لأولياء الأمور من الآباء والأمهات في هذا المجال جزاك الله خيراً؟
الجواب: أما الثياب القصيرة بالنسبة للذكور فليس فيها شيء، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أزرة المؤمن إلى نصف الساق)، وأما بالنسبة للنساء فهذا لا شك أنه خلاف المشروع، وأن نساء الصحابة كن يلبسن الثياب إلى الكعب، وإذا خرجن إلى السوق يرخينه إلى ذراع؛ حتى لا تنكشف أقدامهن. وأما لبس البنطال للمرأة فهو حرام فيما نرى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، ولأنه ذريعة إلى أن تلبس المرأة بنطالاً ضيقاً يصف حجم أفخاذها وعجيزتها، ولا يغرنك قول بعض النساء: أنا ألبس بنطالاً واسعاً فضفاضاً، فإن هذا وإن صح في امرأة من عشر نساء فإنه في المستقبل سوف لا يصح في أي امرأة، ثم إن علة التشبه توجب المنع سواء كان ذلك البنطلون واسعاً أو غير واسع. والعجب أن بعض النساء يقلن: إن هذا هو رغبة الزوج، وإني لأعجب من الزوج أن يختار هذا اللباس لامرأته وهو لبس رجل، وأقول للزوج: إنه يباح لك ما تقضي به وطرك وتقوى به شهوتك .. يباح لك ما هو أعظم من هذا، اجعلها تلبس ثوباً خفيفاً رهيفاً وهذا أدعى إلى جماعها والرغبة فيها من لبس هذا البنطلون، لكن الشيطان يزين للناس بعض الأعمال المنكرة نسأل الله السلامة. بعض البنات الصغار يلبسن إلى فوق الركبة، وانتشرت ملابس للصغار في الأسواق إلى فوق الركبة؟ الشيخ: هذا كما تفضلت، بعض الصغار يلبسن ثياباً صغيرة إلى فوق الركبة والفخذ بعضه خارج، ويدعي أولياءهن -الذين سوف يسألون عن ذلك يوم القيامة- يدعي أنهن صغار، وأن عورتهن لا تتجاوز السوءة، وما أشبه ذلك. فيقال: إن الطفلة إذا تعودت هذا اللباس ألفته، ولم تستنكره، ونزع منها الحياء أيضاً، ولذلك تجد الفرق بين إنسان يحافظ على ستر عورته وإنسان لا يحافظ، تجد الذي لا يحافظ كالعمال مثلاً: يرفع ثوبه إلى أن يبدو من فخذه الشيء الكثير لا يبالي؛ لأنه ألف ذلك واعتاده، لكن تأتي لإنسان محترم لا تجده يسمح لنفسه أن يرفع ثوبه إلى أن يبدو فخذه، اللهم إلا لحاجة لا بد منها فهذا شيء آخر. فالحاصل أننا نقول: حتى الصبيان لا يلبسون هذا، وأعني بالصبيان: الفتيات؛ لأنها تعتاد عليه، وينزع منها الحياء، ثم إذا كبرت تكون قد ألفت هذا اللباس.
-------------------
حكم رقص المرأة بين النساء:
السؤال: حكم رقص المرأة بين النساء؟
الجواب: كنا لا نشدد فيه ونقول: هذه ألعاب في مناسبة الزواج ولا بأس بها، لكن سمعنا أنه يحصل فيها فتنة وأن بعض النساء أو بعض الفتيات الشابات لا سيما إذا كانت جميلة تهيج النساء الأخريات، حتى قيل لي: إنه أحياناً تقوم المرأة من الحاضرات تَضُمُّ المرأة التي ترقص، ويحصل بذلك إثارة شهوة، فرأيت أن يمنع الرقص. أما رقص البنات الصغار بين الفتيات هذا قد يقال: إنه لا بأس به؛ لأنه يُرَخَّص للصغار في مثل هذا ما لا يُرَخَّص للكبار.
--------------
المحلى لابن حزم - (ج 6 / ص 17)
1914 - مَسْأَلَةٌ : وَجَائِزٌ لِلصَّبَايَا خَاصَّةً اللَّعِبُ بِالصُّوَرِ , وَلاَ يَحِلُّ لِغَيْرِهِنَّ , وَالصُّوَرُ مُحَرَّمَةٌ إِلاَّ هَذَا , وَإِلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَمْرٌو النَّاقِدُ , قَالاَ جَمِيعًا : ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ ، وَلاَ صُورَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ ، عَنْ بُكَيْرٍ ، هُوَ ابْنُ الأَشَجِّ ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ فَعُدْنَاهُ , فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ , فَقُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ الْخَوْلاَنِيِّ رَبِيبِ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ ، عَنِ الصُّورَةِ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ : أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَالَ إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَرِحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ النَّيْسَابُورِيُّ نَا حُجَيْنٌ ، هُوَ ابْنُ الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَرِّبُ إلَيَّ صَوَاحِبِي يَلْعَبْنَ مَعِي بِاللُّعَبِ الْبَنَاتِ الصِّغَارِ
------------------
السؤال
جزاكم الله خير فضيلة الشيخ هذا السائل يسأل في سؤال له عن اللعب المجسمة حقت الأطفال الخاصة بالأولاد والدمى والدبب ما حكم جلبها للأولاد حتى يلعبوا بها؟
الجواب
الشيخ: أما من جهة الصور المجسمة من غير الأطفال كصورة الدب والجمل والذئب والأسد وما أشبه ذلك فهذه لا تجوز لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة وأما لعب البنات فلا أشدد فيها لأنه قد كان لعائشة لعب تلعب بهن وإن كانت اللعب التي في زمن عائشة ليست كاللعب الموجودة الآن لأنها الآن متقنة تماما حتى كأنها بشر ومع ذلك لا أشدد فيها إن حصل اللعبة المعروفة التي من القطن وشبهه كالتي استحدثت أخيرا فهذا أحسن وإن لم يحصل فلا أقول إن في جلبها للبنات الصغار إثما لأن هذا يعودها الرأفة والرحمة بالأطفال ولذلك أسمع أن بعض البنات الصغار يكون لها لعبة ثم تأتي بها أمام المكيف وتشغل المكيف وتقول أريد من بنتي أن تبرد الوقت حار وربما ترشها بالماء لترويشها مما يدل على أن لها تأثيرا في خلق المرأة وتربية أبنائها في المستقبل.
------------
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 53 / ص 275)
حكم استعمال الكوب الذي عليه صورة إنسان رقم الفتوى:72857تاريخ الفتوى:26 صفر 1427السؤال:
ما حكم الشرب في كوب به صورة مخلوق ؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالصورة لما له روح التي على الأكواب ونحوها لها حالان:
الحالة الأولى: أن تكون هذه الصورة قد أخذت أولاً عن طريق التصوير الفوتغرافي ثم نسخ منها على الأكواب، فهذه الراجح فيها الجواز إذا سلمت من سبب آخر للتحريم كأن تكون لامرأة متبرجة مثلا كما سبق بيان ذلك في فتاوى منها الفتوى رقم: 53003.
الحالة الثانية: أن تكون الصورة رسمت ثم نسخت، فالتصوير حينئذ محرم لا يجوز، وكذا النسخ.
وأما حكم استخدام ما وضعت عليه الصورة المرسومة ففيه تفصيل، فإن كانت الصورة على شيء مهان فلا يحرم استخدام ذلك الشيء سواء كان فراشاً أو مخدة أو كوبا.
وأما إن كان غير مهان، بل كان معلقا على الجدران، أو موضوعا للزينة، أو ملبوسا عمامة أو غيرها, وكذا إذا كان كوبا فلا يجوز إبقاؤه على تلك الحالة بل لا بد من إزالة الصورة، أو إتلاف ذلك الشيء، وهذا ينطبق على الكوب المسؤول عنه، وإليك ما قاله أئمة الدين في ذلك:
قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في المغني: فإن رأى نقوشا، وصور شجر، ونحوها، فلا بأس بذلك; لأن تلك نقوش، فهي كالعلم في الثوب. وإن كانت فيه صور حيوان، في موضع يوطأ أو يتكأ عليها، كالتي في البسط، والوسائد، جاز أيضا.
وإن كانت على الستور والحيطان، وما لا يوطأ، وأمكنه حطها، أو قطع رؤوسها، فعل وجلس, وإن لم يمكن ذلك، انصرف ولم يجلس; وعلى هذا أكثر أهل العلم، قال ابن عبد البر: هذا أعدل المذاهب.اهـ
وقال الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله في الزواجر: وأما فعل التصوير لذي الروح فهو حرام مطلقا، وإن أغفل من الصورة أعضاؤها الباطنة أو بعض الظاهرة مما توجد الحياة مع فقده، ثم رأيت في شرح مسلم ما يصرح بما ذكرته حيث قال ما حاصله: تصوير صورة الحيوان حرام من الكبائر للوعيد الشديد سواء صنعه لما يمتهن أو لغيره إذ فيه مضاهاة لخلق الله، وسواء كان ببساط أو ثوب أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو مخدة أو نحوها. وأما تصوير صور الشجر ونحوها مما ليس بحيوان فليس بحرام. وأما المصور صورة الحيوان فإن كان معلقا على حائط أو ملبوسا كثوب أو عمامة أو نحوها مما لا يعد ممتهنا فحرام، أو ممتهنا كبساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها فلا يحرم لكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت ؟ الأظهر أنه عام في كل صورة لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: { لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة }، ولا فرق بين ما له ظل وما لا ظل له، هذا تلخيص مذهب جمهور علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم كالشافعي ومالك والثوري وأبي حنيفة وغيرهم، وأجمعوا على وجوب تغيير ما له ظل. قال القاضي: إلا ما ورد في لعب البنات الصغار من الرخصة.اهـ
والله أعلم.
--------------(1/49)
59-7715 أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "(1)
__________
(1) -أخرجه أحمد برقم(26721) وابن حبان برقم(5959) والبخاري برقم(6130)
تحفة الأحوذي - (ج 4 / ص 445)
قَالَ الْحَافِظُ : اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ اِتِّخَاذِ صُوَرِ الْبَنَاتِ وَاللَّعِبِ مِنْ أَجْلِ لَعِبِ الْبَنَاتِ بِهِنَّ ، وَخُصَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ اِتِّخَاذِ الصُّوَرِ . وَبِهِ جَزَمَ عِيَاضٌ وَنَقَلَهُ عَنْ الْجُمْهُورِ وَأَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْعَ اللَّعِبِ لِلْبَنَاتِ لِتَدْرِيبِهِنَّ مِنْ صِغَرِهِنَّ عَلَى أَمْرِ بُيُوتِهِنَّ وَأَوْلَادِهِنَّ . قَالَ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ، وَإِلَيْهِ مَالَ اِبْنُ بَطَّالٍ . وَحُكِيَ عَنْ اِبْنِ أَبِي زَيْدٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ لِابْنَتِهِ الصُّوَرَ ، وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ . وَقَدْ تَرْجَمَ اِبْنُ حِبَّانَ لِصِغَارِ النِّسَاءِ اللَّعِبُ بِاللُّعَبِ . وَتَرْجَمَ لَهُ النَّسَائِيُّ إِبَاحَةُ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ اللَّعِبَ بِالْبَنَاتِ فَلَمْ يُقَيِّدْ بِالصِّغَرِ وَفِيهِ نَظَرٌ . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ : ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ اِتِّخَاذِ الصُّوَرِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ لِعَائِشَةَ فِي ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، وَبِهِ جَزَمَ اِبْنُ الْجَوْزِيِّ . وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ : إِنْ كَانَتْ اللَّعِبُ كَالصُّورَةِ فَهُوَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَإِلَّا فَقَدْ يُسَمَّى مَا لَيْسَ بِصُورَةٍ لُعْبَةً ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْحَلِيمِيُّ فَقَالَ : إِنْ كَانَتْ صُورَةً كَالْوَثَنِ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ اِنْتَهَى .
قُلْتُ : قَوْلُ الْحَلِيمِيِّ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
موسوعة الأسرة المسلمة الشاملة - (ج 2 / ص 485)
حكم التصوير والصور
التصوير نوعان
أحدهما : تصوير باليد .
والثاني : تصوير بالآلة .
فأما التصوير باليد فحرام بل هو كبيرة من كبائر الذنوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، لعن فاعله ، ولا فرق بين أن يكون للصورة ظل أو تكون مجرد رسم على القول الراجح لعموم الحديث ، وإذا كان التصوير هذا من الكبائر ، فتمكين الإنسان غيره أن يصور نفسه إعانة على الإثم والعدوان فلا يحل .
وأما التصوير بالآلة وهي (الكاميرا) التي تنطبع الصورة بواسطتها من غير أن يكون للمصور فيها أثر بتخطيط الصورة وملامحها فهذه موضع خلاف بين المتأخرين فمنهم من منعها ، ومنهم من أجازها فمن نظر إلى لفظ الحديث منع لأن التقاط الصورة بالآلة داخل في التصوير ولولا عمل الإنسان بالآلة بالتحريك والترتيب وتحميض الصورة لم تلتقط الصورة ، ومن نظر إلى المعنى والعلة أجازها لأن العلة هي مضاهاة خلق الله ، والتقاط الصورة بالآلة ليس مضاهاة لخلق الله بل هو نقل للصورة التي خلقها الله - تعالى - نفسها فهو ناقل لخلق الله لا مضاه له ، قالوا: ويوضح ذلك أنه لو قلد شخص كتابة شخص لكانت كتابة الثاني غير كتابة الأول بل هي مشابهة لها ولو نقل كتابته بالصورة الفوتوغرافية لكانت الصورة هي كتابة الأول وإن كان عمل نقلها من الثاني فهكذا نقل الصورة بالآلة الفوتغرافية (الكاميرا) الصورة فيه هي تصوير الله نقل بواسطة آلة التصوير. والاحتياط الامتناع من ذلك ، لأنه من المتشابهات ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، لكن لو احتاج إلى ذلك لأغراض معينة كإثبات الشخصية فلا بأس به ، لأن الحاجة ترفع الشبهة لأن المفسدة لم تتحقق في المشتبه فكانت الحاجة رافعة لها.
وأما إقتناء الصور فعلى نوعين :
النوع الأول: أن تكون الصورة مجسمة أي ذات جسم فاقتناؤها حرام وقد نقل ابن العربي الإجماع عليه نقله عنه في فتح الباري ص 388 ج10ط . السلفية قال : "وهذا الإجماع محله في غير لعب البنات كما سأذكره في باب من صور صورة" وقد أحال في الباب المذكور على كتاب الأدب وذكره في كتاب الأدب في باب الانبساط إلى الناس ص 527 من المجلد المذكور على حديث عائشة - رضي الله عنها- قالت : كنت ألعب بالبنات عند النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي.
قال في شرحه: "واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن ، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور ، قال : وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ وخصه بعضهم بالصغار" .
وإن المؤسف أن بعض قومنا الآن ، صاروا يقتنون هذه الصور ويضعونها في مجالسهم أو مداخل بيوتهم ، نزلوا بأنفسهم إلى رتبة الصبيان مع اكتساب الإثم والعصيان نسأل الله لنا ولهم الهداية.
النوع الثاني : أن تكون الصورة غير مجسمة بأن تكون رقماً على شيء فهذه أقسام :
القسم الأول : أن تكون معلقة على سبيل التعظيم والإجلال مثل ما يعلق من صور الملوك ، والرؤساء، والوزراء، والعلماء، والوجهاء، والآباء، وكبار الإخوة ونحوها ، فهذا القسم حرام لما فيه من الغلو بالمخلوق والتشبه بعباد الأصنام والأوثان ، مع أنه قد يجر إلى الشرك فيما إذا كان المعلق صورة عالم أو عابد و ونحوه.
القسم الثاني : أن تكون معلقة على سبيل الذكرى مثل من يعلقون صور أصحابهم وأصدقائهم في غرفهم الخاصة فهذه محرمة فيما يظهر لوجهين :
الوجه الأول: أن ذلك يوجب تعلق القلب بهؤلاء الأصدقاء تعلقاً لا ينفك عنه وهذا يؤثر تأثيراً بالغاً على محبة الله ورسوله وشرعه ويوجب تشطير المحبة بين هؤلاء الأصدقاء وما تجب محبته شرعاً وكأن قارعاً يقرع قلبه كلما دخل غرفته. انتبه .انتبه. صديقك صديقك وقد قيل:
أحبب حبيبك هوناً ما * فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما.
الوجه الثاني : أنه ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي طلحة - رضي الله عنه- قال سمعت النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : : "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة" وهذه عقوبة ولا عقوبة إلا على فعل محرم.
القسم الثالث: أن تكون معلقة على سبيل التجميل والزينة ، فهذه محرمة أيضاً لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : قدم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ،هتكه وقال : "أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" . قالت : فجعلته وسادة أو وسادتين رواه البخاري . والقرام : خرقة تفرش في الهودج أو يغطى بها يكون فيها رقوم ونقوش ، والسهوة بيت صغير في جانب الحجرة يجعل فيه المتاع .
وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قام على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية قالت : فقلت : أتوب إلى الله ماذا أذنبت؟ قال : "ما هذه النمرقة؟" قلت : لتجلس عليها وتوسدها فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، : "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم :أحيوا ما خلقتم وإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه الصورة" .رواه البخاري .النمرقة:الوسادة العريضة تصلح للاتكاء والجلوس.
القسم الرابع : أن تكون ممتهنة كالصورة التي تكون في البساط والوسادة ، وعلى الأواني وسماط الطعام ونحوها ، فنقل النووي عن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين جوازها ، وقال : هو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي، وهو كذلك مذهب الحنابلة . ونقل في فتح الباري- ص 391- ج 10ط . السلفية - حاصل ما قيل في ذلك عن ابن العربي فقال : حاصل ما في اتخاذ الصور ؛ أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع ، وإن كانت رقماً فأربعة أقوال:
الأول : يجوز مطلقاً على ظاهر قوله في حديث الباب : " إلا رقماً في ثوب" .
الثاني : المنع مطلقاً حتى الرقم .
الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم ، وإن قطع الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز قال : وهذا هو الأصح .
الرابع : إن كان مما يمتهن جاز وإن كان معلقاً لم يجزأ . هـ .
والذي صححه هو ظاهر حديث النمرقة ، والقول الرابع هو ظاهر حديث القرام ويمكن الجمع بينهما بأن النبي، صلى الله عليه وسلم ، لما هتك الستر تفرقت أجزاء الصورة فلم تبق كاملة بخلاف النمرقة فإن الصورة كانت فيها كاملة فحرم اتخاذها وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : "أتاني جبريل فقال : أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل ،وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل ، وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة ، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطأان ، ومر بالكلب فليخرج" ففعل رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، رواه أهل السنن وفي رواية النسائي "إما أن تقطع رؤوسها أو تجعل بسطاً توطأ" . ذكر هذا الحديث في فتح الباري ص 392من المجلد العاشر السابق وزعم في ص390 أنه مؤيد للجمع الذي ذكرناه وعندي أن في ذلك نظراً فإن هذا الحديث ولا سيما رواية النسائي تدل على أن الصورة إذا كانت في شيء يمتهن فلا بأس بها وإن بقيت كاملة وهو رأي الجمهور كما سبق .
القسم الخامس: أن تكون مما تعم به البلوى ويشق التحرز منه كالذي يوجد في المجلات والصحف وبعض الكتب ولم تكن مقصودة لمقتنيها بوجه من الوجوه بل هي مما يكرهه ويبغضه ولكن لا بد له منها والتخلص منها فيه عسر ومشقة وكذلك ما في النقود من صور الملوك والرؤساء والأمراء مما ابتليت به الأمة الإسلامية فالذي يظهر لي أن هذا لا حرج فيه على من وقع في يده بغير قصد منه إلى اتخاذه من أجل صوره بل هو يكرهه أشد الكراهة ويبغضه ويشق عليه التحرز منه فإن الله - تعالى - لم يجعل على عباده في دينهم من حرج ولا يكلفهم شيئاً لا يستطيعونه إلا بمشقة عظيمة أو فساد مال ، ولا يصدق على مثل هذا أنه متخذ للصورة ومقتن لها .
وأما سؤالكم عن الصورة التي تمثل الوجه وأعلى الجسم ، فإن حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه يدل على أنه لا بد من قطع الرأس وفصله فصلاً تاماً عن بقية الجسم ، فأما إذا جمع إلى الصدر فما هو إلا رجل جالس بخلاف ما إذا أبين الرأس إبانة كاملة عن الجسم ، ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله - : الصورة الرأس . وكان إذا أراد طمس الصورة حك رأسها وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه قال: الصورة الرأس فإذا قطع الرأس فليس هو صورة . فتهاون بعض الناس في ذلك مما يجب الحذر منه . نسأل الله لنا ولكم ولإخواننا المسلمين السلامة والعافية مما لا تحمد عقباه إنه جواد كريم.(1/50)
60-7716 أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَمِّي قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ قَالَ : حَدَّثَنِي عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةٍ ، وَقَدْ نَصَبْتُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي عَبَاءَةً ، وَعَلَى عُرْضِ بَيْتِهَا سِتْرٌ أَرْمَنِّيٌّ ، فَدَخَلَ الْبَيْتَ ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ لِي : يَا عَائِشَةُ " مَا لِي وَلِلدُّنْيَا ؟ فَهَتَكَ الْعُرْضَ حَتَّى وَقَعَ الْأَرْضَ ، وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ ، فَهَبَّتْ رِيحٌ ، فَكَشَفَتْ نَاحِيَةً عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لَعَبٍ " فَقَالَ : " مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟ " قَالَتْ : بَنَاتِي ، وَرَأَى بَيْنَ ظَهْرَانِيهِنَّ فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ ، قَالَ : " وَمَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسَطَهُنَّ ؟ " قَالَتْ : فَرَسٌ ، قَالَ : " وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ ؟ " قَالَتْ : جَنَاحَانِ ، قَالَ : " فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ ؟ " قَالَتْ : " أَوَ مَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ ، فَضَحِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ(1)
__________
(1) -أبو داود برقم(4934) والبيهقي في السنن برقم(210151) وهو صحيح
عون المعبود - (ج 10 / ص 463)
وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيث وَاَلَّذِي قَبْله عَلَى جَوَاز اِتِّخَاذ صُوَر الْبَنَات وَاللُّعَب مِنْ أَجْل لَعِبِ الْبَنَات بِهِنَّ ، وَخُصَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُوم النَّهْي عَنْ اِتِّخَاذ الصُّوَر ، وَبِهِ جَزَمَ عِيَاض وَنَقَلَهُ عَنْ الْجُمْهُور ، وَأَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْع لُعَب لِلْبَنَاتِ لِتَدْرِيبِهِنَّ مِنْ صِغَرهنَّ عَلَى أَمْر بُيُوتهنَّ وَأَوْلَادهنَّ . قَالَ وَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخ . كَذَا فِي فَتْح الْبَارِي .
مجموعة الفتاوى الشرعية بالكويت 1-8 - (ج 4 / ص 425)
استعمال التصاوير ولعب الأطفال في التربية والتعليم
…[2229] عرض على اللجنة الاستفتاء المقدم من السيد / أسامة ونصه:
…انطلاقاً من المصلحة العامة للمسلمين ونظراً لما تعرضه أجهزة التلفاز في كافة أقطار العالم الإسلامي من برامج للأطفال وخاصة ما يعرف " بالرسوم المتحركة" وما تحمله هذه القصص من هدم وتربية غير محمودة عقباها، ونظراً للحاجة لمثل هذه المسسلات وذلك لتعلق الأطفال بها، وخاصة أن أطفال اليوم هم رجال الغد الذين تبنى على عاتقهم المجتمعات.
…فقد رأيت أنا ومجموعة من الشباب إنشاء شركة تهتم في إعداد وإخراج مثل هذه البرامج بحيث تكون هادفة ومربية وبديلاً جيداً لما يعرض حالياً ، بحيث يعتمد في صياغة هذه البرامج الأسس الإسلامية الصحيحة من تربية على محاسن الأخلاق والرجولة.
والسؤال المطروح هو ما رأي لجنتكم الموقرة في الصور أو الرسوم المتحركة بحد ذاتها وهل يعتبر ذلك من الرسوم المحرمة وخاصة أن الشركة المزمع إنشاؤها يتركز اهتمامها الأول على مثل هذه البرامج.
……
…ـ أجابت اللجنة بما يلي :
يجوز استخدام التصوير أو الرسم في البرامج المخصصة للأطفال فيما يسمى (الرسوم المتحركة) وغيرها على أن تراعى الأحكام والآداب الإسلامية في موضوع هذه البرامج وفي شكل الصور أو الرسوم، ولا مانع من استخدام الصور بأنواعها في ذلك سواء كانت مجسمة أو غير مجسمة كالمستعملة فيما يسمى (مسرح العرائس).
…ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها. قالت: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر، فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بناتٍ لعائشة لُعب ، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي . ورأى بينهن فرساً لها جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس . قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان قال: فرس له جناحان ؟ قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه" راوه أبو داود. والله أعلم
----------------
الأفلام الكرتونية الإسلامية
المجيب أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف الفهرسة/ وسائل الإعلام والترفيه والألعاب والتصوير والتمثيل /وسائل الإعلام
التاريخ 9/2/1423
السؤال
ما حكم ما يسمى بالأفلام الكرتونية الإسلامية، حيث سمعت بعض أهل العلم يحرم إنتاجها وبيعها وشراءها ومشاهدتها؛ لأنها صور ورسومات، وهي داخلة في النهي عن التصوير، وبعضهم قال: إنه يحرم إنتاجها وتجوز مشاهدتها والإثم يكون على المنتج، أما المشاهد فلا إثم عليه، وبعضهم قال: إنه يجوز إنتاجها واستعمالها؛ لأنها للأطفال، وأحكام الأطفال يتساهل فيها ما لا يتساهل في أحكام الكبار؛ لأن عائشة -رضي الله عنها- كان عندها بنات تلعب بهن، وعندها حصان ذو أجنحة ولم ينكر ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، بينوا لنا الحكم بالتفصيل؛ لأن هذا الأمر قد انتشر في المجتمع، وحصل فيها الاختلاف -كما سبق-.
الجواب
الأفلام الكرتونية ظاهرة جديدة لم تكن معروفة عند الفقهاء، وإن كان في بعض عباراتهم إشارات قد تدل عليها، وقبل الجواب عن حكمها لا بد من معرفة الحكم في التصوير وأنواعه، فأقول باختصار: العلماء في حكم التصوير لذوات الأرواح طرفان ووسط. الأول: قسم أجاز التصوير بأنواعه مجسماً وغير مجسم، وأولوا النصوص التي جاءت بالتحريم بأن قالوا: هذا في أول الإسلام زمن قرب العهد بالجاهلية وعبادة الأصنام، أما في هذه العصر فليس هناك عبادة للأصنام !!، كما تمسكوا بما وجدوه في بعض كتب التاريخ عن صور وتماثيل قبل الإسلام في بلاد الفرس والروم، ولما فتحها المسلمون لم يغيروها.
الثاني: قسم من العلماء حرم جميع أنواع التصوير كلها مجسمة وغير مجسمة، واستدلوا بظواهر النصوص المحرمة لذلك، كحديث عائشة في الصحيحين (البخاري (5954) ومسلم (2107)):" أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله"، وحديث ابن عباس المتفق عليه: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه بها في جهنم" أخرجه البخاري (2225) ومسلم (2110) واللفظ له، وحديث أبي طلحة عند البخاري (3225) ومسلم (2106) واللفظ للبخاري:"لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة تماثيل".
الثالث والقسم الثالث: وسط بين الطرفين حرموا التصوير المجسم (التماثيل)، وحملوا عليها أحاديث: "كل مصور في النار..." (البخاري (2225) ومسلم (2110) واللفظ له)، وقالوا: هذا النوع من التصوير هو الذي تتحقق فيه المضاهاة لخلق الله، وهو مظنة الشرك بالله وعبادة هذه الصورة من دون الله -سبحانه-.
واستدلوا بالجواز بحديث زيد بن خالد الجهني المتفق عليه: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة إلا رقماً في ثوب" أخرجه البخاري (3226) ومسلم (2106)، فقالوا: إن الصورة المرقومة على القماش ونحوه كالورق، والحائط، والأرض لا بأس بها.
والذي يظهر لي رجحان القول الثالث هذا؛ لأمور منها:
-إن المضاهاة بخلق الله عمل قصدي يتعلق بالقلب، وهو كفر بالله -سبحانه- حتى لو صور ما لا روح فيه كالأحجار والأشجار والجبال والأنهار والبحار، وهذه هي المضاهاة لخلق الله التي علل بها النهي في الأحاديث، وهي الموجبة للعن المصورين ويبين هذه العلة الحديث الآخر: "قال الله -عز وجل-: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو شعيرة" أخرجه الشيخان (البخاري (7559) ومسلم (2111) واللفظ للبخاري). فإذا كانت علة التحريم هي المضاهاة فلا فرق بين ماله روح وما ليسه له روح.
-أما حكم التماثيل (الصور) المجسمة فهي حرام؛ لأنها ما صورت إلا لعظم منزلتها عند أهلها، والتعظيم مظنة العبادة، ومثلها الصور غير المجسمة كالصور الشمسية للعظماء والرؤساء، خاصة إذا رفعت في مكان عالٍ احتراماً وتعظيماً لصاحبها، فحرمتها قطعية حينئذٍ، وقصة قوم نوح وتصوير الصالحين منهم لغرض تذكرهم دليل واضح جلي في مثل هذه الصور، ونحن نعلم ونرى في هذا العصر صوراً وتماثيل لعدد من طواغيت البشر تنتصب أو ترفع في الميادين العامة وأماكن تجمع الناس.
إن لفظ العموم في مثل حديث: "كل مصور في النار" (البخاري (2225) ومسلم (2110) واللفظ له) لا يكون حقيقة إلا على جرم عظيم وكبير هو المضاهاة لخلق الله عن قصد وإرادة ولفظة: (كل)، هي أقوى صيغ العموم وإذا أضيفت لنكرة، فهي لشمول أفراده، كقوله -تعالى-: "كل نفس ذائقة الموت" [آل عمران:185] والمضاهاة في اللغة: المشاكلة والمماثلة، كقوله -تعالى-: "يضاهئون قول الذين كفروا من قبل" [التوبة:30]، أي: يشاكلونهم، فيقولون مثل قولهم، كما تطلق المضاهاة أيضاً على المعارضة كما في الحديث في ذم المصورين: "يضاهون بخلق الله" البخاري (5954) ومسلم (2107)، أي: يصورون الصور قاصدين المشابهة لخلق الله والمعارضة له، وأنّى لأحد ذلك حيث يقال لهم يوم القيامة:"...أحيوا ما خلقتم" أخرجه البخاري (5951) ومسلم (2108)، وصدق الله:" وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون" "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" [البقرة:111].
وعلى هذا يتعين حمل معنى حديث: "كل مصور في النار" (البخاري (2225) ومسلم (2110) واللفظ له)، وما يشابهه على معنى المضاهاة؛ لأننا نجد كثيراً من كبائر الذنوب كقتل النفس، والزنا، والربا، وعقوق الوالدين ...إلخ هي أعظم من التصوير ولم يحكم على أهلها بالنار، كما في هذا الحديث، فظهر أن التصوير بغير قصد المضاهاة -كما فسرناها- لا يدخل في عموم هذا الحديث، وإنما هو لعموم المضاهين بتصويرهم لخلق الله -سبحانه-.
-والنصوص التي وردت عن السلف من الصحابة والتابعين في النهي عن تصوير ماله روح تدل على أنهم فهموا الأحاديث النبوية على أنها من ألفاظ الوعيد لا غير، بدليل قول عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- لما جاء رجل يستفتيه، وكانت مهنته التصوير، قال له: "إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له" رواه البخاري (2225) ومسلم (2110) واللفظ له، ووجه ذلك أنه لم يغلظ عليه القول، بل لم يزد على قوله هذا، وعامة ما روي عنهم هو من باب الورع واتقاء الشبهات.
-إن كثيراً من أنواع التصوير في الوقت الحاضر تستعمل في التعليم والتوجيه كوسائل إيضاح لا يكاد يستغنى عنها، فالصورة الواحدة أحياناً تختصر أو تكفي عن مئة عبارة أو أكثر، وحديث عائشة ولعبها بالبنات وهي صور مجسمه (لها ظل) جائزة بالنص، وعلل العلماء ذلك الجواز لغرض التعليم والتربية، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا جاز التصوير المجسم للصغار لهذا الغرض فهو للكبار من باب أولى، والرجال به أولى من النساء؛ لأنهم مطالبون بتعلم أنواع كثيرة من العلوم قد لا يطلب بعضها من النساء.
ثم إن التصوير اليوم -خاصة ما ليس له ظل- لا يستغنى عنه في ضرورات الناس وحاجاتهم، فالقول بحله وجوازه يتفق مع يسر الدين وسماحته، كقوله -تعالى-:"...يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر..." [البقرة:185]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق" رواه أحمد (13025) "...ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه..." أخرجه البخاري في صحيحه (39)، وقوله:" يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".
-جمهور العلماء يقولون بجواز الصورة إذا قطعت وبقي من أجزائها ما لا تحل فيه الحياة عادة كصورة الرأس بلا صدر، أو البدن بلا رأس، أو كانت الصورة ممتهنة كأن تكون على فراش يوطأ أو مخدة يتكأ عليها، أو منشفة يستحم بها...إلخ، وقد ورد في بعض كتب الفقه إشارات إلى مثل هذه الأفلام الكرتونية أو الكاريكاتورية، يقول ابن قدامة في (المغني) في حكم إجابة الدعوة لوليمة العرس إذا كان في المكان منكر كالصورة:" فإن قطع رأس الصور ذهبت الكراهة، وكذلك إذا كان في صورة بدن بلا رأس، أو رأس بلا بدن، أو جعل له رأس وسائر بدنه صورة غير حيوان لم يدخل في النهي؛ لأن ذلك ليس بصورة حيوان" انتهى.
وقال محمد الرملي الشافعي في كتابه (نهاية المحتاج) في مبحث وليمة العرس على قول صاحب المنهاج "ويحرم تصوير حيوان" قال الرملي:" وإن لم يكن له نظير كبقرة لها منقار أو فرس له جناحان أو صورة من طين أو حلاوة للوعيد الشديد على ذلك" وفي حاشية محمد المغربي المطبوعة مع (نهاية المحتاج):"ويظهر أن خرق بطنه -يعني: الصورة- لا يجوز استدامته، وإن كان بحيث لا تبقى الحياة في الحيوان؛ لأن ذلك لا يخرجه عن المحاكاة" انتهى.
فقول ابن قدامة: "أو جعل له رأس وسائر بدنه صورة غير الحيوان..."، وقول الرملي: "وإن لم يكن لهم نظير كبقر له منقار. . . . . "، وقول المغربي: "ويظهر أن خرق بطنه لا يجوز استدامته..." فهذه الأقوال وإن اختلفت في الحكم الشرعي بناء على تصوير الحيوان الذي لا نظير له هل هو جائز أم لا ؟ أقول: إن فيها إشارات - وإن لم تكن صريحة - إلى الصور الكرتونية والكاريكاتورية كصورة إنسان له جناحان، أو رجل رأسه كالكرة الأرضية، أو رجل أنفه أكبر من جسمه، أو حيوان يخطب بلسان إنسان ونحو ذلك، فإن مثل هذه الصور لا نظير لها في الواقع فليست حيواناً ولا إنساناً من كل وجه، بل أخذت من هذا صفة ومن تلك أخرى.
وبعد هذا البيان ألخص جواب السؤال، فأقول: إن الأفلام الكرتونية الإسلامية نوع من أنواع التصوير الجائز -فيما يظهر لي-، والله أعلم، وعليه فإن إنتاجها وبيعها وشراءها ومشاهدتها جائز كله ما دامت منضبطة بالضوابط الشرعية كسلامة القصد وصحته، وألاّ تشتمل على عبارات شركية، أو بدعية، أو مخلة بالآداب والأخلاق الإسلامية، وحينئذٍ يكون إنتاجها ونشرها قربة إلى الله -سبحانه-، ولا أراني مجانباً للصواب إذا قلت: إن هذا العمل يدخل في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله..." رواه أبو داود (2513) والترمذي (1637) والنسائي (3578) وابن ماجة (2811) وأحمد (17321)، اللهم علمنا ما جهلنا، ووفقنا للصواب حيثما كنا، آمين.
----------------
عرائس الأطفال
المجيب عبد العزيز بن إبراهيم الشبل
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ وسائل الإعلام والترفيه والألعاب والتصوير والتمثيل /الترفيه والألعاب
التاريخ 15/3/1425هـ
السؤال
ما الحكم في تصنيع عرائس لمسرح أطفال بغرض توجيه الأطفال وإيصال دروس تربوية و إسلامية؟ مع العلم بأن العرائس بسيطة ومن القماش، وليست دقيقة الصنع ولا الملامح.
الجواب
الحمد لله:
تصنيع هذه العرائس وبيعها مبني على حكم هذه (العرائس) هل هي جائزة أم لا؟
وقد وردت جملة من الأحاديث في الصحيحين وغيرهما فيها المنع من التصوير ولعن المصوّر، والأمر بطمس الصور، والإخبار بتعذيب المصورين، وغيرها من الأدلة التي ورد فيها التغليظ في التصوير.
وقد اختلف أهل العلم قديماً وحديثاً في المراد بالتصوير الوارد في هذه الأحاديث، هل المراد بالأحاديث تصوير ذوات الأرواح مطلقاً؛ أم أن المراد به تصوير المجسمات ذوات الظل فقط؟
كما اختلفوا أيضاً فيما يستثنى من أحاديث النهي عن التحريم، ومما اختلفوا فيه لعب الأطفال هل هي داخلة في هذا النهي أم أنها مستثناة من النهي؟
والذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أنها مستثناة من هذا النهي؛ للأدلة التالية:
ما رواه البخاري (4130) أن عائشة -رضي الله عنها- كانت تلعب بالبنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم-.
وعند أبي داود (4932) وغيره عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك أو خيبر .. وذكرت أنه رأى بناتاً لها وفي وسطهن فرس له جناحان.
وفي الصحيحين البخاري (1960)، ومسلم (1136) عن الرُّبيّع بنت معوذ أنهم كانوا يصوّمون صبيانهم يوم عاشوراء ويجعلون لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطي تلك اللعبة.
وقد يقال: إن حديث الربيع ليس فيه دليل على أن تلك اللعب كانت من ذوات الأرواح، لكن يبقى حديث عائشة نص في ذلك، لأنها -رضي الله عنها- ذكرت أن تلك اللعب كانت بناتاً وفرساً، ولو لم تكن صوراً فكيف يعلم أنها بنت أو فرس.
كما أن أمثال تلك اللعب تساعد على تربية الأولاد ـ خاصة البنات ـ وتعوّدهن على تربية الأولاد منذ الصغر، والمشاهد أن البنت إذا كان لها لعبة من هذه اللعب تتخذها كالبنت لها، وتحافظ عليها وتعتني بها، وفي هذا الأمر مسلك تربوي مهم، وهو تعويد تلك الفتيات على تربية الأبناء منذ الصغر، إلى غير ذلك من الفوائد التربوية لهذه اللعب.
والقول باستثنائها من أحاديث النهي عن التصوير هو رأي الجمهور.
وقد اختلف العلماء المعاصرون ـ أيضاً ـ في هذه (العرائس) الحديثة هل هي داخلة في الأحاديث الدالة على الجواز أم لا؟ وسبب استشكالهم دخولها في أحاديث الجواز: هو أن التصنيع الحديث لهذه اللعب يكون فيه التصوير دقيقاً حتى قد يخيّل للناظر من أول وهلة أن هذه الدمية حية.
ولكن الذي أراه - والعلم عند الله - أن دقة التصوير لا أثر له في الحكم، والعلماء الذين استثنوا هذه الدمى من النهي عن التصوير إنما استثنوها. لأنها صور، ولو لم تكن صورة لم تكن داخلة في النهي حتى يمنع منها، ولهذا فإن هذه الدمى لو لم تكن للأطفال كانت محرمة، وعلى ذلك فدقة التصنيع لا أثر له في الحكم.
ولكن لا بد من استثناء ما لو كانت هذه الدمى تتضمن أمراً محرماً كما لو كان فيها نغمات موسيقية، أو كان تصويرها على وضع مخلٍّ بالأخلاق، ونحو ذلك.
وإذا تقرر ما سبق فإن الحكم بالنسبة لك الجواز، خاصة وأنك قد ذكرت أن تلك (العرائس) ليست دقيقة الصنع. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
---------------
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 22 / ص 161)
اتخاذ لعب البنات جائز رقم الفتوى:3356تاريخ الفتوى:22 ربيع الأول 1422السؤال : الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وبعد:
خالص تمنياتي لكم بالتوفيق والنجاح دنيا وآخرة وجزاكم الله كل خير على هذا الموقع الطيب.
أرجو بيان حكم الشرع في شراْء الدمى المجسمة التي تمثل صورا للآدميين وللحيوانات على اختلاف أنواعها والتي يقوم الآباء بشرائها لأطفالهم.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد استثنى أكثر أهل العلم من تحريم التصوير وصناعة التماثيل (لعب البنات)، قال النووي رحمه الله : يستثنى من منع تصوير ما له ظل ومن اتخاذه لعب البنات، لما ورد من الرخصة في ذلك. أ.هـ. وسواء أكانت اللعب على هيئة إنسان أو حيوان، مجسمة أو غير مجسمة، لها نظير في الحيوانات أم لا. والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمصن منه، فيسربهن لي فيلعبن معي" رواه مسلم. وفي رواية قالت: "فهبت ريح فكشفت الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع. فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت جناحان فقال: فرس له جناحان؟! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ قالت: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه" رواه أبو داود.
ولما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست سنين وزفت إليه وهي بنت تسع ولعبها معها
ولأن في إباحة ذلك بيعاً وشراء وتصنيعا فوائد للصبايا، منها:
تعويد البنات على الشفقة على الصغار وتربيتهم، وأن البنات يستأنسن بهذه اللعب.
وأما تزيين البيت بهذه الدمى فلا يجوز شرعا، لأن الاستثناء واقع على الضرورة وهي حاجة الأطفال إليها فلا يتعداه إلى غيرها . والله تعالى أعلم
------------------
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 24 / ص 259)
حكم الاحتفاظ بدمى الأطفال رقم الفتوى:3643تاريخ الفتوى:16 صفر 1420السؤال : هل يجوز الاحتفاظ بدمى الأطفال في المنزل؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالدمى التي يلعب بها الأطفال نوعان:
الأول: ما كان مصنوعاً من العهن والرقاع والخرق كما كان في العهد القديم، وهذا النوع لا حرج في صناعته واللعب به والاحتفاظ به عند جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية وجماعة من الحنابلة.
والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر فهبت ريح، فكشفت ناحية الستر عن بناتي. ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع. فقال: "ما هذا الذي أرى وسطهن ؟" قالت: فرس. قال: ما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان. قال: "فرس له جناحان؟" قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه . رواه أبو داود والنسائي.
والسهوة: ما يكون شبيهاً بالرف أو الطاق الذي يوضع فيه الشيء.
وروى البخاري في صحيحه عنها رضي الله عنها قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه (يتغيبن منه) فيسربهن إلي ( يرسلهن إلي ) فيلعبن معي .
والنوع الثاني: ما كان مصنوعاً من البلاستيك ونحوه مما جد في هذا العصر، مما هو مماثل تماماً لجسم الإنسان من حيث اللون والهيئة والملامح ففيه العينان والشفتان والأذنان والشعر.... الخ، وربما أضيف إلى ذلك حركة اليدين أو الرجلين أو العينين، وصوت وكلام مسجل وضحك ونحو ذلك.
ولا مرية في أن هذا النوع من اللعب بينه تفاوت كبير مع النوع الذي كان موجوداً في الزمن الأول، اعني ما صنع من الخرق، وقد اختلف فيه العلماء المعاصرون على قولين: الأول: التحريم، لدخوله تحت عموم الأدلة الدالة على منع صناعة التماثيل، ولمخالفتها الظاهرة للعب التي جاءت فيها الرخصة في حديث عائشة رضي الله عنها، فتبقى هذه الصور على الأصل العام، ولما فيها من شدة المشابهة والمضاهاة لخلق الله.
والقول الثاني: الجواز اعتماداً على الرخصة الثابتة في حديث عائشة رضي الله عنها.
ولهذا نقول: إن الأحوط تجنب هذه الدمى والاستغناء عنها بغيرها من اللعب، مما لا يكون على صورة ذوات الأرواح كالسيارات والقطارات ونحو ذلك.والله أعلم.(1/51)
إِبَاحَةُ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ النَّظَرَ إِلَى اللَّعِبِ
61-7717 أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرَ ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : دَخَلَ الْحَبَشَةُ الْمَسْجِدَ يَلْعَبُونَ فَقَالَ لِي : يَا حُمَيْرَاءُ أَتُحِبِّينَ أَنْ تَنْظُرِي إِلَيْهِمْ فَقُلْتُ : " نَعَمْ ، فَقَامَ بِالْبَابِ وَجِئْتُهُ فَوَضَعْتُ ذَقَنِي عَلَى عَاتِقَهُ فَأَسْنَدْتُ وَجْهِي إِلَى خَدِّهِ " قَالَتْ : " وَمِنْ قَوْلِهِمْ يَوْمَئِذٍ أَبَا الْقَاسِمِ طَيِّبًا " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " حَسْبُكِ " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ ، فَقَامَ لِي ثُمَّ قَالَ : " حَسْبُكِ " فَقُلْتُ : " لَا تَعْجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ " قَالَتْ : " وَمَا لِي حُبُّ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْلُغَ النِّسَاءَ مَقَامُهُ لِي وَمَكَانِي مِنْهُ "(1)
__________
(1) -مشكل الآثار برقم(254) والصحيحية برقم(3277) صحيح
فتح الباري لابن حجر - (ج 3 / ص 371)
قَوْله : ( يَلْعَبُ فِيهِ اَلسُّودَانُ ) فِي رِوَايَةِ اَلزُّهْرِيّ اَلْمَذْكُورَةِ " وَالْحَبَشَة يَلْعَبُونَ فِي اَلْمَسْجِدِ " وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ مُعَلَّقَةٍ وَوَصَلَهَا مُسْلِم " بِحِرَابِهِمْ " وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ هِشَام عَنْ أَبِيهِ " جَاءَ حَبَش يَلْعَبُونَ فِي اَلْمَسْجِدِ " ، قَالَ اَلْمُحِبّ اَلطَّبَرِيّ : هَذَا اَلسِّيَاقُ يُشْعِرُ بِأَنَّ عَادَتَهُمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ عِيد ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ اِبْنِ حِبَّانَ " لَمَّا قَدِمَ وَفْد اَلْحَبَشَةِ قَامُوا يَلْعَبُونَ فِي اَلْمَسْجِدِ " وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ اَلتَّرْخِيصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَال اَلْقُدُوم ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قُدُومهمْ صَادَفَ يَوْمَ عِيدٍ وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ اَللَّعِب فِي اَلْأَعْيَادِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ كَعَادَتِهِمْ ثُمَّ صَارُوا يَلْعَبُونَ يَوْمَ كُلِّ عِيد ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَس قَالَ " لَمَّا قَدِمَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اَلْمَدِينَةَ لَعِبَتْ اَلْحَبَشَة فَرَحًا بِذَلِكَ لَعِبُوا بِحِرَابِهِمْ " ، وَلَا شَكَّ أَنَّ يَوْمَ قُدُومِهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهُمْ أَعْظَم مِنْ يَوْمِ اَلْعِيدِ ، قَالَ اَلزَّيْن بْن اَلْمُنِيرِ : سَمَّاهُ لَعِبًا وَإِنْ كَانَ أَصْله اَلتَّدْرِيب عَلَى اَلْحَرْبِ وَهُوَ مِنْ اَلْجِدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ شَبَه اَللَّعِب ، لِكَوْنِهِ يَقْصِدُ إِلَى اَلطَّعْنِ وَلَا يَفْعَلُهُ وَيُوهِمُ بِذَلِكَ قَرْنه وَلَوْ كَانَ أَبَاهُ أَوْ اِبْنَهُ .
قَوْله : ( فَإِمَّا سَأَلْت رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا قَالَ : تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ ) هَذَا تَرَدُّد مِنْهَا فِيمَا كَانَ وَقَع لَهُ هَلْ كَانَ أَذِنَ لَهَا فِي ذَلِكَ اِبْتِدَاء مِنْهُ أَوْ عَنْ سُؤَالٍ مِنْهَا ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنْ سَأَلْت بِسُكُونِ اَللَّامِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ اَللَّامِ فَيَكُونُ كَلَام اَلرَّاوِي فَلَا يُنَافِي مَعَ ذَلِكَ قَوْلَهُ " وَإِمَّا قَالَ تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ " وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ اَلرِّوَايَاتُ عَنْهَا فِي ذَلِكَ : فَفِي رِوَايَة اَلنَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيد بْن رُومَان عَنْهَا " سَمِعْت لَغَطًا وَصَوْت صِبْيَان ، فَقَامَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَبَشِيَّة تَزْفِنُ - أَيْ تَرْقُصُ - وَالصِّبْيَان حَوْلَهَا فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ ، تَعَالَيْ فَانْظُرِي " فَفِي هَذَا أَنَّهُ اِبْتَدَأَهَا ، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهَا قَالَتْ لِلَّاعِبِينَ " وَدِدْت أَنِّي أَرَاهُمْ " فَفِي هَذَا أَنَّهَا سَأَلَتْ ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا اِلْتَمَسَتْ مِنْهُ ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهَا ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا " دَخَلَ الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا حُمَيْرَاءُ أَتُحِبِّينَ أَنْ تَنْظُرِي إِلَيْهِمْ ؟ فَقُلْت : نَعَمْ " إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَلَمْ أَرَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ ذِكْرَ الْحُمَيْرَاءِ إِلَّا فِي هَذَا . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ هَذِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَنْهَا قَالَتْ " وَمِنْ قَوْلِهِمْ يَوْمَئِذٍ : أَبَا الْقَاسِمِ طَيِّبًا " كَذَا فِيهِ بِالنَّصْبِ ، وَهُوَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْحَبَشَةِ ، وَلِأَحْمَدَ وَالسَّرَّاجِ وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ " أَنَّ الْحَبَشَةَ كَانَتْ تَزْفِنُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ لَهُمْ ، فَقَالَ : مَا يَقُولُونَ ؟ قَالَ يَقُولُونَ : مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ " .
قَوْلُهُ : ( فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ ) أَيْ مُتَلَاصِقَيْنِ وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ بِدُونِ وَاوٍ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ( اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ " فَوَضَعْت رَأْسِي عَلَى مَنْكِبِهِ " وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَذْكُورَةِ " فَوَضَعْت ذَقْنِي عَلَى عَاتِقِهِ وَأَسْنَدْت وَجْهِي إِلَى خَدِّهِ " وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْهَا " أَنْظُرُ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ " وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ ، وَرِوَايَةُ أَبِي سَلَمَةَ أَبْيَنُهَا . وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الْآتِيَةِ بَعْدُ عَنْ عُرْوَةَ " فَيَسْتُرُنِي وَأَنَا أَنْظُرُ " وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ بِلَفْظِ " يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ " وَيُتَعَقَّبُ بِهِ عَلَى الزَّيْنِ بْنِ الْمُنِيرِ فِي اِسْتِنْبَاطِهِ مِنْ لَفْظِ حَدِيثِ الْبَابِ جَوَازُ اِكْتِفَاءِ الْمَرْأَةِ بِالتَّسَتُّرِ بِالْقِيَامِ خَلْفَ مَنْ تُسْتَرُ بِهِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ إِذَا قَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الرِّدَاءِ ، لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهَا التَّنْصِيصُ عَلَى وُجُودِ التَّسَتُّرِ بِالرِّدَاءِ .
(( قلت : بل ثبت ذكر الحميراء في أكثر من حديث انظر ابن ماجة برقم(2568) والآحاد والمثاني برقم(2668) والمستدرك برقم(4610) ودلائل النبوة للبيهقي برقم(2711) وشعب الإيمان برقم(3675و3680) وغير ذلك )(1/52)
62- 7718 أَخْبَرَنِي الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ عَمْرٍو ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، وَأَنَا جَارِيَةٌ فِي الْمَسْجِدِ فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ "(1)
__________
(1) - أخرجه البخاري برقم( 454 و 455 و 950 و 988 و2906 ،و 3529 و5190و 5236 ) ومسلم برقم(2101) ونص برقم(1606) والمسند الجامع برقم(17000)
شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 288)
وَفِيهِ جَوَاز نَظَر النِّسَاء إِلَى لَعِب الرِّجَال مِنْ غَيْر نَظَر إِلَى نَفْس الْبَدَن . وَأَمَّا نَظَر الْمَرْأَة إِلَى وَجْه الرَّجُل الْأَجْنَبِيّ فَإِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ فَحَرَام بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَة وَلَا مَخَافَة فِتْنَة فَفِي جَوَازه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَصَحّهمَا تَحْرِيمه لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارهنَّ } وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَة وَأُمّ حَبِيبَة : ( اِحْتَجِبَا عَنْهُ ) أَيْ عَنْ اِبْن أُمّ مَكْتُوم فَقَالَتَا : إِنَّهُ أَعْمَى لَا يُبْصِرنَا فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَيْسَ تُبْصِرَانِهِ ) ؟ وَهُوَ حَدِيث حَسَن رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره وَقَالَ : هُوَ حَدِيث حَسَن ، وَعَلَى هَذَا أَجَابُوا عَنْ حَدِيث عَائِشَة بِجَوَابَيْنِ وَأَقْوَاهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا نَظَرَتْ إِلَى وُجُوههمْ وَأَبْدَانهمْ ، وَإِنَّمَا نَظَرَتْ لَعِبهمْ وَحِرَابهمْ ، وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ تَعَمُّد النَّظَر إِلَى الْبَدَن وَإِنْ وَقَعَ النَّظَر بِلَا قَصْد صَرَفَتْهُ فِي الْحَال . وَالثَّانِي : لَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْل نُزُول الْآيَة فِي تَحْرِيم النَّظَر ، وَأَنَّهَا كَانَتْ صَغِيرَة قَبْل بُلُوغهَا ، فَلَمْ تَكُنْ مُكَلَّفَة عَلَى قَوْل مَنْ يَقُول : إِنَّ لِلصَّغِيرِ الْمُرَاهِق النَّظَر وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَفِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرَّأْفَة وَالرَّحْمَة وَحُسْن الْخُلُق وَالْمُعَاشَرَة بِالْمَعْرُوفِ مَعَ الْأَهْل وَالْأَزْوَاج وَغَيْرهمْ
قَوْلهَا : ( وَأَنَا جَارِيَة فَاقْدُرُوا قَدْر الْجَارِيَة الْعَرِبَة حَدِيثَة السِّنّ ) مَعْنَاهُ : أَنَّهَا تُحِبّ اللَّهْو وَالتَّفَرُّج وَالنَّظَر إِلَى اللَّعِب حُبًّا بَلِيغًا وَتَحْرِص عَلَى إِدَامَته مَا أَمْكَنَهَا وَلَا تَمَلّ ذَلِكَ إِلَّا بِعُذْرٍ مِنْ تَطْوِيل .
فتح الباري لابن حجر - (ج 14 / ص 480)
قَوْله ( قَدْر الْجَارِيَة الْحَدِيثَة السِّنّ ) أَيْ الْقَرِيبَة الْعَهْد بِالصِّغَرِ ، وَقَدْ بَيَّنْت فِي شَرْح الْمَتْن فِي الْعِيدَيْنِ أَنَّهَا كَانَتْ يَوْمئِذٍ بِنْت خَمْس عَشْرَة سَنَة أَوْ أَزْيَد ، وَوَقَعَ عِنْد مُسْلِم مِنْ رِوَايَة عَمْرو بْن الْحَارِث عَنْ الزُّهْرِيِّ " الْجَارِيَة الْعَرِبَة " وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَكَسْرِ الرَّاء بَعْدهَا مُوَحَّدَة ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيره فِي صِفَة الْجَنَّة مِنْ بَدْء الْخَلْق .
فتح الباري لابن رجب - (ج 3 / ص 255)
والمقصود من هذا الحديث : جواز اللعب بآلات الحرب في المساجد ؛ فان ذلك من باب التمرين على الجهاد ، فيكون من العبادات .
ويؤخذ من هذا : جواز تعلم الرمي ونحوه في المساجد ، ما لم يخشى الأذى بذلك لمن في المسجد ، كما تقدم في الأمر بالإمساك على نصال السهم في المسجد لئلا تصيب مسلما ، ولهذا لم تجر عادة المسلمين بالرمي في المساجد .
وقد قال الأوزاعي : كان عمر بن عبد العزيز يكره النصال بالعشي ، فقيل له : لم ؟ قال : لعمارة المساجد .
ولكن أن كان مسجد مهجور ليس فيه أحد ، أو كان المسجد مغلقا ليس فيه إلا من يتعلم الرمي فلا يمنع جوازه حينئذ . والله أعلم .
وحكى القاضي عياض ، عن بعض شيوخه ، أنه قال : إنما يمنع في المساجد من عمل الصنائع التي يختص بنفعها آحاد الناس وتكتسب به ، فأما الصنائع التي يشمل نفعها المسلمين في دينهم كالمثاقفة ، وإصلاح آلات الجهاد مما لا امتهان للمسجد في عمله فلا بأس به . والله أعلم .
شرح ابن بطال - (ج 13 / ص 297)
قال المهلب: فيه جواز نقل الأخبار عن حسن المعاشرة وضرب الأمثال بها، والتأسى بأهل الإحسان من كل أمة، ألا ترى أن أم زرع أخبرت عن أبى زرع بحسن عشرته، فتمثله النبى، عليه السلام.
وفيه: جواز تذكير الرجل امرأته بإحسانه إليها؛ لأنه لما جاز من النساء كفران العشير، جاز تذكيرهن بالإحسان، وفيه فى قصة الحبشة أن تفسير حسن المعاشرة هو الموافقة والمساعدة على الإرادة غير المحرمة، والصبر على أخلاق النساء والصبيان فى غير المحرم من اللهو، وإن كان الصابر كارهًا لما يحبه أهله.
وقال أبو عبيد: سمعت أهل العلم يقولون فى تفسير هذا الحديث: قول الأولى: لحم جمل غث، تعنى المهزول. وقال أبو سعيد النيسابورى: ليس شىء من الغثات من الأزواج الثمانية هو أخبث غثاثة من الجمل؛ لأنه يجمع خبث طعم وخبث ريح.
وفى هذا الحديث: حجة لمن أجاز النظر إلى اللعب فى الوليمة وغيرها.
وفيه: جواز نظر النساء إلى اللهو واللعب، لاسيما الحديثة السن، فإن النبى عليه السلام قد عذرها لحداثة سنها.
وفيه: أنه لا بأس بنظر المرأة إلى الرجل من غير ريبة، ألا ترى إلى ما اتفق عليه العلماء فى الشهادة على المرأة أن ذلك لا يكون إلا بالنظر إلى وجهها، ومعلوم أنها تنظر إليه حينئذ كما ينظر إليها، وإنما أراد البخارى بهذا الحديث، والله أعلم، الرد لحديث ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة، أنها قالت: كنت أنا وميمونة جالستين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاستأذن عليه ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: « احتجبا منه » ، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا؟ قال: أفعمياوان أنتما؟ » ، وحديث عائشة أصح منه؛ لأن نبهان ليس بمعروف بنقل العلم ولا يروى إلا حديثين، أحدهما هذا، والثانى فى المكاتب إذا كان معه ما يؤدى احتجبت منه سيدته، فلا يشتغل بحديث نبهان لمعارضة الأحاديث الثابت له وإجماع العلماء.
طرح التثريب - (ج 7 / ص 190)
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ بِمَعْنَاهُ وَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ ( تَسْمَعُ اللَّهْوَ ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ وَفِيهِ وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا بَعْدَ قَوْلِهِ إلَى لَعِبِهِمْ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَمُسْلِمٌ مُسْنَدًا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ زَيْدٍ وَفِيهِ حَرِيصَةٌ عَلَى اللَّهْوِ وَذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّهُ إنَّمَا سَاقَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْمُعَلَّقَةَ مُخْتَصَرَةً ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ وَفِيهِ ( الْحَرِيصَةُ عَلَى اللَّهْوِ ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَفِيهِ { فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْغَرْبَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ } خَمْسَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى تَرَكْتهَا اخْتِصَارًا .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ جَوَازُ اللَّعِبِ بِالسِّلَاحِ وَنَحْوِهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ فِي الْمَسْجِدِ وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْجِهَادِ وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَقَالَ الْمُهَلَّبُ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ : الْمَسْجِدُ مَوْضُوعٌ لِأَمْرِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَمَا كَانَ مِنْ الْأَعْمَالِ مِمَّا يَجْمَعُ مَنْفَعَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَسْجِدِ وَاللَّعِبُ بِالْحِرَابِ مِنْ تَدْرِيبِ الشُّجْعَانِ عَلَى مَعَانِي الْحُرُوبِ وَهِيَ مِنْ الِاشْتِدَادِ لِلْعَدُوِّ وَالْقُوَّةِ عَلَى الْحَرْبِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ .
( الثَّالِثَةُ ) وَفِيهِ جَوَازُ نَظَرِ النِّسَاءِ إلَى لَعِبِ الرِّجَالِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ إيَّاهَا لِتَنْظُرَ إلَى اللَّعِبِ بِالْحِرَابِ لِتَضْبِطَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ وَتَنْقُلَ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ الْمُحْكَمَةِ إلَى بَعْضِ مَنْ يَأْتِي مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَتُعَرِّفَهُمْ بِذَلِكَ .
( الرَّابِعَةُ ) وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَرْوِيحِ النَّفْسِ بِالنَّظَرِ إلَى بَعْضِ اللَّهْوِ الْمُبَاحِ .
( الْخَامِسَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا أَوْجُهٌ : ( أَحَدُهَا ) وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ جَوَازَهُ فَتَنْظُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ إلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ .
وَ ( الثَّانِي ) لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنْهُ مَا يَبْدُو فِي الْمِهْنَةِ فَقَطْ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُحْتَمَلٌ لِلْوَجْهَيْنِ .
وَ ( الثَّالِثُ ) وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ لِجَمَاعَةِ تَحْرِيمِ نَظَرِهَا لَهُ كَمَا يَحْرُمُ نَظَرُهُ إلَيْهَا وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } { وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُمِّ سَلَمَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا احْتَجِبَا عَنْهُ أَيْ عَنْ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَتَا : إنَّهُ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَحَسَّنَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا بِجَوَابَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا نَظَرَتْ إلَى وُجُوهِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَإِنَّمَا نَظَرَتْ لَعِبَهُمْ وَحِرَابَهُمْ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعَمُّدُ النَّظَرِ إلَى الْبَدَنِ وَإِنْ وَقَعَ بِلَا قَصْدٍ صَرَفَتْهُ فِي الْحَالِ .
وَ ( الثَّانِي ) لَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ صَغِيرَةً قَبْلَ بُلُوغِهَا فَلَمْ تَكُنْ مُكَلَّفَةً عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الصَّغِيرَ الْمُرَاهِقَ لَا يُمْنَعُ النَّظَرَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ النَّظَرُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَا خَوْفِ فِتْنَةٍ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ حَرُمَ قَطْعًا .
( السَّادِسَةُ ) وَفِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَمُعَاشَرَةِ الْأَهْلِ بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ : ( مِنْهَا ) تَمْكِينُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَائِشَةَ مِنْ النَّظَرِ إلَى هَذَا اللَّهْوِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ ذَلِكَ عَلَيْهَا بَلْ جَعَلَ الْخِيرَةَ إلَيْهَا فِي قَدْرِ وُقُوفِهَا .
( وَمِنْهَا ) مُبَاشَرَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سِتْرَهَا بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَبِرِدَائِهِ وَمُرَافَقَتُهَا فِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكِلْهُ إلَى غَيْرِهِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَتْ بِقَوْلِهَا : ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي .
( السَّابِعَةُ ) . ( إنْ قُلْت ) فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بَيْنَ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَوَضَعْت رَأْسِي عَلَى مَنْكِبِهِ وَكُلُّهَا فِي الصَّحِيحِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا .
( قُلْت ) لَا تَنَافِي بَيْنَهَا فَإِنَّهَا إذَا وَضَعَتْ رَأْسَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ صَارَتْ بَيْنَ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ فَإِنْ تَمَكَّنَتْ فِي ذَلِكَ صَارَ خَدُّهَا عَلَى خَدِّهِ وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ قَارَبَ خَدُّهَا خَدَّهُ .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهَا فَاقْدُرُوا هُوَ بِضَمِّ الدَّالِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مِنْ التَّقْدِيرِ أَيْ قَدِّرُوا فِي أَنْفُسِكُمْ قَدْرَ رَغْبَةِ مَنْ تَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ حَدَاثَةِ السِّنِّ وَالْحِرْصِ عَلَى اللَّهْوِ وَلَا مَانِعَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ وَأَشَارَتْ بِذَلِكَ إلَى طُولِ مُدَّةِ وُقُوفِهَا لِذَلِكَ ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تُحِبُّ اللَّهْوَ وَالتَّفَرُّجَ وَالنَّظَرَ إلَى اللَّعِبِ حُبًّا بَلِيغًا وَتَحْرِصُ عَلَى إدَامَتِهِ مَا أَمْكَنَهَا وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ .
وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْعَرِبَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَاهُ الْمُشْتَهِيَةُ لِلَّعِبِ الْمُحِبَّةُ لَهُ .
( التَّاسِعَةُ ) قَوْلُهُ : الْحَرِيصَةُ لِلَّهْوِ ، كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِنَا مِنْ مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا حَرِيصَةٌ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهَا مِنْ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَلَمْ تَتَّصِفْ بِالْحِرْصِ لِأَجْلِ مَحَبَّةِ الْمَالِ كَمَا يُعْهَدُ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِتِلْكَ الصِّفَةِ ، وَمَا كَانَ حِرْصُهَا إلَّا كَحِرْصِ الصِّغَارِ عَلَى تَحْصِيلِ مَا تَهْوَى نَفْسُهَا مِنْ النَّظَرِ لِلَّعِبِ ، وَفِي الصَّحِيحِ حَرِيصَةً عَلَى اللَّهْوِ وَهُوَ أَظْهَرُ تَوْجِيهًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا " الْحَدِيثَةِ السِّنِّ تَسْمَعُ اللَّهْوَ " أَيْ إنَّ حَدَاثَةَ سِنِّهَا مَعَ سَمَاعِ اللَّهْوِ يُوجِبُ مُلَازَمَتَهَا لَهُ فَمَا ظَنُّك بِرُؤْيَةِ اللَّهْوِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ مِنْ سَمَاعِهِ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَوْلُهَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ ( وَاَللَّهِ ) فِيهِ الْحَلِفُ لِتَوْكِيدِ الْأَمْرِ وَتَقْوِيَتِهِ وَقَوْلُهَا رَأَيْت بِضَمِّ التَّاءِ وَالْحُجْرَةُ أَرَادَتْ بِهَا مَنْزِلَهَا وَكَلَامُ بَعْضِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّ أَصْلَهَا حَظِيرَةُ الْإِبِلِ وَالْحَبَشَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْبَاءِ وَالشِّينِ وَيُقَالُ فِيهِمْ : حَبَشَ بِغَيْرِ هَاءٍ ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ وَقَدْ قَالُوا : الْحَبَشَةَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَاحِدَ لَهُ عَلَى مِثَالِ فَاعِلٍ فَيَكُونُ مُكَسَّرًا عَلَى فَعَلَةٍ .(1/53)
63-7719 أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ : حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَقُومُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي ، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابٍ فِي الْمَسْجِدِ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى لَعِبِهِمْ ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَمَلُّ ، فَاقْدُرُوا بِقَدْرِ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ(1)
64-7720 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ : سَمِعْنَاهُ مِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : كَانَ الْحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابٍ لَهُمْ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ بَيْنَ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي صَدَرْتُ "(2)
65-7721 أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " لَعِبَتِ الْحَبَشَةَ فَجِئْتُ مِنْ وَرَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَجَعَلَ يُطَأْطِئُ ظَهْرَهُ حَتَّى أَنْظُرَ (3)
66-7722 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَاصِمٍ ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ : " كَانَ زِنْجٌ يَلْعَبُونَ بِالْمَدِينَةِ ، فَوَضَعَتْ عَائِشَةُ حَنَكَهَا عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ "(4)
__________
(1) - الببخاري برقم(5236) ونص برقم(1606)
شرح سنن النسائي - (ج 3 / ص 55)
حَاشِيَةُ السِّيُوطِيِّ :
قَالَ النَّوَوِيّ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ قَبْل بُلُوغ عَائِشَة أَوْ قَبْل نُزُول الْآيَة فِي تَحْرِيم النَّظَر أَوْ كَانَتْ تَنْظُر إِلَى لَعِبهمْ بِحِرَابِهِمْ لَا إِلَى وُجُوههمْ وَأَبْدَانهمْ وَإِنْ وَقَعَ بِلَا قَصْد أَمْكَنَ أَنْ تَصْرِفهُ فِي الْحَال وَقَالَ الشَّيْخ عِزّ الدِّين اِبْن عَبْد السَّلَام : فِي تَمْكِينه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَبَشَة مِنْ اللَّعِب فِي الْمَسْجِد دَلِيل عَلَى جَوَاز ذَلِكَ فَلِمَ كَرِهَ الْعُلَمَاء اللَّعِب فِي الْمَسَاجِد ؟ قَالَ : وَالْجَوَاب أَنَّ لَعِب الْحَبَشَة كَانَ بِالسِّلَاحِ وَاللَّعِب بِالسِّلَاحِ مَنْدُوب إِلَيْهِ لِلْقُوَّةِ عَلَى الْجِهَاد فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ الْقُرَب كَإِقْرَاءِ عِلْم وَتَسْبِيح وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْقُرَب وَلِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْه النُّدُور وَاَلَّذِي يُفْضِي إِلَى اِمْتِهَان الْمَسَاجِد إِنَّمَا هُوَ أَنْ يُتَّخَذ ذَلِكَ عَادَة مُسْتَمِرَّة وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَا أَكْرَه الْقَضَاء فِي الْمَسْجِد الْمَرَّة وَالْمَرَّتَيْنِ وَإِنَّمَا أَكْرَههُ عَلَى وَجْه الْعَادَة
(2) - صحيح
(3) -المسند الجامع برقم(17003) صحيح
(4) - المسند الجامع برقم(10729) والمجمع برقم( 7686 ) وهو صحيح
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيبا في قلوبهن، رقيقا في معاملة أزواجه رضي الله عنهن، وكان يتغاضى عما يحدث منهن مما لا يليق في حضرته، وإذا حدث شجار بين زوجاته قابله بالملاطفة والسكينة، تقول عائشة رضي الله عنها: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحريرة (الحريرة هي الحساء المطبوخ من الدقيق والدسم والماء) قد طبختها له فقلت لسودة والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها: كلي فأبت فقلت: لتأكلين أو لألطخن وجهك فأبت فوضعت يدي في الحريرة فطلبت وجهها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فوضع بيده لها وقال لها: الطخي وجهها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم لها فمر عمر فقال: يا عبد الله فظن أنه سيدخل فقال: قوما فاغسلا وجوهكما قالت عائشة: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح خلا محمد بن عمرو بن علقمة وحديثه حسن. 7399
وعن عائشة قالت: بعثت صفية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام قد صنعته له وهو عندي فلما رأيت الجارية أخذتتي رعدة حتى استقبلتني أفكل (أي رعدة وهي تكون من البرد أو الخوف، ولا يبنى منها فعل) فضربت القصعة فرميت بها قالت: فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفت الغضب في وجهه فقلت: أعوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلغبني اليوم رواه أبو داود وغيره باختصار.ورواه أحمد ورجاله ثقات. 7408
. فما زاد فداه أبي وأمي من أن تغيرت أسارير وجهه ، وما ضرب ولا سب ولا طلق.
رحمة كله وحزم وعزم
لاتحل البأساء منه عرى الصـ
ووقار وعصمة وحياء
ـبر ولا تستخفه السراء
كان صلى الله عليه وسلم يراعي مشاعرهن ، ويمتنع من أشياء يكرهنها تطييبا لمشاعرهن، فعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أزواجه كل غداة فيسلم عليهن فكانت منهن امرأة عندها عسل فكان إذا دخل عندها أحضرت له منه شيئا فيمكث عندها وإن عائشة وحفصة وجدتا من ذلك (حدثت منهما غيرة) فلما دخل عليهما قالتا: يا رسول الله إنا نجد منك ريح مغافير (المغافير: شيء ينضحه شجر العرفط، وله ريح كريهة منكرة) فترك ذلك العسل. ( تطييبا لخاطرهن ). رواه أبو يعلى وفيه موسى بن يعقوب الزمعي وثقه ابن معين وغيره، وضعفه ابن المديني، وبقية رجاله ثقات. 7401
بل كان في حسن معاشرته صلى الله عليه وسلم أن عائشة استندت لظهره لتنظر لعب الأحباش، مراعاة لشعورها وإكراما لحقها في اللهو المباح ، فقد كان زنج يلعبون بالمدينة فوضعت عائشة منكبها على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت تنظر إليهم. رواه الطبراني عن عمرو بن حريث وإسناده حسن. 7402
ومن روائع السنة العملية في حب الزوجة والعطف عليها ما روته صفية بنت حيي أن النبي صلى الله عليه وسلم حج بنسائه حتى إذا كان ببعض الطريق نزل رجل فساق بهن فأسرع فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كذاك سوقك بالقوارير يعني النساء فبينا هم يسيرون برك بصفية ابنة حيي جملها وكانت من أحسنهن ظهرا فبكت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخبر بذلك فجعل يمسح دموعها بيده وجعلت تزداد بكاء وهو ينهاها فلما أكثرت زبرها وانتهرها وأمر الناس فنزلوا ولم يكن يريد أن ينزل وذكرت الحديث، وفيه من ملاطفته صلى الله عليه وسلم لأهله، وإيقاف الناس من أجل زوجته رضي الله عنها رواه أحمد وفيه سمية روى لها أبو داود وغيره ولم يضعفها أحد، وبقية رجاله ثقات. 7407
وتروي لنا كتب الحديث روائع من أخلاق الحبيب صلى الله عليه وسلم في الصبر مع نسائه، وكيف كان عليه الصلاة والسلام في أخلاقه معهن، وكيف كان يتعامل مع غيرتهن كضرائر، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، قالت عائشة كان متاعي فيه خف وكان على جمل ناج وكان متاع صفية فيه ثقل وكان على جمل ثفال (أي بطيء ثقيل) بطيء يبطيء بالركب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حولوا متاع عائشة على جمل صفية وحولوا متاع صفية على جمل عائشة حتى يمضي الركب قالت عائشة: فلما رأيت ذلك قلت يا لعباد الله غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة إن متاعك كان فيه خف وكان متاع صفية فيه ثقل فأبطأ بالركب فحولنا متاعها على بعيرك وحولنا متاعك على بعيرها قالت: فقلت ألست تزعم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: فتبسم فقال أو في شك أنت يا أم عبد الله؟ قالت: قلت ألست تزعم أنك رسول الله فهلا عدلت وسمعني أبو بكر وكان فيه غرب أي حدة فأقبل عليَّ ولطم وجهي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مهلا يا أبا بكر فقال: يا رسول الله أما سمعت ما قالت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الغيرى لا تبصر أسفل الوادي من أعلاها. رواه أبو يعلى وفيه محمد بن إسحاق وهو مدلس وسلمة بن الفضل وقد وثقه جماعة ابن معين وابن حبان وأبو حاتم وضعفه جماعة وبقية رجاله رجال الصحيح. وقد رواه أبو الشيخ بن حيان في كتاب الأمثال وليس فيه غير أسامة بن زيد الليثي وهو من رجال الصحيح وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات. 7410
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ونحن معه فاعتل بعير لصفية وكان مع زينب فضل فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بعير صفية قد اعتل فلو أعطيتها بعيرا لك قالت: أنا أعطي هذه اليهودية فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرها بقية ذي الحجة ومحرم وصفر وأيام من شهر ربيع الأول حتى رفعت متاعها وسريرها فظنت أنه لا حاجة له فيها فبينا هي ذات يوم قاعدة بنصف النهار إذ رأت ظله قد أقبل فأعادت سريرها ومتاعها. رواه أبو داود باختصار، رواه الطبراني في الأوسط وفيه سمية روى لها أبو داود وغيره ولم يجرحها أحد، وبقية رجاله ثقات. 7411(1/54)
67-7723 أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الضَّعِيفُ قَالَ : حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فَسَمِعْنَا لَغَطًا وَصَوْتَ الصِّبْيَانِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ تَزْفِنُ وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ " تَعَالَيْ فَانْظُرِي ، فَجِئْتُ فَوَضَعْتُ ذَقَنِي عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ إِلَى رَأْسِهِ فَقَالَ لِي : " أَمَا شَبِعْتِ ؟ " فَجَعَلْتُ أَقُولُ : " لَا ، لِأَنْظُرَ مَنزِلَتِي عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ عُمَرُ فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ ، وَالْإِنْسِ قَدْ فَرُّوا مِنْ عُمَرَ " قَالَتْ : " فَرَجَعْتُ " (1)
__________
(1) - أخرجه الترمذي برقم(4055) صحيح
تحفة الأحوذي - (ج 9 / ص 102)
3624 - قَوْلُهُ : ( فَسَمِعْنَا لَغَطًا ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَتَانِ صَوْتًا شَدِيدًا وَضَجَّةً لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهَا
( فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ جَارِيَةٌ أَوْ اِمْرَأَةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْحَبَشِ
( تَزْفِنُ ) بِسُكُونِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَيُضَمُّ أَيْ تَرْقُصُ وَتَلْعَبُ
( وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا ) أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَيَتَفَرَّجُونَ عَلَيْهَا
" تَعَالَيْ " بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ هَلُمِّي وَتَقَدَّمِي
( فَوَضَعْت لَحْيِي ) بِالْإِضَافَةِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ تَثْنِيَةٌ لَحْيٍ بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَنْبَتُ اللِّحْيَةِ مِنْ الْإِنْسَانِ
( عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وَهُوَ مُجْتَمَعُ رَأْسِ الْكَتِفِ وَالْعَضُدِ
( إِلَيْهَا ) أَيْ الْحَبَشِيَّةِ
( مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ إِلَى رَأْسِهِ ) ظَرْفٌ لِأَنْظُرَ حُذِفَ مِنْهُ فِي أَيْ فِيمَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ إِلَى رَأْسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
( فَجَعَلْت أَقُولُ لَا لِأَنْظُرَ مَنْزِلَتِي عِنْدَهُ ) أَيْ لَا لِعَدَمِ الشِّبَعِ حِرْصًا عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا بَلْ كَانَ قَصْدِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ لِأَنْظُرَ مَنْزِلَتِي وَغَايَةَ مَرْتَبَتِي وَمَحَبَّتِي عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
( إِذْ طَلَعَ عُمَرُ ) أَيْ ظَهَرَ
( فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا ) بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ الِارْفِضَاضِ أَيْ تَفَرَّقُوا عَنْهَا مِنْ هَيْبَةِ عُمَرَ
" إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَدْ فَرُّوا "
كَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فِي صُورَةِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَإِلَّا كَيْفَ رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَاهُ عَائِشَةَ .
قَوْلُهُ : ( هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ )
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 6 / ص 82)
2624 - (إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر) بن الخطاب لمهابته كما سبق موضحاً وهذا قاله وقد رأى حبشية تزفن والناس حولها إذ طلع عمر فانفضوا عنها مهابة له وخوفاً منه فتلك المرأة شيطان الإنسان لأنها تفعل فعل الشيطان.
- (ت) في المناقب (عن عائشة) قالت: سمعنا لغطاً وصوت صبيان فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإذا حبشية تزفن فقال: يا عائشة تعالي فانظري فجئت فوضعت لحيي على منكبه أنظر إليها فقال: أما شبعت فأقول: لا إذ طلع عمر فانفض الناس فذكره قال الترمذي: صحيح غريب من هذا الوجه انتهى وفيه زيد بن الحباب قال في الكاشف لم يكن به بأس وقد يهم.
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 17 / ص 362)
وأما إعلال فتح اللام في الجمع والمخاطبة فبناء على القلب والحذف فجئت فوضعت لحيي بالإضافة إلى ياء المتكلم تثنية لحي بالفتح وسكون الحاء المهملة منبت الإنسان على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مجتمع رأس الكتف والعضد فجعلت أي شرعت أنظر إليها أي إلى الحبشية ما بين المنكب ظرف لأنظر حذف منه في أي فيما بين المنكب إلى رأسه فقال لي أي بعد ساعة أو فكان يقول لي أما شبعت أما شبعت أي مكررا فجعلت أقول لا أي لا لا لا لعدم الشبع حرصا على النظر إليها بل كان قصدي من قولي لا لأنظر منزلتي أي نهاية مرتبتي وغاية محبتي عنده إذ طلع عمر أي ظهر فأرفض الناس عنها بتشديد الضاد المعجمة أي تفرق النظارة التي كانوا حول الحبشية الراقصة عنها لمهابة عمر والخوف من إنكاره عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس وفي رواية إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر قالت أي عائشة فرجعت أي من عند النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيتي وفيه دليل على عظمة خلقه عليه الصلاة والسلام وغلبة صفة الجمال كما يدل على غلبة نعت الجلال على عمر رضي الله عنه رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8005)
رقص
التّعريف
1 - الرّقص والرّقص والرّقصان معروف.
وهو مصدر رقص يرقص رقصًا ، والرّقص أحد المصادر الّتي جاءت على فعل فعلًا نحو طرد طردًا ، وحلب حلبًا.
ويقال: أرقصت المرأة ولدها ورقّصته ، وفلان يرقص في كلامه أي: يسرع ، وله رقص في القول أي: عجلة.
فتدور موادّ اللّفظ لغةً على معاني الإسراع في الحركة والاضطراب والارتفاع والانخفاض.
والزّفن: الرّقص ، وفي حديث فاطمة أنّها كانت تزفن للحسن أي ترقّصه.
واصطلاحًا: عرّف ابن عابدين الرّقص بأنّه التّمايل ، والخفض ، والرّفع بحركاتٍ موزونةٍ.
«الألفاظ ذات الصّلة» :
«'أ' اللّعب»
2 - وهو طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به.
«'ب' اللّهو»
3 - صرف الهمّ بما لا يحسن أن يصرف به ، وقيل: اللّهو الاستمتاع بلذّات الدّنيا.
واللّعب: العبث ، وقيل: اللّهو: الميل عن الجدّ إلى الهزل ، واللّعب: ترك ما ينفع بما لا ينفع.
«حكم الرّقص»
4 - عن أنسٍ رضي الله عنه قال: « كانت الحبشة يزفنون بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويرقصون ، يقولون: محمّد عبد صالح.
فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما يقولون ؟ قالوا: يقولون: محمّد عبد صالح »
وعن عائشة قالت: « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جالسًا فسمعنا لغطًا وصوت صبيانٍ ، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإذا حبشيّة تزفن - أي ترقص - والصّبيان حولها ، فقال: يا عائشة تعالى فانظري » .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والقفّال من الشّافعيّة إلى كراهة الرّقص معلّلين ذلك بأنّ فعله دناءة وسفه ، وأنّه من مسقطات المروءة ، وأنّه من اللّهو.
قال الأبيّ: وحمل العلماء حديث رقص الحبشة على الوثب بسلاحهم ، ولعبهم بحرابهم ، ليوافق ما جاء في روايةٍ: « يلعبون عند رسول اللّه بحرابهم » .
وهذا كلّه ما لم يصحب الرّقص أمر محرّم كشرب الخمر ، أو كشف العورة ونحوهما ، فيحرم اتّفاقًا.
وذهب ابن تيميّة إلى أنّ اتّخاذ الرّقص ذكرًا أو عبادةً ، بدعة ومعصية ، لم يأمر اللّه به ، ولا رسوله ، ولا أحد من الأئمّة ، أو السّلف.
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الرّقص لا يحرم ولا يكره بل يباح ، واستدلّوا بحديث عائشة قالت: « جاء حبشة يزفنون في يوم عيدٍ في المسجد فدعاني النّبيّ صلى الله عليه وسلم فوضعت رأسي على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم حتّى كنت أنا الّتي أنصرف عن النّظر إليهم}.
وهذا دليل على إقراره صلى الله عليه وسلم لفعلهم ، فهو دليل على إباحته ، ودليله من المعقول أنّ الرّقص مجرّد حركاتٍ على استقامةٍ واعوجاجٍ.
وذهب البلقينيّ إلى أنّ الرّقص إذا كثر بحيث أسقط المروءة حرم ، والأوجه في المذهب خلافه.
وقيّد الشّافعيّة الإباحة بما إذا لم يكن فيه تكسّر كفعل المخنّثين وإلاّ حرم على الرّجال والنّساء ، أمّا من يفعله خلقةً من غير تكلّفٍ فلا يأثم به.
قال في الرّوض: وبالتّكسّر حرام ولو من النّساء.
شهادة الرّقّاص
5 - اتّفق الفقهاء على ردّ شهادة الرّقّاص لأنّه ساقط المروءة ، وهي شرط من شروط صحّة الشّهادة.
ونصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّ المعتبر في إسقاط المروءة هو المداومة والإكثار من الرّقص ، وهو مقيّد عند الشّافعيّة بمن يليق به الرّقص ، أمّا من لا يليق به فتسقط مروءته ولو بمرّةٍ واحدةٍ.
والمرجع في المداومة والإكثار إلى العادة ، ويختلف الأمر باختلاف عادات النّواحي والبلاد ، وقد يستقبح من شخصٍ قدر لا يستقبح من غيره.
وظاهر كلام الحنفيّة يفيد اعتبار المداومة والإكثار كذلك ، حيث عبّروا بصيغة المبالغة.
قال في البناية: ولا تقبل شهادة الطّفيليّ والمشعوذ والرّقّاص والسّخرة بلا خلافٍ.
الاستئجار على الرّقص
6 - الاستئجار على الرّقص يتبع حكم الرّقص نفسه ، فحيث كان حرامًا أو مكروهًا أو مباحًا كان حكم الاستئجار عليه كذلك.
وقد نصّ المالكيّة على أنّ الرّقص حيث كان حرامًا لا يجوز الاستئجار عليه ولا يجوز دفع الدّراهم للرّقّاص.
ولا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز الاستئجار على المنافع المحرّمة وغير المتقوّمة ، فحيث كان الرّقص حرامًا لا يجوز الاستئجار عليه.
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 13 / ص 319)
رقص الرجال وغناؤهم في الأعراس
المجيب هاني بن عبدالله الجبير
قاضي بمحكمة مكة المكرمة
التصنيف الفهرسة/ وسائل الإعلام والترفيه والألعاب والتصوير والتمثيل /الترفيه والألعاب
التاريخ 19/6/1423هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في أعراس مجتمعنا الكردي يقوم الرجال بشبك أيديهم والقيام بحركات متناسقة جداً موروثة من الآباء إلى الأبناء تسمى (دوات) مع الغناء، فهل هذا مباح في الإسلام؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد جاء الشرع بتحريم سماع المعازف بجميع أنواعها، عن أبي عامر الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"ليكوننّ أقوام من أمتي يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف" صحيح البخاري (5590).
ولم يرخص في شيء منها إلا في ضرب الدف وهو آلة دائرية مختومة من وجه واحد بجلد رقيق ليس فيه أجراس فهذا مرخص باستعماله في الأعراس ونحوها؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:"فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح" النسائي (3369) وهذا لفظه، الترمذي (1088)، ابن ماجة (1896)، وحسنه الألباني في (إرواء الغليل 1994).
أما الرقص فإنه وإن كان خلاف الوقار المأمول في الرجال فإن الأصل فيه الإباحة، عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سمعت لغطاً وصوتاً فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا حبشية تزفن -أي ترقص- فقال:" يا عائشة تعالي فانظري" النسائي (1594) وأصله في الصحيحين البخاري (949)، ولفظ مسلم (892) "جاء حبش يزفنون في يوم عيد في المسجد"، ولأحمد وابن حبان "أن الحبشة كانت تزفن بين يدي النبي" وانظر الروايات في (فتح الباري 2/515).
فإذا خلت تلك الحركات من اختلاط الرجال بالنساء أو سماع الغناء المحرم ونحوها من المحرمات فأرجو أن لا بأس بها (إذا كان مما اعتاده الناس وألفوه في وقته وصفته)، والله -تعالى أعلم.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 4 / ص 189)
أنواع الرقص وأحكامه رقم الفتوى:1258تاريخ الفتوى:17 محرم 1422السؤال : ماحكم الرقص ؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله وصحبه ومن والاه: وبعد...
فالرقص هو التمايل والخفض والرفع بحركات موزونة، ومنه ما يكون للأطفال وما يكون في الأعياد، ومنه ما يكون مصاحبا للذكر، ومنه ما يكون من المرأة بحضرة أجانب. فما كان للأطفال بمعنى أن أم الطفل ترقصه للمداعبة والترويح عنه فلا حرج فيه، حيث جاء في الحديث أن فاطمة رضي الله عنها كانت تزفن الحسن أي ترقصه، وكان طفلاً صغيراً.
وما كان في الأعياد فهو مباح، إلا أن يكثر فهو مكروه لأنه يسقط المروءة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فسمعنا لغطا وصوت صبيان، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا الحبشة ترقص والصبيان حولها فقال: يا عائشة تعالى فانظري. وهذا مباح كما قلنا، ما لم يخرج عن حد الاعتدال، وما لم يصاحبه أمر محرم كشرب خمر أو قمار أو معازف .
والرقص عند الذكر أو اتخاذه ذكرا أو عبادة فإنه يعد معصية لم يأذن فيها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الأئمة أو السلف. وأما رقص المرأة فإن كان أمام زوجها فقط فلاحرج فيه على كل حال وكذا إن كان أمام نساء وهي ساترة لبدنها فلا حرج فيه أيضا والأولى تركه. وأما إن كان أمام الرجال فإنه يحرم، حيث إن المرأة مأمورة بستر نفسها أمام الرجال الأجانب، وقد اتفق الفقهاء على رد شهادة الرقاص، لأنه ساقط المروءة، وهي شرط من شروط صحة الشهادة. والله أعلم.(1/55)
68-7724 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا آدَمُ وَهُوَ ابْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ ، عَنْ قَرَظَةَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ خَوْخَةٍ لِي فَدَنَا مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى مَنْكِبِهِ وَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خُذْنَ بَنَاتِ أَرْفِدَةَ ، فَمَا زِلْتُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، وَيَزْفِنُونَ حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي انْتَهَيْتُ "(1)
__________
(1) - المسند الجامع برقم( 17004) والطبراني في الأوسط برقم( 11359) والبخاري برقم(454و455) ومسلم برقم( 2101) مختصرا وهو صحيح
فتح الباري لابن حجر - (ج 2 / ص 191)
قَوْله : ( لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فِي بَابِ حُجْرَتِي وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ )
فِيهِ جَوَاز ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَحَكَى اِبْنُ التِّينِ عَنْ أَبِي الْحَسَن اللَّخْمِيّ أَنَّ اللَّعِبَ بِالْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ مَنْسُوخ بِالْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ : أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْله تَعَالَى ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيث " جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ " . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيف ، وَلَيْسَ فِيهِ وَلَا فِي الْآيَةِ تَصْرِيح بِمَا اِدَّعَاهُ ، وَلَا عُرِفَ التَّارِيخ فَيَثْبُتُ النَّسْخ . وَحَكَى بَعْض الْمَالِكِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لَعِبَهُمْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَكَانَتْ عَائِشَة فِي الْمَسْجِدِ ، وَهَذَا لَا يَثْبُتُ عَنْ مَالِكٍ فَإِنَّهُ خِلَافُ مَا صُرِّحَ بِهِ فِي طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ عُمَرَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ لَعِبَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " دَعْهُمْ " . وَاللَّعِبُ بِالْحِرَابِ لَيْسَ لَعِبًا مُجَرَّدًا بَلْ فِيهِ تَدْرِيب الشُّجْعَانِ عَلَى مَوَاقِعِ الْحُرُوبِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْعَدُوِّ . وَقَالَ الْمُهَلِّب : الْمَسْجِدُ مَوْضُوع لِأَمْرِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَمَا كَانَ مِنْ الْأَعْمَالِ يَجْمَعُ مَنْفَعَةَ الدِّينِ وَأَهْله جَازَ فِيهِ . وَفِي الْحَدِيثِ جَوَاز النَّظَرِ إِلَى اللَّهْوِ الْمُبَاحِ ، وَفِيهِ حُسْنُ خُلُقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِهِ وَكَرْم مُعَاشَرَته ، وَفَضْل عَائِشَة وَعَظِيم مَحَلِّهَا عِنْدَهُ . وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى فَوَائِدِهِ فِي كِتَاب الْعِيدَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَوْله : ( فِي بَابِ حُجْرَتِي ) عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَة عَلَى بَابِ حُجْرَتِي .
قَوْله : ( يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ نُزُول الْحِجَاب ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ . وَأَجَابَ بَعْض مَنْ مَنَعَ بِأَنَّ عَائِشَة كَانْت إِذْ ذَاكَ صَغِيرَة ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا ذَكَرْنَا . وَادَّعَى بَعْضُهُمْ النَّسْخَ بِحَدِيث " أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا ؟ " وَهُوَ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ . وَسَيَأْتِي لِلْمَسْأَلَةِ مَزِيد بَسْطٍ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فتح الباري لابن رجب - (ج 3 / ص 255)
والتقلس : اللعب بالسيوف ونحوها من آلات الحرب .
لكن خرج الإمام أحمد ، عن وكيع ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كانت الحبشة يلعبون يوم عيد ، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكنت أطلع بين عاتقه فأنظر إليه ، فجاء أبو بكر ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((دعها ؛ فان لكل قوم عيدا ، وهذا عيدنا)) .
وهذا يدل على أنه كان أحد عيدي المسلمين .
وخرج - أيضا - من حديث أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عروة ، عن عائشة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ : ((ليعلم يهود أن في ديننا فسحة ، أني أرسلت بحنيفية سمحة)) .
والمقصود من هذا الحديث : جواز اللعب بآلات الحرب في المساجد ؛ فان ذلك من باب التمرين على الجهاد ، فيكون من العبادات .
ويؤخذ من هذا : جواز تعلم الرمي ونحوه في المساجد ، ما لم يخشى الأذى بذلك لمن في المسجد ، كما تقدم في الأمر بالإمساك على نصال السهم في المسجد لئلا تصيب مسلما ، ولهذا لم تجر عادة المسلمين بالرمي في المساجد .
وقد قال الأوزاعي : كان عمر بن عبد العزيز يكره النصال بالعشي ، فقيل له : لم ؟ قال : لعمارة المساجد .
ولكن أن كان مسجد مهجور ليس فيه أحد ، أو كان المسجد مغلقا ليس فيه إلا من يتعلم الرمي فلا يمنع جوازه حينئذ . والله أعلم .
وحكى القاضي عياض ، عن بعض شيوخه ، أنه قال : إنما يمنع في المساجد من عمل الصنائع التي يختص بنفعها آحاد الناس وتكتسب به ، فأما الصنائع التي يشمل نفعها المسلمين في دينهم كالمثاقفة ، وإصلاح آلات الجهاد مما لا امتهان للمسجد في عمله فلا بأس به . والله أعلم .
عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 5 / ص 276)
454411 - ح ( دثنا عبد العزيز بن عبد الله ) قال حدثنا ( إبراهيم بن سعد ) عن ( صالح ) عن ( ابن شهاب ) قال أخبرني ( عروة بن الزبير ) أن عائشة قالت لقد رأيت رسول الله يوما على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد ورسول الله يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم زاد إبراهيم بن المنذر حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحبشة يلعبون بحرابهم )
مطابقته للترجمة في قوله والحبشة يلعبون بحرابهم
( ذكر رجاله ) وهم تسعة الأول عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى أبو القاسم القرشي العامري المدني الثاني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الثالث صالح بن كيسان أبو محمد مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز الرابع محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الخامس عروة بن الزبير بن العوام السادس إبراهيم بن المنذر الحزامي مر في كتاب العلم وهو شيخ البخاري السابع عبد الله بن وهب الثامن يونس بن يزيد الأيلي التاسع عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها
( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع والإخبار بصيغة الإفراد في موضعين والعنعنة في أربعة مواضع وفيه أن عبد العزيز من أفراد البخاري وفيه ثلاثة من التابعين وهم صالح وابن شهاب وعروة وفيه أن رواته ما بين مدني ومصري وأيلي وفيه أن قوله زاد ابن المنذر يحتمل التعليق قاله الكرماني ( قلت ) هو تعليق بلا احتمال وقد وصله الإسماعيلي من طريق عثمان بن عمر عن يونس والذي زاده هو لفظ بحرابهم
( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في العيدين وفي مناقب قريش وأخرجه مسلم في العيدين أيضا عن أبي الطاهر بن السرح ( ذكر معناه وإعرابه ) قوله لقد رأيت رسول الله أي والله لقد أبصرت فهم معنى القسم من اللام ولفظة قد اللتان تدلان على التأكيد ورأيت بمعنى أبصرت فلذلك اقتصر على مفعول واحد قوله يوما نصب على الظرف قوله والحبشة يلعبون جملة حالية والحبشة والحبش جنس من السودان مشهور قوله ورسول الله يسترني جملة حالية أيضا وهذا يدل على أنه كان بعد نزول الحجاب قوله أنظر أيضا جملة حالية قوله إلى لعبهم بفتح اللام وكسر العين وبكسر اللام وسكون العين قوله زاد فعل ماض وفاعله ابن المنذر وهو فاعل قال أيضا ومفعوله الذي زيد هو قوله بحرابهم كما ذكرنا
( ذكر ما يستنبط منه من الأحكام ) فيه جواز اللعب بالحراب في المسجد على الوجه الذي ذكرناه في أول الباب وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي أن اللعب بالحراب في المسجد منسوخ بالقرآن والسنة أما القرآن فقوله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع وأما السنة في حديث واثلة بن الأسقع الذي أخرجه ابن ماجة جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورد بأن الحديث ضعيف وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادعاه ولا عرف التاريخ حتى يثبت النسخ وفيه جواز النظر إلى اللعب المباح وقال الكرماني وقد يمكن أن يكون ترك النبي صلى الله عليه وسلم عائشة لتنظر إلى لعبهم لتضبط السنة في ذلك
وتنقل تلك الحركات المحكمة إلى بعض من يأتي من أبناء المسلمين وتعرفهم بذلك وفيه من حسن خلقه الكريم وجميل معاشرته لأهله وفيه جواز نظر النساء إلى الرجال ووجوب استتارهن عنهم وفيه فضل عائشة وعظم محلها عند رسول الله
شرح ابن بطال - (ج 3 / ص 126)
قال المهلب: المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال مما يجمع منفعة الدين وأهله، فهو جائز فى المسجد، واللعب بالحراب من تدريب الجوارح على معانى الحروب، وهو من الاشتداد للعدوِّ، والقوة على الحرب فهو جائز فى المسجد وغيره.
وفيه: جواز النظر إلى اللهو المباح وقد يمكن أن يكون ترك الرسول عائشة لتنظر إلى اللعب بالحراب؛ لتضبط السنة فى ذلك وتنقل بعض تلك الحركات المحكمة إلى بعض من يأتى من أبناء المسلمين وتعرفهم بذلك.
وفيه: من حسن خلق الرسول وكريم معاشرته لأهله ما يلزم المسلم امتثاله والاقتداء به فيه، ألا ترى وقوفه عليه السلام وستره لعائشة وهى تنظر إلى اللعب!.(1/56)
إِطْلَاقُ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ اسْتِمَاعَ الْغِنَاءِ ، وَالضَّرْبَ بِالدُّفِّ
69-7725 أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ قَالَ : حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا أَيَّامَ مِنَى ، وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ وَتَضْرِبَانِ بِدُفَّيْنِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَجًّى عَلَى وَجْهِهِ الثَّوْبُ لَا يَأْمُرُهُنَّ ، وَلَا يَنْهَاهُنَّ ، فَنَهَرَهُنَّ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دَعْهُنَّ يَا أَبَا بَكْرٍ ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ "(1)
__________
(1) - أخرجه البخاري (949 و 952 و987و 2907 و 3530 و 3931 ) ومسلم برقم(2100) وعبد الرزاق برقم(19736) وأحمد برقم( 25277 ) والإحسان برقم (5967 )
قال أبو حاتم :
فهذا آخر جوامع الإباحات عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، أمليناها بفصولها ، وقد بقي في هذا القسم أحاديث بددناها في سائر الأقسام ، كما بددنا منها في هذا القسم على ما أصلنا الكتاب عليه ، وإنما نملي بعد هذا القسم القسم الخامس من أقسام السنن التي هي أفعال المصطفى صلى الله عليه وسلم بفصولها ، وأنواعها إن الله قضى ذلك وشاءه ، جعلنا الله ممن هدي لسبيل الرشاد ، ووفق لسلوك السداد ، وشمر في جمع السنن والأخبار ، وتفقه في صحيح الآثار ، وآثر ما يقرب إلى الباري جل وعلا من الأعمال على ما يباعد منه في الأصول ، إنه خير مسئول
شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 288)
1480 - قَوْله : ( فِي أَيَّام مِنًى )
يَعْنِي الثَّلَاثَة بَعْد يَوْم النَّحْر ، وَهِيَ أَيَّام التَّشْرِيق . فَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّام دَاخِلَة فِي أَيَّام الْعِيد ، وَحُكْمه جَارٍ عَلَيْهِ فِي كَثِير مِنْ الْأَحْكَام لِجَوَازِ التَّضْحِيَة وَتَحْرِيم الصَّوْم وَاسْتِحْبَاب التَّكْبِير وَغَيْر ذَلِكَ .
قَوْلهَا : ( رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرنِي بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُر إِلَى الْحَبَشَة وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَأَنَا جَارِيَة )
وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى ( يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ جَوَاز اللَّعِب بِالسِّلَاحِ وَنَحْوه مِنْ آلَات الْحَرْب فِي الْمَسْجِد ، وَيَلْتَحِق بِهِ فِي مَا مَعْنَاهُ مِنْ الْأَسْبَاب الْمُعِينَة عَلَى الْجِهَاد وَأَنْوَاع الْبِرّ وَفِيهِ جَوَاز نَظَر النِّسَاء إِلَى لَعِب الرِّجَال مِنْ غَيْر نَظَر إِلَى نَفْس الْبَدَن . وَأَمَّا نَظَر الْمَرْأَة إِلَى وَجْه الرَّجُل الْأَجْنَبِيّ فَإِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ فَحَرَام بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَة وَلَا مَخَافَة فِتْنَة فَفِي جَوَازه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَصَحّهمَا تَحْرِيمه لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارهنَّ } وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَة وَأُمّ حَبِيبَة : ( اِحْتَجِبَا عَنْهُ ) أَيْ عَنْ اِبْن أُمّ مَكْتُوم فَقَالَتَا : إِنَّهُ أَعْمَى لَا يُبْصِرنَا فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَيْسَ تُبْصِرَانِهِ ) ؟ وَهُوَ حَدِيث حَسَن رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره وَقَالَ : هُوَ حَدِيث حَسَن ، وَعَلَى هَذَا أَجَابُوا عَنْ حَدِيث عَائِشَة بِجَوَابَيْنِ وَأَقْوَاهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا نَظَرَتْ إِلَى وُجُوههمْ وَأَبْدَانهمْ ، وَإِنَّمَا نَظَرَتْ لَعِبهمْ وَحِرَابهمْ ، وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ تَعَمُّد النَّظَر إِلَى الْبَدَن وَإِنْ وَقَعَ النَّظَر بِلَا قَصْد صَرَفَتْهُ فِي الْحَال . وَالثَّانِي : لَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْل نُزُول الْآيَة فِي تَحْرِيم النَّظَر ، وَأَنَّهَا كَانَتْ صَغِيرَة قَبْل بُلُوغهَا ، فَلَمْ تَكُنْ مُكَلَّفَة عَلَى قَوْل مَنْ يَقُول : إِنَّ لِلصَّغِيرِ الْمُرَاهِق النَّظَر وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَفِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرَّأْفَة وَالرَّحْمَة وَحُسْن الْخُلُق وَالْمُعَاشَرَة بِالْمَعْرُوفِ مَعَ الْأَهْل وَالْأَزْوَاج وَغَيْرهمْ
قَوْلهَا : ( وَأَنَا جَارِيَة فَاقْدُرُوا قَدْر الْجَارِيَة الْعَرِبَة حَدِيثَة السِّنّ ) مَعْنَاهُ : أَنَّهَا تُحِبّ اللَّهْو وَالتَّفَرُّج وَالنَّظَر إِلَى اللَّعِب حُبًّا بَلِيغًا وَتَحْرِص عَلَى إِدَامَته مَا أَمْكَنَهَا وَلَا تَمَلّ ذَلِكَ إِلَّا بِعُذْرٍ مِنْ تَطْوِيل .
فتح الباري لابن رجب - (ج 7 / ص 34)
في هذا الحديث : الرخصة للجواري في يوم العيد في اللعب والغناء بغناء الأعراب. وإن سمع ذلك النساء والرجال ، وإن كان معه دف مثل دف العرب ، وهو يشبه الغربال .
وقد خرجه البخاري في آخر (( كتاب العيدين)) من رواية الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - متغش بثوبه ، فانتهرهما أبو بكر ، فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجهه ، فقال: (( دعهما يا أبا
بكر ؛ فإنها أيام عيد)) ، وتلك [ الأيام] أيام منى.
ولا ريب أن العرب كانَ لهم غناء يتغنون به ، وكان لهم دفوف يضربون بها ، وكان غناؤهم بأشعار أهل الجاهلية من ذكر الحروب وندب من قتل فيها ، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل ، ليس فيها جلاجل ، كما في حديث عائشة ، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : (( أعلنوا النكاح واضربوا عليهِ بالغربال )) .
وخرجه الترمذي وابن ماجه ، بإسناد فيه ضعفٌ .
فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرخص لهم في أوقات الأفراح ،كالأعياد والنكاح وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف ، والتغني مع ذلك بهذه الأشعار ، وما كان في معناها .
فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد أعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة ، على طريقة الموسيقى بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس ، المجبول محبته فيها ، بآلات اللهو المطربة ، المخرج سماعها عن الاعتدال ، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه ، ونهوا عنه وغلظوا فيه .
حتى قال ابن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب ، كما ينبت الماء البقل . وروي عنه - مرفوعا .
وهذا يدل على أنهم فهموا أن الغناء الذي رخص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه لم يكن هذا الغناء ، ولا آلاته هي هذه الآلات ، وأنه إنما رخص فيما كان في عهده ، مما يتعارفه العرب بآلاتهم .
فأما غناء الأعاجم بآلاتهم فلم تتناوله الرخصة ، وإن سمي غناءً ، وسميت آلاته دفوفا ، لكن بينهما من التباين ما لا يخفى على عاقل ، فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى ، ويغير الطباع ، ويدعو إلى المعاصي ، فهو رقية الزنا . وغناء الأعراب المرخص به ، ليس فيه شيء من هذه المفاسد بالكلية البتة ، فلا يدخل غناء الأعاجم في الرخصة لفظا ولا معنى ، فإنه ليس هنالك نص عن الشارع بإباحة ما يسمى غناء ولا دفا ، وإنما هي قضايا أعيان ، وقع الإقرار عليها ، وليس لها [ من ] عموم .
وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى ما في غناء الأعاجم ودفوفها المصلصلة ، لأن غنائهم ودفوفهم تحرك الطباع وتهيجها إلى المحرمات ، بخلاف غناء الأعراب ، فمن قاس أحدهما على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطأ ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل ، فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب .
وقد صحت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذم من يستمع القينات في آخر الزمان ، وهو إشارة إلى تحريم سماع آلات الملاهي الماخوذة عن الأعاجم .
وقد خرج البخاري في (( الأشربة)) حديث عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي مالك -أو أبي عامر- الأشعري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، كما سياتي في موضعه- إن شاء الله سبحانه وتعالى .
فقال فيه : (( قال هشام بن عمار )) - فذكره .
والظاهر: أنه سمعه من هشام .
وقد رواه عن هشام الحسن بن سفيان النسوي .
وخرجه من طريقه البيهقي وغيره .
وخرجه الطبراني : نا محمد بن يزيد بن عبد الصمد : نا هشام بن عمار.
فصح واتصل عن هشام .
وخرجه أبو داود من وجه آخر مختصرا .
وقد بينت عائشة أن الجاريتين إنما كانا يغنيان بغناء بعاث ، ويوم بعاث يوم من أيام حروب الجاهلية مشهور .
وباؤه مثلثة وعينه مهملة ، ومنهم من حكى أنها معجمة ، قال الخطابي : هو يوم مشهور من أيام العرب ، كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج ، وبقيت الحرب قائمة مائة وعشرين سنة إلى الإسلام ، على ما ذكره ابن إسحاق وغيره .
قالَ : وكان الشعر الذي تغنيان به في وصف الشجاعة والحرب ، وهو إذا صرف إلى جهاد الكفار كان معونة في أمر الدين ، فأما الغناء بذكر الفواحش والابتهار للحرم ، فهو المحظور من الغناء ، حاشاه أن يجري بحضرته شيء من ذلك فيرضاه ، أو يترك النكير لهُ ، وكل من جهر بشيء بصوته وصرح به فقد غنى به .
قالَ : وقول عائشة : (( ليستا بمغنيتين)) ، إنما بينت ذلك ؛ لأن المغنية التي اتخذت الغناء صناعة وعادة ، وذلك لا يليق بحضرته ، فأما الترنم بالبيت والتطريب للصوت إذا لم يكن فيهِ فحش ، فهوَ غير محظور ولا قادح في الشهادة .
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- لا ينكر من الغناء النصب والحداء
ونحوهما ، وقد رخص فيه غير واحد من السلف .
قالَ : وقوله : (( هذا عيدنا )) يريد أن إظهار السرور في العيد من شعار الدين ، وحكم اليسير من الغناء خلاف الكثير . انتهى .
وفي الحديث ما يدل على تحريمه في غير أيام العيد ؛ لأن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - علل بأنها أيام عيد ، فدل على أن المقتضي للمنع قائم ، لكن عارضه معارض وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد .
وقد أقر أبا بكر على تسمية الدف مزمور الشيطان ، وهذا يدل على وجود المقتضي للتحريم لولا وجود المانع .
وقد قال كثير من السلف ، منهم : قتادة : الشيطان قرآنه الشعر ، ومؤذنه المزمار، ومصايده النساء .
وروي ذلك من حديث أبي أمامة - مرفوعا .
وقد وردت الشريعة بالرخصة للنساء لضعف عقولهن بما حرم على الرجال من التحلي والتزين بالحرير والذهب ، وإنما أبيح للرجال منهم اليسير دون الكثير ، فكذلك الغناء يرخص فيه للنساء في أيام السرور، وإن سمع ذلك الرجال تبعا .
ولهذا كان جمهور العلماء على أن الضرب بالدف للغناء لا يباح فعله للرجال ؛ فإنه من التشبه بالنساء ، وهو ممنوع منه ، هذا قول الأوزاعي وأحمد ، وكذا ذكر الحليمي وغيره من الشافعية .
وإنما كان يضرب بالدفوف في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء ، أو من يشبه بهن من المخنثين ، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفي المخنثين وإخراجهم من البيوت .
وقد نص على نفيهم أحمد وإسحاق ، عملا بهذه السنة الصحيحة .
وسئل أحمد عن مخنث مات ووصى أن يحج عنه ، فقال : كسب المخنث خبيث ، كسبه بالغناء ، نقله عنه المروذي .
وفي تحريم ضرب المخنث بالدف حديث مرفوع ، خرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف . فأما الغناء بغير ضرب دف ، فإن كان على وجه الحداء والنصب فهو جائز . وقد رويت الرخصة فيه عن كثير من الصحابة .
والنصب : شبيه الحداء- : قاله الهروي وغيره .
وهذا من باب المباحات التي تفعل أحيانا للراحة .
فأما تغني المؤمن فإنما ينبغي أن يكون بالقرآن ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) والمراد : أنه يجعله عوضا عن الغناء فيطرب به ويلتذ ، ويجد فيه راحة قلبه وغذاء روحه ، كما يجد غيره ذلك في الغناء بالشعر .
وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود- أيضاً .
وأما الغناء المهيج للطباع ، المثير للهوى ، فلا يباح لرجل ولا لامرأة فعله ولا
استماعه ؛ فإنه داع إلى الفسق والفتنة في الدين والفجور فيحرم كما يحرم النظر بشهوة إلى الصور الجميلة[....] ؛ فإن الفتنة تحصل بالنظر وبالسماع؛ ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم -زنا العينين النظر، وزنا الأذن الاستماع .
ولا خلاف بين العلماء المعتبرين في كراهة الغناء وذمه وذم استماعه ، ولم يرخص فيه أحد يعتد به .
وقد حكيت الرخصة فيه على بعض المدنيين .
وقد روى الإمام أحمد ، عن إسحاق الطباع ، أنه سأل مالكا عما يرخص فيه أهل المدينه من الغناء ؟ فقالَ : إنما يفعله عندنا الفساق . وكذا قالَ إبراهيم بن المنذر الحزامي ، وهو من علماء أهل المدينة - أيضا .
وقد نص أحمد على مخالفة ما حكي عن المدنيين في ذَلِكَ . وكذا نص هو وإسحاق على كراهة الشعر الرقيق الذي يشبب به النساء .
وقال أحمد : الغناء الذي وردت فيه الرخصة هو غناء الراكب : أتيناكم أتيناكم .
وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم ، فمحرم مجمع على تحريمه ، ولا يعلم عن أحد منه الرخصة في شيء من ذَلِكَ ، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى .
وأما دف الأعراب الخالي من الجلاجل المصوتة ونحوها فقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب :
أحدها : أنه يرخص فيه مطلقا للنساء .
وقد روي عن أحمد ما يشهد له ، واختاره طائفة من المتأخرين من أصحابنا ، كصاحب ((المغني)) وغيره .
والثاني : إنما يرخص فيه في الاعراس ونحوها ، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز والأوزاعي ، وهو قول كثير من أصحابنا أو أكثرهم .
والثالث : أنه لا يرخص فيه بحال . وهو قول النخعي وأبي عبيد .
وجماعة من أصحاب ابن مسعود كانوا يتبعون الدفوف مع الجواري في الأزقة فيحرقونها .
وقال الحسن : ليس الدف من أمر المسلمين في شيء . ولعله أراد بذلك دفوف الأعاجم المصلصلة المطربة .
وقد سئل أحمد على ذلك فتوقف ، وكأنه حصل عنده تردد : هل كانت كراهة من كره الدفوف لدفوف الأعراب أو لدفوف الاعاجم فيه جرس ؟ وقد قيل لأحمد : الدف فيهِ جرس ؟ قال : لا .
وقد نص على منع الدف المصلصل .
وقال مالك في الدف : هو من اللهو الخفيف ، فإذا دعي إلى وليمة ، فوجد فيها دفاً فلا أرى أن يرجع .
وقاله القاسم من أصحابه .
وقال أصبغ -منهم- : يرجع لذلك .
وفي الرخصة في الدف في العيد أحاديث أخر :
خرج ابن ماجه من رواية الشعبي ، قال : شهد عياض الأشعري عيداً بالأنبار ، فقال : ما لي لا أراكم تقلسون كما يقلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن رواية الشعبي ، عن قيس بن سعد ، قال : ما كان شيء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاّ وقد رأيته ، إلاّ شيء واحد ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقلس له يوم الفطر .
قال يزيد بن هارون : التقليس : ضرب الدف .
وقال يوسف بن عدي : التقليس : أن يقعد الجواري والصبيان على أفواه الطرق ، يلعبون بالطبل وغير ذلك .
وقد بسطنا القول في حكم الغناء وآلات اللهو في كتاب مفرد ، سميناه : ((نزهة الأسماع في مسألة السماع)) ، وإنما أشرنا إلى ذلك هاهنا إشارة لطيفة مختصرة .
ومما يدخل في هذا الباب : ما روى حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن أنس ، قال : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : (( ما هذان اليومان؟)) قالوا : نلعبهما في الجاهلية . فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما : يوم فتح الباري لابن رجب - (ج 7 / ص 81)
987-حديث عائشة في الجاريتين اللتين كانتا عندها تدففان وتغنيان .
وقد ذكرنا لفظه في (( باب : سنة العيدين لأهل الإسلام)) إلى قوله : ((دعهما يا أبا بكر ؛ فإنها أيام عيد)) وتلك الأيام أيام منى .
وزاد فيه :
988- وقالت عائشة : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترني ، وأنا أنظر إلى الحبشة ، وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر، فقال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : ((دعهم ، أمنا بني أرفدة )) -يعني : من الأمن .
خرجه عن يحيى بن بكير ، عن الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة .
ولكن ؛ ليس فيهِ اللفظ الذي احتج به في أول الباب ، وهو قوله : ((هذا عيدنا أهل الإسلام)) ، إنما خرجه بهذا اللفظ في ((باب : سنة العيدين)) كما تقدم .
وليس فيه لفظة : ((أهل الإسلام)) ، ولم أجده بهذه الزيادة في شيء من الكتب الستة ، وإنما تعرف هذه اللفظة في حديث عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((يوم عرفة ، ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام)) .
ووجه الاستدلال به على ما بوب عليه البخاري : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل العيد عاما لأهل الإسلام كلهم ، فدل على أنهم يشتركون فيمايشرع فيه جميعهم ، رجالهم
ونساؤهم ، أهل أمصارهم ، وأهل قراهم فتكون صلاة العيد مشروعة لجميعهم من غير تخصيص لأحد منهم .الفطر
، ويوم الأضحى)) .خرجه أبو داود والنسائي .
والمنازع في ذلك قد يقول : أنا لا أمنع ذلك ، ولا أن يشهد العيد جميع المسلمين إذا صلاها الإمام أو نائبه في المصلى ، فأما الإنفراد بصلاتها لآحاد الناس في بيوتهم ، فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فعله ، ولو كان مشروعاً لما تركوه ، ولو فعلوه لنقل .
وأيضا ؛ فمما يدل عَلَى أن الاستيطان يعتبر لها : أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يفعلها قط فِي اسفاره مَعَ كثرة أسفاره ، وقد ادركه عيد النحر بمنى ، وأدركه عيد الفطر فِي غزوة الفتح وَهُوَ مسافر ، ولم ينقل أنهُ صلى العيدين فِي شيء من أسفاره ، ولو فعل ذَلِكَ لما أهمل
نقله ؛ لتوفر الدواعي على نقله ، وكثرة الحاجة إليه . والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
وأيضا ؛ فالحديث إنما ورد في ايام منى ، وظاهره : أنها أيام التشريق .
ولو قيل : إن يوم النحر يدخل فيها ، فلا يلزم من كونها عيداً للمسلمين جميعاً أن يشترك المسلمون جميعهم في كل ما يشرع فيها ؛ فإنه يشرع فيها للحاج ما لا يشرع لغيرهم من أهل الأمصار ، فلا يمتنع أن يشرع لأهل الأمصار الاجتماع على مالا يشرع لغيرهم بإنفرادهم ، كالنساء والمسافرين . والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
شرح ابن بطال - (ج 4 / ص 171)
قال المهلب: وفيه دليل أن العيد موضوع للراحات وبسط النفوس إلى ما يحل من الدنيا والأخذ بطيبات الرزق وما أحل الله من اللعب والأكل والشراب والجماع؛ ألا ترى أنه أباح الغناء من أجل عذر العيد قال: « دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد » ، وكان أهل المدينة على سيرة من أمر الغناء واللهو، وكان النبى، عليه السلام، وأبو بكر على خلاف ذلك؛ ولذلك أنكر أبو بكر المغنيتين فى بيت عائشة؛ لأنه لم يرهما قبل ذلك بحضرة النبى، عليه السلام، فرخص فى ذلك للعيد وفى ولائم إعلان النكاح.
وقوله: « تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث » ، تريد ترفعان أصواتهما بالإنشاد، وكل من رفع صوته بشىء ووالى به مرة بعد مرة، فصوته عند العرب غناء، وأكثره فيما شاق من صوت، أو شجا من نغمة ولحن، ولهذا قالوا: غنت الحمامة، ويغنى الطائر، هذا قول الخطابى.
وإنما كانتا تنشدان المراثى التى تحزن وتبعث النفوس على الاتنقام من العدو، وهى مراثى من أصيب يوم بعاث، فأباح النبى - صلى الله عليه وسلم - هذا النوع من الغناء.
وقولها: « وليستا بمغنيتين » ، تعنى الغناء الذى فيه ذكر الخنا والتعريض بالفواحش وما يسميه المُجان وأهل المعاصى غناء مما يكثر التنغيم فيه.
قال المهلب: وهذا الذى أنكره أبو بكر كثرة التنغيم وإخراج الإنشاد عن وجهه إلى معنى التطريب بالألحان؛ ألا ترى أنه لم ينكر الإنشاد وإنما أنكر مشابهة الزمير، فما كان من الغناء الذى يجرى هذا المجرى من اختلاف النغمات وطلب الإطراب فهو الذى تخشى فتنته واستهواؤه للنفوس، وقطع الذريعة فيه أحسن، وما كان دون ذلك من الإنشاد ورفع الصوت حتى لا يخفى معنى البيت، وما أراده الشاعر بشعره فغير منهى عنه، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه رخص فى غناء الأعراب، وهو صوت كالحداء يسمى النصب إلا أنه رقيق.
وروى النضر بن شميل، عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: خرجنا مع عمر فى الحج حتى إذا كنا بالروحاء كلم القوم رباح بن المعترف، وكان حسن الصوت بغناء الأعراب، فقالوا: أسمعنا وقصر عنا المسير فقال: إنى أفرق عمر، فقام أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر فكلموه، فقال: يا رباح، أسمعهم وقصر عنهم المسير، فإذا سحرت فارفع قال: فرفع عقيرته وتغنى » .
فهذا وما أشبهه مما يدعى غناء لم ير به بأس، ولم ير فيه إثم؛ لأنه حداء يحث المطى ويقصر المسير ويخفف السفر، وتأتى زيادة فى هذا الباب فى باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله فى آخر كتاب الاستئذان، ويأتى فى فضائل القرآن عند قوله: « ليس منا من لم يتغن بالقرآن » ، من أجاز سماع القرآن بالألحان ومن كرهه.
شرح ابن بطال - (ج 4 / ص 198)
اختلف العلماء فيمن فاتته صلاة العيد مع الإمام، فقالت طائفة: يصلى ركعتين مثل صلاة الإمام، روى ذلك عن عطاء، والنخعى، والحسن، وابن سيرين، وهو قول مالك، والشافعى، وأبى ثور، إلا أن مالكًا قال: يستحب له ذلك من غير إيجاب، وقال الأوزاعى: يصلى ركعتين ولا يجهر بالقراءة ولا يكبر تكبير الإمام وليس بلازم.
وقالت طائفة: يصليها إن شاء؛ لأنها إنما تصلى ركعتين إذا صليت مع الإمام بالبروز لها كما على من لم يحضر الجمعة مع الإمام أن يصلى أربعًا، روى ذلك عن على، وابن مسعود، وبه قال الثورى وأحمد.
وقال أبو حنيفة: إن شاء صلى وإن شاء لم يصل، فإن صلى صلى أربعًا وإن شاء ركعتين، وقال إسحاق: إن صلى فى الجَبَّان صلى كصلاة الإمام، وإن لم يصل فى الجَبَّان صلى أربعًا، وأولى الأقوال بالصواب أن يصليها كما سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذى أشار إليه البخارى، واستدل على ذلك بقوله عليه السلام: « هذا عيدنا أهل الإسلام » ، و « إنها أيام عيد » ، وذلك إشارة إلى الصلاة، وقد أبان ذلك بقوله: « أول نسكنا فى يومنا هذا أن نصلى، ثم ننحر فمن فعل ذلك، فقد أصاب سنتنا » ، فمن صلى كصلاة الإمام فقد أصاب السنة.
واتفق مالك، والكوفيون، والمزنى على أنه لا تصلى صلاة العيد فى غير يوم العيد، وقال الشافعى فى أحد قوليه: أنها تقضى من الغد، واحتج عليه المزنى، فقال: لما كان ما بعد الزوال أقرب منها من اليوم الثانى، وأجمعوا أنها لا تصلى إلا قبل الزوال، فأحرى ألا تصلى من الغد وأبعد.
------------
المحلى بالآثار - (ج 1 / ص 1425)
553 - مَسْأَلَةٌ : وَالْغِنَاءُ وَاللَّعِبُ وَالزَّفْنُ فِي أَيَّامِ الْعِيدَيْنِ حَسَنٌ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ . حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ ثنا الْفَرَبْرِيُّ ثنا الْبُخَارِيُّ ثنا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ ثنا ابْنُ وَهْبٍ وَأَنَا عَمْرٌو هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ - أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ يَتِيمُ عُرْوَةَ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءٍ بُعَاثٍ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ : مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : دَعْهَا فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا , وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ , يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ , فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا قَالَ : تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ , فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ , خَدِّي عَلَى خَدِّهِ , وَهُوَ يَقُولُ : دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ حَتَّى إذَا مَلِلْتُ قَالَ : حَسْبُكِ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ , قَالَ : فَاذْهَبِي } . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ ثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيِّ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ { عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى تُغَنِّيَانِ وَتَضْرِبَانِ , وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسَجًّى بِثَوْبِهِ , فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ , فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ وَقَالَ : دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ } . وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ : ثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ثنا جَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ - عَنْ هِشَامٍ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ - عَنْ أَبِيهِ { عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : جَاءَ حَبَشٌ يَزْفِنُونَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي الْمَسْجِدِ , فَدَعَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى مَنْكِبِهِ , فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إلَى لَعِبِهِمْ , حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي انْصَرَفْتُ } . وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { بَيْنَمَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِرَابِهِمْ إذْ دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ , فَأَهْوَى إلَيْهِمْ لِيَحْصِبَهُمْ بِالْحَصْبَاءِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعْهُمْ يَا عُمَرُ } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَيْنَ يَقَعُ إنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ مِنْ إنْكَارِ سَيِّدَيْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا صلى الله عليه وسلم - أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ رضي الله عنهما - ؟ وَقَدْ أَنْكَرَ عليه السلام عَلَيْهِمَا إنْكَارَهُمَا , فَرَجَعَا عَنْ رَأْيِهِمَا إلَى قَوْلِهِ عليه السلام
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10089)
«ضرب الدّفّ»
11 - يجوز ضرب الدّفّ لعرس وختان وعيد ممّا هو سبب لإظهار الفرح ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أعلنوا هذا النّكاح ، واجعلوه في المساجد ، واضربوا عليه الدّفوف » .
وعن عائشة رضي الله عنها : « أنّها زفّت امرأةً إلى رجل من الأنصار فقال نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم : يا عائشة ما كان معكم لهو ؟ فإنّ الأنصار يعجبهم اللّهو » .
وحديث : « فصل ما بين الحلال والحرام الدّفّ ، والصّوت » .وعن عائشة رضي الله عنها : « أنّ أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيّام منىً : تدفّفان وتضربان ، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم متغشّ بثوبه ، فانتهرهما أبو بكر ، فكشف النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن وجهه ، فقال : دعهما يا أبا بكر ، فإنّها أيّام عيد » . والتّفصيل في : « لهو ، وليمة ، عرس » .
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 11 / ص 177)
ليست بمنكرات في الأفراح
المجيب هاني بن عبدالله الجبير
قاضي بمحكمة مكة المكرمة
التصنيف الفهرسة/ فقه الأسرة/ النكاح/وليمة النكاح
التاريخ 8/5/1423
السؤال
تكثر في الإجازات المناسبات -ومناسبات الزواج بصفة خاصة-، والتي لا تخلو في كثير منها من الرقص والطبل (الطق)، لذا يحتدم الخلاف بين طائفة من الناس في حكم هذا الصنيع، هل هو جائز أم لا؟ والسؤال يبرز في النقاط التالية:
هل الرقص والطق مشروع أم لا؟ وهل الأفضل فعله أم تركه؟ ما المراد بالدف؟ وما الضابط في تحديده؟ إذا كان ذا وجه واحد أو وجهين، فهل بينهما فرق من حيث الجواز؟ وعلى القول بمشروعيته، فهل يجوز في غير يوم العرس كاليوم التالي للعرس (الرحيل مثلاً)؟ وما الحكم لو وصل صوت للرجال؟ وما الحكم لو وصل صوت الطبل فقط؟ ما الحكم لو وصل صوت المنشدة ومعه صوت الطبل؟ وهل هناك فرق في هذا بين المنشدة الصغيرة والكبيرة؟ ما حكم الزغردة والتصفيق؟ وهل يجوز استئجار الطقاقات، أم أنه من إضاعة المال؟ وإذا ارتفع الصوت ووصل الرجال فهل الأفضل الانصراف أم عدمه؟ وجزاكم الله خيراً، وأحسن إليكم.
الجواب
الحمد لله وحده، وبعد:
فلا خلاف في مشروعية الوليمة في العرس، وقد فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمر بها، فقد قال لعبد الرحمن بن عوف حين قال تزوجت:" أولم ولو بشاة" أخرجه البخاري (5155) ومسلم (1427).
والدف عند وليمة النكاح ليس بمنكر؛ أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث، منها: عن محمد بن حاطب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"فصل ما بين الحلال والحرام: الصوت بالدف" النسائي (3371) الترمذي (1088) ابن ماجة (1896) أحمد (3/418) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في (إرواء الغليل 1994) وقد قيل بإباحته، قال الشوكاني:" لا يبعد أن يكون مندوباً؛ لأن ذلك أقل ما يفيده الأمر في قوله أعلنوا النكاح" (نيل الأوطار 6/212)، والندب إليه واستحبابه هو مذهب أحمد (كشاف القناع 5/183) واختيار العلامة الصنعاني، والشيخ: محمد بن إبراهيم (مجموع فتاواه 10/218).
هذا حكم الدف الذي يسمى الطق، وأما حقيقة الدف، فقد جاء في اللسان:"الدَّف، والدُّف: الذي يضرب به النساء والجمع دفوف، والدَّفاف صاحبها، المدفف صانعها، والمدفدف ضاربها" (لسان العرب 9/106) دفف.
وكلام النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما يحمل على ما كان معهوداً على عهده.
وقد قال مشايخنا: إن الدف المعهود في العهد النبوي هو المختوم من وجه واحد، وليس فيه صنوج ولا حِلق ولا أجراس. (فتاوى ابن إبراهيم 10/215)، ابن عثيمين (فتاوى إسلامية 3/186).
ولم أجده في كتب اللغة التي اطلعت عليها، وهذا الدف هو الذي يسمى في بلاد نجد وما جاورها الطار.
أما باقي المعازف سواء منها الهوائي كالمزمار والناي أو الوتري كالعود والرباب أو الطبول فكلها محرمة على الصحيح من أقوال أهل العلم، سواء في الأعراس وغيرها، عن أبي عامر الأشعري -رضي الله عنه- مرفوعاً "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" صحيح البخاري (5590).
وهذا يدل على تحريم سائر أنواع المعازف، وخصّ الدليل الدف فيفرد عنها، ولكن هل تختص إباحة الدف بالأعراس فقط، أو يجوز أيضاً في الأعياد ونحوها، أم أنه مباح مطلقاً؟ هذه ثلاثة أقوال، الظاهر منها إباحته في الأعراس والأعياد ونحوها.
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إني نذرت إن رجعت سالماً أن أضرب على رأسك الدف. قال:"أوفي بنذرك" سنن أبي داود (3312) سنن الترمذي (3690) مسند أحمد (5/353)، ولو كان محرماً لم يأذن به.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدفان وتضربان، والنبي -صلى الله عليه وسلم- متغشٍّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي -صلى الله عليه وسلم- وجهه فقال:"دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد" صحيح البخاري (949) ومسلم (892)، ومثل ذلك اليوم الذي يلي العرس عن الربيَّع بنت معوَّذ -رضي الله عنها- قالت: دخل عليَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- صبيحة بُني بي، فجعلت جويريات يضربن بدف لهن ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر" الحديث، صحيح البخاري (5147).
إذاً لا يضرب بالدف إلا النساء على الصحيح من أقوال أهل العلم، فقد أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- النساء كما في حديث عائشة لما زفت امرأة إلى رجل من الأنصار قال:" فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني.." الحديث، الطبراني (1/167/1) وأصله في البخاري (9/184) انظر إرواء الغليل (1995)، قال ابن قدامة:" في ضرب الرجال بالدف تشبه بالنساء، وقد لعن النبي المشتبهين من الرجال بالنساء" (المغني 14/159).
وقال الحافظ ابن حجر:"الأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن" (فتح الباري 9/134).
أما استماعه في العرس ونحوه فهو مباح للرجال والنساء على السواء؛ للأدلة السابقة، وقد قال عامر بن سعد البجلي: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود وجوار يضربن بالدف ويغنين، فقلت: تقرون على هذا وأنتم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: إنه قد رُخص لنا في العرسات" أخرجه الحاكم والبيهقي انظر (آداب الزفاف للألباني صـ182).
والغناء المصاحب له إذا اشتمل على محرم أو منكر ووصف للفجور فهو محرم، وما لم يكن كذلك فهو مباح للنساء.
أما استماع الرجال له فإن كان من أمة مملوكة أو من صغيرة فهذا مباح كما تقدم من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، أما الحرة البالغة فإنه ليس لها التغنج بصوتها ولا الغناء للرجال، أما لو وصل صوت النساء مجتمعات بحيث لا يتميز صوت معين منهن فلا بأس بسماعه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:"غناء الإماء الذي يسمعه الرجل قد كان الصحابة يسمعونه في العرسات كما كانوا ينظرون إلى الإماء لعدم الفتنة في رؤيتهن وسماع أصواتهن...أما غناء الرجال للرجال فلم يبلغنا أنه كان في عهد الصحابة. يبقى غناء النساء للنساء في العرس، وأما غناء الحرائر للرجال بالدف فمشروع في الأفراح كحديث الناذرة وغناها مع ذلك، لكن نصب مغنية للنساء والرجال هذا منكر بكل حال، بخلاف من ليست صنعتها" (مجموع الفتاوى 29/552).
فاتخاذ ذلك حرفة لا ينبغي، قال ابن قدامة:"أما اتخاذ الغناء في الأعراس وضرب الدف فيه حرفة فهو دناءة وسقوط مروءة والكسب فيه خبيث" (المغني 10/206).
بخلاف إعطاء جُعل أو هدية لمن قام بذلك فهذا جائز، بقي من مسائل المستفتي الزغردة والتصفيق والرقص في الأعراس، والأصل في ذلك كله كما قال ابن سعدي -رحمه الله-:"الأصل في جميع العادات القولية والفعلية الإباحة والجواز، فلا يحرم منها ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع، أو تضمن مفسدة، وهذا أصل الكتاب والسنة فإن الناس لم يقصدوا التعبد بها، وإنما هي عوائد جرت بينهم في المناسبات لا محذور فيها، والعادات المباحة قد يقترن بها من المصالح والمنافع ما يلحقها بالأمور المستحبة بحسب ما ينتج عنها" (نيل المآرب 4/406).
ولم يزل النساء يرقصن في الأعراس ونحوها قال ابن عبد السلام:"الرقص...لا يصلح إلا للنساء" (قواعد الأحكام 2/220).
وكذلك الزغردة ونحوها والتصفيق في الأعراس كله مما لا أرى كراهته للنساء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"الضرب بالدف والتصفيق بالكف من عمل النساء" (مجموعة الرسائل المنبرية 2/171).
إلا إن ارتبط بذلك فتنة كما قد يحصل في بعض المجتمعات من تعلق وتعشق فإن لهذا حكم يخص مواطنه.
أسأل الله -تعالى- التوفيق والسداد والهداية للرشاد لنا ولسائر المسلمين والمسلمات، وصلى الله على محمد وآله(1/57)
70-7726 أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ " تَعْرِفِينَ هَذِهِ ؟ " قَالَتْ : لَا ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ : " هَذِهِ قَيْنَةُ بَنِي فُلَانٍ تُحِبِّينَ أَنْ تُغَنِّيَكِ ؟ فَغَنَّتْهَا "(1)
__________
(1)أخرجه أحمد برقم(16131) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 6 / ص 288)برقم(6546) وهو حديث صحيح
الفروع لابن مفلح - (ج 7 / ص 432)
فَأَمَّا سَائِرُ مَا يَتَلَهَّى بِهِ الْبَاطِلُونَ مِنْ أَنْوَاعِ اللَّهْوِ وَسَائِرِ ضُرُوبِ اللَّعِبِ ، مِمَّا لَا يُسْتَعَانُ بِهِ فِي حَقٍّ ، فَمَحْظُورٌ كُلُّهُ ، { وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَجَوَارٍ مَعَهَا يَلْعَبْنَ بِالْبَنَاتِ ، وَهِيَ اللَّعِبُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَاهُنَّ } ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، { وَكَانَتْ لَهَا أُرْجُوحَةٌ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ } ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ ، وَأَظُنُّهُ فِي الصَّحِيحِ ، فَيُرَخَّصُ فِيهِ لِلصِّغَارِ مَا لَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْكِبَارِ ، قَالَهُ شَيْخُنَا .
وَفِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ فِي زَمَّارَةِ الرَّاعِي ، وَيَتَوَجَّهُ : وَكَذَا فِي الْعِيدِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ { أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى يُدَفِّفَانِ وَيَضْرِبَانِ وَيُغَنِّيَانِ مَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ : أَبِمِزْمَارِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهُمَا فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ { أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ : هَذِهِ قَيْنَةُ بَنِي فُلَانٍ ، تُحِبِّينَ أَنْ تَغَنِّيَك ؟ قَالَتْ : نَعَمْ فَأَعْطَاهَا طَبَقًا فَغَنَّتْهَا ، فَقَالَ قَدْ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي مَنْخَرَيْهَا } إسْنَادُهُ صَحِيحٌ ، فَيُحْمَلُ عَلَى غِنَاءٍ مُبَاحٍ .(1/58)
طَاعَةُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا
71- 7727 أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عَجْلَانَ قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَيْرِ النِّسَاءِ قَالَ : " الَّتِي تُطِيعُ إِذَا أَمَرَ ، وَتَسُرُّ إِذَا نَظَرَ ، وَتَحْفَظُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ "(1)
-------------------
(1) -حديث حسن
المحلى لابن حزم - (ج 4 / ص 242)
فأما الْخَبَرُ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأََرْبَعٍ فَلَيْسَ فِيهِ التَّغْبِيطُ بِذَلِكَ , وَلاَ الْحَضُّ عَلَيْهِ , وَلاَ إبَاحَتُهُ فَضْلاً ، عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ , بَلْ فِيهِ الزَّجْرُ ، عَنْ أَنْ تُنْكَحَ لِغَيْرِ الدِّينِ لِقَوْلِهِ عليه السلام فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ فَقَصَرَ أَمْرَهُ عَلَى ذَاتِ الدِّينِ , فَصَارَ مَنْ نَكَحَ لِلْمَالِ غَيْرَ مَحْمُودٍ فِي نِيَّتِهِ تِلْكَ. ثُمَّ هَبْكَ أَنَّهُ مُبَاحٌ مُسْتَحَبٌّ أَيُّ دَلِيلٍ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ مَالِهَا بِكَوْنِهِ أَحَدَ الطَّمَّاعِينَ فِي مَالٍ لاَ يَحِلُّ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا يَحِلُّ مِنْ مَالِ جَارِهِ وَهُوَ مَا طَابَتْ لَهُ بِهِ نَفْسُهَا وَنَفْسُ جَارِهِ ، وَلاَ مَزِيدَ.
وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ أَهْلُ الإِسْلاَمِ عَلَيْهِمَا إجْمَاعًا مَقْطُوعًا بِهِ مُتَيَقَّنًا أَنَّ عَلَى الأَزْوَاجِ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ ; وَكِسْوَتَهُنَّ , وَإِسْكَانَهُنَّ , وَصَدُقَاتِهِنَّ , وَجَعَلَ لَهُنَّ الْمِيرَاثَ مِنْ الرِّجَالِ كَمَا جَعَلَهُ لِلرِّجَالِ مِنْهُنَّ سَوَاءً سَوَاءً فَصَارَ بِيَقِينٍ مِنْ كُلِّ ذِي مَسْكَةِ عَقْلٍ حَقُّ الْمَرْأَةِ فِي مَالِ زَوْجِهَا وَاجِبًا لاَزِمًا , حَلاَلاً يَوْمًا بِيَوْمٍ , وَشَهْرًا بِشَهْرٍ , وَعَامًا بِعَامٍ , وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ , وَكَرَّةِ الطَّرَفِ , لاَ تَخْلُو ذِمَّتُهُ مِنْ حَقٍّ لَهَا فِي مَالِهِ. بِخِلاَفِ مَنْعِهِ مِنْ مَالِهَا جُمْلَةً , وَتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ , إِلاَّ مَا طَابَتْ لَهُ نَفْسُهَا بِهِ , ثُمَّ تَرْجُو مِنْ مِيرَاثِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا يَرْجُو الزَّوْجُ فِي مِيرَاثِهَا ، وَلاَ فَرْقَ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلرَّجُلِ مَنْعَهَا مِنْ مَالِهَا فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ أَوْجَبُ , وَأَحَقُّ فِي مَنْعِهِ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا ; لأََنَّ لَهَا شِرْكًا وَاجِبًا فِي مَالِهِ , وَلَيْسَ لَهُ فِي مَالِهَا إِلاَّ التَّبُّ وَالزَّجْرُ , فَيَا لَلْعَجَبِ فِي عَكْسِ الأَحْكَامِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا لَهَا مَنْعَهُ مِنْ مَالِهِ خَوْفَ أَنْ يَفْتَقِرَ فَيَبْطُلُ حَقُّهَا اللَّازِمُ فَأُبْعِدَ وَاَللَّهِ وَأُبْطِلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُوجِبًا لَهُ مَنْعَهَا مِنْ مَالٍ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ , وَلاَ حَظَّ إِلاَّ حَظُّ الْفِيلِ مِنْ الطَّيَرَانِ. وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ إطْلاَقِهِمْ لَهُ الْمَنْعَ مِنْ مَالِهَا أَوْ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَهُوَ لَوْ مَاتَ جُوعًا , أَوْ جَهْدًا , أَوْ هُزَالاً , أَوْ بَرْدًا , لَمْ يَقْضُوا لَهُ فِي مَالِهَا بِنَوَاةٍ يَزْدَرِدُهَا , وَلاَ بِجِلْدٍ يَسْتَتِرُ بِهِ , فَكَيْفَ اسْتَجَازُوا هَذَا إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً.
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ بِهَذَا الْكَلاَمِ زَوْجًا مِنْ أَبٍ , وَلاَ مِنْ أَخٍ. ثُمَّ لَوْ كَانَ فِيهَا نَصٌّ عَلَى الأَزْوَاجِ دُونَ غَيْرِهِمْ لَمَا كَانَ فِيهَا نَصٌّ ، وَلاَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ مَالِهَا , وَلاَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ , وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ فِيهِ أَنْ يَقُومُوا بِالنَّظَرِ فِي أَمْوَالِهِنَّ وَهُمْ لاَ يَجْعَلُونَ هَذَا لِلزَّوْجِ أَصْلاً بَلْ لَهَا عِنْدَهُمْ أَنْ تُوَكِّلَ فِي النَّظَرِ فِي مَالِهَا مَنْ شَاءَتْ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ زَوْجِهَا .
وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهَا لاَ يَنْفُذُ عَلَيْهَا بَيْعُ زَوْجِهَا لِشَيْءٍ مِنْ مَالِهَا لاَ مَا قَلَّ ، وَلاَ مَا كَثُرَ لاَ لِنَظَرٍ ، وَلاَ لِغَيْرِهِ , وَلاَ ابْتِيَاعِهِ لَهَا أَصْلاً فَصَارَتْ الآيَةُ مُخَالِفَةً لَهُمْ فِيمَا يَتَأَوَّلُونَهُ فِيهَا. وَصَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ وُجُوبِ نَفَقَتِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ عَلَيْهِمْ , فَذَاتُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجِ , وَغَيْرُ ذَاتِ الزَّوْجِ إنْ احْتَاجَتْ عَلَى أَهْلِهَا فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ فَصَارَتْ الآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ , وَكَاسِرَةً لِقَوْلِهِمْ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ : فَإِنَّ يَحْيَى بْنَ بُكَيْرٍ رَوَاهُ ، عَنِ اللَّيْثِ وَهُوَ أَوْثَقُ النَّاسِ فِيهِ ، عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ فِيهِ : وَلاَ تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ بِمَا يَكْرَهُ. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ : أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ نَا ابْنُ عَجْلاَنَ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ خَيْرِ النِّسَاءِ قَالَ : الَّتِي تُطِيعُ إذَا أَمَرَ , وَتَسُرُّ إذَا نَظَرَ , وَتَحْفَظُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ وَمَالِهَا دُونَ مُعَارِضٍ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ مُتَعَلَّقٌ ; لأََنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا فِيهِ النَّدْبُ فَقَطْ لاَ الإِيجَابُ , وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الطَّاعَةِ , وَالْمَنْعُ مِنْ الصَّدَقَةِ , وَفِعْلِ الْخَيْرِ لَيْسَ طَاعَةً , بَلْ هُوَ صَدٌّ ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ عُمَرَ : فَهَالِكٌ ; لأََنَّ فِيهِ مُوسَى بْنَ أَعْيَنَ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَلَيْثَ بْنَ أَبِي سُلَيْمٍ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو : فَصَحِيفَةٌ مُنْقَطِعَةٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَنْسُوخًا بِخَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا خَبَرُ طَاوُوس , وَعِكْرِمَةَ فَمُرْسَلاَنِ فَبَطَلَ كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد رحمه الله : فَإِذْ قَدْ سَقَطَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ فَالتَّحْدِيدُ الْوَارِدُ ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَمَنْ اتَّبَعَهُ فِي أَنْ لاَ يَجُوزَ لَهَا عَطِيَّةٌ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَلِدَ. أَوْ تَبْقَى فِي بَيْتِ زَوْجِهَا سَنَةً , فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّجُوعَ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى الْقُرْآنِ , وَالسُّنَّةِ , لاَ إلَى قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ : فَبَطَلَتْ الأَقْوَالُ كُلُّهَا إِلاَّ قَوْلُنَا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَمِنْ الْحُجَّةُ لِقَوْلِنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا فَبَطَلَ بِهَذَا مَنْعُهَا مِنْ مَالِهَا طَمَعًا فِي أَنْ يَحْصُلَ لِلْمَانِعِ بِالْمِيرَاثِ أَبًا كَانَ , أَوْ زَوْجًا. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ
وَقَالَ تَعَالَى وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَلَمْ يُفَرِّقْ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ الرِّجَالِ فِي الْحَضِّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَبَيْنَ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ , وَلاَ بَيْنَ ذَاتِ أَبٍ بِكْرٍ , أَوْ غَيْرِ ذَاتِ أَبٍ ثَيِّبٍ , وَلاَ بَيْنَ ذَاتِ زَوْجٍ. وَلاَ أَرْمَلَةٍ فَكَانَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ ذَلِكَ بَاطِلاً مُتَيَقَّنًا , وَظُلْمًا ظَاهِرًا مِمَّنْ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَقَلَّدَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْمَاءَ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهَا إذْنَ الزُّبَيْرِ , وَلاَ ثُلُثًا فَمَا دُونَ فَمَا فَوْقَ , بَلْ قَالَ لَهَا : ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ ، وَلاَ تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ سَمِعْت عَطَاءً قَالَ : سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ خَطَبَ فَرَأَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ النِّسَاءَ فَأَتَاهُنَّ فَذَكَّرَهُنَّ وَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ وَبِلاَلٌ قَائِلٌ بِثَوْبِهِ , فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي : الْخَاتَمَ , وَالْخُرْصَ , وَالشَّيْءَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ ، هُوَ ابْنُ زَيْدٍ ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يَخْرُجَ فِي الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ ، عَنْ دَاوُد بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الأَضْحَى , وَيَوْمَ الْفِطْرِ , وَكَانَ يَقُولُ : تَصَدَّقُوا تَصَدَّقُوا , وَكَانَ أَكْثَرُ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ فَهَذَا أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النِّسَاءَ بِالصَّدَقَةِ عُمُومًا. نَعَمْ , وَجَاءَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ , وَفِيهِنَّ الْعَوَاتِقُ الْمُخَدَّرَاتُ ذَوَاتُ الآبَاءِ وَذَوَاتُ الأَزْوَاجِ " فَمَا خَصَّ مِنْهُنَّ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ , وَفِيهِنَّ الْمُقِلَّةُ , وَالْغَنِيَّةُ فَمَا خَصَّ مِقْدَارًا دُونَ مِقْدَارٍ , وَهَذَا آخِرُ فِعْلِهِ عليه السلام , وَبِحَضْرَةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ , وَآثَارٌ ثَابِتَةٌ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.(1/58)
72-7728 أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ : حَدَّثَنِي شُعَيْبٌ قَالَ : حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنِي يَحْيَى ، أَنَّ بُشَيْرَ بْنَ يَسَارٍ ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مِحْصَنٍ أَخْبَرَهُ عَنْ عَمَّةٍ لَهُ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ الْحَاجَةِ فَقَضَى حَاجَتَهَا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : " كَيْفَ أَنْتِ لَهُ ؟ " قَالَتْ : مَا آلُوهُ ، إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " انْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ "(1)
__________
(1) -أخرجه أحمد برقم(28114) وطس برقم(539) وهب برقم(8473) صحيح
قلت : ورد فيه عبد الله بن محصن والصواب أنه حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ كما ورد في الكتب الأخرى
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 6 / ص 185)
2744 - (انظري) أيتها المرأة التي هي ذات بعل (أين أنت منه) أي في أي منزلة أنت منه أقريبة من مودّة مسعفة له عند شدته ملبية لدعوته أم متباعدة من مرامه كافرة لعشرته وإنعامه (فإنما هو) أي الزوج (جنتك ونارك) أي هو سبب لدخولك الجنة برضاه عنك وسبب لدخولك النار بسخطه عليك فأحسني عشرته ولا تخالفي أمره فيما ليس بمعصية وهذا قاله للتي جاءت تسأله عن شيء فقال: أذات زوج أنت؟ قالت: نعم قال: كيف أنت منه؟ قالت: لا آلوه إلا ما عجزت عنه فذكره وأخذ الذهبي من هذا الحديث ونحوه أن النشوز كبيرة.
- (ابن سعد) في الطبقات (طب عن عمة حصين) بضم الحاء وفتح الصاد بضبط المؤلف (ابن محصن) بضم أوله وسكون ثانيه وكسر الصاد المهملة قال حصين: حدثتني عمتي أنها ذكرت زوجها للنبي صلى اللّه عليه وسلم فذكره وصنيع المؤلف قاض بأنه لم ير هذا في أحد الكتب الستة وإلا لما أبعد النجعة وعدل لغيرها وهو عجيب فقد رواه النسائي من طريقين وعزاه له جمع جم منهم الذهبي في الكبائر ولفظه: قالت عمة حصين وذكرت زوجها للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: انظري أين أنت منه فإنه جنتك ونارك أخرجه الذهبي من وجهين وفي الباب أحاديث كثيرة هذا نصه بحروفه.
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 47 / ص 1)
الحكم التكليفي للنشوز 5- ذهب الفقهاء إلى أن نشوز المرأة على زوجها حرام ، لما ورد في تعظيم حق الزوج على زوجته 40 286 ووجوب طاعتها له ، ومنه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لامرأة " ( أذات زوج أنت ؟ قالت نعم ، قال انظري أين أنت منه فإنه جنتك ونارك ) " ، ولما روى عبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال " ( إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها ، وحفظت فرجها ، وأطاعت زوجها ، قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت ) " ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم " ( لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) " .
واستدل الفقهاء كذلك على حرمة نشوز المرأة على زوجها بما ورد من الوعيد الشديد لمن تنشز على زوجها ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم " ( إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) " ، وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " ( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح ) "
وقد أخبر الله تعالى أن الصالحات من النساء قانتات أي مطيعات لأزواجهن ، وذلك بقوله تعالى { فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله } قاله ابن عباس وغيره ، كما أخبر أنهن حافظات للغيب أي يحفظن أزواجهن في غيبتهم في أنفسهن وأموالهم بحفظ الله تعالى ومعونته وتسديده
وقال القرطبي قول الله تعالى { فالصالحات قانتات حافظات للغيب } هذا 40 287 خبر ، ومقصود الأمر بطاعة الزوج والقيام بحقه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج ، وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " ( خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك " ، قال ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم { الرجال قوامون على النساء } الآية )
وقال ابن حجر الهيتمي عد النشوز كبيرة هو ما صرح به جمع ، أي من الفقهاء ، ولم يرد الشيخان بقولهما امتناع المرأة من زوجها بلا سبب كبيرة خصوصه ، بل نبها به على سائر صور النشوز
ما يكون به نشوز الزوجة
ما يكون به نشوز الزوجة 6- اختلف الفقهاء فيما يكون به على نشوز المرأة على زوجها ، ولهم في ذلك تفصيل . فقال الحنفية لا نفقة للناشزة لفوات التسليم من جهتها وهو النشوز ، والنشوز قد يكون في النكاح ، وقد يكون في العدة .
فأما النشوز في النكاح فهو أن تمنع نفسها من الزوج بغير حق خارجة من منزله ، بأن خرجت بغير إذنه وغابت أو سافرت ، فأما إذا كانت في منزله ومنعت نفسها فلها النفقة ؛ لأنها محبوسة لحقه منتفع بها ظاهرا وغالبا ، فكان معنى التسليم حاصلا .
وجاء في رد المحتار وشمل النشوز بخروجها من منزله الخروج الحكمي ، كأن كان المنزل لها فمنعته من الدخول عليها ، فهي كالخارجة ما لم تكن سألته النقلة - بأن قالت له حولني إلى منزلك ، أو اكتر لي منزلا فإني محتاجة إلى منزلي هذا آخذ كراءه - فلها النفقة حينئذ .
ولو كان في المنزل شبهة - كبيت السلطان - فامتنعت منه فهي ناشزة لعدم اعتبار الشبهة في زماننا ، بخلاف ما إذا خرجت من بيت الغصب لأن السكنى في المغصوب حرام ، والامتناع عن الحرام واجب ، بخلاف الامتناع عن الشبهة فإنه مندوب ، فيقدم عليه حق الزوج الواجب .
ولو سلمت نفسها بالليل دون النهار ، أو عكسه ، فلا نفقة لها لنقص التسليم ، قال في المجتبى وبه عرف جواب واقعة في زماننا أنه لو تزوج من المحترفات التي تكون بالنهار في مصالحها وبالليل عنده فلا نفقة لها ، قال في 40 288 النهر وفيه نظر ، وجهه - كما ذكر ابن عابدين - أنها معذورة لاشتغالها بمصالحها ، بخلاف المسألة المقيس عليها فإنها لا عذر لها فنقص التسليم منسوب إليها ، وإذا كان له منعها من ذلك فإن عصته وخرجت بلا إذن كانت ناشزة مادامت خارجة ، وإن لم يمنعها لم تكن ناشزة
والنشوز في العدة أن تخرج من بيت العدة مراغمة لزوجها ، أو تخرج لمعنى من قبلها . وقد روي أن فاطمة بنت قيس كانت تبذو على أحمائها ، فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف " ( أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو ابن حفص بن المغيرة فطلقها آخر ثلاث تطليقات ، فزعمت أنها جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستفتيه في خروجها من بيتها ، فأمرها أن تنتقل إلى بيت ابن أم مكتوم الأعمى ، فأبى مروان أن يصدقه في خروج المطلقة من بيتها ، وقال عروة إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة بنت قيس ) " ، ولأن الإخراج كان لمعنى من قبلها ، فصارت كأنها خرجت بنفسها مراغمة لزوجها .
وقال المالكية مما يكون به نشوز الزوجة منعها زوجها من الوطء أو الاستمتاع - في المشهور - وخروجها بغير إذن زوجها لمحل تعلم أنه لا يأذن فيه أو لا يجب خروجها إليه ، وعجز الزوج عن منعها ابتداء ثم عن ردها لمحل طاعته ، فإن قدر على منعها ابتداء أو على ردها بصلحها أو بحاكم فلا تكون ناشزا ، ويكون النشوز كذلك بتركها حقوق الله تعالى كالغسل أو الصلاة أو صيام رمضان ، وبإغلاقها الباب دونه ، وبأن تخونه في نفسها أو ماله
وقال الشافعية مما يكون به نشوز الزوجة خروجها بغير إذن زوجها من المنزل لا إلى القاضي لطلب الحق منه ، ولا إلى اكتساب النفقة إذا أعسر بها الزوج ، ولا إلى استفتاء إن لم يكن زوجها فقيها ولم يستفت لها ، ولا إلى الطحن أو الخبز أو شراء ما لابد منه ، أو الخوف من انهدام المنزل ، أو جلاء من حولها من الجيران في غيبة الزوج ، أو انقضاء إجارة المنزل أو رجوع معيره ، 40 289 وكذا لو خرجت لحاجتها في البلد بإذنه كأن تكون بلانة أو ماشطة أو داية تولد النساء فلا تعتبر ناشزة بذلك .
وتكون الزوجة ناشزة كذلك بإغلاقها الباب في وجه زوجها ، وعدم فتحها الباب ليدخل وكان قفله منها ، وبمنعه من فتح الباب ، وحبسها زوجها ، ودعواها طلاقا ، وكونها معتدة عن غيره كوطء شبهة .
وتكون ناشزة بمنعها الزوج من الاستمتاع بها حيث لا عذر ، لا منعه من ذلك تدللا ، ويدخل في المنع من الاستمتاع الذي تنشز به المنع من نحو قبلة - وإن مكنته من الجماع - حيث لا عذر في امتناعها منه ، فإن عذرت كأن كان به صنان مستحكم - مثلا- وتأذت به تأذيا لا يحتمل لم تعد ناشزة ، وتصدق في ذلك إن لم تدل قرينة قوية على كذبها .
وقالوا إن شتم المرأة زوجها وإيذاءها له بنحو لسانها لا يكون نشوزا ، بل تأثم به وتستحق التأديب عليه .
ويكون النشوز كذلك إذا دعا الزوج نساءه إلى منزله الذي أعده لإتيانهن فيه فتمتنع إحداهن ، بخلاف ما لو دعا إحداهن لمنزل ضرتها فلا يعد امتناعها نشوزا ، ومحل كون امتناعها نشوزا عند دعائها لمنزله إن لم تكن شريفة ، وإلا فلا يعد نشوزا حيث كان منزله في بيت آخر ، فإن كان في البيت الذي هو فيه عد ذلك نشوزا .
وتعد الزوجة ناشزة إذا سافرت بدون زوجها بلا إذنه ، أو بإذن لغير حاجته بأن كان لحاجتها ، أو لحاجة أجنبي ، أو لحاجتهما ، أو لا لحاجة كنزهة .
ولو سافرت الزوجة مع الزوج - ولو بلا إذن - فلا تكون ناشزة إن لم ينهها ، فإن نهاها كانت ناشزة ، سواء أقدر على ردها أم لا ، نعم إن استمتع بها لا تكون بعد الاستمتاع بها ناشزة ؛ لأن استمتاعه بها رضا بمصاحبتها له .
ولو ارتحلت لخراب البلد وارتحل أهلها ، واقتصرت على قدر الضرورة لا تعد ناشزة . وقالوا من أمارات نشوز الزوجة قولا أن تجيب زوجها بكلام خشن بعد أن كانت تجيبه بكلام لين ، فلو كان الكلام الخشن عادتها لم يكن نشوزا إلا إن زاد .
40 290 ومن أمارات نشوزها فعلا أن يجد منها إعراضا وعبوسا ؛ لأنه لا يكون إلا عن كراهة ، وبذلك فارق السب والشتم لأنه قد يكون لسوء الخلق ، لكن للزوج تأديبها عليه ولو بلا حاكم
وقال الحنابلة أمارات النشوز مثل أن تتثاقل أو تتدافع إذا دعاها للاستمتاع ، ولا تصير إليه إلا بتكره ودمدمة ، أو تجيبه متبرمة متكرهة ، ويختل أدبها في حقه .
ويكون نشوز الزوجة على زوجها بأن تعصيه فيما فرض الله عليها من طاعة ، وتمتنع من فراشه ، أو تخرج من منزله بغير إذنه
أثر النشوز على النفقة
أثر النشوز على النفقة 7- اختلف الفقهاء في سقوط نفقة الزوجة بنشوزها . فذهب جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية على المشهور والشافعية والحنابلة والشعبي وحماد والأوزاعي وأبو ثور إلى أن الناشز لا نفقة لها ولا سكنى ؛ لأن النفقة إنما تجب في مقابلة تمكينها له ، بدليل أنها لا تجب قبل تسليمها إليه ، وإذا منعها النفقة كان لها منعه التمكين ، فإذا منعته التمكين كان له منعها من النفقة كما قبل الدخول .
وقال بعض المالكية إن النفقة لا تسقط بالنشوز ، واحتج لهم بأن نشوزها لا يسقط مهرها فكذلك نفقتها
وللفقهاء القائلين بسقوط النفقة بالنشوز تفصيل قال الحنفية لا نفقة للناشزة لفوات التسليم بمعنى من جهتها وهو النشوز . والنشوز عندهم نوعان نشوز في النكاح ونشوز في العدة ، وقد تقدم .
وتسقط بالنشوز النفقة المفروضة لا المستدانة في الأصح ، أي إذا كان لها عليه نفقة أشهر مفروضة ثم نشزت سقطت تلك الأشهر الماضية ، بخلاف ما إذا أمرها بالاستدانة فاستدانت عليه فإنها لا تسقط ، قال ابن عابدين وسقوط المفروضة منصوص عليه في الجامع ، أما المستدانة فذكر في الذخيرة أنه يجب أن يكون على الروايتين في سقوطها بالموت ، 40 291 والأصح منهما عدم السقوط، ومقتضى هذا أنها لو عادت إلى بيته لا يعود ما سقط، وهل يبطل الفرض فيحتاج إلى تجديده بعد العود إلى بيته أم لا؟ الظاهر عدم بطلانه، لأن كلامهم في سقوط المفروض لا الفرض .
واتفق المالكية على أن نفقة الناشز لا تسقط إذا كانت حاملا، لأن النفقة حيئذ للحمل، وكذا إذا كانت مطلقة رجعيا وخرجت بلا إذن، لأنه ليس له منعها من الخروج.
واختلفوا في سقوط نفقة الناشز في غير هاتين الحالتين
فقال بعضهم وهو الرواية المشهورة إن منعت المرأة زوجها الوطء أو الاستمتاع بغير عذر تسقط نفقتها عنه في اليوم الذي منعته فيه من ذلك.
وقالوا تسقط نفقتها أيضا إن خرجت من بيته أو من محل طاعته ظالمة بلا إذن ولم يقدر على ردها بنفسه أو رسوله أو حاكم ينصف، وكان خروجها إلى مكان معلوم ولم يقدر على منعها ابتداء، فإن قدر على منعها ولم يفعل لم تسقط نفقتها.
وقال بعض المالكية أن النفقة لا تسقط بالنشوز بعد التمكين وقد تقدم ذكر قولهم .
وقال الشافعية تسقط النفقة بنشوز- أي خروج- عن طاعة الزوج وإن لم تخرج من بيته أو قدر على تسلمها، ولو بمنع لمس أو نظر بنحو تغطية وجه لغير دلال بلا عذر، وتسقط نفقة كل يوم بالنشوز بلا عذر في كله، وكذا في بعضه في الأصح، قال القليوبي هو المعتمد، وكسوة الفصل كنفقة اليوم، ولا تعود بعودها للطاعة في بقية اليوم أو الليلة أو الفصل ما لم يستمتع بها على المعتمد.
ونشوز المجنونة والمزاهقة كالعاقلة البالغة، وإن كان لا إثم عليهما.
ولو صرف الزوج لامرأته المؤن غير عالم بالنشوز ثم علم به فله الاسترداد، ولو تصرفت فيها لم يصح، لأنها باقية على ملكه.
وقال الأنصاري في سقوط نفقة اليوم كله بالنشوز في بعضه وإنما سقطت النفقة لها لأنها لا تتجزأ، بدليل أنها تسلم دفعة واحدة ولا تفرق غدوة وعشية .
40 292 وقال الحنابلة الناشز لا نفقة لها ولا سكنى، لأن النفقة إنما تجب في مقابلة تمكينها، بدليل أنها لا تجب قبل تسليمها إلى الزوج، فإذا منعها النفقة كان لها منعه من التمكين، فإذا منعته التمكين كان له منعها من النفقة كما قبل الدخول، وإذا كان له منها ولد فعليه نفقة ولده لأنها واجبة له فلا يسقط حقه بمعصيتها، وعلى الزوج أن يعطيها إياها إذا كانت هي الحاضنة له أو المرضعة له، وكذلك أجر إرضاعها يلزمه تسليمه إليها، لأنه أجر ملكته عليه بالإرضاع، لا في مقابلة الاستمتاع، ولا يزول بزواله .
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 18 / ص 145)
زوجي يضربني ويسئ معاملتي
المجيب د. شيخة بنت المفرج المفرج
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
التصنيف الفهرسة/ الاستشارات/ استشارات اجتماعية / العلاقات الزوجية/ المشكلات الزوجية/سوء العشرة
التاريخ 27/3/1425هـ
السؤال
أنا سيدة متزوجة من عشر سنوات وعندي ولدين، أعاني من سوء معاملة زوجي لي، وتكرر ضربه وإيذائه لي بالقول كثيراً، مما أسفر عن كرهي الشديد له حتى أني أصبحت لا أطيق وجوده داخل البيت، أو حتى رؤيته، أو أن يقترب مني، و هو لا يريد طلاقي خوفا على الأولاد وليس تمسكاً بي. فماذا أفعل؟.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أختي الفاضلة أم محمد: - حفظها الله- سلام الله عليك ورحمته وبركاته، وبعد:
فأرجو أن تكوني ممن أحبهم الله فابتلاهم في دنياهم، كما أرجو أن تكوني ممن إذا ابتلي صبر.
عزيزتي: كلنا نرى في هذه الدنيا أننا مظلومون، وأن الطرف الآخر هو الظالم، ولكن لو وقفنا مع أنفسنا وقفة عدل وإنصاف لتبين لنا الحق، فاسألي نفسك لم يعاملك زوجك بهذه المعاملة التي تصل إلى حد الضرب، وبصورة أدق أسألك كيف تعاملك معه؟ هل أنت إنسانة تصرين على رأيك؟، هل أنتِ إنسانة عصبية؟ ولقد قال الله للصحابة - رضي الله عنهم- عندما هُزموا في معركة أُحد: "قل هو من عند أنفسكم" [آل عمران: 165]، وقال سبحانه مخاطباً البشرية: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" [الشورى: 30].
عزيزتي: أقترح لك لإنهاء هذا الإشكال ما يلي:
1- الاستغفار: أكثري منه، واعلمي أن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، استغفري بالليل والنهار، أثناء عملك وأثناء خروجك، وفي كل وقت؛ فقد أثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنه يستغفر في اليوم والليلة مائة مرة فيما روه مسلم (2702) من حديث الأغر المزني - رضي الله عنه - .
2- الدعاء: الجئي إلى الله بالدعاء وأنت مؤمنة بأن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه سبحانه القادر على تحويل حالك؛ قال تعالى: "أمن يجيب المضطرَّ إذا دعاه ويكشف السوء" [النمل:62].
3- اعلمي أن طلب الكمال محال، فكما أن المرأة فيها نقص ينبغي للزوج تحمله، فكذلك في الزوج نقص ينبغي للزوجة تحمله، فيكمل كل منهما الآخر.
4- استعيذي بالله من الشيطان الرجيم؛ فإنه هو الذي يعظم عليك المشكلة ويكبرها في نظرك؛ لأن من أهم ما سعى إليه - أعاذ الله منه- التفريق بين المرء وزوجه.
5- اسمحي لي أن أقول لك أن هذا الزوج فيه ميزة عظيمة، ولم تلتفتي لها، وقَلَّ من الرجال من يتحلى بها، وهي حرصه على أولاده ألا يضيعوا إذا فقدوا أحد والديهم، مع أن كثيراً من الأزواج إذا كره الزوجة طلقها ولم يفكر بالأولاد....
وأخيراً أنصحك بما يلي:
(1) اعلمي أن من أسباب دخول الجنة طاعة الزوج ورضاه، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة" رواه الترمذي (1161) وابن ماجة (1854) من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - ، وقال عليه السلام: "انظري أين أنت منه فإنه جنتك ونارك" رواه أحمد (26806) من حديث الحصين بن محصن - رضي الله عنه -.
(2) الحياة الدنيا ما هي إلا مرحلة انتقال نتزود فيها لدار القرار، فاحرصي على التزود منها بما يقربك لله.
(3) قال تعالى: "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" [فصلت:34]، جربي إحسان التعامل، وغض الطرف، والصفح والعفو، وستجدين بإذن الله أفضل النتائج.
(4) احرصي على بقاء الود بينكما لأجل وليدكما؛ فإن من أكثر ما ينغص على الأولاد تخاصم الأبوين.
(5) لا تعرضي مشكلتك إلا على من تثقين في دينه وحكمته ممن حولك؛ لأن البعض يعظم الأمر الحقير، ويثير في النفس ما لا يستحق الإثارة.
(6) لا تعطي نفسك هواها في شدة الكره أو التحامل على هذا الرجل؛ فإنه الزوج، والنفس أمارة بالسوء.
وختاماً - أخيتي الفاضلة- أنصحك بسماع سلسلة أشرطة: (بيوت مطمئنة)، للشيخ الفاضل/ د. ناصر العمر، وهي عبارة عن ثلاث إصدارات، الأول عن علاقة الزوجين بعنوان: (لتسكنوا إليها)، والثاني: عن علاقة الآباء بالأبناء بعنوان: "وأصلح لي في ذريتي"، والثالث: عن علاقة الأبناء بالآباء، بعنوان: "وبالوالدين إحساناً".
أسأل الله بمنه وفضله أن يصلح حالك، ويوفق بينكما، ويصلح ولديكما؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 49 / ص 169)
ثواب تربية أولاد الزوج رقم الفتوى:69094تاريخ الفتوى:11 شوال 1426السؤال:
سوف أتزوج بإذن الله تعالى من رجل كان متزوجا سابقاً ونتج عن هذا الزواج طفلة بعمر سنتين، وسألني إن كان لدي مانع في تربيتها إن رضيت أمها بإرجاعها له، فأنا وافقت أن تعيش معنا وأساعده في تربيتها، دعوت الله أن أحسن تربيتها، فسؤالي هو: هل أثاب إن قمت بتربيتها رغم أنها لا تعد يتيمة، وهل أثاب إذا كان وجهة نيتي ما سوف أفعله إرضاء للزوج وكسب محبته، أرجو أن تجيبوني بوقت قريب لأن أسرتي معارضة فقط على وجودها معنا، أنا أريد أن أعلم هل إصراري على موقفي صحيح ولم أخطئ في قراري بالموافقة؟ أكسبكم الله الثواب دائماً.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجزاك الله خيراً على نيتك الحسنة ومساعدتك لزوجك، ولا شك أنك مثابة بإذن الله على تربية تلك البنت سواء قصدت تربيتها والإحسان إليها أو قصدت طاعة زوجك وبلوغ محبته، فإنه جنتك ونارك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمة الحصين بن محصن لما جاءته في حاجة فقال لها: أذات زوج أنت؟ فقالت: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: انظري أين أنت منه، فإنه جنتك ونارك. رواه أحمد وصححه الألباني.
وقد بينا ثواب تربية أبناء الزوج ورعايتهم سواء أكانوا أيتاماً أم غير أتيام، وذلك في الفتوى رقم: 64039، وللاستزادة في معرفة حق الزوج انظري الفتوى رقم: 29957.
والله أعلم.(1/59)
73-7729 أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ يَحْيَى ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ ، عَنْ عَمَّةٍ لَهُ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَةٍ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهَا قَالَ : " أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : " فَكَيْفَ أَنْتِ لَهُ ؟ " قَالَتْ : مَا آلُوهُ إِلَّا مَا أَعْجَزُ عَنْهُ قَالَ : " انْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ " أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ قَالَ : حَدَّثَتْنِي عَمَّتِي ، أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : حَدَّثَنَا يَعْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ ، أَنَّ عَمَّةً ، لَهُ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يَعْنِي الْقَطَّانَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ ، أَنَّ عَمَّةً ، لَهُ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ : أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ بُشَيْرَ بْنَ يَسَارٍ ، أَخْبَرَهُ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ ، أَنَّ عَمَّةً ، لَهُ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي مَالِكٌ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمَّةً لَهُ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ
74-7730 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ : حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ قَالَ : حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِدٌ ، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ قَالَ : أَخْبَرَتْنِي عَمَّتِي أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَسْأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ : " أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : " فَكَيْفَ أَنْتِ لَهُ ؟ " قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا آلُوهُ قَالَ : " فَأَحْسِنِي ، فَإِنَّهُ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ "(1)
__________
(1) - أخرجه ابن أبي شيبة برقم( 17121) وطب برقم(20955-20957) والحميدي برقم(377) صحيح
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 16 / ص 197)
هجرها في المضجع من غير نشوز!
المجيب د. محمد بن عبد العزيز المبارك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/الجديد
التاريخ 17/11/1426هـ
السؤال
هل من حقوق الزوجة أن ينام الزوج في الغرفة معها، حيث إن زوجي له غرفة خاصة به، وإذا أرادني طلب حضوري، ويقول: ليس في الإسلام وجوب النوم معك في سرير أو غرفة. وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وبعد:
فقد جاء في المغني لابن قدامة -رحمه الله- في كتاب عشرة النساء (10/220) ما نصه: قال الله تعالى: "وعاشروهن بالمعروف" [النساء:19]. وقال تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" [البقرة:228]. وقال ابن زيد: يتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله فيهم، وقال ابن عباس: إني لأحب أن أتزين للمرأة, كما أحب أن تتزين لي؛ لأن الله تعالى يقول: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف"، وقال الضحاك في تفسيرها: إذا أطعن الله وأطعن أزواجهن فعليه أن يحسن صحبتها, ويكف عنها أذاه وينفق عليها من سعته، وقال بعض أهل العلم: التماثل ها هنا في تأدية كل واحد منهما ما عليه من الحق لصاحبه بالمعروف ولا يمطله به, ولا يظهر الكراهة بل ببشر وطلاقة، ولا يتبعه أذى ولا منة؛ لقول الله تعالى: "وعاشروهن بالمعروف" وهذا من المعروف, ويستحب لكل واحد منهما تحسين الخلق مع صاحبه والرفق به واحتمال أذاه؛ لقول الله تعالى: "وبالوالدين إحسانا وبذي القربى" إلى قوله "والصاحب بالجنب" [النساء:36]. قيل: هو كل واحد من الزوجين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم-: "استوصوا بالنساء خيرا" رواه البخاري (3331)، ومسلم (1468)، وأخرجه الترمذي (1163)، وزاد: "فإنهن عوان عندكم". وقال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" رواه مسلم (1218). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقا". متفق عليه [صحيح البخاري (5184) وصحيح مسلم (1468)]. وقال صلى الله عليه وسلم: "خياركم خياركم لنسائهم" رواه ابن ماجه (1978).
وحق الزوج عليها أعظم من حقها عليه؛ لقول الله تعالى: "وللرجال عليهن درجة" [البقرة:228]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد, لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق" رواه أبو داود (2140)، وقال: صلى الله عليه وسلم: "إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح" متفق عليه [صحيح البخاري (5194)، وصحيح مسلم (1436)]، وقال صلى الله عليه وسلم لامرأة: "أذات زوج أنت؟" قالت: نعم. قال: "فكيف أنت له؟". قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه. قال: "فانظري أين أنت منه، فإنه جنتك ونارك". رواه أحمد (26806). وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه, ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، وما أنفقت من نفقة من غير أمره، فإنه يؤدَّى إليه شطره". رواه البخاري (5195).
أختي السائلة: ما تذكرين في سؤالك محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يرى أن الزوج إذا كانت له زوجة واحدة يلزمه أن يبيت عندها ليلة من أربع، وينفرد إن أراد في الباقي، ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا يتضمن: الاجتماع في المنزل والفراش، كما قال رحمه الله: (وقول أصحابنا: يجب على الرجل المبيت عند امرأته ليلة من أربع، وهذا المبيت يتضمن سنتين: إحداهما المجامعة في المنزل، والثانية في المضجع، وقوله تعالى: "واهجروهن في المضاجع"مع قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يَهْجُر إلا في المضجع" دليل على وجوب المبيت في المضجع، ودليل على أنه لا يهجر المنزل، ونص الإمام أحمد في الذي يصوم النهار ويقوم الليل يدل على وجوب المبيت في المضجع، وكذا ما ذكره في النشوز إذا نشزت هجرها في المضجع دليل على أنه لا يفعله بدون ذلك.
وعلى هذا فيلزم الزوج أن يبيت مع زوجه في فراشها ليلة من أربع، وينفرد في سائر الليالي إن شاء، ويؤيد هذا أن المراد من المبيت ما يحصل من الأنس والسكن في المقام الأول، وهذا إنما يتحقق كماله بلزوم فراشها والنوم بجوارها، قال الله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" [الروم:21].
ويذهب بعض أهل العلم إلى أن من له زوجة واحدة يستحب أن يبيت عندها ويحصنها، وأن أدنى الدرجات أن لا يخلي أربع ليال عن ليلة، إلا أنه لا يلزمه ذلك ابتداء؛ لأنه حقه فله تركه، كما يرون أن الأولى أن يناما في فراش واحد إذا لم يكن لأحدهما عذر في الانفراد، سيما إذا عرف الزوج حرص زوجه على ذلك.
وإذا تقرر هذا أختي الكريمة فإن زوجك قد يحتج بأن ما يفعله جائز عند بعض أهل العلم، أو أن يستمر على عناده لك، فلا أرى أن الحل ليس في سؤالك عن الحكم حلا وحرمة، بل ينبغي لك أن تبحثي عن الداعي الذي لأجله فعل زوجك هذا، واستشعار أسبابه والعمل على التصحيح ما أمكن بروح المودة والمحبة والخضوع، وتلافي الخطأ والقصور. وفق الله السائلة لما يحبه ويرضاه، وأصلح لها ما بينها وبين زوجها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 54 / ص 167)
فضل طاعة المرأة لزوجها رقم الفتوى:73373تاريخ الفتوى:12 ربيع الأول 1427السؤال:
تحية طيبة وبعد..
إخواني جزاكم الله خيرا ،سؤالي هذا سبق وأن أرسلته ولكن لم يصلني الرد، فأرجو منكم الرد جزاكم الله خيرا.
السؤال : تزوجت منذ 4 أشهر من زوجة مطيعة ولله الحمد وهي تحبني وأحبها، ووفقنا الله لذلك
وبقضاء الله وقدره، بعد زواجنا بـ 80 يوما ونحن في سفر من مدينة لأخرى حدث لنا حادت سيارة توفيت (ماتت) زوجتي الحبيبة، فرحمة الله عليها ، وسؤالي هو أريد أن تفيدوني بالآيات والأحاديث الشريفة عن حبيبنا محمد التي تبشر الزوجة الطائعة لزوجها، والأجر والثواب الذي أعده الله لها ليطمئن قلبي، و جزاكم الله خيرا؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى لك الصبر والسلوان، ولزوجتك الرحمة والمغفرة والرضوان، وأما ما سألت عنه من الأحاديث فإليك بعضه، روى أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، و أطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت . وأخرج الإمام أحمد في المسند والبيهقي في شعب الإيمان عن حصين بن محصن الأنصاري عن عمة له أتت النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة لها فلما فرغت من حاجتها قال لها: أذات زوج أنت؟ قالت نعم، قال: كيف أنت له؟ قالت ما آلو إلا ما عجزت عنه. قال: انظري أين أنت منه، فإنه جنتك ونارك. وأخرج الحاكم في مستدركه من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة.
قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي .
إلى غير ذلك مما ورد في فضل طاعة المرأة لزوجها.
والله أعلم.(1/60)
فِي الْمَرْأَةِ تَبِيتُ مُهَاجِرَةً لِفِرَاشِ زَوْجِهَا
75-7731 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، عَنْ خَالِدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ زُرَارَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً لِفِرَاشِ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ " (1)
__________
(1) - أخرجه البخاري برقم(5194) و أحمد برقم(11016و11237) والدارمي برقم(2283)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 21 / ص 450)
قوله مهاجرة من باب المفاعلة في الأصل ولكن هنا بمعنى هاجرة لأن فاعل قد يأتي بمعنى فعل نحو قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ( آل عمران331 ) أي اسرعوا وتوضحه رواية مسلم إذا باتت المرأة هاجرة وهو اسم فاعل من هجر ومهاجرة اسم فاعل من هاجر وإذا كان الهجر منه فلا يترتب عليها شيء من ذلك قوله حتى ترجع أي عن الهجرة ( فإن قلت ) هؤلاء الملائكة هم الحفظة أو غيرهم ( قلت ) قيل يحتمل الأمرين وأنا أقول إن الله عز وجل خلق الملائكة على أنواع شتى منهم مرصدون لأمور كالموكلين بالقطر والرياح والسحب والموكلين بمساءلة من في القبور والسياحين في الأرض يبتغون مجالس الذكر والموكلين بقذف الشياطين بالشهب والموكلين بأمور قال فيهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( التحريم6 ) ويحتمل أن تكون الملائكة الذين يلعنون ناسا من بني آدم على أمور محظورة تقع منهم من هذا النوع وهو الظاهر
وفيه الإرشاد إلى مساعدة الزوج وطلب مرضاته وفيه أن صبر الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة وفيه أن أقوى التشويشات على الرجل داعية النكاح ولذلك حض الشارع النساء على مساعدة الرجل في ذلك
المحلى بالآثار - (ج 1 / ص 5124)
1883 - مَسْأَلَةٌ : وَفَرْضُ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ أَنْ لَا يَمْنَعَا السَّيِّدَ وَالزَّوْجَ الْجِمَاعَ مَتَى دَعَاهُمَا , مَا لَمْ تَكُنْ الْمَدْعُوَّةُ حَائِضًا , أَوْ مَرِيضَةً تَتَأَذَّى بِالْجِمَاعِ , أَوْ صَائِمَةَ فَرْضٍ , فَإِنْ امْتَنَعَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ , فَهِيَ مَلْعُونَةٌ . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا ابْنُ أَبِي عُمَرَ نا مَرْوَانُ - هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ - عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ إلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا } . نا حُمَامٌ نا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نا بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ نا مُسَدَّدٌ نا يَحْيَى - هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ - نا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : { إذَا بَاتَتْ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً إلَى زَوْجِهَا أَوْ فِرَاشِ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ } . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ نا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ عَنْ مُلَازِمِ بْنِ عَمْرٍو نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَدْرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ : { إذَا دَعَا الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ لِحَاجَتِهِ فَلْتَأْتِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى التَّنُّورِ } .
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 112 / ص 56)
ب- حَقُّ الرَّجُلِ عَلَى زَوْجَتِهِ فِي الْوَطْءِ: 40 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُطَالِبَ زَوْجَتَهُ بِالْوَطْءِ مَتَى شَاءَ إِلَّا عِنْدَ اعْتِرَاضِ أَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ مَانِعَةٍ مِنْهُ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالظِّهَارِ وَالْإِحْرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ طَالَبَهَا بِهِ وَانْتَفَتِ الْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الِاسْتِجَابَةُ [213] . قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَهُ إِذَا طَلَبَهَا إِلَى الْفِرَاشِ، وَذَلِكَ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَيْهَا [214] . وَقَدْ عَدَّ الذَّهَبِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَابْنُ الرِّفْعَةِ وَالْهَيْتَمِيُّ وَغَيْرُهُمُ امْتِنَاعَ الْمَرْأَةِ عَنْ فِرَاشِ زَوْجِهَا إِذَا دَعَاهَا بِلَا عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ضَرْبًا مِنَ النُّشُوزِ، وَكَبِيرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ، وَذَلِكَ لِوُرُودِ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِيهِ [215] . وَمِمَّا وَرَدَ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَلَمْ تَأْتِهِ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ" [216] . وَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إِذَا < 39 > بَاتَتِ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ" [217] وَمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ،إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا" [218] . وَفِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ امْتِنَاعِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا أَرَادَهَا، وَلَا خِلَافَ فِيهِ [219] . أَمَّا الرَّجُلُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إِذَا دَعَتْهُ الْمَرْأَةُ لِلْوَطْءِ لِأَنَّهُ لَوْ أُجْبِرَ الرِّجَالُ عَلَى إِجَابَتِهِنَّ لَعَجَزُوا، إِذْ لَا تُطَاوِعُهُمُ الْقُوَى فِي كُلِّ آنٍ عَلَى إِجَابَتِهِنَّ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُمْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لِضَعْفِ الْقُوَى وَعَدَمِ الِانْتِشَارِ، وَالْمَرْأَةُ يُمْكِنُهَا التَّمْكِينُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ. إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ الرَّجُلُ بِالِامْتِنَاعِ مُضَارَّتَهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ [220] .
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 57 / ص 113)
هل يجوز للمرأة أن ترفض الجماع مع زوجها بسبب عدم شهوتها أو حاجتها حاليا؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع. وفي رواية: حتى تصبح.
وفي المسند وغيره من حديث عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ..والذي نفس محمد بيده؛ لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها كله حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه . قال الشوكاني: إسناده صالح.
وعن طلق بن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دعا الرجل زوجته لحاجته، فلتأته وإن كانت على التنور. رواه النسائي والترمذي، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان.
فمن هذه النصوص يتبين أنه لا يجوز للمرأة أن تمنع زوجها إذا دعاها للفراش، ولو كانت في شغل شاغل؛ إلا أن يكون لها عذر، قال المباركفوري في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي عند قوله صلى الله عليه وسلم: وإن كانت على التنور. قال: وإن كانت تخبز على التنور مع أنه شغل شاغل لا يتفرغ منه إلى غيره إلا بعد انقضائه انتهى.
وهذا حيث لا عذر، فإن كان لها عذر شرعي لم يحرم عليها الامتناع، قال المناوي في فيض القدير شارحا قوله صلى الله عليه وسلم : إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلتجب قال: وجوبا فورا أي حيث لا عذر، وتراجع الفتوى رقم: 14121.
وليس ما ذكر في السؤال من عدم شهوتها ونحو ذلك عذر للامتناع لأنها قادرة على إجابته، وما دامت قادرة فلا تعذر.
والله أعلم.
:هل تلبي المرأة طلب زوجها في الاستمتاع كلما أراد ؟ رقم الفتوى:9572تاريخ الفتوى:18 جمادي الأولى 1422السؤال : أنا سيدة متزوجة وسعيدة مع زوجي غير أنه دائما ما يغالي في مطالبه عند المعاشرة الزوجية هل إذا امتناعي عن هذه المطالب يعد تقصيراً في واجباتي تجاه زوجي الرجاء إفادتي بالإجابة وجزاكم الله خيرا
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
فإنه يجب على الزوجة أن تمكن زوجها من الاستمتاع بها - كلما أراد ذلك- على الوجه الذي أباحه الله من الاستمتاع ، فإن لم تفعل ذلك من غير ضرر كانت ناشزا عاصية لربها، وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع" .
وفي المسند وسنن ابن ماجه والمستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولا تؤدي المرأة حق الله عز وجل عليها كله، حتى تؤدي حق زوجها عليها كله، حتى لو سألها نفسها وهي على ظهر قتب لأعطته إياه" .
ولذلك لا يجوز لها أن تصوم نافلة وهو حاضر إلا بإذنه لئلا، يمنعه صومها من الاستمتاع بها ، ففي صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه".
وفي رواية في المسند "إلا رمضان"
وبناء على هذا فعليك أن تمكني زوجك مما يريد من الاستمتاع، ما دام ذلك على الوجه المشروع، وعليك أن تقصدي بذلك مرضاة ربك، وإعفاف زوجك حتى لا ينصرف عنك إذا لم تشبعي رغبته، وإذا كانت كثرة المعاشرة، أو صفة معينة منها تسبب لك ضررا، فلك أن تبيني ذلك له ليتحاشاه .
والله أعلم
موسوعة الأسرة المسلمة الشاملة - (ج 1 / ص 47)
ومن الحقوق التي يجب على الزوجة القيام بها تجاه زوجها:
1-الطاعة:
أوجب الإسلام على المرأة طاعة زوجها، ما لم يأمرها بمعصية الله تعالى، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد أعدَّ الله تعالى لها الجنة إذا أحسنت طاعته، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت) [أحمد، والطبراني].
وقال أيضًا: (أيما امرأة ماتت، وزوجها عنها راضٍ؛ دخلت الجنة) [ابن ماجه]. وروى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله. أنا وافدة النساء إليك؛ هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أجروا، وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن -معشر النساء- نقوم عليهم، فما لنا من ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج، واعترافًا بحقه يعدل ذلك (أي: يساويه (وقليل منكن من يفعله) [البزار، والطبراني].
2- تلبية رغبة الزوج في الجماع:
يجب على المرأة أن تطيع زوجها إذا طلبها للجماع، درءًا للفتنة، وإشباعًا للشهوة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم من امرأة ما يعجبه فليأتِ أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه) [مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا : (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح) [البخاري، ومسلم، وأحمد].
ولا طاعة للزوج في الجماع إذا كان هناك مانع شرعي عند زوجته، ومن ذلك :
- أن تكون المرأة في حيض أو نفاس .
- أن تكون صائمة صيام فرض؛ كشهر رمضان، أو نذر، أوقضاء، أو كفارة، أما في الليل فيحل له أن يجامعها؛ لقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة: 187] .
- أن تكون مُحْرِمَة بحج أو عمرة .
أن يكون قد طلب جماعها في دبرها
ما يحلّ للرجل من زوجته في فترة حيضها:
يحرم على الرجل أن يجامع زوجته وهي حائض؛ لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: 222]، ويجوز للرجل أن يستمتع بزوجته فيما دون فرجها.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر إحدانا إذا كانتْ حائضًا أن تأتزر ويباشرها فوق الإزار. [مسلم]. فإذا جامع الرجل زوجته وهي حائض، وكان عالمًا بالتحريم، فقد ارتكب كبيرة من الكبائر، عليه أن يتوب منها، وعليه أن يتصدق بدينار إن كان الوطء في أول الحيض، وبنصف دينار إن كان في آخره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا واقع الرجل أهله، وهي حائض، إن كان دمًا أحمر فليتصدَّقْ بدينار، وإن كان أصفر فليتصدَّقْ بنصف دينار)_[أبو داود، والحاكم]. ويقاس النفاس على الحيض.
3- التزين لزوجها:
حيث يجب على المرأة أن تتزين لزوجها، وأن تبدو له في كل يوم كأنها عروس في ليلة زفافها، وقد عرفت أنواع من الزينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كالكحل، والحناء، والعطر. قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر) [الترمذي، والنسائي].
وكانت النساء تتزين بالحلي، وترتدي الثياب المصبوغة بالعُصْفُر (وهو لون أحمر)، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته ألا يدخل أحدهم على زوجته فجأة عند عودته من السفر؛ حتى تتهيأ وتتزين له، فعن جابر-رضي الله عنه -أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يَطْرُقَ الرجل أهله ليلاً.
[متفق عليه].
وما أبدع تلك الصورة التي تحكيها إحدى الزوجات، فتقول: إن زوجي رجل يحتطب (يقطع الأخشاب، ويجمعه من الجبل، ثم ينزل إلى السوق فيبيعها، ويشترى ما يحتاجه بيتنا)، أُحِسُّ بالعناء الذي لقيه في سبيل رزقنا، وأحس بحرارة عطشه في الجبل تكاد تحرق حلقي، فأعد له الماء البارد؛ حتى إذا قدم وجده، وقد نَسَّقْتُ متاعي، وأعددت له طعامه، ثم وقفتُ أنتظره في أحسن ثيابي، فإذا ولج (دخل) الباب، استقبلته كما تستقبل العروسُ الذي عَشِقَتْهُ، فسلمتُ نفسي إليه، فإن أراد الراحة أعنته عليها، وإن أرادني كنت بين ذراعيه كالطفلة الصغيرة يتلهى بها أبوها. وهكذا ينبغي أن تكون كل زوجة
مع زوجها. فعلى المرأة أن تَتَعَرَّف الزينة التي يحبها زوجها، فتتحلى بها، وتجود فيها، وعليها أن تعرف ما لا يحبه فتتركه إرضاءً وإسعادًا له، وتتحسَّس كل ما يسره في هذا الجانب.
4- حق الاستئذان:
ويجب على المرأة أن تستأذن زوجها في أمور كثيرة منها صيام التطوع، حيث يحرم عليها أن تصوم بغير إذنه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد (أي: حاضر) إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه) [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: (ومن حق الزوج على الزوجة ألا تصوم إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها) [الطبراني]. ولا يجوز للمرأة أن تأذن في بيت زوجها إلا بإذنه، ولا أن تخرج من بيتها لغير حاجة إلا بإذنه.
عن ابن عباس وابن عمر قالا: أتت امرأة من خثعم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أيِّم (لا زوج لي)، وأريد أن أتزوج، فما حق الزوج؟ قال: (إن حق الزوج على الزوجة: إذا أرادها فراودها وهي على ظهر بعير لا تمنعه، ومن حقه ألا تعطي شيئًا من بيته إلا بإذنه، فإن فعلتْ كان الوزر عليها، والأجر له، ومن حقه ألا تصوم تطوعًا إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت، ولم يُتقبَّل منها، وإن خرجت من بيتها بغير إذنه لعنتها الملائكة حتى ترجع إلى بيته أو أن تتوب) [البيهقى، والطبراني].
5- المحافظة على عرضه وماله:
يجب على المرأة أن تحافظ على عرضها، وأن تصونه عن الشبهات، ففي ذلك إرضاء للزوج، وأن تحفظ مال زوجها فلاتبدده، ولاتنفقه في غير مصارفه الشرعية، فحسن التدبير نصف المعيشة، وللزوجة أن تنفق من مال زوجها بإذنه. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها -غير مفسدة- كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب. [مسلم].
6- الاعتراف بفضله:
يسعى الرجل ويكدح؛ لينفق على زوجته وأولاده، ويوفر لهم حياة هادئة سعيدة، بعيدة عن ذل الحاجة والسؤال، والرجل يحصن زوجته بالجماع، ويكفيها مئونة مواجهة مشاكل الحياة؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها) [أبو داود، والترمذي، وابن حبان].
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم النساء أن يجحدن فضل أزواجهن، فقال صلى الله عليه وسلم: (اطلعتُ في النار، فإذا أكثر أهلها النساء؛ يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط) [البخاري]. ولا يخفى على الزوجة عظم فضل زوجها عليها، فعليها أن تديم شكره والثناء عليه؛ لتكون بذلك شاكرة لله رب العالمين.
7- خدمة الزوج:
الزوجة المسلمة تقوم بما عليها من واجبات، تجاه زوجها وبيتها وأولادها وهي راضية، تبتغي بذلك رضا ربِّها تعالى، فقد كانت أسماء بنت أبي بكر تخدم زوجها الزبير بن العوام -رضي الله عنه- في البيت، وكان له فرس، فكانتْ تقوم على أمره.
كما كانت فاطمة -رضي الله عنها، بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقوم بالخدمة في بيت علي بن أبي طالب زوجها، ولم تستنكف عن القيام باحتياجاته، ولما طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم خادمًا يعينها على شئون البيت، ولم يكن ذلك متوفرًا، أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تذكر الله إذا أوت إلى فراشها، فتسبح وتحمد وتكبر، فهذا عون لها على ما تعانيه من مشقة.
وهذا الحق من باب الالتزام الديني، وليس حقًّا قضائيًّا، وعلى هذا نصَّ الشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم.(1/61)