مناحل الشفا ومناهل الصفا
بتحقيق كتاب
شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم
تصنيف
الإمام الحافظ القدوة الواعظ
أبي سعد عبد الملك بن أبي عثمان بن محمد بن إبراهيم الخركوشي النيسابوري
المتوفى سنة (406 هـ)
رواية الأستاذ القدوة
أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري
صاحب الرسالة
قابل أصوله الخطية لأول مرة ورتب أحاديثه وخرجها
السيد أبو عاصم نبيل بن هاشم الغمري آل باعلوي
دار البشائر الإسلامية
الطبعة الأولى
1424 هـ - 2003 هـ(/)
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
استعنت بالله وحده وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب جزى الله محمداً عنا ما هو أهله
أخبرنا الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد الورع الصالح أبو المناقب: محمد ابن الإمام العالم الفقيه أبي الخير: أحمد بن إسماعيل بن يوسف الطالقاني الحاكمي القزويني أثابه الله وأعانه، -قدم علينا طالباً للحج- بقراءتي عليه بمقصورة الحنفية الشرقية من جامع دمشق حرسها الله في آخرين رحمهم الله في مجالس أولها يوم الأحد ثامن وعشرين من شهر رمضان وآخرها العشرين من شوال سنة سبع وتسعين وخمسمائة، قال: أخبرنا والدي الإمام العالم الفقيه رضي الدين أبو الخير أحمد بن إسماعيل القزويني رحمه الله قراءة عليه وأنا أسمع في مدة آخرها شهر الله الأصم رجب سنة اثنتين وستين وخمسمائة في آخرين رحمهم الله، قال: أخبرنا الإمام العالم ناصح السنة أبو القاسم عبد الملك بن معافى التنوخي رحمه الله، قال: أخبرنا الإمام العالم الأستاذ الفقيه أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري رحمه الله قال: أخبرنا الإمام العالم الفقيه الواعظ أبو سعد: عبد الملك ابن الإمام أبي عثمان محمد بن إبراهيم النيسابوري الخركوشي قال:
الحمد لله الذي تجلى لقلوب أهل الولاية بأنوار الهداية، وحفظهم بدوام الكلاءة، والحمد لله الحي المعبود الواحد الموجود، والحمد لله(1/85)
الحميد المجيد الفعال لما يريد، ذي الفضل العظيم والطول الكريم، ناصر الحق وأهله، وقامع الباطل وحزبه، وجاعل العاقبة للمتقين، والحمد لله الذي أظهر من بدائع آثار سلطانه آيات ألوهيته، والحمد لله الذي أنعم فأجزل، وأعطى فأكثر، والحمد لله الذي خلق فأتقن، وصنع فأحكم، وحكم فعدل، وقال فصدق، ووعد فأنجز، وأنعم فأسبغ، والحمد لله الذي اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم صفوته، وساق إلى الجنة زمرته، وفرض الإسلام ملته، والكعبة قبلته، وجعل خير الناس أمته، وأنزل عليه صلاته ورحمته وبركته.
فصلى الله على محمد الهادي إلى الجنة ومسالكها، والمحذر من النار ومخاوفها، والمتحنن على أمته، والرؤوف بهم، المبعوث من جبال تهامة، بالأنوار التامة، والحجج الباهرة، والبراهين الزاهرة، والآيات الظاهرة، فصلوات الله على النبي الأمي، والرسول العربي، الهادي(1/86)
المهدي، الطاهر الزكي، النقي الوفي، التقي السمح السخي، الجواد، الأريحي الألمعي، الهاشمي القرشي، المكي المدني، السيد السني، الأبطحي العربي، صفي ربه، وخازن وحيه، ونجي سره، وأليف محبته، وربيب نعمته، وخطيب توحيده، وشمس رسله، وقمر أنبيائه، وسراج دينه، خير من علا المنبر، ولبى وكبر، وسعى ونحر، وطاف وجمر، ومن أعطي الكوثر: محمد بن عبد الله، صلى الله عليه أفضل وأكمل وأجمل، وأعلى وأعظم، وأجل وأطيب، وأظهر وأطهر، وأنمى وأزكى، وأشرف وأتم، وأعم وأكفى، وأكبر وأكثر، وأنفع وأرفع، وأبلغ ما صلى على أحدٍ من خلقه، وعلى الطيبين الطاهرين الأخيار، المنتخبين المباركين الأبرار، وسلم تسليماً كثيراً.
قال الأستاذ الفقيه أبو سعد عبد الملك بن أبي عثمان محمد الواعظ رحمه الله: قد حداني إلى جمع شرف المصطفى محمد النبي صلى الله عليه وسلم حبه والأنس بذكره، لأن من أحب شيئاً أكثر ذكره، ولأنه صلى الله عليه وسلم حكم:(1/87)
أن المرء مع من أحب، ولكي أكثر الصلاة عليه رسماً ونطقاً، فإن الدعاء بين الصلاتين لا يرد.(1/88)
جامع أبواب بشائره صلى الله عليه وسلم من أخبار الأحبار والرهبان والكهنة وما سمع من الهواتف وأجواف الأصنام ومن آمن وصدق به قبل ولادته وبعثته صلى الله عليه وسلم(1/91)
[1] بابٌ في شأن من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثه صلى الله عليه وسلم بألف سنةٍ
1- حدثنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي رحمه الله بمكة حرسها الله، ثنا أبو الحسن: محمد بن نافع الخزاعي بمكة،(1/93)
ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد، ثنا أبو الوليد الأزرقي قال:(1/94)
حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج،(1/95)
عن محمد بن إسحاق، قال: سار تبع الأول إلى الكعبة وأراد هدمها،(1/96)
وكان من الخمسة الذين كانت لهم الدنيا بأسرها، وكان له وزراء، فاختار واحداً وأخرجه معه، وكان يسمى عماريسا لينظر إلى مملكته، وخرج في مائة ألف وثلاثة وثلاثين ألفاً من الفرسان، ومائة ألف وثلاثة عشر ألفاً من الرجالة، وكان يدخل في كل بلدة، وكانوا يعظمونه، وكان يختار من كل بلدة عشرة أنفس من حكمائها، حتى جاء إلى مكة، وكان معه أربعة آلاف رجل من العلماء والحكماء الذين اختارهم من بلدان مختلفة، فلم يتحرك أهل مكة ولم يعظموه، فغضب عليهم، ودعا عماريسا، وقال له: كيف شأن أهل هذه البلد الذين لم يهابوني ولم يهابوا عسكري، كيف شأنهم وأثرهم؟ فقال الوزير: أيها الملك إنهم قوم عربيون جاهلون لا يعرفون شيئاً، وإن لهم بيتاً يقال له كعبة، وإنهم معجبون بها، ويسجدون للطاغوت والأصنام دون الله، قال الملك: إنهم معجبون بهذا البيت؟ قال: نعم.
فنزل ببطحاء مكة مع عسكره، وتفكر في نفسه دون الوزير ودون الناس وعزم أن يأمر بهدم هذا البيت، وأن الذي يسمى كعبة يسمى خربة، وأن يقتل رجالهم ويسبي نساءهم وذراريهم، فأخذه الله بالصداع وفتح من عينيه وأذنيه وأنفه وفمه ماء منتناً، فلم يصبر أحد عنده طرفة عين من نتن الريح، فاستيقظ لذلك، وقال لوزيره: اجمع العلماء والأطباء، وشاورهم في أمري، فاجتمع الأطباء عنده، فلم يصبر أحد عنده طرفة عين من نتن الريح، ولم يمكنهم مداواته، فقال: قد جمعت الحكماء من بلدان مختلفة، ووقعت لي هذه العلة ولم يقم أحد في مداواتي؟! فقالوا بأجمعهم: إنا قوم أمرنا الدنيا، وهذا أمر سماوي، لا نستطيع رد أمر السماء.(1/97)
واشتد الأمر على الملك، فتفرق الناس، وأمره كل ساعة كان يشتد، حتى أقبل الليل.
وجاء أحد العلماء إلى وزيره وقال: إن بيني وبينك سراً، وهو: إن كان الملك يصدق لي في كلامه وما نواه: عالجته، فاستبشر الوزير بذلك، وأخذ بيده وحمله إلى الملك، وقال للملك: إن رجلاً من العلماء ذكر: إن صدق الملك له ما نواه في قلبه ولم يكتمه شيئاً منه عالجته، فاستبشر الملك بذلك، وأذن له بالدخول عليه، فدخل فقال: بيني وبينك سراً أريد الخلوة، فخلا به، فقال له: هل نويت في هذا البيت أمراً؟ قال: نعم، قد نويت أن أخرب هذا البيت، وأقتل رجاله.
فقال: إن وجعك وبلاءك من هذا، اعلم أن صاحب هذا البيت قوي يعلم الأسرار، فأخرج من قلبك جميع ما هممت به من أذى هذا البيت، ولك خير الدنيا والآخرة.
قال الملك: أفعل، قد أخرجت جميع المكروهات من قلبي، ونويت جميع الخيرات والمعروفات.
قال: فلم يخرج العالم من عنده حتى برأ من العلة، وعافاه الله جل جلاله بقدرته، فآمن بالله من ساعته، وخرج من منزله صحيحاً على دين إبراهيم عليه السلام، وخلع على الكعبة سبعة أثواب، وهو أول من كسا البيت، ودعا أهل مملكته، وأمرهم بحفظ الكعبة، وخرج هو إلى يثرب، ويثرب بقعة فيها عين من ماء، ليس فيها بناء ولا نبت ولا أحد، فنزل على رأس العين مع عسكره، فجمع العلماء والحكماء الذين كانوا معه من الذين اختارهم من بلدان مختلفة ورئيس العلماء العالم الناصح الشفيق لدين الله الذي أعلم الملك بشأن الكعبة، وأخرج الملك من بلائه بحسن نيته في شأن الكعبة.(1/98)
ثم إنهم اجتمعوا وتشاوروا، فاعتزل من بين أربعة آلاف أربعمائة -منهم صاحبه- أنهم لا يخرجون من ذلك المقام وإن ضربهم الملك وقتلهم وقرضهم وحرقهم، وجاءوا بجملتهم، ووقفوا بباب الملك وقالوا: إنا خرجنا من بلداننا، وطفنا مع الملك زماناً وجئنا هذا المقام إلى أن نموت فيه، فإنا قد عقدنا أن لا نخرج من هذا المقام وإن قتلنا وحرقنا.
فقال الملك للوزير: انظر ما شأنهم، يمتنعون عن الخروج معي وأنا أحتاج إليهم ولا أستغني عنهم، وأي حكمة في نزولهم في هذا المقام واختيارهم ذلك؟
فخرج الوزير وجمعهم، وذكر لهم قول الملك، فقال للوزير مثل ما قالوا للملك، فقال الوزير: فما الحكمة في ذلك؟
قالوا: اعلم أيها الوزير أن شرف هذا البيت وشرف هذه البلدة بسبب شرف الرجل الذي يخرج يقال له: محمد، إمام الحق، صاحب القضيب والناقة، صاحب التاج والهراوة، صاحب القرآن والقبلة، صاحب اللواء والمنبر، صاحب قول لا إله إلا الله، مولده بمكة، وهجرته إلى ههنا، فطوبى لمن أدركه، وآمن به، وكنا على رجاء أن ندركه أو يدركه أولادنا.
فلما سمع الوزير مقالتهم هم أن يقيم معهم، فلما جاء وقت الرحيل أمر الملك أن يرتحلوا، فقالوا بأجمعهم، لا نرتحل، وقد أخبرنا الوزير بحكمة مقامنا ههنا، فدعا الملك الوزير وقال له: لم لم تخبرني بمقالة القوم؟ فقال: قد عزمت على المقام معهم وخفت ألا تدعني، واعلم أنهم لا يخرجون.(1/99)
فلما سمع الملك منه تفكر أن يقيم معهم سنة رجاء أن يدرك محمداً صلى الله عليه وسلم ، وأمر الملك أن يبنوا أربع مائة دار، لكل واحد من أولئك العلماء داراً، واشترى لكل واحد منهم جارية، وأعتقها، وزوجها منه، وأعطى كل واحد منهم عطاء جزيلاً، وأمرهم أن يقيموا في ذلك الموضع إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم ، وكتب كتاباً وختمه بالذهب، ودفع الكتاب إلى العالم الذي نصحه في شأن الكعبة، وأمره أن يدفع الكتاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وإن لم يدركه دفعه إلى أولاده، ويوصي لهم بمثل ذلك، وكذلك إلى أولاد أولاده أبداً ما تناسلوا حتى يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان في الكتاب:
أما بعد، يا محمد -صلى الله عليك- إني آمنت بك، وبكتابك(1/100)
الذي أنزل الله عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شيء، وبكل ما جاء من ربك من شرائع الإيمان والإسلام، وأنا قبلت ذلك، فإن أدركتك فيها فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني فإني من أمتك الأولين، وبايعتك قبل مجيئك، وقبل إرسال الله إياك، وأنا على ملتك وملة إبراهيم أبيك خليل الله - صلى الله عليه وسلم -، وختم الكتاب بالذهب، ونقش عليه: {لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنين. بنصر الله}، وكتب على عنوان الكتاب: إلى محمد بن عبد الله خاتم النبيين، ورسول رب العالمين صلوات الله عليه، من تبع الأول حمير بن وردع أمانة الله في يد من وقع إليه أن يوصله إلى صاحبه.(1/101)
ودفع الكتاب إلى الرجل العالم الذي نصح له في شأن الكعبة، وأمره أن يحفظه.
وخرج تبع من يثرب -ويثرب هذه هي الموضع الذي نزل فيه العلماء، وهي مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم -، وخرج تبع وسار حتى مات بغلسان -بلد من بلدان الهند-، ومن اليوم الذي مات فيه تبع إلى اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف سنة، لا زيادة فيها ولا نقصان.
ثم إن أهل المدينة الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولاد أولئك العلماء الأربع مائة الذين سكنوا دور تبع الأول إلى بعث محمد صلى الله عليه وسلم .
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعوا بخروجه استشاروا في إيصال الكتاب إليه فأشار عليهم عبد الرحمن بن عوف أن اختاروا رجلاً ثقة، فاختاروا رجلاً يقال له: أبو ليلى -وكان من الأنصار- ودفعوا إليه الكتاب، وخرج من المدينة على طريق مكة فوجد محمداً صلى الله عليه وسلم في قبيلة بني سليم فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال: أنت أبو ليلى؟ قال: نعم، قال: ومعك كتاب تبع الأول؟ فبقي الرجل متفكراً، وذكر في نفسه: إن هذا من العجائب، ولم يعرفه، فقال: من أنت فإني لست أعرف في وجهك أثر السحر؟ وتوهم أنه ساحر، فقال: لا، بل أنا محمد رسول الله، هات الكتاب، ففتح الرجل رحله -وكان يخفي الكتاب- فأخرجه ودفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدفعه إلى علي بن أبي طالب(1/102)
فقرأه عليه، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام تبع قال: مرحباً بالأخ الصالح -ثلاث مرات- وأمر أبا ليلى بالرجوع إلى المدينة، فرجع وبشر القوم، فأعطاه كل واحد منهم عطاء على تلك البشارة.
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أهل القبائل أن ينزل عليهم وتعلقوا بناقته، فقال: دعوها فإنها مأمورة، حتى جاءت إلى دار أبي أيوب فبركت،(1/103)
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب، وأبو أيوب كان من أولاد العالم الناصح لتبع في شأن الكعبة، فكانوا ينتظرونه، وهم من أولاد العلماء(1/104)
الذين سكنوا يثرب في دور تبع التي بنى لهم، والدار التي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هي الدار التي بنى تبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/105)
[2] فصلٌ: ذكر حديث نمرود، وسبب هلاكه
2- وهو أن نمرود حاج إبراهيم في ربه، إذ قال له إبراهيم: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} الآية.(1/109)
وهو نمرود، وعرف أن ذلك ليس بيده ولا في ملكه، سأل إبراهيم أن يستأذن ربه، ويسأله محاربة نمرود ربه، فقال إبراهيم عليه السلام: يا رب أنت أعلم بما قال هذا الكافر، فأوحى الله عز وجل إليه أن قل: استعد للمحاربة، فحشر نمرود جنوده فجمع في صعيد أربعمائة فرسخ في أربعمائة فرسخ، ثم قال لإبراهيم: قل لربك حتى يبرز إلينا، فقال إبراهيم عليه السلام: أي رب أنت أعلم بما يقول هذا الكافر، فأوحى الله عز وجل إلى إبراهيم أني أرسل إليك روح محمد صلى الله عليه وسلم مبارزاً،(1/110)
ثم أوحى الله عز وجل إلى السماء السابعة أني أرسل روح محمد صلى الله عليه وسلم لمبارزة نمرود فاتبعوه، فضربوا طبل العظمة بسوط الجلالة وشخصوا بالتكبير والتهليل والتقديس، ثم أوحى كذلك إلى كل سماء، ثم أوحى إلى الأرضين كذلك، ثم أوحى إلى الميزان كلها كذلك، ثم إلى الموات أن اتبعوا روح محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما دنا من نمرود، كبر، وكبر بتكبيره الملائكة وجميع خلق الله عز وجل من الحيوان والموات، فلم يبق فارس على ظهر دابته إلا سقط مغشياً إلا نمرود وإبراهيم عليه السلام بين يديه، فقال نمرود: ما أعظم جند ربك إذ سقط الفرسان من أصواتهم من غير رؤيتهم، فكيف إذا رأوهم؟ فينبغي أن تقول لربك حتى يبرز هو إلي وحده كي لا يفسد الخلق، فقال إبراهيم عليه السلام: أي رب أنت أعلم بما يقول هذا(1/111)
الكافر، فأوحى الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام: أي خلق أضعف مما خلقت؟ فقال: يا رب أنت أعلم، ولكن لا أعلم خلقاً أضعف من البعوضة، قال الله عز وجل: أي موضع مما خلق فيه البعوضة أضعف؟ قال: يا رب أنت أعلم، ولكني لا أعلم من البعوضة أضعف مما في البحر الأخضر، قال الله عز وجل: وأي بعوضة فيها أضعف؟ قال جبريل عليه السلام: يا رب أنت أعلم، ولكني لا أعلم من بعوضة أضعف من بعوضة بلست نصف أعضائه.
قال الله عز وجل: يا جبريل ائت بها، قال: فأتى بها جبريل عليه السلام، فأمر الله تبارك وتعالى البعوضة أن تبرز إلى نمرود، فذهبت، فوقعت على شفته السفلى فلدغته، فأراد نمرود أن يحك شفته العليا فطارت البعوضة في منخره حتى وصلت إلى دماغه فكانت تأكل دماغه.
وكان نمرود لما ابتلي بذلك لم يكن له صبر على أكل الدماغ حتى أمر من هو أعز عليه من حشمه أن يحمل مرزية ويضرب بها على رأسه حتى مات في ذلك، فشق رأسه بعد ذلك فطارت البعوضة من دماغه وقد صارت مثل عصفور، وبلغني أنه مكثت البعوضة في رأسه أربعين يوماً وليلة.(1/112)
[3] فصلٌ: في ذكر حديث سطيح بن ربيعة الغساني حين أتى مكة
3- أخبرنا أبو أحمد: الحسين بن علي بن محمد(1/113)
ابن يحيى التميمي قراءة عليه في ذي الحجة سنة ستين وثلاث مائة قال: أخبرنا أبو محمد: عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، ثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي،(1/114)
ثنا سليمان بن عبد الرحمن، عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن عبد الله بن الديلمي، عن ابن عباس: أن رجلاً أتاه(1/115)
فقال: بلغنا أنك تذكر سطيحاً، تزعم أن الله لم يخلق من ولد آدم شيئاً يشبهه!
قال: نعم، إن الله خلق سطيح الغساني لحماً على وضم -والوضم شرايح من جرائد النخل- وكان يحمل على وضمه فيؤتى به حيث شاء، ولم يكن فيه عظم ولا عصب إلا الجمجمة والعنق والكفان، وكان يطوى من رجله إلى ترقوته كما يطوى الثوب، ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه، فلما أراد الخروج إلى مكة حمل على وضمه فأتي به مكة فخرج إليه أربعة نفر من قريش: عبد شمس، وعبد مناف ابنا قصي، والأحوص ابن فهر، وعقيل بن أبي وقاص، فانتموا إلى غير نسبهم، وقالوا: نحن أناس من جمح، أتيناك لنزورك لما بلغنا قدومك، ورأينا إتياننا إياك حقاً لك واجباً علينا، وأهدى إليه عقيل صفيحة هندية وصعدة ردينية فوضعتا على باب البيت الحرام لينظروا هل يراهما سطيح أم لا.
فقال: يا عقيل ناولني يدك، فناوله يده، فقال: يا عقيل والعالم الخفية، والغافر الخطية، والذمة الوفية، والكعبة المبنية، إنك الجائي بالهدية، بالصفيحة الهندية، والصعدة الردينية.
فقالوا: صدقت يا سطيح.
فقال: والآتي بالفرح، وقوس قزح، وسائق القرح، واللطيم المنبطح، والنخل والرطب والبلح، إن الغراب حيث مر سح، أخبر أن(1/116)
القوم ليسوا من جمح، وأن نسبهم في قريش ذي البطح.
قالوا: صدقت يا سطيح، نحن أهل البلد، أتيناك لنزورك لما بلغنا من علمك، فأخبرنا عما يكون في زماننا، وما يكون من بعده إن يكن عندك في علم.
قال: الآن صدقتم، خذوا مني ومن إلهام الله إياي اليوم: يا معشر العرب في زمان الهرم، سواء بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، ينشؤ من عقبكم دهمٌ، يطلبون أنواع العلم، يكسرون الصنم، يبلغون الروم، يقتلون العجم، يطلبون الغنم.
قالوا: يا سطيح ممن يكون أولئك؟
قال لهم: والبيت ذي الأركان والأمن والسكان، لينشأون من عقبكم ولدان، يكسرون الأوثان، ويتركون عبادة الشيطان، يوحدون الرحمن، ويستنون دين الديان، يشرفون البنيان، ويسقون العميان.
قالوا: يا سطيح فمن نسل من يكون أولئك؟
قال: وأشرف الأشراف، والمحصي الأسراف، والمزعزع الأحقاف، والمضعف الأضعاف، لينشأن آلاف، من عبد شمس وعبد مناف، نشوءاً يكون فيه اختلاف.
قالوا: يا سوءتاه مما تخبر به من العلم بأمرهم، ومن أي بلد يخرج؟(1/117)
قال: والباقي الأبد، والبالغ الأمد، ليخرجن من خير البلد، نبي مهتد، يهدي إلى الرشد، يرفض يغوث والفند، يبرأ من عبادة الضد، ويعبد رباً انفرد، ثم يتوفاه الله محموداً، ومن الأرض مفقوداً، وفي السماء مشهوداً، ثم يلي أمره الصديق، إذا قضى صدق، وفي رد الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلي أمره الحنيف، مجرب غطريف، ويترك قول الرجل اللقيف، قد ضاق المضيف، وأحكم التحنيف، ثم يلي أمره دارعاً لأمره مجرباً، فيجمع له جموعاً وعصباً، فيقتلونه نقمة عليه وغضباً، فيؤخذ الشيخ فيذبح إرباً، فيقوم له رجال خطباء، ثم يلي أمره الناصر -يعني: معاوية-، يخلط الرأي برأي ماكر، يظهر في الأرض العساكر، ثم يلي أمره من بعده ابنه، يأخذ جمعه، ويقل حمده، ويأخذ المال فيأكل وحده، ويكثر المال لعقبه من بعده، ثم يلي من بعده ملوك، لا شك الدم فيهم مسفوك، ثم يلي أمره من بعده الصعلوك، يطأهم كوطأة الدرنوك، ثم يلي عضوضٌ: أبو جعفر، يقصي الحق، ويدني مضر، ويفتح الأرض افتتاحاً منكراً، ثم يلي قصير القامة، بظهره علامة يموت موتة سلامة، ثم يلي قليلاً ماكراً، يترك الملك بائراً، ثم يلي أخوه، لسنته سائر، يختص بالأموال والمنابر، ثم يلي من بعده أهوجاً، صاحب دنيا ونعيم غنجاً، يتأوه معاشره وذووه، ينهضوا إليه ويخلعوه، يأخذوا الملك ويقتلوه، ثم يلي من بعده السابع فيترك الملك مخلى ضائع، يبور في ملكه مشوه جائع، عند ذلك يطمع في الأرض كل غرثان، ويلي أمر الناس اللهفان، يوطن نزار جمع قطحان، إذا التقى بدمشق جمعان، بين بيسان ولبنان، فصنف اليمن يومئذ صنفان، صنف المشوه، وصنف المخذول، لا ترى إلا خبأ مجلولاً، ولواء محلولاً، وأسيراً مغلولاً، بين الفرات والجبول، عند ذلك تخرب المنازل، وتسلب الأرامل، وتسقط الحوامل،(1/118)
وتظهر الزلازل، ويطلب الخلافة وائل، فيغضب نزار ويدني العبيد والأشرار، ويقصي النساك والأخيار، يجوع الناس وتغلو الأسعار، وفي صفر الأصفار يقتل كل جبار، يسوق إلى جنادل وأنهار، ذات أسهال وأشجار، يصمد له الأغمار، يهزمهم أول النهار، يظهر لأمره الأخيار، فلا ينفعهم نوم ولا قرار، حتى يدخل مصراً من الأمصار، فيدركه القضاء والأقدار، ثم تجيء الرماة، بزحف مشاة، لقتل الكماة، وأسر الحماة، ومهل الغواة، هنالك يدرك في أعلى المياه، ثم يبور الدين، وتقلب الأمور، وتكفر الزبور، وتقطع الجسور، ولا يفلت من كان في جرائر البحور، ثم تبور الحبوب، وتظهر الأعايب، ليس فيهم معيب، على أهل الفسوق والريب، في زمان عصيب، لو كان للقوم حياء -لو يغني الحياء-.
قالوا: ثم ماذا يا سطيح؟
قال: ثم يظهر رجل من اليمن، أبيض كالشطن، يخرج من بين صنعاء وعدن، يسمى حسين أو حسن، يذهب الله على رأسه الفتن.
4- قال أبو محمد: عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث فقال: حدثنا محمد الشامي، عن إسماعيل بن عياش.(1/119)
قال: فقلنا: من محمد الشامي؟
قال: والياً كان علينا.(1/120)
[4] فصلٌ: في ذكر حديث سطيح بن ربيعة في رؤيا الموبذان وخمود النيران ليلة مولده صلى الله عليه وسلم
5- أخبرنا أبو أحمد: الحسين بن أحمد بن علي التميمي رحمه الله، أنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، ثنا علي بن حرب الموصلي، ثنا أبو أيوب: يعلى بن عمران -من ولد جرير بن عبد الله- قال:(1/121)
حدثني مخزوم بن هانيء المخزومي، عن أبيه -وأتت له مائة وخمسون سنة- قال: لما كان الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف العام -وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك وتصبر عليه تشجعاً، ثم رأى أن لا يدخر ذلك عن وزرائه ومرازبته حين عيل صبره فجمعهم، ولبس تاجه، وقعد على سريره، ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا،(1/122)
ألا يخبرنا الملك؟ فبينا هم كذلك إذ أتاه كتاب بخمود النار فازداد غماً إلى غمه، ثم أخبرهم بما هاله، فقال الموبذان: أنا، أصلح الله الملك قد رأيت في هذه الليلة .. .. ثم قص عليه رؤياه في الإبل، فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ -وكان أعلمهم في أنفسهم- قال: حدث يكون من ناحية العرب.
فكتب كسرى عند ذلك:
من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر.
أما بعد، فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه.
قال: فأرسل إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان، بن بقيلة الغساني.
فلما قدم عليه قال: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليسألني -أو: يخبرني- الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم أخبرته وإلا دللته على من يعلمه، قال: فأخبره بما رأى فقال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارق الشام يقال له: سطيح، قال: فاذهب فاسأله وأتني بتأويل ما عنده.
فنهض عبد المسيح حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الضريح، فسلم عليه وحياه، فلم يحر جواباً، فأنشأ عبد المسيح يقول:(1/123)
أصمٌّ أم يسمع غطريف اليمن
أم فاد فازلم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن
وكاشف الكربة عن وجه غضن
أتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن حجن
أزرق بهم الناب صرار الأذن
أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم يسري للوسن(1/124)
لا يرهب الرعب ولا ريب الزمن
يجوب في الأرض علندات شجن
ترفعني وجنات وتهوي بي وجن
حتى أتى عالي الجآجي والعطن
تلفه الريح وبوغاء الدمن
كأنما حثحث من حضني ثكن
قال: ففتح سطيح عينيه ثم قال: عبد المسيح، على جمل مشيح،(1/125)
أتى إلى سطيح وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها.
يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاماً، يملك منهم ملوكاً وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آتٍ آت.
ثم قضى سطيح مكانه، فنهض عبد المسيح إلى رحله وهو يقول:
شمر فإنك ماضي الهم شمير ... لا يفزعنك تفريقٌ وتغيير
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوارٌ دهارير
فربما أصبحوا يوماً بمنزلةٍ ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرامٌ وإخوته ... والهرمزان وشابورٌ وسابورٌ
والناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقل فمحقورٌ ومهجور
وهم بنو الأم أما إن رأوا نشباً ... فذاك بالغيب محفوظٌ ومنصور
والخير والشر مقرونان في قرنٍ ... فالخير متبع والشر محذور(1/126)
فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بقول سطيح، فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً كانت أمور وأمور.
فملك منهم عشر في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلاقة عثمان بن عفان رحمه الله.(1/127)
[5] فصلٌ: في ذكر حديثٍ آخر لسطيحٍ وشق
6- أخبرنا أبو أحمد: الحسين بن علي التميمي رحمه الله، أنا عبد الرحمن ابن أبي حاتم، ثنا محمد بن العباس مولى بني هاشم، ثنا عبد الرحمن بن سلمة، ثنا سلمة بن الفضل قال: حدثني محمد بن إسحاق،(1/128)
عن بعض أهل العلم أن ربيعة بن نصر اللخمي رأى رؤيا هالته وفظع بها، فلما رآها بعث إلى الحزاة من أهل مملكته، فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا عائفاً ولا منجماً إلا رفعه إليه، ثم قال لهم: قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبروني بها وبتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال: إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها إلا من يعرفها قبل أن أخبره بها، فلما قال لهم ذلك قال له رجل من القوم الذي جمع لذلك: فإن كان الملك يريدها فليبعث إلى سطيح وشق، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه.(1/129)
واسم سطيح: ربيع بن ربيعة بن عدي بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان، وكان يقال لسطيح: الذئبي، نسبة إلى ذئب بن عدي بن مازن.
وشق هو: ابن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن يزيد بن قيس ابن عبقر بن أنمار.
فلما قالوا له ذلك بعث إليهما، وقدم عليه سطيح قبل شق، ولم يكن في زمانهما مثلهما، فلما قدم عليه سطيح دعاه فقال له: يا سطيح إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها، قال: أفعل.
رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة.
قال الملك: ما أخطأت منها شيئاً، سطيح، فما عندك في تأويلها؟
قال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، لتهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش.
فقال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده؟
فقال: لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين.
قال: فهل يدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع؟
قال: بل ينقطع لبضع وسبعين يمضين من السنين، ثم يقتلون بها أجمعين، ويخرجون منها هاربين.(1/130)
قال الملك: ومن الذي يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟
قال: ثلاثة: إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحد باليمن.
قال: فيدوم ذلك من سلطانه أو ينقطع؟
قال: بل ينقطع، قال: ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي.
قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك ابن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.
قال: وهل للدهر من آخر يا سطيح؟
قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون.
قال: أحق ما تخبرنا يا سطيح.
قال: نعم، والشفق، والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به الحق.
فلما فرغ منه قدم عليه شق، فدعاه فقال له: يا شق إني قد رأيت رؤيا هالتني، وفظعت بها، فأخبرني بها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها -كما قال لسطيح، وقد كتمه ما قال له سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان-.
قال: نعم، رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.(1/131)
فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا، وأن قولهما قول واحد، إلا أن سطيحاً قال: وقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة، وقال شق: وقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.
فلما رأى ذلك الملك -من قولهما شيئاً واحداً- قال: ما أخطأت يا شق منها شيئاً، فما عندك في تأويلها؟
قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران.
قال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده.
قال: بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، يذيقهم أشد الهوان.
قال: ومن هذا العظيم الشأن؟
قال: غلام ليس بدنيء ولا مدن، يخرج من بيت ذي يزن.
قال: فهل يدوم سلطانه؟ أو ينقطع؟
قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل.
قال: وما يوم الفصل.
قال: يوم يجزى فيه الولاة، يدعى فيه من السماء دعوات، يسمع منه الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات.(1/132)
قال: أحق ما تقول يا شق؟
قال: أي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض إن ما نبأتك لحق، وما فيه أمت ولا أمض.
فلما فرغ من مسألتهما وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى الملك من ملوك فارس يقال له: سابور بن خرزاذ فأسكنهم الحيرة.
7- قال ابن إسحاق: فمن بقية ولد ربيعة بن نصر كان النعمان ملك الحيرة وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر، ذلك الملك في نسب أهل اليمن وعلمهم.(1/133)
8- وروي أن أبرويز بن هرمز المعروف بكسرى -وهو ابن شيرويه- كان في منزله ليلاً، فنام على مركبه، وطال حتى ثقل فمال، وخاف من وراءه من قواده سقوطه، فأتاه رجل منهم فأيقظه فانتبه مذعوراً لرؤيا رآها قطعها عليه الموقظ، قال: رأيت كأني عرضت على الله عز وجل فقال لي: غيرتم فغير ما بكم، سلم ما بيدك إلى صاحب الهراوة.
قال: ثم لم يزالوا يتوقعون حادثة حتى كتب النعمان بن المنذر بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه.
9- وفي بعض الكتب: أن كتاب النعمان بن المنذر ورد بذلك في يوم كان كسرى خالياً فيه بلذته ولهوه، وأمرهم أن لا ينهوا إليه خبراً يسوءه، ولا يوصلوا إليه كتاباً من أحد أعماله ليأمن على سروره، فبينا هو كذلك إذ سمع صوت البريد فسأل عنه فقالوا: كتاب عامل السواد، فتعلق قلبه به، وقال لهم: ما أرى إلا تعلق قلبي بما ورد به، حتى أعلمه أعظم علي مما أنا فيه، فأوصلوا الكتاب إليه فقرأه فإذا العامل يخبره فيه(1/134)
بأن الفرات أتى بمد لم يسمع بمثله، وأنه فاض فغرق زروع الناس ومنازلهم، وأفسد ثمارهم، فغمه ما نال رعيته من الضرر في أموالهم، وما نال جنوده بذهاب الخراج الذي كان يجبى من السواد لهم، فسهل عليه وزراؤه ذلك، وسيبوا للجنود أموالاً من وجوه كثيرة، وعاد إلى لهوه.
ثم سمع صوت بريد آخر فسأل عنه فقالوا: كتاب العامل على ثغر أرمينية فتعلق قلبه به، ثم أمر بإيصال الكتاب فإذا فيه: إن الجنود قد انشقوا على عاملهم فقتلوه، واستباحوا ما قبله من المال، فغمه ذلك، ثم سهل عليه وزراؤه، وضمنوا له إصلاح الناحية، فعاد إلى لهوه.
ثم سمع صوت بريد آخر فأمر بأخذ كتابه وقراءته، فإذا كتاب النعمان بن المنذر يخبره فيه بأنه خرج نجم بتهامة يخبر بأنه رسول إله السماء والأرض إلى أهل الأرض كافة، فاستعظم ذلك وأكبره، وعلم أنه الذي كان يتوقعه ورآه في منامه.(1/135)
[6] فصلٌ: ذكر ما ظهر في بني إسرائيل من أمارات نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم
10- أخبرنا أبو بكر: محمد بن زكرياء، أنا أبو حاتم: مكي بن عبدان التميمي في صفر سنة خمس وعشرين وثلثمائة،(1/137)
ثنا موسى بن يزيد الإسفنجي، ثنا عبد الله بن صالح المصري، ثنا عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود، .. .. .. ..(1/138)
عن عبد الملك بن هشام الدمشقي، عن عبد الله بن سلام الإسرائيلي قال:
كان في بني إسرائيل رجل يقال له: أوشا، وكان من علمائهم(1/139)
وكبرائهم وكان كثير المال، وكان إمام بني إسرائيل، وكان قد قرأ الكتب وعرف نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأمته من التوراة، وكان قد عزله عنها وخبأه في خزانته، وكان له ابن يقال له: بلوقيا، وكان ذلك بعد موت سليمان بن داود النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان بلوقيا خليفة أبيه في بني إسرائيل وكانت الإمامة إليه وفي يديه والقضاء إليه، قال: فلما مات والده فتش خزائن والده فوجد فيها تابوتاً من حديد مقفلاً عليه، وعلى القفل خاتم رصاص، قال: فسأل الخزان عن ذلك؟ فقالوا: لا ندري ما فيه، نفك الخاتم، ثم أمر بكسر القفل ففتح، فإذا فيه درج من فضة وفيها حقة من فضة مقفل عليها قفل من ذهب مختوم بخاتم من مسك، ففك الخاتم فإذا فيه رق مكتوب ملفوف في حرير قد رش على الحرير مسك وعنبر، فنشر الرق فإذا فيه مكتوب نعت محمد ونعت أمته، وصفته ومبعثه وكرامته على ربه وكرامة أمته وأنه خاتم الأنبياء وأنه الشفيع يوم القيامة، وأن له الشفاعة التامة والكرامة الكاملة والمنزلة العظيمة، يغبطه الأولون والآخرون بمكانه من ربه وأنه صلى الله عليه وسلم وأمته شهود على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين والأمم وأن الجنة محرمة على جميع الأنبياء والأمم حتى يدخلها هو وأمته، وأخرج الرق وقرأه على بني إسرائيل فقالوا: ويله من ربه إذ كتم الحق وغش الخلق.
قال: فقالت بنو إسرائيل: يا بلوقيا لولا أنك إمامنا وكبيرنا لنبشنا قبر والدك وأخرجناه منه ثم أحرقناه بالنار، فقال بلوقيا: يا قوم لا ضير إنما ترك حظ نفسه وما يريد الله عز وجل به من سطوات عذابه ونقماته أشد وأشد مما تريدون وتصنعون به، فكفاه خزياً وغضباً من ربه فألحقوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في التوراة.(1/140)
وكانت أم بلوقيا في الأحياء وكانت عاقلة ممسكة بما فيها يقال لها هلفا بنت برنا، فقال لها بلوقيا: يا أماه إني قد أزمعت على التطواف في الدنيا برها وبحرها سهلها وجبلها أطلب أثر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فقالت له أمه: يا بني أسأل الله لك العون والتوفيق فيما عزمت وأن يمن عليك بلقائه ويجعلك من أمته، ومشركاً في شفاعته، فسر على اسم الله وعونه وبركته فإنه المعين لك والصانع.
فسار بلوقيا متوجهاً نحو الشام، فكان ينزل مصر فاستخلف على بني إسرائيل خليفة، ثم تزود وتهيأ ومضى حتى قدم بلد الشام فأقام فيها أياماً يعبد ربه.
ثم خرج في الطلب فبينا هو يسير إذ انتهى إلى جزيرة من جزائر البحر فإذا فيها حيات كأمثال البخاتي العظام سود فنظر إلى أمر من أمر الله العظيم فارتعد وهو ينظر إليهن وهن يقلن: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بلوقيا: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: فرفعت الحيات رؤسهن وقلن: أيها المخلوق من أنت وما اسمك؟ فقال: أنا إنسان واسمي بلوقيا وأنا من بني إسرائيل، فقلن: وما بنو إسرائيل؟ قال: من ولد آدم عليه السلام، فقلن: ما سمعنا اسم آدم ولا إسرائيل ولا نعرفهم، فقال لهن بلوقيا: أيتها الحيات من أنتن؟ فقلن: نحن من حيات جهنم نعذب الكفار في النار يوم القيامة، فقال بلوقيا: ماذا تصنعن ها هنا وكيف عرفتن اسم محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قلن: إن جهنم تفور وتزفر كل سنة مرتين: واحدة بحر والأخرى ببرد فإذا تنفست ألقينا إلى ماء هاهنا نتنفس ثم نعود إليها، فشدة حر الصيف من حرها وشدة برد الشتاء من بردها، وليس في جهنم باب ولا ستر إلا مكتوب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فمن أجل ذلك عرفنا محمداً صلى الله عليه وسلم .(1/141)
قال: فقال بلوقيا: أيتها الحيات هل في جهنم مثلكن أو أكبر منكن؟ فقلن: إن في جهنم حيات تدخل إحدانا في أنوفهن وتخرج من آذانهن فلا يشعرن بنا من عظمهن.
قال: فسلم عليهن بلوقيا ومضى حتى انتهى إلى جزيرة أخرى فإذا هو بحيات سود كأنهن جذوع وعلى متن إحداهن حية صفراء صغيرة إذا صفرت اجتمعن الحيات حولها وإذا نفخت طرن جميعاً ودخلن الماء وصرن تحت الأرض وهن يقلن لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال: فلما رأته الحية الصغيرة قالت له: أيها الخلق المخلوق من أنت وما اسمك؟ قال: اسمي بلوقيا وأنا من بني إسرائيل وإسرائيل من ولد آدم عليه السلام، فأخبريني أيتها الحية من أنت؟ قالت الحية: أنا ملكة الحيات واسمي بليخا وإن ربي عز وجل قد وكلني بهؤلاء الحيات وحفظهن، ولولاه لقتلت الحيات بني آدم كلهم في يوم واحد ولالتقمتهم بلقمة ولهان ذلك عليهن، ولكني إذا صفرت صفيرة وسمعن صوتي دخلن الماء وصرن تحت الأرض، وأنت يا بلوقيا أين تذهب؟ قال: خرجت في طلب الأرض التي تكلمت بنبوة محمد، قالت: يا بلوقيا إن لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قالت: إن لقيت محمداً فاقره مني السلام وقل له: إن بليخا تقرئك السلام.
ثم إن بلوقيا مضى حتى أتى بيت المقدس وكان بها حبراً من أحبارهم يسمى عفان، قال: فلقي عفان بلوقيا فسأله عن خبره فيما جاء، فأخبره بخبره وحدثه بحديث الحيات وقصة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونعت أمته وما كان من أمر أبيه وأمر الرق وخروجه لذلك، وحدث بما لقي في الجزيرة من الحيات وحدثه بشأن بليخا ملكة الحيات.(1/142)
فقال له عفان: يا بلوقيا ليس هذا زمان محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وإن بينك وبينه سنين وقروناً كثيرة، ثم قال له: يا بلوقيا أتدلني على الحية التي تسمى بليخا فإنا إن قدرنا على صيدها رجونا أن ننال ملكاً عظيماً ونحيا إلى أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فإذا بعثه دخلنا في دينه واتبعناه وآمنا به، فحمل بلوقيا حرصه على الإسلام ودخوله في دين محمد صلى الله عليه وسلم أن قال له: أنا أدلك على المكان الذي فيه بليخا.
وكان عفان قد قرأ الكتب وأحكمها فاتخذ تابوتاً من حديد وكوزين من فضة فملأ إحدى الكوزين خمراً والأخرى لبناً ثم وضعهما في التابوت، ثم سارا جميعاً حتى انتهيا إلى الجزيرة التي فيها تلك الحية ففتحا التابوت ووضعاه وتركا رأس الكيزان مفتوحة وتنحيا ناحية، فجاءت الحية -ملكة الحيات- فدخلت التابوت فشربت الخمر واللبن فسكرت ونامت في التابوت فقام عفان فدب إلى التابوت دبيباً خفياً فأغلق باب التابوت عليها وحمله تحت حضنه وإبطه ثم مضيا وسارا جميعاً فجعلا لا يمران بشيء من شجر ولا حجر ولا مدر ولا حشيش ولا زيتونة ولا نبت إلا كلمتهما بإذن الله ووصفت ما فيهن من النفع والضر والداء والدواء.
فبينا هما يسيران إذا انتهيا إلى شجرة يقال لها: الفريصة فنادتهما تلك الشجرة: يا عفان من يأخذني فيقطعني ويأخذ ورقي ويدقني ويعصر دهني ويطلي بين قدميه من حيث شاء فيجوز البحار السبع ولا تبتل قدماه بإذن الله ولا يغرق، فقال عفان: لك أردت، وإياك طلبت، فدنا من تلك الشجرة فقطع من أغصانها فدقها وعصر دهنها وجعله في إحدى الكوزين، ثم خلا عن الحية فطارت الحية بين السماء والأرض وهو يقول: يا بني آدم ما أجرأكما على الله فلا تصلا إلى ما تريدان، وذهبت الحية.(1/143)
وسار عفان وبلوقيا حتى أتيا البحر وطليا أقدامهما من ذلك الدهن ثم دخلا في اليم ومرا على وجه الماء كما كانا يمران على وجه الأرض لا تبتل لهما رجل ولا تغرق لهما قدم حتى جازا البحر الأول ثم الثاني فبينا هما يسيران إذا هما بجبل في وسط البحر ليس بعال ولا متدان ترابه كالمسك فيه كهف، وفي الكهف سرير من ذهب وعلى السرير شاب مستلق على قفاه ذو وفرة وهو واضع يده اليمنى على صدره ويده اليسرى على بطنه بمنزلة النائم وليس بنائم ولكنه ميت وهو سليمان بن داود عليهما السلام وعند رأسه تنين وعند رجله تنين وخاتمه في إصبعه في يده اليسرى وكان ملكه في خاتمه وحلقته من ذهب وفصة من ياقوتة حمراء مربع مكتوب عليه أربعة أسطر في كل سطر اسم من أسماء الله تعالى الأعظم.
قال: وكان عفان قد علم الكتاب، فقال بلوقيا لعفان: من هذا؟ قال: هذا سليمان بن داود عليهما السلام، ونريد أن نأخذ خاتمه من يده فيعود ملكه إلينا ونرجو الحياة إلى أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقال له بلوقيا: ويحك أليس سأل سليمان عليه السلام ربه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده إلى يوم القيامة، فأعطاه ذلك، ولن ينال أحد ملكه إلى يوم الدين لدعائه؟
فقال له عفان: يا بلوقيا اسكت فإن معنا اسم الله الأكبر، ولكن أنت يا بلوقيا فاقرأ التوراة وعليك منها بأسماء الله العظام، فقال له بلوقيا، وكيف تصل إلى الخاتم والتنينان يحرسانه؟ فقال له عفان: إن التنينين لا يضران مع أسماء الله شيئاً.
قال: فأخذ بلوقيا في قراءة التوراة وتقدم عفان ليأخذ الخاتم من يد سليمان عليه السلام، فقال التنينان: يا عفان ما أجرأك على الله حيث تريد أن تسلب خاتم نبيه سليمان عليه السلام فإنك إن قهرتنا باسم الله لنغلبنك بقوة الله تبارك وتعالى.(1/144)
قال: فنفخ التنينان عفان وبلوقيا، فلم يضرهما نفخة التنينين لحال ما قرأ بلوقيا اسم الله الأعظم من التوراة، فدنا عفان من السرير ليأخذ الخاتم من يده، واشتغل بلوقيا بالنظر إلى عفان وفعله وترك القراءة حتى نزل جبريل من السماء فصاح بهما صيحة، فاضطربت الأرض والجبال وتزلزلت واختلطت البحار حتى صار كل ماء عذب مالحاً وكل مالح عذباً من شدة صوت جبريل.
قال: وسقط بلوقيا وعفان جميعاً مغشياً عليهما، ونفخ التنينان الثانية فخرج من جوفهما نار كالبرق الخاطف فاحترق منها عفان وصار رماداً، وجازت نفخاتهما في البحار فلم تمر بشيء إلا أحرقته ولا بالماء إلا أغلته، ونجا بلوقيا باسم الله الأعظم الذي كان يقرأه فلم تضره بإذن الله وجاز العذاب ولم يصبه.
قال: ثم تراءى له جبريل عليه السلام على صورة رجل فقال له: يا ابن آدم ما أجرأك على الله، فقال له بلوقيا: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا جبريل أمين رب العالمين، فقال له بلوقيا: يا جبريل إنما خرجت محبة لمحمد صلى الله عليه وسلم وشوقاً إليه ورغبة في دينه، ولم أخرج لطلب الخطأ ولم أتعمد لذلك، فقال له جبريل: فبذلك نجوت وإلا كنت تهلك مع صاحبك، ثم ارتفع جبريل عليه السلام إلى السماء.
ومضى بلوقيا وطلى قدميه ببقية الدهن الذي كان معهما، فركب البحر راجعاً فغلط الطريق الذي جاء فيه مع عفان وأخذ طريقاً آخر وهو لا يدري فجاوز البحر الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السادس حتى انتهى إلى البحر السابع وقد بقي حيران لا يدري في أي بلاد الله هو، ولكنه كان يتلو التوراة دائماً ويقرأ اسم الله الأعظم ويدعو ربه جل وعلا(1/145)
بذلك الاسم، فكان الله (تعالى جده) يقويه ويعينه على الجوع والعطش والإعياء، فكان لا يجوع ولا يعطش ولا يعيى في مسيره ذلك.
فلما انتهى إلى البحر السابع فإذا هو بجزيرة من ذهب أحمر حشيشها الورس والزعفران، وأشجارها النخل والرمان والعنب وألوان الثمار، لم ير الراؤون مثلها حسناً وزهرة والتفافاً وكثرة، فقال بلوقيا: ما أشبه هذا المكان بصفة الجنة.
قال: فتقدم بلوقيا إلى بعض أشجارها ليأخذ من ثمرها فقالت الشجرة: إليك عني يا خاطئ بن الخاطئ لا تأخذ مني شيئاً فإنك لا تقدر عليه، فبقي بلوقيا متعجباً من قولها ومتفكراً.
ثم نظر أمامه فإذا بجبال الشجر فرسان يتراكضون نحوه، بأيدهم السيوف الشاهرة تبرق كالبرق اللامع، كأنهم يطيرون بين السماء والأرض، حتى أحاطوا به، فلما رأوه تعجبوا منه وأغمدوا أسيافهم، ثم قالوا بأجمعهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويحك! من أنت يا عبد الله وما حالك؟ فقال: أنا بلوقيا رجل من بني إسرائيل من ولد آدم عليه السلام، قالوا: نعم وما أوقعك علينا وكيف صرت إلى هذا الموضع؟ فقال بلوقيا: بعون الله وبقوته والذي خلقني وخلقكم إنما جئت في طلب الاسم الذي تتكلمون: محمد رسول الله، وقص عليهم قصته وقصة والده وأمر الرق، فقالوا: ويحك يا بلوقيا إنك قد غلطت الطريق ووقعت في البحر السابع، وإنك سترى أهوالاً وأقراعاً كثيرة حتى تجاوز البحر السابع، فقال بلوقيا: من أنتم رحمكم الله؟ قالوا: نحن قوم من الجن مؤمنون كنا مع الملائكة في السماء فأنزلنا الله إلى الأرض وأمرنا بقتال كفرة الجن، ونحن هاهنا غازون نغزوا إلى يوم القيامة، فقال بلوقيا:(1/146)
أنشدكم بالله أتعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم وخبره؟ فقالوا: اللهم لا، فقال بلوقيا: فما لكم تذكرونه دائماً؟، فقالوا: لقد أمرنا الله بذلك.
ثم أخذوا بيد بلوقيا فانطلقوا به إلى ملكهم وكان اسمه صخريا.
قال: فلما رأى بلوقيا سلم عليه وأجلسه عنده وسأله عن حاله وخبره فأخبره بشأنه وقصته وما عاين من العجائب، فبكت الجن وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا بلوقيا إنا أقوام من الجن أعطينا الحياة إلى يوم القيامة، فنقاتل كفرة الجن فلا صبر لمثلك معنا.
فقال بلوقيا لملك الجن: يا صخريا أخبرني عن بدء خلق الجان وكيف صار إبليس ملعوناً من بينهم.
فقال صخريا: نعم إن الله جل جلاله لما خلق جهنم وعذابها وأنكالها جعل لها سبعة أبواب وسبع دركات وسبعة ألسن، فخلق فيها خلقين يسمى أحدهما حبليت والآخر نمليت، فأما حبليت فإنه خلق في صورة الأسد وأما نمليت فإنه خلق في صورة الذئب فجعل الأسد ذكراً والذئب أنثى وجعل طول كل واحدٍ منهما مسيرة خمس مائة عام وجعل للأسد ذنباً كذنب الحية وللذئب مثل ذنب العقرب وأمرهما أن ينتفضا في النار انتفاضاً فسقط من ذنب الأسد حية ومن ذنب الذئب عقرب فعقارب جهنم وحياتها من ذلك، ثم أمرها أن يتناكحا في النار فتناكحا، فحمل الذئب من الأسد فولد لهما سبع بنين وسبع بنات فأمرهما الله عز وجل بتزويج بعضهم من بعض كما أمر به آدم عليه السلام فأطاع ستة منهم فتزوجوا وعصى السابع ولم يتزوج فلعنه أبوه وهو إبليس عليه لعائن الله تترى، فكان اسمه الحرث وكنيته أبو الضمر ويقال أيضاً أبو مرة، فلما لعنه الله ثانياً على رأس آدم إذ عصى أمره سماه إبليساً وكناه أبا مرة، فهذا أول شأن خلق الجان كما أخبرتك.(1/147)
ثم قال: يا بلوقيا إن دوابنا لا تستقر مع الإنسان ولكن اركب فرسي هذا، قال: فحمله على فرس مجلل مبرقع، وقال ملك الجان: يا بلوقيا إذا انتهيت إلى أقصى عمالي على ساحل البحر فإنك ستلقى قبة ومسلحة لي فيهما شيخ وشاب فسلم الفرس إليهما وامض أنت راشداً.
قال: فركب بلوقيا الفرس حتى انتهى إلى المسلحة فسلم على الشيخ والشاب ونزل ورد الفرس إليهما وكان قد خرج من عند ملكهم وقت صلاة الغداة وبلغ إليها نصف النهار، فقال له الشيخ: يا بلوقيا متى فارقت الملك؟ قال: فارقته وقت صلاة الغداة، قال: ما أسرع ما جئت أتعبت فرسنا، قال: فقال بلوقيا: ما رفعت عليه يداً ولا حركت عليه رجلاً ولا سرت به سيراً شديداً، قال: فلم نراك جئت الساعة؟ قال: عسى جئت خمس فراسخ أقل أو أكثر، قال: فنزعوا عنه السرج واللجام والبرقع والحل فإذا الفرس ينصب عرقاً وإذا له جناحان قد استرخيا من شدة الطيران والإعياء، فقالوا: يا بلوقيا: جئت اليوم مسيرة عشرين ومائة سنة وذلك أن الفرس أحس بثقلك وعرق فطار بك بين السماء والأرض حول الدنيا دون تأن وأنت لا تعلم ونحن الجان نكون أخف منكم فمن أجل ذلك عرق الفرس، قال بلوقيا: هذا هو العجب ما ظننت أن يكون مثل هذا؟ قالا: يا بلوقيا عجائب الله أكثر من ذلك، قال: ثم سلم عليهم بلوقيا وركب البحر ومضى.
فبينا هو في مسيرة يسيرة إذا هو بملك إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال: فسلم عليه بلوقيا، فقال له الملك: من أنت يا أيها الخلق المخلوق؟ قال: أنا بلوقيا وأنا من بني إسرائيل وإسرائيل من ولد آدم عليه السلام فمن أنت أيها الملك وما اسمك؟ قال الملك: اسمي ترحبابيل، وأنا(1/148)
موكل بضوء النهار وظلمة الليل، قال: فما بال يديك مبسوطتان؟ قال: في يدي اليمنى ضوء النهار وفي يدي اليسرى ظلمة الليل فلو نسيت ظلمة الليل لأظلمت السماوات والأرض وما بينهما فلم يكن ضوء أبداً ولو نسيت ضوء النهار لأضاءت السماوات والأرض وما بينهما ولم يكن ظلمة أبداً -وبين عينيه لوح معلق مكتوب فيه سطران، سطر أبيض وسطر أسود- فإذا رأيت السواد قد زاد الضوء زدت بقدر ما زاد في السطر الأسود وإذا رأيت البياض قد نقص نقصت من الضوء بقدر ما نقص من السطر الأبيض فكذلك الليل في الشتاء أطول والنهار أقصر، وفي الصيف النهار أطول والليل أقصر، وكل شيء يزيد في الظلمة فإنه يزيد في الشتاء من طول الليل وكل شيء يزيد في البياض فإنه يزيد في الصيف والحر وطول النهار.
قال: فسلم عليه بلوقيا ومضى، فإذا هو في مسيره إذا هو بملك قائم يده اليمنى في السماء ويده اليسرى في البحر قد جاوز الماء وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال: فسلم عليه بلوقيا، فقال الملك: من أنت؟ قال: أنا من بني إسرائيل وإسرائيل من بني آدم فمن أنت أيها الملك وما اسمك؟ قال الملك: اسمي صنحبابيل، قال: فما لي أرى يمينك في السماء وشمالك في الأرض على الماء، فقال: إني أحبس الريح بيميني والبحر بشمالي عن الخلق ولولا ذلك لأغرق البحر من على الأرض من الخلق إذا امتد في ساعة واحدة ويميني في الهواء أحبس الريح عن الخلق ولولا ذلك لأهلك الريح من على وجه الأرض من الخلق، وإن بين السماء والأرض لريحاً يقال لها العايجة لو تركتها لقلبت الأرض ومن عليها فجعلت عاليها سافلها وذلك من شدة بردها وشدتها بإذن الله ولكن أخليها من بين أصبعي بقدر(1/149)
ما يأمرني الله به إذا جاء وقتها فإذا خرجت لم يمر في الهواء ماء إلا جمدته فيصير بعضه ثلجاً وبعضه برداً فإذا صار إلى الأرض ذاب وعاد كما كان أول مرة.
قال فسلم عليه بلوقيا ومضى وسار فإذا هو بأربعة أملاك أحدهم رأسه كرأس الرجل والثاني رأسه كرأس الأسد والثالث رأسه كرأس الثور والرابع رأسه كرأس النسر، فأما الملك الذي كان على خلقة الرجل اسمه مليادون وكلامه الفارسية الدرية وهو الذي صاح بموسى بن عمران عليه السلام حين قال: {رب أرني أنظر إليك}، فهو يدعو لبني آدم ويقول: اللهم ارحم المسلمين ولا تعذبهم وادفع عنهم البلاء وبرد الشتاء وحر الصيف وأعنهم على طاعتك وادخلني في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم التناد.
وأما الملك الذي على خلقة الثور فهو يدعم للبهائم ويقول: اللهم ارحم البهائم ولا تعذبهم وادفع عنهم برد الشتاء وحر الصيف والق لهم الرحمة في قلوب بني آدم أن لا تحملوا عليها فوق طاقتها، واجعلني في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
وأما الملك الذي على خلقة النسر فهو يدعو للطيور ويقول: اللهم ارحم الطيور ولا تعذبهم وادفع عنهم برد الشتاء وحر الصيف واجعلني في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
وأما الملك الذي على خلقة الأسد فهو يدعو للسباع ويقول: اللهم ارحم السباع ولا تعذبهم وادفع عنهم برد الشتاء وحر الصيف وادخلني في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال: فسلم عليهم بلوقيا ومضى، فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا بلوقيا من ولد آدم، قالوا: ومن جاء بك إلى هاهنا؟ قال: الذي خلقني وخلقكم.(1/150)
فمضى بلوقيا حتى انتهى إلى قاف فإذا هو بملك قائم على جبل قاف -وقاف جبل محيط بالدنيا وهو جبل من ياقوتة خضراء فخضرة هذه السماء منه، وذلك قول الله عز وجل {ق. والقرآن المجيد}-، فلما نظر بلوقيا إلى الملك سلم عليه وفرق منه، فرد عليه السلام فقال له: من أنت وما اسمك؟ قال: أنا من ولد آدم واسمي بلوقيا، فقال له الملك: وأين تريد؟ قال: خرجت في طلب نبي يقال له محمد صلى الله عليه وسلم ولست أرى أثره ولا أدري في أي بلاد الله أنا، فقال الملك: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أمر ربنا عز وجل بالصلاة على محمد.
فقال له بلوقيا: أيها الملك، وما اسمك؟ قال: اسمي حزيائيل، قال: وما تصنع هاهنا؟ فقال: أنا أمين الله على قاف، قال: فنظر بلوقيا فإذا في يد الملك وتر مرة يطويه ومرة يحله وعرق الأرض كلها مشدودة عليه، والوتر في كف الملك، فقال بلوقيا: ما هذا الوتر في يديك؟ قال: عروق الأرضين كلها مشدودة عليه وهو بيدي فإذا أراد الله تعالى ذكره أن يضيق على عباده أمرني أن ألوي الوتر وأشد عروق الأرضين فيضيق الله عليهم، وإذا أراد الله عز وجل أن يوسع عليهم أمرني أن أخلي الوتر وأرخي عروق الأرضين فتتسع الدنيا على العباد، وإذا أراد الله أن يرجف بقوم أمرني أن أحرك عروق تلك الأرضين فتهتز وترجف بأهلها، فلذلك يهتز موضع ولا يهتز آخر، فإذا حركت تلك الأرض تحركت الحوت التي عليها قرار الأرضين وهو تحت الأرضين السابعة السفلى واسمها بهموت فتحركت الأرض التي أمر الله وذلك عند كثرة المعاصي والزنا واللواط خاصة، فإذا ظهرت تكون الزلازل والهلاك.
فقال له بلوقيا: وما وراء قاف؟ قال: أربعون ألف دنيا غير الدنيا التي جئت منها، في كل دنيا من هذه الأربعين أربع مائة باب، في كل(1/151)
باب أربع مائة ضعف مثل الدنيا التي جئت منها، وليس في شيء منها ظلمة إلا كلها نور وأرضها من ذهب وعليها حجاب من نور وسكانها ملائكة مطيعون للرب عز وجل ما عصوه قط طرفة عين، ولا يعرفون آدم ولا إبليس ولا جهنم، خلقهم الله لعبادته فهم برآء من العصيان إلى آخر الدهر وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله كذلك ألهموا، ولذلك خلقوا وبه أمروا إلى يوم القيامة، فقال بلوقيا: فما وراءهم؟ قال: حجب، سبعون حجاباً، كل حجاب كمقدار الدنيا التي جئت منها سبعين مرة فهذا سلطان ربك وقدرته، وخلف تلك الجب علم الله وقدرته.
قال بلوقيا: أخبرني أيها الملك عن قاف، على أي شيء هو موضوع، قال: على قرن ثور اسمه قونيط وهو أقمر، مقدمه في المشرق ومؤخره في المغرب بين قرنيه مسيرة ثلاثين ألف سنة وهو ساجد لربه جل وعلا على صخرة بيضاء إلى يوم القيامة، قال: فالثور على أي شيء هو قائم؟ قال: إن الثور له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة، فقرونه تحت العرش وقوائمه على صخرة في البحر السفلي تحت الأرضين السابعة والصخرة بيضاء، قال: الصخرة على أي شيء هي موضوعة؟ قال: على جناح بهموت السمكة التي عليها قرار الأرضين واسم الجناح الدنيا، والسمكة مزمومة مشدودة إلى قائمة العرش، قال بلوقيا: أيها الملك فكم الأرضون وكم البحار؟ قال: الأرضون سبع والبحار سبعة، قال: فأين جهنم؟ قال: تحت الأرضين السابعة.
قال: فسلم عليه بلوقيا ومضى حتى انتهى إلى حجاب طرفه الأعلى في السماء وأسفله في الماء له باب مقفل مختوم خاتمه نور وعلى الباب ملكان أحدهما رأسه على خلقة رأس الثور وبدنه كبدن الفرس والآخر رأسه على خلقة رأس الكبش وبدنه كبدن الثور وهما يقولان: لا إله إلا الله(1/152)
محمد رسول الله، قال: فسلم عليهما بلوقيا فردا عليه السلام وقالا: أيها المخلوق من أنت؟ قال: أنا بلوقيا من بني إسرائيل من ولد آدم، فقالا: لا إله إلا الله محمد رسول الله إن هذه أسامي لم نسمع بها قط؟ فقال بلوقيا: فكيف عرفتم اسم محمد صلى الله عليه وسلم وهو من نسل آدم ولا تعرفون آدم؟ قالا: بذلك أمرنا ولذلك خلقنا ولم نسمع بآدم ولا إسرائيل، قال: فقال لهما بلوقيا: افتحا لي الباب حتى أجوز، فقالا: ليس فتحه إلينا ولا نقدر على فتحه، وإن لله عز وجل ملكاً يسمى جبريل عسى أنه يقدر على فتحه، قال: فجعل بلوقيا يدعو الله عز وجل باسمه الأعظم من التوراة وتضرع إليه، فأمر الله تعالى جبريل أن يفتح له الباب فنزل جبريل عليه السلام ففتح الباب بيده ثم قال: يا خاطئ ابن الخاطئ ما أجرأك على الله، اخرج.
قال: فخرج ومضى حتى انتهى إلى البحر المالح والبحر العذب فلما بلغ إلى البحرين رأى بينهما حاجزاً وإذا في البحر المالح جبل من ذهب عالي ذاهب في السماء يتلألأ ضوؤه، وفي البحر العذب جبل من فضة عالي في السماء وبين الجبلين خلق كثير كأمثال الغزلان وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله وملائكة على صورة النمل، فلما انتهى إليهم بلوقيا سلم عليهم فردوا عليه السلام وقالوا له: من أنت؟ قال: أنا بلوقيا من ولد آدم، قال: فمن أنتم؟ قالوا: نحن أمنا الله بين البحرين نمنعهما أن يختلطان أو يبغيان، وذلك قوله عز وجل {مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخٌ لا يبغيان} يقول: حجاب لا يختلطان، فقال بلوقيا: أيها الخلق المخلوق ما هذا النمل وما هذا الجبل الأحمر؟ قالوا: هذا كنز الله في الأرض فكل ذهب في الأرض فهو من نسل هذا الجبل وكل ماء مالح من نسل هذا البحر، وأما الجبل الأبيض فهو كنز الله في الإسلام فكل فضة في الأرض فهو من نسل هذا الجبل وكل(1/153)
ماء عذب فهو من نسل هذا البحر، فهذا البحر العذب كان تحت العرش من قبل أن خلق الله تبارك وتعالى السماوات والأرض والملائكة.
قال: فسلم عليهم بلوقيا ومضى حتى انتهى إلى بحر عظيم، فإذا هو بحيتان قد اجتمعن فيه وإذا بينهن حوت عظيم يقضي بينهن، قال: فلما نظرن إلى بلوقيا قلن بأجمعهن: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال: فدنا منهن بلوقيا فسلم عليهن فرددن عليه السلام وسألنه عن حاله ومن هو؟ فقال: أنا من ولد آدم واسمي بلوقيا، فقلن ثانياً: لا إله إلا الله محمد رسول الله ما سمعنا بهذه الأسامي، قال بلوقيا: إني خرجت في طلب هذا الاسم الذي تتكلمون به محمداً وهو رسول رب العالمين وهو من نسل آدم فكيف لا تعرفون آدم؟ فقلن: لو أنك لقيت محمداً صلى الله عليه وسلم فأقره منا السلام كثيراً، قال: نعم إن شاء الله، ثم قال لهن: أيتها الحيتان إني جائع وعطشان وهذا الماء مالح لا أقدر على شربه ولست أجد ما آكل فهل عندكن شيء تطعمنني؟ فقال الحوت الذي يقضي بينهن وهو أكبرهن: أطعمك طعاماً تسير به أربعين سنة لا تعيا ولا تنام ولا تجوع ولا تعطش، قال: فأطعمه الحوت قرصة بيضاء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، فأكل بلوقيا القرص وسلم عليهن ومضى فسار أربعين سنة فلم يجع ولم يعطش ولم يعيى ولم ينم حتى بلغ العمران فحمد الله تعالى ذكره.
فنظر فإذا هو بشاب يمر على الماء ضوؤه كضوء البرق فقال له: من أنت رحمك الله؟ قال: سل الذي خلفي ولا تحبسني، قال: فسار يوماً وليلة فإذا هو بشاب آخر يمر على الماء ضوؤه كضوء الكوكب الدري، فقال له بلوقيا: من أنت؟ قال: سل الذي من خلفي ولا تحبسني، قال(1/154)
فسار يوماً وليلة فإذا هو بشاب آخر يمر على الماء ضوؤه كضوء الشمس، فقال له بلوقيا: سألتك بالله وبوجهه الكريم لما وقفت لي، فقال: ويحك لا تستحلفني، قال: حسبت أن تقول لي مثل ما قالا صاحباك، قال: حاجتك؟ قال: أخبرني من أنت؟ ومن كانا صاحباك؟ قال: الأول إسرافيل صاحب الصور والأخر ميكائيل وهو صاحب الطور والمطر وأرزاق العباد وأنا جبريل رسول رب العالمين، فقال: يا جبريل أين تذهبون؟ قال: إلى اليم، قال: وما تصنعون في اليم؟ قال: إن حية من حيات البحر قد أذت سكانها وقد دعوا الله عليها فاستجاب الله عز وجل دعاءهم فأرسلنا إليها فنسوقها إلى جهنم حتى يعذب الله الكفار يوم القيامة، قال بلوقيا: فكيف هي حتى بعثكم الله تبارك وتعالى ثلاثة من الملائكة يسوقونها إلى جهنم؟ قال جبريل: طولها ثلاثمائة فرسخ وعرضها مائتي فرسخ، فقال بلوقيا: لا إله إلا الله محمد رسول الله قال: فهل في جهنم مثلها أو أكبر منها؟ قال: نعم سبعين ضعفاً لا يعلم عظم خلقها إلا الله الواحد القهار.
وقال: فسلم على جبريل فرد عليه السلام ثم مضى وسار حتى انتهى إلى جزيرة فإذا هو فيها بغلام أمرد قائم بين قبرين يصلي بينهما فسلم عليه بلوقيا، وقال له: من أنت يا شاب؟ قال: أنا صالح، قال: فما هذان القبران؟ قال: أحدهما قبر أمي والآخر قبر والدي كانا صالحين وأنا عند قبريهما حتى أموت إن شاء الله.
قال: فسلم عليه بلوقيا ومضى حتى انتهى إلى جزيرة فإذا هو في الجزيرة شجرة، وعلى الشجرة طير واقع من ذهب أحمر وعيناه من ياقوتتين حمراوتين ومنقاره من ياقوتة خضراء ورجليه من زبرجدة خضراء وذنبه من درة بيضاء وريشه من زعفران وقوائمه من زمرد، وإذا مائدة مهيأة موضوعة تحت تلك الشجرة عليها طعام وحوت مشوي، فسلم(1/155)
بلوقيا على ذلك الطير فرد الطير عليه السلام، فقال بلوقيا: أخبرني أيها الطير من أنت؟ فإني لم أر طيراً أحسن منك؟ قال: أنا طير من طيور الجنة وإن الله عز وجل كان بعث إلى آدم بهذه المائدة حين أهبط من الجنة فكنت معه حتى لقي حواء فوكلني الله عليها فكان آدم وحواء عليهما السلام يأكلان منها وأنا هاهنا منذ ذلك، فكل غريب يمر بي يأكل من هذه المائدة فأنا أمين عليها إلى يوم القيامة، قال له بلوقيا: لم ينقص من هذا الطعام ولم يتغير؟ قال الطير: إن طعام الجنة لا ينقص ولا يتغير أبداً، قال: فكل منها ما شئت.
قال: فأكل منها حاجته ثم قال: أيها الطير هل معك أحد هاهنا؟ قال: نعم، معي أبو العباس يأتيني أحياناً، قال بلوقيا: ومن أبو العباس؟ قال: الخضر عليه السلام، فلما ذكر اسمه إذا هو بالخضر قد أقبل وعليه ثياب بيض كلما خطا خطوة نبت في موضع قدميه الحشيش واخضر وكلما جلس اخضر مكانه وحول قدميه، فسلم على بلوقيا فرد عليه السلام فسأله الخضر عن حاله فأخبره بجميع حاله وأموره وما رأى من العجائب فيما طلب من أثر النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
فسأل الخضر أن يرده إلى أهله وأمه، فقال له الخضر: إن بينك وبين أمك خمس مائة عام ارحل بك في خمس مائة شهر، فقال الطير: إن كان بينك وبين أمك مسيرة خمس مائة شهر أرحل بك في خمسمائة يوم، فقال الخضر: إن كان بينك وبين أمك مسيرة خمسمائة يوم رحلت بك في عشرة أيام، فقال الطير: إن كان بينك وبين أمك مسيرة عشرة أيام رحلت بك في يوم واحد، فقال الخضر: إن كان بينك وبين أمك مسيرة يوم واحد رحلت بك في ساعة واحدة.
ثم قال الخضر لبلوقيا: غمض عينيك، فغمض عينيه ثم قال: افتح(1/156)
عينيك ففتحهما فإذا هو عند أمه جالس، وكان بينه وبين أمه مسيرة خمسمائة عام، فقال بلوقيا لأمه: من جاء بي هاهنا؟ قالت: جيء بك على متن طير أبيض يطير بك بين السماء والأرض فوضعك قدامي.
فخرج بلوقيا إلى بني إسرائيل فجعل يجلس لهم كل يوم ويحدثهم بما رأى وعاين من العجائب وهم يكتبون عنه حتى كتبوا عنه ذلك وأثبتوه عندهم يقرأ في كتبهم إلى الساعة ويتحدثون به، وكتبوا عجائبه في أربعين سنة، وعاش بلوقيا ألف سنة واثنين وعشرين سنة فيما روي لنا، والله أعلم.
والعلم عند الله ولا يعلم الغيب إلا الله لأن له العلم الكامل، والسناء والقدرة التامة لله جل جلاله، وصلى الله على محمد المصطفى وآله أجمعين وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً، فهذا ما كان من حديث بلوقيا وما رأى من الآيات والعجائب.(1/157)
[7] فصلٌ: في ما جاء في الكتب المتقدمة من التنويه بشرفه صلى الله عليه وسلم والتعريف بفضله وفضل أمته
11- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل: ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويغفر.
12- وقالت أم الدرداء لكعب: يا كعب كيف تجدون رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/158)
في التوراة؟ فقال: نجده محمد رسول الله، ليس بفظ ولا غليظ ولا بصخاب في الأسواق، أعطي الفواتح ليبصر الله به أعيناً عوراً، ويسمع به آذاناً وقراً، ويقيم به ألسنة معوجة، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه، لا يتزين بالفحش ولا يقول الخنا، بكل جميل ذاهب، له خلق كريم، جعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبعه، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به من الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمول، وأمسي به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأولف به بين قلوب مختلفة وأهواء مشتتة وأمم متفرقة، أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويوحدونني إيماناً وإخلاصاً،(1/159)
يصلون لي قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، ويقاتلون في سبيلي صفوفاً وزحوفاً، يخرجون من أموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التكبير والتحميد والتمجيد والمدحة والتهجد في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤس الأشراف ويطهرون لي الوجوه والأطراف، ويقصرون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل ليوث بالنهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم.
13- وروى روح، عن سعيد، عن قتادة في قوله عز وجل:(1/160)
{قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء} الآية، قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فأنزل الله عز وجل: {فسأكتبها للذين يتقون} الآية، يعني: معاصي الله {ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} الآية، قال: فتمنتها اليهود والنصارى، فأنزل الله عز وجل شرطاً وثيقاً فقال {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي} الآية، وهو نبيكم صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يكتب، قال الله عز وجل {الذي يجدونه مكتوباً عندهم} الآية، أي يجدون نعته وأمره مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} الآية.
14- ومن فضله صلى الله عليه وسلم ما رواه مقاتل بن سليمان قال:(1/161)
وجدت مكتوباً في الزبور، إني أنا الله لا إله إلا أنا، محمد رسولي إلى العرب، فيقهر العجم، ويفتح مشارق الأرض إلى مغاربها، وهو خير الأنبياء وسيدهم، وأفضل الخلق وأكرمهم علي، فطوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه، وطوبى لمن هاجر معه، وطوبى لمن اقتدى به.(1/162)
15- عن ابن عباس قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى آمن بمحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، .. .. .. ..(1/163)
ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش(1/164)
على الماء فاضطرب، فكتبت عليه: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله، فسكن.
16- روى زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما اقترف آدم الخطيئة رفع رأسه إلى العرش، وقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فقال الله تعالى: يا آدم كيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت على ساق عرشك مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقلت: إنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق(1/165)
لديك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك.
17- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: لما أعطى الله تعالى موسى عليه السلام الألواح نظر فيها، فقال: إلهي لقد أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحداً قبلي، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى أتدري لم فعلت؟ قال: لا يا رب، قال: لأني نظرت إلى قلوب خلقي فلم أر قلباً أشد تواضعاً لي من قلبك، فلذلك اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فخذ ما آتيتك بجد ومواظبة وكن من الشاكرين أي: مت على التوحيد وعلى حب محمد صلى الله عليه وسلم .
قال موسى عليه السلام: ومن محمد يا رب؟ قال: الذي كتبت اسمه على ساق العرش قبل أن أخلق السماوات والأرضين بألفي عام، محمد رسولي وحبيبي وخيرتي من خلقي.
قال: يا رب فإن كان محمد أكرم عليك من جميع خلقك فهل في(1/166)
الدنيا أكرم من أمتي، ظللت الغمام عليهم، وأنزلت عليهم المن والسلوى؟ قال: إن فضل محمد على سائر الأنبياء كفضل الأنبياء على الأمم كلهم.
قال موسى: يا رب ليتني أراهم، قال: إنك لن تراهم، أفتحب أن تسمع كلامهم وأصواتهم؟ قال: نعم يا رب.
قال: فنادى ربنا تبارك وتعالى: يا أمة محمد، فأجابوه كلهم من أصلاب الآباء والأرحام: لبيك اللهم لبيك، إلى آخر التلبية، فجعل الله تعالى تلك الإجابة شعاراً للحاج.
ثم نادى ربنا تعالى: يا أمة محمد صلاتي عليكم، ورحمتي عليكم، ومغفرتي لكم، إن رحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق عقابي، قد أعطيتكم قبل أن تسألوني، واستجبت لكم قبل أن تدعوني، وغفرت لكم قبل أن تعصوني، من لقيني بشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله أدخلته جنتي ولو كانت ذنوبه مثل زبد البحر.
فلما بعث الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أحب أن يمن عليه بما أكرم به أمته فقال: يا محمد {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} أمتك بالكرامة.(1/167)
18- وقال الله تعالى لموسى: يا موسى بلغ بني إسرائيل أنه من رد على أحمد شيئاً -وإن كان حرفاً- أدخلته النار مسحوباً.
يا موسى ركعتان يصليهما محمد صلى الله عليه وسلم وأمته بين طلوع الفجر وطلوع الشمس أغفر لهم ما أصابوا في يومهم وليلتهم، ويكون في ذلك اليوم في ذمتي، ومن مات وهو في ذمتي فلا ضيعة عليه.
19- ولما أخذ موسى الألواح قال: رب أرى في اللوح صفة(1/168)
محمد وأمته فمن هم؟ قال: كيف رأيت صفتهم يا موسى؟
قال: رأيت أمة إنك تثيبهم بحسن نياتهم من غير أن يفعلوا شيئاً! قال الله تعالى: هي أمة في آخر الأمم.
قال موسى: فأرى أمة السيئة منهم تجزى بواحدة، والحسنة بعشرة، قال: يا موسى هي أمة في آخر الزمان.
قال: اللهم أرى صفة أمة تغفر ذنوبهم ما بين فريضة إلى فريضة، قال الله: يا موسى هي هذه الأمة في آخر الزمان.
قال: إلهي أرى أمة يغزون، قال: هي أمة في آخر الأمم، قال: إلهي أرى صفة أمة أن الجنة حرام على سائر الأمم حتى تدخلها تلك الأمة، قال: يا موسى هي هذه الأمة في آخر الزمان.
قال: إلهي لمن هذه الأمة؟ قال: لنبي يقال له محمد صلى الله عليه وسلم .
قال موسى: إلهي اجعل هذه الأمة من أمتي، قال الله: يا موسى إن محمداً أولى بهذه الأمة.
قال موسى: إلهي محمداً أفضل مني؟ قال الله: يا موسى إن منزلة علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم كمنزلة الأنبياء، وإن منزلة عامة أمته كمنزلة علماء الأمم، وإن فضل محمد عليك كفضلك على أمتك .. وذكر الحديث بطوله.
20- ويقال: إن موسى عليه السلام قال: إلهي اصطفيتني وكلمتني فهل جعلت درجتي لنبي بعدي؟ فأوحى الله جل جلاله إليه: يا موسى خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، فوعزتي لأبعثن نبياً تدخل أنت وأمتك بشفاعته الجنة.(1/169)
21- قال وهب بن منبه: لما أخذ موسى عليه السلام الألواح من ربه نظر فيها، فإذا فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فقال موسى عليه السلام: أي رب كيف أقرأ الألواح على أمتي وفيها فضل محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؟ كيف أمن عليهم بفضل غيرهم؟
قال الله تبارك وتعالى: يا موسى وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني فوق خلقي إني لا أرضى عن عبد لا يقبل فضل محمد صلى الله عليه وسلم ولا يقر به، ولا يعلم أنه أفضل الخلائق عندي، وأقسم بعزتي لأظهرن ما كتبت لكم في التوراة أن محمداً عبدي ورسولي، وما أعطي عيسى في الإنجيل، فإن أقر جميع خلقي بذلك، وإلا سلطت على المنكرين لفضله وفضل أمته(1/170)
ملائكتي ولأضربنهم بالصواعق، وكان ذلك نكالي عليهم.
يا موسى إن فاتحة التوراة بصفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وإن خاتمة الإنجيل بصفة أصحابه، وإن فاتحة الزبور: محمد رسول الله خير من تظله السماء، وإنه صاحب الملحمة، ونبي الرحمة، وقائد الغر المحجلين، وإمام المتقين، ونور العباد، وربيع البلاد، ومعدن الخير، وكهف العلم، ومعدن الحكمة.
واعلم يا موسى أن محمداً عبدي المختار، لا فظ ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ملكه بالشام ومولده بمكة، وداره المدينة، وجنده الأنصار، يركب الناقة العضباء، من اتبعه اهتدى، ومن خالفه ضل.
22- ومما فضله الله تعالى به أنه عز وجل نعته في التوراة إلى موسى فقال سبحانه: يا موسى احمدني إذ مننت عليك بالإيمان بأحمد، فوعزتي لو لم تقبل الإيمان بأحمد ما جاورتني في داري، ولا تنعمت في جنتي.
يا موسى جميع المرسلين آمنوا بمحمد وصدقوه واشتاقوا إليه كذلك من يجيء من المرسلين بعدك.
يا موسى من لم يؤمن بأحمد من جميع المرسلين رددت عليه حسناته، ومنعته حفظ الحكمة، ونزعت عنه نور الهدى، ومحوت اسمه من ديوان الأنبياء.
يا موسى أحبب لأحمد ما تحب لنفسك، وأحبب لأمته ما تحب لأمتك، أجعل لك ولأمتك في شفاعته نصيباً.(1/171)
23- وقال الله تبارك وتعالى: يا موسى أتريد أن أكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك، ومن وساوس قلبك إلى قلبك، ومن روحك إلى بدنك، ومن نور بصرك إلى عينيك؟ قال: نعم يا رب، قال: فأكثر الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأبلغ جميع بني إسرائيل أنه من لقيني وهو جاحد لأحمد سلطت عليه الزبانية في الموقف، وجعلت بيني وبينه حجاباً لا يراني.
يا موسى بلغ بني إسرائيل أن أحمد بركة ورحمة ونور لمن صدقه -رآه أو لم يره- أحببته أيام حياته، ولم أوحشه في قبره، ولم أخذله في القيامة، ولم أناقشه الحساب في الموقف، ولم تزل قدمه على الصراط.
يا موسى إن أحب الخلق إلي من لم يكذب أحمد ولم يبغضه.
يا موسى إني آليت على نفسي قبل أن أخلق السماوات والأرض والدنيا والآخرة أنه من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صادقاً من قلبه كتبت له براءة من النار قبل أن يموت بعشرين ساعة، وأوصيت ملك الموت بقبض روحه، وأن يكون أرفق به من والدة رحيمة، وأوصيت به منكر ونكيراً إذا دخلا عليه فسألاه بعد موته أن لا يروعانه.
يا موسى قل لبني إسرائيل: لا ينفعكم إيمانكم بالتوراة وموسى وبالإنجيل وعيسى حتى تقروا لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه من القبيلة المباركة بني هاشم، وإنه المبعوث إلى الأمة المرحومة، وإنه خطيب من وافى يوم القيامة، وشفيع من لم يكن له وسيلة، وإن الرحمة تنزل في زمانه ودولته، وتنزل البركات، ومولده في أفضل الأيام، ومتوسده عند فراقه الدنيا روضة من رياض الجنة، وإن دينه خير الأديان، على دين المرسلين قبله، وشرائعه أسهل الشرائع، وأتباعه خير أتباع المرسلين، وإن بين كتفيه خاتم النبوة، وإن شعاره البر والصدق، والعدل والإنصاف، وإن لباسه(1/172)
التقوى، ودار هجرته طيبة -وهي يثرب- وإن وزيره الصديق والفاروق، وإن حواريه طلحة والزبير، وإني جعلت خليفته أبا بكر الصديق صديقاً في علم الغيب، صديقاً في السماء والأرض، وإن عمر بن الخطاب تزف إليه الشهادة، وعثمان بن عفان يمشي شهيداً على وجه الأرض، وستفتح خلافة محمد صلى الله عليه وسلم بأبي بكر، وتختم خلافته بعلي بن أبي طالب.
24- وقال الله تبارك وتعالى لموسى بن عمران: يا موسى إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة مرحومة، يرحم بعضهم بعضاً، ورحمتي عليهم واسعة، وعذابي عنهم بعيد باعدة، ونعمائي عليهم باسطة، وذنوبهم مغفورة، وحسناتهم مقبولة، وسعيهم مشكور، ومن أوفى بالعهد مني يا موسى؟
من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدقه أولئك هم الفائزون، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وكذبه من جميع خلقي أولئك هم الخاسرون، أولئك هم النادمون، أولئك هم الغافلون.
25- ومما فضله الله تعالى به أنه أوحى في الإنجيل إلى عيسى: يا ابن مريم البكر البتول إني موصيك بسيد المرسلين -وحبيبي منهم- أحمد صاحب الجمل الأحمر، والوجه الأقمر، المشرق الأنور بالنور الظاهر، والقلب الطاهر، سيد الناس، الحي المكرم، فإنه رحمة للعالمين، سيد ولد آدم عندي، ويوم يلقاني أكرم الناس علي، وأقرب المرسلين، النبي العربي الأمي، الديان بديني، والصابر في ذاتي، المجاهد للمشركين بيده، آمرك أن تخبر بني إسرائيل أن يصدقوا به،(1/173)
ويؤمنوا به، ويتبعوه وينصروه، يا عيسى ارضه فإن لك الرضا، فقال: اللهم رضيت.
قال: هو محمد رسولي إلى الناس كافة، أقربهم مني منزلة، وأحضرهم عندي شفاعة، يحمده أهل الأرض، ويستغفر له أهل السماوات، أمين مأمون، طيب مطيب، في خير خلق في آخر الزمان، أخرجته بوحي السماء والأرض، البركة في زمانه، كثير الأزواج، قليل الأولاد، يسكن مكة موضع أساس إبراهيم فامهد لنفسك واكدح لها، وارتد لها ليوم حاجتك.
26- ومكتوب في التوراة: إن الله تبارك وتعالى قال لإبراهيم عليه السلام: أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه وكثرته وعظمته جداً جداً، وجعلته لأمة عظيمة.
27- ويقال: إنه مكتوب في زبور داود عليه السلام: اللهم ابعث إلينا مقيم السنة ليعلم الناس أنه بشر.(1/174)
قال أبو سعد رحمه الله: وهذا إخبار عن المسيح عليه السلام وعن محمد صلى الله عليه وسلم ، يريد: ابعث لنا محمداً حتى يعلم الناس أن المسيح بشر.
28- وروي أن هاجر لما هربت من سارة نزلها ملك فقال لها: يا هاجر أمة سارة ارجعي إلى سيدتك، واخضعي لها فإن الله سيكثر ذريتك، إنك تلدين غلاماً وتسميه إسماعيل، لأن الله قد سمع خشوعك، وخضوعك، ويكون يده فوق الجميع، وأيدي الجميع مبسوطة إليه بالخضوع.
وكانت النبوة والرسالة في ولد إسحاق، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم(1/175)
انتقلت النبوة إلى ولد إسماعيل، فدانت له الجبابرة، وخضعت له الملوك، وانقادت لشريعته الأمم، فصارت يده فوق أيدي الجميع، وأيدي الجميع مبسوطة إليه بالخضوع.
29- ويقال: إن إبراهيم الخليل عليه السلام قال: يا رب قد أعطيت النبوة والملك لشعب إسحاق، فما أنت صانع لإسماعيل؟ قال: أخلق من ظهر إسماعيل عدد كواكب السماوات ورمل الفلوات، وأبعث من ولد إسماعيل نبياً أرفع ذكره، فلم يدر ما رفع ذكره حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وجاء بالأذان فقرن اسمه باسمه فقال عز ذكره: {ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك. الذي أنقض ظهرك. ورفعنا لك ذكرك}.
30- ويروى عن المسيح أيضاً أنه قال: الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة -ولا يقول من تلقاء نفسه شيئاً(1/176)
ولكنه بما يسمع به يكلمكم- ويسوسكم بالحق، ويخبركم بالحوادث والغيوب -يعني: مثل: خروج الدجال، وظهور الدابة، وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك-.
31- وقال وهب بن منبه: كان إبراهيم خليل الرحمن، كثير الصلاة والصيام.. وذكر الحديث إلى أن قال: خرج إبراهيم عليه السلام يوماً يرتاد لماشيته الكلأ، فإذا هو برجل في جبل من جبال إيليا يقدس الله ويهلله ويمجده ويسبحه ويكبره، فقصده وسلم عليه، وقال له: من ربك؟ قال: الذي في السماء، قال: فمن رب الأرض؟ قال: الذي في السماء، قال: ألها رب غيره؟ قال: لا، ونظر إلى قبلته، فإذا قبلته قبلة إبراهيم، فقال له إبراهيم: يا عبد الله أي الأيام أشد هولاً وأعظم؟ قال: يوم الدين، يوم يضع الله الكرسي للحساب،(1/177)
ثم أمر جهنم في ذلك اليوم فتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مصطفى إلا خر لوجهه صعقاً تهمه نفسه غير النبي العربي الأمي صاحب الرداء والإزار، والسيف، والسوط، والعصا والبعير، والحمار والفرش، فقال له إبراهيم: من تعني؟ قال: أعني نبياً بينك وبينه زمان بعيد، ذلك خير الأنبياء والرسل، وخاتم الأنبياء، اسمه: أحمد ومحمد، وفارقليط، يفرق بين الحق والباطل، ومحمود وأمين ويتيم، وصادق، له أسماء كثيرة، لا يضرب بسيفه ولا بعصاه إلا في سبيل الله، به يظهر التوحيد في الأرض، ويكثر ويفشو، أمته الحمادون لله.
32- وقال وهب بن منبه: ذكر الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بأحسن الذكر، وأثنى عليه بأفضل الثناء، فقال: وضاح الجبين، براق الثنايا، يتلألأ لونه تلألؤ الذهب الأحمر، أكحل العينين، كأن جمان الماء حين يتحدر من وجهه اللؤلؤ المنظوم .. .. بأصل الحكمة، وتعطى أمته فروعها، ويأمر بني إسرائيل بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم آصارهم التي آصروا فيها أنفسهم والأغلال التي كانت عليهم، صلاته رأفة وحكمة وحلم وعلم، يملأ الأرض خيراً، ويعمها نفعاً ولا يضرها، ولا يقرع بعصاه ولا بسوطه ولا بسيفه إلا في سبيل الله، اسمه: أحمد العربي الأمي، الذي مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، يظهر التوحيد في الأرض، والتسبيح والتكبير والتحميد، وبه يكثر ويفشو، أمته الحمادون، الموحدون، خير أمة أخرجت للناس.(1/178)
33- وروي عن سهل بن عبد الله أنه قال: لما أراد الله تعالى أن ينفخ في آدم الروح نفخه باسم محمد، وكناه أبا محمد، وليس في الجنة(1/179)
ورقة من أوراق الجنة إلا مكتوب عليها اسم محمد، ولا غرست شجرة في الجنة إلا باسم محمد وبه الابتداء.(1/180)
[8] فصلٌ: في قصة الفيل وما جرى بين عبد المطلب وأبرهة الأشرم
قال أبو سعد رحمه الله:
34- ولقد رأى عبد المطلب من نور محمد صلى الله عليه وسلم عجباً عجيباً يوم قدم أبرهة بن الصباح لهدم بيت الله الحرام فبلغ ذلك عبد المطلب فقال: معاشر قريش لا يصل إلى هدم هذا البيت أحد، لأن لهذا البيت في السماء رباً يحفظه، فجاء أبرهة ونزل بفناء مكة واستاق إبلاً وغنماً لقريش، واستاق فيما استاق أربعمائة ناقة لعبد المطلب، فلما بلغه ذاك ركب في نفر من قريش فلما صار إلى جبل ثبير استدارت غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبينه كالهلال وردت شعاعها على بيت الله الحرام مثل السراج إذا وقع على الجدار، فلما نظر عبد المطلب إلى ذلك النور قال: معاشر قريش ارجعوا فقد كفيتم، فوالله ما استدار هذا النور مني قط إلا كان الظفر، ولا وقع على شيء كما وقع على هذا البيت إلا منع(1/181)
الضيم، فرجعوا فبلغ ذلك أبرهة في الصباح فغضب لذلك فبعث إليه رجلاً من قومه، يقال له حناطة الحميري -وكان يهزم جيشاً وحده- فأقبل يسير حتى دخل مكة، فسأل عن كبير الناس بها فقالوا: عبد المطلب، فلما دخل نظر إلى وجهه فتلجلج لسانه، وخر مغشياً عليه وخار كما يخور الثور عند ذبحه، فلما أفاق خر ساجداً لعبد المطلب فقال: أشهد أنك سيد قريش حقاً.
ويروى أن أبرهة بعثه ليسأل عن سيد أهل البلد، وقال: قل له: إن الملك يقول: إني جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا لي بقتال فلا حاجة لي بدمائكم، فلما سأل عن سيد قريش قيل: عبد المطلب، فأخبره بما قال أبرهة فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، هذا بيت الله الحرام، وإن للبيت رباً يحميه، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخلي بينكم وبينه فما عندنا دفع.
فلما أدى الرسالة قام عبد المطلب فركب في نفر من قريش فلما أن توسط العسكر سعى سعياً حتى دخل على الملك وقال: قد جاءكم اليوم سيد قريش حقاً، قال: ويلك كيف علمت ذلك؟ قال: لأني لم أر في الآدميين أجمل منه، فأخذ أبرهة زينته ثم أذن لعبد المطلب حتى دخل عليه فأخذ بكلتا يديه وأجلسه على سرير ملكه، وأقبل الملك على وجه عبد المطلب ثم قال: هل كان في آبائك من كان له مثل هذا النور والجمال؟ فقال عبد المطلب: نعم، كل آبائي كان لهم هذا النور والبهاء، فقال الملك أبرهة: فأنتم قوم قد فاخرتم الملوك وقد حق لك أن تكون سيد قومك.
ويروى أن عبد المطلب لما جاء إلى عسكر أبرهة طلب صديقاً له(1/182)
يقال له: ذو نفر، فسأل عنه فإذا هو في الحبس، فوجده محبوساً، فقال له عبد المطلب: يمكنك أن تتشفع إلى الملك؟ فقال ذو نفر: ما غنى رجل أسير بيد الملك ينتظر أن يقتله بكرة أو عشياً، ولكن إن سايس الفيل صديق لي أوصيه بك، قال: حسبي، فأرسل إلى أنيس سايس الفيل وقال: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والجبل والوحوش في رؤس الجبال، فجاء إليه واستأذن على الملك، فلما رآه أكرمه، ونزل عن سريره وأجلسه مع نفسه، فقال الترجمان له: إنه قد أخذ له أربعمائة إبل، فقال أبرهة لترجمانه: قل له: تسألني أربعمائة إبل وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك؟ فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه، فقال: ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك.
35- وقيل: إنهم عرضوا ثلث أموال تهامة على أبرهة ليرجع ولا يهدم البيت فأبى، وقام عبد المطلب وأخذ بحلقة باب الكعبة وقال:
يا رب إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك ...(1/183)
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك ...
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمرٌ ما بدا لك ...
ولئن فعلت فإنه أمر تتم به فعالك ...
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، فانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال محزونين.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ الفيلة وعبأ جيشه، وكان اسم الفيل محموداً، وكان من عزم أبرهة هدم البيت والرجوع إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل فالتقم أذنه فقال: ابرك محمود فارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه، وخرج نفيل حتى صعد الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، ووجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك.(1/184)
36- وقيل: إنما لما دخل عبد المطلب على أبرهة ملك الحبشة التفت إلى سايس الفيل -وكان فيلاً عظيماً، أبيض له نابان مرصعان بأنواع الجواهر والدر، وكان يباهي بذلك الفيل ملوك الأرض، وكان ذلك الفيل لا يسجد للملك أبرهة بن الصباح كما يسجد له سائر الفيلة- فقال الملك لسايس الفيل: أخرجه، فأخرجه وقد زين بكل زينة على وجه الأرض، فلما نظر الفيل إلى وجه عبد المطلب خر ساجداً ونادى بلسان الآدميين: السلام عليك أيها النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب، معك العز والشرف، لن تذل ولن تغلب، فلما نظر الملك إلى ذلك وقعت عليه الرعدة وظن أن ذلك سحر، فبعث إلى كل ساحر في مملكته فجمعهم وقال: الويل لكم، حدثوني عن هذا الفيل، لم سجد لعبد المطلب؟ قالوا: إنه لم يسجد له، وإنما سجد لنور يخرج من ظهره في آخر الزمان يقال له: محمد صلى الله عليه وسلم يملك الدنيا ويذل ملوك الأرض ويدين بدين صاحب هذا البيت -إله إبراهيم- وملكه أعظم من ملك أهل الدنيا، فائذن لنا أن نقبل يديه ورجليه، فأذن لهم، فقامت السحرة فقبلوا يدي عبد المطلب ورجليه، وقام الملك وحيداً متواضعاً فقبل رأس عبد المطلب، وأمر له بجزيل الجائزة، ورد عليه وعلى قريش ما أخذ منهم، فأرسل الله تعالى عليه وعلى عسكره طيراً أبابيل جاءت من نحو البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طير منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه مثل الحمص والعدس، فرمت القوم بحصى أذن الله عز وجل أن تأخذه بمناقيرها وأرجلها من قعر جهنم وترمي بها، فكانت الحصى تقع على رأس الرجل وتخرج من دبره، ويصل إلى ظهر فرسه ويخرج من بطنه، ويصل إلى الأرض فلا يزال يخرق الأرضين إلى السابعة، ودمر الله قومه أجمعين.(1/185)
فأصيب بعضهم وخرج بعضهم يهلكون في الطرق، يسألون عن نفيل ابن حبيب ليدلهم على طريق اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله تعالى بهم من النقمة:
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب غير الغالب
وقال أيضاً:
حمدت الله إذ عاينت طيراً ... وخفت حجارة تلقى علينا
وكل الناس يسأل عن نفيل ... كأن علي للحبشان دينا
وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم تسقط منه أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة أتبعتها منه مدة وصديد وقيح حتى سقطت منه كلها، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون.(1/186)
37- ويقال: إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رؤي بها من الشجر: الحنظل والحرمل، ويقال: إن حمام اليمامة من نسل ذلك الطير.
38- وقيل: إن الحر الذي بقي بالحجاز من حرارة ذلك.
39- وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت قائد الفيل وسايسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان.(1/187)
[9] فصلٌ: في بشارة سيف بن ذي يزن بالنبي صلى الله عليه وسلم وإخباره عبد المطلب بأمره
40- فلما هلك أبرهة ملك الحبشة، ملك يكسوم، ثم بعد يكسوم أخوه مسروق بن أبرهة فقتله الفرس، وملك سيف بن ذي يزن.
فكان بعد ذلك أن عظمت العرب قريشاً وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عددهم.
فخرجت وفود العرب لتهنئة سيف بن ذي يزن، فأكرمهم وفضل قريشاً عليهم وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، وكان فيهم عبد المطلب بن هاشم فدخلوا عليه، فدنا عبد المطلب فاستأذن للكلام فقال له: إن كنت ممن تتكلم بين يدي الملوك فتكلم، فابتدأ الكلام فقال:(1/188)
إن الله جل وجلاله أحلك أيها الملك محلاً رفيعاً، صعباً منيعاً، شامخاً باذخاً، وأنبتك من منبت من عزت أرومته، وطابت جرثومته، سلفك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل ذكر من أنت سلفه، أخرجنا إليك الذي أبهجنا من كشف الكرب، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة.
قال: فأيهم أنت أيها المتكلم؟ فقال: أنا عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف، قال: ابن أختنا؟ قال: نعم.
فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحباً وأهلاً، وناقة ورحلاً، ومستناخاً سهلاً .. ..(1/189)
وملكاً ربحلاً، تعطى عطاء جزلاً، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فأنتم أهل الليل والنهار، لكم الكرامة ما أقمتم، والحبا إذا ظعنتم.
ثم أنهضوا إلى دار الضيافة والوفود، فأقاموا شهراً لا يصلون إليه ولا يأذن لهم في الانصراف، قال: وأجريت عليهم الأموال، ثم انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب، فأدناه وأخلى مجلسه ثم قال: يا عبد المطلب إني مفوض إليك من سر علمي أمراً لو كان غيرك لم أبح به لكني وجدتك معدنه فأطلعتك طلعه وليكن عندك مطوياً حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ فيه أمره، إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، الذي اختزناه لأنفسنا، واحتجبناه دون غيرنا، خبراً جسيماً، وخطباً عظيماً، فيه شرف الحياة، وفضيلة الممات للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة، فقال عبد المطلب: أيها الملك مثلك سر وبر، فما هو فداك أهل المدر زمراً بعد زمر؟، قال: إذا ولد بتهامة، غلام به علامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة، إلى يوم القيامة. فقال له عبد المطلب: أبيت اللعن، لقد أبت بخيرٍ ما آب بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإعظامه وإجلاله لأخبرته من شأنه ما ازداد به سروراً.(1/190)
قال الملك: هذا حينه الذي يولد فيه -أو قد ولد- اسمه محمد، بين كتفيه شامة، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه، وأعداؤه يكيدونه مراراً، والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم الأرض، يعبد الرحمن، ويدحض الشيطان، ويكسر الأوثان، ويخمد النيران، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويطلبه.
فقال له عبد المطلب أيها الملك عز جدك، ودام ملكك، وعلا كعبك، فهل الملك سارني بإفصاح، فقد وضح لي بعض الإيضاح؟
قال الملك سيف بن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، إنك يا عبد المطلب لجده غير الكذب.
قال: فخر عبد المطلب ساجداً، فقال الملك: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك، فهل أحسست بشيء مما ذكرت لك؟
قال: نعم أيها الملك، إنه كان لي ابن، وكنت به معجباً، وعليه رفيقاً، وإني زوجته كريمة من كرائم قومي، آمنة بنت وهب بن عبد مناف ابن زهرة، فجاءت بغلام فسميته محمداً، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه.
قال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحفظه، واحذر(1/191)
عليه من اليهود، فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تتداخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرئاسة، فينصبون له الحبائل، ويبغون له الغوائل، وإنهم فاعلون ذلك أو أبناؤهم غير شك، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير يثرب دار ملكي، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب استحكام أمره، وأهل نصرته، وموضع قبره، ولولا أني أقيه من الآفات، وأحذر عليه من العاهات لأوطأت أسنان العرب كعبه، ولأعليت على حداثة سنه أمره، ولكني صارف ذلك إليك عن غير تقصير بمن معك.
ثم أمر لكل واحد منهم بمائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشر إماء، وعشرة أرطال ذهب، وعشرة أرطال فضة، وكرش مملوءة عنبراً، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، ثم قال: ائتني بخبره وما يكون من أمره عند رأس الحول، فكان عبد المطلب يقول: أيها الناس لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد، ولكن ليغبطني بما يبقى لي ولعقبي شرفه وذكره وفخره، فإذا قيل له: وما ذاك؟ قال: لتعلمن ولو بعد حين.(1/192)
[10] فصلٌ: في ذكر من تسمى في الجاهلية باسمه رجاء أن تدركه النبوة لما سمعوا من بشائر خروجه صلى الله عليه وسلم
41- سئل محمد بن عدي بن ربيعة بن سواءة بن جشم: كيف سماك أبوك محمداً؟ فقال: أما إني قد سألت عما سألتني عنه، فقال: إني خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا أحدهم، وسفيان بن مجاشع بن دارم، ويزيد بن عمرو بن خاينة بن حرقوص، وأسامة بن مالك، نريد ابن جفنة(1/193)
الغساني، قال: فلما قدمنا الشام نزلنا على غدير فيه شجرات وقربه ديراني، فسمع الديراني كلاماً فصيحاً لا يشبه كلامهم، فقال: إن هذه اللغة ما هي لأهل هذا البلد، قلنا: نعم، نحن قوم من مضر، قال: من أي مضر؟ قال: من خندف، قال: أما إنه سيبعث فيكم وشيكاً نبي فسارعوا وخذوا حظكم منه ترشدوا، فإنه خاتم النبيين، واسمه محمد صلى الله عليه وسلم .
قال: فلما انصرفنا وصرنا إلى أهلينا ولد لكل رجل منا غلام فسميناه محمداً.
قال أبو سعد رحمه الله: وإنما حملهم على هذه التسمية السبب الذي ذكر، وذلك لما أخبرهم الديراني بالأمر العظيم، تنافسوا فيه إما تبركاً وتيمناً، وإما تمنياً أن يكون هو ذلك الرجل لما علموا أن هذا اسم ليس له في العالم سمي، فبادروا إليه تأويلاً لأحد الأمرين اللذين ذكرنا، والله أعلم.(1/194)
[11] فصلٌ: ذكر حديث سواد بن قارب الأزدي في سبب إسلامه وقدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم
42- أخبرنا الشيخ أبو العباس: إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال -فيما قرئ عليه-، أنا أبو الحسن: علي بن(1/198)
سعيد بن عبد الله العسكري، ثنا محمد بن الحسين بن معدان، ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، .. .. .. ..(1/199)
ثنا الحكم بن يعلى بن عطاء المحاربي، ثنا أبو معمر: عباد بن عبد الصمد قال: سمعت سعيد بن جبير يقول:
أخبرني سواد بن قارب الأزدي قال: كنت نائماً على جبل من جبال السراة فأتاني آت فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، أتاك رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب.
قال: فاستويت قاعداً فأدبر وهو يقول:
عجبت للجن وأرجاسها ... ورحلها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صالحوها مثل أنجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها(1/200)
قال: ثم عدت فنمت، قال: فعاد فضربني برجله وقال: قم يا سواد ابن قارب أتاك رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب.
فاستويت قاعداً، فأدبر وهو يقول:
عجبت للجن وتخبارها ... ورحلها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل كفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها
قال: ثم عدت فنمت، فأتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، أتاك رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب.
فاستويت قاعداً، فأدبر وهو يقول:
عجبت للجن وتطلابها ... ورحلها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادقوها مثل كذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها كأذنابها
قال: فأصبحت فقعدت على بعيري حتى أتيت مكة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر بها، فأخبرته الخبر وبايعته صلى الله عليه وسلم .(1/201)
43- ويروى أن سواد بن قارب لما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشأ يقول:
أتاني نجيي بعد هدء ورقدة ... ولم يك فيما قد تلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة: أتاك ... رسول الله من لؤي بن غالب
فشمرت عن ذيلي الإزار ووسطت ... بي الزعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا إله غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
قال: ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مقالتي فرحاً شديداً.(1/202)
44- وبينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم جالس إذ مر به رجل، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المار؟ قال: ومن هذا؟ قالوا: هذا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال: فأرسل إليه عمر فقال له: أنت الذي أتاك رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، قال: أخبرني بإتيانك رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: نعم يا أمير المؤمنين، بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان أتاني آت فضربني برجله .. .. وذكر الحديث.(1/205)
45- وعن يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي أن رجلاً مر على مجلس بالمدينة فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنظر إليه عمر فقال: أكاهن أنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين قد هدى الله بالإسلام كل جاهل، ورفع بالحق كل باطل، وأقام بالقرآن كل مائل، وأغنى بمحمد صلى الله عليه وسلم كل عائل.
فقال عمر: متى عهدك بها؟ -يعني صاحبته- قال: قبيل الإسلام، أتتني فصرخت يا إسلام، يا إسلام، الحق المبين، والخير الدائم، غير حلم النائم، الله أكبر.
فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين أنا أحدثك مثل هذا، والله إنا لنسير في دوية ملساء، لا يسمع فيها إلا الصدى، إذ نظرنا فإذا راكب مقبل أسرع من الفرس، حتى كان منا على قدر ما يسمعنا صوته فقال: يا أحمد يا أحمد، الله أعلى وأمجد، أتاك ما وعدك من الخير يا أحمد، ثم ضرب راحلته حتى أتى من ورائنا.
فقال عمر: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأكرمنا به.
فقال رجل من الأنصار: أنا أحدثك يا أمير المؤمنين بمثل هذا وأعجب، قال عمر: حدثه، قال: انطلقت أنا وصاحبان لي نريد الشام، حتى إذا كنا بقفرة من الأرض فنزلناها، فبينا نحن كذلك إذ لحقنا راكب، فكنا أربعة، وقد أصابنا سغب شديد، فالتفت فإذا أنا بظبية عضباء ترتع(1/206)
قريباً منا، فوثبت إليها فقال الرجل الذي لحقنا: خل سبيلها لا أبا لك، والله لقد رأيتها ونحن نسلك هذا الطريق ونحن عشرة أو أكثر من ذلك فتخطف بعضنا، فما هو إلا أن كانت هذه الظبية فيما يهاج بها، فأبيت، فقلت: لا لعمرو الله لا أخليها، فارتحلنا وقد شددتها معي حتى إذا ذهب سدفة من الليل إذا هاتف يهتف بنا ويقول:
يا أيها الركب السراع الأربعة ... خلوا سبيل النافر المفزعة
خلوا عن العضباء في الوادي سعة ... لا تذبحن الظبية المروعة
فيها لأيتام صغار منفعة ...
قال: فخليت سبيلها ثم انطلقنا حتى أتينا الشام، فقضينا حوائجنا، ثم أقبلنا حتى إذا كنا بالمكان الذي كنا فيه هتف هاتف من خلفنا:
إياك لا تعجل وخذها مرفقه ... فإن شر السير سير الحقحقه
قد لاح نجم فأضاء مشرقه ... يخرج من ظلماء نار موثقه
ذاك رسول مفلح من صدقه ... الله أعلى أمره وحققه(1/207)
[12] فصلٌ: ذكر الكاهنة التي تعرضت لعثمان بن عفان رضي الله عنه
46- ويروى عن عمر بن قتادة قال: قال عثمان بن عفان: خرجنا في عير إلى الشام قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كنا بأفواه الشام -وبها كاهنة- فتعرضتنا فقالت: أتاني صاحبي فوقف علي فقلت: ألا تدخل؟ فقال: لا سبيل إلى الدخول، خرج أحمد، وجاء أمر لا يطاق.(1/208)
قال: ثم انصرفت فرجعت إلى مكة فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة يدعو إلى الله عز وجل.(1/209)
[13] فصلٌ: ذكر إسلام عمرو الهذلي
47- عن عبد الله بن يزيد الهذلي، عن سعيد بن عمرو الهذلي، عن أبيه قال: حضرت مع رجال من قومي صنماً ببوانة وقد سقنا إليه الذبائح، فكنت أول من قرب إليه بقرة سمينة، فذبحتها على الصنم، فسمعنا من جوفها العجب العجاب، خرج نبي من الأجناب، يحرم(1/210)
الزنا، ويحرم الذبائح للأصنام، وحرست السماء، ورمينا بالشهب.
قال: فتفرقنا وقدمنا مكة، فسألنا فلم نجد أحداً يخبرنا بخروج محمد صلى الله عليه وسلم ، حتى لقينا أبا بكر الصديق رضوان الله عليه، فقلنا: يا أبا بكر أخرج أحد بمكة يدعو إلى الله عز وجل يقال له: أحمد؟ قال: وما ذاك؟ فأخبرته الخبر، قال: نعم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دعانا إلى الإسلام، فقلنا: حتى ننظر ما يصنع قومنا، ويا ليت أنا أسلمنا يومئذ، فأسلمنا بعد.(1/211)
[14] فصلٌ: ذكر حديث قسٌ بن ساعدة
48- أخبرنا أبو علي: الحسين بن أحمد بن محمد بن موسى رحمه الله،(1/212)
ثنا أبو العباس: محمد بن إسحاق السراج، ثنا محمد بن يحيى الأزدي، عن محمد بن هانئ الطائي، ثنا محمد بن الحجاج اللخمي، ثنا مجالد،(1/213)
عن الشعبي، عن ابن عباس: أن وفد بكر بن وائل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حوائجهم قال: هل فيكم أحد يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟
قالوا: كلنا نعرفه، قال: فما فعل؟ قالوا: هلك، قال: كأني به على جمل أحمر بعكاظ يقول: أيها الناس اجتمعوا واستمعوا، وعوا: كل من عاش مات، وكل من مات فات، وكل ما هو آتٍ أت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، بحار تموج، وتجارة لن تبور، أقسم قس قسماً حقاً، لئن كان في الأمر رضى، ليكونن سخطاً، فإن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم(1/214)
عليه، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا؟ ثم أنشأ يقول:
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر ...
لما رأيت موارداً للموت ليس لها مصادر ...
ورأيت قومي نحوها يسعى الأصاغر والأكابر ...
لا يرجع الماضي إلي ولا من الباقين غابر ...
أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر ...(1/215)
49- وفي رواية أخرى: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يزيدنا في إيمان قس بن ساعدة؟(1/217)
فوثب رجل فقال: بينا يا رسول الله نحن في ملاعبنا فإذا أنا بقس ابن ساعدة واقف على عين ماء متزر بشملة، ومرتدي بأخرى،(1/218)
وبيده هراوة وهو يقول: لا وإله السماء، لا يشرب القوي من الوحش قبل الضعيف، بل يشرب الضعيف قبل القوي، ولا يشرب القوي(1/219)
من الطير قبل الضعيف، قال: فرأيت يا رسول الله القوي من الوحش يتأخر حتى يشرب الضعيف، فلما نحى ما حوله هبطت إليه من ذروة(1/220)
الجبل فإذا أنا به واقف يصلي بين قبرين، فلما انفتل من صلاته، قلت: أنعم صباحك يا قس، ما هذه الصلاة التي لا تعرفها العرب؟، قال:(1/221)
أصليها لإله السماء، قلت: وهل للسماء إله سوى اللات والعزى؟ قال: فانتفض وانتقع لونه قال: إليك عني يا أخا إياد، إن للسماء إلهاً عظيم(1/222)
الشأن، زخرفها وكوكبها، وبالشمس أشرقها، وبالأرض صميم الأديم الزاخر سطحها، ليس له كيفية، ولا أينية ولا كيموسية ولا كيفوية، أظلم الليل، وأضاء النهار، يسلك بعضهم في بعض كيف يشاء.
فقلت له: لم تجد موضعاً تصلي فيه إلا في هذا الموضع؟
قال: ما أجد أحداً يقول لا إله إلا الله إلا صاحبي هذين القبرين، وإنما أنتظر ما أصابهما، ثم ذكر أيامهما وبكى، ثم جعل يقول:
خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما(1/223)
ألم تريا أني بنجران مفرد ... ومالي فيه من خليل سواكما
أقيم على قبريكما لست بارحا ... طوال الليالي أو يجيب صداكما
أبكيكما طول الحياة وما الذي ... يرد على ذي لوعة إن بكاكما
كأنكما والموت أقرب غاية ... بروحي في قبريكما قد أتاكما
فلو جعلت نفس لنفس امرئ فداها ... لجدت بنفسي أن تكون فداكما
ثم قال له: إنه سيعمكم من هذا الوادي -وأشار إلى مكة- رجل أدعج، أحور، أقنى، لا بالطويل الذاهب، ولا بالقصير اللازق، من ولد لؤي بن غالب، يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، وإذا استنصركم فانصروه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من أناوله صفحة كفي فأتقدم بين يديه بحكم ربي.
ولقد وصف فيك يا محمد علامات شتى، ما أحفظها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حسبك حسبك، أما إن قس بن ساعدة يبعث يوم القيامة أمة وحده.(1/224)
[15] فصلٌ: في ذكر قصة يوشعٍ اليهودي
50- روى سلمة بن سلامة بن وقش أنه كان في بني عبد الأشهل(1/225)
يهودي يسمى: يوشع -لم يكن فيهم غيره يهودي- وكان في صومعة، وكان بنو عبد الأشهل يأتونه فيتحدثون عنده، وكان كثيراً ما يقول: إن بعد الموت بعثاً، وجنة وناراً، فيضحكون منه، ويقولون: ما بعد الموت شيء، فيرد ذلك عليهم، فناداهم يوماً عند الصبح على الصومعة، فاستنكروه واجتمعوا إليه فقالوا: ما لك؟ قال: هذا كوكب أحمد قد طلع، وهذا كوكب لا يطلع إلا بالنبوة، ولم يبق من الأنبياء إلا أحمد، فجعلوا يضحكون منه.
وجعل يقول: يأتي والله مصداق قولنا، وتصديق كتابنا يخبركم، إن بعد الموت جنة وناراً، إنما هم أهل الأوثان.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن به من شاء الله وآمنت به بنو عبد الأشهل كلها غيره، ولما أسلمت بنو عبد الأشهل قالوا له: اخرج من دارنا وجوارنا.
فخرج فتحول إلى بني قينقاع وكان أخبثهم وأشدهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أظهروا العداوة، ونبذوا العهد قال لهم: أنتم تخرجون بذل وصغار، فتحول من عندهم إلى بني النضير فأقام فيهم، فلما نقضوا العهد تحول إلى بني قريظة، فلما نقض بنو قريظة العهد قال: أنتم تقتلون، فهرب إلى خيبر، فلم يزل مقيماً بها حتى سمع بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فقال:(1/226)
لا مقام لي، هو يفتح هذه، فهرب إلى تيماء، فأقام معهم حتى كان في خلافة عمر رضي الله عنه فمات حين أجلى عمر يهود خيبر وفدك.
51- وروي عنه أنه كان يقول: قد أظل خروج نبي يقال له أحمد، يخرج من الحرم، فقال خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزئ به: ما صفته؟ قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة، ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا البلد مهاجره.
قال: فخرجت إلى قومي بني خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما قال، فأسمع رجلاً يقول: ويوشع يقول هذا وحده؟! كل يهود يثرب تقول هذا.
فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلا بخروج نبي وظهوره، ولم يبق إلا أحمد، وهذه مهاجره.
قال أبو سعيد: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً أخبره أبي بهذا الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أسلم الزبير وذووه من رؤسائه لأسلمت اليهود كلها، لأنهم كانوا تبعاً لرؤسائهم.(1/227)
[16] فصلٌ: ذكر حديث عمرو بن مرة من قيس بن جهينة
52- كان عمرو بن مرة أحد بني غطفان بن قيس بن جهينة، قال: خرجت حاجاً في الجاهلية في جماعة من قومي، فنمت، فرأيت نوراً(1/228)
سطع في الكعبة أضاء لي نخل يثرب وأشعر جبل جهينة، فانتبهت فسمعت صوتاً يقول:
انقشعت الظلماء ... وسطع الضياء
وبعث خاتم الأنبياء ...
ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن، وسمعت صوتاً يقول:
أقبل حق فسطع ... ودمغ باطل فانقمع(1/229)
قال: فانتبهت فزعاً فقلت لقومي: والله ليحدثن بمكة حدث في هذا الحي من قريش، وأخبرتهم بما رأيت وما سمعت.(1/230)
فلما انصرفنا إلى بلادنا جاءنا من يخبرنا أن رجلاً من قريش يقال له: أحمد صلى الله عليه وسلم قد بعث، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشأت أقول:(1/231)
شهدت بأن الله حق وأنني ... لآلهة الأحجار أول تارك
وشمرت عن ساقي الإزار مهاجرا ... أجوب إليه القور بعد الدكادك
لآتي خير الناس نفساً ووالداً ... رسول مليك الناس فوق الحبائك(1/232)
[17] فصلٌ: ذكر إسلام خفاف بن نضلة
53- وروت جمعة بنت ذابل بن الطفيل، عن أبيها ذابل بن طفيل بن عمرو الدوسي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قعد في مسجده منصرفه من الأباطل، فقدم عليه خفاف بن نضلة بن عمرو الثقفي فأنشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
كم قد تحطمت القلوص بي الدجى ... في مهمه قفر من الفلوات
فل من النوريس ليس بقاعة ... نبت من الأسنات والأزمات
إني أتاني في المنام مخبر ... من جن وجرة في الأمور موات
يدعو إليك لياليا ولياليا ... ثم احزأل وقال: لست بآتي(1/233)
فركبت ناجية أضر بنفسها ... جمز تخب به على الأكمات
حتى وردت إلى المدينة جاهدا ... كيما أراك فتفرج الكربات
قال: فاستحسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن من البيان كالسحر، وإن من الشعر كالحكم.(1/234)
[18] فصلٌ: ذكر قصة إسلام عباس بن مرداس
54- كان سبب إسلام عباس بن مرداس أنه كان يغبر في لقاح له نصف النهار، إذ طلعت عليه نعامة بيضاء، عليها راكب وعليه ثياب بيض مثل اللبن فقال لي:
يا عباس بن مرداس، ألم تر أن السماء كفت أحراسها، والحرب قد جرعت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الدين نزل بالبر والتقوى، يوم الإثنين ليلة الثلاثا، مع صاحب الناقة القصوى.
قال العباس بن مرداس: فرجعت مرعوباً، قد راعني ما رأيت وما سمعت، حتى جئت وثناً لنا يدعى: الضماد -أو يقال: الصماد- كنا نعبده، ونكلم من جوفه، فكنست ما حوله، وقمصت، ثم تمسحت به وقبلته، فإذا صائح يصيح من جوفه:(1/235)
هلك الضماد وكان يعبد مرة ... قبل الصلاة على النبي محمد
إن الذي جاء بالنبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد
قال: فخرجت مرعوباً حتى أتيت قومي فقصصت عليهم القصة، وأخبرتهم الخبر، فخرجت في ثلاثمائة نفر من قومي من بني حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فدخلنا المسجد وسلمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أولئك القوم من أصحابي، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي: يا عباس كيف كان سبب إسلامك؟ فقصصت عليه القصة، وحدثته بالحديث، فقال لي: صدقت يا عباس، وأسلمت أنا والقوم، وسر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامي معهم.(1/236)
[19] فصلٌ: ذكر إسلام زمل بن ربيعة
55- كان لبني عذرة بن زيد صنم يقال له: حمام، وكان سادنه رجل يقال له: طارق -من بني هند بن حرام بن عذرة-، فكانوا يذبحون له.(1/238)
قال زمل بن ربيعة: فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سمعنا من جوفه منطقاً يقول:
يا بني هند بن حرام ... ظهر الحق وأوذي حمام
ودفع الشرك بالإسلام ...
قال: ففزعنا لذلك وهالنا، ثم سمعت بعد أيام صوتاً من الصنم يقول:
يا طارق يا طارق ... بعث النبي الصادق
جاء بوحي ناطق ...
صدع صادع بتهامة ... لناصريه السلامه
لخاذليه الندامه ... هذا الوداع مني إلى القيامه
قال: ثم وقع الصنم لوجهه فتكسر.
قال زمل: فخرجت حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال: ذلك كلام الجن المؤمن، فدعانا إلى الإسلام فأسلمنا، وعقد لزمل لواء، وقال زمل:
إليك رسول الله أعملت نصها ... أكلفها حزناً وقوزاً من الرمل
لأنصر خير الناس نصراً مؤزراً ... وأعقد حبلاً من حبالك في حبلي
وأشهد أن الله لا شيء غيره أدين له ... ما أثقلت قدمي نعلي(1/239)
قال: فشهد زمل بلواء رسول الله صلى الله عليه وسلم صفين مع معاوية، وقتل يوم مرج راهط.(1/240)
[20] فصلٌ: ذكر قصة أكثم بن صيفي
56- ويروى عن عبد الملك بن عمير أنه قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا: كنت كبيرنا وقد طعنت في السن، ونخشى عليك في خروجك، قال: فليأت من يبلغه عني ويبلغني عنه، قال: فانتدب رجلين(1/241)
فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك: من أنت؟ وما أنت؟ وما جئت به؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا محمد بن عبد الله، وأنا عبد الله ورسوله، قال: ثم تلا عليهم هذه الآية: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}، قالوا: ردد علينا هذا القول، فردده عليهم حتى حفظاه.
فأتيا أكثم بن صيفي فقالا: أبى أن يرفع في نسبه، فسألناه عن نسبه فوجدناه زاكي النسب، واسطاً في مضر، وقد رمى إلينا بكلمات قد(1/242)
حفظناهن، فلما سمعهن أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤساء، ولا تكونوا فيه أذناباً، كونوا فيه أولاً، ولا تكونوا فيه آخراً، فلم يلبث أن حضرته الوفاة.(1/243)
[20] فصلٌ: ذكر قصة إسلام عبد بن عمرو بن جبلة وعصام بن عامر الكلبي
57- قال عبد بن عمرو بن جبلة بن وائل بن الجلاح الكلبي: كان لنا صنم يقال له: عمرة، وكنا نذبح له في كل أيامنا، وكان جميع بني عامر بن عوف يعظمونه إلا من كان من النصارى.
قال: فعترنا عتيرة ذات يوم بقرة، وكان الذي يسدنه رجل من بني عامر بن عوف يقال له: عصام، فسمعنا صوتاً من جوف الصنم يقول:
يا عصام يا عصام ... جاء الإسلام وذهبت الأصنام
وحقنت الدما ووصلت الأرحام ...
قال: ففزعت لذلك وقلت: ما هذا؟! قال: فمكثنا أياماً ثم عترنا عنده عتيرة أخرى فسمعنا منه صوتاً أبين من الأول، وكان عبد بن عمرو ابن جبلة يسمى بكراً، فقال:(1/244)
يا بكر يا بكر بن جبل ... جاء النبي المرسل
يصدقه المطمعون في المحل ... أرباب يثرب ذات نخل
ويكذبه أهل نجد وتهامة ... وأهل فلج واليمامة
قال عبد بن عمرو: فشخصت أنا وعصام حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بما سمعنا ودعانا إلى الإسلام فأسلمنا، فقال عبد بن عمرو:
أجبت رسول الله إذ جاء بالهدى ... فأصبحت بعد الجحد لله أوجرا
وودعت لذات القداح وقد أرى بها ... سدى عمري واللهو أضررا
فآمنت بالله العلي مكانه ... فأصبحت للأوثان ما عشت منكرا(1/245)
[22] فصلٌ: ذكر قصة إسلام جندل بن نضلة
58- روى جندل بن نضلة أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كنت شاعراً راجزاً، وكان لي صاحب من الجن فأتاني فدهمني وقال:
هب فقد لاح سراج الدين ... بصادق مهذب أمين
فارحل على ناجية أمون ... تمشي على الصحصح والحزون
قال: فانتبهت مذعوراً فقلت: ماذا؟ قال:
وساطح الأرض ... وفارض الفرض
لقد بعث محمد ... في الطول والعرض
نشأ في الحرمات العظام ...
وهاجر إلى طيبة الأمينة ...
قال: فسرت، فإذا أنا بهاتف يقول:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... نحو الرسول لقد وفقت للرشد(1/246)
قال: فإذا هو صاحبي من الجن، فذكر القصة إلى أن قال: فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلم.(1/247)
[23] فصلٌ: ذكر قصة مازنٍ أبي حيان، وسبب إسلامه ووفوده على النبي صلى الله عليه وسلم
59- ذكروا أن مازناً كان بأرض عمان -بقرية تدعى: سنابل- وكان يسدن الأصنام لأهله، وكان له صنم يقال له: ناجز.
قال مازن: فعترت ذات يوم عتيرة -وهي الذبيحة- فسمعت صوتاً من الصنم يقول:
يا مازن أقبل إلي أقبل ... تسمع ما لا يجهل
هذا نبي مرسل ... جاء بحق منزل
فآمن به كي تعدل ... عن حر نار تشعل
وقودها بالجندل ...(1/248)
قال مازن: فقلت: إن هذا والله لعجباً، ثم عترت بعد أيام عتيرة أخرى، فسمعت منها صوتاً أبين من الأول وهو يقول:
يا مازن اسمع تسر ... ظهر خير وبطن شر
بعث نبي من مضر ... بدين الله الأكبر
فدع نحيتا من حجر ... تسلم من حر سقر
قال مازن: فقلت: إن هذا لعجباً، وإنه لخير يراد بي.
قال: وقدم علينا رجل من الحجاز فقلت: ما الخبر وراءك؟ قال: قد خرج رجل بتهامة يقول لمن جاءه: أجيبوا داعي الله، يقال له: أحمد، فقلت: هذا والله نبأ ما سمعت، فثرت إلى الصنم فكسرته أجذاذاً، وشددت راحلتي، ورحلت حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشرح لي الإسلام، فأسلمت، وأنشأت أقول:
كسرت ناجزا أجذاذا وكان لنا ... رباً نطيف به ضلا بتضلال
بالهاشمي هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه منا على بال
يا راكباً بلغن عمراً وإخوته ... إني لما قال ربي ناجز قال
يعني بعمرو: ابن الصلت، وبإخوته: بني خطامة.
قال: فقلت يا رسول الله إني امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر وبالهلوك من النساء، وألحت علينا السنون، فأذهبت الأموال، واهزلن(1/249)
الذراري والرجال، وليس لي ولد، فادع الله يذهب عني ما أجد، ويأتيني بالحياء، ويهب لي ولداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، وآته الحياء، وهب له ولداً.
قال مازن: فأذهب الله عني كل ما أجد، وأخصبت عمان، وتزوجت أربع حرائر، ووهب الله لي حياءاً، وأنشأ يقول:
إليك رسول الله حنت مطيتي ... تجوب الفيافي من عمان إلى العرج
لتشفع لي يا خير من وطئ الحصى ... فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج
إلى معشر خالفت في الله دينهم فلا ... رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي
وكنت امرؤا باللعب والخمر مولعا ... شبابي حتى آذن الجسم بالنهج
فأصبحت همي في حياء ونيتي ... فلله ما صومي ولله ما حجي
قال مازن: فلما رجعت إلى قومي أنبوني، وشتموني، وأمروا شاعرهم بهجائي، فقلت: فإن هجوتهم فإنما أهجو نفسي.(1/250)
[24] فصلٌ: ذكر قصة الجعد بن قيس المرادي
60- وقال الجعد بن قيس المرادي -وكان قد بلغ مائة سنة- خرجنا أربعة نفر نريد الحج في الجاهلية، فمررنا بواد من أودية اليمن، فلما أقبل الليل استعذنا بعظيم الوادي، وعقلنا رواحلنا، فلما هدأ الليل ونام أصحابي إذا هاتف من بعض أرجاء الوادي يقول:
ألا أيها الراكب المعرس بلغوا ... إذا ما وقفتم بالحطيم وزمزما
محمدا المبعوث منا تحية ... تشيعه من حيث سار ويمما
وقولوا له إنا لدينك شيعة ... بذلك أوصانا المسيح ابن مريما(1/252)
[25] فصلٌ: ذكر قصة إسلام ذباب بن الحارث
61- قال ذباب بن الحارث: كان لسعد العشيرة صنم يقال له: قراص، يعظمونه، وكان سادنه رجل من أنس الله بن سعد يقال له: ابن وقشة -وكان له رئي من الجن يخبره بما يكون-(1/253)
فأتاه ذات يوم فأخبره بشيء فنظر إلي فقال:
يا ذباب يا ذباب ... اسمع العجب العجاب
بعث محمد بالكتاب ... يدعو بمكة ولا يجاب
فقلت: ما هذا؟ فقال: لا أدري، كذا قيل لي: قال: فلم يكن إلا قليل حتى سمعت بخروج النبي صلى الله عليه وسلم فثرت إلى الصنم فكسرته، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فقال ذباب:
تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلفت قراصا بدار هوان
شددت عليه شدة فتركته ... كأن لم يكن والدهر ذو حدثان
ولما رأيت الله أظهر دينه ... أجبت رسول الله حين دعاني
وأصبحت للإسلام ما عشت ناصرا ... وألقيت عنه كلكلي وجران
فمن مبلغ سعد العشيرة أنني شربت ... الذي يتقي بآخرٍ فان(1/254)
[26] فصلٌ: ذكر إسلام رافع بن خداش
62- روي أن جندع بن الصميل أتاه آت فقال له:
يا جندع بن صميل أسلم تسلم ... وتغنم من حر نار تضرم
فقال: ما الإسلام؟ قال:
البراء من الأصنام ... والإخلاص للملك العلام
قال: كيف السبيل إليه؟ قال:
إنه قد اقترب ... ظهور ناجم من العرب
كريم النسب ... غير خامل النسب
يطلع من الحرم ...
قال: فأخبر بذلك ابن عمه رافع بن خداش فاصطحبا، فلما وصل جندع إلى نجران مات بها، وأقام رافع بن خداش، فلما بلغه مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاء فأسلم.(1/255)
[27] فصلٌ: ذكر قصة إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
63- أخبرنا أبو سعيد: عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بن نصير بن عطاء بن واصل القرشي قراءة عليه، ثنا أبو يعقوب: يوسف بن(1/256)
عاصم بن عبد الله البزار الرازي، ثنا هدبة بن خالد القرشي، ثنا سليمان ابن المغيرة، ثنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت قال:
قال أبو ذر: خرجنا من قومنا من غفار -وكانوا يحلون الشهر الحرام- فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومنا فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس، فجاء خالنا فأفشى علينا الذي قيل له، فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك فيما بعد، وقربنا صرمتنا فاحتملنا وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي.
فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتينا الكاهن فخير أنيساً بصرمتنا ومثلها معها، قال:(1/257)
وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء، حتى تعلوني الشمس فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني، فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي، ثم جاء فقلت: فيم جئت؟ قال: لقيت رجلاً بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر كاهن -وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على حد الشعر فما يلتئم على لسان أحد، إنه مبعوث، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون، قال: قلت: اكفني حتى أذهب فأنظر، قال: فأتيت مكة فأبصرت رجلاً منهم فقلت: أين هو الذي تدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلي فقال: الصابئ؟ فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشياً علي.
قال: فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، قال: فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها، وقد لبثت يا ابن أخي ثلاثين ما بين يوم وليلة ما لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسر علي عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال: بينما أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب على أسمختهم، فما يطوف بالبيت أحد، وامرأتان منهم تدعوان إساف ونائلة، قال: فأتيا علي في طوافهما، فقلت: أنكحا إحداهما الآخر، فما تناهيا عن قولهما، فأتيا علي فقلت: هناً مثل الخشبة -غير أني لا أكني-، فانطلقتا تولولان، وتقولان: لو كان ههنا أحد من أنفارنا؟ فاستقبلهما(1/258)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطات قال: فما لكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قال: فما قال لكما؟ قالت: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم.
قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر، ثم طاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلى، قال أبو ذر: فلما قضى صلاته كنت أول من حياه بتحية أهل الإسلام، فقال: وعليك ورحمة الله، ثم قال: من أنت؟ قلت: من غفار، وأهوى بيده، فوضع أصابعه على جبهته -فقلت في نفسي: كره أني انتميت إلى غفار-، فذهبت آخذ بيده فقرعني صاحبه -وكان أعلم به مني-، ثم رفع رأسه فقال: متى كنت ههنا؟ قلت: يا رسول الله كنت ههنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم، قال: فمن كان يطعمك؟ قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسر علي عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها مباركة، إنها طعام طعم، قال أبو بكر: يا رسول الله إيذن لي في إطعامه الليلة، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، قال: فانطلقت معهما ففتح أبو بكر باباً فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، فكان ذلك أول طعام أكلته بها.
قال: ثم غبرت ما غبرت، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد وجهت إلى أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟ قال: فأتيت أنيساً فقال: ما صنعت؟ قلت: قد أسلمت وصدقت، قال: ما بي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقتك، قال: فأتينا أمنا فقالت: ما لي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقتك، قال: فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفار فأسلم(1/259)
نصفهم -وكان يؤمهم إيمان بن رخصة، وكان سيدهم- قال: وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا، فقدم فقالوا: يا رسول الله إخواننا يسلمون على الذي أسلمنا عليه فأسلموا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله.(1/260)
[28] فصلٌ: ذكر قصة إسلام سلمان الفارسي
64- قال ابن عباس: حدثني سلمان -حدثه من فيه- قال: كنت رجلاً مجوسياً من أهل أصبهان، قال: وكان أبي دهقان قرية،(1/261)
وكنت أحب الخلق إليه، فما زال به حبه إياي حتى حبسني في البيت كما تحبس الجارية، قال: وكنت قد اجتهدت في المجوسية، قاطن النار الذي يوقدها، لا يتركها تخبو اجتهاداً في ديني.
قال: وكانت لأبي ضيعة في بعض عمله، وكان يعالج بنياناً له في داره، فدعاني فقال: أي بني، قد شغلني بنياني كما ترى فانطلق إلى ضيعتي هذه ولا تحتبس علي فإنك إن احتبست علي شغلتني عن كل ضيعة وكنت أهم إلي مما أنا فيه.
قال: فخرجت فمررت بكنيسة للنصارى وهم يصلون فيها فسمعت صلاتهم فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فوالله ما زلت عندهم قاعداً وأعجبني دينهم وما رأيت من صلاتهم، وأخذوا بقلبي فأحببتهم حباً لم أحبه شيئاً قط، فكنت لا أخرج قبل ذلك ولا أدري ما أمر الناس، فقلت: هذا والله خير من ديننا، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس،(1/262)
وتركت حاجة أبي الذي أرسلني إليها، وما رجعت إليه حتى بعث الطلب في أثري، فلم يظفروا بي بعد كثرة طلبهم إياي، ثم لما رأيت من هيئتهم في أمر دينهم سألتهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فلما أتيت أبي قال: يا بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ألا تحتبس علي؟ فقلت: بلى يا أبة، ولكني مررت على كنيسة للنصارى فأعجبني ما رأيت من أمرهم وحسن صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديني، قال: كلا يا بني، إن ذلك دين لا خير فيه، دينك ودين آبائك خير منه، قال: قلت: كلا والله، لهذا خير، قال: فأردت أن أذهب من عنده فكبلني ثم حبسني، فأرسلت إلى النصارى فأخبرتهم أني قد رضيت أمرهم، وقلت: إذا قدم ركب عليكم من الشام فأخبروني بهم أذهب معهم، قال: فقدم عليهم ركب من تجار الشام فأخبروني وأرسلوا إلي، فأرسلت إليهم إذا أرادوا الرجعة فآذنوني، فلما أرادوا الخروج أرسلوا إلي أن الركب منطلقون، قال: فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت حتى جئتهم، وانطلقت معهم، فلما قدمت الشام سألت عن عالمهم فقالوا: صاحب الكنيسة أسقفهم، فدخلت عليه فأخبرته خبري، وقلت: إني أحب أن أكون معك في الكنيسة، أخدمك وأصلي معك وأتعلم منك، فإني قد رغبت في دينك، فقال: أقم.
قال: فكنت في الكنيسة أتفقه في نصرانيته، وكان رجلاً سوافاً، فاجراً في دينه، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه الأموال اكتنزها لنفسه، فكنت أبغضه لما أرى من فجوره، وقد جمع سبع قلال دنانير ودراهم، ثم إنه مات، فاجتمعت النصارى ليدفنوه فقلت لهم: أتعلمون أن صاحبكم هذا رجل سوء؟ كان يأمركم بالصدقة فإذا جئتموه(1/263)
بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين شيئاً، قالوا: فما علامة ذلك؟ قلت: أدلكم على كنزه، قالوا: أنت وذاك، فدللتهم عليه، فأخرجوا قلالاً ذهباً وورقاً مملوءة، فلما رأوها قالوا: لا والله لا نغيبه أبداً، فصلبوه على شجرة، ورجموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر، قال: فجعلوه مكانه، قال سلمان: ما رأيت رجلاً أفضل منه في دينه زهادة في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه اجتهاداً في العبادة، فأقمت معه، وأحببته حباً ما أعلم أني أحببت شيئاً قط مثله، وكنت معه أخدمه وأصلي معه في الكنيسة حتى حضرته الوفاة فقلت له: يا فلان إني كنت معك، ما أحببت حبك شيئاً قط فإلى من توصي بي، وما الذي تأمرني فإني متبع أمرك، ومصدق حديثك، فقال: يا بني ما أعلم أحداً على مثل ما نحن عليه إلا رجلاً بالموصل يقال له: فلان، فإني وإياه كنا على أمر واحد في الرأي والدين، فإنه رجل صالح، وستجد عنده بعض ما كنت ترى مني، فأما الناس فقد بدلوا وأهلكوا فالحق به.
قال: فلما توفي لحقت بصاحب الموصل فأخبرته خبري فقال: أقم، فكنت معه في الكنيسة فوجدته كما قال صاحبي رجلاً صالحاً، فمكثت معه ما شاء الله، ثم حضرته الوفاة فقلت: يا فلان إن فلاناً أوصاني إليك حين حضرته الوفاة، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ فإني متبع أمرك ومصدق حديثك، قال: يا بني ما أعلم أحداً على أمرنا إلا رجلاً بنصيبين يقال له: فلان فالحق به، فلما توفي لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري، فأقمت عنده فوجدته على مثل ما كان عليه صاحباه، فكنت معه ما شاء الله،(1/264)
ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إن فلاناً أوصى بي إلى فلان صاحب الموصل، وأوصى بي صاحب الموصل إليك، فإلى من توصي بي بعدك؟ قال: يا بني ما أعلم أحداً على مثل ما نحن عليه إلا رجلاً بعمورية من أرض الروم، فإنك واجد عنده بعض ما تريد، وإن استطعت أن تلحق به فافعل، فلما توفي لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري، فقال: أقم، فأقمت عنده فوجدته على مثل ما كان عليه أصحابه، وصار لي شيء حتى اتخذت بقرات وغنيمة، ثم حضرته الوفاة، فقلت: يا فلان إن فلاناً أوصى بي إلى فلان صاحب الموصل، ثم أوصى بي صاحب الموصل إلى صاحب نصيبين، ثم أوصى بي صاحب نصيبين إليك، فإلى من توصي بي؟ قال: يا بني ما أعلم أصبح في هذه الأرض أحد على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظلك خروج نبي يخرج في أرض العرب، يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، يكون مهاجره حرة، وقراره إلى أرض به نخل بين حرتين، نعتها كذا وكذا بظهره خاتم النبوة بين كتفيه، إذا رأيته عرفته، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة.
قال: ثم مات، ثم مر بي ركب من كلب فسألتهم عن بلادهم فأخبروني عنها فقلت: أعطيكم بقراءتي هذه وغنمي على أن تحملوني حتى تقدموا بي وادي القرى، فغدروا بي وباعوني من رجل من اليهود، فأقمت عنده زماناً، ثم ابتاعني من ذلك اليهودي آخر من بني قريظة، ثم خرج بي حتى قدم بي المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، وأيقنت أنها البلدة التي وصفت، فكنت بها أعمل له في ماله من بني قريظة، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وخفي علي أمره وأنا في رقي مشغول به، لم أسمع به حتى قدم المدينة مهاجراً، فنزل بقباء في(1/265)
بني عمرو بن عوف، فوالله إني لفي رأس نخلة أعمل لصاحبي فيها وصاحبي تحتي جالس إذ أقبل ابن عم له من يهود فقال: يا فلان قاتل الله بني قيلة، إنهم مقبلون على رجل بقباء، قدم من مكة يزعمون أنه نبي، فوالله ما هو إلا أن قالها فأخذني العرواء، ورجعت حتى ظننت لأسقطن على صاحبي، وانتفض منه جسدي، حتى ما يكاد شيء يمسك مني شيئاً فنزلت سريعاً، فقلت: يا سيدي ما الذي يقول؟ فغضب مما رأى، قال: فرفع يده فضربني بها ضربة شديدة ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك، قال: قلت: لا شيء، سمعت شيئاً أحببت أن أعلمه، قال: أقبل على شأنك، فسكت عنه وأقبلت على عملي، فلما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه وكلمته، ومعه نفر من أصحابه فقلت: إنه بلغني أنك رجل صالح، وإن معك أصحاب لك، وإنهم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي شيء وضعته للصدقة من طعام يسير فجئتكم به وهو هذا، فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلوا وأمسك يده، وأبى أن يأكل، فقلت في نفسي: هذه واحدة مما وصفه لي فلان، ثم رجعت، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجمعت شيئاً ثم جئته فسلمت عليه ثم قلت: هذا شيء كان عندي أحببت أن أكرمك به، وهي هدية، أهديتها لك بكرامة وليس بصدقة، فإني رأيتك لا تأكل الصدقة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فأكلوا وأكل معهم، فقلت في نفسي: هاتان اثنتان.
قال: ثم رجعت فمكثت ستاً ثم جئته وهو ببقيع الغرقد وقد مشى(1/266)
في جنازة وحوله أصحابه وعليه شملتان مرتد بواحدة، ومتزر بأخرى، فسلمت عليه ثم تحولت حتى قمت وراءه لأنظر في ظهره، قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أريد أن أنظر وأستثبته، فقال بردائه فألقاه على ظهره فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي، فانكببت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل موضع الخاتم من ظهره وأبكاني، قال: فتحولت فجلست بين يديه فقصصت عليه شأني وحديثي، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحب أن أسمع ذلك أصحابه، قال: ثم إني أسلمت فمكثت مملوكاً حتى مضى شأن بدر وشأن أحد وشغلني الرق وما كنت فيه فلم أشهدهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : كاتب، فسألت صاحبي الكتابة، فلم أزل به حتى كاتبني على أن أحيي له ثلاثمائة نخلة، وبأربعين أوقية ورق، وذلك أربعة آلاف درهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعينوا أخاكم بالنخل، فأعانوني بقدر ما كان عندهم، يعطيني الرجل ثلاثين فما دون ذلك إلى الثلث حتى جمعتها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقر لها فإذا أردت أن تضعها فلا تضعها حتى تأتيني فتؤذنني فأكون أنا أضعها بيدي في تفقيرها.
قال: وأعانني أصحابي، وحفروا ثلاثمائة سربة، وجاء أصحابي كل رجل منهم بما أعانني من الودية، فوضعته ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فخرج فجعلنا نحمل إليه الودية فيضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم يسوي عليها ترابها ويبرك، حتى فرغنا منها ودية ودية، فما سقطت منها(1/267)
ودية، علقت، وبقيت علماً يستشفى بثمرتها ويرجى بركتها، وبقيت علي الدراهم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا سلمان إذا وسعت يدي فأتني حتى أعينك على ما بقي من كتابتك، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في أصحابه إذ أتاه رجل من أصحابه بتبر من ذهب كبيضة الديك أصابها في بعض المغازي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما فعل الفارسي المسكين المكاتب؟ ادعوه لي، قال: فدعيت له صلى الله عليه وسلم فأعطاني ذلك بعد ما أدارها على لسانه صلى الله عليه وسلم وقال: أدها عنك بما عليك من المال، فقلت في نفسي متعجباً: وأين تقع هذه مما علي من المال؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى سيؤدي بها عنك، وقد كانت في ذاتها الأولى لا تفي بربع حقهم، فذهبت بها فوفيت منها حقهم تاماً.
65- وروي عن سلمان رضي الله عنه قال: صحبت قوماً فقلت لهم: اكفوني الطعام والشراب أكفكم الخدمة، قالوا: نعم، قال: فلما أرادوا أن يأكلوا أتوا على شاة فقتلوها بالضرب، ثم جعلوا بعضها كباباً وبعضها .. .. ، فامتنعت عن الأكل، فقالوا: كل، فقلت: إني غلام ديراني، وإن أهل ديني لا يأكلون اللحم، فضربوني وكادوا يقتلونني، فقال بعضهم: أمسكوا عنه حتى يأتيكم بشرابكم فإنه لا يشرب، فلما أتوا قالوا: اشرب، فقلت: إني غلام ديراني وإن أهل ديني لا يشربون الخمر، فشدوا علي وأرادوا قتلي، فقلت لهم: لا تضربوني ولا تقتلوني فإني مقر لكم بالعبودية، فابتدرني واحد منهم فأخرجني وباعني بثلاثمائة درهم من رجل يهودي .. الحديث.
66-قال سلمان: وكنت قرأت في الكتب نجوم الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، فما رأيت شيئاً أحسن من نجم تلألأ نوراً ولمعاناً، له(1/268)
أربعة شعب تتوقد كأنها مصابيح، شعبة منها تتوقد نحو المشرق، وشعبة نحو المغرب، وشعبة إلى الشام، وشعبة إلى اليمن، لا تزداد كل ساعة إلا نوراً ولمعاناً، وقد غادرت الكواكب كلها، فلم أكن أرى في السماء سواه.
قال سلمان: فرجعت مبادراً إلى حائطي فرأيت النخل والرمان والسدر والزيتون وكل الشجر ساجدة لحق محمد صلى الله عليه وسلم حتى مالت الحيطان معها فسجدت، فقلت: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فسمعت قائلاً يقول من ورائي: بطل والله سحر كل ساحر، ونكست الكهانة، ومنعت المسترقة، وملئت السماء حرساً، وبعث البشير بالرمح والسيف.(1/269)
[29] فصلٌ: ذكر قصة أبي عمير بن الهيبان
67- ويروى أن ابن الهيبان كان يهودياً من يهود الشام، قدم المدينة قبل الإسلام بسنتين فقال من رآه: ما رأينا رجلاً لا يصلي الخمس خيراً منه، وكان إذا حبس عنا المطر احتجنا إليه نقول له: يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا، قال: لا حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول: وما نقدم؟ فيقول: صاعاً من تمر أو مدين من شعير عن كل إنسان، فنفعل ذلك فيخرج بنا إلى ظهر وادينا، فوالله ما نبرح حتى تمر السحابة فتمطر علينا، ففعل ذلك بنا مراراً كل ذلك نسقى، فبينا هو بين أظهرنا(1/270)
إذ حضرته الوفاة فقال: يا معشر يهود، ما الذي ترون أنه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم يا ابن الهيبان، قال: إنما قدمتها أتوكف خروج نبي قد أطلعكم زمانه، هذا البلد مهاجره، وكنت أرجو أن أدركه فأتبعه، فإن سمعتم به فلا تسبقن إليه، فإنه يسفك الدماء، ويسبي الذراري والنساء، فلا يمنعنكم هذا منه، ثم مات.
فلما كان في الليلة التي صبيحتها فتحت قريظة قال لهم ثعلبة وأسيد ابنا سعية: يا معشر اليهود والله إنه للرجل الذي وصف لنا أبو عمير بن الهيبان.(1/271)
[30] فصلٌ: ذكر إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه
68- روى أبو أمامة الباهلي يحدث عن عمرو بن عبسة قال:(1/272)
رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية، ورأيت أنها آلهة باطلة، يعبدون الحجارة لا تضر ولا تنفع، فلقيت رجلاً من أهل الكتاب فسألته عن أفضل الدين فقال: يخرج رجل من مكة، ويرغب عن آلهة قومه، ويدعو إلى غيرها، ويأتي بأفضل الدين، فإذا سمعت به فاتبعه.
قال: فلم يكن لي هم إلا مكة آتيها وأسأل: هل حدث فيها خبر أو أمر؟ فيقولون: لا، فأنصرف إلى أهلي فأتعرض الركبان خارجين من مكة فأسألهم: هل حدث فيها خبر؟ قالوا: نعم، رجل رغب عن آلهة قومه، ودعا إلى غيرها.
قلت: هذا صاحبي الذي أريد، فشددت راحلتي برجلها فجئت منزلي الذي كنت فيه فسألت عنه قومه فوجدته مستخفياً.
فانطلقت حتى دخلت عليه فسلمت عليه فقلت: ما أنت؟ قال: نبي، قلت: وما النبي؟ قال: رسول، قلت: ومن أرسلك؟ قال: الله، قلت: بماذا أرسلك؟ قال: أن نصل الأرحام، ونحقن .. الدماء، ونأمن السبل، ونكسر الأوثان، ونعبد الله لا نشرك به شيئاً.
قلت: نعم ما أرسلك به، أشهد أني قد آمنت بك وصدقتك(1/273)
أفأمكث معك أم أمكث في أهلي؟ قال: امكث في أهلك، فإذا سمعت بي خرجت مخرجاً فاتبعني.
فلما سمعت به خرج إلى المدينة سرت حتى قدمت عليه، ثم قلت: يا نبي الله ألا تعرفني؟ قال: نعم، أنت السلمي جئتني بمكة، وقلت لي كذا وكذا، قلت: يا رسول الله: أي الساعات أسمع للدعاء؟ قال: جوف الليل الآخر.(1/274)
[31] فصلٌ: ذكر إسلام كعب الأحبار
69- عن شهر بن حوشب عن كعب الأحبار رضي الله عنه أن إسلامه كان في قدوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام، قال: كان أبي أعلم الناس بما أنزل الله على موسى بن عمران عليه السلام، وكان لا يدخر عني شيئاً مما كان(1/275)
يعلم، فلما حضره الموت دعاني فقال لي: يا بني إنك قد علمت أني لم أدخر عنك شيئاً مما كنت أعلم، إلا أني قد حبست عنك ورقتين فيهما ذكر بني مبعوث قد أظل زمانه، وكرهت أن أخبرك بذلك فلا آمن عليك أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتطيعه، وقد جعلتها في هذه الكوة التي ترى، وطينت عليهما، فلا تعرض لهما ولا تنظرن فيهما حينك هذا فإن الله إن يرد بك خيراً ويخرج ذلك النبي تتبعه.
قال: ثم إنه مات فدفناه، فلم يكن شيء أحب إلي من أن يكون المأتم قد انقضى حتى أنظر ما في الورقتين، فإذا فيهما:
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لا نبي بعده، مولده مكة، ومهاجره بالمدينة، لا فظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، يجزيء بالسيئة الحسنة، ويعفو ويصفح، أمته الحمادون، الذين يحمدون الله على كل حال، تدلل ألسنتهم بالتكبير، ينصر نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم، ويأتزرون على أوساطهم، أناجيلهم في صدورهم، وتراحمهم بينهم كتراحم بني الأم، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم.
قال: فلما قرأت ذلك قلت في نفسي: وهل علمني أبي شيئاً هو خير لي من هذا؟
قال: فمكثت بذلك ما شاء الله، ثم بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة، وهو يظهر مرة ويستخفي أخرى، فقلت: هوذا، فلم يزل بذلك حتى قيل لي: قد أتى المدينة، فقلت في نفسي: إني لأرجو أن يكون إياه، فكانت تبلغني وقائعه مرة له ومرة عليه ثم بلغني أنه قد توفي فقلت في نفسي: لعله ليس بالذي كنت أظن، حتى بلغني أن خليفته قد قام مقامه، ثم لم يلبث إلا قليلاً حتى جاءتنا جنوده فقلت في نفسي:(1/276)
لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أنهم هم الذين أرجو وأنظر سيرتهم وأعمالهم، فلم أزل أدافع ذلك وأؤخره لأستثبت، حتى قدم علينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما رأيت وفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء علمت أنهم الذين كنت أنتظر، فحدثت نفسي بالدخول في دينهم، فوالله إني ذات ليلة فوق سطحي فإذا رجل من المسلمين يتلو قول الله تعالى: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً} فلما سمعت هذه الآية خشيت أن لا أصبح حتى يحول وجهي في قفاي، فما كان شيء بأحب إلي من الصباح، فغدوت على المسلمين.
70- وعن شهر بن حوشب، عن كعب قال: قلت لعمر بالشام عند انصرافه: إنه مكتوب في الكتب أن هذه البلاد التي كان بنوا إسرائيل أهلها مفتوحة على يد رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وقوله لا يجاوز فعله، والقريب والبعيد سواء في الحق عنده، أتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار، متراحمون متواصلون متبادرون، فقال عمر: ثكلتك أمك أحق ما تقول؟ فقال: بلى والذي يسمع ما أقول، فقال: الحمد لله الذي أعزنا وأكرمنا وشرفنا ورحمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورحمته التي وسعت كل شيء.
قال: ثم إنه خرج من الشام مقبلاً إلى المدينة.(1/277)
[32] فصلٌ: ذكر قصة النجاشي وإسلامه رحمه الله
71- قال جعفر بن أبي طالب: يا رسول الله ائذن لي آت أرضاً أعبد الله بها لا أخاف أحداً، فأذن له.
فأتى النجاشي، فبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد وجمعوا للنجاشي هدية فقبلها ثم سجدوا له وقالوا: إن قوماً منا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك، فقال لهم النجاشي: في أرضي؟ قالوا: نعم، فأمر فأحضروا، والقسيسون والرهبان جلوس سماطين.
فقال عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد: إنهم لا يشهدون أن عيسى بن الله، ولا يسجدون لك، فلما انتهوا إليه زبرهم من عنده من القسيسين والرهبان أن اسجدوا للملك.
فقال جعفر: لا نسجد إلا لله، قال: وما ذاك، قال: إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم فينا رسولاً، وهو الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم {برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد} الآية، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً(1/278)
ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.
فأعجب النجاشي قوله، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال: أصلح الله الملك، إنهم يخالفونك في ابن مريم، قال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول: هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر، قال: فأخذ النجاشي من الأرض شيئاً تافهاً وقال: ما أخطأ مثل هذا -أو: وزن هذه- وأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنا فيه لأتيته حتى أخدمه وأحمل نعليه، امكثوا في الأرض ما شئتم، وأمر لهم بطعام وكسوة، وقال: ردوا على هذين هديتهم.
ثم قال: أيكم أدرس للكتاب الذي أنزل على نبيكم؟ قالوا: جعفر، فقرأ عليه جعفر سورة مريم، فلما سمعها عرف أنه الحق ثم قال: زدنا من هذا الكلام الطيب، ثم قرأ عليه سورة أخرى، وقال: صدقتم، وصدق نبيكم.
فلما رأى ذلك عمرو وعمارة سقط في أيديهم، وألقى الله بينهما العداوة، فمكر عمرو بعمارة وقال: يا عمارة إنك رجل جميل وسيم، فأت امرأة النجاشي فتحدث عندها إذا خرج زوجها فتعيننا على حاجتنا فإنك ترى ما قد وقعنا فيه من أمرنا لعلنا نهلك هذا الرهط، فراسلها عمارة حتى دخل عليها، وانطلق عمرو إلى النجاشي وقال: صاحبي هذا صاحب نساء، وإنه يريد أهلك فاعلم بعلم ذلك، فأرسل النجاشي إلى امرأته فإذا هو عندها فأمر فنفخ في إحليله سحره، ثم ألقي في جزيرة البحر، فجن، فصار وحشياً مع الوحش يرد ويصدر معها زماناً حتى ذكر لعشيرته فركب نفر من قومه السفينة فرصدوه حتى إذا وردوا أوثقوه فوضعوه في السفينة ليخرجوا به فلما فعلوا ذلك مات.(1/279)
72- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري في شأن جعفر وأصحابه، وكتب معه كتاباً:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى النجاشي أصحمة ملك الحبشة سلام عليك
فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده ونفخه، إني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، فإن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله وقد بعثت إليك ابن عمي جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى.
وكتب النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من النجاشي أصحمة بن أبجر سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام أما بعد:
فقد بلغني كتابك فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت حرفاً، وإنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به(1/280)
إلينا، وقربنا ابن عمك وأصحابه، وأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك مبايعة ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
73- ويروى أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد غيره، وكان للنجاشي عم له من صلبه اثنا عشر رجلاً، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فعدت الحبشة على أب النجاشي فقتلوه، وملكوا أخاه، ومكثوا على ذلك حيناً، ونشأ النجاشي مع عمه، وكان لبيباً حازماً فغلب على أمر عمه، ونزل منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكانه منه قالوا: والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه، وإنا نتخوف أن يملكه علينا، ولئن ملكه علينا ليقتلنا أجمعين، وقد عرف أنا قتلنا أباه، فمشوا إلى عمه وقالوا له: إما أن تقتل وإما أن تخرجه من بين أظهرنا فإنا قد خفناه على أنفسنا، قال: ويلكم قتلتم أباه بالأمس، وأنا أقتله اليوم؟ بل أخرجوه من بلادكم، فخرجوا به إلى السوق فباعوه إلى رجل من التجار بستمائة درهم، فقذفه في السفينة، فانطلق به حتى إذا كان العشي من ذلك اليوم هاجت سحابة من سحاب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته، ففزعت الحبشة إلى ولده فإذا هم حمقى ليس في ولده خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه خرجوا في(1/281)
طلبه حتى أدركوه فأخذوه من التاجر وعقدوا عليه التاج وملكوه، وجاءهم التاجر وقال: إما أن تعطوني مالي، وإما أن أكلم الملك في ذلك، فقالوا: لا نعطيك شيئاً، فجاء إلى الملك فجلس بين يديه، قال: أيها الملك ابتعت غلاماً من السوق بستمائة درهم، فأخذوا دراهمي وسلموا الغلام إلي حتى إذا سرت بغلامي أدركوني فأخذوا غلامي ومنعوني دراهمي، فقال لهم النجاشي: لتعطينه دراهمه أو ليسلمن إليه غلامه ليذهب به حيث شاء، قالوا: بل نعطيه دراهمه، وكان ذلك أول ما علم من صلابته في دينه وعدله في حكمه.(1/282)
جامع أبواب ظهوره صلى الله عليه وسلم ومولده الشريف(1/283)
[33] باب: ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وانقلابه في أصلاب آبائه
74- روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حملت في(1/285)
خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى كنت من القرن الذي كنت منه.
75- وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : متى كنت نبياً؟(1/286)
فقال: وآدم بين الروح والجسد.(1/290)
76- أخبرنا الشريف أبو جعفر الموسايي رضي الله عنه -إمام مكة(1/292)
حرسها الله وقاضيها- قال: أنا أبو سعيد: أحمد بن محمد بن زياد،(1/293)
ثنا العباس بن عبد الله الترقفي [ح].
77- وحدثنا أبو بكر: محمد بن أحمد المحدث، أنا أبو الحسن: علي بن محمد بن سختويه العدل، .. ..(1/294)
ثنا أحمد بن محمد بن سالم، ثنا العباس بن عبد الله الترقفي، قال: حدثني الفضل بن جعفر بن عبد الله، قال: حدثني أبو محمد: السري بن عثمان البجلي، .. ..(1/295)
عن أبي بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري، عن أبيه(1/296)
قال: صحبت كعب الأحبار وهو يريد الإسلام -أو قال: يريد النبي صلى الله عليه وسلم - قال: فلم أر رجلاً لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوصف له من كعب الأحبار، وقد وصف لنا حالاته وأخلاقه.
قال: صحبت كعب الأحبار في بعض الطرق، فكان ليلة يكثر الدخول والخروج، ثم استعبر باكياً، وقال: قبض محمد صلى الله عليه وسلم في هذه(1/297)
الليلة، ولقد رأيت أبواب الجنان فتحت.
ثم قدم بعد ذلك كعب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم .(1/298)
قال: فجعلت أصف ما ذكر لي كعب، فقالوا: إن كعباً لساحر.
فلما سمع مقالتهم، قال: الله أكبر، ما أنا بساحر.
ثم أخرج من مزودة سفطاً صغيراً من الدر الأبيض عليه قفل مختوم بختم، ففض الخاتم، وفتح القفل، فأخرج منه حريرة خضراء مطوية طياً شديداً، فقال: هل تدرون ما هذه؟ فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن الله تبارك وتعالى لما أراد أن يخلق محمداً صلى الله عليه وسلم أمر جبريل عليه السلام أن يأتيه بالقبضة البيضاء -التي هي نور الأرض-، فهبط جبريل مع الملائكة فقبض قبضة من موضع قبره وهي يومئذ بيضاء نقية، فعجنت حتى جعلت كالدرة البيضاء، ثم غمست في كل أنهار الجنة،(1/300)
وطيف بها في السماوات والأرضين والبحار، فعرفت الملائكة محمداً صلى الله عليه وسلم وفضله قبل أن تعرف آدم عليه السلام، فلما خلق الله تعالى آدم عليه السلام سمع في تخطيط جبهته كنشيش الذر، فقال: ما هذا؟ قال الله تعالى: هذا تسبيح(1/301)
سيد ولدك، فخذه بعهدي وميثاقي ولا تودعه إلا في الأصلاب الطاهرين.
وكان نور محمد صلى الله عليه وسلم يرى في دائرة غرة جبين آدم عليه السلام كالشمس في دوران فلكها، أو كالقمر في ديجور ليلة ظلماء، فلم يزل حتى وضعه وبشرت حواء بشيث أبي الأنبياء ورأس المرسلين، فحملت بشيث، فأصبح آدم عليه السلام والنور مفقود من جبهته، وحواء تزداد كل يوم غناجة وحسناً، وكل الطير والسباع يشيرون إلى حسنها حتى وضعت.
فلما وضعته ضرب بينها وبين إبليس لعنه الله حجاب من النور في غلظ خمسمائة عام، فلم يزل إبليس محبوساً حتى بلغ شيث سبع سنين، وعمود من نور بين السماء والأرض للملائكة فيه مسلك ومنادي البشرى ينادي في كل يوم: أيتها الخضرة اهتزي وابشري لعظم نور محمد صلى الله عليه وسلم .
قال: فانطلق آدم عليه السلام آخذاً بيد شيث وقال: يا بني إن الله جل جلاله أمرني أن آخذ عليك عهداً، وقال: يا رب إنك أمرتني أن آخذ(1/302)
على شيث عهداً فأسألك أن تبعث إلي ملائكة يكونوا شهوداً عليه، فما أتم آدم عليه السلام الدعوة حتى نزل جبريل عليه السلام في سبعين ألفاً من الملائكة معهم حريرة بيضاء وقلم من أقلام الجنة وكتب بغير مداد بل بنور من أنوار الجنة وشهدت الملائكة وطوى الحرير طياً، وكسي شيثٌ في ذلك المكان حلتين حمراوين في نور الشمس ورقة الماء .. إلى أن بلغ الأمر إلى أخنوخ وهو إدريس النبي صلى الله عليه وسلم فلما أن ولد نظر أبوه إلى النور فقال: أوصيك بهذا النور فقبل وصيته، حتى بلغ إلى نوح عليه السلام ثم من نوح إلى سام فلما نظر نوح إلى النور في وجه سام سلم إليه التابوت، وكان التابوت من درة بيضاء لها بابان مغلقان بسلسلة من الذهب الأحمر وعروتان من الزمرد الأخضر وفيه العهد والديباجة إلى أن بلغ الأمر إلى هود، فلما وضع هود سمع نداء أصوات من كل مكان: هذا من يكسر الله به كل صنم، ويقتل به كل من طغى وكفر، إلى أن بلغ الأمر إلى إبراهيم عليه السلام، فلما ولد إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ضرب علم من نور في شرقها، وعلم من نور في غربها، وصارت الدنيا كلها نوراً، فضرب له عمودان من نور وسط الدنيا حتى لحقا بأعنان السماء بإشراق وحسن، تهتز الملائكة من حسن ذلك العمود، فقالت: ربنا ما هذا؟ فنودي: هذا نور محمد صلى الله عليه وسلم .(1/303)
78- روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: إن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بألفي عام، يسبح الله ذلك النور، وتسبح الملائكة بتسبيحه، قال: فلما خلق الله آدم أبقى ذلك النور في صلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأهبطني الله تعالى الأرض في صلب آدم عليه السلام، فحملني في صلب نوح عليه السلام في السفينة، ثم قذف بي في النار في صلب إبراهيم عليه السلام، ولم يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى(1/304)
الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني من بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط.
79- وروى عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، .. ..(1/305)
عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن جده، .. ..(1/306)
عن علي بن أبي طالب أنه قال: إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد صلى الله عليه وسلم(1/307)
قبل أن يخلق السماوات والأرض والعرش والكرسي والقلم والجنة(1/308)
والنار، وقبل أن يخلق آدم ونوحاً وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب(1/309)
وموسى وعيسى وسليمان وداود، وكل من قال تعالى حيث يقول: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب} الآية، إلى قوله: {واجتبيناهم وهديناهم إلى صراطٍ مستقيمٍ} وقبل أن يخلق الأنبياء كلهم عليهم السلام بأربع مائة ألف سنة وأربعة وعشرين ألف سنة، وخلق معه اثني عشر حجاباً:(1/310)
حجاب القدرة، وحجاب العظمة، وحجاب المنة، وحجاب الرحمة، وحجاب السعادة، وحجاب الكرامة، وحجاب المنزلة، وحجاب الهداية، وحجاب النبوة، وحجاب الرفعة، وحجاب الهيبة، وحجاب الشفاعة.
ثم حبس نور محمد صلى الله عليه وسلم في حجاب القدرة اثني عشر ألف سنة وهو يقول: سبحان ربي الأعلى، وفي حجاب العظمة إحدى عشر ألف سنة وهو يقول: سبحان عالم السر وأخفى، وفي حجاب المنة عشرة آلاف سنة وهو يقول: سبحان الرفيع الأعلى، وفي حجاب الرحمة تسعة آلاف سنة وهو يقول: سبحان الرؤوف الكبير، وفي حجاب السعادة ثمانية آلاف سنة وهو يقول: سبحان من هو دائم لا يسهو، وفي حجاب الكرامة سبعة آلاف سنة وهو يقول: سبحان من هو غني لا يفتقر، وفي حجاب المنزلة ستة آلاف سنة وهو يقول: سبحان العليم الحليم، وفي حجاب الهداية خمسة آلاف سنة وهو يقول: سبحان ذي العرش العظيم، وفي حجاب النبوة أربعة آلاف سنة وهو يقول: سبحان رب العزة عما يصفون، وفي حجاب الرفعة ثلاثة آلاف سنة وهو يقول: سبحان ذي الملك والملكوت، وفي حجاب الهيبة ألفي سنة وهو يقول: سبحان الله وبحمده، وفي حجاب الشفاعة ألف سنة وهو يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده.
ثم أظهر اسمه على اللوح -وكان اللوح منوراً- أربعة آلاف سنة، ثم أظهره على العرش -أي ليعرفه العرش- فكان على ساق العرش مثبتاً سبعة آلاف سنة إلى أن وضعه الله في صلب آدم عليه السلام.
ثم إن الله عز وجل نقله من صلب آدم إلى صلب نوح، ثم من صلب إلى صلب حتى أخرجه الله من صلب عبد الله بن عبد المطلب.(1/311)
80- وقال بعضهم: خلق الله عز وجل نور محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يخلق الأشياء بتسعة آلاف سنة، فجعل النور يطوف بالقدرة، فإذا بلغ الموضع الذي أمره بالسجود سجد فبقي في سجوده مائة سنة وهو يقول: سبحان العالم الذي لا يجهل، سبحان الحليم الذي لا يعجل، سبحان الجواد الذي لا يبخل، فلما أراد الباري جل جلاله خلق الأشياء، خلق من نور محمد صلى الله عليه وسلم جوهراً، وخلق من الجوهر ماء عذباً وجعل فيها البركة، وكان يموج ألف سنة لا يستقى، ثم قسم نور محمد صلى الله عليه وسلم بعشرة أجزاء، فخلق من الجزء الأول العرش، ومن الجزء الثاني القلم، ومن الثالث اللوح، ومن الرابع القمر، ومن الخامس الشمس، ومن السادس الكواكب، ومن السابع الملائكة، ومن الثامن نور المؤمن، ومن التاسع الكرسي، ومن العاشر محمداً صلى الله عليه وسلم ، ورفع لإبراهيم عليه السلام فقال: لم أر خليقة أحسن من هذه الخليقة ولا أمة أنور من هذه الأمة .. فمن هذا؟ فنودي: هذا محمد حبيبي لا حبيب لي من خلقي غيره، اخترت ذكره قبل أن أخلق السماوات والأرض وأنا مخرجه من صلبك، فأخبر إبراهيم سارة بتعظيم نوره وبهائه، فلم تزل سارة متوقعة لذلك حتى حملت هاجر بإسماعيل، فلما حملت هاجر اغتمت سارة، فلما وضعت أدركتها الغيرة حتى بشرها الله تعالى بإسحاق على لسان إبراهيم صلوات الله عليه، فلما دنت وفاة إبراهيم عليه السلام جمع بنيه وهم يومئذ ستة ودعا بتابوت آدم عليه السلام ففتحه فقال: انظروا إلى هذه التابوت فنظروا فرأوا في التابوت بيوتاً بأعداد الأنبياء كلهم، وآخر البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم من ياقوتة حمراء فإذا هو قائم فيه يصلي عن يمينه الكهل المطيع -وهو أبو بكر الصديق-، على جبينه مكتوب: هذا أول من يتبعه من أمته من المؤمنين، وعن يساره الفاروق، مكتوب على جبهته، قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة(1/312)
لائم، ومن ورائه ذو النورين آخذاً بحجزته، مكتوب على جبهته: يا زين البرية، ومن بين يديه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه شاهراً سيفه على عاتقه، مكتوب على جبينه: هذا أخوه وابن عمه والمؤيد بالنصر من عند الله عز وجل، وحوله عمومته والخلفاء والنقباء والكوكبة الخضراء التي حدقت بها سلسلة النضرة، فنظروا فإذا الأنبياء كلهم منقولون في صلب إسحاق عليه السلام، إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه منقول في صلب إسماعيل عليه السلام، فقال إبراهيم عليه السلام: بخٍ بخٍ، هنيئاً لك يا إسماعيل فأنا آخذ عليك عهداً وميثاقاً، فلما أخذ عليه العهد لم يزل متمسكاً بذلك العهد حتى تزوج بابنة الحارث فواقعها فولدت له قيذار وفيه نور النبي صلى الله عليه وسلم .
فوصاه إسماعيل عليه السلام بالنور وسلم إليه التابوت، وقال: لا تضع هذا النور إلا في المطهرات، فظن قيذار أن المطهرات من ولد إسحاق فتزوج من بنات إسحاق ثمانين امرأة وأقام معهن مائة سنة، فلم يحبلن، فبينا هو ذات يوم راجع من الصيد إذ استقبلته الوحش والطير والسباع من كل مكان فنادته بلسان طلق ذلق، يا قيذار قد مضى عمرك، همتك اللهو، أما آن لك أن تهتم لنور محمد صلى الله عليه وسلم أين تضعه؟(1/313)
فرجع قيذار إلى منزله مكروباً، وحلف بإله إبراهيم أنه لا يطعم ولا يشرب حتى يأتيه بيان ما سمع على لسان الطير والسباع، فبينا هو ذات يوم قاعد على فلاة من الأرض بعث الله إليه ملك الهواء في صورة رجل من الآدميين لم ير قيذار أحسن منه خلقاً فهبط إليه الملك وسلم وقعد معه وقال: يا قيذار إنك قد ملكت البلاد فلو أنك قربت قرباناً لإله إبراهيم عليه السلام وسألته أن يبين لك من أين لك التزويج كان خيراً لك من التواني، وعرج الملك إلى مكانه، فقام قيذار وكان له جمة وجمال فقرب سبع مائة كبش أقرن من كباش إبراهيم عليه السلام، كلما ذبح كبشاً جاءت نار من الأرض حمراء لا دخان لها في سلاسل بيض فتأخذ ذلك القربان فتصعد به إلى السماء، فلم يزل قيذار يذبح ويقرب حتى ناداه منادٍ: حسبك يا قيذار قد استجاب الله دعوتك وقبل قربانك، انطلق إلى شجرة فلان فنم في أصلها وائتمر لما تؤمر في منامك، فرد قيذار الغنم وأقبل حتى أتى تلك الشجرة فنام في أصلها فأتاه آتٍ في المنام فقال: ابتغ لنفسك امرأة من العرب وليكن اسمها الغاضرة، فوثب قيذار مسروراً، فلم يزل يطلبها حتى وقع على ملك الجرهمين وكان من ولد زهير بن عامر من ولد قحطان، وتزوج بها، وحملها من أرضها إلى أرض نفسه حتى حملت منه، فأصبح قيذار والنور من وجهه مفقود ونظر إلى النور الذي في وجه الغاضرة فسر بذلك سروراً شديداً، وكان عنده تابوت آدم عليه السلام، وكان ولد إسحاق يتداعون التابوت، وكانوا يقولون: النبوة صرفت عنكم فليس لكم إلا هذا النور الواحد فأعطنا التابوت، وكان يمتنع عليهم ويقول: إنه وصية أبي فلا أعطيه أحداً من العالمين، قال: فذهب قيذار ذات يوم ففتح ذلك التابوت فعسر عليه فتحه، فناداه منادٍ من الهواء: مهلاً يا قيذار فليس لك إلى فتح التابوت سبيل، إنك وصي نبي(1/314)
ولا يفتح هذا إلا نبي من النبيين، فادفعه إلى ابن عمك يعقوب إسرائيل الله وعظمه، فلما أن سمع قيذار مقالته أقبل إلى أهله وهي الغاضرة فقال: انظري إن أنت ولدت غلاماً فسميه حمل، وأنا أرجو أن يكون غلاماً طيباً، قال: وحمل قيذار التابوت على عاتقه وخرج يريد أرض كنعان، وذلك أن يعقوب كان بأرض كنعان، فأقبل يسير، أرض ترفعه وأرض تخفضه حتى قرب من البلاد قال: فصر التابوت صرة فسمعها يعقوب فقال لبنيه: اقسم بالله لقد جاءكم قيذار فقوموا نحوه فاستقبلوه، فقام يعقوب وأولاده جميعاً، فلما نظر يعقوب إلى قيذار استعبر باكياً، وقال: يا قيذار مالي أرى لونك متغيراً ضعيفاً؟ أرهقك عدو أو أتيت معصية بعد أبيك إسماعيل؟ فقال: ما رهقني عدو ولا أتيت معصية ولكن نقل من ظهري نور محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك تغير لوني وضعف ركني، قال: إلى بنات إسحاق؟ قال: لا، ولكن إلى عربية جرهمية وهي الغاضرة، قال يعقوب: بخٍ بخٍ، شرفاً لمحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن الله ليخرجه إلا في العربيات الطاهرات وأنا أبشرك ببشارة، قال: وما هي؟ قال يعقوب عليه السلام: اعلم أن الغاضرة ولدت الليلة غلاماً، قال: وما أعلمك يا ابن عم وأنت بأرض الشام وهي بأرض الحرم؟ قال: أعلم ذلك لأني رأيت أبواب السماء قد فتحت ورأيت قد سطع منها نور كالقمر المنير بين السماء والأرض، ورأيت الملائكة ينزلون بالبركات والرحمة، فعلمت أن ذلك لأجل محمد صلى الله عليه وسلم ، فسلم قيذار التابوت إلى يعقوب ورجع إلى أهله فوجدها قد ولدت غلاماً وسمته حملاً وفيه نور محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما ترعرع أخذ أبوه وانطلق يريه مكة والمقام وموضع بيت الله الحرام، فلما صار على جبل ثبير تلقاه ملك الموت في صورة رجل من الآدميين فقال: إلى أين يا قيذار؟ قال: انطلق بابني هذا فأريه مكة والمقام وموضع بيت الله(1/315)
الحرام، فقال: وفقك الله ولكن لك عندي نصيحة، قال: وما هي؟ قال: هلم إلي فإن بيني وبينك سراً، قال: فدنا منه قيذار ليساره فقبض ملك الموت روحه من أذنه فخر ميتاً بين يدي ابنه، فغضب ابنه من ذلك غضباً شديداً وقال: يا عبد الله أقتلت أبي وهو أب العرب كلها؟! قال ملك الموت: انظر إلى أبيك أميت هو أم لا؟ فانكب عليه لينظر ما قصة أبيه، فإذا هو ميت، وعرج ملك الموت إلى السماء فرفع رأسه فلم ير داعياً ولا مجيباً، فعلم أنه ملك الموت عليه السلام فقعد يبكي، فقيض الله تعالى له أقواماً من ولد إسحاق عليه السلام فغسلوه وحنطوه ودفنوه في جبل ثبير.
فلما نشأ ابنه حمل وولد له معد -وإنما سمي معداً لأنه كان صاحب حروب- وكانت له نصرة على العدو.(1/316)
ثم ولد له نزار وهو أب العرب كلها، وإنما سمي نزاراً لأن أباه لما(1/317)
رأى نور محمد صلى الله عليه وسلم في وجهه قرب قرباناً، ثم قال: هذا قربان نزر في جنب هذا النور.
ثم ولد له مضر -ما رآه أحد إلا أحبه- وكان يسمع من ظهره أحياناً دوي تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم ولد له مدركة، واسمه: عمرو بن إلياس، وإنما سمي مدركاً لأنه أدرك في عز وشرف في أيامه.(1/318)
ثم ولد له خزيمة - وخزم نور أبيه.
ثم ولد له كنانة، فإنه لم يزل في كن ودعة.(1/319)
ثم ولد له النضر واسمه: قيس، فألبسه الله النضرة في وجهه، وسمي قريشاً لأنه غلب الجميع.(1/320)
81- وسئل ابن عباس رضوان الله عليه: لم سميت قريش قريشاً؟ قال: دابة في الأرض تسمى قريشاً تعدو على الجميع.(1/321)
وفيه يقول تبع:
وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا ... تترك فيها لذي الجناحين ريشا(1/322)
هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلاً كميشا
ولهم آخر الزمان نبي يكثر ... القتل فيهم والخموشا
وفيهم يقول ابن الزبعرى:
كانت قريش بيضة فتفلقت ... .. .. .. ..(1/323)
.. .. .. .. . ... فالمح خالصها لعبد مناف
الفاعلون فليس يوجد مثلهم ... والقائلون هلم للأضياف
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
فمن كان من نسله فهو قرشي.
82- قال: وهو الذي رأى في منامه في الحجر كأنه خرجت من(1/325)
ظهره شجرة خضراء حتى بلغت أعنان السماء، وإذا أغصانها نور في نور، وإذا بقوم بيض الوجوه، وإذا القوم متعلقون بها من لدن ظهري إلى السماء، فلما انتبهت أتيت كهنة قريش فأخبرتهم بذلك، فقالوا: لئن صدقت رؤياك فقد صرف الله إليك العز والكرامة، وقد خصصت بحسب وسؤدد لم يخص بها أحد من العالمين.
فأعطاه الله ذلك، وذلك حين نظر الله إلى الأرض فقال للملائكة: انظروا من أكرم أهل الأرض اليوم عندي -وأنا أعلم بذلك- فقالت الملائكة: ربنا وسيدنا ما نرى في الأرض أحداً بالوحدانية مخلصاً إلا نوراً واحداً في ظهر رجل من ولد إسماعيل، قال الله: فاشهدوا أني قد أكرمته لنطفة حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فكانت نطفة مالك -وإنما سمي مالكاً لأنه ملك العرب-، وأوصى مالك ابنه فهراً، وأوصى فهر غالباً، وأوصى غالب لؤياً، وأوصى لؤي كعباً،(1/326)
وأوصى كعب مرة، وأوصى مرة كلاباً فولد له قصي واسمه: زيد ويسمى مجمعاً، وإنما سمي بذلك لأنه جمع أولاد آبائه أقصاهم وأدناهم وأنزلهم مكة وأقطعهم شعابها فسموا قريشاً لاجتماعهم-، ولأنه كان يقصي الباطل ويدني الحق، والعرب كانوا يتحاكمون إليه،(1/327)
ثم ولد له عبد مناف، وكان بيده لواء نزار وقوس إسماعيل وسقاية الحجاج ومفاتيح الأصنام، وإنما سمي عبد مناف لأن أباه قصي قربه إلى أهله وكان يعبد صنماً يقال له: مناف، فوهبه له وأقامه لخدمته فسمي:(1/328)
عبد مناف، ثم ولد له هاشم، وإنما سمي هاشماً لأنه أول من هشم الثريد لقومه، وقيل: إنما سمي هاشماً لأن أهل مكة أصابهم جدب شديد ومجاعة فهشم لهم الخبز وأطعم الثريد، والهشم: الكسر الصغار، وكان هاشم جواداً سرياً سخياً لا يفتر من الأضياف،(1/329)
وكان يغل عنده ما يكفي جميع الناس من الخبز فيكسره، ويثرده في الجفان ويقدمه إليهم، فكان ذلك أعمل لجماعتهم وأستر عليهم إذ لا يعلم كل واحد منهم قدر ما يأكله صاحبه وصار سنة للعرب فلذلك سمي هاشماً.(1/330)
83- ويقال: إن أول من أطعم الثريد: إبراهيم الخليل عليه السلام، وأول من هشم الخبز: هاشم، وفيه يقول ابن الزبعري:
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
الخالطون غنيهم بفقيرهم ... حتى يكون فقيرهم كالكاف
وكان الناس في شدة وضير من الزمان، وكان النور على وجهه كالهلال يتوقد شعاعه، لا يمر بشيء إلا سجد له، ولا يراه أحد إلا أقبل نحوه، وبعث إليه قيصر حفيد هرقل ملك الروم، وطلب إليه أن يزوج ابنته منه لما وجد في الإنجيل من قصته، وهو أن النور كان في وجهه ظاهراً فأبى، فأري في المنام: أن تزوج بنت زيد بن عمرو فتزوج بها فولدت له عبد المطلب واسمه: شيبة الحمد، وإنما سمي عبد المطلب لأن جده عبد مناف لما مات خلف ابنه هاشماً فقام مقامه في العز والشرف في قريش وجمع العرب والسقاية والرفادة، ثم لما مات هاشم(1/331)
وخلف ابنه عبد المطلب -كان صغيراً- فقام أخوه المطلب بن عبد مناف مقام هاشم، وكان أخوال عبد المطلب من أهل المدينة فحملوه إليهم مع أمه، فلما ترعرع وطعن عم عبد المطلب في السن وقارب أجله خرج إلى المدينة يطلب ابن أخيه فوجده مع غلمان يلعبون فدعاه إليه وخلا به رغبة في الخروج إلى مكة ليقيمه مقام أبيه وليحصل له الشرف والعز في قريش(1/332)
دونه ودون ولده، فقبل منه واستكتمه كيلا يمنعه أخواله عن حمله وعهد(1/333)
له على ذلك، فلما وجد خلوة حمله معه إلى مكة فاستقبله الناس وكانوا يطلبونه في كل يوم لا يعلمون إلى أين قصد، فلما نظروا إليه راكباً على البعير وخلفه الصبي وكان أسود اللون، قالوا: هذا عبد المطلب اشتراه في سفره أو أغار على بعض الأحياء فأخذه، إلى أن أخبرهم بقصته، وأعطاه جميع ما وعده فغلب عليه عبد المطلب لذلك، فلما أدرك عبد المطلب نام يوماً في الحجر فانتبه من نومه وقد كسي حلة الجمال والبهاء فبقي متحيراً لا يدري من فعل ذلك به فأخذ أبوه بيده فانطلق به إلى كهنة قريش فأخبرهم بذلك، فقالوا: اعلم أن إله السماء قد أذن لهذا الغلام بالتزويج،(1/334)
فزوجه فاطمة بنت عمرو.(1/335)
وحضرت المطلب الوفاة فدعا بعبد المطلب فقال: يا بني اجمع لي بني النضر: عبد قيسها وعبد شمسها ومخزومها وفهرها، ولؤيها، وغالبها، وهاشمها، وعبد المطلب يومئذ غلام ابن خمس وعشرين سنة أطول قريش باعاً وأشدهم قوة، تفوح منه ريح كريح المسك، ونور محمد صلى الله عليه وسلم يسطع في دائرة غرة جبينه، فلما نظر المطلب إلى ذلك قال: معاشر قريش إنكم مخ ولد إسماعيل عليه السلام، وأنتم الذين اختاركم الله لنفسه، فجعلكم سكان حرمه، وسدنة بيته، وأنا اليوم رئيسكم وسيدكم، وهذا لواء نزار، وقوس إسماعيل، وسقاية الحاج، ومفاتيح الأصنام، قد سلمتها إلى ابني هذا عبد المطلب فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا، قال: فوثبت قريش فقبلت رأس عبد المطلب ونثروا عليه الدراهم والدنانير وقالوا: قد سمعنا وأطعنا، وكان لواء نزار وقوس إسماعيل عليه السلام في يده وكانت قريش بعد ذلك إذا أصابتهم قحط وشدة يأخذون بيد عبد المطلب فيخرجونه إلى ثبير فيتقربون به إلى الله عز وجل ويسألونه أن يسقيهم بنور محمد صلى الله عليه وسلم فيسقيهم الله جل جلاله به.(1/336)
[34] فصلٌ: في زواج عبد المطلب بن عبد مناف وولادة عبد الله أبي المصطفى صلى الله عليه وسلم
84- ورجع عبد المطلب إلى مكة، فتزوج بها، فولد لها ابنه الحارث، وتزوج أم أبي لهب، فولدت له أبا لهب، واسمه: عبد العزى، وماتت، فتزوج بعدها نتيلة بنت جناب، فولد له منها: العباس بن(1/337)
عبد المطلب أبو الخلفاء، وصفية بنت عبد المطلب، ثم تزوج بعدها أم حمزة، فولدت له حمزة.
85- وروي أن عبد المطلب نام في الحجر، فرأى كأنه خرج منه سلسلة بيضاء لها أربعة أطراف: طرف قد بلغ مشارق الأرض، وطرف مغاربها، وطرف لحق بأعنان السماء، ثم رجع حتى صار كشجرة خضراء، وإذا بشيخين بهيين قد وقفا، قال: فقلت لأحدهما: من أنت؟ فقال: لا تعرفني؟ أنا نوح رسول رب العالمين، قال عبد المطلب: فسألت السحرة والكهنة، فقالوا: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السماوات والأرض.
ثم قال: رأيت في المنام أن تزوج بفاطمة بنت عمرو، فتزوجها وأمهرها مائة ناقة حمراء، ومائة رطل من الذهب الأحمر، فولدت له(1/338)
أبا طالب وأميمة وبرة وعبد الله وهو أصغر أولاد عبد المطلب، فلم يبق أحد من أحبار الشام إلا علم بمولده وذلك أنه كانت عندهم جبة من صوف بيضاء، وكانت الجبة مغموسة في دم يحيى بن زكرياء صلوات الله عليهم، وكانوا يجدون في الكتب عندهم: إذا رأيتم الجبة البيضاء والدم يقطر فاعلموا أنه قد ولد عبد الله بن عبد المطلب، فعلم أحبار الشام بهذه الصفة، فعدوا الأيام والشهور، فلما أن صار مترعرعاً، قدم عليه أحبار الشام ليقتلوه، فصرف الله كيدهم عنه فرجعوا إلى البلاد، فكانوا بعد ذلك كل من يقدم من الشام يسألونه، فيقولوا: تركنا عبد الله نوراً يتلألأ.
86- وكان عبد الله يقول: كنت إذا خرجت إلى البطحاء يخرج من ظهري نوران، أحدهما يأخذ شرق الأرض، والآخر غربها، ثم يستديران في ظهري كأسرع من طرفة العين، قال أبوه: سيخرج من ظهرك أكرم العالمين.
87- وقدم عليه بعد ذلك سبعون حبراً من أحبار الشام فتحالفوا على ألا يرجعوا أو يقتلوا عبد الله بن عبد المطلب، فجاءوا ومعهم سبعون سيفاً شاهرة مسمومة فجعلوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، حتى نزلوا بفناء مكة، فلما كان يوماً من الأيام خرج عبد الله إلى صيده وحيداً، وأصابوا منه الخلوة، فأحدقوا به ليقتلوه، فلما نظر إلى ذلك وهب بن عبد مناف الزهري -وهو أبو آمنة جد النبي صلى الله عليه وسلم - أدركته الحمية، وقال: سبعون رجلاً يحدقون برجل واحد من أهل مكة يريدون قتله؟، لأنصرنه على هؤلاء اليهود، فالتفت نحو الهواء فنظر إلى رجال لا يشبهون رجال الدنيا ينزلون من السماء، ومالوا على الأحبار فقطعوهم وهزموهم، فلما نظر وهب إلى ذلك رجع مبادراً إلى أهله فأخبرها بما رأى من عبد الله فقال: انطلقي إلى عبد المطلب فاعرضي(1/339)
عليه ابنتك قبل أن يسبقنا إليه أحد غيرنا، فامتثلت ما أمرها به، فقال عبد المطلب: لقد عرضت علي امرأة لا يصلح لابني غيرها، فزوجها إياه، وابتنى بها.
88- وقيل: إن آمنة بنت وهب كانت في حجر عمها وهب بن عبد مناف بن زهرة، وأن عبد المطلب جاء بابنه عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتزوج عبد الله: آمنة بنت وهب، فولدت له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتزوج عبد المطلب: بهالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة -وهي أم حمزة وصفية- في مجلس واحد، وكان وهب يومئذ سيد بني زهرة نسباً وشرفاً، وآمنة يومئذ أفضل امرأة من قريش نسباً وموضعاً، فقالت قريش حين تزوج عبد الله آمنة: فلج عبد الله على أبيه.(1/340)
[35] فصلٌ: في قصة زواج عبد الله بن عبد المطلب من آمنة بنت وهب، وقصة حملها بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وولادته
89- أخبرنا أبو عبد الله: عبد الوهاب بن الحسن بن علي بن داود ابن سليمان بن خلف المصري بمصر، قال: حدثنا أبو محمد: عبد الله بن جعفر بن الورد، قال: حدثنا عبد الرحيم بن عبد الله بن البرقي، قال:(1/341)
حدثنا عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي(1/342)
عن محمد بن إسحاق قال: لما فدي عبد الله بن عبد المطلب من الذبح بمائة من الإبل ونحرت عنه انصرف عبد المطلب آخذاً بيد ابنه عبد الله فمر به على امرأة من بني أسد وهي عند الكعبة فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي، قالت: لك مثل الإبل(1/343)
التي نحرت عنه وقع علي الآن، قال: أنا مع أبي لا أستطيع خلافه ولا فراقه.
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به ابنة وهب بن عبد مناف وهي يومئذ أفضل امرأة من قريش نسباً، فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت علي بالأمس؟ قالت له: فارقك النور الذي كان معك أمس، فليس لي بك اليوم حاجة.(1/344)
90- قال: وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل -وكان قرأ واتبع الكتب- أنه كائن في هذه الأمة نبي، فولد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
91- وروي عن أم سلمة: أن عبد الله بن عبد المطلب كان في بناء له فخرج وعليه أثر الطين والغبار، فمر بامرأة يهودية كاهنة من خثعم، فرأت نور النبوة في وجهه فقالت له: هل لك أن تواقعني وأعطيك مائة من الإبل؟ فقال عبد الله بن عبد المطلب: حتى أغسل ما علي وأخرج إليك، فدخل على آمنة فواقعها ثم اغتسل وخرج إلى الخثعمية فقال لها: هل لك في الذي قلت؟ قالت: يا فتى ما صنعت بعدي؟ قال: زوجني أبي آمنة، فأقمت عندها ثلاثاً، قالت: لا حاجة لي بذلك، فقال: ولم لا؟ قالت: لأنك ذهبت من عندي وبين عينيك نور، ورجعت إلي وقد أفرغت في آمنة ذلك النور.
92- وعن عبد الرحمن بن عوف: أن عبد المطلب خرج إلى اليمن فلقيه رجل من اليهود له علم فنظر إلى عبد المطلب فقال: أرني منك(1/345)
شيئين، فقال عبد المطلب: أريك ما لم يكن عورة، قال: ما أريد العورة، أريد أن أنظر إلى أنفك وكفيك، قال: انظر، قال له: ابسط كفيك فبسطهما، فقال: أما في كفيك فملك، وأما أنفك فإن فيه النبوة، ولا يتم ذلك إلا ببني زهرة، فهل من شاعة؟ قال: لا، قال: فتزوج في بني زهرة.(1/346)
فلما رجع عبد المطلب تزوج هالة بنت وهيب، وتزوج عبد الله آمنة بنت وهب، فقالت قريش: فلج عبد الله على أبيه.
فلما ابتنى بها عبد الله بن عبد المطلب مرض نساء قريش، ومات منهن مائتا امرأة أسفاً على عبد الله بن عبد المطلب، فأعطى الله آمنة من النور والعفاف والبهاء ما كانت تدعى سيدة قومها، وبقي عبد الله على ذلك ونور رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه، حتى أذن الله تعالى له أن ينتقل، فانتقل عشية عرفة وليلة الجمعة، فأمر الله عز وجل خازن الجنة بأن يفتح أبواب الجنان للنور المكنون، فاستقر عند آمنة، فأصبحت يومئذ أصنام الدنيا كلها منكوسة، وأصبح عرض إبليس عدو الله منكوساً أربعين يوماً، فأفلت إبليس هارباً أسود محترقاً حتى أتى جبل أبي قبيس فصاح صبيحة ورن رنة، فاجتمع إليه الشياطين من كل ناحية فقالوا: يا سيد القوم ما الذي دهاك؟ فقال إبليس: ويلكم أهلكتنا هذه المرأة، قالوا:(1/347)
وما القصة؟ قال: هذا محمد صلى الله عليه وسلم مبعوث بالسيف القاطع الذي لا حياة بعده، يغير الأديان، ويبطل اللات والعزى، ولا تأتي موضعاً من مواضع الدنيا إلا وجدنا ذكر الوحدانية علانية، وهذه أمته لعنني ربي من أجلها، وجعلني شيطاناً رجيماً، يظهرون الوحدانية.
قالوا: طب نفساً فإن الله خلق ذرية آدم على سبعة أطباق، وكانوا أشد من هؤلاء وأكثر أموالاً وأولاداً، فاستوفينا منهم، ولا بد لنا من أن نستوفي من الطبق السابع.
قال إبليس: فكيف تقدرون عليهم وفيهم الخصال الجميلة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فقالت العفاريت: نأتي العالم من علمه، والجاهل من جهله، وصاحب الدنيا من قبل الدنيا، والزاهد من زهده، وصاحب الرياء من ريائه.
فقال إبليس: إنهم يعتصمون بالله وحده!
قالت العفاريت: فإن اعتصموا بالله وحده أدخلنا فيما بينهم الأهواء الضالة والبخل والظلم، فإنهم يهلكون لا محالة.
فضحك إبليس، وقال: الآن أقررتم عيني، وطيبتم نفسي.
قال: وكانت قريش في جدوبة، فلما كانت السنة التي حمل فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم أخصبت، فسميت سنة الفتح، واخضرت لهم الأرض، وحملت لهم الأشجار، وعبد المطلب يومئذ في الأحياء، يخرج كل يوم متوشحاً يطوف بالبيت، وكان ينظر إلى جمال شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه.(1/348)
93- قال ابن عباس: فكان من دلالة حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك السنة وقالت: حمل بمحمد صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة، وهو أمان الدنيا وسراج أهلها، ولم يبق كاهن في قريش ولا قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبتها، وانتزع علم الكهنة منها، ولم يبق سرير من سرر ملوك الدنيا إلا أصبح منكوساً، والملك أخرس لا ينطق يومه ذلك، وفرت وحش المغرب إلى وحش المشرق بالبشارات، وكذلك أهل البحار بشر بعضهم بعضاً وقال: أبشروا فقد آن لأبي القاسم صلى الله عليه وسلم أن يخرج.
94- وبقي في بطن أمه تسعة أشهر كملاً، لا تشكو وجعاً ولا ضعفاً ولا ريحاً، ولم يعرض لأمه ما يعرض للنساء.(1/349)
95- قالت آمنة: ما شعرت أني حملت بمحمد صلى الله عليه وسلم لأني لم أجد(1/350)
ما تجد الحبلى إلا أني أنكرت رفع حيضتي.
قال الأستاذ أبو سعد صاحب الكتاب سلمه الله: ربما يرتفع الحيض ثم يعود، وهذه مسألة خلافية بين أهل الحجاز والكوفة-.
96- قالت آمنة: أتاني آت وأنا بين النائم واليقظان فقال: هل شعرت أنك حملت؟ فكأني أقول: ما أدري، فقال: إنك حملت سيد هذه الأمة، فإذا وقع بالأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه أحمد.
97- قال أبو سعد: وحدثناه به في موضع آخر فقال: ثم سميه محمداً.
قالت: فذكرت ذلك للنساء فقلن لي: تعلقي حديداً في عنقك وعضدك، قالت: فعلقت فلم يزل علي إلا أياماً حتى قطع، فكنت لا أعلقه، فلما كان قبل ولادتها بثلاث أتاها آت وقال: سميه أحمد.
وهلك أبوه وهو في بطن أمه.(1/351)
98- قال الواقدي: مات عبد الله والنبي صلى الله عليه وسلم ابن سبعة أشهر، وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ ابن خمس وعشرين سنة.
99- وقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا بقي نبيك صلى الله عليه وسلم هذا يتيماً، فقال الله عز وجل: أنا له ولي وحافظ ومعين.
وفتح الله لمولده أبواب السماء وجنانه.
100- وكانت آمنة تحدث عن نفسها وتقول: أتاني آت حين مر من(1/352)
حملي ستة أشهر فوكزني في المنام برجله وقال: يا آمنة إنك قد حملت خير العالمين طراً فإذا ولدته فسميه محمداً واكتمي شأنك.(1/353)
قال: فكانت تحدث: أنه لم يعلم بي أحد من قومي ذكر ولا أنثى، وإني لوحيدة في المنزل وعبد المطلب في طوافه قال: فسمعت وجبة عظيمة، فهالني ذلك، وذلك يوم الاثنين، فرأيت كأن جناح طير قد مسح على فؤادي فذهب عني الرعب وما كنت أجد، ثم كنت ألتفت فإذا أنا بشربة بيضاء فتناولتها وشربتها فأضاء مني نور غالب عالي، ثم رأيت نسوة كالنخل طولاً كأنهن من بنات عبد مناف فأحدقت بي من كل جانب فقلت: واغوثاه من أين علمن هؤلاء؟ فاشتد بي الأمر، وكنت أسمع وجبة كل ساعة أعظم، وإذا أنا بتاج أبيض قد مد بين السماء والأرض، وإذا قائل يقول: خذوا عن أعين الناس، قال: فرأيت رجالاً قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق فضة ويترشح من عرق كالجمان أطيب من ريح المسك، وأنا أقول: يا ليت عبد المطلب قد دخل علي، وعبد المطلب(1/354)
كان نائياً، وقالت: رأيت قطعة طير قد أقبلت من حيث لا أشعر حتى غطت حجرتي، مناقيرها من الزمرد، وأجنحتها من الياقوت، فكشف عن بصري وأبصرت من ساعتي مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت أعلاماً منصوبة، علم بالمشرق وعلم بالمغرب، وعلم على ظهر الكعبة، وأخذني المخاض فكأني مستندة إلى أركان النساء وكثرن علي حتى كأن الأيدي معي في البيت ولا أرى شيئاً، فولدت محمداً صلى الله عليه وسلم فلما خرج من بطني درت فنظرت إليه فإذا أنا به ساجداً قد رفع أصبعه إلى السماء كالمتضرع المبتهل.
101- وقيل: قالت آمنة: لما ولدت محمداً صلى الله عليه وسلم وفصل عني خرج معه نور أضاءت له قصور الشام، حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى وأسواقها.(1/355)
102- وذلك يوم الاثنين لعشر خلون من شهر ربيع الأول، وكان قدوم أصحاب الفيل للنصف من المحرم، فبين الفيل وبين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس وخمسون ليلة.
رواه أبو جعفر محمد بن علي.(1/356)
103- ومما فضله الله تعالى به أنه صلى الله عليه وسلم حين وقع من بطن أمه آمنة سطع نور أضاء ما بين الشام إلى اليمن، ووقع على أربعاً رافعاً رأسه إلى السماء، يشير بإصبعه.(1/357)
104- ومما فضله الله تعالى به أنه صلى الله عليه وسلم كان يناغي القمر في رضاعه.(1/358)
105- قالت آمنة: ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت تنزل من السماء حتى غشيتني، فغيب عن وجهي، وسمعت منادياً ينادي وهو يقول: طوفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم شرق الأرض وغربها، وأدخلوه البحار تعرفه باسمه وصفته ونعته وصورته، وليعلموا أنه إنما سمي الماحي لئلا يبقى جزء من المشرك إلا محي به في زمنه، ثم تجلت عنه في أسرع من طرفة عين، وإذا أنا به مدرجاً في ثوب صوف أبيض أشد بياضاً من اللبن، وتحته حريرة خضراء قد قبض على ثلاث مفاتيح من اللؤلؤ الرطب الأبيض، وإذا قائل يقول: قبض محمد صلى الله عليه وسلم على مفاتيح النصرة، ومفاتيح الفتح، ومفاتيح النبوة، ثم أقبلت سحابة أخرى أعظم من الأولى وأنور، أسمع منها صهيل الخيل وخفقان الأجنحة وكلام الرجال حتى غشيته، فغيب عن وجهي أطول وأكثر من المرة الأولى، فسمعت منادياً ينادي ويقول: طوفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم المشرق والمغرب، وعلى مواليد النبيين واعرضوه على روحاني أمته من الجن والأنس والطير والسباع، واعطوه من اللون: صفاء آدم، ورقة نوح، وخلة إبراهيم، ولسان إسماعيل، وجمال يوسف، وبشرى يعقوب، وصوت داود، وصبر أيوب، وزهد يحيى، وكرم عيسى صلوات الله وسلامه عليهم، واغمروه في كل أخلاق النبيين، ثم تجلت عنه في أسرع من طرفة العين، فإذا أنا به قد قبض على حريرة خضراء مطوية طياً شديداً، وإذا منادي يقول: بخ بخ قبض محمد صلى الله عليه وسلم على الدنيا كلها، لم يبق خلق من أهلها إلا دخل في قبضته طائعاً بإذن الله.(1/359)
106- قالت آمنة: فبينا أنا أتعجب إذا أنا بثلاث نفر ظننت أن الشمس تطلع من خلال وجوههم، في يد أحدهم إبريق فضة، وفي داخل ذلك الإبريق ريح كريح المسك، وفي يد الثاني: طست من زمرد خضراء عليها أربع نواحي كل ناحية لؤلؤة بيضاء، وإذا قائل يقول: هذه الدنيا شرقها وغربها وبرها وبحرها فاقبض يا حبيب الله على ما شئت، فسمعت قائلاً يقول: قبض على الكعبة ورب الكعبة، إن الله جل جلاله جعلها قبلة له، ورأيت في يد الثالث حريرة بيضاء مطوية طياً شديداً فنشرها، فأخرج منها خاتماً تحار أبصار الناظرين دونه إذا نظروا إليه، فغسله بذلك الماء من الإبريق سبع مرات، ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ختماً واحداً، ولفه بالحرير، واستدار عليه بالخيط -وهو خيط من المسك الإذفر- ثم أدخله بين أجنحته ساعة.
107- قال ابن عباس: كان ذلك رضوان خازن الجنة.
قالت: قال في أذنه كلاماً كثيراً لم أفهمه، وقبل بين عينيه، وقال: أبشر يا محمد فما بقي لنبي علم إلا وقد أعطيت، فأنت أكثرهم علماً، وأشجعهم قلباً، معك مفاتيح النصر، وألبست الخوف والرعب، لا يسمع أحد بذكرك إلا وجل فؤاده، وخاف قلبه.
قالت: ثم رأيت رجلاً أقبل يخرقهم حتى وضع فاه على فيه فجعل يزقه كما تزق الحمامة فرخها، وكنت أنظر إلى ابني يشير(1/360)
بإصبعه ويقول: زدني زدني، فزقه ساعة وقال: أبشر يا حبيبي فما بقي لنبي حلم إلا وقد أعطيت، ثم احتمله فغيبه عني، فجزع فؤادي وذهل قلبي، ويح قريش، الويل لها، أنا في ولادتي وليلتي أرى ما أرى، ويصنع بولدي ما يصنع ولا يقربني أحد من قومي؟! إن هذا العجب العجيب.
قالت: فبينا أنا كذلك إذا أنا به قد رده علي كالبدر، ريحه يسطع كالمسك وهو يقول: خذيه، فقد طافوا به المشرق والمغرب وعلى مواليد النبيين أجمعين، والساعة كان عند أبيه آدم عليه السلام فضمه إليه وقبل بين عينيه وقال: أبشر حبيبي؛ فإنك سيد ولدي من الأولين والآخرين، فناولنيه ومضى، وجعل يلتفت إليه ويقول: أبشر يا عز الدنيا وشرف الآخرة، فقد استمسكت بالعروة الوثقى، فمن قال بمقالتك وشهد بشهادتك حشر يوم القيامة تحت لوائك وفي زمرتك، فناولنيه ومضى، ولم أره بعد تلك المرة.
108- قال عبد المطلب: كنت تلك الليلة في الكعبة أرم منه شيئاً، فلما انتصف الليل إذا أنا بالبيت الحرام قد استمال بجوانبه الأربع، وخر ساجداً في مقام إبراهيم، ثم استوى البيت قائماً أسمع منه تكبيراً عجيباً ينادي: الله أكبر الله أكبر، رب محمد المصطفى، الآن قد طهرني به ربي من أنجاس المشركين، ورجسات الجاهلية، ثم انقضت الأصنام كما ينقض الثوب، فكأني أنظر إلى الصنم الأعظم هبل وقد انكب في الحجر على وجهه، وسمعت منادياً ينادي: ألا إن آمنة قد ولدت محمداً صلى الله عليه وسلم وقد انكشفت عنها سحايب الرحمة، هذا طست الفردوس قد أنزل ليغسل فيه الثانية.(1/361)
قال عبد المطلب: فلما رأيت البيت وفعله، والأصنام وفعلها، ذهبت من الدنيا حتى لا أدري ما أقول، وجعلت أحسر عن عيني وأقول: إني لنائم، ثم قلت: إني ليقظان، ثم انطلقت إلى بطحاء مكة فخرجت من باب بني شيبة، فإذا أنا بالصفا يتطاول والمروة ترتج ومنادي ينادي من كل جانب: يا سيد قريش ما لك كالخائف الوجل، أمطلوب أنت؟ فلا أجيب جواباً إنما كان همي منزل آمنة لأنظر إلى ابنها محمد صلى الله عليه وسلم .
قال عبد المطلب: فإذا أنا بطير الأرض محشورة إليها، وإذا بجبال مكة مشرفة عليها، وإذا أنا بسحابة بيضاء بإزاء حجرتها، فلما رأيت ذلك ذهبت من الدنيا وتحيرت حتى لا أدري ما أقول، وجعلت أحسر عن عيني ثم أقول: إني لنائم، ثم أقول: كلا إني ليقظان، وما يمكنني أن أدنو من الباب من شدة فيحان المسك، ولمعان النور فتحاملت على نفسي الجهد الجهيد مني حتى دنوت من الباب، فاطلعت فإذا أنا بآمنة قد أغلقت الباب على نفسها ليس بها أثر النفاس والولادة.
قال: فدققت الباب دقاً عنيفاً فأجابتني بصوت خفي فقلت: ويح نفسي عجلي وافتحي الباب لا تنشق مرارتي، ففتحت الباب مبادرة، فأول شيء وقع بصري على وجهها على موضع نور محمد صلى الله عليه وسلم ، فلم أر أثر النور فضربت يدي على لحيتي لأشقها، فقلت: واغوثاه يا آمنة أنائم أنا أم يقظان؟ قالت: بل يقظان، ما لك كالخائف الوجل، أمطلوب أنت؟ قلت: لا ولكنني منذ ليلتي هذه وأنا في كل ذعر وخوف، ما لي لا أرى النور الذي كنت أراه بين عينيك؟ قالت: بلى والله(1/362)
لقد وضعته أتم الوضع وأهونه وأيسره، وهذه الطير الذي نزل بإزاء حجرتي لفي منازعتي، تسألني منذ وضعته أن أدفعه إليها تحمله إلى عشاشها، وهذه السحابة تسألني كذلك.
قال عبد المطلب: فهلميه حتى أنظر إليه، قالت: حيل بينك وبينه أن تراه يومك هذا، قال: ولم ذاك؟ قالت: لأنه أتاني آتٍ ساعة ولدته كأنه قضيب فضة أو كالنخلة الباسقة قال: يا آمنة انظري أن لا تخرجي هذا الغلام إلى خلق من ولد آدم حتى يأتي عليه من يوم ولدته ثلاثة أيام، فسل عبد المطلب سيفه فقال: لتخرجنه أو لأقتلنك، قالت: شأنك وإياه، قال: وأين هو؟ قالت: في ذلك البيت مدرج في ثوب صوف أبيض أشد بياضاً من اللبن وتحته حريرة خضراء.
قال عبد المطلب: فلما هممت أن أفتح الباب برز إلي من داخل البيت رجل لم أر من الرجال أهول منه منظراً، شاهراً سيفه بيده فحمل علي وقال: إلى أين ثكلتك أمك؟ قال قلت: أدخل البيت، قال: وما تصنع؟ قال قلت: أنظر إلى ابني محمد، قال: ارجع وراءك، فلا سبيل لأحد من ولد آدم إلى رؤيته أو تنقضي عنه زيارة الملائكة، فارتعد عبد المطلب وألقى السيف من يده وخرج مبادراً ليخبر قريشاً بذلك، فأخذ الله على لسانه فلم ينطق بهذه الكلمة سبعة أيام ولياليها.
109- قال مجاهد: سألت ابن عباس قلت: تنازعت الطير والسحاب في رضاعه؟ قال: نعم، وجميع الخلق: الجن والإنس، وذلك أنه لما رد على آمنة نادى منادي الرحمن من بقاع الأرض وأطباق السماوات: معاشر الخلائق هذا محمد بن عبد الله طوبى لثدي أرضعته، وطوبى لأيد كفلته، بل طوبى لبيت يسكنه.(1/363)
قالت الطير: نحن أحق برضاعه، فضجت السحاب إلى الله عز وجل: نحن المسخرات من السماء والأرض نحمله إلى براري الدنيا وزواياها، ونعرف كل شجرة طيبة فنطعمه الثمر منها، وكل عين باردة نسقيه منها، ونغذوه بماء المزن من تحت العرش حولين كاملين.
فنوديت كلها: أن كفوا عن رضاع محمد صلى الله عليه وسلم فقد أجرى الله ذلك على أيدي الإنس.
فأجرى الله ذلك لحليمة بنت أبي ذؤيب السعدية.(1/364)
[36] باب: في ذكر رضاع رسول الله صلى الله عليه وسلم
110- أخبرنا أبو الوفاء: تمام بن عبد الله الصقلي مولى جعفر بن الفضل بن الفرات الوزير بمصر قال: أخبرنا أبو إسحاق: إبراهيم بن(1/365)
علي بن أحمد البصري المعروف بالحنائي قال: أخبرنا أبو مسلم(1/366)
إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: أخبرنا أبو عمرو: نصر بن زياد بن عبد الله قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن الجهم بن أبي الجهم(1/367)
مولى الحارث بن حاطب، عن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين،(1/368)
عن حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، من بني سعد بن بكر بن هوازن -قال أبو عمرو: هي أم نبي الله التي أرضعته وفصلته- قالت: أصابتنا سنة شهباء، لم يبق لنا شيء، فخرجنا في نسوة من بني سعد بن بكر إلى(1/369)
مكة، لم يبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من سببها أن الله عز وجل أجدب البلاد، وأقحط الزمان حتى دخل ضرر ذلك على عامة الناس.
فكانت حليمة تحدث نفسها وتقول: كان الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة شديدة، وجهد جهيد، وكنا نحن أهل بيت أشد الناس كلهم فقداً وجهداً، وكنت امرأة طوافة أطوف في البراري والجبال أطلب النبات والحشائش -حشائش الأرض- وكنت أصيب مثل(1/370)
ما تصيب أخواتي اللواتي خرجن معي وأقل منهن، وكنت أقنع وأحمد ربي على الجهد والبلاء، فخرجت يوماً إلى بطحاء مكة فجعلت لا آمر بشيء من الحشائش والنبات إلا استطال إلي فرحاً، وأقمت بذلك أياماً، ثم ولدت مولوداً في بعض الليالي، ولم أكن ذقت شيئاً منذ سبعة أيام، فكنت ألتوي كما تلتوي الحية من شدة الجهد والجوع، فلا أدري أنا في السماء أم في الأرض، فبينا أنا ذات ليلة راقدة أتاني آت في المنام فحملني فقذف بي في نهر فيه ماء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وأذكى ريحاً من الزعفران، وألين من الزبد، فقال: أكثري من شرب هذا الماء يكثر لبنك وخيرك، قالت: فشربت، ثم قال: ازدادي، فازددت، ثم قال: أروي، فرويت، ثم قال: أتعرفينني؟ قلت: لا، قال: أنا الحمد الذي كنت تحمدين ربك في سرائك وضرائك، وعلى أمورك وحالاتك، انطلقي إلى بطحاء مكة فإن لك فيها رزقاً واسعاً فستأتين بالنور الساطع، والهلال البدري، واكتمي شأنك ما استطعت، ثم ضرب بيديه على صدري وقال: اذهبي أحل الله لك الرزق، وأجرى لك اللبن.(1/371)
قالت: فانتبهت من المنام وأنا أجمل نساء بني سعد قاطبة، لا أطيق أن أنقل ثديي كأنهما الجرة -كالجرة العظيمة- يتسبسب ويشخب منها لبن يقطر كما يقطر الروايا، وإن الناس من بني سعد حولي لفي ضيق وإنما كنا نرى البطون لازقة بالظهور، والألوان متغيرة، وكنا نسمع من كل دار أنيناً كأنين المرضى من شدة الجهد والجوع، لا يكاد يجري الدمع إذا بكت العيون من شدة اليبوسة وضيق الزمان، لا نرى في الجبال الراسيات شيئاً قائماً، ولا على وجه الأرض شجراً زاهراً.
قالت: وكادت العرب أن تهلك هزلاً وضراً، واجتمع النساء حولي يتعجبن مني ويقلن: يا بنت أبي ذؤيب إن لك شأناً وقصة، أصبحت اليوم تتشبهين ببنات الملوك، ولقد فارقتنا بالأمس وبك ما بك من تغير اللون وضيق العيش! قالت: فكنت لا أجيب جواباً، ولا أنطق وذلك أني أمرت في المنام، فكتمت شأني.
ثم صعدنا يوماً إلى بطحاء مكة نطلب البنات كعادتنا فسمعنا منادياً ينادي: ألا إن الله تبارك وتعالى حرم في هذه السنة على نساء الشرق والغرب والجن والإنس يلدن في هذه السنة بناتاً لأجل مولود يولد في قريش، هو شمس النهار، وقمر الليل، وطوبى لثدي أرضعته، ألا فبادرن يا نساء بني سعد.
فلما سمع النساء ذلك انحدرن جميعاً من ذروة الجبل، وجعلن يخبرن أزواجهن بما سمعن، وعزم النساء الخروج إلى مكة، فخرجن -وكانوا في جهد جهيد- وخرجت أنا على أتان لي معنا، فأسمع لها في جوفها خضخضة قد بدت عظامها من سوء حالها، وصاحبي معي، قالت: فجعل النساء يجددن في السير، ويقول صاحبي: ألا ترين النساء قد سبقننا؟(1/372)
قالت: فكنت أجد وأسوق الأتان فتمشي على المجهود منها كأنها تنزع يديها ورجليها من الوحل من شدة الضعف، قالت: فجعلت لا أمر بشيء إلا استطال علي فرحاً ونادتني الأشياء من كل مكان: هنيئاً هنيئاً لك يا حليمة، قالت: فكنت لا أقدر أمر وحدي لما أسمع من النداء والعجائب حولي، فبينا أنا كذلك إذ برز إلي من الشعب بين الجبلين رجل كالنخلة الباسقة وبيده حربة يلوح لمعانها من النور، فرفع يده اليمنى فضرب بطن الحمار ضربة ونادى: مري يا حليمة بكل سلاماتك، فقد أنزل الله بشارتك، مري فقد أمرني الرحمن أن أدفع عنك اليوم كل شيطان مريد وجبار عنيد، قالت: فقلت لصاحبي: يا فلان أترى وتسمع ما أسمع؟ فيقول: لا، ما لك كالخائفة الوجلة؟ قالت: فقلت: أخاف أن لا ألحق من قومي أحداً.
فجعلت أسير حتى نزلنا جميعاً متوافين كلنا فرسخين من مكة، فلما أصبحت دخلت مكة وقد سبقني كل نساء بني سعد إلى كل رضيع بمكة، فكدت أنقلب خاوية، فقلت لصاحبي: أنت رجل وأنا امرأة فادخل واسأل عن أعظم الناس نذراً وخطراً، قالت: فرجع علي فقال: بنو مخزوم، قالت: قلت: ليس كذا، سل سؤالاً أشفى من هذا، سل من أعظم الناس كلهم قدراً وخطراً، قالت: فرجع إلي فقال: عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف، قالت: فأقعدت صاحبي في الرحل، ودخلت مكة فأصبت نساء قومي وقد سبقنني إلى كل رضيع في قريش.
قالت: فندمت أشد الندامة على دخول مكة وقلت في نفسي: لو أني أقمت في منزل من منازل بني سعد لكان أحسن لحالتي، وآيست عندها، فجعلت أدخل بيتاً وأخرج من الآخر فإذا نساء قومي قد سبقنني(1/373)
إلى كل رضيع في قريش، فبينا أنا كذلك إذا أنا بعبد المطلب وجمته تضرب منكبيه ينادي بأعلى صوته: معاشر الرضع هل فيكن واحدة؟ قالت: فقصدت قصده، فقلت: أنعم صباحاً أيها الملك المنادي، قال: فمن أنت؟ قلت: أنا امرأة من بني سعد، قال: ما اسمك؟ قلت: حليمة، فضحك عبد المطلب وزجر وقال: بلغ، بخ بخ سعد وحلم هاتان خلتان فيهما غنى الدهر، وعز الأبد، ويحك يا حليمة إن عندي غلاماً صغيراً يتيماً يقال له: محمد، وإني قد عرضته على جميع نساء بني سعد فأبين أن يقبلنه وقلن: إنه يتيم وما عند اليتيم من خير، وإنما نلتمس كرامة الآباء، فهل لك أن ترضعيه لعلك تسعدين به؟ قالت قلت: حتى أستأمر صاحبي فتعلق بي وقال: بالله لترجعين لا كارهة، قالت: قلت: والله لأرجعن لا كارهة.
قالت: فانطلقت إلى صاحبي فأخبرته بذلك، فكأن الله قذف في قلبه فرحاً وقال: ويحك خذيه، فإن فاتك محمد لن تفلحي أبد الآبدين ودهر الداهرين، قلت: فأردت والله أن لا أرجع وذلك أنه كان معي ابن أخت لي فقال لي: يا خالة أترجع نساء بني سعد بالرضاع والكرم من الآباء وترجعين أنت بيتيم في قريش، فإن أخذتيه لا تزدادي على نفسك إلا جهداً وضراً، فأردت أن لا أرجع، فأخذتني الحمية وعصبية الجاهلية، فقلت: ترجع نساء قومي بالرضاع وأرجع خائبة، والله لآخذنه وإن كان يتيماً، فهذا عبد المطلب جده لم أر في الآدميين أجمل منه جمالاً، وإن رؤياي التي رأيتها في المنام وتصديقها في اليقظة لا يذهب(1/374)
أبداً باطلاً، قالت: فرجعت إليه وهو قاعد فقلت: هلم الصبي، فتهلل وجهه فرحاً، وقال: يا حليمة وقد نشطت لأخذه؟ قالت قلت: نعم، فانطلق بين يدي يهرول ويجر حلته، حتى أدخلني في بيت فيه آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم .
قالت: وإذا هي امرأة هلالية بدرية، كأن الكوكب الدري معصوب بأسارير جبهتها، قالت: أهلاً وسهلاً بك يا حليمة، ثم أخذت بيدي وأدخلتني إلى بيت فيه محمد صلى الله عليه وسلم فإذا أنا به مدرجاً في ثوب من صوف أبيض أشد بياضاً من اللبن يفوح من نسج ذلك الصوف الذي عليه ريح كريح المسك الإذفر، وتحته حريرة خضراء، وهو راقد حلاوة القفا يغط في النوم، قالت: فلما نظرت إليه أشفقت عليه لحسنه وجماله أن أوقظه من نومه، فدنوت منه رويداً، فوضعت يدي على صدره، فتبسم ضاحكاً وفتح عينيه ينظر بهما إلي فخرج من العينين نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر، فبادرت فغطيت وجهه بردائي لكيلا ترى أمه ذلك، وقبلت بين عينيه، واحتملته صلى الله عليه وسلم وأعطيته ثديي الأيمن فشرب، قالت: فحولته إلى الأيسر فأبى أن يشرب.
111- قال ابن عباس: إنما أبى لأن الله عز وجل ألهمه بالعدل في رضاعه، وعلم أن له فيه شريكاً فناصفه عدلاً.(1/375)
قالت حليمة: فكان ثديي الأيمن لمحمد صلى الله عليه وسلم والأيسر لابني ضمرة، وكان ابني لا يشرب أبداً حتى ينظر إلى محمد صلى الله عليه وسلم قد شرب، فحملته فأتيت به صاحبي فلما أن نظر إليه خر ساجداً وقال: أبشري يا حليمة فما رجع خلق إلى البلاد أغنى منا، قالت: فدعتني أمه، وقالت: انظري فدتك نفسي أن لا تخرجي أبداً من بطحاء مكة حتى تعلميني، فإن لي وصايا أوصيك بها، قالت حليمة: فبات عندي محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال، فلما كان في الليلة الثالثة انتبهت في بعض الليل لأقضي حاجة وأصلح شيئاً من شأني فإذا برجل عليه ثياب خضر يتألق نوراً قاعداً عند رأسه يقبل بين عينيه، قالت: فنبهت صاحبي رويداً رويداً وقلت: انظر إلى العجب العجيب، قال: اسكتي واكتمي شأنك، فمنذ ليلة مولد هذا الغلام قد أصبحت أحبار الدنيا قياماً على أقدامها لا يهنأ لها عيش النهار ولا نوم الليل، وما رجع أحد من البلاد أغنى منا.
قالت: فلما كان في اليوم الثالث ودع الناس بعضهم بعضاً، وودعت آمنة ثم ركبت أتاني، وحملت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي، قالت: فكنت أنظر إلى الأتان تسجد ثلاث سجدات نحو الكعبة وترفع رأسها إلى السماء، ثم مرت حتى سبقت دواب القوم ورحالهم، فكان النساء يتعجبن مني وينادينني من ورائي: يا بنت أبي ذؤيب أليست هذه أتانك التي ركبتها وأنت جائية معنا من البلاد فكانت تخفضك طوراً وترفعك(1/376)
أخرى؟ فأقول: بلى، إنها لهي، فتعجبن مني وقلن: والله إن لها لشأناً عظيماً.
قالت: فكنت أسمع أتاني تنطق وتقول: إي والله إن لي لشأناً ثم شأناً، أنعشني الله بعد موتي، ورد علي سمني بعد هزالي، ويحكن يا نساء بني سعد إنكن لفي غفلة عني، أتدرون من علي؟ علي خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وخير جبلة الأولين والآخرين، وحبيب رب العالمين.
قالت: ومرت حتى سبقت دوابهم ورحالهم، فلم أكن أنزل منزلاً من منازل بني سعد إلا أنبت الله فيه عشباً وخيراً كثيراً، فلما صار محمد صلى الله عليه وسلم عندي ثمر الله لي المواشي والأغنام، فكانت غنمي تروح وتغدو وتدر وتضع وتحلب، لا تضع لأحد من قومي مثلي.
فجمعت بنو سعد رعاتها وقالوا: ثكلتكم أمهاتكم، ما بال أغنام بنت أبي ذؤيب تروح وتغدوا، وتدر وتحلب، ولا تضع لأحد من بني سعد مثله؟!، اسرحوا كلكم وارعوا في مراعي حليمة، وحيث تسرح أغنامها وتحل.
قالت: وكانت رعاة قومي يرعون في مرعى غنمي، فثمر الله لهم المواشي والأولاد والأموال، فما زلنا نعرف البركات مذ كان النبي صلى الله عليه وسلم عندنا وفي بيتنا، وألقى الله محبته على كل من رآه من الناس، فلم يكن يتمالك فرحاً، وأكثر الله لي الخير حتى كنا نفيض على قومنا، وكانوا يعيشون في أكنافنا.
فلما كان عند قرب ما تكلم به سمعت منه كلاماً عجيباً ينادي: الله أكبر الله أكبر، الحمد لله رب العالمين، قالت: فكنت معه في(1/377)
الرضاع في كل دعة وسرور، ما غسلت له بولاً قط، طهارة ونظافة، إنما كان له في كل يوم وقت واحد يتوضأ فيه ولا يعود إلا في وقته من الغد، واجتنبت زوجي جهدي وهو في الرضاع.
فلما ترعرع كان يخرج إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم، فقال لي يوماً من الأيام: ما لي لا أرى إخوتي بالنهار؟ قالت: قلت: فدتك نفسي يرعون غنماً لنا، فيروحون من ليل إلى ليل، فأسبل عينيه وبكى، وقال: يا أماه فما أصنع إذاً ها هنا وحدي؟ ابعثي بي غداً معهم، قالت: قلت: وتحب ذلك؟ قال: نعم، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهنته وكحلته وقمصته وعمدت إلى جذعة يمانية فعلقتها في عنقه حرزاً من العين، وأخذ عصا وخرج مع إخوته، وكان يخرج مسروراً ويرجع مبروراً، فلما كان يوماً من الأيام خرجوا يرعون بهماً لنا حول بيوتنا، فلما انتصف النهار إذا أنا بابني ضمرة يعدو، قد علاه العرق ورشح الجبين باكياً ينادي: يا أماه، يا أباه أدركا أخي محمداً، فما أراكما تلحقانه إلا ميتاً. قالت قلت: وما قصته؟ قال: بينا نحن قيام نترامى بيننا بالجلة ونلعب إذا أتاه رجل فاختطفه من أواسطنا وعلا به على ذروة من الجبل،(1/378)
فنحن نراه حتى شق من صدره إلى عانته، ولا أدري ما فعل به، وما أظنكما تلحقانه أبداً إلا مقتولاً.
قالت: فأقبلت أنا وأبوه -تعني زوجها- نسعى سعياً، فإذا أنا به قاعداً على ذروة الجبل متربعاً شاخصاً بعينيه نحو السماء يبتسم ويضحك، فانكببت عليه، وقبلت بين عينيه، وقلت: فدتك نفسي ما الذي دهاك؟ قال: خيراً يا أماه، بينا أنا الساعة قائم مع إخوتي نتقاذف بيننا بالجلة إذ أتاني رهط ثلاثة في يد أحدهم إبريق فضة، وفي يد الثاني طست من زمرد خضر ملئ ثلجاً فأخذوني من بين أصحابي وانطلقوا بي إلى ذروة الجبل فأضجعني بعضهم على الجبل إضجاعاً لطيفاً ثم شق من صدري إلى عانتي، وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حساً ولا ألماً، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج أحشاء بطني فغسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها ثم أعادها مكانها.
وقام الثاني فقال للأول: تنح فقد أنجزت ما أمرك الله، فدنا مني فأدخل يده في جوفي، فانتزع قلبي وشقه باثنين فأخرج منه نكتة سوداء ملتوية بالدم فدمي به وقال: هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله، ثم حشاه بشيء كان معه، ورده مكانه، ثم ختمه بخاتم من نور، فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي.
فقام الثالث إليهما فقال: تنحيا فقد أنجزتما ما أمر الله عز وجل به،(1/379)
ثم دنا الثالث مني فأمر يده على ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم الشق، وأنا أنظر إليه، ثم قال: زنوه بعشرة من أمته، فوزنوني فرجحتهم، فقال: زنوه بمائة، فوزنوني فرجحتهم، فقال: زنوه بألف فوزنوني فرجحتهم، قال: دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجح بها.
ثم أخذ بيدي فأنهضني من الأرض إنهاضاً لطيفاً، وانكبوا علي وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا: يا حبيباه لا ترع، إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك، وتركوني قاعداً في مكاني هذا، ثم جعلوا يطيرون طيراً حتى دخلوا خلال السماء، وأنا أنظر إليهم، فلو شئت لأريتك موضع دخولهم.
قالت: فاحتملته فأتيت به منزلاً من منازل بني سعد، فقال الناس: اذهبي به إلى كاهن حتى ينظر إليه ويداويه، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : ما بي شيء مما تذكرون، وإني أرى نفسي سليمة وفؤادي صحيحاً، بحمد الله، فقال الناس: أصابه لمم أو طائف من الجن، قالت: فغلبوني على رأيي حتى انطلقت به إلى الكاهن فقصصت عليه القصة، فقال: دعيني أسمع من الغلام أمره، فإن الغلام أبصر بأمره منكم، تكلم يا غلام.
قالت حليمة: فقص محمد صلى الله عليه وسلم قصته من أولها إلى آخرها، فوثب على قدميه وضمه إلى صدره، ونادى بأعلى صوته: يا للعرب من شر قد(1/380)
اقترب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فإنكم إن تركتموه وأدرك مدرك الرجال ليسفهن أحلامكم، وليكذبن أديانكم، وليدعونكم إلى رب تعرفونه، ودين تنكرونه.
قالت: فلما سمعت مقالته انتزعته من يده وقلت: لأنت أعته وأجن من ابني، ولو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك، فإنا لا نقتل محمداً صلى الله عليه وسلم .
فاحتملته فأتيت به منزلي فما علمنا منزلاً من منازل بني سعد إلا وقد شممنا منه ريح المسك الإذفر، وكان في كل يوم ينزل عليه رجلان أبيضان فيغيبان في ثيابه ولا يظهران، فقال الناس: رديه على عبد المطلب واخرجي من أمانتك، قالت: فعزمت على ذلك، فسمعت منادياً ينادي: هنيئاً لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد إليك النور والزين والبهاء والكمال، فقد أمنت من أن تجدبين أو تخربين أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
قالت: فركبت أتاني وحملت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي، وأقبلت أسير حتى أتيت إلى الباب الأعظم -من أبواب مكة- وعليه جماعة مجتمعون، فوضعته لأقضي حاجتي وأصلح ثيابي، فسمعت هدة شديدة، فالتفت فلم أره، فقلت: معاشر الناس أين الصبي؟ فقالوا: أي صبي؟ قالت قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي نضر الله به وجهي، وأغنى عيلتي، وأشبع جوعتي، ربيته حتى أدركت فيه سروري وأملي، فأتيت به لأرده، وأخرج من أمانتي فاختلس من يدي قبل أن تمس قدمه الأرض، واللات والعزى لئن لم أره لأرمين نفسي من شاهق الجبل، ولأتقطعن إرباً إرباً.(1/381)
قال الناس: إنا لنراك عايياً، من أين كان معك محمد؟ قالت قلت: الساعة، كان بين أيديكم، قالوا: ما رأينا شيئاً، فلما آيسوني وضعت يدي على أم رأسي وقلت: وامحمداه، واولداه، فأبكيت الناس الأبكار لبكائي، وضج الناس معي بالبكاء حرقة، فإذا أنا بشيخ كالفاني متوكئ على عصا قال: ما لك أيتها السعدية تبكين وتضجين؟
قلت: فقدت ابني محمداً صلى الله عليه وسلم ، قال: لا تبكين، أنا أدلك على من يعلم علمه وإن شاء الله أن يرده فعل، قالت: قلت: فدتك نفسي، ومن هو؟ قال: الصنم الأعظم هبل هو العالم بمكانه، فادخلي واطلبي إليه، فإن شاء أن يرده رده، قالت: فزبرت الشيخ وقلت: ثكلتك أمك، كأنك لم تر ما نزل باللات والعزى في الليلة التي ولد فيها محمد صلى الله عليه وسلم قال: إنك لتهذين ولا تدرين ما تقولين، أنا أدخل عليه فأسأله أن يرده عليك.
قالت حليمة: فدخل وأنا أنظر فطاف بهبل أسبوعاً، وقبل رأسه ونادى: يا سيداه، لم تزل منتك على قريش قديمة، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضل فرده إن شئت، وأخرج هذه الوحشة من بطحاء مكة، قالت: فانكب هبل على وجهه وتساقطت الأصنام بعضها على بعض، ونطقت وقالت: إليك عنا أيها الشيخ، إنما هلاكنا على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، قالت: فأقبل الشيخ أسمع لأسنانه اصطكاكاً، ولركبتيه ارتعاداً، وقد ألقى عكازته من(1/382)
يده، وهو يبكي ويقول: يا حليمة إن لابنك رباً لا يضيعه فاطلبيه على مهل.
قالت: فخفت أن يبلغ الخبر عبد المطلب قبلي، فقصدت قصده، فلما نظر إلي قال: أسعد نزل بك أم نحس؟ قالت: قلت: بل النحس الأكبر، ففهمها مني وقال: لعل ابنك ضل منك؟ قالت قلت: نعم، فظن أن بعض قريش اغتالوه فقتلوه، فسل عبد المطلب سيف -وكان لا يثبت له أحد من شدة غضبه- فنادى بأعلى صوته: يا غالب، يا غالب -وكانت دعوتهم في الجاهلية- فأجابته قريش بأجمعها وقالوا: ما قصتك؟ قال: فقدت ابني محمداً، قالت قريش: اركب نركب معك، فإن تسنمت جبلاً تسنمنا معك، وإن خضت بحراً خضنا معك.
قال: فركب وركبت قريش، وآلى أن لا يأكل الخبز ولا يمس رأسه غسلاً ولا طيباً حتى يظفر بمحمد صلى الله عليه وسلم أو يقتل ألفاً من العرب، ومائة من قريش، فأخذ على أعلى مكة، وانحدر على أسفلها، فلما أن لم ير شيئاً، ترك الناس واتشح بثوب، وارتدى بآخر وأقبل إلى البيت الحرام فطاف أسبوعاً ثم أنشأ يقول:
يا رب رد ولدي محمداً ... اردده علي واتخذ عندي يدا
يا رب إن محمداً لم يوجدا ... فاجعل قوى كلامهم مبددا
فسمعنا منادياً ينادي من جو السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد صلى الله عليه وسلم رباً لا يخذله ولا يضيعه، قال عبد المطلب: يا أيها الهاتف(1/383)
ومن لنا به، وأين هو؟ قال: بوادي تهامة، عند شجر السمر.
فأقبل عبد المطلب راكباً ومتسلحاً، فلما صار ببعض الطريق تلقاه ورقة بن نوفل فصارا جميعاً يسيران، وتقدم أبو مسعود الثقفي فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب الشجرة وهو يجذب الأغصان ويعبث بالورق، فدنا منه فقال: من أنت يا غلام؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إليك عني يا أخا ثقيف، قال: فبقي متعجباً من حداثة سنه وسرعة جوابه فقال له الثقفي: من أنت يا غلام؟ قال: أنا ابن سيد العرب كلها، أما محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: فرجع أبو مسعود الثقفي فبشر عبد المطلب وقريشاً حتى دنوا من النبي صلى الله عليه وسلم فدنا عبد المطلب فقال: يا غلام من أنت؟ فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه إلى جده قال: أنا ابن ابنك ومن نسلك، فقال:يا غلام انسب لي نفسك، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم نسبه -وسيجيء بعد إن شاء الله-.
قال: وكان صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن ست وثمانين شهراً.
فاحتمله عبد المطلب على مقدم راحلته حتى أتى به الكعبة وطاف به حولها ويقول:
أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد(1/384)
فقال له عبد المطلب: فدتك نفسي وأنا جدك، ثم حمله على قربوس سرجه، ورده إلى مكة فاطمأنت قريش بعد ذلك.
قالت: فلما اطمأن الناس جهزني عبد المطلب بأحسن الجهاز، وصرفني فانصرفت إلى منزلي وأنا بكل خير من الدنيا، لا أحسن أن أصف كثرة خيري، وصار محمد صلى الله عليه وسلم عند جده.
112- وروي عن حليمة قالت: وضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يابسة في وقت رضاعه، فتعلق النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الشجرة، فاخضرت الشجرة لمس رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها.(1/385)
[37] باب: تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور أمارات النبوة فيه
113- وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: رد النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس سنين -وقيل: ابن أربع سنين- إلى أمه آمنة فكان معها إلى أن بلغ ست سنين، ثم خرجت به آمنة إلى أخواله بني النجار بالمدينة ومعه أم أيمن فنزلت به في دار النابغة -رجل من بني عدي بن النجار- فأقامت به شهراً.
114- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أموراً كانت في مقامه ذلك، فلما نظر إلى أطم بني عدي بن النجار عرفها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : نظرت إلى رجل من اليهود يختلف إلي وينظر إلي ثم ينصرف عني، فلقيني يوماً خالياً فقال: يا غلام ما اسمك؟ قلت: أحمد، ونظر إلى ظهري فأسمعه(1/386)
يقول: هذا نبي هذه الأمة، ثم راح إلى أخوالي فأخبرهم الخبر فأخبروا أمي، فخافت علي فخرجنا من المدينة.
فلما كان بالأبواء -منزل بين المسجدين- توفيت آمنة، فرجعت به أم أيمن على البعير.
115- وكانت أم أيمن تحدث وتقول: أتاني رجلان من اليهود يوماً نصف النهار بالمدينة فقالا: أخرجي لنا أحمد ننظر إليه، فنظرا إليه ملياً حتى إنهما لينظران إلى سرته ثم قال أحدهما لصاحبه: هذا نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، وسيكون لهذه البلدة من القتل والسبي أمرٌ عظيم.
قالت أم أيمن: فوعيت ذلك كله من كلامهما.
ثم رجعت به أم أيمن على البعير.
116- وكانت أم أيمن تحضنه، فورث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمه أم أيمن: جارية وخمسة جمال أوارك وقطيع غنم، فلما تزوج أعتقها.
117- وكان عبد المطلب يرق عليه أكثر ما يرق .. .. .. ..(1/387)
على أولاده.
118- وقيل: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجر أمه سنتين.(1/388)
119- وقيل: إنها لما وضعته ماتت فاسترضع له جده حليمة بنت أبي ذؤيب وكان في حجرها سنتين ثم ردته، فكان في حجر جده سنتين، ثم مات جده فكفله أبو طالب حتى أتى عليه خمس وعشرون سنة.
120- وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أتذكر موت عبد المطلب؟ قال: نعم، وأنا ابن ثمان سنين.
121- وتوفي عبد المطلب وهو ابن عشر ومائة سنة، وقيل: ابن اثنتين وثمانين سنة.
122- وقيل: لما حضر عبد المطلب الوفاة دعا ابنه أبا طالب فقال له: يا بني قد علمت شدة حبي لمحمد صلى الله عليه وسلم ووجدي به، انظر كيف تحفظني فيه، قال أبو طالب: يا أبة لا توصني بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه ابني وابن أخي.(1/389)
123- فلما توفي عبد المطلب ضم أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يتيماً في حجر عمه أبي طالب وكان يكون معه، فكان يؤثره بالنفقة والكسوة على نفسه وعلى جميع أهله.
124- وكان أبو طالب لا مال له، له قطعة من الإبل تكون بعرنة فيبدو إليها فيكون فيها، ويؤتى بلبنها إذا كان حاضراً بمكة، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فرادى لم يشبعوا، فإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا، فكان أبو طالب إذا أراد أن يشبعهم أو يغديهم يقول: كما أنتم حتى يحضر ابني، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، فإن كان لبناً تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم، ثم يتناول العيال القعب فيشربون منه فيروون عن آخرهم من القعب الواحد.(1/391)
125- وعن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في حجر أبي طالب بعد جده، فيصبح بنو أبي طالب غمصاً، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهيناً صقيلاً.(1/392)
[38] باب: ذكر حلف المطيبين من قريشٍ وشهوده صلى الله عليه وسلم حلف الفضول
126- حدثنا أبو الوليد: حسان بن محمد بن أحمد بن هارون بن حسان إمام عصره في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، أنا أبو جعفر:(1/393)
محمد بن صالح بن ذريح العكبري، ثنا جعفر بن حميد، ثنا شريك(1/394)
عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة وجدة.
قال أبو سعد رحمه الله:
المطيبون: بنو عبد مناف بن قصي بن كلاب، وهم: هاشم، والمطلب، وعبد شمس -وهم لعاتكة- ونوفل أخوهم لأبيهم، سموا المطيبين لأن امرأة من بني عبد مناف أخرجت إليهم جفنة مملوءة طيباً، فوضعت عند الكعبة، فغمسوا أيديهم فيها، وتعاهدوا وتعاقدوا ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيداً على أنفسهم أن يأخذوا ما في يد بني عبد الدار بن قصي مما جعل له قصي من الحجابة واللواء والرفادة والسقاية، واتبعهم بنو أسد، وبنو زهرة، وبنو تميم، وبنو الحارث بن فهر، فالجميع(1/395)
خمس قبائل، فسموا المطيبين، وكان رئيسهم: عبد شمس وقصي.
وانضم إلى بني عبد الدار بن قصي: بنو مخزوم، وبنو عدي، وبنو جمح، وبنو سهم، خمس قبائل، فتحالفوا على المعاونة فسموا: الأحلاف.
ثم عزموا على القتال، فلما أجمعوا عليه تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وتبقى الحجابة واللواء لبني عبد الدار، فما زالوا على ذلك حتى جاء الإسلام.
قال: فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف لأن عبد شمس كان سفاراً، قلما يقيم بمكة، وكان مقلاً من المال، ذا ولد كثير، وكان هاشم موسراً، فكان إذا حضر الحج قام في قريش فقال: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل حرمه، وإنه يأتيكم هذا الموسم زوار الله عز وجل، وحجاج بيته شعثاً غبراً من كل بلد، فهم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، فاجمعوا ما تصنعوا به طعاماً لهم أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها، فإنه والله لو كان لي مال يسع ذلك ما كلفتكموه، فيخرجون لذلك خرجاً من أموالهم فيصنع لهم طعامهم حتى يصدروا.
127- وهاشم أول من سن الرحلتين إلى الشام والعراق، ثم تزوج بالمدينة سلمى بنت زيد بن عمرو من بني النجار، فولد له شيبة، وتركه عندها ثم مات، فقام عبد المطلب أخوه مقامه.(1/396)
[39] فصلٌ: في حلف الفضول
128- فأما حلف الفضول: فإن رجلاً من بني زبيد قدم معتمراً مكة ومعه تجار له، فاشتراها أهل العاص بن وائل السهمي، فماطله، وبقي الزبيدي فجعل لا يقدر عليه، فجاء بني سهم يستعديهم على صاحبهم، فأغلظوا له، فعرف أنه لا سبيل له إلى ماله، فطاف في قبائل قريش يستعين بهم، فتخاذلت القبائل، فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس حين أخذت مجالسها، فصرخ بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الأهل والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا آل فهر وبني الحجر والحجر
هل مخفر لبني سهم بحضرتهم ... معاوني أو ضلال مال معتمر
إن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فلما نزل من الجبل أعظمت قريش الذي فعل، فتكلموا فيه، فقال المطيبون: لئن قمنا في هذا لتضيقن على الأحلاف، وقالت الأحلاف: والله لئن قمنا حتى يفوتنا المطيبون، تعالوا نكن فضولاً لا حلفاً دون المطيبين ودون الأحلاف، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي، وصنع لهم طعاماً كثيراً، فكانت هاشم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه وهو ابن خمس وعشرين(1/397)
سنة، والمطلب بن عبد مناف، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فهؤلاء حلف الفضول من المطيبين، وسقط من حلف المطيبين: عبد شمس، ونوفل بن الحارث، فتحالفوا على أن لا يظلم بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه يأخذوا له حقه، وعمدوا إلى ماء زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا به إلى البيت، فغسلت فيه أركانه، وأتوا به فشربوا ثم تفرقوا.
وكان أول من دعا إليه: الزبير بن عبد المطلب والذي مشى فيه: فضل وفضال وفضيل وفضالة، فلذلك سموا حلفاء الفضول.
129- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد شهدت حلفاً في دار ابن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت: هاشماً وزهرة وتيماً.
130- قال إبراهيم بن سعد: حدثني يزيد بن الهاد أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عتيك بن أبي سفيان(1/398)
-وهو يومئذ أمير المؤمنين، أمره عليها عمه معاوية ابن أبي سفيان- منازعة، ينازعه في مال بينهما بذي المروة، فكأن الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه، فقال له الحسين: أقسم بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدعون بحلف الفضول.
فقال عبد الله بن الزبير -وهو عند الوليد حين قال الحسين ما قال-: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو لنموتن جميعاً، وبلغ المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد أنصف الحسين حقه حتى رضي.
131- ذكر الشافعي أن بني عبد الأسد بن عبد العزى هم من المطيبين، وقال بعضهم: من حلفاء الفضول.
132- وقال الزهري في روايته عن محمد بن جبير، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: شهدت حلف المطيبين، وما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم.(1/399)
133- وقال شمر: سمعت ابن الأعرابي يقول:
المطيبون هم خمس قبائل: عبد مناف كلها، وزهرة، وأسد بن العزى، وتيم، والحارث بن فهر.
قال: والأحلاف خمس قبائل: عبد الدار، وجمح، وعدي بن كعب، وسهم، ومخزوم.
سموا بذلك لأن بني عبد مناف لما أرادوا أخذ ما في يدي بني عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية، وأبت بنو عبد الدار، عقد كل قوم على أمرهم حلفاً مؤكداً على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت عبد مناف جفنة مملوءة طيباً، فوضعوها لأحلافهم عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، وتعاقدوا ثم مسحوا الكعبة بأيديهم فسموا المطيبين.(1/401)
134- وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها حلفاً آخر مؤكداً على أن لا يتخاذلوا، فسموا: الأحلاف.
135- وقال غير ابن الأعرابي: حلف المطيبين وحلف الفضول واحد، وسمي ذلك الحلف حلف الفضول لأنه قام به رجال من جرهم، كل واحد منهم الفضل، وهم الفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فضالة، قال: والفضول جمع فضل، كما يقال: سعد وسعود.(1/402)
[40] فصلٌ: في ذكر ما جرى في رحلته صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى الشام من الإرهاصات
136- قال: وكانت خزاعة وقريش في ذلك الزمان يختلفون إلى الشام في تجاراتهم ومن الشام إلى مكة، فتهيأ لأبي طالب السفر معهم، فركب راحلته، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بزمام ناقة عمه ثم قال: يا عم، إلى من تخلفني بعدك؟ لا أم لي ولا أب، فرق له أبو طالب وقال: لا أخلفك ورائي، واحتمل النبي صلى الله عليه وسلم وجعله على مقدم راحلته وساروا حتى كانوا بواد من الشام نزلوا تحت شجرة، وكان في الوادي ديرٌ، وفي الدير راهب يقال له: بحيرا، وكان يشرف في اليوم ثلاث مرات على سطح له(1/403)
ينظر الجائي والذاهب، قال: فأبصر أقواماً قد نزلوا تحت الشجرة وإذا غمامة قد أظلت الشجرة وما حولها، قال الراهب: والله لا تظل هذه الغمامة إلا على رأس نبي من الأنبياء، ثم دعا غلامه فقال: اذهب إلى هذه العير من أهل مكة فقل لهم: يقول لكم بحيرا الراهب: يا أهل مكة، قد علمتم حبي لكم، وإنه لا يمر بي رجل منكم إلا أحسنت قراه، وأنا أحب أن تأتوني جميعاً ولا يتخلف منكم أحد، فأتاهم الغلام فبلغ إليهم قوله، فأقبلوا جميعاً، وخلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظ رحالهم وأجيراً لهم معه.
قال: ففتح الراهب لهم باباً صغيراً يدخل الرجل بعد الرجل، فلما صاروا في الدير أشرف الراهب فإذا هو بالغمامة على حالها، فقال: يا قوم هل خلفتم أحداً؟ قالوا: نعم، أجيراً لنا ويتيماً، قال: فابعثوا إلى أجيركم ويتيمكم، قال: فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم والغمامة على رأسه في الهواء تسير معه تظله حتى دخل الدير فبقيت الغمامة تظل الدير وما حوله، قال:(1/404)
فقدم إليهم طعاماً فأكلوا وشربوا، ثم قال لهم بحيرا الراهب: ما يكون هذا الغلام منكم يا أهل مكة؟ قالوا: ابن هذا الشيخ -يعنون أبا طالب-، فقال بحيرا: والله ما ينبغي لأبوي هذا الغلام أن يكونا في الأحياء، أصدقوني أو أصدقكم خبره.
قال أبو طالب: يا بحيرا، هذا ابن أخي، وهو يتيم في حجري، قال: صدقت يا شيخ وسأخبرك: إن هذا نبي من الأنبياء، وهذا خاتم النبوة بين كتفيه.
قال: فخرجوا حتى أتوا الشام فقضوا أوطارهم، ثم رجعوا قافلين إلى مكة، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب ما شاء الله أن يقيم.
137- قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يلعب مع الغلمان حتى بلغ مواضع بني مدلج، فرآه قوم من بني مدلج فدعوه فنظروا إلى قدميه(1/405)
وإلى أثره، فخرجوا في أثره فصادفوا عبد المطلب قد لقيه فاعتنقه، فقالوا لعبد المطلب: ما هذا منكم؟ قال: ابني، قالوا: احتفظ به فإنا لم نر قط قدماً أشبه بالقدم الذي في المقام منه.
قال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء في هذا، فكان أبو طالب يحتفظ به.(1/406)
[41] فصلٌ: ذكر ابتداء قصته صلى الله عليه وسلم مع خديجة رضي الله عنها وإسلامها ورغبتها فيه
138- قال: فأقام النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه ما شاء الله أن يقيم، ثم إن أبا طالب قال له ذات يوم: يا بني، إني أريد أذكر لك أمراً، وإني منك محتشم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تكلم بما شئت يا عم وأنا مطيع لك، قال: قد علمت أن أبويك ماتا ولم يتركا مالاً ولا خيراً، وقد كنت أحب أن يكون لي مال فأزوجك وتقر عيني بك قبل فراقي للدنيا، وليس إلى ذلك سبيل، وهذه خديجة بنت خويلد تستأجر الأجراء ويجري الله لهم على يديها خيراً كثيراً، ولها على أيديهم خيراً، فهل لك أن أذهب بك إليها فلعلها تستأجرك، وترزق رزقاً فأزوجك وتقر عيني بك قبل الفراق؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا لك سامع مطيع يا عم، افعل ما أحببت، قال: فانطلقا إلى خديجة فقرعا عليها الباب، فدنا غلامها من الباب فقال له أبو طالب: أخبر خديجة أني بالباب، قالت: أدخلوه علي، فأدخلوه(1/407)
عليها وهي على السرير وسبعون جارية يروحنها فقالت: يا عم، ما لك، وما بدا لك؟، قال: جئت إليك لأطلب من فضلك الذي فضلك الله به، قالت: نعم وكرامة، فقال: هذا محمد بن عبد الله الأمين ابن أخي، أتيتك به لتؤاجريه بما شئت ليصل إليه من فضل نعمتك فقد تستأجرين الأجراء ويجري الله لهم على يديك خيراً، ومحمد صلى الله عليه وسلم أحق بذلك من غيره، قالت: نعم وكرامة أنا أجعل لكل أجير في سفره بكرة ولمحمد صلى الله عليه وسلم ابن عمي بكرتين، ثم قالت: يا محمد، أتخرج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم، ونعمى عين وكرامة.
قال: فدعت غلاماً لها يسمى ميسرة فقالت: يا ميسرة، إني أريد أن أبعث معك ابن عمي محمداً، فانظر أن لا تعصي له أمراً، ولا تخالف له رأياً، فقال: نعم وكرامة، فخرج أبو طالب من عندها وترك عندها محمد صلى الله عليه وسلم .
139- قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وميسرة إلى الشام ومعه تجارات(1/408)
كثيرة، فلما خرجوا من المنزل عادت الغمامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت فوق رأسه تظله حتى انتهوا إلى باب بحيرا الراهب فنظر بحيرا إلى الغمامة ففزع فقال: من أنتم؟ قال: أنا ميسرة غلام خديجة بنت خويلد، قال: ما جاء بكم؟ قال: معنا تجارة نريد الشام، فدنا من محمد صلى الله عليه وسلم سراً من وقاص وميسرة وقبل رأسه وقدميه، وقال في نفسه: آمنت بك، وأشهد أنك الذي ذكرك الله في التوراة، ثم قال: يا محمد، قد عرفت فيك العلامات كلها ما خلا خصلة واحدة، فأوضح لي عن كتفيك، فأوضح له فإذا هو بخاتم النبوة يتلألأ، فأقبل عليه يقبله ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر بك عيسى ابن مريم عليه السلام، فإنه قال: لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلا النبي الأمي الهاشمي العربي المكي المدني صاحب الحوض والشفاعة، صاحب لواء الحمد(1/409)
صاحب القضيب والناقة، صاحب التاج والهراوة، قارع باب الجنة، صاحب قول لا إله إلا الله، ثم قال: يا غلام، احفظ على هذا من اليهود فإنهم أعداؤه، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً.
قال: ثم مضوا حتى انتهوا إلى الشام، فباعوا متاعهم، وربح ميسرة ربحاً لم يربح مثله قط، ثم رجعا قافلين إلى مكة، فقال ميسرة: يا محمد(1/410)
إنا اتجرنا لخديجة أربعين سنة ما رأيت ربحاً قط أكثر من هذا الربح على وجهك، فهل لك أن تسبقني إلى خديجة فتخبرها بالذي رزقها الله على يديك لعلها تزيدك بكرة على بكرتيك، قال: فركب النبي صلى الله عليه وسلم قعوداً أحمر.
140- وكانت خديجة إذا أصابها الحر كانت تحمل حتى تصعد علية لها فوق البيت، واستندت إلى سريرها، يروحها كل يوم سبعون جارية بالذوائب، فكانت لا تمشي على الأرض، ولكنها تحمل على السرير، فلما صعدت فوق البيت فإذا هي بمحمد صلى الله عليه وسلم قد أقبل على ناقة لها، على رأسه قبة من ياقوت أحمر، وعن يمنيه ملك شاهر سيفاً، وعلى يساره ملك شاهر سيفاً، وفوقه غمامة تسير معه تظله، وإذا الطيور حوله يحفونه بأجنحتهم ويروحونه، فنظرت خديجة ولم تعلم أنه محمد صلى الله عليه وسلم فقالت: اللهم إلي وإلى داري، حتى أقبل نحو دارها فوثبت من السرير مسرعة إلى الباب، فإذا هو محمد صلى الله عليه وسلم قد نزل عن ناقته وأناخها، فلما نظرت إليه خديجة قالت في نفسها: ليس هذا الذي رأيت، وأنكرت ذلك، فبشرها النبي صلى الله عليه وسلم بالذي ربحا فقالت له خديجة: يا محمد، وأين ميسرة قال: خلفته بالبادية وسيقدم عن قريب، قالت له: عجل إليه وقل له: عجل إلينا بالإقبال -وإنما أرادت بذلك أن تعلم أهو الذي رأت أو غيره-، فركب النبي صلى الله عليه وسلم وضرب بطن الناقة وخرج، وصعدت خديجة واستيقنت أنه أجيرها محمد صلى الله عليه وسلم ، فمضى محمد صلى الله عليه وسلم وتفكرت خديجة في أمره، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ميسرة.(1/411)
فأقبلوا جميعاً حتى قدموا مكة، فخلت خديجة بميسرة فقالت: أصدقني قصة محمد صلى الله عليه وسلم قليلها وكثيرها، فقال: يا سيدتي، أخبرني بحيرا الراهب أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي من الأنبياء، وقال لي: احتفظ عليه من اليهود فإنهم أعداؤه، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً، فقالت خديجة: اكتم علي هذا الحديث يا ميسرة، واذهب فأنت حر، وأولادك أحرار، ولك عشرة آلاف درهم من مالي، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : اذهب إلى عمك أبي طالب وقل له: عجل علينا أنت بالغداة.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه أبي طالب وأخبره بذلك، ففزع أبو طالب من ذلك وقال: يا بني، ما تريد منا؟ إني أخشى أن تردك إلينا، فكان الليلة أجمع يلتوي على فراشه من الهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عم يرزقني الله وهو خير الرازقين، أبشر يا عم ولا تهتم لرزقي، فلما أصبح خرج إليها، ودخل عليها فقالت من وراء الستر: يا أبا طالب، ادخل على عمي عمرو بن أسد فكلمه أن يزوجني من ابن أخيك محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو طالب: يا خديجة، لا تستهزئي بي، لو كانت أمة لك ما زوجت من ابن أخي، قالت: بل الله صنعه، ادخل على عمي.(1/412)
فقام أبو طالب مع عشرة من صناديد قريش فدخلوا على عم خديجة وهو سكران طيب النفس فسلموا عليه ورد عليهم السلام فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : مربحاً بك يا محمد، واللات والعزى لقد كنت أحبك، ولقد ازددت عندي حباً، وما كنت تسألني حاجة إلا قضيتها، ثم رحب بالقوم، فقال أبو طالب: إني أتيتك لأسلم عليك، وتزوج خديجة ابنة أخيك من ابن أخي محمد صلى الله عليه وسلم ، وأبو طالب يرغب في ذلك، قال: نعم، اشهدوا يا معشر قريش أني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على مهر كذا، فاشهدوا -والخاطب كان أبو طالب- فقال:
الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل عليه السلام، وجعل مسكننا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً، وجعلنا حكاماً على الناس أجمعين، ثم إن ابن أخي هذا لا يوزن برجل إلا رجح عليه، وإن له(1/413)
لخطباً جليلاً، ونبأً عظيماً، فإن كان مقلاً من المال فإن المال رزق حائل وحظ زائل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصداق من مالي حكمكم، عاجله وآجله، والسلام علينا وعليكم.
فأمرت خديجة رضي الله عنها جواريها أن يرقصن بالدفوف، وأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة يمانية فأخذها وألقاها على عم خديجة، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج فأخذت خديجة رضي الله عنها بطرف ردائه وقالت: أين تريد يا محمد؟ قال: إلى منزل عمي، قالت: قل مع أهلك ودع عمك ينحر بكرة، ويطعم الناس، قال: ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال مع خديجة رضي الله عنها.(1/414)
قال: فأقر الله عينه وفرح أبو طالب فرحاً شديداً وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب، ودفع عنا الهموم.
قال: فأفاق الشيخ من سكره فقال: ما هذا الذي أسمع؟ قالوا: هذا الذي صنعت، قال: ما الذي صنعت؟ قالوا: زوجت خديجة بنت خويلد، قال: ممن؟ قالوا: من محمد بن عبد الله، قال: أنا أزوج بنت أخي من يتيم أبي طالب الفقير؟! قالوا: قد زوجته، وقبلت منه حلة، قال: فقام ودخل عليها يريد شتمها فقالت: يا عم هل تنقم من محمد صلى الله عليه وسلم حسباً ونسباً؟ قال: لا، ولكنه معدم لا مال له، قالت: فإن يكن محمد صلى الله عليه وسلم معدماً فإن عندي ما يسعني ويسعه ويسعك، قال: أفرضيت بمحمد صلى الله عليه وسلم بعلاً؟ قالت: نعم، فرضي الشيخ وطابت نفسه.
141- ويقال: كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في الجاهلية، فإذا هن بيهودي في ذلك العيد فقال: ويحكن يا معشر نساء قريش ويحكن، إنه ليوشك أن يبعث فيكن نبي، فأيتكن استطاعت أن تكون له أرض يطأها فلتفعل، فحصبنه، وطردنه، ووقر ذلك القول في قلب خديجة رضي الله عنها.(1/415)
142- وفي رواية أخرى قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استأجرته خديجة، وبعثته مع ميسرة إلى الشام، وكان إذا دنا قدومه من مكة جلست خديجة في شرفة لها فترى من يطلع من عقبة المدينة، وكان يوم صائف، وهي تنتظر ميسرة، إذ طلع رجل من عقبة المدينة والسماء ليس فيها سحاب إلا بقدر ذلك الذي يظل الرجل، فلما رأت طلوعه، ورأت على رأسه السحابة قالت: إن كان ما يقوله اليهودي حق فما ذلك الرجل إلا هذا، لأني لا أرى في السماء سحاباً إلا قدر ما يظل هذا الرجل،(1/416)
فرمقته بعينها حتى انتهى إليها فإذا هو محمد صلى الله عليه وسلم -وكان بعث ميسرة أمامه ليبشر خديجة بما أصابوا في سفرهم من المنفعة-، فلما أن دخل عليها سألته ثم قالت له: ألا تتزوج؟ قال: من أين لي الزوج؟ قالت: أنا، قال: ومن لي بك؟ أنت أم قريش، وأنا يتيم قريش، قالت: اخطبني إلى أبي -وكانت تبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء ليبعث به إلى أبيها حتى يرغب فيه فيزوجه-.(1/417)
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: اخطبني على خديجة، قال: يا ابن الأخ، إني أخاف ألا يفعلوا، فلقي أباها فذكر له ذلك فقال: حتى أنظر، فلما لقي خديجة أبوها ذكر لها حديث شيخ من قريش له مال قد ماتت امرأته وقال لها: إن ذلك الشيخ يخطبك، قالت: شيخ قد فني شبابه، وساء خلقه يدل علي بماله؟ لا حاجة لي فيه، فذكر لها غلاماً سفيهاً من قريش قد أورثه أبوه مالاً فقالت: حديث السن، سفيه العقل يدل علي بماله؟ لا حاجة لي فيه، فذكر لها محمداً صلى الله عليه وسلم فقالت: أوسط قريش حسناً، وأحسنهم وجهاً، وأفصحهم لساناً، أعود عليه بمالي فيكون عطف يميني، فخشي أبوها إن لم يزوجها أنها تزوج نفسها، فبعث إليه وزوجها منه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.(1/418)
[42] فصلٌ: في ابتداء الوحي، كيف كان؟
143- قال: فأقام النبي صلى الله عليه وسلم مع خديجة رضي الله عنها حتى أتى عليه من مولده أربعون سنة.
144- قال: فخرج عليه الصلاة والسلام ذات يوم إلى جياد الأصغر، فهتف به جبريل عليه السلام ولم يبد له، فغشي عليه، فاحتمله ناس(1/419)
من قريش، فأتوا به إلى باب خديجة رضي الله عنها وقالوا: دونك يا خديجة، قد تزوجت مجنوناً، فوثبت خديجة من السرير فضمته إلى صدرها، ووضعت رأسه على حجرها وقبلت بين عينيه وقالت: بل تزوجت نبياً، رسولاً مرسلاً، قال: فلما أفاق قالت: بأبي أنت وأمي جعلني الله فداك، ما الذي أصابك؟ وهل رأيت شيئاً أنكرته؟ قال: ما أصابني إلا خير، إلا أني سمعت صوتاً أفزعني، ففرحت خديجة واستبشرت ثم قالت: إذا كان من الغد اقعد في الموضع الذي كنت فيه بالأمس فإن يك ملكاً سيرجع إليك، وإن يك من الشيطان فليس براجع.
قال: فلما كان يوم الأحد خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى جياد الأصغر قال: فهتف به جبريل عليه السلام ولم يبد له، قال: فغشي عليه وحملوه، وفرحت قريش بذلك، وقالوا: إن زوج خديجة يتخبطه الشيطان، وقالوا لها مثل القول الأول، وردت عليهم مثل الرد الأول، وعملت خديجة رضي الله عنها به مثل عملها الأول، فلما أفاق سألته: بأبي أنت وأمي هل رأيت اليوم شيئاً؟! وقص عليها القصة، ففرحت خديجة، وقالت له: إذا كان من الغد فارجع إلى الموضع، فانتهى إلى مكانه فبدا له جبريل عليه السلام في أحسن صورة، وأطيب رائحة فقال: يا محمد إن الله يقريك السلام ويقول: أنت رسولي إلى الثقلين: الجن والإنس، أن تدعوهم إلى قول لا إله إلا الله، ثم قال: ألا تعرفني؟ قال: لا، قال: أنا جبريل، وأنت محمد النبي صلى الله عليك ولا نبي بعدك، فضرب رجله في الأرض فأنبع عيناً من ماء وأمره أن يتوضأ، وقام جبريل عليه السلام يصلي، وأمره أن يتوضأ ليصلي معه،(1/420)
فعلمه الوضوء والصلاة، وعلمه: {اقرأ باسم ربك} إلى آخرها، .. ..(1/421)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأتم بجبريل، وعرج جبريل عليه السلام إلى السماء.
145- وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من جياد الأصغر لا يمر بحجر ولا مدر ولا شجر إلا وهو ينادي: السلام عليك يا رسول الله، حتى أتى خديجة،(1/422)
فأخبرها بالكرامة التي أكرمه الله بها -من الرسالة والنبوة- فغشي عليها من الفرح، فنضح عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء حتى أفاقت، وآمنت بالله ورسوله، وشهدت شهادة الحق، وكان يسمى محمد الأمين.(1/423)
146- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي مع خديجة إذ أتاهما علي بن أبي طالب فقال: يا محمد ما هذا الدين الذي أظهرت؟ قال: هذا دين الله الذي ارتضاه لنفسه، لا يقبل الله من أنبيائه ورسله غيره، فقال علي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، ودخل في الإسلام.
147- قال: فأتاهم أبو طالب وهم يصلون فقال: ما هذا الذي أظهرته يا محمد؟ قال: هذا دين الله الذي ارتضاه لنفسه، لا يقبل الله من أنبيائه ورسله غيره، فإن دخلت معي فيه وإلا فاكتم علي، فقال أبو طالب لعلي: ألا ترى إلى محمد ما يقول؟ قال: يا أبة إن محمداً صلى الله عليه وسلم لصادق فيما يقول، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، قال أبو طالب: أقيما على ما أنتما عليه، فلن ينالكما أحد بسوء.(1/424)
وتتابع المسلمون، وأظهر الله عز وجل دينه، وأعز نبيه صلى الله عليه وسلم .
148- ثم حبب إليه صلى الله عليه وسلم الخلوة، فكان يأتي حراء، وفي بعض الأخبار أنه يأتي ثبيراً ليصعد عليه فكلمه الجبل فقال: لا تصعد إلي فإن(1/425)
في عقارب وحيات، فرجع إلى حراء فقال حراء: اصعد إلي فليس في حيات ولا عقارب، فصعد عليه، واتخذ فيه غاراً ينتابه أهل الحرم، فكان يصعد إليه وكان صلى الله عليه وسلم لا يمر بشجر ولا حجر إلا ويقول له: السلام عليك يا محمد، ثم جاءه جبريل عليه السلام في شهر رمضان بنمط ديباج، فيه كتاب فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أنا بقارئ، فضمني إلى نفسه، ثم أرسلني -وكدت أن أموت- فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فضمني ثانياً حتى قلت: إنه الموت، فقال: اقرأ، فخشيت أن أقول لا أقرأ أن يعود إلى مثل فعله، فقلت: ما أقرأ؟ قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم}، وفي بعض الأخبار: كنت نائماً فأقرأني في نومي فاستيقظت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتاب.
149- وقال صلى الله عليه وسلم : لم يكن أحد أبغض إلي من شاعر أو مجنون، فقلت: إن الأبعد -يعني نفسه- مجنون، لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي فأموت فأستريح، فخرجت أريد ذلك فلما توسطت الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد، فوقفت، ثم قال: يا محمد، فإذا أنا بجبريل عليه السلام قد سد ما بين الخافقين وبقيت حتى جاءني طلب خديجة.
فرجعت إلى خديجة، وقلت: إن الأبعد -يعني نفسه- لشاعر أو مجنون، قالت: أعيذك بالله يا أبا القاسم، إنك لتقري الضيف، وتصدق الحديث، وتصل الرحم، وإني لأرجو أن يكون هذا ناموساً(1/426)
مما كان لموسى، وأن تكون نبي هذه الأمة، ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل -وكان قد قرأ الكتب- فأخبرته بما أخبرها به صلى الله عليه وسلم فقال ورقة: قدوس، قدوس، فإن كنت صدقتني لقد جاءه الناموس الأكبر -يعني: جبريل عليه السلام-، وإنه لنبي هذه الأمة، ولئن أنا أدركت زمانه لأنصرن الله فيه، ثم قبل بين عينيه.
150- وقد صحت الرواية عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني إلى نفسه اثنتين حتى قلت: إنه الموت، ثم أخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم} الآية، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر(1/427)
وقال: لقد خشيت على نفسي، قالت خديجة: كلا، والله ما يحزنك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة -وكان امرءاً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي-، قالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله عز وجل على موسى عليه السلام يا ليتني فيها جذعة، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي.(1/428)
قال: فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر}، فحمي الوحي وتتابع.(1/429)
151- ويقال: إن خديجة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاك صاحبك فأخبرني، فجاءه جبريل فقال: قد جاءني خديجة، قالت خديجة: قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى، فقام فجلس على فخذها، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فحولته إلى فخذها اليمنى، ثم قالت: هل تراه؟ قال: نعم، ثم رفعت خمارها وكشفت عن رأسها ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا، قالت: ابشر يا ابن عم فإنه ملك وليس بشيطان.(1/430)
152- ثم أنزل عليه في شهر رمضان: {إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر}، وقيل: أول آية نزلت في شهر رمضان: قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} الآية.
153- وقال عليه الصلاة والسلام: أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
154- ثم فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسببه: أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال صلى الله عليه وسلم : أجيب غداً، فرجعت إليه من الغد فلم يجبها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت المرأة: ما أرى شيطانك إلا قد قلاك،(1/431)
فقال صلى الله عليه وسلم : قد قلاني ربي، فجاءه جبريل صلى الله عليه وسلم بسورة: {والضحى} إلى قوله: {ما ودعك ربك وما قلى}، أي ما أبغضك منذ أن أحبك {فأما اليتيم فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر}، لما ذكر مننه عليه .. ..(1/432)
طالبه بالشكر فقال: {فأما اليتيم فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر}، يعني: لا تكن جباراً ولا متكبراً على الضعفاء من عبادي، و{وأما بنعمة ربك فحدث}، حدث بما جاءك من نعمي، فكان صلى الله عليه وسلم يسر إلى من يأمنه بالوحي.
155- فافترض عليه الصلاة، وجاءه جبريل عليه السلام بأعلى مكة وعلمه، فانفرجت من الوادي عين حتى توضأ جبريل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منه الطهارة.(1/433)
156- ثم آمن به علي رضي الله عنه، فضم صلى الله عليه وسلم علياً إلى نفسه، وضم العباس جعفراً إلى نفسه، وبقي عقيل لأبي طالب وذلك أنه كانت سنة شدة وأبو طالب ذو عيال.
157- وكان علي رضي الله عنه يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خفية من أبي طالب فعثر عليهما يوماً أبو طالب وهما يصليان فقال لهما أبو طالب: ما هذا الذي أرى؟ قال: يا عم هذا دين الله ودين ملائكته ودين أبينا إبراهيم ورسله (صلوات الله عليهم أجمعين) وبهذا بعثت، وأنت(1/434)
يا عم أحق من بذلت له النصيحة، فقال: إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي.
158- وعن عكرمة، عن ابن عباس، عن العباس بن عبد المطلب قال: لما بنت قريش البيت انفرد الرجال: رجلين رجلين يحملون الحجارة، وانفردت النساء، قال: فانفردت أنا ومحمد صلى الله عليه وسلم نحمل الحجارة، فجعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونحمل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، قال: فبينا هو يمشي إذ وقع، قال: فجئت أسعى وهو شاخص ببصره إلى السماء، فقلت: يا ابن أخي ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي(1/435)
عرياناً، قال: فكتمها حتى أظهر الله تعالى نبوته.(1/436)
159- وعن ابن عباس قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم غسله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والفضل، وكان العباس يناول الماء من وراء الستر، وقال العباس: ما منعني أن أغسله إلا أنا كنا صبياناً نحمل الحجارة إلى المسجد -يعني لبناء الكعبة- ننزع أزرنا ونضعها على أكتافنا، ونضع الحجارة، فبينا نحن كذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وقع صلى الله عليه وسلم ، وسقط الحجر وأنا قائم، فقلت: يا ابن أخي قم فإني لا أرى بك بأساً، ولا أرى الحجر ضرك، فنظر إلى السماء، ثم نظر إلي فقال: اشدد علي، فإني قد نهيت أن أتعرى بعد هذا اليوم، قال العباس: فهذا أول ما رأيت منه.
160- وقيل: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلها إذ انكشفت عورته، فنودي: يا محمد عورتك، فذلك أول ما نودي، والله أعلم.(1/437)
161- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أبو طالب يعالج زمزم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ممن ينقل الحجارة وهو يومئذ غلام، قال: فأخذ أبو طالب إزاره، وذهب لينقل الحجارة، فغشي عليه، فقيل لأبي طالب: أدرك ابنك، قد غشي عليه، فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم من غشيته سأله أبو طالب عن غشيته فقال: أتاني آت عليه ثياب بيض فقال لي: استتر، قال ابن عباس: وكان ذلك أول شيء رأى من النبوة حين قيل له: استتر، فما رؤيت عورته من يومها.(1/438)
162- وقال صلى الله عليه وسلم : إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، أني لأعرفه الآن.
163- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : خرجت لخديجة بنت خويلد إلى جرش كدى -وكذا سفرة- كل سفرة منها بقلوص.
164- وحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بحديث فقيل له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنك قد رعيت الغنم؟ قال: أجل، وهل من نبي إلا وقد رعاها، وأنا كنت أرعى لأهلي بالقراريط.(1/439)
165- وقالت عائشة رضي الله عنها: لقد رأيت قائد الفيل وسايسه.
166- قال: وكان بين الفيل وبين مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أربعون سنة.(1/440)
167- وقيل لقباث بن أشيم الكناني: يا قباث، أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أسن منه، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلاً أعقله.(1/441)
[43] بابٌ: في ذكر عصمة الله نبيه صلى الله عليه وسلم من التدين بغير الحق وحراسته قبل المبعث وبعده من مردة الشياطين والإنس أن ينالوه بسوءٍ
168- أخبرنا الشريف أبو محمد: عبد الله بن يحيى بن طاهر بن يحيى الحسيني بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: حدثنا محمد بن الحسن بن نصر، قال: حدثنا أبو عبد الله: الزبير بن بكار، قال: حدثتني ظمياء بنت عبد العزيز بن مولة، عن أبيها، عن جدها مولة بن حمل، قال: أتى عامر بن الطفيل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا عامر أسلم، قال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر؟ قال: لا، ثم قال: يا عامر أسلم، قال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر؟ قال: لا، قال: فولى هو يقول: والله يا محمد لأملأنها عليك خيلاً جرداً، ورجالاً مرداً، ولأربطن بكل نخلة فرساً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اكفني عامراً واهد قومه، فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة يقال لها: سلولية، فنزل عن فرسه ونام في بيتها، فأخذته غدة في حلقه، فوثب على فرسه وأخذ رمحه، وأقبل يجول وهو يقول: غدة كغدة البكرة وموت في بيت سلولية، فلم يزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه ميتاً.(1/443)
169- عن الضحاك بن مزاحم، عن النزال بن سبرة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : هل عبدت وثناً قط؟ قال: لا.
قيل: فهل شربت خمراً قط؟ قال: لا، وما زلت أعرف أن الذي هم فيه كفر، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان.
170- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(1/444)
ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله منهما، قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلينا، فقلت لصاحبي: انظر لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر فيها كما يسمر الفتيان، فقال: بلى، فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفاً بالغرابيل والمزامير، فقلت: ما هذا؟ فقيل: تزوج فلان فلانة، فجلست أنظر، فضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فقلت: لا شيء، ثم أخبرته بالذي رأيت.
ثم قلت له ليلة أخرى: انظر لي غنمي حتى أسمر بمكة، ففعل، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعته تلك الليلة، فسألت فقيل: فلان نكح فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئاً؛ ثم أخبرته بالخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدها لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته.(1/445)
171- وقال صلى الله عليه وسلم : فلما نشأت بغض إلي الأوثان، وبغض إلي الشعر.(1/446)
172- وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سمعت زيد بن عمرو بن نفيل(1/450)
يعيب أكل ما ذبح لغير الله، فما ذقت شيئاً .. ..(1/451)
ذبح على النصب حتى أكرمني الله عز وجل بما أكرمني به من رسالته.(1/452)
173- وعن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع أباه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لقيت زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح -وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي- قال: فقدمت إليه سفرة فيها لحم،(1/453)
فأبى أن يأكل منها شيئاً ثم قال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه.(1/454)
174- وعن أسامة بن زيد، عن أبيه زيد بن حارثة قال:(1/455)
خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب فذبحنا له شاة(1/456)
فأنضجناها، قال: فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل بأعلى الوادي في يوم حار(1/457)
من أيام مكة، فلما التقينا حيّا كل واحد منهما صاحبه بتحية الجاهلية:(1/458)
أنعم صباحاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما لي أراك يا ابن عمرو قد شققت عصا قومك؟ قال: إن ذلك من غير نائرة كانت مني فيهم، ولكني وجدتهم يشركون بالله، وكرهت أن أشرك بالله، وأردت دين إبراهيم عليه السلام، فأتيت أحبار يثرب فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ليس هذا بالدين الذي أبغي، فخرجت حتى أتيت أحبار أيلة، فقلت: ليس هذا بالدين الذي أبغي، فخرجت حتى أتيت أحبار الشام، فقال رجل منهم: إنك لتسأل عن دين ما نعلم أن أحداً من أهل الأرض يعبد الله به إلا شيخاً بالجزيرة، فأتيته فقال: ممن أنت؟ فقلت: من أهل بيت الشوك والقرظ من أهل حرم الله، فقال لي: ارجع، فقد أطلع الله تبارك وتعالى نجم نبي قد خرج -أو هو خارج- فاتبعه فإنه يعبد الله بالدين الذي تسأل(1/459)
عنه، قال: فقدمت فوالله ما أحسن شيئاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : فهل لك في الطعام؟ قال: نعم، فوضع الشاة بين يديه، فقال: لأي شيء ذبحت يا محمد؟ قال: لنصب من الأنصاب، قال: ما كنت لآكل شيئاً ذبح لغير الله، فمضى النبي صلى الله عليه وسلم لوجهه ذلك فلم يلبث إلا يسيراً حتى أتته النبوة.
قال زيد: وانطلق صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، وبفناء الكعبة صنمان، يقال لأحدهما: أساف، وللآخر: نائلة والناس يتمسحون بهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تمسهما، فقال: لأمسنهما حتى أنظر ما يقول، فمسستهما، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم تنه؟ فوالله ما مسستهما حتى أنزل عليه الكتاب.(1/460)
175- قال: وذكر زيد بن عمرو بن نفيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يبعث يوم القيامة أمة واحدة.
176- وقد روي عن عكرمة، عن ابن عباس قال: حدثتني أم أيمن قالت: كان ببوانة صنماً تعظمه قريش، يحلقون رؤوسهم عنده، وتنسك له النسائك ويعكفون عنده يوماً إلى الليل، وذلك يوم في السنة، فكان أبو طالب يحضره مع قومه، ويكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد مع قومه، حتى رأيت أبا طالب غضب، وكانت عماته غضبن يومئذ أشد(1/461)
الغضب، وجعلن يقلن: إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، ما تريد أن تحضر عيداً لقومك، ولا تكثر لهم جمعاً.
فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع مرعوباً فزعاً فقال له عماته: ما دهاك؟ قال: إني أخشى أن يكون بي لمم، فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت.
قال: إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك يا محمد، يا محمد لا تمسه.
قالت: فما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نبئ.
177- وروى عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فبقيت له بقية فواعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك، قال: فنسيته يومي والغد فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه، فقال: يا فتى لقد شققت علي، أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك.(1/462)
178- وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى مع أصحابه مشوا أمامه وتركوا ظهره للملائكة.
179- وعن أبي ذر الغفاري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام إلا ونحن حوله من مخالفة الغوائل، حتى نزلت آية العصمة: {والله يعصمك من الناس} الآية.(1/463)
180- وروى عمار بن ياسر قال: كنت أرعى غنيمة أهلي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرعى غنيمة أهله في الجاهلية، فقلت: يا محمد هل لك في فج، فإني تركتها روضة تزف؟ قال: نعم، فتواعدنا أن نعدو إليها، فجئتها وقد سبقني محمد صلى الله عليه وسلم وهو قائم يذود غنمه عن الروضة، فقلت: ما منعك أن تدعها ترعى في الروضة؟ فقال: إني كنت واعدتك فكرهت أن أرعى قبلك.
181- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس حتى(1/464)
نزلت هذه الآية: {والله يعصمك من الناس} الآية، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة وقال: يا أيها الناس ارجعوا فقد عصمني الله.
182- وعن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس، وكان أبو طالب يرسل معه برجال من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله(1/465)
يعصمك من الناس} الآية، فأراد عمه أن يرسل معه فقال: يا عماه إن الله قد عصمني من الجن والإنس.
183- وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: لما نزلت {تبت يدا أبي لهبٍ} الآية، أقبلت أروى أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول: مذمما أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا(1/466)
-ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المجلس، ومعه أبو بكر- فلما رآها قال: يا رسول الله قد أقبلت، وأنا أخاف أن تراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها لن تراني، وقرأ قرآناً اعتصم به وقال: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً}، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر رضي الله عنه ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، إني أخبرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا، ورب هذا البيت ما هجاك.
184- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انظروا كيف(1/467)
يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمماً، ويلعنون مذمماً، وأنا محمد، صلى الله عليه وسلم .
185- وعن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً بمكة، فجاء إبليس فأراد أن يطأ على عنقه فنفحه جبريل عليه السلام نفحة بجناحه فوقع إلى الأردن.
186- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينما أنا أصلي البارحة(1/468)
إذ جاءني الشيطان ليفتنني عن صلاتي فأخذته ورعبته، فذكرت دعوت أخي سليمان فأرسلته، ولولا ذلك لأصبح مربوطاً إلى سارية من سواري المسجد يلعب به ولدان أهل المدينة ينظرون إليه.
187- وعن جعفر بن سليمان الضبعي، عن أبي التياح قال: سأل رجل عبد الرحمن بن خنبش -وكان شيخاً كبيراً- فقال:(1/469)
يا ابن خنبش كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كادته الشياطين؟ قال: تحدرت عليه الشياطين من الجبال والأودية يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم شيطان معه شعلة نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فزع منهم، فجاء جبريل عليه السلام فقال: قل: قال: ما أقول؟ قال قل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ، ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن شر كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن.
قال: فطفئت نار الشياطين، وهزمهم الله عز وجل.
188- وروي عن بعض الصحابة أنه قال: جاء عفريت من الجن بشعلة من نار ليقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، فأتاه جبريل فقال:(1/470)
يا محمد أما إنك لو قلت: أعوذ بكلمات الله التامات كلها التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، انكب لوجهه، وطفئت شعلته، فقالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكب لوجهه وطفئت شعلته.
189- وروي أنه صلى الله عليه وسلم دعا بخفيه ليلبسهما، فلبس أحدهما، إذ جاء(1/471)
غراب فاحتمل الآخر فرماه، فخرجت منه حية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس خفيه حتى ينفضهما.(1/472)
[44] فصلٌ: في حراسة الله عز وجل السماء، ومنعه الجان ومردة الشياطين من استراق السمع عند بعثته صلى الله عليه وسلم
190- روي: أن الجن لم تكن تمنع من مقاعدها، فلما بعث(1/473)
النبي صلى الله عليه وسلم منعت عن مقاعدها، وحرست السماء بالشهب، وأن النجوم لم تكن ترمى بها في أول الدهر، إلى أن ولد النبي صلى الله عليه وسلم فرمي بها حين بعث.(1/474)
جامع أبواب نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم وما جاء في طهارة أصله وكرامة محتده صلى الله عليه وسلم(2/5)
[45] باب نسب النبي صلى الله عليه وسلم
191- حدثنا الحاكم أبو عبد الله: محمد بن عبد الله الحافظ رضي الله عنه قال: أخبرني أبو جعفر: محمد بن صالح بن هانئ، .. ..(2/7)
ثنا أبو بكر: أحمد بن محمد بن عبيدة، ثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا عقبة بن مكرم، ثنا محمد بن زياد، .. ..(2/8)
عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس أنه قال: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن يامين بن يشجب بن تيرح بن صابوح بن الهميسع بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم بن تارح بن ناحور .. ..(2/9)
ابن ساروع بن أرغوا بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن أخنوخ -وهو إدريس- بن مهلاييل بن يارد .. ..(2/10)
ابن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام.
192- عن جبير بن مطعم، عن أبي بكر الصديق قال: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بن عبد الله بن عبد المطلب -واسم عبد المطلب: شيبة- ابن هاشم: وسمي هاشماً لأنه أول من هشم الثريد لقومه قريش بمكة، وإنما سمي عمرو العلى بن عبد مناف بن قصي -وكان يدعى مجمعاً- وله يقول الشاعر:
أبوه قصي كان يدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر
وهو: قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة -واسمه: عامر- ابن خندف، وهو: إلياس بن مضر -وإنما خندف أم غلبت على نسب ولدها-، وهو مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن يولع بن سالف بن عابر بن منين بن الصاح بن العوام بن أمين بن يشجب بن نبت بن حمل بن قيذار، وهو ابن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن بن آزر -واسمه بالسريانية:(2/11)
تارح- ابن ناحور بن ساروعوا بن أرغوا، وهو بالعربية: هود بن فالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن المتوشلخ بن خنوخ، وهو إدريس بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم صلى الله عليهم أجمعين.
193- وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم انتسب إلى إبراهيم عليه السلام ثم قال: كذب النسابون، ولم يذكر ما بعد إبراهيم من النسب، فثبت من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو:
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم صلاة الله عليهم أجمعين.(2/12)
[46]فصلٌ: في شرف أصله صلى الله عليه وسلم وكرامة محتده
194- روى واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم.
195- وروى عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/22)
إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: يا محمد إن الله أمرني أن آتي مشارق الأرض ومغاربها، برها وبحرها، سهلها وجبلها، فآتيه بخير أهل الدنيا، فأتيتها فوجدت خيرها قريشاً، ثم أمرني أن آتيه بخير قريش، فوجدت خير قريش بني هاشم، وما كنت يا محمد في صف من الناس إلا كانوا خيار الناس.
196- وروى عمرو بن دينار، عن ابن عمر أنه قال: إنا لقعود بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب حتى قام على القوم فقال: ما بال أقوال تبلغني عن أقوام؟ إن الله تبارك وتعالى خلق السماوات سبعاً، فاختار العليا منها فأسكنها من شاء من خلقه،(2/23)
ثم خلق الخلق، فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم.
197- وروي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم.(2/24)
198- وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس فخطبهم فقال: إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فاختار منها قريشاً، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار.
199- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله لما خلق الخلق(2/25)
جعلني في خيرهم، ثم لما فرقهم جعلني في خير الفريقين، ثم لما جعلهم(2/26)
قبائل جعلني في خيرهم قبيلة، ثم لما جعلهم بيوتاً جعلني من خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً، وخيركم نفساً.(2/27)
[47] باب جدات النبي صلى الله عليه وسلم وأجداده لأمه
200- حدثنا الحاكم أبو عبد الله: محمد بن عبد الله الحافظ رضي الله عنه، ثنا أبو العباس: محمد بن يعقوب، ثنا أبو أسامة الحلبي، ثنا الحجاج بن أبي منيع، .. ..(2/28)
ثنا جدي، عن الزهري قال: أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ولدته: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب.(2/29)
201- وأمها: برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن مرة، وأمها: أم سفيان بنت أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة، وأمها: برة بنت عوف بن عبيد بن عويج من بني عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك، وأمها: قلابة بنت الحارث بن صعصعة من بني عائذ بن لحيان بن هذيل، وأمها: بنت مالك بن غنم من بني لحيان بن هذيل.
202- وجدة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم وهب بن عبد مناف اسمها عمرة بنت وجز بن غالب -وهو أبو كبشة من خزاعة- وهي وأم الحارث بن عبد المطلب ابنتا خالة.(2/30)
203- وتوفيت آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء بين مكة والمدينة، ودفنت بمكة.(2/31)
204- وأهل مكة يزعمون أن قبر آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقابر أهل مكة في الشعب المعروف بشعب أبي دب، وكان أبو دب رجلاً من سواءة بن عامر فعرف به.
205- ومن الناس من يقول: قبرها في دار رابعة بالمعلاة بثنية(2/32)
إذاخر، عند حائط خرمان.
قال أبو سعد رحمه الله:
206- وقيل: أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بنت كلاب بن مرة، وزهرة: امرأة نسب إليها ولدها، أقيمت في التذكير مقام الأب.(2/33)
207- وأم آمنة: برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار.
208- وأم برة: أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة.
209- وأم جدته أم حبيب -وهي جدة جدته-: برة أيضاً، بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي.
210- وأم برة بنت عوف: قلابة بنت الحارث بن لحيان بن هذيل.
211- وأم قلابة جدة جدة جدته هي: هند بنت يربوع من ثقيف.
212- أما جدته صلى الله عليه وسلم أم أبيه عبد الله فهي: فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
213- وأم عبد المطلب: سلمى بنت عمرو من بني النجار، وأمها منهم: وكذلك أم أمها، وكانت سلمى قبل أن يتزوجها هاشم تحت أحيحة بن الجلاح فولدت له عمرو بن أحيحة، فهو أخو عبد المطلب لأمه.(2/34)
214- وأم قصي بن كلاب -أخي زهرة بن كلاب- فاطمة بنت سعد، من أزد السراة.
215- وأم كلاب: نعيم بنت سرير بن ثعلبة بن مالك بن كنانة.
216- وأم مرة: وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر.
217- وأم كعب: سلمى بنت محارب بن فهر.
218- وأم لؤي: وحشية بنت مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة.
219- وأم غالب: سلمى بنت سعد بن هذيل.
220- وأم فهر: جندلة بنت الحارث الجرهمي.
220- وأم مالك: هند بنت عدوان بن عمرو، من قيس غيلان.
221- وأم النضر: برة بنت مر أخت تميم بن مر، وكانت تحت أبيه كنانة، فخلف عليها بعد أبيه، فتميم أخوال قريش، لأن قريشاً من النضر تقرشت.
222- حدثنا أبو عبد الله: محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا محمد بن محمد بن عبيد الله الجرجاني، .. ..(2/35)
ثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم، ثنا قتيبة، ثنا أبو عوانة عن قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بعض مغازيه: أنا ابن العواتك.(2/36)
223- قال قتيبة: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث جدات من سليم اسمهن عاتكة، فكان إذا افتخر قال: أنا ابن العواتك.
قال أبو سعد رحمه الله:
224- فأما عاتكة بنت هلال بن فالج فهي أم عبد مناف أبي وهب بن زهرة.
225- وأما عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان، من بني سليم فأم هاشم بن عبد مناف.
226- وأما عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال فهي أم وهب أبي آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم .
227- وأما جدته صلى الله عليه وسلم أم أبيه عبد الله: فهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.(2/38)
228- وأم عبد المطلب: سلمى بنت عمرو، من بني النجار، وأمها منهم، وكذلك أم أمها، وكانت سلمى قبل أن يتزوجها هاشم تحت أحيحة بن الجلاح، فولدت له عمرو بن أحيحة، فهو أخو عبد المطلب لأمه.(2/39)
[48] باب ذكر أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم
229- أخبرنا أبو عمرو ابن مطر، أنا أبو عمرو الخفاف، أنا محمد بن رافع، ثنا شبابة، قال: حدثني ورقاء، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على(2/40)
الصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد ابن الوليد، والعباس بن عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما العباس فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو علي ومثلها، ثم قال: أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه.
قال أبو سعد:
230- كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أعمام وهم أولاد عبد المطلب: الحارث، والزبير، والعباس، وحمزة، وأبو طالب -واسمه: عبد مناف-، والغيداق -واسمه: حجل-، وضرار، والمقوم، وأبو لهب -واسمه: عبد العزى-، ولم يعقب منهم إلا أربعة وهم: الحارث، والعباس، وأبو طالب، وأبو لهب.
231- فأما الحارث فهو أكبر أولاد عبد المطلب وبه كان يكنى، وشهد معه حفر زمزم وولده: أبو سفيان، والمغيرة، ونوفل، وأروى، وربيعة، وعبد شمس.
232- فأما أبو سفيان بن الحارث فأسلم عام الفتح وشهد يوم الحنين، ولم يعقب.
233- وقال صلى الله عليه وسلم : أبو سفيان سيد فتيان أهل الجنة.(2/41)
234- وأما نوفل بن الحارث فكان أسن من حمزة والعباس، وكان مع العباس ببدر أخرجا مكرهين وأسرا، وفداه العباس وهاجر وأسلم يوم الخندق، وله عقب.
235- وأما عبد شمس فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وعقبه بالشام.
236- وأما ربيعة فكانت له صحبة، وعقبه بالبصرة.
237- وأما العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فكان يكنى أبا الفضل، وكانت له السقاية وزمزم، دفعهما إليه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وأخذ البيعة يوم العقبة للنبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار، أسر يوم بدر، واستقبل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح بالأبواء، فكان معه حين فتح مكة، وبه ختمت الهجرة، ومات بالمدينة في أيام عثمان، وقد كف بصره، وهو ابن تسع وثمانين سنة، ومولده قبل الفيل بثلاث سنين، وصلى عليه عثمان، وأدخله قبره ابنه(2/42)
عبد الله، وكان له من الولد تسعة ذكور وثلاث إناث، منهم: عبد الله، وعبيد الله، والفضل، وقثم، ومعبد، وعبد الرحمن، وأم حبيب.
238- وأمهم: لبابة، أم الفضل، بنت الحارث الهلالية، أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وتمام، وكثير، والحارث، وآمنة، وصفية لأمهات الأولاد.
239- فأما الفضل -وكان أكبر ولده وبه كان يكنى- فمات بالشام في طاعون عمواس، وقتل معبد بأفريقية.
240- وأما عبد الله بن العباس -وكان يكنى: أبا العباس- بلغ اثنين وسبعين سنة، ومات بالطائف في فتنة ابن الزبير، وقد كف بصره، وصلى عليه ابن الحنفية سنة ثمان وستين، وكان يصفر لحيته، وكان له من الولد: علي، وعباس، ومحمد، والفضل، وعبد الرحمن، وعبيد الله، ولبابة -أمهم: زرعة بنت مشرح، كندية-، وأسماء لأم ولد.
241- والذي أعقب منهم: علي بن عبد الله، وكان من أعبد الناس وأجملهم، وأكثرهم صلاة، يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، يكنى أبا محمد، مات بالسراة، سنة سبع عشرة ومائة وهو ابن ثمانين سنة، ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كان الوليد ضربه سبع مائة سوط بسبب سليط، وكان له من الولد أحد عشر ذكراً وثلاث إناث، منهم: محمد بن علي بينهما أربعة عشر سنة، وكان يخضب بالسواد، ومحمد بالحمرة، ومات سنة اثنتين وعشرين ومائة وله ستون سنة، وهو أبو الخلفاء، وأمه: العالية بنت عبيد الله بن العباس، وأمها: عائشة بنت عبد المدان الحارثي.(2/43)
ومنهم: داود، وعيسى، وسليمان، وصالح لأم واحدة تسمى سعدى، وإسماعيل، وعبد الصمد لأم ولد، ويعقوب لأم ولد، وعبد الله وعبيد الله من أم أبيها بنت عبد الله بن جعفر، وأمها: ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلي.
ومنهم: أمينة ولبابة وأم عيسى لأمهات أولاد شتى.
242- وأما أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم فاسمه: عبد مناف، وولده: علي، وجعفر، وعقيل، وطالب، وأم هانئ -واسمها: فاختة- وجمانة، أمهم: فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وجعفر أسن من علي بعشر سنين، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، توفي أبو طالب قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين وأربعة أشهر.
243- وأما أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم فاسمه: عبد العزى، يكنى أبا عتبة، وكان أحول، وقيل له: أبو لهب لجماله، وهو سارق غزال الكعبة، وكان من ذهب، وولده عتبة، وعتيبة، ومعتب، وبنات، وأمهم: أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، وعمة معاوية حمالة الحطب.(2/44)
[49] باب ذكر عمات رسول الله صلى الله عليه وسلم
244- أخبرنا أبو عبد الله: محمد بن عبد الله، ثنا أبو العباس: محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: لما حضرت عبد المطلب الوفاة قال لبناته:(2/45)
ابكين علي حتى أسمع -وكن ست نسوة- وهن: أميمة، وأم حكيم، وبرة، وعاتكة، وصفية، وأروى، فهن بنات عبد المطلب لأمهات شتى.
245- أما عاتكة فكانت عند أبي أمية بن المغيرة المخزومي.
وكانت أميمة عند جحش بن زياد الأسدي.
وكانت البيضاء عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس.
246- وكانت برة عند عبد الأسد بن هلال المخزومي، فولدت له أبا سلمة بن عبد الأسد الذي كانت أم سلمة عنده قبل أن تكون عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم خلف عليها أبو رهم بن عبد العزى بن عامر بن لؤي، فولدت له أبا سبرة بن أبي رهم.
247- وكانت أروى عند عمير بن عبد العزى بن قصي.
وكانت صفية عند الحارث بن حرب بن أمية، ثم خلف عليها العوام بن خويلد فولدت له الزبير، ولم يسلم منهن غيرها، وتوفيت في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
248- وقيل: أسلم من العمات ثلاثة: صفية، وأروى، وعاتكة.(2/46)
[50] باب ذكر أخواله وخالاته وإخوته وأخواته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة
249- حدثنا الحاكم أبو عبد الله، ثنا أبو بكر: محمد بن عبد الله الحفيد، ثنا محمد بن زكرياء الغلابي، .. ..(2/47)
ثنا يعقوب بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس قال: حدثني أبي، عن أبيه سليمان، عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس، عن عبد الله بن عباس قال:
كانت حليمة بنت أبي ذؤيب التي أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث أنها لما فطمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم، قالت: سمعته يقول كلاماً عجيباً، سمعته يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً .. وذكر الحديث، وفيه ذكر إخوته وأخواته.
250- قال: أما أخواله وخالاته فلم يكن لأمه آمنة بنت وهب أخ ولا أخت فيكون خالاً له أو خالة، إلا أن بني زهرة يقولون: نحن أخواله؛ لأن آمنة منهم، ولم يكن لأبويه عبد الله وآمنة ولد غيره صلى الله عليه وسلم فلم(2/48)
يكن له أخ، ولا أخت من النسب.
251- وكان له صلى الله عليه وسلم خالة من الرضاعة يقال لها سلمى، وهي أخت حليمة السعدية بنت أبي ذؤيب.
252- فأما إخوته من الرضاعة: فعبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وأبوهم: الحارث بن عبد العزى بن سعد بن بكر بن هوازن، وأمهم: حليمة بنت أبي ذؤيب، فهما أخوا النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة.
253- وقال صلى الله عليه وسلم : أنا أفصح العرب بيد أني من قرش، ونشأت(2/49)
في بني سعد بن بكر.
لبث فيهم صلى الله عليه وسلم خمس سنين، ثم رد صلى الله عليه وسلم إلى أمه.(2/50)
[51] باب ذكر أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصهاره
254- حدثنا محمد بن عبد الله، ثنا أبو الحسن: علي بن محمد بن سختويه العدل قال: أخبرني عبيد بن عبد الواحد بن شريك وأحمد بن إبراهيم بن ملحان قالا: حدثنا عمرو بن خالد، ثنا ابن لهيعة عن يزيد بن(2/51)
أبي حبيب وعقيل عن ابن شهاب، عن أنس قال: لما ولد إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك أبا إبراهيم.
قال أبو سعد رحمه الله:
255- ولد له صلى الله عليه وسلم ثلاث بنين -وقيل: أربعة بنين- من خديجة وأربع بنات.
فالبنون: القاسم -وبه كان يكنى- وعبد الله وهو الطيب، والطاهر، وإبراهيم.
والبنات: فاطمة، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وكلهم من خديجة إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية، وكلهم ولدوا في الجاهلية إلا فاطمة وإبراهيم فإنهما ولدا في الإسلام.
256- فأما القاسم والطيب فماتا بمكة بعد سبع ليال، وأما إبراهيم فولد بالمدينة بعد ثمان سنين من الهجرة، ومات بها وله سنة وستة أشهر وثمانية أيام، وقبره بالبقيع.
257- وأما زينب فتزوجها أبو العاص بن الربيع واسمه القاسم بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، وأمه هالة بنت خويلد، فهو ابن خالتها، تزوجها وهو مشرك فقالت له قريش: طلقها فنزوجك بنت سعيد بن العاص، فأبى أبو العاص، وأتت زينب رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف، ثم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقدم أبو العاص المدينة بعد أربع سنين(2/52)
فأسلم وحسن إسلامه، ثم ماتت بالمدينة لسبع سنين من الهجرة، ولها منه بنت اسمها أمامة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملها في صلاته، وتزوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد فاطمة، فكان علي ختنه على ابنته وابنة ابنته.
258- ثم تزوج أبو العاص بنت سعيد بن العاص.
259- ثم زوجت أمامة بعد علي المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب فولدت له يحيى ولم يعقب.
260- وأما رقية فتزوجها عتبة بن أبي لهب وهو ابن عمتها، وطلقها قبل أن يدخل بها، ولحقها منه أذى فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم سلط على عتبة كلباً من كلابك، فتناوله الأسد من بين أصحابه، وكانوا قد اجتهدوا في حفظه وحراسته، ثم تزوجها عثمان بالمدينة فولدت له عبد الله، ومات صغيراً، نقره الديك في عينه فمرض، وماتت بعده بسنة وعشرة أيام وعشرين يوماً من الهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر.
261- وأما أم كلثوم فتزوجها عتيبة بن أبي لهب فأمره أبوه فطلقها، ثم تزوجها عثمان بعد رقية، وتوفيت لثمان سنين وشهر وعشرة أيام من الهجرة.
262- وأما فاطمة فتزوجها علي بن أبي طالب بعد سنة من مقدمه المدينة، وابتنى بها بعد سنة أخرى، وماتت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة يوم، وولدت له: الحسن، والحسين، ومحسناً، وأم كلثوم الكبرى، وزينب الكبرى.(2/53)
[52] باب ذكر أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن وصفاته
قوله عز وجل: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} الآية.(2/54)
وقال عز من قائل: {يا أيها المزمل} الآية، وقال: {يا أيها المدثر} الآية.
263- فسماه عبداً فقال: {أليس الله بكاف عبده} الآية.
وقال عز وجل: {تبارك الذي نزل القرآن على عبده} الآية.(2/55)
264- وسماه نذيراً مبيناً فقال: {وقل إني أنا النذير المبين} الآية.
265- وسماه أحمد في قوله عز وجل: {ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد} الآية.
266- وسماه محمداً فقال: {وآمنوا بما نزل على محمدٍ} الآية.
267- وسماه رحمة فقال: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} الآية.
268- وسماه مصطفى فقال: {الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس} الآية.
269- وسماه رؤوفاً رحيماً فقال: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ. فإن تولوا فقل(2/56)
حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} الآية.
270- وسماه صدقاً فقال: {وكذب بالصدق إذ جاءه} الآية.
271- وسماه نبياً فقال: {يا أيها النبي} الآية.
272- وسماه رسولاً فقال: {يا أيها الرسول} الآية.
273- وسماه كريماً فقال: {إنه لقول رسولٍ كريمٍ} الآية.(2/57)
274- وسماه نوراً فقال: {قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثيرٍ قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ} الآية.
275- وسماه نعمة فقال: {يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها} الآية.
276- وسماه عبد الله فقال: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} الآية.
وسماه بأسامي في آية واحدة فقال: {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} الآية.(2/58)
277- وسماه رجلاً فقال: {طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} الآية.
278- وسماه إنساناً فقال: {يس} الآية.
279- وسماه مذكراً فقال: {إنما أنت مذكرٌ} الآية.(2/59)
280- والهادي.
281- والذكر.
282- والشافع.(2/60)
[53] باب ذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم التي وردت بها الأخبار
283- أخبرنا أبو عبد الله: الحسين بن أحمد بن محمد الصفار الهروي رحمه الله -قدم علينا حاجاً سنة تسع وخمسين وثلاث مائة- قال: ثنا محمد بن محمد بن عمار قال: .. ..(2/61)
ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي قال: حدثنا جعفر بن عون، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، .. ..(2/62)
عن أبي عبيدة، عن أبي موسى قال: سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بأسماء منها ما حفظناه فقال: أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفي، ونبي الرحمة، والملحمة.(2/63)
قال المؤلف أبو سعد عبد الملك رحمه الله:
284- هو محمد، وأحمد، والحاشر، والماحي، والعاقب، والخاتم، ونبي الملحمة، .. ..(2/64)
والمتوكل، والغيث، والمقفي.
285- وفي كتب إبراهيم: مومود، وفي كتب الروم: التلقيط.(2/65)
286- وفي مزمور: إن الله عز وجل أظهر من صهيون -أي: مكة- إكليلاً محموداً فسماه: الإكليل المحمود.
287- وقال المسيح عليه السلام: سيأتيكم روحاً فارقليطاً -يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم -.
288- وفي بعض الصحف المنزلة: اسمه أحيد -يعني: أحيد به عن النار-.(2/66)
289- واسمه في السريانية: سرخطيلس، وبالعبرانية: موذموذ، وفي الإنجيل: مارينوليط، وفي الزبور: حاط حاط، وبالرومية: محصياد، وفي صحف إبراهيم: طاب طاب -يعني: طيب طيب-،(2/67)
واسمه في التوراة: مرحوماً، وفي الزبور: فارق -يعني: فرق بين الحق والباطل-، وفي الإنجيل: أخرانا -يعني: آخر الأنبياء-، وفي السماوات: محمود، وفي صحف شيث، آخر ماح ماح -يعني: صحيح الإسلام-.(2/68)
[54] فصلٌ: فيما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من الأسماء والكنى والألقاب
290- روي أن الله بعث مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي، منهم ثلاث مائة وثلاثة عشر مرسلاً، والرسول لا يكون إلا نبياً، والنبي يكون ولا رسالة.
وقد ذكر الله عز وجل أنبياءه عليهم السلام ، فلم يقسم لأحد منهم اسماً مشتقاً من أسمائه تعالى، وشق له صلى الله عليه وسلم من الحميد والمحمود: محمداً صلى الله عليه وسلم وقد مدحه بذلك عمه أبو طالب فقال:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
فبين كرامته صلى الله عليه وسلم ، فالله محمود، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، يقال: حمدت الرجل: إذا أكثرت الثناء عليه، وهو محمد، فالرأس من الحيوان بمنزلة الميم من محمد، واليدان بمنزلة الحاء من محمد، والبطن بمنزلة الميم من محمد، والرجلان بمنزلة الدال.(2/69)
291- وسمي صلى الله عليه وسلم أحمد لأن الأنبياء كلهم حامدون والنبي صلى الله عليه وسلم أحمد منهم أي: أفضل منهم في الثناء عليه صلى الله عليه وسلم .
292- وكني صلى الله عليه وسلم بأبي القاسم لأنه يقسم الجنة يوم القيامة بين الخلق.
293- ومن صفاته صلى الله عليه وسلم في الكتب: راكب الجمل وآكل الذراع، وقابل الهدية، ومحرم الميتة، وخاتم النبوة، وحامل الهراوة.
294- ويقال: إن كنيته صلى الله عليه وسلم في التوراة: أبو الأرامل، واسمه: صاحب الملحمة، وفي التوراة: إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب(2/70)
البعير، فسماه راكب البعير، وسماه في كتب شعيا: نور الأمم، وفي كتابه أيضاً: هو نور الله الذي لا يطفأ، وهو ركن المتواضعين، صلى الله عليه وسلم .
295- وقد روي في بعض الأخبار: إن لي عند الله عشرة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي -الذي يمحو الله بي الكفر-، وأنا العاقب -الذي ليس بعدي نبي-، وأنا الحاشر -يحشر الله العباد على قدمي-، وأنا رسول الرحمة، ورسول التوبة، والمقفي، ورسول الملأ، قفيت النبيين جميعاً، وأنا قثم -والقثم: الكامل الجامع-.
296- وقال صلى الله عليه وسلم : أنا الأول والآخر، والظاهر والباطن، وقيل: إن هذه تحية الملائكة له ليلة المعراج فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: ما هذه التحية؟ فقال جبريل عليه السلام: أنت أول في النبوة، وآخر في البعثة.(2/71)
297- وقيل في تفسير اسم محمد صلى الله عليه وسلم : أن الميم الأولى ميم المعرفة، أعطاه الله معرفةً بعلم الأولين والآخرين.(2/72)
وأما الحاء فإن الله عز وجل أحيا المسلمين على يديه من الكفر بالإسلام حيث قال تعالى: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} الآية.
والميم الثانية: ميم الملك، أعطاه الله مملكة لم يعط أحداً مثل ذلك، وذلك أن جمع اسمه مع اسم الله في المشرق والمغرب.
وأما الدال: فهو الدليل لجميع الخلائق إلى الفردوس.
298- وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه، وأوسعوا له في المجلس، ولا تقبحوا له وجهاً.
299- وروت خليلة بنت الخليل قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني امرأة لا يعيش لي ولدٌ فما تأمرني؟ قال: اجعلي لله على نفسك أن تسميه محمداً فإنه يعيش، ففعلت، فعاش، فما بالبحرين أهل بيت أكثر منهم.(2/73)
[55] فصلٌ: ولقبه صلى الله عليه وسلم الذبيح
300- لقوله صلى الله عليه وسلم : أنا ابن الذبيحين -يعني: إسماعيل وعبد الله-.
301- قال الصنابحي: حضرنا مجلس معاوية بن أبي سفيان، فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم عليه السلام، فقال بعض القوم: إسماعيل الذبيح، وقال بعضهم: إسحاق.
فقال معاوية: على الخبير سقطتم، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي فقال: يا رسول الله خلفت البلاد وهي يابس، والماء عابس،(2/74)
هلك العيال، وضاع المال، فعد علي بما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين.
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه.
فقيل: وما الذبيحان؟
قال: إن عبد المطلب نذر أن ينحر بعض ولده، فخرج السهم على عبد الله، فأراد ذبحه، فمنعه أخواله من بني مخزوم، ففداه بمائة ناقة، فقال: هو الذبيح، وإسماعيل عليه السلام الثاني.
302- فأما إسماعيل فقصته معروفة، وذلك أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم في منامه أن يذبح له ابنه إسماعيل إذا فرغ من نسكه ورمى جمرة العقبة، قال تعالى: {إني أرى في المنام أني أذبحك} الآية، فلما رمى حمله إلى قريب منها وأضجعه على وجهه كيلا يلحقه رأفة الوالد لولده إذا وقعت عينه في عينه، وأخذ المدية بيده ووضعها على حلقه امتثالاً لأمر ربه، ورضي الغلام واستسلم ببذل مهجته، وبكت الملائكة لما شهدت، وتحزنت لما عاينت، وسبحت الطيور في الجو وتضرعت، وبقيت الشياطين من استسلامهما متعجبة.
فلما علم الله صدقهما، وحسن طاعتهما، ناداه: {أن يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبحٍ عظيمٍ}.
303- فجعل صلى الله عليه وسلم لنا الهدايا والضحايا من النعم بدلاً من القربان بالأولاد.
304- والثاني: عبد الله، وقصته أن عبد المطلب أري في المنام أن يذبحه.(2/75)
305- وقيل: إنه نذر: إن ولد له عشرة من البنين أن يذبح العاشر، فلما ولد له عشرة كان العاشر عبد الله، فهم أن يقتله فزجر عن ذلك، فقال: إني قد نذرت ذلك، فقال أخوال عبد الله: نحن لا نرضى بذلك، وذلك أن أمه كانت سوى أمهات سائر بنيه، وقالوا: ما بالنا يقتل ابن أختنا دون غيره؟ قال: إني نذرت أن أقتل العاشر، فاتفقت آراؤهم أن يخرجوا إلى الشام فيسألوا بعض الكهنة، فقيل: إنهم خرجوا فأشار عليهم الكاهن أن يقدم قرباناً، ويضرب عليهم القداح، فقدم عشرة من الإبل، وضرب بالقداح فخرجت على ابنه، فلم يزل يزيد في الإبل عشراً عشراً حتى بلغت مائة، فخرجت القداح على الإبل فكبروا واستبشروا -والقداح: هي القرعة- فنحرها عند الكعبة، وصارت هي الأصل في الديات، لا يجاوز ولا ينقص عنها، فسمي عبد الله: الذبيح.(2/76)
[56] فصلٌ: ذكر قصة حفر عبد المطلب بن هاشمٍ بئر زمزم
306- لما كان زمن الفيل خرجت قريش فارة من الفيل، وعبد المطلب غلام شاب فقال: والله لا أخرج من حرم الله أبتغي العز من غيره، قال: فجلس عند البيت وجلت عنه قريش وهو يقول:
لا هم إن المرء يمنع رحله ... فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم ... وضلالهم عدواً محالك
قال: فلم يزل ثابتاً في الحرم حتى أهلك الله الفيل وأصحابه، حتى ولد له أكبر بنيه: الحارث، فأتي عبد المطلب في المنام فقيل له: احفر زمزم خبيئة الشيخ الأعظم، فاستيقظ فقال: اللهم بين لي، فأتي في المنام مرة أخرى فقيل له: احفر تكتم بين الفرث والدم في مبحث(2/77)
الغراب في قرية النمل، مستقبله الأنصاب الحمر، فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام ينتظر ما سمي له من الآيات، فنحرت بقرة بالحزورة فانفلتت من جازرها بحشاشة نفسها حتى غلبها الموت في المسجد في موضع زمزم، فجزرت تلك البقرة في مكانها حتى احتمل لحمها، فأقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث، فبحث عن قرية النمل، فقام عبد المطلب فحفر هنالك، فجاءته قريش فقالت لعبد المطلب: ما هذا الصنيع، إنا لم نكن نزنك بالجهل، لم تحفر في مسجدنا؟ فقال عبد المطلب: إني لحافر هذه البئر، ومجاهد من صدني عنها.
فطفق هو وابنه الحارث وليس له ولد يومئذ غيره، فسفه عليهما يومئذ ناس من قريش، فنازعوهما، وقاتلوهما، وتناهى عنه ناس من قريش لما يعلمون من عتق نسبه، وصدقه واجتهاده في دينهم يومئذ.
حتى إذا أمكن الحفر واشتد عليه الأذى نذر إن وفى له عشرة من الولد أن ينحر أحدهم، فما زال يحفر حتى بلغ الماء، فطفق هو وابنه ينزعان الماء، وجعلا حوضاً يمليانها ليشرب منه الحاج، فحسده قوم من قريش، فكسروا حوضه فأصلحه، فكسروه مراراً فساءه ذلك، فدعا ربه، فأري في المنام أن قيل له: قل: اللهم إني لا أحلها لمغتسل، ولكن هي للشارب حل وبل،(2/78)
فلم يفسدوا بعد ذلك حوضه، ورمي كل من حسده بشيء في بدنه.
ثم تزوج عبد المطلب النساء، فولد له عشرة رهط، فقال: اللهم إني كنت نذرت لك ذبح أحدهم، فإني أقرع بينهم، فأصب بذلك من شئت، فأقرع بينهم، فصارت القرعة على عبد الله -وكان أحب أولاده إليه-.(2/79)
[57] فصلٌ: ذكر روايةٍ أخرى لرؤيا عبد المطلب في أمر زمزم
307- وفي بعض الأخبار: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال: احفر طيبة، قال قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني فرجعت إلى مضجعي، فنمت فيه فجاءني فقال: احفر برة، قال قلت: وما بره؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان من الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم، قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبداً ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، عند قرية النمل.
قال: فلما بان له شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب ليس له يومئذ غيره، فحفر فلما بدا لعبد المطلب الماء كبر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر إسماعيل وإن لنا فيها حقاً،(2/80)
فأشركنا فيها معك، فقال عبد المطلب: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم، قالوا: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نحاكمك، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد -وكانت بالشام-.
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، قال: والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، واستسقوا ممن معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم وقالوا: إنا في مفازة نخشى فيها على أنفسها مثل ما أصابكم.
فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم، وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر كل واحد منكم لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلاً واحداً فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً. قالوا: سمعنا ما أردت.
قال: فقام كل رجل منهم يحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً.
ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا لعجز لا نبتغي لأنفسنا حيلة، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا.
قال: فارتحلوا، حتى إذا فرغوا -ومن معهم من قريش ينظرون إليهم وما هم فاعلون-، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجر من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب،(2/81)
وكبر أصحابه، ثم نزل، فشرب وشربوا، واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل التي معه من قريش، فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا.
قال: فشربوا واستقوا، فقالت القبائل التي نازعته: قد والله قضى الله لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة، هو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً.
قال: فرجع ورجعوا معه ولم يمضوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم.(2/82)
[58] فصلٌ: ذكر روايةٍ أخرى أيضاً في ذلك
308- عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أتي عبد المطلب حين أمر بحفر زمزم فقيل له: ادع بالماء الرواء غير الكدر، فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال: أتعلمون أني قد أمرت أن أحفر زمزم؟ قالوا: فهل بين لك أين هي؟ قال: لا، قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يكن حقاً من الله بين لك، وإن يكن من الشيطان لم يرجع إليك، فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام، فأري، فقيل له: احفر زمزم، إن حفرتها لم تذم، وهي تراث أبيك الأعظم، فلما قيل له ذلك، قال: وأين هي؟ قال قيل: عند قرية النمل حيث ينقر الغراب.
قال: وكان عبد المطلب نذر لله عز وجل حين أمر بحفر زمزم لئن(2/83)
تم له ذلك، وتتام له عشرة من الولد ليذبحن أحدهم، فلما تم له زمزم، وولد له عشرة من الذكور أقرع بين أولاده، فخرجت القرعة على عبد الله أب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام إليه ليذبحه، فقامت إليه أخوال عبد الله وعظماء قريش فقالوا: والله لا تذبحه، فإنك إن تفعل ذلك تكن سنة علينا في العرب، وقالت قريش: إن بالحجاز عرافة لها تابع فسلها، فإن أمرتك بذبحه فاذبحه، فجاءوا إلى المدينة، وسألوا المرأة فقالت: حتى يأتيني تابعي، فلما كان الغد غدوا عليها، فقالت: نعم، جاءني الخبر، كم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل، قالت: فارجعوا إلى بلادكم، وقربوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليها بالقداح وعلى صاحبكم، فإن خرجت على الإبل فانحروها، وإن خرجت على صاحبكم فزيدوا في الإبل.
فلما رجعوا إلى بلادهم فعلوا، فكانت تخرج القرعة على عبد الله، فقالت قريش: يا عبد المطلب زد ربك حتى يرضى، فلم يزل يزيد عشراً عشراً حتى تم المائة، فخرجت القداح على الإبل فنحرت.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا ابن الذبيحين.(2/84)
[59] بابٌ: في ذكر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلقه ونعته وحليته
309- حدثنا أبو عمرو: محمد بن جعفر بن محمد بن مطر، قال: حدثنا الحباب بن محمد بن الحباب التستري، قال: حدثنا عثمان بن حفص، .. ..(2/85)
قال: حدثنا نوح بن قيس، عن خالد بن خالد التميمي، عن يوسف بن مازن الراسبي، أن رجلاً سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: .. ..(2/86)
يا أمير المؤمنين انعت لنا النبي صلى الله عليه وسلم وصفه لنا، قال: كان صلى الله عليه وسلم ليس بالذاهب طولاً، وفوق الربعة، إذا جاء مع القوم غمرهم، .. ..(2/87)
أبيض شديد الوضح، ضخم الهامة، أغر أبلج، أهدب الأشفار، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى يتقلع كأنما ينحدر في صبب، كأن العرق في وجهه اللؤلؤ، لم أر قبله ولا بعده مثله بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم .(2/88)
قال أبو سعد رحمه الله: وليس في الأحاديث في صفة النبي صلى الله عليه وسلم حديث أكمل وأتم وأحسن من حديث هند بن أبي هالة.
وكان هند خال الحسن بن علي رضي الله عنه، وكان أبو هالة زوج خديجة قبل النبي صلى الله عليه وسلم وهند ابنها منه، وكان هند وصافاً عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
310- قال الحسن بن علي: فأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئاً أتعلق به:(2/89)
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إن انفرقت عقيصته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ في غير قرن،(2/90)
بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان، .. ..(2/91)
دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادناً متماسكاً سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عار الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين، وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، .. ..(2/92)
خمصان الأخمصين، مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعاً، يخطو تكفؤاً، ويمشي هوناً، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقي بالسلام.(2/93)
قال الحسن: قلت: صف لي منطقه صلى الله عليه وسلم .
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئاً، غير أنه لم يكن يذم ذواقاً ولا يمدحه، لا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء إذا تعرض الحق لشيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب براحته اليمنى(2/94)
باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام.
قال الحسن: فكتمتها الحسين زماناً، ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه فسأله عما سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله ومخرجه وشكله، فلم يدع منه شيئاً.
311- قال الحسين: فسألت أبي عن دخول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان دخوله صلى الله عليه وسلم لنفسه مأذوناً له في ذلك، فكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءاً لله عز وجل، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزء جزأه بينه وبين الناس، فيرد ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر عنهم شيئاً.
وكان من سيرته صلى الله عليه وسلم في جزء الأمة: إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم: ذو الحاجة، ومنهم: ذو الحاجتين، ومنهم: ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة عن(2/95)
مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون رواداً، ولا يفترقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة على الخير فقهاء.
قال: فسألته عن مخرجه صلى الله عليه وسلم : كيف يصنع فيه؟
فقال: على الخبير سقطت، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا مما يعنيه، ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحلق ولا يجاوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.(2/96)
قال: فسألته عن مجلسه صلى الله عليه وسلم : كيف كان يصنع فيه؟
فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا عن ذكر الله، ولا يوطن الأماكن، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه بسطه وخلقه، فصار لهم أباً، وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تثنى فلتاته، متعادلين، يتفاضلون فيه بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.
قال: فسألته عن سيرته صلى الله عليه وسلم في جلسائه، فقال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مزاح، يتغافل عما لا يشتهي، فلا يؤيس منه، ولا يحب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث:(2/97)
المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام.
قال: فسألته: كيف كان سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال: كان سكوته على أربع: الحلم والحذر، والتقدير والتفكر، فأما تفكره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم والصبر، كان لا يغضبه شيء ولا يستفزه أحد، وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسنى ليقتدى به، وتركه القبيح ليتناهى عنه، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته، والقيام فيما جمع لهم خير الدنيا والآخرة.(2/98)
312- [قال]: وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لم يكن بالطويل الممغط، .. ..(2/99)
ولا القصير المتردد، ولم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، كان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطهم ولا المكلثم، وكان في وجهه تدوير، أبيض مشرب، أدعج العينين أهدب الأشفار، .. ..(2/100)
جليل المشاش والكتد، أجرد ذو مسربة، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس صدراً، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه.
يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم .(2/101)
313- وقال أبو حمزة: أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس قواماً، وأحسن الناس وجهاً، وأطيب الناس ريحاً، وألين الناس كفاً، ما شممت رائحة قط مسكاً ولا عنبراً أطيب رائحة منه، ولا مسست خزاً ولا حريراً ألين من كفه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.(2/102)
[60] فصلٌ: ذكر الآية في وجهه الشريف وعقله المنيف صلى الله عليه وسلم
314- روي أن عائشة رضي الله عنها كانت تخيط ثوباً في وقت السحر، فضلت الإبرة وطفئ السراج، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فأضاء البيت، ووجدت عائشة الإبرة بضوئه، فضحكت، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ويل لمن لا يراني يوم القيامة، قالت عائشة: ومن لا يراك يا رسول الله؟ قال: البخيل، قالت: ومن البخيل؟ قال: الذي لا يصلي علي إذا سمع اسمي.(2/103)
قال أبو سعد رحمه الله: لم يظهر لنا تمام حسنه صلى الله عليه وسلم لأنه لو ظهر لما طاقت أعيينا رؤيته، وكذلك لم يظهر لنا تمام عقله لأن قلوبنا لا تحتمل ذلك.(2/104)
315- وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : إني أتكلم على قدر عقولكم.(2/105)
[61] فصلٌ: ذكر الآية في عينه وقلبه وصفة نومه صلى الله عليه وسلم
316- كان صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه.
317- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلبي ينتظر الوحي.
318- وكان صلى الله عليه وسلم إذا نام نفخ نفخاً، .. ..(2/106)
ولا يغط غطيطاً.
319- وكان صلى الله عليه وسلم كثير الرؤيا، ولا يرى في منامه إلا الخير.(2/107)
320- وجاءت الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم: هو نائم، وقال بعضهم: العين نائمة والقلب يقظان.
321- وقالت عائشة رضي الله عنها قلت: يا رسول الله تنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي.(2/108)
[62] فصلٌ: ذكر الآية في خاتمه الشريف صلى الله عليه وسلم وما جاء في صفته
322- روي أن الخاتم الذي كان بين كتفيه صلى الله عليه وسلم مثل البيضة .. ..(2/109)
مكتوب عليه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، توجه حيث شئت فإنك منصور.(2/111)
[63] فصلٌ: ذكر الآية في بوله وغائطه صلى الله عليه وسلم
323- عن أم أيمن قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل إلى فخارة في جانب البيت فبال فيها، ثم قمت من الليل وأنا عطشى فأتيت الفخار(2/112)
فشربت ما فيها، فلما أصبح ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: أما إنك لن تشتكي بطنك بعد يومك هذا.
324- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله إنك تدخل الخلاء فإذا خرجت دخلت على إثرك فلا أرى شيئاً، إلا أني أجد رائحة المسك؟(2/113)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا معاشر الأنبياء تنبت أجسادنا على أرواح أهل الجنة، فما خرج منها شيء ابتلعته الأرض.(2/114)
[64] فصلٌ: ذكر الآية في عرفة، وما جاء في طيب ريحه صلى الله عليه وسلم
325- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم خصال: كان لا يمر في طريق إلا عرف أنه مر فيه من طيب عرقه، ولم يكن يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له.
326- وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر في الطريق من طرق المدينة وجد منه رائحة المسك، وقالوا: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق.
327- وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فأخذ يمسح خدودهم،(2/116)
فمسح خدي فوجدت ليده برداً كأنما أخرجها من جؤنة عطار.
328- وقال صلى الله عليه وسلم : من أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد الأحمر.
329- وكان صلى الله عليه وسلم إذا نام عرق، فتأتي أم سليم بقطنة فتلتقط عرقه فتخلط به مسكاً في قارورة لها، ثم تجعله للشفاء.(2/117)
330- وفي رواية أخرى: أنه كان صلى الله عليه وسلم يأتي بيت أم سليم فيقيل عندها، وكان صلى الله عليه وسلم كثير العرق إذا نام، فكانت أم سليم تأخذ من عرقه فتجعله في مسك.
331- ودخل صلى الله عليه وسلم بيتها ذات يوم فرأى فيه قربة معلقة فيها ماء، فهوى إليها ففتح فاها ثم شرب، فلما خرج أخذت أم سليم الشفرة فقطعت فم القربة ثم لفتها في خرقة، وقالت: هذه مأثرة لكم تدخرونها.(2/118)
[65] فصلٌ: ذكر الآية في شعره الشريف صلى الله عليه وسلم
332- عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: اعتمرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة اعتمرها فحلق شعره، فاستبق الناس إلى شعره صلى الله عليه وسلم ، فسبقتهم إلى الناصية، فاتخذت قلنسوة، فجعلتها في مقدم القلنسوة، فما توجهت بها في وجهة إلا فتح لي.(2/119)
[66] فصلٌ: في ابتداء الدعوة وعرض نفسه صلى الله عليه وسلم على قومه، وما لقي في ذلك من الشدة
333- أخبرنا أبو الفضل: جعفر بن الفضل بن حنزابه المصري، وزير كافور بمكة في المسجد الحرام بحذاء الكعبة قال: أخبرنا علي بن محمد بن الجهم بمدينة السلام قال: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: .. ..(2/121)
أخبرنا معمر، عن ابن خثيم، عن أبي الزبير، .. ..(2/122)
عن جابر بن عبد الله قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يعرض نفسه على الناس بعكاظ ومكة وفي الموسم يقول: من ينصرني؟ من يؤويني؟ حتى أبلغ رسالة ربي عز وجل وله الجنة.(2/123)
334- وروى أبو أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله بعثني رحمة للعالمين، وهدى للعالمين، وأن أكسر المعازف والأصنام وأمر الجاهلية، وأقسم ربي عز وجل: لا يشرب عبد الخمر في الدنيا ثم لا يتوب إلى الله منها إلا سقاه الله من طينة الخبال.
335- وروى عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم : لقد لقيت من قومي شدة، وأشد ما لقيت منهم يوم عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم أشعر إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلت، وإذا جبريل فناداني فقال: إن الله سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره(2/126)
بما شئت فيهم، فسلم علي وقال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد بعثني الله إليك لتأمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً.
336- عن عبد الله بن عباس قال: حدثني علي بن أبي طالب من فيه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر -وكان مقدماً في كل الخير، وكان رجلاً نسابة- فسلم فردوا عليه السلام فقال: ممن القوم؟ فقالوا: من ربيعة، قال: أمن هامتها، أو من لهازمها؟ فقالوا: بل من هامتها العظمى، قال: وأي هامتها العظمى؟ قالوا: ذهل الأكبر، قال: فمنكم عوف الذي كان يقال: لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا، قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا،(2/127)
قال: فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا، قال: فلستم ذهل الأكبر، أنتم ذهل الأصغر؟
قال: فقام إليه غلام من بني شيبان حين بعل وجهه يقال له: دغفل، فقال:
إن على سائلنا أن نسله ... والعبء لا تعرفه أو تجهله
يا هذا إنك قد سألتنا فأخبرناك ولم نكذبك شيئاً، فممن الرجل؟ فقال أبو بكر: أنا من قريش، فقال الفتى: بخ بخ، أهل الشرف والرياسة، فمن أي القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة، فقال الفتى: أمكنت والله منها الرامي من سوء الثغرة، أمنكم قصي الذي جمع(2/128)
القبائل من فهر فكان يدعى في قريش مجمعاً؟ قال: لا، قال فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه، ورجال مكة مسنتون عجاف؟ قال: لا، فقال: فمنكم شيبة الحمد: عبد المطلب مطعم طير السماء الذي كأن وجهه القمر يضيء في الليلة الداجية الظلماء؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل الرفادة أنت؟ قال: فاجتذب أبو بكر رضي الله عنه زمام الناقة راجعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الغلام:(2/129)
صادف در السيل دراً يدفعه ... يهضبه حيناً وحيناً يصدعه
أما والله لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات قريش، وأما أنا فدغفل.
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال علي: فقلت: يا أبا بكر، لقد وقعت من الأعرابي على باقعة! قال: أجل أبا حسن، ما من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق.
قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر الناس، وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ ابن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان مفروق قد غلبهم جمالاً ولساناً، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته، وكان أدنى القوم مجلساً.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال المفروق: علينا الجهد، ولكل قوم جهد، فقال أبو بكر رضي الله عنه: كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة،(2/130)
ويديل علينا أخرى، لعلك أخا قريش فقال أبو بكر رضي الله عنه: قد بلغكم أنه رسول الله، ألا هو ذا، فقال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذاك، فإلى ما تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وقام أبو بكر رضي الله عنه يظله بثوبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وإلى أن تؤوني وتنصروني فإن قريشاً قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد.
فقال مفروق بن عمرو: وإلى ما تدعونا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلاماً أحسن من هذا، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآية، إلى قوله تعالى: {فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}، فقال مفروق: وإلى ما تدعونا أيضاً يا أخا قريش، فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض؟
قال: فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}.
فقال مفروق بن عمرو: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك، وظاهروا عليك -وكأنه أحب أن يشرك في الكلام هانئ بن قبيصة- فقال: وهذا هانئ بن قبيصة، شيخنا وصاحب ديننا.(2/131)
فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، إني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر أنه زلل في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن نرجع وترجع، وننظر وتنظر.
وكأنه أحب أن يشرك المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا.
فقال المثنى بن حارثة: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه: جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتك على دينك، وإنا إنما نزلنا بين صيرين: اليمامة، والسماءة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذان الصيران؟ فقال: أنهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان مما يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا أن لا نحدث حدثاً، ولا نؤوي محدثاً، وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا قرشي(2/132)
مما يكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أسأتم في الرد، إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟
فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذلك، قال: فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}.
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضاً على يدي أبي بكر وهو يقول: يا أبا بكر أية أخلاق في الجاهلية؟ ما أشرفها، بها يدفع الله عز وجل بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم.
قال: فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سر بما كان من أبي بكر ومعرفته بأنسابهم.(2/133)
327- روى جبار بن عبد الله قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب: يا محمد اخرج إلينا، إن مدحنا زين، وإن شتمنا شين، فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وشتمه شين، فماذا تريدون؟
قالوا: نحن ناس من بني تميم، جئناك بشاعرنا وخطيبنا، لنشاعرك ولنفاخرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا.
فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم يا فلان فاذكر فضلك وفضل قومك، قال: فقال وقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض، من أكثرهم عدة، وأكثرهم مالاً، وأكثرهم سلاحاً، فمن أنكر علينا قولنا فليأت بقول أحسن من قولنا، وبفعال أحسن من فعالنا.(2/134)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس- وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم : قم فأجبه، قال: فقام ثابت فقال: الحمد الله أحمده وأستعينه، وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوهاً، وأعظم الناس أحلاماً فأجابوه، فالحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله، وعزاً لدينه، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها منع منا ماله ونفسه، ومن أباها قاتلناه، وكان رغمه في الله علينا هيناً، أقول قولي هذا، وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.
قال: فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم يا فلان فقل أبياتاً تذكر فيها فضلك وفضل قومك، قال: فقام فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... نحن الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم الناس عند القحط كلهم ... من السديف إذا لم يؤنس القزع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع
قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حسان، فانطلق إليه، فقال: وما يريد مني رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وإنما كنت عنده آنفاً!، قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم، فتكلم خطيبهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس فأجابه، وتكلم شاعرهم فأرسل إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتجيبه،(2/135)
فقال حسان: قد آن لكم أن تبعثوا هذا العود -والعود: الجمل الكبير-، قال: فجاء حسان، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبه، فقال: يا رسول الله مره فليسمعني، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسمعه ما قلت: فأسمعه، فقال حسان:
نصرنا رسول الله والدين عنوة ... على رغم عات من معد وحاضر
بضرب كإيزاغ المخاض مشاشة ... وطعن كأفواه اللقاح الصوادر
وسل أحداً يوم استقلت شعابه ... فضرب لنا مثل الليوث الخوادر
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى ... إذا طاب ورد الموت بين العساكر؟
ونضرب هام الدارعين وتنتهي ... إلى حسب من جذم غسان قاهر؟
فلولا حياء الله قلنا تكرماً ... على الناس بالخيفين: هل من منافر؟
فأحياؤنا من خير من وطئ الحصى ... وأمواتنا من خير أهل المقابر
قال: فقام الأقرع بن حابس فقال: إني والله يا محمد قد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء، وإني قد قلت شعراً فاسمعه، فقال: هات، فقال:(2/136)
أتيناك كي ما يعرف الناس فضلنا ... إذا اختلفوا عند ذكر المكارم
فإنا رؤوس الناس من كل معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وإن لنا المرباع في كل غارة ... تكون بنجد أو بأرض التهائم
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حسان قم فأجبه، قال: فقام حسان:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالاً عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد كنت غنياً يا أخا بني دارم أن يذكر منك ما قد كنت ظننت أن الناس قد نسوه عنك.
قال: فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد عليهم من قول حسان إذ يقول:
هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم
قال: ثم رجع حسان إلى قوله:
وأفضل ما نلتم من المجد والعلى ... ردافتنا من بعد ذكر المكارم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله نداً وأسلموا ... ولا تفخروا عند النبي بدارم
وإلا ورب البيت مالت أكفنا ... على رؤوسكم بالمرهفات الصوارم
قال: فقام الأقرع بن حابس فقال: يا هؤلاء، إني والله ما أدري ما هذا الأمر، تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أرفع صوتاً وأحسن قولاً،(2/137)
وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أرفع صوتاً وأحسن شعراً ثم دنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يضرك ما كان قبل هذا.(2/138)
[67] بابٌ: في معاريج النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين
قال الله عز وجل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} الآية.
قوله عز وجل: {أسرى بعبده} يعني: أدلج.(2/139)
338- وقال عزت قدرته: {والنجم إذا هوى}، قالوا: بمحمد إذا رجع من السماء.
قال أبو سعد رحمه الله ورضي عنه: اختلف الناس في معراج النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم: كان رؤيا، وقال بعضهم: كان حقيقة، وترتيب الأخبار أن يقال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معاريج، منها: ما كان حقيقة، ومنها: ما كان رؤيا، على ما روي في الخبر.
339- أخبرنا أبو سعيد: عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الصوفي، الرازي، ثنا يوسف بن عاصم، .. ..(2/140)
ثنا هدبة بن خالد، ثنا همام، ثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به، قال: بينا أنا في الحطيم -وربما قال: في الحجر- مضطجعاً، إذ أتاني آت فشق ما بين هذه إلى هذه -قال: فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني؟ قال: من ثغرة نحره إلى سرته-.
فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءاً إيماناً وحكمة، فغسل قلبي، ثم حشي، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض، -فقال له الجارود، هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم-، يقع خطوه عند أقصى طرفه.
قال: فحملت عليه، فانطلق به جبريل عليه السلام حتى أتى بي السماء الدنيا، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم ، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا فيها آدم -صلوات الله وسلامه عليه-، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام وقال: مرحباً بالابن الصالح، والنبي الصالح.
قال: ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، فقيل: من(2/141)
هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم ، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء، ففتح لنا، فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى -وهما ابنا خالة- فقال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، قال: فسلمت فردا، وقالا: مرحباً بالأخ الصالح، والنبي الصالح.
قال: ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم ، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء، ففتح لنا، فلما خلصت إذا بيوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
قال: ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة: فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم ، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء، قال: ففتح، فلما خلصت فإذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد علي ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
قال: ثم صعد بي إلى السماء الخامسة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم ، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون قلت: من هذا؟ قال: هارون، فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
قال: ثم صعد بي حتى أتى بي السماء السادسة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم ، قيل:(2/142)
أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما جاوزت بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي.
قال: ثم صعد بي حتى أتى بي السماء السابعة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم ، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا إبراهيم عليه السلام، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح.
قال: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، وإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، قال: وإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات.
قال: ثم رفع لي البيت المعمور.
340- قال قتادة: فحدثنا الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون فيه.
ثم رجع إلى حديث أنس بن مالك: قال: ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هذه الفطرة أنت عليها وأمتك.(2/143)
قال: ثم فرضت علي الصلاة: خمسون صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى عليه السلام، فقال: بم أمرت؟ فقلت: بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قال: فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت على موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بأربعين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم، فإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بثلاثين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة، فإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قال: فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت على موسى، فقال: بم أمرت؟ فقلت: أمرت بعشرين صلاة، قال: إن أمتك لا تستطيع عشرين صلاة كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بعشر صلوات، قال: إن أمتك لا تستطيع عشر صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمس صلوات كل يوم، قال: فإن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم. وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة،(2/144)
فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قلت: قد سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم.
قال: فلما جاوزت، فإذا مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي.
341- أخبرنا أبو عبد الله: عبد الوهاب بن الحسن بن علي بن داود بن خلف المصري بها، ثنا أبو محمد: عبد الله بن جعفر بن الورد، ثنا عبد الرحيم بن عبد الله البرقي، ثنا عبد الملك بن هشام، ثنا زياد بن عبد الله البكائي، ثنا محمد بن إسحاق، أن أم هانئ بنت أبي طالب(2/145)
كانت تقول: ما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائم .. وذكر حديث المسرى بطوله.(2/146)
342- حدثنا أبو عمرو: محمد بن جعفر بن محمد بن مطر، ثنا أبو الحسين: سهل بن يحيى الصوفي، ثنا محمد بن يونس بن موسى الكديمي، قال: حدثني أبي: يونس بن موسى، ثنا الحسن بن حماد،(2/147)
عن زياد بن المنذر النهدي، ثنا محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه قال: لما بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليم الآذان أتاه جبريل عليه السلام بدابة يقال لها: البراق، فذهب ليركبها فاستصعبت، فقال صلى الله عليه وسلم : يا جبريل، ائتني بدابة ألين من هذه، فأتاه بدابة يقال لها: برقة، فركبها، فاستصعبت عليه فقال لها جبريل عليه السلام: اسكني برقة فما ركبك أحد أكرم على الله منه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فركبتها حتى انتهت بي إلى الحجاب، فخرج ملك من وراء الحجاب، قال: فقلت: يا جبريل من هذا الملك؟ قال: والذي بعثك بالحق ما رأيت هذا الملك قبل ساعتي هذه،(2/148)
فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، فنودي من وراء الحجاب: صدق عبدي؛ أنا أكبر أنا أكبر، فقال الملك: أشهد أن لا إله إلا الله، فنودي من وراء الحجاب: أنا والله لا إله إلا أنا، قال الملك: أشهد أن محمداً رسول الله، فنودي من وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا أرسلت محمداً رسولاً، فقال الملك: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فنودي من وراء الحجاب: صدق عبدي، ودعا إلي عبادي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فيومئذ أكمل الله لي الشرف على الأولين والآخرين.
343- وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: أسري بي من المسجد الحرام. فمرة قال: كنت في الحجر، وروي مرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: كنت في بيت أم هانئ، فأسري بي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.(2/149)
344- وقوله تعالى: {الذي باركنا حوله} الآية، يعني: من الماء والشجر.
345- قال ابن عباس رضي الله عنه: تخرج المياه من صخرة بيت المقدس.(2/150)
346- وكان رسول الله سأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كان ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً قال: بينا أنا نائم في بيتي طاهراً أتاني جبريل وميكائيل عليهما السلام فقال: انطلق إلى ما سألت ربك، فانطلقا بي إلى ما بين المقام وزمزم.
347- وفي رواية: فألصقاني على قفاي، ثم شقا بطني، ومعهما طست من ذهب -فيه تغسل بطون الأنبياء قبلي- فكان جبريل يختلف بالماء من زمزم في الطست، وكان ميكائيل يغسل جوفي،(2/151)
فقال جبريل لميكائيل: شق قلبه، فشق قلبي، فأخرج علقة سوداء فألقاها، ثم ذر عليه من ذرور كان معه، ثم قال لبطني هكذا، فالتأم، وقد ملئ حكمة وإيماناً.(2/152)
348- وفي رواية: قال: -يعني جبريل-: يا محمد قم، فقمت، فأخذ بيدي، فأخرجني من باب المسجد، فإذا أنا بدابة بين الصفا والمروة، وجهها كوجه الإنسان، وآذانها كآذان الفيلة، وعرفها كعرف الفرس، وقوائمها كقوائم البعير، وذنبها كذنب البقر، فوق الحمار ودون البغل، ورأسها من ياقوت أحمر، وصدرها درة بيضاء، وهي البراق التي كان يركبها الأنبياء عليهم السلام قبلي، رحل عليها من رحال الجنة، فقال لي: يا محمد اركب، فوضعت يدي عليه فاستصعب علي إذ لم يكن له عهد بالركوب في فترة أربع مائة سنة، فقال له جبريل عليه السلام: مهلاً يا براق!(2/153)
أما تستحي؟ والله ما ركبك أحد منذ كنت أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم ، قال: فارتعش البراق حتى لصق بالأرض، فركبته حتى انتهى بي إلى بيت المقدس، ودخلت من باب المسجد، فإذا أنا بكل نبي بعثه الله سبحانه قبل عيسى، فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر.
قال: وكانت الملائكة تحييني زمرة زمرة، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء إخوانك، قلت: ما تحيتهم لي؟ قال: لأنك أول من تنشق عنه الأرض وعن أمتك قبل سائر الأمم، وأنت الآخر -أي: آخر الأنبياء- وبك يحشر الحشر وبأمتك، وأول من يدخل الجنة أنت وأمتك.(2/154)
349- وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: رأيت ثلاثة نفر أقبلوا نحوي، فقال الأول: هو .. هو؟ قال الأوسط: نعم، قال الثالث: خذوا سيد القوم - وكانوا أشراف الملائكة .. .. الحديث.
350- وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: لما كنت في مسيري انتهيت إلى ربوة فلسطين، فإذا أنا بامرأة كأن وجهها في كل زينة من الثياب عليها عقد من لؤلؤ، قد نظم من صدرها إلى ما يلي تراقيها، واقفة وسط الطريق، قالت: يا محمد، يا محمد على رسلك أسألك، فنظرت إليها ولم أقف، فقال جبريل: أتدري من هذه؟ قلت: لا، قال: هذه الدنيا تزينت لك، فلو وقفت عليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
قال: فلما مضيت ساعة إذا مناد ينادي عن يميني: يا محمد(2/155)
يا محمد، فلم أقف له، فقال جبريل عليه السلام: أتدري من هذا؟ قلت: لا، قال: هذا داعي اليهود، فلو وقفت عليه لاختارت أمتك اليهودية.
قال: ثم مضيت فإذا مناد ينادي عن يساري: يا محمد يا محمد، فلم ألتفت إليه، فقال جبريل: أتدري من هذا؟ قلت: لا، قال: هذا داعي النصارى، فلو وقفت عليه لتنصرت أمتك.
ثم انطلق بي إلى آدم عليه السلام، فإذا هو كهيئته يوم خلقه الله، قد وكل بأرواح بني آدم تعرض عليه، وعن يمينه باب تخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب تخرج روح خبيثة، فإذا نظر إلى الباب عن يمينه ضحك واستبشر وقال: روح طيبة خرجت من جسد طيب، اجعلوا كتابه في عليين.
قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا رأى من يدخله من ذريته ضحك، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا رأى من يدخله من ذريته بكى.(2/156)
قال: ثم أتيت فرأيت خلقاً كثيراً رجالاً ونساءاً، لكل واحد منهم مشفران كمشفري البعير، وموكل بهم الرجال يجاء بصخر من نار فيقذف في أفواههم حتى يخرج من أسفلهم، ولهم خوار، قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً.
قال: ثم أتيت على قوم بين أيديهم لحم مشرح لم ير الناس لحماً أطيب منه، وبين أيديهم جيف لم ير الناس جيفاً أنتن ريحاً منه وهم يأكلون منها، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزناة يقوم أحدهم من عند امرأته الحلال، فيأتي المرأة الخبيثة، وكذلك المرأة، تقوم من عند الزوج.
351- وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم : فلما انتهيت إلى المسجد نزل علي(2/157)
ملكان بأربعة أقداح لبن وعسل وخمر وماء، قال: فأخذت اللبن فشربته -وكنت رجلاً أحب اللبن- فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، رشد فرشدت أمته، ولو شرب الخمر لغوى فغوت أمته، ولو شرب العسل لسفه وسفهت أمته، ولو شرب الماء لغرقت أمته، وحرم الخمر.
قال: وأنا مع جبريل، لا يفوتني ولا أفوته، فثقب جبريل عليه السلام بإصبعه الإسطوانة، ثم ذكر أسماء الملائكة الذين كانوا على المعراج.
352- وفي بعض الروايات: وإذا أنا برجال فيها -يعني: النار- يعذبون، حتى إذا احترقوا رضخت رؤوسهم بالصخر، ثم أعيدوا فيها، وإذا فيها ناس يعذبون، حتى إذا احترقوا نكسوا على رؤوسهم، فقلت: سبحان الله، من هؤلاء يا جبريل؟
قال: أما الذين أخرجوا فرضخت رؤوسهم بالصخر فإنهم أهل الكتاب غيروا وبدلوا، وأما الذين نكسوا على رؤوسهم فهم المراءون.(2/158)
353- وفي رواية: ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير، نساء معلقات بأيديهن وأرجلهن، منكسات، ولهن خوار وصراخ، قلت: يا جبريل من هؤلاء؟
قال: هؤلاء اللواتي يزنين ويقتلن أولادهن، ويجعلن لأزواجهن ذرية من غير أصلابهم.
قال: ثم صعد بي إلى جبل حتى شق علي، فلما أفضيت إلى أعلاه رأيت أرضاً واسعة، وإذا نساء مستلقيات على أقفيتهن، وإذا حيات كأعناق البخت تشق ثديهن، قلت: من هؤلاء؟ قال: اللواتي يرغبن بألبانهن أولادهن التماس السمن.
354- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشتد غضب الله على من أدخل على قوم من ليس منهم، فأكلوا طعامهم، واطلعوا على عوراتهم.
355- وروي في بعض الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: فأتيت على قوم(2/159)
يزرعون ويحصدون في اليوم، كلما حصدوا عاد كما كان، قلت: يا جبريل من هؤلاء؟
قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة سبع مائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه.
قال: وأتيت قوماً ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة.
قال: ثم أتيت على قوم، على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع والزقوم، قلت: من هؤلاء؟ قال: الذي لا يؤدون الصدقات.
قال: ثم أتيت على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يريد أن يزيد عليها، قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا الرجل من أمتك عنده أمانة لا يستطيع أداءها، ويريد أن يزيد عليها.
قال: ثم أتيت على قوم تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، كلما قرضت ردت لا يفتر عنهم، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة.
قال: ثم أتيت على حجر صغير خرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يدخل من حيث خرج ولا يستطيع، قلت: من هذا؟ قال جبريل عليه السلام: هو الرجل يتكلم بالكلمة فيندم عليها يريد أن يردها فلا يستطيع.(2/160)
356- وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم إذ جاءني ملك فقال: قم، فقمت، قال: امض أمامك، فإذا أنا برجلين: رجل نائم، ورجل قائم يجيء بحجر فيضرب رأس النائم فيشدخ رأسه فيعود رأسه كما كان، ويجيء آخر فيضرب رأسه فيشدخه.
ثم قال لي: امض أمامك، فمضيت، فإذا أنا برجلين: رجل جالس، والآخر قائم في يده كلاليب من حديد فيلقي في شدقه كلوباً فيمده حتى يبلغ كاهله فينزعه، ثم يفعل بالجانب الآخر كذلك، فقلت: سبحان الله.
فقال لي: امض أمامك، فرأيت مثل التنور، وإذا فيه لغط وأصوات، فانطلقنا، فإذا رجال ونساء عراة، وإذا بنار تأتيهم من أسفلهم.
قال: ومضيت فإذا أنا بنهر من دم، وإذا فيه رجل يصيح في النهر، وإذا على شاطئ النهر رجل قد جمع الحجارة، وأحماها حتى تركها مثل الجمر، فكلما دنا منه ألقمه، وأذاقه من تلك الحجارة، فقلت: سبحان الله.
ثم قال لي: امض، فمضيت ساعة، فإذا أنا بروضة ملئت أطفالاً، وإذا وسطهم شيخ ما يكاد يرى رأسه طولاً، فقلت: سبحان الله ما هذا؟ قال: امض أمامك.
قال: فمضيت فإذا أنا بشجرة لو اجتمع الخلق كلهم لأظلتهم، وفي الشجرة رجلان: واحد يجمع الحطب، والآخر يوقد النار، قلت: ما هذا؟ قال: انطلق.
قال: فانطلقنا، فأتينا على روضة معتمة فيها من كل نور، وإذا بين(2/161)
ظهراني الروضة رجل طويل قائم لا يكاد يرى رأسه من طوله، وإذا حول الرجل من أكبر الولدان ما رأيت قط أحسن منهم، فقلت: ما هذا؟ قال: انطلق.
فانطلقنا، فانتهيت إلى درجة عظيمة لم أر درجة أعظم منها قط، فارتفعت منها ساعة، فإذا عليها مدينة مبنية بلبن من ذهب، ولبن من فضة، فأتينا باب المدينة واستفتحنا، ففتح لنا، فتلقانا رجال كأحسن ما رأيت، وآخرون كأقبح ما رأيت، فقال لهم: اذهبوا، فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فإذا هم قد ذهب ذلك التشوه عنهم، فصاروا في أحسن صورة، فقلت: سبحان الله ما هذا؟ قال: امض.
فمضيت ساعة، وإذا أنا بمدينة أخرى أضوأ منها وأوسع، وفي وسط المدينة نهر ماء أشد بياضاً من اللبن، وفيه رجال يشتدون إلى هذه المدينة وأهلها، فيضعونهم في ذلك النهر، فيخرجون بيضاً نقية، قلت: سبحان الله.
قال: هل تدري أين مآبك؟ قلت: مآبي عند الله، قال: صدقت، انظر إلى السماء، فنظرت فإذا أنا براية، قلت: ما لك، بارك الله فيكما ذراني أدخل؟! قالوا: أما الآن فلا، وأنت داخله.
قال: فأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر من شدقه إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق.
وأما الرجال والنساء العراة في مثل التنور، فهم الزناة والزواني.(2/162)
وأما الرجل الذي يصيح في النهر ويلقم الحجارة، فهو آكل الربا.
وأما الرجل الذي عند النار، فهو خازن جهنم.
وأما الطويل الذي في الروضة، فإبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.
وأما الولدان حوله، فكل مولود يولد على الفطرة.
وأما المدينة، فهي الدنيا، فيها أناس خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فتابوا فتاب الله عليهم.
وأما الرجلان تحت الشجرة، فهما ملكان يحميان لأعداء الله إلى يوم القيامة.
وأما نهر الدم، فصاحب الربا.
وأما الذي يشدخ رأسه بالحجارة، فالرجل يتعلم القرآن ثم ينام عنه لا يقرأ منه شيئاً، كلما رقد في القبر أوقظوه.
قال أبو سعد: معناه: ينام عن الصلاة المكتوبة.
357- وفي بعض الروايات: وإذا أنا بدار من فضة، بفنائها رجل جالس فقال: مرحباً برجل وعدنا الله أن نراه فلم نره إلا الليلة، فقلت: بربك من أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود، قلت: لمن هذه الدار؟ قال: لداود النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلتها، فإذا هي في السعة ثلاثة عشر فرسخاً في ثلاثة عشر فرسخ عرضها وطولها، وإذا ببيت من زبرجد وياقوت ولؤلؤ، قال: فلما رأى جبريل عليه السلام عجبي بها، قال: يا نبي الرحمة أليس حسبك أن يعطيك ربك مثل هذه الدار؟ قال: قلت: بلى، إني إلى ربي لمن الراغبين.(2/163)
قال: فمشينا حتى أتيناها، فإذا بفنائها رجل جالس فقال: مرحباً بنبي وعدنا الله أن نراه فلم نره إلا الليلة، قال: فقلت: بربك من أنت؟ قال: أنا داود، قلت: لمن هذه الدار؟ قال: لخليل الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، قال: فدخلناها، فإذا أصوات صبيان، قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذراري المؤمنين، يكفلهم إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليه.(2/164)
[68] فصلٌ: في وصفه صلى الله عليه وسلم النار
358- وقال صلى الله عليه وسلم : وسمعت صوتاً هائلاً، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت النار تقول: رب ائتني بأهلي، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي، وسعيري وحميمي، وغساقي، وزقومي، وبعد قعري، واشتد حري، فائتني بما وعدتني، فقيل: لك كل مسود ومسودة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب.
359- قال أبو هريرة: ((أوقدت النار ألف سنة فابيضت، ثم أوقدت ألف سنة فاحمرت، ثم أوقدت ألف سنة فاسودت، فهي سوداء مظلمة)).(2/165)
360- وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها، وكل شيء فيها أسود.
361- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا ويح أهل النار، أخبرني جبريل أن الله تعالى خلق النار من ظلمة، أعلاها من نحاس،(2/166)
ثم جعلها طبقات سبعاً، ثم ناداها: اسجري، فسجرت ألف عام، حتى توقد الهواء، فطلب إلى ربه أن يعفيه، فطرحها إلى أسفل سافلين، ثم جعل فوقها البحار والأرضين، ثم قال: تغيظي، فقال: يا رب على من؟ قال: على من كفر وجحد أوليائي، فنادته: بعزتك لأطحنهم طحناً، ثم زفرت، فارتفع لها حر في الهواء -أو قال: في السماء- فخلق الله تعالى منها النجوم، فجعلها رجوماً للشياطين.
قال: فكل ما كان في الشتاء فهو زمهرير، وكل ما كان في الصيف فهو سموم، فمن مرض في الشتاء فهو منها ويكون تمحيصاً لذنوب المؤمنين، ومن مرض في الصيف يكون منها، ويكون تطهيراً لذنوب المؤمنين.
362- وروي: أن النار اشتكت إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فشدة الحر من نفسها.
363- وروي: أن أهل النار إذا نادوا: {يا مالك ليقض علينا ربك} يخلى عنهم أربعين عاماً ثم يجيبهم: {إنكم ماكثون}، قالوا: {ربنا أخرجنا منها(2/167)
فإن عدنا فإنا ظالمون}، قال: فيخلى عنهم مثل مدة الدنيا ثم يجيبهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون}، قال: فوالله ما نبس القوم بعد ذلك بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق.(2/168)
[69] فصلٌ: فيما ورد في وصف المعراج
364- قال صلى الله عليه وسلم : ثم جئت إلى بيت المقدس، فصليت بالملائكة والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ثم أخذ جبريل بيدي حتى انطلق بي إلى المعراج، أصله في قبة بيت المقدس، ورأسه ملتزق بالسماء، أحد عموديه ياقوتة حمراء، والآخر من زمردة خضراء، مفاتيحه ذهب وفضة مكلل بالدر والياقوت، لم ينظر الناظرون إلى شيء أحسن منه، فاحتملني على جناحه، ثم انطلق بي إلى السماء.
365- قيل: إن المعراج أنزل من جنة الفردوس منضوداً باللؤلؤ، وما من مؤمن إلا ويحمل إليه عند موته المعراج، أما ترون كيف يتبع بصره روحه، والمعراج أحسن شيء خلقه الله وهو من ياقوت أحمر وأصفر وذهب ولؤلؤ وفضة وزمرد، عن يمينه أربعمائة ملك، وعن يساره(2/169)
أربعمائة ملك، ومن أمامه ألف ملك، ومن خلفه ألف ملك، لكل ملك جناحان أخضران، ويعرج ملك متوج من نور، معه خمس مائة ملك، وجوههم كالقمر، يقولون: مرحباً مرحباً يا محمد، ثم إن جبريل عليه السلام نادى ميكائيل، ونادى ميكائيل ميخائيل، ونادى ميخائيل سمحائيل، ونادى سمحائيل كلكائيل، وكلكائيل نادى عصدياليل خليفة زوفيائيل.
وقالوا: قد جاء الخير، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أقبل، وقد أرسل إليه، فجاء بالمعراج، فما من درجة إلا وعليها زمرة من الملائكة، لهم زجل وتسبيح.
حتى بلغت الخامسة عشر فإذا عليها إسماعيل، معه سبعون ألف ملك، وهو ملك السماء الدنيا، وعلى السادسة عشر ربيائيل معه ألف ألف ملك من الملائكة.
حتى بلغت الرابعة والعشرين فإذا فيها رفلاليل -الملك المتوج- يده اليمنى تحت السماء الدنيا، والآخرة فوق السماء الدنيا، بين كل إصبعين من أصابعه سبعون ألف ملك متوجون، أجنحتهم من لؤلؤ.
وفي الدرجة الخامسة والعشرين ملك يقال له: إسماعياليل، معه سيف ألف ملك يقع من أفواههم الدر والياقوت إذا سبحوا، ويتناثر اللؤلؤ من أفواههم عند تسبيحهم، طول اللؤلؤ الواحد: ثمانون ميلاً في ثمانين ميلاً، وملائكة موكلين بها يلتقطونها فيلقونها إلى شاطئ نهر الشرقي.(2/170)
[70] فصلٌ: في أسماء السماوات السبع ومن فيهن من الأنبياء
366- عن وهب بن منبه: عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: اسم سماء الدنيا: رقيع، وقال لها الرب: كوني زمردة(2/171)
خضراء، فكانت، وكان تسبيح أهلها: سبحان ذي الملك والملكوت، فمن قالها كان له مثل ثوابهم.(2/172)
367- وفي حديث نصر بن محمد المقريء: وبين السماء والأرض بحر يسمى القاصبة، فيه من كل شيء في بحر الدنيا، حتى هذه الضفادع التي تقع في المطر من ذلك البحر.
368- روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاستفتح جبريل الباب، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قال: أو قد بعث محمد؟(2/173)
قال: نعم، قال: ففتح لنا باب سماء الدنيا، فإذا ملك يقال له: إسماعيل، وبين يديه سبعون ألف ملك موكلون بباب السماء، قال: فصلوا على محمد، قال: فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته، لم يتغير منه شيء .. .. وذكر الحديث، قال صلى الله عليه وسلم : فلم يلقني ملك إلا ضاحكاً مستبشراً يقول خيراً، ويدعو لي بخير.
قال: ثم عرج بي إلى السماء الثانية، يقال: هي من نحاس، ليست بصنف نحاس الدنيا، واسمها بيتاً.
369- عن وهب بن منبه، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: اسم السماء الثانية: أرقلون، وقال لها الله عز وجل: كوني فضة بيضاء؛ فكانت، واسم خازنها: رقياليل، وتسبيح أهلها: سبحان ذي العزة والجبروت؛ من قالها كان له مثل ثوابهم.
فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل له: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء.
370- وفي حديث آخر: فإذا أنا برجل ومعه نفر من قومه، وقد فضل عليهم بالحسن كما فضل القمر على الكواكب ليلة البدر، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا يوسف الصديق وأتباعه من أمته، فصلوا على محمد واستغفروا له.
371- وعن وهب بن منبه، عن أبي عثمان، عن سلمان قال:(2/174)
اسم السماء الثالثة: قيدون، وقال لها الرب عز وجل: كوني ياقوتة حمراء؛ فكانت، واسم خازنها: كوكياليل، وتسبيح أهلها: سبحان الحي الذي لا يموت، من قالها كان له مثل ثوابهم.
372- وفي رواية قال: فاستفتح جبريل فقيل له: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ .. .. مثل ما قال في الخبر الأول.
373- وقيل: إن يوسف عليه السلام في السماء الثالثة، وعيسى ويحيى عليهما السلام في السماء الثانية، قال صلى الله عليه وسلم : لما بلغت السماء الثالثة إذا أنا برجلين جالسين على منبرين من ياقوت، أحدهما قريب الشبه من صاحبه، وهما ضرب واحد، ومعهما من اتبعهما من قومهما، فقلت: يا جبريل من هذان؟ قال: هذان ابنا الخالة: عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكرياء.(2/175)
374- وقيل: شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم عيسى ابن مريم بعروة بن مسعود الثقفي.
375- وفي حديث آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مررت بعيسى ابن مريم وهو شاب طويل، مرجل تعلوه حمرة، قال صلى الله عليه وسلم : ثم عرج بي إلى السماء الرابعة.
376- وعن وهب بن منبه، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: اسم السماء الرابعة: الماعون، قال لها الرب عز وجل: كوني درة بيضاء؛ فكانت، واسم خازنها مومزياليل، وتسبيح أهلها: سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح، من قالها كان له مثل ثوابهم.
377- وفي رواية قال: فاستفتح جبريل عليه السلام الباب، فقيل: من هذا معك؟ قال: هذا رسول الله، قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ، ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء، فإذا أنا برجل، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أخوك إدريس رفعه الله مكاناً علياً.
378- روى أبو سعيد الخدري قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بإدريس في السماء الرابعة قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، الذي وعدنا(2/176)
أن نراه فلم نره إلا الليلة، قال: وإذا فيها مريم بنت عمران لها سبعون قصراً من لؤلؤ، ولأم موسى بن عمران النبي سبعون قصراً من زمرد خضراء، ولآسية بنت مزاحم سبعون قصراً من ياقوت، ولفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم تسعون قصراً من مرجانة حمراء مكللة باللؤلؤ، أبوابها وأسرتها من عرق واحد.
379- وفي رواية قال: فلما عرج بالمعراج إلى السماء الخامسة وهي من ياقوت أخضر واسمها سفحى.
380- وقال وهب بن منبه: اسم السماء الخامسة: ريعا.
قال لها الرب عز وجل: كوني ذهبة حمراء؛ فكانت، واسم خازنها من الملائكة سقطياليل، وتسبيح أهلها: سبحان من جمع بين الثلج والنار، من قالها مرة كان له مثل أجورهم.
قال صلى الله عليه وسلم : فاستفتح جبريل الباب ففتح له، وقيل ما تقدم، قال: وإذا هو بكهل لم ير كهلاً قط أجمل منه، عظيم العينين، تضرب لحيته قريباً من سرته، تكاد أن تكون شمطة، وسواده نصفين، وحوله قوم جلوس يقص عليهم.
381- روى أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهو أكثر من مررت به تبعاً من قومه، قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هارون بن عمران المحبب في قومه -وفي حديث يونس بن بكير: وهؤلاء بنو إسرائيل حوله(2/177)
يقص عليهم-، قال: فسلمنا عليه فقال: مرحباً بالأخ الصالح، والنبي الصالح الذي وعدنا أن نراه فلم نره إلا الليلة، قال: فصلوا على محمد واستغفروا له.
382- وفي حديث نصر قال: ثم انتهينا إلى السماء السادسة.
عن وهب بن منبه، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: اسم السماء السادسة دقيا، وقال لها الرب عز وجل: كوني ياقوتة صفراء فكانت، واسم خازنها: روحياليل، وتسبيح أهلها: سبحان القدوس رب كل شيء وخالق كل شيء، من قالها مرة كان له مثل ثوابهم.
383- وفي رواية: فاستفتح جبريل الباب، ففتح له، وقيل له مثل ما قد سبق ذكره، واستقبلتهما الملائكة بالترحيب والتسليم والبشر الحسن.
384- وفي حديث أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وسلم : إذا أنا برجل أدم، سبط الشعر، كأنه من رجال أزد شنوءة، كثير الشعر غليظه، لو لبس قميصاً -أو: قميصه- كاد شعره ينفذ من غلظه، ومعه تبع من قومه، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا موسى بن عمران .. .. وذكر الحديث.
385- عن وهب بن منبه، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: اسم السماء السابعة عريبا، وقال لها الرب عز وجل: كوني نوراً؛ فكانت نوراً على نور يتلألأ، وتسبيح أهلها: سبحان خالق النور، من قالها كان له مثل ثوابهم، قال وهب: يضاعف لهم ثواب أهل كل سماء على من تحتهم سبعة أضعاف.(2/178)
386- وفي رواية: قال: فاستفتح جبريل، قيل له: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: وقد بعث إليه، قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ، ونعم المجيء جاء، قال: فدخلت، فإذا نهران عظيمان خراران، قلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: سقيا أهل الدنيا.
387- وفي رواية أخرى: قال: ثم رأيت رفياليل خليفة رضوانياليل معه الحور العين، قال: فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام، فقال جبريل لرفياليل: استأذن لهن رضوان ينظر إليهن محمد، فنظرت إليهن، فكن ينادينني: يا محمد عليك السلام، نحن الناعمات فلا نبؤس، ونحن المقيمات فلا نظعن، ونحن الراضيات فلا نسخط، ونحن الخالدات فلا نموت، ونحن الكاسيات فلا نعرى، بلغ أمتك عنا السلام.
388- وفي حديث آخر: ثم انطلق بي إلى السماء السابعة، واسمها سعواء، فإذا هي من نور، واسم خازنها: نورياليل.(2/179)
[71] فصلٌ: في ذكر ما رآه صلى الله عليه وسلم من عجائب المخلوقات ليلة الإسراء
389- وعن الضحاك وعكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/180)
قال: لما أسري بي إلى السماء، رأيت العجائب من عباد الله ومن خلقه، ومن ذلك أني رأيت في السماء الدنيا ديكاً له زغب أخضر ورأس أبيض، وبياض رأسه كأشد بياضاً رأيته قط، وزغبه تحت رأسه كأشد خضرة رأيتها قط، وإذا رجلاه في تخوم الأرض السابعة السفلى، ورأسه عند عرش الرحمن، ثان غرته تحت العرش له جناحان في منكبيه، إذا نشرهما جاوزا المشرق والمغرب، فإذا كان بعض الليل نشر جناحيه وخفق بهما وصرخ بالتسبيح لله عز وجل، يقول: سبحان الملك القدوس، سبحان الكبير المتعال، لا إله إلا الله الحي القيوم، فإذا فعل ذلك سبحت ديكة الأرض كلها وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ، فإذا سكن ذلك الديك الذي في السماء سكنت الديكة في الأرض، وإذا كان في بعض الليل نشر جناحيه فجاوزا المشرق والمغرب، وخلق بهما وصرخ بالتسبيح لله يقول: سبحان الله العلي العظيم، سبحان الله العزيز القهار، سبحان رب العرش الرفيع، فإذا فعل ذلك سبحت ديكة الأرض بمثل قوله وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ، فإذا سكن ذلك الديك سكنت ديكة الأرض، ثم إذا هاج بنحو فعله في السماء هاجت الديكة في الأرض فجاوبته تسبيحاً لله بنحو قوله.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلم أزل منذ رأيت ذلك الديك مشتاقاً إليه أن أراه ثانية.
قال صلى الله عليه وسلم : ثم مررت بخلق عجيب، إذا ملك من الملائكة نصف جسده مما يلي رأسه نار، والنصف الآخر ثلج، وما بينهما رتق، فلا(2/181)
النار تذيب الثلج، ولا الثلج يطفئ النار، وهو قائم ينادي: سبحان ربي الذي كف بردة هذا الثلج فلا يطفئ حر هذه النار، سبحان ربي الذي كف حر هذه النار فلا تذيب هذا الثلج، اللهم مؤلفاً بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا ملك من الملائكة، وكله الله بأكناف السماوات وأطراف الأرضين، وهو من أنصح الملائكة لأهل الأرض من المؤمنين، يدعوا لهم بما تسمع، وهذا قوله منذ خلق.
قال صلى الله عليه وسلم : ثم مررت بملك آخر جالس على كرسي له، وإذا جميع الدنيا وما فيها بين ركبتيه، بيده لوح من نور مكتوب، ينظر فيه ولا يلتفت عنه يميناً وشمالاً، مقبل عليه، عليه هيئة الحزين، قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا ملك الموت، يقبض الأرواح، وهو من أشد الملائكة عملاً، قلت: يا جبريل فكل من مات من ذوي الأرواح فهو يقبض روحه؟! قال: نعم، ويراهم أينما كانوا، ويشهدهم بنفسه.
قلت: كفى بالموت طامة، قال جبريل عليه السلام: ما بعد الموت أطم وأعظم، قلت: وما ذاك يا جبريل؟ قال: منكر ونكير، يأتيان كل إنسان من البشر حين يوضع في القبر ويترك وحيداً.
قلت: يا جبريل أرينيهما، قال: لا تفعل يا محمد، فإني أرهب أن تفزع منهما أو تهال أشد الهول، فلم يرهما أحد من ولد آدم إلا بعد الموت، ولا يراهما أحد من البشر إلا مات فزعاً منهما، وهما أعظم شأناً مما تظن، قلت: يا جبريل صفهما لي، قال: نعم، من غير أن أذكر طولهما فإن ذلك منهما أفظع، غير أن أصواتهما كالرعد القاصف، وأنيابهما كصياصي البقر، يكسحان الأرض بأشفارهما،(2/182)
ويحفران الأرض بأظفارهما، مع كل واحد منهما عمود لو اجتمع جميع من في الأرض لما حركوه، فيأتيان الإنسان في قبره فيسلكان روحه في جسده بإذن الله تبارك وتعالى، ويقعدانه في قبره، وينتهرانه انتهارة يتقعقع منها عظامه، وتزول أعضاؤه من مفاصله، فيخر مغشياً عليه.
قلت: يا جبريل شوقتني إلى الموت، فأرني ملك الموت أكلمه، فأدناني منه فسلمت عليه فقال له جبريل: هذا محمد نبي الرحمة الذي أرسله الله إلى العرب رسولاً نبياً، فرحب بي، وحباني، وأنعم بشاشتي، وأحسن بشارتي ثم قال: أبشر يا محمد فإني أرى الخير كله في أمتك، فقلت: الحمد لله المنان بالنعم، قلت له: فما هذا اللوح في يديك مكتوباً؟ قال: فيه آجال الخلائق.
قلت له: ألا تخبرني عمن قبضت روحه في الدهور الخالية، قال: تلك الآجال في ألواح أخر قد علمت عليها، وكذلك أصنع بكل ذي روح إذا قبضت روحه علمت عليها، قال قلت: كيف تقدر على قبض أرواح جميع من في الأرض، أهل بلادها وبحورها، وما بين مشارقها ومغاربها؟ قال: ألا ترى أن الدنيا كلها بين ركبتي، وجميع الخلق بين عيني، ويداي تبلغان المشرق والمغرب؟ فإذا نفد أجل عبد من عباد الله عرفوا أنه مقبوض، وعدا عليه أصحابي يعالجون نزع روحه، فإذا بلغوا بروحه الحلقوم علمت ذلك ولم يخف علي شيء من أمره، ومددت إليه فانتزعت روحه من جسده وإلي قبضه، وقبض ذوي الأرواح من عباد الله، قال: فأبكاني حديثه.
قال: ثم استقبلني ملك من الملائكة لم يضحك في وجهي، فقلت:(2/183)
يا جبريل ما له لم يضحك في وجهي؟ قال: أما إنه لم يضحك في وجه أحد قبلك، ولا يضحك في وجه أحد بعدك، ولو ضحك في وجه أحد لضحك في وجهك، هذا مالك صاحب النار، لم يضحك ولم يبتسم، ولم يزل كالحاً عابساً مغضباً، وإنما شدة غضبه لأهل النار لغضب الرحمن عليهم.
قلت: يا جبريل ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال: بلى، ثم قال جبريل: يا مالك، أر محمداً النار، فكشف لي غطاءها، فإذا هي سوداء مظلمة لا يضيء لهبها، ولها زفير وشهيق، تكاد تميز من الغيظ ما رأيت أغلظ منها ولا أنتن، وإذا فيها من العذاب والخزي والهوان لأهلها ما لا تقوم له الحجارة والحديد فارتفعت حتى ظننت أنها ستأخذني، فقلت: يا جبريل مره فليردها، فقال جبريل: يا مالك ردها إلى مكانها التي خرجت منه.
قال: ثم جاوزناهم من سماء إلى سماء حتى بلغنا بقوة الله السماء السادسة، فإذا خلق كثير فوق وصف الواصفين، يموج بعضهم في(2/184)
بعض، وإذا كل ملك منهم ممتلئ ما بين رأسه إلى رجليه، وجوهاً وأجنحة ونوراً ليس منها وجه ولا رأس ولا عين ولا يد ولا رجل ولا فم ولا أذن ولا جناح ولا عضو إلا يسبح الله ويحمده، ويذكره من آلائه وثنائه بكلامٍ لا يذكره العضو الآخر، بنغمة الأصوات لا تشبه نغمته ولا صوته صوت الآخر، رافعين أصواتهم بالبكاء من خشية الله والتحميد له في عبادته، لو سمع أهل الأرض صوت ملك منهم لماتوا كلهم فزعاً من شدة هوله، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: سبحان الله العظيم شأنه، هؤلاء الكروبيون، لم يفتروا من عبادتهم لله وتسبيحهم له منذ خلقوا، ولم ينظروا إلى ما تحتهم من السماوات والأرضين خشوعاً في دينهم، وخوفاً من ربهم، فأقبلت عليهم بالتسليم، فجعلوا يردون إيماءً برؤوسهم لا يسلمون ولا ينظرون إلي من الخشوع، فلما رأى جبريل عليه السلام ذلك قال: هذا محمد نبي الرحمة الذي أرسله صلى الله عليه وسلم إلى العرب، وهو خاتم النبيين، وسيد البشر، أو لا تكلمونه؟ فلما سمعوا قول جبريل عليه السلام وذكر محمد صلى الله عليه وسلم بما ذكر أقبلوا علي بالتحية والتسليم، وأحسنوا بشارتي، وأكرموني وبشروني وأمروني بالخير، ثم أقبلوا على عبادتهم مثل ما كانوا، فأطلت المكث عندهم، والنظر إليهم لعظم خلقهم، وفضل عبادتهم.
قال: ثم جاوزناهم إلى السماء السابعة، فأبصرت فيها ملائكة وخلقاً من خلق ربي لم يؤذن لي أن أحدثكم ولا أن أصفهم لكم، لولا أن الله عز وجل أعطاني عند ذلك مثل قوة جميع الأرض وزادني من عنده ما هو أعلم به، ومن علي بالثبات وحد بصري لرؤية نورهم، ولولا ذلك ما استطعت النظر إليهم إلا بحول الله وقوته، قلت: سبحان الله(2/185)
العظيم الذي خلق في بريته مثل هؤلاء، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فأخبرني من هم، وقص علي من شأنهم العجب العجيب، ولم يؤذن لي أن أخبركم.
390- وفي رواية أخرى قال: ثم استقبلني صفوف من الملائكة عدد القطر والمطر وعدد الثرى والمدر وعدد الليل والنهار، صفوفاً لا يعرف بعضهم بعضاً من الخوف من الله، قلت: من هؤلاء: قال: هؤلاء ملائكة خلقوا للعبادة منذ خلقت السماوات والأرض، لم ينظر بعضهم إلى بعض، ولا يعرف بعضهم بعضاً من خشية الله قياماً يسبحونه ويقدسونه لا يفترون حتى ينفخ في الصور.
391- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافة الله، ما منهم ملك يقطر دمعة من عينه إلا وقع منها ملك قائم يصلي، وإن منهم ملائكة سجوداً، ومنهم ركوع منذ خلقهم الله، لم يرفعوا رؤوسهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
قال: ثم رأيت شملاليل الملك الكبير، في رأسه تاج من اللؤلؤ والياقوت، واللؤلؤة منها تضيق عنها الدنيا، والياقوتة منها تدخل فيها(2/186)
الدنيا، حتى بلغت درجة وقعت في الهول وأرعدت فرائصي، فقلت: يا جبريل ضمني إليك.
فاستقبلني هشماليل، ورأسه في ظل العرش وقدماه في سجين، وهي الصخرة التي فوقها الأرضون، تحتها -كليكان وهو قابض على السلسلة التي من ذهب، وهي في عنق السمكة التي الأرضون عليها، وهي سمكة حرشفها من ياقوت، وذيلها من زمرد أخضر، في عنقها طوق من زمرد أخضر مفضض بالدر والياقوت، وفي عنقها سلسلة، فهي بيد الملك، وهو قائم عند ساق العرش، معه عشرون ألف ألف ملك، متوجون باللؤلؤ، عليها ريش كريش النبل، قد نظم بالمرجان، تحت كل ريشة لسان يسبحون بألوان التسبيح.
قال: ثم بلغت، فرأيت ملائكةً تسبيحهم: سبحان ربي الأعلى، ورأسهم صاحب هاروت وماروت، وقومه مكللون بالنور، فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا محمد بن عبد الله، قال: أو قد بعث إليه؟ قال: نعم، فاستأذن بالسلام علي فسلم علي.
قال: ثم رأيت الريح لها سبعة أرؤس، لكل رأس ثمانون لساناً موكل بكل لسان أربعون ألف ملك متوجون، عليهم صحائف النور، فسلموا علي ورحبوا بي.
392- وقيل: لما بلغ المعراج خمساً وخمسين درجة إذا هم بالملائكة سجوداً في الهواء منذ خلق الله السماوات والأرض، رؤوسهم تحت أجنحتهم لم ينظر أحدهم إلى شيء من جسده قط من الخوف من خشية الله تعالى ولا إلى صاحبه، يسبحون لا يفترون، ويبكون،(2/187)
لا يدركون أين تذهب دموعهم، وهم أشد الملائكة عبادة، يدعون الأولين، فهم كذلك حتى يميتهم الله ثم يحييهم.
قال: ثم انتهى بي إلى باب من أبواب السماء يقال له: الحفظة، وعليه ملك يقال له: إسماعيل، تحت يديه اثنا عشر ألف ملك، تحت كل ملك اثنا عشر ألف ملك، قال: فاستفتح جبريل الباب فقال له إسماعيل: من معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم .
قال: ثم بلغت، فأقبل رضوانياليل خازن الجنة مع ملائكة الحجب ألف ألف ملك، وجوههم كالقمر ليلة البدر، خضر الثياب، المسك يفوح منهم، متوجون بتيجان النور، مناطقهم صفائح الزمرد، على كل ملك تاج ستون ذراعاً مكلل باللؤلؤ فيضيء لؤلؤة واحدة منها مسيرة خمسمائة عام، فقلت: ما أحسن هؤلاء الملائكة، فقال جبريل عليه السلام: والذي بعثك بالحق إن أمتك إذا اتقوا وسلموا من الدنيا وكانوا في الجنة كانوا أحسن منهم، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً شديداً، حتى رؤي الفرح في وجهه، فقال: يا جبريل بشرتني فطابت نفسي، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد أبشر، فإن الله سيعطيك من الكرامة حتى ترضى.
قال: ثم عرج بي حتى رأيت ذهباً صامتاً عليه كواكب اللؤلؤ تحت كل لؤلؤة خمسون ملكاً، كل ينادي: مرحباً بك وأهلاً، ويقول: لا إله إلا الله، الكافي عبدة الأصنام، الموحد الرحيم، قال: يا جبريل(2/188)
من هؤلاء؟ قال: جبريل عليه السلام: هؤلاء عباد السماء.
قال: ثم استقبلني سمياليل الملك فقال: مرحباً بالعبد الصالح والنبي الصالح الذي أضاءت له الأرض والسماء، الكريم على الله، سيد السادة، اليوم تكرم وتعطى، اليوم سرورك، فقلت: يا جبريل من هذا؟ فقال: ملك يسمى رأس الهدى، معه مائة ألف ملك لم يرفعوا رؤوسهم منذ خلق الله السماوات والأرض إلى أن تقوم الساعة.
قال: ثم رأيت ملائكة عدد المطر، وجوههم كالليل، عليهم أردية كالنور شعاعهم بين السماء والأرض، فقال جبريل عليه السلام: ارفع رأسك وسلم عليهم، فرفعت رأسي فسلمت.
قال صلى الله عليه وسلم : ثم رأيت مقياليل الملك عن يمينه ألف ألف ملك، وعن يساره ألف ألف ملك، وخلفه ألف ألف ملك، قد لبسوا تيجاناً من نور، وهم يقرءون آية الكرسي، فقال جبريل: خلق هؤلاء الملائكة من قطرة من نور العرش.
قال: ثم شممت ريح الرحمة من سدرة المنتهى، ومعها ملائكة التوبة مكللون على نور العرش.
ثم أقبل خازن جنة النعيم صاعدياليل وخليفته رفياليل، مع كل واحد منهما ألف ألف من الملائكة رافعين أجنحتهم، ورؤوسهم، يشيرون إلي بالأصابع، يقولون: لقد أكرم الله هذا الآدمي، مرحباً بك يا جبريل وبمن معك.
قال: ثم رأيت ملكاً يقال له عمصياليل، رأس ملائكة السماء السابعة، ومعه اثنان وثلاثون ألف ملك، على كل ملك تاج، تسعون(2/189)
ذراعاً من ذراع جبريل عليه السلام، في كل تاج أربعمائة لؤلؤة، اللؤلؤة الواحدة تسع فيها الدنيا.
393- وقيل: لما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى باب السماء الدنيا وفتح له اجتاز بملك من الملائكة متكئاً، فسلم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه ولم يقم له، فأوحى الله إليه: أيها الملك سلم عليك حبيبي ونبيي فأحببت وأنت متكئ، فوعزتي وجلالي لتقومن ولتسلمن عليه ثم لا تقعدن إلى يوم القيامة.(2/190)
[72] فصلٌ: في ما ورد في وصف جبريل عليه السلام
394- وعن ابن عباس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان جبريل عليه السلام يأتيني كما يأتي الرجل صاحبه، في ثياب بيض مكفوفة باللؤلؤ والياقوت، رأسه كالحبك، وشعره كالمرجان، ولونه كالثلج، أجلى الجبهة، براق الثنايا، عليه وشاحان من در منظوم، وجناحاه أخضران، ورجلاه مغموستان في الخضرة، وصورته التي صور عليها تملأ ما بين الأفقين.(2/191)
395- وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أشتهي أن أراك في صورتك يا روح الله، فتحول له فيها.
396- وفي حديث آخر: أن جبريل عليه السلام أذن -وكان مكتوباً على جبين جبريل عليه السلام سطران يلمعان: لا إله إلا الله محمد رسول الله- ثم أقام ميكائيل في السماء الرابعة، ثم قام ملك فعانقني، فقلت: يا جبريل ما أكثر عجائب ربي، قال: ما رأيت إلا في ساعة من الليل.
397- وفي بعض الأخبار: أنه صلى الله عليه وسلم صعد وأتى من مكة إلى الضراح الذي في السماء السابعة قبال الكعبة، حرمته في السماء كحرمة مكة في الأرض.(2/192)
398- وروي: أن جبريل يغتسل في نهر في الجنة، كل غداة فينتفض، فتقطر منه سبعون ألف قطرة، فيخلق الله من كل قطرة ملكاً فيغمرون ذلك الضراح فيطوف كل يوم سبعون ألف ملك بالبيت المعمور، فلا تنتهي النوبة إليهم إلى يوم القيامة.(2/193)
[73] فصلٌ: فيما ورد في وصف البراق وسبب استصعابه
399- وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم : وأخذ جبريل عليه السلام بضبعي وأخرجني من الباب، وعلى الباب: ميكائيل، وإسرافيل، ومعهما البراق، وهي بيضاء مضطربة الأذنين، لها جناحان تحضر بهما، وخدها كخد الفرس، ووجهها كوجه الإنسان، وعرفها من اللؤلؤ، منسوجة بالمرجان، وعقبها من ياقوت أحمر مزبرج بالنور، وآذانها من زمرد أخضر، عيناها كالزهوة، وأظلافها كأظلاف البقر من زمرد أخضر مرصع بالياقوت والمرجان، بطنها كالفضة وصدرها كالذهب، يداها تقعان إلى أدنى الوادي إذا بسطتها، لونها كالبرق يلوح بين السماء، خطوها منتهى بصرها، زمامها زمام من لؤلؤ مكلل بالجوهر الأخضر، مزمومة بسلسلة من ذهب، عليها راحلة الديباج.
قال: فاستصعبت على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لها جبريل عليه السلام: أما تستحين؟ أتصعبين على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما ركبك عبد قط أكرم على الله منه، فاستحيت، وفاضت عرقاً.
ووضع جبريل عليه السلام يده على عرفها فسمعت خشخشة اللؤلؤ حين مسح عرفها، قال: فكان الذي يمسك بركابها جبريل، والذي يمسك(2/194)
بزمامها ميكائيل، والذي يسوي عليه ثيابه إسرافيل.
400- وروي: أن البراق قال لجبريل عليه السلام: إن محمداً قد مس الصفراء، فلهذا استصعبت، فقال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مسست الصفراء؟ فقال صلى الله عليه وسلم : مررت يوماً بالصفا، فرأيت الصفراء، فمسست رأسه وقلت: من يعبد هذا الشقي؟(2/195)
[74] فصلٌ: فيما رآه صلى الله عليه وسلم في نومه وحياً من الله عز وجل
401- عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد فقال: لقد رأيت البارحة عجباً، رأيت رجلاً من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرده عنه.(2/196)
ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم.
ورأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً، كلما أتى حوضاً منع منه، فجاءه صيامه في رمضان فسقاه.
ورأيت رجلاً من أمتي ومعي النبيون حلقاً حلقاً، كلما دنا إلى حلقة منع منها، فجاء اغتساله من الجنابة فأقعده إلى جنبي.
ورأيت رجلاً من أمتي عن يمينه ظلمة، وعن شماله ظلمة، ومن بين يديه ظلمة، ومن فوقه ظلمة، ومن تحته ظلمة، وهو متحير في الظلمات، فجاءه حجه وعمرته فأخرجاه من الظلمة وأدخلاه النور.
ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه، فجاءت صلته للرحم فقالت: كلموه، فكلمه المؤمنون وصافحوه، فصار معهم.
ورأيت رجلاً من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان، فجاء أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من أيديهم.(2/197)
ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه، بينه وبين الله حجاب، فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله.
ورأيت رجلاً من أمتي قد وضعت صحيفته على شماله، فجاءه خوفه من الله فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه.
ورأيت رجلاً من أمتي هوى في النار، فجاءت دموعه من خوف الله وبكاؤه من خشية الله تعالى فاستخرجاه منها.
ورأيت رجلاً من أمتي على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في يوم ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعدته، ومضى على الصراط.
ورأيت رجلاً من أمتي على الصراط يزحف أحياناً، ويجثو أحياناً، ويتعلق أحياناً، فجاءته صلاته علي فأخذت بيده، فأقامته على قدميه، ومضى على الصراط.
ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى باب الجنة، فأقفلت الأبواب كلها دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ففتحت له الأبواب، فدخل الجنة.(2/198)
[75] باب ما جاء في فضل مكة
قال الله تعالى:
{وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} الآية.
وقال تعالى:
{وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} الآية.
وقال تعالى:
{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}.
وقال تعالى:
{قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلةً ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام}.
وقال تعالى:
{إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكرٌ عليمٌ}.(2/199)
وقال تعالى:
{فإذا أفضتم من عرفاتٍ فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين}.
وقال تعالى:
{فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً} الآية.
وقال تعالى:
{إن أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين. فيه آياتٌ بيناتٌ} الآية.
وقال تعالى:
{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر} الآية.
وقال تعالى:
{جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس} الآية.
وقال تعالى:
{وضرب الله مثلاً قريةً كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكانٍ} الآية.
وقال تعالى:
{وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً} الآية.
وقال تعالى:
{أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيءٍ رزقاً من لدنا} الآية.(2/200)
402- حدثنا أبو الفضل: جعفر بن الفضل بن الوزير بمكة حرسها الله، أنا إبراهيم بن محمد بمدينة السلام، ثنا أبو كريب: محمد بن العلاء، ثنا أبو مصعب، .. ..(2/201)
عن مالك، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها.
403- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حين أخرجوه من مكة،(2/202)
وقف على الحزورة وقال: إني لأعلم أنك أحب البلاد إلى الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت -أو قال: ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت-.
404- وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: خير بلدة على وجه الأرض وأحبها إلى الله مكة.
405- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الأرض دحيت من مكة، وأول من(2/203)
طاف بالبيت الملائكة، وما من نبي هرب من قومه إلا هرب إلى الله بمكة، فعبد الله فيها حتى مات.
وقال صلى الله عليه وسلم : وإن قبر نوح، وهود، وشعيب، وصالح، وإسماعيل فيما بين زمزم والمقام.
406- قال ابن عباس رضي الله عنه: الكعبة قبلة المسجد الحرام، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض.(2/204)
[76] فصلٌ: ذكر بعض أسماء مكة حرسها الله وزادها شرفاً
407- يقال: سميت مكة لما بين الجبلين، وبكة ما بين الجبلين؛ لأنها تبك بعضهم بعضاً في الطواف، ويقال: مكة ذو طوى، وهي مكة، وبكة: وأم رحم، وأم القرى، والباسة تبسهم أي: تخرجهم إخراجاً إذا ظلموا، وهو أول بيت وضع للناس، وأول مسجد بني للمؤمنين، وأول من بنى إبراهيم عليه السلام.(2/205)
[77] فصلٌ: في ذكر حدود الحرم وكيف حرم
408- أخبرنا أبو عمر: محمد بن سهل البستي بمكة حرسها الله، ثنا أبو الحسن: محمد بن نافع الخزاعي، ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد بن إسحاق الخزاعي، ثنا أبو الوليد قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل،(2/206)
عن ابن عباس قال: أول من نصب أنصاب الحرم: إبراهيم عليه السلام، يريه ذلك(2/207)
جبريل عليه السلام، فلما كان يوم الفتح بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تميم بن أسد الخزاعي فجدد ما رث منها.(2/208)
409- وقيل: لما خاف آدم عليه السلام على نفسه من الشيطان استعاذ بالله سبحانه، فأرسل الله ملائكة حفوا بمكة من كل جانب فوقفوا حواليها، فحرم الله عز وجل الحرم من حيث كانت الملائكة وقفت.
410- وعن وهب بن منبه قال: إن آدم عليه السلام اشتد بكاؤه وحزنه لما كان من عظم مصيبته، حتى إن كانت الملائكة لتحزن لحزنه وتبكي لبكائه، فعزاه الله عز وجل بخيمة من خيام الجنة، ووضعها له بمكة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة، وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة، وفيها ثلاث قناديل من ذهب من تبر الجنة، فيها نور يلتهب من نور الجنة، والركن يومئذ نجم من نجومه، فكان ضوء ذلك النور ينتهي إلى مواضع الحرم، فلما صار آدم عليه السلام إلى مكة حرسه الله، وحرس له تلك الخيمة بالملائكة، فكانوا يقفون على مواضع أنصاب الحرم يحرسونه ويذودون عنه سكان الأرض -وسكانها يومئذ الجن(2/209)
والشياطين- فلا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شيء من الجنة لأنه من نظر إلى شيء منها وجبت له، والأرض يومئذ نقية طاهرة طيبة لم تنجس، ولم يسفك فيها الدماء ولم يعمل فيها بالخطايا، فلذلك جعلها الله يومئذ مستقراً لملائكته، وجعلهم فيها كما كانوا في السماء يسبحون الليل والنهار لا يفترون.
فلم تزل تلك الخيمة مكانها حتى قبض الله عز وجل آدم، ثم رفعها إليه.
411- وروي: أن آدم عليه السلام لما فرغ من المناسك جاء جبريل عليه السلام بياقوتة من الجنة فحلق بها رأس آدم عليه السلام، قال: فطار شعر آدم عليه السلام حتى بلغ طرف الحرم وجال حولها، فجعل ذلك المقدار حرماً.(2/210)
[78] فصلٌ: في ذكر عظم الذنب في حرم الله وحمل السلاح فيه
412- عن علي بن الحسين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ستة لعنهم الله والملائكة والناس أجمعين: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت ليذل من أعزه الله ويعز من أذله الله، والتارك لسنتي، والمستحل من عترتي في حرم الله.(2/211)
413- وعن عطية العوفي قال: سألت مولى لعبد الله بن عمر عن موت عبد الله بن عمر، قال: كان أصابه رجل بزجة في رجله، فأتاه الحجاج يعوده فقال: لو أعلم من الذي أصابك لضربت عنقه، فقال: أنت أصبتني، قال: كيف؟ قال: يوم أدخلت حرم الله عز وجل السلاح.(2/213)
414- وقيل: لما قتل الحجاج ابن الزبير صعد المنبر فقال: إن ابن الزبير أشرك بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وغير كتاب الله، قال فقال ابن عمر: كذبت، فقال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمر، قال: لولا أمير المؤمنين لفعلت وفعلت، قال: فمر رجل من أهل الشام بحربة فأرسلها على رجله، قال: فمر به الحجاج فقال: من فعل بك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أنت، قال: لا والله، قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل لم يحل هذا الحرم لأحد قبلي وإنما أحل لي نصف نهار، وأنت أظهرت فيه السلاح.(2/214)
[79] فصلٌ: ما جاء في إخراج جبريل زمزم لأم إسماعيل عليهما السلام
415- أخبرنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي بمكة حرسها الله، ثنا أبو الحسن: محمد بن نافع الخزاعي، ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع، ثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي، ثنا مسلم بن خالد، .. ..(2/215)
عن ابن جريج، عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، ثنا ابن عباس أنه حين كان بين أم إسماعيل بن إبراهيم وبين سارة امرأة إبراهيم ما كان أقبل إبراهيم نبي الله صلوات الله وسلامه عليه بأم إسماعيل وإسماعيل وهو صغير يرضعها، حتى قدم بها مكة، ومع أم إسماعيل شنة فيها ماء تشرب منه وتدر على ابنها وليس معها زاد، فعمد بها إلى دوحة فوق(2/216)
زمزم في أعلى المسجد، فوضعها تحتها، ثم توجه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه راجعاً على دابته، فنادته أم إسماعيل وقالت: إلى من تتركني وولدي؟ قال: إلى الله عز وجل، فقالت: قد رضيت بالله، فرجعت أم إسماعيل تحمل ابنها حتى قعدت تحت الدوحة، ووضعت ابنها إلى جنبها، وعلقت شنها تشرب منها وترضع ابنها، حتى فني ماء شنها فانقطع درها، فجاع ابنها فاشتد جوعه حتى خشيت أن يموت، فقالت أم إسماعيل: لو تغيبت عنه حتى يموت ولا أرى موته، فعمدت إلى الصفا رجاء أن ترى أحداً بالوادي، ثم نظرت إلى المروة فقالت: لو مشيت بين هذين الجبلين، فتعللت: حتى يموت الصبي ولا أراه، فمشت -ثلاث مرات أو أربع-، ثم رجعت فرأته كما تركته، فعادت إلى الصفا، ومشت إلى المروة حتى كمل سبع مرات.(2/217)
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: هذا كان ابتداء السعي بين الصفا والمروة.
فرجعت تطالع ابنها، فوجدته كما تركته، فسمعت صوتاً -ولم يكن معها أحد غيرها- فقالت: أسمع صوتك فأغثني إن كان عندك خير، فخرج لها جبريل عليه السلام، فاتبعته حتى ضرب برجله مكان البئر فظهر ماء زمزم، فحاضته أم إسماعيل بتراب ترده خشية أن يفوتها قبل أن تأتي بشنها.
قال ابن عباس: قال أبو القاسم عليه السلام: لو تركته أم إسماعيل كان عيناً معيناً يجري.
قال: فجاءت أم إسماعيل بشنها، فاستقت وشربت، ودرت على ابنها، وجاء الطير طلباً للماء، فبينا هي كذلك، إذ مر ركب من جرهم قافلين من الشام، فرأوا الطير على الماء، فأرسلوا رجلين حتى أتيا أم إسماعيل، فكلماها، ثم رجعا إلى ركبهما فأخبراهم بالماء وبأم إسماعيل، فرجع الركب كلهم حتى حيوها، فردت عليهم، وقالوا: لمن هذا الماء؟ قالت: لي، قالوا: أتأذنين لنا أن نسكن معك عليه؟(2/218)
قالت: نعم، فبعثوا إلى أهليهم، فقدموا، فسكنوا تحت الدوح، واعترشوا عليها العرش، ومكثوا ما شاء الله.
ثم إن جرهم استخفوا بحرمة البيت، وارتكبوا العظائم من الذنب، فنضب ماء زمزم، وانقطع حتى عمي مكانه.(2/219)
[80] فصلٌ: ذكر ما جاء في فضل مائها وهو ماء زمزم
416- روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ماء زمزم لما شرب له.
417- وعن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق.(2/220)
418- وقال ابن عباس: صلوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار، قيل: ما مصلى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب، قيل: وما شراب الأبرار؟ قال: زمزم.
419- وروي عن وهب بن منبه أنه قال: والذي نفسي بيده إنها لفي كتاب الله: برة، وشراب الأبرار، طعام طعم وشفاء سقم، وكان وهب يكثر شرب زمزم ويقول: والذي نفس وهب بيده لا يعمد إليها أحد فيشرب منها حتى يتضلع إلا نزعت منه داء، وأحدثت له شفاء.(2/223)
420- وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: خير واديين: وادي مكة، وواد بالهند هبط به آدم عليه السلام، وشر واديين: وادي الأحقاف، ووادٍ بحضرموت، وخير بئر: بئر زمزم، وشر بئر: بئر برهوت الذي يجمع فيه أرواح الكفار.
421- وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بسجل من زمزم فتوضأ ثم قال: انزعوا يا بني عبد المطلب، فلولا أن تغلبوا عليها لنزعت معكم.
422- وعن مجاهد قال: ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تريد به شفاء شفاك الله، وإن شربته لظمأ أرواك الله، وإن شربته لجوع أشبعك الله،(2/224)
وهي هزمة جبريل عليه السلام بعقبه، وسقيا الله إسماعيل عليه السلام.
قال: والهزمة: الغمزة بالعقب في الأرض، قال: ماء زمزم شقت من الهزمة.
423- وعن طاوس قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يفيضوا نهاراً،(2/225)
وأفاض في نسائه ليلاً، وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت على ناقته، ثم جاء زمزم وقال: ناولوني، فنوول دلواً فشرب منها، ثم مضمض، ثم مج في الدلو، ثم أمر بما في الدلو فأفرغ في البئر.
424- وعن الضحاك بن مزاحم قال: إن الله تبارك وتعالى يرفع المياه العذاب قبل يوم القيامة غير زمزم، وتغور المياه غير زمزم، وتلقي الأرض ما في بطنها من ذهب وفضة، فيأتي الرجل بالجراب فيه الذهب والفضة فيقول: من يقبل هذا مني؟ فيقول: لو أتيتني به أمس لقبلته.(2/226)
425- وعن كعب أنه قال لزمزم: إنا نجد: مضنونة، ضن بها لكم، وأول من سقي ماؤها إسماعيل عليه السلام، طعام طعم وشفاء سقم.
426- وعن الضحاك بن مزاحم قال: بلغني أن التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق، وأن ماءها يذهب بالحمى والصداع، وأن الاطلاع فيها يجلو البصر، وأنه سيأتي عليها زمان تكون أعذب من النيل والفرات.
قال أبو سعيد: يقال: إن ماء زمزم تطاول على المياه فقمع بماء أبي قبيس، فإذا ظهر ماء أبي قبيس على زمزم كثرت ملوحته، وإذا ظهر ماء زمزم كثرت عذوبته.(2/227)
[81] فصلٌ: ذكر ما كان عليه ذرع البيت حتى صار إلى ما هو عليه اليوم من خارجٍ وداخلٍ
427- أخبرنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي بمكة حرسها الله سنة ستة وسبعين وثلاثمائة، ثنا محمد بن نافع بن محمد الخزاعي بمكة في المسجد الحرام، ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي، ثنا أبو الوليد: محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي، قال:
كان إبراهيم خليل الرحمن بنى الكعبة، فجعل طولها في السماء تسعة أذرع، وطولها في الأرض: ثلاثين ذراعاً، وعرضها في الأرض: اثنين وعشرين ذراعاً، وكان غير مسقف على عهد إبراهيم عليه السلام، ثم بنته قريش في الجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غلام، فزادت في طولها في السماء تسعة أذرع أخرى، فكانت في السماء ثمانية عشر ذراعاً، وسقفوها، ونقصوا من طولها في الأرض ستة أذرع وشبرا تركوها في الحجر، واستقصرت دون قواعد إبراهيم عليه السلام، فجعلوها ربضاً في بطن الكعبة، فنبوا عليها حين قصرت بهم النفقة، وحجزوا الحجر على بقية البيت لئلا يطوف الطائف من ورائه.(2/228)
ولم يزل على ذلك حتى كان زمن عبد الله بن الزبير، فهدم الكعبة وردها إلى قواعد إبراهيم، وزاد في طولها في السماء تسعة أذرع أخرى على بناء قريش، فصارت في السماء سبعة وعشرين ذراعاً، وأوطأ بابها في الأرض، وفتح في ظهرها باباً آخر مقابل هذا الباب.
فكانت على ذلك حتى قتل ابن الزبير وظهر الحجاج، وأخذ مكة، ثم كتب إلى عبد الملك بن مروان يأمره أن يهدم ما كان ابن الزبير زاد من الحجر في الكعبة، ففعل، وردها إلى قواعد قريش التي استقصرت في بطن البيت، وكبسها بما فضل من حجارتها، وسد بابها الذي في ظهرها، ورفع بابها هذا الذي في وجهها والذي هي عليه اليوم من الذرع.(2/229)
[82] فصلٌ: ذكر تاريخ البيت وفضل ما حوله وما جاء في الحجر الأسود والركن والمقام والحجر
428- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان البيت قبل هبوط آدم عليه السلام ياقوتة من يواقيت الجنة، وكان له بابان من زمرد أخضر، باب شرقي، وباب غربي، وفيه قناديل من الجنة، البيت المعمور الذي في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة.(2/230)
429- وروي: أن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم إلى موضع الكعبة -وهو مثل الفلك من شدة رعدته- أنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه لؤلؤة بيضاء، فأخذه آدم عليه السلام فضمه إليه استئناساً، ثم أخذ الله من بني آدم ميثاقهم فجعله في الحجر، ثم أنزل على آدم العصا، ثم قال: يا آدم تخط، فتخطى فإذا هو بأرض الهند، فمكث هناك ما شاء الله،(2/231)
ثم استوحش إلى البيت، فقيل له: احجج يا آدم، فأقبل يتخطى فصار موضع كل قدم قرية، وما بين ذلك مفازة، حتى قدم مكة فلقيته الملائكة، فقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، قال: فما كنتم تقولون حوله؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فكان آدم إذا طاف بالبيت قال هؤلاء الكلمات.
430- وكان آدم عليه السلام يطوف بالبيت سبعة أسابيع بالليل، وخمسة أسابيع بالنهار، فقال آدم: يا رب اجعل لهذا البيت عماراً يعمرونه من ذريتي، فأوحى الله عز وجل إليه: إني معمره بنبي من ذريتك اسمه إبراهيم، أتخذه خليلاً، أقضي على يديه عمارته، وأنيط له سقايته، وأريه حله وحرمه ومواقفه، وأعلمه مشاعره ومناسكه، فإذا فرغ من بنائه نادى: يا أيها الناس إن الله تعالى بنى بيتاً فحجوه، فأسمع من بين الخافقين، فأجابوه: لبيك اللهم لبيك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن آدم عليه السلام سأل ربه عز وجل فقال: يا رب أسألك من حج هذا البيت من ذريتي لا يشرك بك شيئاً أن تلحقه بي في الجنة، فقال الله تعالى: يا آدم من مات في الحرم لا يشرك بي شيئاً بعثته آمناً يوم القيامة.(2/232)
431- وروى أبو قرة، عن معمر: أن سفينة نوح عليه السلام طافت بالبيت سبعاً، حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه، وبقي أساسه، وبوأه الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام فبناه بعد ذلك، وذلك قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} الآية.
432- وذكر ابن جريج رضي الله عنه في حديثه: أنه لما كان الغرق رفع الله عزت قدرته إليه البيت، واستودع الركن أبا قبيس، حتى إذا كان بناء(2/233)
إبراهيم عليه السلام نادى أبو قبيس إبراهيم فقال: يا إبراهيم هذا الركن، فجاء فحفر عنه فجعله في البيت.
433- وعن الزهري أنه قال: وجد حجر في أساس البيت مكتوب في جوانبه الأربع، فأرادوا قراءته فلم يجدوا أحداً يقرأه حتى جاء حبر من أحبار اليمن فقرأه فإذا في جانبه: أنا الله ذو بكة، حرمتها يوم خلقت السماوات والأرضين، ووضعت هذين الجبلين يوم وضعت الشمس والقمر، وحففتهما بسبعة أملاك حنفاء، مبارك لأهلها في اللحم والماء -وقال آخرون: في اللحم واللبن-.
وفي الجانب الآخر: هذا بيت الله الحرام، يأتيه رزقه من ثلاثة سبل، أهله أول من يستحله.
وفي الجانب الآخر: أنا الله لا إله إلا أنا، قدرت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وقدرته له، وويل لمن خلقته للشر وقدرته له.
434- ويقال: إنه مكتوب في أسفل المقام: إني أنا الله ذو بكة،(2/234)
حرمتها يوم خلقت السماوات والأرضين، ويوم وضعت هذين الجبلين، وحففتهما بسبعة أملاك حنفاء.
435- وقال صلى الله عليه وسلم : إن حول الكعبة لقبور ثلثمائة نبي، وإن ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود لقبور سبعين نبياً صلوات الله عليهم أجمعين، وكل نبي من الأنبياء إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم فأتى الكعبة فعبد الله حتى يموت.
436- وروي: أن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله(2/235)
عليهما شكا إلى ربه حر مكة، فأوحى الله عز وجل إليه: أني أفتح لك باباً من أبواب الجنة في الحجر، يجري عليك منه الروح إلى يوم القيامة.
437- وروي: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أقبل ذات يوم فقال لأصحابه: ألا تسألوني من أين جئت؟ قالوا: من أين جئت يا أمير المؤمنين؟ قال: ما زلت قائماً على باب الجنة -وكان قائماً تحت الميزاب يدعو الله عنده-.
438- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الركن اليماني باب من أبواب الجنة، وما من أحد يدعو الله عند الركن الأسود إلا استجيب له.(2/236)
439- قال: وكذلك عند الركن اليماني، وكذلك عند الميزاب.
440- وعن سعيد بن المسيب أنه قال: الركن والمقام حجران من حجارة الجنة.
441- سئل عطاء عن استلام الركن اليماني وهو في الطواف فقال:(2/237)
حدثني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكل الله به سبعين ملكاً، ثم قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
442- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما مررت بالركن اليماني قط إلا وجدت جبريل قائماً عنده يقول: يا محمد استلم.
443- وقال صلى الله عليه وسلم : إن خير البقاع وأقربها من الله: ما بين الركن والمقام.(2/238)
444- وقال صلى الله عليه وسلم : الركن يمين الله في الأرض، يصافح به عباده كما يصافح أحدكم أخاه.(2/239)
445- وقال صلى الله عليه وسلم : إن الركن والمقام يأتيان يوم القيامة كل واحد منهما مثل أبي قبيس، له عينان ولسان وشفتان، يشهدان لمن وافاهما بالوفاء.(2/240)
446- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه لم يبق في الأرض شيء من الجنة غير هذا الحجر، ولولا ما مسه من أنجاس المشركين ما استشفى به ذو عاهة إلا برأ.(2/241)
[83] فصلٌ: ذكر المقام وأول أمره، وكيف كان
وأما المقام فقد قال الله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} الآية.
447- أخبرنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي أسكنه الله جنته بمكة حرسها الله، قال: حدثنا أبو الحسن: محمد بن نافع، ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد بن إسحاق الخزاعي، ثنا أبو الوليد قال: سمعت عبد الله بن شعيب بن شيبة بن جبير بن شيبة يقول: ذهبنا نرفع المقام في خلافة المهدي فانثلم -وهو من حجر رخو- فخشينا أن يتفتت، فكتبنا في ذلك إلى المهدي، فبعث إلينا بألف دينار، فضببنا بها المقام أسفله وأعلاه، وهو الذهب الذي عليه اليوم.
واختلفوا في المقام وابتدائه.
448- فمنهم من قال: صعد إبراهيم عليه السلام المقام حيث أمر بالدعوة لقوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً} الآية، قال إبراهيم: وأين يبلغ كلامي؟ فقال الله تعالى: عليك النداء، وعلي البلاغ، فصعد وقال: إن الله تعالى كتب عليكم الحج -وأذن الله للمقام حتى صار مثل(2/242)
أبي قبيس-، فأجابه من في أصلاب الرجال، ومن في أرحام النساء، فمن أجاب مرة واحدة من التلبية فيحج حجة واحدة، ومن أجاب مرتين فيحج حجتين، وكذلك ثلاثة وأربعة، فلما ثقل عليه الوحي خالف بين قدميه.
449- ومنهم من قال: إن إبراهيم لما زار إسماعيل من الشام، وكانت سارة حلفته أن لا ينزل عند هاجر، وطلبت إليه هاجر أن يغسل رأسه ولحيته، فأخرج إبراهيم عليه السلام رجليه حتى غسلت رأسه.
450- ومنهم من قال: إن امرأة إسماعيل سألت إبراهيم أن ينزل عليها لتغسل رأسه، فلم ينزل؛ لما عهدت إليه سارة أن لا ينزل حتى يرجع، فبركت ناقته، ودلى رجليه، فغسلت شقه الأيمن، ثم حولت الحجر إلى شقه الأيسر، وغسلت شقه الآخر.
قال أبو سعد: عبد الملك بن محمد صاحب الكتاب أعانه الله على طاعته: سألت الزمازمة حتى أتوا إلي بماء زمزم، ثم سألت بني شيبة أن يكشفوا لي عن المقام فكشفوا في البيت، وسكبوا الماء موضع(2/243)
القدم، ثم شربت تبركاً بذلك، ورأيت أثر قدمي إبراهيم عليه السلام مغموساً فيه، وأصابع إحدى رجليه عند عقب الأخرى، وكان في ذلك الوقت المقام في البيت، وهذا دأبهم في الموسم، يخفون المقام في مصعد السطح في البيت، وذلك أنه حمل المقام مرة، فلما رد الله تعالى عليهم ذلك احتاطوا في ذلك الحفظ.(2/244)
[84] فصلٌ: ذكر رد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب المقام إلى موضعه الذي هو عليه الآن
451- قال: فجاء السيل من باب بني شيبة -وكان يعرف بباب(2/245)
السيل- فحمل المقام حتى وجد بأسفل مكة، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فتبادروه وموضع المقام.
[85] فصلٌ: ذكر ذرع المقام
452- قال أبو الوليد: وذرع المقام ذراع، والمقام مربع سعة أعلاه: أربعة عشر إصبعاً في أربعة عشر إصبعاً، وكذلك من أسفله، وفي طرفيه من أعلاه وأسفله طوقا ذهب، وفي الحجر سبع أصابع، وعرض حجر المقام من نواحيه: إحدى وعشرون إصبعاً، والقدمان داخلتان في الحجر، وبين القدمين من الحجر إصبعان.(2/246)
[86] فصلٌ: ذكر ما جاء في منبر مكة
453- وأما المنبر، فأول من خطب بمكة على المنبر: معاوية بن أبي سفيان، قدم به من الشام حين حج في خلافته، وكان منبر صغير ثلاث درجات، والخلفاء والولاة قبل ذلك يخطبون يوم الجمعة على أرجلهم قياماً في وجه الكعبة، فلما حج هارون الرشيد أهداه والي مصر -عامل من يده- موسى بن عتيق منبراً عظيماً في تسع درجات منقوش، فلما أراد الواثق الحج أمر بثلاث منابر أحدها بمكة، والثاني بمنى، والثالث بعرفة.(2/247)
[87] فصلٌ: في ذكر جبال مكة حرسها الله تعالى
454- عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً} الآية، قال: طارت لعظمته ستة أجبل، فوقع ثلثه بالمدينة، وثلثه بمكة: أحد، وطي، ورضوى، ووقع بمكة: ثور، وثبير، وحراء.(2/248)
حدثنا بهذا الحديث محمد بن أحمد بن بالويه الكرابيسي.
455- وحكى أن حول مكة حرسها الله اثنا عشر ألف جبل لكل جبل اسم وعرب ينتابونه.
456- ويقال: إن أبا قبيس وجبل بكاء تسابقا إلى مكة، فسبق أبو قبيس إلى قرب البيت فبقي جبل بكاء خارجاً، فلا يزال يبكي أسفاً على ما فاته من مكة، وبكاؤه ظاهر تنحدر كل ليلة أحجاره، والمجاورون ينحونه عن الطريق.
قال أبو سعد صاحب الكتاب رحمه الله: فتأملت ذلك فوجدته كما حكي.(2/249)
[88] فصلٌ: في فضل المقام بمكة حرسها الله ومجاورة البيت الحرام والموت فيه
457- قال صلى الله عليه وسلم : من مات في حج أو عمرة لم يعرض ولم يحاسب، وقيل له: ادخل الجنة.(2/250)
458- وقال صلى الله عليه وسلم : من مات بمكة فكأنما مات في السماء الدنيا.
459- وقال صلى الله عليه وسلم : من مات في أحد الحرمين حاجاً أو معتمراً بعثه الله يوم القيامة لا حساب ولا عذاب.(2/251)
460- وقال صلى الله عليه وسلم : من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه النار مسيرة مائة عام، وتقربت منه الجنة مسيرة مائة عام.
461- وقال صلى الله عليه وسلم : من مرض يوماً بمكة كتب الله له من العمل الصالح الذي كان يعمله عبادة ستين سنة.
462- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أدرك شهر رمضان بمكة(2/252)
فصامه كله، وقام فيه بما تيسر، كتبه الله له بمائة ألف شهر رمضان لغيرها، وكان له بكل يوم مغفرة وشفاعة، وبكل يوم حملان فرس في سبيل الله.
463- وعن الحسن البصري قال: ما أعلم اليوم على وجه الأرض(2/253)
بلدة ترفع فيها الحسنات من أنواع البر، بكل واحدة منها مائة ألف ما يرفع من مكة، وقد روي في ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من صلى في المسجد الحرام ركعتين فكأنما صلى في مسجدي ألف ركعة، ومن صلى في مسجدي صلاة كانت أفضل من ألف صلاة فيما سواه من البلدان.
قال: ثم ما أعلم من بلدة أنه يكتب لمن يتصدق فيها بدرهم واحد بمائة ألف، ما يكتب بمكة.
قال: ثم ما أعلم من بلدة على وجه الأرض فيها شراب الأخيار،(2/254)
ومصلى الأبرار إلا بمكة، قيل لابن عباس: ما مصلى الأبرار؟ قال: تحت الميزاب، فقيل: ما شراب الأخيار؟ قال: ماء زمزم.
قال: ثم ما أعلم على وجه الأرض بلدة يصلي فيها أحد حيث أمر الله ورسوله إلا بمكة ثم قال: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}.
قال: ثم ما أعلم على وجه الأرض بلدة أن يكون في مسه ذلك تكفير الخطايا وانحطاط الذنوب كما ينحط الورق من الشجر إلا بمكة وهو استلام الركن الأسود واليماني، وقد روي في ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: استلامهما يحط الخطايا حطاً.
قال: ثم ما أعلم بلدة على وجه الأرض أنه إذا دعا أحد بدعاء أمن له الملائكة فتقول: آمين، إلا بمكة حول بيت الله الحرام.
قال: ثم ما أعلم من بلدة على وجه الأرض أنه يكتب لمن نظر إلى الكعبة من غير طواف ولا صلاة عبادة الدهر وصيام الدهر إلا بمكة.
قال: ثم ما أعلم أنه ينزل في الدنيا ببلد كل يوم رائحة الجنة وروحها ما ينزل بمكة، ويقال: إن ذلك كله للطائفين.
قال: ثم ما أعلم على وجه الأرض بلدة يوجد فيها من الأعوان على الخير بالليل والنهار ما يوجد بمكة، فلنومك بالليل والنهار وإفطارك بالنهار يوماً واحداً في حرم الله أرجى عندي وأفضل من عبادة الدهر وقيامه في غيرها.(2/255)
قال: ثم ما أعلم بلدة على وجه الأرض يحشر منها الأنبياء والأبرار والفقهاء والزهاد والعباد والصلحاء من الرجال والنساء ما يحشر من مكة، ويقال: إنهم يحشرون من مكة وهم آمنون.
قال: ثم إنه يستجاب الدعاء بمكة في خمسة عشر موضعاً: أولها الملتزم، فالدعاء فيه مستجاب، وتحت الميزاب، وحول البيت في الطواف، وعند الركن الأسود، وعند الركن اليماني، وخلف المقام، ومنى، وعرفات، والمزدلفة، وعند الجمرات، وفي جوف الكعبة، وعلى الصفا والمروة، والدعاء في جوف الحرم مستجاب، وزمزم.
قال: فاغتنم هذه المواضع التي ترجى فيها المغفرة، واجتهد فيهن بالدعاء، فإنك إن حرمت منها ذهبت منك هذه المواضع كلها، فاعمل في ذلك.
وإياك أخي ثم إياك أن تبرح من مكة، ولو أنه يدخل عليك كل يوم كسب حلال فلسين وأنت في حرم الله، خير من أن تجد بغيرها ألفين، وإن السعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله، والأعمال بالخواتيم.
فعليك يا أخي بتقوى الله، ولزوم العزلة، والاشتغال بنفسك، والاستيناس بكتاب الله تعالى ذكره، والسلام.
464- قال أبو عبيد: القاسم بن سلام: قال بعض أصحابنا -وكان مجاوراً بمكة-: أردت الانتقال منها إلى بعض البلدان فرأيت في المنام(2/256)
كأنه قيل لي: كرهت جوارنا فتنتقل من عندنا؟ قال: فقلت: قد تبت، وأقام بها حتى مات.
465- وعن وهب بن منبه قال: مكتوب في التوراة: إن الله عز وجل يبعث يوم المحشر ملائكة من ملائكته المقربين، بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب إلى البيت الحرام، فيقول لهم: اذهبوا إلى البيت فزموها بهذه السلسلة، ثم قودوها إلى المحشر، قال: فيأتونها فيزمونها سبعمائة ألف سلسلة من ذهب، ثم يمدونها، وملك ينادي وهو يقول: سيري يا كعبة الله إلى المحشر بأمر الله، قال: والكعبة يومئذ لها عينان ولسان(2/257)
وشفتان، قال: فتنادي فتقول: إن لي إلى الله تعالى شفاعة وطلبة، فلست بسائرة حتى أعطاها، فينادي ملك من جو السماء، سلي، فتقول الكعبة: يا رب شفعني في جيراني الذين دفنوا حولي من المؤمنين، فيقول الله عز وجل: قد أعطيتك سؤلك، قال: فيحشر كل موتى مكة من قبورهم بيض الوجوه كلهم محرمون، فيجتمعون حول الكعبة يلبون.
ثم تقول الملائكة: سيري يا كعبة الله، فتقول: لست بسائرة حتى أعطى سؤلي، فينادي ملك من جو السماء: سلي تعطي: فتقول الكعبة بأعلى صوتها، يا رب عبادك المذنبون الذين وفدوا إلي من كل فج عميق على كل ضامر، شعثاً غبراً، تركوا الأهلين والأولاد والأحباب، وخرجوا شوقاً إلي زائرين، مسلمين طائعين لك سيدي، حتى قضوا مناسكهم كما أمرتهم، فأسألك أن تؤمنهم من الفزع الأكبر، فشفعني فيهم، واجمعهم حولي.
قال فينادي الملك: فإن منهم من ارتكب الذنوب بعدك، وأصروا على الكبائر حتى وجبت لهم النار، قال فتقول الكعبة: إنما أسألك الشفاعة لأهل الذنوب العظام.
فيقول الله عز وجل: قد شفعتك فيهم، وأعطيتك سؤلك، قال: فينادي منادي من جو السماء: ألا من زار الكعبة فليعتزل من بين الناس، فيعتزلون، فيجمعهم الله عز وجل حول البيت الحرام بيض الوجوه، آمنين من النار، يطوفون، ويلبون.
ثم ينادي ملك من جو السماء: ألا يا كعبة الله سيري، فتقول الكعبة: لبيك لبيك، والخير بين يديك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد لك، والنعمة لك، والملك لك، لا شريك لك، ثم يمدونها إلى المحشر.(2/258)
466- وعن مجاهد رضي الله عنه قال: رأيت الكعبة في النوم وهي تكلم النبي صلى الله عليه وسلم وهي تقول: لئن لم تنته أمتك يا محمد عن المعاصي لأنتفضن حتى يصير كل حجر مني في مكان.(2/259)
467- وروي: أن الكعبة تتكلم وتنزل يوم القيامة فتقول: إيذن لي يا رب في زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيؤذن لها، فإذا جاءت إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تهتم لثلاثة فإني أشفع لهم: من طاف بي، ومن خرج من البيت ولم يصل إلي، والثالث: من اشتهى أن يقصدني فلم يجد سبيلاً إلى ذلك.(2/260)
468- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على الثنية -ثنية المقبرة، وليس بها يومئذ مقبرة- فقال: يبعث الله عز وجل من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً، وجوههم كالقمر ليلة البدر.
قال أبو بكر: يا رسول الله من هم؟ قال: الغرباء.(2/261)
[89] فصلٌ: ذكر حنين السلف إلى مكة بيت الله
469- ذكر ابن جريج قال: كان ابن أم مكتوم الأعمى يقول:
يا حبذا مكة من وادي ... بها أمشي بلا هادي
بها أهلي وعوادي ... بها ترسخ أوتادي(2/262)
470- وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على أبي بكر أعوده، فقلت: كيف تجدك؟ فقال:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله(2/263)
قالت: ثم دخلت على عامر بن فهيرة، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال:
وجدت طعم الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه ... والثور يحمي جلده بروقه
قالت عائشة رضي الله عنها: ثم دخلت على بلال فقلت: كيف تجدك؟ قال: فرفع عقيرته ثم قال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفج وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة رضي الله عنها: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إن إبراهيم عبدك ونبيك (عليه السلام) دعاك لأهل مكة، وأنا أدعوك لأهل المدينة بمثل ما دعاك به إبراهيم لأهل مكة، اللهم بارك لهم في صاعهم وفي مدهم وفي تمرهم، وحببها إلينا كحبنا مكة وأشد، وانقل وباءها إلى حمراء والجحفة.(2/264)
[90] فصلٌ: في فضل الطواف بالبيت ودخوله والنظر إليه وما جاء في حجه والصلاة في المسجد الحرام
471- وعن مجاهد رضي الله عنه: أن آدم عليه السلام طاف بالبيت فلقيته الملائكة، فصافحته وسلمت عليه وقالت: بر حجك يا آدم، طف بهذا البيت، فإنا قد طفنا قبلك بألفي عام، فقال لهم آدم عليه السلام: ماذا كنتم تقولون في طوافكم؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، قال آدم: وأنا أزيد فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
472- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حج آدم عليه السلام، فطاف بالبيت سبعاً، فلقيته الملائكة في الطواف فقالوا: بر حجك يا آدم، أما إنا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، قال: فما كنتم تقولون في الطواف؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله،(2/265)
والله أكبر، قال آدم: فزيدوا فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: فزادت الملائكة فيها ذلك ثم حج إبراهيم عليه السلام بعد بنائه البيت، فلقيته الملائكة في الطواف، فسلموا عليه، فقال لهم: ماذا كنتم تقولون في طوافكم؟ قالوا: كنا نقول قبل أبيك آدم عليه السلام: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فأعلمناه ذلك فقال: زيدوا فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال إبراهيم: فزيدوا فيها: العظيم، فقالت الملائكة ذلك.
473- وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من طاف بالبيت سبعاً وأحصاه، وركع ركعتين كان له كعدل رقبة نفيسة من الرقاب.(2/266)
474- وروي عنه أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يطوف أحد طوافاً يحصيه إلا كان كعدل رقبة، ولا يرفع رجلاً ولا يضع أخرى إلا كتبت له بها حسنة ورفع له بها درجة وحط عنه بها سيئة.
475- وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أحصى أسبوعاً فله عتق رقبة، ومن رفع قدماً ووضع أخرى كتبت له بها حسنة وحط عنه بها سيئة ورفع له بها درجة.
476- وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من طاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين، وشرب ماء زمزم غفر الله له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت.(2/268)
477- وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : طوافان لا يوافقهما عبد مسلم إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ويغفر له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت، طواف بعد صلاة الفجر يكون فراغه عند طلوع الشمس، وطواف بعد صلاة العصر يكون فراغه مع غروب الشمس.
478- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من طاف حول البيت سبعاً في يوم صائف شديد حره حاسراً، واستلم الحجر في كل طوفة من غير أن يؤذي أحداً، وقل كلامه إلا بذكر الله كان له بكل قدم يرفعها ويضعها سبعون ألف حسنة، ومحي عنه سبعون ألف سيئة، ورفع له سبعون ألف درجة، ويعطيه الله سبعين ألف شفاعة، إن شاء في أهل بيته من المسلمين وإن شاء في العامة، وإن شاء عجلت له في الدنيا وإن شاء أخرت له في الآخرة.(2/269)
479- وقال صلى الله عليه وسلم : الكعبة محفوفة بسبعين ألفاً من الملائكة، يستغفرون لمن طاف بها ويصلون إليها.
480- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استكثروا من هذا الطواف قبل أن يحال بينكم وبينه، وكأني أنظر إلى رجل من الحبشة أصيلع أفيدع جالس عليها يهدمها حجراً حجراً.(2/270)
481- وقيل: لو أن رجلاً بمكة قيل له: طف بهذا البيت، فيقول: لا أطوف، فتؤخذ رجله ويطاف به حول الكعبة لغفر له وإن كان مكرهاً.
482- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: دخول البيت في حسنة وخروج من سيئة، فيخرج مغفوراً له.(2/271)
483- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من نظر إلى البيت إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويحشر يوم القيامة في الآمنين.
484- وعن سعيد بن المسيب قال: من نظر إلى الكعبة إيماناً وتصديقاً خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه.
485- وعن محمد بن السائب قال: من نظر إلى الكعبة إيماناً وتصديقاً تحاتت ذنوبه كما يتحات الورق من الشجر.(2/272)
486- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: النظر إلى الكعبة محض الإيمان.
487- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من نظر إلى البيت نظرة من غير طواف ولا صلاة كان أفضل عند الله من عبادة سنة صائماً قائماً راكعاً ساجداً.(2/273)
488- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى في المسجد الحرام في جماعة صلاة واحدة كتب الله له ألفي ألف صلاة وخمس مائة ألف صلاة.
489- وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين}، ثم قال: هي الصلوات الخمس في الجماعة في المسجد الحرام.
490- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحاج والمعتمر وفد الله، إن سألوا أعطوا، وإن دعوا أجيبوا، وإن أنفقوا أخلف عليهم بكل درهم ألف درهم، والذي نفسي بيده ما أهل مهل، ولا كبر مكبر إلا أهل بتهليله وكبر بتكبيرة ما بين يديه حتى ينقطع التراب.
491- وفي حديث آخر فقال رجل: يا رسول الله وأنى هذه(2/274)
المضاعفة؟ قال: أما والذي نفسي بيده، أما نفقاتهم فيخلفها الله لهم في الدنيا قبل أن يخرجوا منها، وأما الألف ففي الآخرة، والذي بعثني بالحق للدرهم الواحد أثقل من جبلكم هذا -وأشار إلى أبي قبيس-.
492- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جلس مستقبل الكعبة ساعة واحدة محتسباً حباً لله ولرسوله وتعظيماً للقبلة كان له أجر الحاج والمعتمر والمجاهد في سبيل الله والمرابط الصائم القائم، وأول من ينظر الله إليه من عباده إلى أهل الحرم، فمن رآه طائفاً غفر له، ومن رآه جالساً مستقبل الكعبة غفر له.
493- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم عرفة بالموقف يفتح الله عز وجل أبواب السماء فيباهي بهم الملائكة فيقول لهم: انظروا إلى(2/275)
عبادي شعثاً غبراً، جاءوني من كل فج عميق، يرجون مغفرتي، قد غفرت لهم جميعاً، أفيضوا عبادي كلكم مغفوراً لكم، مشفعين فيمن شفعتم، فلو كانت ذنوبكم مثل عدد الرمال، أو كانت ذنوبكم مثل عدد القطر يغفرها الله لكم.
494- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حج حجة الإسلام، وطاف طواف الزيارة، فإنه يطوف يومئذ ولا ذنب له، يأتيه ملك فيضع يده بين كتفيه ويقول: اعمل لما يستقبل، قد كفيت ما مضى.(2/276)
495- وروي مسنداً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا حج المسلم ولم يقبل منه يحط عنه وزر سبعين سنة، قيل: يا رسول الله فإن لم يكن له وزر سبعين سنة؟ قال: يحط عن أبويه، قيل: فإن لم يكن؟ قال: عن أهل بيته.
496- وقال صلى الله عليه وسلم : إن للحاج بكل خطوة يخطوها سبع مائة حسنة من حسنات الحرم، قالوا: يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة الواحدة بمائة ألف حسنة.(2/277)
497- وقال صلى الله عليه وسلم : لو أن الملائكة صافحت أحداً لصافحت الغازي في سبيل الله، والبار بوالديه، والطائف ببيت الله الحرام.
498- وقال صلى الله عليه وسلم : الطواف بالبيت خوضٌ في رحمة الله.(2/278)
499- وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل ليباهي بالطائفين ملائكته.
500- وقال صلى الله عليه وسلم : ما من عمل أفضل من حج مبرور.
501- وقال صلى الله عليه وسلم : الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.(2/279)
502- وقال صلى الله عليه وسلم : من حج ولم يرفث ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه.
503- وقال صلى الله عليه وسلم : خلق الله عز وجل لهذا البيت عشرين ومائة رحمة ينزلها في كل يوم، ستون منها للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين.(2/280)
504- وقال صلى الله عليه وسلم : جهاد الكبير وجهاد الضعيف وجهاد المرأة: الحج والعمرة.(2/281)
[91] فصلٌ: ذكر اعتناء السلف بحج البيت وعدم تركهم له
505- قال السري السقطي: سمعت علي بن الموفق وهو راجع من الحج يقول: إلهي لا تجعل هذا آخر عهدي ببيتك وزيارته، إلهي(2/282)
استحييت من كثرة ما أقول: لا تجعل هذا آخر عهدي، وأنت تفعل ذلك، ثم قال: إلهي حججت ستين حجة، إلهي إن قبلت مني فقد وهبت من ذلك ثلاثين حجة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وثواب عشر حجج لخصمائي، وثواب عشر حجج لوالدي، وثواب عشر حجج لي ولجميع المؤمنين والمؤمنات، ثم رجع إلى راحلته فغلبته عيناه فرأى في المنام كأن قائلاً يقول له: يا علي بن الموفق، أعلي تتسخى وأنا خلقت السخاء، إني أشهدك وأشهد ملائكتي أني قد غفرت لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال: فانتبه علي بن الموفق وبكى ثلاثة أيام ولياليها وهو يقول: يا واسع المغفرة اغفر لنا برحمتك.
506- وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول إذا وقف بعرفة: اللهم أنت دعوت إلى حج بيتك الحرام، ووعدت المنفعة على شهود مناسكك، وقد جئتك، فاجعل منفعة ما تنفعني به أن تؤتيني في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وأن تقيني عذاب النار.
507- وعن سفيان بن عيينة، عن ابن عبد الملك قال: حج عمر بن(2/283)
عبد العزيز بالناس فلما نظر إلى مجتمع الناس بعرفة قال: اللهم زد في إحسان محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وراجع بمسيئهم إلى التوبة، وحط من أوزارهم بالرحمة.
قال ابن عيينة: هكذا يكون الداعي، يدعو لأهل رعيته.(2/284)
[92] فصلٌ: في ذرع المسجد الحرام
508- مكسراً: مائة ألف ذراع وعشرون ألف ذراع، ذرع المسجد طولاً من باب بني جمع إلى باب بني هاشم: أربعمائة ذراع وأربعة أذرع، وعرضه من باب دار الندوة إلى الجدار الذي يلي الوادي: ثلاثمائة ذراع وأربعة أذرع، وذرع عرض المسجد الحرام من المنارة التي عند المشعر إلى المنارة التي بباب بني شيبة: مائتا ذراع وثمانية وسبعون ذراعاً، وذرع عرض المسجد من منارة باب أجياد إلى منارة بني سهم: مائتا ذراع وثمانية وسبعون ذراعاً.(2/285)
[93] فصلٌ: في صفة باب الكعبة
509- وطول باب الكعبة في السماء: ستة أذرع وعشرة أصابع، وعرض ما بين جداريه: ثلاثة أذرع وثماني عشرة أصبعاً، والجدران وعتبة الباب العليا ونجاف الباب ملبس صحائف ذهب منقوش، وفي جدار عضادتي الباب أحد عشر حلقة من حديد مموه بالفضة متفرقة: في كل جدار سبع حلق يشد بها جوف الباب من أستار الكعبة، وعلى وسط البابين حلقتان من فضة مموه بالذهب سوى ما يقفل عليه.
واتفق في شهور سنة ست وثمانين وثلاثمائة خروج بعض إخواننا، وكان جميل النية، فأشرت عليه بحمل حلقتين عظيمتين حسناوتين، ففعل، وعلق فوق هاتين: الحلقتين اللتين ذكرتهما، وضوء الذهب ظاهر عليهما. تقبل الله ذلك منه.(2/286)
[94] فصلٌ: في صفة عتبة باب الكعبة
510- وفي عتبة الباب: ثمانية عشر مسماراً، منها: أربعة على الباب، وأربعة عشر على وجه العتبة، والمسامير حديد، ملبسة ذهباً، مقببة منقوشاً، تدوير كل مسمار سبع أصابع، وعود الباب ساج، وغلظه ثلاثة أصابع، وعليه غلق، وعلى الحاجب كتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام}، {محمد رسول الله}.
وعدد المسامير: مائتا مسمار، منها: مائة كبار، والباب حديد ملبسان ذهباً، وفي المصراعين سلوفينتا فضة مموهتان، وفي السلوفينتين لبنتان من ذهب مرتفعتان، وفي طرف السلوفينتين حلقتا ذهب، سعة كل حلقة: ثمان أصابع، وهما حلقتا قفل الباب، وهما على ذراعين وستة عشر أصبعاً من الباب، والقفل حديد مموه.(2/287)
[95] فصلٌ: ذرع الكعبة من داخل
511- طول الكعبة في السماء من داخلها إلى السقف الأسفل: ثمانية عشر ذراعاً واثنا عشر إصبعاً، وعرض جدار التحجير الذي فوق سطح الكعبة: ذراعان واثنا عشر إصبعاً، وعرض جدار التحجير كما يدور: ذراع، وفي التحجير ملبن مربع من ساج في جدرات سطح الكعبة، كما يدور فيه حلق حديد يشد فيها ثياب الكعبة، وظهرها مشيد بالمرمر المطبوخ شيد به تشييداً.
وميزاب الكعبة في وسط الجدار الذي يلي الحجر، بين الركن الشامي والركن الغربي، يسكب في بطن الحجر، وذرع طول الميزاب: أربعة أذرع، وسعته: ثمانية أصابع، في ارتفاع مثلها، والميزاب ملبس بصفائح من ذهب، داخله وخارجه، وكان الذي جعل عليه الذهب: الوليد بن عبد الملك.(2/288)
وذرع داخل الكعبة من وجهها من الركن الذي فيه الحجر الأسود إلى الركن الشامي، وفيه باب الكعبة: تسعة عشر ذراعاً وعشرة أصابع، وذرع ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي -وهو الشق الذي يلي الحجر-: خمسة عشر ذراعاً، وثمانية عشر أصبعاً، وذرع ما بين الركن الغربي إلى الركن اليماني -وهو ظهر الكعبة-: عشرون ذراعاً وستة أصابع، وذرع ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود: ستة عشر ذراعاً وستة أصابع.(2/289)
[96] فصلٌ: في ذرع البيت من خارج
512- طوله في السماء: سبع وعشرون ذراعاً.
وذرع طول وجه الكعبة من الركن الأسود إلى الركن الشامي: خمس وعشرون ذراعاً، وذرع شقها اليمنى من الركن الأسود إلى الركن اليماني: عشرون ذراعاً، وذرع شقها الذي يلي الحجر من الركن الشامي إلى الركن الغربي: واحد وعشرون.
وذرع جميع الكعبة مكسراً: أربعمائة ذراعاً وثمانية عشر ذراعاً.
وذرع نفد جدار الكعبة ذراعان.
والذراع أربعة وعشرون أصبعاً.
قال: والكعبة لها سقفان: أحدهما فوق الآخر.(2/290)
[97] فصلٌ: في الشاذروان حول الكعبة
513- من خارجها في السماء من البلاط المفروش حولها سبعة وعشرون ذراعاً، وعدد حجارة الشاذروان التي حول الكعبة: ثمانية وستون حجراً في ثلاثة أوجه، وفي الشاذروان الذي يلي الملتزم إلى الركن الأسود: ذراعان ليس فيهما شاذروان، طول الشاذروان في السماء: سبعة عشر إصبعاً، وعرضه: ذراع، وطول درجة الكعبة التي يصعد عليها إلى بطن الكعبة من خارج إلى بطن: ثمانية أذرع واثنا عشر إصبعاً، وعرضها ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعاً.
وفيها من الدرج: ثلاثة عشر درجة، ومن خشب الساج، ومن حذاء الشاذروان إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود: ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعاً ليس فيها شاذروان، ومن الشاذروان إلى عتبة الباب أربعة أذرع.(2/291)
[98] فصلٌ: ذكر الكراسي الموجودة في الكعبة
514- وفي الكعبة ثلاثة كراسي من ساج.
طول كل كرسي في السماء: ذراع ونصف.
وعرض كل كرسي منها: ذراع وثمانية أصابع في مثلها.
والكراسي عليها صفائح ذهب، وفوق الذهب: الديباج.
وتحت الكراسي رخام المرمر بقدر سعة الكراسي.
وطول الرخام في السماء: سبعة أصابع.
وعلى الكراسي: أساطين متفرقة.
الأسطوانة الأولى التي على باب الكعبة ثلثها صفائح ذهب وفضة وبقيتها مموهة.
وذرع غلظها: ذراعان واثنا عشر إصبعاً.(2/292)
[99] فصلٌ: في صفة الروازن التي للضوء في سقف الكعبة
515- وفي سقف الكعبة: أربع روازن:
أحدها: حيال الركن الغربي.
والثاني: حيال الركن اليماني.
والثالث: حيال الركن الأسود.
والرابع: حيال الركن الوسطى.
والروازن مربعة، أعلاها رخام يماني، يدخل منه الضوء إلى بطن الكعبة.(2/293)
[100] فصلٌ: في صفة الدرجة
516- وفي الكعبة إذا دخلتها على يمينك درجة يظهر عليها إلى سطح الكعبة، وهي مربعة مع جدري الكعبة في زاوية الركن الشامي، منها داخل في الكعبة، من جدرها الذي فيه بابها ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعاً، وعرضه ذراع واثنا عشر إصبعاً.
وبابها ساج فرد أعسر وعليه صفائح فضة أمر به المتوكل سنة سبع وثلاثين ومائتين.
وطول الدرجة في السماء من بطن الكعبة: عشرون ذراعاً.
وعدد أضفارها ثمانية وأربعون ضفراً.
وعرض الدرجة ذراع وأربعة أصابع، وفي الدرجة ثماني كوى داخلة في الكعبة.(2/294)
[101] فصلٌ: في صفة الجزعة وذرعها
517- وفي البيت جزعة مقابل باب الكعبة، سوداء مخططة ببياض، ذرع سعتها اثنا عشر إصبعاً في مثلها، وحولها طوق من ذهب، ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مقابلتها.
[102] فصلٌ: في صفة الإزار الرخام الأسفل الذي في بطن الكعبة
518- وبطن الكعبة مؤزرة، مدارة من داخلها برخام أحمر وأبيض وأخضر، وألواح ملبسة ذهباً وفضة، وهما إزاران:
إزار أسفل، فيه ثمانية وثلاثون لوحاً، طول كل لوح: ذراعان وثمانية أصابع.
من ذلك: الألواح البيض: أحد وعشرون لوحاً:(2/295)
منها في الجدار الذي بين الركن اليماني سبعة ألواح.
ومنها في الملتزم لوحان.
ومنها في الجدار الذي فيه باب الكعبة ثلاثة ألواح.
ومنها في الجدار الذي يلي الحجر أربعة ألواح.
وعدد الألواح الخضر: تسعة عشر لوحاً:
منها في الجدار الذي بين الركن الغربي والركن اليماني أربعة ألواح.
ومنها في الجدار الذي بين الركن اليماني والركن الأسود أربعة ألواح.
ومنها في الجدار الذي في الباب خمسة.
ومنها في الملتزم لوحان.
ومنها في الجدار الذي يلي الحجر: أربعة.(2/296)
[103] فصلٌ: في صفة الإزار الأعلى
519- وفي الإزار الأعلى الثاني: اثنان وأربعون لوحاً، طول كل لوح: أربعة أذرع وأربعة أصابع، البيض من ذلك: عشرون لوحاً، ومن الحمر: سبعة، ومن الخضر: ستة.
[104] فصلٌ: في صفة فرش أرض البيت بالرخام
520- وأرض الكعبة مفروشة برخام أبيض وأخضر وأحمر، عدد الرخام ستة وثلاثون رخامة، وعند عتبة باب الكعبة رخامتان: خضراء وحمراء مفروشتان.(2/297)
[105] فصلٌ: ذرع ما بين الأساطين
521- ذرع ما بين الجدر الذي يلي الركن الأسود والركن اليماني إلى الأسطوانة الأولى أربعة أذرع واثنا عشر إصبعاً، ومثلها ما بين الأسطوانة الأولى إلى الثانية ومثلها إلى الوسطى، ومثلها إلى الثالثة، ومن الثالثة إلى جدار الحجر: ذراعان وثمانية أصابع.(2/298)
[106] فصلٌ: في عدد أساطين المسجد الحرام
522- من شقه الشرقي: مائة وثلاث أسطوانات.
ومن شقه الغربي: مائة أسطوانة وخمس أسطوانات.
ومن شقه الشامي: مائة وخمسة وثلاثون أسطوانة.
ومن شقه اليماني: مائة واحد وأربعون أسطوانة.
فجميع ما فيه من الأساطين: أربع مائة أسطوانة وأربعة وثمانون أسطوانة، كل أسطوانة: عشرة أذرع، وتدويرها ثلاثة أذرع.
وعدد الأساطين التي على الأبواب من كل ناحية مائة وإحدى وخمسون أسطوانة.
فجميع الأساطين التي في المسجد وعلى الأبواب: ستمائة أسطوانة وخمس وثلاثون أسطوانة.(2/299)
[107] فصلٌ: في عدد الطاقات
523- على الأساطين أربعمائة طاقة وثمان وتسعون طاقة:
منها في الظلال التي تلي دار الندوة: مائة واثنتان وأربعون طاقة.
ومنها في الظلال التي تلي الوادي: مائة وخمس وأربعون طاقة.
ومنها ما يلي المسعى: تسع وتسعون طاقة.
ومنها التي تلي شق بني جمح: مائة واثنا عشر طاقة.
ومنها التي تلي بطن المسجد الحرام: مائة وإحدى وخمسون:
من ذلك مما يلي دار الندوة: ست وأربعون.
ومنها مما يلي دار بني جمح: تسع وعشرون.
ومنها مما يلي الوادي: خمس وأربعون.
ومنها مما يلي المسعى: إحدى وثلاثون.(2/300)
[108] فصلٌ: في عدد أبواب المسجد الحرام
ثلاثة وعشرون باباً:
الأول: باب بني شيبة، وهو الباب الكبير، ويعرف بباب بني عبد شمس في الجاهلية.
الثاني: باب دار القوارير، ويعرف بباب علي رضي الله عنه.
الثالث: باب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي يلي زقاق العطارين الذي فيه حجرة خديجة بنت خويلد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل من ذلك الباب ويخرج منه.
الرابع: باب العباس بن عبد المطلب، وعنده ميل أخضر في المسعى، داخلها منقوشة بالفسيفساء، وهي المعجون التي في أيام الخلفاء من بني أمية.
الخامس: باب بني هاشم: وهو مستقبل الوادي.
السادس باب بني تيم.
السابع: باب أم هانئ بنت أبي طالب، يلي دور عبد شمس بني مخزوم.(2/301)
وهذه الأبواب مما يلي المسعى.
والباب الأول مما يلي أجياد الكبير، وهو يعرف بالوادي، يقال له: باب حكيم ابن حزام -ويعرف بباب الحزامية-.
والباب الثاني يعرف اليوم بباب الخياطين.
والباب الثالث باب بني جمح.
والباب الرابع باب أبي البختري بن هشام.
والباب الخامس يلي دار زبيدة.
والباب السادس باب بني سهم، وفيها باب إبراهيم الذي يذهب منها إلى العمرة، وباب الحزورة.
وفي الشق الذي يلي دار الندوة ودار العجلة -وهو الشق الشامي- وفيه: ستة أبواب:
الباب الأول: يلي المنارة التي تلي بني سهم، يعرف بباب عمرو بن العاص.
والباب الثاني: قد سد، وجعل في دار العجلة، وموضعه بين.
والباب الثالث: باب دار العجلة.
والباب الرابع: باب قعيقعان.
والباب الخامس: باب دار الندوة.(2/302)
والباب السادس: أظنه يقال له: باب الأمير.
وأما الحطيم: فما بين الركن والمقام والبيت وزمزم والحجر.
والملتزم: ما بين الباب والحجر الأسود.(2/303)
[109] فصلٌ: ذكر منى واتساعها أيام الحج وسبب تسميتها بذلك
524- حدثنا محمد بن سهل بن هلال رحمه الله بمكة حرسها الله، ثنا محمد بن نافع، ثنا إسحاق بن أحمد، ثنا أبو الوليد قال: حدثني محمد بن يحيى، ثنا سليم بن مسلم، .. ..(2/304)
عن عبيد الله بن أبي زياد، عن أبي الطفيل قال: سمعت ابن عباس وسئل عن منى فقيل له: عجباً لضيقه في غير الحج؟ فقال: إن منى ليتسع بأهله كما يتسع الرحم بالولد.(2/305)
525- وقال صلى الله عليه وسلم : منى مناخ من سبق.
526- واستأذنت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تبني كنيفاً بمنى فلم يأذن لها.
527- والعرب تسمي كل موضع يجتمع فيه الناس منى، ومن مكة إلى منى أربعة أميال، فرسخ وثلث، وهي من الحرم.
528- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إنما سميت منى منى لما يمنى فيها من الدماء.(2/306)
قال الأستاذ أبو سعد رحمة الله عليه: بت ليلة بمنى في غير أيام الموسم، وكنت ساهراً أكثر الليل أتأذى من البعوض، فلما كان من الغد سألت بعض أهل الحرم عن البعوض بمنى، فقال: جميع السنة يكون كذا إلا أيام منى، فإنه يقل فيها.(2/307)
[110] فصلٌ: ذكر مسجد الخيف وله عشرون باباً
529- حدثنا محمد بن سهل بن هلال البستي بمكة حرسها الله، ثنا محمد ابن نافع، ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد، ثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي، عن عبد المجيد، عن ابن جريج، .. ..(2/308)
عن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قدمنا مكة نزلنا بالخيف -والخيف: مسجد منى-.
ومسجد الخيف مسجد في وسطه منارة، بقرب المنارة قبر آدم عليه السلام، وطول السنة ترى ثم خضرة.(2/309)
530- قال ابن عباس رضي الله عنهما: صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً، كلهم يخطمون بالليف.(2/310)
531- وعن عطاء قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: لو كنت من أهل مكة لأتيت مسجد منى كل سبت.
532- وقال مجاهد رضي الله عنه: حج خمسة وسبعون نبياً، كلهم قد طاف بالبيت، فصلوا في مسجد منى، فإن استطعت أن لا تفوتك الصلاة في مسجد منى فافعل.(2/311)
[111] فصلٌ: في مسجد الكبش
533- قال أبو سعد: وبهذا الإسناد: عن أبي الوليد قال: حدثنا جدي، ثنا داود بن عبد الرحمن، عن ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء إسماعيل -أو: إسحاق- صلوات الله عليه.(2/312)
وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه، وكان مخزوناً حتى فدى الله إسماعيل -أو: إسحاق-، وكان أعين، أقرن، له ثغاء، وكان ابنه الآخر قرب حرثاً فلم يتقبل منه.
[112] فصلٌ: ذكر قصة فداء إسماعيل عليه السلام
534- والقصة: أنه لما وضع إبراهيم عليه السلام المدينة على حلق إسماعيل نودي: على رسلك، هذا فداؤه، فنظر فإذا الكبش منهبط من جبل ثبير، فخلى إسماعيل، وسعى يتلقى الكبش ليأخذه فحاد عنه، فلم يزل يعرض له ويرده حتى أخذه وذبحه في المنحر، فسمي مسجد الكبش.(2/313)
[113] فصلٌ: ذكر المسافة من منى إلى المزدلفة
535- ومن منى إلى مزدلفة: ميلان وكسر، وإن حسبت من أول المزدلفة فهي ثلاثة أميال - ومن آخر مزدلفة إلى مسجد عرفة: ثلاثة أميال، والمزدلفة كلها موقف.
536- قال ابن عباس رضي الله عنهما: حد عرفة من الجبل المشرف إلى بطن عرنة إلى جبال عرنة إلى وصيق إلى ملتقى وصيق ووادي عرنة.(2/314)
[114] فصلٌ: حديث عبد الله بن الزبير بن العوام ومقتله رضي الله عنه
537- أخبرنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي بمكة حرسها الله سنة ست وسبعين وثلاثمائة قال: حدثنا أبو الحسن: محمد بن(2/315)
نافع بن إسحاق الخزاعي بمكة في المسجد الحرام، ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي، ثنا أبو الوليد: محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي قال: حدثني جدي، عن مسلم بن خالد الزنجي، عن يسار بن عبد الرحمن قال: شهدت ابن الزبير حين فرغ من بناء البيت، كساه القبطي وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج، فليعتمر من التنعيم.
قال: فما رأيت يوماً كان أكثر عتيقاً ولا أكثر بدنة منحورة من يومئذ.
538- ذكر ابن جريج قال: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يكسو البيت القباطي.(2/316)
539- أخبرنا أبو عمر رحمه الله، ثنا أبو الحسن، ثنا أبو محمد، ثنا أبو الوليد، قال: أخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي، عن موسى بن يعقوب، عن عمه قال: هدم ابن الزبير البيت حتى وضعه بالأرض، وبناها من أسها، وأدخل الحجر في البيت -وكان قد احترق حين احترق(2/317)
الخشب والحجارة، وانصدع بثلاث فرق، فرأيته منكسراً حتى شده ابن الزبير بالفضة، ثم أدخل الحجر في البيت- ونصب الخشب حول البيت، ثم سترها، وبنوا من وراء الستر حتى بلغ الركن الأسود، فوضعه جوفها، ولطخ جدرها بالمسك حين فرغ منها، وجعل لها بابين موضوعين بالأرض، باباً في وجهها، وباباً بإزائه من خلفها، يدخل من هذا الذي في وجهها ويخرج من الآخر، واعتمر حين فرغ من الكعبة ماشياً مع رجال من قريش وغيرهم، منهم: عبد الله بن صفوان، وعبيد بن عمير.(2/318)
[115] فصلٌ: ذكر سبب بناء ابن الزبير البيت وما كان عليه قبل ذلك
540- أخبرنا أبو عمر، ثنا أبو الحسن، ثنا أبو محمد، ثنا أبو الوليد، قال: حدثني جدي أحمد، عن ابن سالم، عن ابن جريج قال: سمعت غير واحد من أهل العلم ممن حضر ابن الزبير حين هدم الكعبة وبناها، يقول: لما أبطأ عبد الله بن الزبير عن بيعة يزيد بن معاوية وتخلف وخشي منهم، لحق بمكة ليمتنع بالحرم، وحمل مواليه، وجعل يظهر عيب يزيد بن معاوية ويشتمه ويذكر شربه الخمر وغير ذلك ويثبط الناس عنه، وكان يجتمع إليه الناس فيقوم فيهم بين الأيام، فيذكر مساوئ بني أمية فيطنب في ذلك، فبلغ ذلك يزيد بن معاوية فأقسم أن لا يؤتى به إلا مغلولاً، فأرسل إليه رجلاً من أهل الشام في خيل من خيل الشام، فعظم على ابن الزبير الفتنة، .. ..(2/319)
وقالوا: لا يستحل الحرم بسببك فإنه غير تاركك ولا تقوى عليه، وقد لج في أمرك، وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولاً، وقد عملت لك غلاً من فضة، وتلبس فوقه الثياب، وتبر قسم أمير المؤمنين، فالصلح خير عاقبة وأجمل بك وبه.
فقال: دعوني أياماً حتى أنظر في أمري، فشاور أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق في ذلك، فأبت عليه أن يذهب مغلولاً، وقالت: يا بني عش كريماً ومت كريماً، ولا تمكن بني أمية من نفسك فتلعب بك، فالموت أحسن من هذا.
قال: فأبى عليهم أن يذهب إليه في غل، وامتنع في مواليه ومن تآلف إليه من أهل مكة وغيرهم، وكان يقال لهم: الزبيرية، فبينما يزيد على بعثة الجيوش إليه، إذ أتى يزيد خبر أهل المدينة وما فعلوا بعامله ومن كان معه بالمدينة من بني أمية وإخراجهم إياه منها إلا ما كان من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجهز إليهم يزيد: مسلم بن عقبة المري في أهل الشام، وأمره بقتال أهل المدينة، فإذا فرغ من ذلك سار إلى ابن الزبير بمكة -وكان مسلم مريضاً، في بطنه الماء الأصغر، فقال له يزيد: إن حدث بك الموت فول الحصين بن نمير الكندي على جيشك- فسار حتى قدم المدينة فقاتلوه أهل المدينة، فقاتلهم فظفر بهم، ودخلها، فقتل من(2/320)
قتل منهم، وأسرف في القتل -فسمي بذلك مسرفاً- ونهب المدينة ثلاثاً.
ثم سار إلى مكة، فلما كان ببعض الطريق حضرته الوفاة، فدعا الحصين بن نمير فولاه ذلك، وقلده، ومضى الحصين إلى مكة، فقاتل بها ابن الزبير أياماً، وجمع ابن الزبير أصحابه، فتحصن بهم في المسجد الحرام وحول الكعبة، وضرب أصحاب ابن الزبير في المسجد الحرام خياماً ورواقاً يكنون فيها من حجارة المنجنيق، ويستظلون فيها من الشمس.
وكان الحصين بن نمير الكندي قد نصب لهم المنجنيق على أبي قبيس وعلى الأحمر -وهما أخشبا مكة- فكان يرميهم بها فتصيب الحجارة الكعبة حتى تحرقت كسوتها عليها فصارت كأنها جيوب النساء، فوهن الرمي بالمنجنيق الكعبة، فذهب رجل من أصحاب ابن الزبير يوقد ناراً في بعض تلك الخيام مما يلي الصفا بين الركن الأسود والركن اليماني والمسجد يومئذ ضيق صغير، فطارت شررة في الخيمة فاحترقت، وكانت في ذلك اليوم رياح شديدة، والكعبة يومئذ مبنية ببناء قريش مدماكاً من ساج ومدماكاً من حجارة، من أسفلها إلى أعلاها، وعليها الكسوة،(2/321)
فطارت الرياح بلهب تلك النار فأحرقت كسوة الكعبة، فاحترق الساج الذي بين البناء.
وجاء النعي بموت يزيد بن معاوية، فلما احترقت الكعبة، واحترق الركن الأسود وتصدع -وكان ابن الزبير بعد ربطه بالفضة- ضعفت جدران الكعبة حتى إنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها ويقع الحمام عليها فتتناثر حجارتها، وهي مجردة متوهنة من كل جانب، ففزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعاً، فشاور ابن الزبير أشراف أهل مكة ووجوههم، فأشار بعضهم عليه بهدمها وأبي أكثرهم هدمها، ثم أجمع على هدمها وبنائها.(2/322)
وكان رضي الله عنه يحب أن يكون هو الذي يردها على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على قواعد إبراهيم وعلى ما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة.
فأراد أن يبنيها بالورس، وهم أن يرسل إلى اليمن في ورس يشترى له، فقيل له: إن الورس ينفت ويذهب، ولكن ابنها بالفضة، فسأل عن الفضة فأخبر أن فضة صنعاء هي الأجود، فأرسل إلى صنعاء بأربعمائة دينار يشتري له بها فضة ويكترى عليها، ثم سأل رجالاً من أهل مكة: من أين أخذت قريش حجارتها؟ فأخبروها بمقلعها، فنقل له من الحجارة قدر ما يحتاج إليه، فلما اجتمعت الحجارة وأراد هدمها خرج أهل مكة منها إلى منى، فأقاموا بها ثلاثاً فرقاً من أن ينزل عليهم عذاب لهدمها.
فأمر ابن الزبير بهدمها فما اجترأ على ذلك أحد، فلما رأى ذلك علاها هو بنفسه، وأخذ المعول، وجعل يهدمها ويرمي بحجارتها، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا، فصعدوا فهدموا. وأرسل عبد الله بن(2/323)
عباس إلى عبد الله بن الزبير: لا تدع الناس يصلوا إلى غير قبلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب، واجعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها، ففعل ذلك ابن الزبير.
وقال ابن الزبير: أشهد لسمعت عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن قومك استقصروا في بناء البيت، وعجزت بهم النفقة فتركوا في الحجر منها أذرعاً، ولولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة، وأعدت ما تركوا منها، ولجعلت لها بابين موضوعين بالأرض، باباً شرقياً يدخل منه الناس، وباباً غربياً يخرج منه الناس، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ -قالت: قلت: لا،- قال: تعززاً أن لا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعونه أن يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط، فإن بدا لقومك هدمها فهلمي لأريك ما تركوا في الحجر منها، فأراها قريباً من سبعة أذرع)).
فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسواها بالأرض، كشف عن أساس(2/324)
إبراهيم، فوجدوه داخلاً في الحجر نحواً من ستة أذرع وشبر، كأنها أعناق الإبل، آخذ بعضها ببعض، كتشبك الأصابع بعضها ببعض.
قال: فدعا ابن الزير خمسين رجلاً من وجوه الناس وأشرافهم فأشهدهم على ذلك الأساس ثم وضع البناء على ذلك الأساس، ووضع جدار الباب -باب الكعبة- على مدماك على الشاذروان اللاصق بالأرض، وجعل الباب الآخر بإزائه في ظهر الكعبة، مقابله، وجعل عتبته على الحجر الأخضر الطويل الذي في الشاذروان الذي في ظهر الكعبة قريباً من الركن اليماني فكان البناء يبنون من وراء الستر، والناس يطوفون من خارج، فلما ارتفع البنيان إلى موضع الركن أمر ابن الزبير بموضعه فنقر في حجرين: حجر من المدماك الذي تحته، وحجر من المدماك الذي فوقه بقدر الركن، وطوبق بينهما.(2/325)
فلما فرغوا منه أمر ابن الزبير ابنه عباد بن عبد الله بن الزبير، وجبير بن شيبة بن عثمان أن يجعلوا الركن في ثوب ويضعوه في موضعه.
وكان ابن الزبير حين هدم البيت جعل الركن في ديباجة، وأدخله في تابوت وأقفل عليه، ووضعه عنده في دار الندوة.
فلما أقروه في موضعه، وطوبق عليه الحجران كبروا.(2/326)
ثم قال ابن الزبير: من كانت لي عليه طاعة فليخرج، فليعتمر من التنعيم، ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل، ومن لم يقدر على بدنة فليذبح شاة، ومن لم يقدر فليتصدق بقدر طوله.
وخرج ابن الزبير ماشياً، وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمروا من التنعيم شكراً لله تعالى، ولم ير يوماً كان أكثر عتيقاً، ولا أكثر بدنة(2/327)
منحورة ولا شاة مذبوحة ولا صدقة من ذلك اليوم، ونحر ابن الزبير مائة بدنة.
قال: فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير، إذا طاف الطائف استلم الأركان جميعاً، ويدخل البيت من هذا الباب ويخرج من الآخر، وأبوابه لاصقة بالأرض، حتى قتل ابن الزبير ودخل الحجاج مكة، فكتب إلى عبد الملك بن مروان أن ابن الزبير زاد في بيت الله ما ليس منه، وأحدث فيه باباً آخر، فكتب إليه عبد الملك أن سد بابها الغربي الذي كان فتحه ابن الزبير، وأهدم ما كان زاد فيه من الحجر، واكبسها به على ما كانت عليه.
قال: فهدم الحجاج منها: ستة أذرع وشبراً مما يلي الحجر، وبناها على أساس قريش التي كانت استقصرت عليه، وكبسها بما هدم منها، وسد الباب في ظهرها، وترك سائرها لم يحرك منه شيئاً.(2/328)
541- قيل: لما مات مروان ثم دعا عبد الملك إلى نفسه وقام(2/329)
فأجابه أهل الشام، خطب الناس على المنبر فقال: من لابن الزبير منكم؟ فقال الحجاج بن يوسف: أنا يا أمير المؤمنين، فأسكته ثم عاد، فأسكته، فقال: أنا يا أمير المؤمنين، فإني رأيت في المنام أني انتزعت جبته فلبستها، قال: فعقد له، ووجهه في الجيش إلى مكة، حتى وردوا على ابن الزبير وقاتله بها، فقال ابن الزبير: احفظوا هذين الجبلين، فإنكم لن تزالوا أعزة ما لم يظهروا عليهما.
فلم يلبثوا أن ظهر الحجاج ومن معه على أبي قبيس ونصب المنجنيق عليه، فكان يرمي ابن الزبير ومن معه في المسجد.
فلما كانت الغداة التي قتل فيها ابن الزبير، دخل ابن الزبير بسحر على أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وهي يومئذ ابنة مائة سنة، لم يسقط لها سن، ولم يفسد لها بصر، فقالت أمه: يا عبد الله ما فعلت في حربك؟ قال: بلغوا مكان كذا وكذا، وضحك ابن الزبير وقال: إن في الموت لراحة، فقالت له: يا بني لعلك تتمناه لي، فما أحب أن أموت حتى تأتي على أحد طرفيك: إما أن تملك فتقر بذلك عيني، وإما أن تقتل فأحتسبك، قال ابن الزبير: إني أخشى أن يمثل بي، قالت: يا بني إن الشاة إذا ذبحت لا تحس بسلخها.
قال: ثم ودعها وخرج من عندها، ودخل المسجد وجعل يهيء أشياء يستر بها الحجر أن يصيبه المنجنيق.
قال: فقيل له: ألا تكلمهم الصلح؟ قال: أو حين الصلح هذا؟ والله لو وجدوكم في جوفها لذبحوكم جميعاً -يعني: الكعبة- ثم أنشأ يقول:(2/330)
ولست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما
أبى لي ابن سلمى أنه غير بارح ... ملاق المنايا أي صرف تيمما
ثم أقبل على آل الزبير يعظهم ويقول: ليكن أحدكم سيفه كما يكن وجهه لئلا يفسد سيفه، فيدفع عن نفسه بيده كأنه امرأة، والله ما لقيت زحفاً قط إلا كنت في الرعيل الأول، ولا ألمت جرحاً قط، إلا كان مر الدواء أشد.
قال: فينا هو كذلك إذ دخل عليه نفر من باب بني جمح فيهم أسود فقال: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء أهل حمص، فحمل عليهم ومعه سيفان، فأول من لقيه الأسود فضربه بسيفه حتى أطن رجله، فقال الأسود: يا ابن الزانية، فقال له ابن الزبير: اصبر يا ابن حام، أسماء زانية؟ ثم أخرجهم من المسجد وانصرف، فإذا بقوم دخلوا من باب بني سهم، فقال: من هؤلاء؟ قيل: أهل الأردن، فحمل عليهم وهو يقول:
لا عهد لي بغارة مثل السيل ... لا ينجلي غبارها حتى الليل
فأخرجهم من المسجد، ثم رجع فإذا بقوم قد دخلوا من باب بني مخزوم، فحمل عليهم وهو يقول:
لو كان للدهر بلى أبليته ... أو كان قرني واحداً كفيته
قال: وعلى ظهر المسجد من أعوانه من يرمي عدوه بالآجر، قال فحمل عليهم فأصابت آجرة في مفرقه حتى قلقت رأسه، فوقف قائماً وهو يقول:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا يقطر الدما
قال: ثم رجع، فأكب عليه موليان له يقاتلان عنه وهما يقولان:
العبد يحمي ربه ويحتمي، حتى قتلا.
ثم ساروا إليه، فحز رأسه رضي الله عنه.(2/331)
442- وروى صالح بن الوليد الرياحي قال: أخبرتني جدتي قالت: كنت عند أسماء إذ جاءها عبد الله بن الزبير فقال لها: إن هذا الرجل قد نزل بنا في أربعين ألفاً من أهل الشام، وهو رجل من ثقيف يسمى الحجاج، وقد نالنا نبلهم ونشابهم، وقد أرسل يخيرني بين ثلاث: بين أن أهرب في الأرض فأذهب حيث شئت، أو أضع يدي في يده فيبعث بي موقراً إلى الشام، وبين أن أقاتل حتى أقتل، فقالت: سمعت خليلي أبا القاسم صلوات الله وسلامه عليه يقول: إن في ثقيف مبيراً وكذاباً، وإني لا أراه إلا المبير، اذهب بعض كريماً، ومت كريماً.
قال: فذهب ونشر المصحف، واستند إلى الكعبة حتى قتل.
543- وعن عروة: أن حصين بن نمير الكندي، الشامي، لما سار إلى مكة في قتال ابن الزبير، ضرب ابن الزبير فسطاطاً في المسجد، فكان فيه نساء يسقين الجرحى ويداوينهم، ويطعمن الجائع، ويشتكي إليهن المجروح، فقال حصين: ما يزال يخرج علينا من هذا الفسطاط أسد، كأنما يخرج من عرينه فمن يكفينه؟ فقال رجل من أهل الشام: أنا، فلما جن عليه الليل وضع شمعة في طرف رمح ثم ضرب فرسه حتى طعن(2/332)
الفسطاط، قال: فالتهب ناراً، والكعبة يومئذ مؤزرة بالطنافس، وعلى أعلاه الحبرة، قال: فطارت الريح باللهب على الكعبة حتى احترقت الكعبة، واحترق فيها يومئذ قرنا الكبش الذي فدي به إسماعيل.
قال: فهرب حصين بن نمير لما رأى الحريق، ولحق بالشام.
ومات يزيد بن معاوية بالشام، فقام من بعده مروان بن الحكم، ودعا إلى نفسه، فأجابه أهل حمص وأهل الأردن وفلسطين، قال: فوجه إليه ابن الزبير الضحاك ابن قيس بن مزاحم في مائة ألف، والتقوا بمرج راهط، قال: ومروان يومئذ في خمسة آلاف من بني أمية ومواليهم وأتباعهم من أهل الشام، فقال مروان لمولى له يقال: ابن أركن: احمل على أي الطرفين شئت، قال: وكيف يحمل على هؤلاء في كثرتهم؟ قال: هم بين مكره ومستأجر، احمل عليهم فيكفيك إضعان الماضع الحجر، فحملوا عليهم فهزمهم مروان، وقتل منهم جملة، وقد مر ذكره.
ثم مات مروان فدعا عبد الملك بن مروان إلى نفسه، وقام فأجابه أهل الشام، فخطب الناس على المنبر فقال: من لعبد الله بن الزبير، .. .. وقد مر ذكره.
544- قال محمد بن سيرين: لما أتى عبد الله بن الزبير برأس المختار ووضع بين يديه قال: ما من شيء حدثني به كعب إلا وقد رأيته إلا أنه قال لي يقتلك شاب من ثقيف.
قال ابن سيرين: ولا يدري ابن الزبير أن أبا محمد قد خبئ له -يعني: الحجاج بن يوسف-.(2/333)
545- وعن محمد بن زيد بن عبد الله بن الخطاب قال: إني لأنظر إلى المنجنيق فوق أبي قبيس، فرموا، إذ جاءت سحابة سوداء كأنها غمامة سوداء، فالتفت بالمنجنيق فأحرقته ومن حوله.
546- وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم، فأمر عبد الله بن الزبير أن يغيب دمه، فأخذه عبد الله بن الزبير فشربه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد احتظرت بحظار شديد من النار، ولكن ويل لك من الناس، وويل للناس منك.(2/334)
547- ولما قتل عبد الله بن الزبير علم جميع أهل مكة بقتله لما شموا من ريح المسك، فغاظ ذلك الحجاج بن يوسف، فأمر حتى علق مع عبد الله بن الزبير كلباً لتغلب رائحة الميتة ذلك.
548- وعن محمد بن زيد العمري قال: لما نصب الحجاج المنجنيق على ابن الزبير فوق أبي قبيس، قال: جعلت الصواعق تقع من كل مكان، فقال الحجاج: لا يهولنكم، فإنما هي صواعق تهامة، قال: فأنا نظرت إليها أقبلت من السماء كأنها مخراق فطحطحهم كلهم.
549- وقيل: لما قتل الحجاج ابن الزبير ثم صلبه على عقبة(2/335)
المدينة كأنه يصغر بذلك قريشاً قال: فجعلت قريش تمر به والناس، حتى مر به عبد الله بن عمر فوقف فقال: السلام عليك أبا خبيب -ثلاث مرات- ثم قال: أما والله لقد نهيتك عن هذا، أما والله ما علمتك إلا صوماً قواماً وصولاً للرحم، أما والله إن أمة أنت شرها لأمة صدق، ثم قعد.
ثم أرسل الحجاج إلى أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق بعدما ذهب بصرها أن تأتيه، فأبت أن تأتيه، فأعاد إليها الرسول، أما والله لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك حتى يأتيني بك، فأعادت إليه الرسول، فقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني، قال: إذاً آتي ستي، فانطلق حتى دخل عليها فقال: كيف رأيتني ما صنعت بعبد الله بن الزبير؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، ولقد بلغني أنك كنت تعيره وتقول: يا ابن ذات النطاقين، أما أحدهما فنطاق كنت أرفع فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي طعامهما من الدواب أن تصيبه، وأما النطاق الآخر فنطاق المرأة الذي لا تستغني عنه، فبأي ذينك لا أم لك تعيره؟ قالت أسماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف مبيراً وكذاباً، فأما الكذاب فقد رأيته، وأما المبير فلا أجدك إلا إياه، فخرج ولم يرد عليها.(2/336)
550- وقيل: لما قتل عبد الله بن الزبير كبر أهل الشام، فسمعها عبد الله بن عمر قال: لئن كبر القتلة، لقد قدمنا المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت اليهود: قد سحرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فليس يولد لهم، فكان أول مولود ولد في الإسلام عبد الله بن الزبير، فكبر المسلمون بولادته تكبيرة.
551- وقيل: إن عبد الله بن عمر لما نظر إلى عبد الله بن الزبير وقد صلب منكوساً، قال عبد الله: لئن علت رجلاك، لطالما قمت بها في الصلاة.
قال: فبلغ الحجاج موقف ابن عمر وقوله، فبعث إليه فأنزله عن جذعه، فأمر به فطرح في مقبرة اليهود.
552- وعن بكر بن عبد الله المزني، أن يهودياً أسلم يقال له يوسف -وكان يقرأ الكتب، وكان صديقاً لعبد الملك- فضرب منكب(2/337)
عبد الملك ذات يوم وقال: اتق الله يا ابن مروان في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا وليتها، قال: فدفعه وقال: ما شأني وذاك، أيكون هذا؟ قال: اتق الله في أمرهم إذا وليتهم، فجهز يزيد بن معاوية جيشاً إلى أهل مكة، فأخذ عبد الملك بقميصه فنفضه وقال: أعوذ بالله، أعوذ بالله، أتبعث إلى حرم الله؟! فضرب يوسف منكبه وقال: ما تنفض قميصك!! جيشك إليهم أعظم من جيش يزيد بن معاوية.
553- وعن نافع قال: رأيت ابن عمر رافعاً يديه إلى السماء وهو يقول: اللهم إني لا أرضى بما يصنع الحجاج.
554- وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن العقوبة إذا نزلت عمت البر والفاجر، والحساب يوم القيامة على النيات.
555- أبو العالية البراء قال: أتى ابن عمر على ابن الزبير فقال: رحمة الله عليك، أما والله ما علمتك إلا كنت صواماً قواماً، تحب الله ورسوله.
قال: فأتى رجل الحجاج فأخبره بكلام ابن عمر، فقال الحجاج(2/338)
لرجل من أهل الشام: انطلق وائتني برأس ابن عمر، قال: فسكت الشامي هنيهة، ثم قال: أصلح الله الأمير، إن أذنت لي تكلمت، قال: تكلم، قال: هذا رجل إنما أعين الناس إليه اليوم، وإني أخشى أن تكون فتنة لا تطفأ أبداً، قال: فدعه.
قال: فأرسل إليه بعشرة آلاف درهم فقبلها ابن عمر، ثم تركها أياماً، ثم أرسل إليه أن ابعث إلينا بمالنا، فقال ابن عمر: قد فرقنا بعضه، ونحن مهيؤوه إن شاء الله، فأتاه الرسول فأخبره فقال: ارجع فقل: لا حاجة لنا به.
556- وروى أبو يوسف: محمد بن الزبير مؤذن مسجد عسقلان قال: حدثتني جدتي قالت: وضع الحجاج المنجنيق على الكعبة، فكانت الحجارة تخرج يميناً وشمالاً لا تصيبه، حتى جاء يهودي فقال: لا تصيبوه حتى تلطخوه بالعذرة والجيف، فرموه بها فأصابوه بعد ذلك.
557- وروى أبو حفص المكي، عن المرتفع قال: لما وضع الحجاج المنجنيق على ابن الزبير سمعت بالبيت أنيناً كأنين الإنسان: آه، آه.(2/339)
558- وروى محمد بن كثير الصنعاني رحمه الله، عن جده عبد الرحمن بن أبي عطاء أنه شهد فتنة ابن الزبير، فاشتغل الناس عن الطواف، فجاء جمل فجعل يطوف بالبيت، حتى طاف سبعاً.(2/340)
[116] باب: ذكر الهجرة وحديث الغار
559- أخبرنا أبو عبد الله التميمي بين المسجدين مكة والمدينة حرسهما الله تعالى، قال: حدثنا ابن الأعرابي، ثنا محمد بن علي بن زيد، ثنا محمد بن عبد الجبار الهمداني، .. ..(2/341)
ثنا شبابة بن سوار، ثنا فرات بن السائب، عن ميمون بن مهران قال:
كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إذا خطب بالبصرة يوم الجمعة -وكان واليها- صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ثنى بعمر بن الخطاب يدعو له، فيقوم ضبة بن محصن العنزي فيقول: فأين أنت عن ذكر صاحبه قبله؟ -يعني: أبا بكر الصديق رضي الله عنه- ثم قعد، فلما فعل ذلك مراراً، كتب أبو موسى إلى عمر رضي الله عنه: .. ..(2/342)
إن ضبة بن محصن يطعن علينا، ويفعل كيت وكيت، فكتب عمر إلى ضبة يأمره بأن يخرج إليه، فبعث به أبو موسى رضي الله عنه.(2/343)
فلما قدم ضبة إلى المدينة على عمر رضي الله عنه قال له الحاجب: ضبة العنزي بالباب فأذن له، فلما أقبل قال: لا مرحباً بضبة ولا أهلاً. قال: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل ولا مال، فعلام يا أمير المؤمنين استحللت إنهاضي من بلادي بلا جرم أتيته ولا جناية؟ فأطرق عمر رضي الله عنه طويلاً، ثم قال عمر: هل أنت واهب ذنبي إليك؟ قال: قد غفر الله لك يا أمير المؤمنين.
قال: ما أغضب أميرك عليك؟؟ فأخبره الخبر: أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثنى بك فكنت أقول له: فأين أنت عن ذكر صاحبه قبله وفعله؟
فعاد عمر رضي الله عنه فبكى ثم قال: أنت والله أوفق منه وأصوب، والله ليومٌ وليلةٌ من أبي بكر خير من عمر ومن آل عمر منذ يوم ولد إلى أن يبعث، ألا أنبئك بيومه وليلته؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، فقال:
أما ليلته: فإنه لما خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى الغار جعل يمشي طوراً أمامه وطوراً خلفه وطوراً عن يمينه وطوراً عن شماله، قال صلى الله عليه وسلم : ما هذا من فعالك يا أبا بكر، قال: يا رسول الله صلى الله عليك بأبي وأمي أذكر الرصد فأحب أن أكون أمامك، وأتخوف الطلب فأحب أن أكون خلفك، وأحفظ الطريق يميناً وشمالاً، فقال: لا بأس عليك يا أبا بكر إن الله معنا، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مخمص القدم يطأ(2/344)
بجميع قدمه الأرض، وكان حافياً، فحفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمله أبو بكر على كاهله حتى انتهى إلى الغار، فلما وضعه ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل الغار، فقال أبو بكر: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله فأستبرئه قبلك، فدخل أبو بكر رضي الله عنه فجعل يلتمس بيده في ظلمة الليل الغار مخافة أن يكون فيه شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما لم ير شيئاً دخل النبي صلى الله عليه وسلم فكانا فيه، فلما أسفر بعض الإسفار، رأى أبو بكر خرقاً في الغار فألقمه قدمه حتى الصباح مخافة أن يخرج منها هامة أو ما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فهذه الليلة.
وأما اليوم: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض واستخلف أبو بكر، رجع من رجع من الناس إلى الكفر، أتيته لا آلوه إلا نصحاً، فقلت: يا خليفة رسول الله ارفق بالناس وتألفهم فإنهم كالوحش، قال: يا عمر رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك، إنك خوار في الجاهلية خوار في الإسلام،(2/345)
زعمت أن أتآلفهم! أفبسحر مفترى أم شعر مفتعل؟! هيهات، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقرض الوحي، والله لأضربنهم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء إن منعوني عقالاً.(2/346)
560- أخبرنا أبو بكر: أحمد بن يعقوب بن عبد الجبار بن بغاطرة بن مصعب بن سعيد -قدم علينا في شهور سنة سبع وستين وثلثمائة رحمه الله- قال:(2/347)
أخبرنا أبو خليفة: الفضل بن حباب الجمحي بالبصرة سنة ثلاث وثلاثمائة، قال: سمعت عبد الله بن رجاء أبا عمر الغداني يقول: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقول: اشترى أبو بكر بن عازب رحلاً بثلاثة عشر درهماً، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمله إلى أهلي، فقال له عازب: لا، حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم.(2/348)
قال: ارتحلنا من مكة فأحيينا ليلتنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه، فإذا أنا بصخرة فانتهيت إليها فإذا بقية ظلها، فنظفت تلك البقية فسويته، ثم فرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قلت: اضطجع، ثم ذهبت أنظر هل أرى من الطلب أحداً؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذي أريد من الظل فسألته وقلت: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من قريش، فسماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: بلى، فقلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، وقلت:(2/349)
انفض ضرعها من الغبار وانفض كفيك، فقال: بهما هكذا -فضرب بإحدى يديه على الأخرى- فحلب كثبة من لبن، وكنت تزودت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة فصببته على اللبن حتى برد أسفله، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله فشرب حتى روي، وشربت حتى رويت، فقلت: قد آن الرحيل يا رسول الله.
فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت، فقال: لا تخزن إن الله معنا، فلما دنا وكان بيننا وبينه قيد رمحين أو ثلاثة، قلت: هذا الطلب يا رسول الله قد لحقنا، وبكيت فقال: ما يبكيك؟ قلت: أما والله ما أبكي على نفسي، ولكن أبكي عليك، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: اللهم اكفناه بما شئت، قال: فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها، فوثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهماً فإنك ستمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حاجة لنا في إبلك، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق راجعاً إلى أصحابه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى أتينا المدينة ليلاً فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أنزل على بني النجار أخوال(2/350)
عبد المطلب أكرمهم بذلك، فخرج الناس حتى قدمنا المدينة، وفي الطريق وعلى البيوت الغلمان والخدم، ويقولون: جاء محمد، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الله أكبر، جاء محمد، جاء رسول الله، فلما أصبح انطلق حتى نزل حيث أمر.
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله عز وجل: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلةً ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام}، فوجه نحو الكعبة، فقال السفهاء من الناس -وهم اليهود-: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله عز وجل: {قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ}، وكان صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل فخرج بعد ما صلى، فمر على قوم من الأنصار وهم ركوع في العصر نحو بيت المقدس فقال: أشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه قد توجه نحو الكعبة.
فقال البراء بن عازب: وكان أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير بن هاشم أخو بني عبد الدار بن قصي، قلنا له: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: هو مكانه وأصحابه على أثري، ثم أتانا بعده عمرو ابن أم مكتوم الأعمى أخو بني فهر، فقلنا له: ما فعل من ورائك؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ قال: هم على أثري، ثم أتانا بعده عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وبلال، ثم أتانا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عشرين راكباً، ثم أتانا بعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه، قال البراء: فلم يقدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سوراً من المفصل، ثم خرجنا نلقى العير فوجدناهم قد حذروا.(2/351)
561- روى مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فعطش أبو بكر عطشاً شديداً، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اذهب إلى صدر الغار فاشرب.
قال أبو بكر: فانطلقت إلى صدر الغار فشربت ماءاً أحلا من العسل وأبيض من اللبن وأذكى رائحة من المسك، ثم عدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: شربت؟ فقلت: شربت يا رسول الله، قال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنان: أن اخرق نهراً في جنة الفردوس إلى صدر الغار ليشرب أبو بكر.
قال أبو بكر: ولي عند الله هذه المنزلة؟ قال: نعم وأفضل، والذي بعثني بالحق نبياً لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان له عمل سبعين نبياً.
562- روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: بينا نحن جلوس في بيت أبي بكر رضي الله عنه وقت الظهيرة إذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم مقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فاستأذن فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت وأمي، قال: فإنه قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم، قالت عائشة رضي الله عنها فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر(2/352)
قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين.(2/353)
[117] فصلٌ: حديث أم معبد الخزاعية، وفيه: وصف حلية النبي صلى الله عليه وسلم
563- حدثنا أبو أحمد: الحسين بن علي بن محمد بن يحيى التميمي -قراءة عليه في سنة ستين وثلاثمائة-، قال: أخبرني أبو محمد: عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، ثنا أبي، ثنا بشر بن محمد بن أبان بن مسلم الواسطي السكري أبو أحمد ببغداد سنة ثلاث وعشرين ومائتين قال: حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي .. ..(2/354)
عن الحر بن الصياح النخعي، عن أبي معبد الخزاعي قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة هاجر من مكة إلى المدينة، هو وأبو بكر الصديق وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ودليلهم عبد الله ابن الأريقط الليثي، فمروا على خيمتي أم معبد الخزاعية -وكانت امرأة برزة جلدة، تحتبي، وتجلس بفناء الخيمة، وتطعم وتسقي-، فسألوها تمراً ولحماً ليشتروه فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وإذا القوم مرملون مسنتون.
فقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى.(2/355)
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كسر خيمتها فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذاك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلباً فاحلبها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح ضرعها، وذكر اسم الله وقال: اللهم بارك لها في شاتها، فتفاجت، ودرت فاجترت، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء لها يربض الرهط، فحلب فيه ثجاً حتى علته الثمال، فسقاها فشربت حتى رويت، ثم سقى أصحابه فشربوا حتى رووا، فشرب صلى الله عليه وسلم آخرهم، وقال: ساقي القوم آخرهم شرباً، فشربوا جميعاً عللاً بعد نهل، حتى أراضوا، ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء، فغادره عندها، ثم ارتحلوا عنها.(2/356)
قال: فقل ما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً حيلاً عجافاً، يتساوكن هزلاً، مخهن قليل، لا نقي بهن، فلما رأى اللبن قال: من أين لكم هذا والشاء عازب ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، قال: والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب، صفيه لي يا أم معبد؟ قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، مليح الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزريه صعلة، وسيم قسيم، .. ..(2/357)
في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور أكحل، أزج أقرن، شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، كأن كلامه خرزات نظم ينحدرن منه، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، .. ..(2/358)
ربعة لا تشنؤه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
قال: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولو كنت وافقته لالتمست أن أصحبه، ولأفعلنه إن وجدت إلى ذلك سبيلاً.
قال: وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقوله، وهو يقول:(2/359)
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيا لقصي ما زوى الله عنكم به ... من فعال لا تجازي وسؤيد
سلوا أختكم عن شاتها ... وإنائها فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
أتاها بشاة حائل فتحلبت له ... بصريح ضرة الشاة مزبد
فغادره رهناً لديها لحالب ... يدر لها في مصدر ثم مورد
قال: فأجابه حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقد سر من يسري إليهم ويفتدي
ترحل عن قوم فزالت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد
وهل يستوي ضلال قوم تسكعوا ... عمي وهداة يهتدون بمهتد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد(2/360)
وإن قال في يوم مقالة غايب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد
ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد
ويهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد(2/361)
564- قال أنس رضي الله عنه: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة أظلم فيها كل شيء، فلما دخل المدينة أضاء منها كل شيء.
قال أنس: رأيت يوم دخل عليها ويوم قبض فيما رأيت يومين شبيهين بهما.(2/364)
[118] باب ذكر مقدم النبي صلى الله عليه وسلم قباء، وبناء المسجد
565- قال: فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قام إليه المنذر بن عمرو وأبو دجانة وجماعة من أشرافهم يقولون: هلم يا رسول الله إلى العز والثروة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بارك الله عليكم، خلوا سبيلها فإنها مأمورة، حتى جاء إلى باب أبي أيوب فبركت ناقته هناك، فجاء جبار بن صخر فنخسها بالرحل فقال أبو أيوب: أعن منزلي تنحيها، فما؟ والذي بعثه بالحق لولا الإسلام لضربتك بالسيف.
وجاء القوم يكلمونه في النزول عليهم، فحطت أم أيوب رحله، وأدخلته بيتها فقال صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك: المرء مع رحله، ونزل في سفل بيت أبي أيوب.
وذكر أبو أيوب أنه لم يزل تلك الليلة ساهراً حتى أصبح، فقال: يا رسول الله إني أخشى أن أكون ظلمت نفسي؛ أن أمشي فوق(2/365)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فينتثر التراب من تحت أقدامنا، ونحن أطيب نفساً إن كنا تحتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : السفل أرفق بنا ولمن يغشانا، قال: فلم يزل به أبو أيوب يتضرع إليه حتى انتقل إلى العلو.
566- وعن عبد الرحمن بن عبد العزيز قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/366)
على سعد بن خيثمة، وأخذ من كلثوم بن الهدم مربده، فجعله مسجداً، وأسسه، وصلى فيه إلى بيت المقدس، وكان مدخله قباء يوم الاثنين،(2/367)
وخروجه منه الجمعة، الثامن عشر من ربيع الأول.(2/368)
567- قال: ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني عمرو بن عوف -وقد كان بين الأوس والخزرج ما كان من العداوة- كانت الخزرج تخاف أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأوس، وكانت الأوس تخاف أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الخزرج، وكان أسعد بن زرارة قد قتل نبتل بن الحارث يوم بعاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين أسعد بن زرارة؟ فقال سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد المنذر ورفاعة بن عبد المنذر: يا رسول الله أصاب منا رجلاً يوم بعاث.
فلما كانت ليلة الأربعاء جاء أسعد بن زرارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم متقنعاً بين المغرب والعشاء، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا أمامة جئت من منزلك إلى ما هاهنا وبينك وبين القوم ما بينكما؟ فقال أبو أمامة: لا والذي بعثك بالحق، ما كنت لأسمع بك في مكان إلا جئتك، ثم بات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح ثم غدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن خيثمة ورفاعة ومبشر ابني عبد المنذر: أجيروه، قالوا: أنت يا رسول الله(2/369)
فأجره فجوارنا من جوارك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يجيره بعضكم، فقال سعد بن خيثمة: هو في جواري، ثم ذهب سعد بن خيثمة إلى أسعد بن زرارة في بيته فجاء به مخاصرة يده في يده ظهراً حتى انتهى به إلى عمرو بن عوف، ثم قالت الأوس: يا رسول الله كلنا لك جار.
قال: فكان أسعد بن زرارة بعد يغدو ويروح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل من قباء.
568- وقال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، قال: فأتيته فلما نظرت إليه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يقول: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام.(2/370)
[119] باب ما جاء في إتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، وفضله
569- أخبرنا أبو علي: حامد بن محمد بن عبد الله بن محمد الرفاء، الهروي، أنا علي بن عبد العزيز، ثنا القعنبي،(2/374)
ثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قباء راكباً وماشياً.
570- وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قباء راكباً وماشياً، وكان يأتي قباء كل سبت ماشياً.
571- وعن سهل بن حنيف، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من توضأ(2/375)
فأسبغ الوضوء، وجاء مسجد قباء وصلى فيه ركعتين كان له أجر عمرة))، وفي بعض الأخبار: عدل عمرة.
572- وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أتى مسجد قباء كان عدل رقبة.(2/376)
573- وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء صبيحة سبعة عشر من شهر رمضان.
574- وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الأسطوان الثالثة لمسجد قباء التي في الرحبة.(2/377)
575- وعن عائشة بنت سعد قالت: سمعت أبي يقول: والله لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين، ولو يعلمون ما فيه لضربوا إليه أكباد الإبل.
576- قرأت على أبي الحسين: يحيى بن الحسين المطلبي، إمام المسجد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنا أبو عثمان: محمد بن عثمان العثماني، أنا طاهر بن يحيى بن الحسين رضي الله عنه .. ..(2/378)
قال: حدثني أبي: يحيى بن الحسين، ثنا بكر بن عبد الوهاب قال:(2/379)
حدثني عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، .. ..(2/380)
عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم: هو مسجد قباء، قال الله جلت عظمته: {فيه رجالٌ يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين}.(2/381)
577- وعن عروة قال: المسجد الذي أسس على التقوى مسجد عمرو بن عوف.
578- وبه قال عطاء.(2/382)
[120] باب ما جاء في بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
579- أخبرنا أبو الحسين يحيى بن الحسين المطلبي رضي الله عنه إمام مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخبرنا أبو عثمان محمد بن عثمان العثماني، ثنا أبو القاسم طاهر بن يحيى بن الحسين قال: حدثني أبي، قال: حدثني الزبير بن بكار قال: حدثني محمد بن الحسن، قال: .. ..(2/383)
حدثني عبد العزيز بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن مجمع بن يزيد قال: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده ثمامات وخشبات، فطفق هو وأصحابه ينقلون اللبن ويقولون:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر(2/384)
ويقول صلى الله عليه وسلم : اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرة.
580- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم فقال قائل من المسلمين:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... ذاك إذاً العمل المضلل
581- وكان المسجد مربداً لسهل وسهيل، غلامين يتيمين، فاشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما، فتركا الثمن، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهما حتى وفر عليهما الثمن.
582- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل اللبن ويقول:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة
فلقيه أسيد بن حضير فقال: أعطنيه يا رسول الله، قال: اذهب فاحمل أنت، فلست بأفقر مني إلى الله.(2/385)
583- ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بناءه قيل له: عريش كعريش موسى سبعة أذرع -فقال صلى الله عليه وسلم : ثمام وخشبات، إن الأمر أعجل من ذلك- وظلة كظلة موسى، فقيل: وما ظلة موسى؟ قال: إذا قام أصاب رأسه السقف.(2/386)
[121] فصلٌ: ذكر توسعة مسجده صلى الله عليه وسلم وزيادته وبنائه البناء الثاني بعد خيبر، وما وقع فيه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم
584- قال: ثم إن المسلمين كثروا، فقيل له: يا رسول الله لو أمرت نزيد فيه؟ فقال: نعم، فأمر فزيد فيه.
ثم اشتد عليهم الحر، فقيل: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلل؟ فقال: نعم، فأمر به فأقيمت فيه السواري، وطرحت عليه خصف الأوادي وإذخره، فقيل له لما أصابهم المطر وجعل المسجد يكف عليهم: لو أمرت بتطيينه؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا، عريش كعريش موسى.(2/388)
585- وقال صلى الله عليه وسلم : ما أمرت بتشييد المساجد.
586- قال: فلم يزل كذلك حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان جداره -قبل أن يظلل- قدر قامة، وبنى صلى الله عليه وسلم بيتين لزوجتين.(2/389)
587- قال: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلون لبنة لبنة، وعمار بن ياسر يحمل لبنتين، لبنة لنفسه، ولبنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ظهره فقال: يا ابن سمية لك أجران وللناس أجر، وآخر زادك شربة من لبن، وتقتلك الفئة الباغية.
588- وقال صلى الله عليه وسلم : إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي -ووضع يده بين عينيه-، وذلك حين بلغه خشونة بين عمار وبين بعض الصحابة، فاجتمعت الصحابة وقالوا: يا عمار إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليك، ونخاف أن ينزل فيك القرآن، فقال: أنا أرضيه كما غضب، فأتاه فقال: يا رسول الله ما لي ولأصحابك، قال: ما لك ولهم، قال:(2/390)
يريدون قتلي، يحملون لبنة لبنة، ويحملون علي اللبنتين والثلاث، فأخذ بيده صلى الله عليه وسلم ورضي فقال: تقتلك الفئة الباغية.
وقيل: إن الكلام بين عمار بن ياسر وبين خالد بن الوليد.(2/391)
[122] فصلٌ: ذكر مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار حين قدم المدينة
589- وعن سعيد بن عامر الجمحي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: يا أبا بكر تعال، ويا عمر تعال، إن أمرت أن أؤاخي(2/392)
بينكما بما أنزل علي من السماء، أنتما أخوان في الدنيا، وأخوان في الجنة، فليسلم كل واحد منكما على صاحبه وليصافحه، فأخذ أبو بكر بيد عمر، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا بكر تكون قبله، وتموت قبله.
ثم قال: يا زبير ويا طلحة تعالا أؤاخي بينكما، أنتما أخوان في الدنيا، وأخوان في الجنة، فليسلم كل واحد منكما على صاحبه وليصافحه، ففعلا.
ثم قال لأبي عبيدة بن الجراح ولسالم مولى أبي حذيفة مثل ذلك، ففعلا.
ثم قال لأبي بن كعب ولابن مسعود مثل ذلك، ففعلا.
ثم قال لمعاذ ولثوبان مثل ذلك، ففعلا.
ثم قال لأبي طلحة ولبلال مثل ذلك، ففعلا.
ثم قال لأبي الدرداء وسلمان مثل ذلك، ففعلا.
ثم قال لسعد بن أبي وقاص ولصهيب مثل ذلك، ففعلا.
ثم قال لأبي ذر ولهلال -مولى المغيرة بن شعبة- مثل ذلك، ففعلا.
ثم قال لأبي أيوب الأنصاري ولعبد الله بن سلام مثل، ففعلا.(2/393)
ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي هند وأسامة -وكان أبو هند حجاماً، حجم النبي صلى الله عليه وسلم فشرب دمه من حبه- فقال لهما مثل ذلك، ففعلا.
قال: فالتفت عبد الرحمن بن عوف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنهما فقال: إن لله وإنا إليه راجعون، هلكنا، ما لنا لا يلتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ نعوذ بالله من مقته، وموجدة رسوله، فالتفت إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما الله لكما بماقت، ولا رسوله عليكما بواجد، إنكما لتكرمان على الله ورسوله وعلى ملائكته، ولكن كلما أردت أن أدعوكما نهاني الملك الذي نزل بهذا الأمر من عند الله عز وجل فقال: أخرهما فإنهما غنيان، فلذلك أخرتكما، وكذلك يحاسب الناس يوم القيامة، يعجل حساب الفقراء، ويؤخر حساب الأغنياء وهم في الحبس الشديد، وأنتما أخوان في الدنيا، وأخوان في الجنة، فليسلم كل واحد منكما على صاحبه، ففعلا، ثم قال صلى الله عليه وسلم : أرضيتما؟، قالا: نعم، فالحمد لله الذي لم يفضحنا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أزيدكما؟، قالا: بلى يا رسول الله، فقال: فأنتما أخوان في هذه الدنيا وأخوان في الجنة كأخي إلياس ومؤمن آل ياسين، إن إلياس كان أحب الناس إلى مؤمن آل ياسين، فبعث الله جبريل إلى إلياس: إن الله قد آخى بينك وبين عبده المقتول ظلماً، فأنا أشهد الله، فأشهدكم أني(2/394)
قد آخيتكما جميعاً في هذه الدار وفي الدار الآخرة، فأنتم خير الناس اليوم)).
وقال صلى الله عليه وسلم : وأمرت أن أؤاخي بين فاطمة بنت محمد وأم سليم، هنيئاً لأم سليم بلطفها برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمرت أن أؤاخي بين عائشة بنت أبي بكر وبين امرأة أبي أيوب الأنصاري، ألا جزى الله آل أبي طلحة وآل أبي أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً.(2/395)
[123] باب ما جاء في تحويل القبلة
590- أخبرنا أبو الحسين: يحيى بن الحسين المطلبي نضر الله وجهه، إمام مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخبرنا العثماني، ثنا أبو القاسم: طاهر بن يحيى العلوي قال: حدثني أبي، ثنا أبو مصعب: أحمد بن أبي بكر الزهري، ثنا مالك، عن يحيى بن(2/396)
سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه كان يقول: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قدم المدينة نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم حولت القبلة.
قال أبو سعد صاحب الكتاب أعانه الله على طاعته: أول ما صليت الجمعة .. ..(2/397)
ببقيع الخبخبة وهو فوق بقيع الغرقد.
591- قال: فصلى بعد أن قدم المدينة نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً -وقيل: سبعة عشر- ثم حولت القبلة بعد بدر بشهرين.(2/399)
592- قال ابن عباس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقف يصلي انتظر أمر الله عز وجل في القبلة حتى أنزل الله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلةً ترضاها} الآية.(2/400)
593- يقال: نزل جبريل عليه السلام فرفع ما بينه وبين مكة من الجبال والحيطان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر وقد صلى البعض منها، فأشار جبريل عليه السلام بالتوجه نحو ميزاب البيت فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
594- فقيل: لما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة نحو بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء، فأنزل الله عز وجل: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} الآية، فأقام رهطاً على زوايا المسجد لتعديل القبلة،(2/401)
فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله، ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، ثم قال بيده هكذا، فأماط كل جبل بينه وبين القبلة، فوضع تربيع المسجد وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء.
فلما فرغ قال جبريل عليه السلام بيده هكذا، فأعاد الجبال والشجر إلى حالها، وصارت القبلة إلى الميزاب، والله أعلم، وكفى به عليماً.(2/402)
قال أبو سعد: فليس في الدنيا مسجد إلا بالاجتهاد بني، إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين.(2/403)
595- قال: فصرفت القبلة يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً.(2/404)
[124] بابٌ: في فضل تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي المدينة، وتسمى: طيبة
596- حدثنا أبو الحسن: محمد بن علي بن سهل الماسرجسي الفقيه رحمه الله، ثنا أبو الوفاء: المؤمل بن الحسن بن عيسى بن(2/405)
ماسرجس، ثنا عبد الله بن حمزة الزبيري، قال: حدثني عبد الله -هو ابن نافع-، عن محمد بن عبد الرحمن بن رداد، عن يحيى بن سعيد،(2/406)
عن عمرة بنت عبد الرحمن: أن مروان بن الحكم خطب الناس بمكة، فذكر من فضلها، وما جعل الله فيها من الخير فأكثر -ورافع ابن خديج بجنب المنبر يسمع كلامه- فقام قائماً فقال: يا أيها المتكلم، سمعتك ذكرت مكة، وذكرت فضلها فأطنبت، وهي كما قلت، ولم أسمعك ذكرت المدينة، وأشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المدينة أفضل من مكة.(2/407)
597- وعن أبي هريرة مسنداً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة قال: اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي، فأسكني أحب البلاد إليك، فأسكنه الله عز وجل المدينة.(2/408)
598- والمدينة حرم، حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين جبل عير إلى ثور.
599- وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتيها، وجعل حول المدينة اثنا عشر ميلاً حمى.(2/409)
600- وعن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى سمى المدينة طابة.
601- قال: وكان اسمها القديم: يثرب، حتى سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم : طيبة.(2/410)
وفيها يقول صرمة بن قيس الأنصاري:
فلما أتانا واطمأنت به النوى ... وأصبح مسروراً بطيبة راضياً
602- ويروى عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المدينة تربتها مؤمنة.
قال أبو سعد صاحب الكتاب حفظه الله ورضي عنه: اختلف الناس في المدينة هل هي حرم أم لا، -كما جعل إبراهيم عليه السلام مكة حرماً، حتى لا يجوز أن يؤخذ صيدها أو ينفر أو يقطع شجرها- على ثلاثة أقاويل:
فمنهم من قال: إنها حرم.
603- لقوله صلى الله عليه وسلم : إني حرمت ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم عليه السلام ما بين لابتي مكة.(2/411)
ومنهم من قال: هي حرم في الإكرام، ولا يجب في صيدها وشجرها ما يجب في صيد مكة وشجرها.
ومنهم من قال: الفرق بينهما أن كل من أخذ صيداً فسلبه لأول من وقع بصره عليه، وقد روي في ذلك:
604- عن سعد بن أبي وقاص أنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد غلاماً يقطع شجرة -أو: يخبطه- فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد يسألونه أن يرد عليهم ما أخذه من غلامهم فقال لهم سعد: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأبى أن يرد عليهم.(2/412)
605- وروي أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قام على الحزورة فقال: اللهم إنك تعلم أنها أحب البلاد إلي، ولولا أني أخرجت منها ما خرجت.
606- ثم قال صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أخرجت من أحب البلاد إلي، فردني إلى أحب البلاد إليك.
607- ثم قال صلى الله عليه وسلم : أريت أرض هجرتكم، فإذا هي سبخة ذات نخل -يريد المدينة-.
أخبرني بهذا الحديث أبو الحسين: يحيى بن الحسين المطلبي رحمه الله -وهو إمام مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -، أنا أبو عثمان: محمد بن عثمان العثماني في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قرأنا على أبي القاسم: طاهر بن يحيى بن الحسين العلوي، حدثك أبوك: يحيى بن الحسين،(2/413)
ثنا هارون بن موسى، ثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة،(2/414)
عن ابن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أريت أرض هجرتكم .. الحديث.
608- هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كل البلاد فتحت بالسيف والرمح، وفتحت المدينة بالقرآن، وهي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومحل أزواجه صلى الله عليه وسلم ، وفيها قبره صلى الله عليه وسلم .(2/415)
609- وقال صلى الله عليه وسلم : المدينة مهاجري، وفيها بيتي، وحق على كل مسلم زيارتها.(2/416)
610- وقال صلى الله عليه وسلم : اللهم إن إبراهيم عبدك ونبيك، وإن إبراهيم دعا لأهل مكة، لمدهم وصاعهم، وأنا أسألك لأهل المدينة ما سألك إبراهيم لأهل مكة ومثله معه: أن تبارك لهم في ثمارهم وصاعهم ومدهم، وأن تحبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة، وأن تجعل ما كان فيها من وباء بخم، اللهم إني قد حرمت ما بين لابتيها كما حرمت على لسان إبراهيم الحرم، لا يقطع عضاها، ولا ينفر صيدها، ومن أراد أهلها بسوء أذابه الله عز وجل ذوب الرصاص وذوب الملح في الماء.(2/417)
611- وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالحرة -بالسقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتوني بوضوء، فتوضأ، ثم قام فاستقبل القبلة ثم قال: اللهم إن إبراهيم عليه السلام عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة بالبركة، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة: أن تبارك لهم في مدهم وصاعهم، مثل ما باركت لأهل مكة، مع البركة بركتين.
612- وروى أبو هريرة قال: قيل يا رسول الله: صاعنا أصغر الصيعان، ومدنا أصغر الأمداد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم بارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، واجعل مع البركة بركتين.(2/418)
613- قال أنس بن مالك: صنعت بالمدينة طعاماً نأكله فكفى عشرين رجلاً، ثم صنعت مثله في العراق فأكله عشرة.
614- وروي عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهي أوبأ أرض الله، فحم أصحابه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة وأشد، وصححها لنا، وبارك لنا فيها مع ما باركت لأهل مكة، وانقل وباءها وحماها إلى مهيعة -وهي الجحفة-، قال: فشفوا.
615- وهي أفضل البلاد تربة، لأن تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، اختارها الله له، ونقله إليها، وفيها نزلت: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} الآية، وجعلها دار هجرته، وقبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيها منبره، قوائمه على ترعة من ترع الجنة.(2/419)
وفيها نزل قوله تعالى: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةً ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
قال أبو سعد صاحب الكتاب: ومما خص الله عز وجل به حرم نبيه صلى الله عليه وسلم من الآيات الظاهرة والأنوار الزاهرة: الشعاع الذي يرى فوق المدينة كالإكليل، يتطاير من موضع إلى موضع، ولا يخفى على من يتأمله، وهذه كرامة أكرم الله عز وجل المدينة بها دون سائر البلدان.(2/420)
[125] فصلٌ: ما جاء في أن الإيمان يأرز إلى المدينة وأن الإسلام سيعود غريباً
616- عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها.
617- وعن أبي نضرة قال: بينما نحن عند جابر بن عبد الله إذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدع المدينة رجل رغبة عنها إلا أبدلها الله رجلاً خيراً منه أو مثله، وليسمعن أقوام بزيف ورخص من أسعار فيتبعونه، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفس جابر بيده(2/421)
ونفس محمد بيده ليعودن الأمر كما بدأ، ليعودن كل الإيمان إلى المدينة كما بدأ منها.
618- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها.(2/422)
[126] فصلٌ: ما جاء أن المدينة كالكير تنفي خبثها
619- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون: يثرب وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد.
قال مالك بن أنس رضي الله عنه: قوله: تأكل القرى، أي: تفتح القرى، معناه: أن أهلها يفتحون القرى.
620- وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: أن أعرابياً بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأصاب الأعرابي وعك المدينة، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله أقلني بيعتي، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن(2/423)
يقيله، فخرج الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها وينصع طيبها.
621- ويروى أن رجلاً خرج في المغازي، فحمل على رجل من(2/424)
المشركين فقال المشرك: لا إله إلا الله، فقتله بعد ما قال: لا إله إلا الله، فلما رجع ذكر شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: من لك بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة، قال فمات ذلك الرجل، فدفنه أهله فأصبح منبوذاً على ظهرها، فحفظه أهله كيلا ينبشه أحد، فرأوه منبوذاً على وجه الأرض، فذكروا شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الأرض لتقبل من هو شر منه، ولكن الله أراد أن يجعله عبرة.(2/425)
622- ويروى: أن رجلاً من الأنصار كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إن الرجل ارتد، وقال: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسن أن يملي، فكنت أكتب ما أشاء، ثم مات ذلك الرجل، فدفنه أهله ليلاً، فلما أصبحوا وجدوه منبوذاً على ظهر الأرض، ثم دفنوه الثانية فأصبح منبوذاً، حتى فعلوا ذلك مراراً، فاستحيا أهله، فحملوه إلى غار من الغيران وألقوه فيه.
قال أبو سعد صاحب الكتاب أعانه الله على طاعته: فصارت هذه العلامة آية وبركة وطهارة للمدينة إلى يومنا هذا، فقد شاهدت أنا جماعة من الموتى بالمدينة قد دفنهم أهلهم فأصبحوا وقد لفظتهم الأرض ولم تقبلهم.(2/426)
[127] فصلٌ: في فضل المجاورة بالمدينة وفضل الموت بها
623- عن سعيد بن أبي سعيد المقبري مولى المهري أنه جاء أبا سعيد الخدري ليالي الحرة فاستشاره في الجلاء عن المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها.
فقال له: ويحك، لا آمرك بذلك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة إذا كان مسلماً.
624- وعن عبيد الله بن عبد الله، عن الصميتة -امرأة من بني ليث، وكانت يتيمة في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإن من يمت بها يكن له شهيداً وشفيعاً.(2/427)
625- وعن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم .(2/429)
[128] فصلٌ: في أن المدينة لا يدخلها الدجال ولا الطاعون
626- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الدجال يطأ الأرض كلها إلا مكة والمدينة، قال: فيأتي المدينة فيجد على كل نقب من أنقابها صفوفاً من الملائكة، قال: فيأتي سبخة الجرف فيضرب رواقه ثمة، فترجف المدينة ثلاث رجفات فيخرج إليه كل منافق ومنافقة.
627- وروي عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يدخلها الطاعون والدجال.(2/430)
628- وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال.(2/431)
[129] فصلٌ: في التحذير من إخافة أهل المدينة وإرادة الفتنة بهم
629- أخبرنا أبو بكر: محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي القفال رحمه الله قال: ثنا أبو عروبة الحراني، .. ..(2/432)
ثنا عبد الله بن محمد، ثنا عمرو بن عاصم، .. ..(2/433)
ثنا همام بن يحيى، عن يحيى بن سعيد: من آذى أهل المدينة -أو: أذل أهل المدينة آذاه الله- أو: أذله الله - وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل.(2/434)
630- وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً.
631- ويروى عن عائشة بنت سعد قالت: سمعت سعداً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يكيدن أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء.(2/435)
[130] باب ما جاء في الحنانة
632- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستند إلى جذع في المسجد إذا خطب، فلما وضع المنبر تحول إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحن الجذع حنيناً رق له أهل المسجد، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضع يده عليه فسكن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت رددتك إلى الحائط الذي كنت فيه فكنت كما كنت تنبت لك عروقك ويكمل خلقك ويجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت غرستك في الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك.
ثم أصغى إليه النبي صلى الله عليه وسلم رأسه ليستمع ما يقول، قال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله وأكون في مكان لا أبلى فيه، فسمعه من يليه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم قد فعلت، فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنبر، ثم أقبل على الناس فقال: خيرته كما سمعتم، فاختار أن أغرسه في الجنة، فاختار دار البقاء على دار الفناء.(2/436)
633- وفي رواية: فعدل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتضنه فسكن، فقال صلى الله عليه وسلم : لو لم أفعل هذا لحن إلى يوم القيامة.
634- حدثنا أبو عمرو: محمد بن جعفر بن محمد بن مطر رضي الله عنه، ثنا أبو الحريش: أحمد بن عيسى بن مخلد، ثنا شيبان بن فروخ الأبلي، ثنا مبارك بن فضالة، ثنا الحسن، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة يسند ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي، فبنوا له منبراً له عتبتان، فلما قام على المنبر حنت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنين الوالدة، فما زالت تحن حتى نزل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتضنها فسكنت.
قال المبارك: فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: يا عباد الله، الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه لمكانه من الله عز وجل، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.(2/437)
[131] باب ذكر العود الذي في المحراب
635- قال أنس بن مالك رضي الله عنهما لمحمد بن مسلم: أتدري لم صنع هذا العود في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: لا، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع عليه يمينه ثم يلتفت فيقول: استووا، واعدلوا صفوفكم.(2/438)
[132] بابٌ: في حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
636- أخبرنا أبو الحسين: يحيى بن الحسين المطلبي رحمه الله إمام مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، أنا أبو عثمان: محمد بن عثمان العثماني رحمه الله، أنا أبو القاسم: طاهر بن يحيى العلوي قال: حدثني أبي، ثنا بكر بن عبد الوهاب، ثنا محمد ابن عمر، .. ..(2/439)
عن عبد الله بن يزيد الهذلي قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز رحمه الله، كانت باللبن، ولها حجر من حديد مطروزة بالطين، عددت تسعة أبيات بحجرها، وهي ما بين بيت عائشة رضي الله عنها إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى الله عليه وسلم .(2/440)
637- قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة دومة الجندل، بنت أم سلمة حجرتها باللبن، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان.
638- قال عمران: أدركت حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جريد النخل، على أبوابها المسوح من شعر أسود، فورد كتاب الوليد بن عبد الملك بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، .. ..(2/441)
فما رأيت أكثر باكياً من ذلك اليوم.
639- وعن عطاء قال: سمعت ابن المسيب يقول: والله لوددت أنهم تركوها على حالها ليقدم القادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ويكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها.
640- قال عمران بن أبي أنس: كان منها أربعة أبيات باللبن، لها حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات جديداً مطينة لا حجر لها، على أبوابها مسوح الشعر.(2/442)
641- وقال مالك بن أنس: كان الناس يدخلون حجرات النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يصلون فيها الجمعة، وكان المسجد يضيق عن أهله، وحجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم شارعة أبوابها إلى المسجد، فكان الناس يدخلون ويصلون بصلاة الإمام.(2/443)
[133] باب ما جاء في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
642- أخبرنا أبو الحسين: يحيى بن الحسين المطلبي رحمه الله إمام مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنا أبو عثمان: محمد بن عثمان العثماني، قال: قرأت على طاهر بن يحيى العلوي أبي القاسم، ثنا أبي، ثنا بكر بن عبد الوهاب قال: حدثني عيسى بن عبد الله، عن أبيه .. ..(2/444)
أنه حدثه: أن بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدور الذي فيه القبر، بينه وبين قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خوخة.
463- وروي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقف على باب علي وفاطمة رضي الله عنهما ويقول: السلام عليكم أهل البيت {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}.
قال أبو الحمراء: شهدته -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم - أربعين صباحاً كان يفعل ذلك.
644- وكان صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر أتى فاطمة فدخل عليها، فقدم مرة ودخل عليها، وكانت فاطمة صنعت قرطين وقلادة ومسكتين من ورق وستراً لباب البيت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أطال المكث، ثم خرج وقد عرف الغضب في وجهه، ثم جلس على المنبر، فعلمت فاطمة أن الغضب من أجل ما رأى عليها، فنزعت الستر، فبعثت بها إلى(2/445)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت للرسول: قل له إن ابنتك تقرأ عليك السلام وتقول: اجعل هذا في سبيل الله.
فلما أتاه الرسول وأخبره قال: قد فعلت، فداها أبوها -ثلاث مرات-، ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة.
ثم قام فدخل عليها.
645- قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبات عندنا والحسن والحسين نائمان، فاستسقى الحسن، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قربة وجعل يسكبها في القدح، ثم جعل يسقيه، فتناول الحسين فمنعه وبدأ بالحسن، قالت فاطمة: يا رسول الله كأنه أحب إليك؟ قال: إنما استسقاني أولاً، ثم قال صلى الله عليه وسلم : إني وإياك وهذين وهذا الراقد -يعني: علي بن أبي طالب رضي الله عنه- في مكان واحد يوم القيامة.(2/446)
646- وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة فدخل على فاطمة رضي الله عنها فرأى ستراً فقال: إن سرك أن يسترك الله يوم القيامة فأعطينيه، فأعطته، فخرج به فشقه لكل إنسان ذراعين في ذراع.
647- وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيت فاطمة يطلب شيئاً، فوجدهم مفتقرين، ثم التفت فقال لفاطمة رضي الله عنها: لعل عندك شيء، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما في بيوتنا منا، وإن الحسن والحسين دخلا يطلبان شيئاً، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سهوٍ لنا -وهو بيت صغير- فصلى ركعتين، فأنزل منها طبقاً فيه تمر من تمر الحجاز وزبيب من زبيب الطائف، وكعك من كعك الشام، فوضعه بين أيدينا، فأكلنا فما نرفع شيئاً إلا أخلف مكانه، فجاء سائل فاستأذن، فزجره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت فاطمة رضي الله عنها: والله يا أبت ما كنت تنهر السائلين، فسكت عنها، ثم أعاد الرجل في السؤال فزجره، فقالت فاطمة له ذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتدرين من هذا السائل؟ قالت: لا، قال: هذا إبليس، جاء مختفياً ليأكل من ثمار الجنة لم يكن الله سبحانه وتعالى ليطعمه، هذا طبق أتاني به جبريل عليه السلام من الجنة ثم رفع الطبق. والله أعلم.(2/447)
[134] باب ما جاء في سد الأبواب الشوارع
648- أخبرنا أبو الحسين: يحيى بن الحسين المطلبي رحمه الله، إمام مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنا أبو عثمان: محمد بن عثمان العثماني قال: قرأت على أبي القاسم: طاهر بن يحيى العلوي قال: حدثني أبي، ثنا أحمد بن أبي بكر، ثنا مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عبيد بن حنين، عن أبي سعيد الخدري قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: إن عبداً خيره الله عز وجل بين أن يؤتيه من زهرة الحياة الدنيا ما يشاء وبين ما عنده، فاختار ما عند الله.
فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا.
فتعجب الناس من أبي بكر رضي الله عنه كيف علم ذلك!! وإنما عنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، ولم يقف عليه أحد إلا أبو بكر رضي الله عنه.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سدوا هذه الأبواب إلا باب أبي بكر، فإني لا أعلم رجلاً أحسن يداً في الصحابة عندي من أبي بكر الصديق.(2/448)
649- وقال صلى الله عليه وسلم : سدوا هذه الأبواب إلا باب علي، وقال: سدوا قبل أن ينزل العذاب، فخرج الناس مبادرين، وخرج حمزة بن عبد المطلب يجر قطيفة له حمراء وعيناه تذرفان ويبكي ويقول: يا رسول الله أخرجت عمك وأسكنت ابن عمك، فقال صلى الله عليه وسلم : ما أنا أخرجتك، ولا أنا أسكنته، ولكن الله عز وجل أسكنه، وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله أمر موسى بن عمران أن يبني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا هو وهارون وابنا هارون: شبر وشبير، وإن الله أمرني أن أبني مسجداً طاهراً، لا يسكنه إلا أنا وعلي والحسن والحسين، سدوا هذه الأبواب إلا باب علي.(2/449)
650- وقال له بعض أصحابه: يا رسول الله دع لي كوة أنظر إليك منها حين تغدوا وحين تروح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا والله ولا مثل ثقب إبرة.(2/454)
[135] باب ما جاء في أول من خلق القبلة
651- أخبرنا أبو الحسين: يحيى بن الحسين المطلبي إمام مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنا أبو عثمان: محمد بن عثمان العثماني، أنا أبو القاسم: طاهر بن يحيى بن الحسين، قال: حدثني أبي، ثنا هارون بن موسى الفروي، ثنا محمد بن يحيى، ثنا إبراهيم بن قدامة، .. ..(2/455)
عن أبيه: أن عثمان بن مظعون تفل في المسجد فأصبح مكتئباً، فقالت امرأته: ما لي أراك مكتئباً؟ فقال: لا شيء إلا أني تفلت في القبلة وأنا أصلي، قال: فعمدت إلى القبلة فغسلتها، ثم حملت خلوقاً فخلقتها، فكانت أول من خلقت القبلة.
652- وروى عمرو بن دينار: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد فقال: من فعل هذا؟ أيحب أحدكم أن يكون كية في وجهه؟(2/456)
653- وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من بزق في قبلة المسجد جاء يوم القيامة وهي في وجهه.
654- وقال صلى الله عليه وسلم : من أكل من هذه البقلة -يعني: البصلة- فلا يقربن مسجدنا.
655- وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه فقام فحكها بيده وقال: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبصقن أحدكم في القبلة، ولكن عن يساره أو تحت قدمه.(2/457)
ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، فرد بعضه على بعض.
656- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: تفقدوا نعالكم عند أبواب مساجدكم.(2/458)
[136] باب الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
657- حدثنا أبو الفضل: جعفر بن الفضل الوزير بمكة حرسها الله، ثنا الفضل بن الخصيب بأصبهان، ثنا أبو مسعود: أحمد بن الفرات،(2/459)
ثنا محمد بن عبيد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام.(2/460)
658- وقال صلى الله عليه وسلم : من خرج على طهر حتى يأتي مسجدي هذا -مسجد المدينة- فيصلي فيه ركعتين كانتا عدل عتق رقبة.
659- وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا خاتم الأنبياء، ومسجدي خاتم المساجد، .. ..(2/461)
وهو أحق المساجد أن يزار وأن يركب إليه الرواحل بعد المسجد الحرام.
660- وعن ابن عمر رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا سمع الأصوات في المسجد مرتفعة قال: إياكم واللغط، فإن مسجدنا لا ترفع فيه الأصوات.(2/462)
661- ويروي عن السائب بن يزيد قال: كنت مضطجعاً في المسجد، فحصبني إنسان فرفعت رأسي فإذا أنا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: اذهب فائتني بهذين الرجلين، قال: فانطلقت حتى جئت بهما، فقال: من أين أنتما؟ -أو: من أنتما؟- قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد ما فارقتكما حتى أوجعكما جلداً، أترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
662- وقيل: لما دخل عمر بن عبد العزيز مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: قد بقي في حجرة عائشة رضي الله عنها موضع قبر واحد، فلو أمرت حتى إذا مت قبرت فيه، فقال: والله لو خررت من السماء على هامة رأسي أحب إلي من أن يخطر ببالي أن أقبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة واحدة.
663- ودخل أبو معاوية الأسود رضي الله عنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم زائراً(2/463)
فغشي عليه، فلما أفاق قال: أخرجوني منها، فإني أخشى أن موت فأقبر في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقذفني الأرض فأفتضح، قال: فأخرج، وقال: إني لست ممن تقبلني أرض قبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
664- وروي أن قوماً قدموا بسفط من عود على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يسع الناس، فقال عمر رضي الله عنه: جمروا به المسجد ينتفع به المسلمون، فبقيت سنة في الخلفاء إلى اليوم، يؤتى كل عام بسفط من عود يجمر به المسجد ليلة الجمعة ويوم الجمعة عند المنبر من خلفه إذا كان الإمام يخطب.(2/464)
665- وقال صلى الله عليه وسلم : لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الأقصى، والمسجد الحرام.(2/465)
[137] باب ذكر ما هو مكتوبٌ على جدر المسجد والشرفات وعند الأبواب
666- أخبرنا أبو الحسين: يحيى بن الحسين المطلبي رضي الله عنه إمام مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، أنا أبو عثمان: محمد بن عثمان العثماني، عن طاهر بن يحيى قال: حدثني أبي، ثنا يوسف بن مسلم قال:
إن الكتب التي حول صحن المسجد مكتوبة فوق الطاقات، ودون الشرفات بالفسيفساء:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد رسول الله عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
بسم الله الرحمن الرحيم
{الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم} إلى آخر السورة.
{إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}.
667- قال: وعند باب علي بن أبي طالب رضي الله عنه مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}.(2/466)
وعلى باب النبي صلى الله عليه وسلم مكتوب من خارج:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار} إلى آخر الآية.
وعند باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}
وعلى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه مكتوب من خارج:
بسم الله الرحمن الرحيم
{لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ} إلى آخر الآيتين.
وعلى الباب المستقبل دار ريطة مكتوب من خارج:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر} إلى آخر الآية
وعلى الباب المستقبل بيت أسماء بنت الحسن من داخل مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً} إلى آخر السورة.(2/467)
وعلى الباب المقابل دار خالد بن الوليد من داخل مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً} إلى آخر السورة {وإلهكم إلهٌ واحدٌ} إلى منتهى الآيتين
ثم على إثرها:
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان} الآية
وعليه من خارج مكتوب:
{وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} إلى آخر الآية
وعلى الباب المستقبل زقاق المباضع مكتوب من داخل:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض} الآيتين
وعليه مكتوب من خارج:
بسم الله الرحمن الرحيم
{ألهاكم التكاثر} إلى آخر السورة
وعلى الباب مما يلي الصوافي من داخل:
بسم الله الرحمن الرحيم
{ألم. الله لا إله إلا هو الحي القيوم} إلى قوله: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم} الآية
اللهم صل على محمد عبدك ونبيك(2/468)
وعليه من خارج مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
{ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض} الآيتين
وفي دبر المسجد مما يلي الشام في الباب الأول مكتوب من داخل:
بسم الله الرحمن الرحيم
{ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متابا} إلى آخر السورة
وعليه من خارج:
{الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثاً}
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك إمام المتقين وخاتم النبيين
وفي الباب الثاني مكتوب من داخل:
{في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} إلى منتهى ثلاث آيات {والله يرزق من يشاء بغير حسابٍ}
وفي الباب الثالث من داخل:
{قد أفلح المؤمنون} إلى قوله تعالى: {أولئك هم الوارثون}
وفي الباب الرابع مكتوب من داخل:
بسم الله الرحمن الرحيم
{لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}(2/469)
وعلى الباب مما يلي المغرب على آخر أبواب المسجد مما يلي دار منبره صلى الله عليه وسلم مكتوب من داخل:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب} إلى قوله تعالى: {إنك لا تخلف الميعاد}
ومن خارج الباب الذي يليه، يقوم عليه سقف المسجد:
بسم الله الرحمن الرحيم
{القارعة} إلى آخرها
وعلى الباب الذي يستقبل دار منبره صلى الله عليه وسلم أيضاً مكتوب من داخله:
بسم الله الرحمن الرحيم
{محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} إلى خاتمة السورة
وعليه من خارج مكتوب:
{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} الآية
وعلى الباب الذي يستقبل دار نصير مكتوب من داخل:
بسم الله الرحمن الرحيم
{قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين} الآية إلى خاتمة السورة
اللهم صل على عبدك ونبيك(2/470)
وعليه مكتوب من خارج:
{الحمد لله الذي صدقنا وعده} الآيتين
وعلى الباب المستقبل لباب جعفر بن يحيى من داخل:
بسم الله الرحمن الرحيم
{الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك ولم يكن له وليٌّ من الذل وكبره تكبيرا}
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك أفضل ما صليت على أحد من أنبيائك ورسلك، اللهم ابعثه المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، كما بلغ رسالاتك ونصح عبادك وتلا آياتك.
وفي الطاق تحته:
{إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض} إلى قوله تعالى: {تبارك الله رب العالمين}
صلوات الله على محمد النبي والسلام عليه ورحمة الله وبركاته
وعليه مكتوب من خارج:
بسم الله الرحمن الرحيم
{ألم نشرح لك صدرك} إلى آخر السورة
وعلى باب عاتكة من داخل مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} إلى خاتمة السورة(2/471)
وتحت الكتاب: الطاق:
بسم الله الرحمن الرحيم
{لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم} الآيتين
وبسم الله الرحمن الرحيم
{قل هو الله أحدٌ} إلى آخرها
صلى الله على محمد وعليه السلام ورحمة الله وبركاته
وعليه من خارج مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}
والكتاب الذي كتبه عمر بن عبد العزيز في قبلة المسجد:
بسم الله الرحمن الرحيم
{الحمد لله رب العالمين} حتى ختمها، ثم:
بسم الله الرحمن الرحيم
{والشمس وضحاها} إلى آخرها
وبسم الله الرحمن الرحيم
{قل أعوذ برب الناس} إلى آخرها(2/472)
[138] باب ما جاء في فضائل الشهداء وزيارة قبورهم
668- أخبرنا أبو حامد: أحمد بن محمد بن حمدان المراري، المعدل رضي الله عنه، أنا أبو العباس: محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا أبو رجاء: قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغدادي، أنا الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن جابر بن عبد الله أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً بالقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: أنا أشهد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا.(2/473)
669- وعن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة عن أبيه قال: لما انكشف الناس يوم أحد، وقف النبي صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير فقال: {من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}، اللهم إن عبدك ونبيك يشهد إن هؤلاء لشهداء، فأتوهم وسلموا عليهم، فلن يسلم عليهم أحد ما قامت السماوات والأرض إلا ردوا عليه.
670- قال: ثم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفاً آخر فقال: هؤلاء أصحابي الذين أشهد لهم يوم القيامة، قال أبو بكر رضي الله عنه: فما نحن بأصحابك يا رسول الله؟ قال: بلى، ولكن لا أدري كيف تكونون بعدي، إنهم خرجوا من الدنيا خماصاً، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: وإنا لكائنون بعدك؟!(2/474)
671- وروى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على شهداء أحد فقال: أنا الشهيد على هؤلاء، زملوهم بدمائهم وجراحهم وثيابهم، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وقدموا أكثرهم قرآناً.
قال: ولم يغسلوا ولم يصل عليهم.
672- وقال خباب بن الأرت: إنا قوم هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً، منهم: مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، لم يوجد له إلا بردة يكفن فيها، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ونلقي على رجليه شيئاً من الإذخر.
673- وروى كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: من رأى مقتل حمزة؟ فقال رجل أعزل: رأيت مقتله، قال: فانطلق فأرناه،(2/475)
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على حمزة قد شق بطنه ومثل به، فقال: يا رسول الله قد مثل به والله، قال: فكره نبي الله صلى الله عليه وسلم أن ينظر إليه، فوقف بين ظهراني القتلى فقال: أنا شهيد على هؤلاء القوم، لفوهم بجراحهم ودمائهم، فإنه ليس من جرح إلا جاء جرحه يوم القيامة يدمي، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك.
674- وروي: أن حمزة لما قتل أرسلت صفية بثوبين ليكفن فيهما، فنظروا، فإذا رجل من الأنصار مقتول إلى جنبه ليس له كفن، فاستحيى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفن حمزة في ثوبيه ويترك الأنصاري بلا كفن، فكفن حمزة في ثوب، وأعطى الأنصاري الثوب الآخر فكفن فيه.
675- وقال طلحة بن عبيد الله: أردت مالاً لي بالغابة، فأدركني الليل، فقلت: لو أني ركبت فرسي إلى أهلي كان خيراً لي من المقام هاهنا، فركبته حتى جئت ودنوت من قبور الشهداء، فآويت إلى قبر عبد الله بن عمرو بن حرام، فوالله ما هو إلا أن وضعت رأسي فسمعت(2/476)
قراءة في القبر، ما سمعت قراءة قط أحسن منها، فقلت: هذا القبر، لعله في الوادي، وأخرج إلى الوادي فإذا القراءة في القبر، فرجعت فوضعت رأسي عليه، فإذا قراءة لم أسمع مثلها قط، فاستأنست، وذهب عني النوم، فلم أزل أسمعها حتى طلع الفجر، فلما طلع الفجر هدأت القراءة، وهدأ الصوت حتى أصبحت، فقلت: لو جئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ذاك عبد الله بن عمرو، ألم تعلم يا طلحة أن الله عز وجل قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت قد علقها وسط الجنة، فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم، فلا يزال كذلك، حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها الذي كانت فيه.
676- وقال جابر بن عبد الله: لما قتل أبي يوم أحد جعلت أكشف الثوب عنه أبكي، وجعل أصحابي ينهوني، وجعلت عمتي تبكيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تبكيه أو لا تبكيه، فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه.
677- وروى جعفر بن محمد رضي الله عنه، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تختلف بين اليومين والثلاثة إلى قبور الشهداء، فتصلي هناك، وتدعو وتبكي حتى ماتت.(2/477)
678- وعن العطاف بن خالد قال: حدثتني خالة لي -وكانت من العابدات- قالت: ركبت ومعي غلام لي، حتى جئت قبر حمزة، فصليت ما شاء الله، ولا والله ما في الوادي داعي ولا مجيب يتحرك، وغلامي آخذ برأس دابتي، فلما فرغت من صلاتي قلت: السلام عليكم، وأشرت بيدي، فسمعت رد السلام علي من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله خلقني، فاقشعرت كل شعرة مني، فدعوت الغلام، فقلت: هات، فأدنى فركبت.
679- وعن جابر بن عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشعرت يا جابر أن الله عز وجل أدنى أباك فكلمه كفاحاً فقال: تمن علي ما شئت، فقال: أتمنى أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك مرة أخرى.(2/478)
680- وروى الزهري، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن شهداء المؤمنين بأحد بدمائهم، ولم يغسلهم ولم يصل عليهم.
681- وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: جاء عمرو بن الجموح إلى(2/479)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد -وكان أعرج- فقال: يا رسول الله من قتل اليوم دخل الجنة؟ قال: نعم، قال: والذي نفسي بيده لا أرجع إلى أهلي حتى أدخل الجنة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا عمرو تتألى على الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن منهم من لو أقسم على الله لأبره، فالتفت عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أين الجنة؟ قال: تحت الأبارقة، قال: فخرج ولم يرجع حتى استشهد، فقال صلى الله عليه وسلم : كأني أنظر إلى عمرو بن الجموح يخوض الجنة بعرجته.
682- قال مسروق بن الأجدع: سألنا ابن مسعود رضي الله عنه عن هؤلاء الآيات: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله} الآية، قال: أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله تعالى أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فيطلع إليهم ربك إطلاعة فيقول: يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم؟ يقولون: يا ربنا لا فوق ما أعطيتنا، نأكل من حيث شئنا إلا أنا نحب أن ترد أرواحنا في أجسادنا ثم نرد إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نتقل فيك مرة أخرى.(2/480)
683- وروى المقدام بن معدي كرب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن للشهيد عند الله تبارك وتعالى تسع خصال: يغفر له بأول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من يوم الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، .. ..(2/481)
ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه.
684- وروى أبو الزبير المكي، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم، وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً} الآية.(2/482)
685- وروى ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً.
686- وقال أبو هريرة: ذكر الشهيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(2/483)
لا تجف الأرض من دمه حتى تبتدره زوجتاه كأنهما ظئران أضلتا فصيلهما في براح من الأرض، في يد كل واحدة منهما حلة، خير من الدنيا وما فيها.(2/484)
جامع أبواب المغازي والسرايا والبعوث النبوية(3/5)
[139] باب ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم
687- أخبرنا أبو بكر: أحمد بن يعقوب بن عبد الجبار القرشي الجرجاني -قدم علينا ونزل طريق الري- قال: أخبرنا أبو خليفة: الفضل ابن حباب الجمحي، ثنا أبو الوليد وأبو عمرو الحوضي قالا: ثنا شعبة،(3/7)
عن أبي يعفور: عبد الرحمن بن عبيد بن نسطاس، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو: ست غزوات -شك شعبة-، وكنا نأكل الجراد.(3/8)
قال أبو سعد رحمه الله ورضي عنه:
688- غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ستاً وعشرين غزاة، وقاتل منها في تسع غزوات، وهي: بدر، وأحد، والخندق، وبنو قريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف.(3/9)
[140] فصلٌ: ذكر حديث بدرٍ ونصرة الله رسوله والمسلمين
689- فأما قصة بدر: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن عيراً مقبلة لأهل مكة من الشام، فيها أبو سفيان في تسعين رجلاً، فشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج إليه، فخرج في ثلاثمائة وسبعين، يعتقب النفر على البعير الواحد، منهم مائتان وسبعون من الأنصار، والباقون من سائر(3/11)
الناس، وذلك في شهر رمضان، وعده الله بالفتح، ولم يشك صلى الله عليه وسلم أنه الظفر بالعير.
فلما خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة بلغ أبا سفيان الخبر، فأخذ بالعير على الساحل، وأرسل إلى أهل مكة يستصرخ بهم، فخرج منهم نحو ألف رجل من سائر بطون قريش إلا بني عدي، ورجع الأخنس بن شريق الثقفي ببني زهرة من الطريق -وكان حليفاً لهم- فبقي نحو تسعمائة وسبعين رجلاً، وفيهم: العباس، وعقيل، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب -خرجوا مكرهين-، وكان أشرافهم المطعمون، منهم: العباس بن عبد المطلب، وعتبة بن ربيعة، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعمة بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، والنضر بن الحارث بن كلدة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو.
690- قال: فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر -وهي بئر منسوبة إلى صاحبها، رجل من بني غفار يقال له: بدر-، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفوات العير ومجيء قريش، شاور أصحابه في لقائهم أو الرجوع عنهم، فقالوا: الأمر لك، فالق بنا القوم.
691- فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم على بدر وذلك لسبعة عشر يوماً من رمضان، فكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: أبيض مع مصعب بن عمير، وراية سوداء من مرط عائشة مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمدهم الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة، وكثر الله تعالى المسلمين في أعين الكفار، وقلل المشركين في أعين المؤمنين كيلا يفشلوا،(3/12)
فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من تراب فرماه إليهم وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق منهم أحداً إلا اشتغل بفرك عينيه.
692- وروى عبد الله بن عباس، عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، ونظر إلى أصحابه وهم ثلثمائة وتسعة عشر أو ستة عشر، قال: فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه عز وجل: اللهم أنجز لي ما وعدتني،(3/13)
اللهم أنجر لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه عز وجل ماداً يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر رضوان الله عليه فأخذ بردائه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا رسول الله! قلل مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم} الآية، فأمده الله تعالى بالملائكة.
693- وقتل الله من المشركين نحو سبعين رجلاً، وأسر نحو سبعين، منهم العباس، وعقيل، ونوفل بن الحارث، فأسلموا، وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة وطعمة بن عدي قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء.
694- وقال صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابني أخويك عقيلاً ونوفلاً وحليفك، فإنك ذو مال، فقال: إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني، فقال صلى الله عليه وسلم : أعلن إسلامك، فإن يكن حقاً فإن الله يجزيك به، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، قال: فليس لي مال، قال: أين المال الذي وضعته عند أم الفضل بمكة وليس معكما أحد، وقلت لها: إن أصبت في سفري هذا فللفضل منها كذا، ولعبد الله منها كذا؟ فقال: والذي بعثك بالحق ما علم بها أحد غيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله، ففدى كل واحد بأربعين أوقية، وأسلم عقيل من الأسارى، ثم أسلم نوفل بعد ذلك، وهاجر عام الخندق.(3/14)
695- وقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ: العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، والوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس أخا هند، وعامر بن عبد الله -حليفاً لهم-، ونوفل بن خويلد عم الزبير بن العوام.
696- وقتل حمزة رضي الله عنه: شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، والأسود بن عبد الأسد بن هلال المخزومي.
697- وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خاله العاص بن هشام بن المغيرة.
698- وقتل عبيدة بن الحارث رضي الله عنه: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
699- وقتل الزبير رضي الله عنه: عبيدة بن سعيد بن العاص.
700- وقتل عمرو بن الجموح الأنصاري رضي الله عنه: أبا جهل بن هشام، ضربه بالسيف على رجله فقطعها، وذفف عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فذبحه بسيفه من قفاه وحمل رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
701- وقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه: علي بن أمية بن خلف.
702- ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي عزة الجمحي على أن لا يقاتله.(3/15)
703- وأمر صلى الله عليه وسلم أن يلقى القتلى في قليب بدر، ثم وقف عليهم فناداهم بأسمائهم وأسماء آبائهم واحداً واحداً واحداً ثم قال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم : إنهم ليسمعون كما تسمعون، ولكنهم منعوا من الجواب.
704- ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من قتال أهل بدر أتاه جبريل عليه السلام على فرس أنثى حمراء عاقداً ناصيته، عليه درعه ورمحه في يده قد عصم ثنيته الغبار فقال: إن الله أمرني أن لا أفارقك حتى ترضى فهل رضيت؟ قال: نعم قد رضيت.
705- واختلف الصحابة في قسمة الغنيمة، ولم يكن نزل في(3/16)
قسمتها حكم حينئذ، فقال بعضهم: نحن أحق بها لأنا كنا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وندفع عنه، وبدعائه نصرنا لا بالقتال، وقال آخرون: بل نحن أحق لأنا حفظنا ظهركم، وأخذنا سواد عدوكم فكشفناهم عنكم وجمعنا الغنيمة فنحن أحق بها.
706- فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمتها حتى بلغ الصفراء، فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} الآية، القصة كلها في أمر بدر.(3/17)
707- فقطع الله تعالى عن الغنائم ملك كل أحد، وجعلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يفعل فيها ما رأى.
708- وقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم تفضلاً منه عليهم، وأدخل معهم في القسمة ثمانية نفر لم يحضروا الغنيمة، منهم: عثمان بن عفان، وطلحة، وسعد، وأبو لبابة، والحارث بن حاطب، فضرب لهم بالسهم والأجر معاً، ثم كانت الغنائم تحمل بعد ذلك إلى المدينة إلى(3/18)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل فيها ما يراه، حتى نزلت: {واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه} الآية.
709- واستشهد يوم بدر أربعة عشر رجلاً، منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، ومهجع مولى عمرو، وذو الشمالين، عمرو بن نضلة حليف بني زهرة -وليس بذي اليدين الراوي لسجود السهو، فإن اسمه الخرباق وعاش إلى زمن معاوية، وقبره بذي خشب-، ومنهم: عمير بن أبي وقاص أخو سعد، وعاقل بن البكير، وصفوان بن أبي البيضاء، والباقون من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين.(3/19)
[141] فصلٌ: وأما قصة أحد
710- فإن أهل بدر لما رجع من سلم منهم منهزماً، وقتل سادتهم، لم يبق منزل بمكة إلا دخله الصراخ والعويل على قتلاهم، وحرض القوم بعضهم بعضاً، وحرضت أم معاوية أبا سفيان ليخرج بهم ليأخذ بثأر قتلاها، وكان منهم: أبوها عتبة بن ربيعة، وعمها شيبة، وأخوها الوليد بن عتبة، وبنو عمها.
711- فخرج أبو سفيان في ثلاثة آلاف من قريش ومن تبعهم ومعهم هند وصواحبها ينشدن:(3/20)
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
المسك في المفارق ... والدر في المخانق
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق ...
حتى بلغوا المدينة، وذلك في شوال سنة ثلاث، فنزلوا بأحد.
712- وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استشار أصحابه، فقال صلى الله عليه وسلم : لا نخرج، فإذا دخلوا علينا قاتلناهم في أفواه الطرق ومن سطوح الدور، فأبوا إلا الخروج، فلما صار على الطريق قالوا: نرجع، قال صلى الله عليه وسلم : ما كان لنبي إذا قصد قوماً أن يرجع عنهم.
713- وكان صلى الله عليه وسلم في ألف رجل، فنزل بيوت بني حارثة، فأقاموا بقية يومهم وليلتهم، ثم خرج في ألف رجل، فلما كانوا ببعض الطريق(3/21)
انخذل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس وقال: والله ما ندري على ما نقتل أنفسنا والقوم قومه.
714- قال: وهمت بنو حارثة وبنو سلمة بالرجوع، ثم عصمهم الله عز وجل، وهو قوله تعالى: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} الآية.
715- ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذب فرسٌ بذنبه فأصاب كلاب سيفٍ فاستله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب السيف -وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل ولا يعتاف-: شم سيفك، فإني أرى السيوف ستسل اليوم، ونفر صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.
716- وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بين درعين.(3/22)
717- وجعل صلى الله عليه وسلم على الرماة -وكانوا خمسين رجلاً- عبد الله بن جبير، أخا خوات بن جبير، وأقامهم برأس الشعب، وقال لهم: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم حتى أرسل إليكم، فكانت على المشركين، وأدبر النساء يشتددن على الجبل، قد بدت خلاخيلهن وأسورتهن، رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة أي قوم، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟ قال عبد الله: أنسيتم ما قال لكم(3/23)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما تركوا موضعهم خرج كمين المشركين من ذلك الموضع في خمس مائة، ورجع المشركون، وانصرفت وجوه المسلمين فأقبلوا منهزمين، فذلك قوله عز وجل: {والرسول يدعوكم في أخراكم} الآية، فلم يبق معه صلى الله عليه وسلم إلا إثنا عشر رجلاً، وأصابوا من المسلمين سبعين رجلاً، منهم أربعة من المهاجرين، حمزة بن عبد المطلب، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان بن الشريد، والباقون من الأنصار.
ونادى أبو سفيان: أفي القوم محمد -ثلاثاً-، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن إجابته، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة -ثلاث مرات-، أفي القوم ابن الخطاب -ثلاث مرات- ثم رجع إلى قومه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك، فقال: اليوم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة، لم آمر بها ولم تسؤني -وذلك أن هنداً شقت بطن حمزة واستخرجت كبده فأكلته، وجذعت أنفه وأذنيه-، ثم قال: اعل هبل، اعل هبل، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبونه؟ قالوا: فما نقول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا: الله أعلى وأجل، فقالوا: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله مولانا ولا مولى لكم.
718- قال: ثم رجع المشركون وقد قتل منهم، قتل من المشركين من بني عبد الدار عشرة، قتل علي رضي الله عنه: طلحة بن أبي طلحة بن(3/24)
عثمان بن عبد الدار -وكان صاحب لوائهم- وفيهم نزلت: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}.
719- ونزلت في قصة أحد: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} إلى آخر الآيات.
720- وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليهم يوم أحد فقرأ: {من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من(3/25)
ينتظر وما بدلوا تبديلا}، اللهم إن عبدك ونبيك يشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم فسلموا عليهم، فلن يسلم عليهم أحد ما دامت السماوات والأرض إلا ردوا عليه.
721- ثم وقف صلى الله عليه وسلم موقفاً آخر فقال: هؤلاء أصحابي الذي أشهد لهم يوم القيامة أنهم خرجوا من الدنيا خماصاً، لا تغسلوهم وادفنوهم بكلومهم،(3/26)
فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
722- وروي: أنه صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى ما صنع بعمه حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عنه استرجع وبكى وقال: والله لئن ظفرت بهم لأمثلن بسبعين منهم، فأنزل الله تعالى ذكره: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} إلى آخر الآيات.(3/27)
723- وبلغ ذلك أخته صفية، فجاءت ببردين لتكفنه فيهما، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانب حمزة أنصارياً مقتولاً فكفن كل واحد منهما في برد، وكان حمزة طوالاً فقصر عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غطوا رأسه، واجعلوا على رجله الإذخر.
724- وروي أنه صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة سبعين صلاة بدلاً من قوله: لأمثلن بسبعين، فكفر عن يمينه.(3/28)
725- وقيل أيضاً: بل لم يصل على أحد منهم لكونهم أحياء، وصارت سنة في القتلى في المعترك، والله أعلم.
726- ولما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة وجد أهل المنازل يبكون على قتلاهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أما حمزة لا بواكي له، فبلغ ذلك نساء الأنصار، فلم تبق دار فيهم إلا بكوا على عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وصارت بعد ذلك سنة إذا بكوا على ميت لهم ذكروا حمزة وبكوا عليه، ثم على ميتهم، والله أعلم.(3/29)
ثم انصرف أبو سفيان من أحد إلى مكة.
727- وأنزل الله تعالى في فعل المسلمين يوم أحد: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان} الآية.(3/30)
728- وقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر؟! فأنزل الله: {ولقد صدقكم الله وعده} الآية، إلى قوله: {والله خبيرٌ بما تعملون}.(3/31)
729- ومما فضله الله تعالى به أنه لما كسرت رباعيته سمع هزة كأن جبال الدنيا تتقلع؛ ففزع النبي صلى الله عليه وسلم وسجد، وسجد معه أصحابه، فلما رفع رأسه قيل: يا رسول الله ما هذه الهزة؟ قال: عارضني ملك بين السماء والأرض فقال: يا محمد إن الله بعثني لأقتلع الدنيا من عروقها: مدائنها وقصورها، وأمرني لك بالطاعة، قال: فما بلغ من قوتك؟ قال: بلغ من قوتي أن لو أمرتني بقلع الدنيا كلها لاقتلعتها بريشة من جناحي، وما مسني من نصب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ارجع من حيث جئت، فإن الله بعثني رحمة ولم يبعثني ملحمة، فأنزل الله تعالى: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ}.
730- ونقل عن بعضهم أنه قال: إن الذين كسروا رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلد لهم مولود تنبت له رباعية.(3/33)
[142] فصلٌ: في غزوة حمراء الأسد
731- ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر أصحابه فقال: إن هذه وقعة تسامع بها العرب، فاطلبوهم حتى يسمعوا بأنكم قد طلبتموهم، فخرجوا وبهم ألم الجراح، حتى بلغوا حمراء الأسد فلم يدركوهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرشدهم صفوان وما كان برشيد، والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة من سجيل، ولو أضحوا لكانوا كالأمس الذاهب، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيداً.(3/34)
[143] فصلٌ: في سرية أبي سلمة بن عبد الأسد إلى قطن
732- وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سلمة بن عبد الأسد إلى قطن -ماء من مياه بني أسد بنجد-، فقتل فيها مسعود بن عروة.(3/35)
[144] فصلٌ: في غزوة الرجيع
733- ثم أقام صلى الله عليه وسلم يسيراً، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى بطن الرجيع .. ..(3/36)
في سبعة نفر، فقتلهم هذيل، وأصيبوا جميعاً.(3/37)
[145] فصلٌ: في سرية المنذر بن عمرو إلى بئر معونة
734- ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منذر بن عمرو الساعدي مع عامر بن مالك الكلابي في ثمانية عشر رجلاً، .. ..(3/38)
فأصيبوا جميعاً إلا رجلين.(3/39)
[146] فصلٌ: في غزوة بني النضير
735- ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، فأجلاهم إلى خيبر، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بها يسيراً.
[147] فصلٌ: في غزوة بدرٍ الميعاد
736- وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً لميعاد أبي سفيان، فلم يأت، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيداً.(3/40)
[148] فصلٌ: في غزوة ذات الرقاع
737- ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات الرقاع، فلقي بها العدو قريباً من عسفان، فصلى فيها صلاة الخوف، ثم انصرف الفريقان .. ..(3/41)
لم يكن بينهما قتل، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.(3/42)
[149] فصلٌ: في غزوة المريسيع
738- ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق -من خزاعة- فأغار عليهم، فغلبهم وسباهم، واشترى جويرية بنت الحارث من ذلك السبي فأعتقها وتزوجها.(3/43)
739- وروي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من غزوة بني المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث -وكان صلى الله عليه وسلم بذات الجيش- دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة، وأمره بالاحتفاظ بها، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء فرغب في بعيرين منها، فغيبها في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أصبتم ابنتي وهذا فداؤها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأين البعيران اللذان غيبت بالعقيق في شعب كذا وكذا، فقال الحارث: اشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فوالله ما أطلع على ذلك إلا الله تعالى ذكره، فأسلم(3/44)
الحارث، وأسلم معه ابنان له وناس من قومه، ودفع إليه ابنته جويرية فأسلمت، وحسن إسلامها، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فزوجها إياه، وأصدقها رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم.
[150] فصلٌ: في قصة الإفك
740- ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان في ذلك الطريق شأن عائشة رضي الله عنها حين قذفت، فأقام صلى الله عليه وسلم يسيراً.(3/45)
[151] فصلٌ: في غزوة الخندق وبني قريظة
741- ثم إن حيي بن أخطب اليهودي لما أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج هو إلى مكة يؤلب قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل معه أبو سفيان لميعاده، ثم خرج إلى غطفان يؤلبهم، فأقبل معه عيينة بن حصن، فأقبل حيي بن أخطب بقريش وكنانة وغطفان.
742- وسمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم وذلك على رأس أربع سنين من مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة، .. ..(3/46)
فنزل المشركون المذاد، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً من سلع، فخندق على نفسه، فأقام أبو سفيان أربع عشرة ليلة، ثم إن عمرو بن عبد ود بارز علياً رضي الله عنه فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبعث الله عليهم ريحاً وبرداً شديداً.
743- وقد كانت قريظة من اليهود حالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يكونوا عليه ولا معه، فقال حيي بن أخطب لأبي سفيان: إني سآمر قريظة أن تنقض الحلف الذي كان بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم ، ففعلوا ذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشدهم العهد، فسبوا رسله ولم يخرجوا، فرأى ذلك أبو سفيان، وظن أن ما قال حيي باطل، فرجع ورجعت غطفان وكنانة، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم} إلى آخر الآيتين، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
744- فلما وضع أصحابه صلى الله عليه وسلم السلاح جاءه جبريل عليه السلام فقال له:(3/47)
وضعتم السلاح؟ والله ما وضعته الملائكة، إن الله عز وجل يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة.
745- فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فحاصرهم، فقال لهم: انزلوا على حكمي فأبوا، وقالوا: ننزل على حكم سعد، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد -وكان مجروحاً أصابته رمية يوم الخندق- فجاء سعد ونزلوا، فضرب أعناقهم، وسبى نساءهم، وأخذ أموالهم، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين.
[152] فصلٌ: في سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء
746- ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة إلى القرطاء فرجع ولم يلق كيداً.(3/48)
[153] فصلٌ: في غزوة بني لحيان من هذيل
747- ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام ما شاء الله له أن يقيم، ثم غزا صلى الله عليه وسلم بني لحيان عن هذيل، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً.(3/49)
[154] فصلٌ: في غزوة الغابة
748- ثم إن عيينة بن حصن أغار على سرح المدينة، فذهب بها، فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه وبعث على مقدمته سعيد بن زيد الأشهلي، فلحق عيينة فهزمه واستنقذ السرح، ولحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد، ثم رجع إلى المدينة.(3/50)
[155] فصلٌ: في سرية عكاشة بن محصن
749- وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن الأسدي، فرجع إلى المدينة، ولم يلق كيداً.
[156] فصلٌ: في سرية زيدٍ بن حارثة إلى وادي القرى
750- وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى وادي القرى، فلقي بني فزارة، فقتلوا ناساً من أصحابه، وأفلت جريحاً.(3/51)
[157] فصلٌ: بعث علي بن أبي طالبٍ وزيد بن حارثة
751- ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى فدك، وزيد بن حارثة، إلى أم قرفة، وعمر بن الخطاب إلى قرية من أرض بني عامر،(3/52)
وأبا العوجاء السلمي إلى أرض بني سليم، فسلموا جميعاً إلا أبا العوجاء أصيب هو وأصحابه جميعاً.
[158] فصلٌ: في سرية ابن رواحة إلى يسير بن رزام
752- ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة إلى خيبر، فقتل يسير بن رزام اليهودي في ثلاثين رجلاً.(3/53)
[159] فصلٌ: في سرية عبد الله بن عتيكٍ إلى أبي رافعٍ
753- ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك فقتل أبا رافع ابن أبي الحقيق.(3/54)
[160] فصلٌ: في قصة الحديبية
754- ودخلت سنة ست، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فخرج إلى العمرة، وهو لا يريد قتالاً، وخرج معه ألف وستمائة رجل، وساق سبعين بدنة، حتى إذا كان بالحديبية بعث عثمان بن عفان يستأذن له على أهل مكة على أن يدخل معتمراً، فأبوا أن يتركوه، واحتبس عثمان بن عفان رضي الله عنه، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم : تبايعوني على الموت، فبايعوه تحت الشجرة، فتلك بيعة الرضوان،(3/55)
ثم إنهم اصطلحوا على أن ينصرف عنهم، ويرجع من العام المقبل فيحلوا بها ثلاثة أيام، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب بينهم كتاباً، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه، ثم جلس فحلق رأسه، ونحر أصحابه بدنهم، وحلقوا رؤوسهم.(3/56)
[161] فصلٌ: في غزوة خيبر
755- ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فحل بها، ثم حاصرهم،(3/57)
فخرج إليهم اليهود وقاتلوه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ناساً من أصحابه فهزموا، فلما رجعوا إليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله(3/58)
على يديه، فأعطاها علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فأقبل بها حتى ركزها في أصل حصنهم، فأشرف إليه يهودي فقال: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب، فالتفت إلى قومه فقال: غلبتم وما أنزل على موسى، ففتحها الله على يديه.
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعناقهم، وسبى ذراريهم، وأخذ أموالهم، وأخذ من سبيهم: صفية بنت حيي، فأعتقها وتزوجها.(3/59)
[162] فصلٌ: في سرية بشير بن سعدٍ إلى فدك
756- وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بفدك، فرجع ولم يلق كيداً.(3/60)
[163] فصلٌ: في عمرة القضية
757- ثم دخلت سنة سبع، فاعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين شهدوا معه الحديبية، فخرج ومعه ستون بدنة، فمضى حتى دخل مكة، فطاف بالبيت أسبوعاً على ناقته، يستلم الركن بمحجنة، وأقام بها ثلاثة أيام، وتزوج بها ميمونة بنت الحارث الهلالية، ثم خرج فابتنى بها بسرف.(3/61)
[164] فصلٌ: سياقٌ آخر لقصة الحديبية وعمرة القضية
قال أبو سعد رحمه الله:
758- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحج مع قومه قبل مبعثه، وبعد مبعثه قبل نزول فرض الحج عليه، ويدعو الناس في كل موسم إلى الإيمان وإلى اتباعه.(3/62)
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلما كان في سنة ست من الهجرة(3/63)
أنزل عليه فريضة الحج، وهو قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً}.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً في تلك السنة، وأحرم بها من ذي الحليفة، فلما بلغ الحديبية صده المشركون، وصالحوه على أن يعود في قابل معتمراً، ويخلون له مكة ثلاثة أيام لياليها، ويصعدون إلى رؤوس الجبال.
وهادنهم على ترك القتال عشر سنين، فأحل من إحرامه، ونحر سبعين بدنة ساقها معه صلى الله عليه وسلم .
759- ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم غزا خيبر ففتحها وقسمها بين أهل الحديبية.(3/64)
وهم أهل بيعة رضوان الذين أنزل الله فيهم سورة الفتح: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} الآية، وذلك الحديبية، وكانوا ألفاً ومائتي راجل، ومائتي فارس، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم غنيمة خيبر على ثمانية عشر سهماً: للرجالة اثنا عشر سهماً، لكل مائة: سهم، وللفرسان ستة أسهم، لكل فارس ثلاثة أسهم، ولكل راجل: سهم.
760- ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فلما كان في قابل أحرم بالعمرة من مسجد الشجرة بذي الحليفة، في ذي القعدة، وخرج إلى مكة، فأقام بها ثلاثة أيام، وفرغ من عمرته، ودخلها هو وأصحابه بجليان السيوف فقط، فلما رآهم المشركون من رؤوس الجبال وبهم تعب السفر، قالوا: أما ترون إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد نهكتهم حمى يثرب -يعنون المدينة- فأرادوا(3/65)
الغدر بهم والنزول إليهم، فأطلع الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم على عزمهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أظهروا لهم الجلد، فاضطبعوا ورملوا، وسعوا بين الصفا والمروة وفي وسط الوادي، فلما رآهم المشركون كذلك علموا بقوتهم، وقالوا: هؤلاء جلدٌ أقوياء.
761- فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ثلاثاً، ثم أنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم عثمان ابن عفان فقال: إن شئتم أقمت عندكم ثلثاً آخر، وعرست بأهلي وأولمت لكم، فقالوا: لا حاجة لنا في وليمتك.
762- ثم تزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة الهلالية قبل عمرته، ولم يدخل بها، فخرج صلى الله عليه وسلم آخر اليوم الثالث، حتى أتى سرف -وهي على عشرة أميال من مكة- وأقام بها ثلاثاً، وعرس بأهله، ثم سار صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.(3/66)
[165] فصلٌ: في سرية كعب بن عميرٍ الغفاري إلى ذات أطلاح
763- ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقام بها بعد فتح خيبر، وبعث كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح من أرض الشام فأصيب هو وأصحابه جميعاً.(3/67)
[166] فصلٌ: في غزوة مؤتة
764- ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت سنة ثمان.
ثم بعث زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام، فأصيبوا بها جميعاً، وفتح من بعدهم على خالد ابن الوليد.(3/68)
[167] فصلٌ: في سرية غالبٍ بن عبد الله
765- وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي إلى أرض بني مرة فقتل وأسر.
[168] فصلٌ: في سرية عيينة بن حصن
766- وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن إلى أرض بني العنبر فقتل وأسر.(3/69)
[169] فصلٌ: في غزوة ذات السلاسل
767- وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل.(3/70)
[170] فصلٌ: في ذكر سبب مسيره صلى الله عليه وسلم إلى مكة وفتحها
768- فلما كان في العام التالي -وهو سنة ثمان من الهجرة- نقض أهل مكة الهدنة بمعاونة بعضهم لقوم من اليمن -يقال لهم: بنو نفاثة- على خزاعة، وكانوا أحلافاً للنبي صلى الله عليه وسلم لمحالفتهم جده عبد المطلب، فخرج صارخهم إلى المدينة يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال شعراً في ذلك يقول فيه:
لا هم إني ناشد محمداً ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
إن قريشاً أخلفوا الموعدا ... ونقضوا عهده المؤكدا
وقتلونا ركعاً وسجدا ... وهم أذل وأقل عددا(3/71)
769- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نصرت إن لم أنصر خزاعة.
770- وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بنقض الهدنة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان إلى مكة، فدخلها من غير إحرام بحج ولا عمرة، ثم أقام بها سبعة عشر يوماً.(3/72)
771- ثم خرج صلى الله عليه وسلم ففتح الله عليه، وقسم غنائمها.(3/74)
[171] فصلٌ: سياقٌ آخر في سبب مسيره صلى الله عليه وسلم لفتح مكة
772- ثم إن بكراً وخزاعة اقتتلوا، وكانت خزاعة دخلت في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبكراً في حلف قريش، حيث كتبوا الكتاب بالحديبية، فلما اقتتلوا أعانت قريش بكراً بالسلاح، فنقضوا، وجاء نذير خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستنصره، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب أن يشهدوا غرة شهر رمضان بالمدينة، ففعلوا.
773- وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش في عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وسائر العرب، حتى إذا كانوا قريباً من مكة أسروا أبا سفيان بن حرب، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب فيه العباس بن عبد المطلب فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال له الناس: أسلم وإلا قتلت،(3/75)
فأسلم، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ينادي: أن من دخل داره وألقى السلاح فهو آمن، فأتاهم فناداهم وقال: أتاكم ما لا قبل لكم به، من ألقى السلاح ودخل داره فهو آمن، ففعل الناس ذلك، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب رؤوسها بعصى كانت معه، يقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاًْ}.(3/76)
[172] بابٌ: في ذكر استلامه صلى الله عليه وسلم مفتاح بيت الله الحرام ومفتاح السقاية
774- أخبرنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي بمكة حرسها الله، ثنا أبو الحسن: محمد بن نافع بن محمد بن إسحاق الخزاعي، ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي، ثنا أبو الوليد: محمد بن عبد الله بن أحمد قال: وأخبرني جدي، أنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جريج: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذوا يا بني طلحة، خذوا ما أعطاكم الله ورسوله تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم.(3/77)
775- أخبرنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي بمكة حرسها الله، ثنا أبو الحسن: محمد بن نافع، ثنا أبو محمد: إسحاق بن نافع الخزاعي، ثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي، عن محمد بن إدريس، قال: ذكر الواقدي عن أشياخه قالوا:
انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بعدما طاف على راحلته، فجلس ناحية من المسجد والناس حوله، ثم أرسل بلالاً إلى عثمان بن طلحة فقال: قل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تأتيه بمفتاح الكعبة، فقال عثمان: نعم، فخرج إلى أمه سلافة بنت سعد الأنصارية، ورجع بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال: نعم، ثم جلس بلال مع الناس.
وجاء عثمان إلى أمه -والمفتاح يومئذ عندها- فقال: يا أماه أعطيني المفتاح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبه مني، فقالت أمه: أعيذك بالله أن يكون ذهاب مأثرة قومك على يديك، قال: والله لتدفعنه إلي أو ليأتينك غيري فيأخذه منك، فأدخلته في حجرها وقالت: أي رجل يدخل يده هاهنا؟!
فبينا هما على ذلك إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الدار، وعمر رافع صوته حين رأى إبطاء عثمان: يا عثمان اخرج، فقالت أمه: يا بني خذ المفتاح، فلأن تأخذه أنت أحب إلي من أين يأخذه تيم وعدي.(3/78)
776- وروى نافع، عن عبد الله قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقة لأسامة بن زيد حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة، فقال: ائتني بالمفتاح، فذهب إلى أمه، فأبت أن تعطيه، فقال: والله لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي -أو ظهري-، قال: فأعطته إياه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إليه، ففتح الباب، فدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة، فأجافوا عليهم الباب ملياً.
ثم فتح الباب، وكنت فتى قوياً فبدرت وزاحمت الناس، فكنت أول من دخل الكعبة، فرأيت بلالاً عند الباب فقلت له: يا بلال أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: بين العمودين المقدمين، وكانت الكعبة على ستة أعمدة.
قال ابن عمر: ونسيت أن أسأله كم صلى؟
777- وقيل: إنها قالت: ادفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل: بالأمانة، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بالأمانة.(3/79)
فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد قبض السقاية من العباس، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت وقف على الباب وفي يده المفتاح، ثم جعله في كمه، فخطب، ثم جلس، فقال له العباس -وبسط يده-: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اجمع لنا السقاية والحجابة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع لعمه العباس بين السقاية والحجابة، فهبط جبريل عليه السلام وقرأ عليه: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} الآية، فقال صلى الله عليه وسلم : ادع لي عثمان، وقال صلى الله عليه وسلم : خذوها يا بني طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله تعالى استأمنكم على بيته فخذوه بأمانة الله.
وقال عثمان: فلما وليت ناداني: فرجعت إليه فقال صلى الله عليه وسلم : ألم يكن الذي قلت لك؟ قال: فذكرت قوله لي بمكة، فقلت: بلى، إنك رسول الله، فأعطاه المفتاح.(3/80)
[173] فصلٌ: في غزوة حنينٍ
778- وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بقية شهر رمضان والنصف من شوال، ثم بلغه أن هوازن وثقيقاً قد ساروا إليه بأموالهم وذراريهم يقودهم مالك بن عوف النصري، فاستنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم الناس، ثم خرج صلى الله عليه وسلم وخرج معه اثنا عشر ألف رجل، عشرة آلاف من أهل المدينة ومن حولهم من العرب، وألفان من أهل مكة، فقال بعض أصحابه: لو لقينا بني شيبان في عدوهم ما بالينا، ولن يغلبنا أحد من قلة.
779- فالتقوا بحنين، فحملت عليهم هوازن حملة فانكشف الناس عنه وولوا مدبرين، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فحفوا به وهو على بغلته الشهباء،(3/81)
والعباس آخذ بحكمة بغلته وهو ينادي: يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة إلي أنا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس بن عبد المطلب: صح في الناس، فنادى العباس بصوت عال: أين المهاجرون الأولون؟! أين أصحاب الشجرة؟! هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكر المسلمون عليهم راجعين، فاصطكوا بالسيوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان بن الحارث: ناولني تراباً من الأرض، فناوله من الحصباء كفاً فرمى بها في وجوههم وقال: شاهت الوجوه، فانهزم المشركون، وأخذت فرقة منهم إلى الطائف، وأخرى إلى أوطاس، فأصيب منهم(3/82)
قتلى كثير، وأموال كثيرة، وسبى المسلمون منهم ستة آلاف، فقال العباس رضي الله عنه:
نصرنا رسول الله في الحرب سبعة ... وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا
وثامننا لاقى الحمام بسيفه ... بما مسه في الله لا يتوجع(3/83)
[174] فصلٌ: في غزوة أوطاس
780- وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن قيس الأشعري إلى من أخذ منهم ناحية أوطاس، فقاتلوه، فهزمهم وولوا مدبرين.(3/84)
[175] فصلٌ: في غزوة الطائف
781- ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فحصرها عليهم، فخرج إليه مالك بن عوف رئيس هوازن فأسلم، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف خمسة عشر -وقيل: أقام بها شهراً-، ثم انصرف ورجع منها(3/85)
وتركها ولم يؤذن له في فتحها، حتى نزل الجعرانة، فقسم غنائم حنين بين أصحابه، ثم اعتمر من الجعرانة لليالي خلون من ذي القعدة، فأحرم بها بالعمرة ودخل مكة معتمراً، وفرغ من عمرته ليلاً وخرج إلى المدينة، وأمر صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص، وخلف معه معاذ بن جبل رضي الله عنه وأبا موسى الأشعري يعلمان الناس القرآن ويفقهان في الدين.(3/86)
[176] فصلٌ: في غزوة تبوك
782- ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بها، ودخلت سنة تسع، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لخروجه في غزوة تبوك -وهو يريد الروم-؛ فأرسل إلى من حوله من العرب فأتوه، ثم خرج ومعه زيادة على ثلاثين ألفاً -وهو جيش العسرة- وفيها ظهر النفاق.
783- وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد من الطريق في ثلثمائة رجل إلى دومة الجندل، ومضى هو إلى تبوك، فلم يلق بها كيداً.(3/87)
784- ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي إلى الغابة.
785- وبعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى نجران في ستمائة.(3/88)
[177] فصلٌ: في بعثه صلى الله عليه وسلم أبا بكرٍ بالحج
786- وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حتى دخلت سنة تسع، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أميراً على الحج، فأقامه للناس، فحج المشركون فأنزل الله عز وجل أول براءة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين آية منها مع علي بن أبي طالب فقرأها على الناس يوم عرفة فقال: {براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم} الآية، يعني: من أهل العهد، وقوله تعالى: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهرٍ} الآية، يقول: سيروا في الأرض أربعة أشهر حيث شئتم آمنين، فجعل مدة أهل العهد أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر من ربيع الآخر، وجعل من لا عهد له أجله خمسين يوماً من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم، فذلك قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}.
فقرأها عليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: لا يحجن بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو على مدته، وأن الله بريء من المشركين.(3/89)
ثم رجع أبو بكر وعلي رضي الله عنهما إلى المدينة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله، وبعث إليهم رسله.
787- ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وأهله أجمعون، وليس معه أحد من المشركين، فنزلت عليه يوم عرفة: {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية، يعني: أمره ونهيه، فلم ينزل بعد هذه حلال، ولا حرام، ولا فريضة، غير آيتين من آخر سورة النساء -وهي قوله تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} الآية، إلى آخر السورة- ثم قال تعالى: {وأتممت عليكم نعمتي} الآية، يعني: بالإسلام، أي: حججتم وليس معكم مشرك، وقوله تعالى: {ورضيت} يعني: اخترت {لكم الإسلام ديناً} فليس دين أرضى عند الله من الإسلام.
فنزلت هذه الآية والناس وقوف بعرفات، فبركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقل القرآن، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إحدى وثمانين ليلة صلى الله عليه وسلم وعلى آله.(3/90)
[178] فصلٌ: سياقٌ آخر فيه
788- وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه حاجاً بالناس من المدينة في سنة تسع، فلما بلغ العرج قام يصلي بالناس صلاة الصبح فسمع وغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء، فوقف ولم يكبر وقال: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على الحج، فإذا بعلي رضي الله عنه راكبها، فقال: يا أبا الحسن أنت أمير أو رسول؟ قال: بل رسول، إن الله تعالى أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم سورة براءة، وأمره أن يقرأها على أهل مكة، وقال: لا يؤديها عنك إلا رجل من قومك.
فخرجا إلى مكة، وكان أبو بكر أميراً، وعلي رضي الله عنه رسولاً مبلغاً، فإذا خطب أبو بكر رضي الله عنه قام علي رضي الله عنه فأدى الرسالة وقرأ براءة على الناس وأعلمهم أن لهم تأجيل أربعة أشهر يسيحون في الأرض ثم لا أمان لهم.(3/91)
[179] بابٌ: في حج رسول الله صلى الله عليه وسلم
789- أخبرنا أبو علي: حامد بن محمد بن عبد الله بن معاذ الهروي، ثنا محمد بن صالح الأشج، ثنا قبيصة بن عقبة، ثنا سفيان الثوري، عن بكير بن عطاء الليثي، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي(3/92)
قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، فأتاه نفر من أهل نجد فقالوا: الحج، الحج، يا رسول الله، قال: الحج يوم عرفة، فمن جاء قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه، أيام منى ثلاثة أيام: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى} الآية.
قال: ثم أردف رجلاً فجعل ينادي بهن.(3/93)
[180] فصلٌ:
790- فلما كان في العام المقبل -وهي سنة عشر من الهجرة- خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً من المدينة، فصلى الجمعة بالمدينة لخمس بقين من ذي القعدة، وصلى العصر والمغرب والعشاء بذي الحليفة ثم أحرم منها، وأحرم من معه بالحج فلا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج.(3/94)
791- وقدموا مكة يوم الأحد الخامس من ذي الحجة، فطاف بها وسعى.
792- وانتظر صلى الله عليه وسلم أمر الله سبحانه وتعالى أن من كان منهم ساق هدياً فليقم على إحرامه، ومن لم يسق هدياً فليحل بعمرة.(3/95)
793- ولم يكن أحد منهم ساق هدياً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان قد ساق سبعين بدنة -وقيل: فوق الستين- فأقام على إحرامه، وأمر الناس بالإحلال.
794- وكان عند قريش والعرب أن العمرة في أشهر الحج من الكبائر ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر.
فأراد الله عز وجل أن يزيل عن قلوبهم ما تعودوه وألفوه، وأن لا تنقطع العمرة في كل وقت، فحل قوم، وتوقف قوم وقالوا: ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل، وأمرنا بالإحلال؟
795- فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهو غضبان، فقالت:(3/96)
يا رسول الله ما الذي أغضبك؟ فقال: كيف لا أغضب وأنا آمر بالأمر فيخالف؟
فقالت: لو أحللت لأحلوا، فقال صلى الله عليه وسلم : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة.
يعني: لو علمت هذا الأمر الذي أمرني الله به الآن وأنا بالمدينة لما سقت معي الهدي حتى أحل معهم فلا يتوقفون عن الإحلال.(3/97)
796- فقالوا: يا رسول الله أي الحل نحل؟ قال: الحل كله.
797- وفي رواية: فقالوا: نحل ونصيب النساء، ونخرج إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟
فلم يزل بهم صلى الله عليه وسلم حتى أحلوا، وأمرهم أن يحرموا يوم التروية من الأبطح، ويخرجوا إلى منى.
798- وقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبو موسى الأشعري من اليمن، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : بم أحرمتما؟ فقالا: قلنا: إهلالاً كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرفعهما ما نزل عليه، وكان مع علي رضي الله عنه ثلاثون بدنة فأقام على إحرامه.(3/98)
799- قال: ولم يكن مع أبي موسى الأشعري شيء فأحل، وأحل الناس كلهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لسوقهما الهدي، وحجا مفردين.
800- وأحرم الناس بالحج، وكانوا متمتعين، فمنهم من نحر وأكثرهم صام، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متعة أزواجه البقر.(3/99)
[181] فصلٌ: في الوقوف بعرفة
801- وقال صلى الله عليه وسلم : خذوا عني مناسككم.
802- وخرج صلى الله عليه وسلم إلى منى ضحوة النهار، حتى صلى الصبح، ودفع إلى عرفة، وقد أمر بقبة له من شعر أن تضرب له بنمرة، فنزل بها حتى زالت الشمس، ثم قصد مسجد إبراهيم عليه السلام، فخطب خطبتين، وصلى(3/100)
الظهر ركعتين والعصر ركعتين بأذان وإقامتين، ثم راح إلى الموقف، فاستقبل القبلة واستدبر الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه.
803- وكان يوم جمعة - وأنزل عليه بالموقف: {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية، فلم يزل صلى الله عليه وسلم واقفاً يدعو ويحرض الناس على الدعاء حتى غابت الشمس.(3/101)
[182] فصلٌ: في إفاضته صلى الله عليه وسلم إلى المزدلفة
804- ثم أفاض صلى الله عليه وسلم إلى المزدلفة وأسامة بن زيد رديفه قال: فقلت: يا رسول الله الصلاة، فقال: الصلاة أمامك، حتى بلغ صلى الله عليه وسلم بعض الشعاب ونزل، فاهراق الماء وتوضأ وضوءاً خفيفاً، ثم سار حتى بلغ مزدلفة، فجمع بين المغرب والعشاء بإقامتين من غير أذان.
805- وبات صلى الله عليه وسلم بها، فلما أصبح صلى الصبح، ووقف على قزح -وهو المشعر الحرام-.(3/102)
806- فدعا صلى الله عليه وسلم فأطال، ثم تبسم صلى الله عليه وسلم ، فقيل: يا رسول الله إنك تبسمت في ساعة لم تكن تبتسم فيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تبسمت من(3/103)
عدو الله إبليس، فإنه لما علم أن الله تعالى قد استجاب لي في أمتي أخذ يدعو بالويل والثبور، ويحثو التراب على رأسه.(3/104)
[183] فصلٌ: في إفاضته صلى الله عليه وسلم إلى منىً
807- فلما كادت الشمس أن تطلع أفاض صلى الله عليه وسلم إلى منى، فرمى ونحر وحلق، وطاف بالبيت أسبوعاً، ورجع إلى منى فصلى الظهر، وخطب في الناس خطبة الوداع، يذكر فيها الأحكام.
808- ونعى صلى الله عليه وسلم نفسه.
قال أبو سعد رحمه الله ورضي عنه: وقد رويت الخطبة بألفاظ مختلفة على حسب ما حفظها الناس، فمنهم من روى الكلمتين والثلاثة، والحكم والحكمين، ومنهم من زاد، ومنهم من نقص، لا أعلم أحداً روى جميع الخطبة على وجهها لطولها.
809- وقد قيل: إن خطبة الوداع كانت في النفر الأول وهو اليوم الثاني من أيام التشريق وهو الأصح، والله أعلم.(3/105)
وأكثر ما وجدت مما ذكر فيها:
810- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجته بمنى -يعني: في وسط أيام التشريق- فقال:
يا أيها الناس أتدرون في أي شهر أنتم؟ وفي أي يوم أنتم؟ وفي أي بلد أنتم؟
قالوا: في يوم حرام، وفي شهر حرام، وفي بلد حرام.
قال: فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم القيامة.
أيها الناس استمعوا مني تغنموا، ألا لا تظالموا.
ألا إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه.
ألا وإن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هاتين إلى يوم القيامة، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - كان مسترضعاً في بني ليث، فقتله هذيل.
ألا وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، ألا وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق(3/107)
السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم.
ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.
ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ولكنه في التحريش بينكم.
واتقوا الله في النساء، فإنهن عوان، لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإن لكم عليهن حقاً ألا يوطئن فرشكم أحداً غيركم، ولا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
ألا ومن كان عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.
أيها الناس، إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
ثم بسط صلى الله عليه وسلم يده فقال: ألا هل بلغت -ثلاثاً-.
ثم قال: ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع.(3/108)
[184] فصلٌ:
811- ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فنزل وهو في الطريق قوله تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} الآية.
فأقام صلى الله عليه وسلم بها إلى أن مات صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وكان بين خروجه من مكة ووفاته ثمانون ليلة.
فثبت ما ذكرنا: من أنه لم يحج من المدينة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع، واعتمر عمرتين، عمرة في سنة سبع وهي التي تسمى عمرة القضية، بعد أن صده المشركون عن العمرة بالحديبية فأحل ورجع، وعمرة من الجعرانة في سنة ثمان بعد فتح مكة.
فهذا جميع إحرامه صلى الله عليه وسلم بعد نزول فرض الحج والعمرة عليه.(3/109)
[185] فصلٌ: في بدء مرض وفاته صلى الله عليه وسلم
812- ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فاشتكى في آخر صفر، فكان آخر ما نزل من القرآن: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} الآية، فعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية تسع ليال، ثم مات بأبي وأمي يوم الاثنين، لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة عشر صلى الله عليه وسلم وعلى آله.(3/110)
813- فكان جميع غزواته صلى الله عليه وسلم ستين غزاة، منها سبعاً وعشرين غزاة غزاها بنفسه صلى الله عليه وسلم ، قاتل منها في تسع وهي: بدر، ثم أحد، ثم الخندق، ثم بنو قريظة، ثم بنو المصطلق، ثم خيبر، ثم الفتح، ثم حنين، ثم الطائف.
814- وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ودفن يوم الأربعاء.
815- وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع زوجات: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وميمونة، وسودة، وجويرية، وصفية.
816- وقيل: عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين عزيزاً، ثم اشتكى في صفر، فوعك أشد الوعك، وتوفي يوم الاثنين حين زالت الشمس لهلال ربيع الأول.
817- وقيل: توفي للنصف من ربيع الآخر، ودفن ليلة الأربعاء.(3/113)
بابٌ: في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم(3/115)
[186] بابٌ: في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
818- أخبرنا أبو سعيد: عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الرازي، الصوفي رحمه الله، ثنا يوسف بن عاصم الرازي، ثنا جعفر بن مهران، ثنا عبد الأعلى، .. ..(3/117)
ثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن عمر، عن عبيد بن حنين مولى الحكم بن أبي العاص، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أخبرني أبو مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
هجدني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل وأنا معه في بعض بيوته فقال: يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي.
قال: فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم.
يا أبا مويهبة: إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة.
قال قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها.
فقال: لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة.(3/118)
قال: ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي مات فيه.
819- قال محمد بن إسحاق: فحدثني الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فدخل علي فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وارأساه، فقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه، وتتام به وجعه حتى استعز به وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه فسألهن أن يأذن له أن يمرض في بيتي فأذن له، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بين رجلين من أهله، أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر، عاصباً رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتي.
820- قالت أسماء بنت عميس: واشتد مرضه صلى الله عليه وسلم حتى أغمي(3/119)
عليه، فتشاور نساؤه في لده، فلد، وقالت أسماء بنت عميس: كنا نتهم بك ذات الجنب يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: إن ذلك لداء ما كان الله عز وجل ليقذفني به، لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عم النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: عباساً- قال: فلقد التدت ميمونة يومئذ وهي صائمة لعزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
821- قال ابن إسحاق، قال الزهري: وحدثني حمزة بن عبد الله بن عمر أن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقلت: يا نبي الله إن أبا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن .. فذكره.(3/120)
822- ثم قال صلى الله عليه وسلم : اهريقوا علي من سبع قرب من آبار شتى، فأقعدنا صلى الله عليه وسلم بعد أن أفاق في مخصب لحفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فصببنا عليه من الماء حتى طفق يقول بيده: حسبكم.(3/121)
823- قال ابن إسحاق: وأخبرني الزهري، عن أنس بن مالك: أنه لما كان يوم الإثنين الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس وهم يصلون الصبح، فرفع الستر حتى قام على باب عائشة رضي الله عنها(3/122)
فكاد المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، وتفرجوا فأشار إليهم صلى الله عليه وسلم بيده: أن اثبتوا على صلاتكم، قال: وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سروراً بما رأى من هيئتهم في صلاتهم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة.
قال: ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفرق من وجعه، ورجع أبو بكر إلى أهله بالسنح.(3/123)
[187] فصلٌ: في نعيه صلى الله عليه وسلم نفسه لابنته فاطمة رضي الله عنها
824- ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا في مرضه الذي توفي فيه فاطمة ابنته، فحدثها بحديث بينه وبينها فبكت، ثم حدثها بحديث بينه وبينها فضحكت.
قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت أحداً من خلق الله عز وجل كان أشبه حديثاً وكلاماً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه أخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه.(3/124)
قالت عائشة: فلما كانت تلك المرة بكت وضحكت قلت: بينما هي تبكي إذ ضحكت! فسألتها فقالت: إني لبذرة.(3/125)
قالت: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها فقالت: إنه أسر إلي فأخبرني أنه ميت فبكيت، ثم أسر إلي فقال: إنك أول أهلي لحوقاً بي فضحكت.(3/126)
[188] فصلٌ: في ما جاء في آخر خطبةٍ خطبها صلى الله عليه وسلم ، ووصيته بالأنصار، وصلاته على الشهداء
825- روى الفضل بن العباس بن عبد المطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض مرضه الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم قال له: خذ بيدي حتى أخرج فأودع الناس وأعهد إليهم، فخرج إليهم، وصعد المنبر وعلى رأسه عصابة، فذكر خطبة طويلة، وقال في آخرها: ثم ذكر شهداء أحد، فدعا لهم وترحم عليهم وصلى عليهم وقال: ائتوهم فزوروهم وسلموا عليهم.(3/127)
قال الفضل: فكان كالمودع للأحياء والأموات.(3/128)
826- وكان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان من أهل بيته فقالا: يا رسول الله، هذه الأنصار في المسجد رجالها ونساؤها يبكون عليك، قال: ما يبكيهم؟ قال: يخافون أن تموت، قال: أعطني يدك، قال: فأخذ بيد علي والفضل رضي الله عنهما، فخرج حتى جلس على المنبر معتمداً عليهما، وعليه عصابة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس، ماذا تستنكرون من نبيكم؟ ألم ينع لكم وينع إليكم أنفسكم؟ أم هل خلد أحد ممن بعث قبلي فيمن بعثوا إليهم فأخلد فيكم؟ إني لاحق بربي، وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله عز وجل بين أظهركم تقرأونه مبيناً به ما تأتون وما تدعون، فلا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، وكونوا إخواناً كما أمركم الله عز وجل، ثم إني أوصيكم بهذا الحي من الأنصار، ألا إن الأنصار بيت الإيمان، ألا من ولي أمراً نصر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسن الأنصار وليتجاوز عن مسيئهم.(3/129)
827- روى أبو مجلز أن رجلاً قال: يا رسول الله رأيت فيما يرى النائم كأن رأسي قطع، فجعلت أنظر إليه بإحدى عيني، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بأيهما كنت تنظر؟ قال: فلبث ما شاء الله أن يلبث ثم مات النبي صلى الله عليه وسلم فعبر الناس: أن الرأس: كان النبي صلى الله عليه وسلم ، والنظر إليه: اتباع سنته.(3/131)
828- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نعى إلينا نبينا وخليلنا صلى الله عليه وسلم نفسه قبل موته بشهر، فلما دنا له الفراق جمعنا إليه في بيت أمنا عائشة رضي الله عنها، ثم نظر إلينا فدمعت عيناه، وتشدد فقال: مرحباً بكم،(3/132)
حياكم الله بالسلام، رحمكم الله، حفظكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، رفعكم الله، نفعكم الله، زادكم الله، وقاكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصيه بكم، وأستخلفه عليكم، وأنا لكم منه نذير مبين، ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فإنه قال لي ولكم: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين}، وقال: {أليس في جهنم مثوىً للمتكبرين}.
قال قلنا: يا رسول الله متى أجلك؟ قال: دنا الفراق، والمنقلب إلى الله عز وجل، وإلى الجنة المأوى، وإلى سدرة المنتهى، وإلى الرفيق الأعلى، وإلى الحظ الأوفى، وإلى العيش المهنى.
قلنا: يا رسول الله من يغسلك؟ قال: رجال من أهلي الأدنى فالأدنى.
قلنا: يا رسول الله فيما نكفنك؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم، أو ثياب مصر أو في حلة يمانية -وهو برد-.
قلنا: يا رسول الله فمن يصلي عليك؟ فبكى وبكينا، قال: مهلاً رحمكم الله وجزاكم عن نبيكم خيراً، إذا أنتم غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري هذا على شفير قبري في بيتي هذا، ثم اخرجوا عني ساعة، فإن أول من يصلي علي حبيبي وخليلي جبريل، ثم ميكائيل،(3/133)
ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنود من الملائكة، ثم سائر الملائكة، ثم ادخلوا علي فوجاً فوجاً، فسلموا علي، وسلموا تسليماً، ولا تؤذوني بتزكية ولا ضجة ولا رنة، وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي، ثم نساؤهم، ثم أنتم بعد، اقرءوا أنفسكم السلام مني، ومن غاب من أصحابي، فإني قد سلمت على من تبعني على ديني من يومي هذا إلى يوم القيامة.
قلنا: يا رسول الله فمن يدخل قبرك؟ قال: أهلي ورجال من أهل بيتي مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم : اللهم في الرفيق الأعلى.
829- قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما كان قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأيام خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم استغفر للشهداء الذين قتلوا يوم أحد، ثم قال: إنكم معشر المهاجرين تزيدون، وإن الأنصار لا يزيدون، وإنهم عيبتي التي أويت إليها، فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم، وأنفذوا جيش أسامة، ولا تدعوا في جزيرة العرب دينين مختلفين، ثم نزل فدخل بيت عائشة رضي الله عنها حتى اشتد وجعه.(3/134)
فجاء بلال اليوم الثالث يؤذنه بصلاة الفجر وهو مستلق على قفاه مغطى وجهه بخميصة له فقال: يا رسول الله الصلاة، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه فقال: يا بلال قد بلغت، من شاء فليصل ومن شاء فليترك، فخرج بلال من عنده وهو يبكي ويقول: ما ترك حبيبي الخروج إلى الصلاة إلا من جهد جهيد.
قال: فمكث قليلاً ثم رجع فقال: يا رسول الله الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد بلغت يا بلال، من شاء فليصل، ومن شاء فليترك، فخرج بلال من عنده وهو يقول: واحزني لما أرى من جهدك يا رسول الله.
قال: ثم عاد ثالثاً فقال: الصلاة يرحمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زمعة: مروا رجلاً يصلي بالناس -وفي بعض الأخبار: مروا أبا بكر يصلي بالناس-، فقالوا لأبي بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن(3/135)
تصلي بالناس، وأقام بلال، فلما كبر أبو بكر وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة في بدنه، فخرج إلى الصلاة، فلما رأى الناس سبحوا وكبروا، فالتفت أبو بكر رضي الله عنه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتأخر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : مكانك، وجلس عن يمينه.
فلما فرغ من الصلاة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المنزل فهبط جبريل وملك الموت، وهبط معهما ملك يقال له: إسماعيل -في سبعين ألف ملك، ليس منهم ملك إلا مع سبعين ألف ملك- فيسبقهم جبريل عليه السلام حتى جلس عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاء ملك الموت فوقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل البيت، ومنتهى الرحمة، ومبلغ الرسالة، أأدخل؟ فقالت فاطمة: يا عبد الله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك مشغول، ثم نادى ثانياً وثالثاً، فقال جبريل عليه السلام: يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك، لم يستأذن على أحد قبلك، ولا يستأذن على أحد بعدك.
فقال صلى الله عليه وسلم : يا جبريل، ائذن له فليدخل.
فأقبل ملك الموت حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أحمد: إن الله عز وجل أرسلني إليك، وأمرني أن أطيعك في كل ما أمرتني به، فإن رضيت قبضتها، وإن كرهت تركتها، فقال صلى الله عليه وسلم : يا ملك الموت: امض لما أمرت به، فقال جبريل عليه السلام: يا أحمد، هذا آخر وطئي الأرض، إنما كنت حاجتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا جبريل عند شدتي تتركني؟ فقال جبريل عليه السلام: يا أحمد، لا أستطيع أن أنظر إليك وأنت تعالج غصص الموت.
قال: فعرج جبريل عليه السلام، وأقبل ملك الموت عليه السلام يعالج روح النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت العقل لا يغيره شيء، حتى قبض صلى الله عليه وسلم(3/136)
وعنده جميع نسائه، فدنت عائشة رضي الله عنها، فقال صلى الله عليه وسلم : لقد رضيتك قبل اليوم، وأنت زوجي في الآخرة، ثم قال لها: تأخري، فقامت إلى مقعدها، ثم دنت منه فاطمة، وهو مغمض العينين فقالت فاطمة رضي الله عنها: بأبي أنت وأمي لا تجعلني أهون أهلك عليك، كلمني كلمة تطيب بها نفسي، فكلمها ثم قال لها: تأخري، فتأخرت، ثم قالت فاطمة لابنيها الحسن والحسين رضي الله عنهما وهما غلامان صغيران: ادنوا من جدكما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه، فدنوا منه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر تقبيلهما وشمهما، وقعدا بين يديه، وقالا: يا جداه، فلم يجبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لما به من سكرات الموت، فلما رأيا ذلك بكيا بكاءً شديداً، وكان الحسن رضي الله عنه يقول: يا جداه، ألا تنظر إلي نظرة واحدة وتكلمني كلمة واحدة أذكرها بعدك في أيام حياتي، يا جداه، لو كانت أمي أخبرتني قبل أن تصير كما أرى فدخلت عليك للزمتك وقبلتك، وتروحت من رائحتك واشتفيت من رؤيتك، وكنت أحب الناس إليك، قال: فلم يزل يبكي حتى بكى أهل البيت لبكائه، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففتح صلى الله عليه وسلم عينيه وقال: ما هذا الصوت؟ قالت فاطمة رضي الله عنها: ابناي كلماك فلم تجبهما فبكيا بكاءً شديداً، فبكى لهما أهل البيت، فقال صلى الله عليه وسلم : ادنوا، فدنوا فقبلهما، ووضع رأسهما عليه فبكوا جميعاً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: ائتني بقدح من ماء، فجاء به، فكان يدخل يده في القدح ويمرها على وجهه ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت، فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرباه لكربك يا أبت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا كرب على أبيك بعد اليوم، قال: فلم يزالوا كذلك من عند صلاة الفجر إلى الضحى، والباب مغلق وذلك يوم الاثنين، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم شخص صلى الله عليه وسلم ببصره،(3/137)
فقال الفضل لعلي رضي الله عنه: اغمض عيني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضم فاه، فأراد علي رضي الله عنه أن يفعل ذلك فإذا عيناه قد غمضتا، وضم فوه، وبسطت يداه ورجلاه صلى الله عليه وسلم وجعلت فداه، فلم يمس علي صلى الله عليه وسلم غير رأسه كان في حجره.
830- وقيل: إنه كان في حجر عائشة رضي الله عنها.
831- قال: فسطعت رائحة طيبة لم يجدوا مثلها قط، وسمعوا حفيف أجنحة الملائكة وكثرة استرجاعهم وهم لا يرون أحداً، والله أعلم بذلك.(3/138)
[189] فصلٌ: في ذكر ما روي من التشديد على الأنبياء عند الموت، وسببه
832- قيل: إن الله عز وجل ضاعف على نبيه الأوجاع، وأعظم له البلاء ليضاعف له الأجر بذلك.
833- قال صلى الله عليه وسلم : نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء.
834- وفي الحديث: إن جبريل عليه السلام نزل على نبينا صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبضه الله سبحانه فيه فقال: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام(3/139)
وهو يسألك عما هو أعلم به، يقول لك: كيف تجدك يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أجدني مكروباً يا جبريل، فخرج جبريل عليه السلام.
835- وروي: أن الله تعالى لما قبض إبراهيم عليه السلام قال: كيف وجدت الموت يا إبراهيم؟ قال: كالسفود يلوي على لحمي فيجذب، قال: هذا وقد هونا عليك الموت.
قال أبو سعد رحمه الله: وكان سبب كربه صلى الله عليه وسلم أنه لما شاهد ما له عند ربه، وطالع مكانه منه فكاد صلى الله عليه وسلم أن يهيم فرحاً، ونظر وقد بقي له مقام ساعة في الدنيا، وحوله جماعة من الناس فقال: واكرباه من حبسي معكم هذا القليل شوقاً إلى مكانه.(3/140)
[190] فصلٌ: ذكر استئذان جبريل وملك الموت عليهما السلام في قبض روحه الشريفة صلى الله عليه وسلم
836- قال محمد بن إسحاق: قال ابن شهاب: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان آخر كلامه صلى الله عليه وسلم سمعتها منه وهو يقول: بل الرفيق الأعلى في الجنة، فقلت: إذاً والله لا يختارنا، وعرفت أنه الذي كان يقول لنا: أن نبي الله لا يقبض حتى يخير.
837- وقال عطاء بن يسار: لما حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة،(3/141)
قال له جبريل عليه السلام: لا أنزل إلى الأرض بعد هذا اليوم أبداً، إن الله أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً وخاصة لك، أسألك عما هو أعلم به منك: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل مكروباً، ثم جاءه في اليوم(3/142)
الثاني، والثالث، فقال له كيف تجدك يا محمد؟ قال: أجدني يا جبريل مكروباً، وأجدني يا جبريل مغموماً.
قال: وهبط مع جبريل ملك في الهواء يقال له: إسماعيل مع سبعين ألف ملك، فقال له جبريل: يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك، ما استأذن على آدمي قبلك ولا يستأذن على آدمي بعدك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائذن له، فأذن له جبريل، فدخل فقال ملك الموت: يا أحمد إن الله عز وجل أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن كرهت تركتها.
قال جبريل عليه السلام: يا أحمد إن الله قد اشتاق إلى لقائك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : امض لما أمرت به، فقال جبريل: يا أحمد هذا آخر وطئي الأرض، إنما أنت حاجتي من الدنيا.
قال: فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال: السلام عليكم أهل البيت، إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل ما فات، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإن المحروم من حرم الثواب، فقال علي رضي الله عنه: هذا هو الخضر.(3/143)
[191] فصلٌ: ذكر ما نزل من الكرب على الأمة بوفاته صلى الله عليه وسلم واضطراب الناس بذلك
838- عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه، فقال صلى الله عليه وسلم : ليس على أبيك كرب بعد اليوم، فلما مات قالت فاطمة:
يا أبتاه أجاب رباً دعاه ... يا أبتاه جنة الفردوس مأواه
يا أبتاه من ربه ما أدناه ... يا أبتاه إلى جبريل أنعاه
قال: فلما دفن قالت: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟!
839- عن محمد بن علي قال: ما رأيت فاطمة رضي الله عنها بعد أبيها ضاحكة، ومكثت بعده ستة أشهر.(3/144)
840- وعن جعفر بن محمد، عن القاسم قال: ما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الموت في أظفاره.
841- فلما مات صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن صعق كما صعق موسى، وإني لأرجو أن يقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ألسنة قوم وأيديهم وأرجلهم يزعمون أنه مات.(3/145)
فقام العباس رضي الله عنه فقال: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حارب وسالم، ونكح وطلق، وترككم على طريقة واضحة، فمن كان عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليخبرنا به.(3/146)
قال: ثم اقبل على عمر فقال: يا عمر خل بيننا وبين صاحبنا، فإن يك ما تقول حقاً فلن يعجز الله أن يحثو التراب عنه حتى يخرجه إلينا.(3/147)
842- وروي أن أبا بكر دخل على رسول الله عز وجل في ناحية البيت مسجى الثوب، فأقبل حتى كشف عن وجهه فأكب عليه وقبل بين عينيه ثلاثاً، ثم قال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، ثم رد البرد على وجهه، وخرج عمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر، فأبى إلا الكلام، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه من كان يعبد محمد فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: {وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}.
قالوا: كأنا لم نسمع هذه الآية حتى قرأها أبو بكر رضي الله عنه.(3/148)
843- وروي أنه لما شك في موت النبي صلى الله عليه وسلم -فقال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت-، وضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا الذي قد عرف من موته صلى الله عليه وسلم .(3/151)
[192] فصلٌ: ذكر تجهيزه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم وغسله وتكفينه ودفنه صلوات ربي وسلامه عليه
844- قال: ثم أخذوا في جهازه صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: لا ندري، أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه الثياب؟ قال: فألقى الله تعالى عليهم النوم حتى ضربوا بأذقانهم على صدورهم، ثم كلمهم مكلم(3/152)
من ناحية البيت: لا تجردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واغسلوه وعليه ثيابه، قال: فغسلوه في ثيابه، غسله علي والعباس والفضل، وأعانهم في الغسل: قثم -وهو غلام- وأسامة بن زيد يصب عليه الماء، فلم يرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرى من الميت.(3/153)
845- قال: وجعل الفضل يقول: أرحني يا علي قطعت وتيني، أرى شيئاً يتنزل علي -وهم الملائكة-.(3/154)
846- قال: فكان علي رضي عنه كلما اجتمع الماء في محاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حساه ويقول: بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حياً وميتاً.
847- قال: فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه، غسله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمسكه الفضل، وغسل ثلاثاً بماء سدر، فكان علي رضي الله عنه يدخل يده تحت قميصه فيغسله، وكان العباس والفضل يناولان الماء.(3/155)
848- وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب: برد أحمر حبرة، وثوبين أبيضين سحوليين.(3/156)
849- قال: ثم لما فرغوا من غسله وكفنوه اختلفوا في دفنه، فقالوا: ما ندري، ندفنه مع أصحابه بالبقيع أم في المسجد؟ قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.(3/157)
850- قال: وقال صلى الله عليه وسلم : ما من نبي قبض إلا دفن في الموضع الذي قبض فيه، قال: فرفعوا فراشه، وحفروا تحته.(3/160)
[193] فصلٌ:
851- وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه صلى الله عليه وسلم ، فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: يدفن مع أصحابه، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض.
852- قال: فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، فحفر له تحته، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون عليه أرسالاً: الرجال، حتى إذا فرغ منهم أدخل النساء، حتى إذا فرغ منهن أدخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط الليل -ليلة الأربعاء-.(3/161)
853- قال محمد بن إسحاق: حدثني الحسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة هو الذي يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد-، فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة، وقال للآخر: اذهب إلى أبي طلحة، اللهم خر لرسولك، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، ثم جعل صلى الله عليه وسلم في بيته وأدخل عليه الناس، فلما صلي عليه نزل علي رضي الله عنه القبر ومعه الفضل بن عباس، فقال أوس بن خولي: يا علي أنشدك الله أن تعطونا حظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل معهم القبر.(3/162)
854- قال: ثم نصب تسع لبنات نصباً، وجعل عليها حصباء.
855- قال: ورفع قبره صلى الله عليه وسلم .(3/163)
856- وجعل رأسه صلى الله عليه وسلم مما يلي المشرق، ورأس أبي بكر عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم .(3/164)
857- وصلى عمر على أبي بكر رضي الله عنهما، وصلى صهيب على عمر، وكبر كل واحد منهما أربع تكبيرات، وقبر في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً.
858- ثم إن شقران فرش قطيفة في القبر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها، ثم قال: والله لا يلبسها أحد بعدك.(3/165)
859- وعن المغيرة بن شعبة أنه قال: أنا آخر الناس عهداً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه طرح خاتمه في قبر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يهال عليه التراب، فنزل وأخذ الخاتم.(3/166)
[194] باب ما جاء في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
860- أخبرنا أبو الحسين: يحيى بن الحسين المطلبي رضي الله عنه إمام مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، أنا أبو عثمان: محمد بن عثمان العثماني، أنا أبو القاسم: طاهر بن يحيى بن الحسين العلوي قال: حدثني أبي، ثنا رجل من طلبة العلم قال: ثنا الفضل بن موسى قال: حدثني موسى بن هلال قال: حدثني عبد الله بن عمر، عن نافع،(3/168)
عن ابن عمر رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من زار قبري وجبت له شفاعتي.(3/169)
861- وعن بكر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى المدينة زائراً وجبت له شفاعتي يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمناً.(3/171)
862- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزر قبري فقد جفاني.
863- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من زار قبري بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً.(3/172)
864- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جاءني زائراً -لا ينزعه إلا زيارتي- كان حقا علي أن أكون له شفيعاً.(3/173)
865- وقال صلى الله عليه وسلم : من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي.(3/174)
[195] فصلٌ: في فضل ما بين قبره صلى الله عليه وسلم ومنبره، وفضل منبره
866- قال صلى الله عليه وسلم : ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة.(3/175)
867- وقال صلى الله عليه وسلم : منبري على ترعة من ترع الجنة.(3/177)
868- وروى كعب الأحبار قال: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفاً من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك، حتى إذا انشقت الأرض خرج صلى الله عليه وسلم في سبعين ألفاً من الملائكة يزفونه.(3/178)
[196] فصلٌ: فيما يقال عند زيارته للسلام عليه صلى الله عليه وسلم
869- روي عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر تقدم إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه.
870- وعن ابن عون قال: قلت لنافع: كان ابن عمر يسلم على القبر؟(3/179)
قال: قد رأيته -مائة مرة أو: أكثر من مائة مرة- يجيء إلى القبر فيقول: السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ثم ينصرف.
871- وعن عبد الله بن أبي أمامة، عن أبيه قال: رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقف، فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم انصرف.
872- وعن يزيد بن أبي سعيد المهري قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز إذ كان خليفة بالشام، فلما رأيته ودعته قال لي: إني أراك إذا أتيت المدينة سترى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاقرأه مني السلام.(3/180)
873- قال محمد بن إسماعيل: فحدثت به عبد الله بن جعفر فقال: أخبرني فلان أن عمر كان يبرد إليه البريد من الشام.
874- وقيل: أن من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}، وقال: صلى الله عليك يا محمد حتى يقولها: سبعين مرة، ناداه ملك: صل الله عليك يا فلان، لم تسقط لك حاجة.
875- قال أبو عمرو: محمد بن جعفر بن مطر رحمه الله: بلغنا أن أعرابياً قدم المدينة على قعود له، فأناخها على باب المسجد وعقلها، ثم دخل المسجد فوقف بحذاء وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا محمد بن عبد الله، جزاك الله عن أمتك أفضل ما جزى نبياً عن أمته، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، وأنك قد بلغت رسالة ربك، ونصحت لأمتك، وعبدت ربك حتى أتاك اليقين، صلى الله على روحك في الأرواح، وعلى جسدك في الأجساد.(3/181)
قال: ثم أقبل على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: السلام عليك يا أبا بكر الصديق، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وضجيعيه بعد وفاته، جزاكما الله عن الإسلام وعن نبينا خيراً.
قال: ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله جئتك مثقلاً بالذنوب والخطايا، أستشفع بك إلى ربي فيشفعك في، لأن الله عز وجل قال في كتابه -وقوله الحق-: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً}، فأنا ممن ظلم نفسه، وجئتك أستشفع بك إلى ربي وأستغفر الله وأتوب إليه، فاشفع لي إلى ربي.
ثم استقبل القبلة ورفع يديه ودعا ثم قال: إلهي إنك قلت -وقولك الحق-: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك}، فها أنا بين يديك، ظلمت نفسي، وأستغفرك وأتوب إليك، وقد جئت محمداً صلى الله عليه وسلم ومحمد صلى الله عليه وسلم قد مات، وإن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد مات فأنت حي لا تموت، وأتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم صاحب هذا القبر، اللهم شفعه في. إلهي إذا مات لنا ميت وله عندنا إجلال وحرمة كنا نعتق عند رأس قبره عبيداً وإماءً إجلالاً وحرمة له، وإنك قد أخبرتنا بإجلال محمد صلى الله عليه وسلم ، فأسألك بحرمة صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم أن تعتق عبدك الخاطيء اليوم على رأس قبره إجلالاً وحرمة له.
قال: ثم ولى وهو يقول:
يا خير من دفنت في القبر أعظمه ... فطاب من طيبه القيعان والأكم(3/182)
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم(3/183)
[197] فصلٌ: في أن الأنبياء أحياءٌ في قبورهم وما ورد من سماعه صلى الله عليه وسلم سلام من يسلم عليه ومعرفته به ورده عليه
876- روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنا أكرم على الله أن يتركني في الأرض فوق ثلاث.(3/184)
877- وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يبلغوني عن أمتي السلام.
878- وفي الخبر: إن الله تعالى أعطى ملكاً من الملائكة أسماع الخلائق، وهو قائم على قبري إذا مت إلى يوم القيامة، فليس أحد يصلي علي من أمتي صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه وقال: يا محمد صلى عليك فلان كذا وكذا.(3/186)
879- وعن سليمان بن سحيم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله هؤلاء الذين يأتوك فيسلمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: نعم، وأرد عليهم.
880- وروي عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله إلي روحي حتى أرد عليه السلام.
881- وقال صلى الله عليه وسلم : إن لله ملائكة يبلغوني صلاة أمتي، يقولون: يا رسول الله إن فلان بن فلان صلى عليك، فقيل: يا رسول الله كيف وقد صرت رميماً؟ فقال: إن الله حرم لحوم الأنبياء على الأرض أن تأكلها.(3/187)
882- وسمعت أبا حامد الهروي المجاور بمكة قال: سمعت أستاذي عبد الله الطبري قال: أكلت الكراث بالمدينة، ثم أردت زيارة القبر فقلت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الكراث ودخول المسجد، ثم قلت في نفسي: قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف يتأذى؟ فتقدمت إلى القبر، فسمعت من وراء القبر صيحة كأنه يقول: آه .. قال: فما تناولت الكراث بعد ذلك بالمدينة.
883- قال إبراهيم الخواص: أصابتني فاقة فضجرت، فدخلت المدينة، وتقدمت إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشكو، فسمعت هاتفاً يقول من وراء القبر: لا تضجر يا أبا إسحاق.
884- وقيل: جاءت امرأة إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن إبليس يوسوس لي، ويقول لي: إلى كم تعذبين نفسك، فاقصري، قالت: فهتف بي هاتف من ناحية القبر: {إن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً}، قالت: فخرجت ذعرة وجلة، ووالله ما عاودني ذلك الوسواس بعد تلك الليلة.(3/189)
[198] فصلٌ: ذكر بعض أحوال الزائرين والمجاورين
885- حكي عن بعض مجاوري المدينة قال: قدم شيخ من أهل خراسان، فدخل من باب جبريل عليه السلام، وزار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع من الباب الذي دخل منه -ومن قصد مكة لا يرجع من ذلك الطريق- قال: فظننت أنه أخطأ، فجئت خلفه وقلت: يا شيخ ليس هذا طريق مكة، فقال: لم أرد مكة، وإنما جئت لأزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم أرجع إلى بيتي، فإن اتفق لي الخروج إلى مكة خرجت، قال: وإنما قصدي هذه الزيارة.
886- وحكي عن بعض مجاوري المدينة قال: أقمت بالمدينة ثلاثاً، وكان ثم شيخ لم يزر القبر، فقلت له يوماً من الأيام: أقمت هاهنا ثلاث سنين لم أرك تقدمت إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: سبحان الله أنا هاهنا منذ سبع سنين لم أتجاسر أن أتقدم إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم هيبة منه وإجلالاً له صلى الله عليه وسلم .(3/190)
[199] فصلٌ: في قوله صلى الله عليه وسلم : لا تتخذوا قبري عيداً
887- روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تتخذوا قبري عيداً.(3/191)
888- وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تتخذوا قبري وثناً يعبد.(3/192)
[200] باب ما جاء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقوله عز وجل: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} فكان صلى الله عليه وسلم رحمةً في الدنيا والآخرة
889- حدثنا أبو بكر: محمد بن أحمد بن هارون الأصفهاني رحمه الله بمكة حرسها الله تعالى في المسجد الحرام بحذاء الكعبة، ثنا أبو الحسن: محمد بن سهل، ثنا لوين، ثنا محمد بن المصفى،(3/193)
عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن ميسرة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يدخل النار من رآني في المنام.(3/194)
890- وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة.
891- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو على برذون أبلق، وبيده قضيب أخضر، وعليه بغلان يتلألأ شراكهما وهو يبادر، قلت: بأبي وأمي، اشتد شوقي إليك، فإلى أين تبادر؟ قال: إن عثمان رضي الله عنه أصبح في الجنة عروساً ملكاً، وإنا قد دعينا إلى عرسه.
892- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لما فرغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه(3/195)
من فتح بيت المقدس فصار إلى الجابية، سأل بلالٌ مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقره بالشام، ففعل ذلك.
ثم إن بلالاً رضي الله عنه رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني يا بلال؟ قال: فانتبه حزيناً، وجاء خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه.
وأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا: يا بلال نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر، ففعل، وعلا سطح المسجد فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال: الله أكبر الله أكبر ارتجت المدينة، فلما أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله ازدادت رجتها، فلما أن قال: أشهد أن محمداً رسول الله خرجن العواتق من خدورهن وقالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال فما رؤي يوماً أكثر باكياً ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم.
893- وقال أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه: قال الحسن بن علي: قال لي علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنح لي الليلة في منامي، فقلت: يا رسول الله، ما لقيت من أمتك من الأود والكرب! فقال: ادع عليهم،(3/196)
فقلت: اللهم أبدلني بهم من هو خير لي منهم، وأبدلهم بي من هو شر لهم مني.
قال: فخرج فضربه الرجل.(3/197)
894- وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أشعث أغبر، في يده قارورة فيها دم، فقلت: ما هذه القارورة؟ قال: دم الحسين بن علي رضي الله عنه، لم أزل ألتقطه منذ الليلة.(3/198)
قال: فأحصي من ذلك اليوم فوجدوه يوم قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما.
895- ويروى عن سالم، عن عبد الله بن عمر أنه قال: سمعت رجلاً يقول: رأيت في المنام أن الناس جمعوا للحساب، فجاءت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، مع كل نبي أمته، وأنه رأى لكل نبي نورين يمشي بهما، ورأى لكل من اتبعه من المؤمنين نوراً واحداً يمشي به، حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا لكل شعرة في رأسه ووجهه نور يستنير به كل امرئ نظر إليه، وإذا لكل من اتبعه من أمته من المؤمنين نور كنور الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم .
896- قال: فقال كعب: ولا يشعر حين يحدث الرجل أنها رؤيا: من حدثك بهذا الحديث؟ وما علمك بهذا الحديث؟ قال: إنها رؤيا، قال: فيناشدك كعب بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ما تقول في منامك؟ فقال الرجل: نعم والله، لقد رأيت ذلك، فقال كعب: والذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق إنه لنعت محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ونعت الأنبياء وأممهم في كتاب الله، لكأنما قرأته من التوراة.
897- وقال كعب الأحبار: إن خلافة الصديق رضي الله عنه كانت من السماء، وقد علم خلافته قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم بست عشرة سنة، قيل:(3/199)
كيف ذلك؟ قال كعب: رؤيا رآها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بمكة، رآى كأن القمر سقط من السماء إلى الكعبة، فتقطع قطعة قطعة، فلم تبق حجرة في مكة إلا دخلها من القمر قطعة، ووقعت في حجر أبي بكر رضي الله عنه قطعة، فخرج القمر من حجرات مكة واستوى كما كان إلا الذي وقع في حجر أبي بكر الصديق فإنه بقي في حجره، قال:
فكره علماء مكة -حرسها الله- رؤياه، وكانوا يهود، قال: فخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه في رحلة الشتاء إلى الشام وبها بحيرا الراهب، فسأله فقال بحيرا الراهب: سيبعث الله عز وجل نبياً بمكة، وتكون أنت وزيره في حياته، وخليفته بعد مماته.
قال: فلما سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن برهانه على النبوة، قال له صلى الله عليه وسلم : الرؤيا التي رأيتها بمكة.
898- وعن عبد الملك بن عمير قال: حدثني كثير بن الصلت قال: دخلت على عثمان بن عفان وهو محصور، فقال لي عثمان رضي الله عنه: يا كثير بن الصلت ما آراني إلا مقتولاً من يومي هذا، قال قلت: رؤيت لك في هذا اليوم -أو قيل لك فيه- شيء؟ قال: لا، ولكني سهرت في ليلتي هذه الماضية، فلما كان عند السحر أغفيت إغفاءة فرأيت فيما يرى النائم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا عثمان الحقنا، لا تمسكنا، فإنا منتظروك.
قال: فقتل من يومه صلى الله عليه وسلم .(3/200)
899- وعن عمر بن عبد العزيز قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: ادن يا عمر، ثم قال: ادن يا عمر، ثم قال: ادن يا عمر، حتى كدت أن أصيبه، ثم قال لي صلى الله عليه وسلم : يا عمر إذا وليت فاعمل في ولايتك نحواً من هذين.
قال: وإذا كهلان قد اكتنفاه، قلت: ومن هذان؟ قال: هذا أبو بكر وهذا عمر.(3/201)
900- عن القاسم بن محمد قال: أخذ بيدي سفيان الثوري فمضينا إلى رجل يكنى: أبا همام -من أهل البصرة-، فسأله عن حديث عمر بن عبد العزيز فقال: حدثني رجل من الحي -وذكر من فضله- قال: سألت الله عز وجل أن يرزقني الحج ثلاث سنين، فأريت النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاني فقال: احضر الموسم العام، فانتبهت، فذكرت أنه ليس عندي ما أحج به، قال: فأتاني في الليلة الثانية فقال لي مثل ذلك، فانتبهت، فقلت مثل ذلك، قال: فأتاني في الليلة الثالثة -قال: وكنت قلت في نفسي: إن هو أتاني قلت: ليس عندي ما أحج به-، قال: فقلت له ذلك فقال لي: انظر في موضع كذا وكذا من دارك فاحتضره فإن فيه درعاً لجدك -أو لأبيك- قال: فصليت الغداة، ثم احتضرت ذلك الموضع، فإذا درع كأنما رفعت عنها الأيدي، قال: فأخرجتها وبعتها بأربعمائة درهم، ثم أتيت المربد فاشتريت بعيراً -أو: ناقة- فتهيأت كما يتهيأ الحاج، فوعدت أصحاباً لي، فخرجت معهم حتى شهدت الموسم، ثم أردت الانصراف، فذهبت لأودع أهلي، وقدمت بعيري إلى الأبطح لأصلي للحج الذي نويته، إذ غلبتني عيناي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: يا هذا،(3/202)
إن الله عز وجل قد قبل منك سعيك، ائت عمر بن عبد العزيز وقل له: إن لك عندنا ثلاثة أسماء: عمر بن عبد العزيز، وأمير المؤمنين، وأبو اليتامى، شد يدك بالعريف، والمكاس.
قال: فانتبهت، فأتيت أصحابي فقلت لهم: امضوا على بركة الله، وأخذت برأس بعيري وسألت عن رفقة تخرج إلى الشام فمضيت معهم، حتى انتهيت إلى دمشق، فسألت عن منزله، فأنخت ناقتي على باب الدار وأوصيت بها -وذلك قرب انتصاف النهار- فإذا رجل قاعد على باب الدار فقلت له: يا أبا عبد الله استأذن لي على أمير المؤمنين، فقال لي: ما أمنعك -أو قال: ما امتنع عليك-، ولكني عالم بما كان من شأنه، من تشاغله بالناس، حتى كان الساعة أنت، فإن صبرت وإلا دخلت.
قال: فلما دخلت على عمر بن عبد العزيز قال لي: من أنت؟ قلت: رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: فنظرت إليه فإذا نعلاه في إصبعيه، وإذا هو يستقي ماء، فلما رآني، تنحى فألقى نعليه ثم جلس، فسلمت وجلست فقال: ممن أنت؟ قلت: رجل من أهل البصرة، فقال: ممن أنت؟ فقلت: من بني فلان، قال: كيف البر عندكم؟ كيف الشعير؟ كيف الزيت؟ كيف الزبيب؟ كيف التمر؟ كيف البرني؟ كيف السمن؟ حتى عد هذه الأنواع، فلما فرغ من هذا عاد إلى المسألة الأولى ثم قال لي: ويحك جئت لأمر عظيم؟ قلت: يا أمير المؤمنين ما أتيت إلا بما رأيت،(3/203)
ثم اقتصصت رؤياي، من لدن رؤياي إلى مجيئي إليه -قال: فكأن ذلك تحقق عنده- فقال: ويحك أقم عندي- أو: البث قليلاً، فأواسيك، قلت: لا، قال: فدخل فأخرج صرة فيها أربعون ديناراً، وقال: لم يبق من عطائي غير ما ترى وأنا أواسيك منها، قال قلت: لا والله لا آخذ على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً.
قال: فكأن ذلك تصدق عنده، فودعته، فقام إلي واعتنقني، ومشى معي إلى باب الدار، ودمعت عيناه، ورجعت إلى البصرة، فمكثت حولاً ثم قيل لي: مات عمر بن عبد العزيز، فخرجت غازياً، فلما كنت في أرض الروم إذا الرجل الذي كان يستأذن لي قد عرفني ولم أعرفه، فسلم علي ثم قال: علمت أن الله عز وجل قد صدق رؤياك.(3/204)
901- وعن أبي عبد الله مولى الليثين قال: رأيت كأن النبي صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد والناس حوله، ومالك بن أنس رضي الله عنه قائم بين يديهن وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسك، فهو يأخذ منه قبضة قبضة فيدفعها إلى مالك رضي الله عنه، ومالك ينثرها على الناس.
قال أبو مصعب: فأولت ذلك العلم باتباع السنة.
902- قال خلف: دخلت على مالك رحمه الله فقال لي: انظر ما تحت مصلاي -أو: حصيري-، قال: فنظرت فإذا بكتاب أقرأه فإذا فيه رؤيا .. ..(3/205)
رآها بعض إخوانه، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام في مسجده وقد اجتمع الناس فقال لهم: إني قد خبأت تحت منبري طيباً -أو: علماً- وأمرت مالكاً أن يعرفه الناس، فأشرف على الناس وهم يقولون: ومتى ينفذ مالك ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بكى، فقمت عنه.
903- وعن مصعب بن المقدام قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وسفيان الثوري آخذ بيده وهما يطوفان فقال له سفيان: يا رسول الله مات مسعر بن كدام! قال: نعم، واستبشر بموته أهل السماء.
904- وعن الكلبي أنه قال: رأيت في المنام كأن القيامة قد(3/206)
قامت، وكأني عرضت على الله تبارك وتعالى فقال لي: تنسب إلي ما لا تعلم، وتتكلم فيما لا تعلم؟! ثم أمر بي إلى النار، فمر بي على حلقة رأيت فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت: يا رسول الله، رجل من أمتك أمر به إلى النار فاشفع إلى ربك، قال: كيف أشفع وأنت تنسب إلي ما لا تعلم؟ فقلت: إني مع ذلك أفسر القرآن، فقال لرجل من جلسائه: قم إليه فاسأله، قال: فقام إلي رجل فإذا هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال لي: ما الأيام المعدودات؟ قلت: أيام التشريق، قال: فما الأيام المعلومات؟ قلت: أيام العشر، حتى سألني عن أربع مسائل أو خمس، فأومأ بيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أصاب -وعقد ثلاثين-، فشفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخلي عني، فجلست مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت: يا رسول الله إن بني أمية طال ملكهم علينا وهم يظلموننا، فمتى انقضاء ملكهم؟ فقال: إلى عدان أو عدانين أو نصف عدان.
قال: فقلت للكلبي: وما العدان؟ قال: سبع سنين.(3/207)
قال: فكان الكلبي بعد ذلك لا ينسب إلى القبائل إلا المعروفة التي لا شك فيها، ولما انقضى ذلك العدد ذهب ملكهم.
905- عن محمد بن سهل الأسدي قال: حدثني أبو يعقوب بن سليمان الهاشمي قال: حدثني شيخ من موالينا .. قال محمد: ثم رأيت الشيخ فسألته فحدثني به قال: كنت يوماً مع قوم، فتذاكرنا أمر علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فكأني نلت من الزبير رضي الله عنه، فلما كان من الليل أريت في منامي كأني انتهيت إلى صحراء واسعة، فيها خلق كثير عراة، رؤوسهم رؤوس الكلاب، وأجسادهم أجساد الناس، مقطعي الأيدي والأرجل من خلاف، فيهم رجل مقطوع اليدين والرجلين فلم أر منظراً أوحش منه، فامتلأت رعباً وفزعاً، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذي يشتمون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقلت: ما بال هذا من بينهم مقطوع اليدين والرجلين؟ قيل: هذا أغلاهم على شتم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.(3/208)
قال: فبينا أنا كذلك إذ رفع لي باب فدخلته، فإذا درجة فصعدتها إلى موضع واسع، وإذا رجل جالس حواليه جماعة، فقيل لي: هذا النبي صلى الله عليه وسلم ، فدنوت منه، وأخذت بيده فجذب يده من يدي وغمز علي غمزة شديدة، وقال: تعود؟ -فذكرت ما كنت قلت في الزبير- فقلت: لا والله يا رسول الله لا أعود إلى شيء من ذلك؟ قال: فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى رجل خلفه فقال: يا زبير قد ذكر أنه لا يعود، فأقله، فقال: قد أقلته يا رسول الله، قال: فأخذت بيده وجعلت أقبلها وأبكي وأضعها على صدري، قال: فانتبهت، وإنه ليخيل إلي أني أجد بردها في صدري.
906- وعن بعضهم قال: سألت أبا بكر الكتاني، قلت: بلغني أنك كثيراً ما ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم؟ قال: نعم، قلت: رأيت عشراً؟ قال: أكثر، إلى أن بلغ أربعمائة مرة، ثم قال: آخر ما رأيته البارحة، وكان على يمينه شيخ، وعلى يساره شيخ، وقدامه شيخ، ووراءه شاب فقال: سلمت عليه؟ فقلت: لا أعرفه؟ فقال: أبو بكر، ثم أبو حفص، ثم عثمان، ثم علي، قال: فلما قال علي رضي الله عنه أعرضت، فقال: لم أعرضت؟ قلت: جرى في أيامه شيء، قال: فضرب(3/209)
رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري وكنت نائماً في المسجد، فانتبهت وأنا على الصفا.
907- وعن محمد بن المنكدر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول في رجلين من أهل المدينة: عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، قال: قلت: ما ذنبهما يا رسول الله؟ قال: يأكلان لحوم الناس ويغتابانهم.
قال محمد: إني لأعرفهما، فلئن مرضا لا أعودهما، ولئن ماتا لا أشهدهما.
908- وعن سفيان بن عيينة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد اختلفت علي القراءات، فعلى قراءة من تأمرني أن أقرأ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : اقرأ على قراءة أبي عمرو بن العلاء.(3/210)
909- وعن محمد بن الصباح، عن أبي نعيم الخراساني قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في المنام قراءة أبي عمرو بن العلاء،(3/211)
فما غير علي إلا حرفاً واحداً، قرأت: {ما ننسخ من آية أو ننساها}، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : {أو ننسها}.
910- روي عن ابن مجاهد رضي الله عنه قال: جاءني رجل من القراء وقال: أحب أن تذهب بي .. ..(3/212)
إلى علي بن عيسى، قلت: إيش الحاجة؟ قال: لي إليه حاجة، قلت: لا بد منها؟ قال: لا، وقلت: ربما يسألني لأكفيه شيئاً من هذا، فقال: اعلم أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقلت: يا رسول الله رق حالي ولي صبيان، فقال: اذهب إلى علي بن عيسى، وقل له بالعلامة التي(3/213)
كنت تصلي علي كل ليلة جمعة ألف مرة، فهذه الجمعة دعاك فلان الخادم وكان بقي عليك ثلثمائة، فلما رجعت تممتها.
قال ابن مجاهد: قلت: أنا لا أقول من ذا شيئاً، ولكن تجيء معي وأنصت.
قال: فجاء، ودخلت عليه وقلت: هذا رجل مستور وله حاجة، فقال له علي بن عيسى: إيش الحاجة؟ قال: فذكر القصة، فقال: صدق، وبكى، وكتب رقعة بألف دينار إلى ولده في الديوان: أن تخرج إليه من مال خاصتي دون مال السلطان، فقال ابن مجاهد لما تحقق الأمر: قلت: ناولني الرقعة لأذهب معه، فجاء إلى ابنه فقال: أدفع إليه ألف درهم وأعرض الرقعة، فإن قال: هو دينار تممت، وأبى أن يعطي ألف دينار، ورد الرقعة، فلما رد الرقعة وردنا إلى علي بن عيسى وأخبرناه بالقصة فجعل الألف ألفين، وردنا، فجئنا إلى ابنه فقال: ما غير الدينار ولكن زادكم ألفاً، كأنه استحيا منكم، ولا أدفع إلا أن يكون خطأ ثالثاً، فردنا إليه، فمزق تلك الرقعة وكتب: إذا أتاك برقعتي فادفع إليه ثلاثة آلاف دينار وإلا زدنا.
قال: فلما رأى ذلك علم أنه صحيح، فدخل ووزن.
فقال ابن مجاهد: قلت: لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ثلاثة آلاف دينار.
911- ورأى رجل النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فشكا إليه حاله،(3/214)
فقال: اذهب إلى علي بن عيسى وقل له: ليدفع إليك ما يصلح به أمرك، فقال: يا رسول الله، بأي علامة؟ قال صلى الله عليه وسلم : قل: رأيتني على البطحاء، وكنت على نشز من الأرض فنزلت وجئتني، فقلت: ارجع إلى مكانك.
- قال: وكان علي بن عيسى عزل عن الوزارة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال صلى الله عليه وسلم : ارجع إلى مكانك فرد إليه الوزارة]-.
قال: فجاء الرجل مجلسه، وذكر قصته، فقال: صدقت، ودفع إليه أربعمائة دينار لدين كان عليه ليقضيه، وأربعمائة أخرى وقال: اجعل هذا رأس مالك، فإذا فني فارجع إلي.
912- وسمع بعض أصحاب ابن العميد بالري يقول: كأن ليلة من الليالي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وكان بدينور فقال: لا يكون بينك وبين ابني عمل، قال: ففزعت، وطلبت الجيش، وجلس القاضي، وكتبت إلى العمال فلم أجد لذلك خبراً، وكنت على بال حتى ورد كتاب(3/215)
من ابن بويه بأنا نريد أن نخلع المطيع ونقيم غيره مقامه، فقلت: هذا هو الأمر، فكتبت: إن هذا أمر عظيم لا يجيء بالكتاب، انتظروا حتى أقدم عليكم، حتى أمسكوا عن ذلك.
قال: فكأنه صلى الله عليه وسلم سماه ولداً لنفسه.
قال: وكنت ليلة أخرى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: قم صل، فنمت فرأيته ثانياً، فقلت: ليس هذا من عمل الشيطان، يوقظني؟! قال: فرأيته ثالثاً فقال صلى الله عليه وسلم : قم فصل، قال: ففزعت وقمت، وتطهرت، قال: فلما أصبحنا جاء رجل -وهو المؤذن- ودخل الدار وجاء إلي فقلت: ويحك! من أذن لك؟ لم دخلت؟ قال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك، ومنذ ثلاث ليال هوذا صلى الله عليه وسلم أراه يقول لي: اذهب إليه وقل له: صل، فقلت: يا رسول الله لا أحسن أن أدخل عليه، قال: ادخل وقل له، قال فقلت: سمعاً وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
913- سمعت الثقة، قال: أخبرنا أبو عبد الله: الحسين بن محمد المعروف بالشراك -رجل من أهل عكة معروف بالزهد- قال: كنت بالكوفة في جوار رجل رقي دقاق يعرف بأبي الحسن: علي بن إبراهيم بن عثمان الرقي رضي الله عنه، وكان له مال كثير، فورد عليه ذات يوم فقير من فقراء(3/216)
أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد الحسين بن علي عليهما السلام، فقال له: أيها الشيخ أعطني مائة مناً دقيق، فقال له: أين الثمن؟ قال: ما معي شيء، ولكن اكتب على جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدفع إليه ما طلب منه، وكتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الثمن، ثم سمع به العلويون، فكان يرد عليه الحسنيون والحسينيون ويسألونه فيعطيهم ويقولون له: اكتب على جدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يكتب إلى أن افتقر الرجل، ولم يبق عنده شيء، فأقام أياماً، ثم دخل على السيد عمر بن يحيى العلوي رضي الله عنه ومعه الخط، فشكا إليه فقره، وأراه الخط، فلما جن عليه الليل رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه ومعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا الحسن أتعرفني؟ قال: نعم، أنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: لم شكوتني وأنت معاملي؟ قال: يا رسول الله افتقرت.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت عاملتني للدنيا وفيتك، وإن كنت عاملتني للآخرة فاصبر، فإني نعم الغريم.
فجزع الرجل جزعاً شديداً وانتبه من نومه وهو يبكي، فخرج سائحاً في الجبال والبراري، فلما كان بعض الأيام وجدوه ميتاً في كهف جبل فحملوه ودفنوه.
قال: وفي تلك الليلة رآه سبعة نفر من صالحي أهل الكوفة في نومهم وعليه حلل من استبرق، وهو يمشي في رياض الجنة، فقالوا له: أبو الحسن؟ قال: أبو الحسن، قالوا: كيف وصلت إلى هذه النعمة؟ قال: من عامل محمداً صلى الله عليه وسلم وصل إلى ما وصلت إليه، ألا إني رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بصبري رزقت، والحمد لله.(3/217)
914- سمعت أبا الحسين الإمام رضي الله عنه بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت عند أبي مروان القاضي رحمه الله بالمدينة، فدخل طاهر العلوي رحمه الله فسلم على الصوفيين الذين بين يدي أبي مروان، وأقبل عليه فقال له أبو مروان: إيش بينك وبين الصوفية؟ دعهم معنا، قال: إن لي معهم قصة، كنت نائماً بالعقيق، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام كأنه يقول لي: أطعم الرجل الذي عندي سكباجة، فانتبهت وفكرت وكان الليل، ثم نمت ثانياً فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: اذهب وأطعم الرجل سكباجة، فأسرجت لي الدابة، وجئت إلى المدينة في الليل، فدرت حول القبر فلم أجد أحداً إلا رجلاً متصوفاً وضع رأسه بين ركبتيه فقلت: السلام عليك، فأجاب فقلت: تجيء معي إلى العقيق؟ قال: نعم، فجاء، وكان انفجر الصبح، فصلينا ودخلنا الباب، فقلت للجارية: أصلحي لنا شيئاً، وقدمي، فاتفق أنه كان عندنا سكباجة فقدمت الجارية ذلك ووضعت، فأمسك الرجل وقال: إيش هذا؟ أخبرني، فقلت: القصة كيت وكيت، فحلف ألا يأكل السكباجة عمره، وقال كنت أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر، ولم أعلم!
915- وذكر أبو الحارث الأولاسي قال: .. ..(3/218)
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فبادرت إليه فأعرض عني بوجهه، فجعلت أبكي وأقول: بأبي وأمي قد علمت مم إعراضك عني، وقد كنت فهمت منك ما أمرتني به، ولكني أخاف أن أكون قد حرمت التوفيق فمنعت العون على نفسي وهواي، فالتفت إلي وقال: والذي بعثني بالحق لو كان ثمة رغبة أو رهبة لساعدك بالتوفيق، ولجاءتك المعونة، ولكن لا رغبة تحركك، ولا رهبة بقلبك فتهرب، وأنت بين الآمال الكاذبة، وأماني الغرور، متردد حيران، أطلت الأمل، وسوفت العمل، قلت: بأبي وأمي الآن أوصني، وسل الله أن يوفقني فقال: أمسك عليك لسانك، فإن لك في الصمت نجاة من أهل زمانك، وعليك بالورع في مطعمك ومشربك وملبسك وسائر حركاتك، واستعن على ذلك بالقلة، ووار شخصك عن الناس، وكن حلساً من أحلاس بيتك، فقد أصبح وأمسى كثير من الناس في أمر مريج، فإنك إن تتبع أهواءهم وتسلك مسالكهم وتلتمس رضاهم وتحذر سخطهم يضلك عن سبيل الله، وذلك هو الخسران(3/219)
المبين، صن مواهب الله وحكمته وعلمه وبيانه عن المتلذذين الحيارى، ولتكتم المصائب بجهدك، وإياك وذم طعام وشراب، واحذر الشكوى عند النوازل كلها، فإن زللت فبادر بالتوبة والاستغفار، وإياك والإصرار، قلت: بابي وأمي زدني، قال: نعم، ثم تنفس صلى الله عليه وسلم وقال: كن في الدنيا كأنك غريب في أرض مفازة، محزوناً مهموماً قد أشرف على التلف، وأحاطت به المخاوف من كل جانب فهو لا يهدأ من الدعاء ولا يمل البكاء، واحذر طول الأمل فإنه مستراح نفسك، وسلاح عدوك، ومتى أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، ومتى أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، فبه تهزم عدوك، وتوهن كيد نفسك وغلبة هواك، فهذه حجة الله عليك، وأنا لك نذير.
916- ويقال: كان نصر بن أحمد صاحب خراسان رحمه الله استعمل رجلاً على بلخ، وجعل الحجبة إلى الطغناج، وكان يوماً من الأيام نام نصر وقت الظهيرة، وجلس صاحبه طغناج في موضع رسمه، فجاءت امرأة علوية متظلمة، وقالت: جئت من بلخ متظلمة من عاملها، أخبر الأمير بذلك، فقال الحاجب: ليس هذا وقت الدخول عليه، قال: ثم تفكر وقال: ولد من أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف أرده، فدخل فوجده نائماً، وعند رأسه سيف مسلول، فقال: لا يمكنني أن أنبهه، فرجع، ثم قال لنفسه: ولد من أولاد الرسول، كيف أرده؟ فرجع ثانياً -مراراً كان يرجع إلى رأسه ثم يبدو له فينصرف- فحس الأمير بذلك، وفزع -أن جاء ليكيد به كيداً- فقام وأخذ السيف وقال: ما حملك على هذا؟ فقص عليه القصة، قال: أدخلها، فدخلت المرأة ومعها قصة، فشكت من والي بلخ، فأمر لها بعشرة آلاف درهم، وبغلة(3/220)
بآلاتها، وثلاثة تخوت ثياب، وكتب لها كتاباً إلى والي بلخ عما التمست، فرجعت المرأة.
قال: ونام نصر فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام كأنه يقول له: حفظ الله حرمتك كما حفظت حرمتي، فانتبه، ودعا الحاجب، وقال: اعلم أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام -وقص عليه القصة- فأحضر الفقهاء وأعلمهم بما رأيت فأشاروا إليه أن يكتب إلى سائر البلدان بالإحسان إلى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب بذلك.
917- وقال أبو الوفاء القاري، الهروي، رأيت المصطفى صلى الله عليه وسلم في المنام بفرغانة باشحكث سنة ستين وثلاثمائة، وكنت أقرأ للسلطان بها، وكانوا يتحدثون فلا يستمعون، فانصرفت إلى المنزل مغتماً، فنمت، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فكأنه تغير لونه فقال لي صلى الله عليه وسلم : أتقرأ كلام رب العزة بين يدي قوم وهم يتحدثون ولا يسمعون كلام رب العزة، مر، إنك لا تقرأ بعد ذلك إلا ما شاء الله، قال: فانتبهت وأنا ممسك اللسان أربعة أشهر، فكلما كانت لي حاجة أكتبها على الرقاع، فحضرني أصحاب الحديث وأصحاب الرأي فأفتوا أن آخر الأمر أتكلم، لقوله صلى الله عليه وسلم : إلا ما شاء الله وهو استثناء.
قال: فنمت تسعة أشهر على الموضع الذي كنت أولاً، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيء ووجهه يتهلل فقال: قد تبت، ومن تاب تاب الله عليه، أخرج لسانك، فمسح بسبابته، فقال: مر، إن كنت بين يدي قوم(3/221)
وأنت تقرأ كلام رب العزة وهم يتحدثون ولا يستمعون كلام رب العزة فاقطع قراءتك حتى يستمعوا كلام رب العزة.
قال: فانتبهت وقد انفتح لساني بحمد الله ومنه.
918- وعن جعفر بن سليمان قال: سمعت شيخاً من أهل صنعاء -وكان جليساً لوهب بن منبه رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله، أين بدلاء أمتك؟ قال: فأومأ بيده صلى الله عليه وسلم نحو الشام،(3/222)
فقلت: أما بالعراق منهم أحد؟ قال: نعم، محمد بن واسع، وحسان بن أبي سنان، ومالك بن دينار يمشي في الناس بزهد أبي ذر.(3/223)
919- وقال أبو أسامة رحمه الله: .. ..(3/224)
سمعت الفضيل يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وإلى جنبه فرجة، فذهبت لأجلس فقال: هذا موضع أبي إسحاق الفزاري رحمه الله تعالى.
920- وقال أبو أيوب الضرير: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فوضع شفته على شفتي، وعلمني هذا الدعاء: اللهم اجعلني مكثراً لذكرك، مؤدياً لحقك، حافظاً لأمرك، راجياً لوعدك، خائفاً لوعيدك، راضياً في كل حالاتي عنك، راغباً في كل أموري إليك، مؤملاً لفضلك شاكراً.(3/225)
921- وبلغنا أن الحسن البصري رضي الله عنه رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عظني، قال: من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان غده شراً من يومه فهو ملعون، ومن لم يتعهد النقصان في نفسه فهو في النقصان، ومن كان في النقصان فالموت خير له.
922- وعن أبي جعفر الصيدلاني قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وحوله جماعة من الفقراء، فمنهم من أعرفه، ومنهم من لا أعرفه، واستحسنت نور رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أولئك الفقراء، فبينا أنا كذلك إذا انشقت السماء، ونزل منها ملكان، أحدهما بيده طست، والآخر بيده إبريق، فوضع الطست بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسل يده صلى الله عليه وسلم .(3/226)
قال: ثم لم يزالا يغسلان يد كل واحد من القوم حتى وصلا إلي، فوضعا الطست بين يدي، فقال أحدهما للآخر: لا تصب على يده، ليس هو منهم، فقلت: يا رسول الله أليس قد روي عنك أنك قلت: المرء مع من أحب؟ قال: بلى، فقلت: يا رسول الله فإني أحبك، وأحب هؤلاء الفقراء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صبوا على يده فإنه منهم.
923- وروي عن بعض أهل بغداد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام مشمراً عن ساقه فقلت: ما لك يا رسول الله؟ قال: مات الخليفة، قال: فدخلت بغداد من غده وسألت الناس عن الخليفة، فقالوا: هو في الأحياء.(3/227)
قال: وما كنت أترك البحث عن حديث الخليفة حتى قال لي بعض المشايخ: مات الجنيد.
قال: وهو في الحقيقة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
924- حكي عن أبي الفضل البلعمي أنه قال: دخل محمد بن نصر(3/228)
المروزي الفقيه على إسماعيل بن أحمد وعنده أخوه إسحاق -وكان أكبر منه سناً-، فقام إسماعيل وبالغ في تبجيله وإكرامه، فلما خرج عاتبه إسحاق على ذلك، فقال له إسماعيل: إنما قمت إجلالاً لإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: العلماء ورثة الأنبياء.
قال: ثم إن إسماعيل بن أحمد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يقول له: يا إسماعيل قمت لمحمد بن نصر المروزي الفقيه إجلالاً لإخباري، ثبت الله ملكك وملك بنيك، مكافأة لإجلالك محمد بن نصر المروزي.
925- وفي رواية أخرى: أنه صلى الله عليه وسلم أقبل على أخيه إسحاق فقال له: عاتبته؟! إنه لا يخرج من صلبك ملك.
قال: وذهب ملك إسحاق، وهلك بنوه لاستخفافه بمحمد بن نصر المروزي الفقيه، أو نحوه من الألفاظ.(3/229)
قال أبو سعد صاحب الكتاب رحمه الله:
926- سمعت أبا القاسم الفارسي الحافظ بمصر بإسناد ذكره عن بعض سلفه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وبين يديه سبعة عشر طبقاً عليها رطب، قال: فناولني منها نيفاً وعشرين.
قال: فلما أصبحت خرجت من الدار فقالوا: نزل علي بن موسى الرضا في بعض القرى، فخرجت إليه، فرأيته نازلاً في دار وبين يديه سبعة عشر طبقاً -تمراً أو رطباً شك الراوي- فناولني منها نيفاً وعشرين عدداً، فقلت: زدني يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: لو زادك جدي لزدت.(3/230)
927- وعن أبي العباس الحجاجي رحمه الله قال: كان في وقت محمد بن إسحاق بن خزيمة رضي الله عنه هاهنا رجل بكري ورد من المدينة، فصيح اللهجة، قال في اليوم الذي توفي فيه محمد بن إسحاق بن خزيمة رضي الله عنه: رأيت البارحة رؤيا عجباً، رأيت كأني دخلت كنجروذ، فرأيت ناقة على باب محمد بن إسحاق بن خزيمة وقد أخذ بزمامها رجل فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان، قال: فدخلت الدهليز، فوجدت هناك رجلاً كوسجاً، فقلت: من هذا؟ قالوا: قيس بن عبادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخلت الدار، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً على السرير في الصفة التي في الدار الأولى، فبينا كذلك إذ خرج محمد بن إسحاق بن خزيمة رضي الله عنه من الدار السفلى، وجاء فقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً فقرأه، ثم قال: سمعاً وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ بيده وخرجا معاً.
928- سمعت أبا الحسن: علي بن محمد بن البغدادي بمشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: .. ..(3/231)
قال ابن أبي الطيب الفقير: كان بي طرش عشر سنين، فأتيت المدينة فبت بين القبر والمنبر، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله أنت قلت: من سأل لي الوسيلة وجبت له شفاعتي؟ قال: عافاك الله، ما هكذا قلت: ولكني قلت: من سأل لي الوسيلة عند الله وجبت له شفاعتي.
قال: فذهب عني الطرش ببركة قوله صلى الله عليه وسلم : عافاك الله.
929- أخبرني أبو بكر: محمد بن عبد الله الرازي قال:(3/232)
سمعت أبا إسحاق: إبراهيم بن شيبان يقول: سمعت أبا عبد الله المغربي يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله،(3/233)
لي إلى الله عز وجل حاجة؟ فبماذا أتوسل إليه؟ قال: من كانت له حاجة إلى الله تبارك وتعالى فليسجد، وليقل أربعين مرة في سجوده ويشير بإصبعه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه تستجاب دعوته.
930- عن محمد بن علي السمان رحمه الله قال: كان لي جار في منزلي وسوقي، وكان يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، قال: فكثر الكلام بيني وبينه، فلما كان ذات يوم شتمهما وأنا حاضر فوقع بيني وبينه كلام حتى تناولته وتناولني، فانصرفت إلى منزلي وأنا مغموم حزين، ألوم نفسي، قال: فنمت وتركت العشاء من الغم، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام من ليلتي، فقلت: يا رسول الله فلان جاري في منزلي وسوقي، وهو يسب الأصحاب، قال: من سب من أصحابي؟ قلت: أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ هذه المدية واذبحه بها، قال: فأخذتها، وأضجعته وذبحته، فرأيت كأن يدي قد أصابها من دمه، قال: فألقيت المدية، وأهويت بيدي إلى الأرض أمسحهما، فانتبهت وأنا أسمع الصراخ من نحو داره، فقلت: انظروا ما هذا الصراخ؟ قالوا: فلان مات فجاءة، فلما أصبحنا نظرنا إليه فإذا خط موضع الذبح في عنقه.(3/234)
931- أبو عبد الله بن الجلاء قال: دخلت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي فاقة، فتقدمت إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وقلت: يا رسول الله بي فاقة، وأنا ضيفك، ثم تنحيت ونمت دون القبر، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام جاء إلي فقمت فدفع إلي رغيفاً فأكلت بعضه، وانتبهت وفي يدي باقي الرغيف.
932- وحكي أن امرأة -قرابة لابن برزك المجوسي- رأت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لها صلى الله عليه وسلم : ألا تستحين؟ فقالت: ومن إيش أستحي؟ فقال: لا تؤمنين بإلاهي، فآمنت في المنام، فأصبحت وقسيها مقطع بأربع.(3/235)
933- وكان رجل من رؤساء اليهود كثيراً ما يقول: اختم لي بخير، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: إلى متى تقول: اختم لي بخير، فقد ختم الله سبحانه لك بخير، اشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، على يديه في النوم.
934- وعن عباس بن أحمد بن عثمان بن أبي صخر قال: كنت مجاوراً سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، إذ قدمت امرأة التمار المتكلم من مصر في بحر القلزم ومعها جارية بلال الخليلي، وحملت للفقراء طعاماً ودعتهم إليه، وكنت ذلك اليوم في المسجد الحرام قد طفت أسبوعاً وركعت، وجلست إذ سرقتني عيناي فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعت والصفة وهو جالس وظهره إلى المقام، ووجهه إلى باب الكعبة، عن يمينه أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي، وعن يساره ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، وإلى جنب ابن عباس القراء: أبو عمرو بن العلاء، وحمزة، وعاصم، والكسائي .. .. القراء السبعة رضي الله عنهم أجمعين، وعن يمينه صلى الله عليه وسلم : أبو حنيفة، والشافعي وباقي الفقهاء رضي الله عنهم، وشيوخ الصوفية رضي الله عنهم جلوس(3/236)
بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فقرأ رضي الله عنه من سورة الكهف: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} الآية، قال: فاغرورقت عيناه صلى الله عليه وسلم .
قال: ثم التفت إلى ابن عباس فسأله عن مسألة من تفسير آية من كتاب الله عز وجل، فلما فسرها ابن عباس تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال: ثم التفت إلى الفقهاء فسألهم عن مسألة فأجابه الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل، وسكت الباقون.
قال: ثم سأل الصوفية مسألة في التوحيد فوثب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فجلس مع الصوفية بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم أحد من الصوفية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تكلموا رحمكم الله، فأشاروا إلى علي بن أبي طالب، فقال لهم علي رضي الله عنه: تكلموا رحمكم الله، فتكلم الجنيد وكل واحد منهم، ففهمت ما تكلموا به غير أبي يزيد البسطامي، فإنه تكلم بالفارسية فلم أفهمها، قال: ففسر النبي صلى الله عليه وسلم كلام أبي يزيد وشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكلهم بالصحة، وأنا في ذلك ما أصرف بصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أنظر إلى غيره، إذ نبهني أبو عبد الله الفرغاني، فقمت مغتاظاً عليه وقلت: يا قاطع الطريق حركتني، إيش تريد مني؟ فقال أبو عبد الله: يقول لك: تحضر مع الفقراء، قال: فعلمت أني ما بلغت مكان أبي عبد الله، وأنا مع العلم والتوفيق.(3/237)
جامع أبواب ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الأزواج والأموال والحفدة والمتاع(3/239)
[201] باب ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
935- حدثنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي رحمه الله بمكة حرسها الله، ثنا أبو قتيبة: سلم بن الفضل بن سهل الآدمي، ثنا أبو جعفر: محمد بن عثمان بن أبي شيبة، .. ..(3/241)
ثنا أبو بلال الأشعري، ثنا زياد البكائي، عن ابن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، عن محمد بن علي بن الحسين، .. ..(3/242)
عن أبيه قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسع أزواج له، وكن في دار واحدة، منهن: عائشة، وسودة، وحفصة، وأم حبيبة، وصفية.
936- وعن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تزوجت شيئاً من نسائي ولا زوجت شيئاً من بناتي إلا بوحي جاءني به جبريل عن ربي عز وجل.(3/243)
937- وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم واضع رأسه في حجر فاطمة إذ بكت ثم ضحكت، فقلن لها أزواجه صلى الله عليه وسلم : يا فاطمة ما أضحكك وما أبكاك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعن بنتي، فإني أخبرتها أنه قد نعيت إلي نفسي فبكت، ثم أخبرتها أني سألت ربي جل وعلا أن يجعلها معي في الجنة فضحكت.(3/244)
[202] فصلٌ:
938- وكان جميع ما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين امرأة، ست منهن من قريش وهن: خديجة بنت خويلد -وهي أول امرأة تزوجها-، وعائشة بنت أبي بكر -وليس منهن بكر غيرها-، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة -واسمها: رملة بنت أبي سفيان-، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وزينب بنت جحش -وهي ابنة عمته-.
واثنتان من بني هلال وهما: ميمونة، وزينب -أم المساكين-.
واثنتان سبايا وهما: صفية بنت حيي بن أخطب اليهودية، سباها من خيبر، وجويرية بنت الحارث بن عمرو، سباها من بني المصطلق، فأعتقهما وتزوجهما.
والباقيات من سائر القبائل.(3/245)
[203] فصلٌ:
939- فأول امرأة تزوجها صلى الله عليه وسلم : خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، تزوجها صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة وأشهر، وأقامت معه أربعة وعشرين سنة وشهراً، وماتت بعد أبي طالب بثلاثة أيام.
أمهرها صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة أوقية، وكذلك سائر نسائه، ولم يتزوج عليها حتى ماتت.
وكانت قبله عند عتيق بن عائذ المخزومي، فولدت له جارية، ثم تزوجها بعده أبو هالة ابن زرارة بن نباش الأسيدي، فولدت له هنداً،(3/246)
ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وربى ابنها هنداً، وكان يقول: أنا أكرم الناس أباً وأخاً وأختاً، أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمي خديجة، وأخي القاسم، وأختي فاطمة، ومات في الطاعون الجارف رضي الله عنه.
940- ثم تزوج صلى الله عليه وسلم بعدها سودة بنت زمعة، وكانت قبله تحت السكران بن عمرو، وهو من مهاجرة الحبشة، فمات ولم يعقب، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده.
941- ثم تزوج صلى الله عليه وسلم عائشة بمكة، وهي ابنة سبع، ولم يتزوج بكراً غيرها، ودخل بها وهي ابنة تسع، لسبعة أشهر من مقدمه المدينة، وأقامت عنده تسعاً، وبقيت إلى خلافة معاوية، وتوفيت سنة ثمان وخمسين، وقد قاربت السبعين، فقيل لها ندفنك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: إني قد أحدثت بعده فادفنوني مع إخواني، فدفنت بالبقيع، وأوصت إلى عبد الله بن الزبير ابن أختها صلى الله عليه وسلم .
ومن مواليها: علقمة بن أبي علقمة، كان يعلم العربية والنحو والعروض، روى عنه مالك، ومات في أول خلافة المنصور، وأبو السائب، واسمه: عثمان، وقد روي عنه أيضاً.(3/247)
942- ثم تزوج صلى الله عليه وسلم غزية بنت دودان بن عوف بن عمرو بن خالد، وهي أم شريك التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت قبله عند أبي العسكر بن تميم بن الحارث الأزدي، فولدت له شريكاً فدخل بها ثم طلقها.
943- ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وكانت تحت خنيس بن عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه وكان قد أسلم-، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه إلى كسرى، فمات ولا عقب له، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده، وماتت بالمدينة في خلافة عثمان رضي الله عنه، وصلى عليها أخوها لأبيها وأمها عبد الله بن عمر بن الخطاب.
944- ثم تزوج صلى الله عليه وسلم أم حبيبة، واسمها: رملة بنت أبي سفيان، وكانت تحت عبيد الله بن جحش الأسدي، هاجر بها إلى الحبشة فتنصر وهلك هناك، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده، وكان وكيله: عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه، ووليها: ابن سعيد بن العاص -وهو ابن عم أبيها، لأنه كان مسلماً دون أبيها، وأبوها كان كافراً فلم يكن ولياً لها-، وبقيت إلى خلافة معاوية، وكان السرير الذي حمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها، فهو باق بالمدينة عند مولى لها.(3/248)
945- ثم تزوج صلى الله عليه وسلم أم سلمة وهي ابنة عمته عاتكة بنت عبد المطلب، وهي ابنة عم أبي جهل، وأخوها عبد الله بن أبي أمية كان من أشد قريش عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أسلم واستشهد يوم الطائف.
946- واسم أم سلمة: هند بنت أبي أمية بن المغيرة، زوجها إياه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويقال: زوجها إياه ابنها عمر.(3/249)
947- ويروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أن مري ابنك أن يزوجك، فزوجها ابنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام لم يبلغ.
توفيت أم سلمة سنة تسع وخمسين بعد عائشة بسنة وأيام، وكانت تحت أبي سلمة بن عبد الأسد، وكان لها منه زينب وعمر -وكان عمر مع علي يوم الجمل، وولاه البحرين، وله عقب بالمدينة-، ثم مات أبو سلمة فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن مواليها: شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب أبو ميمونة، إمام أهل المدينة في القراءة، قرأ عليه نافع بن أبي نعيم، وخيرة أم الحسن البصري.
948- ثم تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية، وهي ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب، وهي أول من مات من أزواجه من بعده، توفيت في خلافة عمر، وأول من حمل على نعش، وكانت عند زيد بن حارثة قبله، وفيها نزلت: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن(3/250)
تخشاه فلما قضى زيدٌ منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرجٌ في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً} الآية، وطلقها زيد فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
949- ثم زينب بت خزيمة الهلالية من بني عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، وكانت قبله تحت عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فلما قتل ببدر تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يقال لها أم المساكين، وماتت قبله.
950- ثم تزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث بن حزن، من ولد عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة، تزوجها وهو بالمدينة من العباس عمه، وكان وكيله أبو رافع، وبنى بها صلى الله عليه وسلم وهو بسرف حين رجع من عمرته بعشرة أميال من مكة، وتوفيت أيضاً بسرف، ودفنت هناك، وكانت قبله تحت أبي سبرة بن أبي رهم العامري.
ومن مواليها: يسار، وولده: عطاء، وسليمان، وعبد الملك، كلهم فقهاء.
وأمها: هند بنت عمرو بن جرش، ولدت ميمونة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وأم الفضل -زوجة العباس وأم أولاده- من الحارث الهلالي.(3/251)
ثم تزوجها عميس الخثعمي فأولدها زينب وكانت تحت حمزة، وسلمى وكانت تحت شداد بن الهاد، وأسماء وكانت تحت جعفر بن أبي طالب ثم خلف عليها أبو بكر ثم خلف عليها علي، وولدت لهم جميعاً، فكان يقال: أكرم عجوز في الأرض أصهاراً: هند الجرشية، لأن أصهارها: رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحمزة، وعلي، وجعفر، وأبو بكر، والعباس، وشداد بن الهاد.
وبناتها: ميمونة، وأم الفضل بنتا الحارث، وزينب، وسلمى، وأسماء بنات عميس الخثعمي.
951- وصفية بنت حيي بن أخطب النضيري، من خيبر، اصطفاها لنفسه من الغنيمة، ثم أعتقها وتزوجها، وجعل صلى الله عليه وسلم عتقها صداقها، وكانت تحت رجل من يهود خيبر يقال له: كنانة، فضرب رسول اله صلى الله عليه وسلم عنقه لأمرٍ، أحل دمه وسبى أهله، وتزوجها صلى الله عليه وسلم ، وتوفيت سنة ست وثلاثين.(3/252)
952- وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق. سباها صلى الله عليه وسلم وأعتقها وتزوجها، توفيت سنة ست وخمسين.
953- وكان صلى الله عليه وسلم يولم لكل نسائه باللحم والتمر، والسويق ويأمر به، ويقول: أولموا ولو بشاة.(3/253)
[204] فصلٌ: ذكر من تزوجهن صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بهن
954- منهن: قتيلة بنت قيس -أخت الأشعث- الكندي، مات صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل بها فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعده، وقال بعضهم: هذا غلط، لأن سببها منه لم ينقطع بالموت، ولعله طلقها صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل بها ثم مات.(3/254)
955- وفاطمة بنت الضحاك، تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد وفاة ابنته زينب، وخيرها حين أنزلت عليه آية التخيير فاختارت الدنيا ففارقها، فكانت بعد ذلك تلقط البعير وتقول: أنا الشقية؛ اخترت الدنيا.
956- وعالية بنت ظبيان، .. ..(3/255)
طلقها صلى الله عليه وسلم حين أدخلت عليه.
957- وسنا بنت الصلت، ماتت قبل أن يدخل بها صلى الله عليه وسلم .(3/256)
958- وكذلك شراف، أخت دحية الكلبي.
959- وخولة بنت الهذيل -وقيل: خولة بنت حكيم-، وهي التي وهبت نفسها له، وقيل: بل هي أم شريك الأزدية.(3/257)
960- وأسماء بنت النعمان بن شراحيل بن الجون -وقيل: بل أميمة بنت النعمان-، لما أدخلت عليه قالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد أعذتك، الحقي بأهلك، وكان بعض أزواجه علمتها ذلك، وقالت: إنك تحظين عنده، فتزوجها المهاجر بن أبي أسيد، فأراد عمر أن يجلده فقالت: إنه لم يدخل بي، وأقامت البينة.
961- ومليكة الليثية، لما دخل صلى الله عليه وسلم عليها قال لها: هبي لي نفسك،(3/258)
قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة، فأهوى بيده يضعها عليها لتسكن، قالت: أعوذ بالله منك، فقال صلى الله عليه وسلم : لقد عذت بمعاذ، فسرحها ومتعها.
962- وليلى بنت الخطيم الأنصارية، ضربت ظهره فقال: أكلك الأسود، ثم لما تزوجها، قالت: أقلني، فأقالها، فأكلها الذئب.(3/259)
963- وعمرة بنت يزيد، رأى بها بياضاً، فقال صلى الله عليه وسلم : دلستم علي، وردها.(3/260)
964- وخطب صلى الله عليه وسلم امرأة من بني مرة، فقال أبوها: إن بها برصاً -ولم يكن بها-، فرجع فإذا هي برصاء.
965- وخطب صلى الله عليه وسلم عمرة من بني القرطات، فوصفها أبوها ثم قال: وأزيدك أنها لم تمرض قط، فقال صلى الله عليه وسلم : ما لهذه عند الله من خير، وقيل: إنه تزوجها، فقال أبوها ذلك، فطلقها ولم يبن بها.(3/261)
فذلك جميع أزواجه صلى الله عليه وسلم ، إحدى وعشرين امرأة طلق منهن ستاً، ومات عنده خمس، ومات صلى الله عليه وسلم عن عشر، واحدة لم يدخل بها وتسع كان صلى الله عليه وسلم يقسم لهن، ثم أراد صلى الله عليه وسلم طلاق سودة فوهبت ليلتها لعائشة، وقالت: لا رغبة لي في الرجال، وأنا أريد أن أحشر في أزواجك.
966- فصار صلى الله عليه وسلم يقسم لثمان، وهن: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وصفية، وزينب بنت جحش، وميمونة، وجويرية رضي الله عنهن جميعاً، لكل واحدة ليلة، ولعائشة ليلتان ليلة لها، وليلة سودة وهبتها لها.(3/262)
[205] باب ذكر موالي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
967- أخبرنا أبو عمرو: محمد بن أحمد بن حمدان الحيري رحمه الله، أنا عمران بن موسى، ثنا محمد بن عبيد بن حساب،(3/263)
ثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في مسير له ومعه غلام أسود يقال له: أنجشة، فقال صلى الله عليه وسلم : يا أنجشة، رويدك سوقاً بالقوارير -يعني النساء-.
قال: أما مواليه:
968- 1- فزيد بن حارثة، وكان لخديجة رضي الله عنها، اشتراه لها حكيم بن حزام بسوق عكاظ بأربع مائة درهم، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تهبه له -وذلك بعد أن تزوجها-، ففعلت، فأعتقه وزوجه أم أيمن، فولدت له أسامة، وكان زيد بن حارثة بن شراحيل من كلب، أدركه سبي فجاء أبوه وعمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالا: ولدنا سبي منا فخذ منا ثمنه، فقال صلى الله عليه وسلم : ما كنت لآخذ له ثمناً، ولكن خيراه، فإن اختاركم فشأنكم به، فقالوا: لقد أكرمت، فاجتهدا به فلم يتبعهما، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك قبل مبعثه، فتبناه صلى الله عليه وسلم ، فكان يدعى زيد ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أنزل الله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} الآية، فقالوا: زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم .(3/264)
أمره صلى الله عليه وسلم على الجيش يوم مؤتة فاستشهد، وذلك في سنة ثمان، وهو ابن خمس وخمسين سنة.
969- 2- أسامة بن زيد بن حارثة، وأمه: بركة، أم أيمن، حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم ، زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفاطمة بنت قيس، وكان له ابنان يروى عنهما: محمد والحسن ابنا أسامة.
970- 3- وأيمن بن عبيد الخزرجي، أمه: أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم وحاضنته، وكان لأيمن ابن يقال له: جبير.
971- 4- أبو رافع، واسمه أسلم، كان للعباس، فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أسلم العباس بشر أبو رافع النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه فأعتقه صلى الله عليه وسلم وزوجه سلمى مولاته، فولدت له عبيد الله بن أبي رافع، فلم يزل كاتباً لعلي بن أبي طالب خلافته كلها.
972- 5- سفينة، واسمه: رباح -ويقال: مهران-، أبو عبد الرحمن، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة؛ لأنه كان في سفر، فكان كل من أعيا ألقى عليه بعض متاعه -ترساً كان أو سيفاً-، حتى حمل من ذلك شيئاً كثيراً، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنت سفينة، وكان أسود، من مولدي الأعراب، اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه.(3/265)
973- 6- ثوبان، يكنى: أبا عبد الله، من حمير، أصابه سبي، فاشتراه النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه، ولم يزل معه حتى قبض، ثم تحول إلى الشام، فنزل حمص، وله بها دار وصدقة، ومات سنة أربع وستين، في خلافة معاوية.
974- 7- يسار، كان عبداً نوبياً، أصابه في غزوة بني عبيد بن ثعلبة فأعتقه، وهو الذي قتله العرنيون الذين أغاروا على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم ، فقطعوا يده ورجله، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، وانطلقوا بالسراح، وأدخل المدينة ميتاً.
975- 8- شقران، واسمه: صالح، قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراه من عبد الرحمن بن عوف فأعتقه، وقال بعضهم: بل ورثه عن أبيه.
976- 9- أبو كبشة، واسمه: سليمان، من مولدي أرض دوس، ابتاعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه، وتوفي في أول يوم استخلف فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
977- 10- أبو ضميرة، كان مما أفاء الله على رسوله فأعتقه، وكتب له كتاباً -هو في يد ولده- بالإيصاء به وبأهل بيته.(3/266)
ومن ولده: حسين بن عبد الله بن ضميرة، وفد على المهدي ومعه الكتاب فوضعه المهدي على عينيه، ووصله بثلاث مائة دينار.
978- 11- مدعم، كان عبداً لرفاعة بن يزيد الجذامي، وهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقال: هو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين قتل: إن الشملة التي غلها يوم خيبر تحترق عليه ناراً، أصابه سهم في وادي القرى فمات.
979- 12- أبو مويهبة، من مولدي مزينة، اشتراه فأعتقه، وهو الذي انطلق به إلى البقيع وقال: إني أمرت أن أستغفر لهم.
980- 13- أنيسة، كان من مولدي السراة، اشتراه فأعتقه.
ومنهم:
981- 14- فضالة، نزل الشام، ومات بها.
ومنهم:
982- 15- وردان.(3/267)
983- 16- وأبو بكرة، سباهما من الطائف فأعتقهما.
ومنهم:
984- 17- طهمان.
985- 18- وأبو أيمن.
986- 19- وأبو هند، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : زوجوا أبا هند، وتزوجوا إليه، ابتاعه صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من الحديبية وأعتقه.
987- 20- وأنجشة، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم : رويدك يا أنجشة رفقاً بالقوارير، وكان يحدوا بالجمال.(3/268)
988- 21- وصالح.
989- 22- وأبو سلمى.
990- 23- وأبو عسيب.
991- 24- وعبيد.
992- 25- وأفلح.
993- 26- رويفع، من سبي هوازن، صار للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه.
994- 27- أبو لقيط، كان نوبياً، وكان يأكل الذباب، عاش إلى أيام عمر.
995- 28- أبو رافع الأصغر، كان غلاماً لسعيد بن العاص فأعتقه.
996- 29- يسار الأكبر، كان عبداً لآل عمرو بن عبيد الثقفي، تزوج من تميم، وولد له تسعون ولداً من ذكر وأنثى.
997- 30- كركرة، كان نوبياً، أهداه هوذة بن علي الحنفي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه.
998- 31- رباح، كان نوبياً، اشتراه من وفد عبد القيس، فأعتقه.(3/269)
999- 32- أنسة، كان يتولى الحجامة، فأعتقه بالمدينة، وكان شهد بدراً، وكان حبشياً فصيحاً.
1000- 33- أبو لبابة، كان لبعض عماته، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
1001- 34- بجيل بن حبيب، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلاد الطائف.
1002- 35- أبو البشر، له عقب.
ومنهم:
1003- 36- وفاق، وكان من أهل الطائف.
1004- وأما خدمه صلى الله عليه وسلم من الأحرار: فأنس بن مالك، وهند وأسماء ابنتا خارجة الأسلميتان.(3/270)
[206] بابٌ: في ذكر مواليات رسول الله صلى الله عليه وسلم
1005- أخبرنا أبو سهل: بشر بن أحمد بن محمود بن أشرس الإسفراييني، التميمي رحمه الله، ثنا حمدان بن عمرو بن موسى الموصلي، ثنا غسان بن الربيع، .. ..(3/271)
ثنا حماد، عن شعيب بن الحبحاب وعبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها.
1006- وروي عن عبد الله بن بريدة بن الحصيب، عن أبيه قال: أهدى أمير القبط -وهو المقوقس، صاحب الإسكندرية- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريتين أختين وبغلة.
فكان صلى الله عليه وسلم يركب البغلة بالمدينة، واتخذ إحدى الجاريتين -وهي مارية القبطية- لنفسه فولدت له إبراهيم، وماتت بعده بخمس سنين في خلافة عمر سنة ست عشرة، ووهب الأخرى لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن بن حسان.(3/272)
1007- وأم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت سوداء، ورثها عن أمه، وكان اسمها بركة، فأعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزوجها عبيد الخزرجي بمكة فولدت له أيمن، ثم هلك، فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم من زيد بن حارثة، فولدت له أسامة أسود يشبهها، فأسامة وأيمن أخوان لأم.
1008- وريحانة بنت شمعون، غنمها من بني قريظة.
1009- وروضة.
1010- وسلمى، زوجها مولاه أبا رافع.
1011- خضرة.
1012- ميمونة بنت سعد.(3/273)
[207] باب ذكر ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وفاته من الثياب والقمص والأزر والسرير والصاع والمد
1013- يقال: إنه صلى الله عليه وسلم ترك يوم مات ثوبي حبرة، وإزاراً عمانياً، وثوبين صحاريين، وقميصاً صحارياً، وآخر سحولياً، وجبة يمانية، وخميصة، وكساءاً أبيض، وقلانس صغاراً لاطئة ثلاثاً أو أربعاً، وإزاراً طوله خمسة أشبار، وملحفة مورسة.
1014- وكان له صلى الله عليه وسلم سرير وقطيفة، وقصعة.(3/274)
1015- وكان له صلى الله عليه وسلم صاع يكال بها في بيته، ويخرج بها زكاته، وكان يطعم بها الكفارات، ويأخذ بها الزكاة من الثمار والحبوب.
1016- وكان له صلى الله عليه وسلم مد، وهو الذي كفر به عن أم ولده: طعام عشرة مساكين مداً مداً.
1017- وكان له صلى الله عليه وسلم محجن قدر الذراع أو نحوه يمشي به، وينكت به، ويعلقه بين يديه على بعيره ويأخذ به الشيء، ولقد استلم به الركن حين طاف على بعيره، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان محموماً يومئذ.(3/275)
1018- لم يورث صلى الله عليه وسلم ولده وقال: إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.(3/276)
[208] فصلٌ: في ذكر أسماء سيوفه صلى الله عليه وسلم
1019- أخبرنا أبو عمرو: محمد بن جعفر بن محمد بن مطر، ثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد بن ناصح بن نومرد الدامغاني، ثنا محمد بن عمران الهمداني، .. ..(3/277)
ثنا القاسم بن الحكم بن كثير العرني، ثنا يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف، عن محمد بن عبد الله، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اسم راية النبي صلى الله عليه وسلم : .. ..(3/278)
العقاب، واسم درعه: ذات الفضول، واسم حماره: يعفور، واسم سيفه، ذو الفقار، واسم بغلته الدلدل، واسم فرسه: ذو الجناح، واسم ناقته: القصواء.
1020- أما ذو الفقار، فكان سيفاً أصابه من منبه بن الحجاج يوم بدر، وهو الذي شهد به الحروب، .. ..(3/279)
وكان له سيف ورثه عن أبيه، .. ..(3/280)
وله سيف يقال له: القضيب، وهو أول من تقلد به من السيوف، وكان له العضب، والبتار، ومخذم، والرسوب، والقلعي، والحتف.
وقضيب يسمى الممشوق، ومنطقه من أديم منشور فيها ثلاث حلق،(3/281)
والأبزيم والطرف من فضة.(3/282)
[209] فصلٌ: في أسماء دروعه صلى الله عليه وسلم
1021- ذات الفضول، والسعدية، والفضة، ويقال: كانت عنده صلى الله عليه وسلم(3/283)
درع داود النبي صلى الله عليه وسلم التي كان لبسها يوم قتل جالوت.(3/284)
[210] فصلٌ: في أسماء رماحه وألويته وترسه ومغفره وراياته صلى الله عليه وسلم
1022- المنثني، والمحجن، والعنزة -وهي حربة دون الرمح- كان صلى الله عليه وسلم يدعم عليها ويمشي بها في يده، وكانت تحمل بين يديه في العيدين أمامه يتخذها سترة يصلي إليها.
1023- وكانت له صلى الله عليه وسلم راية سوداء مخملة يقال لها: العقاب،(3/285)
فربما جعلت من مروط عائشة رضي الله عنها، وكان لواؤه صلى الله عليه وسلم أبيض، وربما جعلت الألوية من خمر نسائه.(3/286)
وكان له صلى الله عليه وسلم مغفر يقال له: السبوغ، وله ترس يسمى: الزلق.
1024- وكان له صلى الله عليه وسلم قدح يقال له: الريان، وقدح غيره يقال له: المضبب أكثر من نصف المد وأصغر من المد فيه ثلاث ضبات من فضة، وحلقه يعلق بها، للسفر كان صلى الله عليه وسلم يسقى فيه من استسقى.
1025- وكان له صلى الله عليه وسلم تور من حجارة يقال له: المخضب وكان(3/287)
كثيراً ما يتوضأ منه، ولقد توضأ صلى الله عليه وسلم منه يوماً فاحتاج الناس إلى الوضوء فأقبلوا إليه، فأذن لهم أن يتوضوؤا منه، فتوضأ منه يومئذ من ذلك المخضب بضعة وثمانون رجلاً.
1026- وكان له صلى الله عليه وسلم قدح من خشب، وقدح من زجاج، وكان له مطهرة من فخار يتوضأ فيها ويشرب.(3/288)
1027- وكان الأنصار يرسلون أولادهم الصغار فيدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدفعون عنه، فإذا وجدوا في المطهرة ماء شربوا منه ومسحوا به وجوههم وأجسادهم يبتغون بذلك البركة.
1028- وكان له صلى الله عليه وسلم مخضب من شبه، يكون فيه الحناء والكتم، توضع على رأسه من الحر الذي يجده صلى الله عليه وسلم .(3/289)
[211] فصلٌ: في أسماء قسيه صلى الله عليه وسلم
الروحاء، والبيضاء، والصفراء، والكتوم -كسرت يوم أحد-.
1029- وروي أنه كان بيده صلى الله عليه وسلم قوس عربية فرأى رجلاً بيده قوس فارسية فقال صلى الله عليه وسلم : ما هذه؟ ألقها، عليكم بهذه وأشباهها.
1030- وكانت له صلى الله عليه وسلم الجعبة، تسمى الكافور.(3/290)
[212] فصلٌ: ذكر خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم
1031- حدثنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي بمكة حرسها الله، ثنا أبو قتيبة: سلم بن الفضل بن سهل الأدمي، ثنا أبو جعفر: محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا عبد الحميد بن صالح، ثنا حبان بن علي، عن إدريس الأودي، عن الحكم، .. ..(3/291)
عن يحيى بن الجزار، عن علي رضي الله عنه قال: كان حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى: عفيراً، وبغلته: دلدل، وفرسه: المرتجز، وناقته: القصواء، ودرعه: ذات الفضول، وسيفه: ذو الفقار.(3/292)
قال الأستاذ أبو سعد رحمه الله:
1032- كان فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى: السكب، اشتراه من فزاري وسماه سكباً، وكان تحته يوم أحد.(3/293)
1033- وفرسه: المرتجز، اشتراه صلى الله عليه وسلم من أعرابي من بني تميم ثم جحده وقال: من يشهد لك؟ فشهد له خزيمة بن ثابت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : كيف تشهد على ما لم تحضر؟ فقال: نصدقك في علم السماء، ولا نصدقك على ما في الأرض؟! فسماه النبي صلى الله عليه وسلم : ذا الشهادتين.(3/294)
1034- وفرسه صلى الله عليه وسلم : الضرس.
1035- وكان له صلى الله عليه وسلم فرس يقال له: لزاز، أهداه إليه المقوقس ملك القبط، فأعجب به صلى الله عليه وسلم ، وكان يركبه، في أكثر غزواته، وفرس يقال(3/295)
له: الظرب، وفرس يقال له: الورد، أهداه تميم الداري فدفعه إلى(3/296)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفرسه ملاوح، كان لأبي بردة بن نيار، وفرس يقال له: اللحيف، أهداه فروة بن عمرو الجذامي.
1036- وكان له صلى الله عليه وسلم فرس يقال له: سبحة، جاءت سابقة(3/297)
فسبح عليها فسميت سبحة.
1037- وكان فرسه صلى الله عليه وسلم : السجل.
1038- وفرسه: البحر، اشتراه من تجار قدموا من اليمن فسبق عليه ثلاث مرات، فجثا صلى الله عليه وسلم على ركبته ومسح وجهه، وقال: ما أنت إلا بحر.(3/298)
1039- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة عرياً، ثم خرج يركض وحده، فركب الناس يركضون خلفه، فقال صلى الله عليه وسلم : إنه لبحر.
قال: فوالله ما سبق بعد ذلك اليوم.
1040- وأصاب صلى الله عليه وسلم فرساً جميلاً في غزوة تبوك فأعجبه صهيله، ووقع منه كل موقع، فقال له رجل من الأنصار: بأبي أنت وأمي لو وهبت لي هذا الفرس، فقال: هو لك، ولكن إن استطعت أن لا تزال تنزل قريباً مني، فإن صهيله قد كان يعجبني.(3/299)
1041- وكان صلى الله عليه وسلم يمسح وجوه خيله بطرف كمه بيده، وربما مسحها بطرف ردائه.(3/301)
[213] فصلٌ: ذكر أسماء البغال والحمير التي أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتي كان يركبها
1042- قال ابن عباس رضي الله عنه: ولقد أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته الشهباء، فركبها وأردفني خلفه.
1043- قال ابن عباس: وأهدى إليه ملك الروم بغلة، فجعلنا لها(3/303)
رسناً من صوف وشعر فرشتها به، ثم دعا بعباءة فثناها، ثم طرحها على ظهرها، ثم ركب وأردفني فسار هنيهة ثم حرك رأسه فقال: يا غلام لو اجتمع من في السماوات ومن في الأرض على أن ينفعوك بغير ما كتب الله لك لم يقدروا على ذلك، ولو اجتمع من في السماوات ومن في الأرض على أن يضروك بغير ما كتب الله لم يقدروا على ذلك، فقلت: يا رسول الله فكيف لي أن أكون على ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك.(3/304)
قال أبو سعد رحمه الله:
1044- كانت البغلة التي يقال له دلدل أهداها إليه المقوقس، فكان يركبها في المدينة، وكان يركبها علي رضي الله عنه، وبقيت إلى زمن معاوية.(3/305)
1045- وكان له حمار يقال له يعفور، وكانت له بغلة أخرى يقال لها فضة وهبها لأبي بكر، وله بغلة يقال لها أيلية أهداها له ملك أيلة.(3/307)
[214] فصلٌ: ذكر ما كان له صلى الله عليه وسلم من النوق
1046- كان له صلى الله عليه وسلم من النوق: القصواء، ابتاعها أبو بكر رضي الله عنه -وأخرى معها- من بني الحريش بثمانمائة درهم، فأخذها منه النبي صلى الله عليه وسلم بأربعمائة درهم، وكان لا يحمله غيرها إذا أنزل عليه الوحي.(3/309)
1047- وأما العضباء، فكانت لا تسبق، ثم جاء أعرابي على ناقة فسبقها، فعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن من قدر الله تعالى أن لا يرتفع شيء إلا وضعه.
1048- وكانت له صلى الله عليه وسلم : الجدعاء.(3/310)
1049- وأما أسماء لقاحه صلى الله عليه وسلم : المروة، والبغوم، وكانت لقاحه التي أغار عليها عيينة بن حصن بالغابة .. ..(3/311)
عشرين لقحة.(3/312)
1050- وقيل: كانت لقاحه سبعاً، فأغار عليها العرنيون وقتلوا غلامه يساراً، وساقوا اللقاح، فوجه صلى الله عليه وسلم علياً في آثارهم، فردهم وقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم وصلبهم في الشمس.(3/313)
[215] فصلٌ: ذكر أعنزه صلى الله عليه وسلم
1051- كن سبعاً ترعاهن أم أيمن وتروح بهن إليه.
1052- وأسماؤها: عجوة، وزمزم، وسقيا، وبركة، وورسة، وإطلال وإطراف.
1053- وكان اسم شاته صلى الله عليه وسلم التي يشرب لبنها: غيثة.(3/314)
1054- وكانت له صلى الله عليه وسلم مائة من الغنم.
1055- وكان له صلى الله عليه وسلم ديك أبيض.(3/315)
[216] فصلٌ: ذكر ما كان يلبسه صلى الله عليه وسلم وما كان يعجبه من اللباس
1056- كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : القميص، وكان إزار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نصف الساق.
1057- كان صلى الله عليه وسلم يلبس الشملة ويأتزر بها، يلبسها فيصلي فيها بالناس.(3/316)
1058- وكان صلى الله عليه وسلم يلبس القلانس تحت العمائم، ويلبس القلانس بغير العمائم، والعمائم بلا قلانس، ويلبس القلانس ذوات الآذان في(3/317)
الحرب، وربما نزع قلنسوته عن رأسه فجعلها سترة بين يديه ثم يصلي إليها صلى الله عليه وسلم .
1059- وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يتعمم بالعمائم الحرقانية السواد في أسفاره، وربما يعتجر اعتجاراً.(3/318)
1060- وكانت له صلى الله عليه وسلم عمامة يعتم بها يقال لها: السحاب، فكان يلبسها، فكساها بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان ربما طلع علي رضي الله عنه عليه فيها فيقول: أتاكم علي في السحاب -يعني: عمامته التي وهب له صلى الله عليه وسلم -.
1061- وروى أبو راشد الحبراني عن علي رضي الله عنه قال: عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسدل طرفها على منكبي وقال: إن العمامة حاجز بين المشركين والمسلمين.(3/319)
1062- وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الثياب الخضر، وكانت له جباب: جبة سندس بزيون خضراء.
1063- روى أنس أن أكيدر دومة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس، فجعل الناس يتعجبون منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتعجبون من هذه،(3/320)
فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه.
1064- وكانت له صلى الله عليه وسلم جبة من طيالسة مكفوفة بالديباج يلقى بها العدو.
1065- وكان صلى الله عليه وسلم يشتري لنفسه الثياب، وربما طلب اللبيس من القمص والسراويلات، وربما يشتري الجدد.(3/321)
1066- ويكون قميصه وجبابه وأقبيته صلى الله عليه وسلم كلها مشمرة فوق الكعبين.(3/322)
وكانت تكون قمصه صلى الله عليه وسلم مشدودة الأزر، وربما لبس صلى الله عليه وسلم الكساء الصوف وحده فيصلي فيه وربما لبس الإزار الواحد ليس عليه غيره، يعقد طرفيه بين كتفيه فيصلي فيه.(3/323)
1067- وكان له صلى الله عليه وسلم كساء من صوف سيحاني يشهد فيه الصلاة.
1068- وكان له صلى الله عليه وسلم كساء ملبد.
1069- وكان له صلى الله عليه وسلم كساء أسود يلبسه، ثم كساه، فقال له أم سلمة رضي الله عنها: بأبي وأمي أنت ما فعل الله بذلك الكساء الأسود؟ فقال: كسوته، فقالت: ما رأيت شيئاً قط كان أحسن من بياضك على سواده.(3/324)
1070- وكان له صلى الله عليه وسلم ثوبان لجمعته خاصة سوى ثيابه في غير الجمعة.
1071- وكان صلى الله عليه وسلم يلبس يوم الجمعة برده الأحمر، ويعتم ويسدل طرف العمامة.(3/325)
1072- وكانت له صلى الله عليه وسلم خرقة -أو منديل- يمسح بها وجهه بعد الوضوء، وربما لم يكن معه منديل فيمسح وجهه بطرف ردائه الذي يكون معه.(3/326)
1073- وأهدى له النجاشي خفين ساذجين فكان صلى الله عليه وسلم يلبسهما.
1074- وكان صلى الله عليه وسلم قد لبس خاتم الذهب، فلبس الناس خواتيم الذهب فنبذه.
1075- ثم لبس خاتماً من فضة، فصه حبشي، فجعل الفص مما يلي الكف.(3/327)
1076- وجعل خاتماً بعده من حديد ملوياً عليه فضة، أهداه له معاذ بن جبل من اليمن مكتوب عليه: محمد رسول الله، فلبسه في يده اليمنى. ثم نقله إلى اليسرى.(3/328)
[217] فصلٌ: ذكر مرآته ومكحلته ومشطه وغير ذلك من أدواته
1077- أخبرنا أبو الفتح: إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن الحسين بن سيبخت، ثنا أبو الحسين: زيد بن محمد، ثنا أبو الرميح: محمد بن الرميح الترمذي، ثنا صالح بن محمد، .. ..(3/329)
ثنا سليمان بن عمرو، عن الحارث بن زياد، عن أنس بن مالك قال: كان سول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج دعا بالمرآة، ثم لا يخرج حتى ينظر فيها.(3/330)
قال الأستاذ أبو سعد صاحب الكتاب أعانه الله على طاعته:
1078- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في المرآة ويرجل جمته ويمتشط، ويتجمل لأصحابه فضلاً عن أن يتجمل لأهله.
1079- وكان في حجرة عائشة رضي الله عنها ركوة فيها ماء، كان صلى الله عليه وسلم ينظر فيها ويسوي فيها جمته ويقول: إن الله يحب عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيأ لهم ويتجمل.(3/331)
1080- وكان في يده صلى الله عليه وسلم مدرى يرجل بها رأسه.
1081- وكان صلى الله عليه وسلم يضع المشط تحت وسادته.
1082- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: إن المشط يذهب بالوباء.(3/332)
1083- وكان صلى الله عليه وسلم إذا سرح رأسه ولحيته بالمشط يأخذ ما بقي في المشط من الشعر، وربما سرح صلى الله عليه وسلم لحيته في اليوم مرتين.
1084- وكان صلى الله عليه وسلم لا تفارقه قارورة الدهن في أسفاره والمكحلة(3/333)
والمرآة والمشط والمقراض والسواك، ويكون معه الخيوط والإبرة، والمخصف والسيور، فيخيط ثيابه ويخصف نعله صلى الله عليه وسلم .(3/334)
جامع أبواب الدلائل التي يستدل بها على نبوته صلى الله عليه وسلم وما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات(3/335)
[218] فصلٌ: في الدلائل التي يستدل بها على نبوته صلى الله عليه وسلم
قد ذكرنا بعض ما انتهى إلينا من الأخبار الصحيحة والمروية في المعجزات والآيات.
فأما الدلائل التي يستدل بها على نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم فهي من خمسة أوجه:
الأول: ما أتى به من الآيات التي يعجز عنها طوق البشر.
الثاني: هو الاستدلال بالظاهر من أمره على الخفي.
الثالث: وجود الأخبار في الكتب المتقدمة شاهدة لتصديقه.
الرابع: إخباره لما يكون في المؤتنف والمستقبل، ثم يكون الأمر كما أخبر لا يقع في أخباره -على كثرتها- خلف.
الخامس: البرهان العقلي الذي يضطر العقول إلى معرفة صدقه.
فأما الوجه الأول: وهو الآيات التي أتى بها مما يعجز عنها طوق البشر: فهو مثل: شكوى البعير، وكلام الذئب، وحنين الجذع، ومشي الشجر، وتفجر الماء من بين أصابعه، وإخباره الشاة المسمومة عن نفسها، وإطعامه أصحابه وهم كثيرون من طعام يسير، ومسحه ضرع الشاة لابن مسعود وأم معبد حتى صار حافلاً، وما أشبه ذلك من الآيات التي ظهرت في حفره صلى الله عليه وسلم الخندق وفي سفره ومسيره وفي عامة مغازيه.(3/337)
وأما الوجه الثاني: وهو ما يستدل بالظاهر من أمره على الخفي: فهو ما وجد فيه من الفضائل والمعالي والمكارم والأخلاق الحسنة الشريفة التي لم تجتمع مثلها في واحد قط ثم يكون مع ذلك كذاباً، ألا ترى إلى قول ابن سلام: أتيت المدينة حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يقول: يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وألينوا الكلام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام، فعلمت أن وجهه ليس بوجه كذاب.
وكان أكثم بن صيفي -وهو من حكماء العرب، عاش ثلثمائة وستين سنة، ولم يكن أحد من العرب يفضل عليه في الحكمة-، لما سمع برسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه ابنه وكتب إليه كتاباً، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابه، فلما ورد عليه ابنه بالكتاب قال لابنه: ما رأيت؟ قال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن لئامها، يدعو إلى أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويأمر بخلع الأوثان، فقال: قد علم ذو الرأي والعقل أن الفضل فيما يدعو إليه، فكونوا في أمره أولاً، ولا تكونوا آخراً، واتبعوه تشرفوا، وأتوه طائعين من قبل أن تأتوه كارهين، فإني والله أرى أمراً ليس بالهين، لا يترك مصعداً إلا صعده، ولا مضرباً إلا ضربه، ولينفرن بالمقيم، إن الذي يدعو إليه لو لم يكن ديناً لكان في العقل حسناً، وإني والله أرى أمراً لا يتبعه ذليل إلا عز، ولا يخالفه عزيز إلا ذل، اتبعوه تزدادوا مع عزكم عزاً.(3/338)
أما الوجه الثالث من آياته: فالأخبار في الكتب المتقدمة قبل مبعثه شاهدة لتصديقه وناطقة بنعوته، ومبينة عن صفاته بما وجدت حقيقة ذلك كله فيه، وتلك الأخبار ضربان:
أحدهما: ما وجد في الكتب المنزلة من السماء مثل التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب شعيا ودانيال.
الضرب الثاني: ما وجد من قبل الكهان والمنامات، وما روي من حديث سطيح وشق وما أشبه ذلك.
وأما الوجه الرابع: فإخباره عن الحوادث والكوائن التي تكون بعده: مثل قوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين} الآية، ومثل قوله تعالى: {وعدكم الله مغانم كثيرةً تأخذونها فعجل لكم هذه} الآية، ومثل قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} الآية، ومثل قوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} الآية، ومثل قوله تعالى: {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا} الآية، ومثل قوله تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قومٍ أولي بأسٍ شديدٍ تقاتلونهم أو يسلمون} الآية، وما أشبه ذلك من الآيات.
ومن هذا الضرب أيضاً: دعواته صلى الله عليه وسلم التي لم تخلف قط، كقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه لأنس بن مالك: اللهم أكثر ماله وولده، وكقوله للعباس بن عبد المطلب: لا يفضض الله فاك، وكذلك في النابغة الجعدي، فكانت أسنانه تزف زفيفاً على كبر سنه، ومات ولم ينفض له سن، ودعائه صلى الله عليه وسلم على قريش بالقحط، وعلى كسرى أن يمزق ملكه، وعلى عتبة بن أبي لهب وأبي جهل، وما أشبه ذلك.(3/339)
والوجه الخامس: البرهان العقلي -وهو القرآن-: الذي تحدى به العرب مرة بعد أخرى، وتارة بعد أولى إلى أن يأتوا بسورة مثله، وفيهم الشعراء والخطباء والبلغاء، ولم يتركهم على ذلك بل توعدهم بأشد الوعيد، ووبخهم أغلظ التوبيخ، إن لم يأتوا بسورة مثله أن يدعوا شهداءهم من دون الله إن كانوا صادقين، قال تعالى: {فإن لم تفعلوا} شرطاً، {ولن تفعلوا} خبراً حتماً، {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة}، يعني: فإن لم تفعلوا ولن تقدروا عليه وأصررتم على ما أنتم عليه من التكذيب فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة.
وقال عز وجل: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفترياتٍ} الآية، وقال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً}.
وكيف يجوز أن يكونوا -مع ما أوتوا من البسطة في اللسان والقدرة على البيان والفصاحة والجزالة والحمية والأنفة- قد جاءهم واحد من جملة عددهم بدين يخالف دينهم فسفه عقولهم وضلل أحلامهم وسب آلهتهم وشتت جموعهم، وجاءهم بكلام منظوم يبين بذلك الكلام على صدقه وأنه دليله على نبوته، وأنهم لا يقدرون على أن يأتوا بسورة مثله!! فقرعهم بذلك في المواقف والرد عليهم مقالة في المواطن، وهم قادرون على أن يكذبوه في انتحاله، ويكفون أنفسهم أمره بمعارضته، مختارين بذلك بذل النفوس والأموال، والعزيز من الأهل والأولاد على ما هو أخف وأيسر من مقابلته بكلام يسير يلوح منه كذبه، ويظهر به افتعاله وإفكه، فدل ما قلنا: أن تركهم المعارضة إنما كان لظهور العجز والانقطاع، والكلام في إعجاز القرآن يطول.(3/340)
[219] فصلٌ: في أعلام نبوته الباهرة، وما في تأييد الله ونصرته له على أعدائه ورد كيدهم عنه من الدلائل الظاهرة
1085- فمن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم التي بهرت عقول قريش، وتركتهم في أمرهم حيرى: ليلة أسرى الله به من مكة إلى المسجد الأقصى بالشام، فبات معهم أول الليل، ثم اخترق الشام ورجع من آخر الليل، فلما أنبأهم بذلك أنكره من لم يعقل آيات الرسل عقله، ونفروا منه، وعرف صدقه العارفون بالله من أصحابه.
فأعداؤه أنكروا ما أخبرهم به، .. ..(3/341)
فامتحنوه بوسع طاقتهم ومبلغ جهدهم، جهداً منهم في إطفاء نوره وإبطال دعوته، فرفعه الله إليه ومثله له نصب عينيه، فأخبرهم عنه عياناً، حتى أبرأ الصدور، وقطع العذر من المكذبين، وأيد الله بذلك المؤمنين.
ثم أخبرهم صلى الله عليه وسلم بمجيء عيرهم، وأن الجمل الذي يتقدمها عليه غرارتان، وإخباره صلى الله عليه وسلم بأمر العير من أعجب العلامات التي أخبر بها،(3/342)
فلو كان مخبراً عن غير الله لم يدر أن يتفق أن يتقدم بعير آخر فيجيء الأمر بخلاف ما أخبر به، والحق واضح لمن لم يلحد فيه.
1086- ومنها: أنه لما خرج في متوجهه إلى الهجرة، وآوى إلى غار بقرب مكة، يعتريه النزال، ويأوي إليه الرعاء من مسيمي الأنعام، قل ما يخلو من مبكر فيه ورائح إليه، هو لهم سند، وللغوبهم مستراح، أقام ثلاثاً لا يطرقه بشر حتى كأن لم يكن هنالك أثر.(3/343)
وخرج القوم في طلبه، فعمى الله عليهم أثره، وهو نصب أعينهم، فصدهم عنه وأخذ بأبصارهم دونه، وهم دهاة العرب وأهل الحنق عليه والعداوة له.
فبعث الله عنكبوتاً فنسجت عليهم، فآيسهم من الطلب فيه بعد أن قصدوا له.
وما كان ذلك لولا ما أراد الله من حياطته بموضع نسج العنكبوت، وهو يرده كل يوم فئام من الناس، وأعكار من النعم -وهو أعمر من المسجد الحرام- ولكن الله يفعل ما يريد.(3/344)
1087- ويروى أنهم لما قصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار ليأخذوه، بعث الله عز وجل حمامتين فوقفتا أمام الغار، ونسجت العنكبوت في فم الغار، فصرفوا عنه.(3/345)
1088- ومنها: خبر العرب وكافريها وما يتناقلونه بالأشعار ويتفاوضونه في الديار: أمر سراقة بن مالك بن جعشم وقد تبعه متوجهاً(3/346)
إلى المدينة طالباً لعثرته، ملتمساً لغرته ليحظى به عند قريش ويبيعه بعرض من الدنيا يسير .. فأمهله الله، حتى إذا أمكنته الفرصة في نفسه وأيقن أن قد ظفر ببغيته -لأمنه بقوته-، وإشرافه على الغلبة لا يمتري؛ إذ خسف الله به الأرض فساخت قوائم فرسه حتى تغيبت بأجمعها في الأرض وهو بموضع جدد، وقاع صفصف كأنه ظهر صفوان، فارتاب وأي موضع ارتياب، وانتبه ولو عقل لتنبه، وعبر لو اعتبر، ولكن إيثار الهوى يسلب الهدى، فعلم أن الذي أصابه أمر سماوي، فنادى: يا محمد، فأجابه صلى الله عليه وسلم آخذاً بالفضل، ورحمة بعباد الله فقال: ادع ربك يطلق لي فرسي، وذمة الله علي أن لا أدل عليك أحداً، فدعا، فوثب جواده كأنه أفلت من أنشوطه، ولم يكن بموضع عثار ولا خبار، ولكن(3/347)
لله في كل شيء سلطان ومع كل شيء قدره، وسأله -وكان رجلاً داهية وعلم بما رأى أنه سيكون له نبأ- فقال: اكتب لي أماناً، فكتب له صلى الله عليه وسلم ، فانصرف وخلف حظه خلفه وهداه وراء ظهره، والله غالب على أمره.
1089- ومنها: أن أبا جهل عدوه الذي حاربه واغتر في إطفاء نوره وقلقل في الأرض التثريب عليه، اشترى من رجل طارئ بمكة إبلاً فبخسه أثمانها ولواه بحقه، فأتى نادي قريش مستجيراً بهم، وراجياً لرفدهم، فذكرهم حرمة البيت، وواجب حق من لجأ إليه، فأحالوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء به لقلة منعته عندهم، ولكثرة أعوان عدوه عليه، فأتاه مستجيراً به، فمضى معه، ودق الباب على أبي جهل، فعرفه، فخرج منخوب العقل، منقسم اللب، فقال: أهلاً بأبي القاسم -قول باخع ذليل- فقال: اعط هذا حقه، قال: نعم، فأعطاه من فوره، وكان الذي لا يصطلى بناره شرارة وجرأة وعتواً، فلما أتى قومه عيروه فقال: إني رأيت ما لم تروا، رأيت والله على رأسه تنيناً فاتحاً فاه،(3/348)
لو أبيت لالتقمني، فعلموا أن قد صدق لخبرهم به، وعلمهم ببغضائه.
فأنى يؤفك بالقوم عن قصد السبيل؟
1090- ومنها: أن أبا جهل طلب غرته، واحتال في ختله، وراقب ساعات غفلته، فوافقه يوماً ساجداً لربه، فاهتبلها منه، وظن أن قد ظفر ببغيته، فأخذ صخرة بوسع طاقته وقدر قوته، وأقبل بها إليه، حتى إذا هيأها ليطرحها عليه ألزقها الله بكفه، وحال بينه وبينه، وأراه ما يرونه ليعتبر من يدكر، فارعوى وأبصر، فلما عرف ألا نجاة له إلا به سأله -فسأل رحيماً- أن يدعو ربه، فدعا له، فسلها من يده.
ويله، مما اجترحت يداه!(3/349)
1091- ومن ذلك: أن نفراً من قريش اجتمعوا وتآمروا أن يقتلوه صلى الله عليه وسلم ، فابتدر أبو جهل لذلك، وتقلد سيفه، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} الآية، حتى فرغ من صلاته تأخر، فقالوا لأبي جهل: لم لا تتقدم إليه؟ قال: أما رأيتم ما رأيت؟ فقالوا: وما رأيت؟ قال: والله لقد رأيت بيني وبينه أمثال الجبال.
1092- ومنها: ما روي أنه لما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم، اجتمعوا في دار الندوة يتشاورون فيها ما يصنعون من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل،(3/351)
فوقف على باب الدار، فلما رأوه قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأياً ونصحاً.
قالوا: ادخل، فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش من كل قبيلة، من بني عبد شمس: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل، ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة، ومن بني أسد بن عبد العزى: أبو البحتري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام، ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام، ومن بني سهم: منبه ونبيه ابنا الحجاج، ومن بني جمح: أمية بن خلف، فقال بعضهم لبعض: هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً، قال: فتشاوروا، ثم قال قائل: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذي كانوا قبله زهيراً والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم.
فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم؛ ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره.(3/352)
فتشاوروا، فقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلدنا، فإذا أخرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع.
قال الشيخ النجدي: ليس هذا برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ فلا نأمن من أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأياً آخر.
فقال أبو جهل: إني أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً جلداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم يعطى كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه ويضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه ونستريح منه، فإذا فعلنا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً ورضوا بالعقل فعقلناه لهم.
فقال الشيخ النجدي: القول ما قلت، هذا الرأي الذي لا رأي غيره، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.
فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: نم على فراشي وتسج ببردي هذا فنم فيه فإنه لن يخلص إليك منهم شيء تكرهه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك.
ولما اجتمعوا له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على بابه فأخذ حفنة من تراب في يديه، وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر من ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات: {يس. والقرآن الحكيم} إلى قوله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً(3/353)
فأغشيناهم فهم لا يبصرون}، فلم يبق منهم رجل إلا وضع على رأسه تراباً، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.
قال: وأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمداً، قال: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمداً ثم لم يترك منكم رجلاً إلا وضع على رأسه التراب، وانطلق لحاجته، أفلا ترون ما نزل بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا ينطلقون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي رضي الله عنه عن الفراش فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا، فكان مما أنزل الله تعالى من القرآن في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}، وقوله تعالى: {أم يقولون شاعرٌ نتربص به ريب المنون. قل تربصوا فإني معكم من المتربصين}.(3/354)
1093- ومنها: ما روي عن ابن عباس قال: دخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: يا بنية ما يبكيك؟، قالت: يا أبة وما لي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاقدون باللات والعزى ومناة لو رأوك لقاموا إليك فيقتلونك، فليس فيهم أحد إلا وقد عرف نصيبه من دمك، فقال صلى الله عليه وسلم : يا بنية، إيتيني بوضوء، فتوضأ ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، فطأطأوا رؤوسهم، وسقطت رقابهم بين أيديهم فلم يرفعوا إليه أبصارهم، فتناول النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب وهو في الحجر فحصبهم بها وقال: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلاً منهم حصاة من تلك الحصى إلا قتل يوم بدر كافراً.
1094- ومنها: ما روي عن ابن عباس أيضاً قال: لما نزلت {تب يدا أبي لهبٍ} الآية، جاءت امرأة أبي لهب إلى أبي بكر،(3/355)
وأبو بكر جالس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله إنها امرأة بذيئة، وأنا أخاف أن تؤذيك، فقال صلى الله عليه وسلم : إنها لن تراني، فقالت: يا أبا بكر هجاني صاحبك، فقال لها أبو بكر: لا، وما يقول الشعر، قالت: فإنك عندي مصدق، وانصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما رأتك؟ قال: ما زال الملك يسترني منها بجناحيه.
1095- ومنها: ما روي عن عروة بن الزبير قال: كان النضر بن الحارث ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعرض له، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يريد حاجته نصف النهار في حر شديد، فلما بلغ أسفل من ثنية الحجون -وكان صلى الله عليه وسلم يبعد إذا ذهب لحاجته- فرآه النضر بن الحارث فقال: لا أجده أبداً أخلى منه الساعة فأغتاله، قال: فدنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم انصرف راجعاً مرعوباً إلى منزله، فلقي أبا جهل، فقال: من أين الآن؟ قال النضر: اتبعت محمداً رجاء أن أغتاله وهو وحده ليس معه أحد، فإذا أساود تضرب بأنيابها على رأسه فاتحة أفواهها، فهالتني فذعرت منها ووليت راجعاً، قال أبو جهل: هذا بعض سحره.
1096- ومنها: ما روي عن الحكم بن أبي العاص قال: مررت يوماً بحراء، فإذا أنا بنور عظيم، ورأيت شجرة لم أر مثلها قط، فدنوت،(3/356)
فإذا أنا بمحمد صلى الله عليه وسلم جالساً، وإلى جانبه رجل لم أر رجلاً قط أحسن وجهاً منه يحدثه، وكنت شجاع قومي، فقلت: ما لي لا أريح قريشاً من هذا؟ فهممت بقتله، فإذا أنا بأسد قد استقبلني، والله ما رأيت قط أشد هيبة منه، فرأيته وهو يريدني، فلما رأيته وليت مدبراً، فسمعته يقول: والذي بعث محمداً بالنبوة لولا أنك وليت لتركتك لا تمشي على قدميك أبداً.
وقد كان يجلس ويسمع لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل له: لم لا تؤمن؟
قال: لا أكون أول من يدخل السبة والعار على قومه.(3/357)
1097- ومنها: ما روي عن عكرمة: أن قوماً قالوا: تعالوا: فإذا لقينا محمداً فعلنا به وفعلنا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فجعل يذر التراب على رؤوسهم ويقرأ: {يس. والقرآن الحكيم} إلى قوله: {فهم لا يبصرون}.(3/358)
1098- وروي عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم حنين على بغلة يقال لها: دلدل، فلما انهزم المسلمون، قال النبي صلى الله عليه وسلم : التزمي دلدل، فوضعت بطنها على الأرض، فأخذ حفنة من تراب فرمى بها في وجوههم، وولى المشركون منهزمين، ما ضرب بسيف ولا طعن برمح، ولا رمى بهم، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين.(3/359)
1099- ولما نزل صلى الله عليه وسلم خيبر قال: الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
1100- ومنها: ما روي عن عروة بن الزبير قال: قدم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توافقا على ما تواثقا عليه من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قدما قال عامر لأربد: إذا قدمنا على الرجل فإني شاغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف.
فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر: يا محمد خالني، قال: لا، حتى تؤمن بالله وحده، قال: يا محمد خالني، قال: لا، حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له، وجعل يكلمه وينظر من أربد ما كان أمره به، فجعل أربد لا يجيب شيئاً، فلما رأى عامر ما صنع أربد قال: يا محمد خالني، قال: لا، حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له، فلما أبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: أما والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً، ولأربطن بكل نخلة فرساً، فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اكفني عامر بن الطفيل، فلما خرجا من عنده قال عامر لأربد: ويلك يا أربد أين ما كنت أوصيتك به؟ .. وذكر باقي الحديث على نحو ما مضى.(3/360)
قال: فلما كانا ببعض الطريق أصاب عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله في بيت امرأة من بني سلول، وخرج أربد ومن معه من أصحابه حين رأوا عامراً قد مات بأرض بني عامر، فقالت بنو عامر: يا أربد ما وراءك؟ قال: لا شيء، والله لقد دعاني إلى عبادة شيء لوددت أنه الآن عندي فأرميه بمثل هذه -وأشار إلى مكان قريب- حتى أقتله، فخرج أربد بعد ذلك بيوم أو يومين ومعه جمل له يبيعه، فأرسل الله عليه صاعقة فاحترق هو وجمله.
1101- ومنها: ما روي عن ابن عباس قال: مر أبو جهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد يصلي، فقال: ألم أنهك يا محمد؟ لتنتهين عن هذا أو لأفعلن بك، فانتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظ، فقال: بم تهددني يا محمد؟ ما بهذا الوادي أحد أكثر مني نادياً، فقال الله عز وجل: {فليدع ناديه. سندع الزبانية}.(3/361)
1102- ومنها ما رواه زكرياء بن عمرو، من أهل الكوفة، مولى لبني زهرة، عن شيخ من قريش، قال: لما مضى ثلاث سنين أطلع الله تعالى رسوله على أمر صحيفتهم، وأن الأرضة قد أكلت ما فيها من جور وظلم وبقي ما كان فيها من ذكر الله، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/363)
لأبي طالب، فقال أبو طالب: أحق ما تخبرني به يا ابن أخي؟ قال: نعم، والله، فذكر أبو طالب ذلك لإخوته، فقالوا له: ما ظنك به؟ قال أبو طالب: والله ما كذبني ابن أخي قط، قالوا: فما ترى؟ قال: أرى أن تلبسوا أحسن ما تجدون من الثياب، ثم تخرجوا إلى قريش فتذكروا لهم قبل أن يبلغهم الخبر، قال: فخرجوا حتى دخلوا المسجد، فعمدوا إلى الحجر -وكان لا يجلس فيه إلا صبيان قريش وذووها- فترفعت إليهم المجالس ينظرون إليهم ماذا يقولون، فقال أبو طالب: إنا جئنا لأمر فأجيبونا فيه بالذي يعرف لكم، قالوا: مرحباً بكم وأهلاً، وعندنا ما يسرك فيما طلبت، قال: إن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني قط: أن الله جل ذكره قد سلط على صحيفتكم التي كتبتم الأرضة تأكل ما كان فيها من جور وظلم وقطيعة رحم، وبقي فيها كل ما ذكر به الله، فإن كان ابن أخي صادقاً نزعتم عن سوء رأيكم، وإن كان كاذباً دفعته إليكم فقتلتموه واستحييتموه، قالوا: أنصفتنا.
فأرسلوا إلى الصحيفة، وكانت موضوعة على يدي الجلاس، فلما أتى بالصحيفة قال: اقرؤها، فلما فتحوها إذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أكلت إلا ما كان من ذكر الله، فسقط في أيدي القوم، ثم نكسوا على رؤسهم، فقال أبو طالب: هل بين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة والإساءة؟ فلم يراجعه أحد من القوم، وتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببني هاشم، فمكثوا غير كثير، ورجع أبو طالب إلى الشعب وهو يقول: يا معشر قريش نحصر ونحبس وقد بان لكم الأمر؟ ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة فقالوا: اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل منا ما حرم الله منا، ثم انصرفوا.(3/364)
1103- ومنها: ما روي عن أبي أمامة قال: كان رجل من بني هاشم يقال له: ركانة، وكان من أفتك الناس وأشدهم، وكان مشركاً، وكان يرعى غنماً له في واد يقال له: أضم، فخرج نبي الله عز وجل من بيت عائشة ذات يوم فتوجه قبل ذلك الوادي، فلقيه ركانة، وليس مع نبي الله أحد، فقام إليه ركانة فقال: يا محمد، أنت الذي تشتم آلهتنا اللات والعزى وتدعو إلى إلهك العزيز الحكيم؟ ولولا رحم بيني وبينك(3/365)
ما كلمتك الكلام حتى أقتلك، ولكن ادع إلهك العزيز الحكيم ينجيك مني اليوم، وسأعرض عليك أمراً: هل لك أن أصارعك وتدعو إلهك العزيز الحكيم يعينك علي، وأنا أدعو اللات والعزى، فإن أنت صرعتني فلك عشرة من غنمي هذه تختارها، فقال عند ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم : نعم إن شئت، فأخذ ودعا نبي الله صلى الله عليه وسلم إلهه العزيز الحكيم أن يعينه على ركانة، ودعا ركانة اللات والعزى: أعني اليوم على محمد، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه، وجلس على صدره، فقال ركانة، لست أنت الذي فعلت هذا، إنما فعله إلهك العزيز الحكيم، وخذلني اللات والعزى، وما وضع جنبي أحد قبلك، فقال له ركانة، عد، فإن أنت صرعتني فلك عشر أخرى تختارها، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعا كل واحد منهما إلهه، كما فعلا أول مرة، فصرعه نبي الله صلى الله عليه وسلم الثانية، وجلس على صدره فقال له ركانة: لست أنت الذي فعلت بي هذا، إنما فعله إلهك العزيز الحكيم، وخذلني(3/366)
اللات والعزى، وما وضع جنبي أحد قبلك، فقال له ركانة، عد، فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى تختارها، فأخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ودعا كل واحد منهما إلهه، فصرعه نبي الله صلى الله عليه وسلم الثالثة، فقال له ركانة: لست أنت الذي فعلت بي هذا وإنما فعله إلهك العزيز الحكيم، وخذلني اللات والعزى، فدونك ثلاثين شاة من غنمي فاخترها.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما أريد ذلك، ولكني أدعوك إلى الإسلام يا ركانة وأنفس بك أن تصير إلى النار، إنك إن تسلم تسلم، فقال له ركانة: لا، إلا أن تريني آية، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم : الله عليك شهيد، إن أنا دعوت ربي فأريتك آية لتجيبنني إلى ما أدعوك إليه؟ قال: نعم، وقريب منه شجرة سمرة ذات فروع وقضبان، فأشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: أقبلي بإذن الله عز وجل، فانشقت باثنين، فأقبلت على نصف شقها وقضبانها وفروعها حتى كانت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ركانة، فقال ركانة: أريتني عظيماً، فمرها فلترجع، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم : الله عليك شهيد، لئن أنا دعوت ربي أمر بها فرجعت لتجيبني إلى ما أدعوك إليه؟ قال: نعم، فأمرها، فرجعت بقضبانها وفروعها حتى التأمت بشقها.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أسلم، تسلم، فقال له ركانة: ما بي إلا أن أكون رأيت عظيماً، ولكني أكره أن يتحدث نساء المدينة وصبيانها، أني إنما جئت لرعب دخل قلبي منك، ولكن قد علمت نساء أهل المدينة(3/367)
وصبيانها أنه لم يضع جنبي أحد قط، ولم يدخل قلبي رعب ساعة قط ليلاً ولا نهاراً، ولكن دونك فاختر غنمك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ليس لي حاجة إلى غنمك إذ أبيت أن تسلم.
فانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، وأقبل أبو بكر وعمر يلتمسانه في بيت عائشة، فأخبرتهما أنه توجه قبل وادي أضمن، وقد عرف أنه وادي ركانة لا يكاد يخطئه، فخرجا في طلبه وأشفقا أن يلقاه ركانة فيقتله، فجعلا يصعدان على كل شرف ويشرفان مخرجاً له إذ نظرا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، فقالا: يا نبي الله كيف تخرج إلى هذا الوادي وحدك، وقد عرفت أنه جهة ركانة وأنه من أفتك الناس وأشدهم تكذيباً لك؟! فضحك إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أليس يقول الله عز وجل: {والله يعصمك من الناس}، إنه لم يكن يصل إلي والله معي، فأنشأ يحدثهما بحديثه والذي فعل به، والذي أراه، فعجبا من ذلك فقالا: يا رسول الله أصرعت ركانة؟ فلا والذي بعثك بالحق نبياً ما نعلم أنه وضع جنبه إنسان قط!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني دعوت ربي فأعانني عليه، وإن ربي أعانني ببضع عشرة وقوة عشرة.
1104- ومن ذلك: أن شيبة بن عثمان الحجبي كمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ليقتله، فجاء من خلفه، فلما أراد أن يسوره وأن يعلوه بالسيف رفع له شواظ من نار كاد أن يحترق، فنكص على عقبيه وتركه.(3/368)
1105- ومنها: يوم صاف صلى الله عليه وسلم أعداءه ببدر وهم ألف أو زهاء ألف، وهو في عصابة تكون ثلثهم، فلما حمي الوطيس والتحمت الحرب أخذ قبضة من التراب ملء كفه، والقوم متفرقون في نواحي عسكرهم، فرمى به وجوههم فلم يبق منهم رجل إلا امتلأت عيناه منه، وإن الريح لتعصف يومها إلى الليل، لم يكن ليصيب اثنين منهم.
ثم قرعهم الله بذلك في القرآن، وثبت به المؤمنين.
فأي أحد يقدر أن يرمي قوماً بينه وبينهم مائتا ذراع بتراب ملء كفه فيصيبهم جميعاً؟ فهل هي إلا قدرة الخالق تبارك وتعالى معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم ؟
1106- ومنها: أنه انكسر سيف عكاشة بن محصن يوم بدر فقال: يا رسول الله انكسر سيفي، فأخذ صلى الله عليه وسلم جزلاً من حطب فأعطاه إياه وقال(3/370)
له: هزه، فصار سيفاً، فتقدم وجاهد به الكفار، فكان لم يزل بعد ذلك معه.
1107- ومنها: أن قوماً من العرب اجتمعوا عند صنم لهم ينسكو له، ففاجأهم صوت من جوفه يتكلم بلسان فصيح يناديهم:
يا آل ذريح ... أتاكم رجل فصيح
في كلام كثير، فانجفل القوم فزعاً، وذلك حين بعث صلى الله عليه وسلم .
قال: فأسلم أكثرهم.(3/371)
1108- ومنها: أنه كان في سفرين من أسفاره، معروفين مذكورين عند عشيرته، لا يتدافعون حديثهما، ولا ينكرون ذكرهما، فكان إذا أصابته الشمس أظلته سحابة حين يمشي، تدور معه حيث دار، وتزول معه حيث زال، يراها رفقاؤه ومعاشروه.
1109- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله ما من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر، قال: نعم، قولوا: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، قال: فضرب الله عز وجل وجوه أعدائه بالريح، فهزمهم الله بالريح.
1110- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم سافر سفراً ونزل تحت شجرة وعلق بها سيفه، وتفرق الناس في نزولهم، فدسوا رجلاً ليقتله، فجاء إليه وهو لا يشعر فأخذ سيفه وسله فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ قال: الله، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين كتفيه فسقط الرجل، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ سيفه، وقال: من يمنعك الآن مني؟ فقال: لا أحد، فعفا عنه صلى الله عليه وسلم .(3/372)
1111- ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نظر إلى السحابة علم رعدها وفيم ترعد، فمرت به صلى الله عليه وسلم سحابة ورعدت عند نكث أهل مكة عهودهم فقال: والذي نفسي بيده إنها لترعد بنصر بني كعب، فكان كذلك وسار صلى الله عليه وسلم عند ذلك ففتحها.(3/373)
1112- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قصد البيت وفيه ثلاث مائة وستون صنماً، فأخذ عوداً وجعل يطعن في وجوههم ويقول: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً} الآية.
1113- وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم كلما أشار بيده إلى صنم خر لوجهه من غير أن يمسه.(3/375)
1114- ومن ذلك: أن كسرى كتب إلى باذان -وهو عامله على اليمن- أن ابعث إلى هذا الرجل -يعني محمداً صلى الله عليه وسلم - فأحضره، فبعث إليه، وكتب كتاباً: إنك إن أجبت كتبت فيك، وشفعت لك، وإن لم تجب فهذا كسرى مخرب بلادك، ومستأصل قوتك، فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: سلطت ابن كسرى على أبيه فقتله لخمس ساعات من ليلة كذا، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم برسل باذان فأخبرهم، وكتب إلى باذان: إن أسلمت استعملتك، وانصرف الرسولان بما كتب، وقال: فقدما على باذان فأخبراه بما قاله صلى الله عليه وسلم عن شيرويه وقتله كسرى، فأسلم باذان، وأسلمت الأبناء من آل فارس.(3/376)
[220] فصلٌ: ذكر ما ظهر من الآيات والدلائل فيمن دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم
1115- أخبرنا الشريف أبو محمد: عبد الله بن يحيى بن طاهر بن يحيى الحسيني بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: حدثنا محمد بن الحسن بن نصر قال: حدثنا أبو عبد الله: الزبير بن بكار قال:(3/377)
حدثتني ظمياء بنت عبد العزيز بن مولة عن أبيها، عن جدها مولة بن حمل قال: أتى عامر بن الطفيل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له: يا عامر أسلم،(3/378)
قال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر؟ قال: لا، ثم قال: يا عامر أسلم، قال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر؟ قال: لا، قال: فولى وهو يقول: والله يا محمد لأملأنها عليك خيلاً جرداً، ورجالاً مرداً، ولأربطن بكل نخلة فرساً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اكفني عامراً واهد قومه.
فخرج، حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة يقال لها: سلولية، فنزل عن فرسه ونام في بيتها، فأخذته غدةٌ في حلقه، فوثب على فرسه وأخذ رمحه، وأقبل يجول وهو يقول: غدة كغدة البكرة وموت في بيت سلولية، فلم يزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه ميتاً.(3/379)
1116- ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب وكان يؤذيه هو وأبواه كثيراً، وكان هو ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته،(3/381)
فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلقها فطلقها، وتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم فمزق عليه ثيابه، فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، فخرج إلى الشام في نفر من قريش تاجراً، فلما كان في بعض الطريق عرسوا ليلاً فسمعوا زئير الأسد، فقال عتبة: إن هذا والله آكلني، فقيل له: كيف تخافه أنت من بيننا؟ فقال: إن محمداً قد توعدني به، وقل ما قال شيئاً إلا كان كما قال.(3/382)
قال: فجعلوه وسطهم وباتوا، فجاء الأسد فتخطى إبلهم وأثقالهم، ثم تخطاهم إليه وأخذ برأسه واحتمله من بينهم وذهب به وحطمه وقتله، وكان يستغيث فلم يغثه أحد، وكانت هذه آية عظيمة لأهل مكة ..
فقال حسان بن ثابت في ذلك:
سائل بني الأشقر إن جئتهم ... ما كان أنباء بني واسع
رحم نبي جده جده ... يدعو إلى نور له ساطع
فاستوجب الدعوة منه بما ... بين للناظر والسامع
لا وسع الله له قبره ... بل ضيق الله على القاطع(3/383)
إذ سلط الله في كلبه ... يمشي الهوينا مشية الخادع
حتى أتاه وسط أصحابه ... وقد علتهم سنة الهاجع
أسلمتموه وهو يدعوكم ... بالنسب الأدنى وبالجامع
فالتقم الرأس بيافوخه ... والحلق منه نقرة الجائع
والليث يعلوه بأنيابه ... مضطرماً وسط دم ناقع
لا يرفع الرحمن مصروعكم ... فينا ودامت قوة الصارع
من عاد فالليث له عائد ... أفظع به من خبر شائع(3/384)
1117- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم إلى سوق المدينة، فأمر الناس بالمعروف، وأخبرهم فيما يأتون ويذرون، ورجل خلفه يقال له الحكم بن أبي العاص، كلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر تمثل به(3/385)
كالمستهزئ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كن كذلك، فضربته اللقوة، فانقلب وجهه ورأسه.(3/386)
1118- ومن ذلك: ما روى عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل الكعبة وأبو جهل وناس من قريش قد نحروا جزوراً في ناحية مكة، قال: فبعثوا فجاءوا بسلاها فطرحوه بين كتفيه، قال: فجاءت فاطمة رضي الله عنها فطرحته عنه صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرف قال -وكان يستحب أن يدعو ثلاثاً فقال-: اللهم عليك بقريش، اللهم(3/387)
عليك بقريش: بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط.
قال عبد الله: فلقد رأيتهم صرعى في قليب بدر.
1119- ومن ذلك: دعاؤه صلى الله عليه وسلم على كسرى حين مزق كتابه فقال: الله مزق ملكه كل ممزق.
1120- وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه بكتاب فمزقه فقال: مزق كسرى ملكه، وقال صلى الله عليه وسلم : أما إنكم ستملكون أرضه.
فمزق الله ملكه، وشتت جمعه.
1121- ومن ذلك: دعاؤه صلى الله عليه وسلم على مضر حين آذوه بالتكذيب،(3/388)
فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف، فقام عليهم القحط ثماني سنين، فوجه حاجب بن زرارة إلى كسرى فشكى إليه ما نالهم، وسأله أن يأذن لهم في الرعي بالسواد، وفي ذلك نزل قوله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخانٍ مبينٍ. يغشى الناس هذا عذابٌ أليمٌ} الآية، فالدخان: الجدب، لأنه كان دخاناً، ولذلك سميت: سنة الجدب لارتفاع الغبار فيها.
قال أبو سعد رحمه الله: فلا يجوز أن يكون هذا لمن تاب، لأنه سبحانه قال بعد ذلك: {يغشى الناس هذا عذاب أليمٌ} إلى قوله(3/389)
تعالى: {إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون. يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون}، يعني: يوم بدر.
وهذا كله يعني: أن آية الدخان قد مضت.
1122- ثم كان انكشاف العذاب عنهم بدعائه أيضاً صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم الغيث، وكثر حتى هدم بيوتهم فلما شكوا إليه قال صلى الله عليه وسلم : اللهم حوالينا ولا علينا، فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقى الناس حولهم.
1123- وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يأكل بشماله، فقال: كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت، قال: فما وصلت يده إلى فيه بعد.
1124- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم مر برجل يسوق فرساً فقال: أعطها فارساً تربت يمينك، فسقط عن فرسه فتربت يمينه.(3/390)
1125- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم سأل عن رجل فأخبروه بنعته، فقال صلى الله عليه وسلم : لا أقرت به الأرض، فكان كلما دخل أرضاً لم يستقر فيها، حتى يخرج منها.
1126- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتاه فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اعتنقه وقبله، وكانت أم قرفة جهزت ثلاثين راكباً من ولدها وولد ولدها ثم قالت لهم: سيروا حتى تدخلوا المدينة فتقتلوا محمداً، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم أثكلها بولدها، فقتلهم زيد بن حارثة في رجعته إلى بني فزارة مع أمهم، وبعث بذراع أم قرفة(3/391)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصبه بالمدينة بين رمحين.
1127- ومن ذلك: أن نفراً من المشركين خرجوا عليه يوم الحديبية شاكين السلاح، فدعا صلى الله عليه وسلم عليهم، فأخذ الله على أبصارهم حتى أخذوا سلماً، ثم عفا عنهم صلى الله عليه وسلم .(3/392)
[221] باب الآيات في تكليم الأحجار وإطاعة الأشجار وسائر الجمادات له صلى الله عليه وسلم
1128- حدثنا أبو عمرو: محمد بن جعفر بن محمد بن مطر رضي الله عنه، ثنا أبو الحريش: أحمد بن عيسى بن مخلد، ثنا شيبان بن فروخ الأبلي، ثنا مبارك بن فضالة، ثنا الحسن، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة يسند ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي، فبنوا له منبراً له عقبتان، فلما قام على المنبر حنت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنين الوالدة، فما زالت تحن حتى نزل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتضنها فسكنت.
قال المبارك: فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى، وقال: يا عباد الله، الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه لمكانه من الله عز وجل، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.(3/393)
1129- وفي رواية: أنه كان في مسجده صلى الله عليه وسلم بالمدينة يستند إلى جذع، فيخطب الناس، فلما كثر الناس اتخذ له بعض غلمان العباس درجاً، وقال غيره: اتخذ له منبراً، فلما صعده حن الجذع حنين الناقة إذا فقدت ولدها، فدعاه فأقبل يخد الأرض والناس حوله ينظرون، والتزمه وكلمه، ثم قال له وهم يسمعون: عد إلى مكانك، فمر كأحد الخيل حتى صار في مكانه وبحضرته المؤمنون فازدادوا إيماناً، وفي دينهم بصيرة، وهنالك هلك المنافقون.
1130- ومن ذلك: ما روى علقمة عن ابن مسعود قال: إنكم تعدون الآيات عذاباً وإن كنا نعدها بركة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد كنا نأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم الطعام ونحن نسمع تسبيح الطعام.(3/394)
1131- ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ حصيات فوضعها في يده فسبحت، ثم وضعها في يد أبي بكر فسبحت، ثم في يد عمر فسبحت، ثم في يد عثمان فسبحت.(3/395)
1132- ومنها: انشقاق القمر وهو بمكة في أول مبعثه، رآه أهل الأرض طراً، وتلي به عليهم قرآن، فما أنكروا ذلك عليه، وكان كما أخبر به، لم يخفى في الأرض أثره، ولم يندرس ذكره.
1133- ومنها: ما روي عن أبي أسيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: يا أبا الفضل إلزم أنت وبنوك منزلك غداً، فإن لي فيكم حاجة، فصبحهم وقال: تقاربوا، فزحف بعضهم إلى بعض حتى إذا أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته وقال: يا رب هذا عمي صنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه، فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت: آمين آمين آمين.(3/398)
1134- ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أتى بشاة مسمومة أهدتها له امرأة من اليهود، فدعا أصحابه إليها، فرفع يده ثم قال: ارفعوا أيديكم، فإنها تخبرني أنها مسمومة.
ولو كان ذلك لعلة الارتياب باليهودية ما قبلها بدءاً، ولا جمع عليها أصحابه، ولا استجاز تركهم يأكلونها.
1135- ومنها: ما صح أنه صلى الله عليه وسلم أراد الوضوء وهو في سفر فقال ليعلى بن مرة: اذهب إلى تينك الشجرتين وقل لهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/399)
يأمركما أن تجتمعا، فأقبلتا تخدان الأرض خداً حتى اجتمعتا، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفهما، ثم أمرهما بالرجوع إلى مكانيهما، فرجعتا.
1136- وفي رواية: أن يعلى بن مرة الثقفي قال: رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يره إلا من كان معي، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بمكان كذا وكذا جاءته طلحة أو سمرة وطافت حوله، ثم رجعت إلى منبتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنها استأذنت ربها أن تسلم علي.
1137- ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم مر بشجرة غليظة الشوك، متفيئة الفرع، ثابتة الأصل، فدعاها فأقبلت تخد الأرض إليه طوعاً، ثم أذن لها فرجعت إلى مكانها.
قال أبو سعد عبد الملك صاحب الكتاب:
فأي آية أبين من موات لا حركة به ولا حيلة عنده أقبل مستجيباً لدعوته صلى الله عليه وسلم مطيعاً لأمره؟ فتبارك الله رب العالمين.(3/400)
1138- ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نخلتين بينهما فجوة من الأرض، نابت أصلهما، باسقة فروعهما، فقال لهما صلى الله عليه وسلم -وأصحابه حضور-: انضما، فأقبلتا تخدان الأرض حتى اصطفتا، فأي عبرة أبين من هذه؟
1139- ومن ذلك أنه كان صلى الله عليه وسلم في غزوة الطائف في مسيره ليلاً على راحلته بواد بقرب الطائف يقال له: نجب، ذو شجر كثير: من سدر، وطلح، فعثر -وهو وسنٌ- بسدرة في سواد الليل، فانفرجت السدرة له نصفين، فمر صلى الله عليه وسلم بين نصفيها، وبقيت السدرة منفرجة على ساقين إلى زماننا هذا، وهي معروفة بذلك الواد، مشهور أمرها، يعظمها أهله، وتسمى: سدرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا .. الأعراب الغيث عضدوا ما أمكنهم عضده مما يمرون به من الشجر، وحملوه على إبلهم وأغنامهم، فيفعلون مثل ذلك في شجر الوادي، ولا ينالون هذه السدرة بعضد ولا حصد ولا غيرهما من المكروه؛ معرفة بحالها، وتعظيماً لشأنها، ولشهرة أمرها هنالك، وأنها آية بينة عجيبة، وحجة باقية على مر الدهر.(3/401)
1140- ومنها: ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمر على شجرة ولا مدر إلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم .
1141- ومن ذلك ما روى عبد الله بن بريدة، عن أبيه بريدة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فانتهينا إلى موضع من الطريق فأتاه أعرابي فصوت بصوت جهوري: أفيكم محمد؟ قلنا: نعم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد أسلمت، فأرني شيئاً ازدد به يقيناً، فقال: ما تريد؟ قال: ادع تلك الشجرة فلتأتك، قال: اذهب إليها فقل لها: أجيبي رسول الله، فقال لها: أجيبي رسول الله، فمالت على شقها الأيمن فقطعت عروقها، ثم مالت على شقها الأيسر فقطعت عروقها، ثم أقبلت مغيرة تجر عروقها وفروعها حتى انتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله مرها فلترجع، فأمرها فرجعت حتى انتهت إلى حفرتها فدلت عروقها فيها ثم استوت فيه كما كانت، فقال الأعرابي: يا رسول الله إيذن لي فأسجد لك، فقال صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو أمرت أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها.(3/402)
1142- ومنها: نداء الحجر والرمل وعراجين النخل إياه صلى الله عليه وسلم ، روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل هو وسهل بن حنيف وخالد بن زيد أبو أيوب الأنصاري حائطاً من حوائط بني النجار، فلما دخل ناداه حجر على رأس بئر لهم عليها السواني: السلام عليك يا رسول الله، اشفع إلى ربك أن لا يجعلني من حجارة جهنم التي يعذب بها الكفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه: اللهم لا تجعل هذا الحجر من أحجار جهنم، ثم ناداه الرمل: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ادع الله أن لا يجعلني من كبريت جهنم فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم لا تجعل هذا الرمل من كبريت جهنم، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من النخل نادته العراجين من كل جانب: السلام عليك يا رسول الله، وكل واحد منها يقول: خذ مني فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل وأطعم، ثم دنا من العجوة، فلما أحسته سجدت، فبرك عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم بارك عليها، وانفع بها.
1143- قال أبو سعد رحمه الله: فمن ثم روت العامة: أن الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، وأن العجوة من الجنة.(3/403)
1144- ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يتناول الحجر فيسبح في يده، فقال له بعض أصحابه في ذلك، فقال: نعم.
1145- ومنه معجزته صلى الله عليه وسلم في كلام الركن الغربي، قال له الركن: يا رسول الله ألست قاعدة من قواعد بيت ربك؟ فما بالي لا أستلم؟ فدنا منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اسكن عليك السلام غير مهجور.(3/404)
[222] فصلٌ: ذكر آياته صلى الله عليه وسلم مع الحيوانات وما في طاعتها وانقيادها له من الدلائل
1146- أخبرنا أبو الحسن: علي بن داود المقرئ بدمشق، أنا إسحاق بن إبراهيم بن هاشم الأذرعي، ثنا سعيد بن الحكم، ثنا ليث بن(3/405)
سعد ويحيى بن أيوب وابن لهيعة قالوا: حدثنا ابن الهاد عن ثعلبة بن أبي مالك قال: اشترى رجل من بني سلمة جملاً ينضح عليه، فأدخله في مربد فحرد الجمل، فلم يقدر أحد أن يدخل عليه إلا تخبطه، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: افتحوا عنه، فقالوا: نخشى عليك منه، قال: افتحوا عنه، قال: ففتحوا، فلما رآه الجمل خر ساجداً، فسبح القوم، فقالوا: يا رسول الله نحن كنا أحق أن نسجد من هذه البهيمة، فقال صلى الله عليه وسلم : لو ينبغي لشيء من الخلق أن يسجد لشيء دون الله لكان ينبغي للمرأة أن تسجد لزوجها.
1147- ومنها: أن ظبية كلمته حين وقعت في شبكة، فقالت: يا رسول الله إن لي حشفاً ذا لبن وإني قد وقعت في شبكة فخلني حتى(3/406)
أرضعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أخليك وصاحب الشبكة غائب؟ فقالت: خلني حتى أرجع، فخلاها وجلس حتى رجعت الظبية، وجاء صاحبها، فتشفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خلى سبيلها، فاتخذ القوم من ذلك الموضع مسجداً.
1148- ومنها: أن رجلاً كان في غنمه يرعاها، فأغفلها سويعة من نهاره وتلهى عنها، فجاءها ذئب فأخذ منها شاة، فأقبل يعدو خلفه، فطرح الذئب الشاة ثم كلمه بكلام فصيح، ولسان ذلق، فقال: تمنعني رزقاً ساقه الله إلي؟ فقال الرجل: يا عجبي! الذئب يتكلم؟ فقال الذئب:(3/407)
أنتم أعجب، وفي شأنكم للمعتبرين عبرة، هذا محمد يدعو إلى الحق ببطن مكة، وأنتم عنه لاهون، فأبصر الرجل حظه وهدي لرشده فأقبل(3/408)
حتى أسلم، وحدث القوم بقصته، وليس بالرجل الخامل ذكره، ولا المجهول موضعه -وبقي لعقبه شرفاً لا تخلقه الأيام، يفخرون به على العرب والعجم، فيقولون: أنا ابن مكلم الذئب-.(3/409)
1149- ومنها: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم دخل حائش نخل فرأى فيها بعيراً، فلما رآه البعير خر له ساجداً، وذرفت عيناه، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم سراته -يعني ظهره-، وذفراه -يعني أصول الأذن-.
1150- ومنها: ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة وحوله المهاجرون والأنصار إذ أتى أعرابي من بني سليم(3/411)
يقال له: سعيد أو معاذ وقد صاد ضباً -وهو في ثيابه-، فجعل يتخطى الناس، عنقاً عنقاً، حتى قام بحذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، والله ما اشتملت النساء على ذي لهجة هو أكذب منك، ولا أبغض إلي منك، ولولا خصلة لملأت سيفي منك.
قال: فهم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عمر كاد الحليم أن يكون نبياً، ثم أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على السلمي فقال: مه يا أخا بني سليم، فوالله إني لأمين في السماء محمود عند الملائكة، أمين في الأرض محمود عند الآدميين، فلا تسمعني في مجلس إلا خيراً، ولا تقل في إلا الحق.
فقال: يا محمد، أتلومني أن أقول الحق؟ فباللات والعزى ما آمنت بك ولا صدقتك ولا اتبعتك حتى يشهد لك هذا الضب.
فقال صلى الله عليه وسلم : يا ضب، من ربك؟ فقال الضب: ربي الذي في السماء ملكه وفي الأرض سلطانه، وفي البر والبحر سبيله.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : أيها الضب، من أنا؟ قال: أنت محمد بن عبد الله سيد النبيين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات(3/412)
النعيم، قد أفلح من آمن بك وصدقك واتبعك، وخاب وخسر من كذبك وخالفك.
قالت عائشة رضي الله عنها: فاستوهبت الضب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأطعمه مما آكل وأسقيه مما أشرب، ولم أسمع له كلاماً بعد ذلك اليوم الذي كلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فولى السلمي وهو ضاحك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أخا بني سليم، أبالله تستهزئ ثم بي؟ فقال السلمي: والله يا محمد ما أستهزئ بالله ولا أستهزئ بك، وقد أتيتك وما على الأرض أحد هو أبغض إلي منك، وقد وليت عنك وما على الأرض أحد هو أحب إلي منك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أسلم تسلم. فقال السلمي: أما أنا فقد أسلمت، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله حقاً، قال: فسر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم وثب قائماً على قدميه ثم صفق بيديه ثلاثاً، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : بخ بخ يا أخا بني سليم، أتيتنا كافراً وتنصرف من عندنا سعيداً، يا أخا بني سليم، هل لك من شيء من عرض هذه الدنيا؟ قال السلمي: والذي بعثك بالحق نبياً ما في بني سليم كلها قاطبة أحد هو أفقر مني، قال: فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فقال: من يضمن للسلمي ناقة من نوق الدنيا أضمن له على الله ناقة من نوق الجنة؟، قال: فوثب إليه عبد الرحمن بن عوف فقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إن له عندي ناقة حمراء عشراء دون البختي وفوق الأعرابي، إذا أقبلت بها دقت وإذا(3/413)
أدبرت بها زفت، أهداها إلي الأشعث بن قيس الكندي يوم رجعنا من غزوة تبوك.(3/414)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن عوف إنك قد وصفت الناقة التي عندك، أفلا أصف الناقة التي هي عندنا؟
فقال: بلى فداك أبي وأمي يا رسول الله، صفها لي.
فقال: إنها ناقة من لؤلؤة جوفاء، عنقها ياقوتة حمراء، ذنبها من زمردة خضراء، قوائمها من أنواع الجواهر، رحالها من السندس، والاستبرق، تزف بك يا ابن عوف ما بين مقامي وحوضي.
ثم قال: يا أخا بني سليم، قم فاركب، فركب، ثم قال: أقبل، فأقبل، ثم قال: أدبر، فأدبر، ثم قال: انزل، فنزل، ثم قال له: يا أخا بني سليم لا يكون الإيمان إلا بالصلاة، ولا صلاة إلا بقراءة، وكل صلاة ليس فيها قراءة فهي خداج فهي خداج وصلاته غير تامة، والخداج في النار، يا أخا بني سليم ألا أعلمك سوراً من القرآن تقيم بها أمر دينك؟
فقال السلمي: علمني يا رسول الله، قال: فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب والمعوذتين، وقل هو الله أحد، فأخذهن الأعرابي في أسرع من طرفة عين، فقال: يا رسول الله كلام ما أحلاه، ودين ما أبهاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أخا بني سليم، كن عبداً شكوراً، فالله يحب من عباده كل شكور.(3/415)
1151- ومنها: ما روى نافع عن رجل من الأنصار قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه يمشي ونحن معه، فأقبل علينا جمل يهدر -أي: يصيح- فقال له أصحابه: يا رسول الله إنا نخاف عليك من هذا البعير! قال: دعوه فإنه جاء مستغيثاً، فجاء يمشي حتى وضع مشفره على عاتق ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أنا بالله وبك يا رسول الله، إن موالي اشتروني فصيلاً، وكدوني حتى بلغت من السن ما ترى، وإنهم يريدون نحري، فأنا بالله وبك أستغيث يا رسول الله.
قال: فجاء أصحابه يطلبونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئتم أنبأتكم، وإن شئتم أخبرتموني بما أردتم، قالوا: أخبرنا أنت يا رسول الله، قال: إنه يزعم أنكم اشتريتموه فصيلاً صغيراً، وإنكم كددتموه حتى بلغ من السن، وإنكم أردتم ذبحه.
قالوا: والذي بعثك بالحق إنه لكما قال، فشأنك به يا رسول الله، هو فداك بآبائنا أنت وأمهاتنا، قال: فسرحوه يرتع حيث يشاء.
قال: فسرحوه، فتباعد الجمل قليلاً، ثم خر ساجداً، فقال له أصحابه: هذه بهيمة تسجد لك!! فنحن أحق بالسجود منه، فلو أذنت لنا بالسجود لك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها، -يعني: لعظم حقه عليها-.(3/416)
1152- ومنها: ما روي عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما فتح الله على نبيه خيبر أصابه من سهمه أربعة أزواج نعال، وأربعة أزواج خفاف، وعشرة أواق ذهب وفضة، وحمار أقمر.
قال: فكلم صلى الله عليه وسلم الحمار حين ركبه فقال له: يا حمار ما اسمك؟ قال: عفير بن يزيد بن شهاب بن خشفة، قال: ولمن كنت؟ قال:(3/417)
ليهودي، وكنت أعثر به عمداً، وكان يسيء إلي، ويجيع بطني ويضرب ظهري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل لك من رب؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: لأنه حدثني أبي عن آبائه وأجداده أنه قال: ركب نسلنا سبعون نبياً، وإن آخر نسلنا يركبه نبي يقال له: محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يبق من نسل جدي غيري، ولا من الأنبياء غيرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد سميتك يعفوراً، يا يعفور، فقال: لبيك يا رسول الله.
قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يركبه في حاجته، فإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرجل فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال: فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم مكث بعده ثلاثاً، فجاء إلى بئر لأبي الهيثم بن التيهان، فتردى فيها فصار قبره جزعاً منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكنا نعد ذلك من الآيات.
1153- ومنها: ما رواه عبد الرحمن العنبري يرفعه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة يخطب الناس ويحث على الصدقة، فقام شاب فقال: يا رسول الله، هذه الناقة للمساكين، فنظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتروها لي، قال: فبينما هو يسير ذات يوم ومعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا ابن الخطاب ألا أخبرك بالعجب؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: خرجت في بعض الليل إلى الدار، فقالت الناقة: السلام عليك يا رسول الله، قلت: بارك الله فيك، قالت: يا رسول الله كانت أمي لرجل من قريش، إذا حلبوها علفوها، وإذا لم يحلبوها لم يعلفوها، وكنت خامس خمسة أبطن، فكانت الجاهلية إذا وضعت الناقة خمسة أبطن، جعلوا الخامس لأصنامهم لا يركبونها ولا يستعملونها، ولا يأخذون وبرها، فاستعارني الأعراب فهربت منهم في بعض الطريق،(3/418)
فكنت أرعى، فيناديني الحشيش، إلي إلي فإنك لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان الليل نادى السباع والهوام بعضها بعضاً: لا تقربوها فإنها لمحمد صلى الله عليه وسلم ، حتى صيرني الله لك.
قال صلى الله عليه وسلم : فقلت لها: ما كان اسم مولاك؟ قالت: العضباء، فسميتها العضباء باسم مولاها.
قال: فلما حضر النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة قالت العضباء: يا رسول الله بمن توصني من بعدك؟ قال: يا عضباء بارك الله فيك، أنت لابنتي فاطمة تركبك في الدنيا والآخرة، قالت: يا رسول الله ما أحب أن يركبني أحد بعدك، قال: لا يركبك غيرها، قال: فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم خرجت فاطمة ليلاً فإذا هي بالعضباء فقالت: السلام عليك يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حان فراقي من الدنيا، والله ما تهنأت بعلف ولا شراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
1154- ومنها: ما روي عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لنا جملاً صئولاً في الدار، وليس أحد منا يستطيع أن يقربه أو يزم أنفه.
فقام معه النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فأتى ذلك الباب ففتحه، فلما رآه الجمل جاء إليه فسجد له ووضع جرانه، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسه فمسحه،(3/419)
ثم دعا بالخطام فخطمه، ودفعه إلى صاحبه.
فقال له أبو بكر وعمر: قد عرف يا رسول الله أنك نبي، وأنك رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه ليس شيء إلا يعرف أني رسول الله غير كفرة الإنس والجن.
1155- ومنها: ما روى الربيع بن أنس، عن أنس قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطاً للأنصار ومعه أبو بكر وعمر ورجل من الأنصار، وفي الحائط غنم فسجدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر: يا رسول الله نحن أحق بالسجود لك من هذه الغنم، فقال صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي أن يسجد لأحد، ولو كان ينبغي لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها.
1156- ومنها: ما روى مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحش، وكان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعب وتحرك من موضع إلى موضع، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل ربض فلم يتحرك ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت.(3/420)
1157- ومنها: كلام الذئب إياه صلى الله عليه وسلم ، روى بعض أهل البيت قال: إن الذئاب جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب أرزاقها، فقال لأصحابه: إن شئتم صالحتها على شيء فتخرجوه إليها ولا ترزأ من أموالكم شيئاً، وإن شئتم تركتموها تعدوا، وعليكم بحفظ أموالكم، قالوا: بل نتركها كما هي، تصيب منا ما أصابت ونمنعها ما استطعنا.
1158- ومنها: ما قال بعضهم: كنت على شاطئ البحر فجاء غلمان بسمكة منقشة، فنظرت إلى بياض شحمة أذنيها فإذا في إحداها: لا إله إلا الله، وفي الأخرى: محمد رسول الله.(3/421)
[223] فصلٌ: ذكر ما ظهر من الآيات والدلائل في نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وما جاء في تكثيره وتصييره عذباً ببركته
1159- فمن ذلك: ما روى إبراهيم، عن علقمة قال: زلزلت الأرض على عهد عبد الله بن مسعود فقال: كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى الآيات رحمة وأنتم ترونها عذاباً، لقد نزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم منزلاً ليس فيه ماء.
فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة فيها ماء، فوجد فضل إداوة فصبه في قدح، ثم وضع يده فيه فجعل الماء يتفجر من بين أصابعه، فنادى: حي على الطهور والبركة من الله عز وجل، فأقبل الناس فتوضئوا وشربوا، وجعلت لا هم لي إلا ما أجعل في بطني، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : والبركة من الله عز وجل.
فقيل له: كم كنتم يومئذ؟ قال: خمس عشرة مائة.
قال: وكنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.(3/423)
1160- وعن عمران بن حصين قال: كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرنا ذات ليلة، حتى إذا كان قرب السحر نزلنا فنمنا فما أيقظنا إلا حر الشمس، فارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بوضوء، ثم نادى بالصلاة، فصلى بالناس، وإذا رجل معتزل لم يصل مع القوم، فقال له صلى الله عليه وسلم : ما منعك أن تصلي مع القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك.
ثم سار فشكى إليه الناس العطش، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ورجلاً آخر فقال: اذهبا وابغيا الماء، فانطلقا فلقيا امرأة بين سطيحتين -أو: مزادتين- على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، فقال: انطلقي، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله، قالت: إلى هذا يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين، فجاءا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثاه بالحديث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استنزلوها من بعيرها، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء فأفرغ فيه من أفواه المزادتين -أو: السطيحتين- ثم أعاده في الإناء، ثم أعاده في أفواه المزادتين، ثم أطبق أفواههما، ثم نودي في الناس أن استقوا، وكان آخر ذلك أن أعطى ذلك الرجل الذي أصابته الجنابة إناء من ماء وقال: اذهب فأفرغه عليك، قال: وهي قائمة تنظر ما يفعل بمائها،(3/424)
وأيم الله لقد أقلع عنه حين أقلع وإنه ليخيل إلي أنه أشد امتلاء منها حين ابتدأ فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجمعوا لها من عجوة وسويق ودقيق، حتى جعلوا لها طعاماً في ثوب وحملوها على بعيرها فوضعوه بين يديها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعلمي والله ما رزأناك من مائك شيئاً، ولكن الله سقانا، قال: فأتت أهلها وقد احتبست عنهم فقالوا لها: يا فلانة ما حبسك؟ قالت: العجب، لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الفتى الذي يقال له الصابئ، ففعل بمائي كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر ما بين هذه وهذه -تعني السماء والأرض-، أو إنه رسول الله حقاً.
قال: فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون الصرم الذي هي منه، فقالت يوماً لقومها: والله ما أرى أن هؤلاء القوم على عمد يدعونا، هل لكم في الإسلام؟ فطاوعوها، فجاءوا فدخلوا جميعاً في الإسلام.
1161- وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: كانت المياه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلة، فكان إذا كان الصيف صلى الناس الظهر ثم خرجوا يتروحون، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الظهر، ثم خرجوا معه إلى مسجد قباء فمكث حتى إذا كان مع النداء أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أم سلمة آتيه بوضوء فجئته بقدح -ثلثاه أو نصفه ماء-، فتوضأ، فلما فرغ من وضوءه فضل في القدح فضل، ثم رفع رأسه فإذا الناس قيام فقال: ما لهؤلاء؟ قال أنس: فقلت: يا رسول الله، إنهم لا يجدون ماء(3/425)
قال: ادعهم، فدعوتهم فجاءوا، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في القدح -في الفضلة التي فضلت من وضوءه-، فوالذي نفسي بيده ما منهم إنسان إلا توضأ مما في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفضل في القدح فضل فرجعت به إلى البيت، وذلك ببركته وبركة دعائه صلى الله عليه وسلم .
1162- وعن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإسلام -وذكر حديثاً طويلاً- وقال فيه: يا رسول الله إن لنا بئراً إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها فاجتمعنا عليه، وإذا كان الصيف قل ماؤها وتفرقنا على ما حولها، وإنا لا نستطيع اليوم أن نتفرق، فكل من حولنا عدو لنا، فادع الله أن يسعنا ماؤها، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع حصيات(3/426)
فحركهن في يده، وقال: إذا رأيتموها فألقوها فيها واحدة واحدة واذكروا اسم الله عليها، قال: فوالله ما استطاعوا أن ينظروا إلى قعرها بعد.
1163- ومنها: أنهم كانوا معه في سفر فشكوا أن لا ماء معهم وأنهم بعرض عطب وسبيل هلاك، فقال صلى الله عليه وسلم : كلا إن معي ربي عليه توكلت، ثم دعا بركوة فيها ماء ما كان ليروي رجلاً ضعيفاً، فوضع يده عليها، فنبع الماء من بين أصابعه، وصاح في الناس، فشربوا وسقوا، ثم نهلوا وعللوا، وتداخلوا وهم ألوف وهو يقول: أشهد أني رسول الله حقاً.(3/427)
1164- ومنها: أن قوماً شكوا إليه ملوحة مائهم، وأنهم في جهد من الظمأ وبعد المناهل وأن لا قوة لهم على شربه، فجاء معهم في جماعة أصحابه، حتى إذا أشرف صلى الله عليه وسلم على بئرهم تفل فيها ثم انصرف، وكانت مع ملوحتها غائرة، فانفجرت بالماء العذب الزلال المعين.
قال أبو سعد رحمه الله: فها هي الآن يتوارثها أهلها، يعدونها أعظم مكارمهم، وأسنى مفاخرهم، وإنهم لصادقون.
قال: وكان مما أكد الله به صدقه: أن قوم مسيلمة سألوه مثلها لما بلغهم ذلك، فأتى بئراً فتفل فيها فعادت ملحاً أجاجاً كبول الحمار، فهي بحالها إلى اليوم معروفة المكان.(3/429)
1165- ومنها: أنه لم انصرف صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك قافلاً إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وشل، ما يروي الراكب والراكبين والثلاث، بواد يقال له المشقق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سبقنا إلى ذلك الواد فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتيه، قال: فسبقه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ير فيه شيئاً فقال: ((من سبقنا إلى هذا الماء؟ فقيل: فلان وفلان، قال: أو لم(3/432)
أنههم أن لا يستقوا منه شيئاً حتى آتيه؟ قال: ثم لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يديه ما شاء أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا الله بما شاء أن يدعوه به، فانخرق من الماء -كما يقول من سمعه: أن له حساً كحس الصواعق-، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه، فقال صلى الله عليه وسلم : لئن بقيتم -أو: من بقي منكم- ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه، قيل: وهو اليوم كما قاله صلى الله عليه وسلم .
1166- ومنها: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض أسفاره فأعوز عليهم الماء وظهر في القوم العطش، فبعث علياً رضي الله عنه ورجلاً آخر معه(3/433)
ليطلب لهم الماء، فوجد غلاماً أسود -أو جارية سوداء- على راوية ماء، فقال: أجب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: تعني هذا الساحر الفاعل؟ فقال: هو الذي تعنيه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستعملوا ماءه، وملأوا سطائحهم وأوانيهم، وبقي الماء في الراوية كما هو، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يتكلفوا له بشيء، فحمل كل واحد إليه هدية من خبز وتمر وسويق ودراهم وكعك وغير ذلك، فاجتمع عنده شيء كثير فمسح النبي صلى الله عليه وسلم بيده على وجهه فابيض وجهه، فرجع إلى مواليه، وكان مواليه ينتظرونه، فلما رأوه من بعيد قالوا: الراوية راويتنا، والجمل جملنا والعبد ليس بعبدنا، فلما وصل إليهم أخبرهم بالقصة، فأسلموا وأسلم العبد معهم، والله أعلم بذلك.
1167- عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية على بئر ثمد قليل الماء في بضع عشرة مائة من أصحابه، فشكوا إليه العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.(3/434)
1168- وفي رواية: أنه ورد في غزاته هذه على ماء لا يبل حلق واحد، والقوم عطاش، فشكوا ذلك إليه صلى الله عليه وسلم فأخذ سهماً من كنانته فدفعه إلى رجل من أصحابه ثم قاله: انزل فاغرزه في الركي، فنزل فغرزه ففار الماء حتى طفى إلى أعلى الركي، فارتوى القوم، للمقام والظعن، وهم ثلاثون ألفاً، ورجال من المنافقين حضور الأبدان، غائبو العقول قد عاينوا ذلك.(3/435)
1169- ومن ذلك ما روت خليلة قالت: قلنا يا رسول الله إنا حفرنا ركية فإذا فيها دواب وهوام، فدفع إلينا النبي صلى الله عليه وسلم إداوة من ماء فقال: صبوها فيها، فصبت فيها فمتن، وذهبن كلهن.
1170- ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يمج في القدح والدلو والكوز فيجدون لذلك ريحاً أطيب من المسك.(3/436)
[224] فصلٌ: ذكر ما ظهر من الآيات والدلائل في تكثيره صلى الله عليه وسلم الطعام وإطعامه الآلاف من الناس بالشيء اليسير
1171- ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أتى امرأة من العرب يقال لها: أم شريك، اعتنت في قراه وإلطافه، فأخرجت عكة لها فيها أوضار السمن، فالتمست ما فيها فلم تجد شيئاً، فأخذها صلى الله عليه وسلم فحركها بيده فامتلأت سمناً(3/437)
سائلاً عذباً، وهي تعالجها قبل ذلك لا يبض منها شيء، فأنهلت القوم، وأبقت فضلاً كافياً، وأبقى لها صلى الله عليه وسلم شرفاً يتوارثه الأعقاب.
1172- وفي رواية: أن امرأة كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم العكة من العسل، فأهدت إليه مرة عكة ثم استرجعت الإناء، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد العكة عليها، فأخذتها ووضعتها في بيتها، فدخلت البيت فوجدت(3/438)
العكة ملآى فقالت: يا رسول الله ما لك رددت علي العسل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا لم نرده عليك، ولكن الله أراد أن يبارك لك فيه.
قال: فما زالت المرأة تتأدم وأهل بيتها من ذلك العسل حتى أفرغته في إناء آخر ففني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إنك لو لم تفرغيه لأكلتم منه ما بقيت الدنيا.
1173- وفي رواية أيضاً: أن بعض العجائز أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم والتمست منه عسلاً، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم قصعة فيها عسل، فكانت تحمل من ذلك الشيء بعد الشيء ولم يكن يفنى ذلك، حتى إذا كان يوماً(3/439)
من الأيام حولت ما كان في القصعة إلى إناء آخر ففني سريعاً، فجاءت المرأة وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : لأن الأول كان من صنع الله، والثاني كان من فعلك.(3/440)
1174- ومنها: أن أصحابه أرملوا يوم الأحزاب وضاقت بهم الحال، وركبهم الجهد، وصاروا بعرض العطب لفناء الأزواد، فدعاه داع من أصحابه فانجفل القوم معه، فدخل وليس بحضرة القوم إلا قوت(3/441)
رجل واحد أو رجلين .. ..
فقال رسول الله: غطوا إناءكم، ثم برك عليه، وقدمه والقوم ألوف، كل رجل منهم أكل أضعافها، ثم صدروا كأن لم يشبعوا قط شبعاً، والطعام بكليته لم يفقدوا منه شيئاً.
1175- ومنها: ما رواه عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عندي إلا قليل شعير، فأكلت منه حتى طال علي ولا يفنى، فكلته ففني، فليتني لم أكن كلته.
1176- ومنها: ما روي عن أبي العالية، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم بتميرات فقلت: ادع الله بالبركة يا رسول الله، قال: فوضعهن في يده ثم دعا بالبركة، ثم قال: خذه يا أبا هريرة فأعده في مزودتك، فإذا أردت أن تأخذ منه شيئاً فأدخل يدك، ولا تكبه ولا تنثره، قال: فلم يزل يأكل منه ويطعم، وكان على حقوي لا يفارقني، فلما قتل عثمان سقط فذهب وكنت في شغل.(3/442)
1177- وعن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فأصابهم عوز من طعام فقال: عندك شيء يا أبا هريرة؟ قلت: شيء من تمر في مزود لي، قال: جئ به فجئت بالمزود فقال: هات بنطعك، فجئت بالنطع فبسطته، فأدخل يده فقبض على التمر فإذا هو إحدى وعشرون تمرة، ثم قال: بسم الله، وجعل يضع كل تمرة ويسمي حتى أتى على التمر، فقال به هكذا -فجمعه-، فقال: ادع فلاناً وأصحابه، فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا، ثم قال: ادع فلاناً وأصحابه فأكلوا وشبعوا وخرجوا، ثم قال: ادع فلاناً وأصحابه، فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا، وفضل تمر، فقال لي: اقعد، فقعدت فأكل وأكلت،(3/443)
وفضل تمر، فأخذه وأدخله في المزود فقال: يا أبا هريرة إذا أردت شيئاً فأدخل يدك فخذ ولا تكفأ فيكفأ عليك، قال: فما كنت أريد تمراً إلا أدخلت يدي فأخذت منه خمسين وسقاً في سبيل الله وكان مغلقاً خلف راحلتي، فوقع في زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه فذهب.
1178- ومنها: ما روي عن جابر: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه فأطعمه وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم.
1179- ومنها: ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجمع له بني عبد المطلب -أو كما ذكر في الحديث- قال: لما نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} الآية، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/444)
ثلاثين رجلاً من أهل بيته على فخذ شاة وقعب من لبن، فأكلوا حتى شبعوا، وشربوا حتى رووا، ثم قال صلى الله عليه وسلم : علي بن أبي طالب يقضي ديني وينجز موعدي، فكان يقعد منهم عشرة عشرة.
قال أبو سعد: وكان الطعام في رأي العين لا يكفي لعشرة نفر فما دونهم، فطعموا منه حتى شبعوا كلهم وفضل عنهم ما كفى غيرهم.
1180- ومنها: ما رواه أنس بن مالك قال: اتخذت أمي حيساً وبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن يطعم منه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه: قوموا بنا، قال: فلما رأت أمي الجماعة، قالت: يا رسول الله(3/445)
إنما أعددت لك شيئاً مقدار ما تأكله وحدك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، وقال: ادخلوا عشرة عشرة، وكانوا يأكلون ويشبعون ويخرجون،(3/446)
وأكلنا معهم وشبعنا.
1181- وروي أن أبا طلحة قال لأم سليم: لقد سمعت صوت النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفاً، أعرف فيه الجوع: فهل من عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، فلفه في خمار ثم أرسلت أنساً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أنس: فذهبت فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد والناس حوله، قال: أرسلك أبو طلحة؟ قلت: نعم، قال: يدعوني إلى الطعام؟ قلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة لأم سليم: قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه حتى دخلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أم سليم هلمي ما عندك، فجاءت بذلك الخبز، وعصرت عكة لها فأدمته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائذن لعشرة، فأذنت لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا،(3/447)
ثم قال: ائذن لعشرة، فأذنت لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، فأكل عشرة عشرة.
وسئل أنس: كم كانوا؟ قالو: تسعون أو ثمانون.
1182- ومنها: أنه اجتمع عنده فقراء أصحابه وأهل الخصاصة في غزوة تبوك، فشكوا من المعاش ضيقاً، ومن حالهم كللاً، فدعا صلى الله عليه وسلم بفضلة زاد لهم، فلم يوجد لهم إلا بضع عشرة تمرة، فطرحت بين يديه، وانجفل القوم، فوضع يده عليها، وقال: كلوا بسم الله، فأكلوا حتى شبعوا وهي بحالها يرونها عياناً.
1183- ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أتى يوم الخندق بقبضتين من تمر فأمر فصب بين يديه، ونادى مناديه في الجيش، فأكلوا وشبعوا.(3/448)
1184- وروى أبو صالح، عن أبي هريرة قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فقال: اجمعوا زادكم، فجعل الرجل يجيء بالحفنة من التمر والحفنة من السويق، وطرحوا الأنطاع والأكسية، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليها ثم قال: كلوا، فأكلنا حتى شبعنا، وأخذنا في مزاودنا، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، من جاء بها غير شاك فيها لم يحجب عن الجنة.
1185- وفي رواية: فأصابهم فيها شدة حتى هموا بنحر ظهورهم، ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله لو أنك أمرت الناس فجمعوا أزوادهم، فدعوت فيها بالبركة رجوت أن يبلغهم الله بها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمعوا أزوادهم، فجمعوه على نطع -وكان شيئاً تافهاً- فدعا فيها بالبركة، ثم أمرهم أن يأتوه رسلاً، لا يتأخر بعضهم عن بعض، من غير مزاحمة، فاحتملوا من الزاد ما أرادوا وفضل فضلاً وقالوا: والذي أكرمك بما أعطاك، ما ندري أهو الآن أكثر أم حين أوتي(3/449)
به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله من جاء بها غير شاك بها وجبت له الجنة.
1186- قال ثابت البناني: سألت أنس بن مالك فقلت: أخبرني بأعجب شيء رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: نعم يا ثابت، خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فلم يعير علي شيئاً أسأت فيه، وإنه لما تزوج بزينب بنت جحش قالت لي أمي: يا أنس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح عروساً ولا أرى أحداً أصلح له الغداء، هلم تلك العكة وتمراً قدر مد بقي، فجعلت له حيساً، فقالت: يا أنس اذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وامرأته، فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتور من حجارة فيه ذلك الحيس قال: ضعه في ناحية واذهب فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ونفراً من أصحابه -رضوان الله عليهم أجمعين-، ثم ادع لي أهل المسجد ومن رأيت في الطريق، فجعلت أتعجب من قلة الطعام ومن كثرة من يأمرني أن أدعو من الناس، وكرهت أن أعصيه، حتى امتلأ البيت والحجرة، فقال: يا أنس هل ترى من أحد؟ فقلت: لا يا نبي الله، قال: هلم ذلك التور، فجئت به ووضعته قدامه، فغمس ثلاث أصابع في التور ودعا بالبركة، فجعل يربو ويرتفع، فأكلوا حتى فرغوا وبقي في التور نحو ما جئت به، فقال: احمل وضعه قدام زينب، فوضعته قدامها، وخرجت وأصفدت عليها باباً من جريد، قال ثابت: فقلت: يا أبا حمزة كم ترى كانوا؟ قال: نحواً من سبعين.(3/450)
1187- وعن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل مع أحد طعام؟ فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن، ثم جاء رجل بغنم يسوقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أبيع أم هبة؟ قال: بل بيع، فاشترى منه شاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسواد بطنها أن يشوى، قال: وايم الله ما من الثلاثين والمائة إلا وقد أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سواد بطنها، إن كان شاهداً أعطاه، وإن كان غائباً خبأ له، قال: وجعل منها قصعتين، فأكلنا أجمعين وشبعنا، وفضل في القصعتين فحملتا على البعير.
1188- وعن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وقال لي: ادع أصحابك -يعني: أصحاب الصفة-، فجعلت أتتبعهم رجلاً رجلاً وأوقظهم حتى جمعتهم، وجئنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنا فأذن لنا، قال أبو هريرة: ووضعت بين أيدينا صحفة فيها ثريد من شعير، قال:(3/451)
فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال خذوا بسم الله، فأكلنا وشبعنا ثم رفعنا أيدينا، فقيل لأبي هريرة: كم كانت الصحفة حين فرغتم؟ قال: مثلها حين وضعت، إلا أن فيها أثر الأصابع.
1189- وروى واثلة بن الأسقع قال: كنت أنا من أصحاب الصفة،(3/452)
فشكا أصحابي الجوع فقالوا: يا واثلة اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطعمه لنا، فأتيته فقلت: يا رسول الله إن أصحاب الصفة أرسلوني إليك وهم جياع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجته عائشة: هل عندك شيء؟ فقالت: يا رسول الله ما عندي إلا فتات خبز، فقال: هاته، فجاءت بالجراب، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحفة فأفرغ الخبز في الصحفة، ثم جعل يصلح الثريد بيده وهي تربو حتى امتلأت الصحفة فقال صلى الله عليه وسلم : يا واثلة، اذهب فجئني بعشرة من أصحابك، فجئت بعشرة من أصحابي، فقال: اجلسوا، اجلسوا، ثم قال: كلوا بسم الله، خذوا من جوانبها ولا تأخذوا من أعلاها فإن البركة تنزل من أعلاها، فأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا وفي الصحفة مثل ما كان فيها، ثم جعل يصلحها بيده وهي تربوا حتى امتلأت فقال: يا واثلة، اذهب فجئني بعشرة، فقال: اجلسوا اجلسوا، فأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا وبقي في الصحفة مثل ما كان فيها، ثم قال: هل بقي أحد؟ قلت: نعم، عشرة، قال: جئ بهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا وبقي في الصحفة مثل ما كان فيها، ثم قال: يا واثلة ارفع هذا إلى عائشة.
1190- وعن دكين بن سعيد قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله طعاماً ونحن أربعمائة وأربعون راكباً فقال لعمر: اذهب فأطعمهم،(3/453)
فقال: ما معي إلا صاع من تمر يكفي أهلي، قال: انطلق فأعطهم، قال: سمعاً وطاعة، قال: فانطلقنا معه فارتقينا إلى علوٍ له، ففتح الباب فإذا مثل الفصيل الرابض تمراً، فقال: خذوا، فأخذ كل واحد منا ما أراد، فقال دكين: لقد التفت إليه وإني في آخر القوم مكاناً كأن لم نرزأه تمرة.
1191- وعن عبد الله بن طهفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اجتمع الضيفان قال: لينقلب كل رجل بضيفه، حتى إذا كان ليلة اجتمع في المسجد ضيفان فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لينقلب كل رجل بجليسه، فكنت أنا ممن انقلب مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما دخل قال: يا عائشة هل من شيء؟ قالت: نعم، حويسة كنت(3/454)
أعددتها لإفطارك، قال: فأتي بها، قالت: فأتيت بها في قعب، فتناول منها بإصبعه شيئاً ثم قال: بسم الله، فأكلنا منها حتى ما ننظر إليها، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : هل عندكم من لبن؟ قالت: نعم، لبينة أعددتها لإفطارك، فجاءت بها، قال: فمص منها شيئاً ثم قال: بسم الله اشربوا، قال: فوالله لشربنا منها حتى ما ننظر إليها، قال: ثم خرجنا، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم .
1192- وقيل: حمل بعض جيران فاطمة رضي الله عنها إليها قرصين بينهما لحم، فوضعتها في نقير لها، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم(3/455)
زائراً فقال: هل عندكم من طعام؟ فقالت: نعم، فذهبت لتحمل القرصين فإذا النقير قد امتلأ أقراصاً ولحماً، فأكل منها خلق كثير وفضل منه.(3/456)
1193- ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم وكل لطعامه وما يرفقه رجلاً من أصحابه في سفره وأعطاه نحي سمن، فقال الرجل: فنظرت إلى النحي فإذا هو قد قل ما فيه، فأصلحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعامه، فوضعت النحي في الشمس ونمت، فانتبهت بخرير النحي، فإذا هو يجري من السمن، قال: فقمت فأخذت رأسه بيدي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو تركته لسال الوادي سمناً.
1194- وعن جابر بن عبد الله قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث إذ جاء علبة بن زيد الحارثي بثلاث بيضات أداحي فقال: وجدت هذه(3/457)
البيضات في مفحص نعام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دونك يا جابر فاعمل هذه البيضات، قال .. .. فأخذتهن فعملتهن ثم جئت بالبيض في قصعة فجعلت أطلب خبزاً فلا أجده، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون منها بغير خبز، حتى انتهى إلى حاجته، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك يده والبيض في القصعة كما هو، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه عامة أصحابه ثم رحلنا مبردين.
1195- وعن سعد مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : يا سعد اذهب إلى تلك العنز فاحلبها، وعهدي بذلك المكان وما فيه عنز، فذهبت فإذا عنز حافل فحلبتها .. ..(3/458)
فلم أزل أحلبها حتى أرويت الجيش كلهم وهم أربعمائة، ثم قال: يا سعد املكها، وما أراك تملكها، قال: واشتغلت عنها ثم لم أرها، قال: ألم أقل لك إنك لا تملكها، إن الذي جاء بها هو الذي ذهب بها.(3/459)
[225] فصلٌ: ذكر الآيات في دعائه المبارك وما جاء في إبرائه المرضى وذوي العاهات وآثار يده الشريفة فيما مسته وريقه الطيب فيما نفث فيه
1196- أخبرنا الإمام أبو بكر: محمد بن علي بن إسماعيل الإمام الشاشي القفال رحمه الله قال: أنا أبو عروبة، .. ..(3/460)
ثنا العباس بن الفرج، ثنا أحمد بن شبيب، ثنا أبي، .. ..(3/461)
عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكى إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم إيت المسجد فصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك(3/462)
محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي -واذكر حاجتك- ثم رح حتى أرفع.
قال: فانطلق الرجل وصنع ذلك، ثم أتى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء البواب فأخذ بيده، فأدخله على عثمان رضي الله عنه فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: انظر ما كان لك من حاجة، ثم إن الرجل خرج من عنده(3/463)
فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته، فقال له عثمان بن حنيف: ما كلمته، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أو تصبر؟ فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال: ائت الميضأة فتوضأ وصلي ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي لي عن بصري، اللهم شفعه في، وشفعني في نفسي.
قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل كأنه لم يكن به ضرر.
1197- أخبرنا أبو الحسين: محمد بن أحمد بن جميع الغساني(3/464)
بثغر صيدا، ثنا العباس بن محبوب بن عثمان بن عبيد أبو الفضل، ثنا أبي، ثنا جدي شاصونة بن عبيد، ثنا معرض بن عبد الله بن معيقيب، عن أبيه، عن جده قال: حججت حجة الوداع، فدخلت داراً بمكة فرأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه كدارة القمر، فسمعت منه عجباً، أتاه رجلاً(3/465)
من أهل اليمامة بغلام يوم ولد وقد لفه في خرقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا غلام من أنا؟ فقال: أنت رسول الله، فقال له: بارك الله فيك، ثم إن الصبي لم يتكلم بعدها.(3/466)
1198- أخبرنا أبو الحسن: علي بن عثمان بن محمد السراج البغدادي بفسطاط مصر، ثنا الهجيمي بالبصرة، ثنا محمد بن يونس الكديمي، ثنا شاصونة بن عبيد في عدن سنة أربع ومائتين، ثنا معرض بن عبد الله بن معيقيب، عن أبيه، عن جده قال: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت عجباً، أتي بصبي في خرقة ابن يومه، فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم على ظهر كفه ثم قال له: من أنا؟ فقال: أنت محمد رسول الله، فقال: صدقت، بارك الله فيك، فكنا نسميه مبارك اليمامة.(3/467)
1199- ومنها: ما روى يزيد بن أبي حبيب قال: أقبلت امرأة معها ابن لها ابن شهرين حتى حاذت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت عليه بوجهها، فقال وهو في حجرها: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا محمد بن عبد الله، فأنكرت الأم ذلك من ابنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يدريك يا غلام أني رسول الله، وأني محمد بن عبد الله؟ قال: علمنيه رب العالمين والروح الأمين جبريل وهو قائم على رأسك ينظر إلي، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد هذا تصديق لك بالنبوة والرسالة كي يؤمن بقية قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما اسمك يا غلام؟ قال: سموني عبد العزى وأنا به كافر، فسمني يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت عبد الله، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني من خدمك في الجنة، فقال جبريل عليه السلام: ادع الله عز وجل يعطه ما سأل، فقال الغلام: السعيد من آمن بك، والشقي من كذبك، ثم شهق شهقة فمات.
فأقبلت المرأة عليه فقالت: يا رسول الله فداك أبي وأمي لقد كنت مكذبة إلى أن رأيت من آيات نبوتك ما رأيت، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، يا أسفى على ما فاتني منك، فقال لها صلى الله عليه وسلم : أبشري، فوالذي ألهمك الإيمان إني لأنظر إلى حنوطك وكفنك مع الملائكة، فما برحت حتى شهقت وفاضت نفسها، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما ودفنهما جميعاً.(3/468)
1200- ومن ذلك: أن النجاشي مات بأرض الحبشة فطوى الله تعالى لنبيه الأرض حتى نظر إلى جنازته في اليوم الذي مات فيه، ثم قام فصلى عليه هو وأصحابه ثم قال صلى الله عليه وسلم : استغفروا لأخيكم.
1201- ومن ذلك: ما روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تبوكاً، فأصبح ذات يوم فوجد الشمس صافية مضيئة بشعاع لم يكن قبل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: ما هذا يا جبريل؟ قال: ذاك أن معاوية بن معاوية مات بالمدينة، فنزل لجنازته سبعون ألف ملك، هل لك أن تصلي عليه؟ قال: نعم، فطويت له الأرض، فصلى عليه.(3/469)
1202- وعن علي رضي الله عنه قال: كنت شاكياً فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخراً(3/470)
فارفع عني، وإن كان بلاء فصبرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف قلت؟ فأعاد عليه، فضربه برجله، وقال: اللهم عافه، اللهم اشفه، قال: فما اشتكيت وجعي بعد.
1203- وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان أبي يسمر مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكان يلبس ثياب الصيف في الشتاء، وثياب الشتاء في الصيف، فقيل له: لو سألته .. ..(3/471)
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كراراً غير فرار، فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث إلي وأنا أرمد العينين يوم خيبر، فقلت: يا رسول الله إني أرمد العينين.
قال: فتفل في عيني، فأعطانيها وقال: اللهم أذهب عنه الحر والبرد.
فما وجدت حراً ولا برداً منذ يومئذ.(3/472)
1204- ومنها: ما روي عن أنس قال: مرض أبو طالب فعاده النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا ابن أخي ادع ربك الذي تعبد أن يعافيني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اشف عمي، قال: فقام كأنما نشط من عقال، فقال أبو طالب: يا ابن أخي إن ربك الذي تعبد ليطيعك، قال: وأنت يا عماه لئن أنت أطعت الله ليطيعنك.(3/473)
1205- ومنها: ما روي عن ابن عباس أن رجلاً من أزد شنوءة يقال له: ضماد، وكان باليمن، وكان يعالج من الرياح، فقدم مكة، فسمع أهل مكة يقولون: محمد شاعر، مجنون، وكاهن، وساحر، فقال: والله لو لقيت هذا الرجل فلعل الله أن يشفيه على يدي، فلقيه فقال: يا محمد إني أعالج، وإن الله يشفي على يدي، وإني أعالج من هذه الرياح.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله، نحمده ونستهديه ونستعينه ونستغفره، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد، فقال: أعد علي، فأعادها عليه صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة والشعراء، فما سمعت بهذه الكلمات، ولقد بلغت قاموس البحر، فمد يدك أبايعك، فمد يده فبايعه على الإسلام -قال: وعلى قومك- فبايعه على قومه.(3/474)
1206- ومن ذلك: أن سلمة بن الأكوع أصيب ساقه بضربة يوم خيبر، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكى ساقه بعد ذلك.
1207- وبارز عبد الله بن عتيك أبا رافع بن أبي الحقيق، فضربه أبو رافع ابن أبي الحقيق فأبان يده، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً ومعه يده المقطوعة، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فاستوت، فلم تكن تعرف من اليد الأخرى.(3/475)
1208- وعن عثمان بن أبي العاص قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي، قال: فلما رأيت ذلك دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ابن أبي العاص؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما حاجتك؟ قلت: يا رسول الله عرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي، قال: ذاك شيطان، ادن، فدنوت منه فجلست على صدر قدمي فقال: افغر فاك، قال: فضرب صدري بيده وتفل في فيّ وقال: اخرج عدو الله، قال: ففعل ذلك ثلاثاً، ثم قال: الحق بعملك.(3/476)
قال عثمان: فلعمري ما أحسبني خالطني بعده.
1209- وفي رواية أنه قال: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء حفظي القرآن فقال: ذاك شيطان يقال له: خنزب، ادن مني يا عثمان، ثم تفل في فيّ، ووضع يده على صدري حتى وجدت بردها بين كتفي، فقال: يا شيطان أخرج من صدر عثمان، قال: فما سمعت بعد ذلك شيئاً إلا حفظته.
1210- وعن أم جميل أنها قالت لابنها محمد بن حاطب: أقبلت(3/477)
بك من أرض الحبشة، حتى إذا كنت من المدينة على ليلة أو ليلتين طبخت لك طبيخاً ففني الحطب، فخرجت أطلب الحطب، فتناولت القدر، فانقلبت على ذراعك، فقدمت بك إلى المدينة حتى أتيت بك النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمي بك، فتفل صلى الله عليه وسلم في فيك، ومسح على رأسك، ودعا بالبركة، وجعل يتفل على يدك ويقول: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً، قالت: فما قمت بك من عنده إلا وقد برأت يداك.
1211- ومن ذلك: أن رجلاً من أصحابه طبخ قدراً فعالجه ليحمله(3/478)
فسقط على يده فأحرقته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتفل عليها، ودعا، فضم الرجل يده فلم يشكها بعد.
1212- وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع فادع الله لي، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك فقالت: أصبر، ثم قالت: فإني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها.
1213- ومن ذلك: أن امرأة بذيئة كانت ترافث الرجال، فمرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل على الأرض فقالت: تأكل ولا تطعمني؟ فقال صلى الله عليه وسلم :(3/479)
تعالي كلي، فقالت: أريد مما في يدك، فناولها، فقالت: أريد مما في فمك، فناولها، فلما وصلت اللقمة إلى فيها ألقى الله تعالى عليها الحياء، فكانت لا تنظر إلى شيء بعد ذلك.
1214- ومنها: ما روي أن الحمى جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرعت بابه فقال: من هذا؟ قالت: أم ملدم، فقال: لا مرحباً ولا أهلاً، قالت: يا رسول الله ابعثني إلى أحب أصحابك إليك، قال: اذهبي إلى قباء، قال: فمضت إليهم فصبت عليهم سبعاً، فدخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يعقلون، ثم دعا لهم بالشفاء فشفوا.(3/480)
1215- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابني به لمم، وإنه يأخذ عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا، فقال: فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، ودعا له، فثع ثعة، فخرج من فيه مثل الجرو الأسود.
1216- وعن أم جندب قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر وهو على دابته، ثم انصرف، فتبعته امرأة من خثعم ومعها صبي أصابه بلاء فقالت: يا رسول الله هذا ابني وبقية أهلي، وإن به بلاء لا يتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إيتوني بشيء من ماء، فأتي به، وغسل يديه ومضمض فاه، ثم أعطاه فقال: اسقيه منه، وصبي عليه منه، واستشفي الله له، قالت: فلقيت المرأة وقلت: لو وهبت لي منه، فقالت: إنما هو لهذا المبتلى، فلقيت المرأة من الحول، فسألتها عن الغلام، فقالت: برأ وعقل عقلاً ليس كعقول الناس.(3/482)
1217- ومن ذلك: حديث أبيض بن حمال أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وكان بوجهه حزازة -يعني: القوباء- وقد التمع وجهه، فدعاه نبي الله صلى الله عليه وسلم فمسح وجهه، فلم يمس ذلك اليوم وفيه أثر.
1218- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم دخل على جابر بن عبد الله وهو مريض دنف قد أغمي عليه فقام صلى الله عليه وسلم فتوضأ وصب عليه وضوءه، فعقل جابر وعوفي من مرضه.
1219- ومن ذلك: أن رجلاً من أصحابه صلى الله عليه وسلم ضرب في بعض غزواته بالسيف فتعلقت يده فآذته فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفث عليها فلزقت يده كأصح ما يكون.(3/483)
1220- ومنها: أن ملاعب الأسنة كان ممن ببطنه استسقاء فبعث إليه يستشفيه، فأخذ بيده حثوة من الأرض فتفل عليها، ثم أعطاها رسوله، فأخذها متعجباً يرى أن قد استهزئ به، فشربها فأطلق من مرضه.(3/484)
1221- وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم عاشوراء وعظمه، وجعل يدعو صبيانه وصبيان فاطمة رضي الله عنها الرضع فيتفل في أفواههم ويقول لأمهاتهم: لا ترضعنهن إلى الليل، قال: فكان ريقه صلى الله عليه وسلم يجزئهم.(3/485)
1222- وعن عثمان بن حنيف أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت في بصري فادع الله تعالى لي، قال: توضأ، ثم صلي ركعتين وقل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أستشفع بك إلى ربي في رد بصري، اللهم شفعني في بصري، وشفع نبيك في.
قال: فإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك، فرد الله عليه بصره.
1223- وروي عن حبيب بن فديك: أن أباه خرج به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئاً، فسأله: ما أصابك؟ قال: وضعت رجلي على بيض حية فأصيب بصري، فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينه فأبصر.
قال: فرأيته يدخل الخيط في الإبرة وإنه ابن ثمانين، .. ..(3/486)
وإن عينه لمبيضتان.
1224- ومن ذلك: ما ذكر قتادة بن النعمان أنه أصيب عينه يوم بدر فسالت حدقته على وجنته فأرادوا أن يقطعوها، فقالوا: نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنستشيره في ذلك، فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فأدناه منه فرفع حدقته حتى وضعها في موضعها، ثم عمها براحتيه وقال: الله اكسه جمالاً، قال: فمات، ولا يدري من لقيه أي عينيه أصيبت.
1225- ومن ذلك: ما روت ابنة خباب بن الأرت قالت: خرج أبي في غزاة له ولم يدع لنا إلا شاة، وقال: إذا أردتم أن تحلبوها فأتوا(3/487)
بها أهل الصفة، قالت: فانطلقنا بها وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فأخذها واعتقلها فحلب ملأ القدح ثم قال: اذهبوا فأتوني بأعظم إناء عندكم، فذهبنا فلم نجد إلا الجفنة التي نعجن فيها، فأتينا بها فحلب حتى ملأها، فقال: اذهبوا به واشربوا واسقوا جيرانكم، فإذا أردتم أن تحلبوها فأتوني بها، فكنا نختلف بها إليه، فأخصبنا حتى قدم أبي فأخذها واعتقلها وحلبها، فعادت إلى لبنها، فقالت أمي: أفسدت علينا شاتنا! قال: وما ذاك؟ قالت: إن كانت لتحلب ملء هذه الجفنة، قال: ومن كان يحلبها؟ قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال خباب: أوقد عدلتني به، هو والله أعظم بركة يداً مني صلى الله عليه وسلم .
1226- ومن ذلك: أن بشر بن معاوية قدم مع أبيه معاوية بن ثور -وكان معاوية قال لابنه بشر يوم قدم به وله ذؤابة: إذا جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل ثلاث كلمات لا تنقص منهن ولا تزد عليهن، قل: السلام عليك يا رسول الله، أتيتك يا رسول الله لأسلم عليك، وأسلم إليك، وتدعو لي بالبركة- قال بشر: فقلتهن. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه، ودعا له بالبركة، فكان في وجهه مسحة رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنها غرة، فكان لا يمسح شيئاً إلا برأ.(3/488)
1227- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم أتي بغلام من الأنصار فمسح جبهته فنبتت له في جبهته كهلبة الفرس.(3/489)
1228- وعن جرير بن عبد الله قال: كنت لا أثبت على الخيل، وكنت أسقط عن فرسي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تريحني من ذي الخلصة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب بيده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري فقال: اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً، فانطلقت في خمسين ومائة فارساً مجاهدين كانوا أصحاب خيل، قال: فما وقعت عن فرسي بعد.
1229- وعن محمد بن المنكدر عن جابر قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع فقامت إليه امرأة فقالت: يا رسول الله إن زوجي لا يقربني ولا يأتيني، فبينا هي كذلك إذ جاء زوجها فقال صلى الله عليه وسلم : إن هذه تزعم أنك لا تقربها ولا تأتيها، فقال: عهدي بها البارحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(3/490)
اللهم أدن كل واحد منهما من صاحبه، -أو نحو ذلك-، ثم مر بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فقامت إليه فقالت: يا رسول الله لقد كلمتك بما كلمتك به، وما على الأرض أحد أحب إلي منه.
1230- ومنها: ما رواه جابر بن عبد الله أن أباه قتل يوم أحد شهيداً وترك ست بنات وعليه عشرين وسقاً دين، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى غريمي، فأبى إلا أن يأخذ الكل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق فأعطه، قال: فانطلقت إلى عريش لنا من النخل ومعي صاحبتي جزاها الله حسناً، فعالجنا نخلنا وصرمنا، ولنا عنز نطعمها من الحشف، وقد سمنت، إذ أقبل رجلان، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر، فقلت: مرحباً يا رسول الله ومرحباً يا عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق بنا يا جابر(3/491)
حتى نطوف في نخلك، قال: فقلت: نعم، فأمرت بالعنز فذبح، فطفنا ثم جيء بمائدة عليها رطب ولحم فقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر فأكلا، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج قالت صاحبتي: نرجو دعواتك يا رسول الله، فدعا بالبركة، فأرسلت على غرمائي بأحمرة وجواليق، وقد حدثت نفسي أن أشتري حتى أوفيهم ما كان على أبي من الدين، فوالذي نفسي بيده لقد أوفيتهم عشرين وسقاً وفضل لنا فضل، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وبشرته، فقال: اللهم لك الحمد.
1231- وعن عمرو بن أخطب قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقيته في قدح قوارير، فرأيت فيه شعرة فأخذتها، فقال: اللهم جمله، قال الراوي: فرأيته وهو ابن ثلاث وسبعين سنة وما في رأسه ولحيته شعرة بيضاء.
1232- وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: أمتعه بشبابه.
1233- وقال يعلى بن الأشدق العقيلي: سمعت النابغة الجعدي يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأنشدته:(3/492)
بلغنا السماء مجدنا وثراءنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال قلت: إلى الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم : إن شاء الله.
فقلت:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوة أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يفضض الله فاك.
قال يعلى: فلقد رأيته وأتى عليه أكثر من مائة سنة، وكان من أحسن الناس ثغراً.(3/493)
1234- وعن عروة بن الجعد البارقي قال: دفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً وأمرني أن اشتري له كبشاً يضحي به، فاشتريته، فلقيني رجل فأربحني فيه ديناراً فبعته، ثم رجعت فاشتريت بأحد الدينارين كبشاً آخر ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقبض الكبش والدينار وقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه.
1235- وفي رواية أنه قال: أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم ديناراً وقال: يا عروة إيت الجلب فاشتر لنا شاة، فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما، فلقيني رجل في الطريق فساومني فبعته شاة بدينار، فجئت بالدينار وجئت بالشاة، فقلت: يا رسول الله، هذا ديناركم وهذه شاتكم، قال: وما صنعت؟ قال: فحدثته الحديث، فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه.(3/494)
قال: فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة فأربح أربعين ديناراً قبل أن أرجع إلى أهلي.
1236- وروي عن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب -وكانت تحت المقداد بن عمرو- قالت: إنما كان الناس يذهبون الغائط فرط اليوم واليومين والثلاثة فيبعرون كما تبعر الإبل، فلما كان ذات يوم خرج المقداد لحاجته إلى بقيع الغرقد، فدخل خربة لحاجته، فبينا هو جالس إذ أخرجت جرذ من جحر ديناراً، فلم يزل يخرج ديناراً ديناراً حتى أخرجت سبعة عشر ديناراً، ثم أخرجت طرف خرقة خمراً، فقال المقداد: فقمت فأخذتها فوجدت فيها ديناراً فتمت ثمانية عشر ديناراً، فأخذتها فجئت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبرها فقال: هل اتبعت يداك الجحر؟ قلت: لا والذي بعثك بالحق، قال: لا صدقة فيها، بارك الله لك فيها.(3/495)
قالت ضباعة: فما فني آخرها حتى رأيت غرائر الورق في بيت المقداد.
1237- وعن عمران بن حصين قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت فاطمة رضي الله عنها، فنظرت إليها وقد ذهب الدم من وجهها وعلتها الصفرة من شدة الجوع، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إليها فأدناها فقامت بين يديه فوضع يده على صدرها في موضع القلادة وفرج أصابعه وقال: اللهم مشبع الجاعة، ورافع الوضعة، لا تجع فاطمة بنت محمد.(3/496)
قال عمران: فنظرت إليها وقد علا الدم على الصفرة في وجهها، فلقيتها بعد ذلك، قالت: ما جعت بعد ذلك يا عمران.
1238- ومن ذلك: دعاؤه صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس وقوله: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، فكان أفقه خلق الله وأعلمهم، حتى سمي البحر.(3/497)
1239- فقيل: رأيت البحر، وسمعت البحر.
1240- وعن ابن عباس قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم الخلاء فوضعت له وضوءاً، فلما خرج قال: من وضع هذا؟ قالوا: ابن عباس، قال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل واعطه الحكمة.
1241- ودعا لأنس بن مالك بطول العمر وكثرة المال والولد، فكثر ماله وولده وعاش عمراً طويلاً.(3/498)
1242- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سليم فأتته بتمر وسويق فقال: أعيدوا تمركم في وعائه، وسمنكم في سقائه، فإني صائم، ثم قام إلى ناحية البيت فصلى بنا صلاة غير مكتوبة، ثم دعا لأم سليم ولأهلها بخير، فقالت: يا رسول الله إن لي خويصة، فقال: وما هي؟ قالت: أنس خادمك، فما ترك من أمر الدنيا والآخرة شيئاً إلا دعا لي.
ثم قال: اللهم ارزقه مالاً وولداً، وبارك له فيما أعطيته.
فقال أنس: أخبرني بعض ولدي أنه دفن من ولدي وولد ولدي أكثر من مائة، وما من الأنصار أحد أكثر مني مالاً.(3/499)
1243- وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم أذقت أول قريش نكالاً، فأذق آخرهم نوالاً، وروي: اللهم أذق آخر قريش نوالاً كما أذقت أولها نكالاً.
1244- وعن جابر، عن أبي بكر، عن بلال قال: أذنت في ليلة باردة فلم يأت أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شأنهم؟ قلت: حبسهم البرد.
قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أذهب عنهم البرد.
قال: فرأيتهم في الصبح يتروحون من الحر.(3/500)
1245- وروي أن رجلاً قال: يا رسول الله إني لبخيل، وإني لجبان، وإني لنؤوم، فادع الله لي، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن تسخى نفسه، وأن يشجع جبنه، وأن يذهب بكثرة نومه.
قال الراوي: فما منا رجل أسخى نفساً منه، ولا أشد بأساً منه، ولا أقل نوماً منه.(3/501)
1246- ومنها كذلك: قوله يومئذ لمحمد بن مسلمة لما برز إليهم مرحب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لهذا؟ فقال محمد: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور الثائر، قتل أخي بالأمس -يعني محمد بن مسلمة-.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قم إليه، اللهم أعنه عليه، فقام إليه فقتله.(3/503)
1247- ومن ذلك: أن امرأة عربية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسلم، فلما رأته أرعدت، فقال بيده صلى الله عليه وسلم : يا مسكينة عليك السكينة، فذهبت رعدتها.
1248- ومن ذلك: أن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معه في سفر فكل ركاب القوم وثقل عليهم متاعهم، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع على ظهره ثقل أصحابه وقال له: احمل فإنما أنت سفينة، فكان بعد ذلك لو حمل حِمل سبع بغال ما ثقل عليه ذلك.(3/504)
1249- ويروى عن أبي دجانة أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بينا أنا مضطجع في فراشي إذ سمعت في داري صريراً كصرير الرحى، ودوياً كدوي النحل، ولمعاً كلمع البرق، فرفعت رأسي فزعاً مرعوباً، فإذا أنا بظل أسود مدلى يعلو ويطول في صحن داري، فأهويت إليه فمسسته فإذا جلده كجلد القنفذ، فرمى في وجهي مثل شرر النار، فظننت أنه قد أحرقني وأحرق معي داري.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عامرك عامر سوء يا أبا دجانة، ائتني بدواة وقرطاس.
فأتاه بدواة وقرطاس فناوله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: اكتب يا أبا الحسن، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله إلى من طرق الدار من الزوار والمساكين إلا طارق يطرق بخير، أما بعد:(3/505)
فإن لنا ولكم في الحق سعة، فإن تك عاشقاً مولعاً أو فاجراً مقتحماً أو راغباً حقاً أو مبطلاً، هذا كتاب الله ينطق علينا وعليكم بالحق، إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون، ورسلنا يكتبون ما تمكرون، اتركوا صاحب كتابي هذا وانطلقوا إلى عبادة الأصنام، وإلى من يزعم أن مع الله إلهاً آخر، لا إله إلا الله، كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون، تغلبون، حم لا تنصرون، حمعسق، تفرق أعداء الله، وبلغت حجة الله، ولا قوة إلا بالله، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم.
قال أبو دجانة: فأدرجت الكتاب وصيرته تحت رأسي وبت ليلتي، فما انتبهت إلا بصراخ صارخ يقول: أحرقتنا واللات والعزى الكلمات يا أبا دجانة، بحق صاحبك لما رفعت عنا الكتاب، فلا عود لنا في دارك ولا جوارك ولا في موضع فيه هذا الكتاب، قال: فقلت: لا وحق صاحبي لا أرفعنه حتى أستأذن فيه صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطال علي الليل بما سمعت من أنين الجن وصراخهم، حتى أصبحت فغدوت فصليت الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بمقالة الجن وما قلت لهم: فقال: يا أبا دجانة ارفع عن القوم العذاب، فوالذي بعثني بالحق نبياً، إنهم ليجدون ألم العذاب إلى يوم القيامة.(3/506)
1250- وروي عن عزة بنت عياض بن أبي قرصافة أنها سمعت جدها أبا قرصافة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان أول بدء إسلامي أني كنت يتيماً بين أمي وخالتي وكان أكثر ميلي إلى خالتي، وكنت أرعى شويهات لي، وكانت خالتي كثيراً ما تقول لي: يا بني لا تمر إلى هذا الرجل -تعني محمداً- فيغويك ويضللك، قال: فكنت أخرج حتى آتي المرعى فأترك شويهاتي ثم آتي النبي صلى الله عليه وسلم فلا أزال عنده أسمع منه، ثم أروح بغنمي ضمراً يابسات الضروع، فقالت لي خالتي: ما لغنمك يابسات الضروع؟ قلت: ما أدري، ثم عدت إليه اليوم الثاني لأسمع منه، فسمعته من خلال ذلك يقول: يا أيها الناس هاجروا وتمسكوا بالإسلام، فإن الهجرة لا تنقطع ما دام الجهاد، ثم رحت بغنمي كما رحت في اليوم الأول، ثم رحت إليه في اليوم الثالث فلم أزل عنده أسمع منه حتى أسلمت وبايعته وصافحته بيدي، ثم شكوت إليه أمر خالتي وغنمي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : جئني بالشياه، فجئته بهن، فمسح على ضروعهن ودعا فيهن بالبركة، فامتلأن شحماً ولبناً، ثم رجعت بغنمي سماناً، ممتلئات شحماً ولبناً، فلما دخلت على خالتي بهن قالت لي: يا بني هكذا فارع، فقلت: والله يا خالتي ما رعيت إلا حيث أرعى كل يوم، ولكني أخبرك بقصتي، فأخبرتها بالقصة، وإتياني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبرتها بسيرته وبكلامه فقالت لي أمي وخالتي: اذهب بنا إليه، فذهبت أنا وأمي وخالتي إليه فأسلمن وبايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصافحهن، فهذا ما كان من إسلام أبي قرصافة.(3/507)
1251- ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن قاضياً فقال: يا رسول الله، تبعثني وأنا حديث السن لا علم لي بالقضاء؟
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على صدره وقال: اذهب فإن الله سيهديك ويثبت قلبك.
فقال علي رضي الله عنه: فما شككت بعد ذلك في قضاء بين اثنين.(3/508)
1252- ومن ذلك: ما قال أبي بن كعب: أن رجلاً قرأ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حاضر بقراءة خلاف ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له صلى الله عليه وسلم : أحسنت، أحسنت، قال: فحك في صدري شك، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فضرب بيده في صدري وقال: اللهم أذهب عنه الشك، ففضت عرقاً، وكأني أنظر إلى ربي فرقاً.(3/509)
1253- ومنها: أن سلمان الفارسي أتاه فأخبره أنه كاتب مواليه، ووافقوا على كذا وكذا ودية كلها تعلق، وكان ذلك غير مأمون عند سلمان لولا ما علم من تأييد الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، فجمعها له ثم قام معه فمرسها بيده، فما سقطت واحدة منها علقت، وبقيت علماً يستشفى بثمرها، ويرجى بركتها، وأعطاه صلى الله عليه وسلم تبرة من ذهب كبيضة الديك، فقال: أوف منها أصحابك، فقال متعجباً مستقلاً لما رأى: وأين تقع هذه مما علي؟ فأدارها صلى الله عليه وسلم على لسانه، ثم أعطاه إياها، وقد كانت في ذاتها الأولى لا تفي بربع حقهم، فذهب بها فوفاهم بها حقهم.
1254- ويروى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عطس فقال له ذمي: يرحمك الله يا أبا القاسم، فقال صلى الله عليه وسلم : يهديك الله، فأسلم.
1255- ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم لرجل عليه ثياب رثة: ما له، ضرب الله عنقه في سبيل الله، فقتل الرجل في سبيل الله.(3/510)
1256- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم أتي بمولود فمسح رأسه، ودعا له بخير، فلما كبر الغلام شاب رأسه إلا الموضع الذي مسحه رسول الله صلى الله عليه وسلم .(3/511)
1257- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم غزا غزوة فأخذ أصحابه راعياً مع غنمه، فأسلم الراعي، ثم قال: يا رسول الله كيف أضيع الغنم؟! وإنما هي أمانة، فقال صلى الله عليه وسلم : ارمها بسبع حصيات، وقل عند كل حصاة: بسم الله، ففعل الرجل ذلك، فاشتدت الغنم نحو أربابها حتى بلغت حصونهم.(3/512)
1258- ومنها: أن قوماً من وفد عبد القيس أتوه بغنم فسألوه أن يجعل لهم علامة تذكر بها، فخمر صلى الله عليه وسلم إصبعه في أصول آذانها، فابيضت فهي تلك إلى اليوم معروفة النسل ظاهرة الأمر.
1259- ومن ذلك: أن جابر بن عبد الله الأنصاري كان معه في سفر متأخراً عن الناس على جمل بطيء، فقال صلى الله عليه وسلم : ما لك يا جابر؟ قال: قلت: جملي، فقال صلى الله عليه وسلم : أنخه، فأناخه، فنخسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضيب، قال جابر: فوالذي بعثه بالحق ما استطعت أن أحبسه، ووالله لقد صرت في أوائل الناس كما كنت في أواخرهم.(3/514)
1260- وفي رواية أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما رجعنا أبطأ بي جملي وأعيا، فتخلفت، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا؟ قلت: جابر بن عبد الله، فقال: ما لك؟ قلت: إني على جمل ثفال، فقال: ما معك قضيب؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: أعطنيه، فأعطيته إياه فضربه ونخسه نخسة أو نخستين ثم قال: اركب، قال: فما ركبت بعيراً قبله ولا بعده كان أوسع ولا أوطأ منه.
1261- ومن ذلك: ما روى جعيل الأشجعي قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته على فرس عجفاء مهزولة، فدنا مني فقال: سر، فقلت: يا رسول الله إنها عجفاء ضعيفة، فدنا مني فضربها بمخفقة معه وقال: اللهم بارك له فيها، وكنت في أخريات القوم، فما ملكت رأسها أن تقدم القوم، قال: وبعت من بطنها باثني عشر ألفاً.(3/515)
1262- ومن ذلك: أن نفراً من أصحابه صلى الله عليه وسلم شكوا إليه أنهم إذا أكلوا لم يشبعوا، فقال صلى الله عليه وسلم : اجمعوا طعامكم وكلوا جميعاً، ولا تأكلوا وحداناً، ففعلوا ذلك فشبعوا.
1263- ومنها: أن أهل المدينة مطروا مطراً خافوا أن يعقبه الغرق وانهدام البنيان، فأتوه ألح ما كان المطر، وأركد ما كان السحاب، فشكوا إليه ذلك، فرفع يديه صلى الله عليه وسلم إلى وليه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا،(3/516)
فلم يكن بين قوله وبين انجياب السحاب عن المدينة فرق، فأطاف من حولها مستديراً، وهي في فجوة كالدارة، فعاينوا أمراً لم يكن ليتهيأ لأحد فيما خبروا من الأمطار، وجربوا من الأعلام مثله، يرى ذلك ظاهراً مؤمنهم وكافرهم.(3/517)
1264- ومنها أن رجلاً من أصحابه أصيبت إحدى عينيه في بعض مغازيه، فسالت حتى وقعت على خده، فأتاه مستغيثاً به، فأخذها صلى الله عليه وسلم بيده فردها مكانها فكانت أحسن عينيه وأصحهما وأحدهما بصراً.(3/518)
1265- ومنها: أن امرأة أتت بصبي لها ترجو البركة بأن يمسه ويدعو له -وكانت به عاهة- فرحمها -والرحمة صفته-، فمسح يده على رأس الصبي فاستوى شعره، وبرأ داؤه، وبلغ ذلك أهل اليمامة فأتت مسيلمة امرأة بصبي لها فمسح رأسه فصلع، وبقي نسله إلى يومنا هذا.(3/519)
1266- وقال سعيد بن المسيب: ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن أبا لبابة يقول: يا سماء اجمدي -لأجل تمر عنده- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اسقنا غيثاً يحمل تمر أبي لبابة من ثعلب مربده، ثم لا يجد ما يسده إلا إزاره، فأرسل الله السماء فاحتمل تمر أبي لبابة من ثعلب مربده فلم يجد شيئاً يسده به إلا إزاره، فسده به وهو يقول: صدق الله ورسوله.(3/520)
1267- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم نزل ذات يوم منزلاً فقال لرجل من أصحابه: اذهب فأتني بتلك العنز، فقال الرجل: وعهدي بذلك الموضع(3/521)
لا عنز فيه، فأتيته، فإذا بعنز حافل، فحلبتها ما شاء الله، فسقاني وشرب ثم أمرها فتقلصت، فلما اشتغلنا بالرحيل إذ العنز قد ذهبت، فقلت: العنز يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم : ذهب بها ربها.
1268- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ دخل أعرابي فقال: يا رسول الله، أتينا وما لنا بعير يئط ولا صبي يصيح، وأنشد:
أتيناك والعذراء يدمي لبانها ... وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
وألقى بكفيه الصبي استكانة ... من الجوع ضعفاً ما يمر وما يحلي
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العامي والعلهز العسل
وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم رفع يديه نحو السماء فقال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، مريئاً مريعاً، غدقاً طبقاً سحاً سجالاً، نافعاً غير ضار عاجلاً غير رائث، تملأ به الضرع، وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون.
قال: فما تم كلامه حتى ألقت السماء بأرواقها، وجاء أهل البطانة يصيحون: يا رسول الله الغرق الغرق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم حوالينا ولا علينا.
قال: فانجابت السحابة عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه -وكان أكثر ضحكه- ثم قال: لله در أبي طالب لو كان حياً قرتا عيناه من ينشدنا قوله؟ فقام علي بن(3/522)
أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله لعلك أردت قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل
كذبتم وبيت الله لا تخرجون ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أجل.
قال: فقام أعرابي من بني كنانة فقال:
لك الحمد والحمد ممن شكر ... سقينا بوجه النبي المطر
دعا الله خالقه دعوة ... فأرخى وأشخص منه البصر
فما كان إلا وألقى الرداء ... وأسرع حتى رأينا الدرر
رقاق العوالي وجم البعاق ... أغاث به الله ربي مضر(3/523)
وكان كما قال عمه أبو ... طالب أبيض ذو غرر
بذاك سقى الله صوب الغمام ... فهذا العيان لذاك الخبر
ومن يشكر الله يلقى المزيد ... ومن يكفر الله يلقى الغير
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن يك شاعر يحسن، فقد أحسنت.(3/524)
1269- روى سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا فقال: اللهم بارك لنا في مكتنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في شامنا، وبارك لنا في يمننا، اللهم بارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، فقال رجل: يا رسول الله وفي عراقنا، فأعرض عنه، فرددها ثلاثاً كل ذلك يقول الرجل: وفي عراقنا، فيعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : بها الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان.(3/525)
1270- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين من أهل مكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، وخذهم بسنين كسني يوسف، قال: فابتلوا بالجوع حتى أكلوا العلهز.
والعلهز: الوبر بالدم.
1271- وروي عن بهية بنت عبد الله البكرية أنها قالت: لما سارع الناس في الإسلام أصابنا جهد شديد، فخرج أبي، وأخرجوا نساءهم وبناتهم، وكنا بماء بظهر الكوفة يقال له: فيد، وكنت مع أبي، فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: فأسلم الرجال والصبيان فبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/526)
وصافحهم، وبايع النساء ولم يصافحهم، ثم نظر إلي فمسح رأسي ودعا لي وقال: اللهم بارك فيها وفي نسلها.
قال: فبلغ ولدها ثمانين رجلاً وأربعين امرأة، قالت: وقتل من بني أربعين رجلاً في سبيل الله.
1272- وروت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه قالت: خرج بي خراج فتخوفت منه، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضعي يدك عليه ثم قولي ثلاث مرات: بسم الله، اللهم أذهب عني ما أجده بدعوة نبيك الصادق الطيب المبارك المكين عندك، قالت: ففعلته فانخفض.(3/527)
1273- وصحت الرواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لسعد بن أبي وقاص أن يستجيب الله دعوته فقال: اللهم أجب سعداً إذا دعاك.
قال: فكان لا يدعو بشيء إلا استجيب له.(3/528)
1274- وروي عن سلمان الفارسي قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أعود رجلاً من أصحابه، فدخل عليه فإذا أهله عنده، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على جبينه ثم نادى: كيف تجدك؟ فلم يجب إليه شيئاً، فقال أهله: بآبائنا وأمهاتنا أنت يا رسول الله إنه لموعك مشغول، قال: خلوا بيني وبينه، فأشار إليه المريض بأن أعد يدك مكانها حيث كانت، ففعل ثم ناداه: ما تجد وما ترى؟ قال: أجدني بخير -كأنه وجد ليده صلى الله عليه وسلم راحة- ثم ناداه: ما ترى؟ قال: يدنو مني رجلان أحدهما أبيض والآخر أسود قال: أيهما أقرب منك؟ قال: الأسود، قال: وما ترى؟ قال: أرى الخير والشر، فمن علي يا رسول الله بأبي وأمي منك بدعوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أتم القليل واغفر الكثير، ثم ناداه: ما ترى؟ قال: استأخر عني الأسود واقترب مني الأبيض، وإن الشر ينجفل، وإن الخير ينمو، قال: أي عملك كان أملك بك؟ قال: كنت أسقي الناس، قال: اسمع يا سلمان، هل تنكر مني شيئاً؟ قال: نعم، بأبي وأمي، قد رأيتك(3/529)
وما رأيتك على مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني أعلم ما يلقى، ما منه عرق إلا يألم بالموت على حدته.
1275- ومن ذلك أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في [ ] فسمح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له، قال: فلم ير بالمدينة شاب أفضل منه.(3/530)
وبه ينتهي الجزء الثالث في تقسيمنا، ويليه إن شاء الله الجزء الرابع، وأوله: فصل في آيات إخباره صلى الله عليه وسلم بما أطلعه الله عليه من المغيبات وغير ذلك والحمد لله رب العالمين(3/531)
[تابع] جامع أبواب الدلائل التي يستدل بها على نبوته صلى الله عليه وسلم(4/5)
[226] فصلٌ: في آيات إخباره صلى الله عليه وسلم بما أطلعه الله عليه من المغيبات والكوائن وما يقع في نفوس المنافقين وغيرهم من الصحابة وما في ذلك من الدلائل
1276- فمن ذلك: أن من كان بحضرته من المنافقين كانوا لا يكونون في شيء من ذكره، ولا يفيضون في غيبته إلا أطلعه الله على ذلك وبينه لهم صلى الله عليه وسلم ، حتى إن كان بعضهم ليقول لصاحبه: اسكت فوالله لو لم يكن عندنا إلا الحجارة لأخبرته حجارة الأبطح، لم يكن ذلك منه صلى الله عليه وسلم ولا منهم مرة واحدة ولا مائة مرة، فلا يظن ظان أنه كان منه صلى الله عليه وسلم بالوهم والظن فإنه كفر منه به صلى الله عليه وسلم ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما قالوا على لفظهم،(4/7)
وينبئهم بما في ضمائرهم، ولما ضوعف عليهم في الآيات ازدادوا عمى وإدباراً وضلالة.(4/8)
1277- ومنها: أنه لما أتى يهود بني النضير واندس له رجل يريد أن يطرح عليه صخرة -وكان قاعداً في ظل أطم-، فنبأه الله بما أضمروا له، فقام راجعاً إلى المدينة، ورد الله كيد عدوه عنه، وقتله بعض أقربائه، ونفله رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله.
1278- ومنها: أمر سحر اليهود له صلى الله عليه وسلم ، فأخبره الله تعالى حتى استخرج ذلك علي رضي الله عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان كلما حل عقدة ظهر البرء على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كأنه أطلق من عقال.(4/9)
1279- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم أمر بحفر الخندق حول المدينة، فاعترضت لهم صخرة عظيمة منعتهم عن حفرها، فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فدخل الخندق وأخذ المعول، وضرب الصخرة ضربة فكسر منها ثلثها فبرقت برقة، فكبر وكبر أهل الخندق، ثم ضربها الثانية فكسر ثلثها، وبرقت برقة، فكبر وكبر أهل الخندق، ثم ضربها الثالثة فاقتلعها، وبرقت برقة، فكبر وكبر أهل الخندق، فقال صلى الله عليه وسلم : أما البرقة الأولى فإن ربي أعطاني فيها كنوز كسرى، وأما البرقة الثانية فإني رأيت فيها بيضاء الشام، وأما البرقة الثالثة فإن الله تعالى .. ..(4/10)
1280- ومن ذلك: أنه كتب إلى قيصر وكسرى كتابين دعاهما فيهما إلى الإسلام وبدأ بنفسه، .. ..(4/12)
فوضع قيصر كتابه على الوسادة وأجابه بجواب حسن،(4/15)
وأما كسرى فإنه مزق كتابه، وكتب إلى فيروز بن ديلم باليمن -وهو من بقية أصحاب سيف بن ذي يزن، يأمره بالمسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخذه وقتله.
فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم مزق ملكه، فمزق الله ملكه.(4/16)
قال: وسار إليه فيروز وأعلمه بما قد أمر به فيه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن ربي قد أعلمني أنه قتل البارحة، فراع فيروز وهاله، وكره الإقدام عليه لما رأى وسمع، فأتاه الخبر أن ابنه شيرويه وثب عليه في تلك الليلة بعينها فقتله.
قال: فأسلم فيروز لما رأى وسمع من النبأ اليقين، وصار إلى اليمن، ودعا من باليمن من أبناء الفرس إلى الإسلام فأسلموا.(4/18)
فلما خرج العنسي الكذاب باليمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تآمر هو وقيس بن مكشوح على قتله، فدخل عليه فيروز وهو نائم، فلوى عنقه فدقها.(4/19)
1281- ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: إنكم سترون بعدي أثرة، فلما ولي عليهم معاوية منع عنهم عطاياهم، فقدم عليهم فلم يتلقوه، فقال: ما الذي منعكم أن تلقوني؟ قالوا: لم يكن لنا ظهور نركبها، فقال لهم: أين كانت نواضحكم؟ فقال أبو قتادة: عقرناها يوم بدر في طلب أبيك، ثم رووا له الحديث.
فقال لهم: وما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: قال لنا: اصبروا حتى تلقوني، قال: فاصبروا إذن.
فقال في ذلك حسان بن ثابت:
ألا أبلغ معاوية بن صخر ... أمير المؤمنين نبأ كلامي
فإنا صابرون ومنتظروكم ... إلى يوم التغابن والخصام(4/20)
1282- ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان رضي الله عنه: إن الله مقمصك قميصاً، وإنهم حاملوك على خلعه، فلا تفعل، فلما حوصر عثمان قالوا له: اخلع الخلافة، قال لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي كذا وكذا، ولست فاعلاً ما تقولون، فقتل.(4/21)
1283- ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم حين صعد هو وأبو بكر وعمر وعثمان جبل حراء: ما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان، فكان كما قال.(4/22)
1284- ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم للزبير: إنك ستقاتل علياً وأنت له ظالم، ففعل، وقرعه علي بذلك يومئذ، فرجع عنه وترك القتال لما ذكره بذلك.(4/23)
1285- ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: إن آخر زادك من الدنيا شربة من لبن.(4/24)
1286- ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم : تقتلك الفئة الباغية.
1287- ومنها: نعيه صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه قتل جعفر الطيار، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة يوم قتلوا وهم بالشام، وذلك أنه يوم أنفذهم قال: إن أصيب زيد فجعفر، وإن أصيب جعفر فعبد الله، وإن أصيب عبد الله فخالد بن الوليد.
فأصيبوا كلهم إلا خالد بن الوليد، ونعاهم صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ساعة أصيبوا.(4/26)
1288- ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بن خلف -في فرس كان يعلفها بمكة: ليقتلن عليها محمد صلى الله عليه وسلم - فقال صلى الله عليه وسلم : بل أنا أقتله إن شاء الله، فطعنه صلى الله عليه وسلم يوم أحد فسقط يخور كما يخور الثور، فقيل له: إنما هي خدشة، فقال: والله لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لقتلهم، وكان والله توعدني بالقتل وأنا بمكة فقال: بل أنا أقتل أبياً.(4/29)
1289- ومنها: كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ودفع الكتاب إلى امرأة، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فأدركاها فاستخرجاه من قرونها، فأتيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا حاطب أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: وما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله أما والله إني ناصح لله ورسوله، ولكني كنت غريباً في أهل مكة، وكان(4/31)
أهلي بين أظهرهم فخشيت عليهم، فكتبت هذا الكتاب لأؤلف به قلوبهم، ولكي لا يؤذوا أهلي.
قال: فاخترط عمر سيفه ثم قال: يا رسول الله مكني منه أضرب عنقه فإنه قد كفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عمر، ما يدريك لعل الله اطلع على هذه العصابة من أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
1290- ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر في غزوة تبوك ونزلها واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال صلى الله عليه وسلم : لا تشربوا من مائها، ولا تتوضئوا منها للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه به فاعلفوه للإبل ولا تأكلوا منه شيئاً، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له،(4/32)
ففعل الناس ما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رجلين من بني طي خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي خرج لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طي، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم أنهكم أن يخرج أحد إلا ومعه صاحب له، ثم دعا للذي أصيب في مذهبه فشفي، وأما الآخر فإن طياً أهدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة.
1291- ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا خالد بن الوليد فبعثه إلى أكيدر دومة الجندل وهو: أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة(4/33)
-وكان ملكاً عليها، وكان نصرانياً- قال صلى الله عليه وسلم : إنك ستجده يصيد البقر، فخرج خالد، حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له ومعه امرأته، فأتت البقر تحك بقرونها باب القصر فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا، والله، قالت: فمن يترك مثل هذا الصيد؟ قال: لا أحد، فنزل، فأمر بفرسه فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له: حسان، فركب، وخرجوا معه بمطاردهم، فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته، وقتلوا أخاه حساناً، وكان عليه قباء ديباج مخوص بالذهب فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه.
ثم إن خالداً قدم بالأكيدر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته.
وكان المسلمون يذكرون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر، وما صنع البقر تلك الليلة حتى استخرجه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم .(4/34)
1292- ومنها: أنه لما انصرف صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك قافلاً إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وشل، ما يروي الراكب والراكبين والثلاث، بواد يقال له: وادي المشقق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سبقنا إلى ذلك الواد فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتيه، قال: فسبقه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه.
فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ير فيه شيئاً فقال: من سبقنا إلى هذا الماء؟ فقيل: فلان وفلان، قال: أولم أنههم أن لا يستقوا منه شيئاً حتى آتيه؟ قال: ثم لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يديه ما شاء أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا الله بما شاء أن يدعوه به، فانخرق من الماء -كما يقول من سمعه: أن له حساً كحس الصواعق- فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه، فقال صلى الله عليه وسلم : لئن بقيتم -أو: من بقي منكم- ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه.
قيل: وهو اليوم كما قاله صلى الله عليه وسلم .
1293- ومنها: ما روي عن سهل بن سعد أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: ما رأينا مثل ما أبلى فلان، لقد فر الناس وما فر، ما ترك للمشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، قال: من هو؟ قال: فنسب له فلم يعرفه، ثم وصف له صفته فلم يعرفه، حتى إذا طلع الرجل(4/35)
بنفسه قالوا: هذا يا رسول الله الذي أخبرناك عنه، فقال: هو هذا؟ قالوا: نعم، فقال: أما إنه من أهل النار، قال: فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: فأينا من أهل الجنة إذا كان فلان من أهل النار؟! فقال رجل من القوم، وكان أمثلهم: يا قوم أنظروني، فوالذي نفسي بيده لا يموت على مثل الذي أصبح عليه، ولأكونن صاحبه من بينكم.
قال: فكان يميل خلفه في العدو، فجعل يشد معه إذا شد، ويرجع معه إذا رجع، فينظر ما يصير إليه أمره، حتى إذا أصابه جرح أذلقه، فاستعجل الموت فوضع قائمة سيفه على الأرض، وذبابته بين ثدييه ثم تحامل على سيفه حتى خرج من ظهره، وخرج الرجل يعدو ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل الجنة.(4/36)
1294- وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال صلى الله عليه وسلم : زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها، فكان كذلك.
1295- ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم وعدهم كنوز كسرى.(4/38)
1296- وقال صلى الله عليه وسلم لسراقة بن مالك بن جعشم: كأني بك وقد تسورت بسواري كسرى، فألبسه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
1297- وقال لعبد الله بن عمر: كيف بك إذا دفعت من حصن خيبر، فكان كذلك، دفعته اليهود فانكسرت يده.(4/39)
1298- وقال أبو بكر رضي الله عنه للمهاجرين والأنصار الذين وجههم إلى قتال مسيلمة وأهل الردة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد المسلمين الفتح، وأن يظهر دينه على كل دين، وأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وإن الله متم نوره، ومصدق وعده، ولكن أخوف ما أخاف عليكم أن يصرفهم الله إلى غيرنا لتقصير يكون منا، فجدوا وبادروا لتحوزوا.
1299- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: إنك ستجده في داره محتبياً، فكان كذلك.
- وقال لرجل بعثه إلى عمر: إنك ستجده راكباً تلوح صلعته، فوجدوه كذلك.(4/41)
1300- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في سفر له: تهجمون على رجل في هذا الوادي معتجراً ببرد أحمر من أهل الجنة، يبايع الناس، فهبطوا إلى الوادي فإذا الرجل على الصفة التي وصفها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا هو عثمان بن عفان.(4/42)
1301- وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: خرج نبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو بأبي ذر نائماً في المسجد، فضربه برجله، قال: فقام، فقال: يا أبا ذرك كيف أنت إذا أخرجت منه؟ قال: إذاً أرجع إلى هذا، قال: فإن منعوك؟ قال: أقاتلهم بسيفي حتى ألقاك، قال: لا تفعل، ولكن انقد لهم حيث قادوك، وانسق لهم حيث ساقوك حتى تلقاني.(4/43)
1302- ومنها: ما روي عن عقبة بن عامر الجهني قال: كنت في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء نفر من اليهود فقالوا: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته.(4/44)
فدخلوا فقالوا: أخبرنا عما جئنا نسألك عنه.
قال: جئتم تسألوني عن ذي القرنين، قالوا: نعم، قال: كان غلاماً من أهل الروم، ناصح الله عز وجل فأحبه الله، وملك الأرض، وسار حتى أتى مغرب الشمس، ثم سار إلى مطلعها، ثم سار إلى جبل يأجوج ومأجوج فبنى السد فيها.
قالوا: نشهد أن هذا شأنه، وإنه لفي التوراة.(4/45)
1303- ومن ذلك: ما روى سفينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء.
1304- ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم : اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر.(4/46)
1305- وقوله صلى الله عليه وسلم : إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا.
قال أبو سعد: فأعلمنا صلى الله عليه وسلم بهذا أن الخليفة بعده أبو بكر وعمر.
1306- وقال أبو بكر الصديق رضوان الله عليه: يا رسول الله رأيت كأن في صدري رقمتين وعلي حبرة، فقال صلى الله عليه وسلم : صدقت رؤياك، يولد لك غلام تحبر به، وتلي بعدي سنتين.
قال أبو سعد رحمه الله: لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول المعبرون:(4/49)
لئن صدقت رؤياك، بل قال: صدقت رؤياك، حتماً منه، فوجد الأمر كذلك.
1307- وروي عن محمد بن علي قال: أقبل جيران أم أيمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن أم أيمن لم تنم البارحة من البكاء، لم تزل تبكي حتى أصبحت.
قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم أيمن فجاءته فقال: يا أم أيمن لا أبكى الله عينيك، إن جيرانك أتوني فأخبروني أنك لم تنمي الليل أجمع، فلا أبكى الله عينيك، ما الذي أبكاك؟
قالت: يا رسول الله رأيت رؤيا عظيمة شديدة، فلم أزل أبكي الليل أجمع، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقصيها علي، فإن الله ورسوله أعلم بذلك، فقالت: يعظم علي أن أتكلم بها، فقال لها: إن الرؤيا ليست على ما ترين، فقصيها على رسول الله، قالت: إني رأيت في ليلتي هذه كأن بعض أعضائك ملقى في بيتي.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : نامت عينك يا أم أيمن، تلد فاطمة الحسين فتربينه وتلين بعض أعضائي في بيتك.
فلما ولدت فاطمة الحسين عليه السلام وكان اليوم السابع، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه، وتصدق بوزن شعره فضة، وعق عنه، ثم هيأته أم أيمن، ولفته في برد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أقبلت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : مرحباً بالحامل والمحمول، هذا تأويل رؤياك.(4/50)
1308- ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أشقى الناس عاقر الناقة، والذي يخضب هذه من هذه.
يعني: الذي يضرب رأسك فيخضب لحيتك من دم رأسك، فضرب على رأسه رضي الله عنه حتى قتل.(4/51)
1309- ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن بن علي رضي الله عنه: إنه سيد، وإن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فكان كذلك.
1310- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الطائف فأتى على موضع قال: هذا قبر أبي رغال -وكان من أصحاب ثمود- منعه الله العذاب لمنصبه من الحرم مات فدفن فيه، ودفن معه غصن من ذهب، فطفق أصحابه صلى الله عليه وسلم فحفروا عنه حتى استخرجوا الغصن.(4/53)
1311- ومن ذلك ما روى عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على كل بيضاء وصفراء وعلى كل شيء إلا أنفسهم وذراريهم، فأتي بالربيع وكنانة ابنا أبي الحقيق وأحدهما عروس بصفية بنت حيي، فلما أتى بهما قال: أين آنيتكما التي كانت تستعار في أعراس المدينة؟ قالا: أخرجتنا وجليتنا فأنفقناها، فقال لهما: انظرا ما تقولان: فإنكما إن كتمتماني استحللت بذلك دماءكما وذراريكما، فقالا: نعم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار فقال: اذهب إلى مكان كذا وكذا إلى نخل كذا وكذا، فانظر نخلة في رأسها رقعة، فانزع الرقعة واستخرج ما فيها، وائتني بها، قال: فانطلق حتى جاءه، فقدمهما فضرب أعناقهما، وبعث إلى ذراريهم، فأتى بصفية وهي عروس مخضبة فأمر بها بلالاً، فذهب بها إلى منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
1312- وقال صلى الله عليه وسلم لرجل يقال له: أبو سلمى: إنك ستبقى بعدي حتى تسأل، فكان كذلك.(4/54)
1313- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم أعلم أصحابه بموته ودنو أجله، وأسر إلى ابنته فاطمة رضي الله عنها، وأخبرها أنها أول أهل بيته لحوقاً به، فكان كذلك.(4/55)
1314- ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب حين أسره: فاد نفسك وابني أخويك: عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، فإنك ذو مال، فقال: إن مالي قد ذهب، فقال صلى الله عليه وسلم : ما فعلت الدنانير التي دفعتها لأم الفضل ليلة أردت الخروج إلى بدر وقلت لها: إن أصبت في هذا الوجه فافعلي كذا وكذا؟ فتعجب العباس بن عبد المطلب وقال: والله ما كان لنا ثالث إلا الله عز وجل. فأيقن بنبوته وبالإسلام.(4/56)
1315- ومن ذلك: أن بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم -وهو خبيب- أسر، فقدم به مكة فباعوه -ابتاعه بعض المشركين-، وكان قد قتل لهم يوم بدر قتيلاً، فاجتمعوا بمكة فصلبوه، فقال وهو مصلوب: اللهم إني لا أجد أحداً يقرئ رسولك مني السلام، فاقره مني السلام، والنبي صلى الله عليه وسلم ساعة ذلك بالمدينة على المنبر فقال: وعليك وعليه السلام، هذا جبريل يخبرني أن خبيباً صلب وهو يقرأ علي السلام.(4/58)
1316- ومن ذلك: ما روى قيس بن أبي حازم، عن أبي شهم قال: كنت بالمدينة فمرت بي امرأة فأخذت بكشحها، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع، فأتيته فلم يبايعني، وقال لي: ألست صاحب الجبيذة بالأمس؟ فقلت: لا أعود يا رسول الله، قال: فبايعني.
1317- ومن ذلك: ما روى أبو السفر قال: رأى أبو سفيان يوماً(4/60)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي والناس يطؤون عقبه، فقال بينه وبين نفسه: لو عاودت هذا القتال، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضرب بيده على صدره فقال: إذن يخزيك الله، قال: أتوب إلى الله وأستغفر الله مما تفوهت به.
1318- ومن ذلك: أن رجلاً من المشركين -كان رأساً فيهم وعظيماً من عظمائهم- قعد في نادي قومه وهو بمكة يقال له: عمير بن وهب، فتحدثوا بما أصيبوا يوم بدر وذكروا أصحاب القليب من قريش، وقالوا: لا خير في الحياة بعدهم، فقال عمير بن وهب: والله لولا دين(4/61)
علي وبنات أخلفهن لسرت إلى محمد وشفيت نفسي بقتله.
فتحمل صفوان بن أمية دينه، وضمن له من يقوم بعياله على أن يقتل محمداً صلى الله عليه وسلم .
قال: فلما جاء إلى المدينة عقل ناقته بباب المسجد، وأخذ السيف فعمد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه على عاتقه، فلما رآه عمر رضي الله عنه سبقه إلى(4/62)
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذا الغادر عمير بن وهب قد أقبل عليك فلا تأمنه على نفسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أدخله علي، فأقبل عمر بن الخطاب رضوان الله عليه بحمائل سيفه يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعه يا عمر، ادن يا عمير، ما الذي جاء بك؟ قال: جئت للأسير الذي بين أيديكم، قال: أصدقني، ما أقدمك؟ قال: ما جئت إلا لذلك، فقال له صلى الله عليه وسلم : فما بال سيفك على عاتقك؟ فقال: قبحها الله من سيوف، ما أغنت عنا شيئاً، فنزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه بقصته وبما جاء فيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا، بل قعدت أنت وفلان وفلان في الحجر وتذاكرتم قتلاكم ببدر فقلت: لولا دين علي وبنات ورائي لقصدت محمداً، ولأقتلنه، فضمن عنك دينك فلان، وكفل بناتك فلان، والله تعالى حائل بينك وبين ما تريد، فقال عمير بن وهب: من أخبرك بهذا يا محمد؟ قال: الله تعالى الذي أخبرني به، فأسلم عمير مكانه.
1319- وعن جابر بن عبد الله قال: هبت ريح شديدة، والنبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فقال: هذه لموت منافق، فلما قدمنا المدينة إذا عظيم من عظماء المنافقين قد مات.(4/63)
1320- ومن ذلك: ما روي عن قتادة بن النعمان قال: كانت ليلة شديدة الظلمة والمطر، فقلت: لو أني اغتنمت الليلة شهود العتمة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فبقيت.
فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أبصرني ومعه عرجون يمشي معه، فقال: ما لك يا قتادة هاهنا هذه الساعة؟
قلت: اغتنمت شهود الصلاة معك يا رسول الله.
قال: فأعطاني العرجون، وقال: إن الشيطان قد خلفك في بيتك، فاذهب بهذا العرجون فاستضئ به حتى تأتي بيتك فتجده في زاوية البيت فاضربه بالعرجون.
قال: فخرجت من المسجد فأضاء العرجون بمثل الشمعة، فاستضأت(4/64)
به فأتيت أهلي فوجدتهم رقود، فنظرت في الزوايا فإذا فيها قنفذ، فلم أزل أضربه بالعرجون حتى خرج.
1321- ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: تنبح عليك كلاب الحوأب.(4/65)
1322- ومنه: نعيه صلى الله عليه وسلم النجاشي وإخباره أصحابه بموته.
1323- وذلك أن النجاشي مات بأرض الحبشة، فطوى الله تعالى لنبيه الأرض حتى نظر إلى جنازته في اليوم الذي مات فيه، ثم قام فصلى عليه هو وأصحابه، ثم قال صلى الله عليه وسلم : استغفروا لأخيكم.
1324- ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم لزيد بن صوحان: .. ..(4/66)
زيد وما زيد يسبقه عضو منه إلى الجنة، فقطعت يده يوم نهاوند في سبيل الله تعالى.(4/67)
1325- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم بعث نفراً إلى خالد بن سفيان ليقتلوه فقال: إنكم إذا رأيتموه ذكركم الشيطان ما بينكم وبينه فتأخذكم قشعريرة، قال: فكان كذلك.(4/68)
1326- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة بدر وبلغ بدراً جعل يسير إلى موضع موضع ويقول: هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى.
فما أخطأوا تلك المواضع.(4/70)
1327- وقال صلى الله عليه وسلم : ليرعفن على منبري رجل من بني أمية، فكان كذلك، رعف عنده عمرو بن سعيد حتى سال رعافه على درج المنبر.
1328- ومن ذلك أن بعض من كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد على عقبيه كافراً فمات، فقال صلى الله عليه وسلم : لن تقبله الأرض، فدفن، فأصبحوا به فوق الأرض، ثم دفن فأصبحوا به كذلك، ثم كذلك حتى ألقوه في بعض الغيران.(4/71)
1329- ويروى: أن أبا عمرو النخعي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد من النخع فقال: يا رسول الله إني رأيت في طريقي هذا رؤيا، رأيت أتاناً تركتها في الحي ولدت جدياً أسفع أحوى.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل لك من أمة تركتها مسرة حملاً؟(4/72)
قال: نعم، تركت أمة إني أظنها قد حملت، قال: قد ولدت غلاماً وهو ابنك، قال: فما له أسفع أحوى؟ قال: ادن مني، فدنا منه، قال: هل بك برص تكتمه؟ قال: نعم، والذي بعثك بالحق ما رآه مخلوق ولا علم به، قال: هو ذاك.
1330- وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في مجلسه -يعني: المسجد- معه ناس من أصحابه، منهم: عامر ابن فهيرة، وبلال، وسلمان، إذ دخل قيس بن مطاطية الثقفي فقال: هؤلاء الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما بال هؤلاء؟(4/73)
فسمعه حذيفة بن اليمان فقام إليه فلببه، ثم أقبل يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي قال، فقال: اشدد يدك به.
ثم علا رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فاجتمع إليه ناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا إن الرب عز وجل واحد، وإن العربية اللسان الناطق، فمن تكلم بها فهو منهم، ألا وإن مولى القوم منهم، وابنه من أبنائهم، وابن ابنه من أنفسهم.
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حذيفة: ما أصبح لقيس يا رسول الله؟ فقال: خل عنه، فإنه من أهل النار، يكفيهم عمله.
قال: فقتل يوم اليمامة مع مسيلمة الكذاب مرتداً.(4/74)
1331- وروي عن سمرة بن جندب: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فقال: هاهنا من آل فلان أحد؟ فلم يقم أحد حتى قالها ثلاثاً، فقام إليه رجل، فقال: إن فلاناً مأسور بدينه، قال: فلقد رأيت أهله ومن تحزن به قاموا، فقضوا ما عليه حتى لم يبق عليه شيء.
1332- وروي أن رجلاً ضخماً من العرب رآه صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد صارعني، فإن صرعتني قتلتني ولك أغنامي، وإن صرعتك قتلتك وأرحت العباد منك، قال: نعم، فصارعه فألقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض، فقال له الرجل: أقلني هذه المرة، فأقاله، فصرعه الثانية، فلما صرعه الثالثة عزم الرجل أن يأخذه برجله، فهبط جبريل عليه السلام فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم : تريد أن تخدعني؟ قال: كيف؟ قال: تريد أن تأخذني برجلي، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.(4/75)
1333- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم بعث بعض نسائه إلى امرأة يريد أن يخطبها فقال لها: انظري إليها.
فذهبت المرأة، فلما رأتها رأت امرأة على وجهها مسحة من الجمال، فقالت: لئن وصفتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، فرجعت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيت؟ فقالت: ما رأيت طائلاً.
فقال صلى الله عليه وسلم : قد رأيت طائلاً وخالاً بخدها اقشعرت كل شعرة منك، فقالت: ما دونك سر.
1334- وروي: أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى سفر فشكا إليه أصحابه الجوع فقال صلى الله عليه وسلم : لا يأتيكم الله برزق حتى تصلوا العصر، فلما صلوا العصر إذا هم بأربعة بدن سمان بعث بها عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأكل القوم حتى شبعوا.(4/76)
1335- وأهدي إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قدر من اللحم فقالت للخادم: ارفعيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاء قدميها إليه، قالت: فجاء إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: قدمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرة اللحم، فجاءت بها فإذا هي قد صارت حجراً، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، وقال: ما لك يا أم سلمة؟ فقصت عليه القصة، فقال: لعله قام على بابكم سائل فأهنتموه؟ قالت: أجل يا رسول الله، قال: فإن ذاك لذاك.
1336- ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عن الأهلة: هل يزيد عددها أو ينقص؟ فيجدونها كما أخبرهم عنها.(4/77)
1337- ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أعطى رجلاً من المشركين فرساً فقيل له: تعطي عدو الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم : سيسلبها، فكان كذلك.
1338- ومنها: معجزة عجيبة -لعمر الله عند من عقل-: أمر ناقته حين افتقدت، فأرجف المنافقون فقالوا بألسنة حظلة، وقلوب خاوية، فطعنوا في الأمر الذي هو أعظم الحجة عليهم، قالوا: يأتينا بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فلما خاف صلى الله عليه وسلم على المؤمنين وساوس الشيطان، دلهم عليها، ووصف لهم حالها، والشجرة التي هي متعلقة بها، فأتوها فوجدوها كما وصف من الحال التي أخبر صلى الله عليه وسلم .(4/79)
1339- ومنها: أن الزبير بن العوام لما خرج إلى ياسر بخيبر مبارزاً وقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: أيقتل ياسر ابني يا رسول الله؟ قال: لا، بل ابنك يقتله إن شاء الله، فخرج الزبير بن العوام فالتقيا، فقتله الزبير.(4/80)
1340- ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم : أطولكن يداً أسرعكن بي لحوقاً، فتطاولن فطالتهن سودة، ثم ماتت بعده صلى الله عليه وسلم زينب، وكانت زينب صنيعة(4/81)
اليد، كثيرة الخير، عظيمة النفع، تجهز الجيوش، وتنفع الخلق، فلما ماتت على إثره صلى الله عليه وسلم علمن أنه أراد بقوله: أطولكن يداً، أي: أكثركن معروفاً، أراد به: الطول الذي هو الغنى والنفع.(4/82)
1341- وذكر عن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رجلان من ثقيف مبير وكذاب، فأما الكذاب فقد رأيناه، وهذا المبير -تعني: الحجاج-.
1342- وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: اللهم كما ائتمنتهم فخانوني، ونصحت لهم فغشوني، فسلط عليهم فتى ثقيف الذيال الميال، يأكل خضرتها، ويلبس فروتها، ويحكم فيهم بحكم الجاهلية.
قال الحسن: وما خلق الحجاج يومئذ.(4/83)
1343- ويروى عن بعض التابعين قال: قدمت على عمر بن الخطاب رابع أربعة من أهل الشام ونحن حجاج، فبينا نحن عنده إذ أتاه آت من قبل العراق فأخبره أنهم حصبوا إمامهم، وقد كان عوضهم به مكان إمام كان قبله فحصبوه، فخرج إلى الصلاة مغضباً فسها في صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: من ههنا من أهل الشام؟ قال: فقمت أنا وأصحابي فقال: يا أهل الشام تجهزوا لأهل العراق، فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ، ثم قال: اللهم إنهم قد لبسوا علي فلبس عليهم، اللهم(4/84)
عجل لهم الغلام الثقفي الذي يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم.(4/85)
[227] فصلٌ: ما جاء في مسارعة الله له في هواه وإعطائه ما لم تجر العادة به، وما في ذلك من الدلائل
1344- ومن ذلك: ما روى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فطبختها في قدر فقال: ناولني الذراع، فناولته الذراع فأكل، ثم قال: ناولني الذراع، فناولته، ثم قال: ناولني الذراع، فقلت: وهل للشاة إلا ذراعان يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إنك لو التمسته لوجدته.(4/86)
1345- ومنها: أنها لما تخلف أبو خيثمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج على إثره فسار أياماً وليالي حتى تراءى للناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم نازل بتبوك فقال الناس: هذا راكب على الطريق، فقال صلى الله عليه وسلم : كن أبا خيثمة، فلما دنا إذا هو أبو خيثمة.(4/87)
جامع أبواب شرف النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم(4/91)
[228] باب ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من الشرف في القرآن
-1-
1346- ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه قصة آدم فقال: {وعصى آدم ربه فغوى}، وذكر الفعل فقال: {فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما}، ثم ذكر توبته.
وذكر نوحاً فقال: {فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين}، وذلك حين قال: {إن ابني من أهلي} الآية.
وذكر ذا النون فقال: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه} الآية، إلى قوله: {ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين}، وقال: {وإن يونس لمن المرسلين} الآية، إلى قوله: {فلولا أنه كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}.
وعرض بداود على لسان خصمين فقال: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه}.(4/93)
وفي قصة موسى: {فوكزه موسى فقضى عليه} الآية.
فنص على ذنب الجميع.
ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} الآية، ذكر الغفران وترك الذنب مستوراً، وزاده فبشره بالفتح.
وقيل: إنه عنى: ذنب آدم الذي تقدم وذنب أمته الذي تأخر.
1347- روي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا لأي شيء فرض الله جل جلاله على أمتك الصوم بالنهار ثلاثين يوماً، وفرض على الأمم أكثر من ذلك؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن آدم لما أكل من الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوماً، ففرض الله على ذريته الجوع والعطش ثلاثين يوماً، والذي يأكلونه تفضل من الله عز وجل عليهم، وكذلك كان على آدم، ففرض الله تعالى ذلك على أمتي، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياماً معدوداتٍ} الآية.
فقالوا: صدقت.
وفيه شرف آخر -2
1348- وهو أنه في العتاب معه أقرع سمعه العفو أولاً فقال: {عفا الله عنك لما أذنت لهم} الآية، فقدم العفو على العتاب.(4/94)
شرف آخر -3
1349- قال: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} الآية، فأخر بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقدمه في(4/95)
الذكر عليهم، وذكر النبيين، واختار منهم خمسة، وفضلهم على الجميع، فجعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم واحداً منهم وقدمه عليهم.
فلما ذكر الغلظة في الميثاق خفف عنه صلى الله عليه وسلم ، وقال في حقهم: {وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً}.
شرف آخر-4
1350- خاطب الله عز وجل كل نبي باسمه فقال: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم} الآية، وقال: {يا نوح اهبط بسلامٍ منا} الآية، وقال: {يا إبراهيم(4/96)
أعرض عن هذا} الآية، وقال: {يا لوط إنا رسل ربك} الآية، وقال: {يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول} الآية، وقال: {يا هود ما جئتنا ببينةٍ} الآية، وقال: {يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا} الآية، وقال: {يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض} الآية، وقال: {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي} الآية، وقال: {يوسف أعرض عن هذا} الآية، وقال: {يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك} الآية، وقال: {يا يحيى خذ الكتاب بقوةٍ} الآية.
فلما ذكر سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ذكره باسم التفخيم مشوباً بمننه(4/97)
فقال: {يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً}: شاهداً على الكل، مبشراً لمن آمن بك بالجنة، ونذيراً لمن تولى عنك بالنار.
وقال: {يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} الآية، وقال: {يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} الآية.
شرف آخر -5
1351- أمر الله المؤمنين بغض الأصوات فقال: {يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} الآية، وتوعد على رفع الصوت فوق صوته بإحباط العمل، توقيراً وتعظيماً لمحله وإجلالاً لأمره، ونبههم على عظم الخطيئة.(4/98)
1352- فكان أبو بكر رضي الله عنه يقول: لا أناجيك إلا سراً -أو كما قال-.
1353- وكان من شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته أن من دعاه بصوت جهوري يجيبه بمثله كي لا يأثم داعيه.
شرف آخر -6
1354- وهو أن الله تعالى ذكره حرم على أمته أن ينادوه باسمه كدعاء بعضهم بعضاً، قال عز وجل: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم(4/99)
كدعاء بعضكم بعضاً} الآية، ولم يكن هذا لنبي قبله، بل حكى عنهم مخاطبات أنبيائهم: {قالوا يا نوح قد جادلتنا} الآية، و{قالوا يا هود ما جئتنا ببينةٍ} الآية، و{قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً} الآية، ولم يزجرهم عن ذلك.
فلما ذكر سبحانه وتعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفورٌ رحيمٌ}.
1355- روى أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن الأقرع بن حابس نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له الأقرع: إن مدحي زين وإن ذمي شين، فقال عليه الصلاة والسلام: كذبت، ذلكم الله سبحانه.
وفيه لطيفة: وهو أن الله جلت عظمته لم يصرح بما ناداه به، بل عرض له كرامة له أن يسمع ما يكرهه، وكذلك في قوله: {إن شانئك هو الأبتر}، لم يصرح بما شانه، وكذلك في قوله: {تب يدا أبي لهبٍ}.(4/100)
شرف آخر -7
1356- أسماء الله تعالى على نوعين: أحدهما: لا يجوز أن يسمى بها مخلوقاً، والثاني: جائز أن يسمى بها مخلوقاً، فما جاز مدح به بعض أنبيائه، وقد يرد على صفة واحدة، كقوله في مدح نوح عليه السلام: {إنه كان عبداً شكوراً}، ومدح نفسه فقال: {إن ربنا لغفورٌ شكورٌ}.
وكذلك إبراهيم: {إن إبراهيم لحليمٌ أواهٌ منيبٌ}، ومدح نفسه فقال: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفورٌ حليمٌ}.
وقال في موسى عليه السلام: {وجاءهم رسولٌ كريم} الآية، ومدح نفسه فقال: {فإن ربي غنيٌ كريمٌ} الآية.
فلما مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع له بين الوصفين فقال: {حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ} الآية، كما مدح نفسه فقال: {إن الله بالناس لرءوفٌ رحيمٌ} الآية.
شرف آخر -8
1357- وهو أن الله تبارك وتعالى تولى الرد على المشركين فيما عابوا عليه، بقولهم: {ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنونٍ}، فرد(4/101)
عليهم فقال: {بل جاء بالحق وصدق المرسلين}.
وكذلك في قوله: {أم يقولون شاعرٌ نتربص به ريب المنون}، فرد عليهم فقال: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرءانٌ مبينٌ}.
وكذلك في قوله تعالى: {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفكٌ افتراه وأعانه عليه قومٌ آخرون} الآية، فرد عليه فقال: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشرٌ} الآية، ثم قال: {لسان الذي يلحدون إليه أعجميٌ وهذا لسانٌ عربيٌ مبينٌ} تخصيصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان كل نبي إذا قوبل بما يكره يتولى الجواب بنفسه، كما ذكر لنوح عليه السلام في قوله: {قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلالٍ مبينٍ}، قال نوح: {قال يا قوم ليس بي ضلالةٌ ولكني رسولٌ من رب العالمين}.
وكذلك في قصة هود قال له قومه: {إنا لنراك في سفاهةٍ وإنا لنظنك من الكاذبين}، فأجاب عن نفسه فقال: {يا قوم ليس بي ضلالةٌ ولكني رسولٌ من رب العالمين}.
وكذلك في قصة موسى عليه السلام قال له فرعون: {إني لأظنك يا موسى مسحوراً} الآية، فرد عن نفسه فقال: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} الآية.
ولما عيروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون رد الله تعالى الجواب عنه صلى الله عليه وسلم ، فقال عز وجل: {وما صاحبكم بمجنونٍ} الآية.(4/102)
شرف آخر - 9
1358- ذكر الله عز اسمه فضله على الأنبياء ولم يقيده بالتعظيم والتفخيم فقال حاكياً عن يوسف عليه السلام: {ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس} الآية.
وحكى عن سليمان عليه السلام قوله عز وجل: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} الآية.
وفي قصة داود عليه السلام قوله تعالى: {ولقد آتينا داود منا فضلاً} الآية.
فلما جاء إلى صنيعه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {وكان فضل الله عليك عظيماً} الآية.
وقال تعالى: {إن فضله كان عليك كبيراً} الآية.
فوصف الفضل مع محمد صلى الله عليه وسلم بالكبير والعظيم إجلالاً وتعظيماً.
شرف آخر - 10
1359- وهو أن الأنبياء عليهم السلام أرسلهم سبحانه وتعالى إلى طائفة وأمة فقال: {إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه} الآية، وقال: {وإلى عادٍ أخاهم هوداً} الآية، وقال: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً} الآية، وقال: {وإلى مدين أخاهم شعيباً} الآية، وقال: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطانٍ مبينٍ. إلى فرعون وملأه}.(4/103)
فلما أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم أرسله إلى الناس كافة أجمعين، فقال: {وما أرسلناك إلا كافةً للناس} الآية، وقال: {ليكون للعالمين نذيراً} الآية، وقال: {نذيراً للبشر} الآية، وقال: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين}.
1360- وقال صلى الله عليه وسلم : بعثت إلى الخلق كافة.
1361- وقال صلى الله عليه وسلم : أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، أرسلت إلى الناس كافة، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، ونصرت بالرعب -يخاف العدو مني على مسير شهر-، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة يوم القيامة.
شرف آخر - 11
1362- وهو أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجن والإنس لقوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} الآية، وقال تعالى ذكره: {قل أوحي إلي أنه استمع نفرٌ من الجن} الآية.
1363- وقال صلى الله عليه وسلم : بعثت إلى الأحمر والأسود -يعني الجن والإنس-.(4/104)
وفيه دليل: على أن الإنس أفضل من الجن لأنه سبحانه قال: {وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن} الآية، فلم يأمره بالمصير إليهم كما أمره بالمصير إلى الإنس، كقوله تعالى: {وأرسلناك للناس رسولاً} الآية.
شرف آخر - 12
1364- وهو أن الله تعالى ذكره جعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم فقال: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} الآية.
وفي قراءة أبي: {وهو أب لهم} الآية.(4/105)
شرف آخر - 13
1365- وهو في قوله عز وجل: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} الآية، افترض مودة أقربائه له، وذكر نوحاً فقال: {إن أجري إلا على رب العالمين} الآية, وكذلك قال عن هود، وصالح.
شرف آخر - 14
1366- وهو أنه تعالى ذكره شهد لنبيه بالإيمان، وقدمه على سائر الخلق فقال: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته} الآية.
شرف آخر - 15
1367- وهو أنه سبحانه جعل اتباع رسوله الله صلى الله عليه وسلم علماً لمحبته عز وجل فقال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} الآية، ثم جعل الشريعة(4/106)
منوطة بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الآية.
شرف آخر - 16
1368- وهو أنه سبحانه ردهم عند الاختلاف إليه وإلى رسوله كما ذكر ندباً، فقال: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} الآية، ثم قال: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول} الآية.
شرف آخر - 17
1369- وهو أنه أوحي إليه كما أوحي إلى سائر الأنبياء، ثم جعل الله له مزية بإرسال الرسول إلى قلبه، لأن القلب لا يخطئ، والسمع قد يخطئ ويصيب، قال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيين من بعده} الآية.
ثم خصه فقال: {وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين} الآية، وقال: {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} الآية.
شرف آخر - 18
1370- وهو أنه سبحانه جعل التزكية إليه في الآخرة كما جعلها في الدنيا فقال: {خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها} الآية.
وقال: {فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} الآية.(4/107)
شرف آخر - 19
1371- وهو أنه سبحانه أمره باللين وحفظه في الوسط، وأمر موسى وهارون فرد الحفظ إليهما فلم ينفع فرعون، وذلك حين قال: {فقولا له قولاً ليناً} الآية.
ثم قال لرسوله: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} الآية.
شرف آخر - 20
1372- وهو أنه سبحانه ضمن عصمته من الناس فقال: {والله يعصمك من الناس}، فأقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: تفرقوا فإن الله ضمن عصمتي.
شرف آخر - 21
1373- وهو أنه عز وجل أعطى رسوله صلى الله عليه وسلم قبل المسألة، وأعطى الرسل بعد المسألة، فحكى سبحانه سؤال إبراهيم عليه السلام أنه قال: {ولا تخزني يوم يبعثون} الآية.
وحكم له عز وجل ولأمته فقال: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيءٍ قديرٌ} الآية.
وحكى سبحانه عن موسى عليه السلام أنه قال: {رب اشرح لي صدري. ويسر(4/108)
لي أمري} الآية.
وقال عز وجل في حق نبيه: {ألم نشرح لك صدرك} الآية.
شرف آخر - 22
1374- وهو أن الله تعالى ذكره قال: {يا زكريا إنا نبشرك بغلامٍ اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً} الآية، يعني: مثلاً في الفضل أو عدلاً في اسمه، ولم يقل ولم نجعل له من بعد، فقيل: عبر بالقبل دون البعد لما علم أنه يبعث بعد محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل البرية.
شرف آخر - 23
1375- وهو أنه سبحانه ذكر القسم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول من نفسه شيئاً، في قوله تعالى: {والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى}.
ولم يبرئ غيره، كما قال: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض(4/109)
فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} الآية، وخاف إبراهيم على نفسه فقال: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام}، قيل: يعني أن أعمل بهوى نفسي.
شرف آخر - 24
1376- وهو أن الله سبحانه وتعالى جعل الأنبياء عليهم السلام كالتبع له حيث قال: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم} الآية، ثم قال: {لتؤمنن به ولتنصرنه} الآية، وكقول عيسى لقومه: {يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} الآية.(4/110)
شرف آخر - 25
1377- وهو أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقة عامة، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ} الآية، وقال: {وإن تطيعوه تهتدوا} الآية.
شرف آخر - 26
1378- وهو أن الله تعالى ذكره لما ذكر عاص بن وائل السهمي رسوله صلى الله عليه وسلم -فقال عنه: أنه أبتر، وأنه إذا مات ذهب ذكره-، رد ذلك أولاً، ولم يذكر ما عابه به؛ لكي لا يسمع رسوله صلى الله عليه وسلم ما يكره ثانياً.(4/111)
فقال: {إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر}، يعني: هو المنقطع ذكره.
وأما أنت يا محمد فرفعنا لك ذكرك فتذكر حين أذكر.
وقال: أنت ذكرٌ، فحيث ذكرت ذكرت، قال تعالى: {ذكراً. رسولاً} الآية.
شرف آخر - 27
1379- وهو أنه سبحانه جعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فقال: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} الآية، إكراماً له.(4/112)
فإن قيل: على هذا فلم لم يجعل بناته أخوات للمؤمنين لأنهن بنات الزوجات وهن أمهاتهم؟ فالجواب: أن ذلك على وجه الكرامة، والإنسان يلحقه غضاضة أن تخطب امرأته التي كانت في حباله لآخر، ويلحقه غضاضة أن لا تخطب بناته، فالمعنى الذي أوجب أن لا تخطب النساء: أوجب أن تخطب البنات.
شرف آخر - 28
1380- وهو أنه سبحانه علم رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لنفسه وللمؤمنين فقال: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} الآية، ثم لا بد أن يجيبه، وإلا ما كان للأمر من فائدة.
ولم يكن هذا للأنبياء عليهم السلام، لأن نوحاً عليه السلام سأل في ابنه الهدى،(4/113)
وسأل إبراهيم عليه السلام في أبيه فلم يجبهما لأنه لم يكن بالتعليم.
وكذلك في قوله تعالى: {وقل رب أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدقٍ واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} الآية، {وقل رب زدني علماً}، وأمثال ذلك.
شرف آخر - 29
1381- وهو أنه سبحانه جعله محفوظاً وكلامه موزوناً حين قال أبو بكر رضي الله عنه في الغار: لو نظر أحدهم إلى قدمه لرآنا فقال: {لا تحزن إن الله معنا} الآية، والقصة أنه لما خرجا متوجهين إلى الغار جعل أبو بكر طوراً يمشي خلفه، وطوراً عن يمينه، وطوراً عن شماله، فقال: ما هذا من فعالك يا أبا بكر؟ فقال: يا رسول الله أذكر الرصد فأحب أن(4/114)
أكون أمامك، وأذكر الخوف والطلب فأحب أن أكون خلفك، وأحفظ الطريق يميناً وشمالاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حافياً يطأ الأرض بجميع قدمه، فحمله أبو بكر حتى انتهى إلى الغار فلما وضعه ذهب صلى الله عليه وسلم ليدخل، فقال أبو بكر: والذي بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله فأسبره، فدخل أبو بكر رضي الله عنه يلتمس بيده في ظلمة الغار مخافة أن يكون فيه شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم ير شيئاً، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا فيه، فلما أسفر الصبح بعض الإسفار، رأى أبو بكر خرقاً في الغار فألقمه قدمه حتى الصباح مخافة أن يخرج منه ما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهوام وغيره، فلما جاء الطلب وخاف أبو بكر قدم صلى الله عليه وسلم اسم الله على اسمه، فقال: {إن الله معنا}.
وموسى عليه السلام لما قالوا له حين تراءى الجمعان: {إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين}، فقدم نفسه في الخطاب.(4/115)
شرف آخر - 30
1382- وهو أنه سبحانه وتعالى ذكر القسم بثلاثة أشياء فقال: {ن والقلم وما يسطرون. ما أنت بنعمة ربك بمجنونٍ} الآية، حتى قال: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ} الآية، قال صلى الله عليه وسلم : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، ولم يجعل ذلك لأحد قبله.
وقال لإبراهيم: {إن إبراهيم لحليمٌ أواهٌ منيبٌ} الآية، وقال لإسماعيل: {إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً} الآية، وقال لإدريس: {إنه كان صديقاً نبياً} الآية، وقال ليونس: {فلولا أنه كان من المسبحين} الآية، وقال ليحيى: {وسيداً وحصوراً} الآية، وقال: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أوابٌ} الآية، وقال لأيوب: {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أوابٌ} الآية، ولم يذكر القسم على مدح أحد.
شرف آخر - 31
1383- وهو أن الله تعالى أقامه خليفة في أرضه، وقال: كل ممن بايعك فقد بايعني وقد رضيت عنه، قال عز وجل: {لقد رضي الله عن المؤمنين} الآية، وكان بالحديبية، ثم قال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} الآية.
شرف آخر - 32
1384- وهو أن الله تعالى ذكره فعل فعلاً على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نسبه إليه من وجه وإلى نفسه من وجه، فقال تعالى: {وما رميت إذ رميت(4/116)
ولكن الله رمى}، حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب ورمى بها إلى وجوهم وقال: شاهت الوجوه، يعني: قبحت، فحمل الله ذلك إلى أعينهم وأعماهم حتى اجتاز بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يروه.(4/117)
شرف آخر - 33
1385- ذكر الله أنبياءه عليهم السلام فلم يقسم لأحد منهم اسماً مشتقاً من أسمائه تعالى ذكره، وشق اسم رسوله صلى الله عليه وسلم من الحميد والمحمود: محمد صلى الله عليه وسلم .
ومدحه عمه أبو طالب، فقال:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
فبين كرامته.
1386- وروي: أن الله بعث مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي صلى الله وسلم عليهم أجمعين، منهم: ثلثمائة وثلاثة عشر مرسلاً، والرسول لا يكون إلا نبياً، والنبي يكون ولا رسالة له.(4/118)
شرف آخر - 34
1387- وهو أن الله تعالى جعله سعادة لأمته لقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} الآية، فجعل رضاه في مبايعة رسوله كما جعل محبته في متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال: {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} الآية، وحين ذكر سبحانه الحواريين لم يذكر لهم فضيلة، ولما وصف أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب المنزلة عليهم امتدحهم فقال: {ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل} الآية.
شرف آخر-35
1388- وهو أن دعوات الأنبياء أكثرها بر، كقول آدم: {ربنا ظلمنا أنفسنا} الآية، وكقول نوح: {رب إنهم عصوني} الآية، و{رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} الآية.
فعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين. وأعوذ بك رب أن يحضرون} الآية، و{قل أعوذ برب الفلق} الآية، و{قل رب زدني علماً}، و{قل أعوذ برب الناس} الآية، وزاده تعليماً فقال: {قل اللهم مالك الملك} الآية، و{قل اللهم فاطر السموات والأرض} الآية.
فاللهم اسم يمتنع أن يدعى به غيره، وليس الرب كذلك، لأن العرب تقول: رب الدار، رب الدابة، ولذلك قال الصديق يوسف: {اذكرني عند ربك} الآية، فهذا تخصيص وشرف لا يشترك فيه غيره صلى الله عليه وسلم .(4/120)
شرف آخر-36
1389- وهو أنه سبحانه لم يعط رسله إلا بعد سؤالهم إياه، وأعطى محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته بغير سؤال فقال: {ألم نشرح لك صدرك}، وقال موسى عليه السلام: {رب اشرح لي صدري}.
وجعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وزراءه فقال: {ثاني اثنين إذ هما في الغار} الآية، وقال: {محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} الآية.
1390- قال صلى الله عليه وسلم : لي وزيران في الأرض أبو بكر وعمر، وقال لعلي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، وسأل موسى ربه الوزير فقال: {واجعل لي وزيراً من أهلي. هارون أخي. اشدد به أزري} الآية.(4/121)
شرف آخر-37
1391- وهو أنه تعالى ذكره جعل فعل الرسول فعل نفسه، وفعل نفسه فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} الآية، وقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}.
وقال: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} الآية، ثم جعل أمر التحريم والتحليل إليه ولم يجعل ذلك لأحد قبله، وهو أن الحرم أحل له حتى دخل محارباً وغير محارب.(4/122)
1392- قال صلى الله عليه وسلم : لم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من النهار.
1393- وحين قيل له إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة قال: اقتلوه، فجعله حلاً وهو حول الكعبة.
1394- وجعل صلى الله عليه وسلم دار أبي سفيان حرماً وهو بعيد من البيت فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.(4/123)
شرف آخر-38
1395- وهو أنه سبحانه فوض إليه صلى الله عليه وسلم بعض شرائعه بتسديد الله إياه في قوله: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} الآية، وقال للأمم السالفة: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونورٌ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} الآية، إلى قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، ثم خاطب أهل الإنجيل فقال عز وجل: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}، فجعل تارك الحكم بالتوراة ظالماً وبالإنجيل فاسقاً وبالقرآن كافراً، فرقاً بين الحكم بالقرآن والحكم بالتوراة والإنجيل.
شرف آخر-39
1396- وهو أنه عز وجل جعل التشديد والثقل على الأمم المتقدمة، وجعل التسهيل والتيسير للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته فقال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} الآية، وقال: {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً}، فجعل اليسرين مع عسر واحد.(4/124)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لن يغلب عسر يسرين، ذلك أن العسر ذكره مرتين ومعناه مرة واحدة، لذكره إياه معرفاً بلام التعريف فهو مرة واحدة، أما اليسر فذكره منكراً، فيكون يسرين.(4/125)
وقال عز ذكره في التشديد على الأمم المتقدمة لموسى: {وكتبنا له في الألواح من كل شيءٍ موعظةً وتفصيلاً لكل شيءٍ فخذها بقوةٍ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} الآية، ثم قال: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلةٌ وظنوا أنه واقعٌ بهم خذوا ما آتيناكم بقوةٍ} الآية، وقال: {يا يحيى خذ الكتاب بقوةٍ} الآية.
وقال في صفة النبي صلى الله عليه وسلم : {نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين}، وقال في شأن أمته: {بل هو آياتٌ بيناتٌ في صدور الذين أوتوا العلم} الآية، ورفع عنهم تلك الشدائد والأغلال حيث قال: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} الآية.(4/126)
شرف آخر-40
1397- وهو أنه سبحانه جعل رزقه طيباً مما أعطاه إياه، ولم يفرق بين ملكه وملك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} الآية، وقال: {واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فان لله خمسه وللرسول} الآية، فجعل خمس الخمس من الغنيمة، وأربعة أخماس الفيء وخمس خمسه مخصوصان بطعمته صلى الله عليه وسلم ، وهي من أطيب الوجوه.
1398- قال صلى الله عليه وسلم : جعل رزقي في ظل سيفي، وقال للأنبياء عليه السلام: {كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً}، فبعضهم يكتسب وبعضهم يرعى بأجره، وغير ذلك.(4/127)
شرف آخر-41
1399- وهو أن الملائكة كانت تنزل وتحارب العدو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .(4/128)
وقد ذكر الله محاربة الأنبياء مع أعدائهم ولم يذكر إنزال الملائكة فقال: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى} إلى أن قال: {وقتل داود جالوت} الآية، وذكر موسى ولم يذكر إنزال الملائكة وأنها قاتلت معه.
وذكر محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقال: {يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} الآية، وقال في موضع آخر: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} الآية، وقال جل ذكره: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلافٍ من الملائكة مسومين} الآية، وقال: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين} الآية، وقال: {وأنزل جنوداً لم تروها} الآية، فذكر الملائكة ولم يكن ذلك إلا له صلى الله عليه وسلم .
1400- وروي: أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحزاب وضع لأمته وسلاحه، فنزل جبريل عليه السلام وقال: يا محمد، أتضع سلاحك ونحن معشر الملائكة لم نضع الأسلحة؟! فخرج إلى بني قريظة وبني النضير.(4/129)
1401- وروي أن بعض الصحابة قال: يا رسول الله شددت على رجل من المشركين لأقتله فسمعت صوتاً من الهواء يقول: أقدم حيزوم، فسبقني وقتل الرجل، قلت: فمن حيزوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم : .. ..(4/130)
حتى أسأل جبريل عليه السلام، فلما نزل سأله عنه فقال: ما كل خلق الله أعرفه، فهذه منقبة ومنزلة لم تذكر لأحد من الأنبياء قبله دل على شرف منزلته.
1402- وروي عن بعض الصحابة أنه قال: كنا نقصد الرجل من المشركين فقبل أن تصل إليه سيوفنا نرى رأسه ملقى بين أيدينا.(4/131)
شرف آخر -42
1403- وهو انتصار الله له ممن يؤذيه -وإن كانت امرأة- لأن الله تعالى ذكر امرأة نوح وامرأة لوط فقال: {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوحٍ وامرأت لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً} الآية، فذكر الله خيانتهما والأذى بلسانيهما، ولا يجوز لامرأة نبي أن ترتكب المحظور، أما امرأة نوح فكانت تقول: هذا مجنون، وأما امرأة لوط فكانت تخبر المشركين بأضيافه.
فلما ذكر الله تبارك وتعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرٌ} زجراً لنسائه عن التظاهر عليه، ومراجعته ومخالفته، ورفعة لمنزلته صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشةٍ مبينةٍ يضاعف لها العذاب ضعفين} إلى قوله: {وأعتدنا لها رزقاً كريماً}، وقال: {يا نساء النبي لستن كأحدٍ من النساء إن اتقيتن} إلى قوله: {وقلن قولاً معروفاً} الآية، وقال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} الآية.(4/132)
شرف آخر -43
1404- في قوله عز وجل: {إنا أعطيناك الكوثر} الآية، وقوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} الآية، يحمده الأولون والآخرون لأن ذلك مقام الشفاعة، .. ..(4/133)
والكوثر نهر في الجنة، وفيه أن بعض الكفار عابه بأنه أبتر وينقطع ذكره عند موته فأحزن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية تسلية له، ثم قال في آخر السورة بعد أن قال: {فصل لربك وانحر} الآية، اشتغل بي، واشكر لي ولا تجبهم فإني أجيبهم عنك إن الذي عابك هو الأبتر، وهذا كما قال: {ن والقلم وما يسطرون. ما أنت بنعمة ربك بمجنون} الآية، لما عابوه بأنه كاهن ومجنون، وكما قال بعد القسم: {والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى} الآية، وذلك حين زعمت الجهال عند انقطاع الوحي عنه أياماً تأديباً له وتهذيباً لأخلاقه، قالوا: إن محمداً قلاه ربه فقال: {ما ودعك ربك وما قلى}، فأجابهم كما شاء.(4/134)
1405- فمنهم أبو لهب حين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة بمكة وجمع قريشاً فقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا! تباً لك.
فأنزل الله تعالى وأجابه عنه فقال: {تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى ناراً ذات لهبٍ. وامرأته حمالة الحطب. في جيدها حبلٌ من مسدٍ}، فذكره وذكر امرأته وأجابه بواحدة ستة.
شرف آخر -44
1406- وهو أن الله تعالى جعله رحمة للناس ورحمة للعالمين فقال: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} الآية، {وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً} الآية، ثم بين ما للمؤمنين وما للكافرين فقال: {كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} الآية، وقال: {وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها} الآية.
فجعله سبباً لنجاة المؤمنين، ثم لما نجاهم وأنقذهم لا يردهم إلى النار، هذا للمؤمنين. وقال للكافرين: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} الآية، يعني: ما دمت نبيهم يا محمد فإن الله لا يعذبهم، ولا يعذبهم أيضاً وفي أصلابهم(4/135)
مؤمن يستغفر، وذلك حين ذكر المتقدمين من الكفار فقال: {فكلاً أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم} الآية، وذكر موسى وما دعا على قومه: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم} الآية، ففعل وجعل سكرهم حجراً، وأنزل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع، فلما قال جهال قريش: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} الآية، قال الله عز وجل: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} الآية، وهذا بين في رحمته للمؤمنين والكافرين، وشرف لا يشاركه فيه أحد من الأنبياء.(4/136)
شرف آخر -45
1407- قوله عز وجل: {والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحيٌ يوحى} الآية، وذلك حين قالوا: إنه ليس بوحي وإنه لسحر، فأقسم سبحانه بالنجم الذي في السماء.
شرف آخر -46
1408- وهو في قوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى} الآية، يعني: بل هو أدنى من ذلك، وهذه مرتبة خص الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم ، لم يشركه فيها أحد من أنبيائه، وليس المراد هنا تقريب المكان وإنما هو تقريب الجاه، يقال: فلان قريب من فلان ينظره بعينه، أراد جاهه عنده.(4/138)
شرف آخر-47
1409- وهو أن الله تعالى حكم له بتمام الأعمال، وجعل الزيادة نافلة له فقال عز من قائل: {ومن الليل فتهجد به نافلةً لك} الآية، والنافلة لا تكون إلا زيادة على الفرض، وذكر إبراهيم فقال: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن} الآية، وقال: {وإبراهيم الذي وفى} الآية، ولم يذكر الإتمام لأحد غير إبراهيم وزاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم .(4/139)
شرف آخر-48
1410- وهو أنه سبحانه أمر الأنبياء المتقدمين بالبشارة به قبل بعثته، وجعل نبوته ممتدة إلى قيام الساعة، فقال حاكياً عن عيسى عليه السلام: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد} الآية، وقد علمنا أن نبوة النبي المتقدم تكون إلى خروج النبي المتأخر، ثم لما لم يكن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي لقوله تعالى: {وخاتم النبيين}، وقوله معلماً رسوله: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} الآية، كان الإنذار قائماً إلى يوم القيامة، قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} الآية.
شرف آخر-49
1411- وهو أن الله تعالى جعل أمته خير الأمم لكون نبيها خير الأنبياء، فقال تعالى: {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس} الآية، ولم يذكر هذا التفضيل لأمة من الأمم، وإن مدح قوماً فإنما مدح طائفة فقال عز وجل:(4/140)
{ومن قوم موسى أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون} الآية، ولم يمدح الله عز وجل من مدح الأقوام إلا على التخصيص، وعم بالفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يخص، فصار ذلك فضيلة له على الأنبياء قبله.
شرف آخر-50
1412- وهو أن الله تعالى جعل القرآن شرفاً له ولقومه فقال: {وإنه لذكرٌ لك ولقومك} الآية، وقال: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم} الآية، يعني: شرفكم، ونزل القرآن بلسانهم فقال: {إنا جعلناه قرآناً عربياً} الآية، وقال: {بلسانٍ عربي مبينٍ} الآية، إكراماً له وإبانة لفضله ودرجته صلى الله عليه وسلم .(4/141)
1413- ويروى عن سفيان بن عيينة في تفسير هذه الآية أنه قال: يسأل الرجل فيقال: من أين أنت؟ فيقول: من العرب، فيقال: من أي قبيلة؟ فيقول: من حي من قريش، فيقال: كفى بقريش شرفاً أن أنزل الله القرآن بلسانهم ولغتهم.
شرف آخر-51
1414- وهو أن الله جعل أمته ذوي العقول والألباب ورسوله صلى الله عليه وسلم أكثرهم عقلاً، قال تعالى: {واتقون يا أولي الألباب}، وقال: {إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب}.
وذكر تعالى الأمم السالفة فقال في قصة أصحاب موسى: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم} الآية،(4/142)
فكان ينزل عليهم الطير المشوي والترنجبين الأبيض، فقالوا: {لن نصبر على طعامٍ واحدٍ فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها} قال موسى عليه السلام: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ} الآية، استصغر عقولهم، وقالوا حين رأوا الأصنام في قوله: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قومٍ يعكفون على أصنامٍ لهم} قال موسى: {إنكم قومٌ تجهلون} الآية، ولم ينكر الله على موسى عليه السلام ولا رد عليه لأن الله تعالى أهلك عدوهم فرعون ونجاهم من الغرق فطلبوا بعد ذلك صنماً يعبدونه.
ولما غاب موسى ووعدهم أربعين ليلة أخطأوا العدد، ولبس عليهم السامري فقال: عشرين يوماً وعشرين ليلة، واتخذ لهم العجل فعبدوه.
وكذلك لما أراد موسى عليه السلام أن يدخل أرض العمالقة، وعلم أصحابه قوة بطش العدو، قالوا لموسى: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} الآية.
1415- ولم يحك الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذا، بل لما أراد الخروج إلى الغزو قال له أصحابه: لا نقول لك اذهب أنت وربك كما(4/143)
قال أصحاب موسى، بل نقول: نحن معك براً وبحراً، ونفديك بآبائنا وأمهاتنا.
1416- ومن قوة عقولهم قول عمر رضي الله عنه لما أتى الحجر الأسود للاستلام قال: اللهم إني أعلم أن هذا الحجر لا يضر ولا ينفع ولولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله ما قبلته.
1417- ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قام أبو بكر فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
وكانوا رضوان الله عليهم يبذلون أرواحهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياتهم، فمن ذلك:(4/144)
1418- نوم علي رضي الله عنه على فراشه لما قصده المشركون.
1419- وكان أصحابه صلى الله عليه وسلم يبايعونه في المنشط والمكره، والنساء يقدمنه على آبائهن وأقاربهن، وفي قصة حمنة بنت جحش لما قتل أخوها وزوجها وأبوها يوم أحد أنها طلبت أباها فقيل: قتل، فطلبت أخاها فقيل: قتل، فقالت: أين زوجي؟ فقيل: قتل، فقالت: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالوا: ها هو هنا، فقالت: كل المصائب جلل بعد أن سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم .(4/145)
شرف آخر-52
1420- وهو أن الله تعالى ذكر أصحاب الجنة من الأمم التي تقدمت فقالت: {ثلةٌ من الأولين. وقليلٌ من الآخرين}، فجعل أمته من أهل الجنة أقل من الأمم قبله.
1421- فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، أترضى أن يكون ثلة من الأولين وقليل من الآخرين؟ فراجع صلى الله عليه وسلم ربه حتى سوى الله أمته أمماً قبلها، فقال: {ثلةٌ من الأولين. وثلةٌ من الآخرين}، ثم زاد له تعالى.(4/146)
1422- حتى قال صلى الله عليه وسلم : إن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً، ثمانون منها من أمتي، وأربعون من سائر الأمم.
1423- وقال صلى الله عليه وسلم حين ذكر القيامة: أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة.(4/147)
شرف آخر-53
1424- وهو فيما خصه الله من تعجيل العذاب على من يعاديه، قال تعالى: {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين}، ودعاهم إلى شيء معاين ووعد كل طائفة من أعدائه نوعاً من العذاب.
1425- فأما أبو جهل فإنه حلف لئن رأى محمداً صلى الله عليه وسلم ليطأن على عنقه، فجاء جبريل عليه السلام وقال: انطلق يا محمد علانية حتى تدخل الحجر فاقرأ: {باسم ربك الذي خلق}، فإذا قرأت وفرغت فاسجد ولا ترفع رأسك حتى يأتيك. فانطلق صلى الله عليه وسلم فقيل لأبي جهل: هذا محمد ساجد في الحجر، فقام مسرعاً إلى باب الحجر فوقف ونكص رأسه، فقال له أصحابه: ما لك لا تتقدم؟ قال: إن بيني وبينه فحلاً فاتح فاه لو دخلت لالتقمني، ورجع هارباً، وقام صلى الله عليه وسلم وقال: لو دنا مني لاختطفته الملائكة.
1426- وروي أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يدعو اليهود للمباهلة، قال الشعبي:(4/148)
كان أهل نجران من النصارى يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ} الآية، إلى قوله: {فنجعل لعنة الله على الكاذبين} الآية، فتواعدوا أن يلاعنوه من الغد، فانطلق أهل نجران إلى السيد والعاقب -أحباراً لهم- فبايعوا وذهبوا إلى رجل من كبرائهم وذكروا القصة، فقال: لا تفعلوا، قالوا: كيف نفعل وقد وعدناه غداً؟ قال: إذا غدوتم عليه وعرض عليكم الذي فارقتموه عليه، فقولوا: نعوذ بالله، فلعله يعافيكم، فلما غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قام صلى الله عليه وسلم ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين رفعوا ظهور أكفهم إلى السماء، فقال أسقفٌ للنصارى لمعشر أهل نجران: إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل الجبل من مكانه لفعل فلا تبتهلوا فتهلكوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي بعثني بالحق لو مضوا على الابتهال لمسخوا قردة وخنازير، ولقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو تمموا الملاعنة.(4/149)
1427- وكذلك في قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} الآية، قال: ثم جاء جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين} الآية، الوليد ابن المغيرة، والحارث بن عيطلة، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن عبد المطلب.
قال: أتاه جبريل، فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراه الوليد بن المغيرة فأومأ جبريل عليه السلام إلى أكحله، قال: ما صنعت؟ قال: كفيتكه، ثم أراه الأسود بن عبد المطلب، فأومأ إلى عينيه، فقال: ما صنعت؟ قال: كفيتكه.
قال: فأما الوليد بن المغيرة فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً له فأصاب أكحله فقطعها، وأما الأسود بن عبد المطلب فمنهم من يقول: عمي، ومنهم من يقول: نزل تحت شجرة فجعل يقول: يا بني ألا تدفعون عني؟ قد قتلت، ها هو ذا يطعن بالشوك في عيني، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً، فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه.
وأما الأسود بن عبد يغوث الزهري فخرجت في رأسه قروح فمات منها.(4/150)
وأما الحارث بن عيطلة فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خراءه من فيه فمات منها.
وأما العاص بن وائل السهمي فبينما هو كذلك يوماً إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت منها، فمات منها.
شرف آخر-54
1428- وهو أن الله تعالى أطلع نبيه على ما يحدث ويكون، قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً. إلا من ارتضى من رسولٍ} الآية، فأعلمه بما يكون، وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه} الآية، فأعلمه كيف يحارب من يرتد عن الإسلام، ثم أطلعه على ما لم يطلع عليه غيره، حتى قال صلى الله عليه وسلم لعلي: إنك تحارب المارقين والناكثين.(4/151)
1429- وقال صلى الله عليه وسلم : إن جبريل نفخ في روعي -يعني:- ففهمت كل شيء.
1430- وفي حديث: إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب.(4/153)
شرف آخر-55
1431- وهو أن الله لعن من آذى رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً} الآية، فأخبر أن من آذى رسوله استحق اللعنة مع ما أعد له من العذاب في(4/154)
الآخرة، وذكر الأنبياء والأمم قبله، فقال: {ولقد كذبت رسلٌ من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى آتاهم نصرنا} الآية، لم يذكر اللعنة.
1432- ولما قال بعض الصحابة: لأنكحن فلانة -لبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، أنزل الله سبحانه وتعالى الآيات: {يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعامٍ غير ناظرين إناه} الآية،(4/155)
إلى قوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً} ثم قال تعالى بعد ذلك: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} الآيات، إلى قوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً}.
1433- ومن فضله صلى الله عليه وسلم : أنه لما قذف المنافقون بعض أزواجه أنزل الله فيه ثمانية عشر آية، فقال عز وجل: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبةٌ منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خيرٌ لكم} الآية، إلى قوله تعالى: {أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ}.
شرف آخر-56
1434- وهو أن الله تعالى خفف عن أمته ما لم يخفف عن سائر الأمم فقال: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف} الآية، ثم جعل لهم العفو والترخص في شريعته عز وجل، فقال: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتباعٌ بالمعروف} الآية، فجعل للمجني عليه الخيار بين العفو والقتل وقبول الدية تبييناً لفضيلة محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته رحمة بهم، وقال سبحانه: {وما جعل عليكم في الدين من حرجٍ} الآية، ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} الآية.
1435- ثم قال صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.(4/156)
1436- عن محمد بن كعب القرظي، قال: ما بعث الله نبياً مرسلاً إلا أمره أن يعرض على أمته: {لله ما في السموات وما في الأرض} الآية، فكان إذا عرض عليهم قالوا: لا نستطيع أن يؤاخذنا الله بما توسوس به قلوبنا، فلما بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم أنزلها عليه فآمن بها، وعرضها على أصحابه فآمنوا بها، فخفف الله تعالى عنهم.(4/157)
فلما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وانتهى من القربى إلى الله بمكان كما قال عزت قدرته: {ثم دنا} محمد صلى الله عليه وسلم إلى ربه جل ذكره {فتدلى} فقرب بالجاه لا بالمكان، {فكان قاب قوسين} من قسي العرب {أو أدنى} بل أدنى {فأوحى إلى عبده} محمد صلى الله عليه وسلم {ما أوحى. ما كذب الفؤاد} فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم {ما رأى} الذي رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه، ويقال: ببصره، وهذا جواب القسم.
فلما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كذبوه، فنزل قوله تعالى: {أفتمارونه على ما يرى} أفتكذبونه على ما قد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن قرأت بالألف يقول: أتجاحدونه على ما قد رأى؟ {ولقد رآه نزلةً أخرى} مرة أخرى غير التي أخبركم بها {عند سدرة المنتهى} التي ينتهي إليها كل ملك مقرب ونبي مرسل، ويقال: ينتهي إليها علم كل ملك مقرب ونبي مرسل وعالم راسخ، {عندها} عند سدرة المنتهى {جنة المأوى} تأوي إليها أرواح الشهداء {إذ يغشى السدرة ما يغشى} ما يعلو: نور، ويقال: ملائكة، {ما زاغ البصر} ما مال بصر محمد صلى الله عليه وسلم يميناً وشمالاً مما رأى {وما طغى} ما تجاوز عما رأى.
فلما جاوز النبي صلى الله عليه وسلم السماوات السبع والحجب كان جبريل عليه السلام معه في كل ذلك، وانتهى إلى حجاب موقف جبريل عليه السلام، فوقف جبريل عليه السلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما لك يا جبريل وقفت؟ فقال: يا محمد، وما منا إلا له مقام معلوم، قد جاوزت من مقامي لجلالتك مقدار خمسمائة عام، تقدم فإنك أكرم على الله مني، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى يمين العرش، فوق السماء السابعة، {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} من عجائب(4/158)
ربه العظمى، فقال له الجليل جل جلاله: يا محمد، هل تدري ما الدرجات والحسنات؟
فالدرجات: إسباغ الوضوء في السبرات، والمشي على الأقدام في الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة.
والحسنات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : فتدلى قطرة من العرش على لساني فما ذاق الذائقون قط أحلى منها، فآتاني الله بها بيان علم الأولين والآخرين، فنادى جبريل عليه السلام: حي يا محمد ربك، فألهمني الله تعالى فقلت: التحيات لله والصلوات والطيبات، فأجابه الله تعالى بثلاثة أجوبة، فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون له كرامة لا يشاركه فيها أمته، فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فلما رأت الملائكة كرامته ومناجاته مع المولى بغير ترجمان قال كل واحد منهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
قال بعض العلماء: التحية: الملك، فمعنى التحيات لله، يعني: الملك لله، والصلوات: الخمس، والطيبات: الزكوات.
ثم قال الله عز وجل: {آمن الرسول} أي: صدق الرسول {بما أنزل إليه من ربه}، إلى قوله: {وإليك المصير}، فرفع الله تعالى عن أمته حديث أنفسهم بالمعصية فقال: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.(4/159)
1437- قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوا به أو يتكلموا، ولم يرفع عن أمة غيرها.
قال الله تعالى: يا محمد سل تعطه، فدعا لنفسه ولأمته فقال: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا} الطاعة، فقال الرب تبارك وتعالى: لا أؤاخذكم بالنسيان.
ألا ترى أن من أكل بالنسيان وهو لا يذكر لم يؤاخذ؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : {أو أخطأنا}، فقال الله تعالى: لا أؤاخذكم بالخطأ ولكن ما تتعمدون.
ألا ترى أن من قتل مؤمناً بالخطأ لم يقتص منه، لأنه مرفوع عنه، قال الله تعالى: {وليس عليكم جناحٌ فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} الآية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان.
ثم قال عز وجل: يا محمد سل تعط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} يعني شدة وجهداً، فقال الله جل جلاله: قد رفعت الإصر والشك عن أمتك، وذلك قوله عز وجل: {وما جعل عليكم في الدين من حرجٍ}، وقوله عز وجل: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}.(4/160)
وكان الإصر على بني إسرائيل في عشرة أشياء:
الأول: كانوا إذا أذنبوا ذنباً حرم عليهم طعاماً طيباً كما قال جل جلاله: {فبظلمٍ من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباتٍ أحلت لهم}.
والثاني: كان عليهم خمسون صلاة.
والثالث: عليهم الزكاة ربع المال.
والرابع: إذا أصابهم حدث من جنابة أو حيض أو نفاس ولا يجدون الماء كانوا نجساً رجساً ولا يطهرهم غير الماء.
والخامس: كان عليهم فريضة أن يصلوا في المساجد، ولا يجوز لهم الصلاة في غير المساجد.
والسادس: كانوا في صيامهم إذا صلوا العتمة وناموا حرم عليهم الطعام والشراب إلى الليل القابل.
والسابع: كان عليهم الجماع حراماً بعد صلاة العتمة والنوم.
والثامن: كان قبول صدقاتهم بالقربان مع الفضيحة إذا تصدقوا، إن قبله تعالى تجيء نار فتحرقه وإن لم يقبله الله لم تحرقه النار فيفتضح صاحبه.
والتاسع: كانت حسناتهم واحدة بواحدة.
والعاشر: كان فيهم مع الفضيحة، كانوا إذا أذنبوا ذنباً بالليل أصبحوا مكتوباً على باب دارهم وافتضحوا.
فكانت هذه الأشياء العشرة إصراً على بني إسرائيل.
فرفع الله جل جلاله عن هذه الأمة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا}.(4/161)
فقال عز وجل: يا محمد لا أحرم على أمتك الطيبات من الطعام بذنوبهم، بفضل دعوتك، كما حرمت على بني إسرائيل، وما حرمت على بني إسرائيل فقد حللته لك بفضلي، لقوله عز وجل: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم}.
يا محمد: لا آمر أمتك بخمسين صلاة كما أمرت بني إسرائيل، بفضل دعوتك، وأثيبهم بخمس صلوات ثواب خمسين صلاة بفضلي، لقوله عز وجل: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}.
يا محمد: لا آمر أمتك بإخراج ربع المال وهي الزكاة كما أمرت بني إسرائيل، بفضل دعوتك، وجعلت عليهم ربع عشر المال وأطهر مالهم بفضلي.
يا محمد: لا أدع أمتك في نجاسة الذنوب والحدث والجنابة والحيض والنفاس إذا لم يجدوا الماء كما كان لبني إسرائيل، بفضل دعوتك، جعلت طهارتهم من الجنابة والحدث بالتراب والتيمم بفضلي، لقوله عز وجل: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجٍ ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}.
يا محمد: لا أفسد صلاة أمتك إذا صلوا في غير المساجد بفضل دعوتك، جعلت صلاتهم في غير المساجد مقبولة بفضلي، لقوله عز جل: {فأينما تولوا فثم وجه الله}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً.(4/162)
يا محمد: لا أحرم على أمتك الطعام والشراب بعد صلاة العشاء والنوم كما حرمت على بني إسرائيل بفضل دعوتك، ورخصت لهم الأكل والشرب بفضلي، لقوله عز وجل: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} الآية، ورفعت أيضاً الحساب لما تأكل أمتك من الفطور والسحور بفضلي.
يا محمد: لا أحرم على أمتك الجماع بعد صلاة العشاء كما حرمت على بني إسرائيل بفضل دعوتك ورخصت لهم الجماع إلى أن يتبين الصبح بفضلي لقوله عز وجل: {فالآن باشروهن} الآية.
يا محمد: لا أجعل صدقات أمتك مع الفضيحة كما جعلت صدقات بني إسرائيل، بفضل دعوتك، وآخذ صدقاتهم بفضلي، لقوله عز وجل: {هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات}.
يا محمد: لا أجعل حسنات أمتك واحدة بواحدة كما جعلت حسنات بني إسرائيل، بفضل دعوتك، وأجعل حسنة واحدة عشرة وسبعين وألفي ألف بفضلي، لقوله عز وجل: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}.
يا محمد: لا أفضح أمتك بكتب الذنوب على أبوابهم كما فضحت بني إسرائيل، بفضل دعوتك، وأستر ذنوبهم من الخلائق والملائكة بفضلي.
فلم يبق شيء مما أعطى الله الأمم المتقدمة إلا وأعطى هذه الأمة، وجعل لك فضلاً وهو أن القرآن كتابك ظاهراً ولم تقرأ أمة كتابها ظاهراً، قال عز وجل: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}.(4/163)
وجعل أيضاً كتبهم منسوخة وكتابك ناسخاً فقال: {وإنه لكتابٌ عزيزٌ. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}.
وأمرهم بالدعوة وأمرك بالدعوة أيضاً حتى استويت معهم، ثم فضلك عليهم بالقتال، لقوله عز وجل: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}.
وأمرهم بالصلاة وأمرك أيضاً بالصلاة حتى استويت معهم، ثم فضلك عليهم بالجماعة لقوله عز وجل: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفةٌ منهم معك} الآية، وفضل الجماعة إذا بلغوا اثني عشر نفساً لا يدري فضلها أحد إلا الله، وجعل علامة صلاتهم الناقوس وعلامة صلاتك الأذان والإقامة.
وأمرهم بالصيام وأمرك بالصيام حتى استويت معهم، ثم فضلك عليهم بليلة القدر.
وجعل قبلتهم بيت المقدس وجعل قبلتك في أول الإسلام بيت المقدس حتى استويت معهم، ثم فضلك عليهم بصرفك إلى الكعبة قبلة إبراهيم.
وأعطاهم عمراً طويلاً، وعقلاً قليلاً، وأعطاك عمراً قصيراً، وعقلاً كثيراً.
وأخبرك بمساوئهم، ولم يخبرهم بمساوئك حتى بان فضلك عليهم بقدرته، فرفع الشدائد عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدعوته قال: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} الآية.
قال له: يا محمد سل تعط، فقال: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به}(4/164)
كما حملت بني إسرائيل من أنواع الأشياء، مثل تعجيل العقوبة إذا أذنبوا، وكانوا إذا أصابت أعضاءهم وثيابهم قذارة كان عليهم القطع ولا يجوز غسلها، وكانت عقوبتهم إذا أذنبوا أن يقتلوا أنفسهم، يقول لهم عز وجل: لا أغفر لكم حتى تقتلوا أنفسكم، لقوله عزت قدرته: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم}، وقال لهذه الأمة: إن لم تقتلوا أنفسكم أغفر لكم، لقوله عز اسمه: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً}.
فمعنى قوله تعالى: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} الآية، أي لا تجعل توبة أمتي بالقتل، فقال: جعلت لأمتك الندامة بفضلي، ورفعت قطع الثياب والأعضاء بذلك، ولا أعجلهم بالعذاب بفضلي، لقوله تعالى: {وربك الغفور ذو الرحمة} الآية.
ثم قال: يا محمد سل تعطه، فقال: {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا} الآية، فدعا بثلاث دعوات: الأولى: العفو، والثانية: المغفرة، والثالثة: بالرحمة، لأن الله عز وجل عذب قبل أمته ثلاث أمم، واحدة بالخسف، وهو قارون، قال تعالى: {فخسفنا به وبداره الأرض} الآية، وواحدة بالمسخ وهم قوم داود، لقوله عز وجل: {وجعل منهم القردة والخنازير} الآية، وواحدة بالقذف بالحجارة وهم قوم لوط، قال تعالى: {وأمطرنا عليم حجارةً من سجيل} الآية.
فخاف النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الخصال على أمته، فقال: واعف عنا من الخسف، قال الله تبارك وتعالى: لا أخسف بذاتهم الأرض بسؤالك ودعوتك، وأخسف بذنوبهم بفضلي، حتى لا يرى الملائكة والآدميون ذنوبهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : واغفر لنا من المسخ، فقال الرب عز وجل:(4/165)
لا أمسخ أبدانهم ولا أحوالهم من حال الإنسانية، وأمسخ ذنوبهم أي: أحولها إلى حسنات بفضلي، لقوله تعالى: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسناتٍ} الآية.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وارحمنا من القذف، فقال: لا أمطر عليهم الحجارة بدعوتك، وأمطر عليه الرحمة بفضلي.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : {فانصرنا على القوم الكافرين}؛ لأنا قليل وهم كثير مثل الشعرة البيضاء، في جنب الثور الأسود، قال الله عز وجل: أنا ناصرك وناصر أمتك يا صفيي وحبيبي، لقوله تعالى: {إن ينصركم الله} الآية.(4/166)
فأعطى الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم ما سأل وما لم يسأله أعطاه إياه أيضاً، فلم يدر النبي صلى الله عليه وسلم ما يسأل ربه من عبادة الملائكة القيام أو الركوع أم السجود أم التشهد.
فقال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : مر أمتك بالصلاة حتى يجتمع في صلواتهم عبادة الملائكة من العرش إلى الثرى إذا كبروا، فإذا كبروا أعطاهم الله ثواب المكبرين، وإذا ركعوا أعطاهم الله تعالى ثواب الراكعين، وهكذا في القيام، والقراءة، والسجود، والتشهد.
وبذلك أعطى الله النبي صلى الله عليه وسلم مراده وشهوته في أمته بفضله.
شرف آخر-57
1438- وهو أن الله خصه بعلامة يعرف بها شرف رسوله صلى الله عليه وسلم عند الدعاء إلى الصلوات، ولم يكن ذلك لنبي من أنبياء الأمم المتقدمة، إنما كان لهم قرن أو ناقوس، قال تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} الآية، تذكر حيث أذكر، وقال عز من قائل: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً} الآية.(4/167)
شرف آخر-58
1439- وهو أن الله تعالى غير قبلته عن قبلة الأنبياء قبله حيث غير، إذ قالوا: ألست تصلي إلى قبلتنا؟ فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء(4/168)
منتظراً جبريل عليه السلام أن ينزل فيخبره بما في قلبه، فنزل جبريل بقوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلةً ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام} الآية، وقال: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول} الآية، ولم يفعل ذلك بأحد قبله تبياناً لشرفه وحفظاً لجاهه جعله متبوعاً لا تابعاً.(4/169)
شرف آخر-59
1440- حيث رضي الله تبارك وتعالى عن أمته، ذكر الله رضاه عن أمته في مواضع فقال: {رضي الله عنهم ورضوا} الآية، وقال: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جناتٍ} الآية، إلى قوله: {ورضوانٌ من الله أكبر} الآية، وقال: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} الآية، وهذه الدرجة مما تمنت الأنبياء ذلك، أخبر الله عن موسى عليه السلام أنه قال حيث قيل له: {وما أعجلك عن قومك يا موسى. قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربي لترضى} الآية، فأخبر الله عز وجل أنه عليه السلام إنما عجل طلباً للرضى، ثم رأينا أن الله لم ينص في القرآن على إعطائه سؤله من الرضا، ولم يقل له إني قد رضيت عنك، كما فعل ذلك في سؤاله في غير الرضا حيث قال: {قد أوتيت سؤلك يا موسى}، ونص في الرضا عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بمتابعتهم إياه من غير إظهار مسألة منهم بالقول بل لطفاً منه بهم وفضلاً منه عليهم.
شرف آخر-60
1441- أعطى الله تبارك وتعالى محمداً وأمته فضلاً منه وإكراماً له ما تمنى موسى عليه السلام أن يعطاه ذلك بالسؤال، وذلك في قوله عز وجل: {واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة} إلى قوله:(4/170)
{أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنةً وفي الآخرة إنا هدنا إليك} الآية.
وذكر فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم عقيبه فقال: {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذي يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم} الآية، إلى قوله: {أولئك هم المفلحون} الآية.(4/171)
شرف آخر-61
1442- أن الله تعالى جعل لأنبيائه ورسله وأوليائه الاختيار لأنفسهم، أن يختاروا كيف شاءوا ولم يرض لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته الاختيار، بل تولى الله عز وجل الاختيار لهم وذلك في شأن قتل حمزة فعزم صلى الله عليه وسلم على أن يمثل بأربعين منهم إن أظفره الله بهم، فخيره الله بين العقوبة بالمثل أو الصبر وترك القود، ثم لم يتركه واختياره بل تولى له الاختيار فقال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين} الآية، ثم قال: {واصبر وما صبرك إلا بالله} الآية، فاختار له الصبر وترك القود.(4/172)
1443- وكذلك حين وقف على خيانة اليهود وما هموا به، فاختار الله له العفو عنهم والصفح فقال: {يحرفون الكلم عن مواضعه، ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنةٍ منهم} الآية، ثم ندبه إلى العفو فقال: {فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين}،(4/173)
ولم نجد الله تعالى فعل ذلك بأحد من الأنبياء قبله، بل وجدناه خلى بين الأنبياء وبين اختيارهم لأنفسهم فيما يعزمون عليه ويتخيرون فيه، فأخبر عن سليمان عليه السلام في شأن غيبة الهدهد عنه في وقت الحاجة منه إليه، وعزمه على ما عزم عليه، فقال: {وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين. لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطانٍ مبينٍ} الآية، ثم لم نجد الله اختار له ترك العقوبة ولا فرض عليه إيثار العفو بل وجدناه ساكتاً عن الاختيار له في ذلك، وكذلك وجدناه فعل بنوح عليه السلام في مقابلته فعل الكفرة بمثله، ولم نجده اختار له ترك ذلك فقال: {ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأٌ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم} الآية، ولم نجده اختار له الكف عن مقابلتهم والميل إلى الأحسن من العفو والصفح فيهم، وكذلك وجدناه فعل بيوسف في قوله لإخوته: {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون} الآية، ولم نجده اختار له ترك ذلك وأمره بإيفاء كيلهم إذ كان ذلك أحسن به وأجمل وأرفق بهم وأولى، بل تركهم كلهم، وإيثار ما يعزمون عليه من أفعالهم.(4/174)
شرف آخر-62
1444- وهو ما أحدث الله تعالى في السماوات من انشقاق القمر وإقامة الرصد من الشهب المانعة للجن والشياطين من استراق السمع، حكى الله عنهم في قوله عز وجل: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً}، وانشقاق القمر يجيء في المعجزات.
شرف آخر-63
1445- وهو أنه سبحانه زاده في النعم صلى الله عليه وسلم ، فعلمه الشكر زيادة على شكر الأنبياء، فقال فيما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} الآية، واقتصر على ذلك، ومدح نوحاً فقال: {إنه كان عبداً شكوراً} الآية، وعلمه فقال: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين} الآية.
ثم سوى الله بينه وبينهم فأعطاه ما أعطاهم فقال: {قل الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى آلله خيرٌ أما يشركون} الآية، ثم تمم له في مفتتح كتابه بـ {الحمد لله رب العالمين}، فقال: {وسلامٌ على المرسلين. والحمد لله رب العالمين} الآية، وقال: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} الآية، وقال: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} الآية.(4/175)
شرف آخر-64
1446- وهو أن الله تعالى ذكره خص كتابه بأسماء لم يجعل لكتب الأنبياء المتقدمين ذلك، فسماه قرآناً، وكتاباً، وكلاماً، وهدى، ورحمة، ونوراً، وفرقاناً، وشفاءً، وذكراً، وتبياناً، وحبلاً، وعهداً، وحكيماً، وعلماً، ومهيمناً، وصراطاً مستقيماً، وصحفاً مطهرة، وبياناً، وبلاغاً، وبشرى، وموعظة، ومباركاً، وذكر كتب الأنبياء عليهم السلام فقال: {إن هذا لفي الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى} الآية، وقال تعالى: {وآتينا داود زبوراً} الآية، وقال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونورٌ}، فلم يزد على اسم واسمين، فدلت كثرة الأسماء على جلالة الكتاب، وجلالة الكتاب بجلالة الرسول.
قال أبو سعد رحمه الله: فلا نقول بأن بعض الكلام أفضل من بعض إلا أن الله يثيب على البعض أكثر، وأما الفائدة في الاختصار ما روي أن بعض العلماء صنف في الحيض كتاباً في قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} الآية، وقع في أجزاء، فبلغ ذلك بعض المجوس فقال: أعلم أن كتابهم حق؛ حيث جعل الله فيه من البركة ما يصنف في نصف آية كتاباً مبسوطاً، وأسلم.(4/176)
شرف آخر-65
1447- قوله عز وجل: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلما نبأت به وأظهره الله عليه} الآية.
وكان صلى الله عليه وسلم أسر إلى حفصة كلمات منها: أن أباها وأبا عائشة يملكان من بعده أمته، فلم تتمالك من الفرح أن أخبرت عائشة سراً وأمرتها أن تكتمه فأظهره الله عليه وذلك قوله عز وجل: {قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير} الآية.(4/177)
شرف آخر-66
1448- قوله عز وجل: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} الآية، فهذا برهان ظاهر ودليل باهر على صدق القرآن، فإنه يقول هذا وهم يومئذ قليلون ذليلون يخافون ولا يخافون، فصار الأمر كما قال: فاستخلفهم في الأرض وملكهم على العباد، ومكن لهم في البلاد، وأعز لهم دينهم الذي ارتضى لهم وأبدلهم بعد الخوف أمناً يخافهم الأمم ولا يخافون أحداً إلا الله ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً.
1449- ولما قدمت الروم منهزمة على هرقل بأنطاكية، قال لهم: أخبروني ويلكم: هؤلاء الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا:(4/178)
بلى، قال: فما بالكم تنهزمون كلما لقيتموهم؟ فقال شيخ: من أجل أنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر، ونزني، ونرتكب الحرام، وننقض العهد، ونغصب ونظلم، ونأمر بما يسخط الله، وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض، قال: صدقت.
شرف آخر-67
1450- قوله تعالى لليهود: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس وباءوا بغضبٍ من الله وضربت عليهم المسكنة} الآية، ومصداق ذلك ما نراه عياناً في اليهود في كل مصر وفي كل عصر مذ قام الإسلام، فإنك تراهم أذل الكفار نفوساً، وأبذلهم هيبة، وقد كان لهم قبل ذلك ملك، كانوا يقتلون عند ذلك الأنبياء وزعموا أنهم قتلوا المسيح، ألا ترى أنهم كانوا في جزيرة العرب أعز من فيها كأهل خيبر وفدك وقريظة وغيرهم؟ ولا تراهم اليوم في أمة من الأمم إلا وعليهم الصغار والحقار، وإن كانوا ذوي الأموال وعليهم الجزية يؤدونها عن يد وهم صاغرون.(4/179)
[229] باب ذكر ما أقسم الله تعالى بنبيه في القرآن
قال الله عز وجل: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} الآية.
1451- قال ابن عباس: ما خلق الله نفساً هي أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أقسم بحياة أحد غيره.(4/180)
أقسم على هدايته فقال: {والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى} الآية.
وأقسم على رسالته فقال: {يس. والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين} الآية.
وأقسم على محبته فقال: {والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى} الآية.
وأقسم على شرف أخلاقه فقال: {ن والقلم وما يسطرون} الآية، إلى قوله: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ} الآية.(4/181)
1452- وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن.
1453- وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله عز وجل: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} الآية، فقال: صل من قطعك، واعط من حرمك، واعف عمن ظلمك.(4/182)
قال الأستاذ أبو سعد سلمه الله:
1454- سمعت أبا عبد الله -صاحب أبي عمرو الزجاجي- في المسجد الحرام يقول: قال أبو عمرو: هذه الفضيلة أعظم من قوله: {لعمرك}، لأن هذا مدح يرجع إلى صفته، وذلك ابتداء عطاء.
وأقسم على نزاهته من كل العلل، فقال جل جلاله وعظم شأنه: {فلا أقسم بما تبصرون. وما لا تبصرون. إنه لقول رسولٍ كريمٍ. وما هو بقول شاعرٍ قليلاً ما تؤمنون. ولا بقول كاهنٍ قليلاً ما تذكرون} الآية.
وأقسم أنه لم يكلفه ما كان يتحمل من العبادة فقال: {طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلا تذكرةً لمن يخشى} الآية.
وشهد له وأقسم على أنه رأى جبريل عليه السلام في السماء السابعة فقال: {فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس. والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس. إنه لقول رسولٍ كريمٍ. ذي قوةٍ عند ذي العرش مكينٍ. مطاعٍ ثم أمين. وما صاحبكم بمجنونٍ. ولقد رآه بالأفق المبين. وما هو على الغيب بضنين} الآية.
وأقسم أنه ينتقم ممن يؤذونه فقال: {كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية. ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئة} الآية.
وأقسم على أن عدوه لفي حزن وكيد فقال: {لا أقسم بهذا البلد. وأنت حلٌ بهذا البلد. ووالدٍ وما ولد. لقد خلقنا الإنسان في كبدٍ} الآية،(4/184)
قال: في أمر معاشه ومعاده.
وأقسم على بعد أعدائه من الله عز وجل فقال: {كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون} الآية.
وأقسم على صحة شريعته فقال: {والعصر. إن الإنسان لفي خسرٍ. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.(4/185)
[230] باب ما ذكر الله تعالى من أعضاء الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن
قال بعض أهل العلم:
1455- إن الله عز وجل ذكر أعضاء الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن محبة له ومدحاً.
فذكر نفسه فقال: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم} الآية.
وذكر وجهه فقال عز من قائل: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} الآية.
وذكر عينه فقال جل جلاله في سورة الحجر: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم}.(4/186)
وذكر بصره فقال: {ما زاغ البصر وما طغى} الآية.
وذكر أذنه فقال: {ويقولون هو أذنٌ قل أذن خيرٍ لكم} الآية.
وذكر قلبه فقال: {نزل به الروح الأمين. على قلبك} الآية.
وذكر نطقه فقال: {وما ينطق عن الهوى} الآية.
وذكر صدره فقال عز وجل: {فلا يكن في صدرك حرجٌ منه} الآية.
وقال تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} الآية.
وذكر فؤاده فقال: {ما كذب الفؤاد ما رأى} الآية.
وذكر لسانه فقال: {فإنما يسرناه بلسانك} الآية، وقال: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} الآية.
وذكر ظهره فقال: {الذي أنقض ظهرك} الآية.
وذكر يده فقال: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} الآية.
وذكر يمينه فقال: {لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين} الآية، وقال: {وما كنت تتلوا من قبله من كتابٍ ولا تخطه بيمينك} الآية.
وذكر رجله فقال سبحانه: {طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} الآية.(4/187)
وذكر صورته فقال: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمٍ} الآية.
وذكر خلقه فقال: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ} الآية.
وذكر عمره فقال: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} الآية.(4/188)
جامع أبواب فضل النبي صلى الله عليه وسلم(4/189)
[31] بابٌ جامعٌ في فضل النبي صلى الله عليه وسلم وما ورد من الدلالة على تفضيله على سائر الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
1456- حدثنا أبو إسحاق: إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي رضي الله عنه، أنا أبو العباس: محمد بن إسحاق السراج، .. ..(4/191)
ثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ومحمد بن عثمان بن كرامة، قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى، .. ..(4/192)
ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه قال:(4/193)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي كان قبلي، وأعطيت الشفاعة، وإنه ليس من نبي إلا وقد سأل شفاعته، وإني أخرت شفاعتي فجعلتها لمن مات لا يشرك بالله شيئاً.(4/194)
قال أبو سعد صاحب الكتاب عفا الله عنه:
فمما فضله الله تعالى به:
أن أعطاه خمساً لم يعطها أحداً من الخلق: بعثه إلى الجن والإنس إلى يوم القيامة، وإنما كانت الأنبياء يبعثون إلى قومهم وأرضهم، وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت له الغنائم ولم تكن حلالاً لمن قبله، ونصر على عدوه بالرعب مسيرة شهر، وأعطي الشفاعة دون النبيين في الآخرة، وذلك أن الله تعالى جعل لكل نبي دعوة في الدنيا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخرها إلى الآخرة لأمته، فهذه الخصال الخمس لم تكن لأحد من ولد آدم غيره.
كذلك مما فضله الله تعالى به مما لم يسبقه به نبي قبله:
1457- أنه أسرع الناس خروجاً من الأرض إذا بعثوا، وسيد النبيين إذا حشروا، وإمامهم إذا سجدوا، ومبشرهم إذا أبلسوا، وقائدهم إلى الجنة إذا وفدوا، وأقربهم مجلساً إذا اجتمعوا، يتكلم عند الرب(4/195)
فيصدقه، ويسأله فيعطيه، ويشفع فيشفعه، ويعطيه الحوض المورود، ويبعثه المقام المحمود، ومفاتيح الجنة بيده.
1458- روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون.
1459- وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها إلا في موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون من بنائه ويقولون: ما أحسن هذا القصر لو تمت هذه اللبنة، فكنت أنا تلك اللبنة.
ومما فضله الله تعالى به:
1460- أنه أول من يدعى، وأول من يشفع، وأول من يأخذ بحلقة باب الجنة، قد غفر الله له ما عمل وما يعمل كما قال تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} الآية.(4/196)
1461- وعلمه السيما كما أخبر سبحانه بقوله: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} الآية، فلم يتكلم بعد ذلك عنده أحد إلا عرفه بكلامه.
1462- أخبرنا أبو طاهر: أحمد بن محمد بن إسماعيل السفياني الهروي، نا أبو علي: الحسين بن إدريس الأنصاري، ثنا سليمان بن(4/197)
عبد العزيز المدني -من ولد عبد الرحمن بن عوف الزهري-، ثنا عبد الله بن نافع، ثنا المنكدر بن محمد، عن أبيه: عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
أنا سيد الناس يوم القيامة، والذي نفس أبي القاسم بيده ولا فخر، وأنا والذي نفس أبي القاسم بيده أول من يستشفع الجنة ولا فخر(4/198)
وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر.(4/199)
1463- وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فإذا بعضهم يقول: عجباً، إن الله اتخذ إبراهيم من خلقه خليلاً، فإبراهيم خليل الله، وقال الآخر: ماذا بأعجب من أن كلم الله موسى تكليماً، وقال الآخر: فعيسى كلمة الله وروحه، وقال آخر: وآدم اصطفاه الله.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم في إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجيه وهو كذلك، وعيسى كلمة الله وروحه وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك غلق الجنة ولا فخر،(4/200)
فيفتحها الله لي فأدخلها مع فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر.
1464- وروى كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل، فيكسوني ربي عز وجل حلة خضراء فأقول: ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود.
1465- وعن جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: من أنا؟ قلنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: نعم، ولكن من أنا؟ قلنا: أنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر.(4/201)
1466- وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا قائد المرسلين، وأنا خاتم النبيين، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر.
1467- وعن مقاتل بن سليمان قال: فضل الله محمداً صلى الله عليه وسلم على الناس، وفضل أمته على جميع الأمم لفضل منزلته عنده.(4/202)
قال: فكان مما فضل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم : أنه أسرع الناس خروجاً من الأرض يوم القيامة إذا بعثوا، وإمامهم إذا سجدوا، وخطيبهم إذا أنصتوا، وشافعهم إذا حبسوا، ومبشرهم إذا يئسوا، وقائدهم إلى الجنة إذا وفدوا، وأقربهم مجلساً من الرب إذا اجتمعوا، فيتكلم النبي صلى الله عليه وسلم عند الرب فيصدقه، ويعطيه الحوض المورود، والشفاعة المتقبلة، ويبعثه المقام المحمود، ولواء الكرامة ومفاتيح الجنة يومئذ بيده.
وقد اتخذه خليلاً، وكلمه تكليماً، وجعله حكيماً، وبعثه نبياً،(4/203)
وجعله شاهداً وغفر له ما تقدم من ذنبه، وغفر له ما لم يعمل وما هو عامل، وعلمه الأسماء، وزينه بالتقوى، ودنا إليه فتدلى(4/204)
عند سدرة المنتهى، ورآه بقلبه مرتين فذلك قوله عز وجل: {ما كذب الفؤاد ما رأى} الآية، وذلك بعد أن قال: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} الآية، وأعطاه مكان التوراة: السبع الطوال، ومكان الإنجيل: المثاني، ومكان الزبور: المئين، وفضله ربه بالحواميم والمفصل، وأعطاه جوامع الخير ومفاتحه، .. ..(4/205)
واسمه الأعظم، وخواتيم سورة البقرة وهي من كنز الرحمن،(4/206)
وأعطاه الكوثر وهو نهر في الجنة، حافتاه قباب الدر يكون أزواجه فيها، وذلك النهر يطرد مثل السهم، ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وطينته مسك أذفر.(4/207)
ومما فضله الله تعالى به:
1468- أن أعطاه الحكمة، وشرح له صدره، وحط عنه وزره، وبعثه في خير البقاع، ورفع له درجته في العالمين، فكلما ذكر الله تعالى ذكر صلى الله عليه وسلم معه يوم الجمعة، ويوم العيد، وفي مواقيت الحج والعمرة، وحول البيت، وفي السعي بين الصفا والمروة، وعند الجمار، وفي خطبة النساء، وفي الأذان والإقامة، وفي الصلاة في كل تشهد، وفي مشارق الأرض ومغاربها، وأنه لا يرد دعاء بين الصلاتين، وكلما ذكر الله ذكر معه فذلك قوله عز وجل: {ورفعنا لك ذكرك} الآية.
قال بعضهم: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم غير محصاة:
1469- فمنها: أنه سمي باسم مشتق من أسماء الله تعالى، وذلك يقتضي تفضيله على غيره، وفيه قد قيل:(4/208)
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وإنما سمي أحمد لأنه أحمد الأنبياء.
ومنها: أنه خص في المعراج بأعلى درجة.(4/209)
1470- ومنها: أنه خص -في قول بعض الصحابة- بالرؤية.(4/210)
ومنها: أنه رفع مقامه عن مقام جبريل وعن مقام ميكائيل وإسرافيل عليهما السلام.
ومنها: أنه ما ناجى به موسى عليه السلام صريح، وما ناجى به المصطفى صلى الله عليه وسلم مرموز، قال تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} الآية.
ومن ذلك: أن الأرض كانت تطوى له صلى الله عليه وسلم ، فيسرع أصحابه خلفه حتى تنقطع نعالهم، وتسقط أرديتهم، وإنه صلى الله عليه وسلم غير مكترث.
ومنها: ما خص به من الإمداد بالملائكة والقتال بين يديه.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم يرى من خلفه من الصفوف كما يرى من بين يديه،(4/211)
ولذا قال صلى الله عليه وسلم : أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعدي إذا ركعتم وسجدتم.
ومنها: أن شيطانه أسلم.
ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم أعطي في الجماع قوة خمسة وأربعين رجلاً.
ومنها: أنه جعل خاتم الأنبياء.
1471- وقال بعض العلماء: أعطى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم سبعة في الدنيا، وسبعة في الآخرة، وخص بسبعة أشياء في الجنة:
فأما الذي أعطاه الله إياها في الدنيا:
فبعثته إياه إلى جميع خلقه.
والثاني: أنه ختم به النبوة.
الثالث: جعل كتابه أشرف كتاب نزل من السماء، معجزاً في نظمه ومعناه، على قلة حروفه وصغر حجمه.
الرابع: جعل الله شريعته أيسر الشرائع.
1472- قال صلى الله عليه وسلم : بعثت بالحنيفية السمحة.(4/212)
الخامس: الجمعة والجماعات مثل العيدين ونحوهما.
السادس: الخطبة والآذان والإقامة.
السابع: كثرة الأمة.
وأما الذي أعطاه الله في الآخرة:
فمثل دخول الجنة، فهو صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع يوم القيامة.
وهو صلى الله عليه وسلم خطيبهم إذا أنصتوا، وإمامهم إذا سجدوا، وله الحوض، وبيده مفتاح الجنة ولواء الحمد.
وأما السبعة التي له في الجنة فأحدها:
1473- أن الجنة حرام على الأنبياء عليهم السلام حتى يدخلها هو وأمته.
وثانيها: أن له نهر الكوثر في الجنة، له سيلان في كل قصر.
1474- وثالثها: يزوج مريم بنت عمران.(4/213)
رابعها: يزوج آسية امرأة فرعون.
خامسها: يزوج أم كلثوم أخت موسى بنت عمران.
سادسها: يعطى الدرجة -الوسيلة-.
سابعها: له شجرة طوبى.
ومما فضله الله تعالى به:
1475- أنه ليلة أسري به مثل له النبيون فصلى بهم وهم خلفه يقتدون به.(4/214)
ومما فضله الله عز وجل به:
1476- أنه عاين تلك الليلة الجنة والنار، وعرج به إلى السماء، وسلمت عليه الملائكة، وعاين قوم موسى الذين هم وراء .. وذلك أن بني إسرائيل حتى عملوا المعاصي وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس دعوا ربهم وهم في الأرض المقدسة فقالوا: اللهم أخرجنا من بين أظهرهم، فاستجاب الله لهم فجعل لهم سرباً في الأرض فدخلوه، وجعل معهم نهراً يجري، وجعل لهم مصباحاً من نور بين أيديهم، فساروا فيه سنة ونصفاً، وذلك ستة آلاف فرسخ من بيت المقدس إلى منزلهم الذي هم به، فأخرجهم إلى أرض يجتمع فيها الهوام والبهائم والسباع مختلطة لأنها ليست فيهم ذنوب ولا معاصي، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ومعه جبريل فعلمهم الأذان والصلاة، وصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، وأخبروه أن موسى عليه السلام قد بشرهم به.
ومما فضله الله تعالى به:
1477- أن ملك الموت لما أتاه ليقبض روحه لم يدخل عليه إلا بإذن، ثم أمر الله ملك الموت عليه السلام أن يخير النبي صلى الله عليه وسلم بين تركه وقبض روحه(4/215)
فاستنظره النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يلقى جبريل عليه السلام، فخرج ملك الموت فلقيه جبريل فرده، فدخلا عليه جميعاً فخيره عليه السلام إما ميتة طيبة وإما حياة لا هرم فيها.
ومما فضله الله عز وجل به:
1478- أن إسرافيل هبط عليه ولم يهبط على أحد من الأنبياء، وكان جبريل عن يمينه فخيره بين أن يكون نبياً ملكاً أو عبداً، فأومأ إليه جبريل عليه السلام أن تواضع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نبياً عبداً.(4/216)
1479- وقال صلى الله عليه وسلم : رأيت بين عيني إسرافيل كل شيء أنزل علي قبل نزوله.
ومما فضله الله تعالى به:
1480- أنه رفع له الدنيا فنظر ما فيها إلى النفخة.(4/217)
ومما فضله الله تعالى به:
1481- أن السماء لم تكن تحرس، ولم تكن الشياطين ترم بالشهب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث صلى الله عليه وسلم حرست السماء بالملائكة، ورميت الشياطين بالشهب.
ومما فضله الله تعالى به:
1482- أن في الجنة درجة تسمى الوسيلة في أعلى عليين من الجنان، هي له خاصة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن في الجنة درجة لا ينالها إلا رجل واحد -يعني نفسه- وهي الوسيلة.
ومما دل على فضله صلى الله عليه وسلم :
1483- أنه سبحانه أعطاه الشفاعة، ووعده أن يبعثه يوم القيامة مقاماً محموداً، يكون كل نبي مشغولاً بنفسه، ويكون هو مهتماً بغيره، متشفعاً لأمته، قال تعالى: {وللآخرة خيرٌ لك من الأولى. ولسوف يعطيك ربك فترضى} الآية، قال: .. ..(4/218)
هو مقام الشفاعة، وكذلك قوله عز ذكره: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} الآية.
1484- روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: المقام المحمود هو الشفاعة.
فأعطاه الله بذلك مقامين تخصيصاً له: مقام قاب قوسين، والمقام المحمود لقوله عز وجل: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}.(4/219)
1485- قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم القيامة يوضع للأنبياء منابر، ولي منبراً، ومنبري أقرب إلى العرش من منابرهم، فتجلس الأنبياء صلوات الله عليهم على منابرهم، ولا أجلس على منبري لشغلي بأمتي، فيقال: أين النبي القرشي الأبطحي التهامي، صاحب التاج والباقة، صاحب الحوض والشفاعة، قم فتكلم في أمر أمتك حتى أعطيك ما وعدتك، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فأسجد عند عرش الرحمن، فأقول: يا رب أمتي أمتي، هب لي .. إلى آخر الحديث.(4/220)
1486- وقال صلى الله عليه وسلم : خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفل، أترونها للمتقين؟ لا ولكنها للمذنبين الخطائين المتلوثين.
1487- وقال صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، نظراً منه صلى الله عليه وسلم لأمته وشفقة عليهم.(4/221)
ومما فضله الله تعالى به:
1488- أن جعل نساءه وأولاده معه في الجنة، وجعل لهم الأجر مرتين، وضاعف حسناتهم فوق حسنات المؤمنات، وضرب عليهن الحجاب دون المسلمين.
ومما فضله الله تعالى به:
1489- أن الله تعالى صلى عليه، وأمر ملائكته أن يصلوا عليه، وفرض على أوليائه الذين في الأرض الصلاة عليه فقال: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}.(4/222)
ومما فضله الله تعالى به:
1490- أنه كان يستأذن رب العزة كل يوم سبعون ألف ملك ينظرون إليه في الأرض لما يعلمون من كرامته صلى الله عليه وسلم على الله تعالى.
ومما فضله الله تعالى به:
1491- أنه أتي بطعام من الجنة في قدر يقال له: الكفيت، فأكل منها أكلة فأعطي قوة أربعين.(4/223)
ومن ذلك:
1492- أن الرب عز وجل أطعمه بطعام من السماء، وما فضل منه رفع.
ومما فضله الله تعالى به:
1493- أنه بعث إليه وهو مسترضع في بني سعد بن بكر طائرين أبيضين، فوقع أحدهما على يمينه والآخر عن شماله، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، قال: ائتني بسجل من ثلج وسجل من برد وماء زمزم، فشق عن قلبه فغسله، ثم أعاده مكانه، فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم مما صنع ألماً، والتأم وبرأ من ساعته.
ومما فضله الله تعالى به:
1494- أنه نعته في التوراة: ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب(4/225)
بالأسواق، ولا يجزئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وأن مولده بمكة وهجرته إلى المدينة ومملكته إلى الشام.
ومما فضله الله تعالى به:
1495- أنه كان إذا حضرته الملائكة والمسلمون من الجن لا يعاينهم من الناس غيره.(4/226)
ومما فضله الله تعالى به:
1496- أن المنافقين كانوا يتغامزون به في الصلاة وهم خلفه، فجعل الله له بصراً في قلبه، حتى كان يرى من ورائه كما يرى من أمامه.(4/227)
ومما فضله الله تعالى به:
1497- أن الشيطان لم يسلط عليه.
ومما فضله الله تعالى به:
1498- أنه صلى الله عليه وسلم أمر جبريل عليه السلام أن يأمر مالكاً خازن النار أن يكشف باباً من أبواب النار فنظر إليها.(4/228)
ومما فضله الله تعالى به:
1499- أن إبليس اللعين أمر مارداً من مردة الشياطين فتمثل له في صورة جبريل عليه السلام ليوحي إليه، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه جبريل عليه السلام دفعة بيده ووقع من مكة إلى أرض الهند، فأنزل الله تعالى: {ذي قوةٍ عند ذي العرش مكينٍ} الآية، يعني: جبريل عليه السلام حين أوقعه بتلك الدفعة إلى أرض الهند.
ومما فضله الله تعالى به:
1500- أنه جعل ليلة القدر خير من ألف شهر، يستبشر بها حملة .. ..(4/229)
ومما فضله الله تعالى به:
1501- أنه سبحانه أخذ ميثاقه قبل النبيين، وأخذ ميثاقهم بالرضا والتصديق به.
ومما فضله الله تعالى به:
1502- أنه لا يدخل جنات عدن أحد قبله، وهي دار الرحمن وموضع عرشه، وجنة عدن قصبة الجنة، وهي مشرفة على الجنان، ولباب جنة عدن مصراعان من زمرد من نور يضيء ما بين المشرق والمغرب.
ومما فضله الله تعالى به:
1503- أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفتح له فتحاً مبيناً، ونصره نصراً عزيزاً، وهداه صراطاً مستقيماً.
1504- عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل عليه السلام، عن ربه تبارك وتعالى قال: إني مننت عليك بسبعة أشياء:
أولها: لم أخلق في السماوات والأرضين أكرم علي منك.
والثاني: أن مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي مشتاقون إليك وإلى أمتك.
والثالث: لم أعط أمتك مالاً كثيراً حتى لا يطول عليهم الحساب.
والرابع: لم أطول أعمارهم حتى لا تجتمع عليهم الذنوب كثيراً.(4/230)
والخامس: لم أعطهم من القوة كما أعطيت من قبلهم حتى لا يدعوا الربوبية، كما ادعت الأمم السابقة.
والسادس: أخرجتهم في آخر الزمان حتى لا يكون مقامهم تحت التراب كثيراً.
والسابع: لا أعاقب أمتك كما عاقبت بني إسرائيل، إذا أصابهم دم حيض في ثيابهم أمرت بقطعه ولا يجوز الغسل، وإذا أذنبوا ذنباً وجدوه مكتوباً على بابهم.
فالحمد لله الذي رفع عنا الإصر، وجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
1505- عن أنس بن مالك أنه قال: جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنت أكرم الخلق على الله أم آدم؟
قال: أنا ورب الكعبة؟
قال: قال اليهودي: كذبت ورب المتقدمين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا يهودي إن الله تبارك وتعالى أعطاني في أمتي(4/231)
خمساً لم يعط آدم -وإن آدم أبي- ولكني أعطيت ما لم يعط، وأنا أفضل منه ولا فخر ولا عجب.
قال اليهودي: وما هذه الخمس؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن آدم لما عصى الله أخرجه الله من جواره طريداً عطشان عرياناً، ولو عصى من أمتي أحدكم لم يمنعه من المساجد.
والثاني: سلب عنه الحلي والحلل، ولم يسلبها عن أمتي.
والثالث: فرق بينه وبين امرأته، ولم يفرق بين أمتي وبين أزواجهم.
والرابع: أظهر الله عليه خطيئته بقوله: {وعصى آدم ربه فغوى} الآية.
والخامس: لم يقبل الله توبته حتى بنى البيت المعمور وطاف حوله، وإن من أمتي من ذنوبه أكثر من زبد البحر، وقطر المطر، إذا ندم عليها واستغفر غفر الله له.
قال: صدقت يا محمد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسوله.
قال أبو سعد رحمه الله: فاشكر الله أن لم يمنعك عن قول لا إله إلا الله كما منع بني إسرائيل، وذلك أنهم لم يستطيعوا أن يقولوا: لا إله إلا الله حتى يعتزلوا النساء أربعين يوماً، ومع هذا منعهم عن أكل اللحم أربعين يوماً حتى يغسلوا أبدانهم، ويلبسوا لبساهم الجديد، ويخرجوا إلى الصحارى حتى أطلق الله ألسنتهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، موسى رسول الله، ونحن نرتكب المعاصي ونقول مع هذا - آناء الليل والنهار في السر والعلانية، في الخلأ والملأ: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال: أفيكون في الدنيا أحد أفضل منا؟ وبالله التوفيق.(4/232)
قال الله تعالى ذكره: {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} الآية.
1506- قال يحيى بن معاذ رحمه الله: هذه مدحة، ولم يكن الله يمدح قوماً ثم يعذبهم.
ومن فضل محمد صلى الله عليه وسلم وأمته:
أن الله تبارك وتعالى لما خلق اللوح والقلم، وجرى القلم بما يكون من سائر الأمم، ثم جرى بما يكون من الله إليهم، حتى فرغ من الأمم السالفة، فكتب ما يكون من إحسان الله لهذه الأمة فضاعف إحسان الله إلى هذه الأمة وحدها من إحسانه إلى سائر الأمم، ثم كتب ما يكون من خطايا هذه الأمة وعصيانهم إلى الله تعالى، وكانت خطاياهم تضاعف على خطايا الأمم كلها حتى أمر الله تعالى أن يجري على اللوح: أنها أمة يقتل ولدا نبيها -يعني: الحسن والحسين- قال: فتعجب القلم وتحير، فنظر الرب تبارك وتعالى إلى القلم، فانشق رأس القلم هيبة من الله، فمن ذلك أن القلم يشق رؤوسها، قال: فلما كتب القلم الخطايا قال الله: اكتب يا قلم: أمة مذنبة ورب غفور، قال القلم: إلهي لو علمت أنك تأمرني كتبة هذه الأحرف لم أبال كتبة الذنوب عليهم.(4/233)
[232] فصلٌ: في تفضيله صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء بأفضل الكتب
1507- ومما دل على فضل كتابه أنه عز وجل لم يصف كتاباً من الكتب بصفة الحق مثل ما وصف به هذا الكتاب.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه} الآية، وقال: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} الآية، وقال: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} الآية، وقال: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه} الآية، فخص كتابه باسم الحق، ولم يفعل ذلك بما قبله من الكتب، ألا ترى إلى قوله: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونورٌ} الآية، وقال: {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدىً ونورٌ ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدىً وموعظةً للمتقين} الآية، فلم يخص بصفة الحق في كثير من المواضع إلا كتاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان في ذلك ما يدل على فضله على سائر الكتب.
1508- ومما دل على فضله على سائر الكتب أيضاً: تسميته بالأسامي الرفيعة العالية منها:
1- أنه سماه قرآناً، لأنه يقرأ ويتلى، ويقال: القرآن: الجمع لقوله تعالى: {إن علينا جمعه وقرءانه. فإذا قرأناه فاتبع قرءانه} الآية.
2- وسمي فرقاناً، لأنه فرق بين الحق والباطل.
3- وسمي روحاً، لأن مكانه من الأرواح مكان الأرواح من الأجساد.(4/234)
4- وسمي نوراً، لأنه ضياء ونور القلوب، قال تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه} الآية.
5- وسماه كريماً، لأنه لا يلحقه كلام الآدميين.
6- وسماه عزيزاً، لأنه ممتنع، لا ينقاد لأحد من الخلق.
7- وسماه مجيداً، لأنه منتسب إليه جل جلاله.
8- وسماه مباركاً، لما فيه من عظيم البركة، قال تعالى: {وهذا ذكر مباركٌ أنزلناه} الآية.
9- وسماه حبل الله، فقال: {واعتصموا بحبل الله جميعاً} الآية.
10- وسماه حقاً، فقال: {وتواصوا بالحق} الآية، وقال: {لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} الآية.
11، 12- وسماه فضلاً ورحمة، فقال: {قل بفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا} الآية.
13- وسماه نعمة، فقال: {وأما بنعمة ربك فحدث} الآية.
14- وسماه نجماً، فقال: {والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى} الآية، وقال: {فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسمٌ لو تعلمون عظيمٌ. إنه لقرآنٌ كريمٌ. في كتابٍ مكنونٍ. لا يمسه إلا المطهرون} الآية.
15- وسماه ذكراً، فقال: {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربهم محدثٍ} الآية.(4/235)
ومن الدلالة على فضله صلى الله عليه وسلم وفضل كتابه على سائر الكتب: أن الله تبارك وتعالى تولى حفظه فقال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} الآية، فتعهد سبحانه بحفظه، ولم يجعل ذلك لكتاب نبي قط، بل إنه أمر سبحانه أهل الكتاب بحفظ كتبهم، ووكله إلى حفظهم فقال: {بما استحفظوا من كتاب الله} الآية، فلما رد الحفظ إليهم وقع فيه التبديل والتغيير، قال عز وجل: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله} الآية.
فضمن عز وجل لهذه الأمة أن يحفظ لها كتابها وقال: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ} الآية، وقال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً. إلا من ارتضى من رسولٍ فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً. ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيءٍ عدداً} الآية.
1509- ومما فضله الله تعالى به: أن أعطاه اسمه وأعطاه جوامع الخير: خواتيم سورة البقرة من كنوز عرش الرحمن.(4/236)
1510- وقال صلى الله عليه وسلم : أعطيت السبع الطوال مكان التوراة، وأعطيت المثاني مكان الإنجيل، وأعطيت المئين مكان الزبور، وفضلت بالمفصل.
قال أبو سعد رحمه الله: وتصديق هذا في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى: {أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} الآية.(4/238)
1511- ومما فضله الله تعالى به: أن جبريل عليه السلام أتاه بسورة الأنعام ومعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح والتحميد حتى كادت الأرض ترتج بهم، فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجداً.(4/239)
[233] باب ما أعطي النبي صلى الله عليه وسلم من الخصال وما خص به من الشريعة
1512- حدثنا أبو بكر: أحمد بن محمد بن يحيى المتكلم رحمه الله قال: حدثنا أبو محمد: أحمد بن علي بن الحسين القلانسي، ثنا مسلم بن الحجاج قال: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن(4/241)
حجر قالوا: حدثنا إسماعيل -وهو ابن جعفر- عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون.
1513- قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، عن مالك بن مغول [ح].
وحدثنا ابن نمير وأبو خيثمة: زهير بن حرب جميعاً عن عبد الله بن نمير وألفاظهم متقاربة.
قال ابن نمير: ثنا أبي، ثنا مالك بن مغول، عن الزبير بن عدي، عن طلحة، عن مرة، عن عبد الله قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى - وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال سبحانه: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} الآية، قال: فراش من ذهب.(4/242)
قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات.
قال أبو سعد رحمه الله:
خص النبي صلى الله عليه وسلم بستين خصلة فارق فيها جميع النبيين عليهم السلام.(4/243)
فمنها: عشر خصال من أمر الآخرة وبعد الموت وهي:
1- أنه صلى الله عليه وسلم أفضل المرسلين.
2- وأنه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.
3- وأنه صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض.
4- وأكثر النبيين أمة يوم القيامة.
5- وأنه صلى الله عليه وسلم يشهد لجميع الأنبياء بالأداء.
6- وله صلى الله عليه وسلم الشفاعة.
7- وله صلى الله عليه وسلم لواء الحمد.
8- وله صلى الله عليه وسلم الحوض المورود: نهر الكوثر.
9- وهو صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة.
10- وأنه صلى الله عليه وسلم يسأل عن غيره يوم القيامة، وكل الناس يسألون عن أنفسهم.
ومنها عشر في باب النبوة وهي:
11- تأييد شريعته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.(4/244)
12- وأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الخلق كافة.
13- وكون كتابه صلى الله عليه وسلم معجز، لا يمكن الإتيان بمثله.
14- وخص بخروج الماء من بين أصابعه.
15- وبليلة القدر.
16- وبيوم الجمعة عيداً له ولأمته.
17- وأنه صلى الله عليه وسلم ممنوع من قول الشعر، فلا يتأتى له قوله ولا روايته.(4/245)
18- وأنه صلى الله عليه وسلم كان يرى ما خلفه كما يرى ما بين يديه.
ومنها: عشر في باب الطهارة وهي:
19- كمال الوضوء.(4/247)
20- والتيمم.
21- ووجوب السواك عليه خاصة.
22 و23- وجعلت له الأرض مسجداً، وترابها طهوراً.
24- وكان صلى الله عليه وسلم ينام حتى يغط، ثم يصلي ولا يتوضأ، ويقول صلى الله عليه وسلم : تنام عيناي ولا ينام قلبي.(4/248)
25- وجعل له الماء مزيلاً للنجاسة.
26- وإن كثر الماء لا يؤثر فيه النجاسة.
27- والاستنجاء بالحجارة.
ومنها عشر في باب الصلاة، وهي:
28- أنه صلى الله عليه وسلم خص بصلاة العشاء الآخرة، ولم يكن لنبي قبله.
29- وبصلاة الجمعة.(4/249)
30- وبصلاة الجماعة.
31- وبصلاة العيدين.
32- وبصلاة الليل.(4/250)
33- وبصلاة الكسوفين.
34- وبصلاة الاستسقاء.
35- وبالأذان والإقامة.
36- وبالوتر.
ومنها: عشر في باب الجهاد وغيره:
37- أنه صلى الله عليه وسلم خص بإباحة الغنيمة، وكانت حراماً على من قبله.(4/251)
38- ونال صلى الله عليه وسلم صفية رضي الله عنها من رأس الغنيمة.
39- وأنه صلى الله عليه وسلم كان أفرس العالمين.(4/252)
40- وأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرجع إذا خرج للحرب.
41- وإذا لبس صلى الله عليه وسلم لأمته لم ينزعها حتى يقاتل.
42- ولا ينهزم إذا لقي العدو وإن كثر عليه العدد.(4/253)
43- وخص صلى الله عليه وسلم بالحمى، ويكون هو أفضل العالمين.(4/254)
44- وأبيح له الوصال في الصوم.
45- ولم يكن له صلى الله عليه وسلم خائنة الأعين.(4/255)
ومنها: عشر في باب النكاح، وهي:
46- أنه أبيح له صلى الله عليه وسلم البضع بلفظ الهبة لقوله عز وجل: {وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي} الآية، فله صلى الله عليه وسلم أن يعقد بلفظ الهبة.(4/256)
47- وخص صلى الله عليه وسلم بإسقاط المهر، فأبيح له البضع بلا بدل.
48- وبالنكاح بلا ولي ولا شهود، لأن الشهود يحتاج إليهم للاستيثاق وثبوت النسب، ولما يفارق الزنا، وكان صلى الله عليه وسلم معصوماً عن مثل ذلك.
49- وحرم الله نكاح أزواجه على الخلق من بعده، فقال عز وجل: {ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً} الآية.(4/257)
فإن قيل: حرم نساؤه على غيره، فلم أبيح بناته لغيره؟ الجواب: أن الإنسان تلحقه غضاضة أن يتزوج نساؤه من بعده، ويلحقه غضاضة أن لا تخطب بناته، فهذا هو الفرق بين المرأة والابنة، وقد حرم على الابن التزوج بامرأة الأب، وحرمته صلى الله عليه وسلم آكد.
50- ووجبت لهن النفقة بعد موته.
51- وإذا ابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم القسم لبعض نسائه فقيل: إن له ألا يقسم للباقيات.(4/258)
52- وقيل: إذا وطئ صلوات الله وسلامه عليه جارية بملك اليمين لا تثبت الحرمة في أمها وابنتها حتى لا يجوز الجمع بينهما.(4/259)
53- وكان له صلى الله عليه وسلم أن يخطب على خطبة أخيه، وكان له أن يتزوج بأكثر من أربع، وكان طلاقه زائداً.
54- وكان له صلى الله عليه وسلم إذا طلق امرأة بائنة ثم بدا له، كان لا يحتاج أن يتوسطه زوج آخر، وله أن يخطبها ثانياً قبل أن تزوج.
55- وفرض عليه صلى الله عليه وسلم التخيير بين أزواجه.
56- ثم حظر عليه التزوج عليهن والاستبدال بهن لقول الله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواجٍ} الآية، لأنهن خيرن فاخترن المقام معه على الشدة والفقر، فعوضهن الله تعالى على ذلك(4/260)
بأن حرم على النبي صلى الله عليه وسلم التزوج بغيرهن من أمثالهن على الغيرة، وقيل: بل أبيح له بعد ذلك من العدد ما شاء.
57- وكان صلى الله عليه وسلم كفؤاً لأي أحد وإن كانت شريفة، فإذا تزوج صلى الله عليه وسلم بولي فاسق أو أعمى جاز ذلك، وكذلك إذا كان أخرس.
58- ومما خص به صلى الله عليه وسلم أن حرم الله عليه نكاح الإماء أبداً.(4/261)
59- وحرم عليه تزوج الذميات، لأن الله أخبر أن المشركين نجس، فحظر عليه معاشرتهن، وقد قال صلى الله عليه وسلم : كل سبب ونسب ينقطع .. .. الحديث، والزوجة اتصالها بالنسب.(4/262)
قال بعض أهل النظر في قوله تعالى: {يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً} الآية، قال: في هذه الآية دليل على أنه لا يجوز له صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بكافرة، لأنه سبحانه لم يرض لأزواجه أن يكن ممن يردن الحياة الدنيا وزينتها، فبأن لا يرض لهن الكفر والشرك من باب أولى، فكان في هذا ما دل على فضله صلى الله عليه وسلم على الأنبياء قبله إذ كانوا صلوات الله عليهم أجمعين غير ممنوعين من نكاح الكوافر، قال الله عز وجل: {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوحٍ وامرأت لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين} الآية.
60- ومما خص به صلى الله عليه وسلم أن الواحدة من نسائه إذا أتت بفاحشة ضعف لها العذاب، قال أبو سعد: فذلك ستون خصلة باين بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع الخلق، والله أعلم.(4/264)
[234] فصلٌ جامعٌ في خصائصه صلى الله عليه وسلم
61- وكان يجب عليه صلى الله عليه وسلم حفظ أموال المسلمين إذا عدموا النفقة.
62- ووجب عليه صلى الله عليه وسلم صلاة الليل، والوتر، والسواك.(4/265)
63- ويحرم عليه صلى الله عليه وسلم صدقة الفريضة، وصدقة التطوع، وخائنة الأعين.
64- ولم يكن له صلى الله عليه وسلم إذا سمع بمنكر ترك النكير، .. ..(4/266)
وليس له صلى الله عليه وسلم نكير، ولا أن يتعلم الشعر.
65- وكلف وحده صلى الله عليه وسلم من العلم ما كلف الناس بأجمعهم.
66- وأن يستغفر الله في كل يوم سبعين مرة.(4/267)
67- وكان صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.
68- وكان صلى الله عليه وسلم لا يأكل متكئاً، وقال صلى الله عليه وسلم : أما أنا فلا آكل متكئاً.
69- وكان صلى الله عليه وسلم لا يأكل الثوم والبصل والكراث، وقال صلى الله عليه وسلم : إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.(4/268)
70- وكان صلى الله عليه وسلم لا يأكل الضب، وقال صلى الله عليه وسلم : إني أعافه لأنه لم يكن بأرض قومي.(4/269)
71- ولا يصلي صلى الله عليه وسلم على من عليه دين.(4/270)
72- وأبيح له صلى الله عليه وسلم النكاح في الإحرام، والحمى له صلى الله عليه وسلم خاص.
73- وأحلت له صلى الله عليه وسلم مكة، وقال: لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من النهار.(4/271)
74- وجعل له صلى الله عليه وسلم أن يحرم المدينة -ما بين لابتيها-.
75- وأحل له صلى الله عليه وسلم التقبيل والوصال في الصوم.
76- وكان صلى الله عليه وسلم ينام حتى يغط، ثم يصلي ولا يتوضأ.(4/272)
77- وكانت صلاة تطوعه صلى الله عليه وسلم قاعداً لغير علة كصلاته قائماً، ولا ينقص من أجره شيء إن شاء الله.(4/273)
78- وأبيح له صلى الله عليه وسلم أن يدعو المصلي فيجيبه وهو في الصلاة.
79- وأن الميت يسأل عنه صلى الله عليه وسلم في القبر.
80- خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل يدعو ومعه أبو رافع، فدعا ما شاء الله، ثم انصرف منقلباً، فمر على قبر فقال: أف، أف، أف -ثلاثاً- فقال أبو رافع: يا نبي الله بأبي وأمي ما بك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا، ولكني أففت من صاحب هذا القبر، سئل عني فشك!.(4/274)
81- وكان صلى الله عليه وسلم لا يورث، كان ماله بعد موته صلى الله عليه وسلم صدقة.(4/275)
82- وأبيح له صلى الله عليه وسلم دخول المسجد جنباً.
83- وأبيح له صلى الله عليه وسلم الحكم لنفسه، وكذلك أبيح له أن يحكم لولده.(4/276)
84- وقسم شعره صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وكان طاهراً.
85- وشرب بوله ودمه صلى الله عليه وسلم ، فقال لصاحب البول: لا يتجع بطنك، وقال لصاحب الدم: حرم لحمك على النار، وقال: ويل لك من الناس، وويل للناس منك.(4/277)
[235] فصلٌ: ذكر ما كان له صلى الله عليه وسلم من الفيء والغنيمة
كان صلى الله عليه وسلم يأخذ خمس خمس الغنيمة والفيء، وذلك ما شاء: عبداً أو أمة أو فرساً أو غير ذلك، ثم يقسم الباقي.
وأما خمسه فكان يحبس منه لعياله قوت سنة، يدفع إلى كل امرأة من نسائه مائة وسق: ثمانين تمراً، وعشرين شعيراً.
وأما الفيء فكان صلى الله عليه وسلم يصرفه في مثل ذلك، فكان له صلى الله عليه وسلم أربعة أخماس الفيء مخصوصاً به، وهو ما يقوم به الولاة من الأموال، وجملة ذلك ثلاثة: أموال الصدقات، والفيء، والغنائم.
فالصدقات لأهلها، وهي ثمانية أصناف:
فثلاثة يأخذون وإن كانوا أغنياء، وهم: العاملون، والمؤلفة، والغارمون إذا عملوا لإصلاح ذات البين وهم أغنياء، وقيل أيضاً: الغازي، والباقون يدفع إليهم إن كانوا فقراء.(4/278)
وثلاثة يدفع إليهم بغير بينة: وهم الفقراء، والمساكين، وابن السبيل.
والباقون لا يدفع إليهم إلا ببينة، ومن لم يوجد رجع سهمه على باقي أهل السهمان.
وأما الغنيمة فإنها تخمس: فأربعة أخماسها للغانمين، وخمسها يقسم على خمسة أيضاً، فيعزل سهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يدفع الباقي إلى ذوي القربى: سهم وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب أغنياء كانوا أو فقراء، للذكر سهمان وللأنثى سهم، وسهم ليتامى المسلمين الفقراء، وسهم لمساكين المسلمين، وسهم لابن السبيل، وهم المسافرون الفقراء، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفد في جميع ما يتم به مصلحة المسلمين من المساجد وأرزاق الحكام والفقهاء والأئمة والمؤذنين، والقراء، والثغور، والحصون ونحو ذلك.
وأما الفيء فكل ما أخذ من مشرك أو تركه المشرك أو هرب ونحو ذلك.
قال الشافعي رحمه الله: يقسم خمسه، وخمس خمسه على خمسة كخمس الغنيمة.
وأما أربعة أخماسه فقال في أحد قوليه: أنه لأهل الفيء خاصة، لأنهم يقومون مقامه صلى الله عليه وسلم في خوف العدو وتهيبه.
والقول الثاني: أنه يجري مجرى سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً من أهل العلم ممن تقدم الشافعي خمس الفيء أيضاً.(4/279)
[236] باب الموازاة
1515- أخبرنا أبو إسحاق: إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي،(4/280)
أنا أبو بكر: محمد بن حمويه بن عباد السراج، ثنا محمد بن الوليد بن أبان أبو جعفر بمكة، ثنا إبراهيم بن صرمة، .. ..(4/281)
عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فضلت على آدم بخصلتين، كان شيطاني كافراً فأعانني الله عليه حتى أسلم، وكن أزواجي عوناً لي، وكان شيطان آدم كافراً، وزوجته عوناً على خطيئته.(4/282)
[237] فصلٌ: فيما أوتيه آدم عليه السلام
قال أبو سعد رحمه الله: ما من شرف خص الله به نبياً من أنبيائه إلا وأعطى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من جنسه أفضل منه.
1516- ومنها: أن آية آدم عليه السلام: في سجود الملائكة له، ولم يكن(4/283)
حقيقة السجود إلا لله تعالى ذكره، وكان آدم كالقبلة لهم فيه، والذي أعطي محمد صلى الله عليه وسلم من جنس ذلك أنه أم ثلاث مائة وعشر رسولاً حتى صلوا خلفه ليلة المعراج ببيت المقدس.(4/284)
1517- وقيل: إن الله تعالى فضله على آدم عليه السلام، وأن آدم خلقه بلطفه، وخلق نور محمد صلى الله عليه وسلم ، فأمر الرب عز وجل النور فطاف حول عرشه قبل أن يخلق آدم بخمس مائة عام.(4/285)
قالوا: وآدم عليه السلام حين خلق علم الأسماء كلها ولم يعلم الملائكة، وجعل ذلك آية لسجود الملائكة.
قلنا: وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم كان أمياً وأمته كاتبون، وكانت هذه آية له، وقد آتاه الله كتاباً جمع له فيه خبر الأولين والآخرين، وفصل الخطاب وهو القضاء بين الناس، ثم أبقى آيته -وهو القرآن- تقرأ إلى يوم القيامة.(4/286)
[238] فصلٌ: فيما أوتيه إدريس عليه السلام
ولئن رفع إدريس عليه السلام إلى السماء، فقد رفع محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحجب، فشاهد ما لم يعاينه أحد، قال الله عز وجل: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنةً للناس} الآية، وقال: {ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى} الآية، وقال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} الآية.
1518- قالوا: قد أطعم إدريس بعد وفاته من الجنة، وقد أطعم محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا، فقيل له: إنك تواصل يا رسول الله، قال: إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني، فكم بين من أطعم في حياته وبين من أطعم بعد وفاته.(4/287)
[239] فصلٌ: فيما أوتيه نوح عليه السلام
وأعطى الله نوحاً عليه السلام جري السفينة على الماء، واليوم تجري السفينة للكافر والمؤمن، وأعطي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جري الحجر على الماء، وذلك أبلغ في الأعجوبة.
1519- فروي: أنه صلى الله عليه وسلم دعا عكرمة بن أبي جهل إلى الإسلام فقال: لا حتى تريني آية -وكان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم غدير ماء حوله أحجار- فقال صلى الله عليه وسلم : ائت ذلك الحجر، فقل: إن محمداً يدعوك، فذهب إليه وقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يدعوك، فجرى الحجر على وجه الماء حتى انتصب قائماً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد علم أن جري الحجر على الماء أبلغ في باب الإعجاز من جري الخشب على الماء.
قالوا: إن قوم نوح لما بالغوا في إيذائه والاستخفاف به، وتركوا الإيمان به دعا عليهم نوح عليه السلام فقال: {رب لا تذر على الأرض(4/288)
من الكافرين دياراً} الآية، فاستجاب الله دعوته وشفا غيظه بإهلاك قومه.
وقد نال محمد صلى الله عليه وسلم من المحن والنكبات والاستخفاف حتى أنزل الله ملك الجبال وأمره أن يطيع محمداً صلى الله عليه وسلم فيما يأمره به من إهلاك قومه، فاختار صلى الله عليه وسلم الصبر على أذاهم.(4/289)
[240] فصلٌ: فيما أوتيه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام
1520- أعطي إبراهيم عليه السلام تسخير النار، فكانت له معجزة، وروي عن الزهري قال: سخر لإبراهيم عليه السلام نار الدنيا، .. ..(4/290)
ويقال لنار جهنم: كوني مطاوعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أحرقي من يأمرك بإحراقه، وكفي عمن يأمرك بالكف عنه، فسخر الله لنبينا صلى الله عليه وسلم نار الآخرة، ونار الدنيا جزء من مائة جزء منها.
1521- وقيل: إن بإزاء إبراهيم حين ألقي في النار فبرد الله عليه النار، ما أعطي محمداً صلى الله عليه وسلم حين امتحنه بالذراع المشوي المسموم فقال: لا تأكلني يا رسول الله فإني مسموم.(4/291)
والقصة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح خيبر أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مسمومة، وكانت قد سألت: أي عضو إلى رسول الله من الشاة أحب؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السم، وسمت سائر الشاة، ثم جاءت بها فوضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتناول الذراع ثم قال: إن هذا الذراع ليخبرني إنه مسموم، ثم دعا بالمرأة فاعترفت، فقال لها: ما حملك على ذلك؟ قالت: قلت: إن كنت نبياً لا يضرك ذلك، وإن كنت ملكاً استراح الناس منك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند موته: ما زالت أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوان انقطاع أبهري.
فقيل: إن هذه الآية بإزاء آية إبراهيم في تبريد النار عليه، لأنها منعت مضرة الإحراق، وهاهنا منع مضرة السم، ثم زيد له حتى كلمه الذراع المشوي، قالوا: فمنع النار الظاهرة عن خليله فقال: {كوني برداً وسلاماً} الآية، ومنع نار الباطن عن حبيبه -وهو السم- فكلمه الذراع فقال: لا تأكلني فإني مسموم.
وقالوا: إن إبراهيم عليه السلام خص بالخلة، قال تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} الآية، فكان أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم .(4/292)
قلنا: وكذلك اتخذ الله محمداً حبيباً وخليلاً، ومن جمع له بين الخلة والمحبة كان أفضل ممن خص بالخلة، والحبيب ألطف من الخليل، ولا شك أن الأنبياء كلهم عليه السلام وأممهم تحت رايته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهو يشفع لهم.
واختلف الناس في الفرق بين الحبيب والخليل، فقال بعضهم: الفرق بين الحبيب والخليل أنه لا يكون حبيباً حتى يكون خليلاً،(4/293)
وقد يكون خليلاً غير حبيب، كما أن الرسول يكون نبياً، ويكون النبي نبياً غير رسول.
ويقال: الخليل الذي يكون فعله برضا الله كفعل إبراهيم، والحبيب الذي فعل الله برضاه ومراده، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد تحويل القبلة حول الله القبلة على مراده، قال تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلةً ترضاها} الآية، وقال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} الآية.
ويقال: الخليل الذي يكون بعضه متعلقاً بالدنيا، وبعضه متعلقاً بالعقبى، وبعضه متعلقاً بالمولى، والحبيب: الذي يكون بجملته متعلقاً بالمولى.
ويقال: الخليل الذي يمتحنه ثم يجتبيه من قول الله عز وجل:(4/294)
{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن} الآية، والحبيب: الذي اصطفاه أولاً، من قوله تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} الآية، يعني به: محمد صلى الله عليه وسلم .
ويقال: الخليل الذي أنس بذكر ربه، والحبيب الذي أنس بربه.
ويقال: الخليل الذي منه انتظار العطاء، والحبيب الذي منه انتظار اللقاء.
ويقال: الخليل الذي يصل إليه بالواسطة، من قوله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} الآية، والحبيب الذي يصل إليه بلا واسطة، من قوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى} الآية.
ويقال: الخليل الذي تكون مغفرته في حد الطمع، قال الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم: {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} الآية، والحبيب الذي تكون مغفرته في حد اليقين من غير سؤال، من قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} الآية.
وأيضاً: فإن الخليل قال: { ولا تخزني يوم يبعثون} الآية، وقال الله للحبيب: {يوم لا يخزي الله النبي} الآية.(4/295)
وأيضاً: قال الخليل في حال المحنة: {حسبنا الله ونعم الوكيل} الآية، وقال الله للحبيب في حال المحنة: {يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} الآية.
وأيضاً: فإن الخليل قال: {إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين} الآية، وقال الله للحبيب: {ووجدك ضالاً فهدى} الآية.
وأيضاً: فإن الخليل قال: {واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين} الآية، وقال الله للحبيب بغير سؤال: {ورفعنا لك ذكرك} الآية.
وأيضاً: فإن الخليل قال: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} الآية، وقال الله للحبيب: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} الآية.
والخليل قال: {وأرنا مناسكنا} الآية، وقال للحبيب بغير سؤال: {لنريه من آياتنا} الآية.
وسأل الخليل فقال: {واجعلني من ورثة جنة النعيم} الآية، وقال للحبيب: {إنا أعطيناك الكوثر} الآية.
وقال الله جل جلاله حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: {واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين} الآية، قال بعض المفسرين: ثناء حسناً، وقال بعضهم: خلقاً صالحاً، وقال بعضهم: ذكراً باقياً.(4/296)
1522- فكان النبي صلى الله عليه وسلم الخلف الصدق من أبيه، والذكر الباقي لأسلافه كما قال جل جلاله: {وإنه لذكرٌ لك ولقومك} الآية، أي: شرف لك وصيتٌ لهم.
وقيل: الفرق بين الحبيب والخليل: قال الخليل: {رب اغفر لي ولوالدي} الآية، وقال للحبيب: {ووضعنا عنك وزرك} الآية.
ويقال: الخليل: الذي يعبده على الخوف مثل إبراهيم عليه السلام كان إذا صلى سمع وجيب قلبه من ميلين، قال تعالى: {إن إبراهيم لحليمٌ أواهٌ منيبٌ} الآية.
والحبيب الذي يعبده على المحبة والروية.
ويقال: الخليل الذي يقول: {إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين} الآية،(4/297)
والحبيب يقول: لولا الله ما اهتدينا، وقال الله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى} الآية، وقال: {إنك لعلى هدىً مستقيمٍ} الآية.
والخليل الذي يكون مريداً، والحبيب الذي يكون مراداً.
والخليل عطشان، والحبيب ريان، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأم من العبادة، قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: {طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} الآية.
1523- وكان صلى الله عليه وسلم مشغوفاً بقراءة {قل هو الله أحدٌ} الآية، فقالت الجهلة: إن ابن أبي كبشة يحب مولاه أبداً بقراءة نسبته: {قل هو الله أحدٌ} الآية.
وإن إبراهيم كان طالباً، قال: {إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين} الآية، والحبيب كان مطلوباً، قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} الآية، أسرى به من غير طلب.
فإن قيل: لم أظهر خلة إبراهيم ولم يظهر محبته رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟(4/298)
والجواب من وجهين:
أحدهما: أنه أثبت المحبة لمتبعه، فكيف للمتبوع؟ قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} الآية.
والجواب الثاني: ما قاله الجنيد: إذا أحببته شهرك ونادى عليك، وإذا أحبك سترك وغار عليك.
قالوا: إن إبراهيم كسر أصنام قومه غضباً لله عز وجل.
قلنا: ومحمد صلى الله عليه وسلم كسر عن الكعبة ثلثمائة وستين صنماً وأذل من عبدها بالسيف.(4/299)
[241] فصلٌ: فيما أوتيه موسى عليه السلام
قالوا: أعطى الله موسى عليه السلام فلق البحر، والبحر من ملكوت الأرض الدنيا.
قلنا: وأعطى محمداً صلى الله عليه وسلم شق القمر، والقمر من أنوار الفلك، ومن ملكوت السماء، وذلك أبلغ في باب الإعجاز.
وأعطى موسى عليه السلام انفجار الماء من الحجر، واليوم يتفجر الماء من الأحجار.
1524- ولكن قد روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر فأصابهم عطش فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتور من ماء وجعل يده في وسطه، وجعل الماء ينبع من تحت أصابعه حتى استقى العسكر كلهم ورويت(4/300)
الدواب، فقيل لجابر: كم كنتم؟ قال: ألفاً وستمائة، وهذا أعجب من تفجير الماء من الحجر، لأن انفجار الماء من اللحم والدم أعجب من خروجه من الحجر.
قالوا: إن موسى عليه السلام أعطي اليد البيضاء.
1525- قلنا: قد أعطي محمد صلى الله عليه وسلم ما هو أفضل منه وهو أن نوراً كان يضيء عن يمينه حيث ما جلس، فكان يراه الناس كلهم، وقد بقي ذلك النور إلى قيام الساعة.
قالوا: وإن كان موسى عليه السلام أكرمه الله بأن أنزل له عموداً من السماء يضيء لهم ليلهم ويرتفع نهارهم.(4/301)
1526- قلنا: ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى بعض أصحابه عصاً يضيء أمامه وبين يديه، فأعطى قتادة بن النعمان عرجوناً فكان العرجون يضيء أمامه عشراً.
وقالوا: قد كلم الله موسى تكليماً وناجاه وخاطبه، وألقى الألواح إليه.(4/302)
قلنا: وقد دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من رب العزة دنواً لم يدن موسى ولا أحد من المرسلين عليهم السلام ولا الملائكة المقربون لقوله عز وجل: {ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى} الآية.
قالوا: وأعطى الله موسى عليه السلام إلقاء العصا فاستحالت حية.
قلنا: فقد نطقت الشاة المسمومة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمته أنها مسمومة، فمصير الشاة المشوية ناطقة أعجب من مصير العصا حية.(4/303)
1527- وروي عن بعض الصحابة قال: بينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس يتذاكرون فضل النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاهم يهودي فقال: يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما تركتم للأنبياء درجة ولا للمرسلين فضيلة إلا وجعلتموها لنبيكم صلى الله عليه وسلم ، فقال علي رضي الله عنه: إن كنتم تزعمون أن موسى بن عمران كلمه ربه عز وجل على طور سيناء، فإن الله عز وجل كلم محمداً صلى الله عليه وسلم في السماء السابعة: {فكان قاب قوسين أو أدنى}.
قال: ولئن زعمت النصارى أن عيسى عليه السلام أبرأ العميان وأحيا الموتى بإذن الله عز وجل، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم لما سألته قريش إحياء ميت نقيض عيسى ابن مريم إذ كان، دعاني النبي صلى الله عليه وسلم ثم وشحني ببرده السحاب، ثم قال: يا علي، انطلق مع القوم إلى المقابر فأحيي لهم بإذن الله عز وجل ما سألوك من آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وعشائرهم، فانطلقت معهم، فدعوت الله عز وجل باسمه الأعظم، فقاموا من قبورهم ينفضون التراب عن رؤوسهم بإذن الله عز وجل:
ثم قال: وإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد فعل ما هو أكثر من هذا، إن أبا قتادة بن ربعي الأنصاري شهد وقعة أحد، .. ..(4/304)
فأصابته طعنة في عينه فبرزت حدقته، فأخذها بيده ثم أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن امرأتي الآن تبغضني، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من يده ثم وضعها مكانها، فلم تكن تعرف إلا بفضل حسنها وفضل ضوئها على العين الأخرى.(4/305)
1528- وروي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في نصف النهار إذ أقبل ثلاثة نفر من أصحابه فقالوا: ندخل يا رسول الله؟ فصير ظهره إلى ظهري، ووجهه إليهم، فقال الأول منهم: يا محمد زعمت لنا أنك خير من إبراهيم، وإبراهيم اتخذه الله عز وجل خليلاً، فأي شيء اتخذك الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ويحك! أكفر بعد إيمان؟ اتخذني الله عز وجل صفياً، والصفي أقرب من الخليل.
قال: فقام الثاني فقال له: يا محمد زعمت لنا أنك خير من موسى، وموسى كلمه الله عز وجل تكليماً، وأنت متى كلمك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ويلك، موسى كلمه الله عز وجل في الأرض، من وراء حجاب، وأنا كلمني ربي تحت سرادق عرشه.
قال: فقام إليه الثالث فقال له: زعمت لنا أنك خير من عيسى، وعيسى أحيا الموتى، وأنت لم تحيي شيئاً؟ قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى تصاب عرقاً، وصفق بيديه وصاح: يا علي يا علي، فإذا علي رضي الله عنه مشتمل بشملة له وهو يقول: لبيك لبيك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم : أين كنت يا علي؟ فقال: كنت في بستان أنضح على نخلي إذ سمعت صوتك وتصفيقك، فقال له: ادن مني، فوالذي نفس محمد بيده ما ألقى الصوت(4/306)
في مسامعك إلا جبريل، قال: فأقبل علي رضي الله عنه يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيه حتى أدخله في قميصه، وأخرج رأسه من جيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم كلمه بكلمات لم أسمعها، ثم قال له: قم يا حبيبي، والبس قميصي هذا، فانطلق بهم إلى قبر يوسف بن كعب فأحيه لهم بإذن محيي الموتى.
قالت أم سلمة: فخرجوا أربعة معاً، واتبعت آثارهم حتى انتهى بهم إلى بقيع الغرقد، فانتهى بهم إلى قبرٍ دارس، فدنا منه وتكلم بكلمات وأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصدع القبر، ثم أمره الثالثة، وركله برجله، فقال له: قم بإذن محيي الموتى، فإذا شيخ ينفض التراب عن رأسه ولحيته وهو يقول: ويلكم! أكفر بعد إيمان؟ أنا يوسف بن كعب صاحب أصحاب الأخدود، أماتني الله منذ ثلثمائة وستين عاماً حتى كانت الساعة، فإذا هاتف يهتف ويقول: قم فصدق سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد كذب، فقال بعضهم لبعض: ارجع بنا لا يعلم بنا صبية قريش فيرجمونا بالحجارة، وقالوا: نشدناك يا علي لما رددته، قال: فتكلم بكلام لا أفهمه، فإذا الرجل قد رجع إلى قبره، وسوي عليه التراب، ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .(4/307)
[242] فصلٌ: فيما أوتيه داود عليه السلام
قالوا: إن داود عليه السلام بكى على خطيئته حتى سارت الجبال معه لخوفه.
1529- وقد أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أفضل منه، وهو أنه كان إذا قام إلى صلاته سمع من صدره أزيز كأزيز المرجل، وقد أمنه الله من عقابه، فأراد أن يخشع لربه ببكائه، ولكي يقتدى به، ولقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه واصفر وجهه من قيام الليل، وحتى عوتب عليه فأنزل الله تعالى: {طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} الآية.(4/308)
1530- وكان صلى الله عليه وسلم يبكي حتى يغشى عليه، فقيل له: يا رسول الله، أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً.
قالوا: ولين الله لداود عليه السلام الحديد حتى كان يأخذ الحديد فيمده كيف شاء، ثم يكون في يده مثل الشمع، فيجعل منه الحلق والبدن.
قلنا: فقد مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرع شاة أم معبد وهي يابسة فتخلصت لبناً.(4/309)
1531- وقال الواقدي: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغار فبلغ الجبل وجده انفرج، حتى دخل النبي صلى الله عليه وسلم الغار، فهذا مثل فلق البحر وتليين الحديد.(4/310)
[243] فصلٌ: فيما أوتيه سليمان بن داود عليه السلام
قالوا: إن سليمان عليه السلام أعطي مركباً من الريح.
قلنا: وأعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من جنسه، البراق، حتى بلغه في ساعة سدرة المنتهى فما فوقها، فهذا أعجب من ذهاب الريح لسليمان مقدار شهرين بيوم واحد.
وقالوا: إن سليمان أعطي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده.
قلنا: وقد أعطي محمد صلى الله عليه وسلم ما هو أفضل منه:
1532- عرضت عليه مفاتيح خزائن الدنيا فردها، فأعطاه الله الكوثر، وهو أصل حوضه لسقي الخلق منه، وأعطاه الشفاعة، وهي(4/311)
أعظم من ملك الدنيا بأسرها سبعين مرة، ووعده الله المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون.
وقالوا: إن سليمان سخر له الجن، فقد علمنا أنها كانت مسخرة، وكانت مع ذلك تعتاص عليه حتى يصفدها ويعذبها.
قلنا: قد أتت الجن رسول الله صلى الله عليه وسلم راغبة طائعة له معظمة لشأنه، فآمنت به وصدقته واتبعت أمره وتضرعت إليه في الزاد حتى أجابهم إلى ذلك، قال الله عز وجل وقد قال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين} الآية.(4/312)
نقول: إن كان سليمان عليه السلام علمه الله منطق الطير، فقد علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاركه في علم ذلك.
1533- ألا ترى أنه قد جاءه بعير فشكى إليه أهله، فعلم شكواه.
1534- وكذلك روي أن بعض الطيور -وهي الحمرة- فجعت بأخذ ولدها، فجاءته وجعلت ترفرف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(4/313)
أيكم فجع هذه بفرخيها؟ فقال رجل من القوم: أنا أخذت فرخيها، فقال صلى الله عليه وسلم : ارددها.(4/314)
[244] فصلٌ: فيما أوتيه صالح عليه السلام
ومن معجزات صالح عليه السلام أن خرجت له ناقة عشراء من بين صخرة صماء.
1535- وقد خرج لنبينا صلى الله عليه وسلم رجل من وسط الجبل يدعو له ويقول: اللهم ارفع له ذكراً، اللهم أوجب له أجراً، اللهم احطط له وزراً.
وقالوا: أخرج الله تعالى لصالح ناقة فجعلها لقومه عبرة، لها شرب ولقومه شرب يوم معلوم.
قلنا: ومحمد صلى الله عليه وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا، وذلك أن ناقة صالح لم تكلم صالحاً ولم تشهد له بالنبوة.
1536- ومحمد صلى الله عليه وسلم بينما يسير في بعض غزواته إذ هو ببعير دنا منه فقال: يا رسول الله إن فلاناً استعملني حتى إذا كبرت وعمرت(4/315)
يريد ذبحي، فأنا أستعيذ بك منه، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوهبه فوهبه منه وخلاه.
1537- ومثله ما ذكر في قصة بئر رومة التي اشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه فاقتسمها بين المسلمين والمشركين على أن للمسلمين يوماً ولهم يوم، فكان يستقي منها في يوم المسلمين ما يكفيهم ليومين، ولا يزيد في يوم المشركين على ما كان قبله.(4/316)
[245] فصلٌ: فيما أوتيه يحيى بن زكرياء عليه السلام
قالوا: إن يحيى بن زكرياء أوتي الحكم صبياً وأوتي الفهم، وكان يبكي من غير ذنب، وكان يواصل الصوم.
قلنا: قد أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أفضل، لأن يحيى عليه السلام لم يكن في عصره أوثان ولا جاهلية، ومحمد صلى الله عليه وسلم أوتي الحكم والفهم في صباه وهو بين الأوثان، فلم يرغب لهم في صنم، ولم يسمع منه كذب، وعرف فيما بينهم بالصدق والأمانة والحكم، وكان يواصل الصوم، وكان يبكي من خشية الله حتى يبتل مصلاه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.(4/317)
[246] فصلٌ: فيما أوتيه عيسى بن مريم عليه السلام
قالوا: وأعطى الله تعالى عيسى إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.
قلنا: فقد أعطى نبينا صلى الله عليه وسلم إحياء الشاة المسمومة حتى كلمته وقالت: لا تأكلني فإني مسمومة.
1538- ووري أن معاذ بن عفراء تزوج امرأة فقيل لها: إن بجنبه برصاً، فكرهت المرأة أن تزف إليه، فجاء معاذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكشف لي عن جنبك، فكشف له عن جنبه، فمسحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود فذهب البرص عنه.
1539- وجاءت امرأة معها عكة سمن وأقط، ومعها بنت فقالت: يا رسول الله ولدت هذه كمهاء، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً فمسح به عينيها فأبصرتا.(4/318)
وإن كان المسيح عليه السلام أتي بطعام من السماء أكله الحواريون.
فقد أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام من الجنة فأكله، أتاه به جبريل عليه السلام.
وإن كان المسيح عليه السلام أبرأ الأكمه والأبرص.
1540- قلنا: فرسول الله صلى الله عليه وسلم أبرأ صاحب السلعة.(4/319)
1541- وأتاه رجل وبه أدرة فقال: إن هذه الأدرة تمنعني عن التطهر والوضوء، فدعا بماء فبرك فيه وتفل فيه، ثم أمره أن يقبض منه عليه، ففعل الرجل فأغفى إغفاءة فانتبه فإذا هي قد تقلصت.
1542- وأصيبت عين قتادة بن النعمان في بعض غزواته مع النبي صلى الله عليه وسلم فسقطت عينه على وجنته فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت أحدهما بصراً وأحسنهما عيناً.
ويقال: إن كان المسيح عليه السلام أحيا الميت بإذن الله عز وجل.
1543- فرسول الله صلى الله عليه وسلم أحيي له النفر الذين قتلوا يوم بدر فخاطبهم وكلمهم وعيرهم بكفرهم وطغيانهم، وناداهم بأسمائهم وأعيانهم وأسماء آبائهم.(4/320)
قالوا: إن عيسى عليه السلام أمات شهوته في نفسه فأحيا الله ميتاً بإذنه ودعوته.
قلنا: قد جعل الله للنبي صلى الله عليه وسلم حياة القلوب، قال تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه} الآية.
وكما أن عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه، كذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم .
1544- وذلك أنه جاء إليه صلى الله عليه وسلم أخوان أحدهما أعمى والآخر أخرس فدعا لهما النبي صلى الله عليه وسلم فأبصر الأعمى وتكلم الأخرس.(4/321)
[247] فصلٌ: فيما أوتيه يعقوب عليه السلام
قالوا: فإن يعقوب عليه السلام عظم في الخير نصيبه، وجعل الأسباط من سلالة صلبه، ومريم ابنة عمران من بناته، والهداة من ذريته، قال الله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} الآية.
قلنا: ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم بالخير نصيباً، وأوفر حظاً وأرفع ذكراً.
1545- جعلت فاطمة سيدة نساء العالمين من بناته، والحسن والحسين من ذريته، وأعطي صلى الله عليه وسلم الكتاب المحفوظ، لا يغير ولا يبدل، وأوجب الله على الخلق الاقتداء بسنته، وفتح عليه باب الحكمة، فهل من فضيلة أعظم من هذه؟(4/322)
وقالوا: إن يعقوب عليه السلام صبر على فراق ولده حتى كاد أن يكون حرضاً من الحزن.
قلنا: كان حزنه على ولده حزن تلاق ومضض واشتياق، ووجد وفراق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فجع بأولاده، خصوصاً بقرة عينه إبراهيم في حياته، فصبر محتسباً، ووفى بصدق الاختيار مستسلماً:
1546- فقال صلى الله عليه وسلم : العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون.
في كل ذلك ينهج صلى الله عليه وسلم سبيل الرضا عن الله عز وجل والاستسلام له في جميع أحكامه وأحواله، يدلك عليه قول الله عز وجل حكاية عن يعقوب عليه السلام: {يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيمٌ} الآية، فقد أصابه من الوجد ما أصابه بفقد ابن واحد من بنين كثيرة، ومحمد صلى الله عليه وسلم فقد ابنه إبراهيم ولم يكن له سواه فلم يصبه مع ذلك جزع، وكان صلى الله عليه وسلم موصوفاً بالرأفة والرحمة، فبان صبره على صبر يعقوب عليه السلام.(4/323)
[248] فصلٌ: فيما أوتيه يوسف عليه السلام
قالوا: وقد أوتي يوسف عليه السلام شطر الحسن.
قلنا: لم يكن جمال رسول الله صلى الله عليه وسلم دون جماله:
1547- ألا ترى إلى قول الربيع بنت معوذ بن عفراء حين سألها محمد بن عمار بن ياسر عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لو رأيته لرأيت الشمس طالعة.
وقالوا: إن يوسف عليه السلام قاسى مرارة الفرقة، وامتحن بالغربة، وابتلي بمفارقة أبويه وإخوته ووطنه.
قلنا: ورسول الله قاسى مرارة الغربة، وفارق الأهل والعشيرة، فخرج مهاجراً من حرم الله وأمنه ومسقط رأسه، وموطن آبائه اضطراراً لا اختياراً.
1548- وإنه صلى الله عليه وسلم وقف على الثنية وحول وجهه إلى مكة، وقال: إني لأعلم أنك أحب البقاع إلى الله عز وجل ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت.(4/324)
1549- فلما بلغ صلى الله عليه وسلم الجحفة أنزل الله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معادٍ} الآية.
وقالوا: فإن يوسف عليه السلام ألقي في الجب.
قلنا: ورسول الله صلى الله عليه وسلم حبس نفسه في الغار مخافة عدوه، حتى قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا.(4/325)
[249] فصلٌ: فيما أعطى الله أنبياءه عليهم السلام وما أعطى محمد صلى الله عليه وسلم
اعلم أن الله تبارك وتعالى أعطى الصفوة لآدم عليه السلام، قال تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحاً} الآية.
وأعطى الرفعة لإدريس عليه السلام، قال تعالى: {ورفعناه مكاناً علياً} الآية.
وأعطى الإجابة لنوح عليه السلام، قال الله تبارك وتعالى: {ولقد نادانا نوحٌ فلنعم المجيبون} الآية.
والفداء لإسماعيل عليه السلام، قال الله عز وجل: {وفديناه بذبحٍ عظيمٍ} الآية.
والخلة لإبراهيم عليه السلام، قال الله عز وجل: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} الآية.
والحلم لإسحاق عليه السلام، قال الله عز وجل: {فبشرناه بغلامٍ حليمٍ} الآية.
والعلم والحكم للوط عليه السلام، قال الله عز وجل: {ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً} الآية.
وتعبير الرؤيا ليوسف عليه السلام، قال الله عز وجل: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث} الآية.
والقرب لموسى عليه السلام، قال الله عز وجل: {وقربناه نجياً} الآية.(4/326)
والخلافة لداود عليه السلام، قال الله عز وجل: {يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض} الآية.
والفهم والعطاء لسليمان عليه السلام، قال عز وجل: {ففهمناها سليمان} الآية، وقال: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حسابٍ} الآية.
والحكمة ليحيى عليه السلام، قال عز وجل: {وآتيناه الحكم صبياً} الآية.
وصحبة الملائكة والرفعة لعيسى عليه السلام، قال الله عز وجل: {إني متوفيك ورافعك إلي} الآية.
وأعطى محمداً صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين الطاهرين ستة أشياء:
أولها: حسن الخلق، قال الله عز وجل: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ} الآية.
ثانيها: العصمة، قال الله عز وجل: {والله يعصمك من الناس} الآية.
ثالثها: النصرة، قال الله عز وجل: {وينصرك الله نصراً عزيزاً} الآية.
رابعها: الفضل، قال الله عز وجل: {وكان فضل الله عليك عظيماً} الآية.
خامسها: المحبة، قال الله عز وجل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} الآية.
سادسها: القرب والوصلة، قال الله عز وجل: {ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى} الآية.(4/327)
1550- روي عن ابن عباس أن محمداً صلى الله عليه وسلم ويوسف عليه السلام تقارعا في صلب آدم عليه السلام.
فصار الحسن والجمال ليوسف عليه السلام.
وصار البهاء والنور، والشرف، والقوة والشجاعة، والزهد والتواضع والخضوع، والشفاعة، والقرآن، والناقة، والهراوة، والسيف والقضيب، والنعل والغمامة، والرضا واليقين والقنوع، ولواء الحمد، والكرسي، والمنبر الرفيع، والحوض المورود، والكأس الأوفى، والاسم الحسن، والذكر الرفيع، والحسب الشريف، والنسل الكريم، والأزواج المطهرات، والوجه الصبيح، والقلب القنوع، والبدن الصابر، والكرم الظاهر، والآيات الفاضلات، والكلمات المنزلات، والمعجزات الباهرات، والحج والإحرام، والجهاد والرباط، وصوم رمضان، والأشهر الحرم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والكعبة والشفاعة، وكل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
1551- وقيل: ماء الصلابة لموسى عليه السلام، ولبن المودة لسليمان عليه السلام، وخمر العبرة لعيسى عليه السلام، وعسل مصفى لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فكان للعسل فضل على جميع الحلوى، فكذلك فضل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء، وهذا على قوله عز وجل: {فيها أنهارٌ من ماءٍ غير آسنٍ وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين وأنهارٌ من عسلٍ مصفى} الآية.(4/328)
1552- وقيل: قرب الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم منه، وبين في كتابه فقال: {فكان قاب قوسين أو أدنى} الآية، قال: من الوتر إلى العروة أو من القبضة إلى الوتر، جعل الإله محمداً صلى الله عليه وسلم أقرب من ذلك حيث قال: {أو أدنى} الآية، فلا يهتدي أحد قرب الخالق من محمد صلى الله عليه وسلم إلا الله تعالى، فإنه عرف الخلق قربه ثم قال: {أو أدنى} الآية، لئلا يعرف مخلوق كم قدر الأدنى.
وأيضاً قال: خلقت شيئاً خلفاً بعد آدم لحفظ وصية آدم، يا محمد حفظتك وأمتك من شفير جهنم لئلا تقعوا فيها، قال تعالى: {وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها} الآية، يا محمد حبست آدم في السماء الدنيا وقربتك، وجعلت لنوح الفلك وجعلت لك البراق، وجعلت إبراهيم خليلاً وجعلتك حبيباً، والحبيب أقرب إلى الخليل، وجعلت الكبش فداء لإسماعيل، وأجعل يوم القيامة اليهود والنصارى والمجوس(4/329)
فداك يا محمد، وكلمت موسى على طور سيناء وكلمتك من فوق العرش، وخلصت يونس من بطن الحوت، وخلصت أمتك من ظلمة القبر واللحد، وأنجيهم يوم القيامة من الظلمة، قال تعالى: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم} الآية.(4/330)
1553- قال ابن عباس: أعطى الله محمداً صلى الله عليه وسلم خلق آدم عليه السلام، ومعرفة شيث عليه السلام، وشجاعة نوح عليه السلام، وصفوة إبراهيم عليه السلام، ورضا إسحاق عليه السلام، وحسن يوسف عليه السلام، وشدة موسى عليه السلام، وصبر أيوب عليه السلام، وطاعة يونس عليه السلام، وصوت داود عليه السلام، وفصاحة صالح عليه السلام، وزهد يحيى عليه السلام، وعصمة عيسى عليه السلام، ووقار إلياس عليه السلام، وحب دانيال عليه السلام، وجهاد يوشع بن نون عليه السلام.(4/332)
جامع أبواب صفة أخلاقه وآدابه صلى الله عليه وسلم(4/333)
[250] بابٌ: في صفة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ}
1554- كان صلى الله عليه وسلم رؤوف القلب، .. ..(4/335)
كثير الحياء، واسع الصدر دائم البكاء، طويل الحزن عظيم الرجاء، قليل المن كريم الوفاء، دائم الذكر أمين السماء، كاتم السر جزيل العطاء صلى الله عليه وسلم .
1555- وكان صلى الله عليه وسلم لين الجانب قليل الأذى، زين العالم، سراج الهدى صلى الله عليه وسلم .(4/336)
1556- وكان صلى الله عليه وسلم ألوفاً حليماً، ودوداً رحيماً، مضيافاً كريماً، وفياً حكيماً صلى الله عليه وسلم .
1557- وكان صلى الله عليه وسلم قائماً بأمر الله، موفياً لوعد الله، مشمراً في عبادة الله، ملتمساً مرضاة الله صلى الله عليه وسلم .
1558- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاطع الشهوات، غافر العثرات، كاتم المصيبات صلى الله عليه وسلم .
1559- وكان صلى الله عليه وسلم صوام النهار خاشعاً منيباً، قوام الليل خاضعاً قريباً، راغباً في الخير منصفاً رقيباً، زاهداً في الشر بين أهله رغيباً صلى الله عليه وسلم .
1560- وكان صلى الله عليه وسلم شريف الهمة حبيب الفقراء، لطيف الفطنة طبيب الأغنياء، جميل العشرة تقي الأتقياء، دليل الأئمة لبيب الألباء صلى الله عليه وسلم .
1561- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم الكبير لعظم وقاره، ويقرب الصغير لشدة افتقاره، ويشكر اليسير لقلة اغتراره، ويرحم الأسير لرؤية اضطراره صلى الله عليه وسلم .
1562- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلاً عند المصاحبة، عدلاً عند المقاسمة، سباقاً عند المعاملة، شجاعاً عند المقاتلة صلى الله عليه وسلم .
1563- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم الخطر، طويل الصمت، هيوب المنظر، قليل الضحك، كثير الفكر، باسط الكف، شريف المخبر صلى الله عليه وسلم .(4/337)
1564- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيح الوجه، كثير التبسم، مليح القول، سجي الترنم، سخي النفس، قليل التنعم، بطيء الغيظ، سريع التحلم صلى الله عليه وسلم .
1565- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رزين العقل، طيب الكلام، واسع الخلق، قليل الملام، عفيف النفس، بذول السلام، لطيف الطبع، طبيب الأنام صلى الله عليه وسلم .(4/338)
[251] فصلٌ:
1566- روى سمرة بن جندب عن كعب الأحبار في ذكر الأنبياء قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم حسن الوجه، حسن اللون، عربي اللسان، فصيح الكلام، بليغاً في حاجته، منجحاً إذا طلبها، وإذا طلبت إليه كان لها قاضياً.
كان صلى الله عليه وسلم يتيماً فآواه الله، وضالاً فهداه الله.
وكان صلى الله عليه وسلم حسن الوجه، رفيقاً في منطقه، رؤوفاً رحيماً بأمته، عزيزاً عليه ما عنتم.
أول شافع يوم القيامة، وأول مشفع، وأول داخل الجنة، له صلى الله عليه وسلم دعوت مستجابة يدعو بها لأمته يوم القيامة.
وهو صلى الله عليه وسلم أول من يحاسب الحساب في الموقف بين يدي الله الجبار، وقد قال الله تعالى: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ} الآية.
1567- وكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس، فقد ملك من أقصى اليمن إلى(4/339)
شحر عمان إلى أقصى الحجاز، ثم توفي صلى الله عليه وسلم وعليه دين، ودرعه مرهونة في ثمن طعام أهله.
1568- ولم يترك صلى الله عليه وسلم عيناً ولا ديناراً، ولا بنى داراً، ولا شيد قصراً، ولا غرس نخلاً، ولا شق نهراً، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.
1569- وكان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعاً، كان يأكل على الأرض، ويجلس على الأرض صلى الله عليه وسلم .(4/340)
1570- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: إنما أنا عبد؛ آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد، وأجلس على الأرض.(4/341)
1571- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت.
1572- وكان صلى الله عليه وسلم يتوسد يده، .. ..(4/342)
ويلعق أصابعه، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويصلح ما يخصه، ويمتهن أهله صلى الله عليه وسلم .(4/344)
1573- وكان صلى الله عليه وسلم يلبس العباء، ويجالس المساكين، ويمشي في الأسواق صلى الله عليه وسلم .
1574- ولا أكل صلى الله عليه وسلم متكئاً قط، ولا أكل وحده قط صلى الله عليه وسلم .
1575- ولا ضرب صلى الله عليه وسلم عبده قط، ولا ضرب صلى الله عليه وسلم بيده إلا في سبيل الله.(4/345)
1576- وكان صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه، لم ير صلى الله عليه وسلم ضاحكاً قط ملء فيه صلى الله عليه وسلم .
1577- وما عاب صلى الله عليه وسلم مضجعاً، إن فرشوا له اضطجع ما يفرش له، وإن لم يفرش اضطجع على الأرض.(4/346)
قالوا: وكان ذلك أمره صلى الله عليه وسلم : لا يعيب على أحدٍ شيئاً صنعه لم يكن يحب أن يصنعه، ولا في ترك شيء تركه أحد كان يحب أن لا يترك، فيما بينه وبين الناس، فأما في حقوق الله أو فيما بين الناس بعضهم في بعض فليس عنده صلى الله عليه وسلم هوادة، ولا عبرة لقريب ولا بعيد.
1578- روى مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه عباءة مثناة، فانطلقت فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(4/347)
ما هذا يا عائشة؟ فقلت: فلانة الأنصارية دخلت علي فرأت فراشك فذهبت وبعثت إلي بهذا، فقال صلى الله عليه وسلم : رديه، قالت: فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال لي ذلك ثلاث مرات، فقال: رديه يا عائشة فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة.(4/348)
[252] فصلٌ: وكان صلى الله عليه وسلم جامعاً لكل خيرٍ من إنذارٍ بعذابٍ أو تبشيرٍ برحمةٍ
1579- فكان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس غضباً وأسرع رضا.
1580- وكان صلى الله عليه وسلم أرأف الناس بالناس، وخير الناس للناس، وأنفع الناس للناس.(4/349)
1581- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: الخلق كلهم عيال الله، فأحب الخلق إليه أحسنهم صنيعاً إلى عياله.(4/350)
1582- وكان صلى الله عليه وسلم أفضل الناس خلقاً، وأبسطهم وجهاً، وأطيب الناس نفساً بالخير، وأجود الناس كفاً، ما سأله أحد شيئاً فأباه، إن كان عنده أعطاه، وإن لم يكن عنده وعد.(4/351)
1583- عن ابن عباس أنه قال: ما ولدت النساء أفصح ولا أشجع ولا أسمح من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما شجاعته صلى الله عليه وسلم : فيوم هوازن وقد انهزم الناس وهو يحمل ونحن نمنعه الحملة وهو يقول: لا أبرح حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.
وأما سماحته وجوده: فيوم هوازن لما استولى على أموالها فأعطاها كلها وفرقها بأجمعها ولم يدخر لنفسه شيئاً.
وأما فصاحته ففي فصل من كتابه إلى النجاشي حيث يقول: كأنا في الثقة منا بك منك، وكأنك في الرقة علينا منا، لأنا ما رمناك لأمر إلا نلنا، ولا خفناه إلا أمنا.(4/352)
[253] فصلٌ:
ولم يكن صلى الله عليه وسلم :
1584- بفظ ولا عياب، ولا بغليظٍ ولا صخابٍ، ولا بفحاشٍ ولا سبابٍ، ولا طياشٍ، ولا مغتابٍ صلى الله عليه وسلم .
1585- ولا حريصٍ ولا جماعٍ، ولا بخيلٍ ولا مناعٍ، ولا مكارٍ ولا خداعٍ، ولا مكثارٍ ولا طماعٍ صلى الله عليه وسلم .
1586- ولا نمامٍ ولا خيولٍ، ولا منانٍ ولا أكولٍ، ولا بكسلانٍ ولا ملولٍ، ولا طعانٍ ولا عجولٍ، ولا مفتخرٍ ولا ختالٍ صلى الله عليه وسلم .(4/353)
1587- ولا حسودٍ ولا ضرارٍ، ولا ختارٍ ولا غدارٍ، ولا مهذارٍ ولا ثرثارٍ صلى الله عليه وسلم .
1588- ولا جزوعٍ ولا طنازٍ، ولا متكبرٍ ولا همازٍ، ولا متبخترٍ ولا كنازٍ، ولا محتكرٍ ولا رمازٍ.
فصلوات الله عليه في الأولين مبعوثاً وبركاته عليه في الآخرين موروثاً(4/354)
[254] فصلٌ:
1589- أخبرنا الشيخ الصالح أبو عمر: محمد بن جعفر بن محمد بن مطر رحمه الله، حدثنا إبراهيم بن علي، ثنا يحيى بن يحيى التميمي، .. ..(4/355)
أنا هشيم، عن حميد، عن أنس قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كلمه إنسان في حاجة لم ينصرف حتى يكون الآخر هو الذي ينصرف.(4/356)
1590- وروى عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يستنكف أن يمشي مع العبد والأرملة، حتى يقضي لهما حاجتهما.(4/357)
1591- وعن ابن بريدة، عن أبيه قال: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض مغازيه فجاءته جارية سوداء فقالت: يا نبي الله إني نذرت إن ردك الله صالحاً أن أضرب بين يديك بالدف، فقال لها: إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا، قالت: فجعلت تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحتها، ثم قعدت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالساً وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلت ألقت الدف.
1592- وما يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد -حر أو عبد أو أمة- إلا قام معه في حاجته.(4/358)
1593- وجاءه رجل من أهل البادية فقال: إني قدمت بإبل أريد بيعها ولا أعرف السعر، وأنا أخاف أن أخدع، فلو قمت معي فبعتها لي؟
فقال صلى الله عليه وسلم : لا أعرف أثمان الإبل ولا بيعها، فألح عليه الأعرابي فقال: قرب إبلك، فقربها، فقال: اعرضها بعيراً بعيراً، فجعل كلما مر ببعير قال: أما هذا فبعه بكذا وكذا حتى فرغ منها.
ثم مضى الأعرابي بها إلى السوق، فباع كل بعير بما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصاب مالاً كثيراً، فجاء به يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نظرت إلي وأرشدتني فأصبت أكثر من أمنيتي، فخذ من هذا المال ما أحببت، فقال صلى الله عليه وسلم : ما آخذ منه شيئاً، قال: فاستهدني فإني كثير المال، قال: ولا أستهديك، فألح عليه، فقال صلى الله عليه وسلم : إن كنت لا بد فاعلاً فاهد لي ناقة ذات لبن، وإياك أن تهديها مولهة عن ولدها.(4/359)
1594- وتزوج بعض جلسائه صلى الله عليه وسلم من المقلين، فجاءه وذكر حاله له، فأحب أن يعينه، فدخل بيت عائشة رضي الله عنها فقال: ماذا عندك من خير حتى أعين صاحبنا هذا؟ فقالت: ما عندي شيء إلا هذا المكتل الذي فيه الدقيق.
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المكتل فدفعه إليه بما فيه ولم يكن عندهم غيره.(4/360)
1595- وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانية دراهم يريد بها السوق، فمضى، فإذا هو بجارية على الطريق تبكي، فقال لها: ما يبكيك يا جارية؟ فقالت: بعثني أهلي بدرهمين لأشتري بهما حاجتهم فأضللتهما، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم درهمين من الثمانية ومضى إلى السوق بستة دراهم، فاشترى بأربعة دراهم قميصاً ولبسه وانصرف،(4/361)
فإذا هو بشيخ من شيوخ المسلمين قد يبس جلده على عظمه عارياً ما يستتر إلا بنعليه وهو ينادي: من كساني كساه الله من خضر الجنة.
فلما رآه لم يتمالك صلى الله عليه وسلم أن ألقى الثوب عليه، ثم أقبل إلى السوق وهو يبادر الليل، فاشترى قميصاً بدرهمين فلبسه، وأقبل فإذا هو بالجارية حيث تركها تبكي، فقال لها: ما شأنك؟ ألم أكن أعطيتك درهمين؟ فقالت: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اشتريت ما احتيج إليه ولكن طالت غيبتي عن أهلي فأشفقت من عقوبتهم، فقال صلى الله عليه وسلم : ألحقيني بأهلك، واتبعها حتى انتهى إلى دار من دور الأنصار، فإذا رجالهم خلوف ليس فيها إلا النساء، فسلم عليهن وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فسمع النساء صوته فعرفنه فلم يجبنه، ثم ثنى مثلها فلم يجبنه، ثم سلم الثالثة ورفع بها صوته فقلن بأجمعهن: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته بآبائنا وأمهاتنا أنت يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم : أما سمعتن ابتداء سلامي؟ قلن: بلى، ولكن أحببنا أن نكثر لأنفسنا وذرارينا من تسليمك، قال: إن جاريتكم هذه أبطأت عليكم فخشيت عقوبتكم، فهبوا لي عقوبتها، فقلن جميعاً: قد شفعناك بآبائنا وأمهاتنا أنت، شفعناك فيها، ووهبنا عقوبتها لك، وأعتقناها لممشاك، فهي حرة لوجه الله تعالى.
قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ما رأيت ثمانية دراهم أعظم بركة من هذه الثمانية: آمن بها خائفاً، وأعتق بها نسمة، وكسى بها عاريين -يعني نفسه والشيخ-.(4/362)
1596- وكان صلى الله عليه وسلم يعود أصحابه كما يعودونه، ويشيعهم كما يشيعونه، ويعتنقهم كما يعتنقونه، ويقبل وجوههم كما يقبلون وجهه،(4/364)
ويفديهم بأبيه وأمه كما يفدونه بآبائهم وأمهاتهم.
1597- وكان صلى الله عليه وسلم يتفقد أصحابه، ويسأل عنهم، فمن كان مريضاً عاده، ومن كان غائباً دعا له، ومن مات استرجع فيه وأتبعه بالدعاء،(4/366)
ومن كان يتخوف أن يكون وجد في نفسه قال: لعل أبا فلان وجد علينا في شيء، أو رأى منا تقصيراً، انطلقوا بنا إليه فينطلق حتى يأتيه في منزله.
1598- عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفقد أصحابه في كل ثلاث، فإن كان حاضراً زاره وإن كان مريضاً عاده وإن كان غائباً دعا له.
وأنه صلى الله عليه وسلم افتقد بعض أصحابه ذات يوم فقيل: يا رسول الله إنه مريض حتى صار كأنه هامة، لا يأكل شيئاً إلا خرج من دبره، فقال صلى الله عليه وسلم : امضوا بنا إليه، فلما دخل عليه رآه كما وصف له، فقال صلى الله عليه وسلم : ما بلغ بك(4/367)
ما أرى؟ فقال: يا رسول الله إني مررت بك وأنت تقرأ القارعة فلما بلغت: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} الآية، قلت: اللهم إن كنت تعاقبني في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم : بئس ما قلت، ألا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فأمره صلى الله عليه وسلم بالدعاء ودعا له، قال: فقام فكأنما نشط من عقال.(4/368)
1599- وكان رجل يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل ابناً له، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فقيل: يا رسول الله أصيب بابنه الذي كان يحمله، وهو حزين لا يكلم أحداً.
فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وعزاه ثم قال: أما تطيب نفسك أنك لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته بإزاء ذلك الباب يستفتح لك؟ فقال الرجل: وكذاك يا رسول الله؟ قال: نعم، قال: هذا لي خاصة يا رسول الله أم للناس عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل للمسلمين عامة.(4/369)
1600- وقبل صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون بعد موته.
1601- وكان صلى الله عليه وسلم يقدم من السفر فيتلقاه الصبيان، فيقف، ثم يأمر بهم فيرفعوا إليه فيحملهم بين يديه، ويحمل وراءه،(4/370)
ويأمر أصحابه أن يحملوا.
فربما تفاخر الصبيان بعد ذلك، فيقول بعضهم لبعض: حملني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه وحملك وراءه، ويقول بعضهم: حملني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه وأمر بعض أصحابه أن يحملك أنت.
1602- وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يرى الأنصار، فيتلقاه صبيانهم، فيمسح رؤوسهم ويسلم عليهم ويدعو لهم.(4/371)
1603- وكان صلى الله عليه وسلم إذا مر بالصبيان سلم عليهم وأتحفهم بما عنده.
1604- وكان صلى الله عليه وسلم لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتى يحمله، فإن أبى قال: تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد.
1605- وخرج صلى الله عليه وسلم إلى قباء على حمار عري وأبو هريرة معه، فقال: يا أبا هريرة أحملك؟ فقال: ما شئت يا رسول الله، قال: اركب(4/372)
-وكان في أبي هريرة ثقل- فوثب ليركب فلم يقدر فاستمسك برسول الله صلى الله عليه وسلم فوقعا جميعاً، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أبا هريرة أحملك؟ قال: ما شئت يا رسول الله، قال: اركب، فلم يقدر على ذلك فتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم فوقعا جميعاً، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أبا هريرة أحملك؟ قال: لا والذي بعثك بالحق لا صرعتك ثالثاً.
1606- وكان صلى الله عليه وسلم يركب الحمار، ويحلب الشاة، ويلبس الصوف، ويقول: من فعل هذه الثلاث ذهب كبره.(4/373)
1607- وكان صلى الله عليه وسلم إذا ركب الدابة يردف في بعض الأحايين.
1608- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: صاحب الدابة أحق بصدر الدابة.(4/374)
[255] فصلٌ: في تواضعه صلى الله عليه وسلم
1609- كان صلى الله عليه وسلم يقول: لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله تعالى خلقني عبداً، واتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً، ثم اتخذني عبداً وجعلني نبياً، ثم أنا نبي الله وعبده.(4/375)
1610- ولقد كان صلى الله عليه وسلم يضع الإناء للهرة فما يرفع الإناء رحمة لها حتى تروي.(4/376)
1611- وكان صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب ويطرح النوى في يساره -ولا يلقيه في الأرض- فمرت شاة قريباً منه فأشار إليها بالنوى التي كانت في كفه، فدنت منه، فجعلت تأكل في كفه اليسرى، ويأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيمينه ويلقي إليها حتى فرغ فانصرفت الشاة.(4/377)
1612- وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذبح شاة في سفر، فقال رجل من القوم: علي ذبحها، وقال آخر: علي سلخها، وقال آخر: علي قطعها، وقال آخر: علي طبخها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : علي أن ألقط لكم الحطب، فقالوا: لا تتعن بآبائنا وأمهاتنا أنت نحن نكفيك، قال: قد عرفت أنكم تكفون، ولكن الله يكره من عبده إذا كان مع أصحابه أن يتميز من بينهم، فقام صلى الله عليه وسلم يلقط الحطب لهم.
1613- ودخل صلى الله عليه وسلم هو وصاحب له غيضة فافترقا في حاجتهما، فلما رجع مر بغصنين في شجرة فأعجبه اعتدالهما وطولهما فقطعهما، فلما لقيه صاحبه قال: أعجبني هذان الغصنان فاختر أعدلهما وأجودهما، قال: أجل، ولكن اختر أنت فإن كل صاحب مسئول عن صاحبه.(4/378)
1614- وكان صلى الله عليه وسلم يوماً يأكل التمر ويلقي الحشف فقال رجل: يا رسول الله أعطني مما ألقيت، فقال: إني لا أرضى لكم ما أسخط لنفسي، ولكن كل مما آكل.
1615- وإن كان صلى الله عليه وسلم ليدعوه رجل من المسلمين شطر الليل على خبز الشعير فيجيبه.(4/379)
[256] فصلٌ: وقد جمع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مكارم أخلاق العرب ومكارم أخلاق العجم
1616- وزاده أشياء ليست عندهم، وما جاء به الإسلام من مكارم الأخلاق أكثر من أن يحصى أو يحيط به علم عالم.
1617- وقد كان الله تبارك وتعالى أعلم بما اختار لوحيه وحلاله وحرامه وكريم أخلاقه ومحاسنها، اختاره من آدم وحواء إلى أبيه وأمه.
1618- فهو صلى الله عليه وسلم أكرم الناس نسباً، وأثبت الناس أصلاً، وأطول الناس فرعاً، وأكملهم ديناً وخلقاً.
1619- قال صلى الله عليه وسلم : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
1620- حدثنا أبو ذر: عمار بن محمد البغدادي بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ،(4/381)
ثنا أبو العباس: أحمد بن محمد بن سعيد، ثنا محمد بن إسماعيل الراشدي، ثنا عمر بن إبراهيم الكردي، .. ..(4/382)
ثنا يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال.(4/383)
1621- وقال له رجل: أوصني قال: أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن.
1622- وجاءه آخر فقال: أوصني وأوجز لي بشيء يوجب لي الجنة، قال: عليك بحسن الكلام وبذل الطعام.
1623- وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه.(4/386)
1624- وقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: إن فيك لخلتين يحبهما الله ورسوله، فقال: وما هما يا رسول الله؟ قال: الحلم والحياء، قال: أقديماً كانت في أو حديثاً؟ قال: لا بل قديماً، قال: قلت: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله.
1625- عن علي بن الحسين رضي الله عنه قال: سمعت الحسين بن علي رضي الله عنهما يقول: لو شتمني رجل من هذه الأذن -وأومأ إلى اليمنى- واعتذر لي في الأخرى لقبلت منه، وذلك أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حدثني: أنه سمع جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا ورد علي الحوض من لم يقبل العذر من محق أو مبطل.(4/387)
1626- ونهى صلى الله عليه وسلم عن الإساءة إلى أحد من الخدم وغيرهم، ما ضرب صلى الله عليه وسلم خادماً له ولا امرأة، ولا ضرب شيئاً بيده إلا أن يحارب في سبيل الله عز وجل.
1627- قال أنس بن مالك: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين فلا والذي بعثه بالحق ما قال لي في شيء قط فعلته -وهو يكره ذلك-: لم فعلت ذلك؟ وما تركت شيئاً قط من خدمته كان يحب أن أفعله، ما لك لم تفعله؟ فضلاً عن أن يلومني بشيء.
1628- وفي رواية: وما كان يلومني أحد من نسائه إلا قال: دعوه فإنما كان هذا بكتاب وقدر.(4/388)
1629- وما شتم صلى الله عليه وسلم أحداً من المؤمنين بشتيمة تعلم إلا جعلها له كفارة ورحمة.
1630- وما لعن صلى الله عليه وسلم امرأة قط ولا خادماً بلعنة تعلم.
1631- وقد قيل له صلى الله عليه وسلم وهو يوازي قوماً للقتال: لو لعنتهم يا رسول الله؟ قال: إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعاناً.(4/389)
1632- وما ضرب صلى الله عليه وسلم بيده أحداً قط إلا أن يضرب بها في سبيل الله، وما انتقم صلى الله عليه وسلم شيئاً صنع إليه إلا أن يكون لله في ذلك حرمة تنتهك فيكون لله ينتقم، وما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما، إلا أن يكون فيه قطيعة رحم فيكون أبعد الناس من ذلك.
1633- ولو لم يكن من حلمه صلى الله عليه وسلم وكرم عفوه إلا ما كان يوم فتح مكة لكان من أعجب العجب.
ذلك أنه حين دخل مكة -وكان أهلها قد قتلوا أعمامه ورجاله وأولياءه وأنصاره، وعذبوهم بألوان العذاب، واستعدوا عليه، وأرادوا نفسه وقتاً بعد وقت- فلما دخل جمعهم، ثم قام خطيباً فيهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أقول كما قال أخي يوسف عليه السلام: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، صلى الله عليه وسلم .
1634- يقال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلاً ينشد هذا البيت:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نارٍ عندها خير موقد(4/390)
فقال عمر رضوان الله عليه: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
1635- ويقال: أنشد شعر زهير في هرم بين يدي أبي بكر رضوان الله عليه:
دع ذا وعد القول في هرم ... خير الكهول وسيد الحضر
فقال أبو بكر رضي الله عنه: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال:
حامي الذمار على محافظة ... الجلى أمين مغيب الصدر
فقال أبو بكر رضي الله عنه: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال:
وإذا خلوت به خلوت إلى ... صافي الحقيقة طيب الخبر(4/391)
فقال أبو بكر رضي الله عنه: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال:
متصرفٍ للمجد معترفٍ به ... للنائبات يراح للذكر
فقال أبو بكر رضي الله عنه: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومما يدل على ثبات قلبه صلى الله عليه وسلم وشجاعته وشدة بأسه أن الناس فروا عنه يوم حنين والعباس رضي الله عنه آخذ بحكمة بغلته، وهو صلى الله عليه وسلم ينادي: يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة إلي أنا رسول الله.(4/392)
[257] بابٌ: في آداب النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته في الأمر والنهي وقول الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ} الآية
1636- أخبرنا أبو إسحاق: إبراهيم بن محمد الدينوري بمكة حرسها الله قال: أخبرنا أبو محمد: عبد الله بن وهب الحافظ الدينوري قال: حدثنا عباس قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن عجلان،(4/393)
عن القعقاع بن حكيم، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كفوا صبيانكم فحمة العشاء، فإنكم ما تدرون ما يبث الله من خلقه، أكفوا الإناء، وأوكوا السقاء، وغلقوا الأبواب، واطفئوا المصابيح.
1637- وقال صلى الله عليه وسلم : بلوا الأرحام ولو بالسلام.(4/394)
1638- وقال صلى الله عليه وسلم : ما زال جبريل يوصيني بحفظ الجار، حتى ظننت أنه سيورثه.
1639- وقال صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار الإقامة.
1640- وقال صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره.(4/395)
1641- وكان صلى الله عليه وسلم يحث على اصطناع المعروف، وقال: كل معروف صدقة.
1642- وقال صلى الله عليه وسلم : رأس العقل بعد الإيمان: مداراة الناس، ولن يهلك رجل بعد مشورة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة.(4/396)
[258] فصلٌ:
ولما جعل الله فيه من الرقة:
1643- قال صلى الله عليه وسلم : ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً.
1644- وقال صلى الله عليه وسلم : فلأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.(4/397)
1645- وقال صلى الله عليه وسلم : أقيلوا ذوي الهيئة عثراتهم.
فأمرهم صلى الله عليه وسلم بالكرم بإقالة ذوي الهيئة، لما جبله الله عليه، وجعله أولى خلقه بهم.
1646- وقال صلى الله عليه وسلم : تجافوا عن عقوبة ذوي المروءات إلا في حد من حدود الله.(4/398)
1647- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شفع شفاعة حالت دون حد من حدود الله فقد ضاد في الله في ملكه، ومن أعان على خصومة لا يعلم أحق أم باطل فهو في سخط الله حتى ينزع، ومن مشى مع قوم يري أنه شاهد وليس بشاهد فهو شاهد زور.(4/399)
1648- وقال صلى الله عليه وسلم : لا تطرقوا الطير في أوكارها، فإن الليل أمان لها.
وذلك لما جبله عليه الله من الرحمة.
1649- وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا، فوجد امرأة تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: فرق بيني وبين ابني ببيع بأرض بني عبس، فدعا بصاحب السبي -وهو: أبو أسيد الساعدي- فقال: أفرقت بينها وبين ولدها؟ قال: ضعف عن المشي ولم تقو هي على حمله فبعثه بأرض بني عبس، فقال صلى الله عليه وسلم : لتذهبن أنت بنفسك حتى تأتي به، فذهب أبو أسيد حتى جاء بابنها فرده عليها.(4/400)
1650- وقال صلى الله عليه وسلم : من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة.
1651- وكان صلى الله عليه وسلم يفزعه الريح إذا هاجت، فإذا قطرت السماء سري ذلك عنه وفرح صلى الله عليه وسلم .(4/401)
1652- وهبت ريح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشفت عن ثوب رجل فسبها ذلك الرجل، فقال صلى الله عليه وسلم : لا تسبها فإنها مأمورة.(4/402)
[259] فصلٌ:
1653- وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإعفاء اللحى، وقص الشوارب، وقال: انهكوا الشوارب واعفوا اللحى.
1654- وكان صلى الله عليه وسلم إذا اهتم أكثر من مس لحيته.(4/404)
1655- وقال صلى الله عليه وسلم : عشر من الفطرة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فأما الذي في الرأس: فقص الشوارب والمضمضة والاستنشاق، والسواك والفرق.
وأما التي في البدن: فالختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار وانتقاص الماء، وبعض الأخبار: غسل البراجم.
1656- ومن السنة: الترجل: أن يرجل غباً.(4/405)
1657- وكان صلى الله عليه وسلم ينظر في المرآة، ويرجل جمته ويمتشط، وربما نظر في الماء يسوي فيه جمته.
1658- ومن السنة الكحل واستعماله، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: عليكم بالإثمد.(4/406)
1659- وكان صلى الله عليه وسلم يكتحل في عينه اليمنى ثلاثاً، وفي اليسرى ثنتين.
1660- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: من شاء اكتحل ثلاثاً في كل عين، ومن فعل دون ذلك أو فوقه فلا حرج.(4/407)
1661- وربما اكتحل صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وكان كحله الإثمد.
1662- ومن السنة استعمال الطيب، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف بريح الطيب إذا أقبل.(4/408)
1663- وفي رواية: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بموضع عرف من طيبه. وهذا مختص بالرجال.
1664- لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة خرجت متعطرة لعنتها الملائكة حتى ترجع.
1665- وكان صلى الله عليه وسلم يعرف في الليلة المظلمة قبل أن يرى بطيب ريحه صلى الله عليه وسلم .
1666- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل جعل لذتي في النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة.(4/409)
1667- وعن سفيان الثوري رضي الله عنه، عن محمد بن المنكدر رحمه الله، عمن حدثه به عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: حباني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالورد بكلتا يديه، فلما أن قربته من أنفي، قال: أما إنه من سيد رياحين الجنة بعد الآس.
1668- وكان صلى الله عليه وسلم يتطيب بالمسك حتى يرى وبيصه في مفارقه، ويتطيب بذكارة الطيب، بالمسك والعنبر، ويتطيب بالغالية.(4/411)
1669- ومن السنة ألا يبيت إلا طاهراً، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من بات طاهراً بات في شعاره ملك، كلما تعار من الليل يقول الملك: اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهراً.
1670- وألا ينام وفي يده غمر، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من نام وفي يده ريح غمر فأصابه لمم فلا يلومن إلا نفسه.(4/412)
1671- وكان صلى الله عليه وسلم إذا راعه الشيء في منامه قال: هو الله لا شريك له.
1672- وكان صلى الله عليه وسلم كثير الرؤيا، ولا يرى في منامه إلا الخير.
ومن السنة ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عند الاستيقاظ من النوم، وهي دعوات مشهورة ذكرتها في باب الدعاء من كتاب الفتوة.
1673- وكان صلى الله عليه وسلم يستاك في ليلة ثلاث مرات، واحدة قبل نومه، وواحدة إذا قام من نومه إلى ورده، وواحدة قبل خروجه إلى الصبح.(4/413)
1674- وكان صلى الله عليه وسلم يستاك بالأراك.
1675- ومن السنة: صلاة الليل، اثنتا عشرة ركعة.(4/414)
1676- وكان صلى الله عليه وسلم يكثر تلاوة القرآن في غير صلاته.
1677- وكان صلى الله عليه وسلم أرق عباد الله في كتاب الله، وأطولهم فيه بكاء إذا خلا به، .. ..(4/415)
وأشدهم به ترسلاً.
1678- وقام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه.
1679- وكان يسمع لجوفه صلى الله عليه وسلم إذا قام بالليل إلى الصلاة أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
1680- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ترسلوا بالقرآن وقفوا على محاسنه،(4/416)
ولا تنثروه نثر الدقل.
1681- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لم يأذن لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن.
1682- قال صلى الله عليه وسلم : شيبتني هود وأخواتها.(4/417)
1683- ويقول: فابكوا في القرآن، فإن لم تبكوا فتباكوا.(4/418)
1684- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم ارزقني عينين هطالتين، تذرفان الدموع، تشفيان من مخافتك.
1685- وفي رواية أخرى: اللهم ارزقني عينين هطالتين تبكيان بذروف الدموع من خشيتك، ويشفيان من مخافتك، قبل أن تكون الدموع دماً، والأضراس جمراً.(4/419)
1686- وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسمع ما أسمع؟ أطت السماء وحق لها أن تئط، والذي نفسي بيده ما منها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء، ولما تقارفتم على الفرش، ولصعدتم إلى الصعدات تجأرون: ربنا، ربنا.
قال أبو ذر: ليتني كنت شجرة تعضد.(4/420)
1687- وكان إذا أتاه المؤذن فآذنه بصلاة الصبح خرج وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نوراً، واجعل في لساني نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل أمامي نوراً، واجعل خلفي نوراً، واجعل عن يميني نوراً، واجعل عن شمالي نوراً، واجعل فوقي نوراً، واجعل تحتي نوراً، اللهم تمم لي النور.
1688- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اجعلني من أفضل عبادك نصيباً في كل خير قسمته في هذا اليوم: من نور تهدي به أو رحمة تنشرها أو رزق تبسطه أو سوء تدفعه أو بلاء ترفعه أو ضر تكشفه.
ثم يستاك قبل أن يخرج إلى صلاة الصبح.(4/421)
1689- وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على عتبة بابه ثم يقول: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
1690- وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتعل بدأ باليمنى، وإذا خلع بدأ باليسرى.
1691- وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا لبس أحدكم نعليه فليلبس اليمنى ثم لينزع اليسرى قبل اليمنى.
1692- وكره صلى الله عليه وسلم أن يمشي الرجل في نعل واحدة.(4/422)
1693- وكان صلى الله عليه وسلم يذكر الله ويقول: إن الله يعجب من عبده إذا ذكره في السوق.
1694- وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل السوق قال: اللهم إني أسألك من خيره وخير ما فيه، وأعوذ بك من شره وشر ما فيه، اللهم إني أعوذ بك من يمين فاجرة ومن صفقة خاسرة.
1695- وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال أعرض عنه وقال: هلال رشد وخير، آمنت بالذي خلقك، الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وكذا وجاء بشهر كذا وكذا، اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام،(4/423)
الحمد لله الذي بدأك ثم يعيدك، آمنت بالذي خلقك وصورك وعدلك، ربي وربك الله، ثلاث مرات يرددها.
1696- وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أحب أن يخرج يوم الخميس ويكون غدواً.
1697- وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً صلى، ثم يقول: ما استخلف أحد على أهله خليفة إذا سافر مثل ركعتين يصليهما في أهله.(4/424)
1698- وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على أهله يقول: اللهم إني أسألك خير المدخل وخير المخرج، بسم الله خرجنا وبسم الله دخلنا، وعلى الله توكلنا، ثم ليسلم عليهم بعد ذلك.
1699- وكان صلى الله عليه وسلم إذا ودع رجلاً أخذ بيده ثم يقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك.(4/425)
1700- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ووجهك للخير حيث ما توجهت.
1701- وكان صلى الله عليه وسلم إذا أحدث الله له نعمة -صغرت أو كبرت- قال: الحمد لله رب العالمين كثيراً الذي بنعمته تتم الصالحات.(4/426)
فإما أن يركع ركعتين، وإما أن يخر ساجداً شكراً لله، وإذا كان سوى ذلك مما يخالفه قال: الحمد لله على كل حال.(4/427)
1702- وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه ما يحب قال: الحمد لله رب العالمين، وإذا جاء ما يكرهه قال: الحمد لله على كل حال.
1703- ومر صلى الله عليه وسلم بمبتلى -أحسبه مجذوماً- فسجد شكراً لله على الذي عافاه مما ابتلاه به، فلما رفع رأسه قال: أما كان هذا يسأل الله العافية.(4/428)
1704- وكان صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوباً جديداً سماه باسمه، إن كان قميصاً أو رداء أو إزاراً أو عمامة، يقول: اللهم أنت كسوتني فلك الحمد، اللهم إني أسألك خير ما صنع له، وأعوذ بك من شر ما صنع له.
1705- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: بسم الله، الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في الناس.(4/429)
[260] فصلٌ:
قال أبو سعد: ومن السنة أن يأخذ بالفضل ما أمكنه:
1706- فكان صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوباً جديداً حمد الله، ثم يدعو مسكيناً فيعطيه أخلاق ثيابه.
1707- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يكسو مسلماً من سمل ثيابه لا يكسوه إلا لله إلا كان في ضمان الله وحرزه وخيره ما واراه حياً وميتاً.
1708- وقال صلى الله عليه وسلم : وما من مسلم يكسو مسلماً إلا كان في حفظ الله ما دامت عليه من رقعة.(4/430)
1709- وجاءه صلى الله عليه وسلم ناسٌ، قدموا عليه عراة يستكسونه فدخل فما وجد شيئاً إلا ستراً لفاطمة رضي الله عنها قد لفته على بعض المتاع، فقال لها: يا فاطمة، هل لك أن تشتري نفسك بهذا الستر من النار؟ قالت: نعم، فأخذه فقطعه بينهم ذراعين في ذراعين فوارى سوءاتهم وأعطى فاطمة رضي الله عنها أعظم الثمن وأجزله.(4/431)
1710- وقالت امرأة لابنها: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل: إن أمي تقرأ عليك السلام وتقول: أعطني ثوباً أقطعه درعاً، فأتى الغلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أمي تقرأ عليك السلام وتقول: أعطني ثوباً أقطعه درعاً، فقال: ليس عندنا حتى يجيئنا، فقال: إنها تقول: أعطني رداءك حتى أقطعه درعاً، فقال صلى الله عليه وسلم : أنظرني حتى أدخل الحجرة، فلما توارى بالباب ألقى إليه رداءه فذهب به الغلام إلى أمه.(4/432)
1711- وقالت عائشة رضي الله عنها: سأل سائل على بابي فقلت للجارية: أطعميه: فجاءت تريني ما تطعمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عليك.
1712- وقال صلى الله عليه وسلم : إنه ما طلعت الشمس يوماً قط ولا غابت إلا وعن يمينها، وعن شمالها ملكان، فإذا طلعت نادى أحدهما: يا صاحب الشر أقصر ويا صاحب الخير أبشر، وإذا غابت قال أحد الملكين: اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً.(4/434)
[261] فصلٌ: ومن آداب المساجد
1713- ولا يستحب أن يأخذ مكاناً في المسجد يرجع إليه لوقت الصلاة للنهي الوارد فيه.
1714- ومن السنة لداخل المسجد أن لا يجلس حتى يصلي ركعتين، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسليك الغطفاني لما جلس: أركعت؟ قال: لا، قال: قم فصل.
وهذه مسألة فيها خلاف، إذا كان الإمام يخطب.
فأما إذا دخل المسجد الحرام:(4/435)
1715- فالسنة فيه أن يبدأ أولاً بالطواف، ثم بالصلاة.
1716- ولا يجوز أن يتخذ المسجد طريقاً لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتخذوا المساجد طرقاً.
1717- ومن السنة أن يبدأ برجله اليمنى إذا دخل، وبرجله اليسرى إذا خرج.(4/436)
1718- وإن جلس في المسجد يجلس متوجهاً نحو القبلة، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: لكل شيء زينة، وزينة المجلس استقبال القبلة.
1719- ولا يرفع صوته في المسجد، ولا ينشد ضالته، لما قال عليه الصلاة والسلام لناشد: لا وجدت، لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له.
1720- ولا يشهر السلاح؛ للنهي الوارد فيه.
1721- ولا يدع المجنون والصبيان يدخلوا المسجد؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: جنبوا المساجد الصبيان والمجانين.(4/437)
1722- ولا يبع ولا يشتر في المسجد، لما روي أنه لا يبارك فيه، على أن البيع يقع صحيحاً.
1723- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ليليني منكم في الصلاة ذو الألباب ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.(4/438)
1724- وأنه صلى الله عليه وسلم مر بزقاق من أزقة الأنصار، فأقيمت الصلاة في مسجدهم فدخل فصلى بهم، فلما سلم رأى النخامة في القبلة، فقال: أين إمامكم؟ قال: ها أنا ذا يا رسول الله، فقال: أما تفتقد مسجدك؟ أما ترى هذه النخامة في القبلة؟ قد عزلتك عن إمامتك، ثم قام فحكها، فلما كان بعدها ما شاء الله مر بذلك الزقاق فسمع الإقامة في مسجدهم، فدخل فصلى بهم فنظر إلى ذلك المكان عليه خلوق فقال: ما هذا؟ فقالوا: بآبائنا وأمهاتنا لما خرجت أنت جاءت امرأة إمامنا فقال: لم عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجي عن إمامته؟ فأخبرناها، فذهبت فجاءت بماء فغسلت ذلك المكان ثم خلقته، فقال صلى الله عليه وسلم : أين زوجها؟ قال: ها أنا ذا يا رسول الله، فقال: قد رددتك على إمامتك لما صنعت امرأتك.(4/439)
[262] فصلٌ: في آداب الطعام والشراب
1725- ومن السنة غسل اليد قبل الطعام وبعده، لما قال صلى الله عليه وسلم : غسل اليد قبل الطعام يذهب الفقر، .. ..(4/440)
وبعد الطعام يذهب اللمم.
1726- وقال صلى الله عليه وسلم : غسل اليدين قبل الطعام يذهب الفقر، وبعده يذهب الدرن.
1727- ومن أدب الأكل أن يسمي الله، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك، وادن من الطعام.
1728- وقال صلى الله عليه وسلم : أكرموا الطعام.(4/441)
1729- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض، ويقول: آكل كما يأكل العبد.
1730- وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً قال: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وارزقنا خيراً منه، إلا أنه كان إذا أكل لحماً أو لبناً قال: وزدنا من فضلك، إنا إليك راغبون، ويغسل يده.(4/442)
1731- وكان صلى الله عليه وسلم يقول في رجل رآه سميناً قال: ما تأكل؟ قال: ليس بأرضي حب، وإنما آكل اللحم واللبن، فقال صلى الله عليه وسلم : جمعت بين اللحمين.(4/443)
1732- وكان صلى الله عليه وسلم لا يأكل وحده ما أمكنه.
1733- لما قال صلى الله عليه وسلم : طعام الواحد يكفي الاثنين.
1734- وقال صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من أكل وحده، وضرب عبده، ومنع رفده.(4/444)
1735- ومن السنة أن يتتبع ما يسقط من المائدة، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: من تتبع ما يسقط من المائدة فأكله نفى عنه الفقر وعن عياله وعن أهل بيته.(4/445)
1736- ورأى صلى الله عليه وسلم أبا أيوب الأنصاري يلتقط نثارة المائدة فقال له: بورك عليك، وبورك فيه، فقال له أبو أيوب: يا رسول الله وغيري؟ قال: نعم، من أكل ما أكلت فله ما قلت لك، وقال: من فعل هذا وقاه الله الجنون الجذام والبرص والفالج وذات الجنب والماء الأصفر والحمى والحمق.
1737- ورأى صلى الله عليه وسلم لقمة على الأرض فقال: يا عائشة أحسني جوار نعم الله، فإنها قل ما زالت عن قوم فعادت إليهم.
1738- ومنها إطعام الطعام، لما قال عليه الصلاة والسلام: أطعموا الطعام.
1739- وأضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيفاً كافراً وما عنده إلا ست شياه، فأمر فحلبت له شاة شاة حتى شرب الضيف لبنها كلها، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتوي، فلما أصبح أسلم الضيف فكساه ثوباً وأمر أن تحلب له الست أيضاً، فحلبت له شاة فروى منها ففضل الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الكافر يشرب في سبعة أمعاء، .. ..(4/447)
والمؤمن يشرب في معي واحد.
1740- وقال صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يطعم مسلماً على جوع إلا أطعمه الله من ثمار الجنة، ولا يسقي على ظمأ إلا سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وما من مسلم كسا مسلماً إلا كساه الله من خضر الجنة.(4/448)
1741- وقال صلى الله عليه وسلم : من لذذ أخاه المسلم ما يشتهي كتب الله له ألف حسنة، ومحى عنه ألف سيئة، ورفع له ألف درجة، وأطعمه الله من ثلاث جنان: من جنة الفردوس، وجنة عدن، ومن جنة الخلد.(4/449)
1742- وقال صلى الله عليه وسلم : من أطعم مريضاً شهوته أطعمه الله من ثمار الجنة.
1743- ومنها: ترك النفخ في الطعام والشراب وأكل الحار.(4/450)
1744- وقال صلى الله عليه وسلم : الحار والقار منزوعا البركة.(4/451)
ومنها: إجابة الدعوة.
1745- قال صلى الله عليه وسلم : إذا دعي أحدكم فليجب.
1746- ثم لا يدخلن حتى يؤذن له، .. ..(4/452)
فإن كان صائماً دعا بالبركة، وليخفف ولا يقعد.
1747- قال صلى الله عليه وسلم ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله.
1748- ودعاه صلى الله عليه وسلم قوم من أهل المدينة إلى طعام صنعوه له ولأصحاب له خمسة فأجاب دعوتهم، فلما كان .. ..(4/453)
في بعض الطريق أدركهم سادس، فقال: إن القوم لم يدعوك فاجلس حتى تذكر لهم مكانك ونستأذنهم لك.
1749- ويكره إجابة من يشهد وليمة يحضر فيها الأغنياء دون الفقراء.
1750- لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشهد وليمة يحضر فيها الأغنياء دون الفقراء.
1751- ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم دعي إلى وليمة ختان فأبى أن يجيب.(4/454)
1752- ودعي صلى الله عليه وسلم إلى وليمة، فلما دخل البيت إذا هم قد ستروا جدرانه وسقفه، فنظر إليه فقال: ما أدري، اشتكى بيتكم هذا العري فكسوتموه، أو شكى إليكم البرد فأدفيتموه؟!
قال: ثم خرج.(4/455)
ومنها: أكل البقول.
1753- لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالرجلة -وهي البقلة الحمقاء- ويقال لها: البقلة المباركة، وكان صلى الله عليه وسلم وجد في رجله حرارة فأخذ منها فعصرها على رجله فوجد لذلك راحة فقال: اللهم بارك فيها، إن فيها شفاء من تسعة وتسعين داء أدناه الصداع، انبتي حيث شئت.(4/458)
ومنها: أكل الكرفس:
1754- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن أخي موسى صبر مع الخضر لأصاب منه ألف باب من العلم سوى خرقه السفينة وقتله الغلام وإقامته الجدار، فقال عبد الله بن سلام في كلام: يا رسول الله ما كان ذلك العلم الذي علمه الخضر؟ قال: علم السماء السابعة، وما تحت العرش، وما في البيت المعمور، وما وراء سدرة المنتهى، وما في الهواء، وإن الخضر في البحر وإلياس في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين بين الناس وبين يأجوج ومأجوج ويحجان في كل عام ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل وطعامهما الكرفس.(4/459)
1755- وقال صلى الله عليه وسلم : من أكل الكرفس ثم نام عليه نام ونكهته طيبة، ونام آمناً من وجع الأضراس والأسنان.(4/460)
ومنها: أكل الشذاب.
1756- قال صلى الله عليه وسلم : من أكل الشذاب ثم نام عليه نام آمناً من الداء والدمل وذات الجنب.
ومنها: ترك الكراث.
1757- لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أكل الكراث ثم نام عليه نام آمناً من ريح البواسير ونكهته منتنة، واعتزله الملكان حتى يصبح.
ومنها: ترك الجرجير.
1758- لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أكل الجرجير ثم نام عليه نام وعرق الجذام ينازعه في أنفه.(4/461)
1759- وقال صلى الله عليه وسلم : رأيتها نابتة في النار.
ومنها: الهندباء.
1760- قال صلى الله عليه وسلم : من أكل الهندباء ثم نام عليه لم يحك فيه سحر ولا سم، ولا يقربه شيء من الدواب: حية ولا عقرب حتى يصبح.
1761- وقال صلى الله عليه وسلم : كلوا الهندباء ولا تنفضوه، فإنه ليس يوم من الأيام إلا وقطراً من الجنة يقطرن عليه.(4/463)
ومنها: ترك البقلة المنتنة والثوم والبصل.
1762- لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يكره البقلة المنتنة، والثوم والبصل.(4/465)
1763- وقال صلى الله عليه وسلم : من أكل الثوم والبصل فلا يغشانا في مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى به كما يتأذى المسلم.(4/466)
ومنها: الدباء.
1764- كان صلى الله عليه وسلم يحب الدباء بالعدس.
1765- وقال صلى الله عليه وسلم : من أكل الدباء بالعدس رق قلبه عند ذكر الله، وزاد في دماغه.(4/467)
ومنها: استعمال الملح.
1766- لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أكل الملح أول كل شيء وآخر كل شيء دفع الله عنه ثلاثاً وسبعين نوعاً من البلاء أهونها: الجذام.(4/470)
ومنها: ألا يشرب قائماً.
1767- لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من شرب قائماً فأصابه شيء من المرض لم يستشف أبداً.(4/471)
1768- على أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتي بذنوب من ماء فكرع منه وهو قائم وشرب، ولكن الأحسن أن يشرب الماء جالساً ليأخذ بالأدب.
1769- وشرب رجل قائماً فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أيسرك أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: فقد شرب معك من هو شر منه: الشيطان.
1770- ومن السنة أن لا يشرب من الموضع المكسور.(4/472)
1771- ولا يشرب من إناء فضة أو ذهب، للنهي الوارد فيهما.
1772- ولو شرب من إناء له حلقة فضة جاز.
1773- ومن السنة أن يتنفس ثلاثة أنفاس، .. ..(4/473)
فإذا ابتدأ ذكر الله، وإذا فرغ حمده.(4/474)
1774- ولا يتنفس في الإناء ولا ينفخ فيه.
1775- ونهى عليه الصلاة والسلام عن ثلاث نفخات: نفخة في الطعام، ونفخة في الشراب، ونفخة في السجود.(4/475)
1776- ولو شرب في إناء من زجاج فقد ورد به الخبر.
1777- وأما الشرب من أذن القدح فإنه مخالف السنة.
1778- ومنها: أن يشرب مصاً، ولا يعب عباً، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: الكباد من العب.(4/476)
1779- ويستحب سقي الماء، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: في كل ذات كبد حرى أجر.(4/480)
1780- وقال صلى الله عليه وسلم : بينما رجل يمشي في الطريق إذ مر بكلب قد عطش على رأس بئر، فنزع الرجل خفيه، ثم ربطه بعمامته فدلاه البئر، فأخرج ماء وسقى ذلك الكلب، فشكر الله له ذلك وغفر له، فقيل: يا رسول الله ألنا أجر في البهائم؟ فقال: نعم، وفي كل ذات كبد رطب أجر.(4/481)
[263] فصلٌ: ومن فعله صلى الله عليه وسلم في الطب
1781- كان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي صدع، فغلف رأسه بالحناء.
1782- وكان صلى الله عليه وسلم يداوي ما يكون في جسده من بثر أو غيره بالحناء يضعه عليها.(4/482)
1783- وكان صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى شيئاً جمع يديه وقرأ فيهما بالمعوذات وتفل فيهما، ثم ردهما على وجهه.
1784- وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه من به قرحة قد أعياه برؤها، أخذ صلى الله عليه وسلم بإصبعه من ريقه فوضعها على الأرض فحملت من التراب ما حملت، فوضعها على القرحة ثم يقول: بسم الله، ريقة بعضنا، بتربة أرضنا، تشفي سقيمنا، بإذن الله.
1785- وكان صلى الله عليه وسلم ربما يأمر عائشة بأن تعوذه فتقول: أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً، ثم تمسح بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جسده رجاء بركتها.
1786- وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض لم يحضر أجله قال:(4/483)
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، سبع مرات فعوفي.
وقل ما يقال عند مريض في أجله تأخير إلا برأ.
1787- وكان صلى الله عليه وسلم يأكل هو وأصحابه تمراً، فجاء صهيب وقد غطى على عينه وهو أرمد فسلم، فأهوى فوضع يده في التمر يأكل، فقال صلى الله عليه وسلم : تأكل الحلوى وأنت أرمد؟ فقال: يا رسول الله إنما آكل بشق عيني الصحيحة.
فضحك صلى الله عليه وسلم وتركه يأكل.
1788- وكان صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب يوماً فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أرمد فدنا يأكل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتأكل الحلوى وأنت أرمد؟
فتنحى ناحية، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إليه فرمى إليه برطبة(4/484)
فأكلها، ثم أخرى حتى رمى إليه بسبع، ثم قال: حسبك فإنه لا يضر ما أكل من التمر وتراً، وجاءوا ببقلة يقال لها: بقلة الأنصار، فوضعت بين أيديهم، فأكل هو وأصحابه ثم قال: يا أبا الحسن، إن كنت آكلاً فمن هذه.
1789- وكان صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة.(4/485)
1790- وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل، ويكره الطيرة.
1791- ويقول: الطيرة شرك، وما منا إلا (ويجد في نفسه) ولكن الله تعالى يذهبه بالتوكل (وما من عبد إلا سيدخل قلبه طيرة).(4/486)
1792- فإذا هو أحسن بذلك فليقل: بسم الله ولا قوة إلا بالله، أنا عبد الله، ما شاء الله، لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب السيئات إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، أشهد أن الله على كل شيء قدير، ثم يمضي لوجهه.
1793- وفي بعض الأخبار: أن رجلاً قام -حين ذكر عليه الصلاة والسلام: لا عدوى ولا طيرة ولا صفر، فقال: يا رسول الله البعير حين يكون فيه الجرب فيعدي الإبل؟ قال: ذلك القدر، فمن أجرب الأول.(4/487)
1794- على أنه روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لمجذوم: ارجع فقد بايعناك، ولم يصافحه.
قال أبو سعد رحمه الله: كان هذا في بدء الإسلام، فأراد صلى الله عليه وسلم بذلك أن يحفظ قلوب القوم مخافة أن يصافحهم فيدخلهم منه شيء ولم يخف على نفسه، والله أعلم.
ومن السنة أن يديم الحجامة، قال صلى الله عليه وسلم : لما عرج بي، ما مررت بسماء إلا قالوا: مر أمتك بالحجامة.(4/488)
[264] فصلٌ: ذكر آدابٍ متفرقة
ومن السنة أن يأخذ بالفضل ما أمكنه.
1795- لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نفس عن أخيه كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون عبده ما دام العبد في عون أخيه.
1796- ومن السنة أن لا يمنع الماعون - وهو: ما يحتاج إليه جيرانه وعدموه عند أنفسهم كالقدر والفأس، والمغرفة وأشباهها.(4/489)
1797- ومن السنة أن لا يكتم علماً ولا يمنعه عن أهله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان عنده علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار.
1798- ويخالط الناس، لما قال عليه الصلاة والسلام: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.(4/490)
1799- ولا يدخل على أحد إلا بإذن.
1800- ومن السنة أن يسلم قبل الدخول.
1801- ولا ينظر ولا يطلع إلا بإذنهم، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فلا دية ولا قصاص.(4/491)
1802- ويجتنب أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يسمعه، لما روي أنه قال صلى الله عليه وسلم : من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.
1803- ويجتنب الكذب واللهو والغيبة والنميمة والخوض في النجوم، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لست من دد ولا الدد مني، يعني اللهو والطرب.(4/492)
1804- عن البراء بن عازب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته حتى أسمع العواتق في الخدور: يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان في قلبه، اتقوا الله ولا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته.(4/493)
1805- وقال صلى الله عليه وسلم : الكذب مجانب الإيمان.
1806- وقال صلى الله عليه وسلم : من اقتبس علماً من النجوم، اقتبس شعبة من السحر.(4/494)
1807- ويكره المدح في الوجه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: احثوا في وجوه المداحين التراب.
1808- ويقول صلى الله عليه وسلم : إن كان أحدكم مادحاً أخاه لا محالة فليقل: أحسب، ولا أزكي على الله أحداً.
1809- ومن السنة أن يشاور في المهم، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لن يهلك رجل بعد مشورة.(4/495)
1810- ومن السنة أن لا يسب شيئاً ولا يلعن، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر فهبت ريح فكشفت عن رجل قطيفة فلعنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعنتها؟ قال: يا رسول الله كشفت قطيفتي، فقال: إذا رأيتها فاسأل الله من خيرها، وتعوذ من شرها، ولا تلعنها فإنها مأمورة.
1811- ويستحب أن لا يسافر وحده أو يبيت في بيت وحده، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو يعلم أحدكم ما له في الوحدة ما سار أحد بليل.
1812- ويكره التطير، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الطيرة.
1813- وقال صلى الله عليه وسلم : الطيرة شرك، وما منا إلا (ويجد في نفسه) ولكن الله يذهبه بالتوكل.
1814- ومن السنة أن يؤخذ برخص الله، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.(4/496)
1815- ومن السنة ألا يكون جباناً ولا بخيلاً ولا مناناً، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية، ويحب السماحة ولو على تمرة.(4/498)
1816- وقال صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة منان.
1817- وقال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، قال: فأتيته فلما نظرت إليه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يقول: افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام.
1818- وروي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علمني عملاً يدخلني الجنة وينجيني من النار، قال: تقول العدل، وتعطي(4/499)
الفضل، قال: ومن يطيق ذلك؟ قال: تطعم الطعام، وتفشي السلام، قال: ومن يطيق ذلك؟ قال: هل لك إبل؟ قال: نعم، قال: فانظر إلى بعير منها وسقاء وإلى أهل بيت لا يشربون الماء إلا غباً، قال: فلعله أن لا يهلك بعيرك، ولا ينخرق سقاؤك حتى تجب لك الجنة، فأدبر وهو يكبر.(4/500)
1819- وروي: أن السلام اسم من أسماء الله تعالى مقدس، وضعه بين أهل الأرض، وما بينه وبين اسم الله الأعظم إلا كقرب سواد العين من بياضها، وهو تحية الملائكة المقربين للمؤمنين، قال الله عز وجل: {والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ سلامٌ عليكم} الآية.(4/501)
1820- وقال ابن عباس: من كرم الرجل سلامه على من يعرفه ومن لا يعرفه، السلام أحب الأشياء إلى الله تبارك وتعالى، وهو سنة لآدم وولده والأنبياء من بعده، وإن إبليس ليبكي من سلام ابن آدم على أخيه ويقول: يا ويله لم يتفرقا حتى غفر لهما.(4/502)
1821- وقال صلى الله عليه وسلم : من سلم على أخيه المسلم كتب الله له عشرين حسنة، وكتب للراد عشر حسنات.
1822- وروي عنه صلى الله عليه وسلم إذ سئل: أينحني بعضنا لبعض إذا التقينا؟ قال: لا، قيل: أيصافح بعضنا بعضاً؟ قال: نعم.
1823- وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا التقى المسلمان فتصافحا، لم يفترقا حتى يغفر لهما.(4/503)
1824- وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا لقي أحدكم أخاه فليصافحه، فإنه أثبت للمودة.
1825- وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: المصافحة تسل السخيمة.(4/507)
1826- وروي عن الحسن أنه قال: تصافحوا فإنه يزيد في المودة.
1827- وروي أن الصحابة كانوا إذا صافح بعضهم بعضاً قرأوا: {والعصر. إن الإنسان لفي خسرٍ} الآية، فروي أنها سنة.
1828- وروي عن بعضهم: أنه أمان من العذاب، ولم يفشه قوم إلا أمنوا من العذاب.(4/508)
1829- وروى سويد بن علقمة بن الحارث، عن أبيه علقمة بن الحارث قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا سابع سبعة من قومي، فسلمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد علينا، فكلمناه فأعجبه كلامنا فقال: من أنتم؟ قلنا: مؤمنون، قال: لكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانكم؟ قلنا: خمس عشر خصلة، خمس أمرتنا بها، وخمس أمرتنا بها رسلك، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية، ونحن عليها إلا أن تنهانا يا رسول الله.
قال: وما الخمس التي أمرتكم بها؟ قالوا: أمرتنا أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره.(4/509)
قال: وما الخمس الذي أمرتكم بها رسلي؟ قلنا: أمرتنا رسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، ونقيم الصلاة المكتوبة، ونؤدي الزكاة المفروضة، ونصوم شهر رمضان، ونحج البيت إن استطعنا إليه سبيلاً.
قال: وما الخصال التي تخلقتم بها في الجاهلية؟ قلنا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والصدق في مواطن اللقاء، والرضا لمر القضاء، وترك الشماتة إذا حلت بالأعداء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقهاء، أدباء، كادوا يكونون أنبياء من خصال ما أشرفها، وتبسم إلينا ثم قال: وأنا أوصيكم بخمس خصال يكمل الله لكم خصال الخير: لا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا فيما غداً عنه تزولون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون، وعليه تقدمون، وارغبوا فيما إليه تصيرون، وفيه تخلدون.(4/510)
1830- وكان صلى الله عليه وسلم يمنع عن الهجران، ويحث على التواصل، وقال صلى الله عليه وسلم : لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث.
1831- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ومن بدأ السلام فهو أولى بالله ورسوله.
1832- وقال صلى الله عليه وسلم : من هجر أخاه فوق ثلاث فهو في النار.(4/511)
1833- وكان صلى الله عليه وسلم يذم الغضب، وقال صلى الله عليه وسلم : ما تعدون الصرعة فيكم -أو الشدة-؟ قالوا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: لا، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب.
1834- وتنازع رجلان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت أوداج أحدهما واحمرت عينه، فقال صلى الله عليه وسلم : إني لأعرف كلمة لو قالها هذا الغضبان لذهب غضبه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
1835- وجاءه رجل فقال: علمني عملاً أدخل به الجنة؟ قال: لا تغضب.(4/512)
1836- وكان فعله صلى الله عليه وسلم الرفق، وقال صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الرفق في شيء إلا زانه، ولا يفارق شيئاً إلا شانه.
1837- وقال في بعض كلامه لعائشة رضي الله عنها: اعلمي أن الرفق لم يدخل في شيء قط إلا زانه، ولم يفارق شيئاً قط إلا شانه.(4/513)
1838- وروي أن جماعة من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا محمد، فقال صلى الله عليه وسلم : وعليكم، فسمعت عائشة رضي الله عنها فقالت: عليكم السام والبرسام، فقال صلى الله عليه وسلم : مهلاً يا عائشة، فإن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه، وما دخل العنف شيء إلا شانه.
1839- وحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفنة من عند أم سلمة -ثريداً أو طعاماً- فرمته عائشة وكسرتها، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع ذلك في جفنة ويقول: غارت أمكم، غارت أمكم.
1840- وكان صلى الله عليه وسلم يحث على الرفق بالولد وغيره، وقال: من كان له ثلاث بنات، يكفيهن ويرحمهن ويرفق بهن فهو في الجنة.(4/514)
1841- وقال صلى الله عليه وسلم : من كانت له أنثى فلم يئدها، ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها -يعني: الذكور- أدخله الله الجنة.
1842- وقال صلى الله عليه وسلم : من كانت له أختان -أو بنتان- فأحسن إليهما كنت أنا وهو كهاتين -يعني: السبابة والوسطى-.(4/515)
1843- وفي بعض الأخبار: وإن كانت واحدة.
1844- وروي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -أو غيره- رجع من اليمن، وكانوا قبل ذلك يتكلمون في الصلاة.(4/516)
قال: أدركت الصلاة وهم يصلون، فقلت: كم صليتم؟ فجعلوا ينظرون إلي شذراً، ويضربون أفخاذهم، فخشيت أنه نزل في قرآن، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاني فما ضربني ولا نهرني بأبي وأمي ما رأيت معلماً أحسن تأديباً منه، فقال: إنما جعلت الصلاة للتهليل والتسبيح والتحميد.
1845- ووري أن بعض الأعراب دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال، فهم أصحابه بضربه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تقطعوا عليه بوله وارفقوا به،(4/517)
فلما فرغ دعاه فقال: إنما بني هذا المسجد للصلاة فيه، فأمر بذنوب من ماء فصب على بوله، فخرج الرجل من عنده وقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: لقد حجرت واسعاً.(4/518)
[265] فصلٌ: وما نقم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحدٍ من الناس في شيءٍ فعرف به
1846- ولقد كلمه عمه العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب في العفو عن أهل مكة ليلة أسر أبو سفيان وأسلم، فقال العباس: بأبي أنت وأمي هم عشيرتك وبيضتك التي تفلقت عنك، وهم الأعمام والأخوال، والآباء والأبناء، لو قد بدأت بهم فعفوت عن وفدهم، وهذا أبو سفيان ذو شرف وسن فاصنع إليه شيئاً ينال به ذكراً، فقال صلى الله عليه وسلم : مروا صائحاً يصيح: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
فقال أبو سفيان: بأبي وأمي، وما داري؟ إنما هي مربض العنز، ولكن آمن قومك حيث كانوا، فقال صلى الله عليه وسلم : من وضع السلاح فهو آمن، ومن أتى المجلس فجلس فيه فهو آمن، ومن كف يده فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن.
فأعطاهما النبي صلى الله عليه وسلم كل ما طلباه.(4/519)
[266] فصلٌ: وكان صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إلى العفو والبر وأولاهم به صلى الله عليه وسلم
1847- روي أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمزود له فقال: املأ هذا تمراً وهذا سويقاً، لست تعطي من مالك ولا من مال أبيك، فقال: أعد، كيف قلت؟ فأعاد الرجل كلامه، فقال صلى الله عليه وسلم : املأوا هذا تمراً وسويقاً، لست أعطي من مالي ولا من مال أبي.(4/520)
1848- وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: احملني، فقال: لا أحملك، قال: لا بد أن تحملني، فقال: والله لا أحملك.
فولى الرجل وآيس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتوني به لأحمله، فقيل: يا رسول الله حلفت ألا تحمله.
قال: إني إذا حلفت على يمين فرأيت أن غيرها خيراً منها كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير.
1849- وسأله رجل فقال: ما أجد ما أعطيك، فولى الرجل عنه وهو مغضب وهو يقول: أما إنك تعطي من شئت، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على(4/521)
الناس وقال: يغضب أحدكم إذا لم أجد ما أعطيه يوماً.
1850- وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً فقال رجل: هذا قسم ما أريد به وجه الله تعالى، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نظر إلى الرجل فقال: يرحم الله أخي موسى، قد كان يؤذى بأشد من هذا فصبر.
1851- وخرج عكرمة بن أبي جهل حين افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة(4/522)
هارباً إلى اليمن، فخرج من أهله من يخبره بكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفوه، وأنه لا يثرب على أحد شيئاً ولا يؤاخذه بما مضى، فرجع حتى دخل المسجد الحرام وهو خائف، فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إليه ونشر رداءه حتى استقبله وقبل بين عينيه، استئلافاً وكرماً وعفواً.
فقال عكرمة: ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان أحب إلي من النفس والولد والوالد، ثم أسلم وحسن إسلامه حتى استشهد يوم أجنادين.
1852- وروي أن بعض المتصلين بأبي جهل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نؤذى في الأسواق، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر وقال: لا تسبوا الأموات فتحزنوا به الأحياء.(4/523)
1853- وأمر صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره بلالاً أن يرقب لهم الفجر، فنام بلال، فلم يشعر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه حتى أصابتهم الشمس، فقال الناس: ماذا صنعت بنا يا بلال؟ فجعل صلى الله عليه وسلم يعذره ويقول: إن بلالاً أتاه الشيطان وهو يرقب لكم الفجر فأخذ يهديه كما يهدي الصبي حتى نام، فقال أبو بكر:(4/525)
أشهد أنك رسول الله.
1854- وكان يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له صلى الله عليه وسلم بالبركة أو يسميه فيأخذه صلى الله عليه وسلم فيضعه في حجره تكرمة لأهله، فربما بال الصبي عليه فيصيح(4/526)
بعض من رآه حين بال، فيقول: لا تزرموا الصبي، فيدعه حتى يقضي بوله، ثم يدعو له أو يسميه إياه فيبلغ سرور أهله فيه، ولا يرون أنه تأذى ببول صبيهم، فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعد، وأتبع ذلك البول الماء.
1855- ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عباس حين ولد فأخذ بفقميه، ثم مج في فيه من ريقه صلى الله عليه وسلم ثم قال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، فحنكه بأفضل ما حنك به أحد من الناس بريق النبوة.
وكان ابن عباس غاية في الفقه والمعرفة بالتأويل.
1856- وجاءت عائشة رضي الله عنها بابن الزبير حين ولد فحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث لعق من عسل.(4/527)
1857- وكان صلى الله عليه وسلم يحنك الصبيان بالتمر أيضاً.
1858- وكان من أفعاله صلى الله عليه وسلم ألا يدع العقيقة عن المولود من أهله، ويأمر بثلاث: حلق رأس ذلك الصبي، .. ..(4/528)
وأن يتصدق عنه بوزن شعره فضة.
1859- ولقد عق صلى الله عليه وسلم عن نفسه بعد ما جاءته النبوة.(4/529)
[267] فصلٌ: في كرمه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وإكرامه لهم ومكافأته لمحسنهم وتجاوزه عن المسيء منهم
1860- ولقد كافأ صلى الله عليه وسلم الأنصار بإكرامهم إياه، فقال: إذا لقيتم الأنصار فأجلوهم، فإنه طالما تنعمت بينهم.
1861- وقال: من ولي من أمور الناس شيئاً فليحفظني في الأنصار، وليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، فكافأهم صلى الله عليه وسلم بأعظم المكافأة، وأبقاها لهم ذكراً وشرفاً.(4/532)
1862- وجاء عثمان بن عفان يوماً يطلب النبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة: ما أدري أين ذهب؟ ولقد خرج وإنه لمحتاج إلى الطعام، فذهب عثمان فاشترى كبشاً سميناً، فأمر به فذبح وطبخ، وأمر بخبز فجعل في جفنتين ثم صب فيهما مرق ذلك الكبش ولحمه، ثم حملهما إلى عائشة رضي الله عنها، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتاج إلى الطعام، والطعام على حاله، فكشفت له عائشة الجفنتين فقال: ما هذا؟ فأخبرته خبر عثمان، فتقدم إلى القبلة ورفع يديه مداً ويقول: اللهم لا تنساه، ثلاث مرات، فكافأه صلى الله عليه وسلم حين تفقد أمره بأعظم المكافأة.
1863- وساير رسول الله صلى الله عليه وسلم جابر بن عبد الله على جمل له فقال:(4/533)
بعني جملك، فقال: هو لك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقال: بل بعنيه، فباعه إياه، فأمر بلالاً أن ينقده الثمن فنقده، ثم قال جابر:(4/534)
قد أخذت الثمن بأبي وأمي أنت يا رسول الله فإلى من أدفع الجمل؟ فقال: اذهب بالجمل والثمن، بارك الله لك فيهما، مكافأة لقول جابر: بل هو لك بأبي أنت وأمي، فأعطاه الثمن ورد إليه الجمل وزاده خيراً منهما: الدعاء فيهما.
1864- وكان رجل بالمدينة يقال له: عبد الله، ويلقب: حمار، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالباكورة أول ما يدخل المدينة مثل اللبن والجبن والرطب أو الشيء الظريف أول ما يدرك فيقول: بأبي وأمي أنت، هذا أول ما يدخل المدينة فجئت به أهديه لك فيأمر به فيؤخذ، فإذا كان بالعشي حين يروح الركبان طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا صاحب السلعة التي أهديت لك بطلب ثمنها وليس هو عندي، فيضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يأمر فيعطى ذلك عنه، حتى أتى به قد شرب شراباً فأمر به فصنع به مثل ما يصنع بمثله، فقال رجل من الناس: عليك غضب الله أبعد ما نزلت من رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/535)
المنزلة صنعت هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : لا تؤذيه فإنه ما علمت، قد كان يحب الله ورسوله، فأخذ صلى الله عليه وسلم منه وحفظ حرمته، وأجمل المقال، ثم ما بكته بشيء من ذلك ولا أنكر في وجهه.
1865- ودعا للعباس بن عبد المطلب ليلة العقبة حين أخذ له العهد والعقد على الأنصار، ولم يكن معه من أهل بيته ولا من أصحابه أحد غيره، فشكر له ما كان من منابذته للناس فيه، فقال له: سرك الله يا عم في الدنيا والآخرة، فكافأه في ساعة واحدة من الليل بأن دعا له بسرور الدنيا والآخرة.
1866- وجلس غليم من الأنصار على طريق النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما مر إلى الصلاة مر معه، فلما وقف يصلي خلع نعله اليسرى برجله اليمنى فأخذها الصبي فمسحها بإزاره ثم نفخها، وكذلك فعل بنعله اليمنى، فلما فرغ من صلاته وأراد أن ينصرف ناوله الصبي نعله اليمنى فلبسها، ثم أعطاه اليسرى فلبسها، ثم فعل ذلك أياماً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أنت يا غليم؟ قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله من الأنصار، قال: فمن أمرك بهذا؟ قال: ما أمرني به أحد ولكني أحببت أن أتبع سرور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده مداً ثم قال: إنه زعم أنه أراد اتباع سروري فسره في الدنيا والآخرة، يقولها ثلاثاً.(4/536)
1867- وجاءه أبو بكر رضي الله عنه بأبيه أبي قحافة يوم فتح مكة ليسلم، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لم عنيت الشيخ يا أبا بكر؟ ألا تركته حتى أنا آتيه في منزله؟ فقال له: بأبي أنت وأمي هو أولى أن يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكرم أبا بكر في أبيه، وكلمه بما يحب.(4/537)
1868- ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا الهيثم بن التيهان خادماً، فأتي بثلاثة من السبي، فأعطى اثنين وبقيت واحدة، فجاءته فاطمة تطلب منه وهي تقول: ألا ترى أثر الرحى بيدي يا رسول الله؟ فذكر موعده أبا الهيثم حتى جاءه أبو الهيثم فآثره على فاطمة لما سبق من وعده له.
1869- وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاع جملاً من رجل ونقده ثمنه ثم خيره صلى الله عليه وسلم فقال: أيهما أحب إليك الجمل أو الدراهم؟ فقال الرجل: عمرك الله، ممن الرجل؟ فقال: امرؤ من قريش، فقال الرجل: ما رأيت كاليوم قط.(4/538)
1870- وقالت عائشة رضي الله عنها: ولقد عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اثنين ما عفا أحد قط عن مثلهما، وما كانت لتحمل العفو عن مثل ذلك في نفسه، لقد سحرته اليهود وجعلت سحرها في بئر بني زريق، حتى أخذه من ذلك السحر، ثم أظهره الله تعالى على ذلك السحر، حتى كان هو الذي حل نفسه، وحتى اعترف بذلك لبيد بن الأعصم وأصحابه، فعفا عنهم.
والأخرى أنه عفا عن اليهودية التي سمته وأرادت نفسه:
1871- جعلت له زينب بنت الحارث اليهودية حين افتتح خيبر سماً في شاة مصلية، فحملت إليه صلى الله عليه وسلم فقبل منها لأنها بنت خالة صفية، فلما تناول الذراع ناداه الذراع: إني مسموم، فألقاه وقال لأصحابه: ارفعوا أيديكم، ففعلوا، ثم أرسل فأتي بها فقال: سممتي هذه الشاة؟ فقالت: نعم، قلت: إن كان نبياً لم يضره السم، وإن كان ملكاً استراح الناس منه، فإن كنت نبياً لا يضرك، وسوف يدفع عنك الذي أرسلك، فأمر بها صلى الله عليه وسلم فخلى سبيلها، وعفا عنها ما صنعت به.(4/539)
[268] فصلٌ:
1872- وبلغ من تذممه صلى الله عليه وسلم وحفظه الحرمة لأهلها أنه لقيته امرأة سوداء فوقف لها ورحب بها وألحف مسألتها، فقيل: من هذه يا رسول الله؟ قال: هذه امرأة كانت تأتينا أيام خديجة بمكة، .. ..(4/540)
وكانت تمشطها، وإن حسن العهد من الإيمان، وكانت تأتيه بعد ذلك في منزله صلى الله عليه وسلم .(4/541)
1873- وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بالشاة فتذبح، ثم تقطع أعضاء أعضاء، ثم يتبع بها صدائق خديجة رضي الله عنها يهدي لهن بعد موتها بزمان مكافأة لهن.
1874- وكان صلى الله عليه وسلم يحث على بر الولد، وحفظ الجار، وقال صلى الله عليه وسلم : رحم الله والداً أعان ولده على بره.(4/542)
1875- وكان صلى الله عليه وسلم يحث على بر الوالدين ويقول: لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه.
1876- وقال صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة عاق، ولا مدمن الخمر، ولا منان.(4/543)
[269] فصلٌ: في آداب المجلس
1877- ومن السنة إذا أتى مجلساً أن لا يتخطى الرقاب، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى أحدكم مجلساً فليجلس حيث ما انتهى به مجلسه.
1878- ومن السنة أن يوسع له في المجلس.
1879- ولا بأس أن يتحلحل عن مكانه إيجاباً له، لما روي عن بعض الصحابة أنهم قالوا: أتى شاب مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه مسحة من الجمال(4/544)
فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه حتى جلس عليه، وكان نصرانياً حينئذ ثم أسلم، وهو عدي بن حاتم.
1880- وربما جاءه صلى الله عليه وسلم بعض من يأتيه وهو على الوسادة جالس فلا يكون فيها سعة يجلس معه، فينزعها من تحته، ويضعها تحت الذي جلس إليه، فإن أبى أن يضعها له عزم عليه حتى يفعل.(4/545)
1881- وما جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد فيقوم حتى يقوم الذي جلس إليه إلا أن يستعجله أمر فيستأذن.
1882- ومن السنة أن يسلم إذا أتاهم، وكذلك إذا قام من عندهم، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قام أحدكم من مجلسه منصرفاً فليسلم، فليست الأولى بأولى من الأخرى.
1883- ولا يقم أخاه من مجلسه ثم يجلس هو فيه، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يقيمن أحدكم أخاه من مجلسه، ثم يجلس فيه.(4/546)
1884- وإذا قام من مجلسه ثم رجع فهو أولى بمكانه، وإذا سبق فليس لغيره أن ينازعه فيه، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منى مناخ من سبق.
1885- وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مجلسين وملبسين، فأما المجلسان: فجلوس بين الظل والشمس، وأن يحتبي في ثوب يفضي ببصره إلى عورته، وأما الملبسان: أن يصلي في سراويل ليس عليه رداء، - والآخر: أن يصلي في ملاءة لا يتوشح بها.(4/547)
1886- وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا جلس أحدكم في الشمس فقلص عنه فليتحول.
1887- ولم تكن ركبتاه صلى الله عليه وسلم يتعديان ركبة جليس له.(4/548)
1888- وكان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تكرمة لأصحابه ورحمة، ما رؤي قط ماداً رجليه بين أصحابه حتى لا يضيق بهما على أحد.
1889- ويتوسع للناس، إلا أن يكون المكان واسعاً لا ضيق فيه على أحد.
1890- وقبلوا يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليهم.
1891- وأن اليهود قبلوا يده صلى الله عليه وسلم ورجله.(4/549)
1892- ويكره القيام لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار.
1893- وقال صلى الله عليه وسلم : لا تقوموا كما تقوم الأعاجم بعضهم لبعض.(4/550)
1894- وكان صلى الله عليه وسلم من أكثر الناس تبسماً ما لم ينزل عليه القرآن أو يخطب بخطبة عظة أو يذكر الساعة.
1895- وكان ضحك أصحابه صلى الله عليه وسلم عنده التبسم اقتداء منهم لفعله صلى الله عليه وسلم وتوقيراً له.
1896- وجاءه صلى الله عليه وسلم أعرابي وهو متغير ينكره أصحابه، فأراد أن يسأله فقالوا: لا تفعل يا أعرابي فإننا ننكر لونه، فقال: دعوني فوالذي بعثه(4/551)
بالحق لا أدعه حتى يبتسم، فقال: يا رسول الله إنه بلغنا أن المسيح الدجال يأتي الناس بالثريد وقد هلكوا جوعاً، أفترى لي بأبي وأمي أن أكف عن ذلك تعففاً وتنزهاً حتى أهلك هزلاً، أم أضرب في ثريده حتى إذا تضلعت شبعاً آمنت بالله وكفرت به؟ قالوا: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: لا بل يغنيك الله بما يغني به المؤمنين يومئذ.(4/552)
1897- ومن السنة أن يؤتى حق المجلس، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: أعطوا المجالس حقها، قيل: وما حقها؟ قال: غضوا أبصاركم، وردوا السلام، وأرشدوا الأعمى، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر.(4/553)
1898- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حق المسلم على المسلم ست، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: إذا لقيه يسلم عليه، وإذا دعاه أجابه، وإذا استنصحه نصحه، وإذا عطس فحمد الله شمته، وإذا مرض عاده، وإذا مات صحبه.
1899- وكان صلى الله عليه وسلم طويل السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، وكان إذا سكت تكلم جلساؤه، ولا ينازع عنده الحديث، فمتى تكلم أنصتوا له، لا يرد على أحد حديثه ولا يقطعه عليه.(4/554)
1900- وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تبسماً في مجلسه وضحكاً في وجوه أصحابه، وربما ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير قهقهة حتى تبدو نواجذه من الشيء إذا أعجبه.
1901- وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، وهو السنة.
1902- وقال صلى الله عليه وسلم : إنها كفارة المجلس.(4/555)
1903- وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
1904- وكان صلى الله عليه وسلم أكثر ما يجلس تجاه القبلة.(4/556)
1905- ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل المسجد -ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده- فتزحزح له صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: في المكان سعة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: إن من حق المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس إليه أن يتزحزح له.
1906- ولقد جاءت إليه ظئره التي أرضعته فبسط لها رداءه وقال لها: مرحباً بأمي، فأجلسها على ردائه.
1907- وربما بسط صلى الله عليه وسلم ثوبه لمن ليس بينه وبينه قرابة ولا رضاع، يجلسه عليه.(4/557)
1908- وكان الناس عنده صلى الله عليه وسلم في الحق سواء، معتدلين بالتقوى، متواضعين في مجلسه، يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير.
1909- وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا.(4/558)
1910- ومن السنة إعظام الكبير، قال صلى الله عليه وسلم : إن من إعظام جلال الله: إكرام حامل القرآن، وذي الشيبة المسلم.
1911- وبلغ من كرمه صلى الله عليه وسلم أن أشرك جلساءه في صنائعه، وأشركهم في أجرها.(4/559)
1912- ثم كان صلى الله عليه وسلم يقسم نظره بين أصحابه، حتى كان صلى الله عليه وسلم يقول: من الإنصاف أني أخفيت لكم صوتي منذ ثلاث.
1913- ويستحب من طريق السنة أن يتردد إلى جلسائه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما جلس إليه أحد قط فقام هو حتى يقوم هو.
1914- وكان صلى الله عليه وسلم إذا عطس غض صوته، واستتر بيده أو بثوبه.
1915- وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان عنده رجلان فعطسا جميعاً،(4/560)
فشمت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما ولم يشمت الآخر، فقال الرجل: يا رسول الله شمت هذا ولم تشمتني؟ فقال: إن هذا حمد الله، وإنك لم تحمده.
1916- وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يشمت العاطس ثلاثاً فما زاد فهو مزكوم.(4/561)
1917- وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أصدق الحديث ما عطس عنده.(4/562)
1918- ومنه أن يسبق العاطس بالحمد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من سبق العاطس بالحمد وقي وجع الضرس.(4/563)
قال بعض الحكماء: للعاطس ست خلال: أن يخفض صوته إذا عطس، وأن يستتر بثوبه أو بيده، وأن لا يلوي عنقه إذا عطس، وأن يقول: الحمد لله رب العالمين، وإذا قيل له: يرحمك الله، يجيب فيقول:(4/564)
يهديكم الله ويصلح بالكم.
1919- وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: البسوا النعال الصفر، فإنه بهن تقضى الحوائج.(4/565)
1920- وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من امتشط قائماً ركبه الدين.(4/566)
جامع أبواب الأدعية والأذكار التي كان يقولها النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر أمته بها ومزاحه صلى الله عليه وسلم ، وما ضربه من الأمثال(5/5)
[270] ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأمته بالليل والنهار، وأمر أن يدعى به
1921- حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى العدل رحمه الله إملاء، أنا أبو محمد: الحسن بن محمد اللباد، ثنا أبو نصر: الليث بن الجنية النيسابوري -وكان كتب عن النضر بن شميل- ثنا عبد الله بن مسلم الدمشقي، ثنا عبد الملك بن خصاف بن عبد الرحمن،(5/7)
عن خصيف، عن أنس بن مالك قال:
قدمت على الحجاج بن يوسف في حاجة لي، فأقمت أياماً أختلف إليه فلا يأذن لي، قال: فجئت يوماً فوقفت على بابه فصحت: أنس بن مالك، فسمع صوتي فأدخلني، فإذا هو يعرض خيلاً له، وإذا كراسي موضوعة، فأشار إلى كرسي منها، فجلست عليه، فما استقررت جالساً حتى قال لي: يا أنس أين هذا الخيل من خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال أنس: فانتشر منخراي، وارتفعت قصبة أنفي من شدة الغضب، فقلت له: يا ابن أم الحجاج ما ذكرك خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ كان يعدها لله عز وجل وللجهاد في سبيله مع خيلك هذه التي أعددتها للدنيا والسمعة، فقال لي: والله لقد هممت أن آمر من يأخذ برجلك فيسحبك ظهراً لبطن حتى يأتي بك إلى الحبس، فقلت: والله ما أقدرك على ذلك، ولقد علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات إذا أنا قلتهن أمنت بإذن الله من شر الإنس والجن والهوام، ولقد قلتهن في يومي هذا فما جعل الله لك علي من سبيل.(5/8)
قال: ثم نهضت وتركت حاجتي، وأتيت منزلي، فما استقررت فيه جالساً إلا وإنسان يدق الباب، فقلت لابني: انظر من هذا؟ قال: فخرج ثم رجع إلي فقال: هذا محمد بن حجاج، فقلت: أدخله، قال: فدخل ومعه ثلاثون ألف درهم تحمل، فقال لي: إن أبي وإن كان قد قال لك ما قال، فإنه يراجع إلى ما تحب، خذ هذه ثلاثين ألف درهم انتفع بها وعلمني الكلمات، فقلت له: أما الدراهم فلا حاجة لي بها، وأما الكلمات فوالله ما أنت ولا أبوك لها بأهل، والكلمات هذه:
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، بسم الله على نفسي وديني، بسم الله على أهلي وولدي، بسم الله على كل شيء أعطانيه ربي.
بسم الله خير الأسماء، بسم الله رب الأرض والسماء، بسم الله الذي في جميع أسمائه الشفاء.
بسم الله افتتحت، وعلى الله توكلت.
بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الله الله الله ربي، لا أشرك به، الله أعظم وأجل وأعز، مما أخاف وأحذر.
حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
اللهم إني أسألك من خيرك بخيرك الذي لا يملكه غيرك، عز جارك، اجعلني في عياذك وجوارك من كل سوء، ومن الشيطان الرجيم.(5/9)
اللهم إني أحترز بك من جميع ما خلقت، وأحترز بك منك، وأقدم بين يدي: بسم الله الرحمن الرحيم: ثم تقرأ: {قل هو الله أحد}، والمعوذتين، ثم تقول إذا فرغت من قراءتهن: وعن يميني مثل ذلك، وعن يساري مثل ذلك، ومن فوقي مثل ذلك، ومن تحتي مثل ذلك.
1922- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض(5/10)
ومن فيهن، ولك الحمد أنت حق، ووعدك حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، علانيته وسره، أهل أن تحمد إنك على كل شيء قدير.
1923- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة.(5/11)
1924- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى درج الجنة، جنة الخلد.
1925- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني عبدك وابن عبدك، ابن أمتك، في قبضتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب غمي.(5/12)
1926- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
1927- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني واهدني واجبرني.(5/13)
1928- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.(5/15)
1929- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
1930- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو(5/16)
عمل، وأعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك من خير ما سألك عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم ، وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشداً.
1931- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين واغنني من الفقر.(5/17)
1932- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وأعني على من بغي علي، اللهم اجعلني لك شكاراً، ذكاراً، رهاباً، إليك راغباً، ولك مطيعاً مخبتاً، إليك أواهاً منيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي.
1933- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك إيماناً صادقاً، ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة، والفوز عند القضاء، ومنازل الشهداء، وعيش السعداء، ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء، اللهم إنا ننزل بك حاجاتنا، وإن قصرت آراؤنا وضعفت أعمالنا وافتقرنا إلى رحمتك يا أرحم الراحمين،(5/18)
نسألك يا قاضي الأمور، وشافي الصدور، كما تحجز بين الصخور، أن تجيرنا من عذاب السعير، ومن دعوة الثبور، ومن فتنة القبور، اللهم اجعلنا هادين مهديين غير ضالين ولا مضلين، حرباً لأعدائك، سلماً لأوليائك، نحب بحبك الناس، ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك، اللهم هذا الدعاء وعليك الاستجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم ذا الحبل الشديد، والأمر الرشيد، نسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود، مع المقربين الشهود، الركع السجود، الموفين بالعهود، إنك رحيم ودود، وأنت تفعل ما تريد.
اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي بصري نوراً وفي سمعي نوراً وفي لساني نوراً، وعن يميني نوراً وعن شمالي نوراً، اللهم اجعل لي من فوقي نوراً ومن تحتي نوراً، واجعل لي أمامي نوراً، وأعظم لي نوراً، اللهم عافني في سمعي وبصري.(5/19)
1934- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحكم في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا يبيد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك وشوقاً إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.(5/20)
1935- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، علانيته وسره، أهل أن تحمد إنك على كل شيء قدير، اللهم اغفر لي جميع ما مضى من ذنوبي، واعصمني في ما بقي من عمري، وارزقني عملاً زاكياً ترضى به عني، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لما هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما أبعدت، ولا مبعد لما قربت، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم عائذ بك من شر ما أعطيت وشر ما صنعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين.
1936- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم(5/21)
إني أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
1937- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك تعجيل عافيتك، وصبراً على بليتك، وخروجاً من الدنيا إلى رحمتك.
1938- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن يساري، ومن فوقي ومن تحتي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي.(5/22)
1939- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم عافني في جسدي وسمعي وبصري ما أبقيتني، واجعله الوارث مني.(5/23)
1940- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، والعمل فيما تحب وترضى.
1941- وفي رواية: اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفة والغنى.(5/24)
1942- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
1943- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، وأسألك عزيمة الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، وأستغفرك لما تعلم، وأسألك خير ما تعلم.(5/25)
1944- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أنك أنت الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شيء، أشهد أن محمداً عبدك ورسولك، أشهد أن العباد كلهم إخوة، اللهم ربنا ورب كل شيء اجعلني مخلصاً لك في كل ساعة في الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، نور السماوات والأرض، الله أكبر حسبي الله ونعم الوكيل، الله الأكبر الله الأكبر.
1945- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في رأيي، وبارك لي في رزقي.(5/26)
1946- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم أجرني من النار سبع مرات.(5/27)
1947- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له المن وله النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن الجميل، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
1948- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك رزقاً طيباً، وعلماً نافعاً، وعملاً متقبلاً.(5/28)
1949- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
1950- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني ضعيف فقو في رضاك ضعفي، وخذ إلى الخير بناصيتي، واجعل الإسلام منتهى رضاي، اللهم إني ضعيف فقوني، وإني ذليل فأعزني، وإني فقير فاغنني.(5/30)
1951- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم وما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب فاجعله لي فراغاً لي فيما تحب.
1952- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم نق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت(5/31)
بين المشرق والمغرب، اللهم باعد بين الذنوب وبيني، اللهم إني أسألك خير المسألة وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير العمل، وخير الثواب، وخير الحياة، وخير الممات، وثبتني وثقل ميزاني، وحقق إيماني، وارفع درجتي، وتقبل صلاتي، واغفر خطيئتي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة آمين، اللهم إني أسألك أن ترفع ذكري، وتضع وزري، وتصلح أمري، وتطهر قلبي، وتحفظ فرجي، وتنور قبري، وتغفر ذنبي.
1953- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك صحة في إيمان، وإيماناً في حسن خلق، ونجاحاً يتبعه فلاح، ورحمة منك وعافية، ومغفرة منك ورضواناً.(5/32)
1954- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر.
1955- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اجعلني صبرواً، واجعلني شكوراً، واجعلني في عيني صغيراً، وفي أعين الناس كبيراً.(5/33)
1956- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم هب لنا من رحمتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أبقيتنا، واجعلها الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا.
1957- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساءوا استغفروا.(5/34)
1958- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك الصحة والعفة والأمانة وحسن الخلق، والرضا بالقدر.
1959- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك الطيبات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تتوب علي فتغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني غير مفتون.(5/35)
1960- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي.
1961- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدنا علماً تنفعنا به، والحمد لله على كل حال.(5/36)
1962- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اهدني وسددني.(5/37)
1963- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.(5/38)
1964- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا أبداً ما أبقيتنا.
1965- ومما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم أنت أجل من ذكر، وأول(5/39)
من عبد، وأشكر من حمد، وأنصر من استغيث به، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت المليك لا شريك لك، وكل شيء هالك إلا وجهك، لا تطاع إلا بإذنك، ولا تعصى إلا بعلمك، تطاع ربنا فتشكر، وتعصى فتغفر، أنت أقرب حفيظ، وأدنى شهيد، أخذت بالنواصي، ونسخت الآثار والأعمال، فالسر عندك علانية، فالحلال ما حللت، والحرام ما حرمت، والأمر ما قضيت، والدين ما شرعت، والعباد عبادك، وأنت الرؤوف الرحيم، أسألك بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض أن تدخلنا الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين.(5/40)
[271] باب ما جاء في استعاذته صلى الله عليه وسلم من أمور شتى، وما كان يتعوذ به صلى الله عليه وسلم
1966- حدثنا أبو الحسن: أحمد بن جعفر اليزيدي، ثنا أبو جعفر: محمد بن عبد العزيز الأصفهاني، ثنا أبو بكر: عبيد الله بن محمد العمري، ثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: .. ..(5/41)
حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة فيقول:
اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فقال صلى الله عليه وسلم : إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف.(5/42)
ومما روي أن صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ به:
1967- قوله صلى الله عليه وسلم : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
1968- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون.(5/43)
1969- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : أعوذ بوجه الله العظيم، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن.
1970- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وبكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك.(5/44)
1971- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، ومن فتنة الغنى وفتنة الفقر، وأعوذ بك من المأثم والمغرم.
1972- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك أن أظلم أو أُظلم، أو أعتدي أو يعتدى علي، أو أكسب خطيئة أو ذنباً لا تغفره.(5/45)
1973- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، وساعة السوء، وجار السوء، وصاحب السوء.
1974- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من فجاءة الشر، وأسالك من فجاءة الخير.(5/46)
1975- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
1976- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال.(5/47)
1977- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشفع، ودعاء لا يسمع.(5/48)
1978- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة.(5/49)
1979- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والهرم، والجبن والبخل، وأن أرد إلى أرذل العمل، وأعوذ بك من الفقر والكفر والفسق والغفلة والعيلة والذلة والمسكنة، والشقاق والنفاق، وأعوذ بك من الرياء والسمعة، وأعوذ بك من الصم والبكر والجنون والجذام وسيء الأسقام.
1980- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من الشك بعد اليقين.
1981- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.(5/50)
1982- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من طمع يهدي إلى طبع، ومن طمع في غير مطمع، حين لا مطمع.(5/51)
1983- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من مال يطغي، وفقر ينسي، وهوى يردي، وبوار الإثم.
1984- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت(5/52)
خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
1985- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خاف قوماً قال: اللهم إني أعوذ بك من شرورهم، وأدفع بك في نحورهم.(5/53)
[272] فصلٌ: ذكر أدعيةٍ مأثورةٍ، وأذكارٍ مشروعةٍ
1986- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء.
1987- عن واثلة بن الأسقع، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استعاذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وقرأ آخر سورة الحشر حين يصبح وحين يمسي، وكل به سبعون ألف ملك يحفظونه من شيطان الجن والإنس.(5/54)
1988- وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة.
1989- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من دخل إلى ذي سلطان يقول: بسم الله، ربي الله، لا إله إلا هو، لا حول ولا قوة إلا بالله، وقاه الله شره، وسدده في منطقه.
1990- وقال رجل: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
قال: فقال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لقد دعوت باسمه الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.(5/55)
1991- وعن أنس قال: مر كلب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده فقال رجل: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام أن تقتله.
قال: فخر ميتاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا سأل أحدكم ربه فليبدأ بالمغفرة.(5/56)
1992- وجاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: أعني على مكاتبتي، فقال: أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لو كان عليك مثل جبل ديناً لأداه الله عنك: اللهم اغنني بحلالك عن حرامك، واكفني بفضلك عمن سواك.
1993- وعن أنس بن مالك قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وهو يقول: يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سل تعط، فقد نظر الله إليك.
1994- وقال أبو أمامة الباهلي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله ملكاً(5/57)
يقال له اليسع موكل بمن يقول: يا أرحم الرحمين، فمن قالها ثلاثاً قال له الملك: إن أرحم الراحمين قد أقبل عليك، فسل.
1995- وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: اللهم إني أسألك أن تتم علينا النعم، فقال: أتدري ما تمام النعم؟ قال: لا، قال: الفوز بالجنة والنجاة من النار، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال: قد استجيبت دعوتك فسل.
1996- وعن حميد، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل قد عاد مثل الفرخ فقال: ما كنت تسأل؟ قال: كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله، لا تطيق ذلك، فهلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفاء فعوفي.(5/58)
1997- وأتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الوحشة، فقال: أكثر من قول سبحان الملك القدوس، رب الملائكة والروح، جللت السماوات والأرض بالعزة والجبروت، قال: ففعل الرجل فأذهب الله عنه الوحشة.
1998- وعن حجاج بن فرافصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من مريض يقول: سبحان الملك القدوس الرحمن، الملك الديان، لا إله إلا أنت مسكن العروق الضارية، ومنيم العيون الساهرة، سكن عروقي الضارية، وأنم عيني الساهرة إلا شفاه الله تعالى.
1999- وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا كان يوم القيامة قال الله(5/59)
عز وجل: من كان له عندي عهد فليقم، فيقوم من قال هذه الكلمات: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيث والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا خائفاً مستجيراً مستغفراً، راغباً راهباً إليك: إنك إن تكلني إلى نفسي وإلى عملي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وأنا لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عهداً تؤديه إلي يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد.
2000- وقالت عائشة رضي الله عنها: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مضجعه، فنظرت فإذا هو ساجد يقول: رب أعط نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.(5/60)
2001- وعن ابن زمل الجهني قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال وهو ثان رجله: سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله، إن الله كان تواباً، سبعين مرة ثم يقول: سبعين بسبعمائة، ولا خير فيمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة.(5/61)
2002- وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: خرج بي خراج في عنقي، فتخوفت منه، فأخبرت به عائشة رضي الله عنها فقلت: سلي النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت: فسألته، فقال: ضعي يدك عليه ثم قولي ثلاث مرات: بسم الله أذهب عني ما أجد وأحسه بدعوة نبيك الطيب المبارك المكين عندك.
قالت: ففعلته، فانخفض.
قال الراوي: ما قلته على مريض لم يجيء أجله إلا برأ بإذن الله تعالى.(5/62)
دعاءٌ جامعٌ
2003- اللهم بنورك اهتديت، وبفضلك استغنيت، وبنعمتك أصبحت وأمسيت، ذنوبي بين يديك، أستغفرك وأتوب إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتاك الذي أنزلت، وبرسولك الذي أرسلت، لك الحمد إن أطعتك، ولك الحمد إن عصيتك، يا عظيماً يرجى لكل عظيم، اغفر لي الذنب العظيم، اللهم إن ذنوبنا عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله، يا عماد من لا عماد له، يا ذخر من لا ذخر له، يا حرز من لا حرز له، يا سند من لا سند له، يا غياث من لا غياث له، يا غياث المستغيثين، يا صريخ المستصرخين، يا مفرجاً عن المكروبين، ويا أرحم الراحمين، يا كريم العفو، يا حسن البلاء، يا عظيم الرجاء، يا واسع العطاء، يا كنز الفقراء، يا عون الضعفاء، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، يا محسن، يا مجمل، يا متفضل، يا منعم، يا الله، أنت الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار ونور القمر وشعاع الشمس وحفيف السحر، أسالك يا الله أن تغفر ذنوبي كلها، وترحمني رحمة واسعة، وتعطيني خير الدنيا والآخرة، وأن تجيرني من كل سوء استجار به مستجير بك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنك تملك ما لا أملك من نفسي، أنت خلقتني وتفردت بخلقي، ولم أرد شيئاً إلا بك، ولا أرجو الخير إلا من عندك، ولا ينصرف عني من السوء إلا ما صرفته عني، يا رب علمتني ما لا أعلم، ورزقتني ما لم أملك ولم أحتسب، وبلغتني ما لم أكن أرجو، وأعطيتني ما قصر عنه أملي، فلك الحمد كثيراً كما أنعمت علي، فاغفر لي ذنوبي، وهون علي أموري في الدنيا والآخرة.(5/63)
اللهم إني أصبحت وأمسيت في ذمتك وجوارك، فأجرني بحق لا إله إلا أنت من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إنك على كل شيء قدير.
اللهم إني أستودعك نفسي وأهلي ومالي وأولادي وإيماني، وآخرتي ودنياي، وأمانتي، وإخواني في الله وخواتيم عملي، أستودعهم الحي الذي لا يموت، الذي لا تضيع ودائعه ولا يخيب سائله.
2004- اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يرام، وقونا بعزك الذي لا يضام، اللهم ارحمنا بقدرتك علينا، اللهم لا يهلك شيء مما استودعتك ولا يضيع، وأنت ثقتنا ورجاؤنا، ولا حول ولا قوة إلا بك يا رب العالمين، عليك توكلت وأنت خير الحافظين.(5/64)
[273] باب ما جاء في التسبيح والتهليل
2005- وكان من فعله صلى الله عليه وسلم أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمد الله ثلاثاً وثلاثين، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، قال صلى الله عليه وسلم : من فعل ذلك غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر.
قال أبو سعد رحمه الله: وإن شئت سبح الله واحمده وكبره وهلله خمساً وعشرين مرة، حتى يكون تمام المائة.
2006- فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بذلك.
وقل أيضاً: عشر مرات: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير.(5/65)
2007- فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قالها عشر مرات كتب الله له عشر حسنات، ومحى عنه عشر سيئات، وكان له عدل عشر رقاب، وأجاره الله يومه من الشيطان، ومن قاله عشية كان له مثل ذلك.(5/66)
2008- وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
2009- وقال صلى الله عليه وسلم : لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله والحمد لله كثيراً، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: من قالها كفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر.
قال أبو سعد رحمه الله: وأكثروا من قول: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
2010- فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنهما كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن.(5/67)
2011- وأكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
2012- فإن الله عز وجل يقول إذا قالها العبد: أسلم عبدي واستسلم.
2013- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنها كنز من كنوز الجنة.(5/68)
2014- وقال صلى الله عليه وسلم : أكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة، قيل: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.(5/69)
[274] باب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وقد قال الله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}.
قال أبو سعد صاحب الكتاب: فينوي العبد موافقة ربه، والاقتداء بملائكته في الصلاة على أكرم بريته طمعاً أن يصلي الله عليه.
2015- روي في قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك}، قال: تذكر حيث أذكر، فظهر اسمه صلى الله عليه وسلم عند ملائكة السماوات، وملائكة الأرضين، وفي البحار والأودية والجبال.
2016- حدثنا أبو عمرو: محمد بن جعفر بن محمد بن مطر رضي الله عنه، ثنا أبو القاسم: عبد الله بن محمد البغوي، .. ..(5/70)
ثنا عثمان بن محمد بن أبي شيبة، والحسن بن الصباح البزار، قالا: ثنا خالد بن مخلد القطواني، .. ..(5/71)
ثنا سليمان بن بلال، ثنا عمرو بن أبي عمرو، عن عاصم بن عمر بن قتادة، .. ..(5/72)
عن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، عن عبد الرحمن ابن عوف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لقيت جبريل عليه السلام فبشرني(5/73)
قال: إن الله عز وجل يقول: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله عز وجل شكراً.(5/74)
2017- وفي رواية عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع فسجد سجدة طويلة، فسألته، فقال: جاءني جبريل عليه السلام، وقال: إنه لا يصلي عليك أحد إلا ويصلي عليه سبعون ألف ملك.
2018- ولقوله صلى الله عليه وسلم وقد رؤي في وجهه صلى الله عليه وسلم البشر: أتاني جبريل عليه السلام فقال: يقول الله عز وجل: من صلى عليك مرة صليت عليه عشراً، ومن صلى عليك عشراً صليت عليه مائة.(5/75)
2019- وعن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر يرى في وجهه فقال: جاءني جبريل عليه السلام فقال: أما يرضيك يا محمد أن لا يصلي عليك أحد من أمتك صلاة إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك من أمتك أحد إلا سلمت عليه عشراً؟ قال: قلت: بلى.
2020- وقال صلى الله عليه وسلم : من صلى علي من أمتي صلاة مخلصاً من قلبه، صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفع له به عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات، ومحى عنه بها عشر سيئات.(5/76)
2021- وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صلى علي من أمتي صلاة مخلصاً من قلبه، صلى الله عليه بها عشر صلوات، وكتبت له بها عشر حسنات، ومحي عنه بها عشر سيئات، ورفع له بها عشر درجات.
2022- وعن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى علي عشراً من أول النهار، وعشراً من آخر النهار نالته شفاعتي يوم القيامة.(5/77)
2023- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من مسلم يصلي علي صلاة إلا صلت عليه الملائكة ما صلى، فليقل عبد من ذلك أو ليكثر.(5/78)
2024- وقال صلى الله عليه وسلم : صلوا علي فإن الصلاة علي زكاة لكم.(5/79)
2025- وعن مقاتل بن سليمان قال: إن لله ملكاً تحت العرش، على رأسه ذؤابة، قد أحاط بالعرش، ما من شعرة على رأسه إلا مكتوب عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا صلى العبد، ما بقيت شعرة إلا استغفرت لصاحبها.
2026- وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب.(5/80)
2027-وروي أن جماعة شهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل بالسرقة، فأمر بقطع يده، وكان المسروق جملاً، فصاح الجمل، لا تقطعوا يده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بم نجوت؟ قال: بصلاتي عليك كل يوم مائة مرة، فقال صلى الله عليه وسلم : نجوت من عذاب الدنيا والآخرة.
2028- وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد شهدوا عليه بالسرقة، وكان مع الرجل جمل، فأنطق الله عز وجل جمله، فقال:(5/81)
لا تقطعوا يده فإنه بريء من ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما قلت حين حركت شفتيك؟ قال: قلت: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد قد تعلم براءة ساحتي، فقال صلى الله عليه وسلم : قد برأك الله مما قيل فيك.(5/82)
[275] فصلٌ: في ذكر البخيل، وذم الناسي والكاره للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم
2029- قال صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بأبخل الناس؟ قالوا: بلى، قال: من ذكرت عنده فلم يصل علي.(5/83)
2030- وقال صلى الله عليه وسلم : البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي.(5/84)
2031- وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من ذكرت عنده فلم يصل علي فقد أخطأ طريق الجنة.
2032- وفي رواية أخرى: من نسي الصلاة علي فقد أخطأ طريق الجنة.(5/85)
2033- وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: بحسب امرئ من البخل أن أذكر عنده ثم لا يصلي علي.(5/86)
2034- وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يجلس قوم مجلساً لا يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرة وإن دخلوا الجنة، لما يرون من الثواب.(5/87)
2035- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقبل الصلاة إلا بالطهر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .(5/88)
2036- وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: آمين -ثلاث مرات- فقيل: يا رسول الله صنعت شيئاً لم تصنعه؟ قال: نعم، جاءني جبريل عليه السلام فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين.(5/89)
[276] فصلٌ: في أن الدعاء محجوبٌ عن السماء لا يرفع حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من دعاء إلا وبينه وبين الله عز وجل حجاب حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا فعل ذلك انخرق ذلك الحجاب ودخل الدعاء، وإذا لم يفعل ذلك رجع الدعاء.
2037- حدثناه أبو الحسن: محمد بن أحمد بن حامد العطار: ثنا علي بن سعيد، ثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثني الوليد بن بكير(5/93)
أبو خباب التميمي، عن سلام الخزاز، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
2038- وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدعاء محجوب حتى يختم(5/94)
بالصلاة علي.
2039- وروى أبو عمرو بن العلاء، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل دعاء محجوب عن السماء حتى يصلى على محمد وعلى آل محمد.(5/95)
2040- وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: إذا دعا الرجل ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم رفرف الدعاء فوق رأسه، وإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رفع الدعاء.(5/98)
[277] فصلٌ: في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة ويومها
2041- وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي.
2042- وقال صلى الله عليه وسلم : أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة، فإنها تعرض علي.(5/100)
2043- وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أكثروا الصلاة علي في الليلة الغراء فإن صلاتكم تعرض علي -يعني: يوم الجمعة-.(5/101)
2044- وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من صلى علي يوم الجمعة مائة صلاة غفرت له خطيئة ثمانين سنة، قال أبو الحجاج: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت يا رسول الله: حدثني أبو مقاتل عنك أنه من صلى عليك يوم الجمعة مائة صلاة غفر له خطيئة ثمانين سنة، قال: صدق أبو مقاتل.(5/102)
قال: فكان أبو الحجاج يقول: أنا أحدثكم عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحدثكم عن أبي مقاتل، لأن الشيطان لا يقدر على أن يتمثل بالنبي صلى الله عليه وسلم .(5/103)