شرط القراءة على الشيوخ
للحافظ المسند أبي طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي الأصبهاني
(576 هـ)
ويليه
فوائد حسان
له
بانتقاء الحافظ أبي محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي الحنبلي
(612 هـ)
قرأهما وعلق عليهما وخرج أحاديثهما
أبو عبيدة محمد بن فريد زريوح
دار التوحيد للنشر
الرياض
الطبعة الأولى
1429 هـ -2008 م(/)
شرط القراءة على الشيوخ للحافظ أبي طاهر السلفي رحمه الله(1/33)
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً
أخبرنا الشيخ الفقيه الأجل الإمام قال:
الحمد لله على إنعامه وإفضاله، والصلاة على المصطفى محمدٍ وآله، وعلى أصحابه المقتدين به وبخصاله، في جميع أفعاله وأقواله.
وبعد، إخواني -يرحمهم الله-:
فقد جرى في هذه الأيام من أشهر سنة تسعٍ وخمسمائة، عند قدومي مدينتكم دمشق -حرسها الله على الإسلام والمسلمين، وصرف عنها كيد الكفار والملحدين- تاراتٍ وكراتٍ، أذكرها وأحصرها، في مجالس الحديث التي كنت أحضرها، ذكر القراءة على المتصدي للرواية، هل يجب للقارئ عليه أن يريه صورة سماعه في الجزء حتى ينظره؟
أو يقتصر على إعلامه أنه عن من سمعه، وإن لم يقف الشيخ على(1/35)
اسم نفسه في تلك الحالة ولم يبصره، واعتمد على قول المفيد عنه، أو قرئ عليه من فرعٍ منقولٍ من الأصل، صح هذا السماع أو لم يصح؟
وكنت أمتنع عن تحرير الجواب وتقريره، احتراماً لعلمائها وفضلائها، وحفظاً للأدب في حق نبهائها وفقهائها.
فقد كتبت بالإسناد عن بعض المتقدمين أنه قال: ((من حدث في بلدةٍ وبها من أولى بالرواية منه فهو مختل)).(1/36)
وسئل الإمام أبو بكر القفال الشاشي عند حلوله بظاهر ثغر خوي -حماه الله- عن مسألةٍ، فأمسك عن الجواب لأجل عمر بن يمن الخويي، وأحال في الحال عليه، هذا أو معناه.
والحكاية عندي في أجزاء أذربيجان بالإسناد.
وكان القفال رحمه الله قد قدم تلك الناحية مجتازاً إلى الروم غازياً، وقصته مع كلب الروم -متملكها هناك- قصةٌ مشهورةٌ معروفة.(1/37)
وسمعت القاضي أبو الحسن علي بن أحمد بن المفضض بشروان يقول:
((أمسك القاضي أبو بكر أحمد بن سهل بن السري الهمذاني عن الفتوى حين ورد القاضي أبو القاسم الحسن بن ممشاذ الأصبهاني -المعروف بـ (الزرندي)- شروان، إكراماً له وإجلالاً، وقال: هو أولى بذلك مني)).
هذا أو قريبٌ من معناه، وهو مروي في مسموعات شروان على لفظه.
وفي المثل السائر: ((أدب النفس خيرٌ من أدب الدرس)).(1/38)
وقد سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن علي العلاف ببغداد يقول: سمعت أبا الحسن علي بن أحمد بن عمر المقرئ -المعروف بالحمامي- يقول: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد بن مهران القرميسيني يقول: سمعت أحمد ابن صالح البزاز الواسطي يقول: قال ابن عائشة:
((ولد لكسرى مولودٌ، فجيء ببعض أهل الأدب، وجيء بالمولود، فوضع بين يديه، فقال له كسرى: ما خير ما أوتي هذا المولود؟ قال: عقلٌ يولد معه، قال: فإن عدمه؟ قال: مالٌ يستر، قال: فإن عدمه ذاك؟ قال: أدبٌ حسنٌ يعيش به بين الناس، قال: فإن عدمه ذاك؟ قال: صاعقةٌ محرقةٌ!)).
وسمعت الشيخ الشهيد والدي أبا أحمد محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم السلفي الطوفي رضي الله عنه بأصبهان يقول:
((لا تتقدمن على من هو أولى بالتقدم منك، فإن ذلك مما يزري بك وبحقك، ويحط من قدرك)).
ذكر هذا رحمه الله في جملة وصاياه لي، فجزاه الله عن وصيته ونصيحته خيراً، ورفع له بها قدراً، فلقد نَصح نُصح من طب -والله- لمن حب.
وما أحسن النصيحة، خاصةً من الموفي حق نفسه، حتى يؤثر بعد في غيره.
كما روي في الآثار -وهو عندي بالإسناد-: ((أن الله تعالى أوحى إلى عيسى ابن مريم: يا عيسى عظ نفسك، فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحيي مني)).(1/39)
وأخبرنا أبو العباس أحمد بن عبد الغفار بن أشته الأصبهاني، أخبرنا محمد بن عمر بن زيله، أنا عبد الله بن أحمد بن القاسم حدثنا عبد الله ابن محمد بن عبد الكريم قال: سمعت محمد بن حرب يقول: سمعت ابن أبي أويس يقول: سمعت مالكاً يقول:
((من ليس في نفسه خيرٌ، فلا خير للناس فيه)).
ورواته إلى عبد الله بن محمد بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ الرازي -ابن أخي أبي زرعة- أصبهانيون ثقات، وعبد الله أيضاً يكنى أبا القاسم، مات عندنا بأصبهان سنة عشرين وثلاثمائة.
وقد نظمت أنا في هذا المعنى مقطعاتٍ، منها قطعةٌ بالعراق سنة سبعٍ وتسعين وأربعمائة، أول ما قلت الشعر، وهي:
من كان يأمر غيره بطريقةٍ ... ويحيد عنها ضلةً فيما سلك
فسبيله كسبيل مرشد أمةٍ ... وتراه في سبل العماية قد هلك
كيف استقامة أمر قومٍ رأسهم ... ورئيسهم متخلفٌ لا أم لك
أخبرني أبو الحسن مكي بن منصور بن علان الكرخي -قدم علينا أصبهان- أنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن بن أحمد الحرشي الحيري بنيسابور، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف الأصم، ثنا زكريا ابن يحيى عن(1/40)
سفيان بن عيينة عن زياد بن علاقة، سمع جرير بن عبد الله رضي الله عنه يقول:
((بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم)).
أخبرنا أبو عبد الله القاسم بن الفضل بن أحمد بن أحمد بن محمود بأصبهان سنة ثمانٍ وثمانين وأربعمائة، ثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ابن جعفر اليزدي -المعرف بالجرجاني-أملانا أبو العباس محمد بن يعقوب ابن يوسف الأصم النيسابوري، ثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصي، حدثنا بقية بن الوليد، عن أبي جعفر الرازي، حدثني هشام بن حسان، عن الحسن، عن تميم الداري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((من جاء يوم القيامة بخمسٍ لم يصد وجهه عن الجنة: النصح لله، ولدينه، ولكتابه، ولرسوله ولجماعة المسلمين)).(1/41)
سمعت أبا المعالي ثابت بن بندار بن إبراهيم المقرئ ببغداد يقول: سمعت عبد العزيز بن علي بن شكر الوراق يقول: سمعت أبا بكر محمد ابن أحمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت عبد الله بن أبي داود السجستاني يقول: سمعت أبي أبا داود يقول:
((الفقه يدور على خمسة أحاديث: ((الحلال بينٌ والحرام بينٌ))، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار))، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى))، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة))، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)).(1/42)
هذا الفضل على ما ذكرت.
والغرض أني في الأول امتنعت كما بينت، وفي الأخير أحرجتني الضرورة، وأخرجتني إلى إثبات الجواب، وقد تدعو الضرورات -كما قيل- إلى سلوك ما لا يليق بالآداب.
فأقول -والله الموفق للصواب والسداد، والهادي إلى طرق الرشاد-:
اعلموا -أعلمكم الله الخير ووقاكم وجنبكم الشر- أن المتنازع فيه لا يخلو:
إما أن يكون الراوي عارفاً بما يرويه، عالماً بالذي يؤديه، أو غير عارفٍ بذلك ولا عالم.
فإن كان عالماً وبحديثه عارفاً:
فاستماعه إلى القارئ وإقراره بالمقروء عليه بقوله: نعم، أو ما في معناه، مغنٍ عما عداه، سواءً كان القارئ من أهل المعرفة بدقائق المحدثين، أو لم يكن بها من العارفين، أو قرأه على الأصل أو من الفرع المنسوخ منه، فإنه يعرف حديثه ويرد عليه الخطأ والتصحيف، والخطل والتحريف، ولا يروي إلا(1/43)
على شرط الصحة.
هذا ظاهر بينٌ.
وإن كان الراوي شيخاً صحيح السماع، إلا أنه لا يعرف حديثه:
فالاعتماد في روايته على المفيد عنه لا عليه، يقلده السامعون فيما يقرؤه وينتخبه، بعد تيقنهم أنه ثقةٌ عارفٌ بحديث الشيخ، غير منحرفٍ في أركان الحديث وقواعد الرواية والتحديث عن نهج الصواب والطريق المهيع.
إلا أنه مع ذلك كله لا يستغني عن إعلام الشيخ حال القراءة أن الجزء عمن سمعه ومن الذي به حدثه.
وإن كان تخريجاً عن شيوخٍ (شتى)، وفوائد من رواياتٍ متفاوتةٍ:
فلا بد أيضاً من أن يتوقف في ابتداء حديث كل شيخٍ على حدة، ويتأنى في ذكر اسمه من غير إدراجٍ ولا إدغامٍ -كما يتأتى له، وجرت به عادة(1/44)
القراء- بحديثٍ في أثناء القراءة، حتى يعلم الشيخ من ابتداء الجزء إلى انتهائه بإعلامه إياه.
وهذا القدر كافٍ لا يحتاج معه إلى ما هو أكثر منه أصلاً.
وقراءته عليه من أصل سماعه، أو من فرعه المنقول من الأصل المقابل به سيان.
على هذا عهدنا علماءنا عن آخرهم.
ولم يزل الحفاظ قديماً وحديثاً يخرجون للشيوخ من الأصول، فتصير تلك الفروع بعد المقابلة بها أصولاً، وهل كانت الأصول أولاً إلا فروعاً؟!
منهم إبراهيم بن أورمة الأصبهاني، وأبو زرعة الرازي، وأبو مسعود أحمد ابن الفرات الرازي الضبي نزيل أصبهان، وعبد الرحمن بن يوسف بن خراش، وصالح بن محمد البغدادي جزرة -المقيم بما وراء النهر-، وأبو محمد البلاذري، وأبو علي النيسابوري، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي، وأبو القاسم الطبراني الثاوي بأصبهان، وعمر بن جعفر البصري، ومحمد بن المظفر البغدادي، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو عبد الله بن بكير، وأبو عبد الله بن منده(1/45)
الأصبهاني، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، وخلف بن محمد بن علي الواسطي، وعبد الغني بن سعيد المصري، وأبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه وأبو نعيم الأصبهانيان، وأبو علي الوخشي البلخي، وأبو الفضل الفلكي الهمداني، وأبو نصر السجزي الوائلي، وأبو عبد الله الصوري، وأبو بكر الخطيب البغدادي، (فيمن) قبلهم، ومن بعدهم.
وكذلك قراءته عليه من الفرع المكتوب من الأصل قبل المقابلة، وأحد الحفاظ المبرزين ينظر فيه ويضبط له، حتى يصححه: بمثابة القراءة من الأصل أو الفرع المقابل المصحح، إذ القصد من ذلك كله حصول السماع على وجه الصحة.
ولعمري، إن وقوفه على اسمه في الجزء في حالة السماع منه مما لا يضر، بل ينفع! لأنه ليس بشرطٍ لا يصح السماع دونه، إذ لو كان شرطاً لذكروه في الكتب المصنفة، ولم يذكروه أصلاً والبتة.
فإما أن يكون الشيخ أمياً لا يفرق بين الصحيح من سماعه وبين السقيم:
فإعطاؤه الجزء حتى ينظر اسمه، ويقال: الآن صح السماع، ومن لم يفعل ذلك عيب عليه، فهذا نوعٌ من العبث! لم نعهد عليه أحداً من حفاظ عصرنا، لا في بلدٍ دخلته، ولا في أصبهان مصرنا، ولا حكي أيضاً لنا عن أحدٍ من المتقدمين قبلنا.(1/46)
ولربما أقر هذا الشيخ الأمي في بعض الأحايين لشيءٍ قرئ عليه بعد وقوفه على اسمه في طرر جزءٍ أو كتابٍ كتب عنه، فيؤدي إقراره إلى إسقاطه! -وترك الرواية عنه أولى- وإلى ضعف روايته.
هذا وقد مقل اسمه في الجزء بخط من نقل عنه.
مثلاً:
إذا كان القارئ عليه أو المنتخب له مغفلاً، غير بصيرٍ بأسباب الرواية، ولا معدوداً في جملة أرباب الدراية، وظفر بكتابٍ قرئ على شيخ من شيوخه في مجالس شتى وأوقاتٍ مختلفة، ويرى فيه علاماتٍ وبلاغاتٍ، وفي بعضها سماع هذا الشيخ مثبتٌ، فيشتبه عليه، فيترك ما هو من سماعه، ويكتب ما ليس بمسموعٍ (لم يقره) عليه، زعماً منه أنه صحيح!
وهذا ما شاهدته أنا في العراق، وذلك أنه كان لي بلدي صالحٌ دينٌ حريصٌ على التحصيل، رحل معي من أصبهان سنة ثلاثٍ وتسعين وأربعمائة إلى الشيخ أبي الخطاب نصر بن أحمد البطر الرازي لكتاب الدعاء وغيره من أمالي القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، وكان آخر(1/47)
من حدث في الدنيا بحديثه عالياً عن أبي محمد بن البيع عنه -رحمهم الله-
فكان يسمع بقراءتي عليه وعلى غيره من شيوخ بغداد، وأقابل معه، وأدله على المهمات والكتب الكبار التي لا أقدر أنا على نسخها في تلك الأيام، طمعاً في أن أنسخها من نسخةٍ بعد قضاء الوطر والعود إلى الوطن.
فعزم على التوجه إلى بيت الله الحرام، وإسقاط الفرض عنه في ذلك العام، إذ لم يكن قد حج بمضي.
وكتب باجتيازه بالكوفة وبعد رجوعه من الحجاز عن أبي البقاء المعمر بن محمد بن علي الحبال أجزاءً من مسند أبي عمرو أحمد ابن حازم بن أبي غرزة الغفاري، من رواية جناح بن نذير(1/48)
المحاربي، ورواية زيد بن أبي هاشم العلوي، جميعاً عن محمد بن علي ابن دحيم الشيباني عنه، واستجاز لي من الشيخ.
فلما وصل إلى مدينة السلام عرضها علي، وفرحت بها له ولي.
ثم إنه أقبل على النسخ والسماع على عادته المستمرة، وتمادى في المكث واللبث، إلى أن قدم علينا هذا الشيخ من الكوفة، فاجتمع عليه أصحاب الحديث لعلو سنده، ولم يك صاحب أصولٍ ولا ذا معرفةٍ بالحديث، إلا أن شيخنا أبا الغنائم محمد بن علي بن ميمون النرسي الحافظ -الملقب بأبي الكوفي- كان قد كتب له جزئين، وكانا معه.
فأحضرت تلك الأجزاء برمتها، وقرأها الشيخ أبو نصر المؤتمن بن أحمد بن علي الساجي الحافظ مع جزئه، ونسخها قومٌ، ونسخت(1/49)
أنا بعضها اعتماداً على ديانة هذا الكاتب وأمانته.
فلما كانت سنة سبعٍ وتسعين، قدم الشيخ والدي بغداد مودعاً بيت الله الحرام، وتربة رسوله عليه أفضل الصلاة [والسلام]، فألح علي أن أصحبه، وبالغ في ذلك، وامتنعت لما كنت بصدده من التفقه والاشتغال بالحديث وقراءة الأدب، فأبى إلا الخروج معه! وأعانه على ذلك الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن أبي المظفر السمعاني، إمام أصحاب الشافعي بمروٍ ونواحي خراسان.(1/50)
وكان قد قدم بغداد حاجاً ونفرٌ من حفاظ أصبهان وغيرها، فلم أستصوب مخالفتهم ولا استحسنتها، إذ كانوا يدعون إلى الخير.
فخرجت حاجاً معه رحمه الله.
فعند وصولنا إلى الكوفة سمعنا من أبي البقاء هذا وأبي وآخرين مروا قريباً.
ثم إني بعد قفولي عن الحجاز ووصولي إلى الكوفة شتوت بها، واستوفيت عن محدثيها، واستعرت الأصول وطالعتها.(1/51)
فأخرج لي الشريف عمر الموسوي النحوي في جملة ما أخرج جزءاً فيه بلاغاتٌ عن جناحٍ وابن أبي هاشم، وكان في بعض الجزء سماع المعمر عن ابن أبي هاشم.
وكان الأصبهاني المذكور آنفاً قد اشتبهت عليه البلاغات! ولم يمكنه إخراج الصحيح من ذلك، ولا راجع أبياً الحافظ، فكتب ما ليس من سماعه عن جناح، وترك ما هو سماعه عن ابن أبي هاشم!
فشكرت الله تعالى كيف بان لي الصحيح، وكتبت مسموعه من الجزء، وقرأته عليه، وكان معي منه حديثٌ في تخريج، فضربت عليه هناك بالكوفة، ومزقت بعد رجوعي إلى بغداذ ما كنت قد كتبته خطأً وغلطاً، اعتماداً على نسخ بلديي الصالح.
ولله در القائل، على الرأي الكامل لا الفائل:
وللحروب رجال يعرفون بها ... وللدواوين كتابٌ وحساب(1/52)
وقد ذكرت أنا هذا المعنى في جملة أبيات من اللزوم ببردعة، فقلت -والله تعالى أعلى ذكراً وأقوم قيلاً-:
ترى فئةً لدى الهيجاء أسداً ... وآلافاً منازلهم حجال
وأقواماً خواطرهم جماد ... وقوماً جل شعرهم ارتجال
وللديوان كتابٌ كفاةٌ ... تعنوا في تأدبهم وجالوا
وللأخبار والسنن الجلايا ... ومعرفة الرجال كذا رجال
تعالى الله لم يخلق كفاءً ... وفي هذا البساط لنا مجال
فالأولى والأصوب في حق أمثال هؤلاء الشيوخ أن يقتصر على ما قدمته من الاعتماد على المفيد عنهم، الحافظ لسماعاتهم، المتحري عن معرفةٍ لا(1/53)
عن تقليد من لا يستحق التقليد، والاقتداء به فيما خالف الجمهور.
وهذا هو نكتة الفصل، الذي عليه تعويل أولي الفضل في بابهم، كي لا يفتضحوا، ويقتنع منهم بقولهم: (نعم)، بعد أن عرفوا الشيوخ فيما يروون، ولا يستنطقون فيسقطون.
ومما يجب أن يعلم أن هذا كله توسلٌ من الحفاظ إلى حفظ الأسانيد وإحياء أمهات المهمات من المسانيد.
وإلا فالاحتجاج بهم وبرواية أمثالهم، مع علو حديثهم وقرب إسنادهم، ممتنعٌ جداً، إذ ليسوا من شرط الصحيح، اللهم إلا على وجه المتابعة.
ولولا رخصة العلماء لما جازت الكتابة عنهم ولا الرواية، إلا عن قومٍ منهم دون آخرين.
أخبرنا أبو الخطاب نصر بن أحمد بن عبد الله بن البطر القارئ في داره بباب الغربة في شرقي بغداد، أنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان البزار بعكبرا، أنا محمد بن يحيى بن عمر الطائي، ثنا أبو جدي علي بن حرب الطائي، ثنا أبو داود، ثنا صالح بن حسان، عن محمد بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(1/54)
((لا تحدثوا إلا عمن تقبلوا شهادته)).
الحديث معلول، وسأذكر علته في المقدمة -إن شاء الله-
أخبرنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي ببغداد في الجانب الغربي، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن علي الفالي، أنا أبو عبد الله أحمد بن إسحاق بن خربان النهاوندي، أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، ثنا عمر بن إسحاق الشيرازي، ثنا أبو هارون إسماعيل بن محمد الثقفي، ثنا رواد بن الجراح قال: قال(1/55)
سفيان الثوري:
((خذ الحلال والحرام من المشهورين، وما سوى ذلك فمن المشيخة)).
سمعت أبا مسعود محمد بن عبد الله السوذرجاني -مؤذن جامع أصبهان- في آخرين قالوا: سمعنا أبا عصمة نوح بن نصر بن محمد الأخسيكتي -قدم علينا- قال: سمعت أبا نصر أحمد بن الحسن بن علي هو المراجلي يقول: سمعت أبا الحسن عبد الله بن موسى البغدادي ببخاري يقول: سمعت الفضل ابن شاطر البردعي يقول: سمعت يزيد بن مجالد المعبر يقول: سمعت يحيى بن معين يقول:
((إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش)).(1/56)
سمعت أبا سعد محمد بن محمد بن محمد الفقيه المطرز بأصبهان يقول: سمعت الفضل بن محمد العسال يقول: سمعت محمد بن إبراهيم بن عاصم الحافظ يقول: سمعت أحمد بن عمر يقول: سمعت ابن صاعد يقول: قال لي إبراهيم بن أورمة:
((اكتب عن كل إنسان، فإذا حدثت فأنت بالخيار)).
أخبرني محمد بن عبد العزيز بن محمد العسال بأصبهان، أنا أبو علي الحسن بن علي الحافظ الوخشي، أنا عبد العزيز بن محمد بن عبد الله الفارسي، ثنا الحسين بن إسماعيل القاضي، ثنا الفضل بن سهل الأعرج، ثنا علي بن عبد الله -هو ابن المديني- حدثني أيوب بن المتوكل عن عبد الرحمن ابن مهدي قال:
((الحفظ الإتقان، ولا يكون إماماً من حدث عن كل من رأى، ولا من حدث بكل ما سمع)).
والأصل في الطلب الأخذ عن العلماء، والإقبال على ما يرويه أعيان(1/57)
الفقهاء، وإن كانت روايتهم نازلةٌ من حيث العد والإحصاء، فنزولهم أولى من العلو عن الجهلة على مذهب المحققين من النقلة.
كما أخبرنا الشيخ أبو الحسن المبارك بن عبد الجبار بن الطيوري بمدينة السلام، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن علي الفالي، أنا أحمد بن إسحاق بن خرجان النهاوندي بالبصرة، أنا الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، حدثني صحيبٌ لنا كان معنا يقال له محمد بن أحمد بن محمد بن إسحاق الهروي قال: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري يقول: سمعت عبد الله بن هاشم الطوسي يقول: كنا عند وكيع فقال:
((الأعمش أحب إليكم عن أبي وائل عن عبد الله؟ أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؟)) فقلنا: الأعمش عن أبي وائل أقرب! فقال: ((الأعمش شيخ وأبو وائل شيخ، وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة: فقيه عن فقيهٍ عن فقيهٍ عن فقيهٍ)).
سمعت الشيخ أبا القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان يقول:
((النزول عن نسيبك أبي الطيب حبيب بن محمد الطهراني، وأبي بكر(1/58)
محمد بن عمر بن عزيزة، وأبي أحمد حمد بن حنة المعبر، وأمثالهم من شيوخنا، أحب إلي من العلو عمن سواهم، فإنهم فقهاء ثقاتٌ يدرون ما يروون)).
سمعت عفان بن غالب الأزدي المقرئ ببغداد يقول:
((عندنا بالمغرب ربما وجد كتابٌ بالعلو عند رجلٍ، إلا أنه لا يكون عالماً بما يرويه، أو غير ثقة، فيتركونه ويقرؤونه بالنزول على فقيهٍ ثقةٍ، ويعتدون به؛ أخذ هذا المذهب خلفنا عن سلفنا علماء المغرب)).(1/59)
أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن بشرويه الحافظ بأصبهان في آخرين قالوا: أنا عمر بن محمد بن الهيثم الأصبهاني، أنا أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى الملحمي، ثنا محمد بن يحيى بن منده، ثنا محمد بن عيسى المقرئ، ثنا إسحاق بن بشر الرازي قال: قال: ابن المبارك:
((ليس جودة الحديث قرب الإسناد، جودة الحديث صحة الرجال)).
أجاز لي القاضيان أبو إسحاق إبراهيم وأبو زكريا يحيى ابنا أبي العباس الغضائري بدربند خزران مشافهةٌ قالا: كتب إلينا أبو منصور محمد بن أحمد ابن أبي القاسم الأصبهاني من ثغر آمد، أنا علي بن عبد الله بن جهضم الهمذاني بمكة، ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن خلف العصفري، ثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن زفر، عن عبد الله الناقد، عن يحيى بن معين قال:
((الحديث بالنزول خيرٌ من علو عن غير ثبتٍ)).(1/60)
وأنشد محمد بن عبد الله بن زفر في معناه:
علم النزول اكتبوه فهو ينفعكم ... وترككم كتبه ضربٌ من العنت
إن النزول إذا ما كان عن ثبتٍ ... أعلى لكم من علو غير ذي ثبتٍ
هذا هذا، فأما إذا ما اجتمع في الشيخ علو الإسناد والعلم بالحديث، فهو المنى، وناهيك به نبلاً.
فقد أخبرنا أبو الفتح أحمد بن عبد الله بن أحمد السوذرجاني الأديب بأصبهان، ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن جعفر اليزدي، أنا عمر بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، ثنا يعرب بن خيران، ثنا محمد بن جعفر النيسابوري قال: سمعت أبا عبد الرحمن الطوسي يقول: سمعت محمد بن أسلم الطوسي يقول:
((قرب الإسناد قربٌ إلى الله عز وجل)).
وقد نظمت بثغر جنزة -حماه الله-:
ليس حسن الحديث قرب رجالٍ ... عند أرباب علمه النقاد(1/61)
بل علو الحديث بين أولي الحفظ ... والإتقان صحة الإسناد
وإذا ما تجمعا في حديثٍ ... فاغتنمه فذاك أقصى المراد
هذا القدر يغني في هذا المعنى، وإنما وشحت الفصل بهذه الفوائد المسندة جرياً على سنن الأسلاف رضي الله عنهم، فكل شيءٍ ليس فيه حدثنا وأخبرنا فهو خل وبقلٌ، كما نقل عن عبد الله بن المبارك.
ولما أوردت نظائر وأشباهٌ، لو تقصيتها خرج الجزء عن حد الاختصار إلى الإكثار فأقتصر على هذا الأنموذج ليستدل به على ما يشاكله ويماثله.
وقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار الصيرفي ببغداد، أنا الحسين بن علي ابن عبيد الله الطناجيري، ثنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن بكير الحافظ، حدثنا(1/62)
أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن السميساطي ببالس، حدثنا أبو زرعة أحمد بن موسى المكي، حدثنا أحمد بن محمد بن الصباح، ثنا محمد بن الحكم ابن مسلم، ثنا عبد الصمد بن حسان قال: سمعت سفيان الثوري يقول:
((الإسناد سلاحٌ، كيف يقاتل الرجل بغير سلاح؟!)).
هذا قول الثوري، وقد ذكر معناه عن الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي وغيره.
وسأستوفي -إن شاء الله- ذلك من بعد في تراجم المقدمة لفوائد أذربيجان، وأرمينية، وما وراءها من الثغور.
جعل الله جملته خالصاً لوجهه، مقرباً إلى مرضاته.
وحسبنا رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
والحمد لله كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله
آخره والحمد لله على نعمه وصلى الله على سيدنا محمد(1/63)