شرح شذور الذهب
لابن هشام الأنصارى
شذور الذهب متن في النحو العربي اشتمل على مجمل أبواب النحو لابن هشام الأنصاري ثم قام هو نفسه بشرح هذا المتن حيث تمم به شواهده وجمع شوارده قصد فيه إيضاح العبارة وبيان ما احتواه المتن من مسائل وأحكام نحوية . وأتى بأقوال العلماء النحويين والأمثلة على ذلك
مكتبة مشكاة الإسلامية
هو الشيخ الإمام العالم عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري الخزرجي الشافعي الحنبلي المكنى (أبي محمد) والملقب (جمال الدين) ولد بالقاهرة من مؤلفاته قطر الندى وبل الصدى. وشذور الذهب
مقدمة المؤلّف
قال الشَّيْخُ، الإمامُ، العالم، العلاَّمةُ، العاملُ، الجامع لأشْتاتتِ الفضائل، وحيدُ دهرهِ، وفريدُ عصرهِ، صَدْرُ المحقِّقين، وبَرَكة المسلمين، جمالُ الدِّين أبو محمدٍ عبدُ اللّه بنُ الشيخ جمالِ الدِّين يُوسُفَ بننِ أحمدَ بن عبدِ اللّه بن هشاممٍ، الأنصاريُّ. تَغَمَّدَه الله برحمته، وأسكنه فَسيحَ جنَّته.
أول ما أقول: إنِّي أحْمَدُ الله العليَّ الأكرم، الذي عَلَّمَ بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، ثم أُنْبِعُ ذلك بالصلاة والتسليم على المرسل رحمةً للعالمين، وإماماً للمتقين، وَقُدْوَةً للعامِلِينَ، محمَّدٍ النبيِّ الأُميِّ، والرَّسول العربيِّ، وعلى آله الهادين، وصحبه الرافعين لقواعد الدِّين.(1/1)
وبعد، فهذا كتابٌ شَرَحْتُ به مُخْتَصَرِي المسمَّى بـ«شذور الذهب، في معرفة كلام العرب» تَمَّمْتُ به شواهده، وجمعت به شوارِدَهُ، ومَكَّنْتُ من اقتناص أوَابِدِه رَائِدَة، قصدت فيه إلى إيضاح العبارة، لا إلى إخفاء الإشارة، وعمِدْت فيه إلى لَفِّ المَبَانِي والأقْسَام، لا إلى نَشْرِ القواعد والأحكام، والتزمْتُ فيه أنني كلما مررت ببيتتٍ مِنْ شواهد الأصل ذكرت إعرابه، وكلما أتيتُ على لفظٍ مُسْتَغْرَب أردفته بما يُزِيلُ استغرابه، وكلما أنهيْتُ مسألة ختمتها بآية تتعلق بها من آي التنزيل، وأتبعتها بما تحتاج إليه من إعراب وتفسير وتأويل، وقَصْدِي بذلك تدريبُ الطالب، وتعريفه السلوكَ إلى أمثال هذهِ المطالب.
والله تعالى أسأل أن ينفعني وإيَّاكم بذلك؛ إنه قريب مجيب، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكَّلت وإليه أُنيب.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الكلمة وأقسامها
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
تعريف الكلمة
قلت: الْكَلِمَة قَوْلٌ مُفْرَدٌ.
وأقول: في الْكَلِمَةِ ثلاثُ لُغاتتٍ، ولها معنيان:
أما لغاتها فَكَلِمةٌ، على وزن نَبِقَةٍ، وهي الفُصْحَى ولغةُ أهل الحجاز، وبها جاء التَّنْزِيلُ وجمعها كَلِمٌ كَنَبِققٍ، وكِلْمَةٌ، على وزن سِدْرَةٍ، وكَلْمَةٌ على وزن تَمْرَةٍ، وهما لغتا تميم، وجمع الأولى كِلْمٌ كَسِدْرٍ، والثانية كَلْمٌ كَتَمْرٍ.
وكذلك كل ما كان على وزن فَعِللٍ ـــ نحو: كَبِدٍ وَكَتِففٍ ـــ؛ فإنه يجوز فيه اللغاتُ الثلاث، فإن كان الوسَط حرفَ حَلْققٍ جاز فيه لغةٌ رابعة، وهي إتباع الأول للثاني في الكسر، نحو: فِخِذٍ وَشِهِدَ.
وأما معنياها فأحدهما اصطلاحيٌّ، وهو ما ذكرت.(1/2)
والمرادُ بالقوللِ: اللفظُ الدالُّ على معنًى، كَرَجُللٍ وَفَرَسسٍ، بخلاف الخط مَثَلاً فإنه وإن دل على معنًى لكنه ليس بلفظ، وبخلاف المُهمَللِ ـــ نحو: دَيْز: مقلوبَ زَيْدٍ ـــ فإنه وإن كان لفظاً لكنه لا يدلُّ على مَعْنًى، فلا يُسمَّى شيء من ذلك ونحوِهِ قَولاً.
والمراد بالمفرد: ما لا يَدُلُّ جُزْؤُهُ على جُزْءٍ مَعْنَاهُ، كما مَثَّلْنَا من قولنا رَجُللٍ وَفَرَسسٍ، ألا ترى أن أجزاء كل منهما ـــ وهي حروفه الثلاثة ـــ إذا انفرد شيء منها لا يدل على شيء مما دلت عليه جُمْلَتُهُ، بخلاف قولنا: «غُلاَمُ زَيْدٍ» فإنه مركب، لأن كلاًّ من جزءيه ـــ وهما غلام، وزيد ـــ دالٌّ على جزء المعنى الذي دلت عليه جملة «غلام زيد».
والمعنى الثاني لغويّ، وهو الجُمَلُ المفيدة، قال الله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا (المؤمنون: الآية 100) } إشارة إلى قول القائل: {رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَلِحاً فِيمَا تَرَكْتُ}.
و «كَلاَّ» في العربية على ثلاثة أوجه: حرففِ رَدْععٍ وَزَجْرٍ، وبمعنى حَقًّا، وبمعنى إي: فالأول كما في هذه الآية، أي: انْتَهِ عن هذه المقالة، فلا سبيل إلى الرجوع، والثاني نحو: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَنَ لَيَطْغَى } (العَلق: الآية 6) أي حَقًّا؛ إذ لم يتقدم على ذلك ما يُزْجَرُ عنه، كذا قال قوم، وقد اعترض على ذلك بأن حَقًّا تُفْتَحُ «أَنَّ» بعدها، وكذلك ألاَ التي بمعناها، فكذا ينبغي في «كَلاَّ»، والأوْلَى أن تُفَسَّرَ «كلا» في الآية بمعنى «أَلاَ» التي يُسْتَفْتَحُ بها الكلام، وتلك تكسر بعدها «إِنَّ»، نحو: {أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ (يُونس: الآية 62) }، والثالث قبل القَسَممِ، نحو: {كَلاَّ وَالْقَمَرِ } (المدَّثِّر: الآية 32) معناه إي والقمر، كذا قال النَّضْرُ بن شُمَيْل، وتبعه جماعة منهم ابن مالك، ولها معنى رابع، تكون بمعنى ألاَ(4)(5).(1/3)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
و «إنَّ» حرفُ تأكيد يَنْصِبُ الاسمَ بالاتفاق، ويرفع الخَبَر خلافاً للكوفيين، والضميرُ اسمُهَا، وهو راجع إلى المقالة، و «كلِمَةٌ» خبرها، و «هُوَ قائِلُهَا» جملة من مبتدأ وخبر في موضع رفع على أنها صفةٌ لكلمة، وكذا شأنُ الجمل الخبرية بعد النكرات، وأما بعد المعارف فهي أحْوَالٌ، كـ«جَاء زَيْدٌ يَضْحَكُ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام الكلمة
ثم قلت: وهِيَ اسمٌ، وفِعْلٌ، وحَرْفٌ.
وأقول: الكلمة جِنْسٌ تحته هذه الأنواع الثلاثة لا غيرُ، أجْمَعَ على ذلك مَنْ يُعْتَدُّ بقوله.
قالوا: ودليل الْحَصْرِ أن المعاني ثلاثة: ذاتٌ، وحَدَثٌ، ورابطة للحدث بالذات؛ فالذاتُ الاسمُ، والحدثُ الفعلُ، والرابطة الحرفُ. وأن الكلمة إن دلَّتْ على معنًى في غيرها فهي: الحرفُ، وإن دلت على معنى في نفسها، فإن دَلَّتْ على زمان مُحَصَّل فهي: الفعل، وإلاَّ فهي الاسم.
قال ابن الخَبَّاز: ولا يختص انحصار الكلمة في الأنواع الثلاثة بلغة العرب؛ لأن الدليل الذي دلّ على الانحصار في الثلاثة عَقْلِيٌّ، والأمور العقلية، لا تختلف باختلاف اللغات، انتهى.
ولكلَ من هذه الثلاثة مَعْنًى في الاصطلاح، ومَعْنًى في اللغة:
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الاسم اصطلاحاً ولغة
فالاسم في الاصطلاح: ما دل على مَعْنًى في نفسه غيرِ مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، وفي اللغة سِمَةُ الشيء: أي عَلاَمته، وهو بهذا الاعتبار يَشْمَل الكلماتتِ الثلاثَ؛ فإن كلاًّ منها علامة على معناه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الفِعل اصطلاحاً ولغة
والفعل في الاصطلاح: ما دلَّ على معنى في نفسه مقترننٍ بأحد الأزمنة الثلاثة، وفي اللغة نَفْسُ الحدثثِ الذي يُحْدِثه الفاعل: من قيام، أو قعود، أو نحوهما.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الحرف اصطلاحاً ولغة(1/4)
والحرف في الاصطلاح: ما دلَّ على معنى في غيره، وفي اللغة: طَرَفُ الشيء، كَحَرْففِ الجبل، وفي التنزيل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ (الحَجّ: الآية 11) } الآية: أي عَلَى طَرَففٍ وجانِببٍ من الدين، أي لا يدخل فيه عَلَى ثَبَاتتٍ وتمكن؛ فهو إن أصابه خير ـــ من صحَّةٍ وكثرة مال ونحوهما ـــ اطمأن به، وإن أصابته فتنة ـــ أي سر، من مرض أو فقر أو نحوهما ـــ انْقَلَبَ عَلَى وجهه عنه.
والواو عاطفة و «مِنْ» جارة معناها التبعيض، و «النَّاسِ» مجرور بها، واللام فيه لتعريف الجنس، و «مَنْ» مبتدأ تَقَدَّم خَبَرُهُ في الجار والمجرور، و «يَعْبُدُ» فعل مضارع مرفوع لخلوه من الناصِب والجازم، والفاعل مستتر عائد على «مَنْ» اعتبار لفظها، و «اللَّهَ» نَصْبٌ بالفعل، والجملة صِلَةٌ لِمَنْ إن قُدِّرَتْ مَنْ معرفة بمعنى الذي، وصِفَةٌ إن قُدِّرت نكرةً بمعنى ناسسٍ، وعلى الأول فلا موضع لها، وكذا كل جملة وقَعَتْ صِلَةً، وعلى الثاني موضعها رَفْعٌ، وكذا كل صفة فإنها تتبع موصوفها، و «على حَرْفٍ» جار ومجرور في موضع نصب على الحال: أي مُتَطَرِّفاً مُسْتَوْفِزاً «فإنْ» الفاء عاطفة، وإن: حرفُ شَرْطٍ «أصابه» فعل ماض في موضع جزم لأنه فعل الشرط، والهاء مفعول، و «خَيْرٌ» فاعل، و «اطْمَأَنَّ» فعل ماض، والفاعل مستتر، و «به» ومجرور متعلق باطمأنَّ، وقِسْ على هذا بقية الآيةِ.
وفيها قراءة غريبة، وهي: (خَسِرَ الدُّنْيَا والآخِرَةِ) بخفض «الآخرة» وتوجيهُهَا أن «خَسِرَ» ليس فعلاً مبنيًّا على الفتح، بل هو وصْفٌ مُعْرَبٌ بمنزلة فَهِممٍ وفَطِننٍ، وهو منصوب على الحال، ونظيره قراءة الأعرج: (خَاسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) إلا أن هذا اسمُ فاعل فلا يلتبس بالفعل، وذلك صفة مشبهة على وزن الفعل فيلتبس به.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الاسم وعلاماته
ثم قلت: فالاسمُ: ما يَقْبَلُ ألْ، أوِ النِّدَاء، أو الإسْنَادَ إليه.(1/5)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
من علامات الاسم قبول «أل»
وأقول: ذكرت للاسم ثلاث علامات يتميز بها عن قَسِيمَيْهِ؛ إحداها: «أل» وهذه العبارة أولى من عبارة مَنْ يقول الألف واللام» لأنه لا يقال في «هل» الهاء واللام، ولا في «بل» الباء واللام، وذلك كَالرَّجُل والكتاب والدَّارِ، وقول أبي الطيب: (البسيط)
1 ـــ الخَيْلُ وَاللَّيْلُ وَالبَيْدَاءُ تَعْرِفُنِي
وَالسَّيْفُ وَالرُّمْحُ وَالْقِرْطَاسُ وَالقَلَمُ
فهذه الكلمات السبع أسماء؛ لدخول «أل» عليها.
فإن قلت: فكيف دخلت على الفعل في قول الفَرَزْدَق: (البسيط)
2 ـــ مَا أنْتَ بالْحَكَممِ التُّرْضَى حُكومَتُهُ
وَلاَ الأصِيللِ وَلاَ ذِي الرَّأي والجَدَلَ
قلت: ذلك ضرورة قبيحة، حتى قال الْجُرْجاني ما معناه: إن استعمال مِثْللِ ذلك في النثر خطأ بإجماع، أي أنه لا يُقَاسُ عليه، و «أل» في ذلك اسم موصول بمعنى الذي.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
من علامات الاسم: النِّداء
الثانية: النِّداء نحو: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ (الأنفَال: الآية 64) }{ينُوحُ اهْبِطْ (هُود: الآية 48) }{يلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ (هُود: الآية 81) }{يهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ (هُود: الآية 53) }{يَاصَحُ ائْتِنَا (الأعرَاف: الآية 77) }{يشُعَيْبُ أَصَلَوتُكَ تَأْمُرُكَ (هُود: الآية 87) } فكل من هذه الألفاظ التي دخلت عليها «يا» اسم، وهكذا كل مُنَادًى.
فإن قلت: فما تصنع في قراءة الكسائي {ألا يا اسْجُدُوا للَّهِ} فإنه يقف عَلَى (ألا يا) ويبتدى باسْجُدُوا، بالأمر، وقوله تعالى: {يلَيْتَنَا نُرَدُّ (الأنعَام: الآية 27) }، وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «يا رُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنْيَا عَارِيَةٌ يوم القيامة»؛ فدخل حرفُ النداءِ فيهنَّ عَلَى ما ليس باسم؟(1/6)
قلت: اختلف في ذلك ونحوه عَلَى مذهبين؛ أحدهما: أن المنادى محذوف، أي يا هؤلاء اسْجُدُوا، ويا قوم ليتنا نُرَدُّ، ويا قوم رُبَّ كَاسيةٍ في الدنيا، والثاني أن «يا» فيهن للتنبيه، لا للنداء.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
من علامات الاسم الإسناد إليه
الثالثة: الإسنادُ إليه، وهو: أن يُسْنَدَ إليه ما تَتِمُّ به الفائدة، سواء كَان المسنَدُ فعلاً أو اسماً أو جملة؛ فالفعل كـ«قَامَ زَيْدٌ» فقام: فعلٌ مسند، وزيد: اسم مُسْنَدٌ إليه، والاسم نحو: «زَيْدٌ أخوكَ» فالأخ: مُسْنَدٌ، وزيد: اسم مسند إليه، والجملة نحو: «أنا قمت» فقام: فعل مسند إلى التاء، وقام والتاء جملة مُسْنَدَة إلى أنا.
فإن قلت: فما تصنع في إسنادهم «خَيْرٌ» إلى «تَسْمَع» في قولهم: «تَسْمَعُ بالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أنْ تَرَاهُ» مع أنَّ «تَسْمَع» فعلٌ بالاتفاق؟
قلت: «تسمع» عَلَى إضمار «أن» والمعنى أنْ تَسْمَعَ، والذي حَسَّنَ حذف «أنْ» الأولى ثبوتُ «أن» الثانية، وقد روي «أن تَسْمَعَ» بثبوت «أن» على الأصل، و «أنْ» والفعلُ في تأويل مَصْدَرٍ، أي سَمَاعُكَ؛ فالإخبار في الحقيقة إنما هو عن الاسم.(1/7)
وهذه العلامة هي أنفع علامات الاسم، وبها تُعْرَفُ اسمية «ما» في قوله تعالى: {قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَرَةِ (الجُمُعَة: الآية 11) }{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} ألا ترى أنها قد أسند إليها الأخْيَرِيَّةُ في الآية الأولى، والنَّفَاد في الآية الثانية، والبقاء في الآية الثالثة؛ فلهذا حكم بأنها فيهن اسم موصولٌ بمعنى الذي، وكذلك «ما» في قوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ (طه: الآية 69) } هي موصولة بمعنى الذي، و(صَنَعُوا) صلةٌ، والعائد محذوف: أي إن الذي صنعوه، و (كَيْدُ) خبر، ويجوز أن تقدرها موصولاً حَرْفِيًّا؛ فتكون هي وصلتها في تأويل المصدر، ولا تحتاج حينئذ إلى تقدير عائد، وليس لك أن تقدرها حرفاً كافاً، مثله في قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وحِدٌ (النِّساء: الآية 171) } لأن ذلك يوجب نَصْبَ (كَيْد) على أنه مفعول (صَنَعُوا).
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام الفعل وعلاماتها
ثم قلت: والفِعْلُ إمَّا ماضضٍ، وَهُوَ: مَا يَقْبَل تاء التأنيث الساكِنَةَ كقَامَتْ وقَعَدَتْ، ومِنْهُ نِعْمَ وَبِئْسَ وَعَسَى وَلَيْسَ، أو أمْرٌ، وَهُوَ: ما دَلَّ على الطلَببِ مع قَبُوللِ ياء المخاطَبَة كقُومِي، ومنهُ هَاتتِ وَتَعَالَ، أو مُضارعٌ، وهو: ما يَقْبَلُ لم كَلَمْ يَقمْ، وافتِتَاحُهُ بحَرْففٍ من «نَأيْتُ»: مَضْمُوممٍ إن كان الماضي رُبَاعِيًّا كأُدَحْرِجُ وأجيبُ، ومَفْتُوح في غَيْرِهِ كأضْرِبُ وأسْتَخْرِجُ.
وأقول: أنواع الفعل ثلاثة: ماضضٍ، وأمرٌ، ومضارعٌ، ولكل منها علامة تدل عليه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
علامة الفعل الماضي
فعلامة الماضي تاء التأنيث الساكنةُ كقامت وقَعَدَتْ، ومنه قولُ الشاعر: (الطويل)
3 ـــ ألَمَّتْ فَحَيَّتْ، ثمَّ قَامَتْ فَوَدَّعَتْ
فَلَمَّا تَوَلَّتْ كَادَتتِ النَّفْسُ تَزْهَقُ(1/8)
وبذلك اسْتُدِلَّ على أن «عَسَى، ولَيْسَ» ليسا حرفين كما قال ابن السَّرَّاج وثعلب في عسى وكما قال الفارسيُّ في ليس، وعلى أن «نِعْمَ» ليست اسماً كما يقول الفرَّاءُ ومَنْ وافقه، بل هي أفعال ماضية؛ لاتصال التاء المذكورة بها، وذلك كقولك: «لَيْسَتْ هند ظالمة فعسَتْ أن تُفْلح» وقوله عليه الصلاة والسَّلام: «مَنْ تَوَضَّأ يومَ الجُمُعَةِ فَبِهَا ونِعْمَتْ» وقول الشاعر:
4 ـــ نِعْمَتْ جزاء المُتَّقِينَ الْجَنَّهْ
دَارُ الأمَانِي والمُنَى والمِنَّهْ
واحترزتُ بالساكنة عن المتحركة، فإنَّهَا خاصَّة بالأسماء، كقائمةٍ وقاعدةٍ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
علامة فعل الأمر
وعلامة الأمر مجموعُ شيئين لا بدَّ منهما؛ أحدهما: أن يَدُلَّ على الطلب، والثاني: أن يقبل ياء المخاطبة، كقوله تعالى: {فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرّى عَيْناً (مريَم: الآية 26) } ومنه «هَاتِ» بكسر التاء، و «تَعَالَ» بفتح اللام، خلافاً للزَّمَخْشَرِي في زَعْمِه أنهما من أسماء الأفعال، ولنا أنهما يدلان على الطلب ويقبلان الياء، تقول: «هَاتي» بكسر التاء، و «تَعَالَى» بفتح اللام، قال الشاعر: (الطويل)
5 ـــ إِذَا قُلْتُ هَاتِي نُوِّلِينِي تمايَلَتْ
عَلَيَّ هَضِيمَ الْكَشْححِ رَيَّا المُخَلْخَللِ
والعامة تقول: (تَعَالِي) بكسر اللام، وعليه قولُ بعض المحدثِينَ: (الطويل)
6 ـــ تَعَالِي أُقَاسِمْككِ الهُمُومَ تَعَالِي
والصوابُ الفتحُ كما يقال: أخْشَى وأسْعَى.
فلو لم تدلَّ الكلمةُ على الطلب وقبلت ياء المخاطبة، نحو: «تَقُومِينَ وتَقْعُدِينَ» أو دلت على الطلب ولم تقبل ياء المخاطبة نحو: «نَزَاللِ يَا هِنْدُ» بمعنى انْزِلِي؛ فليست بفعل أمْرٍ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
علامة الفعل المضارع
وعلاَمَةُ المضارع: أن يقبل دخول «لم» كقولك: «لَمْ يَقُمْ، ولَمْ يَقْعُدْ».(1/9)
ولا بُدَّ من كونه مفتتحاً بحرف من أحْرُففِ «نأيت» نحو: «نقُوم، وأقُومُ، ويَقُوم زيدٌ، وتَقُوم يا زَيْدُ» ويجب فَتْحُ هذه الأحرف إن كان الماضي غيرَ رباعي، سواء نقص عنها كما مثلنا، أو زاد عليها نحو: «يَنْطَلِقُ، ويَسْتَخْرِج» وضَمُّها إن كان رباعيًّا، سواء كان كله أصولاً، نحو: «دَحْرَجَ يُدَحْرِجُ» أو واحد من أحرفه زائداً، نحو: «أجابَ يُجِيبُ» وذلك لأن أجاب وزنه أفْعَلَ، وكذا كل كلمة وَجَدْتَ أحرفها أربعة لا غير، وأول تلك الأربعة همزة؛ فاحكم بأنها زائدة، نحو: أحْمَد وإصْبَع وإثْمِد، ومن أمثلة المضارع قوله تبارك وتعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }.
(لم) حرف جزم لنفي المضارع وقَلْبِه ماضياً، تقول: «يقوم زيد» فيكونُ الفعلُ مرفوعاً لخلوه من الناصب والجازم، ومحتملاً للحال والاستقبال؛ فإذا دخلت عليه «لم» جَزَمَتْهُ وقَلَبته إلى معنى المضي، وفي الفعل الأول ضمير مستتر مرفوع على الفاعلية؛ وفي الثاني ضمير مستتر مرفوع لنيابته مَنَابَ الفاعل، ولا ضمير في الثالث؛ لأنه قد رفع الظاهر، وهو (أحدٌ) فإنه اسم (يكن) و (كُفواً) خبرها، وجَوَّزُوا أن يكون حالاً على أنه في الأصل صفة لأحد، ونعت النكرةِ إذا تَقَدَّم عليها انتصبَ على الحال، كقوله: (مجزوء الوافر)
7 ـــ لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ
يَلُوحُ كأنَّهُ خِلَلُ أصله: لميَّةَ طَلَلٌ مُوحِشٌ، وعلى هذا فالخَبَرُ الجارُّ والمجرور، والظاهر الأول، وعليه العمل؛ ففي الآية دليلٌ على جواز الفَصْللِ بين كان ومعموليها بمعمول معمولها، إذا كان ذلك المعمول ظرفاً أو جارًّا ومجروراً، نحو: «كَانَ فِي الدَّارِ زَيْدٌ جَالِساً» و «كَانَ عِنْدَكَ عَمْرٌو جَالِساً» وهذا مما لا خلاف فيه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
علامة الحرف وأنواعه
ثم قلت: وَالْحَرْفُ مَا عَدَا ذَلِكَ، كَهَلْ وَفِي وَلَمْ.(1/10)
وأقولُ: يُعْرَفُ الحرفُ بأن لا يَقْبَلَ شيئاً من العلامات المذكورة للاسم والفعل، وهو على ثلاثة أنواع:
1 ـــ ما يدخل على الأسماء والأفعال: كَهَلْ، مثالُ دخولها على الاسم قولُه تعالى: {فَهَلْ أَنتُمْ شَكِرُونَ (الأنبيَاء: الآية 80) }، ومثالُ دُخولها عَلَى الفعل قولُه تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ (ص: الآية 21) }.
2 ـــ وما يختص بالأسماء: كَفِي، في قوله تعالى: {وَفِى السَّمَآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } (الذّاريَات: الآية 22) .
3 ـــ وما يختص بالأفعال: كَلَمْ، في قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } (الإخلاص: الآية 3) .
ثم اعلم أن المنفي بها تارةً يكون انتفاؤه مُنْقَطِعاً، وتارةً يكون متَّصلاً بالحال، وتارةً يكون مستمراً أبداً؛ فالأول نحو قوله تعالى: {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (الإنسَان: الآية 1) } أي: ثم كَانَ بعد ذلك، والثاني نحو: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبّ شَقِيّاً (مريَم: الآية 4) }، والثالث نحو: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }.
وهنا تنبيه، وهو أن القاعدة أن الواو إذا وقعت بين ياء مفتوحة وكسرة حُذِفَتْ، كقولك في وَعَدَ: يَعِدُ، وفي وَزَنَ: يَزِنُ، وبهذا تعلم لأيّ شيء حُذِفَتْ في (يَلِدُ) وثَبَتَتْ في (يُولَدُ).
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الكلام والإعراب
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
تعريف الكلام اصطلاحاً ولغة
ثم قلت: وَالْكَلاَمُ قَوْلٌ مُفِيدٌ مَقْصُودٌ.
وأقول: للكلام معنيان: اصطلاحي، ولغوي:
فأما معناه في الاصصلاح: فهو القَوْلُ المفيد، وقد مَضَى تفسيرُ القول، وأما المفيد فهو الدالُّ على معنًى يَحْسُنُ السكوتُ عليه نحو: «زَيْدٌ قَائِمٌ» و «قَامَ أَخُوكَ» بخلاف نحو: «زيد» ونحو: «غُلاَم زيد» ونحو: «الَّذِي قَامَ أَبُوهُ» فلا يُسَمَّى شيء من هذا مُفِيداً؛ لأنه لا يحسنُ السكوتُ عليه، فلا يُسَمَّى كلاماً.(1/11)
وأما معناه في اللغة فإنه يطلق على ثلاثة أمور:
أحدها: الْحَدَث الذي هو التَّكْليمُ، تقول: «أَعْجَبَنِي كَلاَمُكَ زَيْداً» أي: تَكْلِيمُكَ إِيَّاهُ، وإذا استعمل بهذا المعنى عَمِلَ عَمَلَ الأفْعَاللِ كما في (هذا) المثال، وكقوله: (البسيط)
8 ـــ قَالُوا: كَلاَمُكَ هِنْداً وَهْيَ مُصْغِيَةٌ
يَشْفِيكَ؟ قُلْتُ: صَحِيحٌ ذَاكَ لَوْ كَانَا
أي: تَكْلِيمُكَ هِنْداً؛ فـ«كَلاَمُكَ» مبتدأ ومضاف إليه، و «هنداً»: مفعول، وقوله: «وهي مصغية» جملة اسمية في موضع نصب على الحال، و «يشفيك» جملة فعليّة في موضع رفع على أنها خبر.
والثاني: ما في النفس مما يُعَبَّر عنه باللفظ المفيد، وذلك كأن يقوم بنفسك معنى «قَامَ زيدٌ» أو «قَعَدَ عمرٌو» ونحو ذلك؛ فيسمى ذلك الذي تَخَيَّلْتهُ كلاماً؛ قال الأخطل:
9 ـــ لاَ يُعْجِبَنَّكَ مِنْ خَطِيببٍ خُطْبَةٌ
حَتَّى يَكُونَ مَعَ الْكَلاَممِ أَصِيلاَ
إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤَادِ، وَإِنَّمَا
جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلاَ
والثالث: ما تَحْصُلُ به الفائدةُ، سواء كان لفظاً، أو خطًّا، أو إشارة، أو ما نَطَقَ به لسانُ الحاللِ، والدليلُ على ذلك في الخط قولُ العرب: «الْقَلمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ» وتسميتهم ما بين دَفَّتي المصحف «كلام الله»، والدليلُ عليه في الإشارة قولُه تعالى: {ءايَتُكَ أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا (آل عِمرَان: الآية 41) }، فاستثني الرمز من الكلام، والأصْلُ في الاستثناء الاتِّصالُ، وأما قوله: (الطّويل)
10 ـــ أَشَارَتْ بِطَرْففِ الْعَيْننِ خِيفَةَ أَهْلِهَا
إِشَارَةَ مَحْزُوننٍ وَلَمْ تَتَكَلَّممِ
فَأَيْقَنْتُ أنَّ الطَّرْفَ قدْ قَالَ: مَرْحَباً
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
وَأَهْلاً وَسَهْلاً بِالْحَبِيببِ الْمُتَيَّممِ(1/12)
فإنَّما نَفَى الْكَلاَم اللفظيَّ، لا مُطْلَقَ الكلام، ولو أراد بقوله: «ولم تتكلم» نَفْيَ غير الكَلاَممِ اللفظيِّ لانْتَقَضَ بقوله: «فأيقنت أن الطرف قد قَالَ مرحباً» لأنه أثْبَتَ للطرف قَوْلاً، بعد أن نَفَى الْكَلاَم، والمراد نَفْيُ الكَلاَم اللفظي، وإثبات الكلام اللغوي.
والدليلُ عليه فيما نَطَقَ به لسانُ الحال قولُ نُصَيْببِ: (الطويل)
11 ـــ فَعَاجُوا فَأَثْنَوْا بِالَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ
وَلَوْ سَكَتُوا أثْنَتْ عَلَيْكَ الْحَقَائِبُ
وقال الله تعالى: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ (فُصّلَت: الآية 11) }، فزعم قومٌ من العلماء أنهما تَكَلْمَتَا حقيقةً، وقال آخَرُون: إنهما لما انْقَادَتَا لأمر الله عز وجلّ نُزِّلَ ذلك منزلةَ القوللِ.
وفي الآية شاهدٌ ثان على إعطاء صفة ما لا يعقل حُكْمَ صفةِ مَنْ يعقل، إذا نسب إليه ما نسب إلى العقلاء، ألا ترى أن «طائعاً» قد جُمِعَ بالياءِ والنون لمَّا نُسِبَ لمَوْصُوفه القولُ؟
وشاهدٌ ثالث على أن النصب في نحو: «جَاءَ زَيْدٌ رَكْضاً» على الحال، وتأويل ركضاً براكضاً، لا على أنه مصدر لفعل محذوف: أي يَرْكُضُ رَكْضاً، ولا على أنه مصدر للفعل المذكور، خلافاً لزاعمي ذلك، وَوَجْهُ الدليل أن «طائعين» حال، وهو في مقابلة (طَوْعاً أو كَرْهاً) فيدل على أن المراد طائعين أو مكرهين.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام الكلام وأنواعه
ثم قلت: وَهُوَ خَبَرٌ، وَطَلَبٌ، وَإنْشَاءٌ.(1/13)
وأقول: كما انقسمت الكلمة إلى ثلاثة أنواع: اسم وفعل وحرف، كذلك انقسم الكلام إلى ثلاثة أنواع: خبر، وطلب، وإنشاء، وَضَابِطُ ذلك أنه إمّا أن يحتمل التَّصْدِيقَ والتكذيب، أو لا؛ فإن احْتَمَلَهُمَا فهو الخبر، نحو: «قَامَ زيد» و «مَا قَامَ زيد»، وإن لم يحتملهما فإمّا أن يتأخر وُجُودُ معناه عن وجود لفظه، أو يَقْتَرِنَا؛ فإن تَأَخَّرَ عنه فهو الطَّلَبُ، نحو: «اضْرِبْ» و «لاَ تَضْرِب» و «هَلْ جَاءَكَ زَيْدٌ؟» وإن اقترنا فهو الإنشاء، كقولك لعبدك: «أنْتَ حُرٌّ» وقولك لمن أوجب لك النكاح: «قَبِلْتُ هذَا النِّكَاح».
وهذا التقسيم تبعتُ فيه بعضَهم، والتحقيق خلافه، وأن الكلام ينقسم إلى خبر وإنشاء فقط، وأن الطلب من أقسام الإنشاء، وأن مدلول «قُمْ» حَاصِلٌ عند التلفظ به لا يتأخر عنه، وإنَّما يتأخر عنه الامتثالُ، وهو خارج عن مدلول اللفظ، ولما اخْتَصَّ هذا النوعُ بأن إيجاد لَفْظِهِ إيجادٌ لمعناه سُمِّيَ إنشاء، قال الله تعالى: {إِنَّآ أَنشَأْنَهُنَّ إِنشَآء } (الواقِعَة: الآية 35) أي: أوجدناهن إيجاداً.
(إنا) إنَّ واسمها، والأصْلُ إننا؛ فحذفت النون الثانية تخفيفاً (أنشأناهن) فعل ماض وفاعل ومفعول، والجملة في موضع رفع على أنها خبر إنَّ (إنشاء) مصدر مؤكد، والضمير في (أنشأناهن)، قال قتادة: راجع إلى الْحُورِ العِيننِ المذكُورَاتتِ قبلُ، وفيه بُعْدٌ؛ لأن تلك قصة قد انْقَضَتْ جملةً، وقال أبو عبيدة: عائد على غير مذكور، مثل: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (ص: الآية 32) }.
والذي حَسَّنَ ذلك دلالة قوله سبحانه وتعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } (الواقِعَة: الآية 34) على المعنى المراد (وقيل: عائد على الفرش، وأن المراد الأزواج وهن مرفوعات على الأرائك؛ بدليل: {هُمْ وَأَزْوجُهُمْ فِى ظِلَلٍ عَلَى الاْرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ } (يس: الآية 56) ، أو مرفوعاتٌ بالفَضْل والجمال على نساء الدنيا).
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب(1/14)
باب الإعراب
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
تعريف الإعراب وبيان معناه لغةً واصطلاحا
ثم قلت: باب ـــ الإعْرَابُ أثَرٌ ظَاهِرٌ أو مُقَدَّرٌ يَجْلِبُهُ العَامِلُ في آخِرِ الاِسْممِ المتَمَكِّننِ وَالْفِعْللِ المضارع.
وأقول: للإعراب معنيان: لغوي، وصناعي.
فمعناه اللغوي: الإبانة، يقال: «أعْرَبَ الرَّجُلُ عمَّا في نفسِهِ» إذا أبَانَ عنه، وفي الحديث: «الْبِكْرُ تستأمَرُ، وإذْنُهَا صِمَاتُهَا، والأيِّمُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا» أي: تُبَيِّن رضاها بصريح النطق.
ومعناه الاصطلاحي: ما ذكرت، مثال الآثار الظاهرة الضمَّةُ والفتحةُ والكسرة في قولك: «جَاءَ زَيْدٌ» و «رأيْتُ زيداً» و «مَرَرْتُ بزيدٍ» ألا ترى أنها آثار ظاهرةٌ في آخر «زيد» جَلَبَتْهَا العواملُ الداخلة عليه ـــ وهي: جَاءَ، ورأى، والباء ـــ ومثالُ الآثار المقدرة ما تعتقده مَنْوِيًّا في آخر نحو: «الفتى» من قولك: «جَاءَ الْفَتَى» و «رأيت الْفَتَى» و «مررتُ بالْفَتَى»؛ فإنك تقدر في آخره في المثال الأول ضمة، وفي الثاني فتحة، وفي الثالث كسرة، وتلك الحركاتُ المقدرة إعرابٌ، كما أن الحركات الظاهرة في آخر «زيد» إعراب.
وخرج بقولي: «يجلبه العامل» نحو الضمة في النون في قوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِىَ كِتَبَهُ (الإسرَاء: الآية 71) } في قراءة وَرْششٍ، بنقل حركة همزة أُوتِيَ إلى ما قبلها وإسقاط الهمزة، والفتحة في دال «قَدَ أفْلَحَ» على قراءته أيضاً بالنقل، والكسرة في دال {الْحَمْدُ للَّهِ (الفَاتِحَة: الآية 2) } في قراءة مَنْ أتبع الدالَ اللامَ؛ فإن هذه الحركات وإن كانت آثاراً ظاهرة في آخر الكلمة لكنها لم تجلبها عوامل دَخَلَتْ عليها؛ فليست إعراباً.
وقولي: «في آخر الكلمة» بيان لمحل الإعراب من الكلمة، وليس باحْتِرَاز؛ إذ ليس لنا آثار تجلبها العوامل في غير آخر الكلمة فيحترز عنها.(1/15)
فإن قلت: بلى، وجد ذلك في «امرىءٍ» و «ابنم» ألا ترى أنهما إذا دخل عليهما الرافعُ ضمَّ آخِرَهُمَا وما قبل آخِرِهِمَا؛ فتقول: «هذا امْرُؤٌ وابنُمٌ» وإذا دخل عليهما الناصب فتحهما فتقول: «رَأَيْتُ امْرَأً وابْنَماً» وإذا دخل عليهما الخافض كسرهما فتقول: «مَرَرْتُ بامْرِىءٍ وابْنمٍ» قال الله تعالى: {إِن امْرُؤٌ هَلَكَ (النِّساء: الآية 176) }{مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء (مريَم: الآية 28) }{لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } (عَبَسَ: الآية 37) .
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
قلت: اختلف أهل البلدين في هذين الاسمين، فقال الكوفيون: إنهما مُعْربان من مكانين، وإذا فَرَّعْنَا على قولهم فلا يجوز الاحتراز عنهما، بل يجب إدخالهما في الحدِّ، وقال البصريون، وهو الصواب: إن الحركة الأخيرة هي الإعراب، وما قبلها إتْبَاعٌ لها، وعلى قولهم فلا يصح إدخالهما في الحد.
وارتفاع (امْرُؤٌ) في الآية الأولى على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره الفعل المذكور، والتقدير: إن هَلَكَ، ولا يجوز أن يكون فاعلاً بالفعل المذكور، خلافاً للكوفيين؛ لأن الفاعل لا يتقدم على رافعه، ولا مبتدأ خلافاً لهم وللأخفش؛ لأن أدوات الشرط لا تدخل على الجملة الاسمية، وانتصابُهُ في الآية الثانية لأنه خَبَرُ (كان) وانجراره في الثالثة بالإضافة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أنواع الإعراب
ثم قلت: وَأَنْوَاعُهُ رَفْعٌ وَنَصْبٌ في اسْممٍ وَفِعْللٍ كَـ«زَيْدٌ يَقُومُ» و «إِنَّ زَيْداً لَنْ يَقُومَ» وجَرٌّ في اسم كَـ«بِزَيْدٍ» وَجَزْمٌ في فِعْللٍ كَـ«لَمْ يَقُمْ».
والأصْلُ كَوْنُ الرَّفْععِ بالضَّمَّةِ، والنَّصْببِ بِالْفَتْحَةِ، وَالْجَرِّ بالْكَسْرَةِ، وَالْجَزْممِ بالسُّكُوننِ.
وأقول: أنواع الإعراب أربعة: رفع، ونصب، وجر، وجزم، وعن بعضهم أن الجزم ليس بإعراب، وليس بشيء، وهذه الأربعة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:(1/16)
1 ـــ ما هو مشترك بين الاسم والفعل، وهو الرفع والنصب: مثالُ دخول الرفع فيهما «زَيْدٌ يَقُومُ» فـ«زيد» مرفوع بالابتداء، وعلامة رفعه الضمة، و «يقوم» مرفوع لأنه فعل مضارع خاللٍ عن ناصب وجازم، وعلامة رفعه أيضاً الضمة، ومثالُ دخول النصب فيهما: «إنَّ زَيْداً لَنْ يَقُوم» فـ«زيداً» اسم منصوب بإن، وعلامة نصبه الفتحة، و «يَقُومَ» فعل مضارع منصوب بلَنْ وعلامة نصبه أيضاً الفتحة.
2 ـــ وما هو خاص بالاسم، وهو الجر: نحو: «بِزَيْدٍ» فـ«زَيْدٍ» مجرور بالباء: وعلامة جره الكسرة.
3 ـــ وما هو خاص بالفعل، وهو الجزم: نحو: «لَمْ يَقُمْ» فـ«يَقُمْ» فعل مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف الحركة.
والأصْلُ في هذه الأنواع الأربعة أن يُدَلَّ على رفعها بالضمة، وعلى نصبها بالفتحة، وعلى جَرِّها بالكسرة، وعلى جزمها بالسكون، وهو حذف الحركة، وقد بينت ذلك كله في الأمثلة المذكورة.
وقال الله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ (البَقَرَة: الآية 251) }.
إعراب ذلك (لَوْلاَ) حرف يدل على امتناع شيء لوجود غيره، تقول: لَوْلاَ زَيْدٌ لأكْرَمْتُكَ، تريد بذلك أن الإكرام امتنع لوجود زيد، و (دَفْعُ) مبتدأ مرفوع بالضمة، واسم الله مضاف إليه، ولفظه مجرور بالكسرة، ومحله مرفوع لأنه فاعل الدَّفْععِ، و (النَّاس) مفعول منصوب بالفتحة، والناصب له الدَّفْعُ؛ لأنه مصدر حالٌّ مَحَلَّ أنْ والفعل، وكلُّ مصدرٍ كَان كذلك فإنه يعمل عَمَلَ الفعللِ: أي ولولا أن دَفَعَ اللَّهُ الناسَ، و (بعضَهُمْ) بدلُ بعض من كل، وهو منصوب بالفتحة، وخبر المبتدأ محذوف وجوباً، وكذا كل مبتدأ وقع بعد لولا، والتقدير: ولولا دَفْعُ اللَّهِ الناسَ موجودٌ؛ والمعنى لولا أن يدفع الله بعضَ الناس ببعض لَغَلَبَ المفسدون وبطلت مَصَالح الأرض، وقال أبو العلاء المعرِّي في صفة السيف: (الوافر)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب(1/17)
12 ـــ يُذِيبُ الرُّعْبُ مِنْهُ كُلَّ عضْببٍ
فَلَوْلاَ الْغِمْدُ يُمْسِكُهُ لَسَالا
فآثر ذِكْرَ الخبر، وهو «يمسكه».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ما خرج عن الأصل في الإعراب
ثم قلت: وَخَرَجَ عَنْ ذَلِكَ الأصْللِ سَبْعَةُ أبْوَاببٍ.
أحدُهَا: مَا لاَ يَنْصَرِفُ؛ فإِنَّهُ يُجَرُّ بِالْفَتْحَةِ، نحْوُ: «بأفْضَلَ مِنْهُ» إلا إنْ أُضِيفَ أوْ دَخَلَتْهُ ألْ، نحوُ: «بِأَفْضَلِكُمْ» و «بالأفضلِ».
وأقول: الأصل في علامات الإعراب ما ذكرناه، وقد خرج عن ذلك سبعَةُ أبواببٍ:
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
1 ـــــ الاسم الذي لا ينصرف
الباب الأول: باب ما لا ينصرف: وحُكْمُه أنه يوافق ما ينصرف في أمرين، وهما: أنه يرفع بالضمة، وينصب بالفتحة، ويخالفه في أمرين، وهما: أنه لا يُنَوَّنُ، وأنه يجر بالفتحة، نحو: «جَاءَني أفْضَلُ مِنْهُ» و «رَأَيْتُ أفْضَلُ مِنْهُ» و «مررتُ بأفْضَلَ مِنْهُ» وقال الله تعالى: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ (النِّساء: الآية 86) }{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآء مِن مَّحَرِيبَ وَتَمَثِيلَ (سَبَإ: الآية 13) }{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ (النِّساء: الآية 163) }.
ويستثنى من قولنا «ما لا ينصرف» مسألتان يجر فيهما بالكسرة على الأصل؛ إحداهما: أن يضاف، والثانية: أن تصحبه الألف واللام، تقول: مررت بأفضَللِ القوم وبالأفْضَللِ، وقال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } (التِّين: الآية 4) .(1/18)
اللام جواب القسم السابق في قوله تعالى: {وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ } (التِّين: الآية 1) وما بعدهما، و (قد) لها أربعةُ معان، وذلك أنها تكون حرف تحقيق، وتقريب، وتقليل، وتَوَقّع، فالتي للتحقيق تدخل على الفعل المضارع نحو: {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ (النُّور: الآية 64) } أي: يعلم ما أنتم عليه حقاً {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآء (البَقَرَة: الآية 144) } وعلى الماضي نحو: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ (البَلَد: الآية 4) } الآية؛ وكذا حيث جاءت (قد) بعد اللام فهي للتحقيق، والتي للتقريب تختص بالماضي نحو قول المؤذن: «قَدْ قَامَتتِ الصَّلاَةُ» أي: قد حَانَ وَقْتهَا، ولذلك يحسن وقوع الماضي موضِعَ الحال إذا كان معه قد، كقولك: رأيت زيداً قد عَزَم على الخروج، أي عازماً عليه، والتي للتقليل تختص بالمضارع، كقولهم: «قد يَصْدُقُ الكذوب»، و «قد يعْثُرُ الجوادُ» (أي: ربما صدق الكذوب، وربما عثر الجوادُ) والتي للتوقُّع تختص بالماضي، قال سيبويه: وأما «قد فَعَل» فجواب «هل فَعَل»؛ لأن السائل ينتظر الجواب: أي يتوقَّعُهُ، وقال الخليل: هذا الكلام لقوم ينتظرون الخبر، يريد أنَّ الإنسان إذا سألَ عن فعل أو عُلِمَ أنه يَتَوَقَّعُ أن يخْبَرَ به قيل: قد فعل، وإذا كان الخبر مبتدأ قال: فعل كذا وكذا، ولم يأت بقد، فأعرفه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
2 ـــ ما جمع بالألف والتّاء
ثم قلت: الثاني مَا جُمِعَ بِألِففٍ وَتَاءٍ مَزِيدَتَيْننِ، كَـ«هِنْدات» فإنَّهُ يُنْصَبُ بِالكَسْرَةِ نَحْوُ: {خَلَقَ اللَّهُ السَّموَاتِ}{فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ (النِّساء: الآية 71) } بخلاف نحو: {وَكُنتُمْ أَمْوتًا (البَقَرَة: الآية 28) } و «رَأَيْتُ قُضَاةً»، وَأُلْحِقَ بِهِ «أُولاَتُ».(1/19)
وأقول: الباب الثاني: مما خرج عن الأصل: ما جمع بألف وتاء مزيدتين، سواء كان جمعاً لمؤنث نحو: «هِنْدَات» و «زَيْنَبَات» أو جمعاً لمذكر نحو: «إصْطَبْلاَت» و«حَمَّامَات»، وسواء كان سالماً كما مَثَّلْنَا، أو ذا تغير كـ«سَجَدَات» بفتح الجيم، و «غُرُفَات» بضم الراء وفتحها، و «سِدَرَات» بكسر الدال وفتحها.
فهذه كلها تُرْفَع بالضمة وتجر بالكسرة على الأصل، وتُنْصَب بالكسرة على خلاف الأصل، تقول: «جَاءَتتِ الهِنْدَاتُ» و «مَرَرْتُ بِالهِنْدَاتِ» و «رَأَيْتُ الهِنْدَاتِ» و {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ (العَنكبوت: الآية 44) }.
(خلق) فعل ماض، و (الله) فاعل، و (السَّمواتِ) مفعول به، والمفعول منصوب، وعلامة النصب الكسرة نيابة عن الفتحة.
وقال الله تعالى: {لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوتِ الشَّيْطَنِ (النُّور: الآية 21) } (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتتٍ عَلَيْهِمْ {إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَتِ (هُود: الآية 114) }، ونظائر ذلك كثيرة.
وَأُلْحِقَ بهذا الجمع «أُولاَتُ» فينصب بالكسرة نيابةً عن الفتحة، وإن لم يكن جمعاً، وإنما هو اسم جمع؛ لأنه لا وَاحِدَ له من لفظه، حُمِلَ على جمع المؤنث، كما حُمِلَ «أُولُو» على جمع المذكر كما سيأتي، قال الله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُوْلَتِ حَمْلٍ (الطّلاق: الآية 6) }، (كُنَّ) كان واسمها، و (أُولاَتِ) خبرها، وعلامة نصبه الكسرة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
3 ـــ الأسماء السّتة
ثم قلت: الثَّالِثُ «ذُو» بِمَعْنَى صَاحِببٍ، وَمَا أُضِيفَ لِغَيْرِ الْيَاءِ مِنْ «أَبٍ» و «أَخٍ» و «حَمٍ» و «هَنٍ» و «فَمٍ» بغير ميم؛ فإنها تعرب بالواو والألف والياء.
وأقول: البابُ الثَّالثُ: مما خرج عن الأصل: الأسماءُ الستَّةُ المُعْتَلَّةُ المُضَافَةُ إلى غير ياء المتكلم؛ فإنها ترفع بالواو نيابةً عن الضمة، وتنصب بالألف نيابةً عن الفتحة، وتخفض بالياء نيابةً عن الكسرة.(1/20)
وشَرْطُ الأوَّللِ منها ـــ وهو ذُو ـــ أن يكون بمعنى صاحب، تقول: «جَاءَنِي ذُو مالٍ» و «رأيتُ ذَا مَالٍ» و «مَرَرْتُ بِذِي مَالٍ»، قال الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ (الرّعد: الآية 6) }، وقال تعالى: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ (القَلَم: الآية 14) }، وقال تعالى: {إِلَى ظِلّ ذِى ثَلَثِ شُعَبٍ (المُرسَلات: الآية 30) }، فوقع «ذُو» في الأول خبراً لأنَّ فرفع بالواو، وفي الثاني خبراً لكانَ فنصب بالألف، وفي الثالث صفة لِظِلَ فجرَّ بالياء؛ لأن الصفة تتبع الموصوف.
وإذا لم يكن «ذُو» بمعنى صاحب؛ كان بمعنى الذي، وكان مبنيًّا على سكون الواو، تقول: «جاءني ذُو قَامَ» و «رَأَيْتُ ذُو قَامَ» و «مَرَرْتُ بِذُو قَامَ» وهي لُغَة طيّىء، على أنّ منهم من يُجْرِيها مُجْرَى التي بمعنى صاحب فيعربها بالواو والألف والياء؛ فيقول: «جَاءنِي ذُو قَامَ» و «رَأَيْتُ ذَا قَامَ» ومَرَرْتُ بِذِي قَامَ» إلا أن ذلك شاذ، والمشهورُ ما قَدَّمناه، وَسُمِعَ من كلامهم: «لا وذُو في السماء عَرْشُه» فذو: موصولة بمعنى الذي، وما بعدها صلة، فلو كانت معربة لَجُرَّتْ بواو القسم.
والخمسةُ الباقيةُ شَرْطُهَا أن تكون مضافَةً إلى غير ياء المتكلم، كقوله تعالى: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (القَصَص: الآية 23) } وقوله تعالى: {إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَللٍ مُّبِينٍ (يُوسُف: الآية 8) } وقوله تعالى: {ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ (يُوسُف: الآية 81) }، فوقع الأبُ في الآية الأولى مرفوعاً بالابتداء، وفي الآية الثانية منصوباً بإنَّ، وفي الآية الثالثة مخفوضاً بإلى، وهو في جميع ذلك مضاف إلى غير الياء؛ فلهذا أعرب بالواو والألف والياء، وكذلك القولُ في الباقي.(1/21)
ولو أُضِيفَت هذه الأسماء إلى ياء المتكلم كسرت أوَاخِرُها لمناسبة الياء، وكان إعرابها بحركات مُقَدَّرة قبل الياء؛ تقول: «هذَا أَبِي» و «رَأَيتُ أَبِي» و «مَرَرْتُ بِأَبِي» فَتُقَدَّرُ حركات الإعراب قبل ياء المتكلم، كما تفعل ذلك في نحو: «غُلاَمِي».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
فالأول كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً (ص: الآية 23) } فيحتمل (أخي) وجهين؛ أحدهما: أن يكون بدلاً من (هذا) فيكون منصوباً؛ لأن البدل يَتْبع المبدل منه، فكأنّه قال: إنَّ أخي، والثاني: أن يكون خبراً؛ فيكون مرفوعاً، وجملة: (له تسع وتسعون نعجة) خبر ثان على الوجه الثاني، وهو الخبر على الوجه الأول.
والثاني كقوله تعالى: {رَبّ إِنّى لآ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى (المَائدة: الآية 25) } فيحتمل (أخي) ثلاثة أوْجُهٍ:
أحدها: أن يكون مرفوعاً، وذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون عطفاً على الضمير في (أملك) ذكرهُ الزمخشري، وفيه نظر؛ لأن المضارع المبدوء بالهمزة لا يرفع الاسم الظاهر، لا تقول: «أقوم زيد» فكذلك لا يُعْطَفُ الاسمُ الظاهرُ على الاسم المرفوع به.
فإن قلت: وأيضاً فكيف يعطف على الضمير المرفوع المتصل ولم يوجد تأكيد كما في قوله تعالى: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَآؤُكُمْ فِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ (الأنبيَاء: الآية 54) }؟.
قلتُ: الفَصْلُ بين المعطوف والمعطوف عليه يَقُوم مَقَامَ التأكيد.
الثاني: أن يكون عطفاً على محل «إنَّ» واسمها، والتقدير: وأخي كذلك.
والفَرْقُ بين الوجهين أن المعطوف في الوجه الثاني مفردان على مفردين، كما تقول: إن زيداً منطلقٌ وعمراً ذاهبٌ، وفي الوجه الثالث جملة على جملة، كما تقول: إن زيداً منطلقٌ وعمرٌو ذاهبٌ.
الثاني: أن يكون منصوباً، وذلك من وجهين؛ أحدهما: أن يكون معطوفاً على اسم «إنَّ»، والثاني أن يكون معطوفاً على (نفسي).(1/22)
والثالث: أن يكون مخفوضاً، وذلك من وجه واحد، وهو أن يكون معطوفاً على الياء المخفوضة بإضافة النفس، وهذا الوجه لا يُجِيزُهُ جمهورُ البصريين: لأن فيه العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
خلافهم في «الهن»
ثم قلت: والأفْصَحُ في الهَننِ النَّقْصُ.
وأقول: الهَنُ يُخَالِفُ الأبَ والأخَ والْحَمَ، من جهة أنها إذا أفردت نَقَصَتْ أوَاخِرُهَا وصارت على حرفين، وإذا أُضِيفَت تمت فصارت على ثلاثة أحرف، تقول: هذا أبٌ، بحذف اللام، وأصله «أبَوٌ» فإذا أضفته قلت: هذا أبُوكَ، وكذا الباقي، وأما «الهَنُ» فإذا استعمل مفرداً نَقَصَ، وإذا أُضِيف بقي في اللغة الفُصْحَى على نَقْصِهِ، تقول: هذا هَنٌ، وهذا هَنُكَ؛ فيكون في الإفراد والإضافة على حد سواء، ومن العرب مَنْ يستعمله تامًّا في حالة الإضافة؛ فيقول: هذا هَنُوك، ورأيت هَنَاك، ومررت بهنَيِكَ، وهي لغة قليلة، ولقلّتها لم يَطَّلع عليها الفرَّاء ولا أبو القاسم الزَّجَّاجِيُّ، فَادَّعَيَا أن الأسماء المعربة بالحروف خمسة لا ستة.
واعلم أن لغة النقص مع كونها أكْثَرَ استعمالاً هي أفصَحُ قياساً، وذلك لأن ما كان ناقصاً في الإفراد فحقُّه أن يبقى على نقصه في الإضافة، وذلك نحو: «يَدٍ» أصلها يَدَيٌ، فحذفوا لامها في الإفراد، وهي الياء، وجعلوا الإعراب على ما قبلها فقالوا: هذه يَدٌ، ثم لما أضافوها أبقوها محذوفة اللام، قال الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (الفَتْح: الآية 10) } وقال الله تعالى: {لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى (المَائدة: الآية 28) } وقال الله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً (ص: الآية 44) }.(1/23)
فأما الآية الأولى فـ(يد) فيها مبتدأ مرفوع بالضمة، و (الله) مضاف إليه مخفوض بالكسرة، و (فوق) ظرف مكان منصوب بالفتحة، وهو متعلق بمحذوف هو الخبر: أي كائنةٌ فوقَ أيديهم، و (أيديهم) مضاف ومضاف إليه، ورجعت الياء التي كانت في المفرد محذوفة لأن التكسير يردُّ الأشياء إلى أصولها.
وأما الآية الثانية فاللام دالة على قَسَممٍ مقدر: أي والله لئن، وتسمى اللام الموذِنَةَ والموَطّنة؛ لأنها آذَنَتْ بالقسم ووطّأت الجوابَ له، و (إنْ) حرف شرط، و (بسطت) فعل ماضضٍ وفاعل، و (إلَيَّ) جار ومجرور متعلق ببسطت، و (يدك) والفعلُ منصوبٌ بأن مضمرة بعدها جوازاً، لا بها نفسها خلافاً للكوفيين، وأن المضمرة والفعل في تأويل مصدر مخفوض باللام: أي للقتل، و (ما) نافية، و (أنا) اسمها إن قدرت حجازية وهو الظاهر ومبتدأ إن قدرت تميمية، والباء زائدة فلا تتعلق بشيء، وكذا جميعُ حروف الجر الزائدة، و (باسطٍ) خبر «ما» فيكون في موضع نصب، أو خبر المبتدأ فيكون في موضع رفع، والجملة جواب القسم؛ فلا محلَّ لها من الإعراب، وهي دالة على جواب الشرط المحذوف، والتقدير: والله ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إن بسطت إلَيَّ يَدَكَ لتقتلني فما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
وأما الآية الثالثة فواضحة، والضِّغْثُ: قَبْضَةٌ من حشيش مختلطة الرَّطْببِ باليابِسسِ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
4 ـــ المثنّى
ثم قلت: الرَّابِعُ الْمُثْنَّى، كَالزَّيْدَاننِ وَالْهِنْدَاننِ، فَإنَّهُ يُرْفَعُ بِالألِففِ، وَيُجَرُّ وَيُنْصَبُ بِالْيَاءِ الْمَفْتُوححِ مَا قَبْلَهَا المَكْسُورِ مَا بَعْدَهَا.(1/24)
وأقول: الباب الرابع مما خرج عن الأصل: المثنى، وهو، كُلُّ اسم دال على اثنين، وكان اختصاراً للمتعاطفين، وذلك نحو: الزيدان والهندان؛ إذ كل منهما دال على اثنين. والأصلُ فيهما: زيدٌ وزيدٌ، وهندٌ وهندٌ، كما قال الحجاج: «إنا الله، مُحَمَّدٌ ومحمد في يَوْمٍ» ولكنهم عَدَلُوا عن ذلك كَرَاهيةً (منهم) للتطويل والتكرار.
وحُكْمُ هذا الباب أن يرفع بالألف نيابةً عن الضمة، وأن يجر وينصب بالياء المفتوح ما قبلها المكسور ما بعدها نيابةً عن الكسرة والفتحة، نحو: «جاء الزَّيْدَانِ» و «رأيت الزَّيْدَيْنِ» و «مَرَرْتُ بالزَّيْدَيْنِ» وكذلك تقول في «الهندان»، وإنما مثلتُ بالزيدان والهندان ليُعْلم أن تثنية المذكر والمؤنث في الحكم سواء، بخلاف جمعهما السالم.
ومن شواهد الرفع قولُه تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا (المَائدة: الآية 23) }.
(قال) فعل ماض، و (رجلان) فاعل، والفاعل مرفوع، وعلامة الرفع هنا الألف نيابةَ عن الضمة لأنه مثنى، ومعمول (يخافون) محذوف: أي يخافون الله، وجملة (أنعم الله عليهما) تحتمل أن تكون خبرية فتكون في موضع رفع على أنها صفة ثانية لرجلان. والمعنى: قال رجلان موصوفان بأنهما من الذين يخافون، وبأنهما أنعم الله عليها بالإيمان، وتحتمل أن تكون دعائية مثلُها في قولك: «جاءني زَيْدٌ رحمه الله» فتكون معترضة بين القول والمَقُوللِ، ولا موضع لها كسائر الجمل المعترضة، ومثلُه في الاعتراض بالدُّعَاءِ قولُ الشاعِرِ: (السريع)
13 ـــ إِنَّ الثَّمَانِينَ ـــ وَبُلّغتَهَا ـــ
قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تَرْجُمَانْ(1/25)
ومن شواهد الجر قوله تعالى: {لَوْلاَ نُزّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (الزّخرُف: الآية 31) }{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوتٍ فِى يَوْمَيْنِ (فُصّلَت: الآية 12) }{قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ (آل عِمرَان: الآية 13) }.
ومثالُ النصب قوله تعالى: {رَبَّنَآ أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّنَا (فُصّلَت: الآية 29) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
(ربنا) منادًى (مضاف) حذف قبله حَرْفُ النداء، والتقدير: يا رَبَّنَا، و (أَرِ) فعل دُعَاء، ولا تقل فعل أمر تأدباً، والفاعلُ مستترٌ، و (نا) مفعول أول، و (اللذين) مفعول ثان، وعلامة نصبه الياء، وما بعده صلة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أوجه القراءات في قوله تعالى: {إِنْ هَذنِ لَسَاحِرنِ (طه: الآية 63) }(1/26)
وقد اجتمع النصبُ بالياء والرفعُ بالألف في قوله تعالى: {إِنْ هَذنِ لَسَاحِرنِ (طه: الآية 63) } وفي هذا الموضع قراءات، إحداها: هذِهِ، وهي تشديدُ النوننِ من «إنَّ» و «هذين» بالياء، وهي قراءة أبي عَمْرٍو، وهي جارية على سَنَننِ العربية؛ فإن «إنّ» تنصب الاسم وترفع الخبر، و «هذين» اسمها؛ فيجب نصبه بالياء لأنه مثنى، و «ساحران» خبرها فرفعه بالألف، والثانية: «إنْ» بالتخفيف «هذَانِ» بالألف، وتوجيهُهَا أن الأصل (إنَّ هذَيْنِ) فخففت (إن) بحذف النون الثانية، وَأُهْمِلَتْ كما هو الأكثر فيها إذا خُفّفَتْ، وارتفع ما بعدها بالابتداء والخبر فجيء بالألف، ونظيره أنك تقول: إنَّ زَيْداً قَائِمٌ؛ فإذا خَفّفْتَ، فالأفْصَحُ أن تقول: إنْ زَيْدٌ لَقَائِمٌ، على الابتداء والخبر؛ قال الله تعالى: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } (الطّارق: الآية 4) ، والثالثة: «إنَّ» بالتشديد «هذَانِ» بالألف، وهي مشكلة؛ لأن «إنَّ» المشَدَّدَةَ يجب إعمالُهَا؛ فكان الظاهر الإتيان بالياء كما في القراءة الأولى، وقد أجيب عليها بأوْجُهٍ؛ أحدها: أن لُغة بَلْحَارث بن كَعْب، وخَثْعَممٍ، وَزَبِيدٍ وَكِنَانة وآخرين استعمالُ المثنى بالألف دائماً؛ تقول: جاء الزَّيْدَان، ورأيت الزَّيْدَان، ومررت بالزَّيْدَاننِ، قال: (الطويل)
14 ـــ تَزَوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أُذْنَاهُ طَعْنَةً
وقال الآخر: (الرّجز)
15 ـــ إنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا
قَدْ بَلَغَا فِي المَجْدِ غَايَتَاهَا(1/27)
فهذا مثال مجيء المنصوب بالألف، وذاك مثال مجيء المجرور بالألف، والثاني: أن «إنَّ» بمعنى نَعَمْ مثلُهَا فيما حكي أن رجلاً سأل ابن الزُّبَيْرِ شيئاً فلم يُعْطِه، فقال: لعنَ اللَّهُ ناقةً حَمَلَتْنِي إليك، فقال: إنّ ورَاكِبَهَا، أي: نعم ولعنَ الله رَاكِبَهَا، و «إن» التي بمعنى نَعَمْ لا تعمل شيئاً، كما أن نَعَمْ كذلك، فـ(هذان) مبتدأ مرفوع بالألف، و (ساحران) خبر لمبتدأ محذوف، أي: لهما ساحران، والجملة خبر (هذان) ولا يكون (لساحران) خَبَرَ (هذان) لأن لام الابتداء لا تدخل على خبر المبتدأ، والثالث: أن الأصل إنَّهُ هذان لهما ساحران؛ فالهاء ضمير الشأن، وما بعدها مبتدأ وخبر، والجملة في موضع رفع على أنها خبر «إنَّ» ثم حُذِفَ المبتدأ وهو كثير، وَحُذِف ضمير الشأن كما حُذِف من قوله صلى الله عليه وسلّم «إنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ»، ومن قول بعض العرب: «إنَّ بِكَ زَيْدٌ مأخوذ». والرابع: أنه لما ثُنِّيَ «هذا» اجتمع ألفان: ألِفُ هذا، وألِفُ التثنية؛ فوجب حَذْفُ واحدة منهما لالتقاء الساكنين؛ فمن قَدَّرَ المحذوفة ألف «هذا» والباقية ألف التثنية قلبها في الجر والنصب ياء، وَمَنْ قَدَّرَ العَكْسَ لم يغير الألف عن لفظها، والخامس: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الوَاحِدِ ـــ وهو «هذا» ـــ جعل كذلك في التثنية؛ ليكون المثنى كالمفرد؛ لأنه فرعٌ عليه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
واختار هذا القولَ الإمامُ العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تَيْمِيَّةَ رحمه الله، وزعم أن بناء المثنى إذا كان مفرده مبنيًّا أفْصَحُ من إعرابه، قال: وقد تَفَطَّنَ لذلك غيرُ واحدٍ من حُذّاققِ النحاة.(1/28)
ثم اعترض على نفسه بأمرين؛ أحدهما: أن السبعة أجمعوا على الياء في قوله تعالى: {إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ (القَصَص: الآية 27) } مع أن «هاتين» تثنية «هاتا» وهو مبني، والثاني: أن «الذي» مبني، وقد قالوا في تثنيتهِ اللَّذَيْننِ في الجر والنصب، وهي لُغَة القرآن كقوله تعالى: {رَبَّنَآ أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّنَا (فُصّلَت: الآية 29) }.
وأجاب عن الأول بأنه إنما جاء «هاتين» بالياء على لُغَة الإعراب لمناسبة «ابنَتَيَّ» قال: فالإعراب هنا أفْصَحُ من البناء؛ لأجل المناسبة، كما أن البناء في {إِنْ هَذنِ لَسَاحِرنِ (طه: الآية 63) } أفْصَحُ من الإعراب؛ لمناسبة الألف في «هذان» للألف في «ساحران».
وأجاب عن الثاني بالفرق بين «اللذان» و «هذان» بأن «اللذان» تثنية اسم ثلاثي؛ فهو شبيه بالزيدان، و «هذان» تثنية اسم على حرفين؛ فهو عَرِيقٌ في البناء لشبهه بالحروف.(1/29)
قال رحمه الله تعالى: وقد زعم قوم أن قراءة مَنْ قرأ (إن هذان) لحنٌ، وأن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحناً وَسَتُقِيمُهُ العرب بألسنتها، وهذا خَبَرٌ باطل لا يصح من وُجُوهٍ؛ أحدها: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يُقرُّونَ اللحنَ في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟ والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غايةَ الاستقباححِ في الكلام، فكيف لا يستقبحون بقاءهُ في المصحف؟ والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غيرُ مستقيم؛ لأن المُصْحَفَ الكريمَ يَقِفُ عليه العربيُّ والعجميُّ، والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب (التابوت) بالهاء على لُغَة الأنصار فمنعوه من ذلك، ورفعوه إلى عثمان ـــ رضي الله عنهم ـــ وأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لُغَة قريش، ولما بلغ عُمَرَ رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ: {حَتَّى حِينٍ (الصَّافات: الآية 174) } على لُغَة هُذَيل أنْكَرَ ذلك عليه، وقال: أقْرِىء الناس بلغة قريش؛ فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم يُنْزِلْهُ بلغة هُذَيل، انتهى كلامه ملخصاً.
وقال المهدوي في شرح الهداية: وما روي عن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ من قولها: «إن في القرآن لحناً ستقيمه العرب بألسنتها» لم يصح، ولم يوجد في القرآن العظيم حَرْفٌ واحد إلا وله وجه صحيح في العربية، وقد قال الله تعالى: {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} والقرآن محفوظ في اللحن والزيادة والنقصان، انتهى.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب(1/30)
وهذا الأثر إنّما هو مشهور عن عثمان رضي الله عنه، كما تقدم من كلام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله، لا عن عائشة رضي الله عنها كما ذكره المهدويُّ، وإنما المرويُّ عن عائشة ما رواه الفرَّاء عن أبي معاوية عن هشام بن عُرْوَةَ عن أبيه أنها رضي الله عنها سئلت عن قوله تعالى في سورة النِّساء: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوةَ (النِّساء: الآية 162) } بعد قوله: {لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ (النِّساء: الآية 162) } وعن قوله تعالى في المائدة: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّبِئُونَ (المَائدة: الآية 69) }، وعن قوله تعالى في سورة طه: {إِنْ هَذنِ لَسَاحِرنِ (طه: الآية 63) } فقالت: يا ابن أخي، هذا خطأ من الكاتب، روى هذه القصَّة الثعلبيّ وغيرُه من المفسرين، وهذا أيضاً بعيدُ الثبوت عن عائشة رضي الله عنها؛ فإن هذه القراءات كلها مُوَجَّهَةٌ كما مرَّ في هذه الآية، وكما سيأتي إن شاء الله تعالى في الآيتين الأخيرتين عند الكلام على الجمع، وهي قراءة جميع السبعة في (المقيمين) و (الصابئون) وقراءة الأكثر في (إن هذان) فلا يَتَّجِهُ القولُ بأنها خَطَأ؛ لصحتها في العربية وثبوتها في النقل.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ما يلحق بالمثنى خمسة ألفاظ
ثم قلت: وَأُلْحِقَ بِهِ اثْنَاننِ وَاثْنَتَاننِ وَثِنْتَاننِ، مُطْلَقاً، وَكِلاَ وَكِلْتَا، مُضَافَيْننِ إِلَى مُضْمَرٍ.
وأقول: أُلحق بالمثنى خمسةُ ألفاظٍ ـــ وهي: اثنان، للمذكَّرَيْننِ، واثنتان، للمؤنّثتَيْننِ، في لُغَة الحجاز، وَثِنْتَاننِ لهما في لُغَة تميم ـــ وهذه الثلاثة تَجْرِي مَجْرَى المثنى في إعرابه دائماً، من غير شرط، وإنما لم نُسَمِّهَا مُثَنَّاة لأنها ليست اختصاراً للمتعاطفين؛ إذ لا مفرد لها، لا يقال: «اثْنٌ» ولا «اثْنَةٌ» ولا «ثِنْتٌ».(1/31)
ومن شواهد رفعها بالألف قوله تعالى: {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا (البَقَرَة: الآية 60) } فـ(اثنتا) فاعل بانفجرت، وقوله تعالى: {شَهَدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ (المَائدة: الآية 106) } فـ(اثنان) مرفوع: إما على أنه خبر المبتدأ، وهو شهادة، وذلك على أن الأصل شهادة بينكم شهادة اثنين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع (ارتفاعه) وإنما قَدَّرْنَا هذَا المضافَ لأن المبتدأ لا بد أن يكونَ عينَ الْخَبَرِ نحو: «زيد أخوك» أو مشبهاً به نحو: «زيد أسد» والشهادة ليست نَفْسَ الاثنين ولا مشبهة بهما، وإما على أنه فاعل بالمصدر، وهو الشهادة، والتقدير: ومما فرض عليكم أن يشهد بينكم اثنان.
ومن شواهد النصب قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ (يس: الآية 14) }{قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ (غَافر: الآية 11) } فـ(اثنين) مفعول به، و(اثنتين) مفعول مطلق: أي إماتتين، وكذلك: {وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ (غَافر: الآية 11) } ومنه أيضاً قوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً (المَائدة: الآية 12) } فـ(اثني) مفعولُ (بعثنا) وعلامَةُ نَصْبِهِ الياء.(1/32)
والكلمتَاننِ الرابعة والخامسة: كِلاَ، وَكِلْتَا، وَشَرْطُ إجرائهما مُجْرَى المثنى إضَافَتُهُمَا إلى المضمر، تقول: جاءني كِلاَهُمَا، ورأيت كِلَيْهِمَا، ومررت بِكِلَيْهِمَا، وكذا في كلتا، قال الله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا (الإسرَاء: الآية 23) } فـ(أحدهما) فاعل، و (كلاهما) معطوف عليه، والألف علامة لرفعه؛ لأنه مضاف إلى الضمير، ويقرأ (إمَّا يَبْلُغَانِ) بالألف؛ فالألف فاعل، و (أحدهما) فاعل بفعل محذوف، وتقديره: إن يَبْلُغْهُ أحدهما أو كلاهما، وفائدةُ إعادة ذلك التوكيدُ، وقيل: إن (أحدهما) بَدل من الألف، أو فاعل (يبلغان) على أن الألف علامة، وليسا بشيء، فتأمل ذلك.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
فإن أضيفا إلى الظاهر كانا بالألف على كل حال، وكان إعرابهما حينئذ بحركات مُقَدَّرة في تلك الألف، قال الله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا (الكهف: الآية 33) } أي: كل واحدة من الجنتين أعْطَتْ ثمرتَهَا ولم تنقص منه شيئاً، فـ(كلتا) مبتدأ، و (آتت أكلها) فعل ماض، والتاء علامة التأنيث، وفاعله مستتر، ومفعول ومضاف إليه، والجملة خبر، وعلامة الرفع في (كلتا) ضمة مقدرة على الألف؛ فإنه مضاف للظاهر.
5 ـــ جمع المذكّر السَّالم
ثم قلت: الخَامِسُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالِمُ، كَالزَّيْدُونَ والمُسْلِمُونَ؛ فإنه يُرْفَعُ بالواو، ويُجَرُّ ويُنْصَبُ بالياء المَكْسُورِ ما قبلَهَا المَفْتُوححِ ما بَعْدَهَا.
وأقول: الباب الخامس: مما خرج عن الأصل: جمعُ المذكر السالمُ، واحترزت بالمذكر عن المؤنث كهِنْدَاتتٍ وَزَيْنَبَاتتٍ، وبالسالم عن المُكَسَّرِ كَغِلْمَاننٍ وزُيُودٍ.(1/33)
وحُكْمُ هذا الجمع أنه يرفع بالواو نيابة عن الضمة، ويجر وينصب بالياء المكسور ما قبلها المفتوح ما بعدها نيابة عن الكسرة والفتحة، تقول: جَاءَ الزَّيدون والمسلمون، ومررت بالزَّيْدِينَ والمُسْلِمِينَ، ورَأَيت الزَّيْدِينَ والمُسْلِمِينَ، وإنما مثلتُ بالمثالين ليعلم أن هذا الجمع يكون في أعلام العقلاء وصِفَاتِهِمْ.
فإن قلت: فما تصنع في (المُقيمِينَ) من قوله تعالى في سورة النساء: (لكننِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْممِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ فإنه جاء بالياء، وقد كان مقتضى قياسسِ ما ذكرت أن يكون بالواو؛ لأنه معطوف على المرفوع، والمعطوف على المرفوع مرفوع، وجمع المذكر السالم يرفع بالواو كما ذكرت؟ وما تصنع بـ(الصابئون) من قوله تعالى في السورة التي تليها: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّبِئُونَ (المَائدة: الآية 69) } فإنه جاء بالواو، وقد كان مقتضى قياسسِ ما ذكرتَ أن يكون (والصابِئِينَ) بالياء؛ لأنه معطوف على المنصوب، والمعطوف على المنصوببِ منصوبٌ، وجمع المذكر السالم يُنْصَب بالياء كما ذكرت؟.
قلت: أما الآية الأولى ففيها أوْجُهٌ، أرجَحُهَا وجهان؛ أحدهما: أن «المقيمين» نَصْبٌ على المدح، وتقديره: وأمْدَحُ المقيمين، وهو قول سيبويه والمحققين، وإنما قُطِعَت هذه الصفة عن بقية الصفات لبيان فَضْللِ الصلاة على غيرها، وثانيهما: أنه مخفوض؛ لأنه معطوف على «ما» في قوله تعالى: {بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ (البَقَرَة: الآية 4) } أي: يؤمنون بالكتب وبالمقيمين الصلاة، وهم الأنبياء، وفي مصحف عبد الله (والمقيمون) بالواو وهي قراءةُ مالك بن دينار والْجَحْدَرِيِّ وعيسى الثَّقَفي، ولا إشكال فيها.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب(1/34)
وأما الآية الثانية ففيها أيضاً أوْجُهٌ، أرْجَحُهَا وَجْهَان؛ أحدهما: أن يكون {الَّذِينَ هَادُواْ (النِّساء: الآية 46) } مرتفعاً بالابتداء، و {وَالصَّبِئُونَ وَالنَّصَرَى (المَائدة: الآية 69) } عطفاً عليه، والخبر محذوف، والجملة في نية التأخير عما في حَيِّز «إنَّ» من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا بألسنتهم مَنْ آمن منهم ـــ أي: بقلبه ـــ بالله إلى آخر الآية، ثم قيل: والذين هادوا والصابئون والنصارى كذلك، والثاني: أن يكون الأمر على ما ذكرناه من ارتفاع (الذين هادوا) بالابتداء، وكَوْننِ ما بعده عطفاً عليه، ولكن يكون الخبر المذكور له، ويكون خبر «إن» محذوفاً مدلولاً عليه بخبر المبتدأ، كأنه قيل: إن الذين آمنوا مَنْ آمَنَ منهم، ثم قيل: والذين هادوا إلخ، والوجه الأول أجود؛ لأن الحذف من الثاني لدلالة الأول أوْلى من العكس، وقرأ أُبَيُّ بن كَعْببٍ: (والصابئين) بالياء، وهي مَرْوِيَّةٌ عن ابن كَثِيرٍ، ولا إشكال فيها.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ما يلحق بجمع المذكر السّالم
ثم قلت: وَأُلْحِقَ بِهِ: أُولُو، وَعَالَمُونَ، وَأَرَضُونَ، وَسِنُونَ، وَعِشْرُونَ، وَبَابُهُمَا، وَأَهْلُونَ، وَعِلِّيُّونَ، وَنَحْوُهُ.
وأقول: أُلْحِق بجمع المذكر السالم ألفاظٌ: منها أُولُو، وليسَ بجمع، وإنما هو اسم جَمْععٍ لا واحد له من لفظه، وإنما له واحد من معناه، وهو ذُو، ومن شواهدهِ قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى (النُّور: الآية 22) }.(1/35)
(لا) ناهية (يَأتَلِ) فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف الياء، وأصله يَأتَلِي، ومعناه يَحْلِفُ، وهو يفتعل من الألِيَّةِ، وهي اليمين، أو من قولهم: «مَا ألَوْتُ جُهْداً» أي: مَا قَصَّرْتُ، وعلى الأول فأصْلُ (أن يؤتوا) على أن لا يؤتوا؛ فحذفت على ولا، كما قال الله تعالى: {يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ (النِّساء: الآية 176) }، أي: لأن لا تضلوا، وعلى الثاني فأصْلُهُ في أن يؤتوا، فحذفت «في» خاصة، وقرِىء: (وَلاَ يَتَأَلَّ) وأصله يَتَأَلَّى، وهو يَتَفَعَّلُ من الألِيَّةِ، و (أُولُو) فاعل يأتل، وعلامة رفعه الواو، و (أُولِي) مفعول بيُؤْتُوا، وعلامة نصبه الياء.
وقال الله تعالى: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لاِوْلِى الاْلْبَبِ (الزُّمَر: الآية 21) }؛ فهذا مثالُ المجرور، وذانك مثالاً المرفوع والمنصوب.
ومنها «عَالَمُونَ» و «عِشْرُونَ» وبَابُهُ إلى التسعين؛ فإنها أسماء جموع أيضاً لا واحد لها من لفظها.
ومنها: «أَرَضُونَ» وهو بفتح الراء، وهو جمع تكسير لمؤنث لا يعقل؛ لأن مفرده أرْضٌ سَاكِنَ الراء، والأرض مؤنثة؛ بدليل: {وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا } (الزّلزَلة: الآية 2) وهي مما لا يعقل قَطْعاً، وإنما حَقُّ هذا الإعراب ـــ أي: الذي يجمع بالواو والنون ـــ أن يكون في جمع تصحيح لمذكرٍ عاقللٍ، تقول: هذه أرَضُونَ، ورأيت أرَضِينَ، ومررتُ بأرَضِينَ، وفي الحديث: «مَنْ غَصَبَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ أَرْضضٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْععِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وربما سكنت الراء في الضرورة، كقوله: (الطّويل)
16 ـــ لَقَدْ ضَجَّتتِ الأرْضُونَ إِذْ قَامَ مِن بَنِي
هَدَادٍ خَطِيبٌ فَوْقَ أَعْوَادِ مِنْبَرِ(1/36)
ومنها: «سِنُونَ» وهو كأرَضُونَ؛ لأنه جمع سَنَةٍ، وسَنَة مفتوحُ الأول، وسِنُونَ مكسور الأول، وسَنَة مؤنث غير عاقل، وأصله سَنَوٌ أو سَنَهٌ؛ بدليل قولهم في جمعه بالألف والتاء: سَنَوَات، وسَنَهَات، وقولهم في اشتقاق الفعل منه: سَانَهْتُ وَسَانَيْتُ، وأصل سَانَيْتُ سَانَوْتُ، فقلبوا الواو ياء حين تجاوزت متطرفةً ثلاثَةَ أحْرُففٍ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ومن شواهد سنينَ قوله تعالى: {وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ (الكهف: الآية 25) } تقرأ (مائة) على وجهين: منونة، وغير منونة؛ فمن نَوَّنَهَا فـ«سنين» بدل من ثلاث؛ فهي منصوبة، والياء علامة النصب، قيل: أو مجرورة بدل من مائة، والياء علامة الجر، وفيه نظر؛ لأن البدل يعتبر لصحته إحلالُه محلَّ الأول مع بقاء المعنى، ولو قيل ثلاث سِنِينَ لاخْتَلَّ المعنى كما ترى، ومَنْ لم ينونها فسنين مضاف إليه، فهي مخفوضة، والياء علامة الخفض.
ولم تقع في القرآن مرفوعة، ومثالُها قولُ القائل: (الكامل)
17 ـــ ثُمَّ انْقَضَتْ تِلْكَ السّنُونَ وَأَهْلُهَا
فَكَأَنَّهَا وَكَأَنَّهُمْ أَحْلاَمُ(1/37)
وأشَرْتُ بقولي: «وبابه» إلى أن كل ما كان كسنين ـــ في كونه جمعاً، لثلاثي، حُذِفَتْ لامه، وعُوِّضَ عنها هاء التأنيث ـــ فإنه يُعْرَبُ هذا الإعْرَابَ، وذلك كقلَةٍ وقِلينَ، وعِزَةٍ وعِزينَ، وعِضَةٍ وعِضِينَ، قال الله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ عِزِينَ } (المعَارج: الآية 37) أي: فِرَقاً شَتَّى؛ لأن كل فرقة تعتزي إلى غير مَنْ تعتزي إليه الفرقة الأخرى، وانتصابها على أنها صفة لِمُهْطِعين بمعنى مُسْرعين، وانتصابُ مهطعين على الحال، وقال الله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءانَ عِضِينَ } (الحِجر: الآية 91) فعِضِينَ: مفعولٌ ثاننٍ لجعل منصوبٌ بالياء، وهي جمع عِضَةٍ، واختلف فيها؛ فقيل: أصْلُها عُضْوٌ، من قولهم: «عضَّيْتُه تَعْضِيَةً» إذا فَرَّقْته، قال رؤبة: (الرّجز)
18 ـــ وَلَيْسَ دِينُ الله بالْمُعَضَّى
يعني بالمُفَرَّققِ: أي جعلوا القرآن أعْضَاء؛ فقال بعضهم: سِحْرٌ، وقال بعضهم: كَهَانة، وقال بعضهم: أساطير الأولين، وقيل: أصلها عضهة من العَضَهِ، وهو الكذب والبهتان، وفي الحديث: «لا يَعْضَهْ بعضكم بعضاً».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
6 ـــ الأفعال الخمسة
ثم قلت: السَّادِسُ يَفْعَلاَننِ وَتَفْعَلاَننِ وَيَفْعَلُونَ وَتَفْعَلُونَ وَتَفْعَلِينَ؛ فإنَّهَا تُرْفَعُ بِثُبُوت النُّوننِ، وَتُنْصَبُ وَتُجْزَمُ بِحَذْفِهَا، وَأَمَّا نحوُ: (تُحَاجُّونِي) فَالمَحْذُوفُ نُونُ الْوِقَايَةِ، وَأَمَّا (إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ) فَالْوَاوُ أصْلٌ، وَالْفِعْلُ مَبْنِيٌّ، بِخِلاَففِ (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
الأفعال الخمسة
وأقول: الباب السادس: مما خرج عن الأصل: الأمثلَةُ الخمسةُ، وهي: كل فعل مضارع اتصل به ألف اثنين، أو واو جماعة، أو ياء مخاطبة.(1/38)
وحكمها أن تُرْفَعَ بثبوت النون نيابة عن الضمة، وتُنْصَب وتُجْزم بحذفها نيابة عن الفتحة والسكون، مثالُ الرفع قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } (الرَّحمن: الآية 50) {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (آل عِمرَان: الآية 71) }{وأنتم تشهدون}{وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (الأعرَاف: الآية 95) } فالمضارع في ذلك كله مرفوع؛ لخلوه عن الناصب والجازم، وعلامةُ رفعه ثُبُوتُ النوننِ، ومثالُ الجزم والنصب قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ (البَقَرَة: الآية 24) } فـ(لم تفعلوا) جازم ومجزوم، و (لن تفعلوا) ناصب ومنصوب، وعلامة الجزم والنصب فيهما حذف النون.
فإن قلت: فما تصنع في قوله تعالى: {إَّلآ أَن يَعْفُونَ (البَقَرَة: الآية 237) } فإنَّ «أنْ» ناصبة، والنون ثابتة معه؟(1/39)
قلت: ليست الواوُ هنا وَاوَ الجماعةِ، وإنما هي لامُ الكلمة التي في قولك: «زيد يعفو» وليست النونُ هنا نُونَ الرفع، وإنما هي اسم مضمر عائد على المطلقات، مثلها في: {وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ (البَقَرَة: الآية 228) } والفعلُ مَبْنِيٌّ لاتصاله بنون النسوة، ووزن يَعْفُونَ عَلى هذا يَفْعُلْنَ، كما أنك إذا قلت؛ «النسوةُ يَخْرُجْن» أو «يكتبن» كان ذلك وَزْنَهُ، وأما إذا قلت: «الرِّجالُ يَعْفُون» فالواو واو الجماعة، والنون علامة الرفع، والأصل يَعْفُوُونَ، بواوين أولاهما لام الكلمة والثانية واو الجماعة، فاستثقلت الضمة، على واو قبلها ضمة وبعدها واو ساكنة ـــ وهي الواو الأولى ـــ فحذفت الضمة فالتقى ساكنان، وهما الواوان، فحذفت الأولى، وإنما خُصَّتْ بالحذف دون الثانية لثلاثة أمور؛ أحدها: أن الأولى جزء (كلمة) والثانية كلمة، وحَذْفُ جزءِ أسْهَلُ من حذل كل، والثاني: أن الأولى آخِرُ الفعل، والحذف بالأواخر أوْلى، والثالث: أن الأولى لا تدلُّ على معنى والثانية دالة على معنى، وحذف ما لا يدلُّ أوْلى من حذف ما يدلُّ؛ ولهذه الأوْجُهِ حذفوا لام الكلمة في «غَازٍ» و «قَاضٍ» دون التنوين؛ لأنه جيءَ به لمعنى، وهو كلمة مستقلة، ولا يوصف بأنه آخر؛ إذ الآخر الياء، ويزيد وجهاً رابعاً، وهو أنه صحيح والياء معتلة، فلما حذفت الواو صار وزن يَعْفونَ يَفْعُونَ، بحذف اللام، ولهذا إذا أدْخَلْتَ عليه الناصبَ أو الجازمَ قلت: «الرِّجَالُ لم يَعْفُوا» و «لَنْ يَعْفُوا» فاعرف الفرق.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
7 ـــ الفعل المضارع المعتل الآخر
ثم قلت: السَّابعُ الفِعْلُ الْمُعْتَلُّ الآخِرِ، كَيَغْزُو، وَيَخْشَى وَيَرْمِي؛ فَإِنَّهُ يُجْزَمُ بِحَذْفِهِ، ونحوُ: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ (يُوسُف: الآية 90) } مُؤَوَّلٌ.(1/40)
وأقول: هذا خاتمة الأبواب السبعة التي خرجت عن القياس: وهو الفعل (المضارع) الذي آخرُهُ حرفُ علة، وهو الواو والألف والياء؛ فإنه يجزم بحذف الحرف الأخير نيابةً عن حذف الحركة، تقول: «لَمْ يَغْزُ» و «لَمْ يَخْشَ» و «لَمْ يَرْمِ» قال الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } (العَلق: الآية 17) .
اللام لام الأمر، و (يَدْعُ) فعل مضارع مجزوم، وعلامة جزمه حَذْف الواو، و (ناديه) مفعول ومضاف إليه، وظهرت الفتحة على المنقوص لخفتها، والتقدير: فليدع أهْلَ ناديه. أي: أهل مَجْلِسِهِ.
وقال الله تعالى: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ (التّوبَة: الآية 18) }{وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ الْمَالِ (البَقَرَة: الآية 247) }، فهذان مثالان لحذف الألف.
وقال الله تعالى: {لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ (عَبَسَ: الآية 23) }.
(لما) حرف جزم لنفي المضارع وقَلْبه ماضياً، كما أن «لم» كذلك، والمعنى أن الإنسان لم يَقْضضِ بعدُ ما أمره الله تعالى به حتى يخرج من جميع أوامره، وهذا مثال حذف الياء، والله أعلم.
وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ (يُوسُف: الآية 90) } بإثبات الياء في (يتقي) وإسكان الراء في (يصبر) على قراءة قُنْبل، فمؤوّل، هذا جواب سؤال تقديره أن الجازم وهو (مَنْ) دخل على (يَتَّقِي) ولم يحذف منه حَرْفُ العلة، وهو الياء؛ فالجواب عنه أن (مَنْ) موصولة لا أنها شرطية، وسكون الراء من (يَصْبِرْ): إما لتوالي حركات الباء والراء والفاء والهمزة تخفيفاً، أو لأنه وَصَلَ بنية الوقف، أو على العطف على المعنى؛ لأن «مَنْ» الموصولة بمنزلة الشرطية لعمومها وإبهامها.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الإعراب التّقديري(1/41)
ثم قلت: فَصْلٌ ـــ تُقَدَّرُ الْحَركَات كلُّهَا في نَحْوِ: «غُلاَمِي» وَنَحْوِ: «الْفَتَى» وَيُسَمَّى مَقْصُوراً، والضمة والكسرةُ في نحو: «القَاضِي» ويُسَمَّى مَنْقُوصاً، والضمَّةُ وَالفَتْحَةُ في نحو: «يَخْشَى» والضمَّةُ في نحو: «يَدْعو» و «يَرْمِي».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام الإعراب التقديري
وأقول: الذي تقدر فيه الحركات ثلاثة أنواع: ما تقدر فيه الحركات الثلاث، وما تقدر فيه حركتان، وما تقدر فيه واحدة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
القسم الأوّل: ما تقدّر فيه الحركات الثّلاث
فأما الذي تقدر فيه الثلاث فنوعان؛ أحدهما: ما أضيف إلى ياء المتكلم وليس مثنى، ولا جمع مذكر سالماً، ولا منقوصاً، ولا مقصوراً، وذلك نحو: «غُلاَمِي» و «غِلْمَانِي» و «مُسْلِمَاتِي» فهذه الأمثلة ونحوها تُعْرَبُ بحركات مقدرة على ما قبل الياء، والذي مَنَعَ من ظهورها أنهم التزموا أن يأتوا قبل الياء بحركة تجانِسُهَا، وهي الكسرة، فاستحال حينئذٍ المجيءُ بحركات الإعراب قبل الياء؛ إذ المحلُّ الواحِدُ لا يقبل حركتين في الآننِ الواحد، فتقول: «جَاءَ غُلاَمِي» فتكون علامةُ رفعهِ ضمةً مقدرة على ما قبل الياء، و «رَأيْتُ غُلاَمِي» فتكون علامةُ نصبه فتحةً مقدرة على ما قبل الياء، و «مَرَرْتُ بِغُلاَمِي» فتكون علامة جره كسرةً مقدرة على ما قبل الياء، لا هذه الكسرة الموجودة كما زعم ابن مالك؛ فإنها كسرة المناسبة، وهي مُسْتَحَقَّة قبل التركيب، وإنما دخل عامل الجر بعد استقرارها.
واحترزْتُ بقولي: «وليس مثنى ولا جمع مذكر سالماً» من نحو: «غُلاَمَايَ» (وَغُلاَمَيَّ) و «مُسْلِميَّ» فإن الياء تثبت فيهما جراً ونصباً مُدْغَمَة في ياء المتكلم؛ والألف تَثْبُتُ في المثنى رفعاً، وليس شيء من (الحرف) المدغم ولا من الألف قابلاً للتحريك.
وقولي: «ولا منقوصاً» لأن ياء المنقوص تدغَم في ياء المتكلم؛ فتكون كالمثنى والمجموع جرًّا ونصباً.(1/42)
وقولي: «ولا مقصوراً» لأن المقصور تثبت ألفه قبل الياء، والألف لا تقبل الحركة؛ فهو كالمثنى رفعاً، قال الله تعالى: {يبُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ (يُوسُف: الآية 19) } نُودِيَتتِ البشرى مُضَافَةً إلى ياء المتكلم، وفي الألف فتحةٌ مقدرة لأنه منادى مضاف، وقرأ الكوفيون: (يا بُشْرى) بغير إضافة؛ فالمقدر في الألف إما ضمة كما في قولك: «يا فتى» لمعيَّننٍ، وإما فتحة على أنه نداء شائعٌ مثل: {يحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ (يس: الآية 30) } إلا أنه لم ينون؛ لكونِه لا ينصرف لأجل ألف التأنيث.
والنوع الثاني: المقصور، وهو: الاسمُ المعربُ الذي في آخره ألفٌ لازمةُ كـ«الفَتَى» و «العَصَا»، تقول: «جاء الفَتَى» و «رأيتُ الفَتَى» و «مررتُ بالفَتَى»؛ فتكون الألف ساكنةً على كل حال، وتُقَدَّر فيها الحركات الثلاث لتعذّر تحرّكها.
ومن محاسن بعض الفضلاء، أنَّه كتب من مدينة قوص إلى الشيخ العلامة بهاء الدِّين محمد بن النحاس الحلبي ـــ رحمه الله ـــ يتشوَّقُ إليه، ويشكو له نُحُولَهُ؛ فقال: (الكامل)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
19 ـــ سَلَّمْ عَلَى المَوْلَى الْبَهَاءِ، وَصِفْ لَهُ
شَوْقِي إِلَيْهِ، وَأَنَّني مَمْلُوكُهُ
أَبَداً يُحَرِّكُنِي إِلَيْهِ تَشَوُّقِي
جِسْمِي بِهِ مَشْطُورُهُ مَنْهُوكُهُ
لكِنْ نَحِلْتُ لبُعْدِهِ؛ فكأنَّنِي
ألِفٌ، وَلَيْسَ بِمُمْكِننٍ تَحْرِيكهُ
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
القسم الثاني: ما تقدّر فيه الحركتان
وأما الذي تُقَدَّر فيه الحركتان فنوعان:(1/43)
أحدهما: ما تُقدَّرُ فيه الضمَّة والكسرة فقط، وتظهر فيه الفتحة، وهو المنقوص، وهو: الاسم المعرب الذي آخره ياء لازمة قبلها كسرة، نحو: «الْقَاضِي» و «الدَّاعِي» تقول: «جَاءَ الْقَاضِي» و «مَرَرْتُ بالْقَاضِي» بالسكون، و «رأيْتُ الْقَاضِيَ» بالتحريك، وإنَّما قدرت الضمَّة والكسرة للاستثقال، وإنما ظهرت الفتحة للخفة، قال الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } (العَلق: الآية 17) {أَجِيبُواْ دَاعِىَ اللَّهِ (الأحقاف: الآية 31) }{وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ (مريَم: الآية 5) } كلاَّ إِذَا بَلَغَتتِ التَّرْاقِيَ. والتراقي: جمع تَرْقُوَةٍ ـــ بفتح التاء ـــ وهي العَظْمُ الذي بين ثُغْرَةِ النحر والعاتق.
والنّوع الثَّاني: ما تقدر فيه الضمة والفتحة، وهو الفعل المعتل بالألف، تقول: «هُوَ يَخْشَى» و «لَنْ يَخْشَى» فإذا جَاءَ الجزمُ ظهر بحذف الآخر؛ فقلت: «لم يَخْشَ» قال الله تعالى: {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا (القَصَص: الآية 77) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
القسم الثَّالث: ما تقدّر فيه حركة واحدة(1/44)
وأما الذي تُقَدَّر فيه حركة واحدة فهو شيئان: الفعل المعتلُّ بالواو كـ«يَدْعُو» والفعل المعتل بالياء كـ«يَرْمِي» فهذَاننِ تُقَدَّرُ فيهما الضمَّةُ فقط للاستثقال؛ تقول: «هو يَدْعُو»، و «هُوَ يَرْمِي» فتكون علامةُ رفعهما ضمةً مقدرةً، ويظهر فيهما شيئان، أحدهما: النصب بالفتحة، وذلك لخفتها نحو: «لَنْ يَدْعُوَ» و «لَنْ يرمِيَ» قال الله تعالى: {لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلهاً (الكهف: الآية 14) }{لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا (هُود: الآية 31) }{لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ (الفُرقان: الآية 49) }{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَدِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى } (القِيَامَة: الآية 40) {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْولُهُمْ (آل عِمرَان: الآية 10) }. الثاني: الجزمُ بحذف الآخر، نحو: «لم يَدْعُ» و «لم يَرْمِ» قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (الإسرَاء: الآية 36) }{وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الاْرْضِ (القَصَص: الآية 77) }{وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا (الإسرَاء: الآية 37) } وانتصابُ (مَرَحاً) على الحال، أي: ذا مَرَححٍ وقرىء (مَرِحاً) بكسر الراء.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
البناء
ثم قلت: باب ـــ الْبنَاءُ ضِدُّ الإعراب، والمبنيُّ إما أنْ يَطَّرِدَ فيهِ السُّكون وَهُوَ المضَارعُ المُتَّصِلُ بِنُوننِ الإنَاثثِ، نحو: (يَتَرَبَّصْنَ) و (يُرْضِعْنَ) أو الماضي المُتَّصِلُ بِضَمِيرِ رَفْععٍ مُتَحَرِّككٍ كـ«ضَرَبْتُ» و «ضَرَبْنَا»، أو السُّكونُ أو نَائبهُ وَهُوَ الأمْرُ، نحو: «اضْرِبْ، وَاضْرِبَا، وَاضْرِبُوا، وَاضْرِبي، وَاغْزُ، وَاخْشَ، وَارْمِ».(1/45)
وأقول: قد مضى أن الإعراب أثَرٌ ظاهرٌ أو مُقَدَّرُ يجلبه العامل في آخر الكلمة؛ وذكرت هنا أن البناء ضِدُّ الإعراببِ؛ فكأنني قلت: ليس البناء أثراً يجلبه العامل في آخر الكلمة، وذلك كالكسرة في «هؤلاَءِ» فإن العامل لم يجلبها؛ بدليل وجودها مع جميع العوامل.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
تعريف البناء
والبناء: لُزُومُ آخرِ الكلمة حالَةً واحدةً لفظاً أو تقديراً، وذلك كلزوم «هؤلاء» للكسرة، و «مُنْذُ» للضمة، و «أيْنَ» للفتحة.
ولما فَرَغْتُ من تفسيره شرعْتُ في تقسيمه تقسيماً غريباً لم أُسْبَقُ إليه، وذلك أنني جعلت المبنيَّ على تسعة أقسام، الأول: المبني على السكون، وقدمته لأنه الأصل، والثاني: المبني على السكون أو نائبهِ المذكورِ في الباب السابق، وثَنَّيْتُ به لأنه شبيهٌ بالسكون في الخفة، والثالث: المبني على الفتح، وقدمته على المبني على الكسر لأنه أخَفُّ منه، والرابع: المبني على الفتح أو نائبهِ المذكورِ في الباب السابق، والخامس: المبني على الكسر، وقدمته على المبني على الضمّ لأنه أخَفُّ منه، والسادس: المبني على الكسر أو نائبِهِ المذكورِ في الباب السابق، والسابع: المبني على الضم، والثامن: المبني على الضم أو نائبه، والتاسع: ما ليس له قاعدة مستقرة، بل منه ما يُبْنَى على السكون، وما يُبْنَى على الفتح، وما يُبْنَى على الكسر، وما يُبْنَى على الضم، وسأشرحها مفصلة إن شاء الله تعالى شرحاً يزيل عنها خفاءها.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المبني على السّكون
الباب الأول: ما لزم البناء على السكون، وهو نوعان:(1/46)
أحدهما: المضارعُ المتصلُ بنون الإناث، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ (البَقَرَة: الآية 228) }{وَالْولِدتُ يُرْضِعْنَ (البَقَرَة: الآية 233) }؛ فيتربصن ويرضعن: فعلان مضارعان في موضع رفع؛ لخلوهما من الناصب والجازم، ولكنهما لما اتَّصَلاَ بنون النسوة بُنِيَا على السكون، وهذان الفعلان خبريَّاننِ لفظاً طلبيَّاننِ معنًى، ومثلُهما «يَرْحَمُكَ الله» وفائدةُ العدوللِ بهما عن صيغة الأمر التوكيدُ والإشعارُ بأنهما جَدِيرَاننِ بأن يُتَلَقَّيَا بالمسارعة؛ فكأنَّهن امْتُثِلْنَ؛ فهما مُخْبَر عنهما بموجودين.
الثاني: الماضي المتصلُ بضميرِ رفععٍ متحرككٍ نحو: «ضَرَبْتُ» و «ضَرَبْتَ» و «ضَرَبْتِ» و «ضَرَبْنَا زيداً» والأصل فيه ضَرَبَ بالفتح؛ فاتصل الفعل بالضمير المرفوع المتحرك ـــ وهو التاء في المُثُللِ الثلاثة الأولى؛ لأنها فاعل، و «نا» في المثال الرابع ـــ وهما متحركان، وأعني بذلك أن التاء متحركة والحرف المتصل بالفعل من «نا» ـــ وهو النون ـــ متحرك؛ فلذلك بنيت الأمثلة على السكون.(1/47)
واحترزت بتقييد الضمير بالرفع من ضمير النصب؛ فإنه يتصل بالفعل ولا يغيره عن بنائه على الفتح الذي هو الأصل فيه، نحو: «ضَرَبَكَ زَيْدٌ» و «ضَرَبَنَا زَيْدٌ»، وتقييده بالمتحرك من الضمير المرفوع الساكن، ونحو: «ضَرَبَا»، و «ضَرَبُوا» فإنه لا يقتضي سكونَ الفعل أيضاً، بل يبقى آخرُ الفعل فيه قبل الألف مفتوحاً ويضم قبل الواو كما مثلنا، وأما نحو: {اشْتَرَوُاْ الضَّلَلَةَ بِالْهُدَى (البَقَرَة: الآية 16) } ونحو: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً (الفُرقان: الآية 13) } فالأصل اشْتَرَيُوا بياء مضمومة قبل الضمير الساكن، ودَعَوُوا بواوين أولاهما مضمومة قبل (الضمير) الساكن، ثم تحركت الياء والواو وانفتح ما قبلهما فقلبنا ألفين، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، ومعنى «دَعَوْا هنالك ثُبُوراً» قالوا: يا ثُبُورَاه، أي: يا هَلاَكَاهُ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المبني على السّكون أو نائبه
الباب الثاني: ما لزم البناء على السكون أو نائبه، وهو نوع واحد، وهو فعل الأمر، وذلك لأنه يُبْنَى على ما يُجْزم به مضارعُه؛ فيبنى على السكون في نحو: «اضْرِبْ» وعلى حذف النون في نحو: «اضْرِبَا» و «اضْرِبُوا» و «اضْرِبِي» وعلى حذف حرف العلة في نحو: «اغْزُ» و «اخْشَ» و «ارْمِ».
ومن غريب ما يُحْكَى أن بعض مَنْ يتعاطى إقراء النحو ببلدنا هذه سمع قول بعض المعربين في قوله عز وجل: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً (طه: الآية 44) } إن (قُولاَ) مبني على حذف النون، فأنكر ذلك عليه، وهو قولٌ مشهورٌ بين الطلبة فخفاؤه على من يَتَصَدَّى للإقراء غريب.(1/48)
والفاء في الآية الكريمة عاطفة لقُولاَ على (اذهبا) من قوله تعالى: {اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } (طه: الآية 43) وكل منهما فعل أمرٍ وفاعل، وهما مبنيان على حذف النون، و (له) جارٌّ ومجرور متعلق بقُولا، (وسَمَّى ابنُ مالككٍ هذه اللاَّمَ لامَ التبليغ، ومثله: {وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ (الإسرَاء: الآية 53) }{قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَرِهِمْ (النُّور: الآية 30) }{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَننِ أُعْبُدُوا اللَّهَ}) و (قَوْلاً) مفعول مطلق، و (ليِّناً) صِفَةٌ له، أي قَوْلاً مُتَلَطّفاً فيه ولا تُغْلِظَا عليه، والقولُ اللين قد جاء مُفَسَّراً في قوله تعالى: .(1/49)
ثم قلت: أو الفَتْح، وَهُوَ سَبْعَةٌ: الماضي المجرَّدُ كضَرَبَ وضَرَبَكَ وضَرَبَا، وَالمُضَارعُ الَّذِي باشَرَتْهُ نُونُ التوكيدِ، نحوُ: {لَيُنبَذَنَّ (الهُمَزة: الآية 4) } و {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا (يُوسُف: الآية 32) } بخلاف نحو: {لَتُبْلَوُنَّ (آل عِمرَان: الآية 186) }{وَلاَ يَصُدُّنَّكَ (القَصَص: الآية 87) } وَمَا رُكِّب من الأعْدَادِ وَالظُّروففِ وَالأحواللِ وَالأعْلاَممِ، نَحْوُ: «أحَدَ عَشَرَ» ونحو: هو يأتينا صَبَاحَ مَسَاءَ، وَ بَعْضُ القوم يَسْقُطُ بَيْنَ بَيْنَ ونحو: هُوَ جَارِي بَيْتَ بَيْتَ أي: مُلاَصِقاً، ونحو: «بَعْلَبَكَّ» في لُغَيَّة، وَالزَّمَنُ المُبْهَمُ المُضَافُ لِجُمْلَةٍ، وَإعْرَابُهُ مَرْجُوحٌ قَبْلَ الْفِعْللِ الْمَبْنِيِّ نَحْوُ عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا عَلَى حِينَ يَسْتَصْبِينَ كُلَّ حَلِيممٍ وَرَاجِحٌ قَبْلَ غَيْرِهِ، نحو: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّدِقِينَ صِدْقُهُمْ (المَائدة: الآية 119) } و عَلَى حِينَ التَّوَاصُلُ غَيْرُ دَانِي والمُبْهَمُ المُضَاف لِمَبْنِيَ نحو: {وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ (هُود: الآية 66) }{وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ (الجنّ: الآية 11) }{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ (الأنعَام: الآية 94) }{إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (الذّاريَات: الآية 23) } وَيَجُوزُ إعرابه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المبني على الفتح
وأقول: الباب الثالث من المبنيات: ما لَزِمَ البناء على الفتح، وهو سبعة أنواع.(1/50)
النّوع الأول: الماضي المجردُ: مما تقدم ذكره، وهو الضمير المرفوع المتحرك، نحو: «ضَرَبَ» و «دَحْرَجَ» و «اسْتَخْرَجَ» و«ضَرَبَا» و «ضَرَبَكَ» و «ضَرَبَهُ» وأما نحو: «رَمَى» و «عَفَا» فأصله رَمَى وعَفَوَ، فلما تحركت الياء والواو وانفتح ما قبلهما قُلِبَتَا ألفين؛ فسكونُ آخرهما عارضٌ، والفتحة مقدرةٌ في الألف، ولهذا إذا قدر سكون الآخر رجعت الياء والواو فقيل: رَمَيْتُ، وعَفَوْتُ، كما سيأتي.
والنوع الثاني: المضارعُ الذي باشَرَتْهُ نون التوكيدِ: كقوله تعالى: {لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ (الهُمَزة: الآية 4) } واحترزْتُ باشتراط المباشرةِ من نحو قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْولِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ (آل عِمرَان: الآية 186) } فإن الفعل في ذلك معرب وإن أكد بالنون؛ لأنه قد فُصِلَ بينهما بالواو التي هي ضميرُ الفاعِللِ، وهي ملفوظ بها في قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ (آل عِمرَان: الآية 186) } ومقدرة في قوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ (آل عِمرَان: الآية 186) } إذ الأصل لتسمعُونَنَّ، فحذفت نون الرفع استثقالاً لاجتماع الأمثال، فالتقى ساكنان الواو والنون المدغمة؛ فحذفت الواو لالتقاء الساكنين.
والنوعُ الثَّالثُ: ما رُكِّبَ تركيبَ المَزْججِ من الأعداد: وهو الأحَدَ عَشَرَ، والإحْدَى عَشْرَةً، إلى التِّسْعَةَ عَشَرَ والتِّسْعَ عَشْرةَ، تقول: جاءني أحدَ عَشَر، ورأيتُ أحدَ عَشَر، ومَرَرْتُ بأحدَ عَشَر، ببناء الجزءين على الفتح، وكذلك القول في الباقي، إلا «اثْنَيْ عَشَر» و «اثْنَتَيْ عَشَرةَ» فإن الجزء الأول منهما معرب إعراب المثنى: بالألف رفعاً، وبالياء جَرًّا ونصباً.(1/51)
والنّوع الرابع: ما رُكِّب تركيب المَزْججِ من الظروف: زمانيةً كانت أو مكانية، مثالُ ما ركب من ظروف الزمان قولُكَ: فُلاَنٌ يَأتِينا صَبَاحَ مَسَاءَ، والأصْلُ صباحاً ومساءً، أي في كل صباح ومساء؛ فحُذِفَ العاطف، وركب الظَّرْفاننِ قصداً للتخفيف تركيب خَمْسَة عَشَر، قال الشاعر: (الوافر)
20 ـــ وَمنْ لاَ يَصْرِففِ الْواشِينَ عَنْهُ
صَبَاحَ مَسَاءَ يَبْغُوهُ خُبَالاً
ولو أضَفْت فقلت: «صَبَاحَ مَسَاءٍ» لجاز، أي: صباحاً ذا مساءِ؛ فلذلك أضفته إليه لما بينهما من المناسبة، وإن كان الصباح والمساء لا يجتمعان، ونظيرُهُ في الإضافة قوله تعالى: {لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَهَا (النَّازعَات: الآية 46) } فأضيف الضحى إلى ضمير العشية، وقيل: الأصْلُ أو ضُحى يومِهَا، ثم حُذِف المضافُ، ولا حاجة إلى هذا، وتقول: «فلانٌ يأتينا يَوْمَ يَوْمَ» أي يوماً يوماً، أي: كلِّ يوم، قال الشاعر: (الخفيف)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
21 ـــ آتتٍ الرِّزْقُ يَوْمَ يَوْمَ؛ فأجْمِلْ
طَلَباً، وَابْغغٍ لِلْقِيَامَةِ زَادَا
ومثالُ مَا رُكِّب مِن ظروف المكان قولُكَ: سُهِّلَتتِ الهمزةُ بَيْنَ بَيْنَ، وأصله بينها وبين حرف حركتها، فحذف ما أضِيف إليه بين الأولى وبين الثانية، وحذف العاطف، وركب الظرفان، وقال الشاعر:
22 ـــ نَحْمِي حَقِيقتَنَا وَبَعْضُ الْقَوْممِ يَسْقُطُ بَيْنَ بيْنَا
والأصلُ: بَيْنَ هؤلاء وبَيْنَ هؤلاء، فأزيلت الإضافة، ورُكِّب الاسمان تركيب خَمسةَ عَشَر، وهذان الظرفان اللذاننِ صارا ظرفاً واحداً في موضِع نصب على الحال؛ إذ المراد: وبعض القوم يسقط وَسَطاً، والحقيقة: ما يجب على الإنسان أن يحميه من الأهل والعشيرة، يقال: رجُلٌ حَامِي الحقيقة، أي: أنه شَهْمٌ لا يُضَامُ.(1/52)
والنّوعُ الخامسُ: ما رُكِّبَ تركيب خَمْسَةَ عَشَرَ من الأحوال: يقولون: فلانٌ جاري بَيْتَ بَيْتَ، وأصله بيتاً لبيت، أي: مُلاَصِقاً، فحذف الجار وهو اللام، وركب الاِسمان، وعامل الحال ما في قوله: «جاري» من معنى الفعل، فإنه في معنى مُجَاوِرِي، وجَوَّزوا أن يكون الجارُّ المقدَّرُ «إلى» وأن لا يقدر جارٌّ أصلاً، بل فاء العطف، وقالت العرب أيضاً: «تَسَاقَطُوا أَخْوَلَ أخْوَلَ» أي: مُتَفَرِّقِينَ، وهو بالخاء المعجمة، قال الشاعر يصف ثَوْراً يطعن الكلاب بقَرْنِهِ: (الطّويل)
23 ـــ يُسَاقِطُ عَنْهُ رَوْقُهُ ضَارِيَاتِهَا
سِقَاطَ شَرَارِ الْقَيْننِ أَخْوَلَ أَخْوَلاً
وفي الحديث: «كان يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ» أي: يَتَعَهَّدُنَا بها شيئاً فشيئاً مخافة السآمة علينا، قال أبو علي: «هو من قولهم: تَسَاقَطُوا أخْوَلَ أخْوَلَ، أي: شيئاً بعد شيء» وكان الأصمعي يرويه «يَتَخَوَّنُنَا» بالنون ـــ ويقول: معناه يَتَعَهَّدُنَا.
فإن قلت: ما الفرقُ بين هذا النوع والبيت الذي أنْشَدْتَهُ في النوع الذي قبله، فإنك زعمت ثَمَّ أن «بَيْنَ بَيْنَ» فيه حال؟
قلت: معنى قولي هناك إنه متعلق باستقرار محذوف، وذلك المحذوف هو الحال، لا أنه نفسَهُ حالٌ، بخلاف هذا النوع؛ فإن المركب نفسَهُ حالٌ؛ لأنه ليس بظرف، (بخلاف «بين بين» فإنه ظرف).
وإذا أخْرَجْتَ شيئاً من هذه الظروف والأحوال عن الظرفية والحالية تعَيَّنَتتِ الإضافَةُ وامتنع التركيبُ، تقول: هذِهِ هَمْزَةُ بَيْننِ بَيْننٍ، مخفوض الأوَّل غير مُنَوَّن والثاني منوناً، ومثله: فُلاَنٌ يأتينا كل صَبَاححِ مَسَاءٍ، قال: (الوافر)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
24 ـــ وَلَوْلاَ يَوْمُ يَوْممٍ مَا أَرَدْنَا
جَزَاءَكَ، والقُرُوضُ لَهَا جَزَاءُ(1/53)
وهذا يفهم من كلامي في المقدمة؛ فإني قلت: «وما رُكِّبَ من الظروف والأحوال» فعلم أن البناء المذكور مُقَيَّدٌ بوجود الظرفية والحالية، وأنها متى فُقِدَتْ وَجَبَ الرجوعُ إلى الإعراب، وإنما قدمت الظروف على الأحوال لأن ذلك في الظروف أكثر وقوعاً؛ فكان أولى بالتقديم.
فإن قلت: قد وقع التركيب المذكور فيما ليس بظرف ولا حال، كقولهم: وقعوا في حَيْصَ بيْصَ، أي: في شِدَّة يَعْسرُ التخلُّصُ منها.
قلت: هو شاذ؛ فلذلك لم أتعرض لذكره في هذا المختصر.
ولم يقع في التنزيل تركيبُ الأحواللِ ولا تركيبُ الظروف، وإنما وقع فيه تركيبُ الأعدادِ، نحو: {إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا (يُوسُف: الآية 4) }{فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا (البَقَرَة: الآية 60) }{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } (المدَّثِّر: الآية 30) أي: على سَقَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ مَلَكاً يحفظون أمرها، وقيل: صنفاً، وقيل: صفًّا من الملائكة، وقرىء (تِسْعَةُ أعْشُرٍ) جمع عَشِيرٍ، مثل أيمُننٍ في جمع يَميننٍ، وعلى هذا فَتِسْعَةُ مرفوع، وَأعشُرٍ مخفوض بالإضافة مُنَوَّنٌ.
ومجيء هذا التركيب في الأحوال قليل بالنسبة إلى مجيئه في الظروف.
والنّوع السادس: الزَّمَنُ المبهمُ المضافُ لجملةٍ: وأعني بالمبهم ما لم يدل على وقت بعينه، وذلك نحو الحين والوقت والساعة والزمان؛ فهذا النوع من أسماء الزمان تجوز إضَافَتُهُ إلى الجملة، ويجوز لك فيه حينئذٍ الإعرابُ والبناءُ على الفتح، ثم تارةً يكون البناء أرْجَح من الإعراب، وتارة العكس؛ فالأول إذا كان المضاف إليه جملةً فعليةً فعلُهَا مبنيٌّ كقوله: (الطّويل)
25 ـــ عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا
وَقُلْتُ: أَلَمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وَازِعُ(1/54)
يروى «على حينِ» بالخفض على الإعراب، و «على حينَ» بالفتح على البناء، وهو الأرجح؛ لكونه مضافاً إلى مبني، وهو عَاتَبْت، والثاني إذا كان المضاف إليه جملةً فعليةً فعلُهَا معربٌ، أو جملةً اسميةً؛ فالأول كقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّدِقِينَ صِدْقُهُمْ (المَائدة: الآية 119) } فيوم: مضاف إلى ينفع، وهو فعل مضارع، والفعلُ المضارعُ معربٌ كما تقدم، فكان الأرْجَحُ في المضاف الإعرابَ؛ فلذلك قرأ السبعة كلهم إلا نافعاً برفع اليوم على الإعراب؛ لأنه خبر المبتدأ، وقرأ نافع وَحْدَهُ بفتح اليوم على البناء، والبصريون يمنعون في ذلك البناء، ويُقَدِّرُونَ الفتحة إعراباً مثلها في «صُمْتُ يَوْمَ الخميس» والتزموا لأجل ذلك أن تكون الإشارة ليست لليوم، وإلا لزم كونُ الشيء ظَرْفاً لنفسه، والثاني كقول الشاعر: (الوافر)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
26 ـــ تَذَكَّرَ مَا تَذَكَّرَ مِنْ سُلَيْمَى
عَلَى حِينَ التَّوَاصُلُ غَيْرُ دَاننِ
روي بفتح الحين على البناء، والكسرُ أرجَحُ على الإعراب، ولا يجيز البصريون غَيْرَهُ.
النّوع السابع: المُبْهَمُ المضافُ لمبني: سواء كان زماناً أو غيره، ومرادى بالمبهم: ما لا يَتَّضِحُ معناه إلا بما يُضَاف إليه، كـ«مثل» و «دُونَ» و «بين» ونحوهن، ممّا هو شديدُ الإبهاممِ؛ فهذا النوع إذا أُضيف إلى مبني جاز أن يكتسب من بنائه، كما تكتسب النكرة المضافة إلى معرفة من تعريفها، قال الله تعالى: {وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ (هُود: الآية 66) } يقرأ على وجهين: بفتح اليوم على البناء؛ لكونه مبهماً مضافاً إلى مبني وهو إذْ، وبجره على الإعراب، وقال الله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ (الجنّ: الآية 11) } «منا» جار ومجرور خير مقدم، و «دون» مبتدأ مؤخر، وبني على الفتح لإبهامه وإضافتِهِ إلى مبني وهو اسم الإشارة، ولو جاءت القراءة برفع «دون» لكان ذلك جائزاً، كما قال الآخر: (الطويل)(1/55)
27 ـــ أَلَمْ تَرَيَا أَنِّي حَمَيْتُ حَقِيقَتِي
وَبَاشَرْتُ حَدَّ المَوْتتِ وَالمَوْتُ دُونُها
الرواية «دونُهَا» بالرّفع.
وقال الله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ (الأنعَام: الآية 94) } يقرأ على وجهين: برفع «بين» على الإعراب؛ لأنه فاعل، وبفتحهِ على البناء، وقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (الذّاريَات: الآية 23) } يقرأ على وجهين: برفع «مثل» على الإعراب؛ لأنه صفة لحق، وهو مرفوع، وبالفتح على البناء.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المبني على الفتح أو نائبه
ثم قلت: أو الفتح أو نائبهِ، وَهُوَ: اسمُ لا النَّافيةِ للجِنْسسِ، إذا كان مُفْرَداً، نحو: «لاَ رَجُلَ» و «لا رِجَالَ» و «لاَ رَجُلَيْنِ» و «لاَ قَائِمينَ» و «لاَ قَائِمَاتٍ» وفَتْحُ نحو: «قَائِمَاتٍ» أرْجَحُ مِنْ كَسْرِهِ.
وَلَكَ فِي الاسْممِ الثَّاني مِنْ نَحْوِ: «لاَ رَجُلَ ظَرِيفٌ» و «لاَ مَاءَ بَارِدٌ» النَّصْبُ، والرَّفْعُ، والْفَتْحُ، وَكَذَا الثَّاني مِنْ نَحْوِ: «لاَ حَوْل وَلاَ قوَّة» إن فَتَحْتَ الأوَّل، فإنْ رَفَعْتَهُ امْتَنَعَ النَّصْبُ في الثَّاني، فإنْ فُصِلَ النَّعْتُ أوْ كَانَ هُوَ أوِ المَنْعُوتُ غَيْرَ مُفْرَدٍ امْتَنَعَ الْفَتْح.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
اسم «لا» النّافية للجنس
وأقول: الباب الرابع من المبنيات: ما لزم الفتحَ أو نائبَهُ ـــ وهو اثنان الياء، والكسرة ـــ وذلك اسمُ لا.
وخُلاَصَةُ القول في ذلك أن «لا» إذا كانت للنفي، وكان المرادُ بذلك النَّفْيِ استغراقَ الجنسسِ بأسْرِهِ بحيث لا يخرج عنه واحِدٌ من أفراده، وكان الاسمُ مفرداً ـــ ونعني بالمفرد هنا وفي باب النداء: ما ليس مضافاً ولا شبيهاً بالمضاف، ولو كان مثنى أو مجموعاً ـــ فإنه حينئذٍ يستحق البناء على الفتح في مسألتين، والبناء على الياء في مسألتين، والبناء على الكسر أو الفتح في مسألة واحدةٍ.(1/56)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ما يستحق البناء على الفتح
أما ما يستحق فيه البناء على الفتح فضابطُه: أن يكون الاسمُ غيرَ مُثَنَّى ولا مجموع، نحو رَجُللٍ وَفَرَسسِ، أو مجموعاً جمعَ تكسير، نحو رِجَاللٍ وأفْرَاسسِ، تقول: «لاَ رَجُلَ في الدَّارِ» و «لاَ فَرَسَ عِنْدَنَا» و «لاَ رِجَالَ في الدَّارِ» و «لاَ أفْرَاسَ عِنْدَنَا».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ما يستحق البناء على الياء
وأما ما يستحق فيه البناء على الياء فضابِطُه: أن يكون الاسم مُثَنًّى أو جمعَ مذكر سالماً، نحو: «لا رَجُلَيْنِ» و «لاَ قَائِمينَ» قال الشاعر: (الطويل)
28 ـــ تَعَزّ فَلاَ إِلْفَيْننِ بالْعَيْششِ مُتِّعَا
وَلكِنْ لِوُرَّادِ المَنُوننِ تَتَابُعُ
وقال الآخر: (الخفيف)
29 ـــ يُحْشَرُ النَّاسُ لاَ بَنِينَ وَلاَ آ
بَاءً إلاَّ وَقَدْ عنَتهُمْ شؤُونَ
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ما يستحق البناء على الكسر
وأما ما يستحق فيه البناء على الكسر أو الفتح فضابطُه أن يكون جمعاً بالألف والتاء المزيدتين، نحو: «مُسْلِمَات» تقول: «لاَ مُسْلِمَاتتِ في الدَّارِ» قال الشاعر: (البسيط)
30 ـــ إنَّ الشَّبَابَ الَّذِي مَجْدٌ عَوَاقِبُهُ
فِيهِ نَلَذُّ، وَلاَ لَذَّاتَ لِلشَّيببِ
يروى بكسر «لَذّات» وفَتْحِهِ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أوجه نعت اسم «لا»
ولما ذكرت اسم «لا» أوردتُ مسألتين يتعلقان بباب «لا».(1/57)
المسألة الأولى: أن اسمها إذا كان مفرداً، ونُعِتَ بمفرد، وكان النعتُ والمنعوتُ متصلَيْننِ، نحو: «لاَ رَجُلَ ظَرِيفاً في الدَّارِ»؛ جاز لك في النعت ثلاثة أوجه، أحدها: النصبُ على محلِّ اسم «لا»؛ فإنه في موضع نصب بلا، ولكنه بني فلم يظهر فيه إعراب؛ فتقول: «لاَ رَجُلَ ظَرِيفاً في الدَّارِ» والثاني: الرفع على مراعاة محل «لا» مع اسمها، فإنهما في موضع رفع بالابتداء؛ فتقول: «لاَ رَجُلَ ظريفٌ في الدَّارِ» برفع ظريف، وإنما كانت «لا» مع «رجل» في موضع رفع بالابتداء؛ لأن «لا» قد صارت بالتركيب مع «رجل» كالشيء الواحد، وقد علمت أن الاسم المُصَدَّرَ به المخبَرَ عنه حَقه أن يرتفع بالابتداء، والثالث: الفتح؛ فتقول: «لاَ رَجُلَ ظَرِيفَ في الدَّارِ» وهو أبْعَدُها عن القياس فلهذا أخرته في الذكر، ووجهُ بُعْدِهِ هو أن فَتْحَهُ على التركيب، وهم لا يركبون ثلاثة أشياء ويجعلونها شيئاً واحداً، ووَجْهُ جوازه أنهم قدَّرُوا تركيبَ الموصوففِ وصفتِهِ أوَّلاً ثم أدخلوا عليهما «لا» بعد أن صارا كالاسم الواحد، ونظيره قولك: «لاَ خَمْسَةَ عَشَرَ عِنْدَنَا».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
العطف على اسم «لا» مع التكرار
المسألة الثانية: أن «لا» واسمها إذا تَكَرَّرا نحو: «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ» جاز لك في جملة التركيب خمسةُ أوْجُهٍ، وذلك لأنه يجوز في الاسم الأول وجهان: الفتحُ، والرفعُ؛ فإن فتحته جاز لك في الثاني ثلاثة أوجه: الفتح، والرفع، والنصب، مثالُ الفتححِ قولُه تعالى: {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ (الطُّور: الآية 23) }، ومثالُ الرفع قولُ الشاعر: (الكامل)
31 ـــ هَذَا لَعَمْرُكُمُ الصَّغَارُ بِعَيْنِهِ
لاَ أُمَّ لِي ـــ إنْ كَانَ ذَاكَ ـــ وَلاَ أَبُ
ومثالُ النصب قولُ الآخر: (السّريع)
32 ـــ لاَ نَسَبَ الْيَوْمَ وَلاَ خُلَّةً
اتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِععِ(1/58)
وإن رَفَعْتَ الاسْمَ الأولَ جاز لك في الاسم الثاني وَجْهَاننِ: الفتحُ، والرفعُ؛ فالأول كقوله في هذا البيت: (الوافر)
33 ـــ فَلاَ لَغْوٌ وَلاَ تَأثِيمَ فِيهَا
وَمَا فَاهُوا بِهِ أَبَداً مُقِيمُ
والثاني: كقوله تعالى: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ (البَقَرَة: الآية 254) } في قراءة مَنْ رفعهما. ولا يجوز لك إذا رفعت الأول أن تنصب الثاني.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المبني على الكسر
ثم قلت: أو الكَسْر، وهو خمسةٌ: العَلَم المختُومُ بِوَيْهِ كَسِيبَوَيْهِ، وَالْجرْمِيُّ يُجِيزُ مَنْعَ صَرْفِهِ، وَفَعَاللِ للأمْرِ كَنَزَاللِ وَدَرَاك، وَبَنُو أَسَدٍ تَفْتَحُهُ، وَفَعَاللِ سَبًّا للمؤنث كَفَسَاققِ وَخَبَاثثِ، ويختصُّ هذا بالنداء، ويَنْقَاسُ هُوَ وَنَحْوُ نَزَاللِ مِنْ كلِّ فِعْللٍ ثُلاثيَ تامَ، وفَعَاللِ عَلَماً لِمُؤَنَّثثِ كَحَذَاممِ في لُغَةِ أَهْللِ الْحِجَازِ، وَكَذَلِكَ «أَمْسِ» عِنْدَهُمْ إذَا أُرِيدَ بِهِ مُعَيَّنٌ، وأكثَرُ بَنِي تميممٍ يُوَافِقُهُمْ في نَحْوِ سَفَارِ وَوَبَارِ مُطْلَقاً، وفي أمْسسِ في الْجَر وَالنَّصْببِ، وَيَمْنَعُ الصَّرْفَ في الباقي.
وأقول: الباب الخامس من المبنيات: ما لزم البناء على الكسر، وهو خمسة أنواع:
النوع الأول: العَلَمُ المختوم بِوَيْهِ: كَسِيبَوَيْهِ وَعَمْرَوَيْهِ ونِفْطَوَيْهِ وَرَاهَوَيْهِ ونَحْو ذلك؛ فليس فيهن إلا الكسر، وهو قول سيبويه والجمهور، وزعم أبو عمر الجرمي أنه يجوز فيهن ذلك والإعرابُ إعرابَ ما لا ينصرف.
النّوع الثاني: ما كان اسماً للفعل: وهو على وزن فَعَاللِ، وذلك مثل نَزَاللِ بمعنى انزل، وَدَرَاككِ بمعنى أدْرِك، وَتَرَاككِ بمعنى اتْرُك، وَحَذَارِ بمعنى احْذَرْ، قال الشاعر: (الرّجز)
34 ـــ حَذَارِ مِنْ أَرْمَاحِنَا حَذَارِ
وقال الآخر: (الرّجز)
35 ـــ تَرَاكِهَا مِنْ إبِللٍ تَرَاكِهَا
وما أحْسَنَ قولَ بعضهم: (الوافر)(1/59)
36 ـــ هِيَ الدُّنْيَا تَقُولُ بِمِلْءِ فِيهَا:
حَذَارِ حَذَارِ مِنْ بَطْشِي وَفَتْكِي
فَلاَ يَغْرُرْكُمُ مِنِّي ابْتِسَامٌ
فَقَوْلِي مُضْحِكٌ والْفِعْلُ مُبْكِي
وبنو أسد يفتحون فَعَاللِ في الأمر لمناسبة الألففِ والفتحةِ التي قبلها.
النوع الثالث: ما كان على فَعَاللِ، وهو سَبٌّ للمؤنث: ولا يُسْتعمل هذا النوعُ إلا في النداء، تقول: «يَا خَبَاثِ» بمعنى يا خبيثَةُ، و «يَا دَفَارِ» بالدال المهملة، بمعنى يا مُنْتِنَةُ، و «يَا لَكَاعِ» بمعنى يا لئيمة، ومن كلام عمر رضي الله عنه لبعض الجواري: «أتَتَشَبَّهِينَ بالحرائر يا لَكَاعِ» ولا يُقَالُ: جاءتني لكاع، ولا رأيت لكاع، ولا مررت بلكاع، فأما قولُه: (الوافر)
37 ـــ أُطَوِّفُ مَا أُطَوِّفُ، ثُمَّ آوِي
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إِلَى بَيْتتٍ قَعِيدَتُهُ لَكَاععِ
فاستعملها في غير النداء؛ فضرورة شاذة، ويحتمل أن التقدير: قَعِيدَتُهُ يُقَالُ لها: يا لَكَاععِ؛ فيكون جارياً على القياس.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط صوغ «فَعَال»
ويجوز قياساً مطرداً صَوْغُ فَعَاللِ هذا وَفَعَاللِ السَّابِققِ ـــ وهو الدال على الأمر ـــ مما اجتمع فيه ثلاثة شروط، وهي: أن يكون فعلاً ثلاثياً، تامًّا؛ فيبني من نزل نَزَاللِ، ومن ذهب ذَهَاببِ، ومن كَتَبَ كَتَاببِ، بمعنى انْزِلْ واذْهَبْ واكْتُبْ، ويقال من فَسَقَ وفَجَرَ وزَنَا وسَرَقَ: يا فَسَاققِ، ويا فَجَارِ، ويا زَنَاءِ، ويا سَرَاققِ، بمعنى يا فاسقة، يا فاجرة، يا زانية، يا سارقة.
ولا يجوز بناء شيء منها من نحو اللصوصِيَّة؛ لأنها لا فِعْلَ لها، ولا من نحو: دَحْرَج واسْتَخْرَج وانْطَلَق؛ لأنها زائدة على الثلاثة، ولا من نحو: كَانَ وظَلَّ وبَاتَ وصَارَ؛ لأنها ناقصة لا تامَّة.(1/60)
ولم يَقَعْ في التنزيل فَعَاللِ أمراً إلا في قراءة الحسن: {لاَ مِسَاسَ (طه: الآية 97) } بفتح الميم وكسر السين، وهو في دخول «لا» على اسم الفعل بمنزلة قولهم للعاثر إذا دَعوْا عليه بأن لا ينتعش ـــ أي لا يرتفع ـــ «لا لَعاً» وفي معاني القرآن العظيم للفراء: ومن العرب من يقول: لا مَسَاسسِ، يذهب به إلى مذهب دَرَاككِ ونَزَاللِ، وفي كتاب ليس لابن خالويه لا مَسَاسسِ مثل دَرَاككِ ونَزَاللِ، وهذا من غرائب اللغة، وحمله الزمخشري والجوهري على أنه من باب قَطَام، وأنه معدول عن المصدر، وهو المَسُّ.
النوع الرابع: ما كان على فَعَال، وهو علم على مؤنث: نحو: حَذَاممِ وقَطَاممِ وَرَقَاششِ وَسَجاححِ ـــ بالسين المهملة والجيم وآخرها حاء مهملة ـــ اسم للكَذّابة التي ادَّعَتتِ النبوة، وكَسَاببِ: اسم لكلبة، وسَكَاببِ: اسم لفرس.
وهذه الأسماء ونحوها للعرب فيها ثلاث لغات:
إحداها: لأهل الحجاز، وهي البناء على الكسر مطلقاً، وعلى ذلك قول الشاعر: (الوافر)
38 ـــ إِذَا قَالَتْ حَذَاممِ فَصَدِّقُوهَا
فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَاممِ
والثانية: لبعض بني تميم، وهي إعْرَابُهُ إعْرَابَ ما لا ينصرف مطلقاً.
والثالثة: لجمهورهم، وهي التفصيلُ بين أن يكون مختوماً بالراء فيبنى على الكسر، أو غَيْرَ مختوممٍ بها فَيُمْنَعُ الصرفَ، ومثالُ المختوم بالراء «سَفَارِ» بالسين المهملة والفاء اسم لماء، و «حَضَارِ» بالحاء المهملة والضاد المعجمة اسم لكوكب، و «وَبَار» بالباء الموحدة اسم لقبيلة، و «ظَفَارِ» بالظاء المعجمة والفاء اسم لبلدة، قال الشاعر أنشده سيبويه: (الطّويل)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
39 ـــ مَتَى تَرِدَنْ يَوْماً سَفَارِ تَجِدْ بِهَا
أُدَيْهِمَ يَرْمِي المُسْتَجِيزَ المُعَوِّرَا
وقال الأعشى فجمع بين اللغتين التميميتين: (مخلع البسيط)
40 ـــ أَلَمْ تَرَوْا إِرَماً وعاداً
أَوْدى بِهَا اللَّيْلُ والنَّهَارُ(1/61)
وَمَرَّ دَهْرٌ عَلَى وَبَارِ
فَهَلَكَتْ جَهْرَةً وَبَارُ
«وبار» الثاني ليس باسم كوبار الذي في حَشْو البيت، بل الواو عاطفة، وما بعدها فعل ماض وفاعل، والجملة معطوفة على قوله: «هلكت»، وقال أولاً: «هلكت» بالتأنيث على معنى القبيلة، وثانياً: «باروا» بالتذكير على معنى الحيِّ، وعلى هذا القول فتكتب «وباروا» بالواو والألف كما تكتب «ساروا».
النوع الخامسُ: «أَمْسِ» إذا أرَدْتَ به مُعَيَّناً، وهو اليومُ الذي قَبْلَ يومك. وللعرب فيه حينئذٍ ثلاثُ لُغاتتٍ.
إحداها: البناء على الكسر مطلقاً، وهي لُغة أهل الحجاز؛ فيقولون: «ذَهَبَ أمْسسِ بِمَا فِيهِ» و «اعْتَكَفْتُ أَمْسٍ» و «عَجِبْتُ مِنْ أَمْسٍ» بالكسر فيهن؛ قال الشاعر: (الكامل)
41 ـــ مَنَعَ الْبَقَاءَ تَقَلُّبُ الشَّمْسسِ
وَطُلُوعُهَا مِنْ حَيْثُ لاَ تُمْسِي
ثم قال:
الْيَوْمُ أَعْلَمُ ما يَجِيءُ بِهِ
وَمَضَى بِفَصْللِ قَضَائِهِ أَمْسسِ
الثانية: إعرابُهُ إعرابَ ما لا ينصرف مطلقاً، وهي لغةُ بعضضِ بني تميممٍ، وعليها قولُه: (الرَّجز)
42 ـــ لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَباً مُذْ أَمْسَا
عَجَائزاً مِثْلَ السَّعَالِي خَمْسَا
يَأكُلْنَ مَا فِي رَحْلِهنَّ هَمْسَا
لاَ تَرَكَ اللَّهُ لَهُنَّ ضِرْسَا
وقد وهِمَ الزُّجَّاجِيُّ، فزعم أن مِنَ العرب مَنْ يبني أمْسسٍ على الفتح، واستدل بهذا البيت.
الثالثة: إعرابُهُ إعرابَ ما لا ينصرف في حالة الرفع خاصة، وبناؤه على الكسر في حَالَتَيِ النصببِ والجرِّ، وهي لغةُ جمهورِ بني تميم، يقولون: «ذَهَبَ أَمْسُ» فيضمُّونه بغير تنوين، و «اعْتَكَفْتُ أَمْسسِ، وعَجِبْتُ مِنْ أَمْسِ» فيكسرونه فيهما، وهذا كله يفهم من قولي في المقدمة: «ويمنع الصرف في الباقي» وقولي: «الباقي» أردت به «أمس» في الرفع وما ليس في آخره راء من باب حَذَاممِ وَقَطَاممِ.(1/62)
وإذا أريد بأَمْسسِ يَوْمٌ ما من الأيام الماضية، أو كُسِّرَ، أو دَخَلَتهُ «أل» أو أُضيف ـــ أعرف بإجماع، تقول: «فَعَلْتُ ذَلِكَ أَمْساً» أي في يوم ما من الأيام الماضية، وقال الشاعر:
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
43 ـــ مَرَّتْ بِنَا أَوَّلَ مِنْ أُمُوسسِ
تَمِيسُ فِينَا مِيسَةَ العَرُوسسِ
وتقول: «مَا كَانَ أَطْيَبَ أَمْسَنَا» وذكر المبرد والفارسيُّ وابن مالك والْحَريريُّ أن «أمس» يُصَغَّرُ فيعرب عند الجميع، كما يعرب إذا كُسِّرَ، ونَصَّ سيبويه على أنه لا يُصَغَّرُ وقوفاً منه على السماع، والأولون اعتمدوا على القياس، ويشهد لهم وقوعُ التّكسيرِ؛ فإن التّكسير والتّصغير أخَوَانَ، وقال الشاعر: (الطّويل)
44 ـــ فإني وقَفْتُ اليَوْمَ والأمْسسِ قَبْلَهُ
بِبَابِكَ حَتَّى كَادَتتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ
روي هذا البيت بفتح «أمس» على أنه ظرف مُعْرَبٌ لدخول أل عليه، ويروى أيضاً بالكسر، وتوجِيهُهُ: إما على البناء، وتَقْدِيرِ «أل» زائدة، أو على الإعراب على أنه قَدَّرَ دخولَ «في» على اليوم، ثم عطف عليه عَطْفَ التوهم.
وقال الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالاْمْسِ (يُونس: الآية 24) } الكسرةُ فيه كسرةُ إعراب لوجود أل، وفي الآية إيجازٌ ومَجَازٌ، وتقديرهما فجعلنا زَرْعَهَا في استئصاله كالزرع المحصود فكأن زَرْعَهَا لم يلبث بالأمس، فحذف مضافان واسم كأن، وموصوف اسم المفعول، وأقيم فَعِيلٌ مقام مفعول، لأنه أبلغ منه، ولهذا لا يقال لمن جرح في أنملته «جريح» ويقال له: مجروح.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المبني على الضم(1/63)
ثم قلت: أو الضَّمِّ وَهُوَ: مَا قُطِعَ لَفْظاً لاَ مَعْنًى عَننِ الإضَافَةِ مِنْ الظرُوففِ الْمُبْهَمةِ كَقَبْلُ وَبَعْدُ وَأوَّلُ، وأسْمَاءِ الْجهَاتتِ، وَأُلْحِقَ بهَا «عَلُ» الْمَعْرِفَةُ، وَلاَ تُضَافُ، و «غَيْرُ» إذا حُذِفَ مَا تُضَافُ إلَيْهِ وَذَلِكَ بَعْدَ لَيْسَ، كَـ«قبَضْتُ عَشَرَةً لَيْسَ غَيْرُ» فيمَنْ ضمَّ وَلَمْ يُنَوِّنْ، وَ «أيٌّ» الْمَوصُولَةُ إذَا أُضِيفَتْ وَكَانَ صَدْرُ صِلَتهَا ضَمِيراً مَحْذُوفاً، نحو: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ (مريَم: الآية 69) } وَبَعْضُهُمْ يُعْرِبُهَا مُطلَقاً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أنواع المبني على الضم
وأقول: الباب السادس من المبنيات ما لزم الضَّمّ: وهو أربعة أنواع:
النوع الأول: ما قُطِعَ عن الإضافة لفظاً لا معنًى من الظروف المبهمة: كقبل وبَعْد وأول، وأسماء الجهات نحو قُدَّام وأمام وخَلْف، وأخواتها، كقوله تعالى: {لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ (الرُّوم: الآية 4) } في قراءة السّبعة بالضم، وقَدَّره ابنُ يَعِيشَ على أن الأصل من قبل كل شيء ومن بعده، انتهى، وهذا المعنى حق، إلا أن الأنسب للمقام أنْ يقدر (من قبل الغلب و) من بعده، فحُذِفَ المضاف إليه لفظاً ونُوِيَ معناه، فاستحقَّ البناء على الضم، ومثله قولُ الحماسي: (الطّويل)
45 ـــ لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لأوْجَلُ
عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو الْمَنِيَّةُ أوِّلُ
وقال الآخر: (الطّويل)
46 ـــ إِذَا أَنَا لَمْ أُومَنْ عَلَيْكَ وَلَمْ يَكُنْ
لِقَاؤُكَ إِلا مِنْ وَرَاءُ وَرَاءُ
وقولي: «لفظاً» احترازٌ من أن يُقْطَعَ عنها لفظاً ومعنًى؛ فإنها حينئذٍ تبقى على إعرابها، وذلك كقولك: «ابْدأ بذا أوَّلاً» إذا أردتَ ابْدَأ به متقدماً، ولم تتعرض للتقدم على ماذا، وكقول الشاعر: (الوافر)
47 ـــ فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً
أكَادُ أَغَصُّ بالْمَاءِ الفُرَاتتِ
وقول الآخر: (الطويل)(1/64)
48 ـــ وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأسْدَ أَسْدَ خَفِيَّةٍ
فَمَا شَرِبُوا بَعْداً عَلَى لذّةٍ خَمْرَا
وقرىء {لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ (الرُّوم: الآية 4) } بالخفض والتنوين، على إرادة التنكير وقَطْععِ النظر عن المضاف إليه: أي لفظاً ومعنًى، وقرأ الْجُحْدُري والعقيلي بالجر من غير تنوين، على إرادة المضاف إليه وتقدير وجودِهِ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ما ألحق بالظروف المنقطعة عن الإضافة لفظاً لا معنًى
النوع الثاني: ما ألحق بقبل وبعد من قولهم: «قَبَضْتُ عَشَرَةً لَيْسَ غَيْرُ» والأصْلُ ليس المقبوض غَيْرَ ذلك؛ فأضْمِرَ اسمُ «ليس» فيها وحُذِفَ ما أضيف إليه «غير» وبنيت «غير» على الضم، تشبيهاً لها بقبلُ وبعدُ؛ لإبهامها، ويحتمل أن التقدير: ليس غيرُ ذلك مقبوضاً، ثم حذف خبر «ليس» وما أضيفت إليه «غير» وتكون الضمَّةُ على هذا ضمة إعراب. والوجه الأول أوْلى؛ لأن فيه تقليلاً للحذف، ولأن الخبر في باب «كان» يَضْعُفُ حذفُه جدًّا.
ولا يجوز حذف ما أضيفت إليه «غير» إلا بعد «ليس» فقط، كما مثلنا، وأما ما يقع في عبارات العلماء من قولهم «لا غير» فلم تتكلم به العرب، فإما أنهم قاسوا «لا» على «ليس» أو قالوا ذلك سَهْواً عن شرط المسألة.
النوع الثالث: ما ألحق بقبل وبعد من «عَلُ»: المرادِ به مُعَيَّنٌ، كقولك: أخذت الشيء الفلاني من أسْفَللِ (الدارِ) والشيء الفلانيَّ من عَلُ: أي من فوق الدار، قال الشاعر: (الكامل)
49 ـــ وَلَقَدْ سَدَدْتُ عَلَيْكَ كلَّ ثَنِيَّةٍ
وَأَتَيْتُ فَوْقَ بَنِي كُلَيْببٍ مِنْ عَلُ
ولا تستعمل «عَلُ» مُضَافَةً أصلاً، ووقع ذلك في كلام الجوهري، وهو سَهْوٌ، ولو أردت بعَلُ عُلُوًّا مجهولاً غيرَ معروففٍ تعيَّن الإعرابُ، كقوله: (الطّويل)
50 ـــ كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطّهُ السَّيْلُ مِنْ عَللِ
النوع الرابع: ما ألحق بقبلُ وبعدُ من «أي» الموصولة.(1/65)
واعلم أن أيًّا الموصولَةَ مُعْرَبَةٌ في جميع حالاتها، إلا في حالة واحدة، فإنها تبنى فيها على الضم، وذلك إذا اجتمع شرطان؛ أحدهما: أن تضاف، الثاني: أن يكون صَدْرُ صلتها ضميراً محذوفاً، وذلك كقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً } (مريَم: الآية 69) .
(ثم) حرف عطف على جواب القَسَممِ، وهو قوله تعالى: {فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَطِينَ (مريَم: الآية 68) } واللام لام التوكيد التي يُتَلَقَّى بها القَسَمُ، مثلها في (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) و (ننزع) فعل مضارع مبني على الفتح لمباشرته لنون التوكيد (والفاعل ضمير مستتر، والنون للتوكيد)، و (من كل) جارٌّ ومجرور متعلق بنزع، و (شيعة) مضاف إليه، و (أي) مفعول، وهو موصول اسمي يحتاج إلى صِلَةٍ وعائد، والهاء والميم مضاف إليه، و (أشد) خبر لمبتدأ محذوف: أي أيهم هو أشد، والجملة من المبتدأ والخبر صلة لأي، و (على الرَّحْمنِ) متعلق بأشد، و (عتيا) تمييز، وكان الظاهر أن تفتح أي؛ لأن إعراب المفعوللِ النصبُ، إلا أنها هنا مبنية على الضَّمِّ لإضافتها إلى الهاء والميم وحَذْففِ صدر صلتها، وهو المقدر بقولك «هو».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ومن العرب مَنْ يُعْرِبُ أيًّا في أحوالها كلها، وقد قرأ هارُونُ ومعاذ ويعقوب: (أيَّهُمْ أَشَدُّ) بالنصب، قال سيبويه: وهي لغة جيدة، وقال الْجَرميُّ: «خرجت من الخنْدَق ـــ يعني خَنْدَقَ الْبَصْرَةِ ـــ حتى صرت إلى مكة، فلم أسمع أحداً يقول: «اضْرِبْ أيُّهُمْ أفْضَلُ» أي: كلهم ينصب ولا يضم.(1/66)
والمعنى اقسم بربك لَنَجْمَعَنَّ المُنْكِرينَ للبعث وقُرَنَاءَهم من الشياطين الذين أضلُّوهُمْ مُقَرّنين في السلاسل كل كافر معه شيطانه في سلسلة، ثم لنُحْضِرنَّهُمْ حول جهنم جاثين على الرُّكَببِ، ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيَّا، أي: جراءة، وقيل: فُجُوراً وكذباً، وقيل: كفراً، أي: لننزعن رؤساءهم في الشر فنبدأ بالأكبر فالأكبر جُرْماً، (والأكثر جراءة) {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً } (مريَم: الآية 70) أي أحقُّ بدخول النار، يقال: صَلِيَ يَصْلَى صُلِيَّا، كما يقال: لَقِيَ يَلْقَى لُقِيًّا، ويقال: صَلَى يَصْلِي صُلِيًّا مثل مضى يمضي مُضِيًّا.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المبني على الضمّ أو نائبه
ثم قلت: أوِ الضَّمِّ أو نَائِبِهِ، وَهُوَ المُنَادَى المُفْرَدُ المَعْرِفَةُ، نَحْوُ: «يَا زَيْدُ» و {يجِبَالُ (سَبَإ: الآية 10) } و «يَا زَيْدَانِ» و «يَا زَيْدُونَ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المنادى المفرد المعرفة
وأقول: الباب السابع من المبنيات: ما لزم الضم أو نائبَهُ ـــ وهو الألف والواو ـــ وهو نوع واحد، وهو المنادى المفرد المعرفة.
ونعني بالمفرد هنا: ما ليس مضافاً ولا شبيهاً به، ولو كان مُثَنًّى أو مجموعاً، وقد سبق هذا عند الكلام على اسم «لا».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ما يراد بالمعرفة
ونعني بالمعرفة: ما أرِيدَ به مُعَيَّنٌ، سواء كان علماً أو غيره.
فهذا النوع يبنى على الضمّ في مسألتين.
إحداهما: أن يكون غير مثنى ولا مجموع جمع مذكر سالماً، نحو: «يَا زَيْدُ» و «يا رَجُلُ» وقول الله تعالى: {ينُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ (هُود: الآية 46) }{ينُوحُ اهْبِطْ بِسَلَمٍ (هُود: الآية 48) }{يَاصَحُ ائْتِنَا (الأعرَاف: الآية 77) }{يهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ (هُود: الآية 53) }.(1/67)
الثانية: أن يكون جمع تكسير، نحو قولك: «يا زُيُودُ» وقوله تعالى: {يجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ (سَبَإ: الآية 10) }.
ويُبْنَى على الألف إن كان مثنى، نحو: «يَا زَيْدَانِ» و «يَا رَجُلاَنِ» إذا أريد بهما مُعَيَّنٌ.
ويُبْنَى على الواو إن كان جمع مذكر سالماً نحو: «يَا زَيْدُونَ» و «يَا مُسْلِمُونَ» إذا أريد بهما مُعَيَّنٌ.
وأما إذا كان المنادى مضافاً، أو شبيهاً بالمضاف، أو نكرةً غير معينة؛ فإنه يعرب نصباً على المفعولية؛ فلا يدخل في باب البناء.
فالمضاف كقولك: «يَا عَبْدَ اللَّهِ» و «يَا رَسُولَ اللَّهِ» وفي التنزيل: {قُللِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّموَاتتِ وَالأرْضِ} أي: يا فاطر السموات. {أن أَدُّوا إلَى عِبَادَ اللَّهِ}، أي: يا عباد الله، ويجوز أن يكون (عِبَادَ اللَّهِ) مفعولاً بأدُّوا كقوله تعالى: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرءيلَ } (الشُّعَرَاء: الآية 17) ، ويجوز أن يكون (فَاطِرَ) صفة لاسم الله تعالى، خلافاً لسيبويه.
والشبيهُ بالمضاف: هو ما اتصل به شيء من تمام معناه، كقولك: «يَا كَثِيراً بِرُّهُ» و «يَا مُفِيضاً خَيْرَهُ» و «يَا رَفِيقاً بالْعِبَادِ».
والنكرة كقول الأعمى: «يَا رَجُلاً خُذْ بِيَدِي» وقول الشاعر: (الطّويل)
51 ـــ أَيَا رَاكِباً إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ
نَدَامايَ مِنْ نَجْرَانَ أن لاَ تَلاَقِيَا
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
جواز نصب المنادى المبني على الضّم في الشعر
ويجوز في المنادى المستحق للضم أن ينصب إذا اضْطرَّ إلى تنوينِهِ، كقول الشاعر: (الخفيف)
52 ـــ ضَرَبَتْ صَدْرَهَا إلَيَّ، وَقَالَتْ:
يَا عَدِيًّا لَقَدْ وَقَتْكَ الأوَاقِي
وأن يبقى مضموماً كقوله: (الوافر)
53 ـــ سَلاَمُ اللَّهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَا
وَلَيْسَ عَلَيْكَ يَا مَطَرُ السَّلاَمُ
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط جواز فتح المنادى فتحة إتباع(1/68)
ويجوز في المنادى أيضاً أن يُفْتَحَ فتحةَ إتباععٍ، وذلك إذا كان علماً: موصوفاً بابْننِ، متصل به، مضاف إلى علم، كقولك: «يا زَيْدَ بنَ عمرٍو» وقول الشاعر: (البسيط)
54 ـــ يَا طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَدْ وَجَبَتْ
لَكَ الْجِنَانُ وَبُوَّئْتَ المَهَا الْعِينَا
وبقاء الضم أرْجَحُ عند المبرد، والمختارُ عند الجمهور الفَتْحُ.
ثم قلت: وَإِمَّا أنْ لا يَطَّرِدَ فيهِ شَيْءٌ بِعَيْنِه، وَهُو: الْحُرُوفُ كَهَلْ وَثُمَّ وَجَيْرِ وَمُنْذُ، وَالأسْمَاء غَيْرُ المُتَمَكِّنَة، وهي سبعَةٌ: أسماء الأفْعَال كَصَهْ وَآمِينَ وَإِيهِ وَهَيْتُ وَالمُضْمَرَاتُ كَقُومِي وَقُمْتَ وَقُمْتتِ وَقُمْتُ، والإشَارَات كَذِي وَثَمَّ وهؤلاءِ وهؤلاءُ والمَوْصُولاَت كالَّذِي وَالَّتِي وَالَّذِينَ والأولاء فِيمَنْ مَدَّهُ وذَاتُ فيمَنْ بَنَاهُ وَهُو الأفْصَح إلا ذَيْننِ وَتَيْننِ وَاللَّذَيْننِ واللَّتَيْننِ فكالمثنى، وأسْمَاء الشَّرْطِ، وأسْماء الاسْتِفْهَام: كَمَنْ وَمَا وَأَيْنَ، إلا أيا فيهما، وَبَعْضُ الظُّرُوففِ كَإِذْ والآنَ وَأمْسسِ وَحَيْثُ مُثَلثاً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المبني دون قاعدة ثابتة
وأقول: لما أنهيتُ القَوْلَ في المبنياتتِ السبعةِ المختصَّةِ شَرَعْتُ في بيان ما لا يختص، وحَصَرْتُ ذلك في نوعين؛ أحدهما: الحروف، وقدمتها لأنها أقْعَدُ في باب البناء، والثاني: الأسماء غير المتمكّنة، وَحَصَرْتُهَا في سبعة أنواع وفَصَّلتها، ومَثَّلْتُ كلاً منها، ورتبت أمثلة الجميع على ما يجب لها؛ فبدأت بما بني على السُّكُون لأنه الأصل في البناء، ثم ثَنَّيْتُ بما بني على الفتح؛ لأنه أخَفُّ من غيره، ثم ثَلَّثتُ بما بني على الكسر، ثم ختمت بما بني على الضمّ.(1/69)
فمثالُ ما بني على السكون من الحروف: هَلْ وبَلْ وقَدْ ولَمْ، ومثالُ ما بني منها على الفتح: ثُمَّ وإنَّ ولَعَلَّ ولَيْتَ، ومثالُ ما بني منها على الكسر: جَيْرٍ ـــ بمعنى نَعَمْ ـــ واللام والباء في قولك «لِزَيْدٍ» و «بِزَيْدٍ» ولا رابع لهن، إلا «ممِ اللَّهِ» في لُغة من كسر الميم، وذلك على القول بحرفيتها، ومثالُ ما بني منها على الضم: مُنْذُ في لُغة من جَرَّ بها، وقولهم في القسم «مُ الله» فيمن ضم الميم، و «مُنُ الله» فيمن ضم الميم والنون، ومَنْ قال فيهما وفي «ممِ الله» إنها محذوفة من قولهم «أيمُنُ الله» فلا يصح ذكرها هنا؛ فإنها على هذا القول من باب الأسماء، لا من باب الحروف.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ما بني على السكون من أسماء الأفعال
ومثالُ ما بني على السكون من أسماء الأفعال: صَهْ ـــ بمعنى اسكت ـــ ومَهْ ـــ بمعنى انْكَفِفْ ـــ ولا تقُلْ بمعنى اكفف كما يقول كثير منهم؛ لأن اكفف يَتَعَدَّى، ومَهُ لا يتعدى.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ما بني على الفتح
ومثالُ ما بني منها على الفتح: آمِينَ ـــ بمعنى اسْتَجِبْ، لَمَّا ثَقُلَ بكسر الميم وبالياء بعدها بني على الفتح، كما بني أيْنَ وكَيْف عليه لثقل الياء، وفيه أربع لُغَات، إحداها: «آمِينَ» بالمد بعد الهمزة من غير إمالة، وهذه اللغة أكثر اللغات استعمالاً، ولكِنْ فيها بُعْدٌ عن القياس؛ إذ ليس في اللغة العربية (اسْمٌ على فَاعِيلَ)، وإنما ذلك في الأسماء الأعجمية كقَابِيلَ وهَابِيلَ، ومن ثَمَّ زَعَمَ بعضهم أنه أعجمي، وعلى هذه اللغة قوله: (البسيط)
55 ـــ (يَا رَبِّ لاَ تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَداً)
وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْداً قَالَ آمِينَا
والثانية كالأولى، إلا أن الألف مُمَالَة للكسرة بعدها، ورويت عن حمزة والكسائي، والثالثة «أَمِينَ» بقصر الألف على وزن قَدِير وبَصِير، قال: (البسيط)
56 ـــ أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا(1/70)
وهذه اللغة أفْصَح في القياس، وأقل في الاستعمال حتى إن بعضهم أنكرها، قال صاحب الإكمال: حكى ثعلبٌ القصْرَ، وأنكره غيره، وقال: إنما جاء مقصوراً في الشعر، انتهى، وانعكس القَوْلُ عن ثعلب على ابن قُرْقُوللٍ فقال: أنكر ثعلب القَصْرَ إلا في الشعر وصححه غيره، وقال صاحب التحرير في شرح مسلم: وقد قال جماعة إنَّ القَصْرَ لم يجيء عن العرب، وإن البيت إنما هو:
56 ـــ فَآمِينَ زَادَ اللَّهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا
والرابعة «آمِّين» بالمدّ وتشديد الميم، روي ذلك عن الحسن، والحسين بن الفضل، وعن جعفر الصادق، وأنه قال: تأويلهُ قَاصِدِينَ نحوك وأنت أكرم من أن تُخَيِّبَ قاصداً، نقل ذلك عنهم الوَاحِدِيُّ في البسيط، وقال صاحبُ الإكمال: حكى الداودي تشديد الميم مع المدِّ، وقال: وهي لُغة شاذة، ولم يعرفها غيره، انتهى، قلت: أنكر ثعلب والجوهري (والجمهور) أن يكون ذلك لُغة، وقالوا: لا نعرف آمِّينَ إلا جمعاً بمعنى قاصدين كقوله تعالى: {وَلآ ءامّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ (المَائدة: الآية 2) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ما بني على الكسر
ومثالُ ما بني منها على الكسر: إيهِ بمعنى امْضضِ في حَدِيثِكَ ـــ ولا تقُلْ بمعنى حَدِّثْ كما يقولون؛ لما بينتُ لك في مَهْ، وأما قوله: (البسيط)
57 ـــ إيهٍ أَحَادِيثَ نَعْمَاننِ وَسَاكِنِهِ
فليس بعربي، وعند الأصعمي أنها لا تستعمل إلا مُنَوّنة، وخالفوه في ذلك، واستدلوا بقول ذي الرّمة: (الطّويل)
58 ـــ وَقَفْنَا فَقُلْنَا: إيهِ عَنْ أُمِّ سَالِممٍ
وكان الأصْمَعِيُّ يُخَطِّىء ذا الرمة في ذلك وغيره، ولا يَحْتَجُّ بكلامه.(1/71)
ومثالُ ما بني منها على الضم: هَيْتُ ـــ بمعنى تهيَّأت ـــ قال تعالى: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ (يُوسُف: الآية 23) }، وقيل: المعنى هَلُمَّ لك؛ فلك: تبيينٌ مثل سَقْياً لَكَ، وقرىء (هَيْت2) مُثَلَّثَة التاء؛ فالكسر على أصْللِ التقاء الساكنين، والفتحُ للتخفيف كما في أيْنَ وكَيْفَ، والضمّ تشبيهاً بحَيْثُ، وقرىء (هِئْتُ) بكسر الهاء، وبالهمزة ساكنةً، وبضم التاء، وهو على هذا فعلٌ ماضضٍ وفاعلٌ، من هاء يَهَاء كشاء يشاء، أو من هاء يَهِيء كجاءَ يجيءُ.
ومثالُ ما بني من المضمرات على السكون: قُومِي وَقُومَا وَقُومُوا، ومثالُ ما بني منها على الفتح: قمتَ للمخاطب المذكَّر، ومثالُ ما بني منها على الكسر: قمتتِ للمخاطبة، ومثالُ ما بني منها على الضم: قمتُ للمتكلم.
ومثالُ ما بني على السكون من أسماء الإشارة: ذا للمذكر وذي للمؤنث، ومثالُ ما بني منها على الفتح: ثَمَّ ـــ بفتح الثَّاء ـــ إشارة إلى المكان البعيد، قال الله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاْخَرِينَ } (الشُّعَرَاء: الآية 64) أي: وأزلفنا الآخرين هُنالك، أي: قَرَّبناهم، ومثالُ ما بني منها على الكسر: هؤلاء، ومثالُ ما بني منها على الضم ما حكاه قُطْرُبٌ من أن بعض العرب يقولون: هؤلاءُ ـــ بالضم ـــ فلذلك ذكرت هؤلاء في المقدمة مرتين، أولاهما: تضبط بالكسر، والثانية: بالضم.
ومثالُ ما بني على السكون من الموصولات: الذي والتي ومَنْ وما، ومثالُ ما بني منها على الفتح: الَّذِينَ، ومثالُ ما بني منها على الكسر: الألاءِ ـــ بالمد ـــ لُغة في الألى بمعنى الذين، قال الشاعر: (الطّويل)
59 ـــ أَبَى اللَّهُ للشُّمِّ الألاَءِ كَأَنَّهُمْ
سُيُوفٌ أَجَادَ الْقَيْنُ يَوْماً صِقَالَهَا(1/72)
ومثالُ ما بني منها على الضمّ: ذاتُ بمعنى التي، وذلك في لُغة بعض طيىء، وحكى الفرَّاء أنه سمع بعض السُّؤَّال يقول في المسجد الجامع: «بالفضل ذو فَضَّلكم الله بِهْ والكَرَامَةِ ذاتُ أكرمكم الله بَهْ» بضم ذات مع أنها صفة للكرامة، أي: أسألكم بالفضل، وقوله: «بَهْ» بفتح الباء، وأصله «بِهَا» فَحُذِفَت الألفُ، ونقلت فتحة الهاء إلى الباء بعد تقدير سَلْببِ كسرتها.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ذان وتان واللّذان واللّتان معربات إلحاقاً بالمثنى
ثم استثنيت من أسماء الإشارة والأسماء الموصولة ذَيْننِ وتَيْننِ واللذَيْننِ واللتَيْننِ؛ فذكرت أنهما كالمثنى، وأعني بذلك أنهما معربان: بالألف رفعاً، وبالياء المفتوح ما قبلها جراً ونصباً، كما أن الزَّيْدَيْننِ والرَّجُلَيْننِ كذلك، وفهم من قولي «كالمثنى» أنهما ليسا مثنيين حقيقة، وهو كذلك؛ وذلك لأنه لا يجوز أن يثني من المعارف إلا ما يقبل التنكير كزيدٍ وعمرو، ألا ترى أنهما لما اعتُقِدَ فيهما الشياعُ والتنكيرُ جازت تثنيتهما، ولهذا قلت: «الزيدان، والعَمْران» فأدخلْتَ عليهما حرفَ التعريف، ولو كانا باقيين على تعريف العلمية لم يجز دخول حرف التعريف عليهما، وذا والذي لا يقبلان التنكير؛ لأن تعريف ذا بالإشارة، وتعريف «الذي» بالصِّلَةِ، وهما ملازمان لذا والذي؛ فَدَلَّ ذلك على أن ذَيْننِ واللَّذَيْننِ ونحوهما أسماء تثنية، بمنزلة قولك: هما وأنما، وليسا بتثنية حقيقية، ولهذا لم يصح في ذين أن تدخل عليها أل كما لا يصح ذلك في هما وأنتما.
فإن قلت: فهلا استثنيت من الموصولات «أيَّا» أيضاً فإنها معرفة إلا إذا أضيفت وكان صَدْرُ صلتها ضميراً محذوفاً؟
قلت: قد علم مما قدمْتُ أن «أيّا» مبنية في هذه الحالة، معربة فيما عداها؛ فلم أحتج إلى إعادته.(1/73)
ومثالُ المبني من أسماء الشرط والاستفهام على السكون: مَنْ، وما، ومثالُ المبني منهما على الفتح: أينَ وأيَّانَ، وليس فيهما ما بني على كسرٍ ولا ضمَ فأذكره.
فإن قلت: فإن من أسماء الشرط «حَيْثُمَا» وهي مبنية على الضم.
قلت: المبني على الضم حيْثُ، واسم الشرط إنما هو حيثما، فما اتصلت بحيث وصارت جزءاً منها؛ بالضم في حَشْو الكلمة، لا في آخرها.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
اسم الشّرط «أيّ» معرب في الشّرط والاستفهام
واستثنيت من أسماء الشرط وأسماء الاستفهام «أيا»؛ فإنها معربة فيهما مطلقاً بإجماع، مثالُ الاستفهامية في الرفع: قوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا (النَّمل: الآية 38) }{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَناً (التّوبَة: الآية 124) } ومثالُها في النصب: {فَأَىَّ ءايَتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ (غَافر: الآية 81) }{وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (الشُّعَرَاء: الآية 227) } فأيكم فيهما مبتدأ، وأيَّ من قوله: {فَأَىَّ ءايَتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ (غَافر: الآية 81) } مفعول به لتنكرون، وأي من قوله تعالى: {أَىَّ مُنقَلَبٍ (الشُّعَرَاء: الآية 227) } مفعول مطلق لينقلبون، وليست مفعولاً به لسيعلم؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، ومثالها في الخفض: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيّكُمُ}، وأي في هذه الآية مخفوضة لفظاً مرفوعة محلاً؛ لأنها مبتدأ، والباء زائدة، والأصل أيُّكم المفتونُ، والجملة نصب بتبصر أو يبصرون؛ لأنهما تَنَازَعَاهَا، وهما مُعَلَّقَاننِ عن العمل بالاستفهام، وفي الآية مباحث أخر.(1/74)
ومثالُ الظرف المبني على السكون: «إذْ» وهو ظرف لِمَا مضى من الزمان، ويُضَافُ لكل من الجملتين، نحو: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ (الأنفَال: الآية 26) }{وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً (الأعرَاف: الآية 86) } ({وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ (الزّخرُف: الآية 39) }) وتأتي ظرفاً لما يستقبل نحو: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاْغْلَلُ فِى أَعْنَقِهِمْ}، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا } (الزّلزَلة: الآية 4) بعد قوله سبحانه وتعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ (الزّلزَلة: الآية 1) }، وتأتي للتعليل، نحو: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ (الكهف: الآية 16) } أي: ولأجل اعتزالكم إياهم، والاستثناء في الآية متصل إن كان هؤلاء القوم يعبدون الله وغيره، ومنقطع إن كانوا يَخْصُّون غيرَ الله سبحانه بالعبادة، وكذلك البحث في قوله تعالى: وتأتي للمفاجأة كقوله: (البسيط)
60 ـــ اسْتَقْدِرِ اللَّهَ خَيْراً وَارْضَيَنَّ بِهِ
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
فَبَيْنَمَا العُسْرُ إِذْ دَارَتْ مَيَاسِيرُ
ومثالُ المبنيِّ منها على الفتح: «الآنَ» وهو اسمٌ لزمننٍ حَضَر جميعهُ أو بعضُه؛ فالأول نحو قوله تعالى: {الئَنَ جِئْتَ بِالْحَقّ (البَقَرَة: الآية 71) } وفي هذه الآية حذفُ الصفةِ، أي: بالحق الواضح، ولولا أن المعنى على هذا لكفروا لمفهوم هذه المقالة، والثاني نحوُ قوله تعالى: {فَمَن يَسْتَمِعِ الاْنَ (الجنّ: الآية 9) }، وقد تُعْرَب، كقوله: (الطّويل)
61 ـــ لِسَلْمَى بِذَاتتِ الْخَاللِ دَارٌ عَرَفْتُهَا
وَأُخْرَى بِذَاتتِ الجِزْععِ آياتُهَا سَطْرُ
كأنَّهُمَا مِلآْننِ لَمْ يَتَغَيَّرَا
وَقَدْ مَرَّ لِلدَّارَيْننِ مِنْ بَعْدِنَا عَصْرُ(1/75)
أصله «كأنهما من الآن» فحذف نون «مِنْ»؛ لالتقائها ساكنة مع لام «الآن» ولم يحركها لالتقاء الساكنين كما هو الغالب، وأعرب «الآن» فحفضه بالكسرة.
ومثالُ ما بني منها على الكسر: «أمْسِ» وقد مضى شرحه، وإنما ذكرتُه هناك لشبهه بمسألة حَذَاممِ في اختلاف الحجازيين والتميميين فيه، وإنما (كان) حقه أن يذكر هنا خاصة؛ لأنه كلمة بعينها، وليس فرداً داخلاً تحت قاعدة كلميّة.
ومثالُ ما بني منها على الضمّ: «حَيْثُ» وهو ظرفُ مكان يضاف للجملتين، وربما أضيف لمفرد، كقوله: (الرّجز)
62 ـــ أَمَا تَرَى حَيْثُ سُهَيْللٍ طَالِعَا
وقد يفتح، وقد يكسر، وبعضهم يعربُهُ، وقرىء: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (الأعرَاف: الآية 182) } بالكسر، فيحتمل الإعْرابَ والبناء.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
النّكرة والمعرفة
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الاسم نكرة ومعرفة
ثم قلت: بابٌ ـــ الاسْمُ نَكِرةٌ وَهُوَ: مَا يَقْبَلُ رُب.
وأقول: ينقسم الاسم ـــ بحسب التنكير والتعريف ـــ إلى قسمين: نكرة، وهو الأصل، ولهذا قَدَّمته، ومَعْرِفَةٍ، وهو الفرع، ولهذا أخَّرته.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
علامة النّكرة
وعلامة النكرة: أن تقبل دخول «رُبَّ» عليها، نحو رجل وغلام، تقول: «رُبَّ رَجُلٍ» و «رُبَّ غُلاَمٍ» وبهذا اسْتُدِلَّ على أن «مَنْ» و «ما» قد يَقَعَاننِ نكرتين، كقوله: (الرّمل)
63 ـــ رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً قَلْبَهُ
قَدْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لم يُطَعْ
وقوله: (الخفيف)
64 ـــ لاَ تَضِيقَنَّ بالأمور فَقَدْ تُكْشَفُ غَمِّاؤُهَا بِغَيْرِ احْتِيَالِ
رُبَّمَا تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الأمْرِ لَهُ فَرْجَةٌ كَحلِّ العِقَالِ
فدخلت «رُبَّ» عليهما، ولا تدخل إلا على النكرات، فعلم أن المعنى رُبَّ شَخْصصٍ أنضجت قلبه غيظاً، ورُبَّ شيء من الأمور تكرهه النفوس.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
دخول «رُبّ» على الضَّمير(1/76)
فإن قلت: فإنّك تقول: «رُبَّهُ رجلاً»، وقال الشاعر: (الخفيف)
65 ـــ رُبَّهُ فِتْيَةً دَعَوْتُ إِلَى مَا
يُورِثُ المَجْدَ دَائباً فأَجَابُوا
والضمير معرفة، وقد دخلت عليه ربَّ؛ فبَطَلَ القولُ بأنها لا تدخل إلا على النكرات.
قلت: لا نسلم أن الضمير فيما أوردته معرفة، بل هو نكرة: وذلك لأن الضمير في المثال والبيت راجع إلى ما بعده: من قولك «رَجُلاً» وقول الشاعر «فتيةً»، وهما نكرتان.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
خلافهم في الضمير الراجع إلى نكرة
وقد اختلف النحويون في الضّمير الراجع إلى النكرة: هل هو نكرة أو معرفة؟ على مذاهب ثلاثة، أحدها: أنه نكرة مطلقاً، والثاني: أنه معرفة مطلقاً، والثالث: أن النكرة التي يرجع إليها ذلك الضمير إما أن تكون واجِبَةَ التنكير أو جائزته، فإذا كانت واجبة التنكير كما في المثال والبيت فالضمير نكرة، وإن كانت جائزته؛ كما في قولك: «جاءني رجل فأكرمته» فالضمير معرفة، وإنما كانت النكرة في المثال والبيت واجِبَةَ التنكير لأنها تمييز، والتمييز لا يكون إلا نكرة، وإنما كانت في قولك: «جاءني رجل فأكرمته» جائزة التنكير لأنها فاعل، والفاعل لا يجب أن يكون نكرة، بل يجوز أن يكون نكرة وأن يكون معرفة، تقول: «جاءني رجل» و «جاءني زَيْدٌ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أنواع المعرفة
ثم قلت: ومَعْرِفَةٌ، وهِيَ سِتَّةٌ، أحَدُهَا: المُضْمَرُ، وهُوَ: ما دَلَّ على مُتَكلِّممٍ أو مُخَاطَببٍ أو غَائِببٍ.
وأقول: أنواع المعارففِ ستَّةٌ:
أحدها: المضمر، ويسمى «الضّمير»، ويُسَمِّيه الكوفيون: الكناية، والمَكْنِيِّ، وإنما بدأت به لأنه أعْرَفُ الأنواع الستة على الصحيح.
وهو عبارة: عما دل على متكلم نحو أنا ونحنُ، أو مُخَاطَببٍ نحو أنْتَ وأنْتُمَا، أو غائب نحو هُوَ وهُمَا.(1/77)
وإنما سمى مُضْمَراً من قولهم: «أضْمَرْتُ الشيء» إذا سَتَرْتَه وأخْفَيْتَهُ، ومنه قولهم: «أضْمَرْتُ الشيء في نفسي» أو من الضُّمُور وهو الْهُزَالُ؛ لأنه في الغالب قليل الحروففِ، ثم تلك الحروف الموضوعة له غالبها مَهْمُوسة ـــ وهي التاء والكاف والهاء ـــ والهمس: هو الصَّوْتُ الخَفِيُّ.
فإن قلت: يَرِدُ على الحدّ الذي ذكرتَهُ للمضمر الكافُ من «ذلكَ» فإنها دالَّةٌ على المخاطب، وليست ضميراً باتفاق البصريين، وإنما هي حرفٌ لا محلَّ له من الإعراب.
قلت: لا نسلم أنها دالة على المخاطَببِ، وإنما هي دالَّةٌ على الخطاب؛ فهي حرف دال على معنًى، ولا دلالة له على الذات ألبتة، وكذلك أيضاً الياء في «إياي» والكاف في «إياك» والهاء في «إياه» ليست مُضْمَرَاتتٍ، وإنما هي ـــ على الصحيح ـــ حروفٌ دالة على مجرد التكلّم والخطاب والغيبة، والدال على المتكلم والمخاطب والغائب إنما هو «إيا» ولكنه لما وضع مشتركاً بينها وأرادوا بيانَ من عَنَوْا به احتاج إلى قرينةٍ به تُبَيّنُ المعنى المرادَ منه.
ثم أتبعت قولي: «غائب» بأن قلت:
مَعْلُوممٍ؛ نَحْوُ: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ (يُوسُف: الآية 2) }، أَوْ مُتَقَدِّم مُطْلَقاً، نحوُ: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَهُ (يس: الآية 39) } أَوْ لفظاً لا رُتْبَةً؛ نحوُ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرهِيمَ رَبُّهُ (البَقَرَة: الآية 124) } أَوْ نِيةً؛ نَحْوُ: {فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى } (طه: الآية 67) ، أَوْ مُؤخَّرٍ مُطْلَقاً؛ في نحو: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } (الإخلاص: الآية 1) {وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا (الجَاثيَة: الآية 24) }، و «نِعْمَ رَجُلاً زَيْدٌ» و «رُبَّهُ رَجُلاً» و «قَامَا وَقَعَدَ أَخَوَاكَ» و «ضَرَبْتُهُ زَيْدا»، ونحو قوله:
جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِممٍ
والأصحُّ أن هذا ضرورةٌ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب(1/78)
احتياج الضمير إلى مفسّر يبيّن المراد منه
وأقول: لا بد للضمير من مُفَسِّر يُبَيِّنُ ما يراد به، فإن كان لمتكلّم أو مخاطب؛ فمفسّره حُضُورُ مَنْ هُوَ له، وإن كان لغائب فمفسّره نوعان: لفظٌ، وغيره، والثاني نحو: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ (يُوسُف: الآية 2) } أي: القرآن؛ وفي ذلك شهادة له بالنَّباهة، وأنه غنيٌّ عن التّفسير، والأوّل نوعان: غالبٌ، وغيره؛ فالغالبُ: أن يكون متقدّماً، وتقدّمُهُ على ثلاثة أنواع: تقدُّم في اللّفظ والتّقدير، وإليه الإشارة، بقولي: «مُطْلَقاً» وذلك نحو: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَهُ مَنَازِلَ (يس: الآية 39) } والمعنى قدرنا له منازل، فحذف الخافض، أو التّقدير: ذا منازل، فحذف المضاف، وانتصابُ «ذا» إمَّا على الحال، أو على أنّه مفعول ثاننٍ لتضمين (قدرناه) معنى صَيَّرْنَاهُ؛ وتَقَدُّممٍ في اللفظ دون التّقدير، نحو: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرهِيمَ رَبُّهُ (البَقَرَة: الآية 124) }، وتقدم في التقدير دون اللفظ، نحو: {فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى } (طه: الآية 67) لأنَّ «إبراهيم» مفعول؛ فهو في نية التأخير، و «موسى» فاعل؛ فهو في نية التَّقديم، وقيل: إن فاعل «أوجس»: ضمير مستتر، وإن «موسى» بدل منه؛ فلا دليل في الآية.
والنّوع الثّاني: أن يكون مؤخّراً في اللفظ والرتبة، وهو محصور في سبعة أبواب:
أحدها: بابُ ضمير الشّأن، نحو: «هُوَ ـــ أو هِيَ ـــ زَيْدٌ قَائِمٌ» أي: الشأنُ، والحديثُ، أو القِصَّةُ، فإنه مُفَسَّرٌ بالجملة بعده؛ فإنها نفسُ الحديثثِ والقصة؛ ومنه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } (الإخلاص: الآية 1) {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَرُ (الحَجّ: الآية 46) }.
والثاني: أن يكون مُخْبَراً عنه بمفسِّره؛ نحو: {مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا (الجَاثيَة: الآية 24) } أي: ما الحياة إلاّ حياتنا الدّنيا.(1/79)
والثالث: الضمير في باب «نِعْمَ» نحو: «نِعْمَ رَجُلاً زَيْدٌ» و {بِئْسَ لِلظَّلِمِينَ بَدَلاً (الكهف: الآية 50) } فإنه مُفَسَّر بالتّمييز.
والرابع: مجرور «رُبَّ»؛ نحو: «رُبَّهُ رَجُلاً» فإنَّه مفسَّر بالتمييز قطعاً.
والخامس: الضّمير في باب التنازع إذا أعملتَ الثانيَ واحتاج الأوّلُ إلى مرفوع، نحو: «قَامَا وقَعَدَ أخَوَاكَ» فإن الألف راجعة إلى الأخوين.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
والسادس: الضمير المُبْدَلُ منه ما بعده، كقولك في ابتداء الكلامِّ «ضَرَبْتُهُ زَيْداً»، وقول بعضهم: «اللهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ الرَّؤُوف الرَّحِيمِ».
والسابع: الضميرُ المتّصلُ بالفاعل المقدَّممِ، العائِدُ على المفعول المؤخرِ، وهو ضرورة على الأصحّ، كقوله: (الطّويل)
66 ـــ جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِممٍ
جَزَاءَ الْكلاَببِ الْعَاوِيَاتتِ وَقَدْ فَعَلْ
فأعيد الضمير من «رَبُّهُ» إلى «عديَ» وهو متأخّر لفظاً ورتبةً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
العلم ونوعاه
ثم قلت: الثَّاني: الْعَلَمُ، وهُوَ شَخْصِيٌّ: إنْ عَيَّنَ مُسَمَّاهُ مُطْلَقاً كَزَيْدٍ، وَجِنْسِيٌّ: إنْ دَلَّ بِذَاتِهِ على ذِي المَاهِيَّةِ تَارَةً، وعلى الْحَاضِرِ أُخْرَى كأسَامَةَ.
ومِنَ الْعَلَممِ: الكُنْيَةُ، واللَّقَبُ؛ ويُؤَخّر عَنْ الاِسممِ تابعاً له مُطْلَقاً، أوْ مَخْفُوضاً بإضافته إنْ أفْردَا.
وأقول: الثاني من أنواع المعارف: العلمُ، وهو نوعان: علم شخصصٍ، وعلم جنس.
فعلمُ الشّخص عبارة عن «اسم يُعَيِّنُ مُسَمَّاه تعييناً مطلقاً» أي: بغير قَيْدٍ.(1/80)
فقولنا: «اسم» جنس يشمل المعارفَ والنكرات، وقولُنا: «يعيّن مسماه» فَصْلٌ مخرج للنّكرات؛ لأنّها لا تعيّن مسمّاها، بخلاف المعارف؛ فإنّها كلّها تعيّن مسمّاها، أعْنِي أنّها تُبيِّن حقيقته، وتجعله كأنه مُشَاهَدٌ حاضرٌ للعِياننِ، وقولنا: «بغير قيد» مخرج لما عدا العلم من المعارف؛ فإنّها إنّما تعيّن مُسَمَّاها بقَيْدٍ، كقولك: «الرَّجُل»؛ فإنه يعيّن مسمّاه بقيد الألف واللاّم، وكقولك: «غُلاَمي»؛ فإنّه يعيّن مسمّاه بقيد الإضافة؛ بخلاف الْعَلَممِ؛ فإنه يعيّن مسماه بغير قيد؛ ولذلك، لا يختلف التعبيرُ عن الشّخص المسمَّى زيداً بحضورٍ، ولا غيبةٍ، بخلاف التّعبير عنه بأنت وهو، وعبّرتُ في المقدّمة عن الاسم بقولي: «إن عَيَّنَ مسمّاه» وعن نفي القيد بقولي: «مطلقاً»: قصداً للاختصار.-
وعَلَمُ الجنس عبارةٌ عمّا دَلَّ إلى آخره؛ وبيان ذلك؛ أنَّ قولك: «أسامةُ أشْجَعُ من ثُعَالَة» في قوة قولك: «الأسدُ أشْجَعُ من الثَّعْلَبِ» والألفُ واللاَّمُ في هذا المثال لتعريف الجنس، وأنَّ قولك: «هذا أسامَةُ مُقْبِلاً»؛ في قوة قولك: «هذا الأسدُ مُقْبِلاً» والألف واللاَّم في ذلك؛ لتعريف الحضور، واحترزت بقولي: «بذاته»، من الأسد والثّعلب في المثال المذكور؛ فإنهما لم يَدُلاَّ على ذي الماهيّة بذاتهما، بل بدخول الألف واللام.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
علم الشَّخص وأقسامه(1/81)
ثم بيَّنت أنّ العلم ينقسمُ إلى اسم، كما تقدَّم من التّمثيل بزيدٍ وأسامة، وإلى لقببٍ؛ وهو: ما أشعر برفعة؛ كَزَيْننِ العابدين، أو بضَعَة؛ كقُفّة وبطّة، وإلى كنية؛ وهو ما بديء بأب أو أمّ، كأبي بكر، وأمِّ عمرو، وأنَّه إذا اجتمع الاسمُ واللَّقبُ وجب تأخير اللّقب، ثم إن كانا مفردين، جازت إضافة الأوّل إلى الثاني، وجاز إتباعُ الثّاني للأوّل في إعرابه وذلك كـ«سعيد كُرْز». وإن كانا مضافين كـ«عبد الله زين العابدين»، أو متخالفين كـ«زيد زين العابدين» وكـ«عبد الله كرز»؛ تعَيَّنَ الإتباعُ، وامتنعت الإضافة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
اسم الإشارة وما لحق به
ثم قلت: الثَّالِثُ: الإشارَةُ، وهُوَ (ما دَلَّ على مُسَمًّى، وإشارةٍ إليهِ، كَـ (: «ذَا»، و «ذَانِ»: في التَّذْكِير، و «ذِي» و «تي» (و «تا») و«تَانِ» في التأنيث و «أُلاَءِ» فيهما.
وتَلْحَقهُنَّ في الْبُعْدِ كَافُ خِطَاب حَرْفِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ مِنَ اللاَّممِ مُطْلَقاً؛ أو مقْرُونة بها إلاَّ في المُثَنَّى، وفي الجمع في لُغَة مَنْ مَدَّهُ، وهِيَ الفُصْحَى، وفيما سَبَقَتْهُ ها التنبيه.
وأقول: الثَّالث من أنواع المعارف: الإشارة؛ وهو: ما دلّ على مسمى وإشارة إلى ذلك المسمَّى، تقول ـ مشيراً إلى زيد مثلاً ـــ : «هذا»، فتدل لفظة «ذا» على ذات زيد، وعلى الإشارة لتلك الذّات، وقولي: «وهو» بالتَّذكير، بعد قولي: «الإشارة» إنَّما صحّ على وجهين؛ أحدهما: أن «ما» من قولي: «ما دلّ على مُسمَّى» لفظه التّذكير فلمَّا كان الضَّمير؛ هو نفس «ما» سَرَى إليه التذكير منه، والثاني: أن تقدّر قولي: «الإشارة» على حذف مضاف، والتّقدير: اسم الإشارة؛ فالضمير من قولي: «وهو» راجع إلى الاسم المحذوف.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام أسماء الإشارة(1/82)
وتنقسم أسماء الإشارة بحسب مَنْ هي له ستة أقسام باعتبار التّقسيم العقلي، وخمسة باعتبار الواقع، وبيان الأول: أنّها إما لمفردٍ، أو مثنى، أو مجموع؛ وكلّ منها إمّا لمذكّر، أو مؤنث، وبيان الثّاني أنَّهم جعلوا عبارة الجمع مُشْتَركة بين المذكَّرِينَ والمؤنَّثات.
فللمفرد المذكّر «هذَا».
وللمفردة المؤنّثة «هذِهِ» و «هاتِي» و «هاتَا».
ولتثنية المذكَّرَيْننِ «هذَانِ» رفعاً، و «هذَيْنِ» جراً ونصباً.
ولتثنية المؤنّثتين «هاتَانِ» رفعاً، و «هاتَيْنِ» جراً ونصباً.
ولجمع المذكَّر والمؤنث: «هؤلاء»: بالمدّ في لغة الحجازيّين؛ وبها جاء القرآن وبالقصر في لغة بني تميم.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
«ها» ليست من اسم الإشارة
وليست «ها» من جملة اسم الإشارة، وإنّما هي حرف جيء به لتنبيه المخاطب على المشار إليه؛ بدليل سقوطه منها؛ جوازاً في قولك: «ذَا»، و«ذَاكَ» ووجوباً في قولك: «ذلك»، ولا الكافُ اسمٌ مضمرٌ مثلها في «غُلاَمِكَ» لأن ذلك يقتضي أن تكون مخفوضة بالإضافة، وذلك ممتنع؛ لأنّ أسماء الإشارة لا تضاف لأنّها ملازمة للتّعريف؛ وإنّما هي حرفٌ، لمجرد الخطاب، لا موضع له من الإعراب، وتلحق اسمَ الإشارة إذا كان للبعيد، وأنت في اللاّم قبله بالخيار؛ تقول: «ذاك»، أو «ذلك».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
وجوب ترك اللاَّم
ويجب تركُ اللاَّم في ثلاث مسائل:
إحداها: إشارة المُثَنَّى؛ نحو: «ذَانِكَ» و«تَانِكَ».
والثّانية: إشارة الجمع في لغة مَنْ مَدَّهُ؛ تقول: «أولئِكَ» بالمدّ من غير لام فإن قَصَرْتَ قلت: «أُولاَكَ» أو «أُولاَلِكَ».
والثالثة: كلّ اسممِ إشارةٍ تقدَّم عليه حرفُ التّنبيه، نحو: «هَذَاك» و «هَاتَاك» و «هَاتِيكَ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الاسم الموصول(1/83)
ثم قلت: الرَّابِعُ: المَوْصُولُ، وهُوَ: ما افْتَقَرَ إلى الْوَصْللِ، بِجُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ أوْ ظَرْففٍ، أوْ مَجْرُور تَامَّيْننِ، أوْ وَصْففٍ صَرِيححٍ، وإلى عَائِدٍ أوْ خَلَفِه.
وأقول: الرّابعُ من أنواع المعارف: الموصولُ؛ وهو عبارة عمّا يحتاج إلى أمرين:
أحدهما: الصِّلَةُ، وهي واحد من أربعة أمور؛ أحدها: الجملة، وشرطُها: أن تكون خبرية؛ أي: محتملَةً للصّدق والكذب؛ تقول: «جَاءَنِي الَّذِي قَامَ» و «الَّذِي أبُوهُ قَائِم»؛ ولا يجوز: «جَاءَ الذِي هَلْ قَامَ»، أو «الذِي لاَ تَضْرِبْهُ»، والثّاني: الظّرف، والثّالث: الجار والمجرور؛ وشَرْطُهما: أن يكونا تَامَّيْننِ؛ وقد اجتمعا في قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّموَاتتِ وَالأَرْضضِ ومَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ}، واحترَزْتُ بالتَّامين من الناقصين؛ وهما اللَّذان لا تتمّ بهما الفائدة؛ فلا يقال: «جاء الذي اليوم» ولا «جاء الذِي بِكَ»، والرّابع: الوَصْفُ الصّريح، أي: الْخَالِصُ من غَلَبة الاِسْمِيَّة؛ وهذا يكون صلة للألف واللاَّم خاصَّةً، نحو: «الضارب»، و «المضروب»؛ كما سيأتي.
والأمر الثاني: الضَّميرُ العائدُ من الصّلة إلى الموصول، نحو: «جاء الذي قام أبوه»؛ وشَرْطُه: أن يكون مطابقاً للموصول في الإفراد، والتّذكير، وفروعهما، وقد يَخْلُفه الظَّاهرُ، كقوله: (الطّويل)
67 ـــ سُعَادُ الّتي أضْنَاكَ حُبُّ سُعَادَا
وَإِعْرَاضُهَا عَنْكَ اسْتَمَرَّ وَزَادَا(1/84)
وحَمَلَ عليه الزَّمخشريُّ قولَ الله تعالى: وذلك لأنه قَدَّرَ الجملة الاسمية ـــ وهي (الذين) وما بعده ـــ معطوفة على الجملة الفعلية ـــ وهي (خلق) وما بعده ـــ على معنى أنه سبحانه خلق ما لا يَقْدِر عليه سواه. ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء، ولولا أن التقدير ثم الذين كفروا به يعدلون، كما أن التقدير سعاد التي أضناك حبها للزم فساد هذا الإعراب؛ لخلو الصلة من ضمير. وهذا في الآية الكريمة خير منه في البيت؛ لأن الاسمَ الظاهرَ النائبَ عن الضمير في البيت بلفظ الاسم الموصوف بالموصول. وهو سعاد، فحصلَ التكرار، وهو في الآية بمعناه لا بلفظه، وأجاز في الجملة وجهاً آخر، وبدأ به، وهو أن تكون معطوفة على (الحمدُ لله) والمعنى أنه سبحانه حقيق بالحمد على ما خلق؛ لأنه ما خلقه إلا نعمة، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فيكفرون نعمته.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ألفاظ الموصول ستة أقسام
ثم قلت: وهُوَ «الَّذِي» و «الَّتِي» وتَثْنِيَتُهُمَا، وجَمْعُهُمَا، و «الألى» و «الَّذِينَ» و «اللاَّتي» و «اللاَّئي» وما بِمَعْنَاهُنَّ، وهُوَ «مَنْ» لِلْعَالِم، و «مَا» لِغَيْرِهِ، و «ذُو» عِنْدَ طَيِّىءٍ، و «ذَا» بَعْدَ مَا أَوْ مَنْ الاِسْتِفْهَامِيَّتَيْننِ إنْ لَمْ تُلْغَ، و «أيٌّ» و «ألْ» في نحو: الضَّارِببِ والْمَضْرُوببِ.
وأقول: لما فَرَغْتُ من حَدِّ الموصول شَرَعْتُ في سَرْدِ المشهور من ألفاظه:
والحاصلُ أنها تنقسم إلى ستة أقسام؛ لأنها إما لمفرد، أو مثنى، أو مجموع. وكل من الثلاثة إما لمذكر، أو لمؤنث.(1/85)
فللمفرد المذكر «الذي» وتستعمل للعاقل وغيره؛ فالأولُ نحو: {وَالَّذِى جَآء بِالصّدْقِ (الزُّمَر: الآية 33) }. والثاني نحو: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ (الأنبيَاء: الآية 103) } ولك في يائه وجهان: الإثباتُ، والحذفُ؛ فعلى الإثباتتِ تكون إما خفيفة فتكون ساكنةً، وإما شديدة فتكون إما مكسورة، أو جارية بوجوهِ الإعراب، وعلى الحذف فيكون الحرف الذي قبلها إما مكسوراً كما كان قبل الحذف وإما ساكناً.
وللمفرد المؤنث «الَّتي» وتستعمل للعاقلة وغيرها؛ فالأول نحو: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا (المجَادلة: الآية 1) } و «قد» هنا للتوقع لأنها كانت تتوقع سماعَ شكواها وإنزالَ الوحي في شأنها، و «في» للسببية أو الظرفية، على حذف مضاف، أي: في شأنه، والثاني نحو: {سَيَقُولُ السُّفَهَآء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا (البَقَرَة: الآية 142) } أي: سيقولُ اليهود ما صَرَف المسلمين عن التَّوَجُّه إلى بيت المقدس، ولك في ياء «التي» من اللغات الخمس مَا لَكَ في ياء «الذي».
ولمثنّى المذكّر «اللَّذَانِ» رفعاً، و «اللَّذَيْنِ» جَرًّا ونصباً.
ولمثنّى المؤنَّث «اللَّتَانِ» رفعاً، و «اللَّتَيْنِ» جرًّا ونصباً.
ولك فيهنَّ تشديدُ النون، وحذفها، والأصلُ التخفيف والثبوت.
ولجمع المذكّر «الألى» بالقصر والمد، و «الَّذِينَ» بالياء مطلقاً، أو بالواو رفعاً.
ولجمع المؤنث «اللاَّئي» و «اللاَّتِي» بإثبات الياء وحذفها فيهما، وقد قرىء: {وَاللاَّئِى يَئِسْنَ (الطّلاق: الآية 4) } بالوجهين، ولم يُقْرَأ في السبعة: {وَاللَتِى يَأْتِينَ الْفَحِشَةَ (النِّساء: الآية 15) } إلا بالياء؛ لأنه أخف من «اللائي»؛ لكونه بغير همزة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الموصولات العامّة
ومن الموصولاتتِ موصولاتٌ عامَّةٌ في المفرد المذكَّرِ وفروعه، وهي:(1/86)
«مَنْ» وأصلُ وضعها لمن يعقل، نحو: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى (الرّعد: الآية 19) }.
و «مَا» لما لا يعقل، نحو: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ (النّحل: الآية 96) }.
و «ذُو» في لغة طيىء، يقولون: «جَاءَنِي ذُو قَامَ».
و «ذَا» بشرطين؛ أحدهما: أن يتقدَّمَ عليها «ما» الاستفهامية، نحو: {مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ (النّحل: الآية 24) } أي: ما الذي أنزل ربكم؟ أو «مَنْ» الاستفهامية، نحو: «مَنْ ذَا لَقِيتَ» وقوللِ الشاعر (الكامل).
68 ـــ وَقَصِيدَةٍ تأتِي الملوكَ غَرِيبَةٌ
قَدْ قُلْتُها ليُقَالَ: مَنْ ذا قالها؟
أي: مَننِ الذي قَالَهَا، وهذا الشرطُ خَالفَ فيه الكوفيون؛ فلم يشترطوه، واستدلوا بقوله:
69 ـــ نَجَوْتتِ وَهذا تَحْمِلِينَ طَلِقُ
فزعموا أنَّ التّقدير: والذي تحملينه طليق، فـ«ذا» موصول مبتدأ، و «تحملين» صِلَةٌ، والعائد محذوف، و «طليق» خبر.
الشرط الثاني: أن لا تكون «ذا» ملغاةً، وإلغاؤها بأن تُرَكَّبَ مع «ما» فيصير اسماً واحداً؛ فتقول: «ماذا صنعتَ» ويُنَزَّلُ «ماذا» بمنزلة قولك: أيَّ شيء؛ فتكون مفعولاً مُقدَّماً، فإن قدرت «ما» مبتدأ و «ذا» خبراً، فهي موصولة؛ لأنها لم تُلْغَ.
ومنها «أيٌّ» كقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ (مريَم: الآية 69) } أي: الذي هو أشد، وقد تقدم الكلام فيها.(1/87)
ومنها «أل» الداخلة على اسم الفاعل، كـ«الضَّارِبِ» أو اسم المفعول كـ«المضروب» هذا قولُ الفارسي وابن السرَّاج وأكثر المتأخرين، وزعم المازني أنها موصولٌ حرفيٌّ، ويرده أنها لا تؤول بالمصدر، وأن الضمير يعود عليها، وزعم أبو الحسن الأخفش أنها حرفُ تعريففٍ، ويرده أن هذا الوصفَ يمتنع تقديمُ معموله، ويجوز عطفُ الفعل عليه، كقوله تعالى: {فَالْمُغِيرَاتتِ صُبْحاً فأثَرْنَ} فعطف «أثرن» على «المغيرات» لأن التقدير: فاللاتي أغَرْنَ فأثَرْنَ، و (المغيرات) مُفْعلات من الغارة، و (صُبْحاً) ظرف زمان، كانوا يُغِيرُونَ على أعدائهم في الصباح؛ لأنهم حينئذٍ يصيبونهم وهم غافلون لا يعلمون، ويقال: إنها كانت سَرِيَّةً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى بني كِنانة، فأبطأ عليه خبرُها، فجاء به الوحيُ إليه، والنَّقْععِ: الغُبَار، أو الصّوت، من قوله صلى الله عليه وسلّم «ما لم يكن نَقْعٌ أو لَقْلَقَةٌ» أي: فهيجن بالمُغار عليهم صياحاً وجَلَبة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الخامس المحلّى بأل
ثم قلت: الخامِسُ: المُحَلَّى بأللِ الْعَهْدِيَّةِ كَجَاء الْقَاضِي، ونحوُ: {فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ (النُّور: الآية 35) } الآية، أَوِ الْجِنْسِيَّةِ نحوُ: {وَخُلِقَ الإِنسَنُ ضَعِيفاً (النِّساء: الآية 28) } ونحو: {ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ (البَقَرَة: الآية 2) } ونحو: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآء كُلَّ شَىْء حَىّ (الأنبيَاء: الآية 30) }.(1/88)
ويَجِبُ ثُبُوتُهَا في فاعِلَيْ نِعْمَ وَبِئْسَ الْمُظْهَرَيْننِ، نحو: {نِعْمَ الْعَبْدُ (ص: الآية 30) } و {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ (الجُمُعَة: الآية 5) } «فَنِعْمَ ابنُ أُخْتتِ الْقَوْمِ» فأمَّا الْمُضْمَرُ فَمُسْتَتِرٌ مُفَسَّرٌ بِتَمْييزٍ نحو: «نِعْم امْرَأً هَرِمٌ» ومِنْهُ: {فَنِعِمَّا هِىَ (البَقَرَة: الآية 271) } وفي نَعْتَي الإشَارَةِ مُطلَقاً وأي في النِّدَاءِ، نحوُ: {يأَيُّهَا الإِنسَنُ (الانفِطار: الآية 6) } ونحو: {مَا لِهَذَا الْكِتَبِ (الكهف: الآية 49) } وقَدْ يُقالُ: يا أيهذَا.
ويجبُ في السَّعَةِ حَذْفُهَا مِنَ الْمُنادَى، إلاَّ مِن اسْم اللَّهِ تعالى، والجملَةِ الْمُسَمَّى بِهَا، ومِنَ المُضَاففِ، إلاَّ إذَا كَانَتْ صِفةً مُعْرَبة بالحَرْففِ، أوْ مُضافَة إلى ما فِيهِ أل.
وأقول: الخامسُ من المعارف: المحلَّى بالألف واللاَّم العَهْدية، أو الجنسية.
وأشرت إلى أن كلاً منهما قسمان؛ لأن العهدية إما أن يشار بها إلى معهودٍ ذهني أو ذِكْرِيَ؛ فالأولُ كقولك: «جَاءَ القاضي» إذا كان بينك وبين مخاطبك عَهْدٌ في قاضضٍ خاص، والثاني كقوله تعالى: {فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ (النُّور: الآية 35) } الآية، فإن أل في المصباح وفي الزجاجة للعهد في مصباح وزجاجة المتقدم ذكرهما.(1/89)
وأل الجنسية قسمان؛ لأنها إما أن تكون استغراقية، أو مشاراً بها إلى نفس الحقيقة؛ فالأول كقوله تعالى: {وَخُلِقَ الإِنسَنُ ضَعِيفاً (النِّساء: الآية 28) } أي: كل فرد من أفراد الإنسان، ونحو: {ذلِكَ الْكِتَابُ (البَقَرَة: الآية 2) } أي: أن هذا الكتاب هو كل الكتب، إلا أن الاستغراق في الآية الأولى لأفراد الجنس، وفي الثانية لخصائص الجنس، كقولك: «زَيْدٌ الرَّجُلُ» أي الذي اجتمع فيه صفاتُ الرجاللِ المحمودةُ، والثاني نحوُ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآء كُلَّ شَىْء حَىّ (الأنبيَاء: الآية 30) } أي: من هذه الحقيقة، لا من كل شيء اسمهُ ماء.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
وقولي: «العهديَّة أو الجنسيَّة» خرج به المحلى بالألف واللاَّم الزائدتين؟ فإنها ليست لعهد ولا جنس، وذلك كقراءة بعضهم: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ (المنَافِقون: الآية 8) } بفتح ياء (ليخرجن) اسم وضم رائه، وذلك لأن الأذَلَّ على هذه القراءة حالٌ، والحال واجبة التنكير؛ فلهذا قلنا إن أل زائدة لا مُعَرِّفة، والتقدير: ليخرجن الأعز منها ذليلاً، ولك أن تقدر أن الأصل خروج الأذل، ثم حذف المضافُ وأقيم المضاف إليه مقامه، فانتصب على المصدر على سبيل النيابة، وحينئذ فلا يحتاج لدعوى الزيادة.
ثبوت أل وحذفها
ثم ذكَرت أن «أل» المعرفة يجب ثبوتها في مسألتين، ويجب حذفها في مسألتين:(1/90)
أما مسألتا الثبوتتِ فإحداهما: أن يكون الاسم فاعلاً ظاهراً والفعلُ «نِعْمَ» أو «بِئْسَ» كقوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ (ص: الآية 30) }{فَنِعْمَ الْقَدِرُونَ (المُرسَلات: الآية 23) }{فَنِعْمَ الْمَهِدُونَ (الذّاريَات: الآية 48) } و {بِئْسَ الشَّرَابُ (الكهف: الآية 29) }، وأشَرْتُ بالتمثيل بقوله تعالى: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ (الجُمُعَة: الآية 5) }، إلى أنه لا يشترط كون «أل» في نفس الاسم الذي وقع فاعلاً كما في: {نِعْمَ الْعَبْدُ (ص: الآية 30) }، بل يجوز كونُهَا فيه أو كونُهَا فيما أضيف هو إليه، نحو: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (النّحل: الآية 30) }{فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ (النّحل: الآية 29) }، {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ (الجُمُعَة: الآية 5) }.
ولو كان فاعل نعم وبئس مضمراً وجب فيه ثلاثة أمور؛ أحدها: أن يكون مفرداً لا مثنى ولا مجموعاً، مستتراً لا بارزاً، مُفَسراً بتمييز بعده، كقولك: نِعْمَ رَجُلاً زَيْدٌ، ونِعْمَ رَجُلَيْننِ الزَّيْدَاننِ، ونِعْمَ رِجَالاً الزَّيْدُونَ، وقول الشاعر: (البسيط)
70 ـــ نِعْمَ امْرَأً هَرِمٌ لَمْ تَعْرُ نَائِبَةٌ
إلاَّ وَكَانَ لِمُرْتَاععٍ بِهَا وَزَرَا
والثانية: أن يكون الاسمُ نعتاً، إما لاسم الإشارةِ نحو: {مَا لِهَذَا الْكِتَبِ (الكهف: الآية 49) }(21) {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ (الفُرقان: الآية 7) } وقولك: «مررتُ بهذا الرَّجُل» أو نعت «أيها» في النداء، نحو: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ}{يَأَيُّهَا الإِنْسَانُ}، ولكن قد تنعت «أيٌّ» باسم الإشارة كقولك «يَأَيُّهذَا»، والغالبُ حينئِذٍ أن تُنْعَتَ الإشارةُ كقوله: (الطّويل)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
71 ـــ أَلاَ أَيُّهذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى
وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذاتتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي؟
وقد لا تُنْعَتُ كقوله: (الرّمل)
72 ـــ أَيُّهذَاننِ كُلا زَادَيْكُمَا(1/91)
وأما مسألتا الحذففِ فإحداهما: أن يكون الاسمُ مُنادًى؛ فتقول في نداء الغلام والرجل والإنسان: يا غُلاَمُ، ويا رَجُلُ، ويا إنْسَانُ، ويُسْتَثْنَى من ذلك أمران؛ أحدهما: اسم الله تعالى؛ فيجوز أن تقول: يا ألله، فتجمع بين «يا» والألف واللام، ولك قَطْعُ ألف اسم الله تعالى وحَذْفُهَا، والثاني: الجملة المسمَّى بها؛ فلو سميت بقولك: «المنطلق زيد» ثم ناديته قلت: يا المنطلق زيد.
الثانية: أن يكون الاسم مضافاً، كقولك في الغلام والدار: غلامِي، وداري، ولا تقل: الغلامي، ولا الداري؛ فتجمَعَ بين أل والإضافة، ويُسْتَثْنَى من ذلك مسألتان؛ إحداهما: أن يكون المضاف صفةً مُعْربة بالحروف؛ فيجوز حينئذ اجتماع أل والإضافة، وذلك نحو: «الضارِبَا زَيْدٍ» و «الضارِبُو زَيْدٍ»، والثانية: أن يكون المضاف صفَةً والمضافُ إليه مَعْمُولاً لها وهو بالألف واللاَّم؛ فيجوز حينئذ أيضاً الجمع بين أل والإضافَةِ، وذلك نحو: «الضارِبُ الرَّجُلِ» و «الرَّاكِبُ الْفَرَسِ» وما عداهما لا يجوز فيه ذلك، خلافاً للفرَّاء في إجازة «الضارِبُ زَيْدٍ» ونحوه مما المضافُ فيه صفَةٌ والمضافُ إليه مَعْرِفَةٌ بغير الألف واللام، وللكوفيين كلهم في إجازة نحو: «الثلاَثَة الأثْوَاب» ونحوه مما المضافُ (فيه) عَدَدٌ والمضافُ إليه مَعْدُودٌ، وللرُّمَّانِيِّ والمبرِّدِ والزَّمَخْشَرِيِّ في قولهم (في) «الضّارِبي» و «الضّارِبِكَ» و «الضّارِبِهِ»: إن الضمير في موضع خفض بالإضافة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المضاف إلى معرفة
ثم قلت: السَّادِسُ: المُضَافُ لمَعْرِفَة، كـ«غُلاَمِي» و «غُلاَممِ زَيْدٍ».(1/92)
وأقول: هذا خاتمةُ المعارف، وهو المضافُ لمعرفةٍ، وهو في درجة ما أُضِيفَ إليه، فـ«غُلاَمُ زَيْدٍ» في رتبة العلم، و «غُلاَمُ هذَا» في رتبة الإشارة، و «غُلاَمُ الَّذِي جَاءَكَ» في رتبة الموصول، و «غُلاَمُ الْقَاضِي» في رتبة ذي الأداة، ولا يستثنى من ذلك إلا المضاف إلى المضمر كـ«غُلاَمي»؛ فإنه ليس في رتبة المضمر، بل هو في رتبة العلم، وهذا هو المذهبُ الصحيحُ، وزَعَمَ بعضُهم أن ما أُضِيفَ إلى معرفة فهو في رتبة ما تحت تلك المعرفة دائماً، وذهب آخَرُ إلى أنه في رتبتها مطلقاً، ولا يستثنى المضمر، والذي يدل على بطلان القوْللِ الثاني قوله: (الطّويل)
73 ـــ ... كَخُذْرُوف الْوَلِيدِ المُثَقَّببِ
فَوَصَفَ المضافَ للمعَرَّففِ بالأداة بالاسم المعرف بالأداة، والصِّفَةُ لا تكون أعْرَفَ من الموصوف، وعلى بطلان الثالث قولُهم: مررت بزَيْدٍ صَاحِبِكَ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
باب المرفوعات
ثم قلت: بَابٌ ـــ المَرْفُوعَاتُ عَشَرَةٌ؛ أحدها: الفَاعِلُ، وهُوَ: مَا قُدِّمَ الْفِعْلُ أوْ شِبْهُهُ عَلَيْهِ وَأُسْنِدَ إِلَيْهِ عَلَى جِهَةِ قِيَامِهِ بِهِ أوْ وُقُوعِهِ مِنْهُ كـ«عَلِمَ زَيْدٌ» و «مَاتَ بَكْرٌ» و «ضَرَبَ عَمْرٌو» و {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ (النّحل: الآية 69) }.m
وأقول: شَرَعْتُ من هنا في ذكر أنواع المعربات، وبدأت منها بالمرفوعات؛ لأنها أرْكَانُ الإسْنَادِ، وثَنَّيْتُ بالمنصوبات؛ لأنها فَضَلاَت غالباً، وختمت بالمجرورات؛ لأنها تابعة في الْعُمْدِيَّةِ والْفَضْلِيَّةِ لغيرها، وهو المضافُ؛ فإن كان عمدة فالمضاف إليه عمدة، كما في قولك: «قَامَ غُلاَمُ زَيْدٍ»، وإن كان فضلة فالمضاف إليه فضلة، كما في قولك: «رَأَيْتُ غُلاَمَ زَيْدٍ»، والتابع يتأخر عن المتبوع.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الفاعل ونائب الفاعل
الفاعل(1/93)
وبَدَأتُ من المرفوعات بالفاعل لأمرين؛ أحدهما: أن عامله لفظي، وهو الفعل أو شبهه، بخلاف المبتدأ؛ فإن عامله معنوي، وهو الابتداء، والعامل اللَّفظي أقوى من العامل المعنوي؛ بدليل أنه يزيل حكم العامل المعنوي، تقول في زيد قائم: «كَانَ زَيْدٌ قَائِماً» و «إِنَّ زَيْداً قَائِمٌ» و «ظَنَنْتُ زَيْداً قَائِماً» ولما بَيَّنتُ أنَّ عامل الفاعل أقوى كان الفاعلُ أقوى، والأقوى مُقَدَّم على الأضعف، الثاني: أن الرفع في الفاعل للفرق بينه وبين المفعول، وليس هو في المبتدأ كذلك، والأصْلُ في الإعراب أن يكون للفرق بين المعاني، فَقَدَّمْتُ ما هو الأصل.
والضمير في قولي: «وهو» للفاعل، وقولي: «ما قُدِّمَ الفعلُ أو شبْهُهُ عليه» مخرج لنحو: «زَيْدٌ قَامَ» و «زَيْدٌ قَائِمٌ» فإن زيداً أُسْنِدَ إليه الفعلُ وشبْهُهُ ولكنهما لم يُقَدَّما عليه، ولا بد من هذا القيد؛ لأنَّ به يتميز الفاعلُ من المبتدأ، وقولي: «أسند إليه» مخرج لنحو: «زيداً» في قولك: «ضَرَبْتَ زَيْداً» و «أنا ضاربٌ زَيْداً»؛ فإنه يصدق عليه فيهما أنه قُدِّم عليه فعلٌ أو شبههُ، ولكنهما لم يُسْنَدا إليه، وقولي: «على جهة قيامه به أو وقوعه منه» مخرج لمفعول ما لم يُسَمَّ فاعله، نحو: «ضُرِبَ زَيْدٌ» و «عَمْرٌو مَضْرُوبٌ غُلاَمُهُ» فزيد والغلام وإن صدق عليهما أنهما قدم عليهما فعل وشبهه وأسندا إليهما، لكن هذا الإسناد على جهة الوقوع عليهما، لا على جهة القيام به كما في قولك: عَلِمَ زَيدٌ، أو الوقوع منه كما في قولك: ضَرَبَ عَمْرٌو.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
فاعل الوصف(1/94)
ومثَّلتُ لما أسند إليه شبهُ الفعللِ بقوله تعالى: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ (النّحل: الآية 69) } فألوانه: فاعل لمختلف؛ لأنه اسم فاعل؛ فهو في معنى الفعل، والتقدير: وصنفٌ مختلفٌ ألوانُهُ، أي يختلف ألوانه، فحذف الموصوف وأنيبَ الوصفُ عن الفعل، وقوله تعالى: {كَذلِكَ (البَقَرَة: الآية 73) } أي: اختلافاً كالاختلاف المذكور في قوله تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْونُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (فَاطِر: الآية 27) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
نائب الفاعل
ثم قلت: الثَّاني: نائِبُهُ، وهو: ما حُذِفَ فاعِلُه، وأقِيمَ هُوَ مُقَامَهُ، وغُيِّرَ عامِلُه إلى طَرِيقَةِ فُعِلَ أوْ يُفْعَلُ أوْ مَفْعُوللٍ، وهو المفْعُولُ به، نحوُ: {وَقُضِىَ الامْرُ (البَقَرَة: الآية 210) } وإن فُقِدَ فالمَصْدَرُ نحو: {فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وحِدَةٌ } (الحَاقَّة: الآية 13) {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء (البَقَرَة: الآية 178) }، أو الظَّرْفُ نحو: «صِيمَ رَمَضَانُ» و «جُلِسَ أمامُكَ» أو المَجْرُورُ نحو: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (الفَاتِحَة: الآية 7) } وَمِنْهُ {لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ (الأنعَام: الآية 70) }.
وأقول: الثاني من المرفوعات: نائبُ الفاعل، وهو الذي يعبرون عنه بمفعول ما لم يُسَمَّ فاعله، والعبارة الأولى أولى لوجهين؛ أحدهما: أن النائب من الفاعل يكون مفعولاً وغيرهُ، كما سيأتي، والثاني: أن المنصوب في قولك: «أُعْطِيَ زَيْدٌ دِينَاراً» يَصْدُقُ عليه أنه مفعول للفعل الذي لم يُسَمَّ فاعله، وليس مقصوداً لهم، ومعنى قولي: «أقِيمَ هُوَ مُقَامَهُ» أنه أقيم مقامه في إسناد الفعل إليه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
تغيير صيغة الفعل عند الإسناد إلى نائب الفاعل(1/95)
ولما فَرَغتُ من حَدِّهِ شرعت في بيان ما يُعْمَل بعد حذف الفاعل: فذكرت أن الفعل يجب تغييره إلى فُعِل أو يُفْعَلُ، ولا أريد بذلك هذين الوزنين؛ فإن ذلك لا يتأتّى إلا في الفعل الثلاثي، وإنما أريد أن يُضَمُّ أوَّلهُ مطلقاً، ويكسر ما قبل آخره في الماضي، ويفتح في المضارع، ثم بَعْدَ ذلك يُقَامُ المفعولُ به مُقَامَ الفاعل؛ فيعطي أحكامه كلها؛ فيصير مرفوعاً بعد أن كان منصوباً، وعُمْدَة بعد أن كان فَضْلَة، وواجِبَ التأخيرِ عن الفعل بعد أن كان جائزَ التقديم عليه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ما ينوب عن الفاعل
والمفعولُ به عند المحققين مُقَدَّمُ في النيابة على غيره وُجُوباً؛ لأنه قد يكون فاعلاً في المعنى كقولك: «أعْطَيْتُ زَيْداً دِينَاراً» ألا ترى أنه آخذ؟ وأوْضَحُ من هذا «ضارَبَ زَيْدٌ عَمْراً» لأن الفعل صَادِرٌ من زيد وعمرو؛ فقد اشتركا في إيجاد الفعل، حتى إن بعضهم جَوَّزَ في هذا المفعول أن يُرْفَع وَصْفُهُ فيقول: «ضَارَبَ زَيْدٌ عَمْراً الْجَاهِلُ» لأنه نعت المرفوع في المعنى.
ومثَّلت لنيابته عن الفاعِللِ بقوله تعالى: {وَقُضِىَ الامْرُ (البَقَرَة: الآية 210) } وأصله قَضَى الله الأمْرَ؛ فَحُذِفَ الفاعل للعلم به، ورُفِعَ المفعولُ به، وغُيِّرَ الفعلُ بضم أوّله وكسر ما قبل آخره، فانقلبت الألف ياء.
فإن لم يكن في الكلام مفعولٌ به أقيم غيرُه: من مصدرٍ، أو ظرففِ زماننٍ، أو مكاننٍ، أو مجرورٍ.(1/96)
فالمصدر كقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وحِدَةٌ } (الحَاقَّة: الآية 13) وقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء (البَقَرَة: الآية 178) } وكون «نفخة» مصدراً واضح، وأما «شيء» فلأنه كناية عن المصدر، وهو العَفْو، والتقدير ـــ والله أعلم ـــ فأي شخص من القاتل عُفِيَ له عَفْوٌ ما من جهة أخيه، والأخ هنا محتمل لوجهين؛ أحدهما: أن يكون المراد به المقتول فـ«مِنْ» للسببية، أي بسببه، وإنما جعل أخاً تعطيفاً عليه وتنفيراً عن قَتْلِهِ؛ لأن الخلقَ كلهم مُشتركون في أنهم عَبِيدُ لله؛ فهم كالإخوة في ذلك، ولأنهم أولاد أببٍ واحِدٍ وأم واحدة؛ والثاني: أن المراد به وليُّ الدَّممِ، وسمي أخاً ترغيباً له في العَفْوِ، و «مِنْ» على هذا لابتداء الغاية، وهذا الوجْهُ أحسن لوجهين؛ أحدهما: أن كَوْنَ «مِنْ» لابتداء الغاية أشْهَرُ من كونها للسببية، والثاني: أن الضمير في قوله تعالى: {وَأَدَآء إِلَيْهِ (البَقَرَة: الآية 178) } راجعٌ إلى مذكور في هذا الوجه دون الأول.
وظرفُ الزمان، كقولك: «صِيمَ رَمَضانُ» وأصله صامَ النَّاسُ رمضانَ.
وظرفُ المكان، كقولك: «جُلِسَ أمامُكَ» والدليلُ على أن الأمام من الظروف المتصرفة التي يجوز رفْعُهَا قولُ الشاعر: (الكامل)
74 ـــ فَغَدَتْ كِلاَ الفَرْجَيْننِ تَحْسبُ أَنَّهُ
مَوْلَى المَخَافَةِ خَلْفُهَا وَأَمَامُهَا
فموضِعُ «كِلاَ» رفعٌ بالابتداء، و «خلفُهَا» بدل منه، و «أمامُها» عطف عليه، والجملة التي هي «تحسب» وما بعدها في موضع رفع خبر المبتدأ، والعائد على المبتدأ الهاء المتصلة بأنَّ، وإنما يصف الشاعر بقرةَ وَحْششٍ بالتبلّدِ، وأنها لا تدري على أي شيء تُقْدِمُ، ولا بُدَّ من تقدير واوِ حاللٍ قبل «كلا» فكأنه قال: فغدت هذه الوحشية وكلا النقرتين اللَّتين هما خلفها وأمامها تحسب أنه مولى المخافة، أي: المكان الذي تُؤْتَى فيه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب(1/97)
والمجرور، كقوله تعالى: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ (الأنعَام: الآية 70) } فـ(يؤخذ) فعل مضارع مبني لما لم يُسَم فاعله، وهو خاللٍ من ضمير مستتر فيه، و (منها) جار ومجرور في موضع رفع، أي: لا يكن أخْذٌ منها، ولو قدر ما هو المتبادر من أن في (يؤخذ) ضميراً مستتراً هو القائم مَقَامَ الفاعل، و (منها) في موضع نصب، لم يستقم؛ لأن (ذلك) الضمير عائد حينئذ على (كل عدل) و «كل عدل» حَدَث، والأحداث لا تؤخذ، وإنما تؤخذ الذوات، نعم إن قدر أن (لا يؤخذ) بمعنى لا يقبل صَحَّ ذلك.
وفُهِمَ من قولي: «فإن فُقِدَ فالمصدر ـــ إلى آخره» أنه لا يجوز إقامةُ غيرِ المفعول به مع وجود المفعول به، وهو مذهبُ البصريين إلا الأخْفَشَ، واسْتَدَلَّ المخالفون بنحو قول الشاعر: (الرَّجز)
75 ـــ أُتِيحَ لِي مِن الْعِدَا نَذِيرَا
بِهِ وُقِيتُ الشّرَّ مُسْتَطِيرَا
بقراءة أبي جعفر: {لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (الجَاثيَة: الآية 14) } فَأُقِيمَ فيهما الجار والمجرور، وتُرِكَ المفعول به منصوباً.(1/98)
ثم قلت: وَلاَ يُحْذَفَاننِ، بَلْ يَسْتَتِرَاننِ، وَيُحْذَفُ عَامِلُهُمَا: جَوَازاً، نحو: «زَيْدٌ» لِمَنْ قال: «مَنْ قَامَ» أو «مَنْ ضُرِبَ» ووُجُوباً، نحو: {إِذَا السَّمَآء انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الاْرْضُ مُدَّتْ } وَلاَ يَكُونَاننِ جُمْلَةً؛ فنحو: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ (إبراهيم: الآية 45) } على إضْمَارِ التَّبَيُّننِ، ونحو: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ (الجَاثيَة: الآية 32) } على الإسْنَادِ إلى اللَّفْظِ، ويُؤَنَّثُ فِعْلُهُمَا لِتَأْنِيثِهِمَا: وُجُوباً في نحو: «الشَّمْسُ طَلَعَتْ» و «قَامَتْ هِنْدٌ» أوِ «الهِنْدَانِ» أوِ «الهِنْدَاتُ» وجوازاً: رَاجِحاً في نحو: «طَلَعَتتِ الشَّمْسُ» ومِنْهُ «قَامَتتِ الرِّجَالُ أو «النِّسَاءُ» أوِ «الهُنُودُ» و «حَضَرَتتِ الْقَاضِيَ امْرَأةٌ» ومِثْلُ قَامَتتِ النِّسَاءُ «نِعْمَتتِ الْمَرْأةُ هِنْدٌ» ومَرْجُوحاً في نحو: «مَا قَامَ إِلاَّ هِنْدٌ» وقِيلَ: ضَرُورَةٌ، وَلاَ تَلْحَقُهُ عَلاَمَةُ تَثْنِيَةٍ وَلاَ جَمْععٍ، وشَذَّ نَحْوُ: «أكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أحكام الفاعل ونائب الفاعل
وأقول: ذكَرْتُ هنا خمسة أحكام يشترك فيها الفاعلُ والنائبُ عنه:(1/99)
الحكم الأول: أنهما لا يُحْذَفَان، وذلك لأنهما عُمْدَتَاننِ، ومُنَزَّلاَننِ من فعلهما منزلة الجزء؛ فإن ورد ما ظاهره أنهما فيه محذوفان فليس محمولاً على ذلك الظاهر، وإنما هو محمول على أنهما ضميران مستتران؛ فمن ذلك قولُ النبي صلى الله عليه وسلّم «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»؛ ففاعل «يشرب» ليس ضميراً عائداً إلى ما تقدم ذكره ـــ وهو الزاني ـــ لأن ذلك خلافُ المقصودِ، ولا الأصل «ولا يشرب الشاربُ» فحذف الشارب؛ لأن الفاعل عمدة فلا يحذف، وإنما هو ضميرٌ مستترٌ في الفعل عائدٌ على الشارب الذي استلزمه «يشرب» (فإن «يشرب» يستلزم الشارب) وحَسَّنَ ذلك تَقَدُّمُ نَظِيرِهِ ـــ وهو «لاَ يَزْنِي الزَّاني» ـــ وعلى ذلك فَقِسْ، وتَلَطّفْ لكل موضع بما يناسبه، وعن الكسائي إجازة حذففِ الفاعل، وتابَعَه على ذلك السُّهَيْلِيُّ وابن مَضَاء.
الثاني: أن عاملهما قد يُحْذَف لقرينة، وأنَّ حذفه على قسمين: جائز، وواجب.
فالجائز كقولك: «زَيْدٌ» جواباً لمن قال لك: «مَنْ قَامَ؟» أو «مَنْ شُرِبَ؟» فزيد في جواب الأول فاعلُ فعللٍ محذوففٍ، وفي جواب الثاني نائبٌ عن فاعللِ فعللٍ محذوففٍ، وإن شئتَ صَرَّحْتَ بالفعلين فقلت: «قَامَ زَيْدٌ» و «شُرِبَ عَمُرٌو».
والواجبُ ضابطُه: أن يتأخر عنه فعلٌ مُفَسِّر له، وقد اجتمع المثالان في الآية الكريمة فـ(السَّماء) فاعل بـ(انْشَقَّتْ) محذوفَةً، كالسماء في قوله تعالى: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآء (الرَّحمن: الآية 37) } إلا أن الفعل هنا مذكور، و «الأرضُ» نائب عن فاعل «مُدَّتْ» محذوفَةً، وكلٌّ من الفعلين يفسره الفعلُ المذكور، فلا يجوز أن يتلفظ به؛ لأن المذكور عِوَضٌ عن المحذوف، وهم لا يجمعون بين العِوَضضِ والمُعَوَّضضِ عنه.(1/100)
الحكم الثالث: أنهما لا يكونان جملة، هذا هو المذهب الصحيح، وزعم قوم أن ذلك جائز، واستدلوا بقوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَتِ لَيَسْجُنُنَّهُ (يُوسُف: الآية 35) }، {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ (إبراهيم: الآية 45) }، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارْضِ (البَقَرَة: الآية 11) } فجعلوا جملة (ليسجننه) فاعلاً لـ(بَدَا) وجملة (كيف فعلنا بهم) فاعلاً لـ(تبين) وجملة (لا تفسدوا في الأرض) قائمة مقام فاعل (قيل)، ولا حجة لهم في ذلك. أما الآية الأولى فالفاعل فيها ضمير مستتر عائد إمَّا على مَصْدَرِ الفعللِ، والتقدير: ثمَّ بَدَا لهم بَدَاءٌ، كما تقول: «بَدَا لِي رَأيٌ» ويؤيد ذلك أن إسناد «بَدَا» إلى البَداءِ قد جاء مُصَرَّحاً به في قول الشاعر: (الطّويل)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
76 ـــ لَعَلَّكَ وَالمَوْعُودُ حَقٌّ لِقَاؤُهُ
بَدَا لَكَ فِي تِلْكَ الْقَلُوصصِ بَدَاءُ
وإما على السَّجْن ـــ بفتح السين ـــ المفهوم من قوله تعالى: {لَيَسْجُنُنَّهُ (يُوسُف: الآية 35) } ويدلُّ عليه قوله تعالى: {قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ (يُوسُف: الآية 33) } وكذلك القولُ في الآية الثانية؛ أي: وتبين هو، أي التبيُّنُ، وجملة الاستفهام مفسّرة، وأما الآية الثالثة فليس الإسناد فيها من الإسناد المعنوي الذي هو محلُّ الخلاف، وإنما هو (من) الإسناد اللفظي، أي: وإذا قيل لهم هذا اللَّفظُ، والإسنادُ اللفظيُّ جائزٌ في جميع الألفاظ، كقول العرب: «زَعَمُوا مَطِيَّةُ الْكَذِبِ» وفي الحديث: «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ».
الحكم الرابع: أن عاملهما يُؤَنَّثُ إذا كانا مؤنثين، وذلك على ثلاثة أقسام: تأنيث واجب، وتأنيث راجح، وتأنيث مرجوح.
فأما التأنيث الواجب ففيه مسألتين:(1/101)
إحداهما: أن يكون الفاعل المؤنث ضميراً متّصلاً. ولا فَرْقَ في ذلك بين حقيقيِّ التأنيث ومَجَازِيِّهِ؛ فالحقيقيُّ نحو: «هِنْدٌ قَامَتْ» فهند: مبتدأ، وقام: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر في الفعل، والتقدير: قامت هي، والتاء علامة التأنيث، وهي واجبة لما ذكرناه، والمَجَازيُّ نحو: «الشَّمْسُ طَلَعَتْ» وإعرابه ظاهر، ولمَّا مَثَّلْتُ به في المقدمة للتأنيث الواجب عُلم أن وجوب التأنيث مع الحقيقيِّ من باب أوْلى، بخلاف ما لو عكست، فأما قول الشاعر: (الكامل)
77 ـــ إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالمُرُوءةَ ضُمِّنَا
قَبْراً بِمَرْوَ عَلَى الطَّرِيققِ الْوَاضِححِ
ولم يقل: «ضُمِّنَتَا» فضرورة.
الثانية: أن يكون الفاعلُ اسماً ظاهراً متصلاً حقيقيِّ التأنيث: مفرداً، أو تثنية له، أو جمعاً بالألف والتاء؛ فالمفرد كقوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرنَ (آل عِمرَان: الآية 35) } والمثنى كقولك: قامت الهندان، والجمعُ كقولك: قَامَتتِ الهندات؛ فأما قوله: (الطويل)
78 ـــ تَمَنَّى ابْنَتَايَ أَنْ يَعِيشَ أَبُوهُمَا
وَهَلْ أَنَا إِلاَّ مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ؟
فضرورة إن قُدِّر الفعلُ ماضياً، وأما إن قُدِّرَ مضارعاً ـــ وأصْلُهُ تَتَمَنَّى فحذفت إحدى التاءين كما قال تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى } (الليْل: الآية 14) ـــ فلا ضرورة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
وأما قوله تعالى: {إِذَا جَآءكَ الْمُؤْمِنَتُ (المُمتَحنَة: الآية 12) }، فإنما جاز لأجل الفَصْل بالمفعول، أو لأن الفاعل في الحقيقة «أل» الموصولة، وهي اسْمُ جَمْععٍ؛ فكأنه قيل: اللاَّتي آمَنَّ، أو لأن الفاعل اسْمُ جَمْععٍ محذوفٌ موصوفٌ بالمؤمنات: أي النِّسْوَة التي آمَنَّ.
وأما التأنيثُ الراجحُ ففي مسألتين أيضاً:(1/102)
إحداهما: أن يكون الفاعل ظاهراً متصلاً مجازيَّ التأنيثثِ، كقولك: طَلَعَتتِ الشَّمْسُ، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ (الأنفَال: الآية 35) }{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ مَكْرِهِمْ (النَّمل: الآية 51) }{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } (القِيَامَة: الآية 9) .
الثانية: أن يكون ظاهراً حقيقيَّ التأنيثثِ مُنْفَصِلاً بغير «إلا» كقولك: قَامَ اليَوْمَ هِنْدٌ، وقَامَتتِ اليَوْمَ هِنْدٌ، وكقوله: (البسيط)
79 ـــ إِنَّ امْرَأَ غَرَّهُ مِنْكُنَّ وَاحِدَةٌ
بَعْدِي وَبَعْدَككِ فِي الدُّنْيَا لَمَغْرُورُ
والمبرد يخص ذلك بالشعر.
ومن النوع الأول: أعني المؤنثَ الظَّاهرَ المجازيَّ التأنيثثِ ـــ أن يكون الفاعلُ جمعَ تكسير، أو اسمَ جمععٍ؛ تقول: قامت الزيود، وقامَ الزيود، وقامت النساء، وقامَ النساء، قال الله تعالى: {قَالَتِ الاْعْرَابُ (الحُجرَات: الآية 14) }{وَقَالَ نِسْوَةٌ (يُوسُف: الآية 30) } وكذلك اسمُ الجنسسِ، كـ«أَوْرَقَ الشَّجَرُ» و «أوْرَقَتتِ الشَّجَرُ»؛ فالتأنيثُ في ذلك كله على معنى الجماعة، والتذكير على معنى الجنع، وليس لك أن تقول: التأنيث في النِّساءِ والهنُودِ حقيقي؛ لأن الحقيقي هو الذي له فَرْج، والفَرْج لآحاد الجمع، لا للجمع، وأنت إنما أسندت الفعل إلى الجمع لا إلى الآحاد.
ومن هذا الباب أيضاً قولُهم: نِعْمَتتِ المرأةُ هِنْدٌ، ونِعْمَ المرأةُ هِنْدٌ؛ فالتأنيثُ على مقتضى الظاهر، والتذكير (على معنى الجنس)؛ لأن المراد بالمرأة الجنس، لا واحدة معينة، مَدَحُوا الجنس عموماً، ثم خَصُّوا مَنْ أرادوا مَدْحَهُ، وكذلك «بئس» بالنسبة إلى الذم، كقولك: بِئْسَ المَرْأَةُ حَمَّالَةُ الْحَطَببِ، وَبِئْسَتتِ المَرْأَةُ (هِنْدُ).(1/103)
وأما التأنيثُ المرجوحُ ففي مسألة واحدة، وهي أن يكون الفاعل مفصولاً بإلاّ، كقولك: ما قام إلا هِنْدٌ؛ فالتذكيرُ هنا أرْجَحُ باعتبار المعنى؛ لأن التقدير: «ما قام أحَدٌ إلا هِنْدٌ» فالفاعل في الحقيقة مُذَكَّر، ويجوز التأنيث باعتبار ظاهر اللفظ، كقوله: (الرَّجز)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
80 ـــ مَا بَرِئَتْ مِنْ رِيبَةٍ وَذَمِّ
فِي حَرْبِنَا إِلاَّ بَنَاتُ الْعَمِّ
والدَّليلُ على جوازه في النثر قراءةُ بعضهم: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وحِدَةً (يس: الآية 29) } برفع (صَيْحَة) وقراءةُ جماعة من السلف: {فَأَصْبَحُوا لاَ تُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} ببناء الفعل لما لم يُسَمَّ فاعلُه، وبِجَعْللِ حرف المضارعة التاء المثناةَ من فوقُ.
وزعم الأخفشُ أن التأنيث لا يجوز إلا في الشعر، وهو محجوج بما ذكرنا.
الحكم الخامس: أن عاملهما لا تلحقه علامةُ تثنيةٍ ولا جمع، في الأمر الغالب، بل تقول: قام أخَوَاكَ، وقام إخْوَتُكَ، وقام نِسْوَتُكَ، كما تقول: قام أخوك، ومن العرب مَنْ يُلْحِق علاماتتٍ دالَّة على ذلك، كما يُلْحِق الجميعُ علامةً دالَّةً على التأنيث، كقوله: (الطويل)
81 ـــ تَوَلَّى قِتَالَ المَارِقِينَ بِنَفْسِهِ
وَقَدْ أَسْلَمَاهُ مُبْعَدٌ وَحَمِيمُ
وقوله صلى الله عليه وسلّم «يَتَعَاقَبُونَ فيكم مَلاَئِكَةٌ باللَّيْللِ ومَلاَئِكَةٌ بالنَّهَارِ» وقول بعض العرب: «أكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ» وقول الشاعر: (مجزوء الكامل)
82 ـــ نَتَجَ الرَّبِيعُ مَحَاسِناً
ألْقَحْنَهَا غُرُّ السَّحَائِبُ وقول الآخر: (الطّويل)
83 ـــ رَأَيْنَ الغَوَانِي الشَّيْبَ لاَحَ بِعَارِضِي
فَأَعْرَضْنَ عَنِّي بِالْخُدُودِ النَّوَاضِرِ(1/104)
وقد حُمِلَ على هذه اللغة آياتٌ من التنزيل العظيم منها قوله سبحانه: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ (الأنبيَاء: الآية 3) } وَالأجْوَدُ تخريجُها على غير ذلك، وأحْسَنُ الوُجُوه فيها إعرابُ (الَّذِينَ ظَلَمُوا) مبتدأ، و (أسرُّوا النَّجْوَى) خبراً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الثالث المبتدأ
ثم قلت: الثَّالِثُ: المُبْتَدَأُ، وهو: المُجَرَّدُ عَننِ العَوَامِللِ اللَّفْظِيَّةِ: مُخْبَراً عَنْهُ، أو وَصْفاً رَافِعاً لِمُكْتَفًى بِهِ؛ فالأوَّلُ: كـ«زَيْدٌ قَائِمٌ» و {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ (البَقَرَة: الآية 184) } و {هَلْ مِنْ خَلِقٍ غَيْرُ اللَّهِ (فَاطِر: الآية 3) } والثَّاني: شَرْطُهُ نَفْيٌ أو اسْتِفْهامٌ، نحو: «أَقَائِمٌ الزَّيْدَانِ» و «مَا مَضْرُوبٌ العَمْرَان».h
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المبتدأ نوعان
وأقول: الثَّالثُ من المرفوعات: المبتدأ، وهو نوعان: مبتدأ له خبر، وهو الغالب، ومبتدأ ليس له خبر، لكن له مرفوع يُغْنِي عن الخبر.
ويشترك النوعان في أمرين؛ أحدهما: أنَّهما مُجَرَّدَاننِ عن العوامل اللَّفظية، والثاني: أن لهما عاملاً معنويًّا ـــ وهو الابتداء ـــ ونعني به كَوْنَهُمَا على هذه الصورة من التجرد للإسناد.
ويفترقان في أمرين؛ أحدهما: أن المبتدأ الذي له خبر يكون اسماً صريحاً، نحو: «اللَّهُ رَبُّنَا» و «مُحَمَّدٌ نَبِيُّنَا» وَمُؤَوَّلاً بالاسم، نحو: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ (البَقَرَة: الآية 184) }، أي: وصِيَامُكُم خيرٌ لكم، ومثله قولهم: «تَسْمَعَ بِالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ»، ولذلك قلت «المجرد» ولم أقل الاسم المجرد.
ولا يكون المبتدأ المستغني عن الخبر في تأويل الاسم البتة، بل ولا كل اسم، بل (يكون) اسماً هو صفة، نحو: «أقَائِمٌ الزَّيْدَانِ» و «مَا مَضْرُوبٌ العَمْرَانِ».(1/105)
والثاني: أن المبتدأ الذي له خبر لا يحتاج إلى شيء يعتمد عليه، والمبتدأ المستغني عن الخبر لا بد أن يعتمد على نفي أو استفهام كما مَثَّلْنَا، وكقوله: (الطّويل)
84 ـــ خَلِيلَيَّ مَا وَاففٍ بِعَهْدِي أَنْتُمَا
إِذَا لَمْ تَكُونَا لِي عَلَى مَنْ أُقَاطِعُ
وقوله: (البسيط)
85 ـــ أَقَاطِنُ قَوْمُ سَلْمَى أَمْ نَوَوْا ظَعَناً
إِنْ يَظْعَنُوا فَعَجِيبٌ عَيْشُ مَنْ قَطَنَا
وقولي: «رافعاً لمكتفي به» أعَمُّ من أن يكون ذلك المرفوع اسماً ظاهراً، كـ«قوم سلمى» في البيت الثاني، أو ضميراً منفصلاً، كـ«أنتما» في البيت الأول، وفيه رَدٌّ على الكوفيين والزمخشري وابن الحاجب؛ إذ أوجبوا أن يكون المرفوع ظاهراً، وأوجبوا في قوله تعالى: {أَرَاغِبٌ أَنتَ (مريَم: الآية 46) } أن يكون محمولاً على التقديم والتأخير، وذلك لا يمكنهم في البيت (الأول) إذ لا يخبر عن المثنى بالمفرد، وأعَمُّ من أن يكون ذلك المرفوعُ فاعلاً كما في البيتين، أو نائباً عن الفاعل كما في قولك: «أمَضْرُوبٌ الزيدان».
وخرج عن قولي: «مُكْتَفًى به» نحو: «أقَائِمٌ أبَوَاهُ زَيْدٌ» فليس لك أن تعرب أقائِمٌ مبتدأ، وأبَوَاهُ فاعلاً أغنى عن الخبر؛ لأنه لا يتم به الكلامُ، بل زيد: مبتدأ (مؤخر) وقائم: خبر مقدم، وأبواه: فاعل به.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط الابتداء بالنكرة
ثم قلت: وَلاَ يُبْتَدَأُ بِنَكِرَةٍ إِلاَّ إنْ عَمَّتْ نحو: «مَا رَجُلٌ في الدَّارِ» أو خَصَّتْ نحو: «رَجُلٌ صَالِحٌ جَاءَنِي» وعَلَيْهِمَا {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ (البَقَرَة: الآية 221) }.
وأقول: الأصلُ في المبتدأ أن يكون معرفةً، ولا يكون نكرةً إلا في مواضع خاصة تتبعها بعضُ المتأخرين، وأنهاها إلى نَيِّففٍ وثلاثين، وزعم بعضهم أنها ترجع إلى الخصوص والعموم.(1/106)
فمن أمثلَةِ الخصوص أن تكون مَوْصوفَةً: إما بصفة مذكورة، نحو: {وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ (البَقَرَة: الآية 221) }{وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ (البَقَرَة: الآية 221) } أو بصفة مُقَدَّرة، كقولهم: السَّمْنُ مَنَوَاننِ بدرهم؛ فالسَّمن: مبتدأ أوَّلُ، ومَنَواننِ: مبتدأ ثان، وبدرهم: خبره، والمبتدأ الثاني وخبرهُ خبرُ المبتدأ الأول، والمسوِّغ للابتداء بمَنَوَاننِ أنَّه موصوف بصفة مقدَّرة؛ أي: مَنَوَان منه.
ومنها: أن تكون مُصَغَّرَةً، نحو: رُجَيْلٌ جاءني؛ لأنَّ التَّصغير وَصْفٌ في المعنى بالصّغر؛ فكأنك قلت: رجل صغير جاءني.
ومنها: أن تكون مضافة، كقوله صلى الله عليه وسلّم «خَمْسُ صَلَواتتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ».
ومنها: أن يتعلق بها معمولٌ، كقوله صلى الله عليه وسلّم «أمْرٌ بمَعْرُوففٍ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ» فأمر ونهي: مبتدآن نكرتان، وسَوَّغ الابتداء بهما ما تعلق بهما من الجار والمجرور، وكقولك: أفْضَلُ منك جاءني.
ومن أمثلة العموم: أن يكون المبتدأ نفسه صيغة عموممٍ، نحو: {كُلٌّ لَّهُ قَنِتُونَ (البَقَرَة: الآية 116) } و «مَنْ يَقُمْ أَقُمْ مَعَهُ»، و «مَنْ جَاءَكَ أَجِيء مَعَهُ»، أو يقع في سياق النَّفي؛ نحو: «مَا رَجُلٌ فِي الدَّارِ».
وعلى هذه الأمثلة قِسْ ما أشبهها.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الرّابع خبر المبتدأ
ثم قلت: الرَّابِعُ؛ خَبَرُهُ، وهو: مَا تَحْصُلُ بِهِ الْفَائِدَةُ مَعَ مُبْتَدَإِ غَيْرِ الْوَصْففِ المَذْكُور.
وأقول: الرّابع من المرفوعات؛ خبرُ المبتدأ؛ وقولي: «مع مبتدأ» فَصْلٌ أوّل مُخْرج لفاعل الفعل، وقولي: «غير الوصف المذكور» فصلٌ ثاننٍ مُخْرج لفاعل الوصف في نحو: «أقائم الزيدان» و «ما قائم الزيدان» والمراد بالوصف المذكور ما تقدّم ذكرهُ في حَدِّ المبتدأ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب(1/107)
لا يكون الخبر زماناً والمبتدأ اسم ذات
ثم قلت: وَلاَ يَكُونُ زَمَاناً والمُبْتَدَأَ اسْمُ ذَاتتٍ؛ ونحو: «اللَّيْلَةَ الهِلاَلُ» مُتَأَوَّلٌ.
وأقول: لمّا بَيَّنْتُ في حَدِّ المبتدأ ما لا يكون مبتدأ ـــ وهو النَّكرة التي ليست عامة ولا خاصّة ـــ بينت بعد حدِّ الخبر، ما لا يكون خبراً في بعض الأحيان؛ وذلك: اسمُ الزَّماننِ؛ فإنه لا يقع خبراً عن أسماء الذوات، وإنما يخبر به عن أسماء الأحْداثثِ؛ تقول: الصَّوْمُ الْيَوْمَ، والسَّفَرُ غَداً، ولا تقول: «زيد اليوم» ولا «عمرو غداً» فأما قولهم: «اللَّيْلَةَ الهِلاَلُ» ـــ بنصب الليلة على أنّها ظرف مخبر به عن الهلال مُقَدَّم عليه ـــ فمؤوّل، وتأويلُه على أن أصله: اللَّيْلَةَ رؤيةُ الهلاللِ، والرّؤية حَدَثٌ لا ذاتٌ، ثم حُذِفَ المضافُ، وهو الرؤية، وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ، ومثله قولهم في المثل: «اليَوْمَ خَمْرٌ، وغَداً أَمْرٌ» التقدير: اليَوْمَ شُرْبُ خَمْرٍ، وغَداً حُدُوثُ أمْرٍ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الخامس اسم كان وأخواتها
ثم قلت: الخامس: اسْمُ كَانَ وأَخَوَاتِهَا، وهِيَ: أَمْسَى، وأَصْبَحَ، وأَضْحَى، وظَلَّ، وبَاتَ، وصَارَ، وَلَيْسَ ـــ مُطْلَقاً، وتَالِيَةً لِنَفْيٍ أوْ شِبْهِهِ: زَالَ ـــ مَاضِي يَزَالُ ـــ وبَرِحَ، وفَتِيءَ، وانْفَكَّ، وصِلَةً لِمَا الْوَقْتِيَةِ: دَامَ؛ نحو: {مَا دُمْتُ حَيّاً (مريَم: الآية 31) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
عمل كان وأخواتها
وأقول: الخامسُ من المرفوعات: اسمُ كان وأخواتها الاثْنَتَيْ عشرَةَ المذكورة، فإنَّهن يدخلن على المبتدأ والخبر؛ فيرفَعْنَ المبتدأ، ويسمَّى اسمهن حقيقة، وفاعلهن مجازاً، وينصبن الخبر، ويسمَّى خبرهن حقيقة، ومفعولهن مجازاً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام أخوات كان من حيث شروط العمل
ثم هُنَّ في ذلك على ثلاثة أقسام:(1/108)
(أ) ما يعمل هذا العمل بلا شرط، وهي ثمانية: كان وليس وما بينهما.
(ب) وما يشترط أن يتقدم عليه نَفْيٌ أو شبهه، وهو النّهي والدعاء، وهي أربعة: زَالَ، وبَرِحَ، وفَتِىءَ، وانْفَكَّ، نحو: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (هُود: الآية 118) }، {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَكِفِينَ (طه: الآية 91) }؛ وتقول: «لا تَزَلْ ذَاكِرَ اللَّهِ» و «لا بَرِحَ رَبْعُكَ مَأنُوساً» و «لاَ زَالَ جَنَابُكَ مَحْرُوساً» ويشترط في «زال» شرطٌ آخَرُ، وهو أن يكون ماضي يزَالُ؛ فإنَّ ماضي يَزُول فعلٌ تامٌّ قاصر بمعنى الذَّهاب والانتقال؛ نحو: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ (فَاطِر: الآية 41) }، و «إن» الأولى في الآية شرطيّة، والثّانية نافية، وماضي يَزِيلُ فعلٌ تامّ مُتَعَدَ بمعنى مَازَ يَمِيزُ، يقال: زَالَ زَيْدٌ ضَأْنَهُ من مَعْزِ فلان، أي: مَيَّزَه منه.
(ج) وما يشترط أن يتقدم عليه «ما» المصدريَّة النَّائبة عن ظرف الزَّمان؛ وهو «دام» وإلى ذلك أشَرْتُ بالتّمثيل بالآية الكريمة، كقوله سبحانه وتعالى: {وَأَوْصَانِى بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (مريَم: الآية 31) }؛ أي: مُدَّةَ دَوَامِي حَيًّا؛ فلو قلت: «دَامَ زَيْدٌ صَحِيحاً»، كان قولك «صحيحاً» حالاً لا خبراً، وكذلك: «عجبت مِنْ مَا دَامَ زَيْدٌ صَحِيحاً»؛ لأنَّ ما هذه مصدريّة لا ظرفيّة، والمعنى: عجبت من دوامه صحيحاً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حالات حذف كان
ثم قلت: ويَجِبُ حَذْفُ «كَانَ» وَحْدَهَا بَعْدَ «أمَّا» في نحو: «أمَّا أَنْتَ ذَا نَفَرٍ»، ويجوزُ حَذْفُهَا مَعَ اسْمِهَا بَعْدَ «إِنْ وَلَوِ» الشَّرْطِيَّتَيْننِ، وَحَذْفُ نُوننِ مُضَارِعِهَا الْمَجْزُوممِ إِلاَّ قَبْلَ سَاكِننٍ أَوْ مُضْمَرٍ مُتَّصِل.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط وجوب حذف كان وحدها(1/109)
وأقول: هذه ثلاث مسائل مُهِمَّة تتعلَّق بكان بالنَّظر إلى الحذف:
إحداها: حَذْفُهَا وُجُوباً دون اسمها وخبرها، وذلك مشروط بخمسة أمور؛ أحدها: أن تقع صلةً لأنْ، والثاني: أن يدخل على أنْ حرفُ التعليللِ، الثالث: أن تتقدم العلة على المعلول، الرابع: أن يُحذف الجار، الخامس: أن يؤتى بما؛ كقولهم: «أمَّا أنْتَ مُنْطَلِقاً انْطَلَقْتُ» وأصل هذا الكلام: انْطَلَقْتُ لأن كنتَ منطلقاً، أي: انطلقت لأجل انطلاقك، ثم دَخَل هذا الكلامَ تغييرٌ من وُجُوهٍ: أحدها: تقديمُ العلّة ـــ وهي «لأن كنت منطلقاً» ـــ على المعلول ـــ وهي «انطلقت» ـــ وفائدة ذلك الدّلالةُ على الاختصاص، والثّانى: حذفُ لام العلة، وفائدة ذلك الاختصار، والثّالث: حذفُ كان، وفائدته أيضاً الاختصار، والرّابع: انفصال الضمير، وذلك لازمٌ عن حذف كان، والخامس: وجوبُ زيادة «ما»؛ وذلك لإرادة التعويض، والسّادس: إدغام النّون في الميم، وذلك لتقارب الحرفين مع سكون الأوّل وكونهما في كلمتين.
ومن شواهد هذه المسألة قولُ العبّاس بن مرداس ـ رضي الله عنه ـــ : (البسيط)
86 ـــ أَبَا خُرَاشَةَ أَمَّا أَنْتَ ذَا نَفَرٍ
فَإِنَّ قَوْمِيَ لَمْ تَأْكُلْهُمُ الضَّبُعُ
«أبا» منادى بتقدير: يا أبا، و «خُرَاشَة» بضمّ الخاء المعجمة، و «أمّا أنت ذا نفر»؛ أصله: لأن كنت ذا نفر، فعمل فيه ما ذكرناه، والذي يتعلّق به اللام محذوف؛ أي: لأن كنت ذا نفر افْتَخَرْتَ عَلَيَّ؛ والمراد بالضَّبُع: السَّنَةُ المُجْدِبة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حذف كان مع اسمها(1/110)
المسألة الثانية: حذف «كان» مع اسمها وإبقاء خبرها، وذلك جائز لا واجب، وشَرْطهُ: أن يتقدمها «إنْ» أو «لو» الشرطيتان؛ فالأوّلُ كقوله صلى الله عليه وسلّم «النَّاسُ مَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ إنْ خَيْراً فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ» فتقديره: إنْ كان عملُهم خيراً؛ فجزاؤهم خير، وإنْ كان عملُهم شَرًّا؛ فجزاؤهم شَرٌّ، وهذا أرجح الأوجه في مثل هذا التّركيب، وفيه وُجُوهٌ أُخر، والثّاني؛ كقوله صلى الله عليه وسلّم «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ» أي: ولو كان الذي تلتمسه خاتماً من حديد.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط حذف نون «كان»
المسألة الثّالثة: حذفُ نُوننِ «كان»، وذلك مشروط بأُمُورٍ؛ أحدها: أن تكون بلفظ المضارع، والثّاني: أن يكون المضارع مجزوماً، والثّالث: أن لا يقع بعد النّون ساكن، والرّابع: أن لا يقع بعده ضمير متصل، وذلك نحو: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (النّحل: الآية 120) }، {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً (مريَم: الآية 20) }؛ ولا يجوز في قولك: «كانَ» و «كُنْ»؛ لانتفاء المضارع، ولا في نحو: «هُوَ يَكُونُ» و «لَنْ يَكُونَ»؛ لانتفاء الجزم، ولا في نحو: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ (البَيّنَة: الآية 1) }؛ لوجود السّاكن، ولا في نحو قوله صلى الله عليه وسلّم «إنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلّط عَلَيْهِ، وَإِنْ لاَ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ» لوجود الضَّمير.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
السّادس أسماء أفعال المقاربة
ثم قلت: السَّادِسُ: اسْمُ أَفْعَاللِ المُقَارَبَةِ؛ وهِيَ: كَادَ، وكَرَبَ، وَأَوْشَكَ؛ لِدُنُوِّ الْخَبَرِ. وعَسَى، واخْلَوْلَقَ، وحَرَى؛ لِتَرَجِّيهِ. وطَفِقَ، وعَلِقَ، وَأَنْشَأَ، وأَخَذَ، وجَعَلَ، وهَبَّ، وهَلْهَلَ؛ لِلشُّرُوععِ فِيهِ، ويَكُونُ خَبَرُهَا مُضَارِعاً.
وأقول السَّادِسُ مِنَ المرفوعاتتِ: اسْمُ الأفْعَاللِ المذكورة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب(1/111)
أفعال المقاربة باعتبار معانيها ثلاثة أقسام
وهي تنقسم ـــ باعتبار معانيها ـــ إلى ثلاثةِ أقساممٍ:
ما يدلُّ على مُقَارَبة المُسَمَّى باسمها للخبر، وهي ثلاثة: كَادَ، وكَرَبَ، وأَوْشَكَ.
وما يدلُّ على تَرَجِّي المتكلّم للخبر؛ وهي ثلاثة أيضاً: عَسَى، وحَرَى، واخْلَوْلَقَ.
وما يدلُّ على شُرُوع المُسَمَّى باسمها في خبرها، وهي كثيرة؛ ذكرتُ منها (هنا) سبعة، فكملت أفْعَالُ هذا الباب ثَلاَثَةَ عَشَرَ، كما أن الأفعال في باب «كان» كذلك.
فهذه الثّلاثَةَ عَشَرَ، تعمل عمل كان؛ فترفع المبتدأ، وتنصب الخبر، إلاّ أن خبرها لا يكون إلا فعلاً مضارعاً، ثمّ منه ما يقترن بأنْ، ومنه ما يتجرَّدُ عنها، كما يأتي تفصيله ـــ إن شاء الله تعالى ـــ في باب المنصوبات؛ ولولا اختصاصُ خَبَرِها بأحكام ليست لـ «كان وأخواتها» لم تنفرد بباب على حِدَةٍ؛ قال الله ـ سبحانه ـــ : {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء (النُّور: الآية 35) }، {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ (الإسرَاء: الآية 8) }، وقال الشاعر: (البسيط)
87 ـــ وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْتُ يُثْقِلُنِي
ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِب السَّكِرِ
وَكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْننِ مُعْتَدِلاً
فَصِرْتُ أَمْشِي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرِ
وقال الآخر: (الطَّويل)
88 ـــ هَبَبْتُ أَلُومُ الْقَلْبَ فِي طَاعَةِ الهَوَى
وقال الآخر: (الطَّويل)
89 ـــ وَطِئْنَا دِيَارَ المُعْتَدِينَ فَهَلْهَلَتْ
نُفُوسُهُمُ قَبْلَ الإمَاتَةِ تَزْهَقُ(1/112)
وهذان الفعلان أغْرَبُ أفعال الشّروع، وَطَفِقَ أشهرها، وهي التي وقعت في التّنزيل، وذلك في موضعين؛ أحدهما: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ (الأعرَاف: الآية 22) }؛ أي: شَرَعَا يَخِيطَاننِ ورقَةً على أخرى كما تُخْصَفُ النِّعَالُ؛ ليستترا بها، وقرأ أبو السّمّال العدوي: (وَطَفَقَا) بالفتح؛ وهي لُغَة حكاها الأخفش، وفيها لُغَة ثالثة طَبِقَ ـــ بباء مكسورة مكان الفاء ـــ والثَّاني: {فَطَفِقَ مَسْحاً (ص: الآية 33) }؛ أي: شَرَعَ يمسح بالسَّيف سُوقَهَا وأعْنَاقَهَا مَسْحاً، أي: يقطعها قطعاً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
السّابع اسم ما حمل على «ليس»
ثم قلت: السَّابِعُ: اسْمُ ما حُمِلَ على «لَيْسَ»، وهِيَ أَرْبَعَةٌ: «لاَتَ» في لُغَةِ الجميع، ولا تَعْمَل إلاَّ في الحيننِ بِكَثْرَةٍ، أوِ السَّاعَةِ أوِ الأوَاننِ بِقلَّةٍ، ولا يجمَعُ بينَ جُزْأَيْهَا، والأكثَرُ كَوْنُ المَحْذُوففِ اسْمَهَا، نحوُ: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ (ص: الآية 3) } و «ما» و «لا» النَّافِيَتَاننِ في لُغَةِ الْحِجَازِ، و «إنِ» النَّافِيَةُ في لُغَةِ أَهْللِ الْعَالِيَةِ؛ وشَرْطُ إعْمَالِهِنَّ نَفْيُ الْخَبَرِ، وتأخِيرُهُ، وأنْ لا يَلِيَهُنَّ مَعْمُولُهُ وليس ظَرْفاً ولا مَجْرُوراً، وتَنكيرُ مَعْمُولَيْ «لا» وأن لا يقترِنَ اسمُ «ما» بإننِ الزَّائِدَةِ، نحو: {مَا هَذَا بَشَرًا (يُوسُف: الآية 31) } و:
ولا وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ واقِياً
و «إنْ ذَلِكَ نَافِعَكَ وَلاَ ضَارَّكَ».
وأقول: السَّابعُ من المرفوعات: اسمُ ما حُمِلَ ـــ في رفع الاسم ونصب الخبر ـــ على «ليس»، وهي أحْرُفٌ أربعة نافية، وهي: «ما» و «لا» «لاتَ» و «إنْ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط عمل «ما» الحجازيّة(1/113)
فأمّا «ما» فإنّها تعملُ هذا العملَ بأربعة شروط، أحدها: أن يكون اسمها مُقَدّماً، وخبرها مؤخراً، والثاني: أن لا يقترن الاسم بإن الزّائدة، والثالث: أن لا يقترن الخبر بإلاّ، والرّابع: ألا يليها معمولُ الخبر وليس ظرفاً، ولا جارًّا ومجروراً.
فإذا استوفت هذه الشروط الأربعة عملت هذا العمَلَ ـــ سَواءٌ أكان اسمُها وخبرها نكرتين، أو معرفتين، أو كان الاسمُ معرفة والخبرُ نكرةً ـــ فالمعرفتان كقوله ـ تعالى ـــ : {مَّا هُنَّ أُمَّهَتِهِمْ (المجَادلة: الآية 2) }، والنّكرتان كقوله ـ تعالى ـــ : {فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَجِزِينَ } (الحَاقَّة: الآية 47) فـ (أحدٌ) اسمها، و (حاجزين)؛ خبرها، و (منكم) متعلق بمحذوف؛ تقديره: أعني، ويحتمل أن أحداً فاعلُ «منكم»؛ لاعتماده على النَّفي، و (حاجزين) نعت له على لفظه.
فإن قلت: كيف يُوصَفُ الواحدُ بالجمع؟ وكيف يخبر به عنه؟
قلت: جوابهما أنَّه اسم عام، ولهذا جاء: {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ (البَقَرَة: الآية 285) } والمختلفان؛ كقوله ـ تعالى ـــ : {مَا هَذَا بَشَرًا (يُوسُف: الآية 31) }، ولم يقع في القرآن إعمال «ما» صَرِيحاً في غير هذه المواضع الثّلاثة، على الاحتمال المذكور في الثّاني، وإعمالُها لغةُ أهل الحجاز، ولا يجيزونه في نحو قوله: (البسيط)
90 ـــ بنِي غُدَانَةَ مَا إنْ أَنْتُمُ ذَهَبٌ
وَلاَ صَرِيفٌ، وَلكِنْ أَنْتُمُ الخَزَفُ
لاقتران الاسم بإنْ، ولا في نحو قوله ـ سبحانه ـــ : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ (آل عِمرَان: الآية 144) }، {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وحِدَةٌ (القَمَر: الآية 50) }؛ لاقتران الخبر بإلاَّ، ولا في نحو قولهم في المثل «مَا مُسيءٌ مَنْ أَعْتَبَ»؛ لتقدم خبرها، ولا في نحو قوله: (الطَّويل)
91 ـــ وقَالُوا تَعَرَّفْهَا المَنَازِلَ مِنْ مِنًى
وَمَا كُلَّ مَنْ وَافَى مِنًى أَنَا عَارِفُ(1/114)
لتقدّم معمول خبرها وليس بظرف ولا جار ومجرور.
ولا يُعْمِلها بنو تميم، ولو استوفت الشروطَ الأربعة؛ بل يقولون: «مَا زَيْدٌ قائم» وقرىء على لغتهم: {مَا هَذَا بَشَرًا (يُوسُف: الآية 31) } و {مَّا هُنَّ أُمَّهَتِهِمْ (المجَادلة: الآية 2) } بالرفع، وقرىء أيضاً: (بأمهاتهم) بالجرِّ بباء زائدة، وتحتمل الحجازية والتّميميّة، خلافاً لأبي عليّ والزّمخشريّ، زَعَما أنَّ الباء تختصّ بلغة النَّصب.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط عمل «لا» عمل «ليس»
وأما «لا» فإنها تَعْمَلُ بالشّروط المذكورة لـ«ما»، إلاَّ شرْطَ انتفاءِ اقتران «إنْ» بالاسم، فلا حاجة له؛ لأنَّ «إنْ» لا تُزَاد بعد «لا» ويضاف إلى الشّروط الثّلاثة الباقية أن يكون اسمها وخبرها نكرتين؛ كقوله: (الطَّويل)
92 ـــ تَعَزَّ فَلاَ شَيْءٌ عَلَى الأرْضضِ باقياً
وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقياً
وربّما عَمِلت في اسم معرفة؛ كقوله: (البسيط)
93 ـــ أَنْكَرْتُهَا بَعْدَ أَعْوَاممٍ مَضَيْنَ لَهَا
لاَ الدَّارُ دَاراً، وَلاَ الْجِيرَانُ جِيرَانَا
وعلى ذلك قولُ المتنّبي: (الطويل)
94 ـــ إِذَا الْجُودُ لَمْ يُرْزَقْ خَلاَصاً مِنَ الأذَى
فَلاَ الْحَمْدُ مَكْسُوباً، وَلاَ المَالُ بَاقِيَا
وإعمالُ «لا» العَمَلَ المذكورَ لغةُ أهل الحجازِ أيضاً، وأمّا بنو تميم فيهملونها ويوجبون تكريرها.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط عمل «إنْ» عمل ليس(1/115)
وأما «إنْ» فتعمل بالشّروط المذكورة، إلاّ أنَّ اقتران اسمها بإنْ ممتنع؛ فلا حاجة لاشتراط انتفائه، وتعمل في اسم معرفة وخبر نكرة، قرأ سعيد بن جُبَير ـ رحمه الله ـــ : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ (الأعرَاف: الآية 194) }؛ بتخفيف (إن) وكسرها لالتقاء السّاكنين، ونصب (عباداً) على الخبريّة، و (أمثالكم) على أنّه صفة لـ«عباداً»، وفي نكرتين، سُمِعَ «إنْ أحَدٌ خَيْراً مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِالْعَافِيَةِ» وفي معرفتين، سُمِعَ «إنْ ذَلِكَ نَافِعَكَ ولا ضَارَّكَ».
وإعمالُ «إنْ» هذه لغةُ أهل العالية.9
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط عمل «لات» عمل ليس
وأمّا «لاَتَ» فإنَّها تعمل هذا العمل أيضاً، ولكنَّها تختصّ عن أخواتها بأمرين:
أحدهما: أنّها لا تعمل إلاّ في ثلاث كلمات؛ وهي: «الحين» بكثرة، و «السَّاعة»، و «الأوان» بقلة.
والثَّاني: أن اسمها وخبرها لا يجتمعان، والغالبُ أن يكون المحذوفُ اسمَهَا والمذكورُ خَبَرَهَا، وقد يعكس.
فالأوّل كقوله ـ تعالى ـــ : {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } (ص: الآية 3) .
الواو للحال (لا) نافية بمعنى ليس، والتّاء زائدة لتوكيد النّفي والمُبالغة فيه، كالتاء في راوية، أو لتأنيث الحرف، واسْمُها محذوفٌ، و (حينَ مَنَاصٍ) خبرها، ومضاف إليه، أي: فنادوا والحالُ أنَّه ليس الحينُ حينَ مناصصٍ، أي: فِرَارٍ وتأخير.
والثاني كقراءة بعضهم: {وَّلاَتَ حِينَ (ص: الآية 3) } بالرَّفع، أي: وليس حينُ مناصصٍ حيناً موجوداً لهم عند تَناديهم ونزوللِ ما نزل بهم من العذاب.
ومن إعمالها في «السَّاعة» قولُ الشَّاعر: (الكامل)
95 ـــ نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاَتَ سَاعَةَ مَنْدَممٍ
وَالْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيهِ وَخِيمُ
وفي «الأوان» قولُه: (الخفيف)
96 ـــ طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلاَتَ أوَاننٍ(1/116)
فأجَبْنَا أنْ لَيْسَ حِينَ بَقاءِ
وأصله ليس الحينُ أوانَ صلح، أو ليس الأوانُ أوانَ صلح، فحذف اسمها على القاعدة، وحذف ما أضيف إليه خبرها، وقدَّرَ ثبوتَهُ، فبناه كما يبنى قبل وبعدُ، إلاَّ أن أواناً شبيهٌ بِنَزَاللِ فبناه على الكسر، ونَوَّنَه للضَّرورة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الثَّامن خبر إنَّ وأخواتها
ثم قلت: الثَّامنُ: خبرُ «إنَّ» وأخَوَاتِهَا: أنَّ، ولكِنَّ، وكأَنَّ، ولَيْتَ، ولَعَلَّ، نحوُ: {إِنَّ السَّاعَةَ ءاتِيَةٌ (طه: الآية 15) } ولا يجوز تَقَدُّمُهُ مُطْلَقاً، وَلاَ تَوَسُّطُهُ إلاَّ إنْ كان ظَرْفاً أوْ مَجْرُوراً؛ نحو: {إِنَّ فِى ذلِكَ لَعِبْرَةً (آل عِمرَان: الآية 13) }{إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً (المُزمّل: الآية 12) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
عمل إنّ وأخواتها
وأقول: الثّامن من المرفوعات: خبرُ «إنَّ» وأخواتها الخمسة، فإنَّهن يدخلن على المبتدأ والخبر؛ فينصبن المبتدأ؛ كما سيأتي في باب المنصوبات، ويسمَّى اسمها، ويرفعن خبره كما نذكره ـ الآن ـــ ويسمَّى خبرها، نحو: {إِنَّ السَّاعَةَ ءاتِيَةٌ (طه: الآية 15) }{اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (المَائدة: الآية 98) }، {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ (المنَافِقون: الآية 4) }، {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (الشّورى: الآية 17) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
لا يتقدم الخبر على إنّ وأخواتها
ولا تتقدّم أخبارُهُنَّ عليهنَّ مطلقاً، وقد أشار إلى ذلك الشيخُ شرفُ الدّين بن عنين؛ حيث قال: (الطّويل)
97 ـــ كأَنِّيَ مِنْ أَخْبَارِ إِنَّ، وَلَمْ يُجِزْ
لَهُ أَحَدٌ في النَّحْو أَنْ يَتَقَدَّمَا
عَسَى حَرْفُ جَرَ مِنْ نَدَاكَ يَجُرُّنِي
إِلَيْكَ؛ فَإِنِّي مِنْ وصَالِكَ مُعْدَمَا(1/117)
ولا على أسمائهن؛ فإنَّ الحروف محمولة في الإعمال على الأفعال، فلكونها فرعاً في العمل، لا يليق التوسُّعُ في معمولاتها بالتّقديم والتّأخير، اللّهم إلاّ إن كان الخبر ظرفاً أو جارًّا ومجروراً، فيجوز توسُّطُهُ بينها وبين أسمائها، كقوله ـ تعالى ـــ : {إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً (المُزمّل: الآية 12) }{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَى } (النَّازعَات: الآية 26) وفي الحديث: «إن في الصَّلاَةِ لشُغْلا»، و «إنَّ من الشِّعْر لَحُكماً» ويروى «لحكمة» فأمَّا تقديمُه عليها، فلا سبيلَ إلى جوازه؛ لا تقول: في الدار إن زيداً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
مواضع كسر همزة إن
ثم قلت: وتُكْسَرُ «إن» في الابْتِداءِ، وفي أوَّل الصّلَةِ، والصّفةِ والجُمْلَةِ الحاليَّة، والمُضاففِ إلَيْهَا ما يَخْتَصُّ بالْجُمَل، والمَحْكيَّةِ بالْقَول، وجَوَاببِ الْقَسَممِ، والمُخْبَر بهَا عَننِ اسْممِ عَيْننٍ، وقَبْلَ اللاَّممِ المُعَلِّقةِ، وتُكْسَرُ أو تُفْتَحُ بَعْدَ «إذا» الفُجَائِيَّةِ والفاء الْجَزَائِيَّةِ، وفي نحو: «أوَّلُ قَوْلِي أَنِّي أَحْمَدُ الله» وتُفْتَحُ في الباقي.
وأقول: لـ«إنَّ» ثلاثُ حالاتتٍ: وجوبُ الكسر، ووجوب الفتح، وجواز الأمرين:
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
وجوب كسر همزة إنَّ في تسع مسائل
فيجب الكسر في تسع مسائل:
إحداها: في ابتداء الكلام؛ نحو: {إِنَّآ أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ } (الكَوثَر: الآية 1) ، {إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ } (القَدر: الآية 1) .(1/118)
الثّانية: أن تقع في أوّل الصّلة، كقوله ـ تعالى ـــ : {وَءاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ (القَصَص: الآية 76) } (ما) مفعول ثاننِ لآتيناه؛ وهي موصول بمعنى الذي، و (إنَّ) وما بعدها صلة، واحْتَرَزْتُ بقولي: «أوّل الصلة» من نحو: «جَاءَ الَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ فَاضِلٌ» فإنَّ واجبةُ الفتححِ، وإن كانت في الصِّلة، لكنَّها ليست في أولها.
الثَّالثة: أن تقع في أول الصفة، كـ «مَرَرْتُ بِرَجُللٍ إنَّهُ فَاضِلُ» ولو قلت: «مَرَرْتُ بِرَجُللٍ عِنْدِي أنَّهُ فَاضِلٌ»، لم تكسر؛ لأنَّها ليست في ابتداء الصِّفة.
الرَّابعة: أن تقع في أول الجملة الحاليّة، كقوله ـ تعالى ـــ : {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَِّرِهُونَ } (الأنفَال: الآية 5) ، واحترَزْتُ بقيد الأوّليّة من نحو: «أقْبَلَ زَيْدٌ وعِنْدِي أنَّهُ ظَافِرٌ».
الخامسة: أن تقع في أول الجملة المضاف إليها ما يختصّ بالجملة ـــ وهو إذ وإذا وحيث ـــ ؛ نحو: «جَلَسْتُ حَيْثُ إنَّ زَيْداً جَالِسٌ»، وقد أُولع الفقهاء وغيرهم بفتح «إن» بعد حيث؛ وهو لحن فاحش، فإنَّها لا تضاف إلا إلى الجملة، و «أن» المفتوحة ومعمولاها في تأويل المفرد. واحْتَرَزْتُ بقيد الأوّليّة من نحو: «جَلَسْتُ حَيْثُ اعْتِقَادُ زَيْدٍ أنَّهُ مَكَانٌ حَسَنٌ».
ولم أرَ أحداً من النحويين، اشترط الأوّليّة في مسألتي الحال وحيث؛ ولا بد من ذلك.(1/119)
السادسة: أن تقع قبل اللام المعلِّقة، نحو: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَفِقِينَ لَكَذِبُونَ (المنَافِقون: الآية 1) } فاللاّم من (لرسوله) ومن (لكاذِبُون) مُعَلِّقَاننِ لِفِعْلَيِ العلم والشَّهادة، أي: مانعان لهما من التسلُّط على لفظ ما بعدهما؛ فصار لما بعدهما حكم الابتداء؛ فلذلك وجب الكسر، ولولا اللاّم لوجب الفتح؛ كما قال الله ـ تعالى ـــ : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ (الأنفَال: الآية 41) } و {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ (آل عِمرَان: الآية 18) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
السَّابعة: أن تقع محكيّة بالقول، نحو: {قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ (مريَم: الآية 30) }{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَهٌ مّن دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ (الأنبيَاء: الآية 29) }، {قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بِالْحَقّ (سَبَإ: الآية 48) }.
الثَّامنة: أن تقع جواباً للقسم، كقوله ـ تعالى ـــ : {حم وَالْكِتَبِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ}.
التَّاسعة: أن تقع خبراً عن اسم عين، نحو: «زَيْدٌ إِنَّهُ فَاضِلٌ» وقوله ـ تعالى ـــ : {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّبِئِينَ وَالنَّصَرَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ (الحَجّ: الآية 17) }.
وقد أتيت في شرح هذا الموضع بما لم أسبق إليه فتأملوه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
مواضع فتح همزة «إنَّ» وجوبا
ويجب الفتحُ في ثماني مسائل:
إحداها: أن تقع فاعِلَةً؛ نحو: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا (العَنكبوت: الآية 51) }؛ أي: إنْزَالُنَا.(1/120)
الثّانية: أن تقع نائبة عن الفاعل؛ نحو: {وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ (هُود: الآية 36) }{قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ (الجنّ: الآية 1) }.
الثّالثة: أن تقع مفعولاً لغير القول؛ نحو: {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ (الأنعَام: الآية 81) }.
الرّابعة: أن تقع في موضع رفع بالابتداء؛ نحو: {وَمِنْ ءايَتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْرْضَ خَشِعَةً (فُصّلَت: الآية 39) }.
الخامسة: أن تقع في موضع خبرٍ عن اسم معنى؛ نحو: «اعْتِقَادِي أنَّكَ فَاضِلٌ».
السَّادسة: أن تقع مجرورة بالحرف؛ نحو: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ (الحَجّ: الآية 6)}.
السَّابعة: أن تقع مجرورة بالإضافة؛ نحو: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (الذّاريَات: الآية 23) }.
الثَّامنة: أن تقع تابعة لشيء مما ذكرنا؛ نحو: {اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ (البَقَرَة: الآية 47) }، ونحو: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ (الأنفَال: الآية 7) }؛ فإنَّها في الأولى مَعْطُوفَةٌ على المفعول؛ وهو (نعمتي)، وفي الثانية بَدَلٌ منه؛ (إحدى).
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
مواضع يجوز فيها فتح همزة إنَّ وكسرها
ويجوز الوجهان في ثلايِ مسائلَ في الأشْهَرِ:
إحداها: بعد «إذا» الفُجَائية؛ كقولك: «خَرَجْتُ فَإِذَا إِنَّ زَيْداً بِالْبَابِ»، قال الشاعر: (الطَّويل)
98 ـــ وَكُنْتُ أَرَى زَيْداً كَمَا قِيلَ سَيِّداً
إِذَا أَنَّهُ عَبْدُ الْقَفَا واللَّهَازِممِ
يروى بفتح «إن» وبكسرها.(1/121)
الثَّانية: بعد الفاء الْجَزَائيَّة؛ كقوله ـ تعالى ـــ : {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قرىء بكسر «إن» وفتحها.
الثَّالثة: في نحو «أوَّلُ قَوْلِي أَنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ»؛ وضَابِطُ ذلك: أن تقع خبراً عن قول، وخَبَرُهَا قَوْلٌ كأحمد ونحوه، وفاعل القولين واحِدٌ، فما اسْتَوْفَى هذا الضابِطَ؛ كالمثال المذكور، جاز فيه الفتحُ على معنى أوَّلُ قولي حمدُ الله، والكسرُ على جعلى «أوّل قولي» مبتدأ، و «إنّي أحمد الله» جملة أخبر بها عن هذا المبتدأ، وهي مستغنية عن عائدٍ، يعود على المبتدأ؛ لأنَّها نفسُ المبتدأ في المعنى، فكأنَّه قيل: أوّلُ قولي هذا الكلام المُفْتَتَح بإنِّي؛ ونظيرُ ذلك قوله ـ سبحانه ـــ : {دَعْوهُمْ فِيهَا سُبْحَنَكَ اللَّهُمَّ (يُونس: الآية 10) }، وقولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلّم «أفْضَلُ ما قُلْتُهُ أنَا والنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
التَّاسع خبر «لا» التي لنفي الجنس
ثم قلت: التَّاسِعُ: خَبَرُ «لاَ» الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسسِ؛ نحو: «لاَ رَجُلَ أَفْضَلُ مِنْ زيْدٍ» ويَجِبُ تَنْكِيرُهُ، كالاسم، وتأخِيرُهُ وَلَوْ ظَرْفاً، ويَكثرُ حَذْفُهُ إنْ عُلِمَ، وتَمِيمٌ لا تَذْكرُهُ حينئذٍ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
خبر لا النَّافية للجنس
وأقول: التّاسعُ من المرفوعات: خَبَرُ «لا» التي لنفي الجنس.
اعلم أنّ «لا» على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ناهية؛ فتختَصُّ بالمضارع وتجزمه؛ نحو: {وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا (الإسرَاء: الآية 37) }، {فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ (الإسرَاء: الآية 33) }، {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا (التّوبَة: الآية 40) } وتُسْتَعَار للدُّعاء فتجزم أيضاً، نحو: {لاَ تُؤَاخِذْنَآ (البَقَرَة: الآية 286) }.(1/122)
الثاني: أن تكون زائدة؛ دخولها في الكلاممِ كخروجها؛ فلا تعمل شيئاً، نحو: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ (الأعرَاف: الآية 12) }؛ أي: أن تسجد، بدليل أنَّه قد جاء في مكان آخر بغير «لا» وقوله ـ تعالى ـــ : {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَبِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْء مّن فَضْلِ اللَّهِ (الحَديد: الآية 29) }، وقوله ـ تعالى ـــ : {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } (الأنبيَاء: الآية 95) .
الثّالث: أن تكون نافيةً؛ وهي نوعان:
1 ـــ داخلة على معرفة؛ فيجب إهمالُها وتَكْرَارُها؛ نحو: «لا زيدٌ في الدار ولا عَمْرٌو».
2 ـــ وداخلةٌ على نكرة؛ وهي ضربان:
(أ) عاملة عمل ليس؛ فترفع الاسم، وتنصب الخبر؛ كما تقدم؛ وهو قليل.
(ب) وعاملة عَمَلَ «إنَّ»؛ فتنصب الاسْمَ، وترفع الخبر؛ والكلامُ ـ الآنَ ـــ فيها؛ وهي التي أريد بها نفيُ الجنس على سبيل التنصيص، لا على سبيل الاحتمال.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شرط إعمال لا عمل إن
وشرط إعمالها هذا العَمَلَ أمراننِ.
أحدهما: أن يكون اسمها وخبرها نكرتين كما بَيَّنا.
والثاني: أن يكون الاسم مُقَدَّماً والخبر مُؤَخَّراً؛ وذلك كقولك: «لا صاحبَ عِلْممٍ ممقوتٌ»، و «لا طالعاً جَبَلاً حاضر».
فلو دخلت على معرفة أو على خبر مُقَدَّم، وجب إهمالُها وتكرارها.
الأوّل: كما تقدم من قولك: «لا زَيْدٌ في الدَّار ولا عَمْرٌو»، وأمَّا قول (بعض) العرب «لا بَصْرَةَ لكم»، وقول عُمَرَ: «قَضيةٌ ولا أبا حَسَننٍ لها»، يريد عليَّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـــ ، وقول أبي سفيان يوم فتح مكة: «لا قُرَيْشَ بعد اليوم» وقول الشَّاعر: (الوافر)
99 ـــ أَرَى الحاجَاتتِ عِنْدَ أَبِي خُبَيْببٍ
نَكِدْنَ، وَلاَ أُمَيَّةَ في البِلاَدِ
فمؤوَّل بتقدير: «مثل»؛ أي: ولا مثل أبي حسن، ولا مثل البصرة، ولا مثل قريش، ولا مثل أميَّة.(1/123)
والثَّاني: كقول الله ـ سبحانه وتعالى ـــ : {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } (الصَّافات: الآية 47) .
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
جواز حذف خبر «لا»
ويكثر حذفُ الخبرِ، إذا عُلم؛ كقول الله ـ سبحانه وتعالى ـــ : {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ (سَبَإ: الآية 51) }؛ أي: فلا فَوْتَ لهم، وقوله ـ تعالى ـــ : {لاَ ضَيْرَ (الشُّعَرَاء: الآية 50) } أي: لا ضَيْرَ علينا. وبنو تميم يُوجِبُونَ حَذْفَهُ، إذا كان معلوماً، وأما إذا جُهل فلا يجوز حذفه عند أحد؛ فضلاً عن أن يجب؛ وذلك نحو: «لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
العاشر المضارع المجرّد من النَّاصب والجازم
ثم قلت: العَاشِرُ: المُضَارعُ إذَا تَجَرَّدَ مِنْ نَاصِببٍ وجَازِممٍ.
وأقول: العاشِرُ من المرفوعات ـــ وهو خاتمتُها ـــ الفعلُ المضارعُ إذا تجرَّدَ من ناصب وجازم؛ كقولك: «يَقُومُ زَيْدٌ» و «يَقْعُدُ عَمْرٌو».
فأمَّا قول أبي طالب يخاطب النّبي صلى الله عليه وسلّم (الوافر)
100 ـــ مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كلُّ نَفْسسٍ
إِذَا مَا خِفْتَ مِنْ شَيْءٍ تَبَالاَ
فهو مقرون بجازم مُقَدَّر؛ وهو لام الدّعاء، وقوله: «تَبَالاَ»؛ أصله: «وبالا» فأبدل الواو تاءً؛ كما قالوا في وُرَاثثٍ، وَوُجَاهٍ: تُرَاث، وتُجَاه. وأما قول امرىء القيس: (السَّريع)
101 ـــ فالْيَوْمَ أَشْرَب غَيْرَ مُسْتَحْقِببٍ
إثْماً مِنَ اللَّهِ ولا واغِللِ
فليس قوله: «أشرب» مجزوماً، وإنَّما هو مرفوع، ولكن حذفت الضّمّة للضّرورة، أو على تنزيل «رَبُغَ» بالضم من قوله: «أشْرَبُ غَيْرَ» منزلة عَضُدٍ ـ بالضّم ـــ فإنّهم قد يُجْرُونَ المنفصل مُجْرَى المتصل؛ فكما يقال في عَضُدٍ بالضم: عَضْدٌ بالسكون؛ كذلك قيل في: «رَبُغَ» بالضّمّ: «رَبْغَ» بالإسكان.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
باب المنصوبات(1/124)
ولما أنهيت القول في المرفوعات، شرعْتُ في المنصوبات، فقلت:
بابٌ، المَنْصُوبَاتُ خَمْسَةَ عَشْرَ، أحدها: المَفْعُولُ بِهِ، وهُوَ: مَا وَقَعَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْفَاعِللِ؛ كـ «ضَرَبْتُ زَيْداً».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الأوّل: المفعول به
وأقول: المنصوبات محصورة في خمسة عشرَ نوعاً، وبدأتُ منها بالمفاعيل لأنَّها الأصل، وغيرُها محمولٌ عليها ومُشَبَّه بها، وبدأت من المفاعيل بالمفعول به؛ كما فعل الفارسيُّ وجماعة منهم صاحبا المقرب والتَّسهيل، لا بالمفعول المطلق؛ كما فعل الزّمخشريّ، وابنُ الحاجِببِ، ووجْهُ ما اخترناه: أن المفعول به أحْوَجُ إلى الإعراب؛ لأنَّه الذي يقع بينه وبين الفاعل الالتباسُ.
والمراد بالوقوع: التعلُّقُ المعنويّ، لا المباشرة؛ أعني تعلّقَهُ بما لا يُعْقَلُ إلا به، ولذلك لم يكن إلا للفعل المتَعَدِّي، ولولا هذا التفسيرُ لَخَرَجَ منه نحو: «أرَدْت السَّفرَ»؛ لعدم المباشرة، وخرج بقولنا: «ما وقع عليه» المفعولُ المطلقُ، فإنَّه نفسُ الفعللِ الواقع، والظرفُ، فإنّ الفعل يقع فيه، والمفعول له، فإنَّ الفعل يقع لأجله، والمفعول معه، فإنَّ الفعل يقع معه لا عليه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
نواصب المفعول به
ثم قلت: ومِنْهُ ما أُضْمِرَ عَامِلُه: جَوازاً نحو: {قَالُواْ خَيْرًا (النّحل: الآية 30) }، وَوُجُوباً في مَوَاضِعَ مِنْهَا بابُ الاشْتِغَاللِ نحو: {وَكُلَّ إِنْسَنٍ أَلْزَمْنَهُ (الإسرَاء: الآية 13) }.(1/125)
وأقول: الذي ينصبُ المفعولَ به، واحدٌ من أربعة: الفعلُ المُتَعَدِّي، ووَصْفُه، ومَصْدَرُهُ، واسمُ فِعْلِهِ؛ فالفعل المتعدّي نحو: {وَوَرِثَ سُلَيْمَنُ دَاوُودَ (النَّمل: الآية 16) }، ووصفه نحو: {إِنَّ اللَّهَ بَلِغُ أَمْرِهِ (الطّلاق: الآية 3) }، ومصدره نحو: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ (البَقَرَة: الآية 251) }، واسمُ فعله نحو: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ (المَائدة: الآية 105) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إضمار ناصب المفعول جوازا
وكونُه مذكوراً هو الأصلُ؛ كما في هذه الأمثلة، وقد يُضْمَرُ: جوازاً، إذا دَلَّ عليه دليل مقالِيٌّ أو حالِيٌّ؛ فالأول نحو: {قَالُواْ خَيْرًا (النّحل: الآية 30) }؛ أي: أَنْزَلَ رَبُّنَا خيراً؛ بدليل: {مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ (النّحل: الآية 24) }. والثَّاني: نحو قولك لمن تأهَّب لسفر: «مَكَّةَ»؛ بإضمار تريد، ولمن سدَّدَ سهماً: «الْقِرْطَاسَ» بإضمار تُصِيبُ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إضمار ناصب المفعول وجوبا
وقد يُضْمَر وجوباً في مواضع؛ منها باب الاشتغال؛ وحقيقته: أن يتقدّم اسمٌ، ويتأخّر عنه فعل، أو وصف صالح للعمل فيما قبله، مشتغل عن العمل فيه بالعمل في ضميره أو مُلاَبسه.
فمثال اشتغال الفعل بضمير السّابق: «زَيْداً ضَرَبْتُهُ» وقوله ـ تعالى ـــ : {وَكُلَّ إِنْسَنٍ أَلْزَمْنَهُ (الإسرَاء: الآية 13) }.
ومثال اشتغال الوصف: «زيداً أنا ضَارِبُهُ، الآن أو غداً».
ومثال اشتغال العامل بملابس ضمير السّابق: «زيداً ضربْتُ غُلاَمَهُ» و «زيداً أنا ضَارِبٌ غُلاَمَهُ، الآن أو غداً».
فالنصب في ذلك وما أشبهه بعامللٍ مُضْمَرٍ وجوباً؛ تقديره: ضربت زيداً ضربته، وألزمنا كلّ إنسان ألزمناه.
وإنما كان الحذف ـ هنا ـــ واجباً لأنَّ العامل المؤخَّرَ مفسّر له، فلم يجمع بينهما.(1/126)
هذا رأيُ الجمهور، وزعم الكسائيُّ أن نَصْبَ المتقدّم بالعامل المؤخّر على إلغاء العائد، وقال الفرَّاء: الفعل عامل في الظاهر المتقدم وفي الضمير المتأخر.
ورُدَّ على الفراء بأنَّ الفعل الذي يتعدَّى لواحد يصير متعدّياً لاثنين، وعلى الكسائي بأن الشاغل قد يكون غير ضمير السابق، كـ«ضربت غلامه»، فلا يستقيم إلغاؤه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المنادى نوع من أنواع المفعول به
ثم قلت: ومِنْهُ المُنَادَى، وإنَّما يَظْهَرُ نَصْبُهُ إذا كانَ مُضافاً أوْ شِبْهَهُ أو فَكْرَةً مَجْهُولَةً، نحوُ: «يا عَبْدَ اللَّهِ» و «يَا طَالِعاً جَبَلاً» وقَوْللِ الأعمى: «يَا رَجُلاً خُذْ بِيَدِي».
وأقولُ: المنادى نوع من أنواع المفعول به، وله أحكام تخصُّه فلهذا أفردته بالذكر وبيان كونه مفعولاً به أن قولك: «يا عَبْدَ اللَّه» أصله يا أدعو عبد اللَّه، فـ«يا» حرف تنبيه، و «أدعو» فعل مضارع قُصِدَ به الإنشاء لا الإخبار، وفاعله مستتر و «عَبْدَ اللَّه» مفعول به ومضاف إليه، ولما علموا أن الضرورة داعية إلى استعمال النداء كثيراً أوجَبُوا فيه حَذْفَ الفعل اكتفاء بأمرين؛ أحدهما: دلالة قرينة الحال، والثاني: الاستغناء بما جعلوه كالنائب عنه والقائم مقامه وهو: «يا» وأخواتها.
وقد تبيَّن بهذا أن حَقَّ المُنَاديَاتتِ كلها أن تكون منصوبة؛ لأنها مفعولات، ولكنّ النصب إنّما يظهر إذا لم يكن المنادى مبنياً، وإنما يكون مبنياً إذا أشبَهَ الضمير بكونه مفرداً معرفة؛ فإنّه ـ حينئذ ـــ يُبنى على الضمة أو نائبها، نحو: «يا زَيْدُ» و «يا زيدان» و «يا زَيْدُونَ» وأمّا المضافُ، والشبيهُ بالمضاف، والنكرة غيرُ المقصودة؛ فإنَّهن يستوجبنَ ظهورَ النصب، وقد مضى ذلك كلّه مشروحاً ممثلاً في باب البناء، فمن أحَبَّ الوقوف عليه فليرجع إليه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المنصوب على الاختصاص مفعول محذوف العامل(1/127)
ثم قلت: والمَنْصُوبُ بِأخُصُّ بَعْدَ ضَمِيرٍ مُتَكَلِّممٍ، ويَكُونُ بألْ نحوُ: «نَحْنُ العُرْبَ أَقْرَى النَّاسسِ للضَّيْفِ» ومُضافاً، نحوُ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنبياءِ لاَ نُورَثَ ما تَرَكْنَا صَدَقَة»، و «إيّا» فَيَلْزَمُهَا ما يَلزمُهَا في النِّداءِ، نحو: «أنَا أَفْعَلُ كَذَا أَيُّهَا الرَّجُلُ» وعَلَماً قليلاً، فنحو: «بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الفَضْلَ» شاذٌّ مِنْ وَجْهَين.
والمنصوب بإلزم أو بإتَّققِ إن تَكَرَّرَ أوْ عُطِفَ عليهِ، أو كان «إيَّاكَ» نحوُ: «السِّلاَحَ السَّلاَحَ» و «الأخَ الأخَ» ونحو: «السَّيْفَ والرُّمْحَ»، ونحو: «الأسَدَ الأسَدَ» أو «نَفْسَكَ نَفْسَكَ» ونحو: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَهَا (الشّمس: الآية 13) }، و «إيّاك من الأسد».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ما جاء محذوف العامل
والمحذوف عامله، والواقعُ في مَثَللٍ أو شِبْهِهِ؛ نحو: «الكِلاَبَ عَلَى البَقَرِ»، و «انْتَهِ خَيْراً لك».
وأقول: من المفعولات التي التزم معها حذف العامل؛ المنصوبُ على الاختصاص وهو كلام على خلاف مقتضى الظّاهر، لأنه خبر بلفظ النداء.
وحقيقته: أنه اسم ظاهر معرفة قُصِدَ تخصيصه بحكم ضمير قبله.
والغالبُ على ذلك الضّمير كونه لمتكلم ـــ نحو أنا، ونحن ـــ ويَقِلُّ كونه لغائببٍ والباعث على هذا الاختصاصصِ: فَخْرٌ، أو تَوَاضُعٌ، أو بيان.
فالأوّل كقول بعض الأنصار: (الطَّويل)
102 ـــ لَنَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ مَجْدٌ مُؤَثَّلٌ
بإرْضَائِنَا خَيْرَ البَرِيَّةِ أَحْمَدَا
المؤثّل: الذي له أصل.
ومثالُ الثاني قوله: (الخفيف)
103 ـــ جُدْ بِعَفْوِ فَإِنَّنِي أَيُّهَا الْعَبْـ
ــدُ إِلَى الْعَفْوِ يَا إِلهِي فَقِيرُ
ومثال الثّالثثِ: (البسيط)
104 ـــ إنَّا بَنِي نَهْشَللٍ لاَ نَدَّعِي لأببِ(1/128)
وتعريفه بـ«أل» نحوُ: «نَحْنُ الْعَرَبَ أَقْرَى النَّاسسِ للضيفِ» التَّقدير: أخُصُّ العرَبَ؛ وتعريفه بالإضافة؛ كقوله: (الرّجز)
105 ـــ نَحْنُ بَنِي ضَبَّةَ أصْحَابُ الجمَلْ
نَنْعَى ابْنَ عَفَّانَ بأطْرَاففِ الأسَلْ
الأسَلُ: الرماح.
ومن تعريفه بالإضافة قوله صلى الله عليه وسلّم «إنَّا آلَ محمد لا تَحِلُّ لنا الصدقة» و «نحنُ مَعَاشِرَ الأنبياء لا نُورَثُ ما ترَكْنَا صَدَقَةٌ».
وقد اشتمل الحديثُ الشَّريفُ على ما يقتضي الكَشْف عنه، وهو أنَّ «ما» من قوله: «ما تركنا» موصول بمعنى الذي محلَّه رَفْع بالابتداء، و «تركنا» صلته، والعائد محذوف؛ أي: تركناه، و «صدقة» خبر ما هذه على رواية الرّفع، وهو أجود؛ لموافقته لرواية: «ما تركنا(ه) فهو صدقة» وأما النصب، فتقديره: ما تركنا مبذولٌ صدقَةَ، فَحُذِف الخبر لسدّ الحال مَسَدَّه مثل: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ (يُوسُف: الآية 8) } ويجوز في «ما» أن تكون موصولاً اسميًّا، كما تقدم، وأن تكون شرطيّة؛ فما على الأوّل في محلّ رفع، وعلى الثّاني في محلّ نصب؛ والمعنى: أي شيءٍ تركنَاهُ فهو صدقة.
ويكون المنصوب على الاختصاص بلفظ «أي» فيلزمها في هذا الباب ما يلزمها في النداء؛ مِنَ التزام البناء على الضمّة، وتأنيثها مع المؤنّث، والتزام إفرادها؛ فلا تثنّى، ولا تجمع باتِّفاق، ومفارقتها للإضافة ـ لفظاً وتقديراً ـــ ، ولزوم «ها» التنبيه بعدها، ومن وَصْفها باسم معَرَّففٍ بأل لازممِ الرفع؛ مثالُ ذلك: «أنا أفْعَلُ كَذَا أيُّهَا الرَّجُلُ» و «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا أيَّتُهَا العِصَابَةُ» المعنى: أنا أفعل كذا مَخْصُوصاً من بين الرجال، واللهم اغفِر لنا مختصِّينَ من بين العصائب.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ويقلُّ تعريفُه بالعلميّة، ففي «بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الفَضْلَ» شذوذان: كونه بعد ضمير مخاطب، وكونه علماً.
الإغراء مفعول محذوف العامل(1/129)
ومن المحذوففِ عامِلُهُ: المنصوبُ بألْزَمْ، ويسمّى إغْراء.
والإغراء: تنبيهُ المخاطَببِ على أمر محمودٍ ليلزمَهُ؛ نحو: (الطَّويل)
106 ـــ أَخَاكَ أَخَاكَ؛ إِنَّ مَنْ لاَ أَخَالَهُ
كَسَاععٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاَححِ
وإنَّما يلزم حذفُ عامله إذا تكرر، كما سبق في البيت، أو عُطف عليه؛ نحو: «المَرُوءَةَ والنجدَةَ» فإن فَقَدْ التكرارَ والعَطْفُ، جاز ذِكْرُ العامل وحَذْفه، نحو: «الصَّلاَةَ جَامِعَةً» فـ«الصلاةَ» منصوبٌ باحْضُرُوا مُقَدَّراً، و «جامعة» منصوب على الحال.
ويمكن أن يكون من هذا النّوع قولُ الشّاعر:
107 ـــ أَخَاكَ الَّذِي إِنْ تَدْعُهُ لِمُلِمَّةٍ
يُجِبكَ كَمَا تَبْغِي، وَيَكْفِكَ مَنْ يَبْغِي
وَإِنْ تَجْفُهُ يَوْماً فَلَيْسَ مُكَافِئاً
فَيَطْمَعَ ذُو التَّزْوِيرِ والْوَشْيِ أَنْ يُصْغِي
على تقدير الْزَمْ أَخَاكَ الذي من صفته كذا، ويحتمل أن يكون مبتدأ والموصول خبره، وجاء على لغة مَنْ يستعمل الأخَ بالألففِ في كلّ حال، وتُسَمَّى لغَةَ الْقَصْرِ؛ كقولهم: «مُكْرَهٌ أَخَاكَ لا بَطَلٌ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الثَّاني المفعول المطلق
ثم قلت: الثَّاني: المَفْعُولُ المُطْلَقُ؛ وهُوَ: المَصْدَرُ الْفَضْلَةُ الْمُؤكِّدُ لِعامِلِه، أوْ الْمُبِيِّنُ لِنَوْعِهِ، أوْ لِعَدَدِهِ؛ كـ «ضَرَبْتُ ضَرْباً» أو «ضَرْبَ الأمِيرِ» أوْ «ضَرْبَتَيْنِ» وما بِمَعْنَى المَصْدَرِ مِثْلُه؛ نحوُ: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ (النِّساء: الآية 129) } و {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا (التّوبَة: الآية 39) } و {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً (النُّور: الآية 4) }.
وأقول: الثّاني من المنصوبات: المفعولُ المطلقُ.(1/130)
وسمِّي مطلقاً لأنه يقع عليه اسمُ المفعوللِ بلا قَيْدٍ، تقول: ضَرَبْتُ ضَرْباً؛ فالضّرب مفعول؛ لأنه نفسُ الشيء الذي فعلته، بخلاف قولك: «ضَرَبْتُ زَيْداً» فإن «زيداً» ليس الشّيء الذي فعلته، ولكنك فعلت به فعلاً وهو الضرب؛ فلذلك سمّي مفعولاً به، وكذلك سائر المفاعيل، ولهذه العلة قَدَّمَ الزمخشريُّ وابنُ الحاجببِ في الذكر المفعولَ المُطْلَقَ على غيره؛ لأنّه المفعول حقيقة.
وحَدُّهُ ما ذكرت في المقدّمة؛ وقد تبيّن منه أنّ هذا المفعول يفيد ثلاثة أمور:
أحدُها: التوكيدُ؛ كقولك: ضَرَبْتُ ضَرْباً، وقول الله ـ تعالى ـــ : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (النِّساء: الآية 164) }، {وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً (النِّساء: الآية 65) }، {صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً (الأحزَاب: الآية 56) }.
الثّاني: بيانُ النَّوْععِ؛ كقوله ـ تعالى ـــ: {فَأَخَذْنَهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (القَمَر: الآية 42) }. وكقولك: جلستُ جلوسَ القاضي، وجلستُ جُلُوساً حسناً، و «رَجَعَ الْقَهْقَرَى».
الثّالث: بيان العدد؛ كقولك: ضَرَبْتُ ضَرْبَتَيْننِ، أوْ ضَرَباتتٍ، وقول الله ـ تعالى ـــ : {فَدُكَّتَا دَكَّةً وحِدَةً (الحَاقَّة: الآية 14) }.
وقولي: «الفَضْلة» احترازٌ من نحو قولك: رُكُوعُ زَيْدٍ رُكُوعٌ حسنٌ، أو طويلٌ، فإنّه يفيد بيانَ النّوع، ولكنّه ليس بفضلة.
وقولي: «المؤكد لعامله» مخرجٌ لنحو قولك: كَرِهْتُ الفُجُورَ الفُجُورَ، فإنّ الثّاني مصدر فضلة مفيد للتّوكيد، ولكن المؤكَّدَ ليس العامل في المؤكِّدِ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الثالث المفعول له(1/131)
ثم قلت: الثَّالِثُ: المَفْعُولُ لهُ، وهو: المَصْدَرُ الْفَضْلَةُ الْمُعَلِّلُ لِحَدَثثٍ شاركه في الزَّمَان والْفَاعِللِ، كـ«قُمتُ إجْلاَلاً لَكَ»، ويَجُوزُ فِيهِ أنْ يُجَرَّ بحَرْففِ التَّعْلِيللِ، ويَجِبُ في مُعَلّللٍ فَقَدَ شَرْطاً أنْ يُجَرَّ باللاَّممِ أوْ نَائِبها.
وأقول: الثالثُ من المنصوبات: المفعولُ له، ويسمى المفعولَ لأجله، والمفعول من أجله.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط مجيء المفعول له
وهو: ما اجتمع فيه أربعةُ أمور؛ أحدها: أن يكون مصدراً، والثاني: أن يكون مذكوراً للتعليل، والثالث: أن يكون المعَلَّلُ به حَدَثاً مشارِكاً له في الزمان، والرابع: أن يكون مشاركاً له في الفاعل.
مثالُ ذلك قوله ـ تعالى ـــ : {يَجْعَلُونَ أَصْبِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم مّنَ الصَّوعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ (البَقَرَة: الآية 19) } فالحذرُ: مصدرٌ مُسْتَوففٍ لما ذكرنا؛ فلذلك انتصب على المفعول له، والمعنى لأجل حذر الموت.
ومتى دَلَّتْ الكلمة على التعليل وفُقِدَ منها شرطٌ من الشروط الباقية فليست مفعولاً له، ويجب حينئذ أن تجرَّ بحرف التعليل.
فمثالُ ما فَقَدَ المصدريةَ قولُكَ: جِئْتُكَ للماء ولِلعُشْب، وقوله ـ تعالى ـــ : {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً (البَقَرَة: الآية 29) } وقول امرىء القيس: (الطَّويل)
108 ـــ وَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لأِدْنَى مَعِيشَةٍ
كفَاني، وَلَمْ أَطْلُبْ، قَلِيلٌ مِنَ الْمَاللِ
ومثالُ ما فَقَدَ الاتِّحادَ في الزمان قولُكَ: جئتك اليومَ للسفر غداً، وقولُ امرىء القيس أيضاً: (الطَّويل)
109 ـــ فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَتْ لِنَوْممِ ثِيَابَهَا
لَدَى السِّتْرِ إِلاَّ لِبْسَةَ الْمُتَفَضِّللِ
فإنَّ زَمَنَ النوم متأخّرٌ عن زمن خَلْععِ الثوب.
ومثالُ ما فقد الاتحادَ في الفاعل قَوْلُكَ: قمت لأمرك إيَّاي، وقولُ الشاعر: (الطَّويل)(1/132)
110 ـــ وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاككِ هِزَّةٌ
كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ
فإن فاعل «تَعْرُوني» هو الهَزَّةُ وفاعل الذِّكرى هو المتكلم؛ لأن التقدير لذكرى إياك.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الرابع المفعول فيه
ثم قلت: الرَّابعُ: المَفْعُولُ فِيهِ، وهُوَ: مَا ذُكِرَ فَضْلَةً لأجْللِ أَمْرٍ وَقَعَ فيهِ: مِنْ زَمَاننٍ مُطْلَقاً، أوْ مَكَاننٍ مُبْهَممٍ، أوْ مُفِيدٍ مِقْدَاراً، أوْ مَادَّتُهُ مَادَّةُ عَامِلِهِ كـ«صُمْتُ يَوْماً» أوْ «يَوْمَ الْخَمِيس» و «جَلَسْتُ أَمَامَكَ» و «سِرْتُ فَرْسَخاً» و «جَلَسْتُ مَجْلِسَكَ» والمَكَانيُّ غَيْرَهُنَّ يُجَرُّ بفي كـ«صَلَّيْتُ في المَسْجِدِ» ونحو: قَالاَ خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ وقَوْلِهِمْ: «دَخَلْتُ الدَّارَ» على التَّوَسُّععِ.
وأقول: الرابعُ من المنصوبات الخمسة عَشَرَ: المفعولُ فيه، ويسمى الظرفَ، وهو عبارة عما ذكرت.(1/133)
والحاصِلُ أن الاسم قد لا يكون ذكر لأجل أمر وقع فيه، ولا هو زمان ولا مكان، وذلك كزيداً في «ضَرَبْتُ زَيْداً» وقد يكون إنما ذكر لأجل أمر وقع فيه، ولكنه ليس بزمان، ولا مكان، نحو: «رَغِبَ المتَّقُونَ أنْ يَفْعَلُوا خَيْراً» فإن المعنى في أن يفعلوا، وعليه في أحَدِ التفسيرين قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ (النِّساء: الآية 127) } وقد يكون العكس، نحو: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً (الإنسَان: الآية 10) } ونحو: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ (غَافر: الآية 15) }{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الاْزِفَةِ (غَافر: الآية 18) } ونحو: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ (الأنعَام: الآية 124) } فهذه الأنواع لا تسمى ظرفاً في الاصطلاح، بل كلٌّ منها مفعولٌ به، وَقَعَ الفعلُ عليه، لا فيه، يظهر ذلك بأدنى تأمُّللٍ للمعنى، وقد يكون مذكوراً لأجل أمر وقع فيه وهو زمان أو مكان؛ فهو حينئذٍ منصوب على معنى «في» وهذا النوع خاصةً هو المسمى في الاصطلاح ظرفاً، وذلك كقولك: صُمْتُ يَوْماً، أوْ يَوْمَ الْخَمِيس، وجَلَسْتُ أمَامَكَ.
وأشَرْتُ بالتمثيل بيوماً ويوم الخميس إلى أن ظرف الزمان يجوز أن يكون مبهماً وأن يكون مختصاً، وفي التنزيل: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً (سَبَإ: الآية 18) }{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً (غَافر: الآية 46) }{وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } (الأحزَاب: الآية 42).
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام ظرف المكان
وأما ظرفُ المكاننِ فعلى ثلاثة أقسام:(1/134)
القسم الأوّل: أن يكون مبهماً، ونعني به ما لا يَخْتَصُّ بمكاننٍ بعينه، وهو نوعان؛ أحدهما: أسماء الجهات الست، وهي: فَوْق، وتحت، ويمين، وشمال، وأمام، وخلف؛ قال الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ (يُوسُف: الآية 76) }{فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ (مريَم: الآية 24) } في قراءة مَنْ فتح ميم (مَنْ) {وَكَانَ وَرَآءهُم مَّلِكٌ (الكهف: الآية 79) } وقرىء: {وكانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ}{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ (الكهف: الآية 17) } وأصل (تَزَّاور) تتزاور، أي: تتمايل، مشتق من الزَّوَر ـــ بفتح الواو ـــ وهو المَيْل، ومنه زَارَهُ، أي: مال إليه، ومعنى (تقرضهم) تقطعهم، من القطيعة، وأصله من القطع، والمعنى تُعْرض عنهم إلى الجهة المسماة بالشمال، وحاصلُ المعنى أنها لا تصيبهم في طلوعها ولا في غروبها، وقال الشاعر: (الوافر)
111 ـــ صَدَدْتتِ الكأسَ عَنَّا أمَّ عَمْرٍو
وَكَانَ الكأسُ مَجْرَاهَا اليَمِينا
يجوز كونُ «مجراها» مبتدأ، و «اليمين» ظرف محبر به، أي: مجراها في اليمين، والجملة خبر كان، ويجوز كون «مجراها» بَدَلاً من الكأس بَدَل اشتماللٍ؛ فاليمين أيضاً ظرفٌ؛ لأن المعتمد في الإخبار عنه إنما هو البدل لا الاسم، ويجوز في وَجْهٍ (ضعيف) تقديرُ اليمين خبر كان لا ظرفاً، وذلك على اعتبار المبدل منه دون البدل، وقال الآخر: (المتقارب)
112 ـــ لَقَدْ عَلِمَ الضَّيْفُ والمُرْمِلُونَ
إذَا اغْبَرَّ أُفْقٌ وَهَبَّتْ شَمَالاَ
النَّوعُ الثاني: ما ليس اسمَ جهةٍ، ولكن يشبهه في الإبهام، كقوله تعالى: {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا (يُوسُف: الآية 9) }{وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً (الفُرقان: الآية 13) }.(1/135)
والقسم الثاني: أن يكون دَالاًّ على مساحة (مَعْلُومَةٍ) من الأرض، كـ«سِرْتُ فَرْسَخاً» و «مِيلاً» و «بَرِيداً» وأكثرهم يجعل هذا من المبهم، وحقيقة القول فيه أن فيه إبهاماً واختصاصاً: أما الإبهام فمن جهة أنه لا يختص ببقعة بعينها، وأما الاختصاص فمن جهة دلالته على كمية معينة؛ فعلى هذا يصحُّ فيه القَوْلاَننِ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
والقسم الثالث: اسم المكان المشتق من المصدر، ولكن شَرْطُ هذا أن يكون عَامِلُه من مادته، كـ«جَلَسْتُ مَجْلِسَ زَيْدٍ» و «ذَهَبْتُ مَذْهَبَ عَمْرٍو» {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَعِدَ لِلسَّمْعِ (الجنّ: الآية 9) }، ولا يجوز «جَلَسْتُ مَذْهَبَ عَمْرٍو» ونحوه.
وما عدا هذه الأنواع الثلاثة من أسماء المكان لا يجوز انتصابه على الظرف؛ فلا تقول: «صَلَّيْتُ المسجدَ» ولا «قُمْتُ السُّوقَ» ولا «جَلَسْتُ الطَّرِيقَ»؛ لأن هذه الأمْكِنَةَ خاصَّةٌ، ألا ترى أنه ليس كلُّ مكان يسمى مسجداً ولا سوقاً ولا طريقاً؟ وإنما حكمك في هذه الأماكن ونحوها أن تُصَرِّح بحرف الظرفية وهو «في» وقال الشاعر ـــ وهو رجل من الجن سمعوا بمكة صوته ولم يَرَوْا شخصه ـــ يذكر النبيَّ صلى الله عليه وسلّم وأبا بكر رضي الله عنه حين هَاجَرَ: (الطَّويل)
113 ـــ جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسسِ خَيْرَ جَزَائِه
رَفِيقَيْننِ قَالاَ خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلاَ بِالْبِرِّ ثُمَّ تَرَحَّلا
فَأفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
فَيَا لَقُصَيَ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ
بِهِ مِنْ فِعَاللٍ لاَ تُجَازَى وَسُؤْدَدِ(1/136)
وكان حقه أن يقول: «قالا في خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ» أي: قَيَّلاَ فيها، ويروى حَلاَّ بدل قالا، والتقدير (أيضاً) حَلاَّ في خَيْمَتَيْ، ولكنه اضطر فأسقط «في» وأوْصَلَ الفعل بنفسه، وكذا عملوا في قولهم: «دَخَلْتُ الدَّارَ، والمَسْجِدَ» ونحو ذلك، إلا أنَّ التوسع مع «دخلت» مُطَّرِد؛ لكثرة استعمالهم إياه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الخامس المفعول معه
ثم قلت: الخَامِسُ: المَفْعُولُ مَعَهُ، وهُوَ: الاسْمُ، الْفَضْلَةُ، التَّالِي وَاوَ المُصَاحَبَةِ، مَسْبُوقَةً بِفِعْللٍ أوْ مَا فِيهِ مَعْنَاهُ وحُرُوفُهُ، كـ«سِرْتُ والنِّيلَ» و «أَنَا سَائِرُ والنِّيلَ».
وأقول: الخامسُ من المنصوبات: المفعولُ معه.
وإنما جُعِلَ آخِرَهَا في الذكر لأمرين؛ أحدهما: أنهم اختلفوا فيه، هل هو قياسي أو سماعي؟ وغيره من المفاعيل لا يختلفون في أنه قياسي، والثاني: أنَّ العامل إنما يَصِلُ إليه بواسطة حَرْففٍ ملفوظٍ به، وهو الواو، بخلاف سائر المفعولات.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط مجيء المفعول معه
وهو عبارة عما اجتمع فيه ثلاثةُ أُمُورٍ: أحدها: أن يكون اسماً، والثاني: أن يكون واقعاً بعد الواو الدالة على المُصَاحَبَةِ، والثالث: أن تكون تلك الواوُ مسبوقَةً بفعل، أو ما فيه معنى الفعل وحُرُوفُهُ.(1/137)
وذلك كقولك: «سِرْتُ والنِّيلَ» و «اسْتَوَى المَاءُ والْخَشَبَةَ» و «جَاءَ البَرْدُ والطَّيَالِسَةَ» وكقول الله تعالى: {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءكُمْ (يُونس: الآية 71) } أي: فأجمعوا أمركم مع شركائكم، فـ(شركاءكم) مفعول معه؛ لاستيفائه الشرُوطَ الثلاثة، ولا يجوز على ظاهر اللفظ أن يكون معطوفاً على (أمركم) لأنه حينئذٍ شريك له في معناه؛ فيكون التقدير: أجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم، وذلك لا يجوز؛ لأن أجْمَعَ إنما يتعلق بالمعاني دون الذّوَاتتِ، تقول: أجمعت رأيي، ولا تقول: أجمعت شركائي، وإنما قلت: «على ظاهر اللفظ» لأنه يجوز أن يكون معطوفاً على حذف مضاف، أي: وأمر شركائكم، ويجوز أن يكون مفعولاً لفعل ثُلاَثِي محذوف، أي: واجْمَعُوا شركاءكم، بِوَصْللِ الألف، ومن قرأ: (فَاجْمَعُوا) بوصل الألف صَحَّ العَطْفُ على قراءته من غير إضمار؛ لأنه من «جمع» وهو مشترك بين المعاني والذوات، تقول: جمعت أمري، وجمعت شركائي، قال الله تعالى: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (طه: الآية 60) }{الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ } (الهُمَزة: الآية 2) ، ويجوز على هذه القراءة أن يكون مفعولاً معه، ولكن إذا أمكن العَطْفُ فهو أولى لأنه الأصل.
وليس من المفعول معه قولُ أبي الأسْوَد الدؤلي: (الكامل)
114 ـــ يَأَيُّهَا الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيْرَهُ
هَلاَّ لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا
فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُسْمَعُ مَا تَقُولُ وَيُشْتَفَى
بِالْقَوْللِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
لاَ تَنْهُ عَنْ خُلُققٍ وَتَأْتِي مِثْلَهُ
عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ(1/138)
الشاهد في قوله: «وتَأْتِيَ مِثْلَهُ» فإنه ليس مفعولاً معه وإن كان بعد واو بمعنى مع ـــ أي: لا تَنْه عن خلق مع إتيانك مثلَه ـــ لأنه ليس باسم، ولا نحو قولك: «بِعْتُكَ الدَّارَ بأثاثها، والعَبْدَ بثيابه»، وقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ (المَائدة: الآية 61) }، وقولك: جاء زيد مع عمرو، فإن هذه الأسماء وإن كانت مصاحبة لما قبلها لكنها ليست بعد الواو، ولا نحو قولك: مَزَجْتُ عَسَلاً ومَاءً، وقول الشاعر: (الرَّجز)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
115 ـــ عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً
حَتَّى غَدَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا
وقول الآخر: (الوافر)
116 ـــ إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْماً
وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا(1/139)
لأن الواو ليست بمعنى مع فيهن، وإنما هي في المثال الأول لعطف مفرد على مفرد، واستفيدت المعية من العامل ـــ وهو «مزجت» ـــ وفي المثالين الأخيرين لعطف جملة على جملة، والتقدير: وسقيتها ماء، وكَحَّلْنَ العيونا، فحُذِفَ الفعل والفاعل وبقي المفعول، ولا جائز أن يكون (الواو) فيهما لعطف مفرد على مفرد؛ لعدم تشارك ما قبلها وما بعدها في العامل؛ لأن «عَلفْتُ» لا يصح تسليطه على الماء، و «زَجَّجْنَ» لا يصح تسليطه على العيون، ولا تكون للمصاحبة؛ لانتفائها في قوله: «عَلفْتُهَا تِبْنَا ومَاءً» ولعدم فائدتها في «وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ والعُيُونَا»؛ إذ من المعلوم لكل أحد أن العيون مصاحبة للحواجب، ولا نحو: «كلُّ رَجُللٍ وَضَيْعَتُه»؛ لأنه وإن كان اسماً واقعاً بعد الواو التي بمعنى مع لكنها غير مسبوقة بفعل ولا ما في معناه، ولا نحو: «هذَا لَكَ وأباك» ونحوه على أن يكون «أباك» مفعولاً معه منصوباً بما في «ها» من معنى أُنَبِّهُ، أو بما في «ذا» من معنى أشير، أو بما في «لك» من معنى اسْتَقَرَّ؛ لأن كلاًّ من «ها» و «ذا» و «لك» فيه معنى الفعل دون حروفه، بخلاف «سِرْتُ والنِّيلَ» و «أنا سَائِرٌ والنِّيل» فإن العاملَ في الأول الفعلُ، وفي الثاني الاسمُ الذي فيه معنى الفعل وحروفهُ، قال سيبويه رحمه الله: «وأما نحو هذا لكَ وأباكَ فقبيح؛ لأنك لم تذكر فعلاً ولا ما في معناه» وقالوا: مراده بالقبيح الممتنع.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
السادس: المشبّه بالمفعول به
ثم قلت: السَّادِسُ: المُشَبَّهُ بِالمَفْعُوللِ بِهِ، نحوُ: «زَيْدٌ حَسَنٌ وَجْهَهُ» وسيأتي.(1/140)
وأقول: السادسُ من المنصوبات: المشبَّهُ بالمفعول به، وهو المنصوب بالصفة المشبهة باسم الفاعل المتعدِّي إلى واحد، وذلك في نحو قولكَ: «زَيْدٌ حَسَنٌ وَجْهَهُ» بنصب الوجه، والأصلُ: «زَيْدٌ حَسَنٌ وَجْهُهُ» بالرفع؛ فزيد: مبتدأ، وحسن: خبر، ووجهه: فاعل بحسن؛ لأن الصفة تعملُ عملَ الفعللِ، وأنت لو صَرَّحْتَ بالفعل فقلت حَسُنَ ـــ بضم السين وفتح النون ـــ لوجب رفع الوجه بالفاعِلِيَّةِ؛ فكذلك حَقُّ الصفة أن يجب معها الرفعُ، ولكنهم قصدوا المبالغة مع الصفة، فحوَّلوا الإسناد عن الوجه إلى ضمير مستتر في الصفة راجععٍ إلى زيد؛ ليقتضي ذلك أن الحسن قد عَمَّهُ بجملته، فقيل: «زَيْدٌ حَسَنٌ» أي: هو، ثم نصب وجهه، وليس ذلك على المفعولية؛ لأن الصفة (إنما) تتعدَّى تَبَعاً لتَعَدِّي فعلها، وحَسُنَ الذي هو الفعلُ لا يتعدَّى، فكذلك صفته التي هي فَرْعُه، ولا على التمييز؛ لأنه معرفة بالإضافة إلى الضمير، ومذهب البصريين ـــ وهو الحق ـــ أن التمييز لا يكون معرفة، وإذا بَطَلَ هذان الوجهان تعيَّنَ ما قلنا من أنه مُشَبَّه بالمفعول به، وذلك أنه شبه حَسَنٌ بضارب ـــ في أن كلاًّ منهما صفة تثنى وتجمع (وتذكرُ) وتؤنث، وهي طالبة لما بعدها بعد استيفائها فاعلَهَا ـــ فنُصِبَ الوجهُ على التشبيه بعمرو في قولك: «زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْراً» فحَسَنٌ مشبه بضارب ووجهه مشبه بعمراً، وسيأتي الكلام على هذا الباب بأبْسَطَ من هذا إن شاء الله في موضعه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
السابع الحال
تعريف الحال(1/141)
ثم قلت: السَّابِعُ: الحَالُ، وهُوَ: وَصْفٌ فَضْلَةٌ مَسُوقٌ لِبَيَاننِ هَيْئَةِ صَاحِبِهِ أوْ تأكِيدِهِ أوْ تَأكِيدِ عَامِلِهِ، أوْ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، نحو: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً (القَصَص: الآية 21) } و {لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا (يُونس: الآية 99) } و {فَتَبَسَّمَ ضَحِكاً (النَّمل: الآية 19) } و {وَأَرْسَلْنَكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً (النِّساء: الآية 79) }.
وَأَنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفاً بِهَا نَسَبِي
ويَأتِي مِنَ الْفَاعِل، وَمِنَ الْمَفْعُوللِ، ومنهما مطلقاً، ومِنَ الْمُضَاففِ إلَيْهِ، إن كانَ الْمُضَافُ بَعْضَهُ نحو: {لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً (الحُجرَات: الآية 12) } أوْ كَبَعْضِهِ نحوُ: {مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا (البَقَرَة: الآية 135) } أوْ عَامِلاً فِيهَا، نحو: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً (يُونس: الآية 4) }.
وحَقُّهَا أنْ تَكُونَ نَكِرَةً، مُنْتَقِلَةً، مُشْتَقَّةً، وأنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا مَعْرِفَةً، أوْ خاصًّا، أوْ مُؤَخَّراً، وقَدْ يَتَخَلَّفْنَ.
وأقول: السَّابعُ من المنصوبات: الحالُ، (وهو) يُذَكَّر ويؤنث، وهو الأفْصَح، يقال: حَالٌ حَسَن، وحال حسنَةٌ، وقد يؤنث لَفْظُهَا فيقال: حالة؛ قال الشاعر: (الطويل)
117 ـــ عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ فِي الْقَوْممِ خَاتِماً
عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمُ(1/142)
وحَدُّهُ في الاصطلاح ما ذَكَرْتُ؛ فقولي: «وصفٌ» جنس يدخل تحته الحالُ والخبرُ والصفةُ، وقولي: «فضلة» فصل مُخْرِج للخبر، نحو: «زيد قائم» وقولي: «مَسُوقٌ لبيان هيئة ما هُوَ له» مخرج لأمرين، أحدهما: نعت الفَضْلة من نحو: «رأيت رَجُلاً طَوِيلاً» و «مررت بِرَجُللٍ طَوِيلٍ» فإنه وإن كان وصفاً فضلة لكنه لم يُسَقْ لبيان الهيئة، وإنما سِيقَ لتقييد الموصوف، وجاء بيانُ الهيئة ضِمْناً؛ والثاني: بعض أمثلة التمييز، نحو: «لله دره فارساً»، فإنه وإن كان وصفاً فضلة لكنه لم يُسَقْ لبيان الهيئة، ولكنه سِيقَ لبيان جنس المتعجّببِ منه، وجاء بيان الهيئة ضمناً، وقولي: «أو تأكيده ـــ إلى آخره» تَمَّمْتُ به ذكر أنواع الحال.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام الحال
والحاصلُ أن الحال أرْبَعَةُ أقْسَاممٍ: مبينة للهيئة، وهي التي لا يستفاد معناها بدون ذكرها، ومؤكدة لعاملها، وهي التي لو لم تذكر لأفاد عاملُها معناها، ومؤكدة لصاحبها، وهي التي يستفاد معناها من صريح لفظ صاحبها، ومؤكدة لمضمون الجملة، وهي الآتية بعد جملة معقودة من اسمين معرفتين جامدين، وهي دالة على وصف ثابت مستفاد من تلك الجملة.
(أ) فالمبينة للهيئة: كقولك: «جاءَ زَيْدٌ رَاكِباً» و «أقْبَلَ عَبْدُ اللَّهُ فَرِحاً». وقول الله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً (القَصَص: الآية 21) }.
(ب) والمؤكدة لصاحبها: كقوله تعالى: {لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا (يُونس: الآية 99) }. وقولك: «جاء النَّاسُ قَاطِبَةً» أو «كَافَّةً» أو «طُرًّا» وهذا القسم أغْفَل التنبيه عليه جميعُ النحويين، ومَثَّلَ ابنُ مالككٍ بالآية للحال المؤكدة لعاملها، وهو سَهْوٌ.(1/143)
(ج) والمؤكدة لعاملها: كقولك: «جاء زَيْدٌ آتياً» و «عَاثَ عمرٌو مُفْسِداً» وقول الله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } (ق: الآية 31) وذلك لأن الإزلاف هو التقريبُ؛ فكل مُزْلَففٍ قريبٌ، وكل قريب غير بعيد، وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً (النِّساء: الآية 79) }{فَتَبَسَّمَ ضَحِكاً (النَّمل: الآية 19) }{وَلَّى مُدْبِراً (النَّمل: الآية 10) }{وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ (البَقَرَة: الآية 60) } فإنه يقال: عَثِيَ بالكسر يَعْثَى بالفتح إذا أفْسَدَ.
(د) والمؤكدة لمضمون الجملة: كقوله: «زَيْدٌ أبوك عطوفاً» وقول الشاعر: (البسيط)
118 ـــ أَنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفاً بِهَا نَسَبِي
وَهَلْ بِدَارَةَ يَا للنَّاسسِ مِنْ عَارِ؟
وأشَرْتُ بقولي: «قبله» إلى أنه لا يجوز أن يقال: «عطوفاً زيد أبوك» ولا «زيد عطوفاً أبوك».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
صاحب الحال
ثم بينت أن الحال تارة يأتي من الفاعل، وذلك كما (كنتُ) مَثَّلْتُ به من قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً (القَصَص: الآية 21) } فإن (خائفاً) حال من الضّمير المستتر في (خَرَجَ) العائد على موسى عليه السلام.
وتارة يأتي من المفعول كما (كنت) مثلت به من قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً (النِّساء: الآية 79) } فإن (رسولاً) حال من الكاف التي هي مفعول أرسلنا.
وأنه لا يتوقف مجيء الحال من الفاعل والمفعول على شرط.
وإلى أنها تجيء من المضاف إليه، وأن ذلك يتوقف على واحد من ثلاثة أمور:
أحدها: أن يكون المضافُ بعضاً من المضاف إليه، كما في قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً (الحُجرَات: الآية 12) } فميتاً: حال من الأخ، وهو مخفوض بإضافة اللحم إليه، والمضاف بعضه، وقوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا (الحِجر: الآية 47) }.(1/144)
والثاني: أن يكون المضاف كبعض من المضاف إليه في صحة حذفه والاستغناء عنه بالمضاف إليه، وذلك كقوله تعالى: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا (البَقَرَة: الآية 135) } فـ(حنيفاً) حال من (إبراهيم) وهو مخفوض بإضافة الملة إليه، وليست الملة بعضَهُ، ولكنها كبعضه في صحة الإسقاط والاستغناء به عنها، ألا ترى أنه لو قيل: بل اتبعوا إبراهيم حنيفاً: صَحَّ ـــ كما أنه لو قيل: أيحب أحدكم أن يأكل أخاه ميتاً، ونزعنا ما فيهم من غل إخواناً ـــ كان صحيحاً.
الثالث: أن يكون المضافُ عاملاً في الحال، كما في قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً (يُونس: الآية 4) } فـ(جميعاً) حالٌ من الكاف والميم المخفوضة بإضافة المرجع، والمرجع هو العامل في الحال، وصحَّ له أن يعمل لأن المعنى عليه مع أنه مصدر؛ فهو بمنزلة الفعل، ألا ترى أنه لو قيل: إليه ترجعون جميعاً، كان العاملُ الفعلَ الذي المصدرُ بمعناه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أحكام الحال
ثم بينت أن للحال أحكاماً أربعة، وأن تلك الأربعة ربما تخلفت.
فالأولُ: الانتقالُ؛ ونعني به أن لا يكون وصفاً ثابتاً لازماً، وذلك كقولك: «جاء زيدٌ ضاحكاً» ألا ترى أن الضحك يُزَايل زيداً، ولا يلازمه، هذا هو الأصل، وربما جاءت دالة على وصففٍ ثابتتٍ، كقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَبَ مُفَصَّلاً (الأنعَام: الآية 114) } أي: مبيناً، وقوللِ العرب: «خَلَقَ اللَّهُ الزَّرَافَةَ يَدَيهَا أطْوَلَ مِنْ رِجْلَيْهَا» فالزرافة ـــ بفتح الزاي ـــ مفعول لخلَقَ، بدلٌ منها (بَدَلَ) بعضضٍ من كلَ، وأطولَ: حال من الزرافة، ومن رجليها: متعلق بأطول.(1/145)
وقد عاب بعضُ الجهال ما جَزَمْتُ به من فتح الزاي، وقال: فيها الفتح والضم فبينت له أن هذه اللفظة ذكرها أبو منصور موهوبُ بن الجواليقي في كتابه فيما تغلط فيه العامة، فقال في باب ما جاء مفتوحاً والعامة تضمه ما نصه: وهي الزرافة ـــ بفتح الزاي ـــ هذه الدابة التي جمعت فيها خلق شتى، مأخوذة من قولهم للجمع من الناس «زَرَافة» بالفتح، وهو الوجه، والعامة تضمها، انتهى كلامه، واللغات الشاذةُ لا تُحْصَى، وإنما يُعْمَلُ على ما عليه الفُصَحَاء الموثوقُ بلغتهم.
الثاني: الاشتقاقُ؛ وهو: أن تكون وصفاً مأخوذاً من مصدر كما قدمناه من الأمثلة، وربما جاءت اسماً جامداً كقوله تعالى: {فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ (النِّساء: الآية 71) } فـ (ثبات) حالٌ من الواو في (انْفِرُوا) وهو جامد، لكنه في تأويل المشتق، أي: متفرقين بدليل قوله تعالى: {أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً (النِّساء: الآية 71) } وقد اشتملت هذه الآية على مجيء الحال جامدة وعلى مجيئها مشتقة.
الثالث: أن تكون نكرة، كجميع ما قدمناه من الأمثلة، وقد تأتي بلفظ المعرف بالألف واللام، كقولهم: «ادْخُلُوا الأوَّلَ فالأوَّلَ» و «أرْسَلَهَا العِرَاكَ» و «جاءُوا الحَمَّاء الْغَفِيرَ» أي: جميعاً، وأل في ذلك كله زائدة، وقد تأتي بلفظ المعَرَّففِ بالإضافة، كقولهم: «اجْتَهِدْ وَحْدَكَ» أي: منفرداً، و «جاءوا قَضَّهُمْ بقَضِيضهمْ»، أي: جميعاً.
وقد تأتي بلفظ المعرف بالعَلَمِيَّةِ، كقولهم: «جَاءَتتِ الْخَيْلُ بَدَادِ» أي: متبدِّدَةً، فإن بَدَادِ في الأصل علم على جنس التبدُّدِ، كما أن فجار علم للفَجْرَة.
الرابع: أن لا يكون صاحبُها نكرة مَحْضَة، كما تقدم من الأمثلة؛ وقد تأتي كذلك كما روى سيبويه من قولهم: «عَلَيْهِ مِائَةٌ بِيضا» وقال الشاعر؛ وهو عنترة العبسي: (الكامل)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
119 ـــ فِيهَا اثْنَتَاننِ وأرْبَعُونَ حَلُوبَةً
سُوداً كخَافِيَةِ الغُرَاببِ الأسْحَممِ(1/146)
فحلوبة: لتمييز العدد، إما حالٌ من العدد، أو من حلُوبة، أو صفة، وعلى هذين الوجهين ففيه حَمْلٌ على المعنى؛ لأن حلوبة بمعنى حلائب، فلهذا صح أن يحمل عليها سوداً، والوجه الأول أحسن.
وفي الحديث: «صَلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم جالساً وصَلَّى وراءَهُ رجالٌ قياماً» فجالساً: حال من المعرفة، وقياماً: حال من النكرة المحضة.
وإنما الغالبُ ـــ إذا كان صاحبُ الحال نكرةً ـــ أن تكون عامة أو خاصة، أو مؤخرة عن الحال.
فالأول: كقوله تعالى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ }لله (الشُّعَرَاء: الآية 208) ؛ فإن الجملة التي بعد (إلا) حال من (قرية) وهي نكرة عامة؛ لأنها في سياق النفي.
والثاني: نحو: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مّنْ عِنْدِنَآ}؛ فـ(أمراً) ـــ إذا أعرب حالاً ـــ فصاحبُ الحال إما المضاف فالمسوغ أنه عام أو خاص: أما الأول فمن جهة أنه أحَدُ صِيَغغِ العموم، وأما الثاني فمن جهة الإضافة، وأما المضاف إليه فالمسوغ أنه خاص؛ لوصفه بحكيم، وقرأ بعضُ السلف: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقاً} بالنصب؛ فجعله الزمخشري حالاً من (كتاب) لِوَصْفِهِ بالظرف، وليس ما ذكر بلازم، لجواز أن يكون حالاً من الضمير المستتر في الظرف.
والثالثُ: كقوله: (مجزوء الوافر)
7 ـــ لِميَّةَ مُوحشاً طَلَلُ
فهذه المواضع ونحوها مَجِيءُ الحال فيها من النكرة قِيَاسِيُّ، كما أن الابتداء بالنكرة في نظائرها قياسي، وقد مضى ذلك في باب المبتدأ، فَقِسْ عليه هنا.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الثّامن التّمييز
ثم قلت: الثَّامِنُ: التَّمْييزُ، وهو: اسْمٌ، نَكِرَة، فَضْلَةٌ، يَرْفَعُ إبْهَامَ اسْممٍ، أوْ إجْمَالَ نِسْبَةٍ.(1/147)
فالأوَّلُ: بَعْدَ الْعَدَدِ الأحَدَ عَشَرَ فَمَا فَوْقَهَا إلَى الْمِائَةِ، و «كَمْ» الاسْتِفْهَامِيَّةِ، نحو: «كَمْ عَبْداً مَلَكْتَ» وبَعْدَ المَقَادِيرِ، كـ«رِطْل زَيْتاً» وكـ«شِبْر أرْضاً» و «قَفِيز بُرًّا» وَشِبْهِهِنَّ، مِنْ نَحْوِ: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً (الزّلزَلة: الآية 7) } و «نِحْي سَمْناً» و «مِثْلُهَا زُبْداً» و «مَوْضِعُ رَاحَة سَحَاباً» وبَعْدَ فَرْعِهِ نحو: «خَاتَم حَدِيداً».
والثاني: إمَّا مُحَوَّلٌ عَننِ الْفَاعِللِ، نحوُ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (مريَم: الآية 4) } أوْ عَننِ الْمَفْعُوللِ، نحوُ: {وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً (القَمَر: الآية 12) } أوْ عَنْ غَيْرِهِمَا، نحو: {أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً (الكهف: الآية 34) } أوْ غَيْرُ مُحَوَّل، نحو: «لِلَّهِ دَرُّهُ فَارِساً».
وأقولُ: الثامنُ من المنصوبات: التَّمييزُ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
تعريف التّمييز
وهو والتفسير والتبيين ألفاظٌ مترادفة لغة واصْطِلاَحاً، وهو في اللغة بمعنى فَصْللِ الشيء عن غيره، قال الله تعالى: {وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } (يس: الآية 59) أي: انفصلوا من المؤمنين {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ (المُلك: الآية 8) } أي: ينفصل بعضُها من بعض وهو في الاصطلاح مختص بما اجتمع فيه ثلاثة أمُور، وهي المذكورة في المقدمة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الفرق ما بين الحال والتمييز(1/148)
وفُهِمَ مما ذكرته في حَدَّيِ الحال والتمييز أنَّ التمييز وإن أشبه الحال في كونه منصوباً، فضلة، مبيناً لإبْهَاممٍ، إلا أنه يفارقه في أمرين، أحدهما: أن الحال إنما يكون وصفاً إما بالفعل أو بالقوة، وأما التمييز فإنه يكون بالأسماء الجامدة كثيراً؟ نحو: «عِشْرُونَ دِرْهَماً» و «رطل زيتاً» وبالصفات المشتقة قليلاً كقولهم: «لِلَّهِ دَرُّهُ فَارِساً» و «لِلَّهِ دَرُّهُ رَاكِباً» الثاني: أن الحال لبيان الهيئات والتمييز يكون تارة لبيان الذَّوات. وتارة لبيان جهة النسبة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
التمييز نوعان وكلّ منهما على أربعة أقسام
(أ) أقسام التّمييز المبيّن للذّات
وقَسَّمْتُ كلاًّ من هذين النوعين أرْبَعَةَ أقْسَاممٍ:
فأما أقْسَامُ التمييز المبين للذات فأحدها: أن يقع بعد الأعداد، وقسمت العدد إلى قسمين: صريح، وكناية.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
العدد الصَّريح(1/149)
فالصريح الأحَدَ عَشَرَ فما فوقها إلى المائة. تقول: «عِنْدِي أحَدَ عَشَرَ عَبْداً» و «تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَماً» وقال الله تعالى: {إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا (يُوسُف: الآية 4) }{وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً (المَائدة: الآية 12) }{وَوعَدْنَا مُوسَى ثَلَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (الأعرَاف: الآية 142) }{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً (العَنكبوت: الآية 14) }{فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً (المجَادلة: الآية 4) }{ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً (الحَاقَّة: الآية 32) }{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً (النُّور: الآية 4) }{إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً (ص: الآية 23) }، وفي الحديث: «إن لله تسعةً وتسعينَ اسماً» وأردت بقولي: «إلى المائة» عدم دخول الغاية في المُغَيَّا، وهو أحدُ احتمالَيْ حرف الغايةِ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
العدد الكناية
والكناية هي «كم» الاستفهامية، تقول: كَمْ عَبْداً مَلَكْتَ؟ فكم: مفعول مقدم، وعبداً: تمييز واجبُ النصببِ والإفراد، وزعم الكوفي أنه يجوز جمعه فتقول: كم عبيداً ملكت، وهذا لم يسمع، ولا قياس يقتضيه، ويجوز لك جر تمييز كم الاستفهامية؟ وذلك مشروط بأمرين، أحدهما: أن يدخل عليها حرف جر، والثاني: أن يكون تمييزها إلى جانبها، كقولك: بِكَمْ دِرْهَممٍ اشْتَرَيْتَ؟ وعلى كَمْ شَيْخخٍ اشْتَغَلْتَ؟ والجر حينئذ عند جمهور النحويين بمن مضمرة، والتقدير: بكم من درهم؟ وعلى كم من شيخ؟ وزعم الزجاج أنه بالإضافة.(1/150)
القسم الثاني: أن يقع بعد المقادير وقَسَّمْتُهَا على ثلاثة أقسام، أحدها: ما يدل على الوزن، كقولك: رطل زيتاً، ومَنَوَاننِ سمناً؟ والمَنَوَان: تثنية مَناً، وهو لغة في المنّ، وقيل في تثنيته: مَنواننِ، كما يقال في تثنية عصاً: عصوان، والثاني: ما يدل على مساحة؟ كقولك: شبر أرضاً، وجريب نخلاً؟ وقولهم: ما في السماء مَوْضع رَاحةٍ سحاباً، الثّالث: ما يدل على الكيل، كقولهم: قفيز براً، وصاع تمراً.
القسم الثالث: أن يقع بعد شبه هذه الأشياء، وذكرت لذلك أربَعَة أمثلة: أحدها: قول الله تعالى: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً (الزّلزَلة: الآية 7) } فهذا بعد شِبْهِ الوزن، وليس به حقيقة؟ لأن مثقال الذرة ليس اسماً لشيء يوزن به في عُرْفنا، والثاني: قولهم: عندي نِحْيٌ سمناً، والنِّحْيُ ـــ بكسر النون وإسكان الحاء المهملة وبعدها ياء خفيفة ـــ اسم لوعاء السّمن، وهذا يُعَد شبه الكيل، وليس به حقيقة؛ لأنّ النّحي ليس مما يكال به السَّمن ويعرف به مقداره، وإنما هو اسم لوعائه فيكون صغيراً وكبيراً، ومثله قولهم: وَطْبٌ لَبَناً، والوَطْبُ ـــ بفتح الواو وسكون الطاء وبالياء الموحدة ـــ اسم لوعاء اللّبن، وقولهم: سِقَاء ماءً، وزِقٌّ خمراً، وراقُودٌ خَلاًّ، الثالث: ما في السماء موضعُ راحةٍ سحاباً، فسحاباً: واقع بعد «موضع راحة» وهو شبيه بالمساحة، والرابع: قولهم: على التَّمْرَةِ مِثْلها زُبداً فزُبْداً: واقع بعد «مثل» وهي شبيهة إن شئت بالوزن، وإن شئت بالمساحة.
والقسم الرابع: أن يقع بعد ما هو متفرع منه، كقولهم: هذَا خَاتَمٌ حديداً، وذلك لأن الحديد هو الأصل، والخاتم مشتق منه؛ فهو فَرْعُهُ، وكذلك «بَاب سَاجاً» و «جُبَّةٌ خَزًّا» ونحو ذلك.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
(ب) التّمييز المبيّن لجهة النّسبة
وأما أقسام التمييز المبين لجهة النسبة فأربعة:(1/151)
أحدها: أن يكون مُحَوَّلاً عن الفاعل، كقول الله عز وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (مريَم: الآية 4) } أصله: واشتعل شيبُ الرأسسِ، وقوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً (النِّساء: الآية 4) } أصلُه: فإن طابت أنفسُهُنَّ لكم عن شيء منه، فحُوِّلَ الإسناد فيهما عن المضاف ـــ وهو الشيب في الآية الأولى، والأنْفُسُ في الآية الثانية ـــ إلى المُضاف إليه ـــ هو الرأس، وضمير النسوة ـــ فارتفعت الرأس، وجيء بدلَ الهاء والنون بنون النسوة، ثم جيء بذلك المضاف الذي حُوِّل عنه الإسناد فضلَةً وتمييزاً، وأفردت النفس بعد أن كانت مجموعة، لأن التمييز إنما يُطْلَبُ فيه بيانُ الجنسسِ، وذلك يتأدى بالمفرد.
الثاني: أن يكون مُحَوَّلاً عن المفعول، كقوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً (القَمَر: الآية 12) } قيل: التقدير (وفجرنا) عيونَ الأرضضِ، وكذا قيل في «غَرَسْتُ الأرْضَ شَجَراً» ـــ ونحو ذلك.
الثالث: أن يكون مُحَوَّلاً عن غيرهما، كقوله تعالى: {أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً (الكهف: الآية 34) } أصلُه: مالي أكْثَرُ، فحذف المضاف ـــ وهو المال ـــ وأقيم المضاف إليه ـــ وهو ضمير المتكلم ـــ مُقَامَه، فارتفع وانفصل، وصار: أنا أكثر منك، ثم جيء بالمحذوف تمييزاً، ومثله: «زيد أحْسَنُ وَجْهاً» و «عَمْرٌو أنْقَى عِرْضاً» وشبه ذلك، التقدير: وَجْهُ زَيْدٍ أحْسَنُ، وعِرْضُ عمرو أنْقَى.
الرَّابع: أن يكون غير مُحَوَّللٍ، كقول العرب: «لِلَّهِ دَرُّهُ فارساً» و «حَسْبُكَ به ناصراً» وقول الشاعر:
120 ـــ يَا جَارَتَا مَا أَنْتتِ جَارَهْ(1/152)
«يا» حرف نداء «جارتا» منادى مضافٌ للياء، وأصله «يا جارتي» فقلبت الكسرة فتحة والياء ألفاً «ما» مبتدأ، وهو اسم استفهام، «أنت» خبره، والمعنى عَظُمْتتِ، كما يقال: زَيْدٌ وما زَيْدٌ، أي: شيء عظيم، و «جاره» تمييز، وقيل: حال، وقيل: «ما» نافية، و «أنت» اسمها، و «جارة» خبر ما الحجازية، أي: لَسْتتِ جارة، بل أنت أشرفُ من الجارة، والصوابُ الأول، ويدلُ عليه قولُ الشَّاعرِ: (السّريع)
121 ـــ يَا سَيِّداً مَا أَنْتَ مِنْ سَيِّدٍ
مُوطّأ الأكْنَاففِ رَحْبَ الذِّرَاعْ
و «من» لا تدخل على الحال، وإنما تدخل على التمييز.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
التّاسع المستثنى
ثم قلت: التَّاسِعُ: المُسْتَثْنَى بِلَيْسَ، أوْ بِلاَ يَكُونُ، أوْ بِمَا خَلاَ، أوْ بِمَا عَدَا، مُطْلَقاً، أوْ بِإلاَّ بَعْدَ كَلاَممٍ تَامَ مُوجَببٍ، أوْ غَيْرِ مُوجَببٍ وتَقَدَّمَ الْمُسْتَثْنَى، نحو: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ (البَقَرَة: الآية 249) }.
وَمَا لِيَ إلاَّ آلَ أحْمَدَ شِيعَةٌ
وغَيْرُ الْمُوجَببِ: إنْ تُرِكَ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلاَ أَثَرَ فِيهِ لـ إلاّ، ويُسَمَّى مُفَرَّغاً، نحو: «مَا قَامَ إلاّ زَيْدٌ»، وإنْ ذُكِرَ فإنْ كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلاً فَإتْبَاعُهُ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أرْجَحُ، نحو: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ (النِّساء: الآية 66) }، ومُنْقَطِعاً فَتَمِيمٌ تُجيزُ إتْبَاعَهُ إنْ صَحَّ التَّفْرِيغُ، وَالمُسْتَثْنَى بِغَيْرِ وَسِوًى مَخْفُوضٌ، وبِخَلاَ وَعَدَا وحَاشَا مَخْفُوضٌ أوْ مَنْصُوبٌ، وتُعْرَب غَيْرٌ بِاتِّفَاققٍ وسِوَى عَلَى الأصَحِّ إعْرَابَ المُسْتَثْنَى بإلاّ.
وأقول: التَّاسعُ من المنصوبات: المستثنى.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حالات وجوب نصب المستثنى
وإنما يجب نصبُه في خَمْسسِ مسائل:(1/153)
إحداها: أن تكون أداة الاستثناء «ليس» كقولك: قَامُوا لَيْسَ زَيْداً، وقول النبي صلى الله عليه وسلّم «ما أنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا، لَيْسَ السِّنَّ والظفُرَ» فليس هنا بمنزلة إلاّ في الاستثناء، والمستثنى بها واجبُ النصببِ مطلقاً بإجماع.
الثانية: أن تكون أداة الاستثناء «لا يكون» كقولك: قاموا لا يكون زيداً؛ فلا يكون أيضاً: بمنزلة إلاّ في المعنى، والمستثنى بها واجبُ النصببِ مطلقاً. كما هو واجب مع ليس.
والعلة في ذلك فيهما أن المستثنى بهما خَبَرُهُمَا. وسيأتي لنا أنَّ كان وليس وأخواتهما يرفعن الاسم وينصبن الخبر.
فإن قلت: فأين اسمهما؟
قلتُ: مستتر فيهما وجوباً، وهو عائد على البعض المفهوم من الكل السابق، وكأنه قيل: ليس بعضُهم زيداً، ولا يكون بعضُهم زيداً، ومثلُه قولُه تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ (النِّساء: الآية 11) } أي: فإن كانت البنات، وذلك لأن الأولاد قد تقدم ذكرهم، وهم شاملون للذكور والإناث، فكأنه قيل أولاً: يوصيكم الله في بنيكم وبناتكم، ثم قيل: فإن كُنَّ، وكذلك هنا.
الثالثة: أن تكون الأداة «ما خلا»، كقولك: جاء القوم ما خلا زيداً، وقوللِ لَبِيدِ بن ربيعة العامري الصحابي: (الطّويل)
122 ـــ أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ
وَكُلُّ نَعِيممٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ
الرَّابعة: أن تكون الأداة «ما عدا» كقولك: جاء القوم ما عدا زيداً وكقول الشَّاعر: (الطّويل)
123 ـــ تُمَلُّ النَّدَامَى مَا عَدَانِي؛ فَإِنَّنِي
بِكُلِّ الَّذِي يَهْوَى نَدِيمِيَ مُولَعُ
فالياء في موضع نصب؛ بدليل لحاق نون الوقاية قبلها، وحكى الجَرْمِيُّ، والرَّبَعِيُّ، والأخفش الجرّ بعد ما خلا وما عدا، وهو شاذ؛ فلهذا لم أحفل بذكره في المقدمة.(1/154)
فإن قلت: لِمَ وَجَبَ عند الجمهور النصبُ بعد «ما خلا» و «ما عدا». وما وَجْهُ الجر الذي حكاه الجرمي والرجلان؟
قلت: أما وجوبُ النصب فلأن «ما» الداخلة عليهما مصدرية، و «ما» لا تدخل إلا على الجمل الفعلية، وأما جواز الخفض فعلى تقدير «ما» زائدة لا مصدرية، وفي ذلك شذوذ؛ فإن المعهود في زيادة «ما» مع حرف الجر: أن لا تكون قبل الجار والمجرور، بل بينهما، كما في قوله تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَدِمِينَ (المؤمنون: الآية 40) }{فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَقَهُمْ لَعنَّهُمْ (المَائدة: الآية 13) }{مّمَّا خَطِيئَتِهِمْ أُغْرِقُواْ (نُوح: الآية 25) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
وقولي: «مطلقاً» راجع إلى المسائل الأربع، أي: سواء تقدم الإيجابُ أو النفي أو شبهه.
الخامسة: أن تكون الأداة «إلا» وذلك في مسألتين:
إحداهما: أن تكون بعد كلام تام مُوجَببٍ، ومرادي بالتام أن يكون المستثنى منه مذكوراً، وبالإيجاب أن لا يشتمل على نفي ولا نهي ولا استفهام، وذلك كقوله تعالى: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ (البَقَرَة: الآية 249) } وقوله تعالى: {فَسَجَدَ المَلاَئِكةُ كُلُّهُمْ أجْمَعُون إلاّ إبْلِيسَ}.
الثانية: أن يكون المستثنى مقدماً على المستثنى منه، كقول الكُمَيْتتِ يمدح آل البيت رضي الله عنهم: (الطّويل)
124 ـــ وَمَا لِيَ إلاّ آلَ أحْمَدَ شِيعَةٌ
وَمَا لِيَ إلاّ مَذْهَبَ الْحَقِّ مَذْهَبُ
ولما انتهيْتُ إلى هنا استطردت في بقية أنواع المستثنى، وإن كان بعض ذلك ليس من المنصوبات البتة، وبعضه متردِّدٌ بين باب المنصوبات وغيرها؛ فذكرت أن الكلام إذا كان غيرَ إيجاببٍ ـــ وهو النفيُ والنهيُ والاستفهامُ ـــ .
الاستثناء المفرّغ وأحكامه:(1/155)
فإن كان المستثنى منه محذوفاً فلا عمل لـ إلاّ، وإنما يكون العمل لما قبلها، ومن ثَمَّ سمّوه استثناء مُفَرَّغاً؛ لأن ما قبلها قد تَفَرَّغَ للعمل فيما بعدها، ولم يشغله عنه شيء، تقول: ما قام إلا زَيْدٌ، فترفع زيداً على الفاعلية، وما رأيتُ إلا زيداً، فتنصبه على المفعولية، وما مَرَرْتُ إلا بزَيْدٍ، فتخفضه بالباء، كما تفعل بهنّ لو لم تذكر إلاّ، وإن كان المستثنى منه مذكوراً؛ فإما أن يكون الاستثناء متصلاً ـــ وهو أن يكون (المستثنى) داخلاً في جنس المستثنى منه ـــ أو منقطعاً ـــ وهو أن يكون غير داخل ـــ.
فإن كان متصلاً جاز في المستثنى وجهان، أحدهما: ـــ وهو الراجح ـــ أن يُعْرَبُ بإعراب المستثنى منه، على أن يكون بدلاً منه بَدَلَ بعض من كل؛ والثاني: النصبُ على أصل الاستثناء، وهو عربي جيد، مثال ذلك في النفي قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ (النُّور: الآية 6) } أجمعت السبعة على رفع (أنفسهم)، وقال تعالى: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ (النِّساء: الآية 66) } قرأ السبعة إلا ابن عامر برفع (قليل) على أنه بَدَلٌ من الواو في (فعلوه) كأنه قيل: ما فعله إلا قليل منهم، وقرأ ابن عامر وحده: {إِلاَّ قَلِيلاً (البَقَرَة: الآية 83) } بالنصب، ومثاله في النهي قوله تعالى: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ (هُود: الآية 81) } قرىء بالرفع والنصب، ومثالُه في الاستفهام قوله تعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (الحِجر: الآية 56) } أجمعت السبعة على الرفع على الإبدال من الضمير المستتر في (يقنط) ولو قُرِىء (الضالين) بالنصب على الاستثناء لم يمتنع، ولكن القراءة سُنَّةٌ متبعة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب(1/156)
وإن كان منقطعاً فالحجازيون يوجبون نصبه، وهي اللغة العُليا، ولهذا أجمعت السبعة على النصب في قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ (النِّساء: الآية 157) } وقوله تعالى: {وَما لأِحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى} ولو أبدل مما قبله لقرىء برفع {إِلاَّ اتِّبَاعَ (النِّساء: الآية 157) } و {إِلاَّ ابْتِغَآء (البَقَرَة: الآية 272) }؛ لأن كلاً منهما في موضع رفع؛ إما على أنه فاعل بالجار والمجرور المعتمِدِ على النفي، وإما على أنه مبتدأ تقدَّم خبره عليه، والتميميون يجيزون الإبدال، ويختارون النصب، قال الشاعر: (الرّجز)
125 ـــ وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بها أنِيسُ
إلاّ اليَعَافِيرُ وإلاّ العِيس
فأبدل اليعافير والعيس من أنيس، وليس من جنسه.
وذكرت أيضاً أن المستثنى بغير وسوى مخفوض دائماً، لأنهما ملازمان للإضافة لما بعدهما، فكل اسم يقع بعدهما فهما مضافان إليه، فلذلك يلزمه الخفض.
وأن المستثنى بخلا وعدا وحاشا يجوز فيه الخفضُ والنصبُ؛ فالخفض على أن يُقَدَّرْنَ حروف جَرَ، والنصبُ على أن يُقَدَّرْنَ أفعالاً اسْتَتَرَ فاعلُهُنَّ، والمستثنى مفعول، هذا هو الصحيح، ولم يُجَوِّزْ سيبويه في المستثنى بِعَدَا غيرَ النصببِ؛ لأنه يَرَى أنها لا تكون إلا فعلاً، ولا في المستثنى بِحَاشَا غيرَ الجرِّ؛ لأنه يرى أنها لا تكون إلا حرفاً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
العاشر خبر كان وأخواتها(1/157)
ثم قلت: والْبَوَاقِي خَبَرُ كَانَ وأخَوَاتِهَا، وخَبَرُ كَادَ وأخَوَاتِهَا، ويَجِبُ كَوْنُهُ مُضَارِعاً مُؤَخَّراً عَنْهَا، رَافِعاً لِضَمِيرِ أسْمَائِهَا، مُجَرَّداً مِنْ «أنْ» بَعْدَ أفْعَاللِ الشرُوععِ، ومَقْرُوناً بِهَا بَعْدَ حَرَى واخْلَوْلَقَ، ونَدَرَ تَجَرُّدُ خَبَرِ عَسَى وأوْشَكَ، وَاقْتِرَانُ خَبَرِ كَادَ وكَرَبَ، ورُبَّمَا رُفِعَ السَّبَبِيُّ بِخَبَرِ عَسَى؛ فَفِي قَوْلِهِ:
وَمَاذَا عَسَى الْحَجَّاجُ يَبْلُغُ جُهْدُهُ
فِيمَنْ رَفَعَ «جُهْدُهُ» شُذُوذَاننِ، وخَبَرُ مَا حُمِلَ عَلَى لَيْسَ، واسْمُ إنَّ وأخَوَاتِهَا.
وأقول: العاشر من المنصوبات: خَبَرُ «كان» وأخواتها، نحو: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً (الفُرقان: الآية 54) }{فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً (آل عِمرَان: الآية 103) }{لَيْسُواْ سَوَآء (آل عِمرَان: الآية 113) }{وَأَوْصَانِى بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (مريَم: الآية 31) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الحادي عشر خبر كاد وأخواتها وأحوال اقترانه بـ«أن»
الحادي عَشَرَ: خبر كاد وأخواتها، وقد تقدم في باب المرفوعات أن خبرهن لا يكون إلا فعلاً مضارعاً، وذكرت هنا أنه ينقسم ـــ باعتبار اقترانِهِ بأن وتَجَرُّدِهِ منها ـــ أربعة أقسام:
أحدها: ما يجب اقترانُهُ بها، وهو حَرَى واخْلَوْلَقَ، تقول: «حَرَى زَيْدٌ أنْ يَفْعَل» و «اخْلَوْلَقَتتِ السَّمَاءُ أنْ تُمْطِرَ» ولا أعرف مَنْ ذَكَرَ «حَرَى» من النحويين غير ابن مالك، وتَوَهَّم أبو حيان أنه وَهِمَ فيها، وإنما هي حَرَى بالتنوين اسماً لا فعلاً، وأبو حيان هو الوَاهِم، بل ذكرها أصحابُ كتب الأفعال من اللغويين، كالسَّرَقُسْطِيِّ، وابن طريف، وأنشدوا عليها شعراً، وهو قول الأعشى: (الخفيف)
126 ـــ إنْ يَقُلْ هُنَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسسٍ
فَحَرَى أنْ يَكُونَ ذَاكَ، وَكَانَا(1/158)
القسم الثاني: ما الغالِبُ اقترانُهُ بها، وهو عَسَى وأوْشَكَ، مثالُ ذِكْرِ «أنْ» قولُ الله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ (الإسرَاء: الآية 8) }، وقولُ الشاعر: (الطَّويل)
127 ـــ وَلَوْ سُئِلَ النَّاسُ التُّرَابَ لأوْشَكُوا
ـ إذَا قِيلَ هَاتُوا ـــ أنْ يَمَلُّوا فَيَمْنَعُوا
ومثالُ تركها قولُ الشاعر: (الطَّويل)
128 ـــ عَسَى فَرَجٌ يَأْتِي بِهِ اللَّهُ؛ إنَّهُ
لَهُ كُلَّ يَوْممٍ فِي خَلِيقَتِهِ أمْرُ
وقول الآخر: (المنسرح)
129 ـــ يُوشِكُ مَنْ فَرَّ مِنْ مَنِيَّتِهِ
فِي بَعْضضِ غِرَّاتِهِ يُوَافِقُهَا
القسمُ الثالثُ: ما يترجح تجرُّدُ خبره من «أنْ» وهو فِعْلاَننِ: كَادَ، وكَرَبَ، مثالُ التجرد منها قوله تعالى: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (البَقَرَة: الآية 71) }، وقولُ الشاعر: (الخفيف)
130 ـــ كَرَبَ الْقَلْبُ مِنْ جَوَاهُ يَذُوبُ
حِينَ قَالَ الْوُشَاةُ: هِنْدٌ غَضُوبُ
ومثالُ الاقتران بها قولُ الشاعر: (الخفيف)
131 ـــ كَادَتتِ النَّفْسُ أنْ تَفِيضَ عَلَيْهِ
مُذْ ثَوَى حَشْوَ رَيْطَةٍ وَبُرُودِ
وقولُه: (الطّويل)
132 ـــ سَقَاهَا ذَوُو الأحْلاَممِ سَجْلاً عَلَى الظَّمَا
وَقَدْ كَرَبَتْ أعْنَاقُهَا أنْ تَقَطَّعَا
«تَقَطَّعَ» فعل مضارع، وأصله تتقطع فحذف إحدى التاءين، ولم يذكر سيبويه في خبر «كَرَبَ» إلا التجرد.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
القسم الرابع: ما يمتنع اقترانُ خبره بأنْ، وهو أفعالُ الشُّرُوععِ: طَفِقَ، وجَعَلَ، وأخَذَ، وعَلِقَ، وأنْشَأَ، وهَبَّ، وهَلْهَلَ، قال الله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ (الأعرَاف: الآية 22) }. وقال الشاعر: (البسيط)
87 ـــ وَقَدْ جَعَلْتُ إذَا مَا قُمْتُ يُثْقِلُنِي
ثَوْبِي، فأنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِببِ السَّكِر
وقال الشَّاعر: (الكامل)
133 ـــ فَأَخَذْتُ أسْأَلُ والرُّسُومُ تُجِيبُنِي
وفِي الاِعْتِبَارِ إجَابَةٌ وَسُؤَالُ
وقال الآخر: (الوافر)(1/159)
134 ـــ أَرَاكَ عَلِقْتَ تَظْلِمُ مَنْ أَجَرْنَا
وقال: (البسيط)
135 ـــ أنْشَأْتُ أُعْرِبُ عَمَّا كَانَ مَكْنُونَا
وقال: (الطَّويل)
88 ـــ هَبَبْتُ أَلُومُ الْقَلْبَ فِي طَاعَةِ الْهَوَى
وقال: (الطّويل)
89 ـــ وَطِئْنَا دِيَارَ المُعْتَدِينَ فَهَلْهَلَتْ
نُفُوسُهُمُ قَبْلَ الإمَاتَةِ تَزْهَقُ
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الثّاني عشر خبر ما حمل على ليس
النوعُ الثاني عشر: خبرُ ما حمل على ليس، وهو أربعة:
أحدها: «لات» كقوله تعالى: {فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ (ص: الآية 3) }.
والثاني: «ما» كقوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا (يُوسُف: الآية 31) }.
والثالث: «لا» كقول الشاعر:
92 ـــ تَعَزَّ فَلاَ شَيْءٌ عَلَى الأرْضضِ بَاقِياً
وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا
والرابع: «إن» النافية كقول الشاعر: (المنسرح)
136 ـــ إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً عَلَى أَحَدٍ
إلاَّ عَلَى أَضْعَففِ الْمَجَانِيننِ
وقد تقدم شرح شروطهن مُسْتَوْفًى في باب المرفوعات.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الثَّالث عشر اسم إنَّ وأخواتها
النوع الثالِثَ عَشَرَ: اسْمُ «إنَّ» وأخواتها، نحو: «إنَّ زَيْداً فَاضِلٌ» و «لَعَلَّ عَمْراً قَادِمٌ»، و «لَيْتَ بَكْراً حَاضِرٌ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
اقتران «ما» الزّائدة بـ«إنَّ» يلغي عملها وجوبا
ثم قلت: وَإنْ قُرِنَتْ بِمَا المَزِيدَةِ أُلْغِيَتْ وُجُوباً، إلاّ لَيْتَ فَجَوَازاً.
وأقولُ: مثالُ ذلك: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وحِدٌ (النِّساء: الآية 171) }{كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ (الأنفَال: الآية 6) } وقولُ الشاعر: (الطّويل)
137 ـــ أَعِدْ نَظَراً يَا عَبْدَ قَيْسسٍ؛ لَعَلَّمَا
أضَاءَتْ لَكَ النَّارُ الْحِمَارَ المُقَيَّدَا(1/160)
وجهُ الاستشهاد بهما أنه لولا إلغاؤهما لم يصحَّ دخولُهما على الجملة الفعلية، ولَكَانَ دخولُهما على المبتدأ والخبر واجباً، واحترزتُ بالمزيدة من الموصولة، نحو: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } (المؤمنون: الآية 55) أي: أنَّ الذي؛ بدليل عَوْدِ الضمير من (به) إليها، ومن المصدرية، نحو: «أعْجَبَنِي أنما قُمْتَ» أي: قِيَامُكَ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ (طه: الآية 69) } يحتملهما، أي: إن الذي صنعوه، أو إن صُنْعهم، وعلى التأويلين جميعاً فإنَّ عاملةٌ، واسمها في الوجه الأول «ما» دون صلتها، وفي الوجه الثاني الاسمُ المنسبكُ من «ما» وصلتها. وقال النابغة: (البسيط)
138 ـــ قَالَتْ أَلاَ لَيْتَمَا هذَا الْحَمَامُ لَنَا
إلَى حَمَامَتِنَا أوْ نِصْفَهُ فَقَدِ
يُرْوى بنصب «الحمام» ورفعه، على الإعمال والإهمال، وذلك خاص بليت، أما الإعمال فلأنهم أبقَوْا لها الاختصاصَ بالجملة الاسميَّة فقالوا: «لَيْتَمَا زَيْدٌ قائم» ولم يقولوا: ليتما قام زيد، وأما الإهمال فللحَمْللِ على أخواتها.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الأحرف المشبَّهة ذات النّون تحذف نونها المتحرّكة استثقالا
ثم قلت: ويُخَفَّفُ ذُو النُّوننِ مِنْهَا: فَتُلْغَى لَكِنَّ وُجُوباً، وكأنَّ قَلِيلاً، وإنَّ غالباً، ويَغْلِبُ مَعَهَا مُهْمَلَةً اللامُ وكَوْنُ الْفِعْللِ التَّالِي لَهَا نَاسِخاً، ويَجِبُ اسْتِتَارُ اسم أنّ، وكَوْنُ خَبَرِهَا جُمْلَةً، وكَوْنُ الْفِعْللِ بَعْدَهَا دُعَائِيًّا أوْ جَامِداً أوْ مَفْصُولاً بِتَنْفِيسسٍ أوْ شَرْطٍ أوْ قَدْ أوْلَوْ، ويَغْلِبُ لِكَأَنْ مَا وَجَبَ لأنْ، إلاَّ أنَّ الفِعْلَ بَعْدَهَا دائماً خَبَرِيٌّ مَفْصُولٌ بقَدْ أوْ لَمْ خاصَّةً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
اسم لا النّافية للجنس(1/161)
واسْمُ «لاَ» النَّافِيَةِ لِلْجِنْسسِ، وإنَّمَا يَظْهَرُ نَصْبُهُ إنْ كانَ مُضافاً أوْ شِبْهَهُ، نحو: «لاَ غُلاَمَ سَفَرٍ عِنْدَنَا» و «لاَ طَالِعاً جَبَلاً حَاضِرٌ».
وأقول: يجوز في إنَّ وأنَّ ولكنَّ وكأنَّ أن تُخَفَّفَ؛ استثقالاً للتضعيف فيما كثر استعماله، وتخفيفُها بحذف نونها المحركة؛ لأنها آخر.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
تخفيف «إنَّ» المكسورة الهمزة
ثم إنْ كان الحرفُ المخففُ «إنَّ» المكسورة جاز الإهمالُ والإعمالُ، والأكثرُ الإهمال، نحو: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } (الطّارق: الآية 4) فيمن خَفَّفَ ميم (لما) وأما مَنْ شَدَّدها فإنْ نافية، ولما بمعنى إلا، ومِنْ إعماللِ المخفففِ قراءةُ بعض السبعة: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ (هُود: الآية 111) }.m
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
تخفيف أنَّ المفتوحة الهمزة(1/162)
وإن كان المخففُ «أنَّ» المفتوحة وجب بقاء عملها، ووجب حذفُ اسمها، ووَجَبَ كون خبرها جملة، ثم إن كانت اسمية فلا إشكال، نحو: {أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ (يُونس: الآية 10) } وإن كانت فعليةً وجب كونُهَا دُعَائية، سواء كان دعاء بخير نحو: {أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ (النَّمل: الآية 8) } أو بشَرَ، نحو: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ (النُّور: الآية 9) } فيمن قرأ من السبعة بكسر الضاد وفتح الباء ورفع (اسم) الله، أوْ كونُ الفعللِ جامداً، نحو: {وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَنِ إِلاَّ مَا سَعَى } (النّجْم: الآية 39) {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ (الأعرَاف: الآية 185) } أو مفصولاً بواحد من أمور؛ أحدها: النافي، ولم يُسْمع إلا في لَنْ ولم ولا، نحو: {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } (البَلَد: الآية 5) {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } (البَلَد: الآية 7) {وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ (المَائدة: الآية 71) } فيمن قرأ برفع (تكون)، والثاني: الشرط، نحو: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا (النِّساء: الآية 140) } الآية، والثالث: قد، نحو: {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا (المَائدة: الآية 113) } والرابع: لَوْ، نحو: {أَن لَّوْ نَشَآء أَصَبْنَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ (الأعرَاف: الآية 100) }. والخامس: حرف التنفيس، وهو السين، نحو: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى (المُزمّل: الآية 20) } وَسَوْفَ، كقوله: (السّريع)
139 ـــ وَاعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ
أنْ سَوْفَ يَأْتِي كلُّ مَا قُدِرَا
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
تخفيف كأن
وإن كان الحرف «كأنَّ» فيغلب لها ما وَجَبَ لأنْ، لكن يجوز ثبوتُ اسمها وإفراد خبرها، وقد رُوِيَ قولُه: (الطّويل)(1/163)
140 ـــ وَيَوْماً تُوَافِينَا بِوَجْهٍ مُقَسَّممٍ
كأنْ ظَبْيَةٌ تَعْطُو إلَى وَارِققِ السَّلَمْ
بنصب الظبية على أنه اسم كأنْ؛ والجملةُ بعدها صفةٌ لها، والخبرُ محذوفٌ، والتقدير: كأنْ ظبيةً عاطيةً هذه المرأةُ، على التشبيه المعكوس، وهو أبلغ، وبرفع الظبية على أنها الخبرُ، والجملةُ بعدها صفةٌ، والاسم محذوف، والتقدير: كأنها ظبيةٌ، وبجر الظبية على زيادة «أنْ» بين الكاف ومجرورها، والتقدير: كظبيةٍ.
وإذا حُذِف اسمُها وكان خبرها جملة اسمية لم تحتج لفاصل، نحو قوله: (الهزج)
141 ـــ وَوَجْهٌ مُشْرِقُ اللَّوْننِ
كَأَنْ ثَدْيَاهُ حُقَّانِ
أو فعلية فُصِلَتْ بقد، نحو: (الخفيف)
142 ـــ لاَ يَهُولَنَّكَ اصْطِلاَءُ لَظَى الْحَرْ
ببِ فَمَحْذُورُهَا كأنْ قَدْ ألَمَّا
أو لم، نحو: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالاْمْسِ (يُونس: الآية 24) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
تخفيف لكن يوجب إلغاءها
وإن كان الحرفُ «لكِنْ» وجب إلغاؤها، نحو: {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ (الأنفَال: الآية 17) } فيمن قرأ بتخفيف النون، وعن يونس والأخفش إجازةُ إعمالها، وليس بمسموع، ولا يقتضيه القياس؛ لزوال اختصاصها بالجمل الاسمية، نحو: {وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (البَقَرَة: الآية 57) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الرَّابع عشر اسم «لا» النَّافية للجنس
النوع الرابع عشر: اسم «لا» النافية للجنس، وهو ضربان: معرب، ومبني.
فالمعرب ما كان مضافاً نحو: «لا غلاَمَ سَفَرٍ عندنا» أو شبيهاً بالمضاف، وهو: ما اتصل به شيء من تمامه: إما مرفوع به نحو: «لا حَسَناً وجْهُهُ مَذْمُوم» أو منصوب به نحو: «لا مُفِيضاً خَيْرَهُ مكرُوه» و «لا طَالِعاً جَبَلاً حاضِرٌ» أو مخفوض بخافض متعلق به نحو: «لا خيراً من زيدٍ عندنا».
والمبنيُّ ما عدا ذلك، وحكمه أن يُبْنَى على ما ينصب به لو كان معرباً، وقد تقدم ذلك مشروحاً في باب البناء.(1/164)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المضارع المسبوق بحرف ناصب
ثم قلت: والمُضَارِعُ بَعْدَ نَاصِببٍ، وهُوَ «لَنْ» أو «كَيْ» المَصْدَرِيَّةُ مُطْلَقاً و «إذَنْ» إنْ صُدِّرَتْ وكانَ الْفِعْلُ مُسْتَقْبَلاً مُتَّصِلاً أوْ مُنْفَصِلاً بالْقَسَم أو بِلاَ، أو بَعْدَ «أنْ» المَصْدَرِيَّةِ نحو: {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى (الشُّعَرَاء: الآية 82) } إنْ لَمْ تُسْبَق بِعِلْممٍ، نحو: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى (المُزمّل: الآية 20) } فإن سُبِقَتْ بِظَنّ فَوَجْهَاننِ نحو: {وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ (المَائدة: الآية 71) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الأحرف النَّاصبة أربعة
وأقول: هذا النوع المكمل للمنصوبات الخمسة عشر، وهو الفعل المضارع التالي ناصباً، والنواصب أربعة: لن، وكي، وإذن، وأن.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
1 ـــ لن ناصبة دائما
فأما «لَنْ» فإنها حرف بالإجماع، وهي بسيطة خلافاً للخليل في زعمه أنها مركبة من «لا» النافية و «أن» الناصبة، وليست نونها مُبْدَلة من ألف خلافاً للفراء في زعمه أن أصلها «لا» وهي دالة على نفي المستقبل، وعاملة النصب دائماً، بخلاف غيرها من الثلاثة؛ فلهذا قدمْتُهَا عليها في الذكر، قال الله عز وجل: {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَكِفِينَ (طه: الآية 91) }{فَلَنْ أَبْرَحَ الاْرْضَ (يُوسُف: الآية 80) }{أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } (البَلَد: الآية 5) {أَيَحْسَبُ الإِنسَنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } (القِيَامَة: الآية 3) و «أنْ» في هاتين الآيتين مخففة من الثقيلة، وأصلها انْهُ، وليست الناصِبَةَ؛ لأن الناصب لا يدخل على الناصب.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
2 ـــ كي وشرط عملها
وأما «كي» فشرطها أن تكون مصدرية لا تعليليَّة.(1/165)
ويتعين ذلك في نحو قوله تعالى: {لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ (الأحزَاب: الآية 37) } فاللام جارة دالة على التعليل، وكي مصدرية بمنزلة أنْ، لا تعليلية؛ لأن الجارَّ لا يدخل على الجارَّ.
ويمتنع أن تكون مصدريّةً في نحو: «جِئْتكَ كي أنْ تُكَرِمَنِي»؛ إذ لا يدخُلُ الحرفُ المصدريُّ على مثله، ومثلُ هذا الاستعمال إنما يجوز للشاعر، كقوله(2ع2): (الطّويل)
143 ـــ فَقَالَتْ: أكُلَّ النَّاسسِ أصْبَحْتَ مَانِحاً
لِسَانَكَ كَيْمَا أن تَغُرَّ وَتَخْدَعَا؟
ولا يجوز في النثر، خلافاً للكوفيين.
وتقول: «جِئْتُ كَيْ تُكْرِمَنِي» فتحتمل «كي» أن تكون تعليلية جارَّةً والفعل بعدها منصوباً بأنْ محذوفةً، وأن تكون مصدرية ناصبةً وقبلها لامُ جرَ مقدرة.
وقولي: «مطلقاً» راجع إلى «لَنْ» و «كَيْ» المصدرية؛ فإن النصب لا يتخلَّفُ عنهما.
ولما كانت كي تنقسم إلى ناصبة ـــ وهي المصدرية ـــ وغير ناصبة ـــ وهي التعليلية ـــ أخَّرْتُهَا عن لَنْ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
3 ـــ إذن وشروط إعمالها
وأما «إذَنْ» فللنصب بها ثلاثةُ شروطٍ:
أحدها: أن تكون مُصَدَّرَةً؛ فلا تعمل شيئاً في نحو قولك: «أنَا إذَنْ أُكْرِمُكَ» لأنها معترضة بين المبتدأ والخبر، وليست صَدْراً، قال الشاعر: (الطّويل)
144 ـــ لَئِنْ عَادَ لِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بِمِثْلِهَا
وَأَمْكَنَنِي مِنْهَا إذَنْ لاَ أُقِيلُهَا
فالرفع لعدم التصدُّرِ، لا لأنها فُصِلَتْ عن الفعل، لأن فَصْلَهَا بلا مغتفر كما يأتي.
والثاني: أن يكون الفعلُ بعدها مُسْتَقْبَلاً؛ فلو حَدَّثَكَ شخص بحديث فقلت له: «إذَنْ تَصْدُقُ» رفعتَ؛ لأن نواصب الفعل تقتضي الاستقبال، وأنت تريد الحالَ، فَتَدَافَعَا.
والثالث: أن يكون الفعل إما متصلاً أو منفصلاً بالقَسَم أو بلا النافية؛ فالأول كقولك: «إذن أُكْرِمَكَ» والثاني: نحو: «إذَنْ وَاللَّهِ أُكْرِمَكَ» وقول الشاعر: (الوافر)(1/166)
145 ـــ إذَنْ وَاللَّهِ نَرْمِيَهُمْ بِحَرْببٍ
يُشِيبُ الطِّفْلَ مِنْ قَبْللِ المَشِيببِ
والثالث: نحو: «إذَنْ لا أفعلَ».
فلو فُصِلَ بغير ذلك لم يجز العمل، كقولك: «إذَنْ يا زَيْدُ أُكْرِمُكَ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
4 ـــ أن وشرطا عملها
وأما «أنْ» فشرط النصب بها أمران:
أحدهما: أن تكون مَصْدَرِيَّةً، لا زائدة، ولا مُفَسِّرَة.
الثاني: أن لا تكون مخفَّفة من الثقيلة، وهي التابعةُ عِلماً أو ظنًّا نُزِّلَ منزلته.
مثالُ ما اجتمع فيه الشرطان قوله تعالى: {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ } (الشُّعَرَاء: الآية 82) {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ (النِّساء: الآية 27) }.
ومثالُ ما انتفى عنه الشرطُ الأول قَوْلُكَ: «كَتَبْتُ إليه أنْ يَفْعَلُ» إذا أردت بأنْ معنى أي؛ فهذه يرتفع الفعل بعدها؛ لأنها تفسير لقولك كتبت؛ فلا موضع لها، ولا لما دخلت عليه، ولا يجوز لك أن تنصبَ كما لا تنصبُ لو صرحتَ بأيْ، فإن قَدَّرْت معها الجار ـــ وهو الباء ـــ فهي مصدرية، ووجب عليك أن تنصب بها.
وإنما تكون (أنْ) مُفَسِّرَةً بثلاثة شروط؛ أحدها: أن يتقدم عليها جملة، والثاني: أن تكون تلك الجملة فيها معنى القول دون حروفه، والثالث: أن لا يدخل عليها حرف جر، لا لفظاً ولا تقديراً، وذلك كقوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ (المؤمنون: الآية 27) }{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ ءامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى (المَائدة: الآية 111) }{وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ (ص: الآية 6) }، أي: انطلَقَتْ ألسنتُهُمْ بهذا الكلام.(1/167)
بخلاف نحو: {وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ (يُونس: الآية 10) }؛ فإن المتقدم عليها غير جملة؛ وبخلاف نحو: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ (المَائدة: الآية 117) }؛ فليست «أنْ» فيها مفسرة لقلت، بل لأمرتني، وبخلاف نحو: «كَتَبْتُ إلَيْهِ بِأننِ افْعَلْ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب(1/168)
ومثالُ ما انتفى عنه الشرط الثاني قوله تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى (المُزمّل: الآية 20) }{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً (طه: الآية 89) }{وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ (المَائدة: الآية 71) } فيمن قرأ برفع (تكون) ألا ترى أنها في الآيتين الأولَيَيْننِ وقعت بعد فعل العِلْممِ؛ أما في الآية الأولى فواضح، وأما في الآية الثانية فلأن مُرادنا بالعلم ليس لفظ ع ل م، بل ما دَلَّ على التحقيق؛ فهي فيهما مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، والجملة بعدها في موضع رفع على الخبرية، والتقدير: علم أنه سيكون، أفلا يرون أنه لا يَرْجِعُ إليهم قولاً، وفي الآية الثالثة وقعت بعد الظن؛ لأن الْحُسْبَانَ ظنٌّ، وقد اختلف القراء فيها؛ فمنهم من قرأ بالرفع، وذلك على إجراء الظن مُجْرَى العلم، فتكون مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، والجملة بعدها خبرها، والتقدير: وحسبوا أنْهَا لا تكون فتنةٌ، ومنهم من قرأ بالنصب على إجراء الظن على أصله وعدم تنزله منزلةَ العلم، وهو الأرجح، فلهذا أجمعوا على النصب في نحو: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ (البَقَرَة: الآية 214) }{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ (التّوبَة: الآية 16) }{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ (العَنكبوت: الآية 2) }{تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } (القِيَامَة: الآية 25) ويؤيد القراءة الأولى أيضاً قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } (القِيَامَة: الآية 3) {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } (البَلَد: الآية 5) {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } (البَلَد: الآية 7) ألا ترى أنها فيهن مخففة من الثقيلة، إذ لا يدخُلُ الناصبُ على ناصب آخر، ولا على جازم.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إضمار أن بعد ثلاثة من حروف الجر(1/169)
ثم قلت: وتُضْمَرُ «أن» بَعْدَ ثَلاَثَةٍ مِنْ حُرُوففِ الْجَرِّ، وهِيَ: كَيْ، نحو: {كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً (الحَشر: الآية 7) } وحتَّى: إن كانَ الْفِعْلُ مُسْتَقْبَلاً بالنَّظَرِ إلَى مَا قَبْلَهَا نحو: {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (طه: الآية 91) } و «أسْلَمْتُ حَتَّى أدْخُلَ الْجَنَّةَ»، واللاَّمُ: تعليليَّةً مَعَ المُضَارع المُجَرَّدِ مِنْ لا، نحو: {لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ (الفَتْح: الآية 2) } بِخِلاَففِ {لّئَلاَّ يَعْلَمَ (الحَديد: الآية 29) } أوْ جُحُوديةً نحو: «ما كُنْتُ ـــ أوْ لَمْ أكُنْ ـــ لأفْعَلَ».
وبَعْدَ ثَلاَثَةٍ مِنْ حُرُوففِ الْعَطْففِ، وهِيَ: «أوِ» الَّتِي بِمَعْنَى إلَى نَحْوُ: «لألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي» أو إلاّ نحو: «لأقْتُلَنَّهُ أوْ يُسْلِمَ» وَفَاءُ السَّبَبِيَّةِ وَوَاوُ المَعِيَّةِ مَسْبُوقَيْننِ بِنَفْيٍ مَحْضضٍ أوْ طَلَببِ بِغَيْرِ اسْممِ الْفِعْللِ نَحْوُ: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ (فَاطِر: الآية 36) }{وَيَعْلَمَ الصَّبِرِينَ (آل عِمرَان: الآية 142) } ونحو: {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى (طه: الآية 81) }.
وَ لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُققٍ وَتَأتِيَ مِثْلَهُ
وبَعْدَ الفَاءِ والواوِ وأوْ وثُمَّ، إن عطفن على اسممٍ خالِصصٍ، نحو: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً (الشّورى: الآية 51) }.
وَ لَلُبْسُ عَبَاءَةِ وَتَقَرَّ عَيْنِي
ولَكَ مَعَهُنَّ ومَعَ لاَممِ التَّعْلِيللِ إظْهَارُ أنْ.
وأقول: اختصت «أن» بأنها تنصب المضارع ظاهرةً ومُقَدَّرةً، بخلاف أخواتها الثلاثة فإنها لا تنصبه إلا ظاهرة، وإنما تضمر في الغالب بعد حرف جر، أو حرف عطف.
فأما حروف الجر التي تضمر بعدها فثلاثة: حتى، واللام، وكي التعليلية.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إضمار أن بعد حتّى وشرط إضمارها(1/170)
أما «حتى» فنحو: {حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ اللَّهِ (الحُجرَات: الآية 9) }{حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (طه: الآية 91) } وليس النصبُ بحتى نفسها، خلافاً للكوفيين، ولا يجوز إظهارُ أن بعدها في شعر ولا نثر.
ويشترط لإضمار أن بعدها: أن يكون الفعل مستقبلاً بالنظر إلى ما قبلها، سواء كان مستقبلاً بالنظر إلى زمن التكلم، أولاً؛ فالأول كقوله تعالى: {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (طه: الآية 91) } ألا ترى أن رجوعَ موسى عليه السلام مستقبل بالنظر إلى ما قبل حتى، وهو ملازمتهم للعكوف على عبادة العجل، وكذلك قولك: «أسْلَمْتُ حتى أدْخُلَ الْجَنَّةَ» والثاني: كقوله تعالى: {وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ (البَقَرَة: الآية 214) } في قراءة مَنْ نصب (يقول) فإن قول الرسول والمؤمنين مستقبلٌ بالنظر إلى الزِّلزال، لا بالنظر إلى زمن الإخبار، فإن الله عز وجل قَصَّ علينا ذلك بعد ما وقع.
ولو لم يكن الفعلُ الذي بعد «حتى» مستقبلاً بأحد الاعتبارين امتنع إضمار أن، وتعين الرفع، وذلك كقولك: «سِرْتُ حَتَّى أدخُلُها» إذا قلت ذلك وأنت في حالة الدخول، ومن ذلك قولهم: «شَرِبَتتِ الإبلُ حَتَّى يَجِيء البَعِيرُ يَجُرُّ بَطْنَهُ» و «مَرِضَ زَيْدٌ حَتَّى لا يَرْجُونَهُ» فإن المعنى حتى حالة البعير أنه يجيء يجر بطنه وحتى حالة المريض أنهم لا يرجونه، ومن الواضح فيه أنك تقول: «سَألْتُ عَنْ هذِهِ المَسْألةِ حَتَّى لا أحْتَاجُ إلى السُّؤَالِ» أي: حتى حالتي الآن أنني لا أحتاج إلى السؤال عنها.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام اللاَّم التي تضمر «أن» بعدها
وأما اللام فلها أربعة أقسام:(1/171)
أحدها: اللام التعليليّة، نحو: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ (النّحل: الآية 44) } ومنه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}.
فإن قلت: ليس فتح مكة علةً للمغفرة.
قلت: هو كما ذكَرْتَ، ولكنه لم يجعل علة لها، وإنما جعل علة لاجتماع الأمور الأربعة للنبي صلى الله عليه وسلّم ـــ وهي المغفرة، وإتمام النعمة، والهداية إلى الصراط المستقيم، وحصول النصر العزيز ـــ ولا شك (في) أن اجتماعها له عليه السلام حصل حين فتح الله تعالى مكة عليه.
وإنما مَثّلْتُ بهذه الآية لأنها قد يخفى التعليلُ فيها على مَنْ لم يتأملها.
الثَّانية: لامُ العاقبَةِ؛ وتسمى أيضاً لامَ الصَّيْرُورَة، ولامَ المآللِ، وهي التي يكون ما بعدها نقيضاً لمقتضى ما قبلها، نحو: {فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً (القَصَص: الآية 8) } فإن التقاطهم له إنما كان لرأفتهم عليه، ولما ألقى الله تعالى عليه من المحبَّة فلا يراه أحدٌ إلا أحَبَّه؛ فقصدوا أن يُصَيِّرُوه قُرَّةَ عيننِ لهم، فآل بهم الأمر إلى أن صارَ عدوًّا لهم وحَزَناً.
الثالثة: اللام الزائدة، وهي: الآتية بعد فعل متعد، نحو: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ (النِّساء: الآية 26) }{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ (الأحزَاب: الآية 33) }{وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَلَمِينَ (الأنعَام: الآية 71) } فهذه الأقسام الثلاثة يجوز لك إظهار «أنْ» بعدهن قال الله تعالى: {وَأُمِرْتُ لاِنْ أَكُونَ (الزُّمَر: الآية 12) }.(1/172)
الرابعة: لام الجُحُودِ، وهي الآتية بعد كَوْننٍ ماضضٍ مَنْفِي، كقول الله تعالى: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ (آل عِمرَان: الآية 179) }{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ (آل عِمرَان: الآية 179) } وهذه يجبُ إضمار «أنْ» بعدها.
إضمار أن بعد كي
وأما «كي» ففي نحو: «جئْتُكَ كَيْ تُكْرِمَنِي» إذا قَدَّرْتهَا تعليلية بمنزلة اللام، والتقدير: جئتك كَيْ أنْ تكرمني، ولا يجوز التصريح بأنْ بعدها إلا في الشعر، خلافاً للكوفيين. وقد مضى ذلك.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إضمار أن بعد الحروف العاطفة وأحكامها
وأما حروف العطف فأربعة، وهي: أو، والواو، والفاء، وثم.
وهذه الأربعة منها ما لا يجوز معه الإظهار، وهو أو، ومنها ما لا يجب معه الإضمار، وهو ثم، ومنها ما تارة يجب معه الإضمار وتارة يجوز معه الإضمار والإظهار، وهو الفاء والواو، وهذا كله يفهم مما ذكرت في المقدمة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إضمار أن بعد أو
فأما «أو» فينتصب المضارع بأن مضمرة بعدها وجوباً، إذا صح في موضعها إلى أو إلا؛ فالأول كقولك: «لألزمنك أوْ تَقْضِيَنِي حقي» وقوله: (الطّويل)
146 ـــ لأسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أوْ أدْرِكَ الْمُنَى
فَمَا انْقَادَتتِ الآمالُ إلا لِصَابرِ
والثاني: كقولك: «لأقْتُلَنَّ الْكَافِرَ أو يُسْلِمَ» وقوله:: (الوافر)
147 ـــ وَكُنْتُ إذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْممٍ
كَسَرْتُ كُعُوبَهَا أوْ تَسْتَقِيمَا
أي: إلا أن تستقيم فلا أكسر كعوبها، ولا يجوز أن يكون التقدير كسرت كعوبها إلى أن تستقيم؛ لأن الكسر لا استقامة معه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إضمار أن بعد فاء السّببيّة وواو المعيّة وجوبا
وأما الفاء والواو فينتصب الفعلُ المضارع بأن مضمرة بعدهما وجوباً بشرطين لا بد منهما:
أحدهما: أن تكون الفاء للسببية والواو للمعية؛ فلهذا رُفِعَ الفعل في قوله: (الطّويل)(1/173)
148 ـــ ألَمْ تَسْأللِ الرَّبْعَ الْقَوَاء فَيَنْطِقُ
وذلك لأن الفاء لو كانت عاطفة لجزم ما بعدها، ولو كانت للسببية انتصب ما بعدها، فلما ارتفع دلَّ على أنها للاستئناف، وقال الله تعالى: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } (المُرسَلات: الآية 36) الفاء هنا عاطفة كما سيأتي.
الثاني: أن يكونا مسبوقين بنفي أو طلب؛ فلا يجوز النصب في نحو: «زيدٌ يأتينا فيحدِّثُنَا» فأما قوله: (الوافر)
149 ـــ سَأتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيممٍ
وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا
فضرورة، وقيل: الأصل فأسْتَرِيحَنْ، بنون التوكيد الخفيفة، فأبدلت في الوقف ألفاً كما تقف على {لَنَسْفَعا} بالألف، وهذا التخريج هروبٌ من ضرورة إلى ضرورة؛ فإن توكيد الفعل في غير الطلب والشرط والقَسَممِ ضرورةٌ.e
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام الطَّلب
وقولنا: «طلب» يشمل: الأمر، والنهي، والدعاء، والعَرْضَ، والتَّحْضِيضَ، والتمني، والاستفهام؛ فهذه سبعة مع النفي صارت ثمانية.
وهذه المسألة التي يعبر عنها بمسألة الأجوبة الثمانية، ولكل منها نصيب من القول يخصه، فلنتكلم على ذلك بما يكشف إشكالَهُ فتقول:
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
1 ـــ النَّفي
أمَّا النفي فنحو قولك: «ما تأتيني فَأُكْرِمَكَ» ولك في هذا أربعةُ أوجُهٍ:
أحدها: أن تقدر الفاء لمجرد عطف لفظ الفعل على لفظ ما قبلها، فيكون شريكه في إعرابه، فيجب هنا الرفع؛ لأن الفعل الذي قبلها مرفوع، والمعطوف شريك المعطوف عليه، فكأنك قلت: ما تأتيني فما أكرمُكَ؛ فهو شريكه في النفي الداخل عليه، وعلى هذا قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ }، فالفاء هنا عاطفة كما ذكرنا، والفعلُ الذي بعدها داخلٌ في سِلْككِ النفي السابق، فكأنه قيل: لا يؤذن لهم فلا يعتذرون.(1/174)
الثاني: أن تقدر الفاء لمجرد السببية، ويقدر الفعل الذي بعدها مستأنفاً، ومع استئنافه يقدر مبنياً على مبتدأ محذوف؛ فيجب الرفع أيضاً؛ لخلو الفعل عن الناصب والجازم؛ فتقول: «ما تأتيني فأكرمُكَ» بمعنى فأنا أكرمك لكونك لم تأتني، وذلك إذا كنت كارهاً لإتيانه، ويُوَضّحُ هذا أنك تقول: «ما زَيْدٌ قاسياً فيَعْطِفُ عَلَى عبده» أي: فهو لانتفاء القَسْوَة عنه يعطف على عبده.
والفرق بين هذا الوجه والذي قبله واضح؛ لأن الوجه الأول شملَ النفيُ فيه ما قبل الفاء وما بعدها، وهذا الوجه انصبَّ النفي فيه إلى ما قبل الفاء خاصة دون ما بعدها، وذلك لأنك لم تجعل الفاء لعطف الفعل الذي بعدها على المنفي الذي قبله فيكون شريكه في النفي، وإنما أخلصتها للسببية.
ويذكر النحويون هذين الوجهين في قولك: «ما تأتينا فتحدثنا» وهذا سَهْوٌ؛ إذ يستحيل أن ينتفيَ الإتيانُ ويوجد الحديثُ، والصوابُ ما مثلتُ لك به.
الثالث: أن تقدر الفاء عاطفة لعطف مصدر الفعل الذي بعدها على المصدر المؤول مما قبلها، وتقدر النفي مُنْصَبًّا على المعطوف دون المعطوف عليه؛ فيجب حينئذٍ النصب بأن مضمرة وجوباً، والتقدير: ما يكون منك إتيان فإكرام مني، أي: ما يكون منك إتيان فيعقبه مني إكرام، بل يكون منك إتيان ولا يكون مني إكرام.
الرابع: أن تقدر أيضاً الفاء لعطف مصدر الفعل الذي بعدها على المصدر المؤول مما قبلها، ولكن تقدر النفي منصباً على المعطوف عليه، فينتفي المعطوف، لأنه مُسَبَّب عنه، وقد انتفى، ويكون معنى الكلام: ما يكون منك إتيان فكيف يكون مني إكرام؟
وهذا الوجهان سائغان في «ما تأتينا فتحدثنا» إذ يصح أن يقال: ما تأتينا محدِّثاً بل تأتينا غير محدث، وأن يقال: ما تأتينا فكيف تحدثنا؟
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
وتلخص أن لنا في الرفع وجهين، وفي النصب وجهين.(1/175)
فإن قلت: هل يجوز أن يقرأ: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } (المُرسَلات: الآية 36) بالنصب على أحد الوجهين المذكورين للنصب؟
قلت: نعم يجوز على الوجه الثاني، وهو ما تأتينا فكيف تحدثنا، أي: لا يؤذن لهم بالاعتذار فكيف يعتذرون؟ ويمتنع على الوجه الأول ـــ وهو ما تأتينا محدثاً بل تأتينا غيرَ محدثثٍ ـــ ألا ترى أن المعنى حينئذٍ لا يؤذن لهم في حالة اعتذارهم، بل يؤذن لهم في غير حالة اعتذارهم، وليس هذا المعنى مراداً.
فإن قلت: فإذا كان النصب في الآية جائزاً على الوجه الذي ذكرته، فما باله لم يقرأ به أحدٌ من القُرَّاء المشهورين؟
قلت: لوجهين؛ أحدهما: أن القراءة سُنَّةٌ مُتَّبعة، وليس كل ما تجَوِّزُه العربية تجوز القراءة به، والثَّاني: أن الرفع هنا بثبوت النون فيحصل بذلك تناسب رؤوس الآي، والنصب بحذفها فيزول (معه) التناسب.
ومن مجيء النصب بعد النفي قولُ الله عز وجلّ: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ (فَاطِر: الآية 36) } والنصب هنا على معنى قولك: ما تأتينا فكيف تحدثنا، لا على قولك: ما تأتينا محدثاً بل غير محدث.
ولو قلت: «ما تأتينا إلا فتحدثنا» أو «ما تزال تأتينا فتحدثنا» وَجَبَ الرفعُ، وذلك لأن النفي في المثال الأول قد انتقض بإلا، وفي المثال الثاني هو داخل على زال وزال للنفي، ونفيُ النفي إيجابٌ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
2 ـــ الأمر
وأما الأمر فكقوله: (الرّجز)
150 ـــ يَا نَاقُ سِيرِي عَنَقاً فَسِيحاً
إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا(1/176)
وشَرْطُه أمراننِ: أحدهما: أن يكون بصيغة الطلب؛ فلو قلت: «حَسْبُكَ حديثٌ فَيَنَامَ النَّاسُ» ـــ بالنصب ـــ لم يجز، خلافاً للكسائي، والثاني: أن لا يكون بلفظ اسم الفعل؛ فلا يجوز أن تقول: «صَهْ فَنُكْرِمَكَ» بالنصب، هذا قول الجمهور، وخالفهم الكسائي. فأجاز النصب مطلقاً، وفَصَّلَ ابنُ جني وابنُ عصفور، فأجازاه إذا كان اسمُ الفعل من لفظ الفعل، نحو: «نَزَاللِ فتحدثَكَ» ومَنَعاهُ إذا لم يكن من لفظه، نحو: «صَهْ فنكرمك» وما أحْرَى هذا القولَ بأن يكون صواباً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
3 ـــ النَّهي
وأما النَّهْيُ فكقولك: «لاَ تَفْعَلْ شَرًّا فأعاقِبَكَ» وقول الله تعالى: {لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ (طه: الآية 61) }{وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى (طه: الآية 81) } ولو نقضت النهي بإلاَّ قبل الفاء لم تنصب، نحو: «لاَ تَضْرِبْ إلاَّ عَمْراً فَيَغْضَبُ» فيجب في «يغضب» الرفع.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
4 ـــ الدّعاء
وأما الدعاء فكقولك: «اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيَّ فَأتُوبَ» وقول الله تعالى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْولِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ (يُونس: الآية 88) }، وقول الشَّاعر: (الرّمل)
151 ـــ رَبِّ وَفِّقْنِي فَلاَ أَعْدِلَ عَنْ
سَنَننِ السَّاعِينَ في خَيْرِ سَنَنْ
وشَرْطه: أن يكون بالفعل؛ فلو قلت: «سَقْياً لَكَ فَيُرْوِيكَ الله» لم يجز النصب.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
5 ـــ الاستفهام
وأما الاستفهامُ فشرطه: أن لا يكون بأداة تليها جملة اسمية خبرها جامد؛ فلا يجوز النصب في نحو: «هَلْ أَخُوكَ زَيْدٌ فأكْرِمُهُ».(1/177)
ولا فرق بين الاستفهام بالحرف نحو: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآء فَيَشْفَعُواْ لَنَآ (الأعرَاف: الآية 53) } والاستفهام بالاسم نحو: {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ (البَقَرَة: الآية 245) } يقرأ برفع (يضاعف) ونصبه، وفي الحديث حكايةً عن الله تعالى: «مَنْ يَدْعُوني فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فأغْفِرَ لَهُ» والاستفهام بالظرف نحو: «أيْنَ بَيْتُكَ فأزُورَكَ؟» و «مَتَى تَسِيرُ فأُرَافِقَكَ؟» و «كَيْفَ تكون فأصْحَبَكَ؟».
فإن قلت: فما بَالُ الفعل لم ينصب في جواب الاستفهام في قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآء مَآء فَتُصْبِحُ الاْرْضُ مُخْضَرَّةً (الحَجّ: الآية 63) }.
قلت: لوجهين؛ أحدهما: أن الاستفهام هنا معناه الإثبات، والمعنى قد رأيت أن الله أنزل من السماء ماء، والثاني: أن إصباح الأرض مخضرَّة لا يَتَسَبَّب عما دخل عليه الاستفهام، وهو رؤية المطر، وإنما يتسبب ذلك عن نزول المطر نفسه؛ فلو كانت العبارة أنزل الله من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة ثم دخل الاستفهام صحَّ النصبُ.
فإن قلت: يردُّ هذا الوَجْه قوله تعالى: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِى (المَائدة: الآية 31) }، فإن مُواراة السوأة لا يتسبب عما دخل عليه حرف الاستفهام، لأن العَجْزَ عن الشيء لا يكون سبباً في حصوله.
قلت: ليس (أواري) منصوباً في جواب الاستفهام، وإنما هو منصوب بالعطف على الفعل المنصوب، وهو (أكون).
فإن قلت: فقد جعله الزمخشري منصوباً في جواب الاستفهام
قلت: هو غالِطٌ في ذلك.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
6 ـــ العرض
وأما الْعَرْضُ فكقول بعض العرب «ألا تَقَعُ (في) الْمَاءِ فَتَسْبَحَ» وكقولك: «أَلاَ تَأتِينَا فَتُحَدِّثَنَا» وقول الشاعر: (البسيط)
152 ـــ يَا ابْنَ الْكِرَاممِ أَلاَ تَدْنُو فَتُبْصِرَ مَا(1/178)
قَدْ حَدَّثُوكَ فَمَا رَاءٍ كَمَنْ سَمِعَا
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
7 ـــ التَّحضيض
وأما التحضيض فكقولك: «هَلاَّ اتَّقَيْتَ اللَّهَ تَعَالَى فَيَغْفِرَ لَكَ» و «هَلاَّ أسْلَمْتَ فَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ» وهو والعَرْضُ متقاربان، يجمعهما التنبيه على الفعل، إلا أن في التحضيض زيادة توكيد وحثَ.
وأما قوله تعالى: {لَوْلآ أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ (المنَافِقون: الآية 10) } فمن باب النصب في جواب الدعاء، ولكن استعيرت فيه عبارة التحضيض أو العرض للدعاء.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
8 ـــ التَّمنِّي
وأما التمنِّي فكقوله تعالى: {يلَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (النِّساء: الآية 73) } وقول الشاعر: (البسيط)
153 ـــ أَلاَ رَسُولَ لَنَا مِنْهَا فَيُخْبِرَنَا
فهذه أمثلة النصب بعد فاء السببية في هذه المواضع الثمانية.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إضمار أن بعد واو المعيَّة
وأما النصب بعد واو المعية في المواضع المذكورة فسُمِع في خمسةٍ، وقاسه النحويون في ثلاثة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
1 ـــ بعد النَّفي
فالخمسة المسموع فيها، أحدُها: النفيُ، كقوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّبِرِينَ (آل عِمرَان: الآية 142) } والمعنى والله أعلم: إنكم تجاهدون ولا تصبرون وتطمعون أن تدخلوا الجنّة، وإنَّما ينبغي لكم الطمع في ذلك إذا اجتمع مع جهادكم الصبر على ما يصيبكم (فيه) فيعلم الله حينئذ ذلك واقعاً منكم، والواو من قوله تعالى: {وَلَمَّا (البَقَرَة: الآية 89) } واو الحال، والتقدير: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنَّة وحالكم هذه الحالة.
والثاني: الأمر، كقوله: (الوافر)
154 ـــ فَقُلْتُ: ادْعِي وَأَدْعُوَ؛ إِنَّ أَنْدَى
لِصَوْتتٍ أَنْ يُنَادِيَ دَاعِيَاننِ
والثالث: النَّهْي، كقول الشاعر: (الكامل)(1/179)
114 ـــ يَا أَيُّهَا الرَّجُل المُعَلِّمُ غَيْرَهُ
هَلاَّ لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
ابْدَأ بِنَفْسِكَ فَانهَهَا عَنْ غيِّهَا
فإذا انتهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُسْمَعُ مَا تَقُولُ، وَيُشْتَفَى
بِالْقَوْللِ مِنْكَ، وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُققٍ وَتأتِيَ مِثْلَهُ
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وتقول: «لا تأكل السَّمَكَ وتَشْرَبَ اللَّبنَ» فإذا أردت بالواو عطف الفعل على الفعل جَزَمْتَ الثاني، وكان شريكَ الأوللِ في النهي، وكأنك قلت: لا تفعل هذا ولا هذا، وحينئذ فيلتقي ساكنان الباء واللام فتكسر الباء على أصل التقاء الساكنين، وإن أردت عطف مصدرِ الفعللِ على مصدرٍ مقدرٍ مما قبله نصبتَ الفعلَ بأن مضمرة، وكان النهي حينئذٍ عن الجمع بينهما، وإن أردت الاستئناف رفعت الثاني.
والرابع: التمني، كقوله تعالى: {يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتتِ ربّنا ونكونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ}.
والخامس: الاستفهام، كقوله وهو الحطيئة: (الوافر)
155 ـــ أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيَكُونَ بَيْنِي
وبَيْنَكُمْ المَوَدَّةُ والإخَاءُ
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إضمار أن جوازاً لا وجوبا
وينتصب الفعل المضارع بأن مضمرة جوازاً؛ لا وجوباً، بعد أربعة أحرف، وهي: الفاء، وثم، والواو، وأو، وذلك إذا عَطَفْنَ على اسممٍ صريح.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إضمار أن بعد أو إذا عطفت على اسم صريح(1/180)
مثالُ ذلك بعد «أو» قولُ الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ (الشّورى: الآية 51) } يقرأ في السبع برفع (يرسل) ونصبه، وقال أبو بكر بن مجاهد المقرىء رحمه الله، قرىء: {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى (هُود: الآية 80) } بنصب (آوي) ولا وجه له، ورَدَّ عليه ابنُ جني في مُحْتَسَبهِ وغيرهُ، وقالوا: وَجْهُهَا كوجه قراءة أكثر السَّبعة: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً (الشّورى: الآية 51) } بالنصب، وذلك لتقدم الاسم الصريح، وهو (قُوَّة) فكأنه قيل: لو أن لي بكم قوة أو إيواء إلى ركن شديد.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إضمار أن جوازاً بعد الواو
ومثالُ ذلك بعد الواو قولُ مَيْسُونَ بنتتِ بَحْدل: (الوافر)
156 ـــ لَلُبْسُ عَبَاءَةِ وتَقَرَّ عَيْنِي
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسسِ الشُّفوففِ
الرواية فيه بنصب «تَقَرَّ» وذلك بأن مُضْمَرة، على أنه معطوف على اللبس، فكأنه قال: للبس (عباءة) وقرة عيني.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إضمار أن جوازاً بعد الفاء إذا عطفت على اسم صريح
ومثال ذلك بعد الفاء قوله: (البسيط)
157 ـــ لَوْلاَ تَوَقُّعُ مُعْتَرَ فأرْضِيَهُ
مَا كُنْتُ أُوثِرُ إِتْرَاباً عَلَى تَرَببِ
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
إضمار أن جوازاً بعد ثمّ إذا عطفت على اسم صريح
ومثالُ ذلك بعد ثم قولُ الشاعر: (البسيط)
158 ـــ إنِّي وقَتْلِي سُلَيْكاً ثُمَّ أَعْقِلَهُ
كالثَّوْرِ يُضْرَبُ لَمَّا عَافَتتِ الْبَقَرُ
وكانت العرب إذا رأت البقر قد عَافَتْ ورود الماء تعمد إلى الثور فتضربه فتَرِدُ البقرُ حينئذٍ الماء، ولا تمتنع منه؛ فراراً من الضرب أن يصيبها، وإنما امتنعوا من ضربها لضعفها عن حَمْلِه، بخلاف الثور.(1/181)
وقولي: «اسم صريح» احتراز من نحو: «ما تأتينا فتحدثنا» فإن العطف فيه وإن كان على اسم متقدم، فإنا قد قدَّمْنَا أن التقدير ما يكون منك إتيان فحديث، لكن ذلك الاسم ليس بصريح؛ فإضمار أن هناك واجب لا جائز، بخلاف مسألتنا هذه؛ فإن إضمار أن جائز، بل نصَّ ابنُ مالك في شرح العمدة على أن الإظهارَ أحسنُ من الإضمار.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
باب المجرورات
ثم قلت: بابٌ ـــ المَجْرُورات ثلاثةٌ؛ أحدُها: المَجْرُورُ بِالحَرْففِ، وهو: مِنْ، وإلى، وعَنْ، وعَلَى، والباءُ، واللاَّمُ، وفِي ـــ مُطْلَقاً، والْكَافُ، وحتَّى، والواو ـــ للظاهرِ مُطْلقاً، والتَّاء لِلَّهِ وربِّ مُضافاً لِلْكَعْبَةِ أوِ اليَاءِ، وكَيْ لِمَا الاسْتِفْهَاميَّةِ أوْ أَننِ المُضْمَرَةِ وصِلَتِهَا، ومُذْ ومُنْذُ لِزَمَننٍ غَيْرِ مُسْتَقْبَللِ ولاَ مُبْهَممٍ، ورُبَّ لِضَمِيرِ غَيْبَةٍ مُفْرَدٍ مُذَكَّرٍ يُمَيَّزُ بِمُطَابِققٍ لِلْمَعْنَى قَلِيلاً، ولِمُنَكَّر مَوْصُوففٍ كَثِيراً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أنواع المجرورات
وأقول: لما أنهيتُ القولَ في المرفوعات والمنصوبات شَرَعْتُ في المجرورات، وقسَّمتها إلى ثلاثة أقسام: مجرور بالحرف، ومجرور بالإضافة، ومجرور بمجاوره مجرور، وبدأت بالمجرور بالحرف لأنه الأصل، وإنما لم أذكر المجرور بالتَّبَعِيَّة كما فعل جماعة لأن التَّبَعية ليست عندنا هي العاملة، وإنما العاملُ عامل المتبوععِ، وذلك في غير البدل، وعاملٌ محذوفٌ في باب البدل، فرجع الجرُّ في باب التوابع إلى الجر بالحرف والجر بالإضافة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أوّلاً: الحروف الجارّة
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام الحروف الجارّة
وقسمت الحروف الجارة إلى ستة أقسام:(1/182)
أحدها: ما يجُرُّ الظَّاهر والمضمر، وبدأت به لأنه الأصل، وهو سبعة أحرف: مِنْ، وإلى، وعَنْ، وعَلَى، والباءُ، واللاَّم، وفي، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ (الأحزَاب: الآية 7) }{إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ (المَائدة: الآية 48) }{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ (الأنعَام: الآية 60) }{طَبَقاً عَن طَبقٍ (الانشقاق: الآية 19) }{رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ (المَائدة: الآية 119) }{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } (المؤمنون: الآية 22) {ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (النِّساء: الآية 136) }{ءامَنُواْ بِهِ (الأعرَاف: الآية 157) }{مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ (البَقَرَة: الآية 255) }{لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ (البَقَرَة: الآية 255) }{كُلٌّ لَّهُ قَنِتُونَ (البَقَرَة: الآية 116) }{وَفِى الاْرْضِ ءايَتٌ لّلْمُوقِنِينَ } (الذّاريَات: الآية 20) {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ (الزّخرُف: الآية 71) }.
والثاني: ما لا يجرُّ إلا الظَّاهر، ولا يختص بظاهرٍ معيننٍ، وهو ثلاثة: الكاف، وحتَّى، والواو.
والثالث: ما يجُرُّ لفظتين بعينهما، وهو التاء؛ فإنها لا تجر إلا اسم الله عز وجل وربًّا مضافاً إلى الكعبة أو إلى الياء، قال الله تعالى: {تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ (يُوسُف: الآية 85) }{تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا (يُوسُف: الآية 91) }{وَتَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَمَكُمْ (الأنبيَاء: الآية 57) } وقالت العرب: «تَرَبِّ الكعبة» و «تَرَبِّي لأفْعَلَنَّ».(1/183)
الرابع: ما يجر فرداً خاصًّا من الظواهر، ونوعاً خاصًّا منها، وهي كي؛ فإنها لا تجر إلا أمرين؛ أحدهما: «ما» الاستفهامية، وهي الفَرْدُ الخاصُّ، يقال لك: «جِئْتُكَ أَمْسِ» فتقول في السؤال عن علة المجيء: «لِمَهْ؟» أو «كَيْمَهْ؟» فكما أن «لمه» جار ومجرور كذلك «كَيْمَهْ» والأصل لما وكيما، ولكن «ما» الاستفهامية متى دخل عليها حرف الجر حُذِفَت ألفها وجوباً كما قال الله تعالى: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } (النَّازعَات: الآية 43) {عَمَّ يَتَسَآءلُونَ } (النّبَإِ: الآية 1) {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (النَّمل: الآية 35) } وحَسُن في الوقف أن تردف بهاءٍ السكت، كما قرأ البَزِّيُّ في هذه المواضع وغيرها، الثاني: «أن» المضمرة وصلتها، وذلك هو النوع الخاص. وتقول: «جِئْتُكَ كَيْ تُكْرِمَنِي» فإن قدرت كي تعليليَّةً فالنصب بأن مضمرة، وأن مع هذا الفعل في تأويل مصدر مجرور بكي، وكأنك قلت: جئتك للإكرام.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الخامس: ما يجر نوعاً خاصًّا من الظواهر، وهو مُنْذُ ومُذْ؛ فإن مجرورهما لا يكون إلا اسمَ زمان، ولا يكون ذلك الزمان إلا معيناً، لا مبهماً، ولا يكون (ذلك) المعين إلا ماضياً أو حاضراً، لا مستقبلاً، تقول: «ما رأيته منذُ يوم الجمعة» و «مذْ يوممِ الجمعةِ» و «منذ يومنا» و «مذ يومنا» ولا تقول: «لا أراه منذ غد» ولا «مذ غد»، وكذا لا تقول: «ما رأيته منذ وقْتٍ».(1/184)
السادس: ما يجر نوعاً خاصًّا من المضمرات، ونوعاً خاصًّا من المظهرات، وهو «رُبَّ» فإنها إن جرت ضميراً فلا يكون إلا ضمير غيبة مفرداً مذكراً مراداً به المفرد المذكر وغيره، ويجب تفسيره بنكرة بعده مطابقة للمعنى المراد منصوبة على التمييز، نحو: «رُبَّه رجلاً لَقِيت» و «رُبَّهُ رَجُلَيْنِ» و «رُبَّهُ رِجَالاً» و «رُبَّهُ امْرَأَةً» و «رُبَّهُ امْرَأَتَيْنِ» و «رُبَّهُ نِسَاءً»، وكُلُّ ذلك قليل، وإن جَرَّتْ ظاهراً فلا يكون إلا نكرة موصوفة نحو: «رُبَّ رَجُللٍ صَالِححٍ لَقِيتُ» وذلك كثير.
فإن قلت: قد كان من حقك أن تؤخر التاء في الذكر عن الحروف المذكورة بعدها لاختصاص التاء باسم الله تعالى ورَبِّ الكعبة، واختصاصهن إما بنوع أو نوعين أو فرد ونوع كما فصلت، وأصْلُ حرف الجر أن لا يختص، والمختص بنوع أقرب إلى الأصل من مختص بفرد، وكان ينبغي أن يتقدم المختص بنوعين وهو رب، على المختص بفرد ونوع، وهي كي.
قلت: إنما ذكرتُ التاء إلى جانب الواو لأنها شريكتها في القسم، فتأخيرها عنها قطعٌ للنَّظير عن نظيره، ولما أردت أن أذكر شيئاً من أحكام رُبَّ اقتضى ذلك تأخيرها لئلا يقع ذكر أحكامها فاصلاً بين هذه الحروف؛ وأيضاً فإنني ذكرت حكم رب في الحذف وذكرت حكم بقية الحروف في ذلك، فلو كانت رب مُقَدَّمة كان ذلك أيضاً قطعاً للنَّظير عن النَّظير بالنسبة إلى الأحكام
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
جواز حذف رُبَّ وبقاء عملها
ثم قلت: ويَجُوزُ حَذْفُها مَعَهُ؛ فَيَجِبُ بَقَاءُ عَمَلِهَا، وذَلِكَ بَعْدَ الْوَاوِ كَثِيرٌ، والْفَاءِ وَبَلْ قَلِيلٌ، وحَذْفُ اللاَّممِ قَبْلَ كَيْ، وخَافِضضِ أَنَّ وأنَّ مُطْلقاً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حذف رب بعد الواو(1/185)
وأقول: لما ذكرت أن «رُبَّ» تدخل على المنكر بينت أنه يجوز حذفُهَا معه، وأشَرْتُ بهذا التقييد إلى أنها لا يجوز حذفها إذا دخلت على ضمير الغيبة، ثم بينت أنها إذا حذفت وجب بقاء عملها، وأن هذا الحكم، أعني حذفها وبقاء عملها، على نوعين: كثير، وقليل؛ فالكثير بعد الواو، كقوله: (الرَّجز)
159 ـــ وَبَلَدٍ مُغْبَرَّةٍ أَرْجَاؤهُ
كأنَّ لَوْنَ أَرْضِهِ سَمَاؤهُ
وقال: (الطَّويل)
160 ـــ وَلَيْللٍ كَمَوْججِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ
عَلَيَّ بِأنْوَاععِ الْهُمُوممِ لِيَبْتَلِي
وقوله: (الطَّويل)
161 ـــ وَدَوِّيَّةٍ مِثْللِ السَّمَاءِ اعْتَسَفْتُهَا
وَقَدْ صَبَغَ اللَّيْلُ الْحَصَى بِسَوَادِ
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حذف رُبَّ بعد الفاء
والقليلُ بعد الفاء وَبَلْ، مثالُ ذلك بعد الفاء قولُ امرىء القيس: (الطَّويل)
162 ـــ فَمِثْلِككِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِععٍ
فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِللِ
في رواية من روى بجر «مثل» و «مرضع» وأما من رواه بنصبهما فمثلُككِ مفعولٌ لطرقت، وحُبْلَى: بَدَل منه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حذف رُبّ بعد «بل»
ومثالُه بعد «بَلْ» قوله: (الرَّجز)
163 ـــ بَلْ بَلَدٍ مِلْءُ الْفِجَاججِ قَتَمُهْ
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حذف لام التعليل إذا جرَّت كي المصدريَّة وصلتها
ثم بينتُ أن حذف حَرْففِ الجر لا يختصُّ برُبَّ، بل يجوز في حرف آخر في موضع خاص، وفي جميع الحروف في موضعين خاصين.
أما الأول ففي لام التعليل؛ فإنها إذا جَرَّتْ كَيْ المصدريَّة وصِلَتَهَا جاز لك حذفُهَا قياساً مُطَّرداً، ولهذا تسمع النحويين يُجِيزُونَ في نحو: «جِئْتُ كَيْ تُكْرِمَنِي» أن تكون (كي) تعليلية وأن مضمرة بعدها، وأن تكون كي مصدرية واللاَّم مُقَدَّرَة قبلها.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حذف حرف الجر إذا كان المجرور أنَّ وصلتها أو أنْ وصلتها(1/186)
وأما الثاني فإذا كان المجرور أنَّ وصِلَتَهَا أو أنْ وصلتها؛ فالأول كقولك: «عَجِبْتُ أنَّكَ فَاضِلٌ» أي: من أنك، وقال الله تعالى: {وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى (البَقَرَة: الآية 25) }{وَأَنَّ الْمَسَجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ (الجنّ: الآية 18) } أي: بأن لهم جنات، لأن المساجد لله، والثاني كقولك: «عَجِبْتُ أَنْ قَامَ زَيْدٌ» أي: من أن قام، وقال الله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا (البَقَرَة: الآية 158) } أي: في أن يطوف بهما. {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ (المُمتَحنَة: الآية 1) } أي: لأن تؤمنوا، وقيل في: {يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ (النِّساء: الآية 176) }: إن الأصل لئلا تضلوا؛ فحذفت اللاَّم الجارة ولا النافية، وقيل: الأصل كراهة أن تضلوا؛ فحذف المضاف، وهذا أسْهَلُ، وقال الله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ (النِّساء: الآية 127) } أي: في أن تنكحوهن، أو عن أن تنكحوهن، على خلاف في ذلك بين أهل التفسير.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ثانياً: المجرور بالإضافة(1/187)
ثم قلت: الثَّاني: الْمَجْرُورُ بِالإضَافَةِ كـ«غُلاَممِ زَيْدٍ» ويُجَرَّدُ المُضَافُ مِنْ تَنْوِيننٍ أوْ نُوننٍ تُشْبِهُهُ مُطْلَقاً، ومِنَ التَّعْرِيففِ إِلاَّ فِيمَا مَرَّ، وإذَا كَانَ المُضَافُ صِفَةً والْمُضَافُ إلَيْهِ مَعْمُولاً لَهَا سُمِّيَتْ لَفْظِيَّة وغَيْر مَحْضَة، ولَمْ تُفِدْ تَعْرِيفاً وَلاَ تَخْصيصاً، كـ«ضَارِببِ زَيْدٍ» و «مُعْطَى الدِّينَارِ» و «حَسَننِ الْوَجْهِ»، وإلاَّ فَمَعْنَوِيَّة ومَحْضَة، تُفِيدُهُمَا، إلاَّ إذا كَانَ الْمُضَافُ شَدِيدَ الإبْهَاممِ كَغَيْرٍ وَمِثْللٍ وَخِدْننٍ. أوْ مَوْضِعُهُ مُسْتَحقًّا لِلنَّكِرَةِ كـ«جاء (زَيْدٌ) وَحْدَهُ» و «كَمْ نَاقَةٍ وفَصِيلَهَا لَكَ» و «لاَ أبَا لَهُ» فلا يَتَعَرَّفُ. وتُقَدَّرُ بِمَعْنَى «في» نحو: {بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ (سَبَإ: الآية 33) } و «عُثْمَانُ شَهِيدُ الدَّارِ» وبِمَعْنَى «مِن» في نحو: «خَاتَممِ حَدِيدٍ» ويجوزُ فيه النَّصْبُ في الثَّاني وإتْبَاعُهُ لِلأَوَّللِ، وبِمَعْنَى اللاَّممِ في الْبَاقِي.
وأقولُ: الثَّاني: من أنواع المجرورات: المجرورُ بالإضافةِ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
تعريف الإضافة
والإضافة في اللغة: الإسنادُ، قال امرؤ القيس: (الطَّويل)
164 ـــ فَلَمَّا دَخَلْنَاهُ أَضَفْنَا ظُهُورَنَا
إِلَى كُلِّ حَارِيَ جَدِيدٍ مُشَطَّببٍ
أي: لَمَّا دخلنا هذا البيتَ أسْنَدْنَا ظهورنا إلى كل رَحْللٍ منسوب إلى الْحِيرَةِ مخطَّطٍ فيه طرائق.(1/188)
وفي الاصطلاح: إسنادُ اسم إلى غيره، على تنزيل الثاني من الأول منزلة تنوينه، أو ما يقوم مقامَ تنوينه، ولهذا وجب تجريدُ المضاففِ من التنوين في نحو: «غُلاَممِ زَيْدٍ» ومن النون في نحو: «غُلاَمَيْ زَيْد» و «ضَارِبِي عَمْرو» قال الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ (المَسَد: الآية 1) }{إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ (القَمَر: الآية 27) }{إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ (العَنكبوت: الآية 31) }، وذلك لأن نون المثنى والمجموع على حَدِّهِ قائمة مقام تنوين المفردِ.
وإلى هذا أشَرْتُ بقولي: «ويجرد المضاف من تنوين أو نون تشبهه».
واحترزتُ بقولي: «تشبهه» من نون المفرد وجمع التكسير، كشيطان، وشياطين، تقول: شيطانُ الإنس شَرٌّ مِنْ شَيَاطِيننِ الْجِنِّ؛ فتثبت النون فيهما، ولا يجوز غير ذلك.
وقولي: «مطلقاً» أشَرْتُ (به) إلى أنها قاعدة عامة لا يستثنى منها شيء، بخلاف القاعدة التي بعدها.
وكما أن الإضافة تستدعي وُجُوبَ حذففِ التنويننِ والنوننِ المشبهةِ له، كذلك تستدعي وجُوبَ تجريدِ المضاففِ من التعريففِ، سواء كان التعريف بعلامة لفظية أم بأمرٍ معنوي؛ فلا تقول: الغلامُ زيدٍ، ولا زيدُ عمرٍو، مع بقاء زيد على تعريف العلمية، بل يجب أن تجرد الغلام من أل، وأن تعتقد في زيد الشيوعَ والتنكير، وحينئذٍ يجوز لك إضافتهما، وهذه هي القاعدة التي تقدمت الإشارة إليها آنفاً.
والذي يُسْتثنى منها مسألة «الضَّارِببِ الرَّجُلِ» و «الضَّارِببِ رَأْسسِ الرَّجُلِ» و «الضَّارِبَا زيد» و «الضَّارِبُو زيد» وقد تقدم شَرْحُهُنَّ في فصل المحلى بأل؛ فأغنى ذلك عن إعادته؛ فلذلك قلت: «إلا فيما استثني» أي: إلا فيما تقدم لي استثناؤه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الإضافة نوعان
ثم بينت بعد ذلك أن الإضافة على قسمين: مَحْضَة، وغير مَحْضَة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
(أ) الإضافة غير المحضة(1/189)
وأن غير المحضة عبارةٌ عما اجتمع فيها أمران: أمر في المضاف، وهو كونه صفة، وأمر في المضاف إليه، وهو كونه معمولاً لتلك الصفة، وذلك يقع في ثلاثة أبواب: اسم الفاعل، كـ«ضَارِببِ زَيْدٍ» واسم المفعول، كـ«مُعْطَى الدِّينَارِ» والصفة المشبهة، كـ«حَسَننِ الْوَجْهِ» وهذه الإضافة لا يستفيد بها المضافُ تعريفاً ولا تخصيصاً، أما أنه لا يستفيد تعريفاً فبالإجماع، ويدلُّ عليه أنك تصف به النكرة فتقول: «مَرَرْتُ بِرَجُللٍ ضَارِببِ زَيْدٍ» وقال الله تعالى: {هَدْياً بَلِغَ الْكَعْبَةِ (المَائدة: الآية 95) }{هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا (الأحقاف: الآية 24) } إن لم تعرب (ممطرنا) خبراً ثانياً، ولا خبراً لمبتدأ محذوف، وأما أنه لا يستفيد تخصيصاً فهو الصحيح، وزعم بعض المتأخرين أنه يستفيده، بناء على أن «ضَارِبَ زَيْدٍ» أخَصُّ من «ضَارِبٍ» والجوابُ أن «ضَارِبَ زَيْدٍ» ليس فرعاً عن «ضاربٍ» حتى تكون الإضافة قد أفادته التخصيص، وإنما هو فرع عن «ضَارِببٍ زَيْداً» بالتنوين والنَّصْببِ، فالتخصيص حَاصِلٌ بالمعمول أضَفْتَ أمْ لم تُضِفُ.
وإنَّما سُمِّيَت هذه الإضافة غيرَ محضةٍ لأنها في نية الانفصال؛ إذ الأصل «ضَارِبٌ زَيْداً» كما بينا، وإنما سميت لفظية لأنها أفادت أمراً لفظيًّا، وهو التخفيفُ؛ فإن «ضَارِبَ زَيْدٍ» أخَفُّ من «ضَارِببٍ زَيْداً».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
(ب) الإضافة المحضة(1/190)
وأن الإضافة المحضة عبارةٌ عما انتفي منها الأمران المذكوران أو أحدهما، مثالُ ذلك: «غُلاَمُ زَيْد» فإن الأمرين فيهما منتفيان، و «ضَرْبُ زَيدٍ» فإن المضاف إليه وإن كان معمولاً للمضاف لكن المضاف غير صفة، و «ضَارِبُ زَيْدٍ أَمْسِ» فإن المضاف وإن كان صفة لكن المضاف إليه ليس معمولاً لها؛ لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي؛ فهذه الأمثلة الثلاثة وما أشبهها تسمَّى الإضافة فيها مَحْضَة ـــ أي: خالصة من شائبة الانفصال ـــ ومعنوية، لأنها أفادت أمراً معنوياً، وهو تعريف المضاف إن كان المضاف إليه معرفة، نحو: «غُلاَمُ زيدٍ» وتخصيصه إن كان نكرة، نحو: «غلامُ امرأةٍ» اللهم إلا في مسألتين، فإنه لا يتعرف، ولكن يتخصص.
إحداهما: أن يكون المضاف شديد الإبهام، وذلك كغَيْرٍ ومِثْللٍ وشِبْهٍ وخِدْننٍ ـــ بكسر الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة ـــ بمعنى صاحب، والدليل على ذلك أنك تَصِفُ بها النكراتتِ؛ فتقول: «مَرَرْتُ بِرَجُللٍ غَيْرِكَ، وبِرَجُللٍ مِثْلِكَ، وبِرَجُللٍ شِبْهِكَ، وبِرَجُللٍ خِدْنِكَ»، قال الله تعالى: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَلِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ (فَاطِر: الآية 37) }.
الثانية: أن يكون المضاف في موضع مستحق للنكرة، كأن يقع حالاً أو تمييزاً أو اسماً لـ«لا» النافية للجنس؛ فالحال كقولهم: «جاء زَيْدٌ وَحْدَهُ» والتمييز كقولهم: «كَمْ ناقَةً وفَصيلَها» فكم: مبتدأ، وهي استفهامية، وناقَة: منصوب على التمييز، وفصيلها: عاطف ومعطوف، والمعطوف على التمييز تمييز، واسمُ «لا» كقولك: «لاَ أبَا لِزَيد» و «لاَ غُلاَمَىْ لِعَمْرٍو». فإن الصحيح أنه من باب المضاف، واللاَّم مُقْحمَةٌ، بدليل سقوطها في قول الشاعر: (الوافر)
165 ـــ أبِالْمَوْتتِ الَّذِي لاَ بُدَّ أَنِّي
مُلاَققٍ ـــ لاَ أبَاككِ ـــ تُخَوِّفِينِي(1/191)
فهذه الأنواع كلها نكرات، وهي في المعنى بمنزلة قولك: جاء زيدٌ منفرداً، وكم نَاقَةً وفَصِيلاً لها، ولا أباً لكَ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الإضافة المعنويَّة ثلاثة أقسام
ثم بينت أن الإضافة المعنوية على ثلاثة أقسام: مُقَدَّرة بفي، ومقدرة بمن، ومقدرة باللاَّم.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
1 ـــ المقدَّرة بفي
فالمقدرة بفي ضابِطُهَا: أن يكون المضاف إليه ظرفاً للمضاف، نحو قول الله تعالى: {بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ (سَبَإ: الآية 33) }{تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ (البَقَرَة: الآية 226) } ونحو قولك: «عُثْمَانُ شَهِيدُ الدَّار» و «الْحُسَيْنُ شَهِيدُ كَرْبَلاَء» و «مَالِكٌ عَالِمُ المدينَةِ» وأكثر النحويين لم يثبت مجيء الإضافة بمعنى في.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
2 ـــ المقدَّرة بمن
والمقدرة بمن ضابِطُهَا: أن يكون المضاف إليه كُلاًّ للمضاف وصالحاً للإخبار به عنه، نحو قولك: «هذَا خَاتَمُ حَدِيدٍ» ألا ترى أن الحديد كل، والخاتمَ جزء منه، وأنه يجوز أن يقال: الخاتم حديدٌ، فيخبر بالحديد عن الخاتم.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
3 ـــ المقدَّرة باللاَّم
وبمعنى اللاَّم فيما عدا ذلك، نحو: «يَدُ زيدٍ» و «غُلاَمُ عمرٍو» و «ثَوْبُ بكرٍ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ثالثاً: المجرور بالمجاورة ومواقعه
ثم قلت: الثَّالِثُ: المَجْرُورُ لِلْمُجَاوَرَةِ، وهو شَاذٌّ، نحو: «هذَا جُحْرُ ضَبَ خَرِب». وقوله:
يَا صَاححِ بَلِّغْ ذَوِي الزَّوْجاتتِ كلّهمُ
وَلَيْسَ مِنْهُ: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ (المَائدة: الآية 6) } على الأصَحِّ.
وأقول: الثالث من أنواع المجرورات: ما جُرَّ لمجاورة المجرور، وذلك في بابي النعت والتأكيد، قيل: وباببِ عطف النَّسَققِ.(1/192)
فأما النعتُ ففي قولهم: «هذَا جُحْرُ ضَبَ خَرِبٍ» روي بخفض «خرب» لمجاورته للضبّ، وإنّما كان حقه الرفع، لأنه صفة للمرفوع، وهو الْجُحْرُ، وعلى الرفع أكثر العَرَب.
وأما التّوكيد ففي نحو قوله: (البسيط)
166 ـــ يَا صَاححِ بَلِّغْ ذَوِي الزَّوْجَاتتِ كُلِّهِمُ
أَنْ لَيْسَ وَصْلٌ إِذَا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَببِ
فكلِّهم: توكيد لذوي، لا للزوجات، وإلا لقال كلهنَّ، وذوي: منصوب على المفعولية، وكان حق «كلهم» النصب، ولكنه خفض لمجاورة المخفوض.
وأما المعطوف فكقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ (المَائدة: الآية 6) }. في قراءة مَنْ جر الأرْجُلَ لمجاورته للمخفوض وهو الرؤوس، وإنما كان حقه النصب، كما هو في قراءة جماعة آخرين، وهو (منصوب) بالعطف على الوجوه والأيدي، وهذا قول جماعة من المفسرين والفقهاء.(1/193)
وخالفهم في ذلك المحققون، ورأوا أن الخفض على الجوارِ لا يحسن في المعطوف؛ لأن حرف العطف حَاجِزٌ بين الاسمين ومُبْطِل للمجاورة، نعم لا يمتنع في القياس الخفضُ على الجوار في عطف البيان؛ لأنه كالنعت والتوكيد في مجاورة المتبوع، وينبغي امتناعُه في البدل؛ لأنه في التقدير من جملة أخرى؛ فهو محجوز تقديراً، ورأى هؤلاء أن الخفض في الآية إنما هو بالعطف على لفظ الرؤوس، فقيل: الأرجُلُ مغسولة لا ممسوحة، فأجابوا على ذلك بوجهين؛ أحدهما: أن المسح هنا الغَسْلُ، قال أبو عليّ: حكى لنا مَنْ لا يُتّهم أن أبا زيد قال: المسحُ خفيفُ الغسللِ، يقال: مسحت للصلاة، وخُصَّتتِ الرجلان من بين سائر المغسولات باسم المسح ليقتصد في صب الماء عليهما؛ إذ كانتا مظنَّةً للإسراف، والثاني: أن المراد هنا المسح على الخفين، وجعل ذلك مسحاً للرِّجْللِ مجازاً، وإنما حقيقته أنه مَسْحٌ للخُفِّ الذي على الرجل، والسُّنَّة بَيَّنَتْ ذلك.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ويرجح ذلك القول ثلاثة أمور؛ أحدها: أن الحمل على المجاورة حمل على شاذ؛ فينبغي صونُ القرآن عنه، والثاني: أنه إذا حمل على ذلك كان العطف في الحقيقة على الوُجُوهِ والأيدي؛ فيلزم الفصل بين المتعاطفين بجملة أجنبية وهو: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ (المَائدة: الآية 6) } وإذا حمل على العطف على الرؤوس لم يلزم الفصلُ بالأجنبي، والأصل أن لا يفصل بين المتعاطفين بمفردٍ فضلاً عن الجملة، الثالث: أن العطف على هذا التقدير حمل على المجاور، وعلى التقدير الأول حمل على غير المجاور، والحمل على المجاور أولى.
فإن قلت: يدل للتوجيه الأول قراءة النصب.
قلت: لا نسلم أنها عَطْفٌ على الوجوه والأيدي، بل على الجار والمجرور، كما قال: (الرّجز)
167 ـــ يَسْلُكْنَ في نَجْدٍ وَغَوْراً غَاثِرا
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
باب المجزومات(1/194)
ثم قلت: بابٌ ـــ الْمَجْزُومَاتُ الأفْعَالُ الْمُضَارِعَةُ الدَّاخِلُ عَلَيْهَا جَازِمٌ، وهو ضَرْبَاننِ: جَازِمٌ لِفِعْللٍ، وهو: لَمْ، ولَمَّا، ولاَمُ الأمْرِ، ولاَ في النَّهْيِ، وجَازِمٌ لِفِعْلَيْننِ، وهو أدَوَاتُ الشَّرْطِ: إنْ، وَإِذ ما، لمجرَّدِ التَّعْلِيققِ، وَهُمَا حَرْفَان، ومَنْ لِلعَاقِللِ، وَمَا ومَهْمَا لِغَيْرِهِ، ومَتَى وأيَّانَ لِلزَّمَاننِ، وَأَيْنَ وَأَنَّى وحَيْثُمَا لِلمَكَاننِ، وأيٌّ بِحَسَببِ مَا تُضَافُ إلَيْهِ، ويُسَمَّى أوَّلُهُمَا شَرْطاً، وَلاَ يَكُونُ ماضِيَ الْمَعْنَى، وَلاَ إنْشَاءً، وَلاَ جَامِداً، وَلاَ مَقْرُوناً بِتَنْفِيسسٍ، وَلاَ قَدْ، وَلاَ نَاففٍ غَيْرِ لا وَلَمْ، وَثَانِيهمَا جَواباً وجَزَاء.
وأقول: لما أنهيتُ القولَ في المجرورات شرعت في المجزومات، وبهذا الباب تتم أنواع الْمُعْرَبَاتتِ، وبينت أن المجزومات هي الأفعالُ المضارعةُ الداخلُ عليها أداةٌ من هذه الأدوات الخمس عَشَرَة، وأن هذه الأدوات ضربان:
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الأحرف الجازمة لفعل واحد
ما يجزم فعلاً واحداً، وهو أربعة: لم، نحو: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } وَلَمَّا، نحو: {لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ (عَبَسَ: الآية 23) }{بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ (ص: الآية 8) }{وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَهَدُواْ مِنكُمْ (آل عِمرَان: الآية 142) } ولام الأمر، نحو: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ (الطّلاق: الآية 7) } و «لا» في النهي نحو: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا (التّوبَة: الآية 40) } وقد يُستعاران للدعاء، كقوله تعالى: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ (الزّخرُف: الآية 77) }{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ (البَقَرَة: الآية 286)}.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الأحرف الجازمة لفعلين اثنين وأقسامها(1/195)
وما يجزم فعلين، وهو الإحدى عشرة الباقيةُ، وقد قسمتها إلى ستة أقسام:
أحدها: ما وضع للدلالة على مجرد تعليق الجواب على الشرط، وهو إنْ وإذ مَا، قال الله تعالى: {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ (الأنفَال: الآية 19) } وتقول: «إذْ مَا تَقُمْ أقُمْ».
وهما حرفان، أما إنْ فبالإجماع، وأما إذْ مَا فعند سيبويه، والجمهور، وذهب المبرد وابن السراج والفارسي إلى أنها اسم.
وفهم من تخصيصي هذين بالحرفية أن ما عداهما من الأدوات أسماء، وذلك بالإجماع في غير «مَهْمَا» وعلى الأصح فيها، والدليلُ عليه قوله تعالى: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ (الأعرَاف: الآية 132) } فعاد الضمير المجرور عليها، ولا يعود (الضمير) إلا على اسممٍ.
الثاني: ما وضع للدلالة على مَنْ يعقل، ثم ضُمِّن معنى الشرط، وهو مَنْ، نحو: {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ (النِّساء: الآية 123) }.
الثالث: ما وضع للدلالة على ما لا يعقل، ثم ضُمِّن معنى الشرط وهو ما ومهما، نحو قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ (البَقَرَة: الآية 197) }{مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ (الأعرَاف: الآية 132) } الآية.
الرابع: ما وضع للدلالة على الزمان، ثم ضُمِّن معنى الشَّرْط، وهو مَتَى وأيَّان، كقول الشَّاعر: (الطَّويل)
168 ـــ وَلَسْتُ بِحَلاَّللِ التِّلاَععِ مَخَافَةً
ولكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ القومُ أَرفِدِ
وقول الآخر: (البسيط)
169 ـــ أَيَّانَ نُؤْمِنْكَ تَأَمَنْ غَيْرَنَا، وإذا
لَمْ تُدْرِككِ الأمْنَ مِنَّا لَمْ تَزَلْ حَذِرَا
الخامسُ: ما وضعَ للدلالة على المكان، ثم ضُمِّنَ معنى الشرط، وهو ثلاثة: أينَ، وأنّى، وحَيْثُمَا، كقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ (النِّساء: الآية 78) } وقول الشَّاعر: (الطَّويل)
170 ـــ خَلِيلَيَّ أنّى تَأتِيَانِيَ تَأتِيَا
أخاً غَيْرَ ما يُرْضِيكُمَا لا يُحَاوِلُ
وقوله: (الخفيف)(1/196)
171 ـــ حَيْثُمَا تَسْتَقِيمْ يُقَدِّرْ لَكَ اللَّهُ نَجَاحاً فِي غَابِرِ الأزْمَانِ
السادسُ: ما هو مُتَرَدِّدٌ بين الأقسام الأربعة، وهي أيٌّ؛ فإنها بحسب ما تضاف إليه؛ فهي في قولك: «أيُّهُمْ يَقُمْ أَقُمْ معه» من باب مَنْ، وفي قولك: «أيَّ الدَّوَابِّ تركَبْ أركب» من باب ما، وفي قولك: «أيّ يَوْممٍ تَصُمْ أَصُمْ» من باب متى، وفي قولك: «أيّ مكاننٍ تجلِسْ أجلس» من باب أيْنَ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ثم بَيَّنْت أن الفعل الأول يسمى شَرْطاً، وذلك لأنه عَلاَمة على وجود الفعل الثاني، والعلامة تسمى شرطاً، قال الله تعالى: {فَقَدْ جَآء أَشْرَاطُهَا (محَمَّد: الآية 18) } (أي: علاماتها) والأشْرَاطُ في الآية جمع شَرَطٍ ـــ بفتحتين ـــ لا جمع شَرْط ـــ بسكون الراء ـــ لأن فَعْلاً لا يجمع على أفعال قياساً إلا في معتل الوسَط كأثْوَاببِ وأبْيَاتتِ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط فعل الشرط
ثم بينت أن فعل الشرط يُشْتَرَطُ فيه ستة أمور:
أحدها: أن لا يكون ماضي المعنى؛ فلا يجوز: «إن قام زيد أمْسسِ أقُمْ معه».
وأما قوله تعالى: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ (المَائدة: الآية 116) } فالمعنى إن يتبين أني كنت قلته، كقوله: (الطَّويل)
172 ـــ إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَة
فهذا في الجواب نظير الآية الكريمة في الشرط.
الثاني: أن لا يكون طلباً؛ فلا يجوز «إنْ قُمْ» ولا «إن لِيَقُمْ» أو «إنْ لا يَقُمْ».
الثالث: أن لا يكون جامداً؛ فلا يجوز «إنْ عَسَى» ولا «إنْ لَيْسَ».
الرابع: أن لا يكون مقروناً بتنفيس؛ فلا يجوز «إن سَوْفَ يَقُمْ».
الخامس: أن لا يكون مقروناً بقَدْ؛ فلا يجوز «إن قد قام زيد» ولا «إن قد يقم».(1/197)
السادس: أن لا يكون مقروناً بحرف نفي؛ فلا يجوز «إنْ لَمَّا يقم» ولا «إنْ لَنْ يقم» ويستثنى من ذلك لم ولا؛ فيجوز اقترانه بهما، نحو: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (المَائدة: الآية 67) } ونحو: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الاْرْضِ (الأنفَال: الآية 73) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
جواب الشَّرط
ثم بينت أن الفعل الثاني يسمى جواباً وجزاء، تشبيهاً له بجواب السؤال وبجزاء الأعمال، وذلك لأنه يقع بعد وقوع الأول كما يَقَعُ الجوابُ بعد السؤال، وكما يَقَعُ الجزاء بعد الفعل المُجَازَى عليه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
يجب اقتران جواب الشّرط بالفاء أو إذا فيما لا يصلح أن يأتي شرطا
ثم قلت: وقَدْ يَكُونُ وَاحِداً مِنْ هذِهِ؛ فَيَقْتَرِنُ بِالْفَاءِ، نحو: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ (يُوسُف: الآية 26) } الآية {فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً (الجنّ: الآية 13) } أوْ جُمْلَةً اسميَّةً فَيَقْتَرِنُ بِهَا أوْ بإذا الْفُجَائِيَّةِ، نحو: {فَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدُيرٌ (الأنعَام: الآية 17) } ونحو: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (الرُّوم: الآية 36) }.
وأقول: قد يأتي جوابُ الشرط واحداً من هذه الأمور الستة التي ذكرتُ أنها لا تكون شرطاً؛ فيجب أن يقترن بالفاء.
مثالُ ماضي المعنى: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّدِقِينَ }.(1/198)
ومثالُ الطَّلَب قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (آل عِمرَان: الآية 31) }{فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً (الجنّ: الآية 13) } فيمن قرأ: {فَلاَ يَخَافُ بَخْساً (الجنّ: الآية 13) } بالجزم على أن لا ناهية، وأما من قرأ: {فَلاَ يَخَافُ (طه: الآية 112) } بالرفع فلا نافية، ولا النافية تقترن بفعل الشرط كما بينا؛ فكان مقتضى الظاهر أن لا تدخل الفاء، ولكن هذا الفعل مبنيٌّ على مبتدأ محذوف، والتقدير: فهو لا يخاف؛ فالجملة اسمية، وسيأتي أن الجملة الاسمية تحتاج إلى الفاء أو إذا، وكذا يجب هذا التقدير في نحو: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ (المَائدة: الآية 95) } أي: فهو ينتقم الله منه، ولولا ذلك التقدير لوجب الحزمُ وتَرْكُ الفاء.
ومثالُ الجامدِ قوله تعالى: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا فعسَى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ}{إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَتِ فَنِعِمَّا هِىَ (البَقَرَة: الآية 271) }{وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَنُ لَهُ قَرِيناً فَسَآء قِرِيناً (النِّساء: الآية 38) }.
ومثالُ المقرون بالتنفيس قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ (التّوبَة: الآية 28) }{وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً (النِّساء: الآية 172) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ومثالُ المقرون بقَدْ قوله تعالى: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ (يُوسُف: الآية 77) }.(1/199)
ومثالُ المقرون بِنَاففٍ غير لا ولم: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (المَائدة: الآية 67) }{وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ (آل عِمرَان: الآية 115) }{وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً (آل عِمرَان: الآية 144) }.
وقد يكون الجواب جملة اسمية فيجب اقترانه بأحد أمرين: إما بالفاء أو «إذا» الفُجائية، فالأولُ كقوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدُيرٌ (الأنعَام: الآية 17) } والثاني كقوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (الرُّوم: الآية 36) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
جواز حذف الشرط أو جواب الشرط
ثم قلت: ويَجُوزُ حَذْفُ مَا عُلِمَ مِنْ شَرْطٍ بَعْدَ «وإلاّ» نحو: «افْعَلْ هذَا وإلاَّ عَاقَبْتُكَ» أوْ جَواببٍ شَرْطهُ مَاض، نحو: {فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الاْرْضِ (الأنعَام: الآية 35) } أوْ جُمْلَةِ شرط وأدَاتِهِ إنْ تَقَدَّمَهَا طَلَبٌ وَلَوْ بإسميّةٍ أو باسم فعْللٍ أو بما لَفْظُه الْخَبَرُ نحو: {تَعَالَوْاْ أَتْلُ (الأنعَام: الآية 151) } ونحو: «أيْنَ بَيْتُكَ أزُرْكَ» و «حَسْبُكَ الْحَدِيثُ يَنَممِ النَّاسُ» وقال:
مَكَانَككِ تُحْمَدِي أو تَسْتَرِيحِي
وشَرْطُ ذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ كَوْنُ الْجَوَاببِ مَحْبُوباً، نحو: «لاَ تَكْفُرْ تَدْخُللِ الْجَنَّةَ».
وأقول: مسائلُ الحذففِ الواقععِ في باب الشرط والجزاء ثلاثة:
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حذف جواب الشّرط وحده(1/200)
المسألة الأولى: حذفُ الجواب، وشرطه أمران؛ أحدهما: أن يكون معلوماً، والثاني: أن يكون فعلُ الشرط ماضياً، تقول: أنتَ ظالمٌ إن فَعَلْتَ؛ لوجود الأمرين، ويمتنع «إن تقم» و «إن تقعد» ونحوهما حيث لا دليل؛ لانتفاء الأمرين، ونحو: «إن قمت» حيث لا دليل لانتفاء الأمر الأول، ونحو: «أنت ظالم إن تَفْعَلْ»؛ لانتفاء الأمرين، قال الله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الاْرْضِ أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَآء فَتَأْتِيَهُمْ بِئَايَةٍ (الأنعَام: الآية 35) } تقديره: فافعل، والحذف في هذه الآية في غاية من الحسن؛ لأنه قد انضم لوجود الشرطين طولُ الكلام، وهو مما يحسن معه الحذف.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حذف فعل الشَّرط وحده
المسألة الثانية: حذفُ فعللِ الشرط وحده، وشرطه أيضاً أمران: دلالةُ الدليل عليه وكونُ الشرط واقعاً بعد «وإلا» كقولك: «تُبْ وإلاّ عَاقَبْتُكَ» أي: وإلا تَتُبْ عاقبتك، وقول الشَّاعر: (الوافر)
173 ـــ فَطَلِّقْهَا فَلَسْتَ لَهَا بِكُفْءِ
وإلاّ يَعْلُ مَفْرِقَكَ الْحُسَامُ
أي: وإلا تُطَلّقها يَعْلُ.
وقد لا يكون بعد «وإلاّ» فيكون شاذًّا، إلا في نحو: «إنْ خَيْراً فَخَيْرٌ» فقياسٌ كما مَرَّ في بابه، على أن ذلك لم يحذف فيه جملة الشرط بجملتها، بل بَعْضُها، وكذلك نحو: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ (التّوبَة: الآية 6) } فليستا مما نحن فيه، وأكثر ما يكون ذلك مع اقتران الأداة بلا النافية، كما مثلت.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حذف أداة الشَّرط وفعل الشرط
المسألة الثالثة: حذفُ أداة الشرط وفعل الشرط.(1/201)
وشرطه أن يتقدم عليهما طلبٌ بلفظ الشرط ومعناه، أو بمعناه فقط؛ فالأول نحو: «ائتني أكْرِمْك» تقديره: ائتني فإن تأتني أكرمك، فأكرمك: مجزوم في جواب شرط محذوف دل عليه فعل الطلب المذكور، هذا هو المذهب الصحيح نحو قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ (الأنعَام: الآية 151) } أي: تعالوا فإن تأتُوا أتْلُ، ولا يجوز أن يقدر فإن تتعالوا؛ لأن تعالَ فعلٌ جامدٌ لا مضارع له ولا ماضي حتى توهم بعضهم أنه اسم فعل.
ولا فَرْقَ بين كون الطلب بالفعل كما مثلنا، وكونه باسم الفعل كقول عمرو بن الإطنابة، وغلط أبو عبيدة فنسبة إلى قَطَرِيِّ بن الفُجَاءة: (الوافر)
174 ـــ أَبت لِي عِفَّتِي وَأَبَى بَلاَئِي
وَأَخْذِي الْحَمْدَ بِالثَّمَننِ الرِّبِيححِ
وَإِمْسَاكِي عَلَى المَكْرُوهِ نَفْسِي
وَضَرْبِي هَامَةَ البَطَل المُشِيححِ
وقَوْلِي كلما جَشأتْ وجَاشَتْ
مَكَانككِ تُحْمَدَى أو تَسْتَرِيحي
لأِدْفَعَ عَنْ مَآثِرَ صَالِحَاتتِ
وأَحْمِيَ بَعْدُ عَنْ عِرْضضٍ صَحِيححِ
فجزم «تحمدي» بعد قوله: «مكانك» وهو اسم فعل بمعنى اثبتي.
وشرطُ الحذف بعد النهي كونُ الجواب أمراً محبوباً كدخول الجنة والسلامة في قولك: «لا تَكْفُرْ تَدْخُللِ الجنَّة» و «لا تَدْنُ من الأسد تسلم» فلو كان أمراً مكروهاً كدخول النار وأكل السبع في قولك: «لا تكْفُرْ تدخل النار» و «لا تدن من الأسَدِ يأكُلُكَ» تعين الرفع، خلافاً للكسائي، ولا دليل له في قراءة بعضهم: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } (المدَّثِّر: الآية 6) ؛ لجواز أن يكون ذلك موصولاً بنية الوقف وسهَّل ذلك أن فيه تحصيلاً لتناسب الأفعال المذكورة معه، ولا يحسن أن يقدر بَدَلاً مما قبله، كما زعم بعضهم، لاختلاف معنييهما وعدم دلالة الأول على الثاني.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أحكام حذف جواب الشّرط(1/202)
ثم قلت: ويَجِبُ الاِسْتِغْنَاءُ عَنْ جَوَاببِ الشَّرْطِ بِدَلِيلِهِ مُتَقَدِّماً لَفْظاً نحو: «هُوَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلَ» أوْ نِيَّةً نحو: «إنْ قُمْتَ أَقُومُ» ومِن ثَمَّ امْتَنَعَ في النَّثرِ «إنْ تَقُمْ أقُومُ» وبجواببِ ما تقدَّمَ مِنْ شَرْطٍ مُطْلقاً، أوْ قَسَممٍ، إلاّ إنْ سَبَقَهُ ذُو خبرٍ، فَيَجُوزُ تَرْجِيحُ الشَّرْطِ المُؤَخَّرِ.
وأقول: حذف الجواب على ثلاثة أوجه:
الوجه الأوّل: ممتنع، وهو ما انتفي منه الشرطان المذكوران أو أحدهما.
الوجه الثاني: وجائز، وهو ما وُجِدَا فيه، ولم يكُن الدليلُ الذي دلَّ عليه جملة مذكُورة في ذلك الكلام متقدمة الذكر لفظاً أو تقديراً.
الوجه الثالث: وواجب، وهو ما كان دليلُه الجملة المذكُورة.
فالمتقدمة لفظاً كقولهم: «أنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ» والمتقدمة تقديراً لها صورتان:
إحداهما: قولك: «إن قَامَ زيدٌ أقومُ» وقول الشَّاعر: (البسيط)
175 ـــ وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلةٍ
يَقُولُ: لا غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ
فإن المضارع المرفوع المؤخر على نية التقديم على أداة الشرط في مذهب سيبويه والأصلُ أقومُ إن قام، ويقولُ إن أتاه خليل، والمبرد يرى أنه هو الجواب، وأن الفاء مُقَدَّرة.
والثانية: أن يتقدم على الشرط قَسَم نحو: «واللَّهِ إن جَاءَني لأكْرِمَنَّهُ» فإن قولك: «لأكْرِمَنَّهُ» جوابُ القسممِ، فهو في نية التقديم إلى جانبه، وحُذِف جواب الشرط لدلالته عليه، ويدلك على أن المذكور جواب القسم توكيد الفعل في نحو المثال، ونحو قوله تعالى: {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَرَ (الحَشر: الآية 12) } ورفعه في قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ (آل عِمرَان: الآية 111) }.(1/203)
ثم أشرتُ إلى أنه ـــ كما وَجَبَ الاستغناء بجواب القسم المتقدم ـــ يجب العكس في نحو: «إن يَقُمْ واللَّهِ أقُمْ» وأنه إذا تقدم عليهما شيء يطلب الخبر وجبت مراعاةُ الشرط تقدم أو تأخر، نحو: «زيدٌ واللَّهِ إن يَقُمْ أقُمْ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حكم الفعل المقترن بالفاء أو بالواو بعد الشّرط والجواب أو بينهما
ثم قلت: وجَزْمُ مَا بَعْدَ فَاءٍ أوْ وَاوٍ مِنْ فِعْللٍ تَاللٍ للشَّرْطِ أو الْجَوَاببِ قَوِيٌّ، ونَصْبُهُ ضَعِيفٌ، ورَفْعُ تَالِي الْجَوَاببِ جَائِزٌ.
وأقول: ختمتُ باب الجوازم بمسألتين: أولاهما يجوز فيها ثلاثة أوجه، والثانية يجوز فيها وجهان، وكلتاهما يكون الفعل فيها واقعاً بعد الفاء أو الواو.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حكم الفعل المقترن بعد الشرط والجواب
فأما مسألة الثلاثة الأوجه فضابطها: أن يقع الفعل بعد الشرط والجزاء كقوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآء (البَقَرَة: الآية 284) } الآية، قرىء (فَيَغْفِرْ) بالجزم على العطف، و (فيغفِرُ) بالرفع على الاستئناف، و (فيغفر2) بالنصب بإضمار أن، وهو ضعيف، وهي عن ابن عباس رضي الله عنهما
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حكم الفعل المقترن بين الشرط والجواب
وأما مسألة الوجهين فضابطها: أن يقع الفعل بين الشرط والجزاء كقولك: «إن تأتني وتمشيَ إليَّ أُكْرِمْك» فالوجه الجزم، ويجوز النصب كقوله: (الطَّويل)
176 ـــ وَمَنْ يَقْتَرِبْ مِنَّا وَيَخْضَعَ نُؤْوِهِ
(وَلاَ يَخْشَ ظُلْماً مَا أقَامَ وَلاَ هَضْماً)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
باب عمل الفعل(1/204)
ثم قلت: بَابٌ في عَمَللِ الفِعْللِ ـــ كلُّ الأفْعَاللِ تَرْفَعُ إمَّا الفَاعِلَ أو نَائِبَهُ أو المُشَبَّهَ بِهِ، وتَنْصِبُ الأسماءَ، إلاّ المُشَبَّهَ بالمَفْعُوللِ بِهِ مُطْلقاً، وإلاَّ الْخَبَرَ والتمييز والمَفْعُولَ المُطْلَقَ فَنَاصِبُهَا الوَصْفُ والنَّاقِصُ والمُبْهَمُ المَعْنَى أو النِّسْبَةِ والمُتَصَرِّفُ التامُّ ومَصْدَرُهُ وَوَصْفُهُ، وإلاَّ المَفْعُولَ بِهِ فإنَّهَا بالنسبَةِ إليهِ سَبْعَةُ أقْسَاممٍ: مَا لاَ يَتَعَدَّى إليهِ أصْلاً: كالدَّالِّ عَلَى حُدُوثثِ ذَاتتٍ كَحَدَثَ وَنَبَتَ، أوْ صِفَةٍ حِسِّيَّة كَطَالَ وخَلُقَ، أوْ عَرَضضٍ كَمَرِضَ وفَرِحَ، وكالمُوَازِنَ لانْفَعَلَ كانْكَسَرَ، أو فَعُلَ كَظَرُفَ، أو فَعَلَ أو فَعِلَ اللَّذَيْننِ وَصْفُهُمَا عَلَى فَعِيللٍ في نحو ذَلَّ وسَمِنَ، وَمَا يتعدَّى إلى واحِد دائماً بالْجَارِّ كَغَضِبَ ومَرَّ، أوْ دائماً بنَفْسِهِ كأفْعَاللِ الْحَوَاسِّ، أو تَارةً وتَارَةً كَشَكَرَ ونَصَحَ وقَصَدَ، وما يَتَعدَّى لهُ بِنَفْسِهِ تَارَةً ولا يتعدَّى إليهِ أُخْرَى كَنَقَصَ وزَادَ، أو يتعدَّى إليهما دائماً، فإمَّا ثانيهما كمفعول شَكَرَ كأمَرَ واسْتَغْفَرَ واخْتَارَ وصَدَّقَ وزوَّجَ وَكَنَى وسَمَّى ودعَا بمعناه، وكَالَ وَوَزَنَ أو أولهما فاعل في المعنى كأعْطَى وكَسَا، أو أولهما وثانيهما مُبْتَدأ وخَبَرٌ في الأصْللِ وهو أفعالُ القُلُوببِ ظَنَّ، لا بِمَعْنَى اتَّهَمَ، وعَلِمَ لاَ بِمَعْنَى عَرَفَ، ورَأَى لاَ مِنَ الرَّأيِ، وَوَجَدَ لاَ بِمَعْنَى حَزِنَ أوْ حَقَدَ، وَحَجَا لاَ بِمَعْنَى قَصَدَ، وحَسِبَ، وَزَعَمَ، وخَالَ، وجَعَلَ، ودَرَى في لُغَيَّةٍ، وَهَبْ، وتَعَلَّمْ بِمَعْنَى اعْلَمْ، ويَلْزَمُ الأمْرَ، وأفْعَالُ التَّصْيِيرِ، كجعلَ، ونَحِذَ، واتَّخَذَ، ورَدَّ، وتَرَكَ، ويجوزُ إلْغَاءُ الْقَلْبِيَّةِ المُتَصَرِّفَةِ مُتَوَسِّطَةً(1/205)
أوْ مُتَأخِّرَةً، ويَجِبُ تَعْلِيقها، قَبْلَ لاَممِ الاِبْتِدَاءِ أوِ القَسَممِ، أوِ اسْتِفْهاممٍ، أوْ نَفْيٍ بِمَا مُطْلَقاً، أوْ بِلاَ أوْ إنْ في جَوَاببِ الْقَسَممِ، أوْ لَعَلَّ أوْ لَوْ أوْ إنَّ أوْ كَممِ الْخَبَرِيَّةِ، وَمَا يَتَعَدَّى إلى ثلاثةٍ، وهو أَعْلَمَ وأَرَى وما ضُمِّنَ معناهُمَا مِنْ أَنْبَأَ ونَبَّأَ وأَخْبَرَ وخَبَّرَ وحَدَّثَ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
بيان ما تشترك فيه الأفعال
وأقول: عقدتُ هذا الباب لبيان عمل الأفعال، فذكرتُ أن الأفعالَ كلَّها ـــ قاصِرَهَا ومُتَعَدِّيَهَا، تامَّهَا وناقِصَهَا ـــ مشتركة في أمرين:
أحدهما: أنها تعمل الرفع، وبيانُ ذلك أن الفعل إما ناقص فيرفع الاسم، نحو: «كَانَ زَيْدٌ فاضلاً» وإما تام آتتٍ على صيغته الأصلية فيرفع الفاعل نحو: «قَامَ زَيْدٌ» وإما تام آتتٍ على غير صيغته الأصلية فيرفع النائب عن الفاعل، نحو: {وَقُضِىَ الامْرُ (البَقَرَة: الآية 210) } وقد تقدم شرحُ ذلك كله.
الثاني: أنها تنصب الأسماء غير خمسة أنواع، أحدها: المشبَّهُ بالمفعول به؛ فإنما تنصبه عند الجمهور الصفاتُ نحو: «حَسَنٌ وَجْهَهُ»، والثاني: الخبر؛ فإنما ينصبه الفعلُ الناقصُ وتصاريفُه نحو: «كَانَ زيدٌ قائماً» و «يعجبني كونُهُ قائماً» ولم أذكر تصاريفه في المقدمة لوضوح ذلك، والثالث: التمييز؛ فإنما ينصبه الاسمُ المبهم المعنى كـ«رطل زيتاً» أوِ الفعلُ المجهولُ النسبةِ كـ«طَابَ زيدٌ نفساً» وكذلك تصاريفه، نحو: «هو طيبٌ نفساً»، والرابع: المفعول المطلق؛ وإنما ينصبه الفعلُ المتصرفُ التام وتصاريفه نحو: «قُمْ قِيَاماً» و «هُوَ قائمٌ قياماً» ويمتنع «ما أحْسَنَهُ إحْسَاناً» و «كُنْتُ قائماً كَوناً». والخامس: المفعول به؛ وإنما ينصبه الفعلُ المتعدِّي بنفسه، كـ«ضربتُ زيداً» وقد قَسَّمْتُ الفعل بحسب المفعول به تقسيماً بديعاً، فذكرتُ أنه سبعةُ أنواععٍ:(1/206)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الأفعال بالنّسبة إلى المفعول على سبعة أنواع
أحدها: ما لا يطلب مفعولاً به البَتَّةَ، وذكرتُ له علامات:
إحداها: أن يدل على حدوثثِ ذاتتٍ، كقولك: «حَدَثَ أمْرٌ» و «عَرَض سَفَرٌ» و «نبتَ الزَّرْعُ» و «حصلَ الخِصْبُ» وقوله: (الوافر)
177 ـــ إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ فأَدْفِئُونِي
فَإِنَّ الشَّيْخَ يُهْرِمُهُ الشتاءُ
فإن قلت: فإنك تقول: حدث لي أمرٌ، وعَرَضَ لي سفرٌ.
فعندي أن هذا الظرف صفة المرفوع المتأخر، تقدم عليه فصار حالاً؛ فتعلُّقه أولاً وآخراً بمحذوف وهو الكون (المُطْلَقُ)، أو متعلق بالفعل المذكور على أنه مفعول لأجله، والكلام في المفعول به.
الثَّانية: أن يدل على حدوث صفة حسيةٍ، نحو: طَالَ اللَّيْلُ، وقَصُرَ النَّهَارُ، وخَلُقَ الثَّوبُ، ونَظُفَ، وطَهُرَ، ونَجُسَ، واحترزت بالحسِّيّة من نحو: علم وفهم وفرح، ألا ترى أن الأول منها متعدّ لاثنين، والثاني لواحد بنفسه، والثالث لواحد بالحرف، تقول: علمتُ زيداً فاضلاً، وفهمتُ المسألة، وفرحتُ بزيد.
الثالثة: أن يكون على وزن فَعُلَ ـ بالضم ـــ كظَرُفَ وشَرُفَ وكَرُمَ ولؤُمَ، وأما قولهم: «رَحُبَتْكُمْ الطَّاعَةُ» و «طلُعَ الْيَمَنَ» فَضُمِّنَا معنى وَسِعَ وبَلَغَ.
الرابعة: أن يكون على وزن انْفَعَلَ، نحو: انكَسَرَ، وانْصَرَفَ.
الخامسة: أن يدلَّ على عَرَضضٍ، كمرِض زَيْدٌ، وفرِح، وأشِرَ، وبَطِر.
السادسة والسابعة: أن يكون على وزن فَعَلَ أو فَعِلَ اللذين وصْفُهما على فَعِيللِ، كذَلَّ فهو ذَليلٌ، وسَمِنَ فهو سَمِينٌ، ويدل على أن ذلَّ فعَلَ بالفتح قولهم: يَذِلُّ بالكسر، وقلت: «في نحو ذلَّ» احترازاً من نحو بَخِلَ فإنه يتعدى بالجار، تقول: بَخِلَ بكذا.
النّوع الثاني: ما يتعدى إلى واحد دائماً بالجار، كـ «غَضِبْتُ من زيدٍ» و «مَرَرْتُ بِهِ» أو «عليهِ».
فإن قلت: وكذلك تقول فيما تقدم: ذلّ بالضَّرْببِ، وسَمِن بكذا.(1/207)
قلت: المجروران مفعولٌ لأجله، لا مفعول به.
الثالث: ما يتعدى لواحد بنفسه دائماً، كأفعال الحواس، نحو: «رأيتُ الهِلاَلَ» و «شَمِمْتُ الطِّيبَ» و «ذُقْتُ الطعام» و «سَمِعْتُ الأذانَ» و «لمست المرأة» وفي التنزيل: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئِكَةَ (الفُرقان: الآية 22) }{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ (ق: الآية 42) }{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ (الدّخَان: الآية 56) }{أَوْ لَمَسْتُمُ النّسَآء (النِّساء: الآية 43) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الرابع: ما يتعدى إلى واحد تارةً بنفسه وتارةً بالجار، كَشَكَرَ ونَصَحَ وقَصَدَ، تقول: «شَكَرْتُهُ» و «شَكَرْتُ لَهُ» و «نَصَحْتُهُ» و «نَصَحْتُ لَهُ» و «قَصَدْتُهُ» و «قَصَدْتُ لَهُ» و «قَصَدْتُ إلَيْهِ» قال تعالى: {وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ (النّحل: الآية 114) }{أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِولِدَيْكَ (لقمَان: الآية 14) }{وَنَصَحْتُ لَكُمْ (الأعرَاف: الآية 79) }.
الخامس: ما يتعدى لواحد بنفسه تارة ولا يتعدى أخرى لا بنفسه ولا بالجار. وذلك نحو: فَغَرَ ـــ بالفاء والغين المعجمة ـــ وشَحَا ـــ بالشين المعجمة والحاء المهملة ـــ تقول: «فَغَرَ فاه» و «شَحَاه» بمعنى فتحه، و «فَغَرَ فُوهُ» و «شَحَا فُوهُ» بمعنى انفتح.
السادس: ما يتعدى إلى اثنين، وقسمته قسمين:
أحدهما: ما يتعدى إليهما تارة ولا يتعدى أخرى، نحو: نَقَصَ، تقول: «نَقَصَ المالُ» و «نَقَصْتُ زيداً ديناراً» بالتخفيف فيهما، قال الله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً (التّوبَة: الآية 4) }، وأجاز بعضهم كون (شيئاً) مفعولاً مطلقاً، أي: نقصاً ما.
الثاني: ما يتعدى إليهما دائماً، وقسمته ثلاثة أقسام:
أحدها: ما ثاني مفعولَيْهِ كمفعول شكر، كأمَرَ واسْتَغْفَرَ، تقول: «أمرتُكَ الْخَيْرَ» و «أمرتُكَ بالخيرِ» وسيأتي شرحُهمَا بعدُ.(1/208)
والثاني: ما أولُ مفعولَيْهِ فاعلٌ في المعنى، نحو: «كَسَوْتُهُ جُبَّةً» و «أعطيته ديناراً» فإن المفعول الأول لابِسٌ وآخِذ، ففيه فاعلية معنوية.
الثالث: ما يتعدى لمفعولين أولُهما وثانيهما مبتدأ وخبر في الأصل، وهو أفعال القلوب المذكورة قبل، وأفعال التصيير، وشاهدُ أفعال القلوب قوله تعالى: {وَإِنّى لاظُنُّكَ يفِرْعَونُ مَثْبُورًا (الإسرَاء: الآية 102) }{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَتٍ (المُمتَحنَة: الآية 10) }{تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً (المُزمّل: الآية 20) }{لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ (النُّور: الآية 11) }{وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ (الزّخرُف: الآية 19) } أي: اعتقدوهم، وقول الشاعر: (البسيط)
178 ـــ قَدْ كُنْتُ أحْجُو أبَا عَمْرٍو أخاً ثقَةً
حَتَّى أَلَمَّتْ بِنَا يَوْماً مُلِمَّاتُ
وقول الآخر: (الخفيف)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
179 ـــ زَعَمَتْنِي شَيْخاً وَلَسْتُ بِشَيْخخٍ
والأكثر تَعَدِّي زعم إلى أنْ أو أنَّ وصلتهما، نحو: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ (التّغَابُن: الآية 7) } وقوله: (الطَّويل)
180 ـــ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنِّي تَغَيَّرْتُ بَعْدَهَا
وقال: (الطَّويل)
181 ـــ دُرِيتَ الْوَفِيَّ الْعَهْدِ يَا عُرْوَ فاغْتَبِطْ
فَإِنَّ اغْتِبَاطاً بالْوَفَاءِ حَمِيدُ
والأكثر في دَرَى أن تتعدى إلى واحد بالباء، تقول: «دَرَيْتُ بكذا».
قال الله تعالى: {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ (يُونس: الآية 16) } وإنما تعدَّتْ إلى الكاف والميم بواسطة همزة النقل، وقوله: (المتقارب)
182 ـــ فَقُلْتُ أَجِرْنِي أَبَا خَالِدٍ
وإلا فَهَبْنِي امْرَأً هالِكَا
أي: اعتقدني، وقوله: (الطَّويل)
183 ـــ تَعَلّمْ شِفَاءَ النَّفْسسِ قَهْرَ عَدُوِّهَا
والأكثر في «تعلم» أن يتعدى إلى أنَّ وصلتها كقوله: (الطَّويل)(1/209)
184 ـــ تَعَلّمْ رَسُولَ اللَّهِ أنّكَ مُدْرِكِي
وشاهدُ أفعال التصيير قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَآء مَّنثُوراً (الفُرقان: الآية 23) }{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرهِيمَ خَلِيلاً (النِّساء: الآية 125) }{لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا (البَقَرَة: الآية 109) }{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ (الكهف: الآية 99) }.
واحترزت من ظن بمعنى اتهم فإنها تتعدى لواحد نحو قولك: «عُدِمَ لِي مَالٌ فَظَنَنْتُ زَيْداً» ومنه قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } (التّكوير: الآية 24) أي: ما هو بمتَّهَممٍ على الغيب، وأما من قرأ بالضاد فمعناه: ما هو ببخيل، وكذلك علم بمعنى عرف، نحو: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا (النّحل: الآية 78) } ورأى من الرأي، كقولك: «رأى أبو حنيفة حِلَّ كذا، أو حرمتَهُ» وحَجَا بمعنى قصد نحو: «حَجَوْتُ بيتَ الله» ومن وجد بمعنى حَزِنَ أو حَقَدَ؛ فإنهما لا يتعديان بأنفسهما، بل تقول: «وجدت على الميت» و «حقدتُ على المسيء».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
حالات أفعال القلوب
ثم اعلم أن لأفعال القلوب ثلاث حالات: الإعمال، والإلغاء، والتعليق.
الحالة الأولى: الإعمال؛ فأما الإعمال فهو: نصبُها المفعولين، وهو واجب إذا تقدمت عليهما ولم يأت بعدها مُعَلِّق، نحو: «ظنَنْتُ زَيْداً عَالِماً»، وجائز إذا توسطت بينهما نحو: «زيداً ظننت عالماً» أو تأخرت عنهما، نحو: «زيداً عالماً ظننت».
الحالة الثانية: الإلغاء؛ وأما الإلغاء فهو: إبطال عملها إذا توسَّطَتْ أو تأخَّرَتْ؛ فتقول: «زَيْدٌ ظَنَنْتُ عَالِمٌ» و «زَيْدٌ عَالِمٌ ظَنَنْتُ» والإلغاءُ مع التأخير أحسن من الإعمال، والإعمالُ مع التوسُّطِ أحسنُ من الإلغاء، وقيل: هما سِيَّان.(1/210)
الحالة الثَّالثة: التَّعليق؛ وأما التعليق فهو: إبطال عملها في اللفظ دون التقدير؛ لاعتراض مَا لَهُ صَدْرُ الكلام بينها وبين معموليها، وهو واحد من أمور عشرة:
أحدها: لام الابتداء نحو: «عَلِمْتُ لَزَيْدٌ فَاضِلٌ» وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ (البَقَرَة: الآية 102) }.
الثاني: لام جواب القسم، نحو: «عَلِمْتُ لَيَقُومَنَّ زَيْدٌ» أي: علمت ـــ والله ـــ ليقومنَّ زيدٌ، وقوله: (الكامل)
185 ـــ وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَتَأتِيَنَّ مَنِيَّتِي
إِنَّ المَنَايَا لا تَطِيشُ سِهَامُهَا
الثالث: الاستفهامُ، سواء كان بالحرف كقولك: «عَلِمْتُ أزَيْدٌ فِي الدَّار أم عَمْرٌو» وقوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (الأنبيَاء: الآية 109) } أو بالاسم سواء كان الاسم مبتدأ نحو: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى (الكهف: الآية 12) }{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً (طه: الآية 71) } أو خبراً، نحو: «عَلِمْتُ مَتَى السَّفَرُ» أو مضافاً إليه المبتدأ، نحو: «عَلِمْتُ أبُو مَنْ زَيْدٌ» أو الخبر، نحو: «عَلِمْتُ صَبِيحَةَ أيِّ يَوْممٍ سَفَرُكَ» أو فَضْلَة نحو: {وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (الشُّعَرَاء: الآية 227) } فـ«أيَّ» منصوب على المصدر بما بعده، وتقديره: ينقلبون أيَّ انقلاببٍ، وليس منصوباً بما قبله؛ لأن الاستفهام له الصَّدْرُ فلا يعمل فيه ما قبله.
وهذه الأنواع كلها داخلة تحت قولي: «استفهام».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الرابع: «ما» النافية، نحو: «عَلِمْتُ مَا زَيْدٌ قَائِمٌ» وقوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلآء يَنطِقُونَ (الأنبيَاء: الآية 65) }.
الخامس: «لا» النافية في جواب القَسَممِ، نحو: «علمت واللَّهِ لا زَيْدٌ في الدار ولا عمرو».(1/211)
السادس: «إنِ» النافية في جواب القَسَممِ، نحو: «علمت والله إنْ زَيْدٌ قَائِمٌ» بمعنى ما زيد قَائِمٌ.
السابع: «لَعَلَّ» نحو: {وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ (الأنبيَاء: الآية 111) } ذَكَرَه أبو علي في التذكرة.
الثامن: «لو» الشرطية، كقول الشاعر: (الطَّويل)
186 ـــ وَقَدْ عَلِمَ الأقْوَامُ لَوْ أنَّ حَاتماً
أرَادَ ثرَاءً الْمَاللِ كان لَهُ وَفْرُ
التاسع: «إنَّ» التي في خبرها اللاَّمُ، نحو: «عَلِمْتُ إنَّ زَيْداً لَقَائِمٌ» ذكَرَهُ جماعة من المغاربة، والظاهر أن المعلِّق إنما هو اللام، لا إنَّ، إلا أن ابن الخباز حكى في بعض كتبه أنه يجوز «علمت إن زيداً قائم» بالكسر مع عدم اللام، وأن ذلك مذهبُ سيبويه؛ فعلى هذا المعلّقُ إنَّ.
العاشر: «كم» الخبرية، نصَّ على ذلك بعضُهُمْ، وحمل عليه قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } (يس: الآية 31) وقدر «كم» خبرية منصوبة بأهلكنا، والجملة سَدَّتْ مسدَّ مفعولَيْ (يروا)، و (أنهم) بتقدير بأنهم، وكأنه قيل: أهلكناهم بالاستئصال، وهذا الإعراب والمعنى صحيحان، لكن لا يتعين خبرية (كم) بل يجوز أن تكون استفهامية، ويؤيده قراءة ابن مسعود {مَنْ أهْلَكْنَا} وجوَّز الفراء انتصاب (كم) بيروا، وهو سهو، وسواء قدرت خبرية أو استفهامية، وقال سيبويه: «أنَّ» ومعمولاها بَدَلٌ من «كم» وهذا مُشكل؛ لأنه إن قدر «كم» معمولة ليروا لزم ما أوردناه على الفراء من إخراج كم عن صَدْرِيتها، وإن قدرها معمولة لأهلكنا لزم تسلُّطُ أهلكنا على أنهم، ولا يصح أن يقال: أهلكنا عدم الرجوع، والذي يصحح قوله عندي أن يكون مراده أنها بدل من كم وما بعدها، فإن (يرووا) مُسَلّطة في المعنى على أن وصلتها. فهذه جملة المعلقات.(1/212)
والجملة المعلّق عنها العاملُ في موضع نصب بذلك المعلّق، حتى إنه يجوز لك أن تعطف على محلها بالنصب، قال كثير: (الطَّويل)
187 ـــ وَمَا كُنْتُ أَدْرِي قَبْلَ عَزَّة مَا الْبُكَى
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
وَلاَ مُوجِعَاتتِ الْقَلْببِ حَتَّى تَوَلَّتتِ
يروى بنصب «مُوجِعَاتِ» بالكسرة عطفاً على محل قوله: «مَا الْبُكَى» ومِنْ ثم سمي ذلك تعليقاً؛ لأن العامل مُلْغًى في اللفظ وعاملٌ في المحل؛ فهو عامل لا عامل، فسمي معلّقاً، أخذاً من المرأة المعلقة التي (هي) لا مُزَوَّجَةِ ولا مُطَلّقة، ولهذا قال ابن الخشاب: لقد أجاد أهْلُ هذه الصناعة في وضع هذا اللّقب لهذا المعنى.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
بيان الأفعال المتعدّية إلى مفعولين الأول مطلق والثاني مطلق تارة ومقيّد به أخرى
ولْنَشْرَح ما تقدم الوعْدُ بشرحه من الأفعال التي تتعدَّى إلى مفعولين أولهما مُسَرَّح دائماً، أي: مُطْلَقٌ من قيد حرف الجر، والثاني تارة مُسَرَّح منه وتارة مُقَيَّد به، وقد ذكرت منها في المقدِّمة عشَرَة أفعاللٍ.
أحدها: «أمرَ» قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ (البَقَرَة: الآية 44) } وقال الشاعر: (البسيط)
188 ـــ أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ
فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَاللٍ وَذَا نَشَببِ
الثاني: «اسْتَغْفَرَ» قال الشاعر: (البسيط)
189 ـــ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ عَمْدِي وَمِنْ خَطَئِي
ذَنْبِي، وَكُلُّ امْرِىءِ لاَ شَكَّ مُؤْتَزِرُ
وقول الآخر: (البسيط)
190 ـــ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ
رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
الثالث: «اختار»، قال الله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً (الأعرَاف: الآية 155) } وقال الشَّاعر: (الطَّويل)
191 ـــ وَقَالُوا: نَأت فَاخْتَرْ مِنَ الصَّبْرِ وَالْبُكَى(1/213)
فَقُلْتُ: الْبُكَى أشْفَى إِذَنْ لِغَلِيلِي
أي: اخْتَر من الصبر والبكى أحَدَهُمَا.
الرابع: «كَنَى» بتخفيف النون، تقولُ: «كَنَيْتُهُ أبا عَبْدِ اللَّهِ»، و «بأبي عَبْدِ اللَّهِ» ويقال أيضاً: «كَنَوْتُهُ» قال: (المتقارب)
192 ـــ هِيَ الْخَمْرُ لاَ شَكَّ تُكْنَى الطَّلاَ
كَمَا الذِّئْبُ يُكْنَى أَبَا جَعْدَةِ
وقال: (الطَّويل)
193 ـــ وَكِتْمَانُهَا تُكْنَى بأُمِّ فُلاَننِ
الخامس: «سَمَّى» تقول: «سَمَّيْتُهُ زيداً» و «سَمَّيْتُهُ بزَيْدٍ» قال: (الطَّويل)
194 ـــ وَسَمَّيْتُهُ يَحْيَى لِيَحْيَا؛ فَلَمْ يَكُنْ
لأمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ فِي النَّاس مِنْ بُدِّ
السادس: «دعا» بمعنى سَمَّى، تقول: «دعوته بزيد» وقال الشاعر: (الطَّويل)
195 ـــ دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عَمْرٍو، وَلَمْ أَكُنْ
أَخَاهَا، وَلَمْ أَرْضَعْ لَهَا بِلِبَاننِ
السابع: «صَدَقَ» بتخفيف الدال ـــ نحو: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ (آل عِمرَان: الآية 152) }{ثُمَّ صَدَقْنَهُمُ الْوَعْدَ (الأنبيَاء: الآية 9) }، وتقول: صَدَقْتُهُ في الوعد.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الثامن: «زَوَّجَ» تقول: «زَوَّجْتُهُ هِنْداً، وبهندٍ»، قال الله تعالى: {زَوَّجْنَكَهَا (الأحزَاب: الآية 37) } وقال: {وَزَوَّجْنَهُم بِحُورٍ عِينٍ (الدّخَان: الآية 54) }.
التاسع والعاشر: «كَالَ، وَوَزَنَ» تقول: «كِلْتُ لِزَيْدٍ طَعَامَهُ» و «كِلْتُ زَيْداً طَعَامَهُ» و «وَزَنْتُ لِزَيْدٍ مَا لَهُ» و «وَزَنْتُ زَيْداً مَا لَهُ» قال الله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } (المطفّفِين: الآية 3) ، والمفعول الأول فيهما محذوف.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعيل
السابع: ما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، وهو سبعة:
أحدها: «أعْلَمَ» المنقولة بالهمزة من «عَلِمَ» المتعدية لاثنين، تقول: «أعْلَمْتُ زَيْداً عَمْراً فَاضِلاً».(1/214)
الثاني: «أرَى» المنقولة بالهمزة من «رأى» المتعدية لاثنين، نحو: «أَرَيْتُ زَيْداً عَمْراً فَاضِلاً» (بمعنى أعلمته)، قال الله تعالى: {كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَلَهُمْ حَسَرتٍ عَلَيْهِمْ (البَقَرَة: الآية 167) }، فالهاء والميم مفعولٌ أول، و (أعمالهم) مفعول ثان، و (حسرات) مفعول ثالث.
والبواقي ما ضُمِّنَ معنى أعْلَمَ وأرَى المذكورتين من «أنبَأ» و «نبَّأ» و «أخْبَرَ» و «خَبَّرَ» و «حَدَّثَ» تقول: «أنْبَأْتُ زيداً عمراً فاضلاً» بمعنى أعلمته، وكذلك تفعل في البواقي.
وإنما أصل هذه الخمسة أن تتعدى لاثنين: إلى الأول بنفسها، وإلى الثاني بالباء أو عَنْ، نحو: {أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم (البَقَرَة: الآية 33) }{نَبّئُونِي بِعِلْمٍ (الأنعَام: الآية 143) }{وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } (الحِجر: الآية 51) ، وقد يحذف الحرف نحو: {مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا (التّحْريم: الآية 3) }.
ثم قلت: وَلاَ يَجُوزُ حَذْفُ مَفْعُوللٍ في بَاببِ ظَنَّ، وَلاَ غَيْرِ الأوَّللِ في بَاببِ أَعْلَمَ وَأَرَى، إلاَّ لِدَليللٍ، وبَنُو سُلَيْممٍ يُجِيزُونَ إِجْرَاءَ الْقَوْللِ مُجْرَى الظَّنِّ، وغَيْرُهُمْ يَخُصُّه بِصِيغَةِ «تَقُولُ» بَعْدَ اسْتِفْهَاممٍ مُتَّصِللٍ، أوْ مُنْفَصِللٍ بِظَرْففٍ أوْ مَعْمُوللٍ أوْ مَجْرُورٍ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
جواز حذف المفعولين أو أحدهما لدليل
وأقول: ذكرت في هذا الموضع مسألتين متممتين لهذا الباب:(1/215)
إحداهما: أنه يجوز حذفُ المفعولين أو أحدهما لدليل، ويمتنع ذلك لغير دليل، مثالُ حذفهما لدليل قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (القَصَص: الآية 62) }، أي: تزعمونهم شركاء، كذا قدروا، والأحسن عندي أن يقدر: أنهم شركاء، وتكون أنَّ وصلتها سادةً مَسَدَّهُما؛ بدليل ذكر ذلك في قوله تعالى: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآء (الأنعَام: الآية 94) }، ومثالُ حذف أحدهما للدليل وبقاء الآخر قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ (آل عِمرَان: الآية 180) } أي: بُخْلَهُمْ هو خيراً لهم، فحذف المفعول الأول وأبقى ضميرَ الفصل والمفعول الثاني، وقال عنترة: (الكامل)
196 ـــ وَلَقَدْ نَزَلْتتِ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ
مِنِّي بِمَنْزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَممِ
أي: فلا تظني غيره واقعاً، أو كائناً، فحذف المفعول الثاني.
ولا يجوز لك أن تقول: «علمت» أو «ظننت» مقتصراً عليه من غير دليل، على الأصحِّ، ولا أن تقول: «علمت زيداً» ولا «علمت قائماً» وتترك المفعول الأول في هذا المثال والمفعول الثاني في الذي قبله من غير دليل عليهما، أجمعوا على ذلك.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
اختلافهم في إجراء القول مجرى الظّن وبيان ذلك
الثانية: أن العرب اختلفوا في إجراء القول مُجْرَى الظن في نصب المفعولين على لُغَتَيْن:
فبنو سُلَيْم يجيزون ذلك مطلقاً؛ فيجوزون أن تقول: «قُلْتُ زَيْداً مُنْطَلِقاً».
وغيرهم يوجب الحكاية؛ فيقول: «قُلْتُ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ» ولا يجيز إجراء القول مُجْرَى الظن إلا بثلاثة شُرُوط:
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط إجراء القول مجرى الظّن
أحدها: أن تكون الصيغة «تقول» بتاء الخطاب.
الثاني: أن يكون مسبوقاً باستفهام.(1/216)
الثالث: أن يكون الاستفهام متصلاً بالفعل، أو منفصلاً عنه بظرف أو مجرور أو مفعول.
مثالُ المتصل قولُكَ: «أتَقُولُ زَيْداً مُنْطَلِقاً» وقول الشَّاعر: (الرَّجز)
197 ـــ مَتَى تَقُولُ القُلُصَ الرَّوَاسِمَا
يُدْنِينَ أُمَّ قَاسِممٍ وَقَاسِمَا
ومثالُ المنفصل بالظرف قولُ الشَّاعر: (البسيط)
198 ـــ أبَعْدَ بُعْدٍ تَقُولُ الدَّارَ جَامِعَةً
شَمْلِي بِهِمْ؟ أمْ تَقُولُ الْبُعْدَ مَحْتُوماً؟
(ومثالُ المنفصل بالمجرور: «أفي الدَّار تقول زيداً جالساً»).
ومثالُ المنفصل بالمفعول قولُ الشاعر: (الوافر)
199 ـــ أَجُهَّالاً تَقولُ بَنِي لُؤَيَ
لَعَمْرُ أَبِيكَ أَمْ مُتَجَاهِلِينَا
ولو فصلت بغير ذلك تعينت الحكاية، نحو: «أأنت تقول زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
باب الأسماء التي تعمل عمل الفعل
ثم قلت: بَابُ الأسْمَاءُ الَّتِي تَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْللِ ـــ وهِيَ عَشَرَةٌ: أَحَدُهَا: المَصْدَرُ، وَهُوَ: اسْمُ الْحَدَثثِ الْجَارِي عَلَى الْفِعْللِ، كَضَرْب وَإكْرَام، وشَرْطُهُ: أنْ لاَ يُصَغَّرُ، ولاَ يُحَدَّ بالتَّاءِ (نحو: «ضَرْبَتَيْننِ أوْ ضَرَبَاتٍ») وَلاَ يُتْبَعَ قَبْلَ العَمَللِ، وأنْ يَخْلُفَهُ فِعْلٌ مَعَ أنْ أوْ مَا، وعَمَلُهُ مُنَوَّناً أقْيَسُ، نحو: {أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} ومُضافاً لِلْفَاعِللِ أكْثَرُ، نحو: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ (البَقَرَة: الآية 251) } ومَقْرُوناً بِأَلْ وَمُضَافاً لِمَفْعُوللٍ ذُكِرَ فَاعِلُهُ ضَعِيفُ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الأوَّل: عمل المصدر
وأقول: لما أنْهَيْتُ حكم الفعل بالنسبة إلى الإعمال أرْدَفْتُهُ بما يعمل عمل الفعل من الأسماء، وبدأت منها بالمصدر؛ لأن الفعل مُشْتَقٌّ منه على الصحيح.(1/217)
واحترزت بقولي: «الجاري على الفعل» من اسم المصدر، فإنه وإن كان اسماً دالاًّ على الحدث، لكنه لا يجري على الفعل، وذلك نحو قولك: «أعْطَيْتُ عَطَاءً» فإن الذي يجري على أعطيت إنما هو إعطاء، لأنه مُسْتَوْففٍ لحروفه، وكذا «اغتسلت غُسْلاً» بخلاف «اغتسل اغتسالاً» وسيأتي شرح اسم المصدر بعدُ.
وأشرت بتمثيلي بضرب وإكرام إلى مثالَيْ مصدر الثلاثي وغيره.
ومثال ما يخلفه فعل مع أن قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ (البَقَرَة: الآية 251) } أي: ولولا أن يدفَعَ الله النَّاس، أو أن دفَعَ الله الناس، ومثال ما يخلفه فعل مع ما قوله تعالى: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ (الرُّوم: الآية 28) } أي: كما تخافون أنفسكم، ومثال ما لا يخلفه فعل مع أحد هذين الحرفين قولهم: «مررت به فإذا له صوتٌ صوتَ حمار»، إذ ليس المعنى على قولك: فإذا له أنْ صَوَّتَ، أو أنْ يُصَوِّتَ، أو ما يصوت، لأنك لم ترد بالمصدر الحدوث فيكون في تأويل الفعل، وإنما أردت أنك مررت به وهو في حالة تصويت، ولهذا قدروا للصوت الثاني ناصباً، ولم يجعلوا صوتاً الأول عاملاً فيه.
وإنما كان عملُ المنوَّننِ أقيَسَ لأنه يشبه الفعل بكونه نكرة.
وإنما كان إهمالُ المضاف للفاعل أكثَرَ لأن نسبة الحدث لمن أوجده أظهَرُ من نسبته لمن أوقع عليه، ولأن الذي يظهر حينئذ إنما هو عمله في الفَضْلَة، ونظيره أنَّ «لات» لما كانت ضعيفة عن العمل لم يُظهروا عملها غالباً إلا في منصوبها.r
وإنما كان إعمالُ المضاف للمفعول الذي ذكر فاعله ضعيفاً لأن الذي يظهر حينئذ إنما هو عمله في العُمْدَة، ولقد غلا بعضهم فزعم في المضاف للمفعول ثم يذكر فاعله بعد ذلك أنه مختصٌّ بالشعر، كقول الشاعر: (البسيط)
200 ـــ أفَنَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَببٍ
قَرْعُ القَوَاقِيزِ أفْوَاهُ الأبَارِيققِ(1/218)
فيمن روى «الأفواهُ» بالرفع، ويرد على هذا القائل أنه روي أيضاً بالنصب فلا ضرورة في البيت، وقول النبي صلى الله عليه وسلّم «وحَجَّ البيتتِ مَننِ استطاعَ إليه سبيلا».
فإن قلت: فهلا استدللت عليه بالآية الكريمة، آية الحج.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
قلت: الصواب أنها ليست من ذلك في شيء، بل الموصول في موضع جر بدل بعض من (الناس) أو في موضع رفع بالابتداء على أن (مَنْ) موصولة ضمنت معنى الشرط، أو شرطية، وحذف الخبر أو الجواب، أي: من استطاع فليحج، ويؤيد الابتداء {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَلَمِينَ (آل عِمرَان: الآية 97) } وأما الحمل على الفاعلية فمفسد للمعنى، إذ التقدير إذ ذاك: ولله على الناس أن يَحُجَّ المستطيع، فعلى هذا إذا لم يحج المستطيع يأثم الناسُ كلهم.
ولو أضيف للمفعول ثم لم يذكر الفاعل لم يمتنع ذلك في الكلام عند أحد، نحو: «لا يسأم الإنسانُ من دُعَاءِ الخيرِ» أي: من دعائه الخير.
ومثال إعمال ذي الألف واللام قولُ الشاعر يصف شخصاً يضعف الرأي والجبن: (المتقارب)
201 ـــ ضَعِيفُ النِّكَايَةِ أَعْدَاءَهُ
يَخَالُ الفِرَارَ يُرَاخِي الأجَلْ
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الثاني: عمل اسم الفاعل
ثم قلت: الثَّاني اسْمُ الْفَاعِللِ، وهو: مَا اشْتُقَّ مِنْ فِعْللٍ لِمَنْ قَامَ بِهِ عَلَى مَعْنَى الْحُدُوثثِ كَضَارِببٍ وَمُكْرِم، فَإنْ صُغِّرَ أوْ وُصِفَ لَمْ يَعْمَلْ، وإلاّ فَإنْ كَانَ صِلَةً لألْ عَمِلَ مُطْلَقاً، وإلاّ عَمِلَ إنْ كَانَ حَالاً أوِ اسْتِقْبَالاً وَاعْتَمَدَ ـــ وَلَوْ تَقْدِيراً ـــ عَلَى نَفْي أوِ اسْتِفْهَاممٍ أوْ مُخْبَرٍ عَنْهُ أوْ مَوْصُوففٍ.
وأقول: قولي: «ما اشْتُقَّ من فعل» فيه تجوز، وحقه ما اشتق من مصدر فعللٍ.(1/219)
وقولي: «لمن قام به» مُخْرِج للفعل بأنواعه؛ فإنه إنما اشتق لتعيين زمن الحدث، لا للدلالة على مَنْ قام به، ولاسم المفعول، فإنه إنما اشْتُقَّ من الفعل لمن وقع عليه، ولأسماء الزمان والمكان المأخوذة من الفعل، فإنها إنما اشتقت لما وقع فيها، لا لمن قامت به، وذلك نحو: «المَضْرِب» بكسر الراء ـــ اسماً لزمان الضرب أو مكانه.
وقولي: «على معنى الحدوث» مخرج للصفة المشبهة ولاسم التفضيل: كظريف وأفْضَل؛ فإنهما اشْتُقّا لمن قام به الفعل، لكن على معنى الثبوت، لا على معنى الحدوث.
وأشَرْتُ بتمثيلي بضارب ومُكْرِم إلى أنه إن كان من فعل ثلاثي جاء على زنة فاعل، وإن كان من غيره جاء بلفظ المضارع، بشرط تبديل حرف المضارعة بميم مضمومة وكسر ما قبل آخره مطلقاً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
اسم الفاعل المقرون بأل الموصولة يعمل عمل فعله مطلقا
ثم ينقسم اسمُ الفاعللِ إلى مَقْروننٍ بأل الموصولة، ومجرَّد عنها.
فالمقرون بها يعملُ عملَ فعله مطلقاً، أعني ماضياً كان أو حاضراً أو مستقبلاً، تقول: «هذَا الضارِبُ زَيْداً أمْسسِ، أو الآن، أو غَداً» قال امرؤ القيس: (الرّجز)
202 ـــ الْقَاتِلينَ الْمَلِكَ الْحُلاَحِلاَ
خَيْرَ مَعَدَّ حَسَباً وَنَائِلاَ
فأعمل «القاتلين» مع كونه بمعنى الماضي؛ لأنه يريد بالملك الْحُلاَحل أباه، وفيه دليل أيضاً على إعماله مجموعاً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
اسم الفاعل المجرد من أل يعمل بشرطين
والمجرَّدُ عنها إنما يعمل بشرطين:
أحدهما: أن يكون للحال أو الاستقبال، لا للماضي، خلافاً للكسائي وهشام وابن مَضَاء، استدلوا بقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ (الكهف: الآية 18) }، وتأوَّلَهَا غيرهما.
الثاني: أن يكون معتمداً على واحد من أربعة، وهي:
1 ـــ الأول: النفي كقوله: (الكامل)
203 ـــ مَا رَاععٍ الْخِلاَّنُ ذِمَّةَ نَاكِثثٍ
بَلْ مَنْ وَفَى يَجِدُ الْخَلِيلَ خَلِيلاَ(1/220)
2 ـــ الثاني: الاستفهام، كقوله: (المتقارب)
204 ـــ أَنَاوٍ رِجَالُكَ قَتْلَ امْرِىءٍ
مِنَ الْعِزَّ فِي حُبِّكَ اعْتَاضَ ذُلاَّ؟
3 ـــ الثالث: اسم مُخْبَر عنه باسم الفاعل، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَلِغُ أَمْرِهِ (الطّلاق: الآية 3) }.
4 ـــ الرابع: اسم موصوف باسم الفاعل، كقولك: «مَرَرْتُ بِرَجُللٍ ضَارِببٍ زَيْداً».
وقولي: «ولو تقديراً» إشارة إلى مثل قوله: (البسيط)
205 ـــ كَنَاطِححٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيُوهِنَهَا
فَلَمْ يَضِرْهَا، وَأوْهَى قَرْنَهُ الْوَعِلُ
وقوله: (الخفيف)
206 ـــ لَيْتَ شِعْرِي مُقِيمٌ الْعُذْرَ قَوْمِي
لِيَ أَمْ هُمْ فِي الْحُبِّ لِي عَاذِلُونَا؟
وقولك: «ضَارِباً عَمْراً» جواباً لمن قال: كيف رأيت زيداً؟ ألا ترى أن هذه عملت لاعتمادها على مُقَدَّر؛ إذ الأصل: كوَعل ناطح، وليت شعري أمُقيمٌ، ورأيته ضارباً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الثَّالث: إعمال صنع المبالغة
ثم قلت: الثَّالِثُ الْمِثَالُ، وهو: مَا حُوِّلَ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ فَاعِللٍ إلَى فَعَّاللٍ أوْ مِفْعَاللٍ أوْ فَعُوللٍ، بِكَثْرَةٍ، أوْ فَعِيللٍ أوْ فَعِللٍ، بِقِلَّةٍ.
وأقول: الثالث من الأسماء العاملة عَمَلَ الفعللِ: أمثلَةُ المبالغةِ، وهي عبارة عن الأوزان الخمسة المذكورة، مُحَوَّلة عن صيغة فاعل؛ لقَصْدِ إفادة المبالغة والتكثير.
وحكمها حكم اسم الفاعل؛ فتنقسم إلى ما يقع صلة لألْ فتعمل مطلقاً، وإلى مجرَّدٍ عنها فتعمل بالشرطين المذكورين.
ومثالُ إعمال فَعَّال قولُهم: «أما العَسَلَ فأنا شَرَّابٌ» وقول الشاعر: (الطَّويل)
207 ـــ أخَا الْحَرْببِ لَبَّاساً إلَيْهَا جِلاَلَهَا
وَلَيْسَ بِوَلاَّججِ الْخَوَالِففِ أَعْقَلاَ
ومثالُ إعمال مِفْعَال قولُهم: «إنَّهُ لَمِنْحَارٌ بَوَائِكَهَا» أي: سِمَانها.
ومثالُ إعمال فَعُول قولُ أبي طالب: (الطَّويل)
208 ـــ ضَرُوبٌ بِنَصْللِ السَّيّففِ سُوقَ سِمَانهَا(1/221)
وإعمالُ هذه الثلاثة كثيرٌ؛ فلهذا اتفق عليه جميعُ البصريين.
ومثالُ إعمال فَعِيل قولُ بعضهم: «إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دُعَاء مَنْ دَعَاهُ».
ومثالُ إعمال فَعِل قولُ زيد الخيل رضي الله عنه: (الوافر)
209 ـــ أَتَانِي أَنَّهُمْ مَزِقُونَ عِرْضِي
وإعمالُهما قليلٌ، فلهذا خالف سيبويه فيهما قومٌ من البصريين ووافقه منهم آخرون، ووافقه بعضهم في فَعِللٍ لأنه على وزن الفعل، وخالفه في فَعِيللِ، لأنه على وزن الصفة المشبهة كظَرِيففٍ، وذلك لا ينصب المفعولَ.
وأما الكوفيُّون فلا يجيزون إعمال شيء من الخمسة، ومتى وجدوا شيئاً منها قد وقع بعده منصوب أضمروا له فعلاً، وهو تعسف.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الرَّابع: إعمال اسم المفعول
ثم قلت: الرَّابعُ اسْمُ المَفْعُوللِ، وهو: مَا اشْتُقَّ مِنْ فِعْل لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ كَمَضْرُوببٍ وَمُكْرَممٍ.
وأقول: الرابع من الأسماء العاملة عملَ الفعللِ: اسمُ المفعول.
وفي قولي في حده: «ما اشتق من فعل» من المجاز ما تقدم شرحُه في حد اسم الفاعل.
وقولي: «لمن وقع عليه» مُخْرِج للأفعال الثلاثة، ولاسم الفاعل، ولإسمي الزمان والمكان، وقد تبين (شَرْحُ ذلك) مما تقدم.
ومثلت بمضروب ومكرم لأنبه على أن صيغته من الثلاثي على زنة مفعول كمضروب ومقتول ومكسور ومأسور، ومن غيره بلفظ مضارعه بشرط ميم مضمومة مكان حرف المضارعة (وَفَتْح ما قَبْلَ آخره) كمُخْرَج ومُسْتَخْرَج.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط إعمال اسم المفعول
ثم قلت: وشَرْطُهُمَا كإسم الفَاعِللِ.
وأقول: أي شرط إعمال المثال وإعمال اسم المفعول كشرط إعمال اسم الفاعل على التفصيل المتقدم في الواقع صلة لأل والمجرد منها، وقد مضى ذلك.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الخامس: إعمال الصّفة المشبَّهة(1/222)
ثم قلت: الْخَامِسُ الصِّفَةُ المُشَبَّهَةُ، وهي: كلُّ صِفَةٍ صحَّ تَحْويلُ إسْنادِها إلى ضَمِيرِ مَوْصُوفها، وتَخْتَصُّ بِالحَاللِ، وبَالْمَعْمُوللِ السَّبَبيِّ المُؤَخَّرِ، وتَرْفَعُهُ فَاعِلاً أوْ بَدَلاً، أوْ تَنْصِبُهُ مُشْبَّهاً أوْ تمييزاً، أو تَجُرُّهُ بالإضافَةِ إلاَّ إنْ كَانت بِألْ وهو عَارٍ مِنْهَا.
وأقول: الخامس من الأسماء العاملة عمل الفعل: الصفة المشبهة، وهي عبارة عما ذكرت.
ومثال ذلك قولك: «زيدٌ حَسَنٌ وَجْهَهْ» بالنصب أو بالجر؛ والأصل وجْهُهُ بالرفع لأنه فاعل في المعنى؛ إذ الحسن في الحقيقة إنما هو للوجه. ولكنك أردت المبالغة فحوَّلْتَ الإسناد إلى ضمير زيد، فجعلت زيداً نفسه حَسَناً، وأخَّرْتَ الوجه فضلةً ونصبته على التشبيه بالمفعول به؛ لأن العامل وهو «حَسَنٌ» طالبٌ له من حيث المعنى؛ لأنه معموله الأصلي، ولا يصح أن ترفعه على الفاعلية ـــ والحالة هذه ـــ لاستيفائه فاعله، وهو الضمير، فأشبه المفعول في قولك: زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْراً؛ لأن ضارباً طالبٌ له، ولا يصح أن ترفعه على الفاعلية، فنُصِب لذلك.
فالصفة مشبهة باسم الفاعل المتعدي لواحد، ومنصوبُهَا يشبه مفعول اسم الفاعل وقد تقدمت الإشارة إلى هذا التقدير.
ثم لك بعد ذلك أن تخفضه بالإضافة، وتكون الصفة حينئذ مشبهةً أيضاً لأن الخفض ناشىء ـــ على الأصح ـــ عن النصب، لا عن الرفع؛ لئلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه؛ إذ الصفة أبداً عينُ مرفوعها وغير منصوبها فافهمه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أوجه الاختلاف ما بين الصّفة المشبَّهة واسم الفاعل
وتفارق هذه الصفة اسم الفاعل من وجوه.
أحدها: أنها لا تكون إلا للحال، وأعني به الماضي المستمر إلى زمن الحال، واسمُ الفاعل يكون للماضي وللحال وللاستقبال.(1/223)
والثاني: أن معمولها لا يكون إلا سببيًّا، وأعني به ما هو متّصل بضمير الموصوف لفظاً أو تقديراً، واسم الفاعل يكون معموله سببياً وأجنبياً؛ تقول في الصفة المشبهة: «زيدٌ حَسَنٌ وَجْهُهُ» و «زيد حَسَنُ الوَجْهِ» أي: لوجد منه، أو «وَجْهِهِ» فهو إما على نيابة «أل» مَنَابَ الضّمير المضاف إليه أو على حذف الضّمير من غير نيابة عنه، ولا تقول: «زيد حَسَنٌ عَمْراً» كما تقول: زيد ضارب عمراً.
الثالث: أن معمولها لا يكون إلا مؤخراً عنها، تقول: «زيدٌ حسَنٌ وَجْهَهُ» ولا تقول: «زيدٌ وَجْهَهُ حَسَنٌ» ومعمول اسم الفاعل يكون مؤخراً عنه ومقدماً عليه، تقول: «زيدٌ غُلاَمَهُ ضَارِبٌ».
الرابع: أنه يجوز في مرفوعها النصبُ والجرُّ، ولا يجوز في مرفوع اسم الفاعل إلا الرفع.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أوجه إعراب الاسم بعد الصّفة المشبَّهة
ثم بيَّنْتُ أن الخفض له وجه واحد وهو الإضافة، وأن الرفع له وجهان؛ أحدهما: أن يكون فاعلاً، والثاني: أن يكون بدلاً من ضمير مستتر في الصفة، وأن النصب فيه تفصيل، وذلك أن المنصوب إن كان نكرة ففيه وجهان؛ أحدهما: أن يكون انتصابه على التشبيه بالمفعول به، والثاني: (أن يكون) تمييزاً؛ وإن كان معرفة امتنع كون تمييزاً، وتعين كونه مشبهاً بالمفعول به، لأن التّمييز لا يكون إلا نكرة.
ثم بينت أن جواز الرّفع والنّصب مُطْلق، وأن جواز الخفض مقيد بألا تكون الصفة بأل والمعمول مجرد منها ومن الإضافة لتاليها، وتضمن ذلك امتناع الجر في «زيدٌ الحسنُ وَجْهَهُ» و «الْحَسَنُ وَجْهُ أبيهِ» و «الحسَنُ وَجْهاً» و «الحسَنُ وَجْهُ أبٍ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
السّادس: عمل اسم الفعل(1/224)
ثم قلت: السَّادِسُ اسْمُ الفِعْللِ، نحو: بَلْهَ زَيْداً، بِمَعْنَى دَعْهُ، وعَلَيْكَهُ وبِهِ بِمَعْنَى الزمْهُ، والْصَقْ، ودُونَكَهُ، بمعنى خُذْهُ، ورُوَيْدَهُ، وتَيْدَهُ، بمعنى أمْهِلْهُ، وَهَيْهَاتَ وَشَتَّانَ بمعنى بَعُدَ وَافْتَرَقَ، وَأَوْهٍ وَأُفَ بمعنى أتَوَجَّعُ وأتَضَجَّرُ، وَلاَ يُضَاف، ولا يَتَأَخَّرُ عَنْ مَعْمُولهِ، ولا يُنْصَبُ فِي جَوَابِهِ، وما نُوِّنَ مِنْهُ فَنَكِرَةٌ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أنواع اسم الفعل
وأقول: السادس من الأسماء العاملة عمل الفعل: اسم الفعل، وهو على ثلاثة أنواع:
1 ـــ ما سُمِّيَ به الأمر: وهو الغالب؛ فلهذا بدأت به، ومثلته بخمسة أمثلة، وهي: «بَلْهَ» بمعنى دَعْ، كقول الشاعر في صفة السيوف: (الكامل)
210 ـــ تَذَرُ الْجَمَاجِمَ ضَاحِياً هَامَاتُهَا
بَلْهَ الأكُفَّ كأنّها لم تُخْلَققِ
أي: دع الأكفَّ، وذلك في رواية مَنْ نَصَبَ الأكُفَّ، أما مَنْ خفضها قبله مصدرٌ، بمنزلة قولك: «تَرْكَ الأكفِّ»، وأما مَنْ رفعها ـــ وهو شاذ ـــ فهي اسم استفهام بمنزلة كيف، وما بعدها مبتدأ، وهي خبره.
و «عليكه» بمعنى الْزَمْهُ، وقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ (المَائدة: الآية 105) } أي: الْزَمُوا شأن أنفسكم، ويقال أيضاً: «عليك به» فقيل: الباء زائدة، وقيل: اسم لألْصَقْ دون الزم.
و «دُونَكَهُ» بمعنى خُذْهُ، كقول صبيّة لأمّها: (الرّجز)
211 ـــ دُونَكِهَا يَا أُمُّ لا أُطِيقُهَا
و «رُوَيْدَهُ» و «تَيْدَه» بمعنى أمْهِلْهُ.
2 ـــ وما سُمِّيَ به الماضي: وهو أكثر مما سمي به المضارع؛ فلهذا قُدِّمَ عليه، ومَثّلتُ له بمثالين: «هيهات» بمعنى بَعُد، و «شَتَّانَ» بمعنى افترق، قال: (الطَّويل)
212 ـــ فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الْعَقِيقُ وَمَنْ بِهِ
وَهَيْهَاتَ خِلٌّ بِالْعَقِيققِ نُوَاصِلُهْ
وقال: (الرَّجز)
213 ـــ شَتَّانَ هذَا وَالْعِنَاقُ وَالنَّوْمْ(1/225)
وَالمَشْرَبُ الْبَارِدُ فِي ظِلِّ الدَّوْمْ
ولك زيادة «ما» قبل فاعل شتَّان، كقوله: (السَّريع)
214 ـــ شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا
وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ
ولا يجوز عند الأصمعيِّ «شَتَّانَ مَا بَيْنَ زَيْدٍ وعَمْرو» وجَوَّزَهُ غيره محتجاً بقوله:
215 ـــ لَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْيَزِيدَيْننِ فِي النَّدَى
وأما قولُ بعض المُحْدَثِينَ:
216 ـــ جَازَيْتُمُونِي بِالْوِصَاللِ قَطِيعَةً
شَتَّانَ بَيْنَ صَنِيعِكُمْ وَصَنِيعِي
فلم تستعمله العربُ، وقد يُخَرَّج على إضمار «ما» موصولة ببين، وذلك على قول الكوفيين إن الموصول يجوز حذفه.
3 ـــ وما سمي به المضارع: نحو: «أوّه» بمعنى أتَوَجَّعُ، و «أفَ» بمعنى أتضجَّرُ، وبعضهم أسقط هذا القسم، وفَسَّرَ هذين بتوجعت وتضجرت.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أحكام اسم الفعل
ومن أحكام اسم الفعل: أنه لا يضاف، كما أن مُسَمَّاهُ ـــ وهو الفعل ـــ كذلك. ومن ثم قالوا: إذا قلت: «بَلْهَ زَيْدٍ» و «رُوَيْدَ زَيْدٍ» بالخفض كانا مصدرين والفتحةُ فيهما فتحةُ إعراببٍ، وإذا قلت: «بَلْهَ زَيْداً» و «رُوَيْدَ زيداً» كانا اسمي فعلين، ومعلوم أن الفتحة فيهما حينئذ فتحة بناء لعدم التنوين.
ومنها: أن معمولها لا يتقدم عليها؛ لا تقول: «زَيْداً عَلَيْك» وخالف في ذلك الكسائي، تمسكاً بظاهر قوله تعالى: {كِتَبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (النِّساء: الآية 24) } وقول الراجز: (الرجز)
217 ـــ يَا أَيُّهَا المائحُ دَلْوِي دُونَكَا
ومنها: أن المضارع لا ينصب في جواب الطلَبيِّ منه؛ لا تقول: «صَه فأحدِّثَكَ» بالنصب، خلافاً للكسائي أيضاً، نعم يُجْزَمُ في جوابه، كقوله: (الوافر)
174 ـــ مَكانَككِ تُحْمَدِي أوْ تَسْتَرِيحِي
ومنها: أن ما نوِّنَ منها نكرة، وما لم ينون معرفة؛ فإذا قلت: «صَهٍ» فمعناه اسكت سكوتاً، وإذا قلت: «صَهْ» فمعناه اسكت السكوت المعين.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب(1/226)
السّابع والثّامن: عمل الظّرف والمجرور
ثم قلت: السَّابِعُ والثَّامِنُ الظَّرْفُ والْمَجْرُورُ الْمُعْتَمِدَاننِ، وعَمَلُهُمَا عَمَلُ اسْتَقَرَّ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط عمل الظَّرف والمجرور واختلاف النَّحاة في ذلك
وأقول: إذا اعتمد الظرف والمجرور على ما ذكرتُ في باب اسم الفاعل ـــ وهو النَّفي، والاستفهام، والاسم المخبر عنه، والاسم الموصوف، والاسم الموصول ـــ عَمِلاَ عَمَلَ فعللِ الاستقرارِ، فرفَعا الفاعلَ المضمرَ أو الظاهرَ، تقول: «ما عندكَ مال» و «ما في الدَّار زيدٌ» والأصلُ: ما استَقَرَّ عندك مال، وما استقرّ في الدار زيد، فحذف الفعل، وأنيب الظرف والمجرور عنه، وصار العمل لهما عند المحققين، وقيل: إنما العمل للمحذوف، واختاره ابنُ مالككٍ، ويجوز لك أن تجعلهما خبراً مقدماً وما بعدهما مبتدأ مؤخراً، والأولُ أولى؛ لسلامته من مجاز التقديم والتأخير، وهكذا العملُ في بقية ما يعتمدان عليه، نحو: {أَفِى اللَّهِ شَكٌّ (إبراهيم: الآية 10) }، وقولك: «زَيْدٌ عِندك أبوه»، و «جاء الذي في الدار أخوهُ»، و «مَرَرْتُ برجللٍ فِيهِ فَضْلٌ».
فإن قلت: ففي أي مسألة يعتمد الوصفُ على الموصول حتى يُحَال عليه الظرف والمجرور؟
قلت: إذا وقع بعد أل؛ فإنها موصولة والوصفُ صِلَة، ولهذا حَسُنَ عطفُ الفعل عليه في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ (الحَديد: الآية 18) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
التَّاسع: إعمال اسم المصدر
المراد باسم المصدر
ثم قلت: التَّاسِعُ اسْمُ المَصْدَرِ، والمُرَادُ بِهِ اسْمُ الْجِنْسسِ الْمَنْقُولُ عَنْ مَوْضُوعِهِ إلَى إفَادَةِ الْحَدَثثِ، كَالْكَلاَممِ والثَّوَاببِ، وإنَّما يُعْمِلْهُ الْكُوفيُّ والبَغْدَادِيُّ، وأمَّا نحو: «مُصَابُكَ الْكَافِرَ حَسَنٌ» فجائزٌ إجْماعاً؛ لأنَّهُ مَصْدَرٌ، وعَكْسُهُ نحو: فَجَارِ وحَمَادِ.(1/227)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أحوال عمل اسم المصدر
وأقول: التاسع اسم المصدر، وهو يطلق على ثلاثة أمور:
أحدها: ما يعمل اتفاقاً، وهو ما بُديء بميم زائدة لغير المفاعلة، كالْمَضْرِببِ والْمَقْتَللِ، وذلك لأنه مصدر في الحقيقة، ويسمى المصدرَ الميميَّ، وإنما سَمَّوْهُ أحياناً اسم مصدر تَجَوُّزاً، ومن إعماله قولُ الشاعر: (الكامل)
218 ـــ أظَلُومُ إنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلاً
أهْدَى السَّلاَمَ تَحِيَّةً ظُلْمُ
الهمزة للنداء، وظلوم: اسم امرأة منادى، ومصابكم: اسم إنَّ، وهو مصدر بمعنى إصابتكم، ويسمى اسم مصدر مجازاً، ورجلاً: مفعول بالمصدر، وأهدى السلام: جملة في موضع نصب على أنها صفة لرجلاً، وتحية: مصدر لأهدى السلام، من باب «قعدت جلوساً» وظلم: خبر إنَّ، ولهذا البيت حكاية شهيرة عند أهل الأدب.
والثاني: ما لا يعمل اتفاقاً، وهو ما كان من أسماء الأحداث عَلَماً كـ«سُبْحَان» علماً للتسبيح، و «فَجَارِ» و «حَمَادِ» علمين للفَجْرة والمحمدة.
والثالث: ما اختلف في إعماله، وهو ما كان اسماً لغير الحدث، فاستعمل له، كـ«الكَلاَم» فإنه في الأصل اسم للملفوظ به من الكلمات، ثم نُقِل إلى معنى التكليم، و «الثَّوَاب» فإنه في الأصل اسمٌ لما يُثَابُ به العُمَّالُ، ثم نقل إلى معنى الإثابة، وهذا النوع ذهب الكوفيون والبغداديون إلى جواز إعماله، تمسكاً بما ورد من نحو قوله: (الوافر)
219 ـــ أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتتِ عَنِّي
وبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائةَ الرِّتَاعَا
وقوله: (الطَّويل)
220 ـــ لأنَّ ثَوَابَ اللَّهِ كُلَّ مُوَحِّدِ
جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسسِ فِيهَا يُخَلّدُ
وقوله: (البسيط)
8 ـــ قَالُوا: كَلاَمُكَ هِنْداً وَهْيَ مُضْغِيَّةٌ
يَشْفِيكَ؟ قُلْتُ: صَحِيحٌ ذَاكَ لَوْ كَانَا
ومنع ذلك البصريون؛ فأضمروا لهذه المنصوبات أفعالاً تعمل فيها.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
العاشر: إعمال اسم التّفضيل(1/228)
ثم قلت: الْعَاشِرُ اسْمُ التَّفْضِيللِ، كأفْضَلَ وَأعْلَمَ، ويَعْمَلُ فِي تَمْيِيزٍ، وظَرْففٍ، وحاللٍ، وفَاعِللٍ مُسْتَتِرٍ، مُطْلَقاً، وَلاَ يَعْملُ فِي مَصْدَرٍ، ومَفْعُوللٍ بِهِ، أوْلَهُ، أوْ مَعَهُ، وَلاَ فِي مَرْفُوععٍ مَلْفُوظ بِهِ ـــ في الأصَحِّ ـــ إلاّ في مَسْألَةِ الْكُحْللِ.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
مجالات إعمال اسم التفضيل
وأقول: إنَّما أخَّرْتُ هذا عن الظرف والمجرور، وإن كان مأخوذاً من لفظ الفعل؛ لأنّ عمله في المرفوع الظاهر ليس مطرداً كما تراه الآن.
وأشرتُ بالتمثيل بأفْضَلَ وأعْلَمَ إلى أنه يبنى من القاصر والمتعدّي.
ومثالُ إعماله في التمييز: {أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (الكهف: الآية 34) }{هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءياً (مريَم: الآية 74) }.
ومثالُ إعماله في الحال: «زَيْدٌ أحْسَنُ النَّاسسِ مُتَبسماً» و «هذَا بُسْراً أطْيَبُ مِنْهُ رُطَباً».
ومثال إعماله في الظرف قولُ الشاعر: (الطَّويل)
221 ـــ فإنَّا وَجَدْنَا الَعِرْضَ أحْوَجَ ساعَةً
إلى الصَّوْننِ مِنْ رَيْطٍ يمَاننٍ مُسَهَّممِ
ومثالُ إعمالِهِ في الفاعل المستتر جميعُ ما ذكرنا.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
المجالات التي لا يعمل فيها اسم التَّفضيل(1/229)
ولا يعمل في مصدر؛ لا تقول: زَيْدٌ أحْسَنُ النَّاسسِ حُسْناً، ولا في مفعول به، لا تقول: زيد أشْرَبُ النَّاس عَسَلاً، وإنَّما تُعَدِّيه إليه باللام؛ فتقول: زيدٌ أشرب الناس للعسل، ولا في فاعل ملفوظٍ به؛ لا تقول: مررت برجل أحْسَن منه أبوه. إلا في لغة ضعيفة حكاها سيبويه. واتفقت العربُ على جواز ذلك في مسألة الكحل. وضابِطها: أن يكون أفعلُ صفةً لاسممِ جنسسٍ مسبوققٍ بنفي، والفاعل مُفَضَّلاً على نفسه باعتبارين، وذلك كقول النبي صلى الله عليه وسلّم «مَا مِنْ أيَّاممٍ أحَبَّ إلَى اللَّهِ فِيهَا الصَّوْمُ مِنْهُ فِي عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ» وقول العرب: ما رأيت رجلاً أحْسَنَ في عينه الكحلُ منه في عين زيدٍ. وبهذا المثال لقيت المسألة بمسألة الكحل، وقوله: (الخفيف)
222 ـــ ما رأيت امرأ أحَبَّ إليه البَـ
ـذْلُ مِنْهُ إلَيْكَ يا ابنَ سِنَاننِ
ولم يقع هذا التركيبُ في التنزيل.
واعلم أن مرفوع «أحبَّ» في الحديث والبيت نائبُ الفاعللِ؛ لأنه مبني من فعل المفعول، لا من فعل الفاعل، ومرفوع أحسن في المثال بالعكس؛ لأن بناءه على العكس.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أحوال مطابقة اسم التّفضيل لمن هو له
ثم قلت: وإذَا كانَ بألْ طَابَقَ، أو مُجَرَّداً أو مُضَافاً لِنَكِرَةِ أُفْرِدَ وذُكِّرَ، أوْ لِمَعْرِفَةٍ فَالْوَجْهَاننِ.
وأقول: استطرَدْت في أحكام اسم التفضيل، فذكرت أنه على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يجب (فيه) أن يكون طِبْقَ مَنْ هو له، وهو ما كان بالألف واللاَّم، تقول: «زيدٌ الأفْضَلُ» و «هِنْدٌ الفُضْلَى» و «الزَّيْدَاننِ الأفْضَلاَنِ» و «الهندان الفُضْلَيَان» و «الزَّيدُون الأفضلُونَ» و «الهندات الفُضْلياتُ، أو الفُضّلُ».(1/230)
الثاني: ما يجب فيه أن لا يطابق، بل يكون مفرداً مذكراً على كل حال، وهو نوعان؛ أحدهما: المجرد من أل والإضافة، تقول: «زيد ـــ أو هند ـــ أفضل من عمرو» والزيدان ـــ أو الهندان ـــ أفضلُ من عمرو» و «الزيدون ـــ أو الهندات ـــ أفضل من عمرو»، والثاني: المضاف إلى نكرة، تقول: «زيد أفضلُ رجلٍ» و «الزيدان أفضل رجلين» و «الزيدون أفضل رِجَالٍ» و «هند أفضل امرأة» و «الهندان أفضل امرأتين» و «الهندات أفضل نسوة» وتجب المطابقة في تلك النكرة كما مَثَّلْنا، وأما قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ (البَقَرَة: الآية 41) } فالتقدير أولَ فريق كافرٍ، ولولا ذلك لقيل: أول كافرين، أو التقدير: ولا يكن كل منكم أول كافر، مثل: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً (النُّور: الآية 4) }.
والثالث: ما يجوز فيه الوجهان، وهو المضاف لمعرفة، تقول: «زَيْدٌ أفْضَلُ الْقَوْمِ» و «الزيدان أفْضَلُ القومِ» و «الزيدون أفضلُ القومِ» و «هند أفضلُ النساءِ» و «الهندان أفْضَلُ النساء» و «الهندات أفضل النساء» وإن شئت قلت: «الزيدان أفْضَلاَ القوم» و «الزيدون أفْضَلُوا القوم»، و «هند فُضْلَى النساء» و «الهندان فُضْلَيَا النساء» و «الهندات فُضْلَيَاتُ النساء» وتركُ المطابقةِ أوْلَى، قال الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ (البَقَرَة: الآية 96) }، ولم يقل أحْرَصِي النَّاسسِ، وقال الشاعر: (الوافر)
223 ـــ وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْن جِيداً
وَسَالِفَةً، وأَحْسَنُهُمْ قَذَالاَ
ولم يقل حُسْنَى الثَّقَلَيْننِ، ولا حُسْنَاهُمْ.
وعن ابن السراج إيجابُ تَرْككِ المطابقة، ورُدَّ بقوله سبحانه وتعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا (هُود: الآية 27) }{وَكَذلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَبِرَ مُجْرِمِيهَا (الأنعَام: الآية 123) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
شروط بناء اسم التفضيل(1/231)
ثم قلت: وَلاَ يُبْنَى وَلاَ يَنْقَاسُ هُوَ وَلاَ أَفْعَالُ التَّعَجُّببِ ـــ وهِيَ: مَا أفْعَلَهُ، وأفْعِلْ بِهِ، وفَعُلَ ـــ إلاّ مِنْ فِعْللٍ، ثُلاَثِيَ، مُجَرَّدٍ لَفْظاً وتَقْدِيراً، تَامّ، مُتَفَاوِتتِ المَعْنَى، غَيْرِ مَنْفِيّ، ولاَ مَبْنِيّ لِلْمَفْعُوللِ.
وأقول: لا يبنى أفعل التفضيل، ولا مَا أفْعَلَهُ وأفعِلْ به وفَعُلَ في التعجب، من نحو: جِلْففٍ وَكَلْببٍ وحمار؛ لأنها غير أفعال، وقولهم: «ما أجْلَفَه» و «مَا أحْمَرَه» و «مَا أكْلَبَه» خطأ، ولا من نحو: دَحْرَجَ؛ لأنه رباعي، ولا من نحو: انْطَلَقَ واسْتَخْرَجَ؛ لأنه وإن كان ثلاثياً لكنه مزيد فيه، ولا من نحو: هَيِفَ وغَيِدَ وحَوِلَ وسَوِدَ وحَمِرَ وعَمِيَ وعَرِجَ؛ لأنها وإن كانت ثلاثية مجردة في اللفظ لكنها مزيدة في التقدير؛ إذ أصْلُ حَوِلَ احْوَلَّ وعَوِرَ اعْوَرَّ وغَيِدَ اغْيَدَّ، والدليلُ على ذلك أن عَيْنَاتها لم تقلب ألفاً مع تحركها وانفتاح ما قبلها، فلولا أن ما قبل عيناتها ساكنٌ في التقدير لوجب فيها القلبُ المذكور، ولا من نحو: كَانَ وظلَّ وبات وصار؛ لأنها غير تامة، ولا من نحو: ضُرِبَ لأنه مبني للمفعول، ولا من نحو: ما قامَ وما عاجَ بالدواءِ؛ لأنه منفي.
وما سُمِعَ مخالفاً لشيء مما ذكرنا لم يُقَسْ عليه؛ فمن ذلك قولهم: «هُوَ ألَصُّ مِنْ فُلاَنٍ» و «أقْمَنُ مِنْهُ» فَبَنَوْهُ من غير فعل، بل من قولهم: هو لص، وقَمِنٌ بكذا، وقولهم: «مَا أتْقَاه» من اتَّقَى، و «مَا أخْصَرَ هذَا الْكَلاَمَ» من اخْتُصِرَ؛ وهما ذوا زيادة والثاني مبنيٌّ للمفعول، وفي التنزيل: {ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَدَةِ (البَقَرَة: الآية 282) }، وهما من أقْسَطَ إذا عَدَلَ ومن أقام الشهادة، وسيبويه يقيس ذلك إذا كان المزيد فيه أفْعَلَ.
وفهم من قولي: «وَلاَ يَنْقَاسُ» أنه قد يُبْنَى من غير ذلك بالسماع دون القياس، كما بينته.(1/232)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
باب التَّنازع
ثم قلت: بابٌ ـــ وإذَا تَنَازَعَ مِنَ الْفِعْللِ أوْ شِبْهِهِ عَامِلاَننِ فأكْثَرُ مَا تأَخَّرَ مِنْ مَعْمُوللٍ فأكْثَرَ، فَالْبَصْرِيُّ يَخْتَارُ إعْمَالَ المُجَاوِرِ؛ فيُضْمِرُ في غَيْرِه مَرْفُوعَهُ ويَحْذِفُ مَنْصُوبَهُ إن اسْتُغْنِيَ عَنْهُ، وإلاّ أخَّرَهُ، والكُوفيُّ الأسْبَقَ، فَيُضْمِرُ في غَيْرِهِ مَا يَحْتَاجُهُ.
وأقول: لما فرغْتُ من ذكر العوامل أرْدَفْتُهَا بحكمها في التنازع، ويسمى هذا الباب باب التنازع، وباب الإعمال.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
معنى التَّنازع وشرطا وقوعه
والحاصل أنه يتأتى تنازع عاملين، وأكثر، في معمول واحد وأكثر، وأن ذلك (جائز) بشرطين؛ أحدهما: أن يكون العامل من جنس الفعل أو شِبْهِه من الأسماء؛ فلا تَنَازُعَ بين الحروف ولا بين الحرف وغيره، والثاني: ألا يكون المعمول متقدماً، ولا متوسطاً، بل متأخراً؛ فلا تَنَازُعَ في نحو: «زَيْداً ضَرَبْتُ وأكْرَمْتُ» لتقدمه، ولا في نحو: «ضَرَبْتُ زَيْداً وأكْرَمْتُ» لتوسطه، وجوز ذلك بعضهم فيهما.
مثالُ تنازع العاملين معمولاً قوله تعالى: {آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (الكهف: الآية 96) } فـ(آتوني) و (أفرغ) عاملان طالبان لـ(قطراً).
ومثالُ تنازع العاملين أكْثَرَ من معمول: «ضَرَبْتُ وأهَنْتُ زَيْداً يَوْمَ الْخَمِيسَ».
ومثالُ تنازع أكثر من عاملين معمولاً واحداً قولُ الشاعر: (البسيط)
224 ـــ أرْجُو وأخْشَى وأدْعُو اللَّهَ مُبْتَغِياً
عَفْواً وعَافِيَةً في الرُّوححِ وَالْجَسَدِ
ومثالُ: تنازع أكْثَرَ من عاملين أكْثَرَ من معمول واحد قوله صلى الله عليه وسلّم «تُسَبِّحُونَ وَتُحَمِّدُونَ وتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وثَلاَثِينَ» فدُبُرَ: ظرفٌ، وثلاثاً: مفعول مطلق، وهما مطلوبان لكل من العوامل الثلاثة.(1/233)
ومثالُ تنازع الفعلين ما مثلنا، ومثالُ تنازع الاسمين قول الشاعر: (الطَّويل)
225 ـــ قَضَى كُلُّ ذِي دَيْننٍ فَوَقّى غَرِيمَهُ
وعَزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنًّى غرِيمُهَا
في أحد القولين.
ومثالُ: تنازع الفعللِ والاسممِ: {هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَبيَهْ (الحَاقَّة: الآية 19) }.
واتفق الفريقان على جواز إعمال أيِّ العاملين شئت، ثم اختلفوا في المختار فاختار الكوفيون إعمالَ الأول لتقدمه، والبصريون إعمال المتأخر لمجاوَرَتِهِ المعمولَ، وهو الصوابُ في القياس، والأكْثَرُ في السماع.
فإذا أعمل الثاني نظرت، فإذا احتاج الأول لمرفوع أضمر على وَفْققِ الظاهر المتنازَععِ فيه، نحو: «قَامَا وقَعَدَ أخَوَاكَ» و «قَامُوا وقَعَدَ إخْوَتُكَ» و «قُمْنَ وقَعَدَ نِسْوَتُكَ» وهذا إجماع من البصريين، وإن احتاج لمنصوب فلا يخلو: إما أن يصح الاستغناء عنه أو لا، فإن صح الاستغناء عنه وَجَبَ حَذْفهُ، نحو: «ضَرَبْتُ وضَرَبَنِي زَيْدٌ» ولا يجوز أن تضمره فتقول: ضربته وضربني زيد، إلا في ضرورة الشعر، قال الشاعر: (الطَّويل)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
226 ـــ إِذَا كُنْتَ ترْضِيهِ وَيُرْضِيكَ صَاحِبٌ
جِهَاراً فَكُنْ في الْغَيْببِ أحْفَظَ لِلْوُدِّ
وإن لم يَصِحُّ وجب تأخيرُهُ، نحو: «رَغِبْتُ وَرَغِبَ فِيَّ الزَّيْدَاننِ عَنْهُمَا».
وإذا أعمل الأول أضمر في الثاني ما يحتاجه: من مرفوع، ومنصوب، ومجرور؛ فتقول: «قَامَ وقَعَدَ أخَوَاكَ» و «قَامَ وضَرَبْتُهُمَا أخَوَاكَ» و «قَامَ ومَرَرْتُ بِهِمَا أخَوَاكَ» ولا يجوز حذفه إذا كان مرفوعاً باتفاق، ولا إذا كان منصوباً إلا في ضرورة الشعر، كقول الشاعر: (مجزوء الكامل)
227 ـــ بِعُكَاظَ يُعْشِي النَّاظِرِيـ
ـنَ إِذَا هُمْ لَمحوا شُعَاعُهْ(1/234)
ومن ثَمَّ قلنا في قوله تعالى: {آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (الكهف: الآية 96) } إنه أعمل الثاني؛ لأنه لو أعمل الأول لوجب أن يقال: «آتُونِي أُفْرِغْهُ عَلَيْهِ قِطْراً» وكذا في بقية آي التنزيل الواردة من هذا الباب.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
باب الاشتغال
ثم قلت: بَابٌ ـــ إذَا شَغَلَ فِعْلاً أوْ وَصْفاً ضَمِيرُ اسْممٍ سَابِققِ أوْ مُلاَبِسٌ لِضَمِيرِهِ عَنْ نَصْبِهِ وَجَبَ نَصْبُهُ بِمَحْذُوففٍ مُمَاثِللٍ لِلْمَذْكُورِ إنْ تَلاَ مَا يَخْتَصُّ بِالْفِعْللِ كـ «إِنِ» الشّرطِيَّةِ وهَلاّ ومَتَى، وتَرَجَّحَ إنْ تَلاَ مَا الْفِعْلُ بِهِ أوْلَى كَالْهَمْزَةِ وَمَا النَّافِيَةِ أوْ عَاطِفاً عَلَى فِعْلِيَّةٍ غَيْرَ مَفْصُوللٍ بـ«أَمَّا» نحو: {أَبَشَراً مّنَّا وحِداً نَّتَّبِعُهُ (القَمَر: الآية 24) }{وَالاْنْعَمَ خَلَقَهَا لَكُمْ (النّحل: الآية 5) } أوْ كَانَ المَشْغُولُ طَلَباً، وَوَجَبَ رَفْعُهُ بِالابْتِدَاءِ إنْ تَلاَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ كَـ«إذَا» الْفُجَائِيَّةِ، أوْ تَلاَهُ مَا لَهُ الصَّدْرُ كـ«زَيْدٌ هَلْ رَأيْتَهُ» وهذَا خَارِجٌ عَنْ أصْللِ هذَا الْبَاب، مِثْلُ: {وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ } (القَمَر: الآية 52) و «زَيْدٌ مَا أَحْسَنَهُ»، وتَرَجَّحَ في نحو: «زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ»، وَاسْتَوَيَا في نحو: «زَيْدٌ قَامَ وعَمْراً أكْرَمْتُهْ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
معنى الاشتغال
وأقول: هذا الباب المسمى بباب الاشتغال، وحقيقته: أن يتقدم اسم، ويتأخر عنه عامل، هو فعل أو وصف، وكل من الفعل والوصف المذكورين مشتغل عن نصبه له بنصبه لضميره لفظاً كـ«زَيْداً ضربْتُه» أو محلاً كـ«زَيْداً مَرَرْتُ به» أو لما لابس ضميره، نحو: «زَيْداً ضربت غُلاَمَهُ» أو «مَرَرْتُ بِغُلاَمِهِ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
للاسم المتقدّم على العامل وجهان من الإعراب(1/235)
والاسم في هذه الأمثلة ونحوها أصلُه أن يجوز فيه وجهان؛ أحدهما: أن يرفع على الابتداء؛ فالجملة بعده في محل رفع على الخبرية، والثاني: أن ينصب بفعل محذوف وجوباً يفسره الفعل المذكور؛ فلا موضع للجملة بعده لأنها مفسرة.
وفُهِمَ من قولي: «فعلٌ أو وصفٌ» أن العامل إن لم يكن أحدهما لم تكن المسألة من باب الاشتغال، وذلك نحو: «زَيْدٌ إنَّهُ فَاضِلٌ» و «عَمْرٌو كأنَّهُ أسَدٌ» وذلك لأن الحرف لا يعمل فيما قبله، وكذلك نحو: «زَيْدٌ دَرَاكِهِ» و «عَمْرٌو عَلَيْكَهُ» لأن اسم الفعل لا يعمل فيما قبله، وما لا يعمل لا يفسر عاملاً، ومن ثمَّ لم يجز النصب على الاشتغال في نحو: {وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ } (القَمَر: الآية 52) وقولك: «زيدٌ مَا أحْسَنَهُ»؛ لأن (فَعَلُوهُ) صفة، والصفة لا تعمل في الموصوف، وفعلُ التعجببِ جامدٌ؛ فهو شبيهٌ بالحرف فلا يعمل فيما قبله، لا سيما وبينهما «ما» التعجبية، ولها الصَّدْرُ، وكذلك: «زَيْدٌ أنا الضَّارِبُهُ» لأن أل موصولة؛ فلا يتقدم عليها معمولُ صِلَتِهَا.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أحكام الاسم المتقدّم على العامل
ثم الاسم الذي تقدَّمَ، وبعده فعلٌ أو وصفٌ، وكل منهما ناصب لضميره أو لسببيه؛ ينقسم خمسة أقسام:
1 ـــ أحدها: ما يترجَّحُ نصبه، وذلك في ثلاث مسائل:
إحداها: أن يكون الفعل المشغول طلباً، نحو: «زيداً اضْرِبْهُ» و «عمراً لا تُهِنهُ».
الثانية: أن يتقدم عليه أداة يغلب دخولها على الفعل، نحو: {أَبَشَراً مّنَّا وحِداً نَّتَّبِعُهُ (القَمَر: الآية 24) }.
الثالثة: أن يقترن الاسمُ بعاطففٍ مسبوق بجملة فعلية لم تُبْنَ على مبتدأ، كقوله تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَالاْنْعَمَ خَلَقَهَا لَكُمْ}.(1/236)
2 ـــ الثاني: ما يترجَّحُ رفعهُ بالابتداء، وذلك فيما لم يتقدم عليه ما يطلب الفعل وجوباً أو رُجْحاناً، نحو: «زيدٌ ضَرَبْتُهُ» وذلك لأن النصب محوج إلى التقدير ولا طالب له، والرفع غني عنه، فكان أولى، لأن التقدير خلافُ الأصل، ومن ثمَّ منعهُ بعض النحويين، ويردُّهُ أنه قرىء: {جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا (الرّعد: الآية 23) }{سُورَةٌ أَنزَلْنَهَا (النُّور: الآية 1) } بنصب (جنات) و (سورة).
3 ـــ الثالث: ما يجب نصبه، وذلك فيما تقدم عليه ما يطلب الفعل على سبيل الوجوب، نحو: «إنْ زَيْداً رَأَيْتَهُ فَأَكْرِمْهُ».
4 ـــ الرَّابع: ما يجب رفعه، وذلك إذا تقدم عليه ما يختصُّ بالجمل الاسمية كـ«إذا» الفجائية، نحو: «خرجْتُ فإذا زَيْدٌ يَضْرِبُهُ عَمْرٌو» وإجازة أكثر النحويين النصبَ بعدها سَهْوٌ، أو حَالَ بين الاسم والفعل شيء من أدوات التصدير نحو: «زيدٌ هَلْ رَأَيْتَهُ» و «عمرٌو ما لقيتُهُ».
5 ـــ الخامس: ما يستوي فيه الأمران، وذلك إذا وقع الاسمُ بعد عاطف مسبوق بجملة فعلية مبنية على مبتدأ؛ نحو: «زَيْدٌ قَامَ وعَمراً أكرمتُهُ» وذلك لأن الجملة السابقة اسمية الصَّدْر فعلية العَجُز، فإن راعيت صَدْرَهَا رفعت، وإن راعيت عَجُزَها نصبت؛ فالمناسبة حاصلة على كلا التقديرين؛ فلذلك جاز الوجهان على السواء، وقد جاء التنزيل بالنصب، قال الله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} الآياتتِ ـــ الرحمن: مبتدأ، وعلم القرآن: جملة فعلية، والمجموع جملة اسمية ذات وجهين، والجملتان بعد ذلك معطوفتان على الخبر، وجملتا: معترضان {وَالسَّمَآء رَفَعَهَا (الرَّحمن: الآية 7) } عطف على الخبر أيضاً، وهي محل الاستشهاد.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
باب التّوابع(1/237)
ثم قلت: بابٌ ـــ يَتْبَعُ مَا قَبْلَهُ في الإعْرَاببِ خَمْسَةٌ؛ أحَدُهَا: التَّوْكِيدُ، وهو: تابعٌ يُقَرِّرُ أمْرَ المَتْبُوععِ في النِّسْبَة أو الشُّمُول؛ فالأوَّل نحو: «جَاءَنِي زَيْدٌ نَفْسُهُ» و «الزَّيْدَاننِ أو الهِنْدَاننِ أنفُسُهُمَا» و «الزَّيْدُونَ أنفسُهُمْ» و «الهِنْدَاتُ أنفُسُهُنَّ» والعَيْنُ كَالنَّفْسسِ، والثَّاني: نحو: «جَاءَ الزَّيْدَاننِ كلاهما» و «الهِنْدَاننِ كِلْتَاهُمَا» و «اشْتَرَيْتُ العَبْدَ كلهُ» و «العَبِيدَ كلهمْ» و «الأمَةَ كلها» و «الإمَاءَ كلّهُنَّ». ولا تُؤَكَّدُ نَكِرَةٌ مُطْلَقاً، وتُؤَكَّدُ بإعَادَةِ اللّفظِ أو مُرَادِفه نحو: {دَكّاً دَكّاً (الفَجر: الآية 21) } و {فِجَاجاً سُبُلاً (الأنبيَاء: الآية 31) } وَلاَ يُعَادُ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ وَلاَ حَرْف غيرُ جَوَابي إلاَّ مع ما اتّصلَ به.
وأقول: إذا استوفَتتِ العوامل معمولاتها فلا سبيل لها إلى غيرها إلا بالتبعية.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام التّوابع خمسة
والتوابع خمسة: نعت، وتوكيد، وعطف بيان، وبدل، وعطف نسق، وقيل: أربعة، فأدرج هذا القائل عطفي البيان والنسق تحت قوله: والعطف، وقال آخر: ستة؛ فجعل التأكيد اللفظي باباً وحده، والتأكيد المعنوي كذلك.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الأوّل: التأكيد
ومثال المقرر لأمر المتبوع في النسبة: «جَاءَ زيدٌ نفسه» فإنه لولا قولك «نفسه» لجوَّز السامعُ كونَ الجائي خبره أو كتابه بدليل قوله تعالى: {وَجَآء رَبُّكَ (الفَجر: الآية 22) } أي: أمْرُهُ.
ومثالُ المقرر لأمره في الشمول قوله عز وجل: {فَسَجَدَ الْمَلَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } (الحِجر: الآية 30) ؛ إذ لولا التأكيد لجوّز السامعُ كونَ الساجد أكْثَرَهُمْ.
ويجب في المؤكَّد كونُهُ معرفةً، وشذّ قولُ عائشة رضي الله عنها: «ما صَامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم شَهْراً كُلّهُ إلا رمضان» وقول الشَّاعر: (البسيط)(1/238)
228 ـــ لَكِنَّهُ شَاقَهُ أنْ قِيلَ ذَا رَجَبٌ
يَا لَيْتَ عِدَّةَ حَوْللٍ كُلهِ رَجَبُ
وأنشده ابن مالك وغيره: «يَا لَيْتَ عدة شهر» وهو تحريف.
ويجب في التأكيد كَوْنُهُ مضافاً إلى ضمير عائد على المؤكد مطابق له، كما مثلنا، ويستثنى من ذلك «أجمع» وما تَصَرَّف منه، فلا يُضَفْنَ لضمير؛ تقول: «اشتريت العَبْد كُلّه أجْمَعَ» و «الأمَةَ كُلّها جَمْعَاء» و «العَبِيد كلّهُم أجْمَعِين» و «الإماء كلهن جُمَعَ».
ويجب في النفس والعين إذا أُكد بهما أن يكونا مفردين مع المفرد، نحو: «جاء زيد نَفْسُهُ عَيْنُهُ» و «جَاءَتْ هِنْدٌ نَفْسُهَا عَيْنُهَا» مجموعين مع الجمع، نحو: «جَاءَ الزَّيْدُونَ أنْفُسُهُمْ أعْيُنُهُمْ» و «الهنداتُ أنْفُسُهُنَّ أعْيُنُهُنَّ»، وأما إذا أكد بهما المثنى ففيهما ثلاث لُغات: أفصحها الجمع؛ فتقول: «جَاءَ الزَّيْدَان أنْفُسُهُمَا أعْيُنُهُمَا» ودونه الإفراد، ودون الإفراد التثنية، وهي الأوْجُهُ الجارية في قولك: «قَطَعْتُ رُؤُوسَ الكَبْشَيْنِ».
مسألة: قال بعض العلماء في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } (الحِجر: الآية 30) : فائدة ذكر (كل) رَفْعُ وَهْم مَنْ يتوهم أن الساجد البعض، وفائدة ذكر (أجمعون) رَفْعُ وهم من يتوهم أنهم لم يسجدوا في وقت واحد، بل سجدوا في وقتين مختلفين، والأول صحيح، والثاني باطل؛ بدليل قوله تعالى: {لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (ص: الآية 82) }؛ لأن إغواء الشيطان لهم ليس في وقت واحد؛ فَدَلَّ على أنَّ (أجمعين) لا تَعَرُّضَ فيه لاتحاد الوقت، وإنما معناه كمعنى كل سواء، وهو قول جمهور النحويين، وإنما ذكر في الآية تأكيداً على تأكيد، كما قال تعالى: {فَمَهّلِ الْكَفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } (الطّارق: الآية 17) .
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الثَّاني: النّعت(1/239)
ثم قلت: الثَّاني النَّعْتُ، وهو: تَابِعٌ مُشْتَقٌّ أوْ مُؤَوَّلٌ بِهِ، يُفِيدُ تَخْصِيصَ مَتْبُوعِهِ أوْ تَوْضِيحَهُ أوْ مَدْحَهُ أوْ ذَمَّهُ أوْ تَأكِيدَهُ أوْ التَّرَحُّمَ عَلَيْهِ، وَيَتْبَعُهُ في وَاحِدٍ مِنْ أوْجُهِ الإعْرَاببِ، ومِنَ التَّعْرِيففِ والتَّنْكِيرِ، وَلاَ يَكُونُ أخَصَّ مِنْهُ، فنحو: «بالرَّجُللِ صَاحِبِكَ» بَدَلٌ، ونحو: «بالرَّجُللِ الْفَاضِلِ» و «بِزَيْدٍ الْفَاضِلِ» نَعْتٌ، وأمْرُهُ في الإفْرَادِ والتَّذْكِيرِ وأضْدَادِهِمَا كَالْفِعْللِ، ولَكِنْ يَتَرَجَّحُ نحو: «جَاءَنِي رَجُلٌ قُعُودٌ غِلْمَانُهُ» عَلَى «قَاعِدٍ» وأمَّا «قَاعِدُون» فَضَعيفٌ، ويَجُوزُ قَطْعُهُ إنْ عُلِمَ مَتْبُوعُهُ بِدُونِهِ بِالرَّفْععِ، أوْ بِالنَّصْببِ.
وأقول: مثال المشتق: «مررتُ بِرَجُللٍ ضَارِببٍ، أو مضروببٍ، أو حَسَننٍ الوجْهِ، أو خَيْرٍ من عمرو» ومثال المُؤَوَّل به «مررت برجُللٍ أسدٍ» أي: شجاع، ومثال ما يفيد تخصيص المتبوع قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ (النِّساء: الآية 92) } ومثال ما يفيد مدحه: {الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ } (الفَاتِحَة: الآية 2) ومثال ما يفيد ذمّه: «أعُوذ بالله من الشَّيْطَاننِ الرَّجيم» ومثال ما يفيد الترحُّمَ عليه: «اللَّهُمَّ أَنَا عَبْدُكَ المِسْكِينُ». ومثال التوكيد: {نَفْخَةٌ وحِدَةٌ (الحَاقَّة: الآية 13) } و {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ (البَقَرَة: الآية 196) } و {لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ (النّحل: الآية 51) }، وزعم قوم من أهل البيان أن (اثنين) عطفٌ بياننٍ، ويحتاج شرح ذلك إلى بَسْطٍ طويل.(1/240)
وقد لَهِجَ المعرِبُونَ بأن النعت يتبعُ المنعوتَ في أربعة من عشرة، والتحقيقُ أن الأمر على النصف في العددين، وأنه إنما يتبع في اثنين من خمسة، وهما واحد من أوجه الإعراب الثلاثة ـــ التي هي الرفع والنصب والجر ـــ وواحدٌ من التعريف والتنكير؛ فلا تُنْعَتُ نكرةٌ بمعرفة، ولا العكس؛ لا تقول: «مررتُ برجللٍ الفاضلِ» ولا «بزيدٍ فاضلٍ» كما أنه لا يُتْبَعُ المرفوعُ بمنصوببٍ ولا مجرور، ولا نحو ذلك.
ويجب عند جماهير النَّحويين كونُ الموصوففِ إما أعْرَف من الصفة، أو مُساوياً لها، فلا يجوز أن يكون دونها، فالأول كقولك: «مررت بزيدٍ الفاضلِ» فإن الْعَلَمَ أعرفُ من المعرف باللام، والثاني نحو: «مررت بالرجللِ الفاضلِ» فإنهما معرفان باللام، والثالث نحو: «مررت بالرجل صاحبِكَ» فصاحبك بدلٌ عندهم، لا نعت؛ لأن المضاف للضمير في رتبة الضمير أو رتبة العلم؛ وكلاهما أعْرَفُ من المعرف باللام.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
وأما الإفراد وضِدَّاه ـــ وهما التثنية والجمع ـــ والتذكير وضده ـــ وهو التأنيث ـــ فإن النعت يُعطى من ذلك حُكم الفعل الذي يحلُّ محلَّه من ذلك الكلام؛ فتقول: «مررت بامرأة حَسَننٍ أبوها» بالتذكير، كما تقول: «حَسُنَ أبوها» وفي التنزيل: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّلِمِ أَهْلُهَا (النِّساء: الآية 75) } و «بِرَجل حَسَنَةٍ أمُّهُ» بالتأنيث، كما تقول: «حَسُنَتْ أمه» وتقول: «بِرَجُللٍ حَسَننٍ أبوَاهُ» و «برجل حَسَننٍ آباؤه» ولا تقول: «حَسَنَيْنِ» ولا «حَسَنِينَ» إلا على لغة من قال: «أكَلُونِي البراغِيثُ» وعلى ذلك فَقِسْ.
إلا أن العرب أجْرَوْا جمعَ التكسير مجْرَى الواحد؛ فأجازوا فصيحاً: «مررت برجل قُعُودٍ غِلْمَانُهُ» كما تقول: «قَاعِدٍ غِلْمَانُهُ» وقومٌ رجَّحوه على الإفراد، وإليه أذْهَبُ، وأما جمع التصحيح فإنما يقوله من يقول: «أكلوني البراغيث».(1/241)
وإذا كان المنعوت معلوماً بدون النعت نحو: «مررت بامرىء القيسسِ الشَّاعِرِ» جاز لك فيه ثلاثة أوْجُهٍ: الإتباع فيخفض، والقطع بالرفع بإضمار هو، وبالنصب بإضمار فِعْل، ويجب أن يكون ذلك الفعل أخُصُّ أو أعني في صفة التوضيح، وأمْدَحُ في صفة المدح، وأذُمُّ في صفة الذم، فالأول كما في المثال المذكور، والثاني كما في قول بعض العرب: «الحَمْدُ لِلَّهِ أهْلَ الحمدِ» بالنصب، والثالث كما في قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } (المَسَد: الآية 4) يقرأ في السبع: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (المَسَد: الآية 4) } بالنصب بإضمار أذمُّ، وبالرفع إما على الإتباع، أو بإضمار هي.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الثَّالث: عطف البيان
ثم قلت: الثَّالثُ: الْبَيَاننِ، وهُوَ: تابعٌ غَيْرُ صِفَةٍ يُوضِّحُ مَتْبُوعَهُ أو يُخَصِّصُهُ، نحو:
أقْسَمَ بِاللَّهِ أبُو حَفْصصِ عُمَر
ونحو: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَكِينَ (المَائدة: الآية 95) } ويَتْبَعُهُ في أرْبَعَةٍ مِنْ عَشَرَة، ويَجُوزُ إعْرَابُهُ بَدَلَ كلّ إنْ لَمْ يَجِبْ ذِكْرُهُ كـ«هِنْدٌ قَامَ زَيْدٌ أخَوهَا» وَلَمْ يَمْتَنِعْ إحْلالهُ مَحَلَّ الأوَّللِ، نحو: «يَا زَيْدُ الْحَارِث».
و أَنَا ابْنُ التَّارِككِ الْبَكْرِيِّ بِشْرٍ
و يَا نَصْرُ نَصْرٌ نَصْراً
ويَمْتَنِعُ في نحو: {مَّقَامِ إِبْرهِيمَ (البَقَرَة: الآية 125) } وفي نحو: «يَا سَعِيدُ كَرْزُ» و «قَرَأَ قَالُونُ عِيسَى».
وأقولُ: قولي: «تابعٌ» جنسٌ يشمل التوابعَ كلها.
وقولي: «غير صفة» مُخْرِج للصفة؛ فإنها توافق عَطْفَ البيان في إفادة توضيح المتبوع إن كان معرفة وتخصيصه إن كان نكرة، فلا بد من إخراجها، وإلا دَخَلَتْ في حَدِّ البيان.
وقولي: «يوضح متبوعه أو يخصصه» مخرج لما عدا عطف البيان.
ومثالُ الموضِّححِ قولُه: (الرّجز)
229 ـــ أقْسَمَ بِاللَّهِ أبُو حَفْصصٍ عُمَرْ
مَا مَسَّهَا مِنْ نَقَببٍ وَلاَ دَبَرْ(1/242)
ومثالُ العَطْففِ المخصَّصصِ قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَكِينَ (المَائدة: الآية 95) } فيمن نَوَّنَ الكفارة ورفع الطعام.
وحكم المعطوف أنه يتبع المعطوفَ عليه في أربعة من عشرة، وهي: واحد من الرفع والنصب والجر، وواحد من التعريف والتنكير، وواحد من الإفراد والتثنية والجمع، وواحد من التذكير والتأنيث.
وكل شيء جاز إعرابُهُ عطفَ بياننٍ جاز إعرابُهُ بدلاً ـــ أعني بدلَ كل من كل ـــ إلا إذا كان ذكره واجباً، كـ«هندٌ قَامَ زَيْدٌ أخُوهَا» ألا ترى أن الجملة الفعلية خبر عن هند، والجملة الواقعة خبراً لا بدَّ لها من رابطٍ يربطها بالمخبر عنه، والرابط هنا الضمير في قوله: «أخوها» الذي هو تابع لزيد، فإن أسقط لم يصح الكلام، فوجب أن يُعْرَبَ بياناً، لا بدلاً، لأن البدل على نية تكرار العامل، فكأنه من جملة أخرى، فتخلو الجملة المخبَرُ بها عن رابط، وإلا إذا امتنع إحلاله محلَّ المتبوع، ولذلك أمثلة كثيرة منها قولك: «يا زَيْدُ الحارِثُ» فهذا من باب البيان، وليس من باب البدل، لأن البدل في نية الإحلال محلَّ المبدل منه، إذ لو قيل: «يا الحارث» لم يجز، لأن «يا» و «أل» لا يجتمعان هنا، ومنها قولُ الشَّاعر: (الوافر)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
230 ـــ أَنَا ابْنُ التَّارِككِ البَكْرِيِّ بِشْرِ
عَلَيْهِ الطَّيْرُ تَرْقُبهُ وُقُوعَا
فـ«بِشْرٍ» عَطْفُ بَيَاننِ على «البكريِّ» وليس بدلاً؛ لامتناع «أنَا ابْنُ التَّارِككِ بشرٍ»؛ إذ لا يُضافُ ما فيه الألف واللام إلى المجرَّد منها، إلا إن كان المضاف صفة مُثناة أو مجموعَةً جَمْعَ المذكَّرِ السَّالممِ، نحو: «الضَّارِبَا زَيْدٍ» و «الضَّارِبُو زَيْدِ» ولا يجوز «الضَّارِبُ زَيْدٍ» خلافاً للفَرَّاء.
ومنها قولُ الراجز، وهو ذو الرمة: (الرّجز)
231 ـــ إنِّي وَأسْطَار سُطِرْنَ سَطْرَا
لَقَائِلٌ يَا نَصْرُ نَصْرٌ نَصْرَا(1/243)
لأن نصرا الثاني مرفوع، والثالث منصوب؛ فلا يجوز فيهما أن يكونا بَدَلَيْننِ؛ لأنه لا يجوز «يا نَصْرٌ» بالرفع، ولا «يا نصراً» بالنصب، قالوا: وإنما نصر الأول عَطْفُ بَياننٍ على اللفظ، والثاني عَطْفُ بياننٍ على المحل، واستشكل ذلك ابن الطراوة؛ لأن الشيء لا يبين نفسه، قال: وإنما هذا من باب التوكيد اللفظي، وتابعه على ذلك المحمدان ابنا مالك ومُعْطي.
فإن قلت: «يا سعيدُ كرزُ» بضم «كرز» وجب كونه بدلاً، وامتنع كونه بياناً، لأن البدل في باب النداء حكمه حكم المنادى المستقلَّ، و «كرز» إذا نودي ضم من غير تنوين، وأما البيان المفرد التابع لمبني فيجوز رفعه ونصبه، ويمتنع ضمه من غير تنوين، ومثله في ذلك النعتُ والتوكيد، نحو: «يا زيدُ الفاضلُ» و «الفاضلَ» و «يا تميمُ أجمعونَ» و «أجمعينَ».
وكذلك يمتنع البيانُ في قولك: «قَرَأ قالونُ عيسى» ونحوه مما الأول فيه أوضحُ من الثاني، وإنما قال العلماء في قوله تعالى: {ءامَنَّا بِرَبّ الْعَلَمِينَ رَبّ مُوسَى وَهَرُونَ } إنه بيان، لأن فرعون كانَ قد ادعى الربوبية، فلو اقتصروا على قولهم: {بربِّ العالمين} لم يكن ذلك صريحاً في الإيمان بالرب الحق سبحانه وتعالى.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الرّابع: البدل(1/244)
ثم قلت: الرَّابعُ البَدَلُ، وهو: التَّابعُ الْمَقْصُودُ بالْحُكم بِلاَ وَاسِطَةٍ، وهو إمَّا بَدَلَ كُلَ نحو: {صِرَاطَ الَّذِينَ (الفَاتِحَة: الآية 7) } أوْ بَعْضضٍ نحو: {مَنِ اسْتَطَعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (آل عِمرَان: الآية 97) } أو اشْتِمَاللِ نحو: {قِتَالٍ فِيهِ (البَقَرَة: الآية 217) } أوْ إضْرَاببٍ نحو: «مَا كُتِبَ لَهُ نِصْفُهَا ثُلثُهَا رُبُعُهَا» أوْ نِسْيَان أنْ غَلطٍ كـ«جَاءَني زَيْدٌ عَمْرٌو» و «هذَا زَيْدٌ حِمَارٌ» والأحْسَنُ عَطْفُ هذِهِ الثَّلاثَةِ بِبَلْ، ويُوَافِقُ مَتْبُوعَهُ ويُخَالِفُهُ، في الإظْهَار والتَّعْرِيففِ وضِدّيهمَا، وَلكِنْ لا يُبْدَلُ ظَاهِرٌ مِن ضَميرِ حَاضرِ، إلاّ بَدَلَ بَعْضضٍ أو اشْتماللٍ مُطْلَقاً، أوْ بَدَلَ كل إن أفَادَ الإحاطة.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
البدل في اللغة
وأقول: البدلُ في اللّغة العِوَضُ، وفي التنزيل: {عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مّنْهَآ (القَلَم: الآية 32) } وفي الاصطلاح ما ذكر.
و «التابع» جنسٌ يشمل (جميع) التوابع.
و «المقصود بالحكم» فَصْل مخرج للنعت والبيان والتأكيد، فإنهُنَّ متممات للمقصود بالحكم، لا مقصودة بالحكم، ولنحو: «جاء القومُ لا زيدٌ» فإن زيداً منفي عنه الحكم، فلا يصح أن يقال إنه المقصود بالحكم، ولنحو: «عمرو» في «جاء زيد وعمرو» أو «فعمرو» أو «ثم عمرو» أو «القوم حتى عمرو»؛ فإنه مقصود بالحكم مع الأول، فلا يَصْدُقُ عليه أنه المقصود بالحكم.
و «بلا واسطة» مُخْرجٌ للمعطوف عَطْفَ النّسق في نحو: «جاء زيد بل عمرو»، فإنه وإنه كان المقصود بالحكم، لكنه إنما يتبع بواسطة حرف العطف.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
1 ـــ أقسام البدل
وأقسامه ستة: بدلُ كل من كل، وبدل بعض من كل، وبدل اشتمال، وبدل إضراب، وبدل نسيان، وبدل غلط.
1 ـــ بدل الكلّ:(1/245)
فبدل الكل نحو: {اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ} فالصراط الثاني هو نفس الصراط الأول.
2 ـــ بدل البعض:
وبدل البعض نحو: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (آل عِمرَان: الآية 97) } فـ(مَنْ) في موضع خفض على أنها بدل من (الناس) والمستطيعُ بعضُ الناس لا كلهم.
3 ـــ بدل الاشتمال:
وبدل الاشتمال نحو: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ (البَقَرَة: الآية 217) } فـ(قتال) بدل من (الشهر) وليس القتال نفسَ الشهرِ ولا بعضه، ولكنه ملابس له لوقوعه فيه.
4 ـــ بدل الإضراب:
وبدل الإضراب كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «إنَّ الرَّجُل لَيُصَلِّي الصَّلاَة مَا كُتِبَ لَهُ نِصْفُهَا ثُلثُهَا رُبُعُهَا» إلى العُشْرِ؛ وضابِطُهُ أن يكون البدلُ والمبدَلُ منه مقصودين قصداً صحيحاً، وليس بينهما تَوَافُق كما في بدل الكل، ولا كلية وجزئية كما في بدل البعض، ولا مُلابسة كما في بدل الاشتمال.
5 ـــ بدل النّسيان:
وبدل النسيان كقولك: «جاءني زيد عمرو» إذا كنت إنما قَصَدْت زيداً أولاً، ثم تبين فسادُ قصدك فذكرت عمراً.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
6 ـــ بدل الغلط
وبدل الغلط كقولك: «هذَا زَيْدٌ حِمَارٌ» والأصلُ أنك أردت أن تقول: هذا حمار، فَسَبَقَكَ لِسَانُكَ إلى زيد؛ فرفعت الغلط بقولك: حمار، وسماه النحويون بَدَلَ الغلط، على معنى بدل الاسم الذي هو غلطٌ، ألا ترى أن الحمار بدل من زيد، وأن زيداً إنما ذكر غلطاً.
ويصح أن يمثَّل لهذه الأبدال الثلاثة بقولك: «جاءني زيد عمرو»؛ لأن الأول والثاني إن كانا مقصودين قصداً صحيحاً فبدلُ إضراببٍ، وإن كان المقصود إنما هو الثاني فبدل غلط، وإن كان الأول قصد أولاً ثم تبين فساد قصده فبدل نسيان.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام البدل والمبدل منه(1/246)
ثم اعلم أن البدل والمبدل منه ينقسمان بحسب الإظهار والإضمار أربعة أقسام، وذلك لأنهما يكونان ظاهرين، ومضمرين، ومختلفين، وذلك على وجهين:
1 ـــ إبدال الظاهر من المظهر:
فإبدال الظاهر من المظهر، نحو: «جَاءَني زَيْدٌ أخُوكَ».
2 ـــ إبدال المضمر من المضمر:
وإبدال المضمر من المضمر، نحو: «ضَرَبْتُهُ إيَّاهُ» فإياه: بدل أو توكيد، وأوجب ابنُ مالك الثاني، وأسقط هذا القسم من أقسام البدل، ولو قلت: «ضَرَبْتُهُ هُوَ» كان بالاتفاق توكيداً لا بدلاً.
3 ـــ إبدال المضمر من الظاهر:
وإبدال المضمر من الظاهر، نحو: «ضَرَبْتُ زَيْداً إيَّاهُ» وأسقط ابن مالك هذا القسم أيضاً من باب البدل، وزعم أنه ليس بمسموع، قال: ولو سمع لأعرب توكيداً لا بدلاً، وفيما ذكره نظر؛ لأنه لا يؤكد القويُّ بالضعيف، وقد قالت العرب: «زَيْدٌ هُوَ الْفَاضِلُ» وجَوَّزَ النحويون في «هو» أن يكون بدلاً، وأن يكون مبتدأ، وأن يكون فَصْلاً.
4 ـــ إبدال الظاهر من المضمر:
وإبدال الظاهر من المضمر فيه تفصيل، وذلك أن الظاهر إن كان بدلاً من ضمير غيبة جاز مطلقاً، كقوله تعالى: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَنُ أَنْ أَذْكُرَهُ (الكهف: الآية 63) } فـ(أن أذكره) بدل من الهاء في (أنسانيه) بدل اشتمال، ومثله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ (مريَم: الآية 80) }، وقول الشاعر: (الطَّويل)
117 ـــ عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ في الْقَوْممِ حَاتماً
عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِممِ
إلا أن هذا بدلُ كل من كل.
وإن كان ضميرَ حَاضِرٍ، فإن كان البدلُ بعضاً أو اشتمالاً جاز، نحو: «أَعْجَبْتَنِي وَجْهُكَ» و «أعْجَبْتَنِي عِلْمُكَ» وقوله: (الرّجز)
232 ـــ أوْعَدَنِي بِالسَّجْننِ وَالأدَاهِممِ
رِجْلِي فَرِجْلِي شَثْنَةُ المَنَاسِممِ
فـ«رجلي» بدل بعض من ياء «أوْعَدَنِي»، وقوله: (الوافر)
233 ـــ ذَرِينِي إِنَّ أَمْرَككِ لَنْ يُطَاعَا
وَمَا ألْفَيْتِنِي حِلْمِي مُضَاعَا(1/247)
فـ«حلمي» بدل اشتمال من ياء «ألفيتني».
وإن كان بَدَلَ كل فإما أن يَدُلَّ على إحاطة، أو لا، فإن دَلَّ عليها جاز نحو: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا (المَائدة: الآية 114) } وإن كان غَيْرَ ذلك امتنع، نحو: «قُمْتَ زَيْدٌ» و «رَأيْتُكَ زَيْداً» وجوز ذلك الأخفش والكوفيون، تمسكاً بقوله: (البسيط)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
234 ـــ بكُمْ قُرَيْششٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ
وأمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضَلِّيلاَ
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام البدل والمبدل منه من حيث التّعريف والتّنكير
وكذلك ينقسمان ـــ بحسب التعريف والتنكير ـــ إلى معرفتين نحو: {اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ} ونكرتين نحو: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ} ومتخالفين فإما أن يكون البدل معرفة والمبدل منه نكرة نحو: {إِلَى صِرطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرطِ اللَّهِ} أو يكونا بالعكس نحو: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَذِبَةٍ} وقول الشاعر: (مشطور الرجز)
235 ـــ إِنَّ مَعَ الْيَوْممِ أخَاهُ غدْوَا
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
الخامس: عطف النّسق(1/248)
ثم قلت: الخامِسُ: عَطْفُ النَّسَق، وهو بِالْوَاوِ لِمُطْلَققِ الْجَمْععِ، وبالْفَاءِ لِلْجَمْععِ والتَّرْتِيببِ والتَّعْقِيببِ، وبِثُمَّ لِلْجَمْععِ والتَّرْتِيببِ والمُهْلَةِ، وبِحَتَّى لِلْجَمْععِ والغَايَةِ، وبِأَممِ المُتَّصِلَةِ وهي: الْمَسْبُوقَةُ بِهَمْزَةِ التَّسْوِيَةِ أوْ بِهَمْزَة يُطْلَبُ بِهَا وبِأَممِ التَّعْيينُ، وهي في غَيْرِ ذَلِكَ (مُنْقَطِعَةٌ) مُخْتَصَّةٌ بِالْجُمَللِ ومُرَادِفَةٌ لِبَلْ، وقَدْ تُضَمَّنُ مَعَ ذَلِكَ مَعْنَى الهَمْزَةِ، وبِأَوْ بَعْدَ الطَّلَببِ لِلتَّخْييرِ أوِ الإبَاحَةِ، وبَعْدَ الْخَبَرِ للشَّكِّ أوِ التَّشْكِيككِ أوِ التَّقْسِيممِ، وبِبَلْ بَعْدَ النَّفْيِ أوِ النَّهْيِ لِتَقْرِيرِ مَتْلُوِّهَا وإثْبَاتتِ نَقِيضِهِ لِتَالِيهَا، كَلَكِنْ، وبَعْدَ الإثْبَاتتِ والأمْرِ لِنَقْللِ حُكْممِ مَا قَبْلَهَا لِمَا بَعْدَهَا، وبِلاَ للنَّفْيِ، وَلاَ يُعْطَفُ غَالِباً عَلَى ضَمِيرِ رَفْععٍ مُتَّصِللِ، ولا يُؤَكَّدُ بِالنَّفْسسِ أوْ بِالعَيْننِ إلاّ بَعْدَ تَوْكِيدِهِ بِمُنْفَصِللٍ أوْ بَعْدَ فَاصِللٍ مَا، وَلاَ عَلَى ضَمِيرِ خَفْضضٍ إلاّ بإعَادَةِ الْخَافِضضِ.(1/249)
وأقولُ: معنى كون الواو لمطلق الجمع: أنها لا تَقْتَضِي ترتيباً، ولا عَكْسَهُ، ولا مَعِيَّةً، بل هي صالحة بوضعها لذلك كله؛ فمثال استعمالها في مقام الترتيب قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالاْسْبَاطِ (النِّساء: الآية 163) } ومثال استعمالها في عكس الترتيب نحو: {وَعِيسَى وَأَيُّوبَ (النِّساء: الآية 163) }{كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ (الشّورى: الآية 3) }{اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ (البَقَرَة: الآية 21) }{اقْنُتِى لِرَبّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ (آل عِمرَان: الآية 43) }، ومثالُ استعمالها في المصاحبة نحو: {فَأَنجَيْنَهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ (الشُّعَرَاء: الآية 119) } ونحو: {فَأَخَذْنَهُ وَجُنُودَهُ (القَصَص: الآية 40) } ونحو: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَعِيلُ (البَقَرَة: الآية 127) }.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ومثالُ إفادة الفاء للترتيب والتعقيب، وثم للترتيب والمهلة قوله تعالى: ، فعطف الإقبار على الإماتة بالفاء، والإنشار على الإقبار بثم، لأن الإقبار يعقب الإماتة، والإنشار يتراخى عن ذلك.
ومعنى «حتى» الغاية، وغاية الشيء: نهايَتُهُ، والمرادُ أنها تعطف ما هو نهاية في الزيادة أو القِلّةِ، والزيادة إما في المقدار الحسي، كقولك: «تَصَدَّقَ فُلاَنٌ بالأعداد الكثيرة حتى الألوف الكثيرة» أو في المقدار المعنوي، كقولك: «مَاتَ النَّاسُ حتى الأنْبِيَاءُ» وكذلك القلة تكون تارة في المقدار الحسي، كقولك: «اللَّهُ ـــ سبحانه وتعالى ـــ يُحْصِي الأشْيَاء حتى مَثَاقِيلَ الذرِّ»، وتارةً في المقدار المعنوي، كقولك: «زَارَنِي النَّاسُ حتى الْحَجَّامُونَ».
و «أم» على قسمين: متصلة، ومنقطعة، وتسمى أيضاً منفصلة.(1/250)
فالمتصلة هي: المسبوقة إما بهمزة التسوية، وهي الداخلة على جملة يصحُّ حلولُ المصدر محلها، نحو: {سَوَآء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ (البَقَرَة: الآية 6) } ألا ترى أنه يصح أن يقال: سواء عليهم الإنذار وعَدَمُه، أو بهمزة يُطْلَبُ بها وبأم التعيين، نحو: «أزَيْدٌ في الدَّارِ أمْ عَمْرٌو» وسميت «أم» في النوعين متصلة لأن ما قبلها وما بعدها لا يُسْتَغْنَى بأحدهما عن الآخر.
والمنقطعة ما عدا ذلك، وهي بمعنى بَلْ، وقد تتضمن مع ذلك معنى الهمزة، وقد لا تتضمنه، فالأول نحو: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ (الزّخرُف: الآية 16) } أي: بل أتَّخَذَ، بهمزة مفتوحة مقطوعة للاستفهام الإنكاري، ولا يصح أن تكون في التقدير مجردة من معنى الاستفهام المذكور، وإلا لزم إثباتُ الاتخاذِ المذكور، وهو مُحال، والثاني كقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَتُ وَالنُّورُ (الرّعد: الآية 16) } أي: بل هل تستوي، وذلك لأن «أم» اقترنت بهل؛ فلا حاجة إلى تقديرها بالهمزة.h
و «أو» لها أربعة معان؛ أحدها: التخيير، نحو: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ (المَائدة: الآية 89) }، والثاني: الإباحة، كقوله تعالى: {وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَتِكُمْ (النُّور: الآية 61) }، وهذان المعنيان لها إذا وقعت بعد الطلب، والثالث: الشك، نحو: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ (الكهف: الآية 19) }، والرابع: التشكيك، وهو الذي يُعَبَّر عنه بالإبهام، نحو: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ (سَبَإ: الآية 24) }، وهذاننِ المعنياننِ لها إذا وقعت بعد الخبر.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب(1/251)
وأما «بل» فيعطف بها بعد النفي، أو النهي، ومعناها حينئذ: تقريرُ ما قبلها بحالِهِ، وإثباتُ نقيضه لما بعدها، نحو: «مَا جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو»، و «لاَ يَقُمْ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو» وبعد الإثبات أو الأمر، ومعناها حينئذ: نَقْلُ الحكم الذي قبلها للاسم الذي بعدها، وجَعْلُ الأول كالمسكوت عنه.
وأما «لكن» فلا يعطف بها إلا بعد النفي أو النهي، ومعناها كمعنى بل، وعن الكوفيين جواز العطف بها بعد الإثبات قياساً على بل، وأباهُ غيرهم لأنه لم يُسْمَع.
وأما «لا» فإنها لنفي الحكم الثابتتِ لما قبلها عما بعدها، فلذلك لا يعطف بها إلا بعد الإثبات، وذلك كقولك: «جَاءَنِي زَيْدٌ لاَ عَمْرٌو».
ومثالُ العطف على الضّمير المرفوع المتصل بعد التوكيد {لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَآؤُكُمْ فِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ (الأنبيَاء: الآية 54) }، ومثالُه بعد الفصل (بالمفعول) {يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ (الرّعد: الآية 23) }، فـ«مَنْ» عطف على الواو من «يدخلونها» وجاز ذلك للفَصْللِ بينهما بضمير المفعول، ومثالُ العطف من غير توكيد ولا فصل قولُ النبي صلى الله عليه وسلّم «كُنْتُ وأبو بكر وعُمَرُ»، و «فَعَلْتُ وأبُو بَكْر وعُمَر» وقول بعضهم: «مَرَرْتُ بِرَجُل سواءٍ والعَدَمُ» فـ«سواء» صفة لرجل، وهو بمعنى مُسْتَوٍ، وفيه ضمير مستتر عائد على رجل، و «العَدَمُ» معطوف على ذلك الضّمير، ولا يقاسُ على هذا، خلافاً للكوفيين.(1/252)
ومثال العطف على الضمير المخفوض بعد إعادة الخافض قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ (فُصّلَت: الآية 11) }{قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ (الأنعَام: الآية 64) }{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } (المؤمنون: الآية 22) ولا يجب ذلك خلافاً لأكثر البصريين؛ بدليل قراءة حمزة رحمه الله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ (النِّساء: الآية 1) } بخفض (الأرحام)، وحكاية قطرب: «ما فيها غَيْرُهُ وفَرَسِهِ».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
تابع المنادى
ثم قلت: فصل ـــ وإذا أُتْبِعَ المُنَادى بِبَدَللٍ أوْ نَسَققٍ مُجَرَّدٍ مِنْ «ألْ» فَهُوَ كالمُنَادى المُسْتَقِلّ مُطْلَقاً، وتابعُ المنادى المبني غَيْرَهُمَا يُرْفَعُ أوْ يُنْصَبُ؛ إلاّ تابعَ «أيَ» فَيُرْفَعُ، وإلاّ التَّابعَ المُضافَ المُجَرَّدَ مِن «أل» فَيُنْصَبُ كَتابععِ المعرب.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أحكام تابع المنادى
وأقول: لتوابع المنادى أحكام تخصها؛ فلهذا أفْرَدْتُهَا بفصل.
والحاصل أن التابع إذا كان بدلاً أو نسقاً مجرداً من «أل» فإنه يستحقُّ حينئذ ما يستحقُّه لو كان منادى، تقول في البدل: «يا زيدُ كُرْزُ» بالضم، كما تقول: «يا كرزُ» وكذلك: «يا عبدَ اللَّهِ كرزُ» وفي النَّسَق: «يا زيدُ وخالدُ» بالضم، كما تقول: «يا خالدُ» وكذلك: «يا عبدَ اللَّهِ وخالدُ» لا فرق في البابين المذكورين بين كون المنادى معرباً أو مبنياً.
وإن كان التابع غير بدللٍ ونَسَق مجرد من «أل» فإن كان المنادى مبنياً فالتابع له ثلاثة أقسام؛ ما يجب رفعه، وما يجب نصبه، وما يجوز فيه الوجهان:
فالواجب رفعه: نعتُ «أيَ» نحو: {يأَيُّهَا الإِنسَنُ (الانفِطار: الآية 6) }{يَأَيُّهَا النَّاسُ (البَقَرَة: الآية 21) } وعن المازني إجازة نصبه، وأنه قرىء: {قُلْ يَاأَيُّهَا الكَافِرِينَ} وهذا إن ثَبَتَ فهو من الشذوذ بمكان.(1/253)
والواجب نصبُه: التابعُ المضاف، مثاله في النعت نحو: «يا زيدُ صاحِبَ عَمْرو» ومثاله في التوكيد: «يا تميمُ كُلَّهُمْ» أو «كلَّكُمْ» ومثاله في البيان: «يا زيد أبا عبد الله».
والجائز فيه الوجهان: التابعُ المفردُ، نحو: «يا زيدُ الفاضلُ، والفاضلَ» و «يا تميمُ أجمعُونَ، وأجمعِينَ» و «يا سعيدُ كُرْزٌ، وكُرزاً» قال ذو الرمة:
231 ـــ لَقَائِلٌ يَا نَصْرُ نَصْرٌ نَصْراً
وإن كان المنادى معرباً تعين نصبُ التابع، نحو: «يا عبدَ الله صاحِبَ عَمْرو» و «يا بني تميم كُلّهُمْ» و «يا عبدَ اللَّهِ أبا زيدِ».
وإذا وجب نصب المضاف التابع للمبنيِّ فنصبه تابعاً لمعرب أحقُّ، قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوتِ وَالاْرْضِ (الزُّمَر: الآية 46) } ففاطر: صفة لاسم الله سبحانه، وزعم سيبويه أن نداءٌ (ثانٍ) حُذِفَ منه حرف النداء؛ لأن المنادى الملازم للنداء لا يجوز عنده أن يوصف، وكلمة «اللهمَّ» لا تستعمل إلا في النداء.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
باب موانع الصّرف
ثم قلت: باب ـــ مَوَانِعُ الصَّرْففِ تِسْعَةٌ يَجْمَعُهَا قولُهُ:
اجْمَعْ وَزِنْ عَادِلاً أَنِّثْ بمَعْرِفَةٍ
رَكِّبْ وَزِدْ عُجْمَة فالْوَصْفُ قد كمُلاَ(1/254)
فالتَّأنيثُ بالألففِ كَبُهْمَى وصَحْرَاءَ، والجَمْعُ المُمَاثِلُ لِمسَاجِدَ ومَصَابِيحَ، كلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَقِلُّ بالمَنْععِ، والبَوَاقِي مِنْهَا مَا لا يَمْنَعُ إلاّ مَعَ العَلَمِيَّة، وهو التَّأنيثُ كفاطِمَةَ وطَلْحَةَ وزَيْنَبَ؛ ويَجُوزُ في نحو: هِنْدٍ وَجْهَاننِ، بِخِلاَففِ نحو: سَقَرَ وبَلْخَ وَزَيْدَ لامْرَأة، والتَّرْكِيبُ المَزْجِيُّ كَمَعْدِيكَرِبَ، والعُجْمَةُ كإبْرَاهِيمَ وَمَا يمْنَعُ تَارَةً مَعَ العَلَمِيَّةِ وأُخْرَى مَعَ الصِّفَةِ، وهو العَدْلُ كعُمَرَ وزُفَرَ، وكمَثْنَى وثُلاَثَ وأُخَرَ مُقَابِلَ آخَرِينَ، والوَزْنُ كأحْمَدَ وأحْمَرَ، والزِّيَادَةُ كعُثْمَانَ وغَضْبَانَ، وشَرْطُ تأثِيرِ الصِّفَةِ أصَالَتُهَا وَعَدَمُ قَبُولها التَّاء، فأرْنَبٌ وصَفْوَانٌ بمعنى ذَلِيللٍ وقَاسسٍ ويَعْمَلٌ ونَدْمَانٌ مِنَ المُنَادَمَةِ مُنْصَرِفة. وشَرْطُ العُجْمَةِ كَوْنُ عَلَمِيَّتِهَا في العَجَمِيَّةَ والزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثَةِ، فَنُوحٌ مُنْصَرِفٌ، وشَرْطُ الوَزْننِ اخْتِصَاصُهُ بالفِعْللِ كشَمَّرَ وَضُرِبَ عَلَمَيْننِ، أوْ افْتِتَاحُهُ بزيادة هِيَ بالْفِعْللِ أوْلَى كأحْمَرَ وكأفْكَلَ عَلَماً.
وأقول: الأصل في الأسماء أن تكون منصرفة ـــ أعني مُنَوَّنة تنوين التمكين ـــ وإنما تخرج عن هذا الأصل إذا وُجد فيها علتان من علل تسع، أو واحدة منها تقوم مقامهما، والبيت المنظوم لبعض النحويين، وهو يجمع العلل المذكورة إما بصريح اسمها أو بالاشتقاق.
والذي يقوم مقام علتين شيئان: التأنيث بالألف، مقصورة كانت كبُهْمَى، أو ممدودة كصحراء، والجمع الذي لا نَظيرَ له في الآحاد ـــ أي: لا مفرد على وزنه ـــ وهو مَفَاعِلُ كمَسَاجِدَ، ومفاعيلُ كمصابيح ودنانيرَ، وإنما مثلت المقصورة ببُهْمَى دون حُبْلَى وللممدودة بصحراء دون حمراء لئلا يتوهم أن المانع الصفة وألف التأنيث كما توهم بعضهم.(1/255)
وما عدا هاتين العلتين لا يؤثر إلا بانضمام علة أخرى له، ولكن يشترط في التأنيث والتركيب والعجمة أن تكون العلة الثانية المجامعة لكل منهن العلمية، ولهذا صرفت صِنْجَةٌ وقائمةٌ، وإن وجد فيهما علة أخرى مع التأنيث، وهي العجمة في صنجة والصفة في قائمة، وما ذاك إلا لأن التأنيث والعجمة لا يمنعان إلا مع العلمية، وكذلك أذربيجان ـــ اسم لبلدة ـــ فيه العلمية والعجمة والتركيب والزيادة، قيل: وعلة خامسة وهي التأنيث؛ لأن البلدة مؤنثة، وليس بشيء؛ لأنا لا نعلم هل لحظوا فيه البقعة أو المكان، ولو قُدِّر خُلُوُّه من العلمية وجب صرفه؛ لأن التأنيث والتركيب والعجمة شرط اعتبار كل منهن العلمية كما ذكرنا، والألف والنون إذا لم تكن في صفة كسَكْرَان فلا تمنع إلا مع العلمية كسَلْمَان، ولا وصفية في أذربيجان؛ فتعينت العلمية، ولا علمية إذا نكرته؛ فوجب صرفه.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
ومثلت للتأنيث بفاطمة وطلحة وزينب لأبيِّن أنه على ثلاثة أقسام: لفظي ومعنوي، ولفظي لا معنوي، ومعنوي لا لفظي.
وأما بقية العلل فإنها تمنع تارة مع العلمية وتارة مع الصفة.
مثالُ العدل مع العلميَّة عُمَرُ وزُفَرُ وزُحَلُ وجُمَحُ ودُلَفُ؛ فإنّها معدولة عن عامر وزافر وزاحل وجامح ودالف، وطريق معرفة ذلك أن يُتَلقَّى من أفواههم ممنوع الصرف وليس فيه مع العلمية علةٌ ظاهرة؛ فيحتاج حينئذ إلى تكلف دَعْوى العدل فيه.(1/256)
ومثالُهُ مع الصفة أُحَادَ ومَوْحَد، وثُنَاءَ ومَثْنَى، وثُلاَث ومَثْلَثُ، ورُبَاعُ ومربع؛ فإنها معدولة عن واحد واحد، واثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، قال تعالى: {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَثَ وَرُبَعَ (فَاطِر: الآية 1) } فهذه الكلمات الثلاث مخفوضة لأنها صفة لأجنحة، وهي ممنوعة الصرف؛ لأنها معدولة عما ذكرنا؛ فلهذا كان خفضها بالفتحة، ولم يظهر ذلك في مثنى لأنه مقصور، وظهر في ثُلاَث ورُبَاع لأنهما اسمان صحيحاً الآخر، ومن ذلك «أُخَرُ» في نحو قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (البَقَرَة: الآية 184) } فأخر: صفة لأيام وهي معدولة عن آخَرَ ـــ بفتح الهمزة والخاء وبينهما ألف ـــ لأنها جمع أخرى أنثى آخَرَ بالفتح، وقياسُ فُعْلَى أفْعَلَ أن لا تستعمل إلا مضافة إلى معرفة أو مقرونة بلام التعريف، فأما ما لا إضافة فيه ولا لام فقياسُهُ أفعلُ كأفضل، تقول: «هندٌ أفضلُ» و «الهندات أفضل» ولا تقول فُضْلَى ولا فُضّل، فأما أُخَرُ فصفة معدولة؛ فلهذا خفضت بالفتحة، فإن كانت أُخَرُ جمع أخرى أنثى آخِرِ ـــ بكسر الخاء ـــ فهي مصروفة، تقول: «مررتُ بأوَّللٍ وأُخَرٍ» بالصرف، إذ لا عَدْلَ هنا.
ومثال الوزن مع العلمية أحْمَدُ ويزيدُ ويشكُرُ، ومع الصفة أحْمَرُ وأفْضَلُ، ولا يكون الوزن المانع مع الصفة إلا في أفعلَ، بخلاف الوزن المانع مع العلمية.
ومثال الزيادة مع العلمية سَلْمَانُ وعِمْرَانُ وعُثْمَانُ وأصْبَهَانُ، ومثالها مع الصفة سَكْرَان وغَضْبَان، ولا تكون الزيادة المانعة مع الصفة إلا في فَعلاَنَ، بخلاف الزيادة المانعة مع العلمية.(1/257)
ويشترط لتأثير الصفة أمران، أحدهما: كونها أصلية، فيجب الصرف في نحو قولك: «هذا قلبٌ صَفْوَانٌ» بمعنى قاسسٍ، و «هذَا رَجُلٌ أرْنَبٌ» بمعنى ذليللٍ، أي: ضعيف، والثاني: عدم قبولها التاء، ولهذا انصرف نحو: نَدْمَاننٍ وأرْمَللٍ؛ لقولهم نَدْمانة وأرْمَلَة، قال الشَّاعر: (الوافر)
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
236 ـــ وَنَدْمَاننٍ يَزِيدُ الكَأْسَ طِيباً
سَقَيْتُ وَقَدْ تَغَوَّرَتتِ النَّجُومُ
ويشترط لتأثير العجمة أمران؛ أحدهما: كون علميتها في اللغة العجمية؛ فنحو: لِجَاممٍ وفَيْرُوز ـــ عَلَميْن لمذكَّرين ـــ مصروف، والثاني: الزيادة على الثلاثة، فنوحٌ ولُوطٌ وهُودٌ ونحوهن مصروفة وَجْهاً واحداً، هذا هو الصحيح، قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } (الشُّعَرَاء: الآية 105) وقال تعالى: {وَقَوْمُ لُوطٍ وِأَصْحَبِ مَدْيَنَ} وقال تعالى: {أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (هُود: الآية 60) } وليس مما نحن فيه، لأنه عربي، وليس في أسماء الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام عربي غيره وغير صالح وشعيب ومحمد صلى الله عليه وسلّم وزعم عيسى بن عمر وابنُ قتيبة والجرجاني والزمخشري أن في نوح ونحوه وجهين، وهو مردود، لأنه لم يرد بمنع الصرف سماع مشهور، ولا شاذ.
وشرط الوزن كونه إما مختص بالفعل، أو كونه بالفعل أولى منه بالاسم، فالأول نحو: شَمَّرَ وضُرِبَ علمين، قال الشاعر: (الطّويل)
237 ـــ وَجَدِّيَ يَا حَجَّاجُ فَارِسُ شَمَّرَا
والثاني: نحو: أحْمَرَ صفة أو علماً، وأفْكَل علماً، والأفْكَل اسم للرِّعْدَةِ، فإن هذا الوزن وإن كان يُوجَدُ في الأسماء والأفعال كثيراً، ولكنه في الأفعال أولى منه في الأسماء، لأنه في الأفعال يدل على التكلم كأذْهَبُ وأنْطَلِقُ، وفي الأسماء لا يدل على معنى، والدالُّ أصل لغير الدَّالِّ.(1/258)
واعلم أن المؤنث إن كان تأنيثه بالألف كبُهْمَى وصَحْرَاء امتنع صَرْفه، ولم يحتج لعلة أخرى، وقد مضى ذلك، وقول أبي علي إن حمراء امتنع صرفه للصفة وألف التأنيث منتقض يمنع صرف صحراء.
وإن كان بالتاء امتنع صرفه مع العلمية، سواء كان لمذكر كطَلْحَة وحمزة، أو لمؤنث كفاطمة وعائشة، وقول الجوهري إن (هاوية) من قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } (القَارعَة: الآية 9) اسم من أسماء النار معرفة بغير الألف واللام خطأ؛ لأن ذلك يوجب منع صرفه.
وإن كان بغير التاء امتنع صَرْفُه وجوباً إن كان زائداً على ثلاثة كسعاد وزينب، أو ثلاثياً محرك الوسط كسَقَر ولَظَى، قال الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ } (المدَّثِّر: الآية 42) {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى } (المعَارج: الآية 15) أو ساكن الوسَطِ أعجميًّا كَمَاهَ وجُورَ وحِمْصَ وبَلْخَ ـــ أسماء بلاد ـــ أو عربياً ولكنه منقول من المذكر إلى المؤنث نحو: زيد وبكر وعمرو ـــ أسماء نسوة ـــ هذا قول سيبويه، وذهب عيسى بن عمر إلى أنه يجوز فيه الوجهان، وإن لم يكن منقولاً من المذكر إلى المؤنث فالوجهان كهِنْد ودَعْد وجُمْل، ومَنْعُ الصرف أولى، وأوجَبَه الزجاج، وقد اجتمع الوجهان في قوله:
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
238 ـــ لَمْ تَتَلَفَّعْ بفَضْللِ مِئزَرِهَا
دَعْدٌ، وَلَمْ تُسْقَ دَعْدُ فِي الْعُلَببِ
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
باب العدد(1/259)
ثم قلت: باب العَدَدِ ـــ الْوَاحِدُ والاِثْنَاننِ وَمَا وَازَنَ فَاعِلاً كَثَالِثثٍ والعَشَرَةُ مُرَكبَةً يُذَكَّرْنَ مَعَ المُذَكَّرِ ويُؤَنَّثْنَ مَعَ المُؤَنَّثثِ، والثَّلاَثَةُ والتِّسْعَةُ وَمَا بَيْنَهُمَا، مُطْلَقاً، والعَشَرَةُ مُفْرَدَةً، بِالْعَكْسسِ، وتَمْيِيزُ المِائَةِ وَمَا فَوْقَهَا مُفْرَدٌ مَخْفُوضٌ، والعَشَرَةِ مُفْرَدَةً وَمَا دُونَهَا مَجْمُوعٌ مَخْفُوضٌ، إلاّ المِائَةَ فَمُفْرَدَةٌ، وَكَممِ الْخَبَرِيَّةُ كَالعَشَرَةِ والمِائَةِ، والاسْتِفْهَامِيَّةُ المَجْرُورَةُ كالأحَدَ عَشَرَ والمِائَةِ، ولاَ يُمَيزُ الْوَاحِدُ والاِثْنَاننِ، و «ثِنْتَا حَنْظَلٍ» ضَرُورَةٌ.
وأقول: العدد في أصل اللغة اسم للشيء المعدود، كَالقَبَضضِ والنَّقَضضِ والْخَبَط، بمعنى المقبوض والمنقوض والمخبوط؛ بدليل: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (المؤمنون: الآية 112) } والمراد به هنا الألفاظ التي تُعَدُّ بها الأشياء.
والكلام عليها في موضعين؛ أحدهما: في حكمها في التذكير والتأنيث، والثاني: في حكمها بالنسبة إلى التمييز.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام الأعداد بالنسبة إلى التذكير والتأنيث
فأما الأول فإنها فيه على ثلاثة أقسام:(1/260)
القسم الأول: ما يذكَّرُ مع المذكر ويؤنث مع المؤنَّثُ دائماً، كما هو القياس، وذلك الواحد والاثنان، تقول في المذكر: واحد، واثنان، وفي المؤنث: واحدة، واثنتان، قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وحِدٌ (البَقَرَة: الآية 163) }{الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وحِدَةٍ (النِّساء: الآية 1) }{حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ (المَائدة: الآية 106) }{رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ (غَافر: الآية 11) } وكذلك ما كان من العدد على صيغة اسم الفاعل نحو ثالث وثالثة ورابععٍ ورابعةٍ، إلى عاشر في المذكر وعاشرة في المؤنث، قال الله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ (الكهف: الآية 22) } أي: هم ثلاثة أو هؤلاء ثلاثة. {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ (النُّور: الآية 9) } أي: والشهادة الخامسة.
القسم الثاني: ما يؤنَّثُ مع المذكر ويذكَّرُ مع المؤنث دائماً، وهو الثلاثة والتسعة وما بينهما، سواء كانت مركبة مع العشرة، أو لا، تقول في غير المركبة: ثَلاَثَةُ رِجَاللٍ، بالتاء، إلى تسعة رجال، قال الله تعالى: {ءايَتُكَ أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَثَةَ أَيَّامٍ (آل عِمرَان: الآية 41) } وتقول: ثلاثُ نِسْوَةٍ، قال الله تعالى: {ءايَتُكَ أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَثَ لَيَالٍ (مريَم: الآية 10) } وتقول في المركبة: «ثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلاً» بالتاء في ثلاثة، و «ثَلاَث عَشْرَةَ امْرَأةً» بحذف التاء من ثلاث، قال الله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } (المدَّثِّر: الآية 30) أي: مَلَكاً، أو خازناً.(1/261)
القسم الثالث: ما فيه تفصيل، وهو العشرة؛ فإن كانت غير مركبة فهي كالتسعة والثلاثة وما بينهما تذكر مع المؤنث، وتؤنث مع المذكر، وإن كانت مركبة جَرَتْ على القياس؛ فذكرت مع المذكر، وأنثت مع المؤنث، قال الله تعالى: {إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا (يُوسُف: الآية 4) }{فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا (البَقَرَة: الآية 60) } وتقول: «عندي إحْدَى عَشْرَةَ امرأة» و «أحَدَ عَشَرَ رَجُلاً».
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
أقسام الأعداد بالنّسبة إلى التمييز
وأما الثاني ـــ وهو التمييز ـــ فإنها فيه على أقسام خمسة:
أحدها: ما لا يحتاج لتمييز أصلاً، وهو الواحد والاثنان، لا تقول: واحد رجل، ولا اثنَا رجلين، وأما قوله: (الرّجز)
239 ـــ ... فِيهِ ثِنْتَا حَنْظَل
فضرورة.
والثاني: ما يحتاج إلى تمييز مجموع مخفوض، وهو الثلاثة والعشرة وما بينهما تقول: «عِنْدِي ثَلاَثَةُ رِجَالِ» و «عَشْرُ نِسْوَةِ» وكذا ما بينهما، ويستثنى من ذلك أن يكون التمييز كلمة «المائة» فإنها يجب إفرادها، تقول: «عِنْدِي ثَلاَثُمِائَةٍ» ولا يجوز «ثَلاَثُ مِئَاتٍ» ولا «ثَلاَثُ مِئينَ» إلا في ضرورة.
والثالث: ما يحتاج إلى تمييز مفرد منصوب، وهو الأحَدَ عَشَرَ والتِّسْعَةُ والتِّسْعُونَ وما بينهما، نحو: {إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا (يُوسُف: الآية 4) }{وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً (المَائدة: الآية 12) }{وَوعَدْنَا مُوسَى ثَلَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}{إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً (ص: الآية 23) } وأما قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَهُمُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا (الأعرَاف: الآية 160) } فليس (أسباطاً) تمييزاً، بل بدل من (اثنتي عشرة) والتمييز محذوف، أي: اثنتي عشرة فرقة.(1/262)
والرابع: ما يحتاج إلى تمييز مفرد مخفوض، وهو المائة والألف، تقول: «عِنْدِي مِائَةُ رَجُللٍ، وألفُ رَجُلٍ».
ويلتحق بالعدد المنتصب تمييزُهُ تمييزُ «كم» الاستفهامية، وهي بمعنى أيُّ عدد، ولا يكون تمييزها إلا مفرداً؛ تقول: «كم غُلاَماً عِنْدَك» ولا يجوز «كم غلماناً» خلافاً للكوفيين.
ويلتحق بالعدد المخفوض تمييزُ «كم» الخبرية، وهي اسم دال على عدد مجهول الجنس والمقدار: يُسْتَعمل للتكثير، ولهذا إنما يستعمل غالباً في مقام الافتخار والتعظيم، ويفتقر إلى تمييز يبين جِنْسَ المرادِ به، ولكنه لا يكون إلا مخفوضاً كما ذكرنا، ثم تارة يكون مجموعاً كتمييز الثلاثة والعشرة وأخواتهما، وتارة يكون مفرداً، كتمييز المائة والألف وما فوقها.
والخامس: ما يحتاج إلى تمييز مفرد منصوب أو مخفوض، وهو «كم» الاستفهامية المجرورة، نحو: «بِكَمْ دِرْهَممٍ اشْتَرَيْتَ» فالنصب على الأصل، والجر بمن مضمرة، لا بالإضافة، خلافاً للزّجاج.
اسم الكتاب: شرح شذور الذهب
وإنما لم أذكر في المقدمة أن تمييز «كم» الاستفهامية وتمييز الأحد عشر والتسعة والتسعين وما بينهما منصوب لأنني قد ذكرته في باب التمييز؛ فلذلك اختصرت إعادته في هذا الموضع من المقدمة.x
والحمد لله على إحسانه، وقد أتيت على ما أردتُ إيراده في شرح هذه المقدمة ولله ـــ سبحانه وتعالى ـــ الحمدُ والمِنَّةُ، وإياهُ أسأل أن يجعل ذلك لوجهه الكريم خالصاً مصروفاً، وعلى النفع به موقوفاً، وأن يغفر لي خطيئتي يوم الدين وأن يُدخِلَني برحمته في عباده الصالحين، بمنه وكرمه آمين، والصَّلاة والسلام على سيّدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.(1/263)