شرح خطبة عائشة أم المؤمنين في أبيها
لمحمد بن القاسم الأنباري
(327 هـ)
ويليه
مجموعة لخطب أم المؤمنين رضي الله عنها
جمعها وحققها
الدكتور صلاح الدين المنجد
دار الكتاب الجديد
لبنان
الطبعة الثانية
1400 هـ - 1980 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وسلم.
أخبرنا شيخنا الحافظ المتقن العالم العامل زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري الشافعي، أدام الله توفيقه، بقرآءتي عليه، في مجلسٍ واحدٍ يوم الثلاثاء السابع من شهر رمضان المعظم سنة سبعٍ وأربعين وست مئةٍ، بالمدرسة الكاملية من القاهرة.
قال: أنا الشيخ الجليل بقية المشايخ أبو عبد الله محمد بن حمد بن حامد ابن مفرّج الأرتاحِيُّ، إذناً، في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وخمس مئة.
قال: أنا الشيخ أبو الحسن علي بن الحسين بن عمر الفراء الموصلي، إجازةً.(1/17)
قال: ثنا أبو عبد الله الحسين بن عبد الله الأرموي، المعروف بابن الشُّوَيْخ، الفقيه بمصر، في جامعها، قراءةً منه علينا، في سنة ثمانٍ وعشرين وأربع مائة.
قال: أنا أبو العباس أحمد بن علي بن الحسن بن إسحاق بن جعفر البزاز الكسائي، بقراءتي عليه في المسجد الحرام، بين الحَطِيمَيْن، في ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربع مئة.
قال: أنا أبو يعلى أحمد بن عبيد الله بن الحسن النحوي.
قال: أملى علينا أبو بكر بن الأنباري محمد بن القاسم بن بشار.
قال: ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي.
قال: ثنا عبد الله بن عبد الخالق.
قال: ثنا يعقوب بن محمد الزهري.(1/18)
قال: ثنا (كذا) أبو زيد مولى آل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عن زيد بن أسلم.
قال أبو بكر الأنباري: وثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي.
قال: ثنا عبد الله بن موسى بن طاهر أو مطهّر -شك إسماعيل بن إسحاق-، عن أبيه، عن يعقوب بن محمد الزهري، -يزيد أحدهما على الآخر الحرف والحرفين، ولا يخلاّن بالمعنى- قالا:(1/19)
نص الخطبة (1)
بلغ عائشة رضي الله عنها أن قوماً ينالون من أبيها، رضي الله عنه. فأرسلت إلى أَزْفَلَةٍ (2) من الناس، فلما حضروا أسْدَلت ستارها وعَلَت وسادها ثم قالت:
أبي وما أبيه! أبي والله لا تَعْطُوه (3) الأيدي، ذاك طودٌ (4) مُنيفٌ (5) ، وظلٌّ مديدٌ، هيهات بعُدَت الظنون. أنجَحَ والله إذ أكْدَيتُم (6) ، وسبق إذ وَنَيْتُم (7) سبقَ الجواد إذا استوى على الأَمَد (8) .
__________
(1) تفسير الخطبة، قال أبو بكر الأنباري:
(2) الأزفلة: الجماعة.
(3) وتعطوه: تناوله.
(4) والطود: الجبل
(5) المنيف: المشرف
(6) وأكديتم: خبتم.
(7) وونيتم: فترتم وضعفتم. يقال: ونى يني، وونى يوني، بمعنى واحد.
(8) والأمد: الغاية. وفي الحديث ((ليس لعذاب الكافر أمد)) أي غاية وآخر.(1/20)
فتى قريشٍ ناشئاً، وكهفُها كهلاً، يَرِيش (1) مُمْلِقُها (2) ، ويرأبُ (3) شَعْبَها (4) ، ويَلُمُّ (5) شعثَها، ثم اسْتَشْرى (6) في دينه، فما برحت (7) شَكيمته (8) في ذات الله، حتى اتخذ بفنائه مسجداً يُحيي فيه ما أمات المبطلون.
كان والله غزير الدمعة، وقيذَ (9) الجوانح (10) شَجِيَّ (11) النّشيج (12) ، فأقصفَت (13) عليه نسوان أهل مكة وولدانهم
__________
(1) ويريش: يعطي ويفصل.
(2) والمملق: الفقير.
(3) ويرأب: يجمع ويلأم.
(4) والشعب: المتفرق.
(5) ويلم: يضم.
(6) واستشرى: احتد وانكمش.
(7) فما برحت: فما زالت.
(8) الشكيمة: الأنفة والحمية.
(9) والوقيذ: العليل.
(10) والجوانح: الضلوع القصار التي تقرب من الفؤاد.
(11) الشجي: الحزين.
(12) النشيج: صوت البكاء.
(13) وأقصفت: انثنت.(1/21)
يسخرون منه ويستهزئون به، {الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}.
وأكبرت ذلك رجالات قريشٍ، فَحنت قِسِيّها، وفَوّقتْ سهامها، وامتثَلَته (1) غَرضاً (2) . فما فَلّوا (3) له صفاةً (4) ، ولا قَصفوا له قناةً. ومضى على سيسائه (5) .
حتى إذا ضرب الدين بجرانه (6) ، ورست (7) أطواده، ودخل الناس فيه أفواجاً، ومن كل فرقةٍ أرسالاً وأشياعاً، اختار الله لنبيه ما عنده.
فلما قبض الله نبيه، صلى الله عليه وسلم ، اضطرب حبل
__________
(1) وامتثلته: مثلته ونصبته.
(2) والغرض: ما يقصد بالرمي.
(3) وفلوا: كسروا.
(4) والصفاة: الصخرة الملساء.
(5) ومضى على سيسائه: معناه على شدته. والسيساء عظم الظهر وحده، تضربه العرب مثلاً في شدة الأمر. قال الشاعر:
لقد حملت قيس بن عيلان حربنا ... على يابس السيساء، محدودب الظهر.
(6) والجران: الصدر. يقال للصدر الجران والبرك.
(7) ورست: ثبتت.(1/22)
الدين، ومرجَ (1) عهده، وماج (2) أهله، وبُغيَ الغوائل (3) ونُصبت له الحبائل، وظنّت رجالٌ أن قد أكْثَبَ نَهْزُها (4) ، ولات حين الذي يظنون (5) ، وأنى والصديق بين أظهرهم.
فقام حاسراً مشمراً، فرفع حاشِيَتَيْه، وجمع قُطْرَيْه (6) ، ولمّ شعثه بطبه (7) ، وأقام أوَدَهُ (8) بثِقافِه (9) ، حتى
__________
(1) مرج: اختلط.
(2) وماج أهله: اضطربوا وتنازعوا. قال: ثنا أبوبكر، ثنا الكديمي، قال: ثنا يحيى بن عمر الليثي، قال: ثنا مسلم بن قتيبة، عن وهب بن حبيب، عن أبي حمزة، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله تعالى {فهم في أمر مريج}، قال: مختلط. أما سمعت قول الشاعر:
فجالت والتمست به حشاها ... فخر كأنه خوط مريج
والخوط: الغصن، وجمعه خيطان.
(3) وقولها: وبغي الغوائل: معناه طلبت له البلايا التي تضعفه.
(4) وقولها: أن قد أكتب نهزها، معناه: قرب. والنهز: الاختلاس للشيء كيما يظفر به مبادرة.
(5) وقولها: ولات حين الذين يظنون، معناه: وليست الساعة حين ظفرهم.
(6) وقولها: فرفع حاشيتيه وجمع قطريه، معناه: بحزم في الأمور وجد. وتأهب وتشمر لنصرة الدين. والقطر: الناحية.
(7) والطب: الدواء.
(8) والأود: العوج.
(9) والثقاف: تقويم الرماح وغيرها.(1/23)
امْذَقرَّ (1) النفاق بوَطئِه، وانتاشَ الدينَ (2) فنعَشَه (3) ، وأراح الحق على أهله (4) ، وقرر الرؤوسَ على كواهلها (5) ، وحقن الدماءَ في أُهُبِها (6) .
فلما حضرته منيته سد ثُلْمَتَه بنظيره في المَعْدِلة وشقيقه في السيرة والمَرحمة. ذاك ابن الخطاب. لله در أمٍّ حَفلَت له (7) ، ودرّت عليه، لقد أَوْحدَت به (8) . ففتح الكفرة (9)
__________
(1) وامذقر: تفرق. وفي رواية غير إسماعيل القاضي: وابذعر النفاق. يقال: ابذعر الشيء وابذقر وامذقر، أي تفرق.
(2) وقولها: انتاش الدين، أزال عنه ما يخاف عليه.
(3) ونعشه: رفعه.
(4) فأراح الحق على أهله: أي أعاد الزكاة التي منعتها العرب، ثم ردت إلى حكم الله وسنة رسوله في أهلها لما قاتلهم.
(5) وقولها: وقرر الرؤوس على كواهلها، أي وقى المسلمين القتل، والكاهل: أعلى الظهر وما يتصل به.
(6) وحقن الدماء في أهبها، معناه: رفع القتال عن المسلمين. والأهب جمع إهاب. وهو الجلد. كنت به عن الجسد.
(7) وقولها: لله در أم حفلت له، معناه: جمعت اللبن لرضاعه، والشاة المحلفة: التي يجمع لبنها في ضرعها.
(8) وقولها: أوحدت به، أي جاءت به منفرداً لا نظير له في زمانه.
(9) قولها: ففتح الكفرة، أي غنم بلاد الكفار.(1/24)
ودَنَّخَها (1) ، وشرد الشرك شذَر مَذر (2) . وبَخَعَ الأرض فنَخَعها (3) ، حتى قاءت أُكُلها (4) ، ولفظَت خَبيّها. تَرأمُهُ (5) ويصد عنها، وتصدى (6) له ويأباها. ثم ظعن عنها على ذلك.
فأروني ما ترتابون، وأي يوميْ أبي تنقمون؟ أيوم مقامه إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه إذ نظر لكم؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ثم أقبلت على الناس بوجهها فقالت: أنشدكم الله هل أنكرتم مما قلت شيئاً؟ قالوا: اللهم لا.
__________
(1) ودنخها: أذلها وصغرها. وفي غير هذه الرواية: فديخها، بالياء، أي دوخها كما يقال: تصوح البقل وتصيح، أي تشقق.
(2) وقولها: شرد الشرك شذر مذر، أي أبعده. قال الله تعالى {فشرد بهم من خلفهم}، أي أوقع بهؤلاء ليسمع من خلفهم من الكفار فيفزع فيهرب فيتباعد عنك. ويقال: شردت القوم شذر مذر أي فرقتهم فلم أترك منهم أحداً.
(3) وقولها بخع الأرض: أي شقها، ونخعها: استقصى عليها. وفي غير هذه الرواية: وبعج الأرض، أي شقها.
(4) وقولها: حتى قاءت أكلها، تعني جبى خراجها، وأخرجت خيراتها وثمراتها.
(5) وقولها: ترأمه أي تعطف عليه.
(6) وقولها: تصدى له أي تعرض له.(1/25)
تمت خطبة عائشة رضي الله عنها وتفسير غريبها ولغتها والحمد لله وحده، وصلواته على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.(1/26)