كتاب شرح الصدر بذكر ليلة القدر
تأليف
الإمام ولي الدين بن الحافظ الزين العراقي
ضبط نصه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي حسن حلاق
مؤسسة الريان
الطبعة الأولى
1412 هـ - 1992 م(1/12)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نطقت بشكره الألسنة، وجل عن أن يأخذه نومٌ أو سنةٌ، وفضل أزمنةً كما فضل أمكنةً، فجعل ليلة القدر خيراً من ثلاثٍ وثمانين سنةً، فقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خيرٌ من ألف شهرٍ، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمرٍ. سلامٌ هي حتى مطلع الفجر}.
قال المفسرون: إن الضمير في أنزلناه عائدٌ على القرآن الكريم وإن لم يتقدم ذكره لدلالة المعنى عليه، كما قال تعالى: {حتى توارت بالحجاب}. ولم يتقدم للشمس ذكرٌ. ثم اختلفوا فقال عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما وجماعةٌ آخرون: أنزل الله تعالى القرآن ليلة(1/13)
القدر إلى سماء الدنيا جملةً واحدةً ثم نجمه على محمد عليه الصلاة والسلام في عشرين سنةً، فذاك قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم}. وقال الشعبي وجماعةٌ: إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك ليلة القدر، ويؤيده ما ذكره جماعةٌ: أن ابتداء مجيء جبريل إلى النبي عليه الصلاة والسلام كان في رمضان. قيل: في سابعه، وقيل: في سابع عشره، ومنهم من قال: ابتداء مجيئه إليه في شهر رجبٍ، ومنهم من قال: في ربيع الأول. وقيل في هذه الآية: إنما جعل الإنزال من رمضان؛ لأن جبريل كان يعارض النبي عليهما الصلاة والسلام بالقرآن فيمحو الله ما يشاء ويثبت. وقال جماعةٌ: المعنى أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفضلها فجعلوا (في) للسببية، كقول عمر رضي الله عنه ليلة نزول سورة الفتح:(1/14)
لقد خشيت أن ينزل في قرآن. وقول عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك: لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن. قالوا: ولما كانت سورة من القرآن جاء الضمير للقرآن تفخيماً وتجسيماً كقوله تعالى: {وما أدراك ما ليلة القدر} عبارة تفخيم لها كقوله تعالى: {الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة}، وقوله: {القارعة ما القارعة}، ثم أدراه تعالى بعد بقوله تعالى: {ليلة القدر خيرُ من ألف شهر}.
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن سفيان بن عيينة أنه قال: ما كان(1/15)
في القرآن: ((وما أدراك)) فقد أعلمه وما قال: ((وما يدريك)) فإنه لم يعلمه.(1/16)
وقد اختلف العلماء في سبب تسميتها ليلة القدر على أقوالٍ:
(أحدها): أنها سميت بذلك؛ لأن الله تعالى يقدر فيها الأرزاق والآجال وحوادث العالم كلها، ويدفع ذلك إلى الملائكة لتمتثله، كما قال تعالى: {فيها يفرق كل أمرٍ حكيم}. روي ذلك عن ابن عباسٍ وقتادة وغيرهما وعزاه النووي للعلماء. ومعناه: أنه يظهر للملائكة وإلا فتقدير الله تعالى قديم.
(ثانيها): أن هذا من عظم القدر والشرف والشأن كما تقول: فلان له قدر. روي عن الزهري.(1/17)
(ثالثها): سميت بذلك؛ لأنها تكسب من أحياها قدراً عظيماً لم يكن له قبل ذلك وتزيده شرفاً عند الله تعالى.
(رابعها): لأن العمل فيها له قدر عظيم. وقد خص الله تعالى هذه الأمة بهذه الليلة.(1/18)
واختلف في سبب ذلك فروى مالكٌ في الموطأ عمن يثق بقوله من أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله -أو ما شاء الله من ذلك- فكأنه تقاصر أعمار أمته: أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، خيرٌ من ألف شهرٍ. وروى الترمذي في جامعه عن يوسف بن سعدٍ قال: قام(1/19)
رجلٌ إلى الحسن بن عليٌ -بعدما بايع معاوية- فقال: سودت وجوه(1/20)
المؤمنين أو يا مسود وجوه المؤمنين، فقال: لا تؤنبني رحمك الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت: {إنا أعطيناك الكوثر} [يا محمد] يعني: نهراً في الجنة ونزلت {إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خيرٌ من ألف شهرٍ}. يملكها بعدك بنو أمية يا محمد. قال القاسم بن الفضل -أحد رواته- فعددناها فإذا هي ألف شهر، لا تنقص يوماً ولا تزيد يوماً. قلت نعم كان من سنة الجماعة إلى قتل مروان الجعدي آخر ملوك بني أمية هذا القدر أعني: ألف شهر، وهي ثمانون سنة وثلاث أعوامٍ وثلث عامٍ. وقال الترمذي: هذا حديث غريبٌ.(1/21)
قوله: {تنزل الملائكة والروح}.
فقيل: هو جبريل عليه السلام. وقيل: هم صنفٌ من الملائكة. وعلى كلا القولين هو عطفٌ خاصٌ على عامٍ، وقيل: هم صنفٌ من الخلق سماويٍ حفظةٍ على الملائكة، كما أن الملائكة حفظةٌ على بني آدم، وهم على صفة بني آدم ولا تراهم الملائكة.
وقوله: {بإذن ربهم} إلى آخره من قال: إن الأرزاق تقدر في هذه الليلة جعل نزول الملائكة بسبب ذلك، وجعل (من) سببيةً، التقدير: تنزل الملائكة بسب كل أمرٍ، وجعل (سلامٌ هي) ابتداء كلامٍ، أي: هي سلامٌ إلى طلوع فجر يومها. ومن لم يقل بتقدير الأرزاق في هذه الليلة جعل قوله: {من كل أمرٍ} متعلقاً بقوله سلامٌ، أي: أنها سلامٌ، أي: سلامة من كل أمرٍ. قال مجاهدٌ: لا يصيب أحداً بها داءٌ. وقال: الشعبي(1/22)
ومنصورٌ: هي سلامٌ بمعنى التحية، أي: تسلم فيها الملائكة على المؤمنين. وهذه الآيات مصرحةٌ بشرفها ومنوهةٌ باسمها، وذكرها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)). وفي سنن النسائي الكبرى (وما تأخر)، وكذا في مسند أحمد ومعجم الطبراني من حديث عبادة ((وما تأخر))، وسيأتي ذكره وهذه فضيلةٌ عظيمةٌ حاضةٌ على طلبها.(1/23)
وقد أجمع من يعتد به من العلماء على بقائها وأنها لم ترفع، بل هي باقيةٌ إلى آخر الدهر. قال القاضي عياضٌ رحمه الله: وشك قومٌ فقالوا: رفعت لقوله صلى الله عليه وسلم حين تلاحى الرجلان ((فرفعت)) وهذا غلطٌ من هؤلاء الشاكين؛ لأن آخر الحديث يرد عليهم، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ((فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في السبع أو التسع)). هكذا هو في أول صحيح البخاري. وفيه تصريح المراد برفعها رفع بيان علم عينها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها. (قلت): وحكاه ابن عطية عن أبي حنيفة وقومٍ أعني: القول برفعها. قال: وهذا قولٌ مردودٌ وإنما رفع تعيينها. انتهى.(1/24)
وقد اختلف العلماء في محلها فذهب جمعٌ من العلماء إلى أنها تلزم ليلةً بعينها واختلف هؤلاء في تعيين تلك الليلة على أقوالٍ:
أحدها: أنها في جميع السنة، وهو المشهور عن أبي حنيفة رضي الله عنه، ويشهد له قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ومن يقم الحول يصيبها. لكن في صحيح مسلمٍ عن زر بن حبيشٍ قال: سألت أبي بن كعبٍ فقلت: إن أخاك ابن مسعودٍ يقول: من يقم الحول يصيب ليلة القدر. فقال رحمه الله أراد أن لا يغفل الناس، أما إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين، فبهذا فهم أبي من كلام عبد الله. ويشهد له ما في مسند أحمد عن أبي عقرب قال:(1/25)
غدوت إلى ابن مسعودٍ ذات غداةٍ في رمضان فوجدته فوق بيته جالساً فسمعنا صوته وهو يقول: صدق الله وبلغ رسوله -فقلنا: سمعناك تقول صدق الله وبلغ رسوله- فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (([إن] ليلة القدر في [النصف من] السبع الأواخر [من رمضان] تطلع الشمس غداة إذ صافيةً ليس لها شعاعٌ)). فنظرت [إليها] فوجدتها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورواه البزار في مسنده بنحوه.
وفي معجم الطبراني عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال: ((أيكم يذكر ليلة القدر الصهباوات)). فقال عبد الله: أنا بأبي أنت وأمي يا رسول الله حين طلع الفجر وذلك ليلة سبعٍ وعشرين. والحديث في عدة كتبٍ، لكن لم أر(1/26)
التصريح بليلة سبعٍ وعشرين إلا في معجم الطبراني الكبير، فلذلك اقتصرت على عزوه إليه.
الثاني: أنها في شهر رمضان كله. وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما وجماعةٌ من الصحابة. وفي سنن أبي داود عن ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وأنا أسمع قال: ((هي في كل رمضان)). قال: قال أبو داود وروي موقوفاً عليه.
(قلت): الحديث محتملٌ للتأويل بأن يكون المعنى بأنها تتكرر وتوجد في كل سنةٍ في رمضان؛ لأنها وجدت مرةً في الدهر، فلا يكون له دليلٌ لهذا القول.
الثالث: أنها أول ليلةٍ من شهر رمضان. قاله: أبو رزينٍ العقيلي الصحابي رضي الله عنه.
الرابع: أنها في العشر الأوسط والأواخر. ويرده ما في الصحيح عن أبي سعيد من قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم لما أن اعتكف العشر الأوسط: ((إن الذي تطلب أمامك)).(1/27)
الخامس: أنها في العشر الأواخر فقط. ويدل له قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((التمسوها في العشر الأواخر))، وقوله صلى الله عليه وسلم : ((إني أعتكف العشر الأول ألتمس هذه الليلة. ثم ألتمس العشر الأوسط ثم أتيت قيل لي أنها في العشر الأواخر)).
السادس: أنها تختص بأوتار العشر الأواخر، لقوله صلى الله عليه وسلم : ((التمسوها في العشر الأواخر في وترٍ)).
وفي مسند أحمد ومعجم الطبراني الكبير عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليل القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر فإنها في وترٍ في إحدى وعشرين، أو ثلاثٍ وعشرين، أو خمسٍ وعشرين، أو سبعٍ وعشرين، أو تسعٍ وعشرين، أو في آخر ليلةٍ، فمن قامها ابتغاها إيماناً واحتساباً ثم وفقت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)). فيه عبد الله بن(1/28)
محمد بن عقيلٍ وحديثه حسنٌ. يرويه عمر بن عبد الرحمن، وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال: ليس بابن عوفٍ. وقال الطبراني: أظنه ابن الحارث بن هشامٍ.
وفي هذا الحديث فائدتان حسنتان: (إحداهما): قوله: ((وما تأخر)) وقد تقدم التنبيه عليها. (الثانية): أنه إنما يترتب الثواب على قيامها بقصد ابتغائها لا على مطلق القيام. وفيه إشكالٌ لقوله: (أو آخر ليلةٍ))؛ لأنه قال أولاً: (فإنها في وترٍ) وآخر ليلةٍ ليست وتراً إن كان الشهر كاملاً، وإن كان ناقصاً فهي ليلة تسعٍ وعشرين فلا معنى لعطفها عليها؛ لأن العطف يقتضي المغايرة. ويجاب عنه بأن قوله: (أو في آخر ليلةٍ) معطوفٌ على قوله: (فإنها في وترٍ) لا على قوله: (أو تسعٍ وعشرين) فليس تفسيراً للوتر، بل معطوفٌ عليه.
السابع: أنها تختص بشفاعه، لقول أبي سعيد الخدري: وقد قيل له: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ أما واحدٌ وعشرون فالتي تليها ثنتان وعشرون وهي التاسعة، فإذا مضت ثلاث ٌوعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضت خمسٌ وعشرون فالتي تليها الخامسة.
الثامن: أنها ليلة سبع عشرة. وهو مرويٌ عن: زيد بن أرقم وابن مسعودٍ أيضاًُ. ففي معجم الطبراني عن زيد بن أرقمٍ قال: ما أشك وما(1/29)
أمتري أنها ليلةً سبع عشرة ليلة أنزل القرآن ويوم التقى الجمعان.
وعن زيد بن ثابتٍ أنه كان يحيي ليلة سبع عشرة، فقيل له: تحيي ليلة سبع عشرة. قال: إن فيها نزل القرآن، وفي صبيحتها فرق بين الحق والباطل، وكان يصبح فيها مبتهج الوجه. قلت: وحكي أيضاً عن الحسن البصري.
التاسع: أنها ليلة تسع عشرة. وهو محكيٌ عن: علي بن أبي طالبٍ وابن مسعودٍ أيضاً.
العاشر: أنها تطلب ليلة سبع عشرة بتقديم سنين، أو إحدى وعشرين، أو ثلاثٍ وعشرين. حكي عن عليٍ وابن مسعود أيضاً. ويشهد له ما في سنن أبي داود عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال(1/30)
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر: ((اطلبوها ليلة سبع عشرة من رمضان، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين)). ثم سكت. والله أعلم.
الحادي عشر: أنها ليلة إحدى وعشرين. يدل له حديث أبي سعيدٍ الثابت في الصحيح، الذي فيه: وإني رأيتها ليلة وترٍ، وإني أسجد في صبيحتها في ماء ٍوطينٍ، فأصبح من ليلة إحدى وعشرين، وقد قام إلى الصبح فمطرت السماء، فوكف المسجد فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاته وجبينه وأنفه فيهما الماء والطين، وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر.
الثاني عشر: أنها ليلة ثلاثٍ وعشرين. وهو قول جمعٍ كثيرٍ من الصحابة وغيرهم، ويدل لها ما في صحيح مسلمٍ عن عبد الله بن أنيسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أريت ليلة القدر ثم أنسيتها [وأراني صبحها] أسجد في ماءٍ وطينٍ)). قال: فمطرنا ليلة ثلاثٍ وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه. وفي صحيح مسلمٍ أيضاً عن أبي هريرة قال: تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال: ((أيكم يذكر(1/31)
[حين] طلع القمر وهو مثل شق جفنةٍ)). وفي مسند أحمد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: نظرت إلى القمر صبيحة ليلة القدر فرأيته كأنه فلق جفنةٍ. قال أبو إسحاق السبيعي: إنما يكون القمر كذلك صبيحة ثلاث ٍوعشرين. ورواه عبد الله بن أحمد في زيادته عن علي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((خرجت ليلةً حين بزغ القمر كأنه فلق جفنةٍ)). فقال: ((الليلة ليلة القدر)). وكذا رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده مرفوعاً. وفيه أن الصحابي هو علي رضي الله عنه.
وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن أنيسٍ قال: قلت: يا رسول الله إن لي باديةً أكون فيها، وأصلي فيها بحمد الله، فمرني بليلةٍ أنزلها إلى هذا المسجد فقال: ((انزل ليلة ثلاثةٍ وعشرين)). وروى الطبراني في معجمه الكبير مثله عن عبد الله بن جحشٍ، عن أبيه مرفوعاً. وفي مسند(1/32)
أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتيت وأنا نائمٌ في رمضان، فقيل لي: إن الليلة ليلة القدر. قال: فقمت وأنا ناعسٌ فتعلقت ببعض أطناب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يصلي، فنظرت في تلك الليلة فإذا هي ليلة ثلاثٍ وعشرين. ورجاله رجال الصحيح. ورواه الطبراني في معجمه الكبير أيضاً.
الثالث عشر: أنها ليلة أربعٍ وعشرين. وهو مرويٌ عن: بلالٍ وابن عباسٍ والحسن وقتادة. وفي صحيح البخاري عن ابن عباسٍ موقوفاً عليه: ((التمسوها ليلة القدر في أربعٍ وعشرين)). ذكره عقب حديثه الآتي: ((هي في العشر الأواخر في تسع يمضين أو في سبعٍ يبقين)). وظاهره أنه تفسيرٌ للحديث فيكون عمدةً. وفي مسند أحمد عن بلالٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليلة القدر ليلة أربعٍ وعشرين)).
الرابع عشر: أنها تكون في ليلة ثلاث وعشرين، أو سبعٍ وعشرين. وهو محكيٌ عن: ابن عباسٍ رضي الله عنه، ويدل له ما في(1/33)
صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((هي في العشر الأواخر من تسعٍ يمضين أو في سبع يبقين -يعني: ليلة القدر-)).
وما في مسند البزار بإسنادٍ جيدٍ عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال: ((كنت أعلمتها ثم انفلتت مني فاطلبوها في سبعٍ يبقين أو ثلاثٍ يبقين)).
الخامس عشر: أنها ليلة سبعٍ وعشرين. وهذا عليه جمعٌ كثيرون من الصحابة وغيرهم، فكان أبي بن كعبٍ رضي الله عنه يحلف لا يستثني أنها ليلة سبعٍ وعشرين، كما هو ثابتٌ في الصحيح، فقيل له: بأي شيءٍ تقول ذلك يا أبا المنذر. فقال: بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشمس تطلع يومئذٍ لا شعاع لها.
وفي سنن أبي داود عن معاوية رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر قال: ((ليلة سبعٍ وعشرين)).
وفي مسند أحمد بإسنادٍ على شرط الشيخين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/34)
((من كان متحريها فليتحرها ليلة سبعٍ وعشرين)). وقال: ((تحروها ليلة سبعٍ وعشرين)). يعني: القدر. ورواه الطبراني في معجمه الكبير، وفي معجم الطبراني الأوسط بإسنادٍ لا بأس به عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((التمسوا ليلة القدر ليلة سبعٍ وعشرين)).
واستدل ابن عباسٍ على ذلك بأن الإنسان خلق من سبعٍ وجعل رزقه في سبعٍ، واستحسن ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه . واستدل بعضهم(1/35)
على ذلك بأن الله سبحانه وتعالى كرر ذكر ليلة القدر في السورة المتقدم ذكرها ثلاث مراتٍ، وعدد حروف ليلة القدر تسعة أحرفٍ، والمرتفع من ضرب ثلاثةٍ في تسعةٍ سبعٌ وعشرون، فتكريرها ثلاثاً دون غيره إشارةً إلى ذلك. واستدل أيضاً بأن عدد كلمات السورة إلى قوله هي سبعٌ وعشرون كلمةً. وفيه إشارةٌ إلى ذلك.
ونقل أبو محمدٍ بن عطية في تفسيره نظير ذلك في قول بعضهم: إن ملائكة النار الذين قال فيهم الله: {عليها تسعة عشر} عددهم كعدد حروف بسم الله الرحمن الرحيم، لكل حرفٍ ملكٌ وهم يقولون في كل أفعالهم: بسم الله الرحمن الرحيم. فيها قوتهم واستغاثتهم، وفي قول بعضهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل. ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، إنها بضعةٌ وثلاثون حرفاً، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :(1/36)
((لقد رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها)). قال ابن عطية: وهذه من ملح التفسير وليست من متين العلم.
السادس عشر: أنها في آخر ليلةٍ من الشهر.
وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن أنيسٍ قال: كنت في مجلس بني سلمة وأنا أصغرهم، فقالوا: من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وذلك صبيحة إحدى وعشرين من رمضان. فخرجت فوافيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب، وقمت بباب بيته فمر بي فقال: ((ادخل)). فدخلت، فأتي بعشائه فلقد كنت أكف يدي عنه من قلته، فلما فرغ قال: ((ناولني نعلي)). فقام وقمت معه، فلما خرجنا قال: ((كانت لك حاجة))؟ فقلت: أجل أرسلني إليك رهطٌ من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر. فقال: ((كم الليلة))؟ قلت: اثنتان وعشرون. قال: ((هي الليلة))، ثم رجع فقال: ((أو القابلة)) يريد ليلة ثلاثٍ وعشرين.
وفي جامع الترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: ما أنا ملتمسها لشيءٍ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر(1/37)
الأواخر؛ فإني سمعته يقول: ((التمسوها لتسعٍ بقين أو لسبعٍ بقين أو خمسٍ بقين أو ثلاثٍ أو آخر ليلةٍ)). قال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ.
وفي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى رجلان فلانٌ وفلانٌ فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)).
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر، في تاسعةٍ تبقى في سابعةٍ تبقى في خامسةٍ تبقى)).
وفي مسند أحمد عن معاذ بن جبلٍ: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ليلة القدر فقال: ((هي في العشر الأواخر قم في الثالثة أو الخامسة)).
وفي مسند أحمد أيضاً بإسنادٍ جيدٍ عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: ((إنها ليلة سابعة أو تاسعة عشرين إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد النجوم)).
وفي معجم الطبراني الأوسط عن(1/38)
أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوا ليلة القدر في سبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين أو ثلاثٍ وعشرين أو خمسٍ وعشرين أو سبعٍ وعشرين أو تسعٍ وعشرين)). وفيه أبو المهزم ضعيفٌ.
وقد تضمنت هذه الأحاديث أقوالاً في ليلة القدر، لم أر أحداً من العلماء صرح بالقول. فيها، فإن عددناها فيكون في المسألة اثنان وعشرون قولاً تقدم بيان ستة عشر منها.
السابع عشر: ليلة اثنين وعشرين أو ثلاثٍ وعشرين.
الثامن عشر: ليلة إحدى أو ثلاثٍ أو خمسٍ أو سبعٍ وعشرين أو آخر ليلة.
التاسع عشر: ليلة إحدى أو ثلاثٍ أو خمسٍ وعشرين. دليله حديث عبادة المتقدم، فإن الظاهر أن المراد بالتاسعة تبقى لتقديمه التاسعة على السابعة وهي الخامسة.
العشرون: ليلة ثلاثٍ أو خمسٍ وعشرين. دليله حديث معاذٍ المتقدم، إذ الظاهر أن المراد قم في الثلاثة بمعنى لتقديمه على الخامسة.
الحادي والعشرون: ليلة السابع أو التاسع والعشرين.
الثاني والعشرون: أنها في أوتار العشر الأخير أو في ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة. هذا كله تفريعٌ على القول بأنها تلزم ليلةً بعينها، كما(1/39)
هو مذهب الشافعي. والصحيح من مذهبه أنها تختص بالعشر الأخير، وأنها في الأوتار أرجاها في الأشفاع وأرجاها ليلة الحادي والعشرين والثالث والعشرين، وهذا أيضاً يحسن أن يكون قولاً في المسألة فيكمل به الأقوال ثلاثةً وعشرين قولاً، وتقدم قول من يرى أنها رفعت فيكون أربعةً وعشرين قولاً.(1/40)
وذهب جماعةٌ من العلماء إلى أنها تنتقل فتكون سنةً في ليلةٍ وسنةً في ليلةٍ أخرى وهكذا. وهذا قول مالكٍ، وسفيان الثوري وأحمد بن حنبلٍ، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وغيرهم. وعزاه ابن عبد البر في(1/41)
الاستذكار للشافعي، ولا نعرفه عنه ولكن قال به من أصحابه: المزني وابن خزيمة. وهو المختار عند النووي وغيره للجمع يبن الأحاديث الواردة في ذلك، فإنها اختلفت اختلافاً لا يمكن معه الجمع بينهما إلا بما ذكرناه وبه يصير في المسألة خمسةٌ وعشرون قولاً.
وذهب ابن حزمٍ الظاهري إلى انحصارها في أوتار العشر الأخير، لكن أول العشرين ليلة العشرين إن كان ناقصاً، وليلة الحادي والعشرين إن كان تاماً، فهي مترددةٌ بين ليلة الحادي والعشرين وما بعدها من الأوتار إن تم الشهر، وبين ليلة العشرين وما بعدها من الأشفاع إن نقص الشهر، وهذا قولٌ سادسٌ وعشرون.
واعلم أن ليلة القدر موجودةٌ ويريها الله تعالى لمن شاء من بني آدم بحيث يتحققها. وأخبار الصالحين برؤيتهم لها كثيرةٌ ولا يلتفت إلى قول المهلثة أي: صغيرةٍ لا يمكن رؤيتها حقيقةً فإنه غلطٌ فاحشٌ، كما قاله النووي رحمه الله.
وقال بعض العلماء: أخفى الله هذه الليلة عن عباده كيلا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها، فأراد منهم الجد في العمل أبداً. فإنهم لذلك خلقوا، كما قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. وبهذا يصير في المسألة سبعةٌ وعشرون قولاً.
ويدل لهذا القول ما في معجم الطبراني الكبير بإسنادٍ حسنٍ عن(1/42)
عبد الله بن أنيسٍ أنه قال: يا رسول الله أخبرني أي ليلة تبتغي فيها ليلة القدر؟ فقال: ((لولا أن يترك الناس الصلاة إلا تلك الليلة لأخبرتك)).
وفي مسند البزار عن الأوزاعي: حدثني مرثد أو أبو مرثدٍ، عن أبيه قال: لقيت أبا ذرٍ عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحدٌ بأسأل لهذا مني، قلت: يا رسول الله أنزلت على الأنبياء [توحى إليهم ثم ترفع] قال: ((بل هي إلى يوم القيامة)). قلت: يا رسول الله [أيتهن هي] قال: ((لو أذن لي لأنبأتك بها، ولكن التمسها في التسعين أو السبعين ولا تسألني بعدها)). قال: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يحدث، قلت: يا رسول الله [في أي السبعين] فغضب علي غضبةً لم يغضب علي قبلها ولا بعدها مثلها ثم قال: ((ألم أنهك عنها لو أذن لي لأنبأتك بها)) وذكر كلمةً أن تكون في السبع الأواخر)).(1/43)
فصل [في علامات ليلة القدر]
قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر علاماتٍ ليلة القدر تقدم ذكر واحدٍ منها، وهي كون الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها وهي أصح العلامات.
وفي مسند أحمد بإسنادٍ جيدٍ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن أمارات ليلة القدر أنها صافيةٌ بلجةٌ كأن فيها قمراً ساطعاً ساكنةٌ ساجيةٌ لا برد فيها ولا حر ولا محل لكوكبٍ يرمي بها، حتى يصبح، وإن من أماراتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستويةً ليس لها شعاعٌ مثل القمر ليلة البدر لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذٍ)).
وقد ذكر القاضي عياضٌ رحمه الله قولين في كونها تطلع لا شعاع لها:(1/44)
(أحدهما): أنها علامةٌ جعلها الله تعالى.
(ثانيهما): أن ذلك لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها ونزولها إلى الأرض وصعودها بما تنزل به سترت بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس وشعاعها.
وفي معجم الطبراني الكبير عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليلة القدر بلجةٌ لا حارةٌ ولا باردةٌ ولا سحاب فيها ولا مطر ولا ريح ولا يرمى فيها بنجمٍ ومن علامة يومها تطلع الشمس ولا شعاع لها)). فيه بشر بن عونٍ وبكار بن تميمٍ وهما ضعيفان.
وفي مسند البزار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ليلة القدر طلقةٌ لا حارةٌ ولا باردةٌ)). فيه مسلمة بن حبان وغيره وتكلم فيه. فإن قلت فقد روى الطبراني في معجمه الكبير(1/45)
من رواية شريكٍ عن سماك بن حربٍ، عن جابر بن سمرة يرفع الحديث قال: قال: ((رأيت ليلة القدر فأنسيتها فاطلبوها في العشر الأواخر وهي ليلة ريحٍ ومطرٍ ورعدٍ)). ورواه البزار بنحوه.
ويوافقه حديث أبي سعيدٍ الذي فيه: فوكف المسجد فأبصرت عيناي النبي صلى الله عليه وسلم وعلى وجهه أثر الماء والطين.
قلت: هذا تقرر عندك وما اخترناه من أنها لا تلزم ليلةً بعينها، بل تنتقل فلعلها كانت في سنةٍ ساكنةٍ ليس فيها ريحٌ ولا مطرٌ والله أعلم.
تم بحمد الله وعونه وحسن توفيقه.
وحسبنا الله ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان الفراغ من ذلك في يوم الأحد المبارك ثاني عشرين من شهر رمضان المعظم من شهور سنة ألفٍ ومائةٍ وسبعٍ وثلاثين من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام والحمد لله وحده.(1/46)