الدمشقي نزيل دار الخلافة قسطنطينية الشهم الفاضل اشتغل بطلب العلم مع صنعة التجارة وأخذ الطريقة الخلوتية عن السيد محمد العباسي هو والعلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن المجلد الدمشقي وصحب الولي الشيخ عيسى بن كنان الصالحي وقرأ على غيرهما وذهب إلى الروم ووقعت له رؤيا قبل ذهابه وهي إنه لما توفي شيخه السيد محمد العباسي الخلوتي في ربيع سنة أربع وسبعين بعد الألف وأقام مكانه الشيخ عيسى الخلوتي ابن كنان نام في ليلة وفاته حزيناً لموته كئيباً لا يدري كيف يتوجه فرأى في عالم الرؤيا إنه داخل إلى التربة وإذا بقبر الشيخ مفتوح وهو جالس على ركبه واضع يديه على ركبتيه متوكأ عليهما وكان رآه في حال حياته كذلك فلما رآه قال له يوسف بحذف النداء أخذت علي عيسى خذ علي عيسى فإني خلفته فاستيقظ وكان ذلك الوقت آخر الليل فتوضأ وذهب إلى عند الشيخ عيسى بن كنان للمدرسة السميساطية فرأى ضوءه مشعولاً فطلع إلى خلوته فرآه يصلي التهجد فوقف إلى أن فرغ من الصلاة فقال له لولا يرسلك السيد محمد العباسي ما جئت إلى عندنا اجلس فجلس فبايعه وأخذ عنه العهد ثم في ثاني ليلة رأى نفسه داخلاً إلى التربة المدفون بها شيخه العباسي وقبره مفتوح والشيخ جالس على الهيئة التي سبق ذكرها فقال له يوسف أخذت علي عيسى قال نعم يا سيدي فقال أسعدك الله ثم بعد ذلك أخذته يد التقدير إلى الروم ولما وصل إليها سكن في حجرة في بعض المدارس غريباً فقيراً لا أحد يلتفت إليه إلى مدة أربعة أشهر فبينما هو في بعض الأيام جالس وإذا بعبد أسود عليه رونق يقول أين يوسف الشامي فلم يجبه وظن أنه يطلب أحداً من الأروام ولم يخرج إليه فقال ثانياً يوسف الشامي الذي جاء من الشام منذ أيام فأشاروا له إلي فلما رآني قال لي كلم مولاي فقام معه إلى أن وصل إلى دار فلما دخل على صاحبها استقبله وعانقه وسلم عليه سلام مودة وصحبة بالغة وأمره أن يقرئ أولاده القلبية وأمره أن يجئ بأسبابه التي في المدرسة وفرش له أوضة حسنة وعين له خادماً وعلوفة في كل شهر ورقاه بالمناصب إلى أن أعطى المترجم قضاء بير الأغراض ثم برصا ثم قبرص فرحل إليها وبعد مضي مدته قدم إلى دمشق لوطنه الأصلي زيارة فصادفه التقدير بأن توفي بها وكانت وفاته في يوم الأثنين لعشرين من صفر سنة اثنتي عشرة ومائة وألف وصلى عليه الشيخ عثمان القطان بالجامع الأموي ودفن بتربة الشيخ أرسلان رحمه الله تعالى.
يوسف الديري
ابن شبلي الديري الشافعي الشيخ الفاضل الفقيه البارع الصالح أبو المحاسن جمال الدين نزيل دمشق أخذ الفقه عن النور علي الكاملي والعربية عن ولده الشمس محمد وكتب له إجازة مطولة وقفت عليها مؤرخة بأواخر شوال سنة اثنتين وثمانين وألف وبرع وحصل وصار له الفضل التام وكانت وفاته في أوائل هذا القرن رحمه الله تعالى.
يوسف أفندي الذوق
ابن عمر بن عبد الله الحنفي الطرابلسي الشهير بالذوق الشيخ الفاضل العالم البارع الأديب الشاعر المتصوف ولد في سنة خمس وعشرين ومائة وألف ونشأ في عفة وديانة وطلب العلم فأخذ عن جماعة في بلدته منهم الشيخ محمد التدمري وعبد الحق المغربي والشيخ علي الاسكندري والشيخ عبد الله الخليلي ورحل إلى الأزهر وأخذ به عن جملة من شيوخه ومن جملة شيوخه الشيخ إبراهيم الحلبي نزيل قسطنطينية ثم ذهب إلى بلاد الروم واجتمع بأساتذة كبار القدر في العلوم ومدة إقامته في قسطنطينية عند عبد الرحمن أفندي عرب زاده صدر أناطولي وبعد انتقاله إلى رحمة الله تعالى رجع المترجم إلى بلدته طرابلس ولم يتعرض لمنصب ولا رتبة وقد أرسل له محمد أفندي بيري زاده شيخ الاسلام ملازمة مفصولة عن قضاء فلم يعمل بها ولا تعرض لموجبها وأبقاها عنده في كوة النسيان وله شعر كثير يغلب فيه لسان أهل الحقيقة منه هذه القصيدة أخبر هو عنها إنه بعدا كمالها رأى حضرة قطب العارفين الشيخ عبد الغني النابلسي في المنام فقال له بعد أن أنشدت بين يديه متى عملتها أو نظمتها فقال له يا سيدي بعد أن طالعت شرح الفصوص فقال له أبشرك بكذا أو لك البشارة بكذا وهي هذه
بحلت فجلت عن شبيه صفاتها ... وعزت علاء أن ترى لك ذاتها
عزيزة حسن مهرها النفس هكذا ... روى عن علاها في التجلي رواتها(2/221)
فمن لم يجد بالنفس لم يدر ما اللقا ... ولا عبقت في أنفه نفحاتها
ومن يدعي مع نفسه وصل عزة ... فهاتيك عزاها لدينا ولاتها
بروض تجليها لدى سحب جودها ... بكى مزنها فاستضحكت زهراتها
بها عين تسنيم الحقائق مورد ... وعن ذوقها يروى شذاها سقاتها
فلا تغمضنها إن رأت وأكحلنها ... بمرود تقواها يفور فراتها
فنيل العلا من ذي العلا وأبيك لا ... إذا حث نجب اليعملات حداتها
وسر حيث جوّ الجود صحو وبحره ... لفلكك وهو ما سرت نسماتها
فإن ظفرت يمناك منها بنائل ... حمته بأسياف الرموز حماتها
وقد عبقت من طيبها أفق الحشا ... وضاء بشمس الراح صاح فلاتها
فلا تخش بأساً أن سكرت بخمرها ... فقد حكمت بالحل فيها قضاتها
وكن خير راو غير غاو بثمرها ... تريك مقاليد المعالي هداتها
فما آفة الأخيار إلا غواتها ... وما آفة الأخبار إلا رواتها
وكذلك له قصيدة في الحقيقة المحمدية على طريقة أهل الحقائق من الصوفية جوزي عليها بخلعة سنية من الحضرة النبوية في مبشرة رآها في منامه بين يقظته وأحلامه وهي هذه
لمحت لنا من نورها لمحاتها ... فتضوّعت من نورها نفحاتها
ذات الجمال ولا جمال لغيرها ... إذ تجتلي مذ تنجلي مرآتها
في غيهب الأكوان لما إن بدت ... فوق المنصة أسفرت وحداتها
ولها تضاءلت الفهوم وكيف تد ... ري شأوها أو شأنها لمحاتها
فالعرش والكرسيّ والفلم الذي ... يجري على لوح الوجود هباتها
منها على الكونين أصل سيادة ... لملا تحلت بالتجلي ذاتها
وغدت تصوّر فيض ذلك فيهما ... وعليهما وإليهما جلواتها
فوسائط الكونين والثقلين مذ ... وجدوا لديهم كلهم بركاتها
ودعاء نوح قومه بنيابة ... عنها لتبلغ في الورى دعواتها
وكذلك الرسل الكرام جميعهم ... نوّابها وكلامهم كلماتها
فهم وإن كانوا لها آباً فهم ... أبناؤها وبحارهم قطراتها
من لي بنفحة طيبها في طبها ... لفتى كسته لينها عذباتها
أو رشفة من ثغره يحيى بها ... من أرض ذلة ما جنيت مواتها
أو رشف ما أبقاه أو أبقاه من ... أسقاه أو من قد سقته سقاتها
كيما يفوز بذوقها متعطش ... أو ينعش المضنى بها نسماتها
فصلاة مولانا عليها دائماً ... وكذا علينا من عطاه صلاتها
وله هذه القصيدة يمدح بها شيخه الروحاني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله تعلى سره
رويدك حادي اليعملات فما أقوى ... على حث نجب يممت طللاً أقوى
وحاك روياً قد حكى نثر أدمع ... كنظم روى قد تخلى عن الأقوا
لعل بريقاً عندما سح مدمعي ... وأرعدني شوقي يلوح به رضوي
أساوق آمال الأماني به كما ... تساوقني وعدا وتسبقني عدوا
لساحل بحر ساجل المزن كفه ... بفك عرى قد زرّرتها يد البلوى
خضم بعيد الغور لكن بمدّه ... تشق لنا منه عيون ولا غروا
جناب أظلته سحاب مدائح ... على ثقة منه فأمطرت الجدوى
له مدّت العلياء أيدي فنالها ... كما نالت الآمال منه يد الشكوى
هو القطب عبد القادر العلم الذي ... له نشر طيب في الورى لم يكن يطوى
هو الفرد محيي الدين أحيى بجدّه ... دوارس علم كان عن جدّه يروى
وإني لتعروني لذكراه هزة ... كما اهتز صب رنحته صبا الأهوا
لقد قال حقاً في الملا قدمي على ... رقاب الأولى نالوا الولاية لا دعوى(2/222)
أذيب لأهل الأرض في الماء حبه ... كما آل بيت من محبته الأسوا
فمن رامه أورى زناد حرامه ... بحاجاته من نيل سعدي ومن أروى
على نهج من سر به سر به على ... مطية حب تصعد السرّ بالنجوى
وبارك لأقداح تراءت كأنجم ... روت عرف راح من معانيه لا يروى
وهيهات أن تدنو لمن كان أو لمن ... يكون ولو في غفلة بلغ القصوى
وذق من لماها واغتبق خمر حانها ... فطوبى لذوق من لمى ثغر من يهوى
فأكرم به من مفرد في محاسن ... نسيج سداها حيك من لحمة التقوى
عليه سلام من سلام معطر ... بمسك ختام كي يكون له كفوا
وله قصائد في مدح القطب العيسوي السيد أحمد البدوي قدس سره منها هذه وهي قوله
أسير الهوى مهلاً فقيد الهوى غلّ ... بعنق نفوس مدها الحقد والغل
إلى م ترى طباً هوى النفس طيباً ... وحتى م تستشفي به وهو معتلّ
عليك بأقداح أدارت رحيقها ... ثغور الشفاه اللعس والأعين النجل
تبدّت على نجم من البدو حبذا ... لقا بدويات يحجبن من قبل
شربن بما بحر العلوم أبى الهدى ... مغيث الورى إذ حف أرضهم المحل
أمامي أبي فرّاج أنى توجهت ... له النجب تلقا مدين تلقه جمل
هو البدويّ الفرد أحمد من له ... على كل من قوّام ساحته فضل
هو العيسويّ القطب والعلوي الذي ... إذا مثلت أوصافه ماله مثل
وإني لتعروني لذكراه هزة ... كما اهتز غصني البان بلله الوبل
ومذ جنّ ليلى واستجنت مآربي ... خلعت له باب الحيا إذ عصى القفل
مجانين إلا أن سرّ جنونهم ... عزيز على أبوابهم يسجد العقل
كؤس أدارتها شموس تبرقعت ... بسحب حيا يسقى القلوب فتخضل
بدور لهم منهم عليهم شواهد ... لدى الذوق إذ في فصل أحكامه عدل
وله قصيدة مدح بها قطب العارفين الشيخ محيي الدين العربي قدس الله تعالى سره منها قوله
مرج بجلق كالفردوس منظره ... جل الذي ببساط البسط جمله
قد رصعت بلآلئ النور تربته ... كأنه أفق والنجم كلله
صرحا سليمان للأعجاب مدّ به ... كأنه للقا بلقيس أهله
ألم تر الشرف الأعلى يمدّ له ... يداً وبحر علوم الدين قابله
فأدخل جنان معانيه تفز وترى ... حور المباني تداني من يمدّ له
وله تذييل بيتي العفيف التلمساني وتخميسهما على طريق السادة الصوفية رضي الله عنهم
إلا أن طوري من تجلى مكوّني ... تصدع فانشقت عيون تفنني
ومذ ظهرت بالدمع عين تعيني ... نظرت إليها والمليح يظنني
نظرت إليه لا ومبسمها الألمى
لقد فاح في الوادي المقدس عرفها ... وألبسنا ثوب المعارف عرفها
فما لمليح حسن سلمى ولطفها ... ولكن إعارته التي الحسن وصفها
صفات جمال فأدعى ملكها ظلماً
لقد عز من ذوق المعاني أولو النهي ... وذل بأفكار المباني ذوو الدها
فإن كنت منا أولها متوجهاً ... فول لها وجهاً ترى الحسن والبها
صفات لها حقاً وفي غيرها أسما
وله عند دخوله لثغر حماة المحروسة
حماة حماة قد أبادوا العدا على ... صواهل جرد دأبها طلب القاصي
ومدّوا رواق الأمن فيها لطائع ... وقد دار قهراً في أزقتها العاصي
وله في فسطاط مضروب على حافة البحر وفيه صديقة السيد إبراهيم أفندي
أنظر لموج البحر فوق الشط في ... حركاته مذ مدّ يحكي عسكرا
لمقام إبراهيم يأتي لائذاً ... صفاً فصفاً ثم يرجع قهقري
فكأنه قد جاءه مستنجداً ... ومقبلاً من تحت أرجله الثرى
وكتب إلي وأنا في طرابلس الشام(2/223)
لقد قيل فيم النظم منك لأوجه ... تقلب في جوّ المعاني لكي يزهو
فقلت مرادي سيد وابن سيد ... خليل مزايا ماله في الورى شبه
لئن قيس من ساواه في فضل رتبة ... ففي الفضل لم يوجد لجوهره كنه
ففي كل رمز فيه شرح لحمده ... وفي كل وجه فيه رمز له منه
فأعجب بمن من رمزه شرح مدحه ... وأغرب بمن من حسنه كله وجه
وكتب إلي أيضاً
أخو العلم فيما همّ أو أمّ تلقاه ... لمدين ما يرجوه يمم تلقاه
فيقصر ممدود الأماني لنيله ... وإن كان يلقيه بذلة دعواه
لكل مراد قد توخاه جهده ... وأما مرادي عزماً قد توخاه
فنال به علماً يعزا طلابه ... بعيد على أبناء ذا العصر أدناه
تخلل فيه حبه فغدا به ... خليلاً وهل يخفي الخليل خباياه
وإن كان يخفي السرّ لكن صفاؤه ... ينم فيبدي كل ما كان أخفاه
بعشرين حولاً نال منه بنائل ... نهاية أهل العصر في صبح مبداه
سجاياه بحر رائق فوق كنزه ... إذا ما انقضت أولاه ماج بآخراه
إذا غاص فيه لأقتناص فريدة ... تبدّي لنا والدربين ثناياه
فليس إلى إدراكه لمؤمل ... سبيل ولو أفناه ما قد ترجاه
ألم يدر أن العلم عز مناره ... به وانجلى صدر الصدور بفتواه
فكيف به إن ماج في بحر علمه ... وأظهر ما يخفي على الناس معناه
وغنت على أغصان روض علومه ... بلابل ذوق من ندا فاح رياه
هنالك تبلي نفس كل مؤمل ... بما كسبت من فيض بحر عطاياه
للجناب العالي الاعتذار من كلام ليل كتب في النهار سبله المحو أو الصفح عن زلله والعفو لما فيه من قصور أبكار حورها تبرجت للظهور كأنها نجوم في سماء علاكم تحوم لا زلتم كما شئتم ولأعلى المراتب بلغتم بجاه جدكم الأمين وأصحابه أجمعين.
وكتب إلي بعد القدوم من دار السلطنة لدمشق في أواخر سنة ثمان وتسعين ومائة وألف بقوله
حنانيك دعني يا عذولي ومقصدي ... فلست وإن حاولت نصحاً بمرشدي
ولو قنعت أيديك وجه هدايتي ... بمبرق آيات لديك ومرعد
لما كان مني غير ما كنت عالماً ... بجهل وهل بالجهل يدرك مقصدي
فكف عن اللوم الذي قد ألفته ... وفك عرى العزم الذي فيه ترتدي
ولذ بمن انقادت له نجب الهنا ... بمقدمه وانجاب غيم التفند
امام له منه عليه شواهد ... ولا خلف بين اثنين فيه بمشهد
يؤم محاريب الهدى وإن اقتفى ... ففي أثره في مهمه الغي تهتدي
إذا لاح معنى من سماء علومه ... معارج أوراق بأغصان سؤدد
لئن نشرت شمس المعارف بردها ... عليه طوته ناسمات التودّد
فإن غم عنك الأمر فاسئل عن الذي ... تفرّد بالأيدي وشورك باليد
هناك ترى ثوب المراد مطرّزاً ... باسم خليل في مسمى محمد
فول له وجهاً بوجه ضراعة ... وسل عنه لاعن حارث الدهر في غد
فتبدي لك الأيام كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد(2/224)
نور حدقة الدهر ونور حديقة العصر من خطت في صحف الدفاتر أخباره فقرأتها بعيني وأنا جاره فهو إن كان در معارفه في صدف هذه الأوقات يتيم لكنه عن در حقائقها غير فطيم كيف وهو امام معارف به يقتدي في جامع عوارف بها يهتدي لا برحت زواهر الجواهر تستخرج من بحوره وصدور الطروس تتحلى بقلائد سطوره تنجلي تيجان التهاني والبشر بمقدم المقدم في المبتدأ قبل الخبر فقد جليت علي عرائس عافية كانت علي عابسة وخلعت عني ثوب سقام كنت لابسه لا برحت عيون العيون له ناظرة بوجوه بشر ناضره يستضئ بها هذا الداعي في دياجي البؤس ويستقي من صافي الكؤس ويؤمل من عالي الجناب تقرير ما هو الصواب على السؤال والجواب المرسل داخل الكتاب وامضاءه مع الختم لأننا عورضنا من غير دليل يركن إليه قلب النبيل وكنا كتبنا له أبيات نسأله عن الفرق بالدليل والبينات فأجاب بقال وقيل فلا تبيان ولا دليل فعرفنا أمره وقبلنا عذره ولكن الأمر إليكم بذلك لتنوير سبيله والمسالك لا زلتم ملحوظين بعين العناية والسلام.
وكتب إلي من طرابلس الشام جواباً عن كتاب كتبته إليه أعاتبه على انقطاع المراسلة كاتبني سيدي الوقور فصرت مكاتباً برق منشور بعد أن صيرني في شكره أسير فلم أقدر من قيده أن أسير وأبرز لي أبكار معاني على منصة مباني في مداركها قصور حيث كانت حورها في قصور فأرتني كيف انقياد الفقر لأولي البصيرة والبصر ومدت لي من فصاحتها رواقاً وشدت علي من بلاغتها نطاقاً وجمعت ما بغيرها تفرق ومزقت شمل المضاهي كل ممزق كيف وقد ظهرت في تعاليها خرائد ألفاظها وفرائد معانيها معطرة بطيب الأنفاس متسربلة ببردى المطابقة والاقتباس لا زال سائراً بذكرها أرباب اللسن في المسايرة واقفاً دون اشتهارها الأمثال السائرة هذا وإن العجز أقعدني عن الجواب والقصور أوقفني في الأعتاب غير أن هذا الحقير الذليل يعرض بين يدي المولى الجليل بنات فكر عليل يروم لراحته التقبيل
مذ سهم حبي قد أصاب وماساً ... ناديت صحبي قد أصاب وماسا
لو صيغ لي درر المديح قلائداً ... لوجدت لفظ هجا خليلي ماسا
ثم تطفلت على باب البيت المعمور في الرق المنشور بالباسه مرط تشطير محاكاة للنظير
وكنت أظن إن جبال رضوي ... تحول ولا تفوه بما تقول
لظني بل لعلمي إن نفسي ... تزول وإنّ ودّك لا يزول
على أني بعد تسليم الدعوى كنت منتظراً ما أشار إليه المولى من ذكر تاريخ المواليد كالوفاء على منوال ما كتبه المولى وارتضاه وقد عز علي بذكر النظير فكان سبباً للتأخير فنرجو لأعتذارنا القبول كما هو في جناب المولى مأمول والدعاء له مبذول ومني على تلك الطلعة أشرف تحية واسلام ما ناح قمري وغنى حمام(2/225)
وكتب إلي عنوان كتاب الدهر في غرة وجه العصر الجاذب بأيادي لطفه عنان الأفئدة والكاشف بمبادي عرفه عن كل مشكل عقده من تزاحمت على حسن منظره وفود الأبصار وتلاطمت من فيض مخبره متون البحار وامتلأت حقاق الآذان من حسن سيرته وصحاف صدور الأقران من صدر شريعته حيث آثاره تشوق الأسماع إلى فواكه آدابها في طرسها وتحقيقاته تسعى لها أقلام الفتاوي على رأسها فلا غروان أضحت رياض المعالي لها مقيلاً وأمست غرر المعاني له خليلاً لا برح متسربلاً بثياب جده التي ورثها عن أبيه وجده هذا وإن هذا الداعي القديم الذي هو على وظيفته مقيم يهدي لعالي جنابكم زكي سلام تخضل به تربة ذلة محب مستهام متزر على جسم هواه بمئزر شوق قد ألحم به سداه جن ليله فعسعس وكاد صبحه أن لا يتنفس حتى انجلى من حندس ليله ما دجى وجرد مسحاً كان بالهموم مضرجاً مولانا السيد أحمد أفندي البربير ذي القدر الكبير فإنه حين شرف الديار الطرابلسية وابتسم لمحياه ثغرها وهطلت على أرجائها سحب سانحاته فلله درها تحلى الذوق بشهد آدابه وتزين الفكر بفرائد خطابه وعندما قرت العيون بوروده وهيجنا ساجع بأنه وزروده وجه وجه توجهه تلقاء مدين المآرب والمفاخر وارث المجد كابراً عن كابر يتشرف برؤياه ويتضمخ بعطر رياه فحرك خاطري الخاطر وأسال دمعي الماطر ولولا أنني كبنيان أشرف على الخراب أو كعظام في جراب ليممت صعيد ذلك النادي وتروحت بنشره وتشرفت بلقياه في سروره وبشره لكن الأقدار تمنع عن الأقتدار فلا زلتم تقطفون ثمرات المنى ولا برحتم قائلين تحت ظل الهنا ملحوظين بعين العناية على الدوام محفوظين بحفظ الله تعالى الحفيظ والسلام وكتب إلي أيضاً
حبة الحب تحت طرف غضيض ... توقع الصب في الطويل العريض
فتصيد الألباب من جوّ أحشا ... ء ذوي النسك والنهى بالقريض
صيد أيدي المراد لب مريد ... أقعدته الآمال تحت الحضيض
يالقومي ويالأمثال قومي ... من فتاة أودت بحال الجريض
عز منها لعزه كبرياء ... ألبس الخاطبين ثوب المضيض
كيف حالي ولم تبح عقد سر ... عقدته إلا بروض أريض
عند مفتي الأنام من خاض بحراً ... حاز منه ماء الحياة الغضيض
مدّ منه موائد النظم والن ... ثر ليقري الأسماع ذوّ القريض
ظن أني أهل لرد جواب ... فغدا خاطباً لنظمي الرضيض
ودعاني لمهر مثل وفي الأم ... ثال حال الجريض دون القريض
من لمثلي صداق مثل وهل شم ... س يباري علياؤها بالنهوض
أو لقس نطق بذات نطاق ... يحك ما حاكه بوشي قريض
من معان كأنجم سابحات ... في بروج الألفاظ عند العروض
فتكلفت في محاكاة ما قد ... صاغه في العقود مخ البعوض
إذ رآني أهلاً لهذا ولكن ... أمر ذي الأمر عندنا كالفروض
لا تزال السعود تخدم عليا ... ه وتلقى حسوده في الحضيض
خافقات أعلام مجد تولا ... ه على رأس وامق وبغيض
ما تغنت ورق المدائح تشدو ... فوق أوراق غصن حمد غضيض
أو لذوق المعاني من فيه تبدو ... سانحات تفتحت من غموض(2/226)
خدمت بهذه القصيدة صدر الموالي وكنت عزمت أن لا أفضح بها حالي حيث خبطت بها خبط عشوا وأدليت في جفو أسراره دلواً لكن ظننت بجنابه عفواً لا زال للمعاني صنواً بحرمة جده الأمين وآله وصحابته الأكرمين فلك نجوم الموالي بمطلع شمس المعالي ذي الفخار الذي لا ترد على آياته نواسخ والوقار الذي تنزل عنده الراسيات الشوامخ الطيب النشر من الأب والجد العابق عرفه بأزهار الجد كيف ورياض تقريره تقطف منها شقائق النعمان وموائد تحريره تمد إليها يد العرفان كأن محاسن ثمرات معارفه النفائس مع أزهار غصون عوارفه الموائس نواهد لم يقطف جناهن لامس تراعيها عيون نواعس فاهت بذلك أفواه المسامع وقرت اللحاظ كما فاهت وأقرت لقس بن ساعدة الأيادي وفود عكاظ لا زال ساعده بالأيادي بادي وطيور المعاني في نيل مجراه بطاناً تنادي حي عني المراد في كل نادي في فيافي فناء فيء المرادي فتفياناً بظله وروينا من وابله وطله حين من علينا برقيق المكاتبة وجاد علينا بلطيف المؤانسة والمصاحبة ففزنا منه بأوفى نصيب من كل معنى غريب يحكي بياض طرسه تحت سواد مداد أمداده أوائل فجر صادق يزجي سحاب السؤدد بسواده حيث تحلى بحلل سوابغ من وشي كلماته النوابغ وجنيناً من رياض عباراته ثمرات نفائس تتفكه بها صدور المجالس تجلى بأيدي أبكار أفكار أو أنس عليها من وشي العتاب ملابس من سندس فصاحه وعبقري ملاحه يمازجان القلوب بحسن أسلوب فأوجمت وجمة مرتاب وحاك طرة صبح فؤادي على أنواله المهولة فكأنني الآن بنيان أشرف على خراب غير إني أتروح بعطر الثناء عليك مع الأحباب وأترنح بنسمات الصحة عن ذلك الجناب لا زال محفوظاً من جميع الآلام ملحوظاً بعين العناية والسلام وكتب إلي بعد وصوف كتاب مني إليه
من عذيري والعاذلون الوف ... وفؤادي إلى التصابي ألوف
من فتاة أودت بحال معنى ... قد دهاه من الزمان صروف
زينتها ديباجتا وجنات ... لم تحكها معاصم وكفوف
قد خلعت العذار مذ لبست حل ... ة حسن للشمس منها كسوف
ملكت مهجتي ولم يخف ما بي ... ستر حالي بحبها مكشوف
حي السهد في جفوني ومات الن ... وم والغسل دمع عيني الوكوف
وتوالى عليّ مالو توالي ... بالرواسي ماجت بهن الكهوف
أسرتني ولات حين مناص ... وسبتني وساعدي مكتوف
قيدت مهجتي باطلاق دمعي ... فلقيد الفؤاد دمعي ذروف
لو نهاني النهى لكنت خلياً ... من غرام فيه العذاب صنوف
قد دعاني الهوى للثم لثام ... كنت أسعى له وكنت أطوف
حيث إن الأحشاء تهفوا لما يل ... قاه حالي المنكر المعروف
ورأيت الوصال عز ولم أس ... طيع صبراً والمرجفون ألوف
فتولت كبراً وقد عيل صبري ... وتعالت ففاح منها الخلوف
ثم قالت إني لمثلك أمر ... من سنا برقه تسل سيوف
دق عن ذوقه عقول وقد تا ... ه بمسراه الفاضل الفيلسوف
كم رجال تعرّضوا ليروا بر ... قع وجهي وطرفهم مطروف
فعموا من جهالة وتولوا ... وسبيل الهدى لهم مكشوف
قلت ماذا الفخار والعجب منها ... وأخو العجب بدره مخسوف
قيل هذا بعض ونزر يسير ... من مزايا يكل عنها الوصوف
كيف لا وهي بنت فكر امام ... قدّمته يد العلى لا السيوف
ذي المعالي فخر الموالي خليل ال ... مجد فيهم محمد معروف
مهد اللّه في المهاد له رت ... بة فضل يؤمّها الملهوف
لا بسعي قد نال ما ناله بل ... قد حباه به الكريم الرؤف
وعليه من الجمال رداء ... ذو جلال حلا به معروف
لا بأيدي صنعاء حيك ولم يل ... حم سداه ليحكي منه صنوف
بل عطايا من المهيمن جلت ... في رياض ظلالها المعروف(2/227)
فهي حقاً إلى المراد بها لا ... لمريد له عليها عكوف
فهنياً له بذوق معان ... روّقتها يد العلي لا الحروف
تمتطي هامة المجرّة فخراً ... حبذا الفخر إذ تراه ينوف
لا تزال السعود في جوّ عليا ... ه صفوفاً تأوى إليها الصفوف
ما نسيم الصبا يحرّك غصناً ... وعيه طير الهناء هتوف
ومن فوائد صاحب الترجمة ما أخبر به قال كنت غير مرة أسمع المباحثة في خصوص أبوي النبي الأكرم صلى الله تعالى عليه وسلم وما قاله علي القاري في رسالته الشهيرة قال فخطر لي بيتان في الحال وهما
أمّ النبي آمنه ... من حر نار الآخرة
أحياها بعد موتها ... فأمنت في الآخرة
وقد أشار بالتورية إلى دعائه لها صلى الله عليه وسلم في الاسلام في المرة الآخرة قال فرأيت في المنام آمنة وهي متزرة ببرد فقالت له اتخذني يا ولدي لمضائفك وهذا دليل على موتها مسلمة ونجاتها رضي الله عنها وكانت وفاته سنة.
يوسف الصباغ الموصلي
الشيخ الصالح التقي له خيرات وافرة وصدقات متكاثرة ورغبة في أهل الصلاح والخير والبركة وله عبادات وأذكار واشتغالات بكل خير وقد حفظ القرآن العظيم ولا يفتر عن التلاوة وبالجملة فإن فيه بركة وصلاحاً وكانت وفاته في آخر هذا القرن عن أكثر من سبعين سنة رحمه الله تعالى.
يوسف الكاتب الموصلي
كاتب دايوان الانشاء بحضرة الوزير حسين باشا الجليلي الأديب الفاضل الألمعي تفرد فضلاً ومعرفة وكمالاً وحسباً ونسباً وأبرز معرفة واطلاعاً على دقائق الأشعار وأسرار المنظومات ولطائف الآثار وله في صناعة الأدب الحظ الأوفر والكمال الأتم الأزهر وله في الكرم قدم راسخ وطود شامخ دخل حلب مع مخدومه الوزير حسين باشا السابق ذكره ودار معه الأمصار وسلك الأوعار فكان كما قيل
يوماً بحزوى ويوماً بالعقيق وبال ... عذيب يوماً ويوماً بالخليصاء
وكان حسن الآراء والأقوال والأفعال وكانت ولادته سنة تسع عشرة ومائة وألف ووفاته في آخر هذا القرن بالموصل رحمه الله تعالى.
يوسف العطار
ابن عبد الله الحلبي الشافعي الشهير بالعطار الشيخ الفاضل الصالح الأوحد الفقيه كان خطيباً بجامع البهرامية بحلب فقيهاً ماهراً بالعربية والحديث وأحسن ما عنده الفقه والفرائض أخذ عن العلامة إبراهيم البخشي ومصطفى الخسرف جاوي والشيخ جابر والعلامة محمد الكردي الزعفراني وأبي السعود الكواكبي وغيرهم وكان وضئ الوجه نير الشيبة وكان قد ترك العطارة ولازم النسخ مع الافادة والاستفادة وكان مولده سنة أربع وتسعين وألف وتوفي سنة ستين ومائة وألف بتقديم السين ودفن بالقرب من قبر الشيخ اللطيفي رحمه الله تعالى.
يوسف النقيب الحلبي
ابن حسين بن السيد الشريف الحنفي الدمشقي نزيل حلب المفتي والنقيب بها الامام العالم العلامة الفقيه الأديب الفاضل المتفوق المحدث البارع المسند الناظم الناثر أبو المحاسن جمال الدين ولد بدمشق سنة ثلاث وسبعين وألف ونشأ بها وقرأ على جماعة من أفاضلها وأخذ عنهم كالشهاب أحمد بن محمد الصفدي امام جامع درويش باشا والشيخ عبد القادر العمري وأبي المواهب الحنبلي وإبراهيم بن منصور الفتال وعبد الرحيم الكابلي والشيخ إسمعيل الحائك والأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي والشهاب أحمد المهمنداري والشيخ عثمان بن محمود القطان وعبد الجليل العمري وغيرهم وارتحل للروم وإلى حلب مرات وأخذ بها عن الشيخ موسى الرامحداني وعن زين الدين بن عبد اللطيف أمين الفتوي وغيرهما وترجمه الأمين المحبي في ذيل نفحته فقال في وصفه نبيه فاق من مهده وأعهده يتزايد نبلاً وأنا الآن على عهده فحبى جميعه على حسن أدبه مقصور وبقلبي منه شغل شاغل عن قاصرات القصور وهو أخ جمعت فيه المروءة والنخوه وأراه أحسن من آخيت ولا بع فيوسف أحسن الأخوه وقد مضت لي معه أوقات وقيت كل صرف وكأنها خطوة طيف أو لمحة طرف وقد أمتعني من بنات فكره بذخائر توجب في الطروس تخليد ذكره أتيتك منها بما يقضي له بلطف البداهة ويحكم له بالبراعة المتمكنة من مفاصل النباهة فمن ذلك قوله في العذار
كأنما نار خدّ زان رونقه ... لا ما عاد أرجنيّ قد جنى حيني(2/228)
لاحت فأنسها في ليل عارضه ... موسى فخط بماء المسك خطين
وحين ظن أبو العباس مبسمه ... ماء الحياة أتى يسعى بلامين
وقوله مخاطباً بعض الموالي في مجلسه
بابي من ضمنا مجلسه ... فاجتنينا منه أنواع التحف
فاضل صيغ من التوفيق إذ ... صيغت الناس جميعاً من نطف
وقوله في تشبيه الجلنار
باكر لروضة أنس ... من حولها الماء يجري
والجلنار تبدّي ... على معاصم خضر
كأكؤس من عقيق ... فيها قراضة تبر
وقوله
وحديقة ينساب فيها جدول ... من حوله تختال غزلان النقا
من كل أهيف إن رمتك لحاظه ... بسهامها إياك تطمع في البقا
ومعذر ما أظلمت في وجهه ... شعرات ذاك الصدغ إلا أشراق
خالسته نظراً فقطب مغضباً ... وغدا يرنح منه عطفاً مورقا
فكان نبت عذاره في خدّه ... شحرور ورد في الرياض إذا رقا
وقوله في فوارة
للّه ما أبصرت فوّارة ... أعيذها من نظرة صائبه
كأنها في الروض لما جرت ... سبيكة من فضة ذائبه
وقوله من نبوية مطلعها
جاء فصل الربيع والصيف داني ... حيث بتنا من الجفا في أمان
في رياض إذا بكى الغيث فيها ... قهقهت بالمدام منه القناني
وثغور الأقاح تبسم عجباً ... حيث يشدو في الروض عزف القيان
حيث سجع الطيور سجع خطيب ... قد رقى معلناً على الأغصان
وكأن الغصون قامات غيد ... حين ماست حور لدى الولدان
فأدرها في جامد من لجين ... حيث أضحت كذائب العقيان
من يدي شادن أغن ربيب ... ناعس الطرف فاتر الأجفان
ناعم الخدّ أهيف القدّ أحوى ... ذي قوام كأنه غصن بان
نرجسي اللحاظ وردي خدّ ... جوهري الألفاظ ذي تبيان
فتمتع من حسنه بمعان ... مطربات تنسيك جور الزمان
وتأمل إلى صحيفة خدّي ... ه بعين الانصاف والعرفان
منها
يا شفيع الأنام كن لي شفيعاً ... يوم نصب الصراط والميزان
إنني أشتكي إليك ذنوباً ... مثقلات وحملها قد دهاني
من لمثلي عاص كثير الخطايا ... زاده الفقر عاجز متواني
فعليك الصلاة في كل وقت ... مع سلام يفوق عرف الجنان
وقوله من قصيدة
لي فؤاد في الحب أمسى مشوقاً ... لم يزل في هوى الحسان ملوقا
خافق تستفزه لحظات ... مزقته بسحرها تمزيقا
راشقات من هدبها بسهام ... صائبات لم تخط قلباً حريقا
لست أنسى حين الوداع عناء ... حيث جدّ الرحيل والركب سيقا
إذ بكى للفراق خلى فأضحى ... ناظر اللحظ بالدموع غريقا
ورمى لؤلؤاً على الخدّ رطباً ... فاستحال الياقوت منه عقيقا
وانثنى للعناق يعطف قدّاً ... هل رأيتم غصن الرياض عنيقا
رشق القلب وانثنى بقوام ... لا عدمنا ذاك القوام الرشيقا
بابي ثم بي غزالاً ربيباً ... فوّق اللحظ للحشا تفويقا
ماس غصناً لدناً وهز قواماً ... وتبدّى ظبياً وأسكر ريقا
ورنا ساحراً وصال مليكاً ... وحوى مبسماً يقل بريقا
يالقومي ويالقومي أما آ ... ن صريع اللحاظ أن يستفيقا
صاح شمر عن ساعد الجدّ واسمع ... وأدر منكؤس نصحي رحيقا
واطرح ذكر زينب ورباب ... واخلعن للوقار ثوباً خليقا
لا تؤمل من جاله بك نفعاً ... تلق ضدّ الذي تروم حقيقا
قد خبرنا الجهول فيما علمنا ... فرأيناه قد أضل الطريقا
رام نفعاً فضر من غير قصد ... ومن البر ما يكون عقوقا(2/229)
وله من أخرى مستهلها
أقضيب بان حركته شمول ... أم قدّك المعشوق راح يميل
وشقيق روض قد علاه سوسن ... أم خدك المتورد المصقول
ودخان ند قد أحاط بوجنة ... أم ذاك مسك في الخدود يسيل
وشبا سيوف أم عيون جآذر ... رمقت تحاول فتكنا وتصول
وعبير طيب فاح ينفح طيبه ... أم ثغرك المتبلج المعسول
وسقيط طل أم لآل نظمت ... فتخاله عرق الجبين يجول
وعقارب بزبانها تومي لنا ... أم ذاك خال الخدّ أم تخييل
وظلام ليل ما ترى أم طرّة ... هل لي إلى إدراك ذاك سبيل
قد خلت مذ ليل الغدائر قد بدا ... أن ليس للصبح المنير وصول
لكن بلال الخال أشعر أنه ... ضوء الجبين على الصباح دليل
فانهض إلى حثو الكؤس أخا الهوى ... في روض أنس والنسيم عليل
وافتض بكر مدامة واستجلها ... فلها إذا افتضت دم مطلول
كمذاب ياقوت بجامد فضة ... في لحظ ساقيها الصبيح ذبول
حمراً إذا ما قام يترع كأسها ... عنج اللواحظ طرفه مكحول
خلت المدام ووجهه لما بدا ... شمساً وبدراً ما اعتراه أفول
وظننت كأس الراح في يده غدا ... كهلال يوم الشك وهو ضئيل
لم أدر هل خضبت بأحمر خدّه ... أم خدّه من كأسها مطلول
فاشربهما صرفاً فذلك شربه ... رشف وهذا شربه التقبيل
واغنم فدتك الروح أيام الضبا ... واللهو إنّ زمانهن قليل
وتلاف أيام الربيع وورده ... فعليه من در الندى اكليل
فالروض معطار الأزاهر يانع ... والغصن يرقص والهزار يقول
والدف يعزف والنسيم مشبب ... والعود يشدو والسحاب مطول
وله غير ذلك من الأشعار والنظام والنثار وألف ثبتاً حافلاً جامعاً لشيوخه واجازاته وصار له جاه واشتهار ودلة وصار نقيباً ومفتياً بحلب ودرس بالحجازية والأسدية بها واشتهر بالفضل والذكاء والنبل وأخذ عنه جماعة من الفضلاء وكانت وفاته بحلب سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف ودفن بها عن ثمانين سنة رحمه الله تعالى.
يوسف أفندي النابي
الرهاوي الأصل الحنفي نزيل قسطنطينية وأحد خواجكان الدولة ورؤسائها المشهورين بالمعارف والأدب الأديب الشاعر الناظم الناثر المشهور فمن شعره العربي قوله مضمناً
لنا حبيب له في كل جارحة ... منى جراح بسيف اللحظ والمقل
تقول وجنته من تحت شامته ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
وله غير ذلك وكانت وفاته بقسطنطينية سنة أربع وعشرين ومائة وألف رحمه الله تعالى.
يوسف رئيس الأطباء
ابن محمد بن يوسف الطرابلسي الأصل الدمشقي رئيس الأطباء بدمشق كان يلقب بابقراط وكان ماهراً في الطب والعلاجات ومعرفة الداء وله مشاركة في بقية العلوم واطلاع وهو جد يوسف أغا الحكيم وكانت وفاة المترجم يوم السبت خامس عشري محرم سنة خمس ومائة وألف بدمشق رحمه الله تعالى ورحم المسلمين أجمعين.
يوسف باشا
الشهير بالطويل الوزير الكبير كافل دمشق وأمير الحاج الشامي كان وزيراً كبيراً محباً للعلماء والصالحين له الميل الزائد إلى أهل الصلاح والدين تمرض بدمشق في قاعة ابن قرنق في صالحية دمشق وتوفي نهار الأربعاء سادس عشر شعبان سنة ثمان وعشرين ومائة وألف وصلى عليه في السليمية الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي قدس الله سره ودفن بالمقبرة المجاورة لمدفن الأستاذ الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن عربي المعروفة بمقبرة بني الزكي وعمل على قبره بحجير ولوح فيه تاريخ لوفاته من نظم الأستاذ النابلسي المذكور وهو قوله
مات في الشام حاكم ... قدره في الورى كبير
جاء تاريخنا له ... بيت شعر له قصير
رحم اللّه محبنا ... يوسف باش ألوزير
248 66 101 156 303 25 - 4 سنة 1128(2/230)
يوسف الصباغ
الموصلي الشافعي الشيخ الصالح التقي له خيرات وافرة وصدقات متكاثرة ورغبة في أهل الصلاح والخير والبركة وله عبادات وأذكار وكان لا يفتر عن تلاوة القرآن العظيم حفظاً عن ظهر قلب ليلاً ونهاراً وعنده من الخشوع الجانب العظيم وكانت وفاته في أواخر هذا القرن رحمه الله تعالى.
يونس
الشهير بأسياله الموصلي الرفاعي الطريقة شيخ السجادة الرفاعية بالموصل كان صاحب أذكار وعبادات وآثار محمودة وله من التلامذة جماعة كثيرون كلهم عيال عليه والناس تشهق بولايته وتحدث بكراماته أخذ الطريقة الرفاعية عن سادات البصرة فسرت فيه بركتهم وأثر فيه صلاحهم فتعمر فضلاً وكمالاً وانقطاعاً وزهداً وصلاحاً وكانت وفاته بالموصل سنة ستين ومائة وألف ودفن بها وقد جاوز المائة سنة من عمره وذريته الآن على طريقته الرفاعية يتبرك بهم رحمه الله تعالى.
الشيخ يونس المصري
ابن أحمد المحلي الأزهري الكفراوي الشافعي نزيل دمشق ومدرس الحديث بها الامام العالم الفقيه المتبحر أعجوبة الدهر في قوة الحافظة وطلاقة العبارة والاستحضار التام في الفقه وغيره ترجمه الشمس محمد بن عبد الرحمن الغزي العامري في ثبته المسمى لطائف المنة فقال ولد كما أخبرنا به من لفظه في ذي الحجة سنة تسع وعشرين وألف بالمحلة الكبرى من اقليم مصر ونشأ بها وأخذ علم التفسير والحديث والفقه عن جماعة من علماء بلده منهم الشيخ علي مفتيها المعروف عندهم بابن الأقرع ومنهم الشيخ حسن البدوي والشيخ عبد المجيد بن المزين والشيخ رمضان والشيخ علي النحريري وهؤلاء أخذوا عن الشيخ علي الحلبي صاحب السيرة النبوية والشيخ عبد الرحمن الدميري والشيخ أحمد تلميذ الشيخ علي الشبراملسي ثم ارتحل المترجم إلى مصر وأقبل على الاشتغال بالعلوم وحضور دروس علماء الجامع الأزهر فأخذ عن جماعة من الأجلاء منهم الشمس محمد الشوبري الشافعي تلميذ الشمس الرملي وابن قاسم والنور علي الزيادي ومنهم الشيخ علي الأجهوري المالكي والشيخ جلال الدين البكري والشيخ منصور الطوخي والشيخ عبد السلام اللقاني والشيخ حسن الشرنبلالي الحنفي والشيخ إبراهيم الميموني والشهاب أحمد القليوبي والشمس محمد ابن علاء الدين البابلي والشيخ سلطان المزاحي والشيخ محمد بن المرابط المغربي وغيرهم ثم ارتحل إلى دمشق سنة سبعين وألف وأخذ عن جماعة من علمائها منهم الشيخ إبراهيم الفتال والشيخ محمد أبو المواهب بن عبد الباقي الحنبلي والشيخ محمد البلباني الصالحي وأبو الفلاح عبد الحي بن العماد العكري الصالحي وغيرهم وولي بدمشق تدريس بقعة الحديث بالجامع الشريف الأموي تحت قبته عن الشيخ علاء الدين الحصكفي المفتي سنة تسع وثمانين فدرس بها إلى حين موته وسافر في هذه المدة مرتين إلى الديار الرومية ودخل قسطنطينية وصار له بها إلى حين موته وسافر في هذه المدة مرتين إلى الديار الرومية ودخل قسطنطينية وصار له بها اكرام واقبال وكان ينوب عنه في غيبته في التدريس المرقوم الشمس محمد بن علي الكاملي انتهى وصار لصاحب الترجمة بدمشق جاه عريض وحرمة وافرة وأقبلت عليه الناس وكان وجيهاً محترماً مقبول الشفاعة عند الحكام صداعاً بالحق يقول الحق ولا يبالي مقداماً في الأمور وألف ثبتاً لذكر شيوخه ومروياته وكانت وفاته في ذي الحجة سنة عشرين ومائة وألف ودفن بتربة الباب الصغير بمقبرة سيدنا أوس بن أوس الثقفي وقبره معروف يزار رحمه الله تعالى ومن مات من المسلمين أجمعين آمين.
قال مؤلفه وهذا غاية ما أردناه ونهاية ما أوردناه من نشر مآثر فضلاء هذا العصر الجامعين لأصناف الفضائل على سبيل الحصر والمرجو من العاثر على عثرة فيه أو هفوة ظهرت من فيه أن يسحب عيه ذيل العفو والأغضاء ويغض عنه عين النقص حيث يبصره بعين الرضاء والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد وآله وصحبه وأتباعه وأنصاره وحزبه دائماً أبداً سرمداً والحمد لله رب العالمين.
وجد في نسخة الأصل ما نصه(2/231)
يقول محرره انتهى الكتاب تحريراً وتم بحمد الله تحبيراً على يد فقير عفو ربه وأسير وصمة ذنبه الحقير عبد الحليم بن أحمد المعروف باللوجي غفر الله له ذنوبه وملأ بزلال الرضوان ذنوبه وكان الفراغ من تحريره لختام شوال سنة احدى عشرة ومائتين وألف وذلك برسم صدر الموالي وبهجة المعالي وحسنة الأيام والليالي كنز الفضل والأيادي وكهف الحاضر والبادي مفتي دمشق الشام السيد عبد الرحمن أفندي المرادي أدام الله تعالى إسعاده وأجراه من عوائد انعامه على العادة وبلغه من كل خير مطلوبه ومراده بحرمة سيد المرسلين وآله الطاهرين وصحبه الأكرمين صلى الله تعالى وسلم عيه وعليهم أجمعين هذا ولما انتهى تقييد هذه الأخبار بسلاسل الأرقام ووقفت عن الجولان في ميدان طروسها خيول الأقلام عن لي أن أقرظه بكلمات وأؤرخه نظماً في ضمن أبيات فقلت في ذلك
أهذه أزهار روض نضر ... قد عبقت أم نشر مسك عطر
أم العقود نظمت أسلاكها ... أم الغواني جليت في الحبر
أم الدراري في ذرى أفلاكها ... قد سطعت بمنظر مزدهر
أم الكؤس قد أديرت بالطلا ... على الندامى في شعاع القمر
أم هذه أخبار قوم قد مضوا ... قد تليت مصوغة في فقر
أتت بما يعجب كل سامع ... لها وما يروق كل مبصر
وخلدت محاسن القوم بها ... وأظهرت عنهم جميل الأثر
وأتحفت أفكار من ينظرها ... بكل مروي عجيب الخبر
فيالتاريخ حوى مآثراً ... فاح شذاها كعبير الزهر
قد قال إذ أرخها متمه ... للّه ما أجمل سلك الدرر
4851 65 41 74 110 435 - سنة 1211
فسحب العفو على منشئه ... تهمى بصوب غدق منهمر
هذا وقد تم بحمد اللّه لي ... تحريره إذ كان بالنقل حري
برسم كنز الفضل مفتي جلق ... ركن المعالي الأوحد الشهم السري
رب الفخار والوقار والعلا ... حاوي المزايا والسجايا الغرر
أعنى المرادي عبد رحمن الورى ... من قد سما قدر أسماء المشتري
دامت معاليه على طول المدى ... ممتعاً فيها بطول العمر
تخطب أقلام الثنا بذكره ... من كف كل مادح في منبر
يقول خادم تصحيح العلوم بدار الطباعة الكبرى العامرة ببولاق مصر القاهرة حسيب المقام الحسيني الفقير إلى الله تعالى محمد الحسيني(2/232)
سبحان من جعل الأولين عبرة للآخرين وأخبار الماضين أدباً للغابرين أحمده فكه نفوس الأدباء بلذائذ المحاضرة وأشكره نزه ألباب الظرفاء في رياض المذاكرة والمحاوة وأصلى وأسلم على النبي الأكرم والرسول السيد السند الأعظم سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومحبيه وأحزابه أما بعد فقد تم طبع هذا الكتاب الجليل عذب المنهل السلسبيل المتكفل ببيان أعيان القرن الثاني عشر الذي لم يبق من غرائب أخبارهم وعرائس أبكار أفكارهم وبدائع آدابهم ونثارهم ودقائق نظامهم وأشعارهم شيئاً ولم يذر الذي أرانا من لطائف أدباء أهل الشام وفضلائهم وجلائل أخبار أحبارهم ونوادر ظرفائهم ونبلائهم وأسمعنا من طرائف جهابذة مصر والعراق والحجاز وغيرهم من دهاقنة الأدب الذين بلغت ملحهم حد الأعجاز ما يكشف لنا من خبايا أحوال العالم المعمى وليس من علم كمن هو جاهل أعمى فهو جدير بأن يسمى سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر لعلامة زمانه ونابغة آنه صدر الدين أبي الفضل السيد محمد خليل أفندي المرادي المفتي بدمشق الشام عليه من الله سحائب الرحمة والاكرام وكان قد انتهض لتكميل بهجته واظهار جمالته واشهار ثمرته وينعه واكثار نفعه بطبعه بهذا الطبع البهيج الظريف والشكل البديع والهيكل اللطيف العلم الشهير والبدر المنير شمس الكمال ومجلى البهاء والجلال ومعدن الحشمة والاجلال ومنهل الجود والأفضال المرحوم عارف باشا أدام الله عليه ستور الرحمة ووالى عليه سجال النعمة فطبع منه الثلاثة الأجزاء الأول وحال بينه وبين اكماله داعي المنون الذي لا محيد عنه ولا حول فقام بعده بمسعاه الجميل نجله الأجل النبيه النبيل ذو اليد الطائلة والهمة العليا والقوة النائلة الشهم النجيب والفطن اللبيب ذو الجناب الأمجد حضرة أحمد بيك أسعد فشرع حفظه الله في اكمال طبع هذا الكتاب وجعله عدة لأولي الباب في ظل الحضرة الخديوية وعهد الطلعة الداورية حضرة من جعله الله رحمة لأمته وأجرى عليه من فيض احسانه سوابغ نعمته الملحوظ من مولاه بعين عنايته المؤيد بباهر هيبته وسطوته عزيز المحروسة مصر المزيل عن رقبة رعيته ربقة الأصل ولي نعمتنا على التحقيق أفندينا محمد باشا توفيق أدام الله علينا أيامه ووالى علينا انعامه ومكن من هام أعدائه حسامه وأقر عينه بحضرات أنجاله وهنأه بحفظ أشباله خصوصاً عباسه الشهم الهمام الفطن النجيب والغيث العام وكان هذا الطبع الجميل والوضع الجليل بالمطبعة الميرية العامرة ببولاق مصر القاهرة ملحوظاً بنظر سعادة ناظرها الهمام الأكمل والملاذ الأمجد الأفضل ذي الهمة والفطانة والرفعة والمكانة من عليه جميع الألسن تثنى سعادة حسين باشا حسني ونظر حضرة وكيله الجناب المهيب الذكي الأريب من أجابته المعالي بلبيك حضرة محمد حسني بيك وقد بدر من هذا الطبع بدره وانبلج صبحه وفجره في أوائل محرم الحرام سنة 1301 مستهل العام الأول من القرن الثالث عشر من هجرته عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة وأتم السلام ما لاح بدر تمام وفاح مسك ختام تم.
1 12(2/233)