إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ثم أما بعد:- فإن أهل السنة رحمهم الله تعالى قد بينوا أسباب ضلال الطوائف الزائغة عن الحق والمائلة عن الهدى، والتي خالفت منهج الرسل وأتباعهم، وذكروا أسباباً كثيرة بسببها ضل من ضل من هذه الطوائف وذكروا رفع الله منازلهم في الفردوس الأعلى أن من أعظم أسباب ضلالهم، اعتمادهم في إثبات عقائدهم على ألفاظ موهمة مجملة تحتمل حقاً وباطلاً، وجعلهم هذه الألفاظ حجة فيما بينهم وبين مخالفيهم، ومرجعاً فيما يثبتونه أو ينفونه، وسبباً في رد كثير من الحق الثابت في الكتاب والسنة، وفيصلاً عند النزاع فتمسكوا بهذه الألفاظ المجملة على عواهنها من غير تمييز بين حقها وباطلها، فصارت هي الأصل عندهم في عقائدهم، فجاؤوا بمخالفات كثيرة وبدع جمة وزندقة وبلاء وشر مستطير، وحاربوا أدلة الشريعة تكذيباً وساموها تحريفاً وتعطيلاً وأخروا رتبة الاحتجاج بها حتى تعرض على هذه الألفاظ المجملة فما توافق معها قبلوه واعتمدوه وما خالفها ردوه واتهموه، فصاح بهم أهل السنة من أقطار الأرض وردوا عليهم هذه المقالة، وفضحوا عوارها وكشفوا زيفها، وقرروا الأصول وقعدوا القواعد الموضحة للمنهج الصحيح في هذه المسألة، فاستبان لمريد الحق الطريق المستقيم والصراط القويم والمنهج الواضح والقول الراجح فما عاد لمحتج حجة، فأهل السنة أشبعوا هذه المسألة تأصيلاً واستدلالاً وتخريجاً وتفريعاً، إلا أن الكلام على هذه المسألة منثور في بطون الكتب، فرأيت - بنظري القاصر الضعيف - أنه لو جمع في رسالة مستقلة لكان أسهل للفهم وأوضح لبيان حقيقة المذهب الصحيح، وهاأنذا أبدء في ذلك بتوفيق الله تعالى وحسن منته وفضله، والطريقة في هذه الكتابة هي(1/1)
الطريقة المعتادة عندي، وهي كتابة نص القاعدة عند أهل السنة ثم أشرحها بما تيسر ثم أعقبها بما حضرني من الفروع وأشترط على نفسي توضيح العبارة حتى يغلب على الظن وصول المعلومة لك بطريق واضح وأسميت هذه الوريقات بـ( رسالة في شرح قاعدة الألفاظ المجملة عند أهل السنة والجماعة ) والله أسأل أن يبارك في هذه الكتابة البركة الكاملة وأن ينفع بها النفع العام والخاص وأن يشرح لها الصدور ويفتح لها الأفهام وأن يجعلها عملاً صالحاً متقبلاً مبروراً لا حظ فيه لأحد وأسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يغفر لأهل العلم المغفرة الكاملة الواسعة وأن يرفع نزلهم في الفردوس الأعلى وأن يعاملهم بفضله وعفوه، إنه ولي ذلك والقادر عليه فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون :-
{ أهل السنة والجماعة يوقفون اللفظ المجمل على الاستفصال
حتى يتميز حقه فيقبل من باطله فيرد }(1/2)
أقول:- هذا هو نص القاعدة, وبعضهم يعبر عنها بعبارات أخرى لكن هذا من باب خلاف التنوع لاخلاف التضاد, وبعد:- فاعلم رحمك الله تعالى أن الألفاظ من حيث دلالتها على معانيها لا تخلو من ثلاثة أقسام:- ألفاظ لا تحمل إلا الحق، فحق هذه الألفاظ أن تقبل من غير تفصيل, وألفاظ لا تحمل إلا الباطل, فحق هذه الألفاظ أن ترد مطلقاً من غير تفصيل, وهذان النوعان لا شأن لنا بهما وليست داخلة تحت البحث في قاعدتنا، وبقي قسم ثالث وهو محط رحالنا في هذه القاعدة، وهي تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، ففيها شائبتان، شائبة حق، وشائبة باطل، فليس هذا اللفظ متمخضاً في الحق ولا متمخضاً في الباطل، بل فيه طرف هو حق، وفيه طرف هو باطل، فهذا اللفظ لا يقبله أهل السنة مطلقاً ولا يردونه مطلقاً فلا يقبلونه مطلقاً لأن فيه باطلاً والباطل حقه أن يرد ولا يردونه مطلقاً لأن فيه حقاً والحق لا يرد، والعمل في ذلك أن هذا اللفظ موقوف على الاستفصال حتى يتميز حقه من باطله وتتحدد معالم معانيه ويتضح فيه وجه الإشكال فيقبل الحق ويرد الباطل، وهذا مذهب وسط بين مذهبين، بين مذهب من قبل اللفظ المجمل مطلقاً بحقه وباطله وبين مذهب من رد اللفظ المجمل مطلقاً بحقه وباطله، وأما أهل السنة فإنهم فصلوا حق هذا اللفظ من باطله فقبلوا الحق وردوا الباطل، فحققوا في هذا اللفظ قوله - صلى الله عليه وسلم - (( فأعط كل ذي حق حقه )) وهذا هو حقيقة العدل والوسطية، وقوله ( اللفظ المجمل ) يعنون به ذلك اللفظ الذي فيه حق وباطل، وهذا الإجمال إما أن يكون سببه تعدد الاستعمال، أي أن هذا اللفظ قد استعمله عدة طوائف وكل طائفة تعتقد فيه معنىً من المعاني فصار عند التعبير به لا يدرى عن المراد به أهو ما تريده هذه الطائفة أو ما تريده هذه الطائفة فصار متردداً بين عدة معانٍ بسبب تعدد الاستعمال فأهل السنة إذا ورد عليهم هذا اللفظ لا يستعجلون في قبوله ولا في رده، بل يتعرفون أولاً على(1/3)
معانيه على حسب استعمال الطوائف له ثم يقولون:- إن أريد باللفظ هذا المعنى فهو حق، وإن أريد به هذا المعنى فهو باطل، وهكذا، وهذا كثير في كتب الاعتقاد عند أهل السنة، فهذا اللفظ الذي تعددت معانيه بتعدد الاستعمال يسميه أهل السنة:- مجمل بحسب تعدد الاستعمال، وأضرب لك مثلاً أو مثلين من واقع حياتنا يوضح لك المقصود بقولنا ( مجمل بحسب تعدد الاستعمال ) فمثال ذلك كلمة ( مأجور ) فإنها في بعض الأعراف تقال من باب التحية والسؤال عن الحال، وفي بعض الأعراف لا تقال إلا في باب العزاء، فعرف يستعملها في الترحيب، وعرف يستعملها في التعزية وهذا مجمل بحسب تنوع الاستعمال، ومثال آخر:- وهو لفظ ( الوصول ) فإن أهل السنة يقصدون به وصول العبد إلى رضى الله ومعرفته وحبه والأنس به والعلم بشريعته والتعبد له بما يحب ويرضى وأما الصوفية فإنهم يقصدون وصول العبد إلى حالة الأخذ عن الله مباشرة ووصوله إلى رتبة سقوط التكاليف ونحو ذلك من المعاني الباطلة، وهذا مجمل بحسب تعدد الاستعمال، وهناك نوع آخر من الإجمال وهو الإجمال الذي يكون سببه خلط الحق بالباطل وإرادة التعمية وإخفاء الباطل وإظهاره في قالب الحق والبعد عن النقد والمؤاخذة، وإرادة إضلال العامة، والتستر وراء المعاني المجملة وذلك كتستر المعتزلة في مذهبهم بخلق القرآن بقولهم:- ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، فإن هذا لفظ مجمل يحتمل الحق والباطل كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والمعتزلة قصدوا التعبير عن معتقدهم بهذا اللفظ المجمل تعمية وتلبيساً وإظهاراً للباطل في صورة الحق وحتى لا يكتشف أمرهم ولا يفضح زيف معتقدهم في كتاب الله تعالى، وهذا السبب ظاهر في التعبير بالألفاظ المجملة عند عامة أهل البدع، فإن أهل البدع يجنحون إلى الألفاظ المجملة من باب التعمية والتلبيس على عوام أهل السنة، والخلاصة أن أهل السنة في الألفاظ المجملة يتوقفون على الاستفصال حتى يتميز الحق من الباطل، وقوله ( يوقفون(1/4)
اللفظ ) أي يجعلونه في دائرة بين القبول والرد، فلا عجلة عندهم في قبوله ولا في رده، بل يضعونه في دائرة التدقيق والنظر والتمحيص والتقليب والتفهم لمعانيه، وذلك لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره وهذا التصور يتطلب الجلاء ووضوح الرؤية، فكأن هذا اللفظ قد علته قتمة الإجمال وغبارٌ يحول بين العين والرؤية الصحيحة، فلا نتعجل في الحكم عليه حتى تزول هذه القتامة وينجلي هذا الغبار فتتضح الرؤية ويكمل الفهم ويتم التصور، ولأن أهل السنة قد رباهم الشارع - صلى الله عليه وسلم - على التأني والصبر والرفق في الأمر كله، وأخبرهم بأن الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء شانه، وهذه الألفاظ المجملة يجب فيها الترفق والتأني وهذا لا يكون إلا بالتوقف فيها، فقوله ( يوقفون اللفظ ) أي لا يحكمون عليه بقبول ولا رد إلا بعد البيان، وذلك كالمتهم الذي لا يزال يحقق معه، فلم تثبت لا تهمته ولا براءته، فيوقف على ذمة التحقيق حتى يتضح أمره وتنكشف حاله فيحكم عليه بعد ذلك بالبراءة أو السجن، فالألفاظ المجملة في حيز الاتهام عند أهل السنة حتى يتكشف أمرها وتبين معانيها، ويفصح أصحابها عن مقاصدهم بها، فإن كانت متفقة مع عقيدتنا قبلناها وإن كانت مصادمة للحق رددناها ولا كرامة، وقوله (على الاستفصال ) أي طلب التفصيل، وهذا الطلب إما أن يطلب من المتكلم باللفظ المجمل مباشرة، وإما أن يقوم السني هو ببيان معاني هذا اللفظ المجمل بياناً صادراً عن علم بحقيقة مذهب المتلفظ به، والسين والتاء إذا دخلت على الفعل أفادت الطلب وعلة هذا الطلب هو بيان مقصود المتكلم بهذا اللفظ وما يعني به، حتى يتم تصور اللفظ بتصور المعنى، فيقال له:- ما قصدك بقولك كذا وكذا، أو يقال:- لفظك هذا مجمل، فإن كنت تقصد كذا فالحكم فيه كذا، وإن كنت تقصد كذا فالحكم فيه كذا، والمهم أنه لابد من الاستفصال لأن هذا التفصيل يزول به الإجمال وتتضح به حال هذا اللفظ، فقبول هذا اللفظ من(1/5)
رده مبناه على هذا التفضيل فطريق الهداية في مثل هذه الألفاظ هو طلب التفصيل، فأما قبولها مطلقاً أو ردها مطلقاً فإنه من أسباب الضلال، والخلاصة أن الألفاظ باعتبار دلالتها على معانيها ثلاثة أقسام:- قسم مقبول مطلقاً وهو اللفظ الذي لا يدل إلا على الحق، وقسم مردود مطلقاً وهو اللفظ الذي لا يدل إلا على الباطل، وقسم موقوف على التفصيل وهو اللفظ المجمل الذي يحتمل الحق والباطل فإن أريد به الحق قبلناه وإن أريد به الباطل رددناه والله أعلم .
{ فصل }(1/6)
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى ( فبالاشتراك والاشتباه في الألفاظ والمعاني ضل كثير من الناس ) وقال رحمه الله تعالى ( وأما السلف كالإمام أحمد وغير فلفظ ( الغير ) عندهم يراد به هذا ويراد به هذا ولهذا لم يطلقوا القول بأن علم الله غيره ولا أطلقوا القول بأنه ليس غيره، ولا يقولون لا هو هو ولا هو غيره، بل يمتنعون عن إطلاق اللفظ نفياً وإثباتاً لما فيه من التلبيس ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ نوعان:- نوع جاء به الكتاب والسنة فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك فيثبت ما أثبته الله ورسوله، فاللفظ الذي أثبته الله أو نفاه حق، فإن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما أخبر ونطيعه في كل ما أوجب وأمر، ثم إذا عرفنا تفصيل ذلك كان ذلك من زيادة العلم والإيمان وقد قال تعالى { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على إثباتها ونفيها فهذه ليس على أحدٍ أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به وإن أراد بها معنىً يخالف الرسول أنكره، ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها أو بين مرادها بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي، فإن كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدع ومعانٍ مشتبهة ) ا.هـ.(1/7)
وقال رحمه الله تعالى ( يجب أن تفسر الألفاظ المجملة بالألفاظ المفسرة المبينة وكل لفظ يحتمل حقاً وباطلاً فلا يطلق إلا مبيناً به المراد، الحق دون الباطل فقد قيل:- أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وكثير من نزاع الناس في هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة التي يفهم منها هذا معنى يثبته ويفهم منها الآخر معنى ينفيه ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( والمقصود هنا أن أئمة السنة كأحمد بن حنبل وغيره كانوا إذا ذكرت لهم أهل البدع الألفاظ المجملة كلفظ الجسم والجوهر والحيز ونحوها لم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات ولا على إطلاق النفي، وأهل البدع بالعكس، ابتدعوا ألفاظاً ومعاني، إما في النفي وإما في الإثبات وجعلوها هي الأصل المعقول المحكم الذي يجب اعتقاده والبناء عليه ثم نظروا في الكتاب والسنة فما أمكنهم أن يتأولوه على قولهم تأولوه وإلا قالوا:- هذا من الألفاظ المتشابهة المشكلة التي لا ندري ما أريد فجعلوا بدعهم أصلاً محكماً وما جاء به الرسول فرعاً له ومشكلاً إذا لم يوافقه وهذا أصل الجهمية والقدرية وأمثالهم، وأصل الملاحدة من الباطنية فإن جميع كتبهم توجد على هذا الطريق - ثم قال - فالواجب أن يجعل ما أنزله الله من الكتاب والحكمة أصلاً في جميع هذه الأمور ثم يرد ما تكلم فيه الناس إلى ذلك ويبين ما في الألفاظ المجملة من المعاني الموافقة للكتاب والسنة فتقبل، وما فيها من المعاني المخالفة للكتاب والسنة فترد ) ا.هـ.(1/8)
وقال رحمه الله تعالى ( وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردونه - أي أهل السنة - إلى الله ورسوله، ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف فما كان من معانيها موافقاً للكتاب والسنة أثبتوه وما كان مخالفاً للكتاب والسنة أبطلوه ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس فإن اتباع الظن جهل، واتباع هوى النفس بغير هدىً من الله ظلم وجماع الشر الجهل والظلم ) ا.هـ. وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية ( فالواجب أن ينظر في هذا الباب أعني باب الصفات فما أثبته الله ورسوله أثبتناه وما نفاه الله ورسوله نفيناه والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها فإن كان معنىً صحيحاً قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة ) ا.هـ. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى ( أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل، فيطلقها من يريد حقها فينكرها من يريد باطلها فيرد عليه من يريد حقها وهذا باب إذا تأمله الذكي الفطن رأى منه عجائب وخلصه من ورطات تورط فيها أكثر الطوائف ) ا.هـ.(1/9)
وقال أبو العباس رحمه الله تعالى ( ولهذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات، وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا قصور أو تقصير في بيان الحق ولكن لأن تلك العبارات من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل فيمنع من كلا الإطلاقين بخلاف النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل، ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب إتباعه، فيثبتون ما أثبته الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعاً من إطلاقها نفياً وإثباتاً لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفي باطله بخلاف كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه حق يجب قبوله وإن لم يفهم معناه، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه، وأما المختلفون في الكتاب، المخالفون له، المتفقون على مخالفته ومفارقته فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته، هو الإمام الذي يجب إتباعه، وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات التي لا يجوز إتباعها، بل يتعين حملها على ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه أو الإعراض عنها وترك التدبر لها ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( وما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجب الإيمان به وما لم يثبت عنه فلا يجب الحكم فيه بنفي ولا إثبات حتى يعلم مراد المتكلم وتعلم صحة نفيه وإثباته، فالكلام في الألفاظ المجملة بالنفي والإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال والقيل والقال ) ا.هـ.(1/10)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى ( إن هؤلاء المعارضين للكتاب والسنة بعقلياتهم التي هي في الحقيقة جهليات إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة محتملة، تحتمل معاني متعددة ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى والإجمال في اللفظ يوجب تناولها بحق وباطل، فبما فيها من الحق يقبل من لم يحط بها علماً ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء، وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ البدع كلها، فإن البدعة لو كانت باطلً محضاً لما قبلت ولبادر كل أحدٍ إلى ردها وإنكارها، ولو كانت حقاً محضاً لم تكن بدعة وكانت موافقة للسنة، ولكنها تشتمل على حق وباطل ويتلبس فيها الحق بالباطل كما قال تعالى { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } فنهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه، ولبسه به خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر ومنه التلبيس وهو التدليس والغش الذي يكون باطله خلاف ظاهره فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق وتكلم بلفظٍ له معنيان، معنىً صحيح، ومعنىً باطل، فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح ومراده الباطل فهذا من الإجمال في اللفظ، وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان، هو حق من أحدهما، وباطل من الآخر، فيوهم إرادة الوجه الصحيح ويكون مراده الباطل، فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة ولا سيما إذا صادفت أذهاناً مخبطة فكيف إذا أنضاف إلى ذلك هوى وتعصب، فسل مثبت القلوب أن يثبتك على دينه وأن لا يوقعك في هذه الظلمات ) ا.هـ.(1/11)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان الأوجه التي لبس بها أهل الباطل بباطلهم على الناس فقال ( إن هؤلاء في معارضتهم للوحي سلكوا طريقاً سحروا به عقول ضعفاء الناس وبصائرهم فشبهت عليهم وخيل إليهم أنها حق فأصابهم في ذلك مثل ما أصاب سحرة فرعون حين عارضوا عصى موسى بما خيل إلى أبصار الناظرين أنه حق، فإن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة تحتها معاني مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة وأدخلوا فيها من المعاني غير المفهوم منها في لغات الأمم ثم ركبوه وألفوها تأليفاً طويلاً بنوا بعضه على بعض، ففكروا فيه وقدروا وأطالوا التفكير والتقدير، ثم عظموا قولهم وهولوه في قلوب من لم يفهمه ولا ريب أن فيه دقة وغموضاً لما فيه من الألفاظ المجملة المشتبهة فإذا دخل معهم الطالب وسمع منهم ما تنفر فطرته عنه، فأخذ يعترض عليهم قالوا له:- أنت لا تفهم هذا وهذا لا يصلح لك، وهذا أمر قد صقلته الأذهان على تطاول الأزمان وتلقته العقول بالتسليم والقبول، وفزعت إليه عند التخاصم والتحاكم ) ا.هـ. وقال أبو العباس ( وأما الألفاظ المجملة فالكلام فيها بالنفي والإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال والفتن والخبال والقيل والقال ) ا.هـ. والنقول عن أهل السنة في ذلك كثيرة ونكتفي بما نقلناه حتى لا تطول الرسالة فيحصل الإملال، وخلاصة هذا الفصل أن تعلم اتفاق أهل السنة على مقتضى هذه القاعدة، فهي من الأصول المجمع عليها بين السلف ولم يخالف فيها أحد فيما نعلم والله ربنا أعلى وأعلم .
{ فصل }
فإن قلت:- فما الأسباب الداعية لأهل البدع أن يجنحوا إلى مثل هذه الألفاظ التي أوجبت عند أهل الحق ضلالهم وبعدهم عن الهدى، فأقول:- هناك أسباب ولعل أهمها ما يلي :-(1/12)
الأول :- الجهل بحقيقة لغة العرب، فإن هؤلاء المبتدعة إنما أخذوا هذه الأصول الفاسدة التي بنوا عليها معتقدهم من الفلاسفة اليونانيين الأعاجم من أفراخ اليهود والنصارى، الذين لا يعرفون لغة العرب ولا دلالات اللسان العربي، فتلقف المبتدعة هذه الألفاظ من الأعاجم الدخلاء على عقيدة الأمة، من غير تمييز بين حقها وباطلها، وجعلوها أصول اعتقادهم وقاسوا عليها أدلة الكتاب والسنة فجاؤا بهذه الألفاظ المجملة المشتبهة من غير نظر ولا فهم ولا تمييز، ولو أن هؤلاء المبتدعة سلموا لأدلة الكتاب والسنة وأخذوا أصولهم من أهل السنة لما تكلموا بهذه الألفاظ الفاسدة المجملة لكنهم جعلوا الأعاجم والأنباط وأفراخ اليونانيين أسياداً لهم في أخذ معتقداتهم وتربوا في مدارسهم الكفرية، وأصلوا أصولهم الفاسدة المناقضة للمعقول والمصادمة للمنقول فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل فالجهل بحقيقة اللفظ له دور كبير في نشوء هذه الألفاظ المجملة المحتملة للحق والباطل .
الثاني :- قصر اللفظ العربي ذي الدلالات الكثيرة على دلالة واحدة فإن هؤلاء المبتدعة يأتون بألفاظ مجملة يدخل تحتها معانٍ متعددة فلا يفهمون منها إلا معنىً واحداً فيقصرون اللفظ على ذلك المعنى، وهذا تابع للأول في الجهل بدلالات الألفاظ العربية .
الثالث :- إرادة التعمية والتلبيس على أهل السنة، فإن المبتدعة يعبرون بألفاظٍ مجملة فيها حق وباطل من باب تسويق معتقداتهم الفاسدة وترويج مذاهبهم الكاسدة، لأنهم لو عبروا عن باطلهم بلفظ لا يحتمل إلا الباطل لرده العامة والخاصة، لكنهم تستروا وراء هذه الألفاظ المجملة من باب التدليس والغش والمخادعة والمكر والكيد بالأمة .(1/13)
الرابع :- الضعف، فإن المبتدعة إذا صارت الرئاسة إليهم فإنك تراهم يعبرون عن الباطل بعبارات صريحة لا خفاء فيها، وأما إذا كانت الرئاسة لأهل السنة فإنهم يختفون وراء هذه الألفاظ المجملة ويظهر ذلك جلياً في مذهب المعتزلة، فإنهم لما كانت الشوكة لهم في عهد المأمون والمعتصم والواثق كانوا يصرحون بأن القرآن مخلوق، هكذا صراحة من غير اختفاء والويل لمن عارضهم من أهل السنة في ذلك لأن الولاية كانت بيدهم ومعهم الحديد والنار، فساموا أهل السنة بأشد العذاب لكن لما كان في عهد المتوكل وهو من أهل السنة انكسرت شوكة المعتزلة فدخلوا في جحورهم ولم يقووا على التصريح بما كانوا يصرحون به سابقاً في فترة قوتهم، فاندسوا وراء لفظ مجمل يحتمل حقاً وباطلاً لأنهم ضعفوا وجبنوا فقالوا ( ألفاظنا بالقرآن بالقرآن ) وهم لا يريدون به إلا المعنى الباطل لكن لأنه يحتمل معنىً حقاً كانوا يقولون:- نحن لا نريد إلا هذا المعنى الحق وهم فيما بينهم إنما يريدون المعنى الباطل، فالذي جعلهم يتكلمون بهذا اللفظ المجمل هو ضعفهم واستكانتهم وجبنهم عن التعبير بالباطل صراحة، وهذا واضح، فجمعوا في هذه الألفاظ بين الظلم والجهل .(1/14)
الخامس :- شدة عداوتهم الباطنية لنصوص الكتاب والسنة لاسيما نصوص الصفات، فإن القوم لا يريدون أصلاً إثبات الأسماء ولا إثبات الصفات، فاقترحوا على أنفسهم اختراع ألفاظ محدثة مبتدعة مجملة ليجعلوها فيصلاً فيما يقبل من أدلة الكتاب والسنة مما لا يقبل، فرأوا أن هذه الألفاظ المجملة المحدثة تحقق لهم ما يريدونه من نفي الأسماء والصفات فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، لأنها يسرت لهم نفث سمومهم وتحقيق مآربهم ونجاح خططهم في نسف نصوص الصفات والمعاد، فحرفوا آيات الاستواء لأنها لم تتفق مع هذه الألفاظ المجملة، وحرفوا آيات العلو لأنها لا تتفق مع هذه الألفاظ وهكذا في نصوص كثيرة، فلأن هذه الألفاظ تحقق لهم ما يريدون اخترعوها وابتلوا بها الأمة، نعوذ بالله من الضلال .
السادس :- البعد عن النبع الصافي والمورد الشافي والنهل المعصوم والانطراح بين يدي المخالفين للشرائع والمتنكبين عن هدي الدليل, وتلقف ما يرد منهم تلقف العبد من سيده من غير تمحيص ولا نظر فلأنهم أبعدوا عن مذاهب السلف وأقبلوا على علم المتكلمين الجهال الضلال, أوجدوا هذه الألفاظ الباطلة, فإن هذه الألفاظ مستوردة من عند أهل الكلام اليوناني المذموم, وأما السلف رحمهم الله تعالى فإنهم لم يكونوا يتكلمون بهذه الألفاظ, فلو أن هؤلاء تربوا في مدارس السلف لما حصل ما حصل, ولكنهم تربوا في مدارس المخالفين للشرائع فكان ما كان والله المستعان .
السابع :- اعتماد علم الكلام والدخول فيه قبل التضلع من علوم الكتاب والسنة ومناهج السلف فإن هذه الألفاظ إنما قرؤوها في كتب علم الكلام فجاءوا بها إلى ديار أهل الإسلام وامتحنوهم بها وجعلوها أصل دينهم الذي لا يناقش فيه, فعلم الكلام المذموم له دور كبير في نشر مثل هذه الألفاظ المحدثة البدعية المجملة .(1/15)
الثامن :- التعصب لنصر مذاهب أسيادهم, فإن مذاهب أئمتهم لا تنصر إلا بإحداث هذه الألفاظ ولو لم يحدثوا هذه الألفاظ لبادت مذاهب أسيادهم ولما كان لها قبول في الأمة, فبذرة التعصب لهذه المذاهب الفاسدة وأسلافها ومؤسسيها جعلهم يحدثون هذه الألفاظ المحدثة البدعية المجملة ليتحقق بذلك نصرهم لمن يعظمون وعليه يعتمدون وإليه ينتسبون .
التاسع :- زخرفة الشياطين لهم هذه الأقوال وإيحائهم بها إليهم كما قال تعالى { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } وقال تعالى { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } فلا تزال بهم الشياطين تملي لهم وتمنيهم وتعدهم وتزين لهم هذه الأقوال حتى اعتقدوا سلامتها وصحتها من المعارض فنثروها في الأمة وقرروها في عقائدهم وأجلبوا بخيلهم ورجلهم على الدفاع عنها والذب عن حياضها, وذلك كله بسبب زخرفة الشيطان وتزيينه لهم هذه الأقوال الفاسدة .
العاشر :- البغي والفجور الذي جبلت عليه النفوس كما قال تعالى { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } وهؤلاء المبتدعة الضلال طغى عليهم فجور نفوسهم فأورثهم الاعتداء والبغي واختراع هذه الألفاظ والتعصب لها من آثار هذا البغي والطغيان والفجور, فهذه بعض الأسباب التي أدت إلى انتشار هذه الألفاظ, نعوذ بالله من الخذلان والضلال والطغيان .
{ فصل }
إذا علمت هذا وعرفت شرح القاعدة تنظيراً فلم يبق لنا إلا سياق ما يتفرع عليها, وهذه الفروع التي سأذكرها لك إنما هي غيض من فيض مما جاء به هؤلاء المبتدعة, وإلا فإفسادهم في العقيدة كثير وكبير فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون وحسن القول والتحقيق :-
الفرع الأول :- قول المعتزلة ( ألفاظنا بالقرآن مخلوقة ) ما حكم هذا اللفظ فأقول:- اعلم(1/16)
أولاً أن أهل السنة رحمهم الله تعالى يعتقدون أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وهذا متفق عليه بين أهل السنة والأدلة على ذلك مذكورة في غير هذا الموضع، وأجمع أهل السنة أيضاً على أن من قال بخلق القرآن فإنه يكفر، وقد كان المعتزلة في زمن المأمون والمعتصم والواثق يقولون بأن القرآن مخلوق صراحة، ولما كان في عهد المتوكل وضعف المعتزلة قالوا:- نحن لا نقول:- إن القرآن مخلوق ولكن نقول:- إن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، فنظر أهل السنة إلى هذه اللفظة فقرروا أنها من الألفاظ المحدثة البدعية المجملة التي تحتمل الحق والباطل، وقرروا أن هذا اللفظ لا يطلق القول به نفياً ولا إثباتاً لأن الألفاظ المجملة موقوفة على الاستفصال، فإن أريد بها الحق قبلناه وإن أريد بها الباطل رددناه، وذلك لأن كلمة ( ألفاظنا ) وكلمة ( لفظي ) تحتمل أن يراد بها لفظ القائل من صوته المسموع وحركات لسانه ولهاته ونبراته، ويحتمل أن يراد به ما تلفظ به، فإن كان يريد باللفظ أي لفظة هو نفسه من حركات لسانه ولهاته ونبرات صوته فلا شك أن هذه الأشياء مخلوقة وإن أراد الملفوظ به فإن هذا القول باطل، لأن الملفوظ غير مخلوق لأنه كلام الله منزل غير مخلوق، فالصوت والألحان صوت القاري، لكنما المتلو والمقروء كلام الباري جل وعلا، والمعتزلة إنما يريدون المعنى الباطل لا المعنى الحق، ولذلك قال الإمام أحمد وغيره من السلف ( من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ) أي أنه وافق المعتزلة في مرادهم من إنشاء هذه المقالة، فإذا جاءك المعتزلي وقال لك:- لفظي بالقرآن مخلوق، فلا تقل له صدقت، ولا تقل له كذبت، ولكن قل له:- هل تقصد بذلك ما ينسب لك أنت من صوتك وحركات لسانك ولهاتك فإن كنت تقصد ذلك فقد صدقت، وإن كنت تقصد ما تلفظت به أي الملفوظ به، فقد كذبت لأن الملفوظ به كلام الله منزل غير مخلوق، وهذا التفصيل يقال إذا ابتلي السني بقول المعتزلي هذا، وإلا فالواجب(1/17)
والأحوط والأسلم أن لا يتكلم به السني ابتداء لأنه لفظ محدث موهم يشتبه فيه الحق بالباطل، لكن إذا ابتليت بمن يقول ذلك في زمانك واحتاج الناس إلى بيان الحق فلابد من بيانه بهذا التفصيل السابق، ووجه الاشتباه في هذه المقالة أن كلمة ( لفظي ) مصدر والمصدر يصدق على ما يعود للفاعل من حركات لسانه ولهاته وشفتيه ونبرات كلامه، ويصدق على المفعول الذي هو ذات القرآن، فإن كان يقصد بقوله ( لفظي بالقرآن مخلوق ) المعنى الأول فهو حق لأن صوته وحركات لسانه ولهاته وشفتيه ونبرات كلامه كل ذلك مخلوق، وإن كان يريد المعنى الثاني فهو باطل، لأن المتلو والمقروء كلام الله تعالى، وكلامه صفة من صفاته وليس في صفاته جل وعلا شيء مخلوق، والمتقرر عند أهل السنة رحمهم الله تعالى أن القرآن كلام الله حيثما تصرف سواءً قرئ بالألسنة أو حفظ في الصدور أو كتب في الأوراق والألواح وغير ذلك، فهو كلام الله، فلا يخرجه عن كونه كلام الله مجرد ذلك فإذا تلفظ الإنسان بالقرآن، ففيه أمران:- وسيلة تلفظ بها، وقرآن تلفظ به، فالوسيلة التي أخرج بها القرآن لا شك أنها مخلوقة وهي صوته وحركات لسانه ولهاته وشفتيه، وأما الكلام الذي قرأه فإنه كلام الله منزل غير مخلوق، فلأن كلمة ( لفظي ) تصدق على الوسيلة المخلوقة، وتصدق على الكلام الذي قرأه صارت لفظة مجملة يدخل تحتها حق وباطل، فلا يقبل قوله إلا بعد الاستفصال وتمييز الحق من الباطل فيقبل الحق ويرد الباطل، فإذا كان المراد بهذه الكلمة ما يخص المخلوقين فهي حق، وإذا كان المراد بها ما يخص القرآن الذي هو كلام الله فباطل، فاحذر يا طالب العلم من الألفاظ السامجة المحدثة المبتدعة المجملة واسلك فيها طريق التفصيل والله أعلى وأعلم .(1/18)
الفرع الثاني :- قول بعض أهل السنة ( ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة ) أقول:- إن بعضاً قليلاً من أهل السنة لما سمعوا المعتزلة يقولون:- ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، لم ينقدح في ذهنه إلا المعنى الباطل فيها فاستعجل بمعارضتهم بنقيض قولهم ذلك فقال:- ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة، وهذا خطأ لأنه رد للبدعة بالبدعة، ورد للفظ المجمل بلفظٍ مجمل وليس هذا طريق المحققين، وقد حكم الإمام أحمد وغيره من أئمة أهل السنة بأن من قال ( لفظي بالقرآن غير مخلوق ) بأنه مبتدع في هذا اللفظ وذلك لأمرين:- أحدهما:- لأنه لفظ لا يعرف عن سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فهو قول محدث في عقيدة المسلمين، ثانيهما:- أنه لفظ مجمل يحتمل الحق والباطل، فالأصل وجوب الكف عن مثل هذه الألفاظ البدعية المنكرة المشتبهة، ولكن إذا ابتليت بمن يقول ذلك فلابد من بيان الحق وهو أن يقال:- إن هذه المقالة مجملة والمتقرر عند أهل السنة أن اللفظ المجمل لا يقبل مطلقاً ولا يرد مطلقاً بل هو موقوف على الاستفصال حتى يتميز حقه من باطله فيقبل الحق ويرد الباطل، والتفصيل في هذا القول كما ذكرناه في الفرع الذي قبل هذا، فإن كان يقصد بهذه المقالة ما يخص القرآن الذي قرأه فهي حق وصدق لأن القرآن كلام الله وكلام الله غير مخلوق هذا إذا كان يقصد الملفوظ أي ما تلفظ به، وإن كان يقصد بها ما يخصه هو ذاته من صوته وحركات لسانه ولهاته وشفتيه ونبرات كلامه فهذا باطل لأن هذه الأشياء مخلوقة بالاتفاق، فالجواب عكس الجواب في الفرع الأول وهذا واضح إن شاء الله تعالى والخلاصة أن نقول:- من قال لفظي بالقرآن مخلوق إن كان يقصد ما هو من خصائص البشر من الصوت وحركات الجوارح فهو حق وإن كان يقصد الملفوظ والمتلو والمقروء فهو باطل، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق إن كان يقصد القرآن ذاته فهو حق وإن كان يقصد ما هو من خصائص البشر فهذا باطل، فالقراءة مخلوقة والمقروء غير مخلوق، والتلاوة مخلوقة(1/19)
والمتلو غير مخلوق وكذلك نقول إذا كتب القرآن في الورق:- الكتابة مخلوقة والمكتوب غير مخلوق، فلابد من التفريق بين ما يرجع لصفة البشر وما يرجع لصفة كلام الله تعالى فإن من أوتي هذا الفرقان فقد أوتي خيراً كثيراً، قال ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري ( وهذه المسألة هي المشهورة بمسألة اللفظ، ويقال لأصحابها اللفظية، واشتد إنكار الإمام أحمد ومن تبعه على من قال:- لفظي بالقرآن مخلوق، ويقال:- إن أول من قاله الحسين بن علي الكرابيسي أحد أصحاب الشافعي الناقلين لكتابه القديم، فلما بلغ ذلك أحمد بدعه، وهجره، ثم قال بذلك داود بن علي الأصبهاني رأس الظاهرية، وهو يومئذٍ بنيسابور فأنكر عليه إسحاق وبلغ ذلك أحمد، فلما قدم بغداد لم يأذن له في الدخول عليه وجمع ابن أبي حاتم أسماء من أطلق على اللفظية أنهم جهمية فبلغوا عدداً كثيراً من الأئمة، وأفرد لذلك باباً في كتابه الرد على الجهمية، والذي يتحصل من كلام المحققين منهم أنهم أرادوا حسم المادة صوناً للقرآن أن يوصف بكونه مخلوقاً وإذا حقق الأمر عليهم لم يفصح أحد منهم بأن حركة لسانه إذا قرأ قديمة وقال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات:- مذهب السلف والخلف من أهل الحديث والسنة أن القرآن كلام الله وهو صفة من صفات ذاته وأما التلاوة فهم على طريقين، منهم من فرق بين التلاوة والمتلو، ومنهم من أحب ترك القول فيه وأما ما نقل عن أحمد أنه سوى بينهما فإنما أراد حسم المادة لئلا يتذرع أحد إلى القول بخلق القرآن، ثم أسند من طريقين إلى أحمد أنه أنكر على من نقل عنه أنه قال:- لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنكر على من قال:- لفظي بالقرآن مخلوق، وقال:- القرآن كيف تصرف غير مخلوق؟ فأخذ بظاهر الثاني من لم يفهم مراده، وهو مبين في الأول، وكذا نقل عن محمد بن أسلم الطوي أنه قال:- الصوت من المصوت كلام الله وهي عبارة رديئة لم يرد ظاهرها وإنما أراد كون المتلو مخلوقاً، ووقع نحو ذلك لإمام الأئمة(1/20)
محمد بن خزيمة ثم رجع عنه وله في ذلك مع تلامذته قصة مشهورة )ا.هـ. كلام ابن حجر رحمه الله تعالى، وقال أبو العباس رحمه الله تعالى ( فإن السلف والأئمة، الإمام أحمد وغيره لم يقل أحد منهم إن كلام الآدميين غير مخلوق ولا قالوا إنه قديم ولا أن أفعال العباد غير مخلوقة ولا أنها قديمة ولا قالوا أيضاً إن الإيمان قديم ولا أنه غير مخلوق ولا قالوا:- إن لفظ العباد بالقرآن مخلوق ولا أنه غير مخلوق ولكن منعوا من إطلاق القول بأن الإيمان مخلوق وأن اللفظ بالقرآن مخلوق لما يدخل في ذلك من صفات الله تعالى، ولما يفهمه هذا اللفظ من أن نفس كلام الخالق مخلوق وأن نفس هذه الكلمات مخلوقة، ومنعوا أن يقال:- حروف الهجاء مخلوقة لأن القائل هذه المقالات يلزمه أن لا يكون القرآن كلام الله وأنه لم يكلم موسى، فجاء أقوام أطلقوا ذلك فقال بعضهم:- لفظي بالقرآن غير مخلوق، فبدع الإمام أحمد وغيره من الأئمة من قال ذلك )ا.هـ.(1/21)
وقال رحمه الله تعالى ( وسبب الاشتباه أن المتلو هو القرآن نفسه الذي هو كلام الله، والتلاوة قد يراد بها هذا وقد يراد بها نفس حركة التالي وفعله وقد يراد بها الأمران جميعاً، فمن قال التلاوة هي المتلو، أراد بالتلاوة نفس القرآن المسموع وذلك هو المتلو ومن قال غيره أراد بالتلاوة حركة العبد وفعله، وتلك ليست هي القرآن، ومن نهى أن يقال هي المتلو أو غير المتلو فلأن لفظ التلاوة يجمع الأمرين، كما نهى الإمام أحمد وغيره أن يقال:- لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، لأن اللفظ يراد به الملفوظ نفسه الذي هو كلام الله ويراد به مصدر لفظ يلفظ لفظاً وهو فعل العبد وأطلق قوم من أهل الحديث أن لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأطلق آخرون أن لفظي به مخلوق ) وقال الشيخ حافظ الحكمي في معارج القبول ( اشتهر عن السلف الصالح، كأحمد بن حنبل وهارون الفروي وجماعة أئمة الحديث أن اللفظية جهمية واللفظية هم من قال:- لفظي بالقرآن مخلوق، قال أئمة السنة رحمهم الله تعالى:- من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع، يعنون غير بدعة الجهمية وذلك لأن اللفظ يطلق على معنيين، أحدهما الملفوظ به وهو القرآن، وهو كلام الله ليس فعلاً للعبد ولا مقدوراً له، والثاني:- التلفظ وهو فعل العبد وكسبه وسعيه فإذا أطلق لفظ على المعنى الثاني شمل الأول قول الجهمية وإذا عكس الأمر بأن قال:- لفظي بالقرآن غير مخلوق شمل المعنى الثاني وهي بدعة أخرى من بدع الاتحادية وهذا ظاهر عند كل عاقل فإنك إذا سمعت رجلاً يقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تقول:- هذا لفظ سورة الإخلاص وتقول:- هذا لفظ فلان بسورة الإخلاص، إذ اللفظ معنى مشترك بين التلفظ الذي فعل العبد، وبين الملفوظ به الذي هو كلام الله عز وجل ) ا.هـ.(1/22)
وقال ابن تيمية في درء التعارض ( فمن قال لفظي بالقرآن أو تلاوتي دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو وذلك هو كلام الله تعالى، وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعنى صحيحاً لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره، ولهذا قال أحمد في بعض كلامه من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي احتراز عما إذا أراد به فعله وصوته، وذكر اللالكائي أن بعض من كان يقول ذلك رأى في منامه كأن عليه فروة ورجل يضربه فقال له:- لا تضربني، فقال:- إني لا أضربك إنما أضرب الفروة، فقال:- إن الضرب إنما يقع ألمه علي، فقال:- هكذا إذا قلت لفظي بالقرآن مخلوق وقع الخلق على القرآن ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق أو تلاوتي دخل في ذلك المصدر الذي هو عمله وأفعال العباد مخلوقة، ولو قال أردت به أن القرآن المتلو غير مخلوق لا نفس حركاتي، قيل له لفظك هذا بدعة وفيه إجمال وإيهام وأن كان مقصودك صحيحاً كما يقال للأول إذا قال أردت أن فعلي مخلوق لفظك أيضاً بدعة وفيه إجمال وإيهام وإن كان مقصودك صحيحاً فلهذا منع أئمة السنة الكبار إطلاق هذا وهذا وكان هذا وسطاً بين الطرفين وكان أحمد وغيره من الأئمة يقولون القرآن حيث تعرف كلام الله غير مخلوق ) والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(1/23)
الفرع الثالث :- إذا قيل هل ظاهر آيات الصفات مراد أو غير مراد؟ فإياك أن تقول:- مراد على وجه الإطلاق وإياك أن تقول:- غير مراد على وجه الإطلاق لأن لفظ الظاهر صار بحسب استعمال الطوائف له من الألفاظ المجملة التي تحتمل الحق والباطل، وحيث كان لفظاً مجملاً فلابد من تطبيق قاعدة أهل السنة في المجملات عليه فنقول:- إن كان يقصد بالظاهر ما يفهمه أهل السنة فهو مراد ولا شك، وأقسم بالله العلي العظيم أنه مراد بهذا الاعتبار، وإن كان يقصد بالظاهر ما يفهمه أهل البدع فهو غير مراد، لأنهم لا يفهمون من ظاهرها إلا ما يختص بصفات المخلوق فالمبتدعة لا يفهمون من ظاهر نصوص العلو إلا علو المخلوق، ولا يفهمون من ظاهر نصوص الاستواء والوجه واليدين والرحمة والرضا والغضب إلا ما يعرفونه من صفات المخلوقات ولذلك قالوا:- إن ظواهر آيات الصفات غير مراد، وكذلك نحن نقول إن كنتم لا تفهمون من ظاهر نصوص الصفات إلا ما هو من خصائص المخلوقات فلا جرم أنه غير مراد، ولكن هذا الظاهر الذي فهموم ليس هو حقيقة ظاهر نصوص الصفات، بل هذا الظاهر عندهم باطل وكفر وزندقة وجهل وضلال لأن النصوص القطعية المتواترة قد أفادت قطع دابر المماثلة بين الخالق والمخلوق ولكن القوم أهل جهل وضلال فلا نقل ولا عقل يحكمهم ويهديهم لأنهم لم يريدوا معرفة الحق وإنما أرادوا أن يسخروا الحق ليتوافق مع قواعدهم وأهوائهم، وقد قال تعالى { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ } وقد قضى ربنا جل وعلا بأن الحق هدىً لمن أراده وطلبه بصدق وإخلاص، وحسرة على من أباه وكرهه وعاداه، قال تعالى { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } والمقصود أن الظاهر لفظ مجمل فإن كان يراد به ما يفهمه أهل السنة(1/24)
فهو مراد وإن كان يراد به ما يفهمه أهل البدع فغير مراد، فلا تثبت مطلقاً ولا تنف مطلقاً بل الأمر موقوف على الاستفصال، وذلك لأن أهل السنة لا يفهمون من ظواهر نصوص الصفات إلا الحق اللائق بالحق جل وعلا، وأما أهل البدع فلا يفهمون منها إلا الباطل المحض حاسبهم الله بالعدل يوم العرض، فانتبه لهذا وعليك بتفصيل ما أجمل ولا يخدعنك القوم بزخارف القول فالحق أحق أن يتبع، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى ( القاعدة الثالثة:- إذا قال القائل ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها غير مراد، فإنه يقال:- لفظ الظاهر فيه إجمال أو اشتراك فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال، والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين:- تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلوه محتاجاً إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل - إلى أن قال - وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها والظاهر هو المراد في الجميع فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره وأن ظاهر ذلك مراد كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته كقدرتنا ) وأرجو من الله ثم منك أن تراجع القاعدة الثالثة من قواعد التدمرية فإن فيها كلام طيب في بيان قضية الظاهر هل هو مراد أو ليس بمراد، وقال الشيخ حمد بن ناصر آل معمر في التحفة المدنية ( واعلم أن كثيراً من المتأخرين يقولون:- هذا مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها(1/25)
إقرارها على ما جاءت مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد وهذا لفظ مجمل فإن قول القائل:- ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين فلا شك أن هذا غير مراد، ومن قال هذا فقد أصاب ولكن أخطأ في إطلاق القول إن هذا ظاهر النصوص فإن هذا ليس هو الظاهر فإن إيماننا بما ثبت من نعوته كإيماننا بذاته المقدسة إذ الصفات تابعة للموصوف ) ا.هـ. قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( ومن قال من المتأخرين:- إن مذهب السلف أن الظاهر غير مراد فيجب لمن أحسن به الظن أن يعرف أن معنى قوله ( الظاهر ) الذي يليق بالمخلوق لا بالخالق، ولا شك أن هذا غير مراد، ومن قال إنه مراد فهو بعد قيام الحجة عليه كافر ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( وقد نقل طائفة أن مذهب السلف أن الظاهر غير مراد، قال:- والجمع بين النقلين أن الظاهر لفظ مشترك فالظاهر الذي لا يليق إلا بالمخلوق غير مراد، وأما الظاهر اللائق بجلال الله وعظمته فهو مراد ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( من قال:- إن الظاهر غير مراد بمعنى أن صفات المخلوقين غير مراده قلنا له:- أصبت في المعنى لكن أخطأت في اللفظ وأوهمت البدعة ) ولعل ذلك واضح والله أعلم .(1/26)
الفرع الرابع :- هل أسماء الله تعالى مترادفة أم متباينة؟ والجواب احذر رحمك الله تعالى من أن تقول:- مترادفة بإطلاق، أو تقول متباينة بإطلاق، بل لا بد في المقام من التفصيل ليزول الإجمال وينقطع دابر الاحتمال وهو أن يقال:- هي مترادفة من حيث دلالتها على ذات واحدة وهي ذات الرب جل وعلا، ومتباينة باعتبار دلالتها على الصفات لأن كل اسم منها يدل على صفة غير صفة الاسم الآخر، فأسماء الله تعالى مترادفة من حيث الذات ومتباينة من حيث الصفات، وذلك كأسماء الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن له أسماء كثيرة إذا نظرت إلى دلالتها على الذات فإنها مترادفة لأنها تدل على ذاتٍ واحدة وهي ذات محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - ، وإن نظرت إلى صفات كل اسم منها وجدت أن كل اسم يدل على صفة لهذه الذات غير صفة الاسم الآخر، فهي مترادفة من حيث الذات ومتباينة من حيث الصفات، وكأسماء السيف، فإن للسيف أسماء كثيرة، فإذا نظرت إلى دلالتها على ذات السيف وجدتها مترادفة، ولكن إذا نظرت إلى صفاتها وجدت أن كل اسم من أسماء السيف يدل على صفة غير صفة الاسم الآخر، فأسماء السيف المتعددة مترادفة بالنظر إلى الذات ومتباينة من حيث الصفات، وكأسماء اليوم الآخر فإن الله جل وعلا سماه في القرآن بأسماء كثيرة هي مترادفة باعتبار دلالتها على يوم واحد ولكنها متباينة من حيث دلالتها على صفاتها وكأسماء الأسد، فإن العرب قد سمت الأسد بأسماء كثيرة هي مترادفة باعتبار النظر إلى ذات الأسد، ولكنها متباينة دلالتها على صفات متعددة، فأسماء الله تعالى مترادفة بالنظر إلى دلالتها على ذات واحدة، لكن بالنظر إلى اختلاف صفاتها تقول:- متباينة، فإذا قيل لك:- هل أسماء الله متباينة أو مترادفة؟ فقل:- مترادفة من حيث الذات ومتباينة من حيث الصفات، فالعزيز هو الغفور، لكن العزة ليست هي المغفرة والرحيم هو القوي لكن الرحمة ليست هي القوة، والجبار هو التواب، لكن الجبروت ليس هو(1/27)
التوبة وهكذا في سائر أسمائه جل وعلا، وأنت بهذا تكون قد سددت على أهل البدع لاسيما المعتزلة باب التحريف والتعطيل فإن المعتزلة قد انقسموا في هذه المسألة إلى قسمين فمنهم من قال:- أسماء الله مترادفة ومنهم من قال:- أسماء الله متباينة وأما أهل السنة فلم يقبلوا كلا الإطلاقين، لأن قول ( أسماء الله مترادفة ) فيه حق وباطل، فإن كان يقصد بالترادف أي باعتبار الذات فهو حق وإن كان يقصد بالترادف أي باعتبار الصفات فهو باطل وقول من قال ( أسماء الله متباينة ) إن كان يقصد أي باعتبار دلالتها على الذات فهو باطل وكفر وشرك لأنه يقضي بتعدد الآلهة وإن كان يقصد أي باعتبار دلالتها على الصفات فهو حق فاحذر يا طالب العلم من إطلاق ما يكون الحق في تفصيله والله أعلم، قال الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى في شرح قصيدة ابن القيم نقلاً عنه ( ثم إن الاسم من أسمائه جل وعلا دلالات، دلالة على الذات والصفة بالمطابقة ودلالة على أحدهما بالتضمن ودلالة على الصفة الأخرى باللزوم، ولأسمائه الحسنى اعتباران:- أحدهما:- من حيث الذات والثاني:- من حيث الصفات، فهي بالاعتبار الأول مترادفة، وبالاعتبار الثاني متباينة ) ا.هـ.(1/28)
وقال أبو العباس رحمه الله تعالى ( والله سبحانه أخبرنا أنه عليم قدير سميع بصير غفور رحيم إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته، فنحن نفهم معنى ذلك ونميز بين العلم والقدرة وبين الرحمة والسمع والبصر ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله مع تنوع معانيها فهي متفقة متواطئة من حيث الذات متباينة من جهة الصفات، وكذلك أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن والفرقان والهدى والتنزيل والشفاء وغير ذلك، ومثل هذه الأسماء قد تنازع الناس فيها هل هي من قبيل المترادفة لاتحاد الذات أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات، كما إذا قيل:- السيف والصارم، والمهند وقصد بالصارم معنى الصرم وبالمهند النسبة إلى الهند، والتحقيق أنها مترادفة في الذات، متباينة في الصفات ) ا.هـ. وهذا واضح إن شاء الله تعالى وهو أعلى وأعلم .(1/29)
الفرع الخامس :- قول:- الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله جل وعلا، أقول:- إن لفظ الواسطة صار من الألفاظ المجملة بحسب استعمال الطوائف فلا نثبت هذه الوساطة مطلقاً ولا ننفيها مطلقاً قبل الاستفصال عن المراد بمعناها، فإن أراد أنه الواسطة بيننا وبين الله في بلاغ الشريعة والوحي المنزل وفي التعريف بما يجب وما يستحب وما يكره وما يحرم وما يباح وغير ذلك من مسائل الشرع فهذا حق، لأن الله تعالى بعثه إلى الخلق بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وهذا المعنى متفق عليه بين المسلمين فالرسول - صلى الله عليه وسلم - واسطة بيننا وبين الله في بلاغ الشرع، وإن كان يقصد أنه الواسطة بمعنى أنه صاحب الشفاعة العظمى والمقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون فهذا حق أيضاً فإن الناس يوم القيامة لا يفصل فيهم القضاء مع طول اليوم وهول الموقف وتراجع أولوا العزم إلا بشفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والأحاديث في إثبات الشفاعة العظمى معروفة مشهورة، والشفاعة معناها الواسطة بيننا وبين الله في فصل القضاء، فهذا حق وصدق متفق عليه بين أهل السنة والجماعة، وإن كان يريد بالواسطة أنه يدعى من دون الله تعالى ويستغاث به ويهتف باسمه عند حلول الشدائد وحلول المصائب كما يفعله عباد القبور فهذا باطل كل البطلان، باتفاق المسلمين، ولا عبرة بفعل أهل البدع، ذلك لأنه مخلوق لا يملك نفعاً ولا ضراً لنفسه فضلاً عن غيره كما قال تعالى { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ...(1/30)
الآية } وقال تعالى عنه { قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } وقال تعالى { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } ولأن الدعاء والاستغاثة والاستعانة من العبادات، والعبادات حق صرف محض لله تعالى لا تصرف لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا لولي صالح، ولأنه من المعلوم بالاضطرار من حال الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا إذا نزلت بهم الشدائد والكروب من القحط والحروب وغيرها فإنهم لم يكونوا يذهبون لقبره لدعائه أو الاستغاثة به، فمن دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته فإنه كافر ومشرك وكذلك من استغاث به، وأما في حياته فيقيد ذلك بما يقدر عليه - صلى الله عليه وسلم - ، فانظر المعاني التي دخلت تحت لفظ الواسطة، وعليه فلا يقبل بإطلاق ولا يرد بإطلاق وإنما يوقف على الاستفصال فإن أريد به الحق قبلناه وإن أريد به الباطل رددناه قال ابن تيمية رحمه الله تعالى ( الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الواسطة بيننا وبين الله تعالى في تبليغ أمره ونهيه وتحليله وتحريمه ووعده ووعيده فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله قال تعالى { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( والرسول هو الواسطة والسفير بينهم وبين الله عز وجل فهو الذي يبلغهم أمر الله ونهيه ووعده ووعيده وتحليله وتحريمه فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله وليس لأحدٍ أن يخرج عن شيء مما شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه وهم السفراء بينه وبين عباده ) ا.هـ.(1/31)
وقال ( فإن الله تعالى جعل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وسائط في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده فليس لأحدٍ طريق إلى الله إلا متابعة الرسول بفعل ما أمر وترك ما حذر ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( فصل، فيمن قال لابد لنا من واسطة بيننا وبين الله تعالى، فإذا أراد بالواسطة أنه لابد من واسطة تبلغه أمر الله، ونهيه فهذا حق لابد للناس من رسول يبلغ عن الله أمره ونهيه ويعلمهم دين الله الذي تعبدهم به فهذا مما أجمع عليه أهل الملل ومن أنكر ذلك فهو كافر بالأجماع وأن أراد بالواسطة أنه لابد منه في جلب المنافع ودفع المضار ورزق العباد وهداهم فهذا شرك، وقد كفر الله به المشركين حيث اتخذوا من دونه شفعاء وأولياء يستجلبون بهم المنافع فمن جعل الملائكة أو غيرهم أرباباً أواسطة يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم، أو يسأل الله بهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكربات ونحو ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين، ومن جعل المشايخ من أهل العلم والدين وسائط عن الرسول يبلغون الأمة شرائع الرسول وهديه فقد أصاب وقد قال عليه الصلاة والسلام (( العلماء ورثة الأنبياء )) وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أثبتهم وسائط بمعنى الحجاب الذين بين الملك والرعية بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه فهذا شرك وكفر ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( والرسول - صلى الله عليه وسلم - واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده وتحليله وتحريمه وسائر ما بلغه من كلامه، وأما في إجابة الدعاء وكشف البلاء والهداية والإغناء فالله تعالى هو الذي يسمع كلامهم ويرى مكانهم ويعلم سرهم ونجواهم وهو سبحانه قادر على إنزال النعم وإزالة الضر والسقم من غير احتياج منه إلى أن يعرفه أحد أحوال عباده أو يعينه على قضاء حوائجهم ) ا.هـ.(1/32)
وبناءً عليه فالرسول - صلى الله عليه وسلم - واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ الشرع ولكن ليس واسطة بيننا وبين الله في دعائه جل وعلا، فليس بين الله وبين خلقه في دعائه والاستغاثة به والاستعانة أي وسائط وهذا هو السر في أن أسئلة القرآن للنبي - صلى الله عليه وسلم - قيل فيها { فَقُلْ } كقوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وكقوله { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى } وكقوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } وكقوله { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } وكقوله { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } وكقوله { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا } وغير ذلك من الأسئلة الواردة عليه - صلى الله عليه وسلم - ، ذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - هو الواسطة بيننا وبين الله في بلاغ الشرع وبيان الدين ولكن لما جاء في مقام الدعاء لم يقل:- قل كما في قوله جل وعلا { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ولم يقل:- فقل لأنه لا واسطة بين الخلق وبين الخالق في دعائه جل وعلا، وهذا واضح إن شاء الله تعالى والمقصود أن قول القائل ( الرسول واسطة بيننا وبين الله ) أو قول القائل ( لابد من واسطة بيننا وبين الله ) من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقاً وباطلاً فلا تقبل مطلقاً لأن فيها باطلاً والباطل لا يقبل ولا ترد مطلقاً لأن فيها حقاً والحق لا يرد بل هي موقوفة على الاستفصال حتى يتميز حقها فيقبل من باطلها فيرد والله ربنا أعلى وأعلم .(1/33)
الفرع السادس :- لفظ (التوسل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ) فإن هذا اللفظ حسب استعمال صار من الألفاظ المجملة التي تحتمل الحق والباطل، فلا بد فيها من الاستفصال، وبيان ذلك أن يقال:- إن كان المقصود بالتوسل به أي طاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه وجعل ذلك وسيلة يتقرب بها إلى الله تعالى، فلا جرم أن هذا هو أصل الدين وأساسه وجماعه، وهو المراد بقوله جل وعلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فطاعته - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به والتعبد لله جل وعلا بمقتضى شريعته وسيلة لمرضاة الله جل وعلا ووسيلة لحبه ووسيلة لجنته ووسيلة لتقواه أي أن هذه الأشياء طريق موصلة إلى الله جل وعلا، فالوسيلة هنا معناها القربة والطاعة قاله ابن عباس ومجاء وعطاء وأبو وائل والحسن وقتادة وعبدالله بن كثير والسدي وابن زيد، قال ابن كثير ( وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه ) ا.هـ.(1/34)
فإذا كان المراد بلفظ ( التوسل بالرسول ) أي التقرب إلى الله تعالى بالإيمان به وإثبات رسالته وتعزيره وتوقيره وطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وتصديقه فيما أخبر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع فهذا كله حق وصدق، بل هو أصل الدين كما ذكرت وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل الإسلام، وهذا التوسل بهذا المعنى لا ينقطع أبداً حتى تقوم الساعة لأنه حقيقة الدين وروح التعبد، وأما إذا كان يقصد بجعله وسيلة أي بطلب الدعاء منه حال كونه حياً فيما يقدر عليه فهذا أيضاً حق وصدق، فإن طلب الدعاء من الحي الحاضر القادر جائز، والوسيلة تأتي بمعنى طلب الدعاء، فهذا جائز ولا شك، لكن في حال حياته فقط - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى ذلك حديث أنس عن عمر في صحيح البخاري أن الصحابة كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعباس - رضي الله عنه - أي في عهد عمر- فيتقدم عمر ويقول :- اللهم إنا كنا نتوسل بنبيك - صلى الله عليه وسلم - فتسقينا وإنا نتوسل بعم نبيك، فيقوم العباس فيدعو ويؤمن الناس فيسقون، فهذا توسل بمعنى طلب الدعاء، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيلة بمعنى أنه يجوز طلب الدعاء منه في حياته فقط، وهذا التوسل بهذا المعنى ليس من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ، فقد توسل الصحابة بالعباس بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - ، وتوسل معاوية بالأسود، وغير ذلك وعلى ذلك يخرج توسل الرجل الأعمى بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إن صح الحديث - فإن روايات الحديث يفسر بعضها بعضاً، فلفظ الوسيلة الوارد في حديث الأعمى معناه طلب الدعاء منه - صلى الله عليه وسلم - كما فسرته الروايات الأخرى وكما فسره بذلك أهل العلم المحققين من أهل السنة والجماعة، ولكن هذا التوسل بهذا المعنى لا يجوز إلا في حياته فقط، وأقسم بالله أنه لا يجوز إلا في حياته فقط، فانتبه لهذا بارك الله فيك، فهذان المعنيان السابقان حق، فأما الأول فهو مستمر مع المؤمن سواءً في حياة الرسول - صلى(1/35)
الله عليه وسلم - وبعد مماته، وأما المعنى الثاني فإنه أمر جائز في حياته فقط، والمعنى الثالث:- أن يكون مراد قائل هذه اللفظة دعاءه - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته والابتهال إليه والاستغاثة به والتوجه إليه، فهذا أمر باطل كل البطلان، وهو شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام بالكلية، فلا يجوز دعاؤه بعد مماته، ولا طلب الدعاء منه، ولا استشفاع به ولا جعله واسطة في ذلك ولا الاستغاثة به، بل هذا كله من المحرمات والعظائم والشرك الأكبر المنافي لأصل التوحيد، وذلك لأن الدعاء من العبادات، وقد تقرر أن العبادة حق محض صرف لله تعالى لا تصرف لملكٍ مقرب ولا لنبيٍ مرسل ولا لوليٍ صالح فضلاً عن غيرهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث لأمر الناس بالتوحيد ونهيهم عن الشرك بالله جل وعلا، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لأمته أن يستغيثوا بميتٍ لا نبي ولا غيره،لا في جلب منفعة ولا دفع مضرة، فلا يشرع دعاؤه بعد موته، ولا أن يقال:- سل الله لي أن يغفر لي ذنوبي، ولا أن يقول:- أنا في جوارك، أنا في حسبك ولا يشرع أن يقول:- انصرنا على أعدائنا، أو اشف مريضنا، كل ذلك من الشرك الذي لا يجوز، ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يأتون إلى قبره متوسلين به بعد موته، وخير الهدي هديهم فالتوسل به بهذا الاعتبار محرم التحريم القاطع، بل هو شرك في التوحيد وناقض له، وغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإن كان مراد القائل ( التوسل بالرسول ) هذا المعنى فإنه باطل وشرك كما ذكرت لك، والمعنى الرابع:- إن كان مراد قائل هذه الكلمة أي التوسل بذاته أو بجاهه - صلى الله عليه وسلم - فهذا لا يجوز أيضاً ونحن نؤمن بأن جاهه - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الجاه عند الله جل وعلا وأنه أرفع الجاه، لكن هذا لا يسوغ أن نسأل الله بجاهه، ذلك لأن التوسل عبادة والعبادات مبناها على التوقيف ولا دليل نعلمه يجيز التوسل بجاهه أو بذاته عليه الصلاة(1/36)
والسلام وأما حديث (( إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي )) فإنه موضوع لا يصح نسبته لمقامه - صلى الله عليه وسلم - ، بل أقول:- كل حديث مرفوع فيه إثبات سؤال الرب بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه موضوع، وعليه فلا يجوز بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بذات غيره من الأنبياء والصالحين ولا يجوز أيضاً التوسل بجاهه - صلى الله عليه وسلم - ولا بجاه غيره لأن ذلك بدعة لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم - وفي الحديث (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وفي الحديث (( وكل بدعة ضلالة )) فلا يجوز التوسل إلا بما قرره الدليل كالتوسل بأسمائه جل وعلا وصفاته، وبالعمل الصالح، وبدعاء الحي الحاضر القادر، وبذكر الحال، وأما ما لا دليل عليه فلا يجوز لأحدٍ من الخلق أن يجعله وسيلة لأن ذلك توقيفي على الدليل وليس منع التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - تنقصاً له أو من التقصير في حقه، كما يفهمه أهل الأهواء والبدع، بل هذا من كمال محبته وإتباعه وحماية شرعه والذب عن حياض سنته، لأن حقيقة الحب والتوقير والتعزير والتعظيم تتمثل في الاقتفاء والإتباع لا في الإحداث والابتداع، كما قال تعالى { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فمحبته تقتضي الإيمان به وطاعته فيما أمر ونهى، ومما نهى عنه الإحداث في الدين، والتوسل بالجاه محدث في الدين، ومن المعلوم أن الصحابة أكمل الناس حباً له ومع ذلك فإنه لا يعرف عنهم أنهم كانوا يتوسلون بجاهه - صلى الله عليه وسلم - ، وليس كل شيء يضاف للنبي - صلى الله عليه وسلم - يستلزم أن يتخذ وسيلة، هذا فهم عاطل ومذهب باطل، بل التوسل باب توقيفي على ورود النص فما ورد النص بجواز التوسل به فهو الوسيلة الصحيحة، وما لا فلا، والتوسل بذاته أو بجاهه لا يصح فيه دليل وليس(1/37)
الشرع يعرف بالعقول والأهواء والاستحسانات وشهوات النفوس، بل هو وقف على الكتاب والسنة وطريق فهمها سلف الأمة، ومن جادل في ذلك فدعك منه فإنه من أولياء الشيطان، نعوذ بالله من المجادلة في الحق بعد ما تبين، قال الشيخ محمد بن صالح ابن عثيمين رحمه الله تعالى ( التوسل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - أقسام:- أولاً:- أن يتوسل بالإيمان به فهذا التوسل صحيح مثل أن يقول:- اللهم إني آمنت بك وبرسولك فاغفر لي، وهذا لا بأس به وقد ذكره الله تعالى في القرآن الكريم في قوله { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ } ولأن الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيلة شرعية لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات فهو قد توسل بوسيلة ثابتة شرعاً، ثانياً:- أن يتوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم - أي بأن يدعو للمشفوع له وهذا أيضاً جائز وثابت لكنه لا يمكن إلا في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: اللهم إنا كنا نتوسل بنبينا - صلى الله عليه وسلم - فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا وأمر العباس أن يقوم فيدعو الله سبحانه وتعالى بالسقيا، فالتوسل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعائه، هذا جائز ولا بأس به، ثالثاً:- أن يتوسل بجاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - سواءً في حياته أو بعد مماته فهذا توسل بدعي لا يجوز لأن جاه الرسول صدق الله العظيم لا ينتفع به إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يقول:- اللهم إني أسألك بجاه نبيك أن تغفر لي أو ترزقني الشيء الفلاني لأن الوسيلة لابد أن تكون وسيلة والوسيلة مأخوذة من الوسل بمعنى التوصل إلى الشيء فلا بد أن تكون هذه الوسيلة موصلة إلى الشيء وإذا لم تكن موصلة إليه(1/38)
فإن التوسل بها غير مجدٍ ولا نافع وعلى هذا فنقول:- التوسل بالرسول عليه الصلاة والسلام ثلاثة أقسام:- الأول:- أن يتوسل بالإيمان به واتباعه وهذا جائز في حياته وبعد مماته، القسم الثاني:- أن يتوسل بدعائه أي بأن يطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له فهذا جائز في حياته لا بعد مماته، لأنه بعد مماته متعذر، القسم الثالث:- أن يتوسل بجاهه ومنزلته عند الله تعالى فهذا لا يجوز لا في حياته ولا بعد مماته لأنه ليس وسيلة إذ أنه لا يوصل الإنسان إلى مقصود لأنه ليس من عمله، فإذا قال قائل:- جئت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند قبره وسألته أن يستغفر لي أو أن يشفع لي عند الله فهل يجوز ذلك؟ قلنا:- لا يجوز، فإذا قال:- أليس الله يقول { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } قلنا له:- بلى إن الله يقول ذلك، ولكن يقول { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ } وإذ لما مضى، وليست ظرفاً للمستقبل، لم يقل الله:- ولو أنهم إذا ظلموا، بل قال { إِذ ظَّلَمُواْ } فالآية تتحدث عن أمر وقع في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته أمر متعذر لأنه إذا مات العبد انقطع عمله كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - (( صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له )) فلا يمكن لإنسانٍ بعد موته أن يستغفر لأحدٍ بل ولا يستغفر لنفسه أيضاً لأن العمل انقطع ) ا.هـ.(1/39)
وقدمت هذا النقل لوضوح أقسامه وقال أبو العباس رحمه الله تعالى ( مسألة:- في التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هل يجوز أم لا؟ الجواب:- الحمد لله، أما التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته والصلاة عليه وبدعائه وشفاعته ونحو ذلك مما هو من أفعاله وأفعال المأمور بها في حقه فهو مشروع باتفاق المسلمين وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يتوسلون به في حياته، وتوسلوا بعد موته بالعباس عمه، كما كانوا يتوسلون به، وأما قول القائل:- اللهم إني أتوسل إليك به، فللعلماء فيه قولان، كما لهم في الحلف به قولان وجمهور الأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة على أنه لا يسوغ الحلف به، كما لا يسوغ الحلف بغيره من الأنبياء والملائكة ولا تنعقد اليمين بذلك باتفاق العلماء، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى تنعقد اليمين به خاصة، دون غيره ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي صاحبه:- إنه يتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه ولكن غير أحمد قال:- إن هذا إقسام على الله به ولا يقسم على الله بمخلوق، وأحمد في إحدى الروايتين قد جوز القسم به فلذلك جوز التوسل به، ولكن الرواية الأخرى عنه هي قول جمهور العلماء أنه لا يقسم به، فلا يقسم على الله به كسائر الملائكة والأنبياء، فأنا لا أعلم أحداً من الأئمة والسلف قال:- إنه يقسم على الله كما لم يقولوا:- إنه يقسم بهم مطلقاً، ولهذا أفتى أبو محمد ابن عبدالسلام أنه لا يقسم على الله بأحدٍ من الملائكة والأنبياء وغيرهم ) ا.هـ.(1/40)
وقال أيضاً ( وأما التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته، والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقد فيهم الصلاح وحينئذٍ فلفظ التوسل به له معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ويراد به معنىً ثالث لم ترد به سنة، فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء فأحدهما:- هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته، والثاني:- دعاؤه وشفاعته -كما تقدم - فهذا جائزان بإجماع المسلمين ومن هذا قول عمر بن الخطاب (( اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا )) أي بدعائه وشفاعته، وقوله تعالى { وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ } أي القربة إليه بطاعته وطاعة رسوله، قال تعالى { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } فهذا التوسل الأول هو أصل الدين وهذا لا ينكره أحد من المسلمين، وأما التوسل بدعائه وشفاعته كما قال عمر فإنه توسل بدعائه لا بذاته ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس، ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائماً، فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معاني:- أحدهما:- التوسل بطاعته وهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به، الثاني:- التوسل بدعائه وشفاعته وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة، يتوسلون بشفاعته، الثالث:- التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته فهذا هو الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة(1/41)
مرفوعة وموقوفة أو عن من ليس قوله حجة ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( وحديث الأعمى حجة لعمر وعامة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فإنه إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى الله بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه لا بذاته ) ا.هـ. وقال الشيخ عبدالعزيز رحمه الله تعالى ( لا يجوز التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره من الأنبياء والصالحين ولا يجوز أيضاً التوسل بجاهه ولا بغيره لأن ذلك بدعة لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم - وقد قال عليه الصلاة والسلام (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))"متفق على صحته" وقال عليه الصلاة والسلام (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))"أخرجه مسلم في صحيحه" وإنما المشروع للمسلمين التوسل بمحبته - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به واتباع شريعته في حياته وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، وهكذا التوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم - في حياته ويوم القيامة وذلك بأن يطلب منه المسلم أن يدعو له كما ثبت في الحديث الصحيح عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال على المنبر يوم الاستسقاء (( اللهم إنا كنا نتوسل بنبيك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا، فيسقون )) وهذا توسل من الصحابة بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما توفي عليه الصلاة والسلام تركوا ذلك العمل لعلمهم بأنه لا يجوز واستسقوا بدعاء العباس لأنه حي حاضر يدعو لهم ويؤمنون على دعائه ) ا.هـ. والله ربنا أعلى وأعلم .(1/42)
الفرع السابع :- قول القائل ( الرسول - صلى الله عليه وسلم - من نور ) أقول:- هذا لفظ مجمل يحتمل حقاً وباطلاً والألفاظ المجملة لا تقبل بإطلاق ولا ترد بإطلاق، بل هي موقوفة على الاستفصال فإن أريد بها الحق قبلناه وإن أريد بها الباطل رددناه، فإن كان قائل هذه الكلمة يقصد بأن ذات النبي - صلى الله عليه وسلم - خلقت من نور وليست مما خلق منه سائر البشر فهذا باطل وكذب وافتراء، بل هو مصادمة للدليل القطعي الصريح من الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، بل إجماع أهل العلم إلا من شذ ممن لا يؤبه بخلافه لغلوه في بدعته، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - مخلوق مما خلق منه البشر من سلالة من ماء مهين، ومولود كما يولد البشر، بين أبوين، بين أبيه عبدالله وأمه آمنة، كما عليه سائر البشر، هكذا ورد القرآن، قال تعالى { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } وهذا إثبات لبشريته - صلى الله عليه وسلم - فهو مثل سائر البشر في أصل خلقته، بل إن الرسل كلهم جميعاً خلقوا مما خلق منه سائر البشر كما قال تعالى { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } إلا آدم فإنه مخلوق من طين وأما سائر ذريته فإنهم مخلوقون من سلالة من ماءٍ مهين، وعيسى عليه السلام مخلوق من أم بلا أب، وأما سائرهم فإنهم من أبوين فذاته - صلى الله عليه وسلم - كذوات البشر في أصل خلقتها، ومن قال غير ذلك فإنما هو شيء أتى به من جعبته الفاسدة ومن مروياته العاطلة الموضوعة الكاسدة، وقال تعالى عنه أنه أمره أن يقول { ُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً } والنبي - صلى الله عليه وسلم - داخل في عموم قوله تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } وداخل في عموم قوله { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ(1/43)
مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } والأصل هو البقاء على العموم حتى يرد الناقل، فتخصيص الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه خلق من نور يحتاج إلى مخصص ولا نعلم على وجه هذه الأرض ما يخصصه والمرويات المنقولة في إثبات ذلك كلها مكذوبة مختلقة موضوعة قبح الله واضعها وعامله بما توعد به الكاذبين على الشريعة، وهو داخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله خلق الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ))"حديث صحيح" فإذا كان قصد قائل هذه الكلمة أن ذاته وبدنه مخلوقة من نور الله أو من نور العرش فهذا كله باطل وكذب وبهتان لا أساس له من الصحة فضلاً عن كونه مخالفاً للقرآن والسنة وإجماع أهل العلم المعتد بقولهم وأما إن كان يقصد بقوله إن النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبار ما جاء به من الهدى والوحي والتشريع فهذا حق وصدق فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نور هدىً ورشاد فهو السراج المنير باعتبار الوحي المنزل عليه وباعتبار شريعته التي جاء بها من عند الله تعالى، كما قال تعالى { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وقال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا } وقال تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي(1/44)
بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فلا بد من التفريق بين هذين المعنيين، فأما الأول فهو باطل كل البطلان، وأما الثاني فهو حق وصدق كل الحق والصدق، فليس هو نوراً باعتبار ذاته في خلقه، ولكنه نور باعتبار رسالته والوحي المنزل عليه والهداية والشريعة التي بعث بها، والله يتولانا وإياك، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى ( فصل:- والنبي - صلى الله عليه وسلم - خلق مما يخلق منه البشر، ولم يخلق أحد من البشر من نور ) ا.هـ. وسئلت اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية سؤالاً هذا نصه:- هل النبي - صلى الله عليه وسلم - نور من نور الله كما يقوله بعض الناس وهل هو نور عرش الله سبحانه وتعالى؟ فأجابوا بقولهم ( النبي - صلى الله عليه وسلم - نور هدىً ورشاد كما قال تعالى { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وقال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا } وليس بدنه نوراً وليس هو من نور الله الذي هو صفته، بل هو لحم وعظم وما خالطهما، خلق من أب وأمٍ كغيره، كما مضت سنة الله تعالى في البشر، وكان يأكل ويشرب ويقضي من شأنه، وله ظل إذا مشى في الشمس أو نحوها، وأما قوله تعالى { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ } فالمراد بالنور في ذلك:- ما بعثه الله به من الوحي، من عطف الخاص على العام، ولم يثبت في القرآن ولا في السنة الصحيحة أنه نور عرش الله فمن زعم ذلك فهو كاذب ) ا.هـ. وقالوا ( ونبينا - صلى الله عليه وسلم - بشر من سلالة آدم، وأما قول بعض الجهلة:- إن نبينا أول خلق الله أو أنه مخلوق من نور الله أو من نور العرش فقوله باطل لا أساس له من الصحة ) ا.هـ.(1/45)
وقالوا ( أما ما يروى من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلق من نور الله فهو حديث موضوع ) ا.هـ. وقالوا ( إنه صلوات الله وسلامه عليه بشر لا يختلف في تكوينه البشري عن الناس وأن له ظلاً كما لأي إنسان وما أكرمه الله به من الرسالة لا يخرجه عن وصفه البشري الذي خلقه الله عليه من أم وأب ) ا.هـ. وقالوا ( لم يثبت في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلق من نور الله، بل ثبت بالأدلة وبالحس والواقع أنه خلق من أب وأم كسائر البشر ونسبه معروف، وهذا مما يكذب دعوى أنه - صلى الله عليه وسلم - خلق من نور الله تعالى، ثم ذلك يتنافى مع كمال الله سبحانه ) ا.هـ. وقالوا ( وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه نور من نور الله إن أريد به(1/46)
أنه نور ذاتي من نور الله فهو مخالف للقرآن الدال على بشريته، وإن أريد بأنه نور باعتبار ما جاء به من الوحي الذي صار سبباً لهداية من شاء الله من الخلق فهذا صحيح ) ا.هـ. وقالوا ( للنبي - صلى الله عليه وسلم - نور، هو نور الرسالة والهداية التي هدى الله بها بصائر من شاء من عباده، ولاشك أن نور الرسالة والهداية من الله تعالى، قال تعالى { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } وليس هذا النور مكتسباً من خاتم الأولياء، كما يزعمه بعض الملاحدة، أما جسمه - صلى الله عليه وسلم - فهو دم ولحم وعظم...الخ، خلق من أب وأم ولم يسبق له خلق قبل ولادته، وما يروى أن أول ما خلق الله نور النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أن الله قبض قبضة من نور وجهه وأن هذه القبضة هي محمد - صلى الله عليه وسلم - ونظر إليها فتقاطرت فيها قطرات، فخلق من كل قطرة نبياً، أو خلق الخلق كلهم من نوره - صلى الله عليه وسلم - فهذا وأمثاله لم يصح منه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ا.هـ. وبهذا يتضح الحق في هذه المسألة والله أعلم .(1/47)
تنبيه:- نسبة حديث جابر والذي فيه (( يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره...الخ )) نسبة هذا الحديث إلى عبدالرزاق غير صحيحة، فلا هو في مصنفه ولا في أي شيء من كتبه ونسبة هذا الحديث إلى كتاب ( جنة الخلد ) لعبدالرزاق كذب أيضاً فإن عبدالرزاق لم يؤلف كتاباً اسمه جنة الخلد، والحديث موضوع لا نشك في ذلك والله أعلم .(1/48)
الفرع الثامن :- قول القائل ( الرسول له كمال القدرة ) أقول:- هذا القول من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقاً وباطلاً فلا تقبل بإطلاق ولا ترد بإطلاق بل توقف على الاستفصال حتى يتميز حقها فيقبل من باطلها فيرد، وقد سئلت اللجنة الدائمة عن هذه الكلمة بعينها فأجابوا بقولهم ( إن أريد بكمال قدرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكمال النسبي بالنظر إلى بني جنسه من البشر فهو مسلم به، وإن أريد به الكمال المطلق فهو باطل، وغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتشبيه للمخلوق بالخالق لأن الكمال المطلق في القدرة ونحوها من اختصاص الله جل شأنه، أما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقدرته محدودة مستمدة من الله وليست له من ذاته، ولذا تفاوتت قوة وضعفاً في صحته ومرضه، وأمره الله أن يقول للكفار حين طلبوا من الآيات { إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ } وأمره أن يقول لهم حينما استعجلوا العذاب { لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } إلى غير ذلك مما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ليس له الكمال المطلق قوةً واقتدارا، وإنما ذلك إلى الله وحده، ومن ذلك الحديث الصحيح الذي فيه (( إنه سقط عن فرسه وجُحِشَ شقه الأيمن حتى صلى بالناس جالساً )) وحديث إصابته في غزوة أحد، وفي ذهابه للطائف قبل الهجرة للدعوة إلى التوحيد، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( اشتد غضب الله على قومٍ شجوا وجه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - )) وفيه عن سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال (( أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن كان يسكب الماء وبما دووي، قال:- كانت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تغسله وعلي يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد إلا كثرة(1/49)
أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم )) وكسرت رباعيته يومئذٍ، وجرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه فلو كان له - صلى الله عليه وسلم - كمال القدرة لما قدر أحد من أعدائه على إيذائه بجرح وجهه وكسر رباعيته وكسر البيضة على رأسه وبالله التوفيق ) ا.هـ. ونزيد ذلك أيضاً ونقول:- قال تعالى عنه { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } وهذا فيه رد على الذين يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - له كمال القدرة المطلق، وقال تعالى عنه { قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:- قام الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل عليه { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } فقال (( يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبدمناف لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس ابن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً )) وفي البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من صلاة الفجر قال (( اللهم العن فلاناً وفلاناً )) فنزلت { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } والأدلة في هذا المعنى كثيرة، فبان لك بذلك أنهم إن كانوا يعنون بقولهم ( له كمال القدرة ) أي الكمال النسبي بالنسبة لبني جنسه من البشر فهو حق، وأما إن كانوا يعنون بذلك الكمال المطلق على كل أحد فهذا باطل، لأن ذلك من خصائص الله تعالى، والله ربنا أعلى وأعلم .(1/50)
الفرع التاسع :- قول القائل ( الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس بشراً مثلنا ) أقول:- وهذه الكلمة أيضاً فيها إجمال وقد سئلت عنها بعينها اللجنة الدائمة في المملكة فأجابوا بقولهم ( هذه الكلمة مجملة تحتمل حقاً وباطلاً، فإن أريد بها إثبات البشرية للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس مماثلاً للبشر من وجه، بل يشاركهم في جنس صفاتهم فيأكل ويشرب ويصح ويمرض ويذكر وينسى ويحيا ويموت ويتزوج النساء ونحو ذلك ويختص بما حباه الله به من الإيحاء إليه وإرساله إلى الناس بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً فهذا حق، وهو الذي شهد به الواقع وأخبر به القرآن، قال تعالى { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } فأمره أن يخبر أمته بأنه بشر مثلهم إلا أن الله اصطفاه لتحمل أعباء الرسالة وأوحى إليه بشريعة التوحيد والهداية وقال تعالى في بيان ما جرى من الحوار بين الرسل وأممهم { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } فأقر الرسل بأنهم بشر مثلنا ولكن الله منَّ عليهم بالرسالة فإن الله سبحانه يمن على من يشاء من عباده بما شاء ويصطفي منهم من أراد ليخرج به(1/51)
الناس من الظلمات إلى النور، ومثل هذا القرآن كثر وإن أراد به أن الرسول ليس بشراً أصلاً أو أنه بشر لكنه لا يماثل البشر في جنس صفاتهم بوجه ما من الوجوه، بل يختلف عنهم اختلافاً كلياً في كل صفه من صفاتهم، فهذا باطل يكذبه الواقع وكفر صريح تناقضته لما صرح به القرآن من إثبات بشريتهم ومماثلتهم للبشر فيما عدا ما اختصهم الله به من الوحي والنبوة والرسالة والمعجزات وإن أريد أنه ليس مثل البشر من جهة أن يعلم الغيب أو كامل القدرة فيجي الكلام عليه في الجواب عن الأمر الثاني والثالث، وإن أريد غير ذلك فعلى من يتكلم يمثل هذه الكلمات أن يعرب عن مراده ويبين قصده ليبحث معه فيه، وعلى كل حال لا يصح إخلاف هذه الكلمة نفياً ولا إثباتاً إلا مع التفصيل والبيان بما فيها من اللبس والإجمال ولذا لم يطلقها القرآن إثباتاً إلا مع بيان ما خص به رسله كما في الآيات المتقدمة وكما في قوله تعالى { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } كما يخشى من التعبير بمماثلتهم للبشر بإطلاق انتقاص الرسل، والتذع إلى إنكار رسالتهم، يخشى من نفي المماثلة بإخلاف الغلو في الرسل وتجاوز الحد بهم إلى ما ليس من شأنهم بل من شؤون الله سبحانه، فالذي ينبغي للمسلم التفصيل والبيان ليتميز الحق من الباطل والهدى من الضلال ) وقد كفونا المؤنة في توضيح هذا الفرع والله أعلم .(1/52)
الفرع العاشر :- قول القائل ( الله في جهة ) أو قوله ( الله ليس في جهة ) أقول:- إن لفظ الجهة لنا فيه مذهبان:- مذهب في لفظه ومذهب في معناه، فأما لفظه فإننا نتوقف فيه فلا نثبته ولا ننفيه لأنه لم يرد بخصوصه في إثباته ولا نفيه دليل لا من الكتاب ولا في السنة الصحيحة ولم يتكلم به سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ولا أئمة أهل السنة، فلا نقول ( الله في جهة ) لأنه لم يرد في الأدلة إثباته، ولا نقول ( الله ليس في جهة ) لأنه لم يرد في الأدلة نفيه، وما لم يرد به الدليل نفياً ولا إثباتاً فلا حق لأحدٍ أن يثبته ولا أن ينفيه، فهذا بالنسبة للفظه، وأما معناه فإنه مجمل فيه حق وباطل وقد تقرر عندنا معاشر أهل السنة أن الألفاظ التي تكون معانيها مجملة لا تقبل مطلقاً ولا تنفى مطلقاً وإنما هي موقوفة على الاستفصال، حتى يتميز حقها من باطلها فيقبل الحق ويرد الباطل وعلى ذلك فنقول:- إن كنت تريد بالجهة شيئاً مخلوق موجود فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم فلا ريب أن الله تعالى فوق العالم مباين للمخلوقات، هكذا قال أبو العباس رحمه الله تعالى، ونزيده إيضاحاً ونقول:- يقال لمن قال ( الله في جهة ) هل تعني بها جهة سفل فإن كنت تريد هذا فهذا باطل لأن السفل نقص والله عز وجل منزه عن النقص، أم تريد بها جهة علو محيطة بالله، فإن كنت تريد بها ذلك فهذا باطل أيضاً لأن الله تعالى لا يحيط به شيء من مخلوقاته أم تريد بها جهة علوٍ غير محيطة بالله جل وعلا على ما يليق بجلاله وعظمته، فإن كنت تريد هذا فهذا المعنى حق وصدق قد وردت به الأدلة من الكتاب والسنة ولكن لا نسمي هذا المعنى حق جهة لأنه لفظ مجمل وإنما نسميه بما وردت به الأدلة وانعقد عليه اتفاق أهل السنة فنقول:- الله في العلو المطلق، ولا نقول ( في جهة ) وإنما نقول:- العلو، لأن لفظ العلو هو الذي جاءت به الأدلة ولا ننخدع بألفاظ أهل البدع، فجهة السفل(1/53)
ممنوعة، وجهة العلو المحيطة ممنوعة، وأما جهة العلو التي لا تحيط به جل وعلا على ما يليق بعز جلاله وعظيم ذاته وسلطانه فهي حق وصدق، فهذا بالنسبة لمن قال ( الله في جهة ) وأما من قال ( إن الله ليس في جهة ) فإننا نعكس عليه الأمر فنقول:- هل أنت تنفي جهة السفل عن الله فإن كنت تريد ذلك فهو حق لأن السفل نقص والله منزه عن النقص أم أنك تريد أن تنفي جهة العلو المحيطة بالله فإن كنت تريد هذا فهو حق لأن الله لا يحيط به شيء من مخلوقاته، أم أنك تريد أن تنفي جهة العلو التي ليست بمحيطة على ما يليق به جل وعلا فإن كنت تقصد بقولك نفي هذا المعنى الثالث فأنت مخطئ مبطل ضال لأن هذا المعنى حق ثابت لله تعالى ولزيادة الإيضاح أرسم لك رسماً بيانياً يجعلك تجمع أطراف المسألة في ذهنك :-
جواب من قال ( الله في جهة ) ... جواب?من?قال???الله?ليس?في?جهة??
محرم ذو القعدة ?إن?كنت?تريد?بها?جهة?سفل?فهو?باطل?? ... محرم ذو القعدة إن كنت تريد جهة السفل فهو حق .
صفر ذو القعدة ?إن?كنت?تريد?بها?جهة?علو?محيطة?فباطل?? ... صفر ذو القعدة إن كنت تريد بها جهة علو محيطة فهو حق .
ربيع أول ذو القعدة ?إن?كنت?تريد?بها?جهة?علو?غير?محيطة?على?ما?يليق?بجلاله?عز?وتعالى?فهو?حق?وصدق?? ... ربيع أول ذو القعدة إن كنت تريد بها جهة علو غير محيطة بالله جل وعلا على ما يليق بجلاله فهو باطل وكذب .(1/54)
ولعل ذلك واضح إن شاء الله تعالى، فما كان باطلاً في جانب من أثبت المجتهد فهو حق في جانب من نفاها، وما كان حقاً في جانب من أثبت الجهة فهو باطل في حق من نفاها، والعكس بالعكس إذا علمت هذا فاعلم أن أبا العباس بن تيمية إذا قال ( إن كنت تعني بالجهة شيئاً موجوداً مخلوقاً ) فإنه يعني الجهة بمعنى السفل، والجهة بمعنى العلو المحيطة بالله تعالى وإذا قال ( أم تريد بالجهة ما وراء العالم ) فإنه يعني به جهة العلو التي لا تحيط بالله جل وعلا مما هي وراء العالم خارجة عنه، والمسألة سهلة لا إشكال فيها، قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً فليس على أحدٍ، بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده فإن أراد حقاً قبل وإن أراد باطلاً رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً ولم يردَّ جميع معناه بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقاً كما إذا أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السموات وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم، ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه، كما فيه إثبات العلو والاستواء والفوقية والعروج إليه ونحو ذلك، وقد علم أن ما ثمَّ موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، فيقال لمن نفى الجهة:- أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم، فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات، وكذلك يقال لمن قال:- الله في جهة:- أتريد بذلك أن الله فوق العالم، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات، فإن أردت الأول فهو حق وإن أردت الثاني فهو باطل ) ا.هـ.(1/55)
وقال رحمه الله تعالى ( أما من اعتقد الجهة فإن كان يعتقد أن الله داخل المخلوقات، تحويه المصنوعات، وتحصره السموات ويكون بعض المخلوقات فوقه وبعضها تحته فهذا مبتدع ضال وكذلك إن كان يعتقد أن الله يفتقر إلى شيء يحمله، إلى العرش أو غيره، فهو أيضاً ضال مبتدع وكذلك إن جعل صفات الله مثل صفات المخلوقين فيقول:- استواء الله كاستواء المخلوق أو نزوله كنزول المخلوق ونحو ذلك فهذا مبتدع ضال فإن الكتاب والسنة مع العقل دلت على أن الله لا تماثله المخلوقات في شيء من الأشياء، ودلت على أن الله غني عن كل شيء ودلت على أن الله مباين للمخلوقات عال عليها، وإن كان يعتقد أن الخالق تعالى بائن عن المخلوقات وأنه فوق سماواته على عرشه بائن من مخلوقاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته وأن الله غني عن العرش وعن كل ما سواه، لا يفتقر إلى شيء من المخلوقات، بل هو مع استوائه على عرشه يحمل العرش وحملة العرش بقدرته ولا يمثل استواء الله باستواء المخلوقين بل يثبت لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات وينفي عنه مماثلة المخلوقات ويعلم أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله فهذا مصيب في اعتقاده موافق لسلف الأمة وأئمتها ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( وكذلك لفظ الجهة إن أراد بالجهة أمراً موجوداً يحيط بالخالق أو يفتقر إليه فكل موجود سوى الله فهو مخلوق والله خالق كل شيء وكل ما سواه فهو فقير إليه، وهو غني عما سواه وإن كان مراده أن الله سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه فهذا صحيح سواءً عبر بلفظ الجهة أو بغير لفظ الجهة ) ا.هـ. ولعل الأمر قد اتضح بذلك إن شاء الله تعالى .(1/56)
الفرع الحادي عشر :- المكان، هل يصح أن يقال:- الله في مكان، أو أن يقال:- الله ليس في مكان؟ أقول:- أن أهل السنة رحمهم الله تعالى لهم في لفظ المكان مذهبان، مذهب في لفظه ومذهب في معناه، فأما لفظه فنقول فيه كما قلنا في الجهة، فإننا نتوقف فيه فلا نثبته ولا ننفيه، لأنه لفظ لم يرد به دليل بخصوصه لا من الكتاب ولا من السنة ولم يتكلم به سلف الأمة، وأما معناه فإنه مجمل يحتمل حقاً وباطلاً، وقد تقرر عندنا معاشر أهل السنة أن الألفاظ المجملة لا تقبل مطلقاً ولا ترد مطلقاً حتى نستفصل فيها ليتميز حقها من باطلها فنقبل الحق ونرد الباطل، ونقول في معناه أيضاً كما قلناه في الجهة، فالذي يقول ( الله في مكان ) نقول له:- أما لفظ المكان فنتوقف فيه فلا نثبته ولا ننفيه، أما معناه فنستفصل فيه فماذا تعني بقولك ( الله في مكان ) هل تعني به مكان سفل؟ فإن كنت تعني هذا فهذا باطل منتف عن الرب جل وعلا، لأن السفل نقص والله منزه عن النقص أم تعني به مكان علوٍ محيط بالرب جل وعلا؟ فإن كنت تعني هذا فهو باطل أيضاً لأن الله لا يحيط به شيء من خلقه ولا هو مفتقر إلى شيء من خلقه بل الخلق كلهم أولهم وآخرهم أعلاهم وأسفلهم كلهم على مختلف أشكالهم وتباين طبقاتهم وتنوع صفاتهم كلهم مفتقرون إلى الله تعالى، أم تعني به مكان علو غير محيط لائق بالله جل وعلا؟ فإن كنت تعني هذا فهو حق وصدق ولكن لا نسمي هذا مكاناً، بل نسميه استواءً على العرش، فالله جل وعلا فوق خلقه الفوقية المطلقة مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته ليس كاستواء خلقه، والاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات ولا ننخدع بألفاظ أهل البدع، ولا نتجاوز القرآن والحديث، فإن لفظ الاستواء على العرش هو اللفظ الشرعي الذي وردت به الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وهو الذي تكلم به سلف الأمة وأما لفظ المكان فمع كونه لا دليل عليه يثبته بخصوصه ولم يتكلم به سلف الأمة فإنه لفظ مجمل(1/57)
تدخل فيه المعاني الباطلة، ونقول لمن قال ( الله ليس في مكان ) ماذا تعني بقولك هذا، هل تعني به مكان سفل؟ فإن كنت تقصد هذا فقد أصبت، أم تعني به مكان علو محيط؟ فإن كنت تعني هذا فقد أصبت أيضاً، أم تعني به مكان علو غير محيط بالله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته؟ فإن كنت تعني هذا فلا والله ما أصبت، بل ابتدعت وأخطأت وضللت، فانظر كيف اتضحت الحال وانكشف اللبس وزال الإشكال والإجمال وتميز الحق من الباطل، وكل ذلك ببركة الإتباع، نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليه إلى يوم لقاه والله أعلم. ودونك هذا الرسم البياني لزيادة التوضيح :-
إن قال ( الله في مكان ) ... إن?قال???الله?ليس?في?مكان??
محرم ذو القعدة ?مكان?سفل?فهو?خطأ?? ... محرم ذو القعدة مكان سفل فقد أصاب .
صفر ذو القعدة ?مكان?علو?محيط?فهو?خطأ?? ... صفر ذو القعدة مكان علو محيط فقد أصاب .
ربيع أول ذو القعدة ?مكان?علوٍ?غير?محيط?حق،?ولكن?لا?نعبر?عنه?بالمكان?وإنما?نقول???الله?مستوٍ?على?عرشه?بائن?من?خلقه?? ... ربيع أول ذو القعدة مكان علو غير محيط فقد أخطأ .
ولعل ذلك واضح إن شاء الله تعالى .(1/58)
الفرع الثاني عشر :- الحيز، إذا قال قائل ( الله في حيز ) أو قال ( الله ليس في حيز ) فكيف تقول في ذلك؟ والجواب أن تقول:- أما لفظ الحيز فإننا نتوقف فيه فلا نثبته ولا ننفيه كما قلناه في لفظ الجهة والمكان وأما معناه فإنه مجمل ولا بد من الاستفصال، فماذا تعني بقولك ( الله في حيز ) هل تعني أنه منحاز عن الخلق منفصل عنهم مباين لهم فوق سماواته مستوٍ على عرشه، ليس في ذاته شيء من ذوات خلقه ولا في ذوات خلقه شيء من ذاته، فإن كنت تريد هذا فهذا صدق وحق وهو الذي دلت عليه الأدلة، لكن الأسلم، بل الأوجب أن لا نعبر عن هذا المعنى الحق بلفظ بدعي مجمل محتمل، بل لا نعبر عنه إلا بما ثبت في الأدلة وتفوه به أهل السنة وهو أن نقول:- الله فوق سماواته بائن من خلقه مستوٍ على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، ودعك من الألفاظ السخيفة المبتدعة المنكرة، فإن كنت تريد بالحيز هذا المعنى الحق فهو حق، وإن كنت تعني بالحيز أي الذي يحوز الأشياء أو هي تحوزه، أي أن الأشياء تحل في ذاته أو هو يحل في ذاتها فهذا باطل وكفر وزندقة وضلال وبهت وكذب وفجور، وهو بعينه ما يعتقده أهل الحلول، وأهل وحدة الوجود عاملهم الله بعد له لا بعفوه، فإنه قد تقرر عند المسلمين عموماً وأهل السنة خصوصاً أن ذات الله تعالى منفصلة عن ذوات خلقه كل الانفصال، تعالى الله وتقدس أن يكون شيء من ذاتنا في ذاته أو شيء من ذاته في ذواتنا، لا والله هذا لا يكون أبداً ولا يقره أصلاً نقل صحيح ولا عقل صريح ولا فطرة سليمة بل ذات الله في العلو المطلق الكامل من كل وجه وليس شيء منها حال أو متحد في شيء من أجزاء هذا الكون، بل هو على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه، جل وعلا، سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علواً كبيراً، والمقصود أن من قال ( الله في حيز ) إن كان يعني بالحيز أي المنحاز بمعنى البائن والمنفصل عن مخلوقاته وهو فوقها على عرشه على ما يليق بجلاله وعظمته فهذا حق، وإن كان(1/59)
يعني بالحيز ما يحوز الأشياء أي تحل فيه ويحل فيها فهذا باطل كل البطلان، وأما من قال ( الله ليس في حيز ) فإنك تعكس عليه الكلام، فإن كان يقصد بالحيز في هذا النفي أي البائن المنفصل عن المخلوقات فهذا كذب وباطل وإن كان يقصد بالحيز ما يحوز الأشياء أو هي تحوزه فهذا حق وصدق، وأرسم لك المسألة رسماً بيانياً لأطمئن على وضوح الفرع في قلبك :-
إن قال ( الله في حيز ) ... إن?قال???الله?ليس?في?حيز??
محرم ذو القعدة ?إن?كان?يقصد?به?البائن?المنفصل?عن?المخلوقات?فهو?حق?وصدق?? ... محرم ذو القعدة إن كان يقصد البائن المنفصل عن المخلوقات فهو كذب وضلال .
صفر ذو القعدة ?إن?كان?يقصد?به?ما?يحوز?الأشياء?وهي?تحوزه?أي?هو?داخل?فيها?وهي?داخلة?فيه?فهو?باطل?وكذب?? ... صفر ذو القعدة إن كان يقصد به ما يحوز الأشياء وهي تحوزه أي هو داخل فيها أو هي داخلة فيه فهو حق .
والخلاصة:- أن ما كان حقاً في إثبات الحيز فهو باطل في نفيه، وما كان باطلاً في إثباته فهو حق في نفيه، ولو تدبرت هذا الكلام لوجدته سهلاً إن شاء الله تعالى والله أعلم .(1/60)
قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( وكذلك لفظ الحيز إن أراد به أن الله تعالى تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض وقد قال تعالى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } وقد ثبت في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول:- أنا الملك أين ملوك الأرض؟ )) وفي حديث آخر (( وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة )) وفي حديث ابن عباس (( ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم )) وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات أي مباين لها منفصل عنها ليس حالاً فيها فهو سبحانه كما قال أئمة السنة:- فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( وكذلك لفظ المتحيز، يراد به ما أحاط به شيء موجود كقوله تعالى { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ } ويراد به ما انحاز عن غيره وباينه فمن قال:- إن الله متحيز بالمعنى الأول لم يسلم له، ومن أراد أنه مباين للمخلوقات سلم له المعنى وإن لم يطلق اللفظ ) ا.هـ.(1/61)
الفرع الثالث عشر :- لفظ الجسم، هل يقال:- الله له جسم، أو يقال:- الله ليس له جسم؟ أقول:- أما لفظ الجسم إثباتاً ونفياً في حق الله عز وجل فإنه من الألفاظ البدعية المحدثة التي لم يرد لها بخصوصها دليل لا من الكتاب ولا من السنة ولا من كلام السلف الصالح فنحن نتوقف فيه فلا نثبته ولا ننفيه أي لا نقول ( الله له جسم ) ولا نقول ( الله ليس له جسم ) لأن الأدلة لم ترد به لا إثباتاً ولا نفياً وأما معناه فنستفصل فيه فإن أريد به الحق قبلناه وإن أريد به الباطل رددناه، فنقول لمن قال ( الله له جسم ) هل تعني بذلك الذات الكاملة المتصفة بصفات الجلال والمنعوته بنعوت الجمال والجلال على ما يليق بالرب مع الاعتقاد الكامل بأنها ذات وصفات لا يماثلها شيء من ذوات وصفات المخلوقين، فإن كنت تقصد هذا فهذا حق وصدق ولكن لا نسمي هذا الحق جسماً، لأنه لفظي بدعي محدث محتمل للحق والباطل، وإنما نقول:- الله له ذات وصفات، له ذات كاملة من كل وجه وصفات كاملة من كل وجه، وإن كنت تقصد بالجسم ما هو معهود من أجسامنا فهذا باطل وكفر وضلال وتمثيل، فإن الله تعالى يقول { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته، ويقول { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } أي لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أسمائه ويقول { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ويقول { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ } ويقول { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } فمن أثبت الجسم ففي إثباته حق وباطل فالمعنى الأول حق، وأما المعنى الثاني فباطل وتقول لمن قال ( الله ليس له جسم ) هل تريد بهذا النفي أن تنفي الذات الكاملة المتصفة بصفات الكمال والمنعوتة بنعوت العظمة والجلال والجمال فإن كنت تقصد بنفيك نفي هذا المعنى فهو باطل لأنه مخالف للكتاب والسنة ولإجماع السلف الصالح، أم تريد بنفيك هنا نفي مماثلة الله لنا في أجسامنا، فهذا حق وصدق،(1/62)
لكنك أخطأت في إطلاق النفي بهذا اللفظ كما أخطأ أخوك الأول في إطلاق الإثبات بهذا اللفظ، وأصاب السني المتبع بالتفصيل في الإثبات كما أصاب في التفصيل في النفي، فاحذروا أيها المسلمون من لفظ الجسم إثباتاً بإطلاق أو نفياً بإطلاق بل الحق في التفصيل حتى يتميز الحق فيقبل من الباطل فيرد، وهذا واضح، ونزيده إيضاحاً برسم بياني وهو على هذا الشكل :-
إن قال ( الله له جسم ) ... إن?قال???الله?ليس?له?جسم??
محرم ذو القعدة ?إن?كنت?تريد?إثبات?الذات?الكاملة?المتصفة?بصفات?الكمال?والعظمة?والجلال?فهو?حق???? ... محرم ذو القعدة إن كنت تريد نفي الذات الكاملة المتصفة بصفات الكمال والعظمة والجلال فهو باطل .
صفر ذو القعدة ?إن?كنت?تريد?أن?تثبت?لله?ما?هو?من?خصائص?أجسامنا?فهو?باطل????? ... صفر ذو القعدة إن كنت تريد أن تنفي عن الله ما هو من خصائص أجسامنا فهو حق .
والخلاصة:- أن ما كان حقاً في الإثبات فهو باطل في النفي وما كان باطلاً في الإثبات فهو حق في النفي وهذا واضح لمن تدبره. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى ( وأما الشرع فمعلوم أنه لم ينقل عن أحدٍ من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة أن لله جسم أو الله ليس بجسم بل النفي والإثبات بدعة في الشرع ) ا.هـ. وقال ( وأما لفظ التجسيم فهذا لفظ مجمل لا أصل له في الشرع فنفيه وإثباته يفتقر إلى تفصيل ودليل ) ا.هـ.(1/63)
الفرع الرابع عشر :- قول القائل ( إن آيات الصفات متشابهة ) ويقصد بالتشابه الخفاء وعدم فهم المعنى، وهذه المقالة من المقالات المجملة التي تحتمل حقاً وباطلاً، وذلك أن أهل السنة رحمهم الله تعالى ينظرون إلى صفات الله تعالى باعتبارين، باعتبار المعنى وباعتبار الكيفية على ما هي عليه في الواقع، فأما باعتبار المعنى فإن آيات الصفات من قبيل المحكم، بل في أعلى درجات المحكم الواضح فمعاني آيات محكمة عند أهل السنة أي معلومة المعنى باعتبار الوضع اللغوي، وذلك لأن الله تعالى قد خاطبنا بها في كتابه وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - باللسان العربي فوجب علينا حمل معانيها على ما تقرر عندنا في هذا اللسان العربي إذ يستحيل أن يخاطبنا الله بلساننا العربي ويريد منا أن نفهم من هذه الكلمات العربية غير ما تقرر عندنا في لساننا وما نفهمه من معاني لغتنا العربية، لأن الأدلة وردت لإرادة البيان والهداية، للتعمية والإلغاز، ولأن الله تعالى قد أمرنا بتدبر القرآن وهذا الأمر أمر عام مطلق وآيات الصفات داخلة فيه دخولاً أولياً، أي أننا مأمورون بتدبرها وكيف يأمرنا الله بتدبر شيء غير مفهوم المعنى هذا لا يكون أبداً، ولأن أهل السنة أجمعوا على أن معاني الصفات معلومة المعنى أي باعتبار دلالتها اللغوية، وقد تقرر أن الإجماع في مسائل الاعتقاد لا يعتمد فيه إلا قول أهل السنة، فهذا إجماع ثابت صحيح قطعي وقد تقرر أن الإجماع حجة شرعية يجب قبولها واعتمادها والمصير إليها وتحرم مخالفتها، فآيات الصفات باعتبار معانيها ودلالاتها اللغوية ليست متشابهة أي ليست خافية الدلالة، مبهمة المعاني، مشكلة الفهم بل هي محكمة، لما ذكرته لك من الأدلة، وأما باعتبار كيفياتها فإن كيفية الصفة مما استأثر الله بعلمه، فلا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح ولا أي أحد، فلا يعلم كيف الله إلا الله جل وعلا، ولا يجوز الخوض في كيفية شيء من صفات الله، لأن كيفية(1/64)
الشيء لا تعلم إلا إذا رؤي، أو رؤي نظيره، أو تكلم الصادق في كيفية صفته، وكلها منتفية في حق صفات الله تعالى، أي في كيفياتها، وهذا باتفاق السلف، وأهل السنة بذلك قد توسطوا بين مذهب أهل التجهيل وأهل التمثيل، فأهل التمثيل قالوا:- نحن نعلم معانيها وكيفياتها - والعياذ بالله - وأهل التجهيل قالوا:- نحن لا نعلم لا كيفياتها ولا معانيها، وأما أهل السنة فقالوا:- نحن نعلم معانيها ونفوض علم الكيفية إلى الله تعالى، وبهذا تعلم أن قول من قال ( آيات الصفات متشابهة ) فقد أصاب وأخطأ وهذا على حسب مراده وقصده، فإن كان يقصد بذلك المعاني اللغوية فهو كاذب جاهل ضال، وإن كان يقصد بذلك كيفياتها على ما هي في الواقع فهو صادق مهتد، والذي ينبغي بتأكد عدم التعبير عن الحق بألفاظ موهمة مجملة محتملة، بل لا يعبر عنه إلا بالألفاظ الواضحة التي لا مدخل للباطل فيها، فآيات الصفات عند أهل السنة معلومة من وجه ومجهولة من وجه، معلومة من جهة المعاني ومجهولة من جهة الكيفيات .(1/65)
الفرع الخامس عشر :- قول القائل ( يجوز الإشارة بما هو من حقائق صفاتنا عند ذكر شيء من صفات الله تعالى ) وهذا القول قول مجمل يحتاج إلى تفصيل، وعلى التفصيل نقرر بعد ذلك هل يجوز هذا الأمر أو لا يجوز، فإن كان القائل يريد بها إشارة المماثلة أي أن ما هو ثابت في حق الله هو بعينه ما هو ثابت في حقنا، أي إرادة تمثيل الصفة التي تخص المخلوق بالصفة التي تخص الخالق فهذا محرم التحريم الأكيد ومحظور الحظر القطعي، لأنه يفضي إلى مماثلة الخالق بالمخلوق، وقد وردت الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع السلف تقضي بقطع دابر المماثلة بين الخالق والمخلوق وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة، فلا تجوز الإشارة بصفتنا عند ذكر شيء من صفات الله تعالى إذا كان يقصد بها إرادة المماثلة فانتبه لهذا، وأما إن كان يقصد بهذه الإشارة تأكيد إرادة الحقيقة ونفي المجاز، أي كما أن هذه الصفة حقيقة في المخلوق فأنا أريد حقيقة الصفة التي يتصف بها الخالق، أي أنه يريد إثبات حقيقة الصفة لا مماثلة الصفة بالصفة فهذا جائز لا بأس به، فكما أن للمخلوق صفات هو متصف بها على وجه الحقيقة لا المجاز، فأنا أريد صفة الله تعالى التي اتصف بها على الوجه اللائق به على الحقيقة لا المجاز، فهذا طيب لا حرج فيه، إلا أنه يحسن بالإنسان أن يتركه إن كان عند قوم من العامة لا يعرفون هذا التفصيل لا سيما إن خشي لضعف علمهم بأمور الاعتقاد أن ينقدح في أذهانهم إرادة المماثلة فإن غلب على ظنه ذلك فالأسلم الترك، وليحك الصفة بدون إشارة، لأن سد الذرائع مطلوب، وقلنا بالجواز في الحالة الثانية لورود ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( يقبض الله سمواته بيمينه ويقبض الأرضين بيده الأخرى ثم يهزهن ثم يقول:- أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون )) قال:- فهز النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه وهو(1/66)
على المنبر فتحرك به حتى إني أقول:- أساقط هو برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانظر كيف هز النبي - صلى الله عليه وسلم - يده عند ذكره لهز الرب للسموات والأرض يوم القيامة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يثبت هنا حقيقة الهز أي أن الهز الذي ترونه الآن هو حقيقة الهز المضاف إلى المخلوق فأنا أريد حقيقة الهز المضاف إلى الله تعالى، على ما يليق به جل وعلا، مع علم الحاضرين أن الهز المضاف إلى المخلوق يختلف عن الهز المضاف إلى الخالق، لكنهم فهموا إرادة الحقيقة ونفي المجاز، وهناك دليل آخر:- وهو ما رواه أبو داود في سننه قال:- حدثنا علي بن نصر ومحمد بن يونس النسائي - المعنى - قالا:- حدثنا عبدالله بن يزيد المقرئ قال حدثنا حرملة - يعني - ابن عمران قال حدثني أبو يونس سليم بن جبير مولى أبي هريرة قال سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } إلى قوله { سَمِيعًا بَصِيرًا } قال:- رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه، قال أبو هريرة:- رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ويضع أصبعيه، قال ابن يونس:- قال المقرئ:- يعني إن الله سميع بصير، يعني أن لله سمعاً وبصراً، قال أبو داود:- وهذا رد على الجهمية، قلت:- فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما وضع أصبعيه على عينه وأذنه عند ذكر سمع الله وبصره لا يريد بذلك المماثلة - حاشا وعلا - وإنما يريد به إرادة الحقيقة أي كما أن هذا هو بصر المخلوق وسمعه حقيقة فأنا أريد حقيقة بصر الله وسمعه، فالمقصود من هذه الإشارة تأكيد إرادة الحقيقة في كلٍ، وهذا واضح إن شاء الله تعالى، والله ربنا أعلى وأعلم .(1/67)
الفرع السادس عشر:- إن قال قائل ( يجوز الحلف بالمصحف ) فقل له:- إن قولك هذا قول مجمل فيه حق وباطل, فإن كنت تعني بذلك جلدته وأوراقه ومداده الذي كتب به فهذا باطل لأن هذه الأشياء كلها مخلوقة والقاعدة عند أهل السنة أنه لا يحلف بمخلوق وإنما يحلف بالله جل وعلا إما بأسمائه أو بصفاته فقط وأما المخلوقات فلا يحلف بها, وأما إن كان يقصد بالحلف بالقرآن عين كلامه جل وعلا, لأن القرآن كلام الله, وكلامه صفة من صفته فالحلف بالقرآن بهذا الاعتبار جائز لا حرج فيه لأنه حلف بصفة من صفات الله تعالى وصفات الله تعالى يجوز الحلف بها كما قرره أهل السنة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم, قال ابن مفلح في المبدع ( وإن حلف بكلام الله تعالى أو بالمصحف أو بالقرآن أو آية منه فهي يمين في قول عامتهم لأن القرآن كلام الله تعالى وصفة من صفات ذاته فتنعقد اليمين به, ولم يكره أحمد الحلف بالمصحف لأن الحالف إنما قصد المكتوب فيه وهو القرآن )ا.هـ. وقال البيهقي في السنن الصغرى ( فإن الحلف بالقرآن ينعقد لأن كلام الله صفة من صفاته )ا.هـ. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - :- من حلف بالقرآن فعليه بكل آية منه يمين ووجوب التكفير فرع عن انعقاد اليمين فهو دليل على جواز الحلف به. وقال في المغني ( وجملته أن الحلف بالقرآن أو بآية منه أو بكلام الله يمين منعقدة - ثم قال بعد ذكرالخلاف - ولنا أن القرآن كلام الله وصفة من صفات ذاته فتنعقد اليمين به )ا.هـ.(1/68)
الفرع السابع عشر:- إن قيل ( هل التأويل يقبل أو لا يقبل؟ ) فأقول:- إن لفظ التأويل صار بحسب الاستعمال من الألفاظ المجملة التي فيها حق وفيها باطل, فإن كان يقصد بالتأويل حقيقة الشيء التي هو عليها فهو حق, فتأويل الخبر وقوعه وتأويل الأمر امتثاله وتأويل النهي اجتنابه وإن كان يقصد بالتأويل التفسير فهو حق أيضاً وعلى هذين المعنيين عامة السلف رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم, وإن كان يقصد بالتأويل صرف الكلام عن ظاهره الراجح إلى المعنى المرجوح فلا يخلو من حالتين, فإن كان هذا الصرف بمقتضى دليل أو قرينة مقبولة عند السلف فهو حق, وأما إن كان الصرف لا دليل عليه ولا قرينة تقتضيه فهو التأويل الباطل الذي أنكره سلف الأمة وأئمتها وهو التأويل الذي عليه عامة طوائف البدع والضلال وهو التأويل الذي من أجله وبسببه حرفت آيات الكتاب وأحاديث السنة فيما يخص نصوص الصفات والأسماء والأفعال لله تعالى, وبسببه حرفت نصوص المعاد واليوم الآخر وبسببه حرفت نصوص القدر وغير ذلك, وهو - أي التأويل بالمعنى الأخير - من الأسباب العظيمة لضلال عامة أهل البدع, وهو من جملة الطواغيت التي تولى ابن القيم كسرها وكشف زيفها والرد على أهلها في كتابه الصواعق المرسلة, وعليه فالتأويل منه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود, وأرسم لك رسماً بيانياً حتى يتضح لك الأمر ويزول عنك الإشكال إن شاء الله تعالى :-
التأويل
حقيقة الشيء التي يؤول إليه فهو التفسير فهو مقبول وهو صرف الكلام عن
مقبول وهو التأويل الوارد في الكتاب التأويل الغالب على المفسرين. معناه الراجح إلى
والسنة . معناه المرجوح وهو
... تأويل المتأخرين .
إن كان بمقتضى الدليل إن كان بلا
فمقبول . دليل فهو باطل
... باتفاق السلف.(1/69)
وهذا واضح, بل إن الحق في الحالة الأخيرة أن يسمى تحريفاً لا تأويلاً وعليه:- فالذي يقول:- نؤمن بآيات الصفات بلا تأويل, إن كان يقصد بلا تأويل للكيفية أي بلا كلام في كيفيتها ولا خوض فيه فهذا حق لأن علم كيفية صفات الله تعالى موقوف على الرب جل وعلا, وإن كان يقصد بلا تأويل للمعنى أي ولا نتكلم في معاني الصفات فهذا باطل, لأن معاني الصفات معلومة عند أهل السنة رحمهم الله تعالى, فآيات الصفات فيها تأويل معلوم وتأويل مجهول, فالتأويل المعلوم هو تأويل المعنى بمعنى تفسيره على مقتضى دلالات اللغة العربية التي نزل بها القرآن, والتأويل المجهول هو تأويل الكيفية أي معرفة حقيقة الكيفية أو تفسيرها, فهذا لا يعلمه إلا الله تعالى, قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( ولهذا كان السلف كربيعة ومالك بن أنس وغيرهما يقولون:- الاستواء معلوم والكيف مجهول وهذا قول سائر السلف كابن الماجشون والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم وفي غير ذلك من الصفات, فمعنى الاستواء معلوم وهو التأويل والتفسير الذي يعلمه الراسخون, والكيفية هي التأويل المجهول لبني آدم وغيرهم وهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه )ا.هـ.(1/70)
قلت:- وكذلك ما ورد في نعيم الجنة, فإن الله تعالى قد سمى نعيم الجنة بأسماء نجدها عندنا في الدنيا, ففي الجنة أنهار وصور وقصور وخيام وأكواب وشجر ومسك وغير ذلك, لكن ما ورد في نعيم الجنة يعلم تأويله من جهة ويجهل من جهة, فيعلم تأويله من جهة المعنى فقط وأما في كيفيته وحقيقته التي هو عليها في الواقع فإنه تأويل لا يعلمه إلا الله تعالى, قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( وكذلك ما وعد به في الجنة, تعلم العباد تفسير ما أخبر الله به, وأما كيفيته فقد قال الله تعالى { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (( يقول الله تعالى:- أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) فما أخبرنا الله به من صفات المخلوقين نعلم تفسيره ومعناه ونفهم الكلام الذي خوطبنا به, ونعلم معنى العسل واللحم واللبن والحرير والذهب والفضة, ونفرق بين هذه مسميات هذه الأشياء وأما حقائقها على ما هي عليه فلا يمكن أن نعلمها نحن, ولا نعلم متى تكون الساعة وتفصيل ما أعد الله عزوجل لعباده لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل بل هذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى )ا.هـ.(1/71)
وقال أبو العباس رحمه الله تعالى ( فإن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معانٍ:- أحدها:- وهو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها, وهل ذلك محمود أو مذموم أو حق أو باطل؟ الثاني:- التأويل بمعنى التفسير وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير:- واختلف علماء التأويل, ومجاهد إمام التفسير, قال الثوري:- إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به وعلى تفسيره يعتمد الشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم, فإذا ذكر أنه يعلم المتشابه فالمراد به معرفة تفسيره الثالث:- من معاني التأويل هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما قال الله تعالى { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به فيه مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك )ا.هـ.(1/72)
وقال رحمه الله تعالى ( ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله كما قال أحمد في كتابه الذي صنفه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله, وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله, وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم ومعناه, وإن كان لا يشتبه على غيرهم وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله, ولم ينف مطلق التأويل, فإن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله به فذلك لا يعاب بل يحمد, ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها فذاك لا يعلمه إلا هو, ومن لم يعرف هذا اضطربت مثل طائفة يقولون:- إن التأويل باطل, وأنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره ويحتجون بقوله تعالى { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ } ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل وهذا تناقض منهم لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلاً لا يعلمه إلا الله تعالى وهم ينفون التأويل مطلقاً, وجهة الغلط أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو, وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذين يتأولونه على غير تأويله ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك )ا.هـ.(1/73)
وقال رحمه الله تعالى ( وذلك أن لفظ التأويل قد صار بسبب تعدد الاصطلاحات له ثلاثة معانٍ:- أحدها:- أن يراد بالتأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلام وإن وافق ظاهره وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في الكتاب والسنة كقوله تعالى { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } ومنه قول عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك الله وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن, والثاني:- يراد به التفسير وهو اصطلاح كثير من المفسرين... والثالث:- أن يراد بلفظ التأويل صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه ظاهره إلى ما يخالف ذلك لدليل منفصل يوجب ذلك, وهذا التأويل لا يكون إلا مخالفاً لما يدل عليه اللفظ, وتسمية هذا تأويلاً لم يكن في عرف السلف وإنما سمى هذا وحده تأويلاً طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام وظن هؤلاء أن قوله تعالى { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ } يراد به هذا المعنى ثم صاروا في هذا التأويل على طريقين قومٍ يقولون:- إنه لا يعلمه إلا الله وقوم يقولون:- إن الراسخين في العلم يعلمونه وكلا الطائفتين مخطئة, فإن هذا التأويل في كثير من المواضع أو أكثرها أو عامتها من باب تحريف الكلم عن مواضعه من جنس تأويلات القرامطة والباطنية وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض ورموا آثارهم بالشهب )ا.هـ. والله ربنا أعلى وأعلم .(1/74)
الفرع الثامن عشر:- قول أهل البدع ( القديم لا يتعدد ) أقول:- هذا لفظ مجمل فيه حق وباطل وقد تقرر عندنا معاشر أهل السنة أن اللفظ المجمل لا يقبل بإطلاق ولا يرد بإطلاق بل يوقف على الاستفصال حتى يتميز حقه من باطل فيقبل الحق ويرد الباطل, والمقصود بقولهم ( القديم ) هنا أي الرب جل وعلا, فنقول:- أولاً:- أن إطلاق اسم القديم على الله تعالى لا يصح لأن باب الأسماء لله تعالى باب توقيفي ولا نعلم دليلاً يفيد إثبات هذا الاسم فحيث لا دليل فالأصل عدم تسمية الله به وأما إن قيل من باب الخبر فهذا لا بأس به وجرى على ذلك بعض أهل السنة كابن تيمية في مواضع من كلامه وغيره, ولكن هذا من باب إطلاق الخبر فقط, وليس من إطلاق الاسمية ولا إطلاق الوصفية, ثانياًً:- أن هذا اللفظ مجمل وله معانٍ فيها حق وباطل, فأما الأول:- إن كان يقصد بقوله ( القديم لا يتعدد ) أي لا ينفصل بعضه عن بعض ولا يتجزأ فيفارق جزءه جزءاً منه كما هو معنى التعدد المعروف في اللغة هذا حق، فالله تعالى له ذات كاملة من كل وجه وله صفات كاملة من كل وجه وليس شيء من ذاته متعدداً أو منقسماً أو حال في ذات أحدٍ من الخلق, وليس شيء من صفاته منفصلاً عنه, فالقديم لا يتعدد حق إذا أريد بها أنه لا ينفصل بعضه عن بعض ولا يفارق جزء منه جزءاً, الثاني:- إن كان يقصد بقوله هذا أنه لا يتعدد فيكون إلهين أو ربين أو خالقين فهذا كذلك حق وصدق وهو الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب فإن الله تعالى هو الأحد في ذاته وصفاته وأسمائه وربوبيته وألوهيته جل وعلا, الثالث:- إن كان يقصد بالتعدد أي لم يركب فيؤلف فيجمع بين أبعاضه كما في قوله عن الإنسان { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ } فهذا حق أيضاً, لأن الله ذاتاً وصفاتاً هو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الخالق لكل شيء وما سواه فمخلوق فلا يمكن أن يتصور مجرد تصور أن صفاته كانت منفصلة عن ذاته ثم ألف بينها, هذا لا يمكن أبداً وهذه(1/75)
الأمور الثلاثة السابقة, كلها حق لأن أضدادها تنافي صمديته ووحدانيته جل وعلا الرابع:- إن كان يقصد أن الله تعالى لا يتعدد بمعنى أنه لا يتميز منه شيء عن شيء فهذا باطل بالضرورة النقلية والعقلية, فإنه قد ثبت شرعاً أن الله له ذات وصفات, وصفاته متعددة فهو متصف بالوجه والحياة والعلم والسمع والبصر وغير ذلك وكل واحدة من هذه الصفات لها معناها الخاص بها وليست هي عين الصفة الأخرى, فإن كان يقصد بنفي التعدد هذا المعنى فإنه باطل, الخامس:- إن كان يقصد بقوله هذا:- أي أن الله تعالى لا صفات له, لأنهم يزعمون أن القدم من أخص صفات الرب, فذات الرب قديمة فلو أثبتوا قدم صفاتها أيضاً للزم من ذلك - على قولهم - تعدد القدماء, وهذا ممنوع, فقالوا:- القديم لا يتعدد أي لا صفات لذاته حتى لا يلزم من ذلك تعدد القدماء وهذا باطل كل البطلان بالنقل واتفاق السلف بل هو كفر لإنكاره وجحوده آيات الصفات التي بلغت مبلغ التواتر ولأن إثبات الصفات لله جل وعلا صار مما يعلم من الدين بالضرورة, ومن أنكر معلوماً من الدين بالضرورة فإنه كافر, ودونك هذا الرسم البياني ليتضح لك الأمر :-
القديم لا يتعدد
إن كان يقصد أنه لا إن كان يقصد أنه إن كان يقصد أنه إن كان يقصد بذلك إن كان يقصد
ينفصل بعضه عن بعض لا ينقسم فيكون لم يركب ولم يؤلف أن الله لا يتميز منه ... بذلك نفي
ولا يفارق بعضه بعضاً إلهين أو ربين أو بعضه إلى بعض فهو شيء من شيء أي ... الصفات
فهو حق . ... خالقين فهو حق . حق . أن صفاته كلها والإيمان بالذات
بمعنى واحد فقط أي الذات
لا يتعدد فهو باطل . المجردة عن الصفات
... فهذا باطل .(1/76)
الفرع التاسع عشر :- إن قيل ( هل صفات الله هي الله أو هي غيره ) فقل:- إن هذه المقالة من مقالات أهل البدع لأنه لا يعرف شيء منها عن سلف هذه الأمة وهي مقالة مجملة فيها حق وباطل والألفاظ المجملة لا تقبل بإطلاق ولا ترد بإطلاق بل هي موقوفة على الاستفصال حتى يتميز حقها من باطلها, فيقبل الحق ويرد الباطل, فالأصل أننا لا نتكلم به ابتداء ولكن إذا ابتلينا بمن يتكلم به ويخلط بين حقه وباطله فلابد من الوقوف في وجهه بالتفصيل الوارد عن أهل السنة في هذه المقالة المجملة, فيقال له:- إن لفظ ( الغيرية ) هنا لفظة مجملة فهل تقصد بقولك إن صفات الله غير الله هل تريد به أنها شيء منفصل عن ذاته مباينة لها فإن كنت تريد هذا فهذا من أبطل الباطل وأمحل المحال وأعظم الكذب لأن تعطيل الذات عن صفاتها هو في حقيقته تعطيل للذات, ولأنه لا يتصور ذات إلا ولها صفات, ولأن الصفة لا يتصور في العقل السليم انفصالها عن الذات, فقولك هذا قول يرفضه النقل والعقل والفطرة السليمة والإجماع القطعي الثابت, وإن كنت تريد بهذه الغيرية أي أن الصفات شيء غير الذات أي أنها تضيف شيئاً زائداً على الذات, فهذا حق لأن الرب جل وعلا له ذات وصفات, وصفاته أضافت معنىً زائداً على ذاته جل وعلا, فليست صفاته هي عين ذاته بل هي شيء زائد عليها, وهذا صدق وحق ومعنىً مقبول عند أهل السنة ويقال لمن قال:- صفات الله هي الله, إن كنت تقصد بذلك أنها هي عين ذاته فلا فرق بين ذاته وصفاته فهذا باطل مخالف للنقل والعقل وإن كنت تقصد أن صفاته ليست منفصلة عن ذاته فهذا حق ونرسم لك رسماً بيانياً حتى يتضح لك الأمر :-
صفات الله غير الله ... صفات?الله?هي?الله
???إن?كان?يقصد?أنها?منفصلة?عن?ذاته?فهذا?باطل??? ... 1- إن كنت تقصد أنها هي عين ذات الرب جل وعلا فهذا باطل .
???إن?كان?يقصد?أنها?تضيف?إلى?ذاته?معنىً?زائداً?فهذا?حق?? ... 2- إن كنت تقصد أنها متصلة بالذات ليست بمنفصلة فهذا حق .(1/77)
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى ( التعبير عن التوحيد يكون بالكلام والله يعبر عن توحيده بكلامه فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك من صفاته لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله ولا يطلق عليه بأنه غير الله لأن لفظ ( الغير ) قد يراد به ما يباين غيره, وصفات الله لا تباينه, ويراد به ما لم يكن إياه, وصفة الله ليست إياه, ففي أحد الاصطلاحي يقال:- إنه غيره, وفي الاصطلاح الآخر لا يقال:- إنه غيره فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقروناً ببيان المراد )ا.هـ. وكلام أهل السنة في ذلك كثير مشهور والله أعلم .
الفرع العشرون:- إن قيل ( هل الإيمان مخلوق ) فقل:- إن هذا من الألفاظ المجملة التي لابد فيها من الاستفصال, وقد كفانا المؤنة في ذلك أبو العباس بقوله ( وإذا قال الإيمان مخلوق أو غير مخلوق قيل له:- ما تريد بالإيمان, أتريد به شيئاً من صفات الله وكلامه كقوله لا إله إلا الله, وإيمانه الذي دل عليه اسمه المؤمن فهو غير مخلوق أو تريد شيئاً من أفعال العباد وصفاتهم, فالعباد كلهم مخلوقون وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة ولا يكون للعبد المحدث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة ولا يقول هذا من يتصور ما يقول فإذا حصل الاستفسار والتفصيل ظهر الهدى وبان السبيل )ا.هـ.(1/78)
الفرع الحادي والعشرون:- إن قيل هل الإنسان مسير أو مخير؟ فقل إن هذه المسألة من المسائل الدقيقة, وكثير من ألفاظها فيها إجمال فلابد من التفصيل, فيقال لمن قال مسير, إن كنت تقصد أن العبد لا قدرة له ولا اختيار البتة فهذا باطل مخالف للمنقول الصحيح والمعقول الصريح والمحسوس المتقرر, والإجماع الثابت, وإن كنت تقصد أنه لا يفعل العبد فعلاً إلا وقد كتب عليه وقدر له وشاءه الله تعالى منه بالمشيئة العامة مع إثبات لقدرة العبد واختياره فهذا حق ولاشك, ويقال لمن قال:- إن الإنسان مخير, هل تقصد بذلك أنه قادر القدرة الاستقلالية عن قدرة الله وأنه هو الذي يخلق فعله بنفسه فهذا باطل كل البطلان, وإن كنت تقصد أن له مطلق القدرة على اختيار فعله وله مشيئة لكنها مقترنة بمشيئة الله تعالى فلا يشاء العبد إلا ما شاء الله فهذا حق وصدق, وعليه فإن الإنسان مسير ومخير فهو مسير باعتبار سبق التقدير بمراتبه الأربع, ومخير باعتبار دخول أفعاله تحت طاقته واختياره وقدرته, وهذا هو الحق في هذه المسألة, وأما إطلاق أنه مسير أو إطلاق أنه مخير فكلا الإطلاقين خطأ, والحق في الاستفصال ونرسم لك رسماً بيانياً حتى يتضح لك الأمر :-
من قال ( إنه مسير ) ... من?قال???إنه?مخير??
???إن?كنت?تقصد?بذلك?نفي?مطلق?القدرة?والاختيار?عن?العبد?فهذا?باطل?? ... محرم ذو القعدة إن كنت تقصد أنه هو الفاعل بذاته والقادر بذاته والمختار بذاته وأنه الذي يخلق فعله فهذا باطل .
صفر ذو القعدة ??إن?كنت?تقصد?إثبات?أنه?لا?يقول?قولاً?ولا?يفعل?فعلاً?إلا?وهو?مقدر?له?مكتوب?عليه?فهذا?حق??? ... صفر ذو القعدة إن كنت تقصد إثبات قدرة العبد واختياره ولكن لا يقدر ولا يشاء إلا ما شاء الله فهذا حق .(1/79)
الفرع الثاني والعشرون:- إن قيل ( هل الرب يريد المعصية؟ ) فقل:- إن لفظ الإرادة هنا لفظ مجمل, فإن كنت تريد بها الإرادة الكونية فلا ريب أنه لا يكون في كونه إلا ما يشاؤه ويريده لكن أنت خبير بأن الإرادة الكونية لا تستلزم محبة المراد, فالمعصية يريدها الله كوناً لكن يكرهها ويبغضها شرعاً, وإن كنت تريد بلفظ الإرادة أي الإرادة الشرعية فحاشا وكلا, لا, لا يريدها بهذه الإرادة ذلك لأنه لا يريد شرعاً إلا ما يحبه ويرضاه والمعصية لا يحبها الله ولا يرضاها، فإرادة المعصية من قبيل الإرادة الكونية، لا من الإرادة الشرعية وهذا واضح، فهو وإن أراد وقوعها كوناً إلا أنه لا يحبها ولا يرضاها شرعاً، وقد سئل أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا السؤال:- هل أراد الله تعالى المعصية؟ فقال ( لفظ المعصية مجمل له معنيان فيقصد به المشيئة لما خلقه ويقصد به المحبة والرضا لما أمر به، فإن كان مقصود السائل أنه أحب المعاصي ورضيها وأمر بها فلم يردها بهذا المعنى فإن الله لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر بالفحشاء بل قال لما نهى عنه { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } وإن أراد أنها من جملة ما شاءه وخلقه فالله خالق كل شيء وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا يكون في الوجود إلا ما شاء، وقد ذكر في موضع أنه يريدها، وفي موضع أنه لا يريدها والمراد بالأول أنه شاءها خلقاً وبالثاني أنه لا يحبها ولا يرضاها أمراً )ا.هـ.(1/80)
الفرع الثالث والعشرون:- قول القائل ( ما ثَمَّ إلا الله ) أقول:- سئل أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى عن قول القائل:- ما ثم إلا الله؟ فأجاب - رضي الله عنه - بقوله ( الحمد لله, قول القائل:- ما ثم إلا الله لفظ مجمل يحتمل معنىً صحيحاً ومعنىً باطلاً فإن أراد ما ثم خالق إلا الله ولا رب إلا الله ولا يجيب المضطرين ويرزق العباد إلا الله فهو الذي يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل وهو الذي يستحق أن يستعان به ويتوكل عليه ويستعاذ به ويلتجئ العباد إليه فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد كما قال تعالى في فاتحة الكتاب { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وقال تعالى { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وقال { قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } فهذه المعاني كلها صحيحة وهي من صريح التوحيد وبها جاء القرآن, فالعباد لا ينبغي لهم أن يخافوا إلا الله كما قال تعالى { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } وقال تعالى { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } وكذلك لا ينبغي أن يرجى إلا الله, قال الله تعالى { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وقال تعالى { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ(1/81)
ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } ولا ينبغي لهم أن يتوكلوا إلا على الله كما قال تعالى { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } ولا ينبغي لهم أن يعبدوا إلا الله كما قال تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } ولا يدعوا العباد إلا الله كما قال تعالى { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وقال تعالى { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } سواء كان دعاء عبادة أو دعاء مسألة وأما إن أراد القائل ( ما ثم إلا الله ) ما يقوله أهل الاتحاد من أنه ما ثم موجود إلا الله ويقولون:- ليس إلا الله, ليس موجود إلا الله, ويقولون:- إن وجود المخلوقات هو وجود الخالق, وأن الخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق والعبد هو الرب والرب هو العبد ونحو ذلك من معاني الاتحادية الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق ولا يثبتون المباينة بين الرب والعبد ونحو ذلك من المعاني التي توجد في كلام ابن عربي الطائي وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني ونحوهم من الاتحادية, وكذلك من يقول بالحلول كما يقوله الجهمية الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان ويجعلونه مختلطاً بالمخلوقات حتى أن هؤلاء يجعلونه في الكلاب والخنازير والنجاسات أو يجعلون وجود ذلك وجوده فمن أراد هذه المعاني فهو ملحد يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل والله سبحانه وتعالى أعلم )ا.هـ.(1/82)
الفرع الرابع والعشرون:- إن قيل:- هل الكافر يحاسب؟ أقول:- سئل أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى هل يحاسب الكفار يوم القيامة أو لا ؟ فأجاب قدس الله روحه في الفردوس الأعلى بقوله ( هذه المسألة تنازع فيها المتأخرون من أصحاب أحمد وغيرهم فممن قال إنهم لا يحاسبون أبو بكر عبدالعزيز وأبو الحسن التميمي والقاضي أبو يعلى غيرهم, وممن قال إنهم يحاسبون أبو حفص البرمكي من أصحاب أحمد وأبو سليمان الدمشقي وأبو طالب المكي, وفصل الخطاب أن الحساب يراد به عرض أعمالهم عليهم وتوبيخهم عليها ويراد بالحساب موازنة الحسنات بالسيئات فإن أريد بالحساب المعنى الأول فلا ريب أنهم يحاسبون بهذا الاعتبار وإن أريد المعنى الثاني فإن قصد بذلك أن الكفار تبقى لهم حسنات يستحقون بها الجنة فهذا خطأ ظاهر, وإن أريد أنهم يتفاوتون في العقاب فعاقب من كثرت سيئاته أعظم من عقاب من قلت سيئاته ومن كان له حسنات خفف عنه العذاب كما أن أبا طالب أخف عذاباً من أبي لهب, وقال تعالى { الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } وقال تعالى { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } والنار دركات فإذا كان بعض الكفار عذابه أشد عذاباً من بعض لكثرة سيئاته وقلت حسناته كان الحساب لبيان مراتب العذاب لا لأجل دخولهم الجنة )ا.هـ. وقال أيضاً ( وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته فإنهم لا حسنات لهم ولكن تعد أعمالهم وتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها )ا.هـ.(1/83)
وقال رحمه الله تعالى ( مسألة محاسبة الكفار هل يحاسبون أم لا؟ هي مسألة لا يكفر فيها بالاتفاق والصحيح أيضاً أنها لا يضيق فيها ولا يهجر بل يكاد الخلاف بينهم - أي بين من أثبت المحاسبة ومن نفاها - يرتفع عند التحقيق مع أنه قد اختلف فيها أصحاب الإمام أحمد وإن كان أكثرهم يقولون:- يحاسبون, واختلف فيها غيرهم من أهل العلم وأهل الكلام وذلك أن الحساب قد يراد به الإحاطة بالأعمال وكتابتها في الصحف وعرضها على الكفار وتوبيخهم على ما عملوه وزيادة العذاب ونقصه بزيادة الكفر ونقصه فهذا الضرب من الحساب ثابت بالاتفاق, وقد يراد بالحساب وزن الحسنات بالسيئات ليتبين أيهما أرجح فالكافر لا حسنات له توزن بسيئاته إذ أعماله كلها حابطة, وإنما توزن لتظهر خفة موازينه لا ليتبين رجحان حسناته وقد يراد بالحساب أن الله هل هو الذي يكلمهم أم لا, فالقرآن والحديث يدلان على أن الله يكلمهم تكليم توبيخ وتقريع وتبكيت لا تكليم تقريب وتكريم ورحمة )ا.هـ. وكلام أبي العباس واضح لا يحتاج إلى تعليق .(1/84)
الفرع الخامس والعشرون:- يجرى على ألسنة المتكلمين وبعض أهل السنة لفظ التسلسل, وقد أدى هذا اللفظ ببعض أهل البدع إلى شطحات سحيقة في حق صفات الرب جل وعلا وأفعاله, وقد سبر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه المفيد الماتع الطيب شفاء العليل هذه المسألة فقال - رضي الله عنه - (وبذلك قالوا - أي أهل السنة - التسلسل لفظ مجمل لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ناطق ولا سنة متبعة فيجب مراعاة لفظه وهو ينقسم إلى واجب وممتنع وممكن, كالتسلسل في المؤثر فإنه محال ممتنع لذاته, وهو أن يكون مؤثرين كل واحد منهم استفاد تأثيره ممن قبله لا إلى غاية, والتسلسل الواجب ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب في الأبد, وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له, وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرق الأزل وأن كل فعل فهو مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه فإنه لم يزل متكلماً إذا شاء ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته فإن كل حي فهو فعال، والفرق بين الحي والميت بالفعل، ولهذا قال غير واحدٍ من السلف:- الحي هو الفعال، وقال عثمان بن سعيد:- كل حي فعال ولم يكن ربنا سبحانه قط في وقتٍ من الأوقات المحققة أو المقدرة معطلاً عن كماله من الكلام والإرادة والفعل، وأما التسلسل الممكن فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف كما يتسلسل في طرف الأبد، فإنه إذا لم يزل حياً قادراً مريداً متكلماً وذلك من لوازم ذاته فالفعل ممكن بهذه الصفات له وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدماً لا أول له، فلكل مخلوق أول والخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن )ا.هـ. وأوضح لك الأمر برسمٍ بياني :-
التسلسل(1/85)
منه ماهو ممتنع وهو التسلسل في المؤثرين التسلسل الواجب:- ... التسلسل الممكن التسلسل لأن جميع الأشياء تنتهي إلى مؤثر واحد 1- التسلسل في طرف الأبد الثاني في مفعولاته مع الاعتقاد أن
وخالق واحد وفاعل واحد وهو الله وهو أنه كلما انقضى نعيم لأهل ... كل المخلوقات العالم وغيره
جل وعلا . الجنة أخلفهم الله نعيماً آخر وهكذا لها أول ابتدأت به وأن كل
إلى ما لا نهاية له . ... مخلوق فله أول, وأما الخالق
2- التسلسل في أفعاله جل وعلا فإنه فهو المنفرد بأنه لا أول له .
لا يزال متكلماً قادراً حياً فعالاً لما يريد .(1/86)
الفرع السادس والعشرون:- إن قيل:- ما قولك في لفظة ( الله واحد لا قسيم له؟ ) فقل:- إن هذا اللفظ من الألفاظ المجملة فإن كان يقصد بذلك أنه سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد وأنه المتوحد بالربوبية والألوهية والأسماء الحسنى والصفات العلى وأنه لا شريك له في ذلك لا ملك مقرب ولا نبي مرسل وأنه الواحد في أفعاله وذاته وصفاته وأسمائه وأنه لا مثيل له في ذلك وأنه ليس له شريك له في الملك ولا ولي من الذل, وأنه يمتنع أن يتفرق أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء فهذا كله حق وصدق وعدل, وإن كان يقصد بذلك نفي صفاته وأسمائه وأفعاله, وإنما يثبت ذاته فقط أي الذات المجردة عن الصفات فيدرج في ذلك نفي علوه على عرشه ومباينته لخلقه وامتيازه عنهم ونحو ذلك من معاني الجحد والتعطيل فهذا كله باطل بضرورة النقل والعقل والحس والفطرة السليمة قال أبو العباس ابن تيمية ( وكذلك النوع الثالث وهو قولهم:- إن الله واحد لا قسيم له في ذاته أو لا جزء له أو لا بعض له لفظ مجمل فإن الله سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فيمتنع عليه أن يتفرق أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء لكنهم يدرجون في ذلك اللفظ نفي علوه على عرشه ومباينته لخلقه وامتيازه عنهم ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله ويجعلون ذلك من التوحيد )ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى في الصفدية ( وكانت الجهمية تقول:- الواحد الذي لا ينقسم وهذا لفظ مجمل فإن الله تعالى منزه عن قبول التفريق والتبعيض ولكن مقصودهم بذلك نفي الصفات )ا.هـ.(1/87)
الفرع السابع والعشرون:- قول القائل:- يأخذ عن الله وأعطاني الله, وهو كثير عند الصوفية وغيرهم, وقد شفى فيه أبو العباس ابن تيمية بقوله ( وقول القائل:- يأخذ عن الله وأعطاني الله لفظ مجمل فإن أراد به الإعطاء والأخذ العام وهو الكوني الخلقي أي بمشيئة الله وقدرته حصل لي هذا فهو حق, ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا, وذلك الذي أخذ عن الكتاب هو أيضاً عن الله أخذ بهذا الاعتبار, والكفار من المشركين وأهل الكتاب هم أيضاً كذلك, وإن أراد أن هذا الذي حصل له هو مما يحبه الله ويرضاه ويقرب إليه وهذا الخطاب الذي يلقى إليه هو كلام الله تعالى فهنا طريقان أحدهما:- أن يقال له: من أين لك أن هذا إنما هو من الله لا من الشيطان وإلقائه ووسوسته فإن الشياطين يوحون إلى أوليائهم وينزلون عليهم كما أخبر الله تعالى بذلك في القرآن, وهذا موجود كثيراً في عباد المشركين وأهل الكتاب وفي الكهان والسحرة ونحوهم من أهل البدع بحسب بدعتهم فإن هذه الأحوال قد تكون شيطانية وقد تكون رحمانية فلابد من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان, والفرقان إنما هو الفرقان الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً, وهو الذي فرق به بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال وبين الرشاد والغي وبين طريق الجنة وطريق النار, وبين سبيل أولياء الرحمن وسبيل أولياء الشيطان كما تقدم بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع, والمقصود هنا أنه يقال لهم إذا كان جنس هذه الأحوال مشتركاً بين أهل الحق وأهل الباطل فلابد من دليل يبين أن ما حصل لكم هو الحق, الطريق الثاني:- أن يقال: بل هذا من الشيطان لأنه مخالف لما بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - وذلك أنه ينظر فيما حصل له وإلى سببه وإلى غايته فإن كان السبب عبادة غير شرعية مثل أن يقال له: اسجد لهذا الصنم حتى يحصل لك المراد أو استشفع بصاحب هذه الصورة(1/88)
حتى يحصل لك المطلوب أو ادع هذا المخلوق واستغث به مثل أن يدعو الكواكب كما يذكرونه في كتب دعوة الكواكب أو أن يدعو مخلوقاً كما يدعو الخالق سواءً كان المخلوق ملكاً أو نبياً أو شيخاً فإذا دعاه كما يدعو الخالق سبحانه إما دعاء عبادة وإما دعاء مسألة صار مشركاً به فحينئذٍ فما حصل له بهذا السبب حصل بالشرك كما يحصل للمشركين, وكانت الشياطين تتراءى لهم أحياناً وقد يخاطبونهم من الصنم ويخبرونهم ببعض الأمور الغائبة أو يقضون لهم بعض الحوائج فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه منهم من توحيدهم وإيمانهم الذي هلكوا بزواله كالسحر قال تعالى { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } وكذلك قد يكون سببه سماع المعازف وهذا كما يذكر عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه قال (( اتقوا الخمر فإنها أم الخبائث )) وأن رجلاً سأل امرأة فقالت: لا أفعل حتى تسجد لهذا الوثن, فقال: لا أشرك بالله, فقالت: أوتقتل هذا الصبي, فقال: لا أقتل النفس التي حرم الله, فقالت: أوتشرب هذا القدح, فقال:- هذا أهون فلما شرب الخمر قتل الصبي وسجد للوثن وزنى بالمرأة, والمعازف هي خمر النفوس تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس فإذا سكروا بالأصوات حل فيهم الشرك ومالوا إلى الفواحش وإلى الظلم فيشركون ويقتلون النفس التي حرم الله ويزنون, وهذه الثلاثة موجودة كثيراً في أهل سماع المعازف وسماع المكاء والتصدية, أما الشرك فغالب عليهم, بأن يحبوا شيخهم أو غيره مثل ما(1/89)
يحبون الله ويتواجدون على حبه, وأما الفواحش فالغناء رقية الزنا وهو من أعظم الأسباب لوقوع الفواحش ويكون الرجل والصبي والمرأة في غاية العفة والحرية حتى يحضره فتنحل نفسه وتسهل عليه الفاحشة ويميل لها فاعلاً أو مفعولاً به, أو كلاهما كما يحصل بين شاربي الخمر وأكثر, وأما القتل فإن قتل بعضهم بعضاً في السماع كثير, يقولون: قتله بحاله, ويعدون ذلك من قوته وذلك أن معهم شياطين تحضرهم فأيهم كان شيطانته أقوى قتل الآخر كالذين يشربون الخمر ومعهم أعوان لهم فإذا شربوا عربدوا فأيهم كانت أعوانه أقوى قتل الآخر, وقد جرى مثل هذا لكثير منهم, ومنهم من يقتل إما شخصاً أو فرساً أو غير ذلك بحاله ثم يقوم صاحب الثأر ويستغيث بشيخه فيقتل ذلك الشخص وجماعة معه إما عشرة وإما أقل أو أكثر كما جرى مثل هذا لغير واحد, وكان الجهال يحسبون هذا من باب الكرامات فلما تبين لهم أن هذه أحوال شيطانية وأن هؤلاء معهم شياطين تعينهم على الإثم والعدوان عرف ذلك من بصره الله تعالى وانكشف التلبيس والغش الذي كان لهؤلاء )ا.هـ.(1/90)
الفرع الثامن والعشرون:- إن قيل: هل يدخل القياس في حق الله تعالى؟ فقل إن كلمة القياس صارت من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقاً وباطلاً, فإن كنت تقصد بذلك قياس التمثيل فهذا باطل فالله تعالى لا يدخل مع خلقه في قياس تمثيل, وإن كنت تقصد بذلك قياس الشمول الذي تستوي فيه أفراده فهذا باطل أيضاً, وإن كنت تقصد بذلك قياس الأولى فهو حق, فلا يستعمل في حق الله تعالى إلا قياس الأولى, ومعناه:- أن كل صفة كمال في المخلوق لا نقص فيها بوجه فالله أولى وأحق أن يتصف بها, وكل صفة نقص في المخلوق لا كمال فيها بوجه فالله أحق وأولى أن ينزه عنها, وهذا واضح, قال أبو العباس رحمه الله ( والله سبحانه لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة بخلقه فإن الله لا مثيل له, بل له { الْمَثَلُ الأَعْلَىَ } فلا يجوز أن يشرك هو والمخلوقات في قياس تمثيل ولا في قياس شمول تستوي فيه أفراده, ولكن يستعمل في حقه المثل الأعلى وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به, وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه)ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الرب سبحانه وتعالى, وله المثل الأعلى, فكل كمال حصل للمخلوق فالخالق أحق به وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أحق أن ينزه عنه, ولهذا كان لله المثل الأعلى فإنه لايقاس بخلقه ولا يمثل بهم ولا تضرب له الأمثال ولا يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل بمثل, ولا في قياس شمول تستوي فيه أفراده, بل { لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } )ا.هـ.(1/91)
وقال رحمه الله تعالى عن أهل السنة ( وإن استعملوا في ذلك القياس, استعملوا قياس الأولى, لم يستعملوا قياس شمول تستوي أفراده ولا قياس تمثيل محض فإن الرب تعالى لا مثيل له ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي تستوي أفراده, بل ما ثبت لغيره من كمال لا نقص فيه فثبوته له بطريق الأولى, وما تنزه غيره عنه من النقائص فتنزهه عنه بطريق الأولى ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( وبهذه الطريقة جاء القرآن وهي طريقة سلف الأمة وأئمتها فإن الله سبحانه لا يماثله شيء من الموجودات في قياس التمثيل ولا أن يدخل في قياس شمول تتماثل فيه أفراده, بل ما ثبت لغيره من الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه فهو أحق به وما نزه عنه غيره من النقائص فهو أحق بالتنزيه منه كما قال تعالى { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ } ) والله أعلم .
الفرع التاسع والعشرون:- قول القائل ( صفات الله تجري بلا تفسير ) لفظ مجمل فإن كان يقصد بذلك تفسير المعنى فهو باطل فإن تفسير المعنى معلوم عند السلف بالاتفاق كما قال مالك وغيره في الاستواء لما سئل عن كيفيته:- الاستواء غير مجهول – أي معناه – والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة, فأهل السنة يعلمون معاني الصفات, وأما إن كان المقصود بنفي التفسير أي نفي تفسير الكيفية فهذا حق فإن كيفية الشيء لا تعلم إلا برؤيته أو رؤية نظيره أو إخبار الصادق عن كيفية صفته وكلها منتفية في حق كيفية صفات الرب جل وعلا فتفسير معاني الصفات وحقائق اليوم الآخر معلوم لأنها نزلت بلغة العرب وأمرنا بتدبرها, وأما تفسير كيفياتها فلا يعلمه إلا الله تعالى والله أعلم .(1/92)
الفرع الثلاثون:- لفظ ( المناسبة ) فإنه يكثر قوله عند أهل البدع وينفون بسببه كثيراً من الصفات الإلهية وهو من الألفاظ المجملة, ويوضح ذلك أبو العباس بن تيمية فيقول ( وقول القائل ( المناسبة ) لفظ مجمل فإنه قد يراد بها التولد والقرابة فيقال هذا نسيب فلان إذا كان بينهم قرابة مستندة إلى الولادة والآدمية, والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك , ويراد بها المماثلة فيقال هذا يناسب هذا أي يماثله والله سبحانه وتعالى أحد صمد لم يلد ولم يولج ولم يكن له كفواً أحد , ويراد بها الموافقة في معنىً من المعاني وضدها المخالفة , والمناسبة بهذا الاعتبار ثابتة, فإن أولياء الله يوافقونه فيما يأمر فيفعلونه وفيما يحبه فيحبونه وفيما نهى عنه فيتركونه والله وتر يحب الوتر , جميل يحب الجمال عليم يحب العلم نظيف يحب النظافة محسن يحب الإحسان , مقسط يحب القسط إلى غير ذلك من المعاني بل هو سبحانه يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته كما ثبت ذلك في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا أريد بالمناسبة هذا وأمثاله فهذه المناسبة حق وهي من صفات الكمال)ا.هـ.(1/93)
الفرع الحادي والثلاثون:- إن لفظ التوسل بالأولياء صار من الألفاظ المجملة التي فيها حق وباطل فإن كان يراد به التوسل بجاههم أو بذواتهم فهذا باطل وهو محرم وبدعة ووسيلة من وسائل الشرك لأن التوسل توقيفي على الدليل ولا يعرف التوسل بالأولياء والصالحين بهذا الاعتبار لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته الكرام ولا عن سلف الأمة وأئمتها, فهو باطل ومحرم وبدعة, وإن كان بذلك أي دعاؤهم من دون الاستنجاد بهم عند حلول الكوارث ونزول الملمات وتفريج الكربات وجعلهم واسطة في الدعاء بينه وبين الله تعالى فيدعوهم ويتضرع لهم وينطرح عند عتبات قبورهم فهذا شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام بالكلية, وإن أراد بذلك التوسل بدعاء الولي الحي الحاضر القادر فهذا حق ولا بأس به وهو من جملة ما وردت الأدلة بجواز التوسل به, وعليه حديث أنس في الصحيحين من قول الأعرابي يا رسول الله قحطت السماء وجاع العيال وهلك المال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا... الحديث وهو معروف, وعليه يحمل استسقاء عمر بالعباس, واستسقاء معاوية بيزيد بن الأسود, ولكن كما ذكرت لك أنه لابد أن يكون هذا الولي حياً فأما التوسل بدعاء الأموات فإنه لا يجوز, ولابد أن يكون حاضراً فأما التوسل بدعاء الغائبين فلا يجوز والله أعلم .(1/94)
الفرع الثاني والثلاثون:- لفظ ( الجبر ) فإنه صار من الألفاظ المجملة التي تحتمل الحق والباطل وقد أخذتها الطوائف الضالة بحقها وباطلها فضلوا وأضلواكثيراً وضلوا عن سواء السبيل, وأما أهل السنة فإنهم سلكوا فيها مسلك التفصيل ويوضح ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله ( ولكن لفظ الجبر لفظ مجمل كما تقدم يراد به حق وباطل كما تقدم فإن أردتم به أن العبد مضطر في أفعاله وحركته في الصعود في السلم كحركته في وقوعه منه فهذا مكابرة للعقول والفطر وإن أردتم به أنه لا حول له ولا قوة إلا بربه وفاطره فنعم لا حول ولا قوة إلا بالله وهي كلمة عامة لا تخصيص فيها بوجه ما فالقوة والقدرة والحول بالله فلا قدرة له ولا فعل إلا بالله, فلا ننكر هذا ولا نجحده لتسمية القدري له جبراً, فليس الشأن في الأسماء { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } فلا نترك لهذه الأسماء مقتضى العقل والإيمان, والمحذور كل المحذور أن نقول: إن الله يعذب عبده على مالا صنع له فيه ولا قدرة له عليه ولا تأثير له في فعله بوجه ) قلت:- وقد كان السلف رحمهم الله تعالى يكرهون لفظ ( الجبر ) ويكرهون أن يقال:- جبر الله فلان, ثبت ذلك عن الأوزاعي والثوري والزبيدي وأحمد بن حنبل وأحمد بن رجاء وابن مهدي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من السلف, قال أبو العباس ( وكذلك أيضاً لفظ الجبر كره السلف أن يقال:- جبر أو يقال:- ما جبر ) ا.هـ.أي كرهوا إثباتها ونفيها لأنها لفظ مجمل, قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( وكذلك لفظ الجبر إذا قال هل العبد مجبور أو غير مجبور؟ قيل إن أراد بالجبر أنه ليس له مشيئة أو ليس له قدرة أو ليس له فعل فهذا باطل فإن العبد فاعل لأفعاله الاختيارية وهو يفعلها بقدرته ومشيئته, وإن أراد بالجبر أنه سبحانه خالق مشيئته – أي العبد – وفعله فإن الله تعالى خالق ذلك كله )ا.هـ.(1/95)
وقال رحمه الله تعالى ( وكذلك لفظ الجبر فيه إجمال يراد به إكراه الفاعل على الفعل بدون رضاه كما يقال: إن الأب يجبر المرأة على النكاح, والله تعالى أجل وأعظم من أن يكون مجبراً بهذا التفسير فإنه يخلق للعبد الرضا والاختيار بما يفعله وليس ذلك جبراً بهذا الاعتبار, ويراد بالجبر خلق ما في النفوس من الاعتقادات والإرادات كقول محمد بن كعب القرظي:- الجبار الذي جبر العباد على ما أراد وكما في الدعاء المأثور عن علي - رضي الله عنه - :- جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها, والجبر ثابت بهذا التفسير, فلما كان لفظ الجبر مجملاً نهى عنه الأئمة الأعلام , عن إطلاق
إثباته أو نفيه ) والله أعلم .(1/96)
الفرع الثالث والثلاثون:- زيارة القبور كذلك صارت من الألفاظ المجملة التي لابد فيها من استفصال وبيان, ذلك لأنها قسمان زيارة شرعية وزيارة بدعية فالزيارة الشرعية يراد بها تذكر الموت والبلى والدعاء للميت, وتطبيق السنة, وأما الزيارة البدعية فهي التي يراد منها دعاء الأموات أو الاستشفاع بهم والاستعانة والاستغاثة بهم أو الطواف حول قبورهم والتبرك بها أو بترابهاأو الذبح والنذر لقبورهم أو العكوف عندها الليالي ذوات العدد وغير ذلك مما هو خارج عن مقاصد الزيارة الشرعية, فزيارة القبور إن كانت يراد بها الزيارة الشرعية فهو حق وسنة وإن كانت يراد بها الزيارة البدعية فهي باطل وبدعة وقد تكون شركاً في كثير من صورها, قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( أما زيارة القبور فهي على وجهين شرعية وبدعية فالشرعية مثل الصلاة على الجنازة والمقصود بها الدعاء للميت كما يقصد بذلك الصلاة على جنازته كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزور أهل البقيع ويزور شهداء أحد ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا (( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لا حقون يرحم الله المتقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم, واغفر لنا ولهم )) وهكذا كل ما فيه دعاء للمؤمنين من الأنبياء وغيرهم كالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في الصحيح عنه أنه قال (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسية فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة )) و (( ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام )) وأما الزيارة البدعية وهي زيارة أهل الشرك من جنس زيارة النصارى الذين يقصدون دعاء الميت والاستعانة به(1/97)
وطلب الحوائج عنده فيصلون عند قبره ويدعون به فهذا ونحوه لم يفعله أحد من الصحابة ولا أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها )ا.هـ.
الفرع الرابع والثلاثون:- إن قيل:- هل العبد يدخل الجنة بعمله؟ فقل إن كنت تقصد أن العمل عوضه الجنة فهذا باطل فالجنة لا تكون عوض عمل أحدٍ كائناً من كان وعلى ذلك حديث (( إنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله )) قالوا:- ولا أنت يا رسول الله؟ قال (( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل )) وأما إن كنت تقصد أن العمل سبب من أسباب دخول الجنة فهذا حق وعليه يدل قوله تعالى بعد ذكر شيء من نعيم أهل الجنة { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } والله أعلم .(1/98)
الفرع الخامس والثلاثون:- قول القائل ( حل الله في قلبي ) هذا اللفظ لفظ مجمل إن كان يراد بذلك حلول ذات الله في قلبه فهذا كفر وزندقة وهلوسة وجنون وسفسطة, أعوذ بالله العلي العظيم من هذا الاعتقاد, يا رب أسألك باسمك الأعظم أن تعصمنا مما يخالف الكتاب والسنة من الاعتقادات والأعمال والأقوال, وأما إن كان يريد بذلك حلول عظمة الله ومحبته والإيمان به وجلاله والخوف منه ونحو ذلك فهو حق, فلفظ الحلول لفظ مجمل فإن أريد به المعنى الأول فهو باطل وإن أريد به المعنى الثاني فهو حق, قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ( وأيضاً فلفظ الحلول يراد به حلول ذات الشيء تارة وحلول معرفته ومحبته ومثاله العلمي تارة كما تقدم ذكره, وعندهم في النبوات أن الله حل في المسيح من الصالحين وليس المراد به أن ذات الرب حلت فيه, بل يقال فلان ساكن في قلبي وحال في قلبي وهو في سري وسويداء قلبي ونحو ذلك كما يقال إن الله في قلوب العارفين وحال فيهم, والمراد به حلول معرفته والإيمان به ومحبته ونحو ذلك, فإذا كان الرب في قلوب عباده المؤمنين أي نوره ومعرفته وعبر عن هذا بأنه حال فيهم وهم حالون في المسجد قيل:- إن الله في المسجد وحال فيه بهذا المعنى كما يقال:- الله في قلب فلان, وفلان ما عنده إلا الله ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( فالمؤمنون يعرفون الله ويحبونه ويعبدونه ويذكرونه ويقال هو في قلوبهم, والمراد معرفته ومحبته وعبادته وهو المثل العلمي, ليس المراد نفس ذاته كما يقول الإنسان لغيره, أنت في قلبي وما زلت في قلبي وبين عيني )ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( وما في القلوب من معرفة المعروف ومحبته, وليس المراد به نفس المعروف المحبوب ) .(1/99)
الفرع السادس والثلاثون:- لقد قرر أهل العلم أن الجعل المضاف إلى الله تعالى نوعان, يوضح ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله ( فالجعل المضاف إلى الله سبحانه يراد الجعل الذي يحبه ويراد به الجعل الذي قدره وقضاء, قال تعالى { مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } فهذا نفي لجعله الشرعي الدين ما شرع ذلك ولا أمر به ولا أحبه ورضيه, وقال تعالى { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } فهذا جعل كوني قدري, أي قدرنا ذلك وقضيناه و ( جعله ) كذلك لفظ مجمل يراد به أنه جبره وأكرهه عليه واضطره إليه وهذا محال في حق الرب تعالى وكماله المقدس يأبى ذلك وصفات كماله تمنع منه كما تقدم, ويراد به أنه أمكنه من ذلك وأقدره عليه من غير أن يضطره إليه ولا أكرهه ولا أجبره فهذا حق ) ا.هـ.
الفرع السابع والثلاثون:- إن قيل:- هل القرآن يتفاضل؟ فقل:- إن كنت تقصد بذلك تفاضله باعتبار المتكلم به فهذا لا يتفاضل لأن المتكلم به واحد وهو الله جل وعلا, فالقرآن من أوله إلى آخره كلام الله منزل غير مخلوق منه نزل وإليه يعود, وإن كان تقصد بتفاضله أي باعتبار معانيه فهو يتفاضل بهذا الاعتبار, فسورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن, وآية الكرسي أعظم آية في القرآن وسورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن, وكل ذلك باعتبار الدلالة والمعنى لا باعتبار المتكلم به وعلى ذلك أهل السنة والله أعلم .(1/100)
الفرع الثامن والثلاثون:- لفظ ( الموجب بالذات ) وهو لفظ مجمل, قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( ولفظ الموجب بالذات فيه إجمال فإن أريد به أنه يوجب ما يحدث بمشيئته وقدرته فلا منافاة بين كونه فاعلاً بالقدرة والاختيار وبين كونه موجباً بالذات بهذا التفسير, وإن أريد بالموجب بالذات أنه يوجب شيئاً بذات مجردة عن القدرة والاختيار فهذا باطل ممتنع, وإن أريد به أنه علة تامة أزلية تستلزم معلولها الأزلي بحيث يكون من العالم ما هو قديم بقدمه لازم لذاته أزلاً وأبداً, الفلك أو غيره فهذا أيضاً باطل, فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضي قدم شيء من العالم مع الله أو فسر بما يقتضي سلب صفات الكمال عن الله فهو باطل وإن فسر بما يقتضي أنه ما شاء كان ومالم يشأ لم يكن فهو حق فإن ما شاء وجوده فقد وجب وجوده بقدرته ومشيئته )ا.هـ.(1/101)
الفرع التاسع والثلاثون:- لفظ ( الإرهاب ) فإنه صار بحسب استعمال الدول والطوائف له من الألفاظ المجملة فيه حق وباطل, فإن كان يقصد به الافتئات على ولي الأمر والخروج عليه ونزع اليد من الطاعة وإخافة السبيل واستحلال الدماء والأموال بلا حق وتدمير الممتلكات وقتل المعاهدين والتخطيط للتفجير في ديار المسلمين أو في دول الكفر التي بيننا وبينهم عهد أمان وذمة, أو الاغتيالات للملوك والأمراء والشخصيات المهمة في البلد وترويع الآمنين وانتهاك الحرمات والإخلال بالأمن ونحو ذلك فكل ذلك إرهاب باطل مذموم ليس من الشرع في صدر ولا ورد وإن كان يراد به الالتزام بالسنة وتقسير الثياب وإعفاء اللحى والتحلق في حلق الذكر والسعي على الأرملة والفقير والمسكين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعداد العدة للجهاد الشرعي تحت راية ولي الأمر, ونشر العلم وإحياء السنة والتمسك بالسنة, فهذا ليس إرهاباً مذموماً, بل هو دين ندين الله به وشريعة أمرنا بالاستمساك بها وتسمية دول الكفر لذلك إرهاباً لا يجعلنا نترك ما هو مشروع لنا شرع إيجاب أو استحباب من أجل مراعاة أحد كائناً من كان, والله أعلم .
الفرع الأربعون:- قول القائل ( الإخوة الإنسانية ) لفظ مجمل يراد به حق وباطل, فإن كان يقصد به تمييع الفروق العقدية وجمع الناس تحت راية الإنسانية مسلمهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم وسنيهم وبدعيهم فهذا اللفظ بهذا الاعتبار باطل كل البطلان لأنه يلغي شعيرة التفريق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شعائر الدين, وأما إن كان يراد به الحث على كمال دعوة الجميع والحرص على إنقاذهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمبادرة في إيصال الخير لهم حسب الطرق المشروعة وهدايتهم هداية الإرشاد إلى الصراط المستقيم ودلالتهم على المنهج القويم فهذا حق لا بأس به, لكن غالب من تكلم به إنما يريد المعنى الباطل فانتبه لهذا .(1/102)
الفرع الحادي والأربعون:- إن قيل:- هل فهم الحجة شرط لقيامها؟ فقل:- إن لفظ الفهم لفظ مجمل فإن أريد مطلق الفهم فلا شك أنه شرط لقيامها ونريد بمطلق الفهم أي درجة من درجاته وهو فهم المعنى, وإن أريد بالفهم الفهم المطلق الكامل الذي يعقبه الامتثال فهذا لا شك في أنه ليس بشرط وعليه فالخلاف بين من يشترط الفهم وبين من لا يشترطه خلاف لفظي, لأن الجميع اتفقوا على اشتراط مطلق الفهم لقيامها والجميع اتفقوا على أن الفهم المطلق ليس بشرط لقيامها والله أعلم.
الفرع الثاني والأربعون:- إن قيل:- هل يوصف الله بالنسيان؟ فقل:- إن لفظ النسيان لفظ مجمل فإن أريد به النسيان بمعنى الغفلة والذهول عن الشيء فالله منزه عن ذلك وهو المنفي بقوله { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } وبقوله { لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى } وإن أريد الترك عن علم وعمد جزاء ومقابلة وعقوبة فهذا حق ثابت لله تعالى وهو المثبت في قوله { نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ } وبقوله { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } وبقوله { فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا } والله أعلم .
الفرع الثالث والأربعون:- إن قيل هل يوصف الله بالعجب؟ فقل إن العجب لفظ مجمل فإن أريد به العجب بمعنى خفاء السبب فهذا باطل لأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وإن أريد به العجب الذي يكون سببه خروج الشيء عن حكم نظائره فهو حق ثابت لله تعالى وأدلة إثباته معروفة .
الفرع الرابع والأربعون:- إن قيل:- هل يوصف الله بالمكر والمخادعة؟ فقل:- أما المكر والمخادعة الابتدائية فهي نقص ينزه الله عنها, وأما المكر والمخادعة من باب المقابلة جزاءً وعقوبة فهي كمال وحق ثابت لله جل وعلا, قال تعالى { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ } وقال { يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } والله أعلم .(1/103)
الفرع الخامس والأربعون:- إن قيل:- هل وسائل الدعوة إجتهادية أو توقيفية؟ فقل لا نقول هي اجتهادية ولا نقول توقيفية, وإنما نسلك في ذلك مسلك التفصيل فنقول:- هي اجتهادية باعتبار وتوقيفية باعتبار, فهي اجتهادية فيما لا يخالف النصوص الشرعية أي ما دامت هذه الوسيلة في دائرة ما تجيزه النصوص ويتفق معها ولا يخالفها فهي اجتهادية أي اجتهادية فيما يجيزه النص, وتوقيفية فيما يخالف النصوص أي لا يجوز اختراع وسيلة تخالف النص وندعو الله بها, فهي اجتهادية فيما لا يخالف النص وتوقيفية فيما يخالف النص والله أعلم .
الفرع السادس والأربعون:- إن قيل هل يوصف الله بالكيد؟ فقل إن كان المراد بذلك الكيد الابتدائي فهو مما لا يوصف الله به, لأنه نقص وإن كان يراد به الكيد من باب الجزاء والمقابلة فهو حق قال تعالى { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا } .
الفرع السابع والأربعون:- إن قيل:- هل يوصف الله بالأسف؟ فقل إن كان المراد بذلك الأسف أي بمعنى الحزن فهذا مما لا يوصف الله به لأنه نقص والله منزه عن النقص وإن كان يراد به الأسف بمعنى الغضب فهو كمال يوصف الله به قال تعالى { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } .
الفرع الثامن والأربعون:- إن قيل هل يوصف الله بالسخرية؟ فقل إن كان يراد بذلك السخرية الابتدائية فهذا مما لا يوصف الله به لأنه نقص والله نزه عن النقص, وإن كان يراد بها السخرية التي هي من باب الجزاء والمقابلة فهي كمال يوصف الله بها قال تعالى عن من يسخر بالمتصدقين من المؤمنين { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .(1/104)
الفرع التاسع والأربعون:- كراهة الدول للتجمعات, فإن لفظ التجمعات لفظ مجمل فإن أريد التجمعات على مخالفة الحق والهدى فهي باطلة والحق محاربتها, وإن أريد بها التجمعات التي تقرر الحق وتحيي الشرع وتنشر الهدى فهي حق مشروع, ولا حق لأحد أن يحاربها إذ لا شر فيها بل هي خير ونور وهدى .
الفرع الخمسون:- ولعله الأخير إن شاء الله تعالى, إن قيل لك هل تقنين الشريعة جائز؟ فقل إن لفظ التقنين لفظ مجمل فيه حق وباطل فإن كان يراد حذف ما لا تهواه النفوس من التشريعات والأحكام وإحلال القوانين البشرية مكانها أو تغيير شيء مما ثبت به النص فهذا التقنين باطل, وكذا إن كان يراد به حذف الخلاف وإلزام العلماء والطلاب والمفتين بقول واحد فهذا باطل لأنه لا وصاية على أقوال المجتهدين وإن كان يراد به تقريب الأحكام وتيسير فهمها وجعلها في مواد مرتبة ليسهل الوصول إليها والأحكام هي الأحكام فهذا لا بأس به إذ لا باطل فيه والله أعلم .
ولعل القاعدة قد اتضحت معالمها وبانت لك مراسمها فالحمد لله ثم الحمد لله ثم الحمد على حسن توفيقه وعظيم فضله وامتنانه وأسأل الله باسمه الأعظم أن يغفر للعلماء وأن يتجاوز عنهم ويرفع نزلهم في الفردوس الأعلى وأن يجزيهم خيراً ما جزى عالماً عن أمته وأشهد الله تعالى ومن حضرني من الملائكة ومن يطلع عليه من طلبة العلم أن هذه الوريقات وقف لله جل وعلا على كل مسلم في الأرض وقد أجزت لكل مسلم طباعتها ولو بغير اسم مؤلفها لأن المقصود وصول الحق للناس وليس المقصود شهرة الاسم, ولا حق لي ولا لغيري أن يحتفظ بحقوق طبعها وقد وقع الفراغ منها بعد صلاة العصر قبيل المغرب من شهر جمادى الآخرة في اليوم الثاني والعشرين عام ثمانية وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(1/105)