ذم الموسوسين
لشيخ الإسلام العلامة المجتهد
موفق الدين ابن قدامة المقدسي
(541 - 620 هـ)
تحقيق
أبي الأشبال الزهيري حسن بن أمين آل مندوه
الفاروق الحديثة
مكتبة التوعية الإسلامية
الطبعة الأولى
1407 هـ(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العالم الصدر أوحد عصره، وفريد دهره محيي السنة وقامع البدعة موفق الدين أبو محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي قدس الله روحه ونور موقده وضريحه:
الحمد لله الذي هدانا بنعمته، وشرفنا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبرسالته، ووفقنا للإقتداء والتمسك بسنته، ومن علينا باتباعه الذي جعله علماً على محبته ومعرفته، وسبباً لكتابه ورحمته، وحصول هدايته، فقال سبحانه وتعالى:
{قل إن تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}.
وقال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيءٍ فسأكتبها للذين يتقون}.
إلى قوله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل}.
إلى قوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}.
أما بعد.. .. فإن الله سبحانه وتعالى جعل الشيطان عدواً للإنسان يقعد له الصراط المستقيم، ويأتيه من كل وجهة وسبيل كما أخبر الله تعالى عنه بقوله:
{ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}.(1/8)
وحذرنا -تعالى- من متابعته، وأمرنا بعداوته ومخالفته، فقال سبحانه:
{إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً}.
وقال: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة}.
وأخبرنا بما صنع بأبينا تحذيراً لنا من طاعته وقطعاً للعذر في متابعته.
وأمرنا الله تعالى باتباع صراطه المستقيم، ونهانا عن اتباع السبل فقال سبحانه:
{وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}.
وسبيل الله وصراطه المستقيم هو الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته بدليل قوله تعالى:
{يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراطٍ مستقيم}.
وقال تعالى: {إنك لعلى هدىً مستقيم}.
وقال تعالى: {وإنك لتهتدي إلى صراطٍ مستقيم}.
فمن تبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله أو فعله فهو على صراط الله المستقيم،(1/9)
وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه، ومن خالفه في قوله أو فعله، فهو متبع لسبيل الشيطان غير داخل فيمن وعد الله تعالى بالمحبة والمغفرة والإحسان.
ثم إن طائفة من الموسوسين قد تحققت منهم طاعة الشيطان حتى اتصفوا بوسوسته، ونسبوا إلى قبول قوله وطاعته، ورغبوا عن اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطريقته، حتى أن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو صلى كصلاته أن وضوءه باطل، وصلاته غير صحيحة. ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مؤاكلة الصبيان، وأكل طعام عامة المسلمين، أنه قد صار نجساً يجب عليه تسبيع يده وفيه. كما لو ولغ فيهما كلبٌ أو بال عليهما هرٌ!
ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى شبيه بالجنوب وتقارب من ((مذهب السوفسطائية)) الذين ينكرون حقائق الموجودات.
فإن الأمور المحسوسات وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور اليقينيات الضروريات. وهو أولاً يغسل عضوه غسلاً يشاهد ببصره، ويكبر ويقرأ شيئاً بلسانه، تسمعه أذناه. ويعلمه بقلبه. بل يعلمه غيره منه ويتيقنه إذا رأى ذلك أو سمعه منه، وهذا يصدق الشيطان في إنكاره يقين نفسه وجحده لما رأى ببصره وسمعه بأذنه.
وكذلك يشككه في نيته وقصده التي يعلمها من نفسه يقيناً. بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله. ومع ذلك يقبل قول إبليس في أنه ما نوى الصلاة ولا أرادها مكابرة منه لعيانه وجحداً ليقين نفسه حتى تراه متردداً متحيراً. كأنه يعالج شيئاً يجتذبه أو يجد شيئاً في باطنه يستخرجه.!(1/10)
كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس وقبولاً من وسوسته. ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية في طاعته.!
ثم أنه يقبل قوله في تعذيب نفسه ويطيعه في الإضرار بجسده بالغوص في الماء البارد.
وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك مبالغة.
وربما فتح عينيه في الماء وغسل داخلهما حتى يضر بصره.
وربما أفضى إلى كشف عورته.
وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزئ به من يراه.
وربما شغله بوسوسته في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى.
وربما فوت عليه ركعة أو أكثر، وربما فوت عليه الوقت.
ومنهم من يحلف على نفسه لاثبتن ولازدت ويكذب.
ومنهم من يتوسوس في إخراج الحروف حتى يكرر الحرف الواحد مرتين أو ثلاثاً. ورأيت منهم من يقول: أككبر! وقال لي إنسان: قد عجزت عن قول: السلام عليكم. فقلت له: قل مثلما قلت الآن وقد استرحت! ونحو هذا وأصنافهم كثيرة.(1/11)
وقد بلغ الشيطان منهم إلى أن عذبهم في الدنيا وأخرجهم عن اتباع نبيهم المصطفى، وأدخلهم في جملة المتنطعين الغالين في الدين {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}! نعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر صحة ما ذكرناه من الحق في اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله وفعله وليعزم على سلوك طريقته، وعزيمته من لا يشك في أنه - من تسويل إبليس ووسوسته. ويتيقن أنه عدو لا يدعو إلى خير ولا يرشد إلى طائل إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
وليترك التعريج عن كل ما خالف طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كائناً من كان، فإنه لا يشك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على الصراط المستقيم. ومن شك في هذا فليس بمسلم. ومن علم بهذا فإلى أين العدول عن سنته، وأي شيء ينبغي غير طريقته؟
وليقل لنفسه: ألست تعلمين أن طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الصراط المستقيم؟
فإنها ستقول: بلى!
فقل: فهل كان يفعل هذا؟
فستقول: لا!
فقل: هل عندك شك في هذين الأمرين؟ أو هل شك فيهما مسلم عالم بطريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
فستقول: لا.
فقل: هل بعد الحق إلا الضلال؟ وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار؟(1/12)
وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا سبيل الشيطان؟ فهل لك رغبة في مقارنته وكونك ممن يقول {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين!}.
ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليقتد بهم وليتخذ طريقهم فقد روينا عن بعضهم أنه قال: لقد تقدمني قوم لو لم يتجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته، وقال زين العابدين لابنه: اتخذ لي ثوباً ألبسه عند قضاء الحاجة، فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب. ثم انتبه، فقال: وما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلا ثوب واحد - فتركه.
وكان عمر رضي الله عنه يهم بالأمر ويعزم عليه، فإذا قيل له لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. حتى أنه قال: لقد همت أن أنهى عن لبس هذه الثياب، فقد بلغني أنها تصبغ بأبوال العجائز. فقال له أُبي: مالك أن تنهى عنها فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد لبسها، ولبست في زمنه، ولو علم الله أن لبسها حرام لأخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر: صدقت -أو كما قال-.(1/13)
ثم ليعلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ما كان فيهم موسوس. ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله تعالى عن رسوله وصحابته، خير الخلق وأفضلهم.
ولو أدركهم عمر لضربهم وعزرهم.
ولو أدركهم أحد من الصحابة لبدعهم وكرههم.
وها أنا أذكر ما جاء في خلاف مذهبهم على ما يسره الله تعالى:(1/14)
الفصل الأول في النية في الطهارة والصلاة
اعلم رحمك الله: أن النية هي: القصد والعزم على فعل الشيء. ومحلها القلب. لا تعلق لها باللسان، وكذلك لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه في النية لفظٌ بحالٍ. ولا سمعنا عنهم ذكر ذلك.
وهذه العبارات التي أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة، وجعلها الشيطان معتركاً لأهل الوساوس يحبسهم ويعذبهم فيها، ويوقفهم في طلب تصحيحها، فيرى أحدهم يكررها ويجهد نفسه في اللفظ بها كأنه يجد ثقلاً يدفعه!
- ليست من الصلاة أصلاً.
فإنما النية (قصد فعل الشيء). فكل عازم على شيء فهو ناويه. وكل قاصد لشيء فهو ناويه. لا يتصور انفكاك ذلك عن النية لأنه حقيقتها. فلا يتصور عدمها في حال وجودها.
ومن قعد ليتوضأ، فقد نوى الوضوء، ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة. ولا يكاد العاقل يفعل شيئاً من عباداته ولا غيرها بغير نية.
فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة. ولا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل.
ولو أراد إخلاء أفعاله عن نيته، لعجز عن ذلك. ولو كلفه الله الصلاة والوضوء بغير نية، لكلفه ما لا يطيقه، ولا يدخل تحت وسعه.
وما كان هكذا فلا وجه للتعب في تحصيله. وإن شك في تحصيل نيته،(1/15)
فهذا نوع جنون! فإن نوع علم الإنسان بحال نفسه، أمر نفسي فكيف يشك فيه عاقل من نفسه؟
ومن قام ليصلي صلاة الظهر خلف الإمام، كيف يشك في ذلك؟ ولو دعاه داعٍ إلى شغل في تلك الحال لقال: إني مشغول أريد صلاة الظهر.
ولو قال له قائل في وقت خروجه إلى الصلاة: أين تمضي؟ لقال: إلى صلاة الظهر خلف الإمام.
فكيف يشك عاقل بهذا من نفسه وهو يعلمه يقيناً؟
بل أعجب من هذا أن غيره يعلم نيته بقرائن أحواله فإنه إذا رأى إنساناً جالساً في الصف في وقت الصلاة، عند اجتماع الناس علم أنه منتظر للصلاة.
وإذا رآه قد قام عند إقامتها، ونهوض الناس إليها علم أنه قد قام ليصلي فإذا رآه في المحراب علم أنه يريد إمامتهم.
وإذا رآه في الصف علم أنه يقصد الإئتمام بذلك الإمام.
وإن رأى إنساناً نازلاً إلى السقاية عند قرب الصلاة غلب على ظنه أنه يريد الوضوء ونيته، فإن رآه جالس على حوضها يتهيأ للوضوء علم أنه يريد الوضوء إياه.
فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال فكيف يجهلها هو من نفسه؟ مع إطلاعه على ظاهره وباطنه.
هذا من المحال.
وقبوله من الشيطان أنه ما نوى، تصديق له على جحد العيان -وإنكار للحقائق المعلومة يقيناً- ومخالفة للشرع ورغبة عن طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته وأحوال صحابته والأئمة من بعدهم.(1/16)
ثم إن النية الحاصلة لا يمكن تحصيلها. والموجودة لا يمكن إيجادها، لأن من شرط إيجاد الشيء كونه معدوماً. فإن إيجاد الموجود محال. وإن كان كذلك فما يحصل له بوقوفه شيء ولو وقف ألف عام!
ومن العجب أن هذا الموسوس. يعلم أنه ما حصل له بوقوفه في الصلاة الأولى شيء فكيف يقف في الثانية وما بعدها إلى آخر عمره ولا تنفعه التجربة ثم من أعجب شأنه أنه يتوسوس حال قيامه حتى يركع الإمام، فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعاً وأدركه. فمن لم تحصل له النية في القيام الطويل في حال فراغ باله كيف حصلت له في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة؟ ثم ما يطلب إما أن يكون سهلاً أو عسراً. فإن كان سهلاً ففيم يعسره وإن كان عسراً فكيف خفى ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والخلق أجمعين سوى الموسوسين؟ وكيف لم ينتبه لهذا سوى من استوحذ عليه الشيطان دون أئمة الإسلام؟
أفيظن بجهله أن الشيطان ناصح له فيطيعه؟!
أما علم أنه لا يهدي إلى خير ولا يدعو إلى هدى؟!
وكيف يقول هذا الموسوس في صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر المسلمين الذين لم يفعلوا فعله؟.
فإن قال: هي باطلة. فقد مرق من الإسلام وما بقى معه كلام.
وإن قال: هي صحيحه بدون هذا الذي يفعله، فما دعاه إلى مخالفتهم والرغبة عن طريقهم؟ وكيف لم يبينه عليه الصلاة والسلام نبي الرحمة الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة؟
فأين المعدل عن سننه؟(1/17)
أين يطلب النجاة في غير طريقته؟
أيدع مسلم اتباع من لا يشك أنه على الصراط المستقيم وأنه رسول رب العالمين، أرسله بالهدى ودين الحق، ويتبع الشيطان الرجيم الذي أخبر الله تعالى عنه بقوله: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}!
فإن قال الموسوس: إن هذا مرضٌ بلسانه.
قلنا: نعم. لكن مرضكم قبولكم وسوسته.
وما عذر الله أحداً بذلك. ألا يرى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه، أخرجا من الجنة ونودي عليهما بما يقرأ ويدرس إلى يوم القيامة، ووبخهما الله تعالى وناداهما: {ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدوٌ مبين}.
وهما أقرب للعذر لأنهما لم يسبق قبلهما من يعتبران به، وإذ قد سمعت قصتهما وحذرك ربك مثل فتنتهما.
{يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما}.
وبين الله تعالى عداوته في آي كثيرة وأوضح طريق السلامة.
فما لك عذر ولا حجة في تركك سنة المصطفى وقبولك من الشيطان الداعي إلى الردى!(1/18)
الفصل الثاني في تردد كلمات من الفاتحة. أو التشهد. أو التكبير. أو تكرير حرف أو الجمع بين قراءتين. ونحو هذا
فهذا في القبح يزيد على الفصل الذي قبله.
فإن منه ما يفسد الصلاة مثل تكرير بعض الكلمة كقولك في التحيات: أت أت التحي. وفي السلام أس أس السلام.
ومثل تكرير الحرف في الكلمة بحيث يخرجها عن موضعها كقوله في التكبير: أككبر. وفي إياك: إياكك. فهذا تكرير الكلمات غير ما في القراءة، وإخراج اللفظ عن موضعه من غير ضرورة. فالظاهر بطلت الصلاة به.
فقد أفضت طاعة الشيطان إلى فساد صلاته، واللكنة والعي. وربما كان إماماً فأفسد صلاة المأمومين. وصار إثمهم في عنقه وصارت الصلاة التي هي أقرب الطاعات، أكثر تبعيداً له من الله تعالى من الكبائر.
وما كان من ذلك لا يبطل الصلاة فهو مكروه.
وإخراج القراءة عن كونها على الوجه المشروع، عدول عن السنة ورغبة عن طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته.
وربما رفع صوته بذلك. فآذى سامعيه، وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه، وجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة وارتكاب حدث، وأشر الأمور محدثاتها، وآذى نفسه وآذى المصلين، وهتك عرضه بتعذيب نفسه فويحه ما سوى الشيطان أن يطيعه في هذا كله!.(1/19)
الفصل الثالث في الإسراف في ماء الوضوء والغسل
روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بسعد وهو يتوضأ فقال له: ((لا تسرف))، فقال يا رسول الله أفي الماء إسراف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار)).
رواه ابن ماجه في سننه.
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء. رواه الترمذي.(1/20)
وعن أم سعيد قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوضوء مد والغسل صاع وسيأتي قوم يستقلون ذلك فأولئك خلاف أهل سنتي والآخذ بسنتي في حظيرة القدس متنزه أهل الجنة. رواه أبو بكر في (الشافي) بإسناده.
وعن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال: يجزئ من الوضوء المد ومن الغسل للجنابة الصاع. فقال رجل: ما يكفينا. قال: فغضب جابر حتى تربد وجهه، ثم قال: قد كفى خيراً منك وأكثر شعراً، رواه الأثرم.(1/21)
وعن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع سعيد بن المسيب ورجلاً يسأله عما يكفي الإنسان من غسل الجنابة؟
فقال سعيد: إن لي توراً يسع مدين من ماء أو نحو ذلك فأغتسل به فيكفيني ويفضل منه فضل.
فقال الرجل: فوالله إني لأستنثر وأتمضض بمدين.
فقال له سعيد بن المسيب: فما تأمرني، وإن الشيطان يلعب بك.
فقال له الرجل: فإن لم يكفني؟ فإني رجل كما ترى عظيم.
فقال له سعيد: ثلاثة أمداد.
فقال: إن ثلاثة أمداد قليل.
فقال سعيد: فصاع، وقال له سعيد: إن لي ركوة وقدحاً ما يسع إلا نصف المد ماء أو نحوه ثم أبول ثم أتوضأ منه وأفضل منه فضلاً.
قال عبد الرحمن: فذكرت هذا الحديث الذي سمعت من سعيد بن المسيب لسليمان بن بشار فقال سليمان: وأنا يكفيني مثل ذلك. فذكرته لأبي عبيدة(1/22)
ابن عمار فقال أبو عبيدة: هكذا سمعنا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: إني لأتوضأ من كوز الجب مرتين.
وعن القاسم بن محمد أنه أتي بقدر نصف المد أو زيادة قليل فتوضأ.
وعن محمد بن عجلان: الفقه في دين الله اسباغ الوضوء وقلة إهراق الماء.
وقال الإمام أحمد أبو عبد الله: كان يقال: من قلة فقه الرجل ولوعه في الماء.
وقال الميموني: كنت أتوضأ بماء كثير فقال لي أبو عبد الله: يا أبا الحسن أترضى أن تكون كذا؟ فتركته.
وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: إني أكثر الوضوء، فنهاني عن ذلك وقال: يا بني إن للوضوء شيطانً يقال له الولهان، وقال لي في ذلك غير مرة. نهاني عن كثرة صب الماء وقال لي: أقلل من هذا الماء يا بني.
فهذه سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والأئمة بعدهم. فما في العدول عنهم فضل ولا لذي دين عنهم رغبة فإنهم كانوا على الصراط المستقيم. فمن أراد النجاة فليتبعهم يسعد، ولا يفارق طريقتهم يتعد.(1/23)
الفصل الرابع في الزيادات على الغسلات الثلاث
روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ فوصف له الطهور ثلاثاً ثلاثاً إلى أن قال: هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم.
وفي رواية: فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم وتعدى.
قال إسحق بن منصور قلت: لأحمد: يزيد على ثلاث في الوضوء؟ فقال:(1/24)
لا والله إلا رجلاً مبتلى.
وعن أسود بن سالم قال: كنت مبتلى بالوضوء فنزلت دجلة أتوضأ. فسمعت هاتفاً يقول: يا أسود يجيء عن سعيد: الوضوء ثلاث. ما كان أكثر لم يرفع، قال: فالتفت فلم أر أحداً.
وتسمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزائد على الثلاث مسيئاً ظالماً يلزم منه أن لا يكون ممن أحسن وضوءه فلا يدخل فيمن له ثواب من أحسن وضوءه. وهو خليق ألا ينال بركة الوضوء وفضيلته لغلوه في الدين ومخالفة سنة سيد المرسلين وكونه من جملة المعتدين، فإن عبد الله بن المغفل قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول -سيكون في هذه الأمة قومٌ يعتدون في الطهور والدعاء- رواه أبو داود.(1/25)
وقد قال الله تعالى: {إن الله لا يحب المعتدين}.
فأي مصيبةٍ أعظم من أن يصير الإنسان على حال لا يحبه الله تعالى؟
ويكون مسيئاً معتدياً ظالماً بالفعل الذي صار به غيره مطيعاً مرضياً عنه.
محطوطةٌ خطاياه. تفتح له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
ثم أي شيء يقصد بفعله!
إن قصد به التقرب إلى الله تعالى فكيف يتقرب إلى الله تعالى بمعصيته وما نهى عنه نبي الله - صلى الله عليه وسلم -؟!
وإن قصد به طاعة الشيطان وقبوله نصيحته مع علمه بغشه وعداوته فقد خسر خسراناً مبيناً!(1/26)
الفصل الخامس في الوسوسة في انتقاض الوضوء بخروج خارج منه
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان أحدكم في المسجد فوجد ريحاً بين إليتيه فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً.
وروينا عن مجاهد أنه قال: لأن أصلي وقد خرج مني شيء أحب إلي من أن أطيع الشيطان.
وبلغني عن بعض السلف أنه وسوس له الشيطان في شيء من هذا فقال: وقد بلغت إلى هذا؟! لا أقبل منك!
وأكثر الفقهاء على أن من كان على طهارة فشك هل أحدث أو لا فهو على يقين الطهارة -وإن غلب على ظنه الحدث- وأنه لا يزول عن يقين إلا بيقين.(1/27)
ويستحب للإنسان أن ينضح فرجه وسراويله بالماء ليدفع عن نفسه الوسوسة.
ثم متى وجد بللاً قال هذا الذي نضحته لما روى أبو داود بإسناده عن سفيان بن الحكم الثقفي أو الحكم بن سفيان قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ بال توضأ، وينضح.
وفي رواية قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بال فنضح فرجه.
وعن ابن عمر -رضي الله عنه-: كان ينضح فرجه حتى يبل سراويله.
وروينا عن أبي عبد الله أنه سأله بعض أصحابه أنه يجد البلل بعد الوضوء فأمره أن ينضح فرجه إذا بال، قال: ولا تجعل ذلك من همك وأله عنه.
وعن الحسن أو غيره مثل هذا فقال أله عنه فأعاد عليه السائل فقال إستبرء لا أبا لك أله عنه. أو كما قال.(1/28)
الفصل السادس في أشياء سهل الشرع فيها وشدد هؤلاء فيها
فمن ذلك المشي حافياً والصلاة من غير غسل قدميه.
روى أبو داود بإسناده عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت قلت: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنةً فكيف تفعل إذا تطهرنا؟ قال: أليس بعدها طريق تكون أطيب منها؟ قالت: قلت بلى. قال: فهذه بهذه.
وعبد الله بن مسعود قال: ((كنا لا نتوضأ من موطئ)).(1/29)
وعن علي -رضي الله عنه-:أنه خاض في طين المطر ثم دخل المسجد فصلى ولم يغسل رجليه.
سئل ابن عباس -رضي الله عنه- عن الرجل يطأ العذر فقال: إن كانت يابسة فليس بشيء وإن كانت رطبة غسل ما أصابه.
وعن حفص أنه أقبل مع عبد الله بن عمر عامدين إلى المسجد، قال: فلما انتهينا عدلت إلى المطهرة لأغسل قدمي من شيء فيهما أو من شيء أصابهما فقال: لا تفعل فإنك تطأ الموطئ الرديء ثم تطأ بعده الموطئ الطيب -أو قال النظيف- فيكون ذلك طهوراً. فرضيت بذلك.
ودخلنا إلى المسجد جميعاً وصلينا.
وعن أبي الشعثاء قال: كان ابن عمر يمشي بمنى في الرفث والدماء اليابسة حافياً ثم يدخل المسجد فيصلي ولا يغسل قدميه.
وعن عاصم الأحوال قال: أتينا أبا العالية فدعونا بوضوء. فقال: ما لكم ألستم متوضئين؟ قلنا بلى: ولكن هذه الأقذار التي مررنا بها. فقال وطئتم على شيء رطب يعلق بأرجلكم؟ قلنا: لا، فكيف بأشد من ذلك، فهذه الأقذار تجف فينسفها الريح في رؤوسكم ولحاكم.
ومن ذلك الصلاة في الخفين والنعلين فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يصلون في نعالهم.(1/30)
وروى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في النعلين. متفق عليه.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي حافياً ومنتعلاً. رواه أبو داود.
وعن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إذ خلع نعليه فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم. فلما قضى صلاته قال: ((ما حملكم على إلقاء نعالكم؟، قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً)). وقال:(1/31)
((إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى على نعليه قذراً فليمسحه وليصل فيهما)).
وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهم التراب)). رواه أبو داود.(1/32)
ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي حيث ما كان.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((جعلت لي، الأرض كلها مسجداً وطهوراً. فحيث ما أدركتك الصلاة فصل)).
وكان يصلي في مرابض الغنم ويأمر بذلك.
قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي فإنه قال: لا أكره ذلك إذا كان سليماً من أبعارها.(1/33)
وروى أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم قبل أن يبني المسجد.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: أعطيت خمساً: ((جعلت لي الأرض طيبة طهوراً فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان)). متفق عليه.
وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها فإن فيها بركة.
وقال: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)).(1/34)
وقال ابن عمر. كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد. ولم يكونوا يرون شيئاً في ذلك.(1/35)
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزور أم سليم فتدركه الصلاة أحياناً فيصلي على بساطٍ لنا وهو حصير ننضحه بالماء.
رواهما أبو داود.
وعنه قال: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبث فنضحته بالماء فصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى وهو حاملٌ أمامة بنت أبي العاص بن الربيع. متفق عليهما.
وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى يوماً فسجد فأطال السجود فرفع بعض أصحابه(1/36)
رأسه فرأى الحسن -أو الحسين- راكباً على ظهره فلما سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله.
وفي حديث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو آخذ ابن ابنته إلى جانبه فكلما سجد وثب الغلام على ظهره فيأخذه برفق فيضعه ثم ينهض.
ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس الثياب التي نسجها المشركون ويصلي فيها.(1/37)
وروينا أن عمر -رضي الله عنه- قال: لقد هممت أن أنهى عن لبس الثياب الفلانية فإنه بلغني أنها تصنع بالبول، فقال له أُبي: مالك أن تنهانا عنها فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد لبسها ولبست في زمنه.
ولو علم الله أنها حرام لبينه لرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ولما قدم عمر -رضي الله عنه- الجابية استعار ثوباً من نصراني فلبسه حتى خاطوا له قميصه وغسلوه، وتوضأ من جرة نصرانية.
ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب من دعاه فيأكل من طعامه. وأضافه يهودي بخبز شعير. وكان المسلمون يأكلون من طعام أهل الكتاب.
وشرط عمر على أهل (الكتاب) ضيافة المسلمين وقال: أطعموهم مما تأكلون. وقد أحله الله تعالى في كتابه بقوله سبحانه وتعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌ لكم} وروينا أن عمر لما قدم الشام صنع له أهل الكتاب طعاماً فدعوه فقال. أين هو؟ قالوا في الكنيسة. فكره دخولها. وقال لعلي: اذهب بالناس. فذهب علي بالمسلمين فدخلوا وأكلوا وجعل علي ينظر إلى الصور، وقال: ما على أمير المؤمنين لو دخل وأكل؟ ولم يزل المسلمون يأكل بعضهم طعام بعض ويأكلون مع صبيانهم ويشربون في آنيتهم لا يرون(1/39)
شيئاًَ من ذلك نجساً.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الصبيان في أفواههم. ويشرب من موضع في عائشة وهي حائض. ويتعرق العرق فيضع فاه على موضع فيها)).
وحمل أبو بكر الحسن على عاتقه ولعابه يسيل عليه. ولم يسمع عن أحد منهم التنزه عن الصبيان ولا تنجيس أطعمة المسلمين.
وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهر:
إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات.(1/40)
تنبيه على طهارة الصبيان والجواري إذا كانت طهارة الهر معللة بكونها بينهم وشبهها بهم مع أكلها للنجاسات وما هو منها، وما كان يأكل النجاسات عادة أولى.
وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله تعالى في الدلالة على مخالفة الموسوسين الذين جعلوا صبيانهم أنجاساً وينزلونهم منزلة الكلاب التي يجب تسبيع ما ولغت فيه واجتناب سؤرها. وينجسون أطعمة المسلمين ويرون غسل أيديهم وأفواههم منها. ولو كان الذي ما هم عليه حقاً -ونعوذ بالله من ذلك- لم تكن هذه الحنيفية السمحة ولكان سائر الناس ضالين تاركين الواجب عليهم وصلاتهم فاسدة وعبادتهم مختلفة سيما أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين كان كثير منهم أعراباً من أهل الجفا والحفا لا يعرفون شيئاً مما هؤلاء عليه.
مع ذلك ما عاب عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاذمهم بترك هذا، ولاذم إلا المتنطعين الغالين في الدين وحذر من الغلو في الدين.
وكثير من الموسوسين العالمين بالشريعة يعترفون بخطئهم. ويفتون بخلاف ما يفعلون، ويقولون لا تقتدوا بنا، وهذا عجب! إذا كانوا قادرين على ترك الخطأ ويعرفون أنه خطأ ثم لا ينكرونه مع أنه ليس من اللذات ولا من شهوات النفس ولا فيه معنى سوى تعذيب النفس والغلو في الدين ومخالفة السنة وطاعة إبليس وقبول غشه.
وفي اتباع السنة بركة موافقة الشرع ورضى الرب سبحانه وتعالى ورفع(1/41)
الدرجات وراحة القلب ودعة البدن وترغيم الشيطان وسلوك الصراط المستقيم.
وفقنا الله تعالى لذلك وجنبنا البدع والمهالك برحمته وفضله. إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آهل وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
انتهى بحمد الله وتوفيقه كتاب ((ذم الموسوسين)).(1/42)