ورعى أضلعي فكم ذا تقاسي ... حر وجد لهيبه غير زائل
كلما قلت ذي أواخر ما بي ... من دواعي الغرام كانت أوائل
وقوله
هات حدث عن مقلة وطفاء ... بجفون مريضة الإيماء
ومحيا كطلعة البدر نوراً ... وخدود تضرجت بحياء
وثنايا ما بين خمرة ريق ... كحباب الرحيق شيب بماء
وجبين من تحت طرة فرع ... كالهدى بعد ظلمة الإغواء
وقوام كأنه غصن بان ... يتثنى كالصعدة السمراء
وتجن فيه مخائل عطف ... تزدهيه مثل التفات الظباء
ووقار يجول فيه التصابي ... جولان الرضا خلال الجفاء
وحديث يسبي العقول اختلاساً ... كاختلاس الأجفان للإغفاء
ببيان فيه عصارة سحر ... نقشتها سلافة الصهباء
وقوله ويخرج من أولها بالالتزام اسم درويش ومضمناً وهو
يميناً بسلطان العيون على القلب ... وسطوتها ما حلت عن مذهب الحب
بروحي أفدي كل أغيد أهيف ... إذا لعبت خمر الدلال به يسبي
له لحظات في محاجر جؤذر ... مدعجة الأجفان يصر عن ذا اللب
جلا تحت جنح الشعر غرة كوكب ... على غصن بان من معاطفه رطب
شغفت به ريان من ماء حسنه ... أغن يريك السحر من منطق عذب
يدير بإيماء الجفون إذا رنا ... سلافة كاسات الغرام على الصب
ويلعب بالأفكار رونق حسنه ... وجد الهوى ينمو على ذلك اللعب
رويدك يا من لام في الحب أهله ... إليك فاتتجدي الملامة في الحب
دع اللوم أو فاعشق فإنك إن تدق ... مطاعم أهل العشق أقررت بالذنب
ودونك فانظر من سبيت بحسنه ... ترى دون وصف من ملاحته يصبي
رقيق حواشي الحسن مهما لحظته ... يزيدك ما يدعو العقول إلى السلب
ومهما غضضت الطرف ناداك لطفه ... إلى أين عن مغنى شمايلنا الرحب
يضرج خديه الجمال فيكتسي ... نقاباً من الياقوت من أفخر النقب
ويحجبه عز الجمال وصونه ... ومرهف جفنيه وناهيك من حجب
ويوم توافينا على غير موعد ... طرقنا به طرق التباعد بالقرب
ونلنا ثمار الوصل يانعة وقد ... أقمنا أحاديث الهوى موضع الشرب
وقد لاح في ثوب كطرته التي ... كوجه عذولي فيه إذ لج في عتبي
وشد على أعطافه بعقيقة ... ليحرسها من أعين الناس والشهب
فلله من يوم بلغت من الهوى ... مناي وبرأت الأماني من الكذب
لئن عاد عيد الوصل يجمع بيننا ... نحرت متى ما أشرقت شمسه قلبي
وقوله
ألا صاب كاسات الغرام أواري ... وإن كنت أخفي حبها وأواري
فتلك هي العذب الفرات على الظما ... وما دونها عندي عصارة نار
وكل عذاب في الهوى وفق ما اقتضت ... قضاياه حكم بالتنعم جاري
ومن يجتبي برد الصبابة فهو في ... حلا العز أو يخلع فلابس عار
ومن يك في ذل المحبة مخلداً ... فذاك لهام الفرقدين يباري
ومن ولعت أيدي الغرام بلبه ... حري بأن يدعى بكل فخار
ومن طاش في نهج الخلاعة عقله ... فقد ملئت أثوابه بوقار
ومن يمتطي طرف الهوى يزدهي ... على السماك وللريح الرخاء يجاري
يميد ارتياحاً بالغرام وينثني ... وما عاقرت عطفيه كأس عقار
لحى الله قلباً يشتكي حرق الهوى ... ويرجع يستجديه جذوة نار
فإني بلوت الحالتين وبان لي ... بأن خلي القلب مثل حمار
وقال أيضاً مضمناً بيت مهيار الديلمي(3/86)
فتنت به والصبح من فرق شعره ... بدا ولشمس الروح فيه غروب
فكدت لما شاهدت لولا طلوعها ... بمشرق خد القلب منه أذوب
ولولا طلوع الشمس بعد غروبها ... هوت معها الأرواح حين تغيب
ومن خطه قال بعضهم
وما قلت آه بعدكم لمسامر ... من البعد إلا قال قلبي آها
فقلت ولسان الطلب هو الناطق ومقتضيات المجلس إلى البديهة تسابق
رعى الله أوقاتاً بقربكم مضت ... ولم يبق منها البعد غير مناها
لقد طرفت أيدي البعاد لحاظها ... فأظلم ناديها لفقد سناها
فآه لها لو تم بالقرب أنسها ... سقى ربعكم صوب الهنا وسقاها
فاسر قلبي بعدها غير ذكرها ... وحاشاه أن يهدى بذكر سواها
وما قلت آه بعدها لمسامر ... من البعد إلا قال قلبي آها
وله غير ذلك وقد ذكرت له في كتابي النفحة معظم إحسانه وكانت ولادته في سنة ثمان وعشرين بعد الألف وتوفي يوم السبت قبل الزوال سادس شهر رمضان سنة خمس وستين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير محمد مكي بن ولي الدين المدني الحنفي رئيس الحرمين وقاضي البلدين أوحد العصر ومفرد الدهر كان رئيساً نبيلاً فاضلاً كاملاً كريم النفس والأخلاق عالي الهمة مشهوراً بالرياسة والحشمة ولد بالمدينة وقرأ القرآن واشتغل بالعلم النافع وأخذ الطريق وتلقن الذكر ولبس الخرقة من السيد سالم شيخان ولزمه كثيراً وكان أعجز جماعته عنده وبشره بأشياء ظهر له بعد ذلك حقيقتها منها أنه يعيش سعيداً فكان كذلك ومنها أنه لا يتعرض له أحد بسوء إلا رأى فيه ما يسره فلم يتعرض له أحد بسوء إلا قصمه الله تعالى وهذا مشهور في واقعة أهل المدينة وما فعله بعضهم من شكواه إلى الأبواب السلطانية ثم رجع مخذولاً وغالبهم مات في حياته ومنها أنه من أهل الجنة ومما اتفق له في مجاورته بمكة عام اثنين وسبعين وألف أنه ورد عليه تفويض الحكم الشرعي بطيبة من قاضيها المولى بهائي من الديار الرومية تفويضاً مطلقاً ووافق أن القاضي المعزول وهو المولى محمد المرغلي أعطى قضاء مكة وجاءه المنشور فأرسل هو أيضاً تفويض حكم مكة إليه فباشر النيابة عن القاضي بنفسه بمكة وأقام من يباشر عنه في المدينة حسبما أبيح له ذلك فقال في ذلك الشيخ أحمد بن عبد الرؤف المكي هذه الأبيات
وضحت لرائد مدحكم طرق البيان ... وتحدثت بنسيبكم خرس اللسان
وأتت بأسجاع الهديل حمائم الترسيل ... من أوصافك الغر الحسان
وتقلدت تيهاً نظام حليها ... وتطاولت شرفاً لها عنق الزمان
وشدا بها حادي علاك محدثاً ... ولقدوري الحسن الصحيح عن العيان
سعت المناصب نحو بابك خطبة ... وتروم نحلتها القبول لأن تصان
وأتت إليك خلافة مقرونة ... بفرائد التسديد يقدمها الأمان
بقضاه مكة والمدينة مفرداً ... إذ لا يكون لنجم سعدكم قران
فلذاك ناديت الغداة مؤرخاً ... يا حاكم الحرمين في وقت وآن
وكانت ولادته في سنة تسع عشرة وألف وتوفي بالمدينة ليلة الخميس خامس عشر ذي الحجة سنة أربع وسبعين وألف ودفن وقت الضحوة من اليوم المذكور في بقيع الغرقد رحمه الله تعالى محمد بن يحيى الشهير بابن شرف المصري الشافعي أحد أجلاء الفضلاء وأعيان النبلاء وممن برع في الفقه وجد فيه وفاق فيه من يماثله أخذ عن الشمس محمد الرملي ولازمه واستفاد من فوائده وأجزل عليه من فواضله وعوائده وأجازه بمروياته ومسنداته ومؤلفاته وجمع بين التقرير والتحرير وألف حاشية لطيفة على شرح التحرير للقاضي زكريا وكانت وفاته بمصر في يوم الثلاثا سابع وعشرين ذي الحجة سنة سبع بعد الألف وهو شاب في عشر الثلاثين(3/87)
محمد بن يحيى بن عمر بن يونس الملقب بدر الدين القرافي المصري المالكي القاضي بالباب المصري رئيس العلماء في عصره وشيخ المالكية كان صدراً من صدور العلم له همة عالية وطلاقة وجه مع خلق وضي وخلق رضي إلى سجايا كفا غمة الرياض النواضر وباهر مزايا تحار فيها الأعين النواظر فكأنها زهر الرياض تفتقت عنه الكمام أو ثغر باسمة الأقاح من الحيا فيه ابتسام أو شرح مقتبل الشباب سقى معاهده الغمام وشدت بألحان الغريض ومعبد فيه الحمام أخذ المختصر عن الشيخ الفقيه القدوة عبد الرحمن بن علي الأجهوري وعن الشيخ زين بن أحمد الجيزي وعن والده والثلاثة تلقوه عن العلامة شمس الدين اللقاني وهو أخذه عن العلامة الشيخ علي السنهوري وهو أخذه عن الشيخ عبادة وهو عن الشيخ عبد الله الأفقهسي وهو عن الشيخ تاج الدين بهرام وهو عن الشيخ خليل مؤلفه ومن مشايخه أيضاً التاجوري وسمع الحديث عن الجمال يوسف بن القاضي زكريا والنجم الغيطي والصالح أبي عبد الله بن أبي الصفا البكري الحنفي وولي قضاء المالكية وألف كتباً منها شرح ابن الحاجب وذيل الديباج لابن فرحون فيه نيف وثلثمائة شخص في أربعة كراريس أو خمسة وشرح الموطأ وشرح التهذيب بين فيه المشهور خصوصاً ما في التقييد من خلاف هكذا ذكر هو في فهرسته وذكره جدي القاضي محب الدين في رحلته فقال في حقه وأما مولانا العلامة والعمدة الفهامة المتصف بالفضائل والفواضل في جميع المسالك الحائز لرق الآداب فهو للفتوة متمم وللفتاوى مالك بدر الملة والدين القاضي بدر الدين القرافي المالكي فإنه اأتقن مذهبه غاية الإتقان واحتوى على الفضائل ونباهة الشان وله جامعية حسنة وحسن إنشاء وأشعار مستحسنة وذكره الخفاجي وأطال في ثنائه لكنه أدمج قوهية شعره ونثره في أثنائه حيث قال وله شعر العلماء ونثر طار مع العنقاء تأنق فيه وتصلف ولا عجب للبدر أن يتكلف ثم أورد له بيتين وأورد مأخذهما ذكرتها كلها في ترجمة عبد البر الفيومي وقال فيه عبد الكريم المنشى أبو الأشراف بدر الدين القرافي مطبوع الأسجاع والقوافي القاضي الفاضل الفاصل بين الحق والباطل أعلم القضاة المالكية في عصره ومن ترنو إليه أحداق الأحكام في مصره شمايله من الشمال ألطف ولو حكاه البدر في السنا لتكلف ما من تكلف شيئاً مثل من طبعا نفذ للشريعة الطاهرة بالقاهرة أحكاماً وتقلد القضاء بها نحو الخمسين عاماً وفي مقامي بالقاهرة كنا لصيقي دار وصبيي جوار وكان منزلي تارة يتعطر بعبير أنفاسه ويتأرج أخرى بعنبر إيناسه ودارت بيني وبينه كاسات المكاتبات بأرق معان وألطف عبارات فكم جلا من العرائس الأدبية وكم جنيت من رياض فوائده الفواكه البدرية وكان محفوظاً من الدنيا معانقاً للثروة ومع ذلك لم يعهد له صبوة وقال
وما سمعنا قط أن امرأ ... أهدى له شيئاً ولا قدر شاه
وأما ما جمعه من الكتب فيعجز الحساب إحصاؤه وتعداده وربما تصلح لكلى لا تنتهي أفراده وبعد أن غربت شمسه وواراه رمسه فرقتها يد الدهر أيدي سبا وبددتها كأوراق الورد إذا نثرتها الصبا ومن آثار قلمه ما أورده له أبو المعالي الطالوي في سانحاته وذلك ما كتبه له على نسبهم الطالوي وصورته حمد الله الذي أنشأ الموجودات بباهر قدرته فأحكم الإنشا وبيده سبحانه أبدع من هذا الإنشاء إن شا وصلاة وسلاماً على أعظم المخلوقات كمالاً ومنشا المبعوث من الله رحمة للعالمين وهداية من شا وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الله حق جهاده فكرمهم بشرف إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة فكانوا من السالكين في طرق الخيرات أحسن ممشى وبعد فإن نعم الله لا تحصى وآلاءه لا تستقصى أقام تطام العالم على أحسن ما رسم وفاوت في القسم بنسبة حيرت العقول فيما نظم قدر أقواماً قواماً وأعلاماً ما أعلى ما وأخلص لهم السريرة وحسن لهم السيرة وحلاهم بعلو الهمم وسمو الشيم وكان من تلك النعم الجسيمة والإفضالات الوسيمة والمنة المستديمة ما ابتهج به الناظر وانتهج له الخاطر من الوقوف على هذه السيرة الشريفة وأخبار الأخيار المنيفة سيرة مفاخر الأمراء الأعيان والكبراء الأعزة أولي الشان الجاري نشر مآثرهم باسنة الأقلام وألسنة أولي البرهان الساري ذكر مفاخرهم على ممر الزمان آل طالو الأرتقى من تحلت تواريخ الإسلام بذكر محامدهم وعلو شأنهم بغاية التبيان فقال(3/88)
ومر دهور بالثناء علامة ... على حسن ممدوح ورفعة شانه
أمر انعقد عليه الإجماع وعليه الوفاق بلا دفاع
والناس أكيس من أن يبرزوا مدحا ... من غير أن يجدوا آثار إفضال
دل على شرف قدرهم وجميل فخرهم نسلهم الطاهر وعلمهم الظاهر ذو المجد الزاهر والفضل الباهر والكمال الفاخر ولي التحقق ومعدن التدقيق جامع الفضائل حائز الفواضل
كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نوراً باهيا
مفاخره ظاهرة ومحامده باهرة
عريق في الكمال وقد ترقى ... إلى نيل العلو مع المزيد
له سعد بما أوتيه فضلاً ... فواعجباً لدرويش سعيد
شجرة طيبة النماء الأصل ثابت والفرع في السماء
إن السرى إذا سرى فبنفسه ... وابن السري إذا سرى أسراهما
شعر
فيا آل طالو طاب جد نجدهم ... ويا خير نسل عاش من ذكرهم جد
حويتم جميلاً أنتج الدهر صدقه ... بنسل جليل فيه حمد ولا حد
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ويوليه من شاء ولما أحاط النظر بما اشتملت عليه هذه السيرة الجليلة من الخلال الجميلة والخيرات الجزيلة والغزوات المشكورة والمشاهد المشهورة والغرمات المبرورة والمقاصد المأثورة أنشد لسان الحال بالارتجال
وهب الله للمعالي أناسا ... بذلوا عزمهم وجالوا وصالوا
وأقاموا لواء دين بصدق ... وحموا مجده ففازوا ونالوا
ورأوا نصره بعزة دين ... فأروا قوة وباساً وجالوا
وعلى من رأوه صاحب بغي ... وجهوا عزمهم إليه ومالوا
أظهر الله حالهم وحباهم ... بثناء عبيره يستطال
وأراهم من نسلهم خير حبر ... وبه ذكرهم دواماً يطال
وقد حصل التشرف بلقاء نسلهم هذا المولى الفاضل ولي الفضل الكامل المومى إليه فيه أدام الله تعالى غرة معاليه وظهر من مجالسته وفرائد مباحثته ما يشهد الناظر بجماله ويسر الخاطر بكماله
وأحرى بأن تزهى دمشق ببارع ... إذا عد في أسد الشرى ريح الشرا
ولما حلت مصر بمشاهدته وعلمت برؤيته أنشد لسان حالها
سعدت مصر إذ أتاها فريد ... ليرى حسنها وما قد أتاها
ولذا كان بين مصر وشام ... ما به النفس تبتغي مشتهاها
علمت مصر في تنازع ثان ... وبرجحانه مقال تباهى
فالحمد لله على ما أولى وله الحمد في الآخرة والأولى
والنفس ترغب للكمال وأهله ... لم لا وقد بلغ الكمال محله
والله سبحانه يديم هذا المولى لفوائد يبديها وفرائد لا ولى الكمال يهديها راقياً في رتب الإفادة والفضائل المستجادة رافلاً في حلل العناية المستزادة بحرمة حضرة المصطفى ولي السيادة وآله وصحبه أولي السعادة انتهى ومن شعر القرافي ما كتبه إلى العلامة سري الدين بن الصائغ رئيس الأطبا بمصر وقد دفع عنه ديناراً لآخر فأرسله له ظاناً منه أنه يقبله فقال
ماذا جنيت على القاضي بمنقصة ... مضمونها الشح في أخذي لدينار
فأجابه السري بقوله
يا بدر تم بلا نقص وإقتار ... وقاضياً في البرايا حكمه سار
لقد صرفت عن القاضي تصرفه ... فكيف تبذل ديناراً بدينار
حاشاك تنسب إلا للوفا ولذا ... جرت بحارك بالنعمى على الجار
وكتب إليه العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الدنوشري قوله
أتينا لكم قصد التقبيل أقدام ... أيا من على خير لهم حسن إقدام
ويا من هو البدر المنير أبو الهدى ... غدا مشرقاً في أفق سعد وإعظام
نظرتم إلينا في الطريق وما لنا ... سواكم لنجح في الأمور وإعلام
قطفنا زهوراً من رياض علومكم ... وفاح شذاها مذ قطفنا الإفهام
فسحبا لذيل الصفح والعفو والرضا ... على عيب مثلي بل على نشر أوهامي
أيا عالم الإسلام يا علم الهدى ... ويا قبلة للفضل زين بإفهام
عليك سلام الله ما هبت الصبا ... وما دبج الأوراق وشي لأقلام(3/89)
نشرنا لواء الحمد والمدح والثنا ... لكم لا برحتم مفهمين لأعلام
فأجابه صاحب الترجمة بقوله
زواهر أبداها لنا خير أعلام ... وأبدى مقالاً فيه أبلغ إعلام
قريض أتانا بارع بفصاحة ... وأحكم أحكام كدر لنظام
فيا أيها المفضال إني عالم ... بأنك في أوج المعالي بإقدام
وإني على دهري لأثني بهمة ... لفضل به زينت مفاخر أقلامي
وإنا أحطنا أن ما قد نظمته ... لموف طريقاً فيه أحسن إعظام
محامد أبداها جليل مقالة ... عبير به قلب يسير بإنعام
وإني لما أبديته لمقصر ... وخير رداء فيه ستر لآلام
بقيت لإبداء الفوائد دائماً ... ودمت لأهل الفضل دهراً بإكرام
بحرمة خير الخلق أكمل كامل ... ورحمة رب العالمين لأسقام
وقال الشيخ مدين عندما ذكره ورأيت في تأليفه المسمى بتوشيح الديباج في ترجمة جدة لأمه القاضي محمد بن عبد الكريم الدميري المالكي ما نصه وجدي هذا هو الذي لقبني بدر الدين وذلك أني ولدت ليلة السابع العشرين من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وتسعمائة كما وجدته بخط والدي وبلغني من طريق آخر أن السنة إنما هي سنة ثمان وثلاثين وتكلم الناس في الليلة أنها ليلة القدر فقال لا ألقبه إلا بدر الدين وتوفي نهار الخميس ثاني وعشري شهر رمضان سنة ثمان بعد الألف وصلى عليه بجامع الأزهر ودفن بتربته التي أنشأها مع الضريح بجوار القبة المعلقة المدفون بها بالقاهرة فيما يقال بالقرب من البيت الذي ينزل به قضاة العساكر محمد بن يحيى الملقب صفي الدين العزي المصري الشافعي المحدث الأديب الشاعر ذكره الخفاجي في كتابه فقال في وصفه ماجد إذا تليت أوصافه ركع لها القلم وسجد ذو معال انفرد بأسانيدها فأصبح دار علم بين العلياء والسند حديثه في الفضل مرفوع وأثر سواه ضعيف ومقطوع لفظه يحسن أن يرسم بنور البصر في عنوان صحائف الفكر وطبعه سكر مصري يحلو مكرره ومعاده لم يزل بها يتلو ثناه لسان الدهر ويحفظه فؤاده وهو أحد من رويت عنه السنن وتشرفت بملقاه الحسن ثم أنشد له قوله في مليح نحاس
علي رفقاً بمن ذابت حشاه ضنى ... صب أزال ضيا من مقلتيه وصب
حديد قلبك يا نحاس يمنعه ... لجين جسمك والنوم المصون ذهب
وله في نديمه الصحافي
يا عاذلي في هواه ... تلاف قبل تلافي
وهات لي الدن واجمع ... بيني وبين الصحافي
وكانت وفاته يوم الثلاثا ثاني عشر شوال سنة تسع عشرة بعد الألف والعزى نسبة لمنية العز بناحية فاقوس من شرقية مصر محمد بن يحيى بن بير علي بن نصوح نوعي زاده صاحب ذيل الشقائق وأطروفة الزمن ونادرته الحرى بكل وصف معجب الراقي في الأدب والمحاضرات الذروة العلية كان إليه النهاية في حسن الإنشاء والترصيع ونوادره ومناسباته مما يقضى منها بالعجب ولا يفارقها الطرب وكان من قضاة بلاد روم إيلي ولم يكن من الموالي وقد ولي أسنى المناصب واشتهر بالفضل التام والمعرفة وألف ذيله المشهور على الشقائق النعمانية ابتدأ فيه من انتهاء دولة السلطان سليمان ورتبه طبقات على تراجم السلطان مراد فاتح بغداد وقد أحسن الصنيع فيه وأجاد وقد طالعته مراراً آخرها بمكة المشرفة وجردت منه تراجم لزمني إثباتها في كتابي هذا لكن فاتني منه حلاوة التعبير لاختلاف اصطلاح اللغتين على أني سعيت جهدي في مراعاة تأدياته وأنا الآن أملي عليك من قطعه الفذة المستلذة ما ترتاح به ارتياح الغصن بالنسيم إذا هب فمن ذلك تمثيله بأبيات الحريري صاحب المقامات حين ذكر شرب أبي زيد وأرسله للنصيح واسمه مطهر في ترجمة المولى مطهر الشرواني وكان يتهم بالتعاطي والأبيات هي هذه
أبا زيد اعلم أن من شرب الطلا ... تدنس فالحظ كنه قول المجرب
وقد كنت سميت المطهر والفتى ... يصدق في الأقوال تسمية الأب
فلا تحسها كيما تكون مطهراً ... وإلا فغير ذلك الاسم واشرب(3/90)
ومن ذلك قوله في ترجمة بعض المتكيفين ابتلى بالكيف ثم دعته الغيرة إلى قطعه دفعة فكان قطعه قاطع عرق حياته وسبب وفاته وقوله في ترجمة قاض صارت أيام ربيع حياته وهو قاض مقضيه وشؤن حاله منحصرة في الأخبار الماضويه وما ذكرته أنموذج من حسن تعبيراته وإذا فتشت كتابه تلقى فيه الكثير مما لا يخلو عن مقصد معجب وكانت وفاته في حدود سنة خمس وأربعين وألف محمد بن يحيى الناصري القدسي كان فاضلاً أديباً ورعاً مهيب الشكل نير الوجه نشأ في الاشتغال حتى برع ولما قدم الشيخ منصور المحلي السطوحي إلى القدس لازمه ملازمة الروح للجسد فقرأ عليه شرح العقائد ومختصر المعاني والبيان والكافي وشرح الشمسية في التصريف وغيره وكانت وفاته في سنة سبع وخمسين وألف ودفن بجانب والده بباب الرحمة محمد بن يحيى بن أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن محمد الخباز المعروف بالبطنيني الدمشقي الشافعي المحدث الفقيه الورع الصالح الناسك كان غاية في الورع ذا صلابة في دينه ينكر المنكر ولا يخاف في الله لومة لائم وكان متواضعاً خلوقاً عليه سكينة ووقار وكان في بداية أمره خبازاً بدمشق فارتحل إلى مصر وجاور بجامع الأزهر سنين وأخذ عن الشيخ سلطان المزاحي والشمس البابلي والشهاب أحمد القليوبي والشمس محمد الشوبري ومن عاصرهم من طبقتهم وفتح الله تعالى عليه بعد رجوعه وكان يدرس في فنون ويملي من حفظه ما يطالعه بحسن تقرير ثم عرض له غمى فزاد حفظه واشتهر واعتقدته الناس وأقبلت عليه العامة والخاصة وانتفع به جماعة من الفضلاء منهم الشيخ محمد البخشي الحلبي وشيخنا الشيخ عبد القادر بن عبد الهادي والشيخ ابو السعود بن تاج الدين والشيخ حمزة الدوماني وكثير وله تآليف منها كتابه فتح رب البرية بالجواب عن أسئلة المبتدعة الزيدية ثم درس تحت قبة النسر البخاري بعد موت الشيخ محمد المحاسني الخطيب وانتهت إليه الرياسة عند الشافعية والتحديث وكانت وفاته في سنة خمس وسبعين وألف وأرخ وفاته القاضي إبراهيم الغزالي بقوله
أبدت لنا بطنين ... شيخاً جل من أمده
علم الحديث فنه ... لذاك زان سرده
مات فقلت أرخوا ... مات الحديث بعده
والبطنيني نسبة إلى قرية من قرى دمشق والله أعلم محمد بن يحيى بن تقي الدين بن عبادة بن هبة الله الملقب كمال الدين الحلبي الأصل الدمشقي المولد الشافعي الفقيه الفرضي المقري كان من أتقياء العلماء وأكثرهم انقطاعاً إلى الله تعالى ينفع الناس في أمر المناسخات والقراآت وكان مهاب الشكل عليه مهابة العلم وكان ذا بشاشة وكرم زائد قرأ على أبيه العربية والفرائض والحساب والقراآت وغيرها وأخذ عن غيره من علماء عصره ولما مات الشيخ رمضان العكاري وجهت إليه عنه الخطابة بجامع السنانية وكان أكثر مقامه بالمكتب المعروف بالدرويشية يقرى فيه العلوم وأخذه عنه جماعة من العلماء وكانت وفاته في منتصف ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وألف رحمه الله تعالى(3/91)
محمد بن يحيى الملقب نجم الدين أخو الذي قبله شيخنا وأستاذنا النجم الفرضي روح الله تعالى روحه وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه كان أعظم شيخ أدركناه واستفدنا منه وكان في العلم والتقوى والزهد فرد الزمان وواحد الأقران ولم أر مثله في تفهيم الطلبة والحرص على تهذيب قرائحهم وجبر خواطرهم مع أنه كان رحمه الله تعالى حاد المزاج سريع الانفعال لكنه إذا انفعل يرضى في الحال ويتلافى ما كان منه وكان نفسه مباركاً ما قرأ عليه أحد إلا انتفع ببركته وبركة إخلاصه وسلامة طويته وهو في علوم العربية فارس ميدانها والمجلى يوم رهانها لم يكن أحد مثله فيها له الإطلاع التام على قوادمها وخوافيها وله في الحديث والفقه فضل لا يرد وأما في الفرائض والحساب ففضائله فيها جاوزت الحد والعد أخذ عن والده وأخيه المذكور قبله فيما أحسب وكان يعظمه تعظيم الولد لوالده ويذكر بره له في طريفه وتالده ثم لزم الشرف الدمشقي فأخذ عنه معظم الفنون وأكرمه الله بالقبول في الحركة والسكون ثم لزم دروس الشيخ عبد الرحمن العمادي والنجم الغزي وأخذ عنهما ثم جلس مجلس التدريس فانتفع به الفضلاء طبقة بعد طبقة وأدركته أنا أولاً وهو يدرس دروساً خاصة بجامع بني أمية فقرأت عليه الأجرومية ثم مات له ولد نجيب كان نبل فانقطع عن الدرس مدة سنين وفي انقطاعه هذه المدة أجرى الله على يده الخير الذي لا ينقطع فأجرى من ماله نحو مائة وأربعين قناة كانت داثرة ثم جلس للتدريس العام في محراب الحنابلة فأقرأ أولاً الأجرومية ثم شرحها للشيخ خالد ثم شرح الأزهرية ثم شرع في قراءة شرح القواعد للشيخ خالد وشرح تصريف العزي للتفتازاني ومن حين شروعه فيهما لزمته لزوماً لا انفكاك معه إلا مجالس قليلة إلى أن أتمهما وأقرأ الشذور للقاضي زكريا وأتمه ثم حضرت عنده ابن المصنف إلى الاستثناء وسافرت إلى الروم وبلغني أنه أتمه بعد ذلك وأقرأ جانباً من مغني اللبيب وكان يحضر درسه جمع يجاوزون الأربعين من أمثلهم صاحبنا الفاضل محمد بن محمد المالكي والسيد عبد الباقي بن عبد الرحمن المغيزلي والشيخ خليل الحمصاني والشيخ عز الدين بن خليفة الحمصي وهؤلاء الآن من الفضلاء المنوه بهم كثر الله تعالى من أمثالهم وزاد في فضلهم وإفضالهم ثم مرض الشيخ النجم مدة ومات نهار الجمعة ثاني عشر صفر سنة تسعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير وقال الشيخ محمد بن علي المكتبي مؤرخاً وفاته بقوله
قلت لما أن قضى نحباً له ... خلنا الحبر الإمام الفرضي
يا عزيزاً غاب عنا أفلا ... نال دار الخلد أرخ فرضي
ورؤيت له بعد موته منامات صالحة منها أن رجلاً من الصالحين رأى بعض أصحابه من الموتى لابساً حلة عظيمة لم ير مثلها في الدنيا فسأله عن حاله فقال له كنا بأسوأ حال فلما دفن الشيخ نجم الدني الفرضي في جبانتنا ألبس الله تعالى جميع أهل جبانته حللاً مثل هذه الحلة وغفر لهم ببركته رحمه الله تعالى محمد بن يس المنوفي الشافعي العالم الفاضل البارع الكامل مهذب مباحث الجهابذة الفضلاء ومحرر دلائل الطلبة النبلاء ومحط رحال العلماء الأماثل ومصدر العلوم الجلائل ولد بمصر وبها نشأ واشتغل بالعلوم اشتغالاً تاماً وأخذ عن جمع منهم أبو بكر الشنواني ومحمد الميموني ومحمد الخفاجي وأحمد السنهوري وغيرهم وأجازوه وتعاطى النظم فبلغ فيه الغاية القصوى وارتقى إلى أن زاحم بمناكبه أكابر الشعرا ورحل إلى الديار الرومية وتمذهب بمذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ومدح من بها من الموالي العظام وتولى بنواحي مصر المناصب العديدة ثم ترك القضاء وعكف على عبادة الله تعالى واعتزل عن الناس إلا أفراداً منهم وترك النظم إلا ما كان استغاثة ومدحاً في النبي صلى الله عليه وسلم ومن شعره السائر قوله رحمه الله تعالى من قصيدة
تائهة بالدلال يثنيها ... عن حائر في الهوى تثنيها
قرح فيض الدموع مقلته ... فاشتبك الماء في مآقيها
ومن نمت في سواد مهجته ... لواعج الشوق كيف يخفيها
يبعدها الصد والهوى محن ... عن ناظري والغرام يدنيها
هل بارق ما أرى أم ابتسمت ... فانتظم الدر في تراقيها(3/92)
عن فتكها قدها يحذرها ... وحسنها بالصدود يغريها
إن أسفرت فالهلال طلعتها ... أو نكهت فالعبير في فيها
أسخطت في حبها ولوعتها ... كل صديق عساه يرضيها
لو سمحت بالكرى لأرقني ... وهنا من الليل خوف واشيها
أو بعثت طيفها لعرفها ... ما ذاقه الصب من تجنيها
وشقة الهجر بيننا نشرت ... فلا يكاد الزمان يطويها
جرعني الدهر بعدها غصصاً ... أكتمها تارة وأبديها
يا بائعاً نفسه بلا ثمن ... أرخصتها فالهوان يشريها
ما بال هذا الزمان يتحفني ... بمصميات إلي يهديها
طلائع للمشيب ضاحكة ... بعارضي والشباب يبكيها
وله المقصورة التي عارض بها مقصورة الشهاب الخفاجي التي أولها
أيا شقيق الروض حياه الحيا ... فاحمر خد ورده من الحيا
ومطلع مقصوته هو هذا
سقى الإله إن سقى الأرض الحيا ... حواملا لمزن ربي أم القرى
وجاد دفاق الغمام مردفاً ... بمثله ظهر الحجون فكدى
فبطن نعمان الأراك فالصوى ... فالبرك فالتنعيم فالهضب الدنا
فذات عرق فالبطاح دونه ... إلى حراء فثبير فمنى
وجللت أيدي السحاب وكست ... أنوارها طلع الهضاب فالربى
وقاربت وقع الخطا غمائم ... تدعو عن البهاء ألبان الجفا
يحثها حاد مرن خلفها ... فهي لذاك الحث تدعى الحيدى
يكاد أن يخطىء في مسيرها ... وهي المصيب سيرها من الوحا
فاطرح الحدب وكان آيساً ... من ارتجاع الخطب أطمار السعا
ونسجت من كل وشي حبراً ... فألزمت لحمتها مع السدى
وماست الوهاد في ملابس ... مخضرة من الحلي والحلى
فسوقها في لجج من زئبق ... يخفى بها طوراً وطوراً يجتلى
وهامها يحملن من زبرجد ... عمائماً تلوثها أيدي الصبا
فطبق العنبر أطباق الثرى ... وملأ العهر أطراف الملا
لا يهتدى نجم السماء أن يرى ... نجم المحاجر بين فذ وثنا
يصير فيها الخاز باز مصعباً ... فلم يصح من وفرة الندا الصدا
أضحت وكان الوحش لا يسوفها ... خوفاً ولا يسلكها أصل كدا
مسرح آرام وغيل أشبل ... وحصن ريبال وأفحوص قطا
يرمقها البرق فيغضي خجلاً ... والطرف يدري ما يرى إذا رنا
كأنها صفيحة يغمدها ... في جفنها صانعها فتنتضى
أو نصف مرآة بكف ماجن ... يديرها من وجهها إلى القفا
أذكرني وما نسيت خلساً ... لله ما هيج لي برق الدجا
أيام خلصاي الألى عهدتهم ... لا ينقضون للملمات الحبا
من كل فينان الشباب عاقد ... يمناه بالمجدين علم وعلا
إن رتق الأفواه في الأمر اهتدى ... لغامض يدق عن درك القوى
تطارحا خير العقول برهة ... وبعده تفرقوا أيدي سبا
فبعضهم فوق الأثير همة ... وبعضهم جثمانه تحت الثرى
لولا الخفاجي الشهاب أحمد ... عصارة الشم العرانين الألى
تفيؤا في ظل كل شاهق ... من الكمال والعلا أوج الذرى
مزاحمي الأفلاك في مدارها ... بهمة لم ترضهن مستوى
أبوه شيخ خاله وخاله ... علامة الدنيا أتى ثم مضى
ثوى أبو بكر لديغ حسرة ... لفقده محمداً سامي الرقا
كانا لجيد الدهر عقدي جوهر ... وزينة الكون وأرباب النهى
تشارفت من الذرى إذ لا ذرى ... مغارس الآداب أن لا تجتنى(3/93)
نتيجة الدهر وحشو برده ... ولذة العيش وريعان المنى
طوى لآفاق البلاد ليرى ... له نظيراً في الكمال والعلى
أشرق في الروم فعين مصره ... لبعده مملوءة من القذى
والجامع الأزهر والعلم معاً ... حنا إلى ذاك البنان واللقا
كانت به مصر تجر ذيلها ... تيهاً وإعجاباً على كل القرى
سقته دار المجد من ثديها ... فشب في حجر العلوم ونما
صفت به نفاسة لقدره ... والشيء يعلو قيمة فيصطفى
صوناً له عن أن يرى بغيرها ... فشاركتها فيه أسباب النوى
ألقى بقسطنطينة جرانه ... وفاز فيها بالقبول والرضا
ونال منها حظوة لو قسمت ... مع استواء الحظ عمت الورى
أحيا بها ميت العلوم واستوى ... ينفض عن أكتافه برد البلى
يعتقد البعث ولات مبعث ... والرح منه بين ثغر ولها
وساق في سوق الرهان حلبة ... من البيان بالنفوس تشترى
ينظم في الأسماع من محفوظه ... جواهر اللفظ بلبات الدمى
كم روضة دبجها يراعه ... فأينع الزهر وطاب المجتنى
ما زالت الركبان تطرى بعض ما ... ضم رحيب صدره وما حوى
حتى التقينا فالتقطنا الدر من ... ألفاظه الغر فرادى وثنا
رأيته البدر إذا البدر سرى ... وخلته البحر إذا البحر طمى
فهو السنان هزة إذا سطا ... وهو الزمان همة إذا اعتلى
شفى الفؤاد لحظه ولفظه ... وكان قبل الملتقى على شفا
ذو منطق لو صادف البحر حلا ... ولو فرى به الحسام لانفرى
وهاكها على علاك وحده ... مقصورة في حسنها مدى البقا
لم تدعها ضرورة لقطع ما ... مدوه بل جاءت بإحكام البنا
حركني إلى اختراع وزنها ... أيا شقيق الروض حياه الحيا
طليعة يتبعها مقانب ... من القريض القح إن طال المدى
رقى لممدود القوافي وقرى ... وغصة للحاسدين وجشا
وله من قصيدة مستهلها هذا
ما لعصر الشباب رثت بروده ... ولوت جيدها من الوصل روده
ولمياده وما طال عهدا ... من سقيط الندى ذوي أملوده
وسواد العذار عاد مريضاً ... فأتى ناصع البنان يعوده
وحبيب يحنو عليه ولكن ... بزمام إلى الحمام يقوده
وله
ومن تخطئه نيران القوافي ... فسوف يصيبه ألم الدخان
وأبلغ من مذاق الموت بأس ... جناه المرء من روض الأماني
وللشهاب في معنى الأول وهو قوله
أقول له تنكب عن مرامي ... نبال الذم واحذر شر داء
فمن يقعد على طرق القوافي ... تمر عليه قافية الهجاء
وكانت وفاته بمصر يوم الخميس ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين وألف ودفن بالقرافة الكبرى جوار السادة الوفائية(3/94)
محمد بن يوسف بن عبد القادر الدمياطي المصري الحنفي المفتي الإمام المقدم على أقرانه البارع في أهل زمانه مفتي مذهب النعمان بالقاهرة والمبدي من تحريراته التحقيقات الباهرة فاق في الفضائل جميعها وبهر في تأصيل المسائل وتفريعها وتكلم في المجالس وأظهر من درر بحره النفائس وجمع وألف وكتب وأفاد وأرسل فتاويه طائرة بأجنحة ورقها إلى سائر البلاد ولازم شيوخ الحنفية من المصريين كالشيخ الإمام زين بن نجيم وأخيه الشيخ عمر وشيخ الفقهاء في وقته الشيخ علي بن غانم المقدسي وغيرهم وأجازوه وتصدر للتدريس ونفع الناس وذكره الخفاجي فقال في حقه مقدم نتائج الفضل وغيره التالي ومشيد بنيان لمكارم بطبعه العالي ذو وقار تزول عنده الراسيات الشوامخ بمحكم فضلا لا يرد على آياته البينات ناسخ إن خط فما خط الربيع والعذار أو تكلم فما مطرب الأوتار والأطيار ورد الروم وأنابها كراء واصل أو حرف علة أو همزة واصل وشوقي إلى الكرام كما قال أبو تمام
واجد بالخليل من ربحا الشوق ... وجدان غيره بالحبيب
ثم أورد له أبياتاً راجعه بها عن ابيات أرسلها إليه مطلعها هذا
أيا روض مجد منبتاً زهر الحمد ... ومن ذكره أذكى من العنبر الورد
وأبيات الدمياطي على صاحب الترجمة هذه
أفائق أهل العصر في كل ما يبدي ... وأوحد هذا العصر في الحل والعقد
ومن فاق سحباناً وقساً فصاحة ... ومن نظمه المشهور بالجوهر الفرد
نظمت قريضاً في حلاوة لفظه ... وفي الصوغ أزرى بالنباتي والورد
وضمنته معنى بديعاً فمن يرم ... لإدراك شيء منه يخطىء في القصد
ملكت أساليب الكلام بأسرها ... فأنت بإرشاد إلى طرقها تهدي
لقد كنت في مصر خلاصة أهلها ... وفي الروم قد أصبحت جوهرة العقد
وحق شهاب أصله الشمس أن يرى ... حرياً بأن يرقى إلى غاية السعد
فعذرة مني إليك وما ترى ... من العجز والتقصير قابله بالسد
فلا زلت في أوج العلى متنقلاً ... وشانئك الممقوت في العكس والطرد
ولا برحت أبياتك الغر في الذرى ... وأبيات من عاداك في الدك والهد
ودمت فريداً للفرائد راقياً ... مراتب فضل منهلاً طيب الورد
وكانت وفاته بمصر يوم الجمعة سابع عشر شهر ربيع الثاني سنة أربع عشرة وألف رحمه الله تعالى محمد بن يوسف المراكشي التاولي المالكي أحد فقهاء المغاربه الممتطين سنام الفضل وغاربه عالم ماضي شبا اللسان والقلم وعلم فضله أشهر من نار على علم له في الأدب يد لا تقصر عن إدراك غاية وباع تلقى راية البلاغة فكان عرابة تلك الراية ومن نوابغ كلمه قوله من جملة كتاب فعذر المن هو أخرس من سمكه وأشد تخبطاً من طائر في شبكه وقوله من أرجوزة ضمن فيها مصاريع من ألفية ابن مالك مدح بها شيخه الحافظ أبا العباس المقري وقال فيه
ذاك الإمام ذو العلاء والهمم ... كعلم الأشخاص لفظاً وهو عم
فلن ترى في علمه مثيلا ... مستوجباً ثنائي الجميلا
ومدحه عندي لازم أتى ... في النظم والنثر الصحيح مثبتا
أوصاف سيدي بهذا الرجز ... تقرب الأقصى بلفظ موجز
فهو الذي له المعالي تعتزى ... وتبسط البذل بوعد منجز
رتبته فوق العلى يا من فهم ... كلامنا لفظ مفيد كاستقم
وكم أفاد دهره من تحف ... مبدى تأول بلا تكلف
لقد رقى إلى المقام الباهر ... كطاهر القلب جميل الظاهر
وفضله للطالبين وجدا ... على الذي في رفعة قد عهدا
قد حصل العلم وحرر السير ... وما بإلا أو بإنما انحصر
في كل فن ماهر فيه ولا ... يكون إلا غاية الذي تلا
سيرته سارت على نهج الهدى ... ولا يلي إلا اختياراً أبدا
وعلمه وفضله لا ينكر ... مما به عنه مبيناً يخبر(3/95)
يقول دائماً بصدر انشرح ... اعرف بنا فإننا نلنا المنح
يقول مرحباً لقاصد ومن ... يصل إلينا يستعن بنا يعن
والزم جنابه وإياك الملل ... إن يستطل وصل وإن لم يستطل
واقصد جنابه ترى مآثره ... والله يقضي بهبات وافره
وانسب له فإنه ابن معطي ... ويقتضي رضا بغير سخط
واجعله نصب العين والقلب ولا ... تعدل به فهو يضاهي المثلا
ولما قدم في سنة ست وعشرين وألف من مدينة مراكش إلى فاس كتب إلى شيخه يستدعي منه إجازة هذه الأبيات
أموقظ جفن الدهر من بعد ما غفا ... وباسط كف البذل من بعد ما كفا
ومحيي رسم الأكرمين التي عفت ... ومجري معين الفضل من بعد ما جفا
أجزني بما قد قلته ورويته ... ففضلك يا ذا الفضل قد حير الوصفا
فأجابه بهذه الأبيات
أمشكاة أنوار القراآت والأدا ... وساحب أذيال الكمال على الأكفا
وحائز أشتات الفضائل إذ غدت ... مفاخره في أذن مغربنا شنفا
بعثتم بطرس بل بروض بلاغة ... تعطرت الأرجاء من نشره عرفا
وأملتم أعلى الإله مقامكم ... وألبسكم من عزه المطرف الأضفى
من القاصر الباع الضعيف إجازة ... ألم تعلموا أن الصواب هو الأعفا
ولست بأهل إن أجاز فكيف أن ... أجيز على أن الحقائق قد تخفى
فأضواء فكري أظلمتها حوادث ... فآونة تبدو وآونة تطفا
ولولا رجائي منكم صالح الدعا ... لما سطرت يمناي في مثل ذا حرفا
ولم أقف على تاريخ وفاته لكن أعلم أنه من رجال هذه المائة والله تعالى أعلم محمد بن يوسف بن أبي اللطف الملقب رضي الدين المقدسي الحنفي من آل بيت أبي اللطف كبراء بيت المقدس وعلمائها أباً عن جد وكان رضي الدين هذا فاضلاً أديباً بارعاً استجاز له والده من شيخ الإسلام البدر الغزي وأخذ العربية عن ابن عم أبيه الشيخ عمر بن محمد بن أبي اللطف وتفقه أولاً على والده يوسف في فقه الشافعي ثم تحول حنفياً واقتضى حاله لتطاول الزمان أن يكون كاتباً عند قاضي بيت المقدس وكان يلي النيابة وقدم دمشق قبل ذلك في سنة سبع وستين وتسعمائة وكان في صحبة ابن عمه وشيخه الشيخ عمر المذكور وصحب الحسن البوريني في دمشق في قدمته هذه وأخذ عنه قال النجم وعلق شرحاً على منظومة الوالد في الكبائر والصغائر على حسب حاله أوقفني عليه وقرظت عليه ثم قال وكانت وفاته ببيت المقدس في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وألف وصلى عليه غائبة بدمشق يوم الجمعة منتصف رجب رحمه الله تعالى محمد بن يوسف بن محمد بن حامد بن أبي المحاسن المغربي الفاسي القصري الشيخ الإمام المفنن العلامة المتبحر النقاد عالم المغرب في عصره من غير مدافع أخذ عن والده وعمه العارف بالله تعالى أبي عبد الرحمن بن محمد وأخيه الحافظ أبي العباس أحمد بن يوسف وعن الإمام القصار والإمام أبي القاسم بن محمد بن القاضي والمفتي والخطيب أبي عبد الله محمد بن أحمد المري التلمساني والفقيه المشارك أبي الحسن علي بن محمد بن أبي العرب السفياني والفقيه الأديب أبي عبد الله محمد ابن علي القنطر القصري والقاضي أبي محمد المركني المغراوي والإمام ابي الطيب الحسن ابن يوسف الزناتي وغيرهم وعنه كثير منهم ولد أخيه عالم المغرب الشيخ عبد القادر بن يوسف الفاسي وله مؤلفات كثيرة منها شرح على دلائل الخيرات في مجلدين ضخمين ورسالة منظومة في الوفق الخماسي الخالي الوسط وشرحها وكانت ولادته في سادس شوال سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وتوفي رابع عشر شهر ربيع الثاني سنة اثنتين وخمسين وألف رحمه الله تعالى(3/96)
محمد بن يوسف بن يوسف الكريمي الدمشقي أديب الزمان وريحانة أفاضل الشام وواسطة عقد مخاديمها الكرام طراز حلة الفضل وأوحد النثر والنظم فشعره تسكر منه الطباع وتكاد للطفه تشربه الأسماع ولقد أصاب البديعي في وصفه بقوله هو الشاعر لو لم تكن به جنة لما قيل إلا ساحر قرأ على الشرف الدمشقي والمفتي فضل الله بن عيسى والشيخ عمر القارىء وأخذ عن الإمامين الشيخ عبد الرحمن العمادي وأبي العباس المقري وتخرج في الأدب على الشيخ أبي الطيب الغزي فراض طبعه على أسلوبه وحكى أنه لما قيد أبو الطيب المذكور للعارض السوداوي الذي اعتراه وحجر عليه ومنع الناس من التردد إليه كان إذا نظم قصيدة بعث بها إليه مع بعض النساء على صفة أنها تريد حرزاً أو نشرة وقصده عرضها عليه ليهذبها وينقحها فكان إذا وصلته أصلحها ورمز له بوجود الإصلاح وعرفه طرق الانتقاد فلهذا مهر في سبك المعاني وحسن البذرقة واربى على فضلاء العصر بإتقان اللغتين الفارسية والتركية والموسيقى وكان ينظم الشعر في اللغات الثلاثة وكان له أغان يسيرها في نغمات مقبولة وسافر إلى الروم صحبة والده في سنة ثمان وعشرين ولازم من شيخ الإسلام يحيى بن زكريا ومدحه بقصائد كثيرة ثم قدم مع والده إلى دمشق ودرس بعد موت والده بالمدرسة العزية بالشرف الأعلى ثم سافر إلى الروم ثانياً وولي قضاء الركب الشامي في سنة اربع وثلاثين وانقطع بعد ذلك في منزله مدة ثم سافر ثالثاً إلى الروم في سنة ثلاث وأربعين وصار له رتبة الخارج المتعارفة الآن بين أبناء الشام ثم رجع واستغرق أوقاته في العزلة وابتلي باستعمال البرش ثم غلبت عليه السوداء فضرب الحجر على نفسه سنين وطواه الزمان في خريدة النسيان ولم ينل ما يستحقه من سمو الشأن ثم ظهر بعض الظهور واختلط ببعض أصحاب الفهم وطرح التكلف وامتحن بلعب الشطرنج على عادة الأذكياء وكان ماهراً في لعبه وكان كثير النظم وله ديوان يوجد في أيدي الناس ومختاراته كثيرة منها قوله من قصيدة
في فؤادي من الخدود لهيب ... جنة طاب لي بها التعذيب
صحوتي من هوى الحسان خمار ... وشبابي بالاتصاب مشيب
داوني باللحاظ فالحب فيها ... دار بلوى بها السقام طبيب
لفؤادي من لحظه السخط سهم ... هي من قسمة الهوى لي نصيب
كل قلب له الصبابة داء ... ألف الداء فالحكيم رقيب
محنة الحب عندنا دار بلوى ... فلها من قلوبنا أيوب
هكذا حاكم الهوى فلديه ... من ذنوب لنا تعد القلوب
لو بدا للوجود يوسف حسن ... ضمه من قلوبنا يعقوب
لا تلمني سدى فدمن خمر الحب ... في ملة الهوى لا يتوب
في لحاظ الظباء آية حسن ... قد تلاها على العقول حبيب
رشأ أخجل البدور إذا ما ... شوشت خاطر الفؤاد الجنوب
ما رأينا من قبل وجهك أن قد ... حمل البدر في الزمان قضيب
قاتلي في الهوى اللحاظ وهذا ... شاهد الخد من دمي مخضوب
قد رماني بأسهم الجور عمداً ... وسوى القلب سهمه لا يصيب
ليت أنا لم يخلق الحسن فينا ... ليت أو لم يكن فؤادي طروب
يا أخا الوجد هل رأيت قتيلاً ... وهو ظلماً بنفسه مطلوب
يا لقلب أطعته وعصاني ... فهو إلا إلى الهوى لا يجيب
خبري يا صبا رياض التصابي ... فبذكر الهوى فؤادي يطيب
عرف القلب فيك رائحة الحب ... ويدري بشمسه الملسوب
ساعدتني على النحيب حمام ... حيث مالي سوى صداها مجيب
أنا والورق في الطلول غريبان ... ويستصحب الغريب الغريب
غير أني بها رهين فؤادي ... وهي تأتي وحيث شاءت تؤب
علم القلب منطق الطير شجواً ... فله في فنونه تهذيب
يهتدى في سبيله بفؤادي ... كلما ضل في الغرام كئيب
وقوله من أخرى أرسلها من الروم إلى بعض إخوانه من أفاضل دمشق في سنة أربع وثلاثين ومستهلها قوله(3/97)
بعاد يزيد الجوى والحنينا ... وبين يعلم قلبي الأنينا
فراق أذاب الحشى أدمعا ... فأجرى بصافي الدماء العيونا
ألفنا السهاد لسكب الدموع ... فأنكر منا الرقاد الجفونا
فقدت اصطباري غداة الرحيل ... وعوضت عنه الجوى والشجونا
رعى الله أيام قرب مضت ... وحيا لياليها والسنينا
وجاد الحيا أربعاً بالشآم ... وسلم صحباً بها قاطنينا
وهبت بها نسمات القبول ... تحدو إليها سحاباً هتونا
وسالت بروضتها للرضا ... جداول تنساب ماء معينا
وغنت بها سحر أورقها ... تنبه للنور فيها عيونا
ولا برحت في رباها الصبا ... تروح شمالاً وتغدو يمينا
تلاعب أغصان باناتها ... فتهتز مثل القدود الغصونا
وتجلو عرائس نوارها ... فتنثر للطل دراً ثمينا
غصون تعلم من فعلها ... قدود الغواني قواماً ولينا
رياض بها للعليل الهوى ... شفاء فلولا التنائي شفينا
فكم بت في خلدها ليلة ... أسامر فيها من الآس عينا
وكم غازلتني بها أعين ... تعلم هاروت منها فنونا
وكم جمعت للهوى مدنفاً ... ومثل فؤادي فؤاداً حزينا
رعى الله أحبابنا في دمشق ... وحيا بدوحتها الساكنينا
أحبتنا هل يفك الرهونا ... غريب ويقضي البعاد الديونا
وهل عائد زمن بالحمى ... وبالقرب هل يسعف النازحينا
وهل بالتلاقي يجود الزمان ... لنعلم أحبابنا ما لقينا
فقد صدع الصدر طول النوى ... وللقلب قد كان حصناً حصينا
وعلمني البين ما قد جهلت ... فذقت النوى وعرفت الحنينا
فهل تذكرون غريب الديار ... ويذكر من بالحمى الظاعنينا
رحلنا فما تابعتنا القلوب ... وسرنا فظلت لديكم رهونا
كأني لم أقض حق الوداد ... فأبقيت قلبي فيكم رهينا
وقوله أيضاً من قصيدة أخرى مطلعها قوله
صح الهواء وطاب منه نسيم ... وأتى الربيع وفضله معلوم
وبدت أزاهره بأحسن منظر ... فرياض جلق جنة ونعيم
وسرت به خود الصبا وفق الهوى ... تذكى الجوى فغدا الفؤاد يهيم
مرت تذكرني جوى كابدته ... أيام غازلني برامة ريم
رشأ لحر جفاه مع إعراضه ... في القلب مني مقعد ومقيم
غصن ثمار الحسن فيه شهية ... للعين والجاني لها محروم
بدر محاسنه الجميع جوارح ... بالقلب تفعل ما تشا وتروم
صحت محاسنه كما صح الهوى ... مني ومثلي الطرف منه سقيم
متناسب الأعطاف أما ردفه ... فنقا وأما كشحه فهضيم
من سهم مقلته جميع جوانحي ... جرحي وقلبي من سواه سليم
ما لامني في حبه من لائم ... إلا رقيب حيث كان لئيم
ما من هوى إلا وفيه مراقب ... هذا عذاب للفؤاد أليم
أبدا لقلبي من جفاه شكاية ... لا تنقضي ومن الغرام غريم
وجدي به قسمان باد للورى ... قهراً ومعظمه هوى مكتوم
طرفي وقلبي ذا غريب مدامع ... تجري وهذا باللحاظ كليم
يا قلب مالك والهوى فإلى متى ... بالوجد تقعد تارة وتقوم
محن المحبة جمة لا تنقضي ... أبداً فكم تشقى بها وتهيم
من عهد آدم للغرام وقائع ... تروى رويدك فالبلاء قديم
ألفت جوانحك الصبابة والأسى ... هذا ابتلاء بالغرام عظيم
وكتب إلى أخيه أكمل الدين المقدم ذكره في حرف الهمزة ملغزاً في أكتع
يا أكملاً يستكمل الظرفا ... يا فاضلاً والفضل لا يخفى(3/98)
ويا شقيقي من فخاري به ... ومن غدا لي في الورى طرفا
أكمل مني إن أصفه فلي ... أرجع من أوصافه الوصفا
قل لي عن وصف حروف له ... اربعة ما نقصت حرفا
إذا وصفت الشخص يوماً به ... فعينه في دبره تلفى
ولم يزل يصحب كلابة ... بها يجيد القبض والصرفا
ثانية نصف العشر من ثالث ... وكله لم يبلغ الألفا
ينقص عنها بل وعن بعضها ... ولم تكمل ناقصاً حلفا
موصوفه نصفان فانظر له ... نصفاً ولا تنظر له نصفا
ثانيه مع ثالثه فعله ... متى يشاجر عرسه عنفا
يظهر في أفعاله خفة ... وهو لثقل لم يغب صرفا
كالبوم شوم وهو ألف لنا ... فهل رأيتم بومة ألفا
أجب وعن ذا الوصف أفصح لنا ... لا ذقت للدهر أذى صرفا
فأجابه بقوله
جاءت فزادت روضنا عرفا ... بل قلدت آذاننا شنفا
وأطفأت من كبدي لوعة ... ولم تكن من غيرها تطفى
وهيجت شوقي إلى ماجد ... لم أك أبغي غيره ألفا
أعني شقيقي من أرى بعده ... للدهر ذنباً لم يكد يعفى
ذو كرم لو شامه حاتم ... عض على أنمله لهفا
رب المعاني والقوافي التي ... كالدر إذ ترصفه رصفا
كانت كعذب الماء عند الصفا ... أو كلما أرشفه رشفا
أو كوصال من حبيب وقد ... أكثر في ميعاده الخلفا
مضيع أرعاه بين الورى ... وشيمة الأحباب لا تخفى
أبيت أملي من غرامي له ... كتباً ومن إعراضه صحفا
يدير من ألحاظه أكؤساً ... حملها أجفانه الوطفا
تسقيه راحاً مزجت من دما ... عيني ويسقيني الهوى صرفا
مائلة عن ساعد لم يزل ... كقطعة الأصداغ ملتفا
أو كسوار ضاق عن عبلة ... أو كهلال كاد أن يخفى
لكن إذا مدت إلى مرقد ... كقامة الحب إذا تلفى
لا زلت تعطيها وأمثالها ... من راحة كالديمة الوطفا
هاك جوابي واعف تأخيره ... إذ لم يكن لياً ولا خلفا
وبعد ما وصف له أحرف ... أربعة ولم يزد حرفا
أوله سبع لعشر حوى ... ثانيه لا زلت له حلفا
إن تسقط المفرد منه يعد ... جمعاً وهذا منك لا يخفى
وفعل أمر ثم فعلاً لمن ... نار غرامي فيه لا تطفا
إن تقلب الثالث مع رابع ... يكن لموصوف به وصفا
ثانيه مع ثالثه وصفه ... إذا اعتراه النوم والإغفا
أبنه لي لازلت في عزة ... لم تغض عما رمته طرفا
والدهر عبد لك أو قائد ... بجنب من عاديته طرفا
ومر مع شيخه أبي العباس المقري بالمرجة ذات الشرفين فلما تجاوزا صدر الباز والمقري بينه وبين أخيه خاطب المقري مرتجلاً بهذه الأبيات
بالمرج ما أشبهنا يا بدر ... نحن الجناحان وأنت الصدر
والبحر قد شاكلنا يا در ... أطرافه نحن وأنت البحر
والأفق مولاي وفيه الزهر ... والشمس تحتاط به والبدر
ودمت في الدهر وأنت الدهر ... إليه ينقاد الدجا والفجر
وأرسل إليه الشيخ إبراهيم الأكرمي قصيدة يمدحه بها فبعث إليه شيئاً من الملبوس وألحقه بهذه الأبيات وهي
ألبستنا حلل الثناء فزنتنا ... بملابس ما شانها الأخلاق
حكت الرياض غضاضة ونضارة ... فكأنها لك في البها أخلاق
فاقبل لخلك حلة خيطت لها ... من ودك الأردان والأطواق
واعذر لقلتها فإن عرائس ... الآداب عندي ما لهن صداق(3/99)
شاكلت منك ملابساً لداً ... شتان بينهما فتلك رقاق
أهديت در مدائح تزهو بها ... منا العلى ومن المهى الأعناق
فبقيت للإحسان شمس فضائل ... بسنا قريضك تشرق الآفاق
ومن غزلياته قوله وأحسن
ويوم أردت الصبر فيه فلم أجد ... لقلبي اصطباراً والحبيب قريب
دنت دارها مني وشط بشخصها ... وقرب زوال لم أرده لهيب
ممنعة لا يرتجى قط وصلها ... فليس لمضنى أمرضته طبيب
دعاني هواها عنوة فأجبته ... وقلبي لداعي الغانيات مجيب
تعلقتها تركية إن سهمها ... له غرض منا حشا وقلوب
إذا ما بدت للعين قامت شؤنها ... فدمعي واش بيننا ورقيب
معاذ الهوى أن يحرم الوصل عاشق ... له في التصابي والغرام نصيب
وصبراً على حر النوى ولربما ... رأى وطناً بعد البعاد غريب
فما غزل من حر وجد بنافع ... لدي ولا يشفي الفؤاد نسيب
وما طاب نفساً بالتصبر مغرم ... ولا قر عيناً بالبكاء كئيب
وقوله
لحي الله فعل الغانيات إذا دهت ... فؤاد إلا بناء الصبابة والوصلا
ولا سلطت يوماً على قلب عاشق ... عيوناً ترى في ظلم عاشقها عدلا
يرينك عين الود والوجد نظرة ... ويمزجن جد الوجد للقلب والهزلا
فحتى إذا شبت بنار جوانح ... وايقن بالمطروح من ارسل النبلا
غدرن فلا يرعين للصب ذمة ... وأغضين عنه في الهوى الأعين النجلا
نوافر منا لم نفز شقوة سوى ... بوعد رأينا في جوانبه المطلا
وقوله
علام تفتك في العشاق بالمقل ... أما تخاف على الهندي من فلل
لقد أبحت دمي يا من كلفت به ... فأصبحت كلماتي فيه كالمثل
يا من إذا ما لسهم اللحظ عرضني ... أيقنت وجدان قوم من بني ثعل
شمائل لك عاطتني الشمول فما ... برحت ما بين سكران إلى ثمل
آهاً على زمن كان الرقيب به ... صفر الأكف من التعنيف والعذل
هلا تعيد زماناً كان طوع يدي ... فيه وصدري ملآن من الأمل
وله مضمناً بيت الأرجاني ونقله من النقاب إلى العذار فقال
ومورد الوجنات شمس جماله ... لما بدت بهر الضياء الأعينا
خط الجمال بعارضيه أسطراً ... فغدا بها نظري إليه ممكنا
كالشمس يمنعك اجتلاءك وجهها ... فإن اكتست برقيق غيم أمكنا
وقوله
وكنت أقول أنك في فؤادي ... لو أن القلب بعدك كان عندي
سوى عن ناظري ما غبت يوماً ... فذكرك غالب الأوقات وردي
ومن رباعياته قوله
يذكر بالوداد من لا ينسى ... عهداً لك إن أصبح أو إن أمسى
أقسمت وإن تطاول العهد بنا ... لا أنسى الود بيننا لا أنسى
وقوله أيضاً
ما جاء الليل أو أضاء الفجر ... إلا وذكرك عيشنا يا بدر
لهفي لزمان عيشة راضية ... قد من بها عليى يديك الدهر
وقال
هل ترجع أيامنا بنادي الوادي ... تالله لقد أعددتها أعيادي
أيام يضم شملنا منتزه ... بالغوطة لا فقدت ذاك النادي
وفقد له مجموع بخطه فقال في ذلك
مجموعي ضاع رده يا صمد ... قد بان تصبري به والجلد
اتهمت أني بعته من سفه ... هذا ولدي وهل يباع الولد
وله غير ذلك وكانت ولادته في سنة ثمان بعد الألف وتوفي ليلة الخميس سابع شهر ربيع الأول سنة ثمان وستين وألف رحمه الله تعالى(3/100)
المنلا محمد شريف بن المنلا يوسف بن القاضي محمود بن المنلا كمال الدين الكوراني الصديقي الشاهوي الرويسي الشافعي صدر من صدور الأئمة كان عالماً ولياً قدوة في أفراد العلماء الزاهدين حاملاً لواء المعارف محافظاً على الكتاب والسنة قائماً بأعباء صلاح الأمة باسطاً جناح الرأفة للضعفاء وذوي الحاجات ذا أوراد وأذكار وله مواظبة على الصيام والقيام مع فضائل لا تحصى وصلابة في الدين وانقطاع عن الناس أخذ عن والده وغيره من علماء بلاده وجد واجتهد حتى بلغ من العلم مبلغاً كبيراً وحفظ القرآن في إقرائه تفسير البيضاوي درساً بدرس حتى ختمه وممن أخذ عنه ولازمه وتخرج به وانتفع بعلومه رباني هذا العصر المنلا إبراهيم الكوراني ثم المدني قرأ عليه في بلاده كتباً كثيرة وبالمدينة طرفاً من فتح الباري للحافظ ابن حجر وله مؤلفات منها حاشيتان على تفسير البيضاوي إحداهما إلى أواخر سورة الكهف والبحث فيها مع سعدي المحشي والأخرى إلى آخر القرآن والبحث فيها مع ظهر الدين الكازروني وحاشية على شرح الإشارات للطوسي محاكمة بينه وبين الإمام الرازي وحاشية على تهافت الفلاسفة لخواجه زاده الرومي ومحاكمة بينه وبين الإمام الغزالي وحج من طريق بغداد سنة خمس وخمسين وألف وجاور بالحرمين سنتين ثم رجع إلى وطنه ثم عاد إلى الحرمين وجاور مدة ثم توجه إلى اليمن وأخذ عنه بها خلق لا يحصون وعرفوا جلالته ولما قدم المخا أجله السيد زيد بن الحجاف ومن جملة ما وقع له معه أنه سأله عن مقصده في هذه الرحلة إلى أي مكان فقال له قصدي القبر فرحل بعد أيام من المخا إلى تعز ومنها إلى أب فتوفي بها وكانت وفاته في ثامن وعشري صفر سنة ثمان وسبعين وألف رحمه الله محمد بن يوسف المدعو عبد النبي بن أحمد بن السيد علاء الدين علي بن السيد محمد ابن يوسف بن حسن البدري الدجاني القشاشي القدسي الأصل المدني والد الصفي المقدم ذكره القطب الولي سيد العلماء وصاحب الكرامات الظاهرة الجوهر الفرد المتصوف بعد موته ولد بالمدينة وبها نشأ وحفظ القرآن وتمذهب بمذهب شيخه محمد بن عيسى التلمساني المالكي ورحل إلى اليمن في سنة إحدى عشرة بعد الألف وأخذ عن علمائه وأوليائه منهم الشيخ الأمين بن الصديق المزجاجي طيب الله ثراه والسيد محمد الغرب والشيخ أحمد السطيحة الزيلعي والسيد علي التبعي والشيخ علي بن مطير وأجازه جل شيوخه وجال في الأقطار اليمنية وممن أخذ عنه السيد العارف بالله تعالى الطاهر بن محمد الأهدل صاحب المراوغة والعلامة محمد الفروي وغيرهما وأقام بصنعاء ونشر بها لواء السادة الصوفية وصار له بها المنزلة الرفيعة وظهرت كراماته وانتشرت ومما يحكى منها أن بعض الأمراء الزيدية بصنعاء لما ظهرت أحواله وعلا مقامه حبسه ودخل الأمير للخلاء لقضاء حاجته وأراد الخروج منه بعد فراغه فلم يستطع الخروج منه حتى أمر بإخراجه من الحبس فخرج حينئذ ومنها أن بعض أمراء صنعاء بلغه عن بعض جماعة من أهل ولايته كلام يقتضي رفعهم إليه وإهانتهم فأتوا بهم غليه على حالة منكرة فلما قدموا صنعاء رأوا عند بابها صاحب الترجمة وكان فيهم من يعرفه فأتوا إليه وسلموا عليه وذكروا له ما جرى لهم وتوسلوا به فقال لهم اعقدوا على محبته ظاهراً وباطناً لا يصيبكم منه إلا خير فقرؤا الفاتحة وفعلوا ما أمرهم به فبمجرد دخولهم عليه رأوا منه من الإجلال والتعظيم لهم والمحبة ما لم يخطر ببال أحد منهم ورجعوا إلى بلدهم ولم ينلهم منه ضرر ألبتة وله مؤلفات كثيرة منها شرح الحكم لابن عطاء الله وشرح على الأجرومية سلك فيه طريق الصوفية على أسلوب نحو القلب للإمام القشيري رضي الله عنه وكانت وفاته بمدينة صنعاء في خامس عشر شعبان سنة أربع وأربعين وألف ودفن بها وقبره ثمة مشهور يزار ويتبرك به وتقدم في ترجمة ابنه ذكر نسبه وسيادته فلا حاجة إلى الإعادة محمد أبو البركات البزوري الدمشقي العارف بالله تعالى تلميذ الشيخ القطب محمد ابن علي بن عبد الرحيم بن عراق اجتمع به بمكة فسأله عن اسمه فقال له بركات فقال له بل أنت محمد أبو البركات ثم صافحه ولقنه الذكر ودعا له وحرضه على قراءة قصيدته اللامية الجامعة لأسماء الله الحسنى التي أولها قوله
بدأت ببسم الله والحمد أولاً ... على نعم لم تحص فيما تنزلا(3/101)
قال في كل ليلة أحسبه قال بين المغرب والعشاء قال النجم الغزي في الكواكب السائرة قلت لشيخنا أبي البركات هذه القصيدة اللامية التي أشرتم غليها هي من نظم سيدي محمد بن عراق قال نعم هي من نظمه وأنا أخذتها عنه فلازم على قراءتها فإنها نافعة وأجازني بها قال وكانت وفاته في أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث بعد الألف وهو آخر من أخذ عن ابن عراق وفاة يما أعلم انتهى كلام النجم قلت وكون القصيدة اللامية لابن عراق خلاف المشهور من أنها للدمياطي فليحرر وابن عراق المذكور هو العالم الكبير والولي الشهير خصوصاً بالحرمين وذريته بهما موجودون ومن المشهور الشائع بين المكيين أن الدنيا لا تزال بخير ما دامت ذرية ابن عراق رضي الله عنه موجودين محمد المعروف بلالا محمد باشا الوزير الأعظم في عهد السلطان محمد الثالث ترجمه المنشىء فقال في وصفه تكون ببلد قريب من مغنيسا جوهر ذاته وبها كانت أوطانه وأوطار لذاته ولما حلت بيد الشباب تمائمه وصدحت في أغصان الفتوة حمائمه تيقن أن فقد العز في الحضر وأن السفر يسفر عن غرة الظفر
والمرء ليس ببالغ في أرضه ... كالصقر ليس بصائد في وكره
كما أن السيف لا يقطع في غمده ولا يظهر ما دام فيه جوهر فرنده والدر لولا تنقله من البحر لما علا التاج والنحر ولولا سير الهلال لما ظفر بعد النقص بالكمال
فالماء يكسب ما جرى ... طيباً ويخبث ما استقر
فخرج منها ودار في بقاع الأرض وبلدانها حتى وصل إلى القاهرة وانتظم في سلك كتبة ديوانها وبينما هو في بعض تلك الخدم إذ برز أمر سلطان الأمم راقم طراز العدالة على حلل البلاد ومن هو مقصود لكل موجود ومراد بعمارة الحرم المحترم الأمين فعين لخدمة الكتابة إذ كان من الكرام الكاتبين يا من يرى حرماً يسري إلى حرم فجاور حرم الله وخفض عيشه على الجوار وراعى حق الخدمة حتى كأنه لبيت الله عبد الدار وانضم بعد ذلك إلى بعض الخدام بالديوان السلطاني لا زال مطلعاً لشموس الأماني ثم لما أصبحت مغنيسا لذكاء الدولة المحمدية مشرقاً وفلكها ببدر كمال ذاته مشرقاً تقلد عقد مناصب تلك الدولة حتى صالا لالا ولم يقل أحد لقوله لالا ورقاه لما فيه من الاستعداد كترقي مراتب الإعداد فسلك طريق العدالة ولم يدرك أحد في كماله كماله وهذا من أقوى الداعيات له على التقديم وأعظم الباعثات لتخطيه كل حديث وقديم وحين نسخ نور محمد أحكام من قبله وحل ذكاء دولته من فلك السلطنة محله ولمعت في أسرتها أنوار أسرته واستنار العالم بشمس جبهته قلده صارم الوزارة وتوجه بتاج الصدارة ثم نقله إلى الوزارة العظمى وأنشد لسان الحال حين أصبحت أفعاله أسما
ذي المعالي فليعل من قد تعالى ... هكذا هكذا وإلا فلالا
ولما كان شمس العصر الأصيل ولع قصر وقته بظل عدله الظليل قصرت دولته مع ذلك القصر وما خالط الصفو فيها كدر بل صح بتدبيره مزاج العباد وجمع بعدله بين الأضداد كالخد يجمع بين الماء واللهب فلو دام مدة في رياض الوزارة لاتخذ العصفور من مخالب البزاة أوكاره ولولا ما في فم الأسد من البخر لما تباعد عنه الغزال ونفر بل اتخذ حضنه كناسه وحصنه لكن أسرع الدهر بغدره ورد جوهر ذاته إلى صدف قبره وليس يخشى النقص إلا عند الكمال وهكذا اتلدهر ينتقل من حال إلى حال وكان له دربة ببعض العلوم ومعرفة بالمنثور والمنظوم ولقد أجاد التكلم بلغة فارس وأصبح يقال له في ميدانها فارس وأي فارس وله جامع بناه لوجه الله وعمره في قصبة يقال لها مرمرة قلت وذكر ابن نوعي في ترجمته أنه ولي الوزارة في سابع عشر شهر ربيع الأول سنة أربع بعد الألف ثم اعتراه مرض الأكلة ولم يخرج إلى الديوان إلا مرة واحدة وتوفي بعد عشرة أيام من توليته الصدارة ودفن بحرم جامع الشيخ وفا بمدينة قسطنطينية رحمه الله تعالى(3/102)
محمد المعروف بابن الترجمان المصري الأستاذ الكبير الورع الزاهد الناسك المشهور ذكره المناوي في الطبقات وقال في ترجمته أصله من الجراكسة وترك زي أصوله وقعد في مكتب بالقرب من باب الخرق يقرىء الأطفال ثم حبب إليه السلوك فأخذ عن الشيخ يوسف الكردي المدفون بقرب قناطر السباع ولازمه وانتفع به وطريقهم تسمى طريق الخواطرية لكون أسلوبهم أنه إذا أراد الإنسان أن يسألهم عن شيء ابتدأ بقوله يا سيدي الشيخ خاطر ثم يذكر ما خطر له في نفسه من خير أو من شر فيتكلم عليه الشيخ ويأمره وينهاه بما يرى فيه صلاحه ويأتي له بآيات قرآنية وأحاديث نبوية للترغيب والترهيب ولما مات شيخه تقرر في الإمامة بجامع اسكندر باشا بباب الخرق وصار يعمل فيه المجلس عقب الصبح إلى طلوع الشمس وبعد صلاته بالناس العصر ويحضره خلق كثير يم يتوجه إلى منزله بقرب الجامع المذكور واشتهر أمره وعلا ذكره وقبلت شفاعته وقصد التبرك به وأخذ عنه أعلام الرجال كالبرهان اللقاني وأضرابه ولم يزل كذلك حتى دعاه حاكم مصر الوزير إلى وليمة فحضر سماطه بعد الغروب ثم نزل من القلعة شاكياً فما أتى نصف الليل إلا وقد قضي عليه وكانت وفاته في حدود سنة أربع بعد الألف بعد موت شيخ الإسلام علي بن غانم المقدسي بقليل قلت وقد تقدم أن وفاة ابن غانم كانت في سابع عشري جمادى الآخرة من سنة أربع بعد الألف ودفن بقرب تربة قايتباي بالصحراء وعمر عليه بعض أركان الدولة ضريحاً وهو الآن يزار ويتبرك به رحمه الله تعالى محمد اليمني القادري الشهير بفقيه بالتصغير كان ساكناً ببلدة تعز وكان شيخاً جليلاً مرشداً نبيلاً عالماً فاضلاً كاملاً مكملاً بارعاً في أسرار الحروف وخواص الأسماء والوفق والجفر والتصرفات بها وله كرامات كثيرة وحالات عظيمة انتهت إليه رياسة هذا الشأن واجتمع عليه الأحباء والمريدون وكان يأكل من طعامه كل يوم نحو ثلثمائة أو يزيدون قال الشيخ محمد بن عطاء الله الأسكوبي الواعظ بالسليمانية بقسطنطينية صحبته مدة فأجازني وقال لي يا محمد حفظني الله لحفظ هذه الأمانة التي أودعتك إياها فبعد هذا سأموت قال فمات بعد ثمانية أيام في أول جمعة من شهر رمضان سنة خمس بعد الألف وله ثمان وتسعون سنة قلت وقد وقفت على ترجمة رجل شارك هذا في الاسم والنسبة والطريقة فهو محمد القملي القادري لكن شهرته بالشداد بفتح الشيه المعجمة والتشديد كان ساكناً بجبل ثور قريباً من بلدة تعز وبنى بها زاوية ومسجداً على أربع قباب يقال إنه أولاً اجتهد بالعبادات والرياضات والمجاهدات كالمشايخ السابقين ووصل إلى مقاماتهم وحالاتهم وصار مرشداً كاملاً مكملاً في الشريعة والطريقة وله أصحاب وأحباب وكان يتعيش بالرفاهية والحضور مستغنياً عن الناس وما كان له شيء من أسباب الدنيا روي أنه لما بنى مسجده أولاً على قبة واحدة وكان الأمير حسين بن حسن باشا أميراً ببلاد تعز وكان له ولد شاب حدث السن فقيل له إن خازن أبيك يحب الشيخ وبعث إليه مالاً جزيلاً من مال أبيك بنى به المسجد فغضب الأمير وأمر بهدم المسجد فذكروا ذلك للشيخ فسكت فلما هدموه دخل اللشيخ إلى داره ثم خرج وفي يده خرقة فيها خمسة عشر ديناراً وقال هذا الذي بعث به إلي الخازن فعلمت أن الحال يكون على هذا المنوال فحفظتها فادفعوها إلى الأمير يبعثها إلى أبيه فمات الشاب بعد أيام فقالوا أيها الشيخ هذا شاب لا يعلم شيئاً فكيف تدعون عليه وأنتم أعلم به فقال ما دعونا عليه ولا نحتاج إلى الدعاء ولكن غيرة الله باقية فينتقم في مثل هذا إن رجا صاحبه أو لم يرج ولم أقف على تاريخ وفاته وذكرته لئلا يظن أنه هو الذي قبله والله سبحانه وتعالى أعلم محمد الوسمي نسبة إلى وسيم قرية بالجيزة الشافعي رأيت ترجمته بخط صاحبنا الفاضل مصطفى بن فتح الله قال في وصفه الشيخ العلامة المعمر كان من أجلاء العلماء العاملين في الديار المصرية منعزلاً في بيته عن الناس مقتدياً بقول من قال وأجاد
لقاء الناس ليس يفيد شيئاً ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال(3/103)
وكان يقول كل قرصك والزم خصك أشار بذلك إلى القناعة والعزلة عن الناس أخذ عن شيخ الإسلام القاضي زكريا ولازمه سنين وأدرك الحافظ ابن حجر وله عنه روايات وبلغني أن شيخ الإسلام زكريا كان يجله لذلك كعادته مع كل من أدرك الحافظ ابن حجر ونقل شيخنا العلامة الحافظ الشمس محمد بن علاء الدين البابلي عنه أنه كان يقول في شأن الحافظ ابن حجر الحديث فنه والشعر طبعه والفقه يتكلف فيه روى عنه النور الزيادي وسالم الشبشيري والبرهان اللقاني والنور الأجهوري وكثير وكان أكثر قراءته في منزله ولا يترك قراءة الحديث صيفاً وشتاء وكانت وفاته يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى سنة ست بعد الألف بمصر قلت نقلت هذه الترجمة من خط صاحبنا المذكور كما وجدتها وعلى روايته عن الحافظ يكون عمر فوق المائة والخمسين سنة وهذا غريب جداً والله تعالى أعلم الأستاذ محمد أبو الفضل الوفائي الشاذلي المالكي المصري شيخ السالكين ورأس العلماء العاملين واحد سادات السادات الذين لهم بمصر مجد تقصر عنه الغايات صاحب النفس القدسية المفاض عليه العلوم اللدنية من بني وفا من بيتهم معمور ولواء فضلهم على كاهل الدهر منشور ولهم مساع ومآثر ورثوها كابراً عن كابر ما منهم إلا صاحب ديوان نافذ في سبيل البلاغة بسلطان وله نظم ونثر فمن نظمه قوله من قصيدة
ألا صاحب كالسيف حلو شمائله ... يسائلني عن فتنتي وأسائله
يدور غرام بيننا كلما انقضت ... أواخره عادت علينا أوائله
وقوله
على وجنتيه جنة ذات بهجة ... ترى لعيون الناس فيها تزاحما
حمى ورد خديه حماة عذاره ... فيا حسن ريحان العذار حماحما
والحماحم نوع من الريحان معروف لغة وعرفاً وقوله أيضاً
يا من يبالغ في سقيه خده ... ماء الحيا ولذاك قيل مورد
في خدك الراح التي بكؤسها ... أسكرت لحظك فهو في يعربد
سدت الأنام غداة خدك أبيض ... واليوم خدك بالعذار مسود
نسخ العذار ملاحة بملاحة ... قلم بسعدك لا يزال يجود
قلب يميل إلى حديثك بل له ... فيما يؤمل من وفائك مسند
عكفت على مغناك أرواح الغنا ... فلانت للطرب المحرك معبد
فعلى محياك السلام فديته ... بالنفس بل بالعين فهو مؤكد
وعلى فؤادي المستجير تحية ... ما طار نحوربي الرياض مغرد
فيه مع التورية مراعاة النظير العديمة الشبيه والنظير لما فيه من الجمع بين التبييض والتسويد المعروف بين المصنفين وكذا التجويد فإن معناه التحسين ويطلق في العرف على حسن الخط وفي عرف أهل الأداء تحسين مخارج الحروف وهيآتها وكانت وفاته بمصر يوم الأحد ثاني وعشري جمادى الآخرة سنة ثمان بعد الألف وهو كهل رحمه الله تعالى محمد المعروف بالاضطراري المغربي المالكي نزيل دمشق الشيخ العارف بالله تعالى المشهور الصيت في الولاية معتقد أهل الشام في عصره قال النجم عندما ذكره في الذيل قطن بدمشق أكثر من ثلاثين سنة وكان يعرف علم التوحيد معرفة تامة إلا أنه كان عامياً وكان يجتمع إليه العوام بالجامع الأموي وغيرهم فيأخذون عنه علم التوحيد ويحدثهم بالحقائق وكان يجلس في بيوت القهوة كثيراً ويجتمع الناس حوله فيها ويأخذون عنه وكان يظهر من أتباعه أشياء منكرة خصوصاً إنكار إيمان المقلد ويرتبون على هذا أن الناس كلهم مقلدون حتى علماء الظاهر وسئل عنه الشيخ علي بن الشيخ عمر العقيى العارف بالله بن العارف بالله تعالى فقال هو ينظر بإحدى عينيه يشير إلى أنه يتكلم على الحقيقة ولا يعرف الشريعة وكان لكثير من الناس فيه كبير اعتقاد وكانت وفاته في أوساط شهر رمضان سنة عشر وألف ودفن بمقبرة باب الصغير وقد عمر نحو ثمانين سنة أو أزيد رحمه الله(3/104)
محمد الكردي صائم الدهر الشيخ الفاضل الصالح ذكره النجم وقال كان من جماعة الأخ الشيخ شهاب الدين الغزي وقرأ عليه كثيراً ثم قرأ الفقه بعده على جماعة منهم شيخنا يريد الشهاب العيثاوي ولازمه كثيراً وقرأ على الشيخ شمس الدين الميداني وأكثر قراءته للأنوار وكان يلازم القراءة في المصحف وكان مجاوراً بالجامع الأموي غير أنه ينام في حجرة بالتقوية وكانت له وسوسة زائدة في الطهارة والصلاة وكان متجرداً من الزوجة حكي له أنه اقتات بمكة ثلاث ليال بماء زمزم قال فعرض علي بعض الناس قطعة خبز فأكلتها فذهبت عني تلك الخاصية وحضر في أوائل أمره دروس شيخ الإسلام الوالد وقطن بدمشق أكثر من أربعين سنة وتوفي يوم الثلاثا سابع جمادى الأولى سنة أربع عشرة بعد الألف ودفن بتربة مرج الدحداح خارج باب الفراديس رحمه الله تعالى محمد باشا البوسنوي أحد الوزراء العظام في عهد السلطان أحمد وهو من أقارب أحمد باشا القرحة الوزير الأعظم المشهور كان في ابتداء أمره من جماعة الحرم الخاص للسلطان ثم صار أميراً خور ثم ضابط الجند ثم ولي الحكومة بولاية أناطولي ثم أنعم عليه برتبة الوزارة وعين لمحافظة حد بلاد الإسلام في ناحية المجر ولما توجه ياوز علي باشا الوزير الأعظم إلى محاربة المجر في سنة ثلاث عشرة بعد الألف أدركه الأجل ببلغراد فوجهت الصدارة العظمى لصاحب الترجمة وعين لمحاربة قلعة استرغون فسار إليها ولم يتمكن تلك السنة من فتحها ثم في السنة الثانية وهي سنة أربع عشرة فتحها وكان في السنة السابقة وقع محاربة بين الشاه وبين العساكر السلطانية وكان ابن جفال رأس العساكر فخالف أمره في التربص عن الهجوم بعض الوزراء فكان ذلك سبباً لانكسار العسكر السلطاني وقتل الذين كانوا سبباً في ذلك وخاف ابن جغال من وخامة هذه الكسرة فانحاز إلى قلعة وان فأدركه الموت بها وبلغ الخبر إلى السلطان فأرسل إلى صاحب الترجمة يقول له أن يضع محافظاً في بلاد روم ايلى ويقدم للسفر إلى العجم فوضع مراد باشا محافظاً وقدم إلى قسطنطينية ثم تجهز إلى السفر ففي معبره إلى اسكدار ابتلي بمرض الفالج وأسرع إليه الحمام فمات في خامس عشر المحرم سنة خمس عشرة بعد الألف ودفن في تربة قريبه الوزير القوجه بأيوب قلت وسيأتي ذكر السفر إلى العجم في ترجمة الوزير مراد باشا إن شاء الله تعالى(3/105)
الخوجه محمد الباقي الهندي النقشبندي كان قدس الله روحه ونور ضريحه آية من آيات الله سبحانه ونوراً من أنواره وسر اً من أسراره صاحب علم ظاهر وباطن وتصرفات كثير الصمت والتواضع والانكسار ذا خلق حسن لا يتميز عن الناس بشيء حتى إنه كان يمنع أصحابه من أن يقوموا لتعظيمه وأن لا يعاملوه إلا كما يعامل بعضهم بعضاً وممن أخذ عنه ولازمه وانتفع به الشيخ الكبير والقطب الأكمل الشهير العارف بالله الرباني تاج الدين الهندي النقشبندي العثماني المقدم ذكره رحم الله تعالى روحه كتب الخوجه غليه كتاباً وكان الخوجه في لاهور والشيخ تاج الدين في سنبل فلما أتاه كتابه عزم على زيارته فلما وصل إليه توجه إلى سلوك طريق الأكابر النقشبندية فتم سلوكه قدس سره في ثلاثة أيام ثم أجازه الخوجه بتربية المريدين وهو أول من أجازه وصحبه عشر سنين وكانت الصحبة بينهما كصحبة شخصين لا يدرى أيهما عاشق وأيهما معشوق وكانا يأكلان في إناء واحد ويرقدان على سرير واحد ثم ظهرت له التصرفات العظيمة فصار كل من يقع نظره عليه أو يدخل في حلقته يصل إلى الغيبة والفناء ولو لم يكن له مناسبة وكان الناس مطروحين على بابه كالسكارى وبعضهم كان ينكشف له في أول الصحبة عن عالم الملك والملكوت وكل هذا كان من غلبة الجذبات الإلهية وكان مولده ومنشؤه في نواحي كابل من بلاد العجم التي تحت يد سلطان الهند وكان جاء إلى الهند لأمر من الأمور الدنيوية فجذبته الجذبات الإلهية فترك الدنيا واربابها ودار في الطلب عند أكثر المشايخ في وقته ومضى عليه زمان في السياحة والأخذ على المشايخ في طرق شتى حتى حضرت له روح الشيخ عبيد الله أحرار قدس الله سره العزيز فعلمه الطريقة النقشبندية وتم أمره ثم ذهب إلى بلاد العجم لأخذ الإجازة من الشيوخ ثم رجع إلى الهند وتوطن مدينة دهلي وظهرت منه الأمور العجيبة وانتفع به خلق كثير في مدة قليلة وما انتشرت هذه السلسلة المباركة في الهند إلا منه رضي الله عنه وما كان أحد يعرفها منهم قبله وكانت وفاته يوم الأربعاء رابع وعشري جمادى الآخرة سنة أربع عشرة بعد الألف بمدينة دهلي جهان آباد من بلاد الهند وله أربعون سنة وأربعة أشهر وقبره بها على غربيها عند أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم يزار ويتبرك به رحمه الله تعالى محمد الشهير بالمشهدي الرومي نزيل دمشق الشيخ الصالح الصامت وإنما سمي المشهدي لأنه كان محاوراً بالمشهد الشرقي البراني من جامع بني أمية المعروف بمشهد زين العابدين قديماً والآن بمشهد المحيا وكان في جواره حجرة ينام فيها ويقيم وأكثر إقامته في نفس المشهد معتكفاً صحب الشهاب الغزي وكان كل منهما يعتقد ولاية الآخر وكان للناس فيه مزيد اعتقاد يتردد إليه أكابر الدولة وهو لا يتردد إليهم ومع ذلك منجمع عنهم غير مستشرف إلى شيء منهم أقام بدمشق نحو خمسين سنة كان منها نحو ثلاثين سنة متجرداً ثم تزوج فولد له بنون وماتوا في حياته بعد ما برع واحد منهم ثم ماتت أمهم فتزوج ثانياً وكان وقوراً مهيباً مع حسن خلقه وبشاشته وله ذوق في فهم كلام الصوفية وكان إذا خرج من الحمام يصب على رأسه الماء البارد ويقول إنه يحفظ صحة الدماغ وكانت وفاته يوم السبت سلخ رجب سنة سبع عشرة بعد الألف وقد قارب مائة سنة ودفن بباب الفراديس رحمه الله تعالى محمد اليماني شيخ اليمانية بدمشق في الجامع الأموي الشيخ الصالح المعتقد أقام بدمشق سنين يتبرك الناس به ويعتقدونه ويحسنون إلى اليمانية على يده وكان أخذ عن ولي الله تعالى الشيخ ابي بكر اليماني نزيل دمشق وكانت وفاته يوم الأربعا سادس وعشري المحرم سنة تسع عشرة بعد الألف ودفن بوصيته في الدوحة عند قبر سيدي جوشن بالسيوقة المحروقة خارج دمشق عند قبر الشيخ تقي الدين وكانت جنازته حافلة جداً رحمه الله تعالى(3/106)
محمد أمين الدفتري العجمي الأبهري محتد القزويني مولداً الدمشقي سكناً السابقي الطياري نسبة إلى الإمام جعفر الطيار فيما ادعاه أحد ذوي النباهة والشأن العالي والأدب الوافر والكرم الباهر وقد رزق الحظوة في الإقبال وتوفرت له دواعي الآمال وكان في الأصل من أرباب العراقة والمجد لأن والده كان وزيراً في خراسان من جانب سلطان العجم شاه طهماسب ثم مات والده فتفرقت أولاده فوقع كل واحد منهم في جانب من الأرض فكان محمد أمين واقعاً بدمشق ورد غليها في سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة على صورة فقراء العجم الذين يقال لهم الدراويش وكانت له كتابة حسنة ونظم رائق بالفارسية ثم إنه خدم في دمشق دفتريها محمد ابن كمال الدين التبريزي فأرسله إلى قسطنطينية في بعض مصالح السلطنة فتعلق بخدمة معلم السلطان مراد المولى سعد الدين ورجع إلى دمشق بشيء من مرتب الجزية بدمشق ولم يزل يتردد إلى قسطنطينية حتى اتصل بالمولى سعد الدين أشد اتصال فعلا شأنه وارتفع مكانه وتولى على أوقاف عمارة السلطان بايزيد وتأثل وبنى وعمر وتردد إليه أكابر المدرسين وأرباب الحوائج ممن يريد من الأوقاف ثم إنه ورد إلى دمشق في أوائل سنة تسعين وتسعمائة في بعض الخدم السلطانية فمكث نحو سنة وسافر إلى قسطنطينية ورسخ بها وبلغ الحظوة التامة وراجعه الناس وكاتبه ملك المغرب مولاي أحمد المنصور وقد ذكر أبو المعالي الطالوي الكتاب الوارد إليه من مولاي أحمد في سانحاته وذكر في أثره جوابه الذي كتبه أبو المعالي على لسانه وعن لي أن أذكرهما لئلا يخلو كتابي مما يخاطب به أمثال هذا الملك ويخاطب به وصورة الكتاب هذا بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وسلم تسليماً من عبد الله تعالى المجاهد في سبيله الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين الشريف الحسني أيد الله أمره وأعز نصره بمنه ويمنه آمين المنزلة التي لاحت من محبتنا لهذا الجناب العلوي من سماء الطروس واتضح من شواهد ولائها وأمثلة خلوصها ما أشرق شروق الشموس وأركضت في الاعتلاق بحبلنا الحسن طرف الصفا غير حرون ولا شموس مثابة الفقيه المعتبر الأمين الرضي المكين الأحظى الماجد الحسيب الأصيل العريق النسيب الزعيم الملاحظ الأثير الوجيه الأديب الفهامة النحرير المثيل أبي عبد الله محمد الأمين بالقسطنطينية العظمى زاد الله رتبته علاء ومصاعدته لمراتب الكمال ارتقاء سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد حمد الله مؤلف القلوب المتنائية تأليف الشرطية في الالتئام للجزائية والصلاة والسلام على الرسول الأمين سيدنا ومولانا محمد النور الذي أنقذ الله به من غياهب الهلاك وأزاح بهديه ما للزيغ والضلال من مدلهمات الأحلاك وعلى آله ذوي الفضل الباهر والسودد الظاهر والشرف الذي عز عن المساجل والمفاخر وصحبه الذين أجروا جداول السيوف في رياض الحتوف لاجتناء ثمر نصرة الشريعة وفتحوا أبواب الجهاد سداً لكل سبيل من النفاق وذريعه والدعاء لهذه الخلافة الحسنة البناء بالتأييد لهد قواعد الكفر هدا وسوق عبدة الصليب إلى ساقط سحائب المنايا وردا فإنا كتبناه إليكم من دارنا العلية بحضرتنا المراكشية حاطها الله ومواهب الله مع الآناء متهللة الأسره وصنائعه الجميلة كفيلة بنيل كل مسره فشكر الله سبحانه وتعالى هذا وقد انتهى لمقامنا العلي من كتابكم المرعي الذي ثج من سماء بلاغته كل وسمى وولى ما أقام لكم بنا دينا الكريم سوق الولاء على ساق ورفع لخلوصكم على صعدة الاحتفال اللواء الخفاق وتمكن ودكم بهذا الجناب العلوي أي تمكين واستقر من وافر القبول عليه بربوة ذات قرار ومعين وأدلى بحجج تسفر عن الاعتلاق بمحجتنا أسفار الصباح وأدلة هي في مقام الجلاء والظهور كالشمس في الاتضاح فتقرر لدينا من حسن اعتقادكم وصريح ودادكم على ألسنة الإرسال والأقلام ما لا يحتاج بعد إلى دليل يقام والتحف الأدبية التي انتقتها أيدي عنايتكم لخزانتنا العلمية قد وافت إلينا فألفت من الهش لها والترحاب بها ما لا يقدر على تكييفه ولا تمد أيدي الاسترابة إلى تحويله وتحريفه نتيجة عن مقدمة في شكل المضاهاة معمله غير معارضة بما يناقضها ولا مهمله والقدر الذي تتصورونه من المبالاة بكم والاعتناء بشأنكم لكم عندنا أضعافه مبره مسيرة إليكم إن شاء الله تعالى أنواع الجذل والمسرة وحظكم(3/107)
لدينا ملاحظ بعين الإيثار مرعي من علائنا بكل اعتبار والله يتولى حراستكم بمنه ويمنه والسلام وكتب في أواسط جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وتسعمائة وهذا هو الجواب أدام الله تعالى جلال إقبال الدولة الإمامية الحسنية الشريفة وضاعف كل حين حلاها وعقد رايات النصر والظفر بألويتها العلوية المجاهدية المنصورية وأسبغ في العالمين ظلالها ولا زال مقاها الشريف المكان والمكانة في الخلافة محموداً ولواؤها الخفاق بالنصرة الكاملة على الأعداء معقوداً مضروباً سرادق مجدها الشامخ على هام المجرة والنجم والسماك منوطاً شرفها الباذخ بمستقر الأفلاك فرع الدوحة الهاشمية العلوية المتفرع من الأغصان الزكية المرتضوية فيا لها دوحة زكا غصنها الرطيب في الخلافة ونما من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السما مهبط الوحي ومتنزل الروح الأمين مقام عصمة الإمام أبي عبد الله أمير المؤمنين منزع الهمم وملاذ الإسلام ومفزع الأمم ومصار الأنام مقر السيادة والعز المكين وقرار السعادة والنصر والتمكين كتاب صدر عن ساحة علا مجدها هام الكواكب وزاحم شرفها الجوزاء بالمناكب طلع في سماء الخلافة كوكبها السيار ونار ولمع نوره فكاد سنا برقه يذهب بالأبصار نسب طاهر وحسب ظاهر فلله كم جلت سواد الكفر عن المغرب بامراهها بيض صفاحه وارتشفت من ثغوره اللمياء بأفواهها سمر رماحه وايم الله لقد تبسمت ضاحكة تلك الثغور من ذلك العزم الناصري والرأي المنصور لا زالت هام الأعداء لسيوفه غمداً يسوقهم القدر كل حين لمشرع الردى وردا منوهاً باسم من تشرف بانتمائه إلى ذلك الجناب اسمه وقد شام من مخائل تلك الحضرة بارق الولاء فصدق توسمه فداخله بذلك مسرة وجذل كادا يردان عليه شبابه المقتبل حيث كان من النعم الجسام التنويه بذكره في ذلك المقام فشكرا على نعمائه الظاهره وآلائه المتظاهره وأما التنويه بذكر ما خدم به ذلك القبطون الشريف برسم الخزانة العلمية والقمطر المنيف على يد أخينا ذلك الفاضل الأديب والكامل الأريب من نور الفضل في جبينه متلالي أبو عبد اله محمد الفشتالي خادم السدة الشريفة العلياء والعتة المنيفة القعساء فأمر لا تفي الألسنة بشكره والأقلام على توالي الأزمنة ومر الأيام حيث وقع الموقع من ذلك الجناب المضمخة سوحه الشريفة بالأناب هذا وما زال العبد رافلاً كل آن في حلل الامتنان والإحسان معلناً في كل نادي بشكر تلك الأيادي التي وصلته من المقام الرفيع ناديه الفائز بالسعادة حاضره وباديه فلها على السندس والاستبرق مزيه حيث وافقت شعار السادة العباسيه على يد قاصد الحضرة عبد العزيز ذلك الشيخ الجليل فكانت جملاً أغنت عن التفصيل وفي الأعتاب الهاشميه والأبواب العلوية العليه مكارم أخلاق إن شاءت قامت بعذر خدامها في التقصير عما كان اللائق بمقامها من إرسال نفائس الكتب الأدبية لتتشرف بانحيازها إلى تلك الخزانة الشريفة العلمية لعارض جر حرماني بالجوار سلب معه عن الجفن الفرار والقرار ومولى بابها وعبد جنابها مولانا عبد العزيز على ذلك شاهد عدل وحكمة في امتثال هذه القضية هو الفضل سيصدق الحضرة المقال حيث شاهد بالعيان حكاية الحال والعبد ما زال في تدارك ما فرط في حب مولاه في العام القابل إن شاء الله موصلاً لثم بساط الثرى متضرعاً له يسمع ويرى أن يخلد ذكر الدولة المنصورية على صفحات الأيام ويربط أطناب معدلتها بأوتاد الخلود والدوام إلى قيام الساعة وساعة القيام بمحمد وآله وعترته الطاهرين وصحبه المنتخبين قاصراً على فاتحة ثنائه بنفسه في خاتمة دعائه وهذا آخرها قلت وكان صاحب الترجمة يجمع نفائس الكتب ويرسلها إلى مولاي المنصور المذكور فبسبب ذلك كانت المراسلات بينهما غير منقطعة ثم طلب بنت منلا أغا التبريزي نزيل دمشق وهو الذي كان معتمداً على العمارة السليمانية وكان من وجوه الأعيان أصحاب الوجاهة فتزوج بها وقطن بدمشق في دار المنلا المذكور المشهورة بمحلة القيمرية وتولى خدمة الدفاتر السلطانية بالشام ومات منلا أغا واستمر ساكناً في بيوته وباشر خدمة الدفاتر باستقامة وصرامة ودقة نظر ثم إنه عزل عنها فسعى لنفسه في أن يكون متقاعداً بدمشق على قاعدة أركان الدولة العثمانية إذا أراد رجل منهم أن يتخلى عن المناصب السلطانية ويقنع أن يرتب له شيء من بيت المال فأعطاه السلطان في دمشق كل يوم مائة وخمسين قطعة(3/108)
يأكلها وهو جالس في بيته ثم إنه تشكى من مماطلة من يحال عليهم من المباشرين لقبض الأموال السلطانية فعرض ذلك على الوزير سنان باشا بن جغال لما ورد إلى دمشق حاكماً بها فعرض ذلك لحضرة السلطان محمد فأعطاه قرية في الغوطة بدمشق يقال لها الحرجلة فكان يتناول مرتبه من محصولها وكان فاضلاً في التاريخ جداً وفي اللغة الفارسية والعربية ناظماً كاتباً فيهما وكان حسن الخط منشئاً للمكاتيب الحسان مداعباً كريماً عارفاً بقدر الأفاضل معرفاً لهم عند أرباب الدولة وكان نحيف الجسم لملازمته على أكل الأفيون وكان غالب فضلاء دمشق يترددون إليه ويعاشر منهم من تطيب عشرته وتصفو له مودته منهم أبو المعالي الطالوي والحسن البوريني وغيرهما ولهم فيه المدائح الزاهرة ذكر الطالوي منها كثيراً وبالجملة فقد كان من محاسن عصره الذين يتزين بهم وجه مصر وكانت ولادته في سنة سبع وخمسين وتسعمائة تقريباً وتوفي يوم الأربعا تاسع شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة بعد الألف ودفن من الغد في تربة منلا أغا قبلي الصابونية في الصف الشرقي وخلف من الكتب نحو ثمانمائة كتاب من أنفس الكتبو جالس في بيته ثم إنه تشكى من مماطلة من يحال عليهم من المباشرين لقبض الأموال السلطانية فعرض ذلك على الوزير سنان باشا بن جغال لما ورد إلى دمشق حاكماً بها فعرض ذلك لحضرة السلطان محمد فأعطاه قرية في الغوطة بدمشق يقال لها الحرجلة فكان يتناول مرتبه من محصولها وكان فاضلاً في التاريخ جداً وفي اللغة الفارسية والعربية ناظماً كاتباً فيهما وكان حسن الخط منشئاً للمكاتيب الحسان مداعباً كريماً عارفاً بقدر الأفاضل معرفاً لهم عند أرباب الدولة وكان نحيف الجسم لملازمته على أكل الأفيون وكان غالب فضلاء دمشق يترددون إليه ويعاشر منهم من تطيب عشرته وتصفو له مودته منهم أبو المعالي الطالوي والحسن البوريني وغيرهما ولهم فيه المدائح الزاهرة ذكر الطالوي منها كثيراً وبالجملة فقد كان من محاسن عصره الذين يتزين بهم وجه مصر وكانت ولادته في سنة سبع وخمسين وتسعمائة تقريباً وتوفي يوم الأربعا تاسع شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة بعد الألف ودفن من الغد في تربة منلا أغا قبلي الصابونية في الصف الشرقي وخلف من الكتب نحو ثمانمائة كتاب من أنفس الكتب المنلا محمد الأخلاقي نزيل دمشق كان كاتباً ماهراً في صناعة الكتابة وكتب بخطه كتباً كثيرة من جملتها كتاب أخلاق علائي في أربعين مجلداً مركب من الثلاثة الألسن العربي والفارسي والتركي وبكتابة هذا الكتاب وكثرة مطالعته قيل له الأخلاقي وكانت ولادته في سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة وتوفي نهار الاثنين ثاني المحرم سنة إحدى وعشرين بعد الألف ودفن بمقبرة الفراديس محمد الشهير بابن البيطار الدمشقي إمام جامع منجك بمحلة مسجد القصب كان فاضلاً شافعي المذهب مقرئاً مجوداً مجيداً إلا أنه كان خامل الذكر قليل الحظ أخذ عن الشهاب الطيبي وبه انتفع وجرت له محنة في أواخر عمره كان نائماً في حجرة له بالجامع المذكور في بعض الليالي فجاء محمد باشا بن سنان باشا ليزور الشهداء داخل الجامع فطرق له باب الجامع فأجاب الشيخ بعد حين بعنف وقال من الطارق في هذا الوقت وصاح فقيل له الوزير فلما فتح الباب أمر بضربه فضرب ضرباً مبرحاً لأنه كان له جبروت ولم يعرف أنه الإمام وحنق عليه ولم يمكن من معه مراجعته وكانت وفاته في ليلة السبت عشري المحرم سنة إحدى وعشرين بعد الألف وبلغ من العمر أربعاً وثمانين سنة رحمه الله تعالى(3/109)
محمد باشا نائب حلب وأذنة ودمشق ذكره النجم الغزي وقال في ترجمته كان وزيراً ولي نيابة حلب في سنة إحدى وثلاثين والف وكان ظالماً ثم عزل عنها وولي مدينة أذنة وأساء الحكم فيها حتى حرج على البضائع كلها فلا يبيعها جلابها إلا لمن عينه من جماعته ثم تباع للسوقة بعد ذلك ثم لما خلع السلطان مصطفى عن الملك وسلطن السلطان مراد ولي علي باشا المنفصل عن بغداد الوزارة العظمى وكان أخو محمد باشا المذكور تلخيصاً عنده والتلخيص عبارة عن مرسال بين السلطان والوزير يذهب بعروض التوجيهات وغيرها من المعروضات ويأتي بالجواب فسعى لأخيه في ولاية دمشق فلما وليها أرسل متسلماً عنه يقال له كنعان فدخل دمشق في يوم الاثنين خامس صفر سنة ثلاث وثلاثين وألف ووافق دخوله اشتعال الفتنة بسبب انكسار عكسر دمشق في سادس المحرم صحبة الوزير مصطفى باشا وذلك أن العسكر الشامي كانوا قصدوا محاربة أولاد الحرفوش وإخراجهم من بعلبك وطلبوا من مصطفى باشا أن يخرج معهم أولاد الحرفوش وإخراجهم من بعلبك وطلبوا من مصطفى باشا أن يخرج معهم فأبى أولاً وأمر بالتربص فلم يرضوا إلا بخروجه فخرج بهم بعد أن كتب عليهم حجة بذلك ولما تقابل الفريقان انكسر العسكر الشامي ووقع الوزير المذكور في أيدي عشير بن معن ثم بقي عنده بالبقاع أياماً ثم ذهب معه إلى بعلبك في طلب أولاد الحرفوش ووقع الرأي من قاضي القضاة بدمشق المولى عبد الله الشهير ببلبل زاده وعقلاء الناس أن يذهب جماعة في طلب عوده إلى دمشق فعين القاضي جماعة من الوجوه فخرجوا من دمشق إلى بعلبك وأقاموا بها اثني عشر يوماً ثم عادوا في خدمة مصطفى باشا فدخل دمشق يوم الخميس تاسع وعشري محرم والفتنة قائمة فلما كان يوم السبت ثاني صفر عقد عند الوزير مجلس عظيم كتب فيه حجة على العسكر أنهم لا يرابون ولا يتجاوزون الحدود في خدمهم مع أمور أخرى فبينما الناس على ذلك وطائفة العسكر في أمر مريج بسبب ذلك إذ دخل كنعان متسلم محمد باشا صاحب الترجمة فسلمه مصطفى باشا البلد أياماً ثم رفع يده عنها خوفاً من إثارة الفتنة ثانياً بسبب أن محمد باشا انحاز إليه حمزة الكردي أحد رؤساء الجند وجماعته الفارون فإذا دخل دخلوا إلى دمشق وإذا دخلوها طلبهم ابن معن ولا يسلمون إليه فيدخل الشام في طلبهم وكانت أهالي دمشق قد تقدم لهم منه مخافات وأراجيف حتى نقلوا أمتعتهم وأثقالهم من خارج المدينة إلى داخلها مراراً فرفع مصطفى باشا يد كنعان عن البلد بسبب ذلك ثم عقد عنده مجلساً في دار الإمارة يوم السبت سابع أو ثامن ربيع الأول جمع فيه العلماء ووجوه العسكر ثم اجتمعوا بقاضي القضاة بلبل زاده وطلبوا منه الحضور إلى الجامع الأموي فحضروا ومعهم أهل البلد وكتب محضر في الواقعة ليجهز إلى طرف السلطنة ثم خرج الجند إلى القطيفة فرأوا بها محمد باشا وقد نزلها فأشاروا عليه بالرجوع إلى حماه ليعرض ذلك إلى السلطان ثم عقد بعد ذلك مجلس آخر عند القاضي وكتب عرض آخر إلى الباب العالي وخرج كنعان إلى أستاذه وبقي الوزير مصطفى باشا بدمشق فلما كان عشية الاثنين ثاني جمادى الآخرة ورد من بعلبك حسن بن الطريفي بحكم سلطاني بتقرير محمد باشا وكتاب منه في ذلك بعد أن كاتب محمد باشا الأمير فخر الدين بن معن ورضي بذلك فلما كان يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة في وقت الضحى سافر مصطفى باشا من دمشق وفي صحبته قاضي القضاة بلبل زاده والرئيس سهراب الدفتري معزولين وفي يوم الثلاثا وصل وطاق محمد باشا إلى المزة ونزل بها آخر النهار وأقام بها ليلة الأربعاء ويومها وتردد إليه بعض أهل البلد ونافقه بعضهم ثم دخل دمشق في يوم الخميس من جهة القابون معرضاً عن السلام على الناس حتى دخل دار السعادة فتردد إليه بعض الناس فلم يقم لأحد منهم ثم انقطع يوم السبت عن الخروج وعاثت جماعته في البلد وضواحيها يمنة ويسرة كان كل واحد يريد أن ينتقم من دمشق وأهلها وظن الناس عدم خروجه عن تكبر فإذا هو محموم ثم مات يوم الجمعة ختام جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وألف وظهر بعد موته أنه كان لعلماء البلدة في نية شنيعة وكان موته لطفاً من الله تعالى بهم وقام مقامه إبراهيم باشا الدفتري ثم عند الغروب من يوم موته ورد إلى دمشق راكبان أخبرا أن مصطفى باشا قرر على ولاية دمشق وضبط تاريخ تقريره مصطفى باشا قرر وهو لطيف قلت وصاحب(3/110)
الترجمة قد تقدم معرض في ذكر موته في حرف الهمزة في ترجمة أبي البقاء الصالحي وهو كالتتمة لما ذكرناه هناة قد تقدم معرض في ذكر موته في حرف الهمزة في ترجمة أبي البقاء الصالحي وهو كالتتمة لما ذكرناه هنا محمد باشا الوزير حاكم اليمن ذكره مؤرخ اليمن محمد بن كاني في تاريخه وقال في ترجمته تولى اليمن في مصر بعد عزله عنها في زمن السلطان أحمد بن السلطان محمد فوصل إلى بندر البقعة في شعبان سنة خمس وعشرين وألف وكان رجلاً حليماً حازماً في جمع الأموال صبوراً على الشدائد دخل صنعاء في صفر سنة ست وعشرين وألف وكان يقول أنه أدرى الناس بأحوال أهل اليمن وكان كاتب الديوان بمصر للوزير حسن باشا صاحب اليمن لأنه كان يختبره ويرقم في دفتره فما كان حكمه في اليمن إلا من ذلك الدفتر المضبوط ولسان حاله يقول
ما أنت أول سار غرة القمر ... ورائد أعجبته خضرة الدمن
وما أجدره بقول الشاعر حيث قال في المعنى
من تحلى بغير ما هو فيه ... كذبته شواهد الامتحان
ففتح وجه الحرب وناصحته عقلاء البلاد بأن هذا الأمر لا يتم في اليمن إلا بعد ما تملك رؤس القبائل وترغب الجنود بالعطايا وتشحن الأنبار السلطاني بالحبوب فما قبل بل تجلد وتنمر وقال إما الملك وإما الهلاك
وجرى في السباق جرى سكيت ... خلفته الجياد يوم الرهان
فلم يحصل من ذاك على طائل فأتعبته الجند بطلب الترقيات والإنعامات مع عدم نهضتهم ونصحهم في الحرب فاتخذ له عوناً الأمير محمد بن سنان باشا وجعله كتخدا له فكان عليه وكان كما قال الشاعر
فكان كالساعي إلى متعب ... مرابلا عن سبل الراعد(3/111)
وفي روض الأخبار من استبد بتدبيره زل ومن استخف بأسيره ذل حكى بعض أهل اليمن قال سمعته يقول في حال عزله كنت أعتمد على دفاتري وحفظي من أخبار اليمن وأقول ليس أحد أعرف مني بأحوال اليمن وأعترف الآن أني دخلت اليمن وخرجت منه ولا عرفت ولا حققت قدر أنملة وكان قائماً على قدم الثبات ذا عزيمة ماضية مع ظهور القحط وعمومه في جميع البلاد وافراط العساكر في طلب الإنعامات والترقيات مرة بعد مرة فعجز الفريقان فانعقد الصلح بينه وبين الإمام القاسم بأن لكل واحد ما كان تحت يده في حال الحرب وضبطت الحدود والأطراف وكان انعقاد الصلح على يد الأمير علي بن المطهر والشويع محمد بن عبد الله في جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وألف وبعد انعقاد الصلح فك الوزير محمد باشا قيد الحديد من السيد حسن بن الإمام القاسم لأن خروجه ما كان في شرائط الصلح وبقي في دار الأدب إلى أن وصل المتسلم من جانب الوزير فضل الله باشا إلى صنعاء في سنة إحدى وثلاثين والسيد حسن يعمل الحيلة في خلاصه حتى حصلت له الفرصة فخرج متنكراً على بعض القول في غفلة الحراسين فلما وصل الوزير فضل الله باشا إلى صنعاء في رجب سنة إحدى وثلاثين صلب الحارس الذي كان على دار الأدب ولنرجع إلى المقصود فنقول كانت وفاة الإمام القاسم عقب الصلح نهار الاثنين خامس عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وألف وقام في مقامه ولده السيد محمد وجدد الصلح بينه وبين الوزير الحاج محمد باشا على ما كان في زمن والده من غير زيادة ولا نقصان واستمر القحط وطال في زمان صاحب الترجمة حتى بيع حمل الجمل من الحنطة بأربعين حرفاً وعبرة حمل الجمل ثلاثون قدحاً صنعانياً وبيضة الدجاجة ببقجة وهي عبارة عن كبير واحد في مقابلة عثمانيين وكان أول زمانه حرباً وفتناً وآخره نهباً ومحناً وله آثار عظيمة في تعمير القلاع السلطانية ما سبقه إلى مثل ذلك أحد وبنى جامعاً في صنعاء وله غير ذلك من الخيرات وكان خروجه من صنعاء غرة صفر سنة إحدى وثلاثين ولما سمع بمجيء الوزير فضل الله باشا أسرع في النهوض فخالف التقدير التدبير وتقاربوا في المنازل بالقرب من زبيد فأرسل فضل الله باشا إليه عسكراً وسرداراً فراموا عليه وعلى أولاده بالرصاص لأجل الجلب فكانت أم البنين تعرض نفسها على ولدها خوفاً عليه من الرصاص انتهى ثم وصل إلى مكة في غرة شعبان من السنة المذكورة وصام رمضان وتصدق وفعل أفعالاً عديدة من الخيرات وكان وصل معه في مركبه الواصل بحراً فيل صغير أراد أن يهديه إلى الحضرة السلطانية ثم إن هذا الفيل استمر بجدة أياماً فجاء الخبر بوفاة السلطان عثمان ثم انتقل الوزير المذكور بالوفاة ليلة سابع وعشري شوال من السنة المذكورة ودفن صبيحة تلك الليلة بالمعلاة وبنى عليه قبة باقية إلى الآن ووقع بعد وصول الفيل غلاء شديد بمكة قال الإمام عبد القادر الطبري فيه مؤرخاً وهو على غير وزن الأبحر المتداولة
حرم الله حل ساحته ... قدم الفيل ضل عن رشده
كثر الهم يا فتى أرخ ... سنة الفيل همه شده
وفي هذا القرن يضرب المثل بالغلاء الواقع بمكة في سنة تسع بعد الألف ونهاية ما وصل فيه الاردب المصري إلى ثمانية عشر ديناراً على ما سمعناه من الثقات الشاهدين لذلك قلت فتكون الغرارة الشامية ولم يستمر هذا الغلا إلا نحو ثلاثة أشهر وفيه أكل الناس لحوم الكلاب والبس قال الإمام علي بن عبد القادر الطبري في الأرج المسكي والتاريخ المكي سمعت من الوالدان الفقراء كانوا يأخذون دم الشاة ويجعلونه في إناء على النار ثم يستعملونه ثم وقع بعد عام تسع غلاء متعدد منه الغلاء الذي ذكرناه ثم في سنة سبع وثلاثين وقع غلاء عظيم واستمر متزايداً إلى سنة ثمان فبقيت الكيلة الدخن في هذا العام بأحد عشر محلقاً ثم وقع في عام تأليف هذا الكتاب غلاء أضرم في الأفئدة نيران الاشتعال وأعمى بصائر الناس من التفرغ للاشتغال واستمر أشهراً عديدة وفي الغالب إنما يكون في أنواع الحبوب وقد يقع في السمن وغيره من أنواع المأكولات والله تعالى أعلم محمد الشهير بابن الغزال الحمصي نزيل دمشق ورئيس الأطباء بها ارأس من انتمى إلى الطب في وقته ذكره والدي رحمه الله تعالى فقال في وصفه أبقراط وقته وزمانه وجالينوس عصره وأوانه قد جمع الفضل بعد شتاته ورد في جد الأدب روح حياته(3/112)
وإن يفق البرية فهو منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
هاجر من حمص إلى طرابلس الشام واتصل بأمرائها بني سيفا الكرام وأقام بخدمتهم مدة طويلة يسامر الصحيح ويعالج عليله وهم يقابلونه بالصلات الوافية شكر الله على نعمة الصحة والعافية ثم ورد إلى دمشق الشام وصار بها رئيس الأطباء وعمدة الفضلاء والأدباء واشتهر بعلم الأبدان حتى صار الشيخ الرئيس في ذلك الزمان وكان حسن المصاحبة لطيف المسامرة والمخاطبة تميل إليه طباع الخاصة والعامة ويحضر مجالس قضاة الشام وينادمهم أحسن منادمة والحاصل أنه ختمت به هذه الرياسة وفاق أرباب هذه الصناعة بحسن الملاحة والكياسة وكان بعض من يحسدونه يقولون معالجته ليست بميمونة
ما زار في الأربعا عليلاً ... إلا وقد مات في الخميس
وهذا تعنت على الأقدار فإنها تجري على مقدار الأعمار لا على ما تشتهيه النفوس من أصناف الصحة والبوس
والناس يلحون الطبيب وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدور
فالأولى التسليم للقضا فإن القلم بالأجل المحتوم رقم ومضى فأي عتب على الطبيب وإن كان هو الفاضل اللبيب
إن الطبيب لذو عقل ومعرفة ... ما دام في أجل الإنسان تأخير
حتى إذا ما انقضت أيام مدته ... حار الطبيب وخانته العقاقير
وقد جمع كتباً كثيرة وجهات قل من جمع مثلها من أهل الكمالات ودرس بالمدرسة النورية وتمكنت قواعده في الرتبة العلية ثم ابتلى بمرض عضال وطال مرضه وتغير جوهر بدنه وعرضه فلم تنجع فيه الأدواء ولم ينجح فيه معالجة الأوداء
إن الطبيب بطبه ودوائه ... لا يستطيع دفاع مقدور أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبري مثله فيما مضى
هلك المداوى والمداوي والذي ... جلب الدواء وباعه ومن اشترى
ثم توفي في أواخر ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى محمد المعروف بالهريري الحلبي الكاتب الشاعر نزيل دمشق قلت في وصفه هو وإن كانت حلب مسقط رأسه فدمشق مدرج أنفاسه قدم إليها واختلط بأبنائها وغذي طبعه برقة مائها وهوائها وكان ممتع المجالسة حلو المناسبة والمجانسة وكتب الكثير بخطه وضبطه بضبطه لكن خطه صدا النواظر وقسوة الخواطر وله شعر ينسب إليه أكثره مغصوب ضمانه عليه وعندي أن شعره لو قيل له ارجع إلى أهلك لم يبق منه شيء ولا يحضرني منه إلا ما أنشده البديعي في كتابه ذكرى حبيب وذلك قوله معمياً باسم عدي
رقت حواشي نديم أنسي ... فراح يمشي بلا حواش
والشمس قد توجته لما ... أدارها وهو في انتعاش
وقد رأيت هذين البيتين في بعض المجاميع القديمة على هذا الأسلوب ومكتوب فوقهما معمى في عدي ولم يعزيا لأحد
رقت حواشي نديم أنسي ... فبات عندي بلا حواش
أدرت شمس الطلا عليه ... في جنح داج من غير واش
وكانت وفاته في سنة سبع وثلاثين وألف وقال أديب الزمان أحمد بن شاهين يرثيه بهذه الأبيات
رحم الله الهريري ... كان لا يألف غيري
كان لا ينكر حقي ... كان لا يكفر خيري
ثم لقاه نعيماً ... ووقاه كل ضير
إن شخصاً يكفر الحق ... لشخص دون عير
شاكر الناس لعبد ... يذكر الله بخير
ثم لما سار للجنة ... عنا أي سير
قال لي الهاتف أرخ ... ولقد مات الهريري
محمد المنجم الرومي رئيس المنجمين في الدولة الأحمدية وكان مشهوراً بالحذق والصنعة وله وقائع وأخبار غريبة مطربة وحذاقة يضرب بها المثل عند الروميين ومن حسن فطنته أنه قيل له في سنة وفاة السلطان أحمد نراك لم تتعرض لأمر وفاته فقال إني أشرت إلى ذلك في النسخة التي وضعت في الخزانة العامرة فلما نظر إليها رؤي في الحقيقة قد ذكر فوت السلطان وشدد الواو تمويهاً ووضع النقطة الواحدة بالأحمر وعجائبه في هذا الباب كثيرة قال ابن نوعي وكان في ابتداء أمره في صورة العوام ثم حصل علم النجوم ومهر فيه وصار موقت جامع الشهرزاده ثم صار رئيس المنجمين وكانت وفاته في سنة أربعين بعد الألف رحمه الله تعالى(3/113)
محمد المحبي المصري الملقب شمس الدين الحنفي شيخ الإسلام وأجل علماء الحنفية الكبار في المذهب والخلاف وأوحد أفراد الدهر في اللغة والعربية والحديث أخذ الفقه عن شيخ الإسلام والحنفية النور علي بن غانم المقدسي وعن الإمام الكبير السراج الحانوتي والحديث عن الرحلة أبي النحا سالم السنهوري وعلوم العربية عن الأستاذ الكبير أبي بكر الشنواني وغيره ولازم الإفادة والإقراء إلى حين انتقاله وأخذ عنه جمع من الأكابر العلماء منهم الشهاب أحمد الشوبري والحسن الشرنبلالي ويحيى الشهاوي من المصريين ومن الدمشقيين محمد بن تاج الدين المحاسني خطيب دمشق وكانت وفاته نهار الأربعاء عشري ذي القعدة سنة إحدى وأربعين بعد الألف ودفن بتربة المجاورين رحمه الله السيد محمد باقر الشهير بالدمادي الحسيني العجمي الأصبهاني رئيس العلماء ببلاد العجم بعد البهاء الحارثي ذكره السيد علي بن معصوم في السلافة فقال في حقه باقر العلم ونحريره والشاهد بفضله تقريره وتحريره إن عدت الفنون فهو منارها الذي يهدى به أو الآداب فهو مؤثلها الذي يتعلق بأهدابه أو الكرم فهو بحره المستعذب النهل والعلل أو الشيم فهو حميدها الذي يدب منه نسيم البرء في العلل أو السياسة فهو أميرها الذي تجم منه الأسود في الأجم أو الرياسة فهو كبيرها الذي هاب تسلطه شاه العجم وكان الشاه عباس أضمر له السوء مراراً وأمر له حيل غيلته إمراراً خوفاً من خروجه عليه وفرقاً من توجه القلوب إليه فحال ذو القوة والحول وأبى إلا أن يتم عليه المنة والطول ولم يزل موفور العز والجاه حتى دعاه داعي أجله فلباه ومن مصنفاته في الحكمة القبسيات والصراط المستقيم والحبل المتين وفي الفقه شارع النحاة وله حواش على الكافي والفقيه والصحيفة الكاملة وغير ذلك وبينه وبين البهاء العاملي مراسلات كثيرة أعرضت عنها لطولها وكانت وفاته في سنة إحدى وأربعين وألف بأصبهان محمد الشهير بغلامك البوسنوي قاضي القضاة بحلب العالم المشهور صاحب الحاشية على الجامي وله حاشية على الزهراوين وأخرى على شرح القطب للشمسية ومثلها على شرح المفتاح للسيد وكان عالماً متقشفاً وفيه عجب وكبر وسافر من حلب وهو مولى وأقام مقامه السيد محمد بن النقيب ولما وصل إلى أسكدار تألم منه مصطفى باشا السلاحدار خوفاً أن يبلغ خبر ظلم وكلائه في بلاد العرب فيحصل له ضرر فوبخه ثم سيره إلى الحصار وأمره بلزوم الخلوة ووجهت عنه حلب بعد أيام وشاع أنه أصيب بالنقرس وحكي أنه جاءه رسول من جانب السلاحدار المذكور ومعه بشارة بتوجيه قضاء قسطنطينية إليه فقال للرسول قل له
وجادت بوصل حيث لا ينفع الوصل
فلم تمض ثلاثة أيام إلا مات وكان وهو بحلب أقرأ حاشيته على الجامي وكتبت عنه واشتهرت بحلب وفيها يقول السيد أحمد بن النقيب
حواشي إمام العصر بكر عطارد ... محمد السامي على هام بهرام
صوارم أفكار إذا هزمتنها ... نبا كل هندي وكل حسام
وأبحر تحقيق إذا طم موجها ... فهيهات منا عاصم لعصام
وخمرة توفيق زكت فتسارعت ... إلى حانها أهل الفضائل بالجامي
وحكى لنا شيخنا العلامة أحمد بن محمد المهمنداري مفتي الشام أن صاحب الترجمة قال يوماً للنجم محمد الحلفاوي السيد أحمد بن النقيب يقول وهو غائب إنه أفضل منك فقال صدق وهو أكثر إحاطة مني وقال لابن النقيب مثل هذه المقالة في غيبة النجم فقال لاشك فيما يقول فإنه أستاذي والأستاذ على كل حال له رتبة الأفضلية قلت ومثل هذا ما يحكى أن التيمور قال يوماً للسعد إن السيد له معنا صحبة وهو نديم لنا ويركب مثل هذه الفرس المهزولة وذلك مسقط لنا موسه فقال له السعد السيد جبل من جبال العلم فليس بالعجب هزال دابة تحمله وقال للسيد السعد يركب مثل هذه الفرس العظيمة فكيف يسوغ له إظهار العظمة وهو من العلم بمكانة فقال إنه يريد إظهار نعمة الله عليه وكانت وفاة غلامك في سنة خمس وأربعين وألف والكاف في غلامك للتصغير في اللغة الفارسية كما ذكر في مصنفك وأمثاله(3/114)
محمد باشا سبط الوزير الأعظم رستم باشا الوزير الأعظم في عهد السلطان إبراهيم كان من الجلالة والمهابة في المحل الأسمى وفي رزانة العقل ومتانة الفكر في القنة الشما صار أولاً أمير علم ثم صار وزيراً في سلطنة السلطان مراد ثم صار محافظاً بمصر ثم أحد الوزراء السبعة ثم عينه السلطان إبراهيم لأخذ قلعة الأزق فسافر إليها أولاً وافتتحها فوجهت إليه نيابة الشام وورد دمشق في خامس عشر شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وألف وأكرم قاضي القضاي بدمشق المولى داود بن بايزيد وألبسه فروة من السمور وهو أول من ألبس قاضياً فروة ومنه بقيت عادة مستمرة في دمشق لكل كافل وقاض وكان المعتاد قبل ذلك أن يلبس القاضي يوم دخول الكافل خلعة وكان معتدلاً في حكومته غاية واتفق في زمنه أواخر شهر رمضان أنه وجد ثلاثة أنفار مقتولين بمدرسة الإقبالية قرب المدرسة الظاهرية فصرف جهده في التفتيش على القاتلين حتى وجدهم وثبت عليهم القتل فصلبهم على باب المدرسة المذكورة ثم جاءه ختم الوزارة العظمى وصدر عنه بدمشق تواجيه وكتب براآت وأوامر وكان قبل ذلك بشره الشيخ أبو بكر قعود المار ذكره بمجيء الختم إليه حتى أرسل إليه ليلة الوصول يستخيره فأجاب أنه وصل إلى حدود دمشق واتفق لبعض المهرة بالفلك من أهل دمشق أنه استخرج مكثه بدمشق وأنه يكون ستة وتسعين يوماً ووافق ذلك إشارة الشيخ الأكبر ابن عربي قدس الله سره في الجفر فلما خرج من دمشق كان بقي من المدة ستة أيام فكأنه اعتبر دخوله في أول حدود دمشق وهو حسيه وخروجه منه فيصح بذلك الحساب ثم توجه من دمشق في ثاني وعشري ذي الحجة وبقي وزيراً ثلاث سنوات ثم عزل في ذي الحجة سنة خمس وخمسين وألف وعينه السلطان سرداراً على العساكر الموجهة إلى جزيرة كريت فمات بها في سنة ست وخمسين وألف قلت وهذا الوزير يعرف بجوان قبوجي باشي وذريته الآن باقون وله أوقاف وتعلقات تستغرق الحد وهم نظراء في وسع الدائرة لأولاد إبراهيم خان المشهور والله أعلم محمد الشهير بالقحوفي الدمشقي نادرة الزمان في حسن البداهة وحلاوة التعبير وكان مشاركاً ببعض الفنون والغالب عليه التصوف ومعرفة اصطلاح الصوفية وحل عباراتهم وله رواية واسعة في الأخبار والأشعار وكان رؤساء الشام يميلون إليه جداً ويعدونه ريحانة الندماء ويعاشر منهم من تطيب له حركاته وتروق كلماته وتحدث عن مجهولاته معلوماته وكان كثير النوادر واللطائف ومما يعزى إليه منها أنه مر به أحد الأعيان وكان ناظراً على وقف الجامع الأموي فدعا له صاحب الترجمة وأحسن الثناء عليه فقال له ادع الله لك بأن تنحل وظيفة من وظائف الجامع الأموي حتى أوجهها إليك فقال أليس جيبك أقرب من ملك الموت وكان شيخنا العلامة إبراهيم بن منصور الفتال يحسن الثناء عليه ويقول أنه كان أعجوبة وقته وقد مضى عمره كله في بلهنية عيش وطيب محادثات ومفاكهات ولم يبق أحد ممن يتوسم فيه العرفان إلا خالطه وامتزج به وكانت وفاته في سنة سبع وخمسين وألف السيد محمد الشهير بالتقوي الحلبي الفاضل الأديب الحكيم البارع ذكره البديعي وقال فيه حديث مجده قديم يغني عن الكاس والنديم ودر كلمه النظيم جار على أسلوب الحكيم وقد عاد في لجج دراية الأفلاك ووقف على ساحل نهاية الإدراك وابتدع من الأشياء العجاب ما لم يبتدعه قبله ابن داب وله خط كأنه در تزينه ألفاظه الغر ثم أنشد له قوله
قد جدد الشوق الشديد خيالكم ... بجوارحي وضمائري وسرائري
فإذا نظرت إلى الوجود رأيتكم ... في كل موجود عيان الخاطر
وقوله
قد قسم الحب جسمي في محبتكم ... حتى تجزا بحيث الجسم ينقسم
وما تصورت موجوداً ومنعدماً ... إلا خيالكم الموجود والعدم
وقوله من قصيدة طويلة مدح بها الوزير نصوح باشا ومطلعها
حياك سرحة دارة الآرام ... وحباك ديمة مزنة وغمام
إلى أن قال فيها
ذاك النصوح أبو الوزارة من رقى ... فلك العلى وعلا على بهرام
ومنها
تجري الأمور بوفق ما يختاره ... ويطيعه العاصي بكل مرام
فكأنما الأقدار طوع يمينه ... بعد المهيمن في قضا الأحكام
قطب تدور عليه دولة أحمد ... ملك الدنا بالحل والإبرام(3/115)
هابته أنفاس النفوس بأسرها ... في الناس بعد العالم العلام
ولبأس شدته الأسود تشردت ... وتسترت في الغاب والآجام
منها
يلقاك بالبشر الذي من نشره ... ريح المنى يسري بطيب بشام
بخلائق تكسو الرياض خلائقاً ... فتضيع ريا مندل وخزام
ويريك من رضوان عدل جنة ... فيها لحرب البغي نار ضرام
منها
يا أيها الطود العظيم وصاحب ... الطول الجسيم وجوشن الإسلام
ألبست من حلل الوزارة خلعة ... قنع الألى منها بطيف منام
منها
ما دار في فلك المدير مداره ... إلا لنصرك في ألد خصام
إلى أن قال في آخرها
كتبت مدائحك الليالي أشطراً ... تبقى بقيت على مدى الأيام
وقلت أنا الفقير في ترجمته حكيم أخذ حظه من الحكمة فنطق بها والحكمة حظ النفس الناطقة فما سرى ذهنه في استقصاء غرض إلا وكانت الصحة له موافقة فلو عالج نسيم الصبا لما اعتل في سحره والجفن المريض لزانه وزاد في حوره
ولو أنه طب الزمان بعلمه ... لبراه من داء الجهالة بالعلم
حكى لي المرحوم السيد عبد الله الحجازي قال رأيته وقد ملك كامل الصناعة وبلغ الغرض في البلاغة والبراعة وأملي ما لا يسع واعتدلت معه الطبائع الأربع وفصل الموجز بفصيح العبارات وعلم الأسباب منها والعلامات فأويت منه إلى فاضل جمع شمل الفضل بعد شتاته ورد في جد الأدب روح حياته وأخذت عنه جملة من فنونه وتمتعت حيناً بمصونه ومخزونه وكان على أسلوب الحكيم ومشرب النديم ولهذا كثر القول في اعتقاده حتى صرح كثير بإلحاده وقد وقفت له على قصيدة أثبت منها هذا القدر ومستهلها قوله
سرت والليل محلول الوشاح ... ونسر الجو مبلول الجناح
وعقد الزهر منتظم الدراري ... كثغر البيض يبسم عن أقاح
وزاهي الروض أسفر عن زهور ... بها ظمأ إلى ماء الصباح
كأن كواكب الظلماء روم ... على دهم تهب إلى الكفاح
إذا انعكست أشعتها تردت ... على صفحات غدران البطاح
تحاول ستر مسراها بوهن ... وقد أرجت برياها النواحي
فواعجباً أتخفى وهي بدر ... وشمس في الحظائر والضواحي
أما علمت عبير المسك منها ... ينم بها إلى واش ولاح
مهفهفة يغار البدر منها ... ويخجل قدها هيف الرماح
تمازج حبها بدمي وروحي ... مزاج الراح بالماء القراح
فأصبح في الملا طبعي وخلقي ... وما في الطبع عنه من براح
كأن الله لم يخلق فؤادي ... لغير الوجد بالخود الرداح
أحن إلى هواها وهو حتفي ... كما حن السقيم إلى الصلاح
وأصبو والصبابة برحتني ... وأنحلت الجوارح بالبراح
فلولا الطمر يمسك من خيالي ... لطار من النحول مع الرياح
أبث لطرفها شكوى فؤادي ... وهل يشكو الجريح إلى السلاح
وأطمع أن يزايلني هواها ... وهل حذر من المقدور ماح
فلا تأوي لكسرة ناظريها ... فكم ألوت بألباب صحاح
أفق يا حب ليس الحب سهلاً ... فكم جد تولد من مزاح
رويدك كم تبيت تئن وجداً ... كما أن الطعين من الجراح
وقائلة أرى نجماً تبدى ... بليل عوارض كالصبح ضاح
أبعد الشيب تمزح بالتصابي ... وتمرح في برود الافتضاح
فما ماضي الشبيبة مسترد ... ولا الخسران يسمح بالرباح
فدع حب الغواني فهو غي ... وتفنيد يحيد عن الفلاح
وكانت وفاته في سنة إحدى وستين وألف باسحقلي قريب من قونيه وهو راجع من قسطنطينية(3/116)
محمد المعروف بابن النقيب البيروتي نزيل دمياط الشافعي العالم الكبير والعلم النحرير كان من كبار العلماء الحريين بالتفضيل بعيد الصيت في الجملة والتفصيل دخل دمشق أول مرة وأخذ بها عن الشمس الميداني وأضرابه وأجازه مشايخه بالإفتاء والتدريس ثم رحل إلى مصر وأخذ بها عن الور الزيادي والشيخ علي الحلبي وتمكن في العلوم حق التمكن ودرس بجامع الأزهر وأخذ عنه الجمع الكثير منهم الشيخ سلطان المزاحي وهو أجل من روي عنه والشيخ سليمان الشرنوبي والشيخ علي الهيدبي ومن المصريين ومن الدمشقيين الشيخ عبد القادر الصفوري وحكى الهيدبي المذكور أنه كان يدرس ولا ينظر في كتاب ويقول هذه طريقتنا وطريقة مشايخنا وقال الشرنوبي أنه كان يدرس في أحد وعشرين علماً ولا ينظر في الكراس وأقام في الأزهر يدرس أربعين عاماً وتلامذته لا تحصى قال ولم يكن له درس يعرف فيه لكن كل درس حضر فيه بصير هو شيخه ولا يقدر ذلك المدرس يبدي ولا يعبد في حضرته وكان عالماً طبيباً حاذقاً ربع القامة نحيف الجسم مهاباً يسطع النور من وجهه وكان كل من يراه يحبه ثم رحل إلى دمياط ولما وردها لم يعرف بفضله أحد وكان زيه غير زي العلماء وكان يحمل طبق العجين على رأسه إلى الفرن ويأخذ المقطف بيده يقضي مصالحه من السوق ويرجع إلى بيته أو إلى المسجد واستمر على ذلك سنة ونصف ثم ورد دمياط الشيخ محمد القطب الصيداوي وأضافه بعض العلماء فذهب هو وصاحب الترجمة إلى ذلك العالم فرأى صاحب الترجمة قبل يده فقال له كيف هذا الحال فقال له عرفت فالزم فسأله العالم عنه فقال لم يأذن بإعلام أحد بحاله أما سمعت قوله عرفت فالزم وسافر الشيخ محمد القطب بعد ذلك بأيام قلائل وفي ذلك العهد كان الشيخ محمد السبيني يقرىء في تفسير البيضاوي في جامع البحر وكان صاحب الترجمة يأتي إلى وراء سارية بعيدة عن مجلس السبيني ويجلس وحده حتى لا يكاد يراه أحد فبعد ثلاث سنين سافر الشيخ شمس الدين أخو السبيني المذكور إلى قسطنطينية ورجع إلى صيدا ونزل عند الشيخ محمد القطب فأعلمه بفضيلة الشيخ صاحب الترجمة وأخبره أنه يجلس بحذار السارية الفلانية ووصفه له فلما رجع الشيخ شمس الدين إلى دمياط وقعد في مكان التدريس بحذاء أخيه المدرس وإذا بالشيخ المترجم أقبل وقعد وراء تلك السارية فأخبر الشيخ شمس الدين أخاه به وذكر شهرته فألجمه الله تعالى عن الكلام ولم يقدر على النطق فقام هو وأخوه إلى الشيخ وسلما عليه وأجلساه في مكان التدريس فشهد للسبيني بالفضل وأعلمه أنه في اليوم الفلاني من الشهر الفلاني تكلم في تفسير الآية الفلانية في سورة كذا وكذا وكان الصواب كذا وكذا ولزم التدريس من ذلك اليوم إلى أن مات رحمه الله تعالى وكمل في مجلسه مائة وثلاثون طالباً ولم ينظر في كراس قط حالة التدريس ومن مؤلفاته حاشية على المنهاج والمحلى سماها فتح التجلي وكانت وفاته بدمياط في سنة أربع وستين بعد الألف ولما توفي لم يبق في دمياط كبير ولا صغير إلا حضر جنازته ودفن في سيدي فتح بين الجناحين وقبره مشهور يزار ويتبرك به محمد الشهير بملا حلبي الكردي قاضي القضاة بالشام محقق الزمان وأستاذ الأساتذة ورأس الجهابذة أخذ ببلاده عن الجلة من المحققين ثم دخل الروم فلأت شهرته أرجاها وقصرت عليه مهرة الطلاب رجاها واشتغل عليه جل من نبل بعد السبعين وألف من علماء الروم ورؤساء صدورها وأجلهم أستاذي المرحوم شيخ محمد عزتي قاضي العسكر والمولى صالح الشهير بإسحق زاده المقدم ذكرهما ثم درس بمدارس الطريق المعتبرة عندهم وألف نفائس التأليف وقد وقفت له على كتاب سماه الأنموذج أحسب أنه ذكر فيه سبعة مباحث من سبعة علوم أبان فيها عن تحقيق باهر وهذه التسمية مسبوقة للشمس الفنري فإنه ألف كتاباً سماه الأنموذج ذكر فيه مائة وعشرين علماً ثم تلاه الجلال الدواني في تسميته كتابه ذكر فيه عشرة مباحث من عشرة علوم ولصاحب الترجمة تأليف ورسائل غير ما ذكر وله في التفسير ومتعلقاته باع طويل ثم ولي قضاء الشام بعد أستاذي عزتي المذكور في غرة رجب سنة خمس وستين وألف ومات بها في سنة ست وستين وألف ودفن بمدفن السنانية(3/117)
محمد أمين المعروف باللاري الأستاذ الكبير الصديقي الشافعي البصير أعظم المحققين على الإطلاق وأجل أهل عصره بالاتفاق كان ممن طبعه الله تعالى على الفضل والذكا وامتزج بالمعارف الإلهية فأشرقت في باطنه إشراق ذكا وكان في التحقيق غاية وفي حل المشكلات نهاية حدثني بعض علماء دمشق ناقلاً عن العارف بالله تعالى الأستاذ أيوب بن أحمد الخلوتي أنه كان يقول في حقه لو أدركه السيد الشريف لما وسعه إلا التلمذ له ومن شهد له خزيمة فحسبه وحكى بعض المغاربة الواردين إلى دمشق وكان ممن دخل بلاد العجم والهند ولار أن اللاري صاحب الترجمة من أولاد الملوك وكان أبوه سلطان اللار ولما تغلب شاه العجم على تلك الديار خرج محمد أمين منها إلى بلاد آل عثمان فدخل بغداد وحج منها ثم رجع إلى الموصل وأقام بها مدة ثم ورد حلب واستوطنها مدة وانتفع به فضلاؤها منهم السيد عبد الله الحجازي ثم قدم دمشق فحل منها محل الإنسان من العين وخدمته أفاضلها وبالغوا في تعظيمه ورعوا حق مقداره بحسب إمكانهم وما أحسب فيما سمعت أن أحداً روعي حقه بها مثله وتلمذ له أكثر الفضلاء وأخذوا عنه منهم سيدنا أبو الصفاء محمد بن أيوب والشيخ عبد القادر بن عبد الهادي وقد حدثني هذان الفاضلان عن فضائله وعلومه ومكاشفاته الباهرة وأحواله الظاهرة مما يحير الألباب وبحكم بأنه أوتي من المعارف لب اللباب وقال أنه بلغ ما بلغ وسنه لم يجاوز الثلاثين بكثير والحاصل أنه مصداق قول بعضهم هو بصير ماله في جميع من رأى ورؤي نظير فسبحان من أطفأ نور بصره وجعل قلبه مشكاة نور فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ومما حكى لي مولانا أبو الصفاء المذكور من أحواله أنه زار حضرة سيدي الشيخ الأكبر قدس الله روحه قال فركب وتوجهنا معه معشر التلامذة مشاة في خدمته وكنا نزيد على خمسين نفراً ولما رجعنا جئنا المحل المعروف بالبحصة فوقف ثمة وقال أشم هنا رائحة زكية وأظن أن في هذا المكان أحداً من كبار الأولياء قال فعجبنا من ذلك ثم مشى فلما وصلنا إلى المزار المعروف في الزقاق الضيق بين البحصة والحسودية وهو الذي يألفه الشيخ الولي البركة حسين بن فرفره رأينا الشيخ حسين المذكور واقفاً على الباب ثم نظرنا إلى خلفنا فرأينا الأستاذ ترجل عن الفرس وهو يقول بأعلى صوته هذا صاحب الرائحة الحمد لله على الاجتماع به فاستقبله الشيخ حسين وأدخله إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه وجرت بينهما مخاطبة تأخذ بمجامع القلوب ثم وضع الشيخ حسين قدام الأستاذ قصعة فيها لبن وخبز فأكل وأكلنا معه ثم أمرنا الأستاذ بالخروج فخرجنا وبقينا نسمع كلامهما فكان الأستاذ يسأله وهو يجيبه فلا نفهم ما يقولان إلا قول الأستاذ حيناً هذا هو الجواب الذي لم أسمعه إلا الآن ثم توادعا ببكاء وخضوع وانصرفنا وله من الأمور الخارقة ما هو أغرب من هذا وأعجب وكان إذا تلمذ له أحد أمده الله تعالى بإمداداته العظيمة وقد شاهدنا ذلك في كثير من المنتمين إليه أغدق الله تعالى عليهم الخيرات ووفر لهم دواعي المعلومات وبالجملة فهو بركة الزمان ونتيجة نتائج الأوان وكانت وفاته في دمشق في سنة ست وستين وألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى(3/118)
محمد باشا الكوبري الوزير الأعظم في عهد السلطان محمد بن السلطان إبراهيم أشهر من نار على علم كان من أمره أنه ولي حكومة الشام في سنة ست وخمسين وألف ثم ولي حكومة القدس ثم طرابلس الشام ولم يزل خامل الذكر مهضوم الجناب إلا أنه له حسن تدبير وحزماً في الأمور وكان أمر الملك من عهد أن ولي السلطان محمد المذكور السلطنة قد اختل وتهاون رؤساء الدولة لصغر السلطان في نظم الأمور على نسق يرضي الجمهور فكثرت الأغراض وبدلت الجواهر بالإعراض وتغيرت الدول وذهبت الناس الأول وقامت الفتن على ساق وانتصب الخلاف وارتفع الوفاق وتقوت ضعاف الدولة وأظهروا العتو والصولة فكانوا في آرائهم ناظرين إلى ورائهم وبهذا السبب كان يولي الوزير أياماً فلا يرى هدواً ولا راحة ولا إن كان مناماً ثم يقتل أو يعزل وينهب أو يسلب إلى أن بغت طائفة من العبيد اللئام الذين هم داخل حرم السلطان من الخدام وهجموا على جدة السلطان صاحب الخيرات فقتلوها ليلاً ولم يخشو إثماً ولا ويلاً ولم تزل نار تلك الفتن تتقد والجمعيات السوء في كل حين تنعقد إلى أن وقع الاختيار على صاحب الترجمة أن يكون وزيراً ومدبراً للملك ومشيراً هنالك انقلب العيان وأخذ حده السيف والسنان ومن هنا أشرع في الترجمة فأقول أخبرني من أثق به أنه لما استصعب الأمر في لم شعث الدولة جمع إليه السلطان المقربين من أهل الحرم السلطاني وفيهم علي آغا الطويل المشهور وتفاوضوا فيمن يصلح للوزارة العظمى ويحسم مادة التفرق فكل منهم أشار إلى واحد حتى انتهت النوبة إلى علي آغا المذكور فأشار إلى أنه لا يليق بالوزارة إلا صاحب الترجمة فسخروا منه على ما يعرفون من انحطاط قدره فقال أنا أقول هذا عن اختبار وممارسة والأمر مأخوذ على التراخي فيمكن أن يكون وزيراً أياماً ثم إذا لم يحكم الأمر عزل وليس عزله بالصعب على الدولة فاتفق الرأي عليه ثم في ثاني يوم ناداه السلطان وسلم إليه الختم وأوصاه بما يلزم التبصر فيه فكان أول ما ابتدأ فيه من الأمور نفي علي آغا الذي كان سبباً لتوليته لجزيرة قبرس وإبعاده عن الدولة وقال من قدر على التولية قدر على العزل ثم أطلق القتل في أركان الدولة واحداً بعد واحد وقام بأعباء السلطنة وأخمد بحسن تدبيره نائرة الفتن وأضعف العسكر بالأسفار وأكثر من محو أصحاب الكلمة وفرق شملهم وأبلغ ما يحكى عنه في خصوص القتل أنه كان يواخي وزيراً أحسب أن اسمه خسرو باشا وكان بينهما مواثيق ومودة زائدة يعرفها الناس فاستحضره يوماً إليه وقال له أريد قتلك اليوم فقال له لم تقتلني ولم يصدر مني ما يوجب القتل وأنا على عهدك وميثاقك فماذا يحصل من قتلي فقال له إن في قتلك إرهاباً عظيماً للقوم فإنهم يقولون الوزير قتل أقرب الناس إليه فهو لا يتوقف في أمر القتل فيلقي الرعب في قلوبهم فأبرم عليه في ترك ذلك فلم يفعل وقتله في الحال قلت وقد وقع مثل هذا كثيراً وأعجبه ما وقع في زماننا القريب للإمام محمد بن أحمد بن الحسن سلطان اليمن أنه قتل ابنه إرهاباً لعسكره وقال لهم ما فرطت في ابني ليعلم الناس أني لا أعرف إلا القتل ولا أتوقف فيه بحال فملك البلاد وقهر رعيته بهذا الصنيع الفظيع وكذلك أخاف صاحب الترجمة الناس بفعله هذا ولزم كل أحد منهم في زمانه طوره وسالمه الزمان وانقاد له فيما أبرمه وعظمت دولته وجبيت إليه ذخائر الدنيا ثم إن السلطان محمد سافر إلى أدرنة في سنة سبع وستين وجهز صاحب الترجمة إلى قتال الكفار فسافر وافتتح قلعة ينوه وبعض قلاع أخر وخرج في ذلك الأثناء على الدولة حسن باشا محافظ حلب وتبعه ابن الطيار كافل الشام والوزير كنعان وانضاف إليهم من العسكر جمع عظيم وكان خروجهم خوفاً من صاحب الترجمة وحسداً له فصرف وجه همته إلى الانتقام منهم فقتلوا على يد مرتضى باشا كما أسلفته في ترجمة حسن باشا وأوقع القتل فيمن كان تبعهم من السكان وغيرهم على يد نواب البلاد فقتل منهم خلق كثير وتفرقوا أيدي سبا وكان فرط من العسكر الشامي الأمر في انحيازتهم إلى محافظة دمشق فجهز شرذمة نحو الثلثمائة من جند السلطان المعروفين بالقبوقولية وبعث بهم فوصلوا إلى دمشق واستقروا بقلعتها وأخذوا غالب دورها وتسلموا أبواب المدينة وباب المحكمة والحسبة وسوق الخيل وميزان الحرير وبقية الخدم التي كانت مخصوصة بعسكر الشام وبذلك انحط عسكر الشام بعض(3/119)
الانحطاط بما توارد عليهم من الوهم ثم أخذ كبراءهم بغتة فأرسل أمراً بقتلهم فقتل منهم مقتلة عظيمة وقد قدمنا قصة قتلهم في ترجمة عبد السلام بن عبد النبي فلا نطيل بإعادتها ثم توجه السلطان إلى بروسه وصاحب الترجمة معه وأقاما بها أياماً ثم رجعا إلى مقر السلطنة وقد تمهدت البلاد وتأطدت أحوال الملك وأمنت الغوائل واطمأنت الناس وتفرغ الوزير صاحب الترجمة لإجراء الخيرات فعمر الخان المعروف به في طريق قسطنطينية بين اسكي شهر وازنيق والخان والعمارة العظيمة بقصبة الثغور والعمارات الكثيرة في إدلب وفي بلاد روم ايلي مما صار تعلقاً عظيماً وجواراً جسيماً ثم وقف على جهات وقد وقفت على صورة الوقفية بإنشاء المولى أنسي وذكرت ديباجتها في ترجمته فارجع إليها وكانت وفاة صاحب الترجمة في سنة اثنتين وسبعين وألف ودفن بالتربة التي عمرهاط بما توارد عليهم من الوهم ثم أخذ كبراءهم بغتة فأرسل أمراً بقتلهم فقتل منهم مقتلة عظيمة وقد قدمنا قصة قتلهم في ترجمة عبد السلام بن عبد النبي فلا نطيل بإعادتها ثم توجه السلطان إلى بروسه وصاحب الترجمة معه وأقاما بها أياماً ثم رجعا إلى مقر السلطنة وقد تمهدت البلاد وتأطدت أحوال الملك وأمنت الغوائل واطمأنت الناس وتفرغ الوزير صاحب الترجمة لإجراء الخيرات فعمر الخان المعروف به في طريق قسطنطينية بين اسكي شهر وازنيق والخان والعمارة العظيمة بقصبة الثغور والعمارات الكثيرة في إدلب وفي بلاد روم ايلي مما صار تعلقاً عظيماً وجواراً جسيماً ثم وقف على جهات وقد وقفت على صورة الوقفية بإنشاء المولى أنسي وذكرت ديباجتها في ترجمته فارجع إليها وكانت وفاة صاحب الترجمة في سنة اثنتين وسبعين وألف ودفن بالتربة التي عمرها محمد الشهير بالملغروي قاضي الحرمين أحد موالي الروم المشهورين بالعلم والتحقيق وكان له في التفسير اليد الطولى وكان في الصلاح والعبادة على جانب عظيم نير الوجه نقي الشيبة عليه مهابة العلم والتقوى رأيته بدمشق ولم أجتمع به وذكره شيخنا العلامة الخياري في رحلته وقال في ترجمته تولى قضاء المدينة مدة أربعة أشهر وأيام مبدؤها غرة المحرم سنة خمس وسبعين وألف ثم نقل منها إلى قضاء مكة المشرفة وكان مقيم قسطاس الشريعة ومديم العدل فإذا ناداه لباه مطيعه رفع منازل العلم بالبلدين المحترمين وأقام شعائره وشراعه وناهيك بهذين درس تفسير القاضي البيضاوي بالروضة الشريفة بين القبر والمنبر فأجاد وأفاد وكان درسه أعجب درس قرأه الموالي أمثاله بالمدينة وكان يحضره الجمع الكثير من الفضلاء والجم الغفير من النبلاء قالا لازمته مدة قراءته فتحليت بفرائده ولاحت لي مشرقة في سلك الإفادة جواهر فوائده فحضرته من أول سورة عم إلى آخر سورة الطارق ومن أعجب الاتفاق أنه جاءه تولية قضاء مكة مع خبر عزله من المدينة فانتقل من حرم إلى حرم ولله در القائل وكأنه نطق بلسان حال المشار إليه فقال
فارقت طيبة مشغوفاً بطيبتها ... وجئت مكة في وجد وفي ألم
لكن سررت بأني عند فرقتها ... ما سرت من حرم إلا إلى حرم
واتفق حال مجيء الرسول بالخبر أنه كان بالروضة الشريفة في مجلس الدرس وهو مشتغل بالتحقيق وكان الدرس ذلك اليوم في سورة التطفيف فوقف منها على قوله تعالى ختامه مسك فلما قرئت المراسيم بتوليته مكة وعزله عن المدينة خاطبته بقولي ختامه مسك فأعجب بذلك غاية الإعجاب وأظهر أسفه على المدينة ثم بين ما تهيأ للبروز إلى مكة تمم قراءته إلى ختام سورة الطارق قال وكانت وفاته بقسنطينية في العشر الأول من صفر سنة إحدى وثمانين وألف والملغروي نسبة إلى ملغره بفتح الميم وسكون اللام وفتح الغين المعجمة بعدها راء ثم هاء معرب مكفره بالميم والكاف التي تقرأ نوناً في اصطلاح التركية وهي بلدة بالقرب من تكر طاغي بينهما وبين أدرنه مرحلتان(3/120)
السيد محمد غازي الخلوتي الأستاذ العارف بالله تعالى خليفة الشيخ إخلاص المقدم ذكره بحلب وكان من خلص عباد الله تعالى كثير التعبد والمجاهدة ورد دمشق مرتين وفي كلتيهما ألقى الله تعالى محبته في قلوب الناس وأقبلوا بكليتهم عليه وأخذ عنه الطريق جل أهل دمشق وكانوا يزدحمون عليه لأخذ الطريق فلا يمكنه المبايعة باليد فيمسك بيده شاشاً طويلاً ويرسله إلى خارج الحلقة المزدحمة عليه فيقبض عليه الناس ويبايعهم وكنت أنا الفقير ممن جدد عليه العهد وكان نوراني الشكل أخذت مهابة الصلاح بجميع أطرافه وكان سافر في قدمته الأولى إلى القدس وأخذ عنه بها جمع عظيم أيضاً ولم نر في عصرنا من مشايخ الطرق من أخذ عنه الناس مقدار هذا الشيخ وبالجملة فهو مسك الختام لحزب الخلوتية في جلالة الشأن والحال والقال وكانت وفاته في سنة إحدى وثمانين وألف بحلب رحمه الله تعالى محمد الإحسائي الحنفي نزيل بغداد كان من العلماء المحققين قرأ ببلاده على الشيخ إبراهيم الإحسائي وأخذ ببغداد عن مفتيها الشيخ متلج وله مؤلفات منها حاشية على شرح الألفية للجلال السيوطي وكتاب في التعريفات وكانت وفاته ببغداد في سنة ثلاث وثمانين وألف محمد الديري القدسي ينتسب إلى السيد بدر الدين ساكن وادي النسور كان مشهوراً في القدس بالصلاح والزهادة حافظاً للقرآن مجوداً عابداً تقياً ناسكاً له تهجدات كان لا ينام في النصف الأخير من الليل كثير البكاء من خشية الله تعالى وكانت وفاته في سنة سبع وثمانين وألف محمد قاضي القضاة كان فاضلاً صاحب جاه وحشمة وفيه سخاء ومروءة إلا أنه كان يغلب عليه الطمع ولي قضاء القدس والمدينة ثم ولي الشام في سنة ثمانين وألف وعزل عنها فولي بعدها قضاء أدرنة ولما دخلت أدرنه كان قاضياً بها فاجتمعت به مرات وكان له مباحثة جيدة في التفسير ناقشني في عبارات سطرت منها أشياء وكان نهض به الحظ في أثناء قضائه بأدرنة لإقبال الوزير الفاضل عليه ووجهت إليه رتبة قضاء قسطنطينية ثم عزل ولم يطل به العمر لاستيفاء بعض أمانيه وكانت وفاته بقسطنطينية في سنة سبع وثمانين وألف ودفن داخل سور قسطنطينية بالمسجد المعروف بقوغه جي دده بالقرب من حمام السلطان سليم محمد المتلول الزيلعي العقيلي الأستاذ العارف بالله تعالى الولي الصالح المجمع على جلالته وولايته ولد بجازان في نيف وثلاثين وألف وبها نشأ وحفظ القرآن وقرأ ما يكفيه لمعاشه ومعاده وكان من أحباء الله تعالى وخواص أوليائه المقربين كبير الحال قوي المقال مؤثراً للخمول ويأبى الله إلا اشتهاره عظيم الهيبة كثير السكينة إذا رآه من لم يعرفه تحقق ولايته لطيف الطباع متحملاً للأذى لا تكاد تسمع منه كلمة تغيظ وكان سيفاً مسلولاً إذا ألجىء إلى إظهار شيء من الكرامات أتى بالعجب العجاب منها ولذلك كانت تهابه أمراء البلدان التي يدخلها ولا يستطيعون أخذ شيء منه من المكوس على جاري عادتهم وكان يتستر بالرياسة في السفن واتفق له كثيراً أنه يخرج بحمول البز الهندية من الفرضة فيراها المكاسون حبوباً ويكون قد أعطاه أصحابها عليها شيئاً على أن يخرجها لهم من غير مكس وله من هذا القبيل أشياء كثيرة وكانت وفاته وهو متوجه بعد الحج إلى اليمن في سفينة في سفر سنة ست وتسعين وألف ودفن بالقنفدة رحمه الله تعالى(3/121)
محمد الشهير بالأنكوري شيخ الإسلام وعالم الروم وفقيهها وصدر الدولة ووجيهها كان كبير الشأن متصلباً في أحكامه مؤيداً في اتقان إجراء الحق وأحكامه فقيهاً مطلعاً على النقول والتصحيحات منقحاً لما تشعب من الأقوال والتخريجات وبالجملة فلم يكن أفقه منه في العصر الأخير ولا أحكم من رأيه في التقرير والتحرير وكان يغلب عليه الصمت والسكون لكنه إذا تحرك جاد جود الغيث الهتون لازم من شيخ الإسلام يحيى بن زكريا ثم درس بمدارس قسطنطينية وصار أمين الفتوى في زمن شيخ الإسلام محمد بن عبد الحليم البورسوي واشتهر بالعلم والفقه ثم ولي قضاء ينكي شهر ثم قضاء مصر ثم قضاء قسطنطينية ثم قضاء العسكر بأناطولي وكان المفتي شيخ الإسلام يحيى المنقاري حصل له علة في يده منعته من الكتابة فاستناب صاحب الترجمة في الكتابة على الفتاوي فاستمر مدة يكتب على الفتاوي إلى أن عزل المنقاري عن الفتوى ووجهت لقاضي العسكر بروم ايلي شيخ الإسلام علي فوجه قضاء روم ايلي لصاحب الترجمة فأقام أربع سنوات قاضياً بالعسكر ثم لما سافر السلطان محمد من أدرنه إلى قسطنطينية في سنة سبع وثمانين وألف عزل في غرة جمادى الأولى من هذه السنة وأعطى قضاء بلدة أنكورية على وجه التأبيد فأقام بداره مشتغلاً بالتحرير وكتب على تنوير الأبصار شرحاً نفيساً أبان فيه فضل باهر واطلاع تام وانتقد على التمرتاشي انتقادات أكثرها مسلمة لا مجال للخدش فيها وقد حضرته مرة وهو يقرأ فيه ببستانه المعروف به بقنليجه في صحبة صاحبنا الفاضل عبد الباقي بن أحمد السمان وجماعة من فضلاء المدرسين ثم أعيد إلى قضاء العسكر بروم إيلي ولما قتل الوزير مصطفى باشا واختلف أمر الدولة في العزل والتولية طلب لمشيخة الإسلام فوجهت إليه بعد شيخ الإسلام علي ولم تطل مدته فيها فتوفي وكانت وفاته في أواخر ذي الحجة سنة ثمان وتسعين وألف عن نحو سبعين سنة رحمه الله تعالى محفوظ بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن محمد بن إبراهيم التمرتاشي الغزي الفقيه الحنفي بن الشيخ الإمام صاحب التنوير العالم كان في الفضل سامي الهضبة بعيد الغور وتفقه بوالده ثم رحل إلى القاهرة فأخذ بها عن شيخ الحنفية النور علي ابن غانم المقدسي وعن الشيخ محمد بن محب الدين الشهير بابن الذئب وبابن المحب الحنفي وأخذ النحو عن العلامة أبي بكر الشنواني ورجع إلى بلده وأفاد وانتفع به جماعة منهم أخوه الشيخ صالح المقدم ذكره وكان ينظم الشعر فمن شعره ما كتبه إلى الشيخ محمد بن عبد النبي النويري معاتباً لأمر حصل من أخيه الشيخ صالح المذكور فقال
أخي إن هذا العتب منك طويل ... وشمس وجودي بالبعاد أفول
وودك في وسط الفؤاد غرسته ... وحاشاي يوماً أن يقال ملول
ولسنا نقيس الغير يوماً بذاتكم ... فليس سواء عالم وجهول
فإنك ممن حاز فضلاً وعفة ... وقدركم بين الأنام جليل
وأصبحت في فن الفصاحة مفرداً ... وليس لكم بين الأنام مثيل
فيا شاعر الدنيا ويا خير فاضل ... ويا من له فضل علي جزيل
لئن كان منا صار ما يوجب القلى ... فإنك كريم والكريم يقبل
وكن واثقاً بي أنني بك واثق ... وقول اللواحي والعذول فضول
ووالله سعيي في الصاء محبة ... إليك وإني للعتاب حمول
فلا زلت في عز منيع ورفعة ... مدى الدهر من يشنيك فهو ذليل
وإن دمت في صد وهجر وجفوة ... تمثلت بيتاً أنشدته فحول
خليلي ما في دهرنا من معاشر ... صديق وإخوان الصفاء قليل
ومحفوظ أبدى ذا النظام وعلمه ... بمنظومكم ما إن إليه سبيل
فأجابه النويري بقوله
أتاني نظام فاق دار به يدا ... بديع معان هذبته عقول
تضمنه عتباً حلا لي بيانه ... تمنيت أن العتب فيه يطول
وحقك يا مولاي ما كنت بالذي ... له فكرة فيها القلاء يجول
وقلبي بقيد الود منك مقيد ... ولم يبد للسلوان عنه سبيل(3/122)
سقيت كؤس الموت إن ملت في الهوى ... وإن كنت عن عهدي القديم أحول
فأنتم مني عيني وبهجة ناظري ... على فضلكم دون الأنام أعول
وبعدي عنكم ليس للصد والقلى ... ولكن لأمر صار فهو دليل
فوالله ذاك الأمر أسهر مقلتي ... وأزعجني الجسم منه نحيل
رميت من الدهر المغر بنكبة ... خصصت بها والدهر صاح يميل
فصبراً على ما نالني من أحبتي ... عساهم يجودوا بالرضا ويقيلوا
بحقك يا مولاي كن عاذري فقد ... وهى الجسم مني والفؤاد كليل
فلا زلت في عز عظيم ورفعة ... مدى الدهر ما أبدى العتاب خليل
وكانت وفاة صاحب الترجمة في سنة خمس وثلاثين وألف السلطان محمود بن إبراهيم عادل شاه سلطان الدكن الملك الموفق الناصر للشريعة وكان ملكاً كثير الفضل حسن التدبير سار في ولايته أحسن سيرة تولى الملك بعد وفاة والده وتوفي هو في سنة سبع وستين وألف وفي هذه السنة أصيب خرم شاه جهان ابن جها نكير شاه أكبر ملوك الهند بفالج عطله عن الحركة وحصل بين أولاده حروب كثيرة ولما أراد الله تعالى بالهند خيراً وإحساناً وقدر ظهور العدل فيهم كرماً وامتناناً أظهر في خافقها شموس السلطنة بلا ريب وأنار في سماء سلطنتها أنوار بدور الملك السلطان أورنك زيب وطوى بساط إخوته ونتف حللهم ومزق وحرق بنار المظلومين لباسهم وخرق وقتل أخاه داراشكوه واقتلعه هو وأصحابه وكان داراشكوه ذا ذوق وفطنة بهية وصفات مستحسنة إلا أنه في آخر عمره صارت سيرته مذمومة وأحدث مظالم كثيرة وقتل أخاه الثاني مراد بخش وفر محمد شجاع أخوه الثالث ولم يعرف أين ذهب وأورنك زيب ممن يوصف بالملك العادل الزاهد وبلغ من الزهد مبلغاً أناف فيه على ابن أدهم فإنه مع سعة سلطانه يأكل في شهر رمضان رغيفاً من خبز الشعير من كسب يمينه ويصلي بالناس التراويح وله نعم بارة وخيرات دارة جداً وأمر من حين ولي السلطنة برفع المكوس والمظالم عن المسلمين ونصب الجزية بعد أن لم تكن على الكفار وتم له ذلك مع أنه لم يتم لأحد من أسلافه أخذ الجزية منهم لكثرتهم وتغلبهم على إقليم الهند وأقام فيها دولة العلم وبالغ في تعظيم أهله وعظمت شوكته وفتح الفتوحات العظيمة وهو مع كثرة أعدائه وقوتهم غير مبال بهم مشتغل بالعبادات وليس له في عصره من الملوك نظير في حسن السيرة والخوف من الله تعالى والقيام بنصرة الدين رحمه الله تعالى محمود بن أبي بكر الشهير بالمجتهد الشافعي الدمشقي نحوي الزمان وأديبه ومنطيق الدوران وأريبه كان فاضلاً كثير الاطلاع وافر التضلع والاتساع حلو النكتة والمصاحبة لطيف المكالمة والمخاطبة قرأ بدمشق وحصل حتى برع في الفنون العربية خصوصاً النحو فإنه كان فيه وحيداً وألف فيه حاشية على ابن عقيل شرح الألفية واشتغل عليه جماعة وكان لا يتكلم إلا معرباً وفيه دعابة لطيفة ويؤثر عنه في هذا الباب مضحكات عجيبة أعرضت عنها لبذاءتها وكان ينظم الشعر فمن جيد شعره قوله
كتبت كتبي وسهد العين يشهد لي ... والدمع من ناظري يشكو لي الغرقا
وفي فؤادي نيران مؤججة ... كم سودت صحفاً من خطه غسقا
شاكات للحبر كتباً في المداد به ... وصار يبعدني لما علا ورقا
مهلاً فيا زمني بيعتني كتباً ... سامرتها وعيوني تشتكي الأرقا
كم بت أرتع في روضات بهجتها ... وأقطع الحزن سهلاً في الورى طرقا
كم عاب كل خليل بذلها ثمناً ... مني لكل جهور ثار فانحرقا
والله ما سهرت عيناي في زمن ... إلا وكان سميري الفقر والحرقا
لا تعجلن واصبرن إن الإله إذا ... أراد شيئاً أتاك الرزق مندفقا
لا تحسبن بسعي أنت نائله ... ولا تلح عليه كان ما رزقا
وأبذل الجهد طوعاً في أوامره ... فليس يعجزه رزق وقد خلقا
ولا ترخص لأهل البغي رزقهم ... ولا تلج لهم باباً يسفي القلقا(3/123)
واقبل نصيحة صب طالما أسفت ... حشاشتي ولساني طالما نطقا
وكانت وفاته في سنة سبع وستين وألف محمود بن بركات بن محمد الملقب نور الدين الباقاني الدمشقي الفقيه الحنفي الواعظ المتبحر في الفقه كان كثير الاطلاع مؤلفاً مجيداً حسن التنقيح للعبارات منقحاً للمسائل قرأ الفقه على شيخ الإسلام النجم البهنسي خطيب الأموي بدمشق ولازمه مدة طويلة وتلمذ له حتى برع في فنه وحضر دروس البدر الغزي وكان متديناً ثقة صحيح الضبط صنف التصانيف المفيدة وانتشرت عنه منها شرحه على النقاية وشرحه على ملتقى الأبحر وتكملة لسان الحكام وتكملة البحر الرائق واختصر البحر في مجلد وكان يختار في كتبه نقل المسائل الغريبة وملك كتباً كثيرة وكان يتاجر فيها ويكتسب من ذلك مالاً كثيراً ودرس بدمشق بعدة مدارس ومات وهو مدرس بالمدرسة القيمرية البرانية وكان له بقعة تدريس بالجامع الأموي وكان يعظ بالجامع المذكور بعد صلاة الجمعة وكانت وفاته في المحرم سنة ثلاث بعد الألف قال البوريني في تاريخه نسبته إلى باقا قرية من قرى نابلس وهو ولد بدمشق وأظن أن والده قدم من القرية المذكورة وسكن في محلة القيمرية بدمشق قال النجم وكان والده من المعمرين أخبر عن نفسه أنه بلغ من العمر مائة وعشرين سنة وأنه أدرك الحافظ ابن حجر العسقلاني وبعض مشايخه ولم يسلم له ذلك العقلاء ومات في سنة أربع وسبعين وتسعمائة محمود بن صلاح الدين بن أبي المكارم عيسى الفتياني القدسي من الفضلاء الأجلاء أخذ عن عمه العلامة إبراهيم بن علاء الدين بن أحمد وعن الشيخ محمد الخرشي والشيخ محمد العلمي وكان زاهداً في الدنيا ملازماً لتلاوة القرآن لا يخالط أحداً إلا في المذاكرة وتولى إمامة الصخرة واستمر إلى أن توفي وكانت وفاته في المحرم سنة ثلاث وأربعين وألف وبيت الفتياني بالقدس بيت علم وصلاح وإبراهيم المذكور من أجلائهم المشهورين أخذ عن الرملي الكبير وكان إماماً بالصخرة الشريفة وله مؤلفات عديدة منها تذكرته المشهورة على الألسنة والله أعلم محمود بن عبد الحميد المنعوت بنور الدين الحميدي الصالحي الحنبلي وهو سبط شيخ الحنابلة الشيخ موسى الحجاوي صاحب الإقناع كان فاضلاً فقيهاً متمكناً اشتغل بالعلم وسافر إلى القاهرة لطلب العلم مع التجارة فأكرم مثواه خاله الشيخ يحيى الحجاوي واشتغل عنده في العلوم وقرأ عليه وعلى غيره وبرع ثم رجع إلى دمشق فلازم ابن المنقار وانتسب إليه فسعى له في النيابة في القضاء فوليه بالصالحية ثم بالكبرى وفضل على ابن الشويكي لديانته ثم لما مات القاضي شمس الدين بسط الرجيحي نقل إلى مكانه بالباب فتغيرت أطواره وتناول وتوسع في الدنيا وأنشأ عقارات وعظم أمره وتقدم على النواب لسنه ومد أياديه وتصرفه مع استحضاره لمسائل القضاء حتى كان يؤاخذ على غيره من النواب من غير أهل مذهبه وحصل عليه محنة أيام الحافظ أحمد باشا فأخذ منه مبلغاً له صورة ثم جرت له محنة أخرى في نيابة جركس محمد باشا وأخذ منه مالاً أيضاً غير أنه تلافى خاطره ووقع في آخر الأمر بينه وبين القاضي يوسف بن كريم الدين ثم مرض وطال مرضه من القهر ولما علم أنه لم يبق منه رجوى بذل مالاً لقاضي القضاة بدمشق المولى عبد الله بن محمود العباسي على أن يولي نيابة الباب لولده القاضي محمد فولاه يوماً واحداً ثم سعى الكريمي عند القاضي بأن يولي نيابة الباب للقاضي عبد اللطيف بن الشيخ أحمد الوفائي وأن يولي ابن الحميدي بالمحكمة الكبرى مكان القاضي عبد اللطيف ففعل ولم يتم للقاضي محمود مراده وكان المال الذي بذله في مقابلة نيابة الباب صار في مقابلة نيابة الكبرى ولو لم يقبلها لضاع عليه المال فبقي في حزنه وغيظه وقوي عليه المرض فمات مقهوراً بعد أن أقعد شهوراً وكانت وفاته في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاثين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير(3/124)
محمود بن عبد الله الموصلي الحنفي مفتي الموصل ورئيسها المشهور عند الخاص والعام بالعلوم الشرعية والفنون العقلية ولد بالموصل وبها نشأ واشتغل بالعلوم وتفنن في علم النظر والكلام والحكمة وبرع في جميع ذلك ورحل إلى حلب وأقام بها مدة وأخذ بها عن النجم الحلفاوي وإبراهيم الكردي وأبي الوفا العرضي والجمال البابولي وغيرهم وأجازوه ورجع إلى بلده ومكث مدة ورحل إلى الديار الرومية وحظي عند الصدر الفاضل وبقية كبرائها وأخذ عن جمع بها وولي إفتاء بلدة الموصل ورجع إليها وأقام بها يشتغل بإقراء العلوم وتخرج به جماعة وكانت المسائل المشكلة ترد عليه فيجيب عنها بأحسن جواب وأتقن خطاب وكان عارفاً بالعربية والفارسية والتركية وله تصانيف منها حاشية على التلويح وحاشية على البيضاوي ونظم حسن وكان سهلاً ذا دين متين وتقوى ويقين صادق اللهجة مواظباً على السنن النبوية والنوافل الشرعية حسن السمت رقيق القلب كامل العقل معتقداً للسادة الصوفية وحج في سنة إحدى وثمانين وألف وأخذ عنه جماعة بالحرمين منهم صاحبنا الفاضل الأديب والكامل الأريب الشيخ مصطفى ابن فتح الله وطلب منه أن يجيزه فأجابه بديهة بقوله
إني أجزت المصطفى الفتحي بما ... أرويه عن أشياخ أهل الموصل
ومحققي أهل العراق وجلق ... والروم والشهباء أكرم منزل
وبكل ما ألفته ونظمته ... ونقلته عن كل عذب المنهل
وبما يطول إذا ذكرت جميعه ... بل بعضه فكفايتي بالأفضل
أعني البخاري الصحيح ومسلماً ... وبقية الست الشهيرة فانقل
عن شيخنا العرضي وهو أبو الوفا ... عن عالم الشهبا الإمام الأفضل
عمر أبيه عن أبيه ذي التقى ... عبد لوهاب عن الشيخ الولي
وكرينا عن حافظ الدنيا شهاب ... الدين أحمد بن سيدنا علي
العسقلاني الحافظ الحبر الذي ... ينهى إليه كل ذي سند علي
وجميع ما يرويه في فهرسته ... اطلبه فيه تجده ثمة وادع لي
ولما رجع من الحج توفي بحلب ودفن بها وكانت وفاته في سنة اثنتين وثمانين وألف عن ثلاث وثمانين سنة تقريباً(3/125)
محمود بن محمد بن محمد بن حسن البابي ثم الحلبي المعروف بابن البيلوني العدوي الشافعي الشيخ أبو الثناء نور الدين الإمام العالم المقري المحدث من صرف عمره في العلم تعلماً وتعليماً نشأ في حجر عمه أبي اليسر محمد البيلوني إمام الحجازية بحلب لوفاة والده وهو صغير ثم حفظ القرآن وقرأ للسبعة على الشيخ الضرير إبراهيم القابوني ثم قرأ على الشيخ الإمام عبد الوهاب العرضي في المنهاج الفرعي ثم على الشيخ عبد القادر التكسيري حصة في الإرشاد لابن المقري ولازم الرضي بن الحنبلي كثيراً فقرأ عليه وسمع منه وحضر دروسه طرفي النهار واستفاد منه وترقى على يده وأخذ عنه مع العلوم العقلية والنقلية الحديث وعن أبيه البرهان الحنبلي صحيحي البخاري ومسلم إجازة في مرض البرهان وعن الشيخ الموفق شيخ الشيوخ الكتب الستة إجازة وكتب استدعاء إلى مصر ودمشق فكتب له محدثوهما وعلماؤهما ولما حج في سنة أربع وستين وتسعمائة اجتمع بعالم الحجاز الشهاب أحمد ابن حجر الهيتمي وكتب له إجازة طنانة بالإفتاء والتدريس ولم يجتمع به إلا أيام الحج فقط فإنه لم يجاور ثم عاد إلى حلب وقد فضل في حياة شيخه ابن الحنبلي فكان يدرس في زمانه وكان ابن الحنبلي يجله وأخذ عنه جمع كثير منهم شيخ حلب عمر العرضي وذكره في تاريخه وذكر مقروآته عليه قال ثم اشتغل بخويصة نفسه وجلس في بيته وعمر له إبراهيم باشا جامعه الذي بجانب داره وجعل فيه خطبة وبنى له منارة وانقطع فيه ولم يخرج إلا للحمام حالة الاحتياج إليه وأقبل الناس عليه يثنون عليه وينسبون إليه الصلاح ويصفونه بالانقطاع وثقل سمعه وضعف بصره واشتغل بمجرد تلاوة القرآن والاشتغال بمصالح عياله وكف الجوارح وبالجملة فهو رجل صالح فاضل لاشك في ذلك قال النجم في ترجمته بعد أن قال شيخنا وكان يحفظ القرآن العظيم حفظاً متيناً مع التجويد والإتقان فيه مع تبحره في النحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق والهيئة والتفسير والفقه والأصول ومعارف الصوفية وكان إذا تكلم في فن من العلوم يقول سامعه لا يحسن غيره وكان مع ذلك يظهر له كشف في مجلسه وإشراق على قلوب جلسائه قدم علينا دمشق قاصداً الحج عن طريق مصر في سادس عشري جمادى الآخرة سنة سبع بعد الألف وأخبر أنه أخذ العلم أيضاً عن منلا مصلح الدين اللاري وسمع الحديث من الشيخ برهان الدين العمادي وأجازه الشيخ نجم الدين الغيطي مكاتبة قال وحضر درسي بالجامع الأموي تجاه سيدي يحيى عليه السلام عشية في أثناء رجب هو وجماعته وشيخنا القاضي محب الدين ثم ذهبوا لضيافتي وحضروا عندي ليلة كاملة كانت ليلة مشهودة وخطر لي في ليلة النصف من رجب أن أستحيزه بالإفتاء والتدريس فلما أصبحت ذهبت لزيارته وكان نزل بالعادلية الصغرى داخل دمشق فرأيته قد كتب لي إجازة بالإفتاء والتدريس ودفعها إلي وكان يقابل من يأتي للسلام عليه بالبشاشة والإقبال ويبادر إلى إسماع الحديث المسلسل بالأولية وكان من أفراد الدهر عليه جلالة العلم وأبهة الفضل ونورانية العبادة يتوقد وجهه نوراً ويشهد له من رآه أنه من العلماء العاملين والأولياء الصالحين ومن شعره وهو مما تلقيناه عنه وأجازنا به وكان حصل له مرض حين تم له ستون سنة من عمره فقال
لما وعكت بغاية الستين ... جافيت كل دنية في الدين
وبذلت جهدي في العلوم ونشرها ... للعاملين بها ليوم الدين
ومنه أيضاً
اقنع بما لا بد منه وكف ... عما قد بدا مما عليه الناس
وإذا كففت عن الذي فتنوا به ... ذهبت همومك والعنا والباس
ومنه
ربع قواي من سنين قد عفا ... والحب أبدل الوصال بالجفا
والدمع من أجفان عيني وكفا ... فحسبي الله تعالى وكفى(3/126)
قال ورأيناه أطروشاً لا يسمع إلا بأسماع في أذنه وقال من نعم الله تعالى علي هذا الطرش فإني لا أسمع غيبة ولا غيرها إلا أني أسمع قراءة القرآن إذا قرىء عندي وبالجملة كان من أفراد العصر وأعجوبة من أعاجيب الدهر ثم ذكر سنده في الحديث المسلسل بالأولية وعقبه بقوله ثم إنه سافر في أواخر رجب المذكور من دمشق إلى مصر فمات بها في رمضان أو بعده قال العرضي في شوال سنة سبع المذكورة قال النجم وحضر جنازته والصلاة عليه قاضي قضاة مصر إذ ذاك يحيى بن زكريا قال النجم محدثاً عنه أنه لما ورد حلب مع أبيه زكريا حاجين اجتمع بشيخنا صاحب الترجمة وقال له نراك إن شاء الله قاضياً بحلب ثم بمصر قال فلما وليت حلب كنت أعتقد الشيخ وأتأول كلامه ثم بمصر ثم تكون قاضياً بمصر ولم أتحقق أن المعطوف متعلقاً مع المعطوف عليه في حكم واحد تعقله الرؤية فلما وليت قضاء مصر زاد اعتقادي في الشيخ على التأويل المذكور حتى تحققت ذلك الآن حين رآني الشيخ قاضياً بمصر قبل موته وظهر لي صدق كشف الشيخ رحمه الله تعالى محمود بن محمد بن محمد بن موسى بن عيسى بن إبراهيم العدوي القاضي نور الدين الصالحي الشافعي المعروف بالزوكاري قرأ على المنلا أسد والشمس بن المنقار في العربية وغيرها وكان من أصلح النواب في وقته وكان عزل مدة وولي مكانه القاضي عبد اللطيف بن الجابي ثم لما مات ابن الجابي ردت إليه النيابة فبقي نائباً إلى أن مات ليلة الاثنين ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ودفن بسفح قاسيون وكان قاضي القضاة بدمشق المولى عبد الله بن محمود العباسي قد عزل قبل موته فبقيت نيابة الباب معطلة حتى دخل المولى أبو سعيد فولاها القاضي بدر الدين حسن الموصلي فوليها بعد أن جلس على سجادة الصوفية مكان أخيه الشيخ عبد الرحمن سنين والله أعلم محمود بن محمد أبو الفضل قاضي العسكر الشهير بقره جلبي زاده الصدر الكبير والبحر الغزير عديم النظير والبديل فقيد المثيل والعديل صاحب مكارم الأخلاق المشهور بكرم القلم في الآفاق حصل من الفضل والإفضال وجمع المال والنوال ما لا يمكن وصفه وعده ولا يتصور ضبطه وحده وهو من بيت قديم كبير بين الأنام شهير لازم من شيخ الإسلام أبي الميامن ثم حج في خدمة والده قاضي العسكر في سنة ثمان وعشرين وألف ثم تدرج في المدارس حتى وصل إلى المدرسة السليمانية وولي قضاي ينكي شهر ثم قضاء مكة المكرمة وقدم إلى دمشق في سنة أربع وثلاثين وألف ونقل إلى قضاء دمشق وهو لم يخرج منها وكان ابتداء توليته نهار الثلاثا سابع عشر شوال من هذه السنة وكان في قضائه معتدلاً ملاطفاً وشاهد منه فضلاء دمشق رعاية وإقبالاً ومدحه شعراؤها بالقصائد النفيسة منهم أحمد بن شاهين فإنه مدحه بقصيدة مطلعها هذا
نسجت حاكة الربيع برودا ... واقتنت صاغة النسيم عقودا
تلك تكسو بها الرياض وهذي ... لتحلى الغصون جيداً فجيدا
سلبت في الخريف عقداً وبردا ... فكساها الربيع منه برودا
فكأن الرياض حين أبانت ... خفرات أتت تريك الخدودا
وتثنت ملد الغصون فخلنا ... أنها خرد أمالت قدودا
ورأينا أكمة النور تزهى ... فاجتلينا من الكعاب النهودا
حاكت الريح في الجداول درعا ... محكم النسج سابغاً مسرودا
خادمت برهة سليمان في الملك ... فحاكى صنيعها داودا
أتقنت صنعة اللبوس فضاهت ... بنسيج المياه درعاً جديدا
فتأمل ترى الخمائل غيداً ... نظمت في النحور منها الفريدا
ما شككنا أن الرياض جنان ... الخلد حسناً أن لو تساوت خلودا
وإذا ما أردت تحظى بروض ... دائم البشر يممن محمودا
خلق يسلب الرياض ذكاها ... ويد تسلب السحاب الجودا
وسجايا كأنها الزهر فارغب ... عن شذا الزهر واطلبنا المزيدا
إنما الفضل في الأنام لمولى ... همه أن يفيد أو يستفيدا
عالم وابن عالم فتأمل ... كيف ذا الشبل راح يقفو الأسودا(3/127)
متع الله سيدي بأبيه ... ليرى منك والداً وحفيدا
والداً حزته أم المجد أضحى ... والداً جاء بالعلا مولودا
إلى أن قال فيها
يا ابن قاضي العساكر الغر سمعا ... لنظام كالدر جاء نضيدا
بهجة الشعر في النشيد وهذي ... قصتي كلها تزين النشيدا
كان رأيي وقد أردت مديحاً ... فيك يا رونق المديح سديدا
وابق للدهر نصرة ودراء ... ما غدا العيش في حماك رغيدا
ليلة نجتليه ليلة قدر ... وكذا اليوم مهرجاناً وعيدا
ثم نقل إلى قضاء مصر ثم ولي قضاء قسطنطينية في رابع صفر سنة أربع وأربعين ثم ولي قضاء العسكر بأناطولي سنة خمس وأربعين ثم عزل ووجهت إليه رتبة قضاء روم ايلي ثم ولي قضاء روم ايلي في شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين واتفق أنه ولى زوج ابنته المولى حسين الشهير بالخوجه قضاء أناطولي وكان السلطان إبراهيم مقبلاً عليهما فانعقد على صدارتهما الاتفاق وكان صاحب الترجمة كريم الطبع جداً كما ذكرت فبسبب ذلك أدخل في طريق الموالي أجانب ونماهم فنشأ بذلك الابتذال ودخول الأسافل والأنذال ثم عزل وأنشده أديب الزمان الأمير منجك يوم عزله هذه الأبيات
يا ابن الكرام الألى شادت عزائمهم ... بيتاً جليلاً كبيت الله نعرفه
أنت الكبير الذي لا عزل ينقصه ... قدراً ولا النسب العالي يشرفه
ولو سعى جهده المعروف مختبراً ... لم يلف غيرك في الدنيا فيألفه
عبيد نعماك لا يخشون من سرف ... إن أتلف الدهر شيئاً أنت تخلفه
ثم أعيد إلى قضاء روم إيلي وعمر مدرسة لطيفة بالقرب من جامع الشهرزاده بقسطنطينية وصرف عليها مالاً جزيلاص وكان ذا حلم وأناة وتواضع لا يعرف الغضب محباً بالطبع لأبناء العرب وكان ينظم الشعر العربي ومن شعره وقفت له على هذين البيتين كتبهما على ديوان بخط العناياتي وهما
لك الحمد اللهم في كل أوقاتي ... بمنك لطفاً لم يزل بالعناياتي
على أنني ما زلت أشكر نعمة ... بتمليك ديوان بخط العناياتي
وكانت وفاته في سنة ثلاث وستين وألف ودفن بمدرسته التي أنشأها رحمه الله تعالى محمود بن يونس بن يوسف الملقب شرف الدين الخطيب الطبيب رئيس الأطباء وخطيب الخطباء بدمشق الشهير بالحكيم الأعرج الحنفي المشهور قرأ في الفقه على الشيخ عبد الوهاب خطيب الجامع الأموي وفي الطب على أبيه وفي القراآت والتجويد على الشهاب الطيبي وولي إمامة المقصورة بالأموي سنين ثم فرغ عنها للشيخ ناصر الدين الرملي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وولي خطابة الأموي شركة الشيخ يحيى البهنسي ثم جاء بحكم سلطاني أن لا يخطب العيدين إلا هو ثم تفرغ آخر الأمر عن شطر الخطابة لشريكه الشيخ يحيى المذكور وحج في سنة سبع وتسعين وتسعمائة فأخذ عن عالم مكة الشهاب أحمد بن حجر الهيتمي وعن الشيخ عبد الرحمن ابن فهد وغيرهما ودرس بالخاتونية وبالجقمقية وكان يستلف أجور أوقافهما وكان له تبذير وسوء تدبير في معيشته وعلى كل حال فقد كان مذموم السيرة معروفاً بالكبر والخيلاء وكان يتجرى على الفتوى مع أنه كان يقصر عن رتبتها ووقعت له محنة بسبب فتيا انحرف عليه بسببها قاضي القضاة المولى مصطفى بن بستان ورد عليه الفاضل أحمد بن إسكندر أحد جماعة القاضي المذكور في رسالة قرظ عليها علماء ذلك الزمان منهم السيد محمد بن خصيب وتقدم تقريظه ومنهم البوريني ومن جملة ما قاله في تقريظه وقد وقفت على هذه الرسالة وقوف وامق على مرابع عذرا وأجلت طرف طريق في مضمار بلاغتها إجالة ابن عباد لحظه في مراتع الزهرا
ونادمتها والليل مرخ ستوره ... كأني جميل زار ربع بثينة(3/128)
فما زلت أغترف من حياضها وأقتطف من رياضها راوياً عنها غيث الأدب الذي انسجم ناقلاً عنها الفصحاء العرب ما يزرى بلامية العجم قائلاً لله در مؤلفها فلقد فتح من البلاغة باباً مقفلاً ومنح من صحاح ألفاظه لأهل الأدب مجملاً ومفصلاً بيد أنها ترجمت عن أوصاف صادقة على موصوف وحدثت عن اقتراف من هو بالمنكر معروف فتعجبت من بعد المبنى عنه مع قرب المعنى وأفكرت في كمال يجتمع مع النقص في منزل ومغنى فقلت أما الأوصاف فإنها عليه صادقة وأما الألفاظ فإنها بفضيلته غير لائقة فعلمت أن ذلك كما يحكى عن أبي زيد الذي كان تعارجه لكيد وصيد ومن أين هذه التراكيب لمن انحل تركيبه واختل ما بين أهل الكمال ترتيبه ولعمري لقد حدث عنه لسان الرسالة فوعى من الكثير قليلاً واختصر في إيضاح بيانه والمتن يحتمل شرحاً طويلاً على أن في اعتذار المؤلف عن عدم التكثير مندوحة بقوله والقطرة تنبىء عن الغدير إعلاماً بأن البعرة تدل على البعير إشارة إلى وقوف السقطات وكثرة المخازي والجهالات فمن ذلك روايته للحديث من غير معرفة كلام العرب ودخوله في قوله صلى الله عليه وسلم من كذب هذا مع عدم الإجازة المأخوذة لرواية الحديث لا في زمنه السابق ولا في وقته الحديث ومنها أنه يدعي الوعظ وليس متعظاً ومنها مداومته على اغتياب من شماله أندى من يمينه وغثه ما زال أنفع من سمينه فإلى متى يقرض الاعراض السليمة وهلا اشتغل بأحواله الحائلة السقيمة ليت شعري أي باب من الزلل ما دخل إليه وأي نوع من الخطل ما أقام عاكفاً عليه على أنه من يغتابه من المذمة سليم خالص وما زال يتمثل بقول الشاعر وإذا أتتك مذمتي من ناقص ومنها جلوسه مع زعنفة لم تحنكهم التجارب ولم يزيدوا في الفضل على صبيان المكاتب موهماً أنه انتظم في سلك الأفاضل مخيلاً أنه ورد من مياه الفضل أعذب المناهل مفاخراً بالأشعار التي لو أنصف دفعها إلى أهلها ولما تكلف من غير انتفاع بها مشقة حملها فهو جالس بين القبور طالباً للنزال أو كملهوف إلى الورد قانعاً بالآل عن الزلال
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعان وحده والنزالا
ومنها أنه يشمخ بأنفه على عصابة هم جمال الأنام وبمثلهم تفتخر الليالي والأيام مع حقارة متاعه وقصر باعه فيا لله العجب ممن سقط عن مرتبة الطلب كيف يترقى إلى معالي الرتب
ما لمن ينصب الحبائل أرضا ... ثم يرجو بأن يصيد الهلالا
فيا أيها الناكب عن طريق الصواب الذاهب في غير مذاهب أولي الألباب ويحك إلى متى تتوكأ على العكاز وتدعي بين الناس أنك من أهل البراز ويلك هلا وقفت في مجازك وما تعديت من حقيقتك إلى مجازك
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى
ولعمري لقد كاد زيفك أن يروج وقربت على عرجك من العروج لكن قيض الله لك ناقداً بصيراً وعالماً كاملاً خبيراً فأظهر عوارك الذي كنت تخفيه وأبدي من حالك ما لم تكن تبديه وذلك علامة المحققين بلا نزاع وخاتمة المدققين من غير دفاع هو من أقول فيه من غير شك ولا تمويه
هذا الهمام الذي من عز سطوته ... أمسى الذي رام ظلم الخلق مبتذلا
هذا الذي مذ بدا في الشام صافحها ... كف السرور وعنها الهم قد رحلا
قاضي القضاة ابن بستان الذي شملت ... عواطف الفضل منه السهل والجبلا
قد انجلت عنده كل الأمور كما ... عن البرايا ظلام الظالمين جلا
من در منطقه أو نور طلعته ... طول الزمان يحلي السمع والمقلا
انتهى قال النجم وكان حسن الصوت إلا أنه كان يلحن في قراءته ويطرب في خطبته ويطيل بسبب ذلك وكان الناس يمقتونه ويسبونه بسبب التطويل وكان يلبس عمامة كبيرة مكورة وله عرج وقصر وهو مع ذلك يتبختر ويتخذ غلاماً أمرد من أبناء الناس يمشي خلفه وربما يلتفت ويخاطبه في الطريق وكل منهما يرفل في زينته وكان يعرف التركية وإذا تكلم بها تبجح إزراء بأبناء العرب وهو ليس إلا منهم وكانت فضيلته جزئية إلا أن جراءته كلية وكان اختل مزاجه مدة تقرب من سنتين وحصل له طرف من الفالج ثم مات فجاءة يوم الاثنين سابع وعشرين شعبان سنة ثمان بعد الألف ودفن بمقبرة باب الصغير(3/129)
الشيخ محمود الاسكداري قطب الأقطاب ومظهر فيوضات رب الأرباب مهدي الزمان ومرشد العصر والأوان
هو الدين والدينا هو اللفظ والمعنى ... هو الغاية القصوى هو الذروة العليا(3/130)
أصله من بلدة سورى حصار ولد بها ثم لزم التحصيل إلى أن برع ونظم الشعر وكان يتخلص على عادتهم بهدايى وخرج من بلده إلى قسطنطينية فوصل إلى ناظر زاده وتلمذ له فلما تمت عمارة مدرسة السلطان التي بأدرنه وجهت ابتداء لأستاذه المذكور فصار بها معيداً في سنة ثمان وسبعين وتسعمائة ولازم منه ولما ولي قضاء الشام ومصر كان في صحبته وولي بهما بعض النيابات ثم في المحرم سنة ثمانين وتسعمائة أعطي المدرسة الفرهادية ببروسه وولي بها نيابة الجامع العتيق فاتفق أنه عزر بعض الصلحاء لأمر دعا إلى ذلك فرأى في تلك الليلة في منامه كأنه جيء به للفرجة على جهنم فرأى فيها أناساً كان يظن أنهم لكثرة صلاحهم في صدر الجنة ومنهم أستاذه ناظر زاده وكان اسمه رمضان وكان مشهوراً بالديانة والاستقامة فتأثر من هذه الرؤيا لم يخرج عليه النهار إلا وقد باع جميع ما يملكه وترك النيابة والمدرسة وذهب إلى الشيخ افتاده المشهور وأخذ عنه وجد كثيراً وكان يلازم الرياضة ويبالغ فيها إلى النهاية حكي عنه أنه قال كان بعض أحباب الأستاذ قد مات فرأيته بعد مدة في عالم اليقظة وهو خارج من باب الشيخ فسلمت عليه وسلم علي ثم دخلت إلى الشيخ وأخبرته بذلك وقلت له أهذا غلط خيال أو واقعة منام فقال لي يا ولدي قد قويت روحك بالرياضة فما رأيته من آثارها وأنا كنت أيام رياضتي إذا دخلت السوق أحياناً ارى من الأموات أكثر ما أرى من الأحياء قلت وقد نقل الشيخ محمود صاحب الترجمة روح الله تعالى في رسالة له سماها بجامع الفضائل أن بعض أهل السلوك إذا تصفى يرى الموتى عياناً وعن بعض الفقراء قال كنت في بداية سلوكي ببروسه المحروسة وكان بمحلتنا رجل مؤذن بجامع مولانا الفناري فمات ذلك المؤذن ومضى عليه أيام كثيرة وذهبت إلى شيخي قدس سره بعد صلاة الصبح فلقيت المؤذن المذكور في الطريق ومعه شخص آخر لا أعرفه وكان الثلج ينزل علينا فسلمت ومضيت ثم ذكرت القصة للشيخ فقال هذا بسبب رياضتك أياماً وكانت رياضتي خبزاً يابساً ثم قال الشيخ قدس سره قد لقيت أنا بعض الموتى في سكة زقاق المسك ببروسة المحروسة ورأيت أنا الفقير في إجازة القطب الرباني الشيخ منصور المحلى نزيل الصابونية أجاز بها بعض الفضلاء عندما ذكر أشياخه الذين أخذ عنهم قال ومنهم وهو أولهم صاحب الدين المتين الذي اشتهر أنه يقري الجن الشيخ يس المالكي ومن أعجب ما سمعت منه أنه قال جاءتني أمي في المنام وقالت لي يا يس في خاطري شنبر أسود فأخذت لها شنبراً ووضعته تحت رأسي فجاءت وأخذته ومما سمعته منه أيضاً أنه قال جزت يوماً بالسوق فرأيت فلاناً الميت واقفاً على اللحام فقلت له ما الذي أوقفك ههنا فقال فلانة جاءت البارحة وأنا أشتري لها لحماً تطبخه لنا وأمثال هذا كثير عوداً إلى تتمة الترجمة ولما أكمل الشيخ محمود الطريق على شيخه المذكور ورد إلى اسكدار واختار الإقامة بها ثم في جمادى الآخرة سنة اثنتين بعد الألف أعطى الوعظ والتذكير والتحديث والتفسير بجامع السلطان محمد بعد وفاة الشيخ معيد دده وفي المحرم سنة سبع وألف زيد له من الوقف المزبور مائة عثماني كل يوم ولما أتم عمارة الجامع الذي بناه بزاويته التي باسكدار اختار هو أن يكون خطيباً فيه وتفرغ عن وعظ جامع السلطان محمد لبعد المسافة وطلب وعظاً بجامع مهروماه الذي باسكدار في يوم الخميس فأعطيه وكان يعظ به إلى أن مات ولما أتم السلطان أحمد جامعه في سنة ست وعشرين وألف فوض إليه فيه وعظاً في نهار الاثنين فكان يعظ فيه وكان معتقداً للسلطان أحمد يعظمه كثيراً ولا يصدر إلا عن رأيه ووقع له معه مكاشفات وحكايات تؤثر عنه فمن ذلك ما يذكر أن السلطان ذهب هو وبعض خواصه إلى أحد المنتزهات باسكدار وطلب لحماً مشوياً فجيء باللحم وحفر له حفيرة وشوي بحضرته فلما أراد التناول منه حضر الشيخ محمود ونهاه عن تناول شيء منه وقال له أنه كان بجنبه حية وقد احترقت وسرى سمها إلى اللحم وأمر بإلقاء قطعة لحم إلى كلب هناك فلما أكلها مات ثم حفروا فرأوا آثار الحية كما أخبر وحكي أن السلطان كان عزل أحد وزرائه العظام وأرسل ختم الوزارة إلى وزير كان مقيماً بأسكدار فغرق الرسول ومعه الخاتم فلما بلغ السلطان ذلك توجه إلى الشيخ محمود وذكر له الأمر فكان جوابه أنه كشف السجادة وناوله الخاتم من تحتها ومن اللطائف التي تنقل عنه أنه قال له(3/131)
السلطان المذكور بلغني أنك صرت في ابتداء أمرك نائباً فقال نعم صرت نائباً في عدة بلاد ولم أدر أن أحداً وضع لي نقطة يشير إلى سلامته من أدناس النيابات ثم وضعت أنا لنفسي نقطة فصرت تائباً بعد أن كنت نائباً وحكي السيد الفاضل الأديب يحيى ابن عمر العسكري الحموي قال كنت رحلت في إبان الصبا إلى الروم وكنت قليل الجدوى فإذا احتجت إلى شيء من قسم المأكول أخذته من عند أربابه فيجتمع لهم في ذمتي حصة من المال وكنت أرد مورد الشيخ الأسكداري فيعطيني نفقة من عنده فإذا أديت ما يكون علي لا يبقى علي ولا لي شيء ويأتي المبلغ رأساً برأس وله غير ذلك نوادر وأخبار ومن آثاره الشريفة مجالس تفسير كان يحررها قريبة التمام وله الرسالة التي سماها جامع الفضائل وقامع الرذائل وله رسائل كثيرة وديوان شعر منظوم ومنثور والهبات وكل ذلك مشهور متداول عند الروم وكانت وفاته في سنة ثمان وثلاثين وألف ودفن بالتربة التي أعدها لنفسه في جوار زاويته بأسكدار واستقر مكانه بالزاوية خليفته الأستاذ الكامل النير الخير الصالح سميه الشيخ محمود الشهير بغفوري وكان من العلماء الكمل وفضله وزهده أشهر من أن يذكر وكان شاعراً مطبوعاً له شعر سائر وولي الوعظ بجامع السلطان محمد واعتقده جل الناس وبالجملة فهو من خير صلحاء وقته وكانت وفاته بعد السبعين وألف ودفن بتربة شيخه بأسكدار رحمهما الله تعالىلسلطان المذكور بلغني أنك صرت في ابتداء أمرك نائباً فقال نعم صرت نائباً في عدة بلاد ولم أدر أن أحداً وضع لي نقطة يشير إلى سلامته من أدناس النيابات ثم وضعت أنا لنفسي نقطة فصرت تائباً بعد أن كنت نائباً وحكي السيد الفاضل الأديب يحيى ابن عمر العسكري الحموي قال كنت رحلت في إبان الصبا إلى الروم وكنت قليل الجدوى فإذا احتجت إلى شيء من قسم المأكول أخذته من عند أربابه فيجتمع لهم في ذمتي حصة من المال وكنت أرد مورد الشيخ الأسكداري فيعطيني نفقة من عنده فإذا أديت ما يكون علي لا يبقى علي ولا لي شيء ويأتي المبلغ رأساً برأس وله غير ذلك نوادر وأخبار ومن آثاره الشريفة مجالس تفسير كان يحررها قريبة التمام وله الرسالة التي سماها جامع الفضائل وقامع الرذائل وله رسائل كثيرة وديوان شعر منظوم ومنثور والهبات وكل ذلك مشهور متداول عند الروم وكانت وفاته في سنة ثمان وثلاثين وألف ودفن بالتربة التي أعدها لنفسه في جوار زاويته بأسكدار واستقر مكانه بالزاوية خليفته الأستاذ الكامل النير الخير الصالح سميه الشيخ محمود الشهير بغفوري وكان من العلماء الكمل وفضله وزهده أشهر من أن يذكر وكان شاعراً مطبوعاً له شعر سائر وولي الوعظ بجامع السلطان محمد واعتقده جل الناس وبالجملة فهو من خير صلحاء وقته وكانت وفاته بعد السبعين وألف ودفن بتربة شيخه بأسكدار رحمهما الله تعالى(3/132)
المنلا محمود الكردي نزيل دمشق وأعلم العلماء المحققين بها الأستاذ العلامة المحقق المدقق كان أعجوبة الزمان في التضلع من العلوم والاستحضار العجيب وقوة الحافظة التي لم تشاهد في غيره من ابناء جنسه فإنه كان كثيراً ما يقرأ عليه الكتب المطولة فإذا تصحف شيء من عباراتها أملاها كما هي وكثيراً ما يؤتى بنسخ مصححة فيطابقها ما يسرده من غير روية ولا فكر وقد أقام بدمشق نحو ستين سنة منهمكاً على إقراء العلوم وأكثر قراءته لكتب الأعاجم وهو أول من عرف طلبة الشام تلك الكتب وقواهم على قراءتها وإقرائها ومنه انفتح باب التحقيق في دمشق هكذا سمعنا مشايخنا يقولون وكان نفسه مباركاً وكان في غاية الصلاح والزهد والتغفل والتواضع وأقام هذه المدة ساكناً بالقرب من المدرسة الجقمقية ولم يحصل له من الوظائف والمعاليم إلا النزر القليل وكان إذا أتم الدرس وتوجه لنحو بيته يسأل عن البيت من يلقاه لتغفله وأما فيما يتعلق بالعلم فكان أبلغ مستحضر سمع وهذه كرامة له بلا شك ولا مرية وكان إذا سئل عن عمره يقول مائة وخمسة وثلاثون ظناً ومائة وخمسة وعشرون قطعاً ولما ورد دمشق كان في عداد أساتذة الأكراد المتبحرين كالخلخالي وأضرابه وحكى المولى المحقق محمد الكردي الشهير بملا حلبي قاضي قضاة الشاة أن صاحب الترجمة كان في ابتداء أمره أجل من نوه بقدره بين المحققين وكان في أيام اشتغاله مشاراً إليه وغالب المشايخ يلزمون طلبتهم بالتلمذ له والأخذ عنه ويقولون أنه فهامة الزمان وملا حلبي المذكور أحد من أخذ عنه ولما ورد الشام قاضياً كان يعظمه ويجله وأكثر الفضلاء المشهورين بدمشق أخذوا عنه وانتفعوا به أجلهم شيخنا العلامة إبراهيم بن منصور الفتال وسيدنا المفضال أبو الصفا محمد بن أيوب ومشايخنا الأجلاء عبد القادر بن عبد الهادي وعثمان بن محمود المعيد وإسمعيل بن علي الحائك وغيرهم ممن لا يحصى وكانت وفاته في سنة أربع وسبعين وألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى محمود البصير الصالحي الدمشقي الشافعي شيخنا الفاضل الذكي الفطن نادرة الزمن وأعجوبة الوقت وأطروفة الدوران كان في الفضل سابقاً لا يملك عنانه وفي الذكاء فارساً لا يشق ميدانه وله جمعية نوادر وفنون لا تحوم حولها الأوهام والظنون قرأ بدمشق على الجلة من المشايخ منهم شيخنا العلامة إبراهيم الفتال وبه تخرج وتفنن فقرأ عليه العربية والمعاني والمنطق وأخذ الرياضيات عن الشيخ رجب بن حسين والإلهيات عن المنلا شريف الكردي وتفقه على جماعة وناظر وباحث وسمع الكثير وضبط وكان قوي الحافظة جيد الفكرة كثير التدبر للمشكلات جوال الطبع في المباحث وقد انتفع به بعض الإخوان وأخذت أنا عنه المنطق والهندسة والكلام وكان هو لما أخذ الهندسة احتال على ضبط أشكالها بتماثيل من شمع عسلي كان يمثلها له أستاذه الشيخ رجب المذكور فضبطها ضبطاً قوياً فلما قرأت الهندسة عليه كنت أعجب من تصويره الأشكالا كما أخذها عن أستاذه وكان يقول إذا برز الشكل الذي اصطنعه فليقابل الشكل الذي في الكتاب وصرف جهده في تحرير شرح على تهذيب المنطق ومات ولم يكمله ثم اعتنى بعلم الطب ولزم التجربات ومذاكرة كتبه مع رئيس الأطباء بدمشق يوسف الطرابلسي حتى تمهر فيه جداً ثم مل الإقامة بدمشق لقلة ذات يده ولعدم وظيفة يحصل منها على نفقته فسافر إلى الروم فتعرف بأكابر الدولة واشتهر فيما بينهم بالحذق والفهم ولم يزل يتدرج حتى وصل إلى مصاحب السلطان مصطفى باشا فقربه إليه وأحبه واعتمد عليه في أمر مزاجه وأمزجة حواشيه فنال الحظوة التامة بسبب تقربه إليه وساعده الحظ فانحلت المدرسة الشامية البرانية بدمشق عن الشيخ علي بن سعودي الغزي فطلبها فوجهت إليه ولكنه أسرع إليه مرض السل واستحكم فيه فلم يقر له قرار بأدرنه دون أن شد رحله إلى قسطنطينية فتأثر من الحركة العنيفة وأدركه الأجل لدى وصوله إلى قسطنطينية وكانت وفاته في سنة أربع وثمانين وألف رحمه الله(3/133)
محمود قاضي القضاة بدمشق وليها في غرة رجب سنة ست وتسعين وألف بعد أن كان ولي قبلها قضاء ينكي شهر ودخل دمشق في عاشر رجب وكان مشهوراً بالفضل في الروم وأعرفه وهو يشار إليه بينهم في التجول بالمناظرات إلا أنه عند قدمته إلى الشام رأيته قد اختلط وتعاورت جسمه أمراض مهولة ضاقت بسببها حظيرته وكان مشوه الخلقة بذي اللسان قليل التدبير وليس عنده شيء بممتع بل مهما خطر في باله ولو كان مستحيلاً عادة كان عنده سهلاً حكى لي بعض الإخوان أنه تشاجر هو وابن زوجته فترافعا إليه ومراد الحاكي أن يعتزل هو وزوجته عن ابن الزوجة لبيت مستقل إذ البيت الذي يسكنونه بيت ابن الزوجة فلما قصا على القاضي القصة قال للرجل أين تسكن فقال في بيت هذا يعني ابن زوجته فقال ومن يصرف على البيت قال أنا قال إذاً أنت صاحب البيت وذا لاحق له فيه وأمره بإخراجه من البيت وجرى في زمانه أن شخصاً من جند الشام سب شريفاً وأحضر لديه وادعى عليه بمحضر عام من العلماء والعسكر أنه سب الشريف وتجاوزه إلى آبائه وحصل في القضية أغراض فاسدة نشأت عن تهور صاحب الترجمة وعدم تدبره وأدى أمره إلى أن عرض في أناس من متعيني الجند وحبسوا في قلعة دمشق مدة إلى أن ورد أمر بإطلاقهم ولم يحكم في القضية بشيء وكانت هذه القضية مبدأ ظهور الجند الشامي وتحزبهم ولم يزل جأشهم يقوى شيئاً فشيئاً إلى أن بدر منهم ممانعة حمزة باشا ومصادمته كما ذكرناه مفصلاً في ترجمة صالح بن عبد النبي بن صدقة ثم عزل صاحب الترجمة عن القضاء في أثر القصة وسافر إلى الروم فلم تطل مدة حياته بها وتوفي سنة سبع وتسعين وألف بقسطنطينية والله أعلم محي الدين بن خير الدين بن أحمد بن نور الدين بن علي بن زين الدين بن عبد الوهاب الأيوب العليمي الفاروقي الرملي الفقيه الحنفي العالم بن العالم وقد تقدم أبوه شيخ الحنفية وبركة الشام في عصره ومحيي الدين هذا ولد بالرملة وبها نشأ وقرأ على والده وعلى الشيخ أبي الوفا بن موسى القبي الحنفي والشيخ إبراهيم الشبلي الحنفي الرمليين وأخذ الفرائض والحساب عن الشيخ زين العابدين المصري الفرضي النحوي شارح الرحبية قدم عليهم الرملة في حدود سنة خمس وأربعين وألف فأنزله والده عنده لأجل إقراء ولده ومكث عندهم نحو سنتين ثم توجه إلى مصر وأجازه والده بالإفتاء فأفتى في حياته وكان أعجوبة الزمان في كشف المسائل من مظانها علامة في الفرائض والحساب حتى إن غالب فتاوي والده في الفرائض كان هو الذي يقسمها وغالب كتب والده كانت تحصيله إما بالاستكتاب وإما بالشراء وكان يعجب والده اجتهاده في تحصيلها وكان متصرفاً في دنيا والده تصرفاً حسناً حتى إنه جدد أملاكاً وتجملات كثيرة وكان يحب إكرام من يقدم على والده وكان حسن الخلق والخلق كريم الطبع وقوراً عالي الهمة سامي القدر ديناً خيراً أخبرني صاحبنا الفاضل المؤرخ إبراهيم الجينيني أن مولده في نيف وعشرين وألف وتوفي نهار الأربعاء حادي عشر ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وألف في حياة والده وأسف عليه أسفاً عظيماً وبعد موته تكدر عيشه وذهب رونق حياته وله فيه مراث وأشعار كثيرة رحمهما الله محيي الدين بن ولي الدين بن المسند جمال الدين يوسف بن شيخ الإسلام زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري الشافعي السنيكي الأصل المصري المولد والمنشأ والوفاة الفقيه المحدث كان من كبار علماء عصره له الاعتبار الزائد والصيت الشائع تهابه العلماء وتحترم ساحته الكبراء أخذ عن جده شيخ المحدثين الشيخ جمال الدين وجده يروي عن والده قاضي القضاة صاحب التصانيف المشهورة وجلس مجلس التدريس فدرس في كل علم نفيس وروى عنه أجلاء العلماء منهم العلامة النور علي الشبراملسي والشيخ أحمد العجمي الشافعي وولد صاحب الترجمة العلامة زين العابدين وحفيده الشيخ شرف الدين المقدم ذكرهما وكانت وفاته في شعبان سنة ثلاث وأربعين وألف عن سبع وثمانين سنة رحمه الله تعالى(3/134)
مدين بن عبد الرحمن القوصوني المصري الطبيب رئيس الأطباء بمصر الفاضل الأديب المؤرخ أخذ العلوم عن الشهاب أحمد بن محمد المتبولي الشافعي وعن الشيخ عبد الواحد البرجي والطب عن الشيخ داود ولي مشيخة الطب بمصر بعد السري أحمد الشهير بابن الصائغ وألف التآليف النافعة منها كتاب ريحان الألباب وريعان الشباب في مراتب الآداب والتاريخ الذي نقل عنه وكتاب قاموس الأطباء في المفردات وله غير ذلك وذكره الخفاجي في الخبايا وقال في ترجمته هو فاضل كان سميري في نادي الطلب فكم نافثته في إبان الاشتغال بالطلب والأدب فكانت بيني وبينه عشرة لم نخرج لها من القشرة أعد كل يوم منها غرة وجه الزمان وعيداً تهاداه الأيام على رغم النيروز والمهرجان والعمر طرير ما بين روضة وغدير وهو إذا ضمخ كافور قرطاسه بمسك مداده وأنفاسه أنكر المسك دارين وخطا وغدا انتسابه لسواه خطا فكم فاح منه عنبر البراعة وقطرت مياه الفصاحة من ميزاب اليراعة وفي عودتي لمصر عرض علي كتاباً جليلاً له سماه قاموس الأطبا وسألني أن أقرظ عليه فكتبت عليه ما هذا صورته ما طرزت حلل الثنا ووشيت رياض البلاغة بثمرات غضة الجنا إلا لتكون لباساً لأبكار المحامد ومرتعاً لأفكار شاكر وحامد فالحمد للمولى على ما أنعم من اللغات والبيان وأنعم بتلقينها لأطفال الأرواح في مكاتب الأبدان وألهمها استخراج درر المعاني من أصداف الحروف لننظم منها في الصدور ونعلق في الآذان أبهى عقود وشنوف وأزكى صلاة وسلام على أفصح من نطق بالضاد فروى من عين فصاحته كل صاد وشفى بطب هدايته مريض كل قلب قلب وهدى بمفردات حكمته كل ذي جهل مركب وعلى آله وأصحابه مدائن العلم والحكم ورؤساء أطباء الأبدان والأديان من سائر الأمم لاسيما الأربعة الذين ترياقهم العتيق وفاروقهم حافظ صحة مزاج الدين بكل ماضي الشفرتين رقيق ما دامت الدنيا دار الشفا وصح مزاج الدهر من الإعراض واشتفى هذا وإن أخي شقيق الروح وقوة العين وصفوة الحياة ومن محبته علي فرض عين لما أتحفني في قدومي للقاهرة بكتابة قاموس الأطباء وجدته الدرة الفاخرة والروضة التي تفتحت فيها عيون أنواره الزهية الزاهرة ظناً منه أني شعيب مدينته وما أنا إلا سلمان بيته بل أشعب موائد كرمه ومنته فإذا هو برد محبر وعقد كله جوهر وكتاب جميعه مفردات ولغة لو رآها الجوهري قال هيهات العقيق هيهات أو الخليل بعينه فداه بعينه أو جار الله لقال هذا هو الفائق أو ابن البيطار لود لو طابقه كتابه مطابقة النعل بالنعل لما فيه من الدقائق أو صاحب القاموس لقال هذا هو المجد الذي ارتقى ذروة العربية ما بين تهامة وجد فلله در مصنفه فقد أرانا في الرجال بقايا وفي الزوايا خبايا وأنار فكره ظلمة الجهل وقد وقد وروى ظمآن الفكر فيما ورد ورد وحقق ما قيل من دق البال ولج ولج ومن جد وجد وقلت فيه ارتجالاً
دهر يجود بمثله ... أنعم به دهر أوفى
روى بكأس علومه ... وختامه مسك وفى
انتهى ولقد سعيت جهدي في تحصيل وفاة صاحب الترجمة فلم أظفر لكن غاية ما حققت من خبره أنه كان في سنة أربع وأربعين وألف موجوداً في الإحياء كما يعلم ذلك من تاريخه الذي وضعه والله أعلم مراد بن إبراهيم المعروف بابن الشريطي الدمشقي الدفتري الرئيس النبيه اللوذعي الكامل أحد الأفراد في المعارف وحسن الخط وبداعة الأسلوب في المنشآت والرقم وكان شهماً حاذقاً صائب الرأي والتدبير سما به حظه من حين نشأته فخالط الكبار وتمهر في أفانين الكتابة وسافر إلى الروم وولي كتابة الجند بالشام وازداد على توالي الأيام رونقاً واشتهاراً ثم ولي الدفترية بدمشق وعظم صيته واتسعت دائرته وتملك دار سنان باشا الوزير ابن جغال قرب الجامع من ناحية سوق السلاح في سنة خمس وأربعين وألف وجدد فيها عمارات وأتقنها غاية الإتقان وفيها يقول أبو بكر العمري شيخ الأدب
إن داراً أحييت منها رسوماً ... أخلقتها أيدي الزمان العوادي
ومغان كسوتها حلل المجد ... فقامت تختال فوق المهاد
أذكرتنا عهد الجنان وأنست ... ما حكوه من وصف ذات العماد
هي دار العلى وبيت المعالي ... ومقام السعود والإسعاد
ولها الجامع المعظم جار ... نعم جار الرضا ليوم المعاد(3/135)
صانها الله ربنا وحماها ... ووقاها من أعين الحساد
لذ بها ما استطعت صاح وأرخ ... فهي بيت مبارك لمراد
وقال يمدحه ويهئنه بالدار المذكورة بهذه القصيدة وهي من أجود شعره ومطلعها قوله
رويداً فاظهر المطي حديد ... ولا منزل الأحباب عنك بعيد
ومهلاً فما سوق الركائب مطفىء ... لهيب ضرام الشوق وهو شديد
ورفقاً بهذا القلب كم يحمل الجوى ... على أنه دون القلوب عميد
تقول زرود يا أخا الوجد بغيتي ... صدقت ولكن أين منك زرود
وإن المغاني لا يفيد ادكارها ... وهل دون وصل القاطعين يفيد
بلى تنفع الذكرى إذا طمع الحشا ... وقد ساعدته في الدنو وعود
وبالكلة الحمراء حوراء لو جلت ... على البدر وجهاً قابلته سعود
وإن خطرت في الروض والروض حافل ... لعلمت الأغصان كيف تميد
ولو نفثت في البحر والبحر مالح ... لحلاه در الثغر وهو نضيد
وأغيد لولا وجهه وقوامه ... لما ذكرت يوم التنافر غيد
من الترك معسول المراشف لين ... المعاطف حبل الشعر منه مديد
لواحظه تحمي موارد ثغره ... فالصد نحو الرضاب ورود
ضنين بإهداء السلام ورده ... على أن بعض الباخلين يجود
ورب صديق صادق قد بثثته ... شجوناً لها بين الضلوع وقود
فأوسعني عتباً وقال لي اتئد ... فما الرأي في وصف الحسان سديد
أتطلب من بعد الثمانين صبوة ... وهل يتغنى بالملاح رشيد
فقلت له اكفف فالنسيب مقدم ... على كل مدح طاب منه نشيد
وإن ارتجال الشعر في المدح مذهب ... محاسنه والذائقون شهود
فقال ومن ترجوه في الجاه والغنى ... فقلت له والحق فيه شهيد
أغير مراد الدفتري يليق أن ... يساق إليه في دمشق قصيد
وهل ينظم الشعر البديع لماجد ... سواه معاذ الله ذاك بعيد
أمير المعالي والمعاني خدينها ... له من وفود المعتفين جنود
كريم المحيا باسط الكف بالندى ... إذا شحت الأنواء فهو يجود
تطوف بنو الآمال سعياً ببابه ... فتبلغ ما قد أتلت وتعود
تصدق يمناه ولم تدر أختها ... ويسراه يسر وهي منه تفيد
ضحوك الثنايا باسم الثغر بشره ... يبشر بالجدوى وفيه مزيد
منها
يمزق أموالاً حوتها يمينه ... وعن بيت مال المسلمين يذود
منها
كساني وأولاني الجميل ببره ... وما بره إلا لهى ونقود
وحقق تجدني في ثياب سخائه ... وهل أنا إلا أعظم وجلود
فيا أيهذا السيد الجيد الذي ... تراه على رغم الحسود يسود
إليك بها من منطقي عمرية ... تهادى على أترابها وتميد
محجبة بكر المعاني رفيعة المباني ... وقصر الغانيات مشيد
إذا أنشدت تكسو المحبين بهجة ... ويعبس منها كاشح وحسود(3/136)
وقد بقي في دفترية الشام مدة سنتين ووجهت إليه رتبة أمير الأمراء وهو بها وسالمه الزمان فلم ينغص له عيش ورزق السعادة في المال والبنين فإنه نشأ له ولدان كانا غاية في المحاسن والفطنة وكان كثير الميل للفضلاء والأدباء يعاشرهم ويداوم الاجتماع بمجالسهم ويبالغ في تعظيمهم وإذا عرض لأحدهم أمر مهم في جانب الدولة صرف جهده في إنجازه وكان صدور الدولة يرعون حرمته ويكاتبونه ثم عزل عن دفترية الشام وسافر إلى الروم وتوطن بقسطنطينية وانخرط في سلك أرباب الخدمات والمناصب وبقي ابناه في دمشق فانتقى لهما زعامتين عظيمتين وجهتا إليهما وكان صهره الرئيس النبيل أحمد السحملي كاتب الجند بدمشق فصار له تعين تام بالاستناد إليه ثم ترقى صاحب الترجمة حتى صار دفترياً في الشق الثاني في أيام السلطان إبراهيم وأقبلت عليه الدنيا بخيلها ورجلها وراجعته الخاصة والعامة في الأمور وتهيأ في أثناء ذلك للدفترية الكبرى لما كان فيه من الأهلية ولكن بدر منه بسبب غرور الدولة ما كان سبباً لقتله فقتل في سنة سبع وخمسين وألف بقسطنطينية(3/137)
السلطان مراد بن السلطان أحمد بن السلطان محمد بن السلطان مراد بن السلطان سليم بن السلطان سليمان بن السلطان سليم أعظم سلاطين آل عثمان مقداراً وأسطاهم همة واقتداراً الذي خضعت لعظمته رؤس الأكاسرة وذلت لحرمته وقهره من تصلب في قمع المفسدين بسداد الرأي في أمره كان من أمره أنه لما تحركت العساكر وغدر بأخيه عثمان كما ذكرنا أولاً أعادوا عمهما السلطاني مصطفى إلى السلطنة فلم تظهر كفايته واختل أمر السلطنة في عهده فاختير للسلطنة صاحب الترجمة باتفاق الآراء من العلماء والوزراء وبويع في يوم الأحد رابع عشر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وألف بعد أن خلع عمه السلطان مصطفى وكان عمره يومئذ إحدى عشرة سنة وسبعة أشهر وقيل في تاريخ سلطته مراد خان العادل وكان السلطان مصطفى ولى في آخر سلطته علي باشا المعروف بكمانكش الوزارة العظمى فأبقاه على ما كان وكذلك أبقى شيخ الإسلام يحيى بن زكريا في منصب الفتوى وأقام شعار الملك أتم قيام متثبتاً في حالتي النقض والإبرام وابتدأ أولاً باستئصال الطغاة من العسكر الذين قتلوا أخاه فاهتم بأمر تحصيلهم من البلاد وتحرى قتلهم وقد أجاد وبقي على هذه الحال مدة وأعد له من رأيه الصائب كل عدة وجعلهم ديدنه وشغله واباد منهم كل متحزب شمله وحكى بعض المتقربين إليه أنه خرج ليلة من الحرم وما عليه إلا ثياب المنام قال وكانت ليلة شديدة الثلج وأمر بفتح باب السراي السلطاني وخرج منه فتسارع الخدمة إليه وكنت أنا من جملتهم فصحبت معي فروتين من فرى السلطان وتبعناه فانتهى إلى البحر وطلب زورقاً وركب وركبنا وما زال إلى أن أشار إلى الملاح بأن ينحو إلى نحو أسكدار ثم خرج منها إلى التربة المشهورة في طرفها الآخذ إلى أناطولي فاستقر تحت شجرة ثمة ووقفنا معاشر الخدمة وكنا نشاهد منه غاية التضجر حتى أن بخار الحرارة ليتصعد من وجهه لشدة ما عنده من الانزعاج ثم بعد حصة أشار إلي وقال انظر هذين الشبحين اللذين لاحا من بعيد أدركهما وسلهما من أين أقبلا قال فأدركتهما وسألتهما فقالا مقدمنا من حلب فقلت لهما السلطان طلب أن يراكما وهو جالس هنا وأشرت إليه فأسرعا إلى أن وقفا قدامه وقبلا الأرض ثم قال لهما ما الذي جاء بكما فقالا معنا رؤس أقوام من الطغاة قتلوا بحلب فأمرهما بإخراج الرؤس فحين وقع بصره عليها انصرف عنه ما كان يجده البرد ثم نهض وأسرع إلى السراي التي بأسكدار وقال إني مذ أويت إلى الفراش في ليلتي هذه أخذتني الفكرة في أمر هؤلاء المقتولين وتحصيلهم فلم أملك نفسي أن نهضت من مرقدي وجرى ما جرى وكان بطلاً من الأبطال قوي الجأش متين الساعد ذكر أنه أرسل إلى مصر درقة نحو إحدى عشرة طبقة مطبقة ضربها بعود فثبت فيها وبرز أمره إلى العساكر المصرية بإخراج العود منها وأن من أخرجه يزاد في علوفته فحاولوا إخراجه فعجزوا عن ذلك ثم أرسل قوساً ومعه خط شريف خطا بالوزير مصر أحمد باشا مضمونه أمر العساكر والأجناد بجر هذا القوس وزيادة علوفة من يفعل ذلك فحاولت العساكر جره فلم يقدروا على ذلك ثم علقت الدرقة بالديوان السلطاني بمصر وعلق القوس بباب زويله وجعل بعض أعيان مصر تاريخاً لطيفاً بالتركية لما ورد القوس وترجمه بعضهم بالعربية يا سلطان الوجود لساعدك القوة وجهز عساكره لافتتاح البلدان وتوجه هو بنفسه في سنة أربع وأربعين لغزو العجم وكان سلطانها الشاه عباس خذله الله قد تمكنت في السلطنة قواعده وخلا له الوقت مدة وأخذ كثيراً من البلدان التي كانت مضافة لبلاد آل عثمان فجرد السلطان مراد عزمه لمحاربته وإذلاله وتوجه إلى بلاده بعساكر يضيق عنها الفضاء وحاصر من بلدانه روان وافتتحها ثم توجه في سنة ثمان وأربعين لفتح بغداد ونازلها بجنده وكان الشاه عباس حصنها بالعدد والعسكر فأمر السلطان بحفر لغم عظيم ووضع فيه البارود وأطلقت فيه النار فهدم جانباً عظيماً من جدار السور بحيث قيل إنه لم يرم لغم مثله في محاصرة قلعة من القلاع فصار يرى من هدم اللغم ما في مدينة بغداد من البيوت والدور لأنه صار في ذلك الجانب جدار السور سهلاً مستوياً مع سطح الأرض فلما رأى أهل بغداد ما دهمهم مما لم يعرفوه قط تلاشوا وبعثوا إلى الشاه عباس المراسيل يريدون التسليم وكان عسكر السلطان قد توانوا في الهجوم وتثبطت همتهم وفي أثناء ذلك أرسل الشاه رسولاً يطلب الصلح وكان الرسول(3/138)
المذكور من أعيان عسكر الشاه يسمى جانبك سلطان وفي يوم الجمعة ثالث عشر رجب بكرة النهار اجتمع بالوزير الأعظم في ديوان عظيم ودفع إليه كتاب الشاه بالصلح فقرىء بمسمع من الناس وفهم الكل منه ما قصده الشاه من الحيلة فأبى السلطان وجميع الوزراء والأركان الصلح ولقد رأيت الواقعة بخط الأديب رامي الدمشقي وذكر أنه تفاءل حالة اجتماع الرسول في مصحف كان معه فجاء في أول الصفحة قوله تعالى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى ثم أطلق السلطان الأمر بالمحاصرة وشدد في ذلك فلما كان يوم الجمعة ثامن عشر شعبان يسر الله تعالى فتحها وكان مدة حصارها أربعين يوماً ودخلها العسكر والسلطان في أثرهم وقتلوا من العجم أكثر من عشرين ألفاً وأسروا من رؤسائهم وأهل شوكتهم جماعة وضعفت شوكتهم وزالت قوتهم لأن معتمديهم كانوا بها وصرف السلطان همته إلى إزالة ما كان أحدثه الأرفاض خذلهم الله تعالى في مرقد الإمام الأعظم ومرقد الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنهما وأمر بتجديد عمارة محليهما وأحكم أمرهما غاية الإحكام وبنى ما كان تهدم من سور القلعة وشحنها بالعسكر والعدد وعين لكفالتها وزيراً وقد أكثر الناس من نظم الشعر والتواريخ لفتحها ووقفت بمكة المشرفة على تاريخ للقاضي تاج الدين المالكيمذكور من أعيان عسكر الشاه يسمى جانبك سلطان وفي يوم الجمعة ثالث عشر رجب بكرة النهار اجتمع بالوزير الأعظم في ديوان عظيم ودفع إليه كتاب الشاه بالصلح فقرىء بمسمع من الناس وفهم الكل منه ما قصده الشاه من الحيلة فأبى السلطان وجميع الوزراء والأركان الصلح ولقد رأيت الواقعة بخط الأديب رامي الدمشقي وذكر أنه تفاءل حالة اجتماع الرسول في مصحف كان معه فجاء في أول الصفحة قوله تعالى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى ثم أطلق السلطان الأمر بالمحاصرة وشدد في ذلك فلما كان يوم الجمعة ثامن عشر شعبان يسر الله تعالى فتحها وكان مدة حصارها أربعين يوماً ودخلها العسكر والسلطان في أثرهم وقتلوا من العجم أكثر من عشرين ألفاً وأسروا من رؤسائهم وأهل شوكتهم جماعة وضعفت شوكتهم وزالت قوتهم لأن معتمديهم كانوا بها وصرف السلطان همته إلى إزالة ما كان أحدثه الأرفاض خذلهم الله تعالى في مرقد الإمام الأعظم ومرقد الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنهما وأمر بتجديد عمارة محليهما وأحكم أمرهما غاية الإحكام وبنى ما كان تهدم من سور القلعة وشحنها بالعسكر والعدد وعين لكفالتها وزيراً وقد أكثر الناس من نظم الشعر والتواريخ لفتحها ووقفت بمكة المشرفة على تاريخ للقاضي تاج الدين المالكي
خليفة الله مراد غزا ... قلعة بغداد فأرداها
وعند ما حاصرها جيشه ... اندك للأسفل أعلاها
وأصبح الشاه ذبيحاً لما ... أخبر من كثرة قتلاها
هذا اختصار القول فيها فإن ... قيل لقد أجملت ذكراها
فلتشرحن فعل مراد بها ... مؤرخاً قد ذبح الشاها(3/139)
ثم رحل السلطان عنها قاصداً دار ملكه هذا ما وقع في عهده من الفتوحات وأما ما وقع من الحوادث في أيام سلطنته فمنها تغلب العسكر بعد أن كان أضعفهم بالقتل والنهب بعد توليته الملك كما قدمناه آنفاً ثم حصلت له فلتة فتجاوز الحدود ونصب نفسه المولى حسين ابن أخي لزعزعتهم وقوي جنان السلطان حتى جمع جمعية على السباهية وأباد كبراءهم وقتل الوزير الأعظم رجب باشا الذي كان مستظلاً بظلهم وفي ذلك الإبان سافر السلطان إلى بروسة فبلغه أن المفتي وهو ابن أخي والعلماء يريدون الاجتماع على خلعه فبادر في المجيء ودخل دار ملكه وخنق المفتي وخمدت نار فتنة العسكر بعد ذلك ومنها تبطيله القهوات في جميع ممالكه والمنع عن شرب التبغ بالتأكيدات البليغة وله في ذلك التحريض الذي ما وقع في عهد ملك أبداً ومما يدل على سعادته العظمى توجه خاطره إلى أهل الحرمين وأمره لمتولي الجهات خصوصاً مصر بإجراء حبوبهم وإرسال مغلات أوقافهم فما من أمر يرد عنه إلا وفيه الحث على ذلك ومن ذلك أيضاً التفاته إلى أخبار الرعية مطلقاً والبحث عن أحوال ولاة البلدان التفاتاً وبحثاً تامين بحيث أن ولاة الجهات لا يجاوزون حداً وفي زمانه وقع السيل العظيم المشهور بمكة المشرفة في سنة تسع وثلاثين وألف ودخل المسجد الحرام وطاف بالبيت ووافق تاريخه رقى إلى قفل بيت الله وبسببه انهدمت الكعبة وعمل الناس في ذلك التواريخ والأشعار وفي سنة أربعين كان بناء البيت الشريف ومن التواريخ المنثورة فيه رفع الله قواعد البيت وكانت هذه الفضيلة مما اختص بها السلطان مراد ومن تاريخ الفاسي لغيره قوله
بنى الكعبة الغراء عشر ذكرتهم ... ورتبتهم حسب الذي أخبر الثقه
ملائكة الرحمن آدم ابنه ... كذاك خليل الله ثم العمالقه
وجرهم يتلوهم قصي قريشهم ... كذا ابن زبير ثم حجاج لاحقه
وذيل ذلك بعضهم بقوله
وخاتمهم من آل عثمان بدرهم ... مراد المعالي أسعد الله شارقه
وبيت آخر
ومن بعدهم من آل عثمان قد بنى ... مراد حماه الله من كل طارقه(3/140)
ووقع بعد تمام العمارة بأربع سنين خلل في السطح المكرم فعرض صاحب مكة وشيخ حرمها ذلك إلى وزير مصر فعرض ذلك على السلطان المذكور فورد أمره بذلك فعين وزير مصر لهذه الخدمة من كان قائماً بها ومتعاطياً لها قبل ذلك وهو الأمير رضوان الفقاري وأضاف إليه يوسف المعمار مهندس العمارات السابقة فوصلا في موسم سنة أربع وأربعين فلما كان العشر الأخير من ذي الحجة جعل اجتماع الناس بمصلى الشريف زيد بن محسن وحضر فيه هو وقاضي مكة الشيخ أحمد البكري وقاضي المدينة المولى حنفي والأمير رضوان وغيرهم من العلماء والأعيان فقرأوا سورة الفتح ثم وصلوا إلى الكعبة وأشرفوا على بابها ثم تفرقوا ثم في المحرم سنة خمس وأربعين شرع الأمير في تهيئة الحصى للمسجد ففرشه به ثم لما كان سابع عشر شهر ربيع الأول وصل إلى باب الكعبة وفتح السادن بابها فقعلوه وركبوا عوضه باباً من خشب لم يكن عليه شيء من الحلية وإنما عليه ثوب من القطنى أبيض وفي يوم الثلاثا تاسع عشر الشهر وزنت الفضة التي كانت على الباب المقلوع فكان مجموع ذلك مائة وأربعة وأربعين رطلاً خارجاً عن الزرافين فوزنها وما شابهها مما كان على الباب ثمانية عشر رطلاً ثم شرع في تهيئة باب جديد فشرع فيه وأتمه وركب عليه حلية الباب السابق وكتب عليه اسم السلطان صاحب الترجمة ثم جيء به محمولاً على أعناق الفعلة فمشى الناس أمام الباب إلى أن وصلوا إلى الحطيم وبه الشريف جالس فوضع بين يديه فقام الشيخ عمر الرسام ودعا للسلطان والشريف فألبس الشريف جماعة في ذلك المجلس خلعاً منهم عمر المذكور والأمير رضوان وفاتح الباب والفعلة ثم أدخلوا فردتي الباب إلى داخل الكعبة ودخل الشريف ومعه الأمير وجماعة من الأعيان إلى الكعبة وصعدوا السطح وأشرفوا عليه ثم انفض الجمع فشرع الأمير بعد انفضاض الناس في تركيب الباب فركبه وتم عند غروب الشمس من يوم العشرين من شهر رمضان ثم في موسم العام المذكور توجه بالباب القديم إلى مصر واستلمه وزير مصر وأرسله إلى السلطان وقد أفرد الكلام على عمل الباب المذكور الشيخ العلامة علي بن عبد القادر الطبري برسالة سماها تحفة الكرام بأخبار عمارة السقف والباب لبيت الله الحرام وبين فيها جواز قلع الباب ولو للزينة كما صرح به العلماء فقد قلع مراراً قبل ذلك ولم ينكر كالترخيم والتزيين وكانت ولادة السلطان مراد صاحب الترجمة في سنة إحدى وعشرين وألف وتوفي في تاسع عشر شوال سنة تسع وأربعين وألف ومدة سلطنته ست عشرة سنة وأحد عشر شهراً وخمسة أيام رحمه الله تعالى السلطان مراد بن السلطان سليم بن سليمان بن سليم جد والد الذي قبل السلطان الجليل الشأن أوحد سلاطين الزمان كان أجل آل بيته علماً وأدباً وأوفرهم ذكاء وفهماً اشتغل بالعلوم حتى فاق وملأ صيته بالأدب الآفاق وكان له في علم التصوف المهارة الكلية وفي النظم بالألسن الثلاثة أعظم مزية وكان بعيداً عن التهمة فيما يشوب بشائبة مأمون الدولة وبسعادة ملاحظته عن أدنى نائبة جلس على سرير الملك في نهار الأربعاء سابع شهر رمضان سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة بعد موت والده وكان والده مات وقت الغروب من نهار الاثنين ثامن وعشرين شعبان من هذه السنة وأخفى موته إلى أن قدم السلطان صاحب الترجمة من مغنيسا وبويع بالخلافة وأمر بقتل إخوته على ما هو قاعدة سلطنتهم وكانوا خمسة فخنقوا في الوقت وأمر بتجهيزهم مع والده فجهزوا وصلى عليهم داخل السراي في عدة من الوزراء والأركان والموالي وتقدم للصلاة عليهم مفتي الوقت المولى حامد بإشارة من السلطان قال جدي المرحوم القاضي في رحلته وقد أولع الناس في التواريخ فنظموا ونثروا وأطنبوا واختصروا ووقع اختيار الفقير منها على تاريخ لبعض الأصحاب وهو نصر من الله وفتح قريب لكن يزيد على سني التاريخ بثلثمائة وعشرين من الاعداد فاحترس لإخراج ذلك باحتراس عجيب حيث قال
السعد مذ قارنه منشد ... بطيب ألحان وصوت رطيب
من غير شك جاء تاريخه ... نصر من الله وفتح قريب
ونظمت الفقير تاريخاً وقع في نصف من مصراع اتفاقاً وأظنه لا يجد في سوق الأدب نفاقاً وهو قولي
لقد من رب العالمين على الورى ... بسلطان عدل ليس في عدله شك
فقلت بتوفيق الإله مؤرخاً ... مراد تولى الملك دام له الملك(3/141)
انتهى قلت والفقير استحسن تاريخين لتوليته من نظم محمد المعروف بماميه الدمشقي أحدهما قوله
قد مهد الله البلاد ... بحكم سلطان العباد
والكون نادى منشداً ... تاريخه هذا المراد
والثاني وهو قوله أيضاً فيه
بالبخت فوق التخت أصبح جالساً ... ملك به رحم الإله عباده
وبه سرير الملك سر فأرخوا ... حاز الزمان من السرور مراده(3/142)
وكان همه من حين ولي السلطنة قتال صاحب أذربيجان وخراسان من أولاد حيدر الصوفي فعين الوزير مصطفى باشا فاتح بلاد قبرس صاحب الخان والحمام بدمشق فتوجه في سنة ست وثمانين وتسعمائة بعسكر كثير إلى بلاد الشرق فبنى قلعة قارص وشحنها بالمدافع والمكاحل وبنى مدينة إسلامية فوجد فيها المساجد والجوامع ومزارات الأولياء منها مزار الشيخ العارف بالله تعالى أبي الحسن الخرقاني رضي الله تعالى عنه من كبار الصوفية فلما استولى عليها الكفار أخربوها ثم سار إلى تخوم بلاد العجم والكرج حتى وصل إلى مكان يسمى حكدر من بلاد الشاه فحاصر هناك قلعة لكفار الكرج تسمى يكى قلعه فاستولى عليها ثم هجم عليه عسكر الشاه صحبة وزيره دقماق فبعث الوزير مصطفى باشا عسكراً إلى قتاله فهزموهم وحصدوهم بالسيوف واستولوا على أموالهم وخيولهم ثم استولى الوزير المذكور هناك على عدة قلاع وشحنها بالرجال ثم سار حتى افتتح قلعة تفليس من بلاد أورخان قاعدة مملكة الكرج وكان المسلمون افتتحوها قديماً ثم غلبت الكرج واستولت عليها ولما فتحت مدينة تفليس أرسلت أم منو جهر الكرجي ملكة تلك البلاد ابنها إلى الوزير ثم قام الوزير المذكور بعد أن نصب في تفليس أمير الأمراء في طرف شروان وفي شماخي وبث سراياه إلى الأطراف وتمكن منها ثم ترك فيها الوزير عثمان باشا ابن أزتمر والياً بها فلما أقبل الشتاء توجه الوزير إلى طرف بلاد السلطان وشتى هناك للإغارة في الربيع على بلاد العجم ثم بلغه أن أرس خان صاحب شروان القديم قصده بنحو اثني عشر ألف عسكري لقتال عثمان باشا فوقع بينهما قتال شديد فاتفق أن انتصر عثمان باشا وقتل أرس خان وغالب عسكره ثم وقع بينه وبين عسكر الشاه هناك ما ينوف عن عشرين وقعة وكانت النصرة دائماً في جانب عثمان باشا وآخر ذلك أن عدل امام قولي بعسكر يقرب من ثلاثين ألفاً على أرض شروان فقاتل عثمان باشا مدة أربعة أيام ثم نزل نصر العثمانية وقتل غالب الشاهية وبنى عثمان باشا بعد هذه الوقعة في شماخي حصاراً عظيماً في دور سبعة آلاف ذراع بذراع البناء في مدة أربعين يوماً ثم ترك فيها جعفر باشا نائباً بها وبعد مدة دخل دار الخلافة وصار وزيراً أعظم وذلك بعد أن قاتل في سيره عدة أمم اعترضوه بالحرب وانتصر عليهم ثم لما وصل إلى بلاد كفة بلغه أن خان التتار أظهر العصيان على آل عثمان فقاتله وانتصر عليه وقطع رأسه في سنة ثمان وثمانين وتسعمائة بعث السلطان مراد وزيره سنان باشا إلى قتال العجم فسار مع عسكر جرار ووصل إلى حدود العجم وأرسل إليه الشاه في الصلح وبعث إلى السلطان أحد وزرائه يدعى بإبراهيم خان بتحف سنية وهدايا جليلة وظن سنان باشا أن هذه الحالة مما تعجب السلطان فلم يكن كذلك بل لما عاد الوزير من سفره عزله السلطان وأقام مقامه فرهاد باشا وفي سنة تسعين وتسعمائة احتفل السلطان بختان ولده السلطان محمد وصنع لذلك فرحاً لم يقع في زمن أحد من الخلفاء والملوك وامتدت الولائم والفرجة واللهو والطرب مدة خمسة وأربعين يوماً وجلس للفرجة في دار إبراهيم باشا بمحلة آت ميدان وأغدق النعم العظيمة ورأيت في تاريخ البكري أنه جعل صواني صغاراً من ذهب وفضة وملأ الذهب بالفضة والفضة بالذهب وألقى ذلك لأرباب الملاهي وغيرهم من طالبي الإحسان وجعل بعد ذلك دشيشة لأجل فقراء المدينة الشريفة ووقف عليها أوقافاً كثيرة وبها النفع التام لأهل المدينة وفي سنة إحدى وسبعين توجه الوزير فرهاد باشا إلى بلاد العجم فسار وتوغل في بلاد أذربيجان نحو سبعة أيام واستولى على مدينة روان وبنى عليها حصناً حصيناً ونصب فيها يوسف باشا والياً وأميراً وفي هذه السنة خرج إبراهيم باشا من قسطنطينية إلى الديار المصرية والشامية ليصلح منها ما فسد وغزا الدروز ووقع له تأييد في سنة اثنتين وتسعين سافر فرهاد باشا بعسكر عظيم للغزو ببلاد الكرج فبنى هناك عدة قلاع وفي هذه السنة بعث السلطان الوزير الأعظم عثمان باشا بعساكر عظيمة إلى قتال العجم فتوجه بعد أن شتى في بلاد قسطموني وسار في سنة ثلاث وتسعين ومعه من العساكر ما لا يعلم عددهم إلا الله تعالى وكان ذلك لمحبة الناس له لكرمه وشهامته وحسن تدبيره فعارضه العجم في الطريق فقتل منهم مقتلة عظيمة ثم دخل تبريز في أواخر شهر رمضان من السنة المذكورة ومن هنا أذكر ملخص ما ذكره جدي القاضي محب الدين(3/143)
في رحلته التبريزية التي ما نسج منشىء على منوالها ولا جادت قريحة بمثالها واتفق له السفر المذكور لتسليم مال عوارض في قضاء تولاه وحضر الفتح المذكور حتى أنهى أمره واستوفاه قال وكان هذا السفر مما لم يشاهد مثله في الأسفار ولا دون ما يدانيه في الكتب والأسفار لاسيما جمع كثرته الذي انتهى إليه جمع الجموع وعدم حصر أفراده التي بلغت الغاية في الشيوع بحيث أنه كان إذا سار يسد الفضاء الواسع ويملأ الفلا الشاسع ويضيق عنه المكان الناتىء ويكون كالجراد المنتشر بحذف كاف التشبيه بعين الرائي وكان هذا الفقير إذا شبهه من جهة الكثرة بشيء كثيراً ما يظهر فيه وجه التشبيه ويكون له عند التأمل وجه وجيه فكان إذا شبهته بالنهر العجاج أو البحر المتلاطم بالأمواج يظهر وجه التشبيه في حال سير بعضه ووقوف البعض وقد غطى البقاع وألقى القناع على وجه الأرض فتختلف الأنظار الحسية في جهة سيره إذا سرى فالبعض يقول إنه يمشي القهقرى وأما إذا اختلط الظلام وظهرت الأضواء من تلك الخيام وقابلت بنورها نجوم السما وشبه الفقير هذه الهيئة بتلك الهيئة التبس عليه أيهما المشبه والمشبه به منهما وأما الغبار الذي كانت تثيره السوابح بل تعقده بعدوها الضوابح فكان يذكرنا ذلك كثيراً ما قاله بعض أفاضل الورى عقدت سنابكها عليها عثيراً لا شبهة إن هذا المعنى فيما نحن فيه أمكن بل قيل إنه فيما نحن فيه حقيقة وفيما قيل فيه مجاز وإن كان الكل مجاز فهو أحسن ومما شاهده الفقير من كثرة العساكر أنهم كانوا يصيحون على الطير وهو طائر فيعجز عن الطيران ويروم أن يستقر على مكان فلا يجد تحته غير إنسان ولم يبق له إلى الطيران مجال ثم يسقط فتخطفه الناس في الحال وأما ظباء الفلا والوحوش الهائمة في الملا فكانت تحول بينها الناس فتجول مشرقاً ومغرباً ويضيق عليها الفضاء فلا تستطيع هرباً فيغدو واحدها وهو حيران ويحال بينه وبين النزوان ولا يمكنه عدو ولا حراك فيمسك بالأيدي ويصاد من غير شباك إلى غير ذلك من لوازم الكثرة والوصف الذي لا نستطيع حصره ثم قال فلما تحقق قزلباش أن العساكر مدركوه وأن الوصول إلى تبريز من الأمر المحقق الواقع وصدق عليه قول القائل حيث قالفي رحلته التبريزية التي ما نسج منشىء على منوالها ولا جادت قريحة بمثالها واتفق له السفر المذكور لتسليم مال عوارض في قضاء تولاه وحضر الفتح المذكور حتى أنهى أمره واستوفاه قال وكان هذا السفر مما لم يشاهد مثله في الأسفار ولا دون ما يدانيه في الكتب والأسفار لاسيما جمع كثرته الذي انتهى إليه جمع الجموع وعدم حصر أفراده التي بلغت الغاية في الشيوع بحيث أنه كان إذا سار يسد الفضاء الواسع ويملأ الفلا الشاسع ويضيق عنه المكان الناتىء ويكون كالجراد المنتشر بحذف كاف التشبيه بعين الرائي وكان هذا الفقير إذا شبهه من جهة الكثرة بشيء كثيراً ما يظهر فيه وجه التشبيه ويكون له عند التأمل وجه وجيه فكان إذا شبهته بالنهر العجاج أو البحر المتلاطم بالأمواج يظهر وجه التشبيه في حال سير بعضه ووقوف البعض وقد غطى البقاع وألقى القناع على وجه الأرض فتختلف الأنظار الحسية في جهة سيره إذا سرى فالبعض يقول إنه يمشي القهقرى وأما إذا اختلط الظلام وظهرت الأضواء من تلك الخيام وقابلت بنورها نجوم السما وشبه الفقير هذه الهيئة بتلك الهيئة التبس عليه أيهما المشبه والمشبه به منهما وأما الغبار الذي كانت تثيره السوابح بل تعقده بعدوها الضوابح فكان يذكرنا ذلك كثيراً ما قاله بعض أفاضل الورى عقدت سنابكها عليها عثيراً لا شبهة إن هذا المعنى فيما نحن فيه أمكن بل قيل إنه فيما نحن فيه حقيقة وفيما قيل فيه مجاز وإن كان الكل مجاز فهو أحسن ومما شاهده الفقير من كثرة العساكر أنهم كانوا يصيحون على الطير وهو طائر فيعجز عن الطيران ويروم أن يستقر على مكان فلا يجد تحته غير إنسان ولم يبق له إلى الطيران مجال ثم يسقط فتخطفه الناس في الحال وأما ظباء الفلا والوحوش الهائمة في الملا فكانت تحول بينها الناس فتجول مشرقاً ومغرباً ويضيق عليها الفضاء فلا تستطيع هرباً فيغدو واحدها وهو حيران ويحال بينه وبين النزوان ولا يمكنه عدو ولا حراك فيمسك بالأيدي ويصاد من غير شباك إلى غير ذلك من لوازم الكثرة والوصف الذي لا نستطيع حصره ثم قال فلما تحقق قزلباش أن العساكر مدركوه وأن الوصول إلى تبريز من الأمر المحقق الواقع وصدق عليه قول القائل حيث قال(3/144)
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنأى عنك واسع
ضاق به العطن وأحاطت به المحن فشرع في تحصين تبريز بأشياء يظن أنه يحصل بها الدفاع ويزعم أن أخذها من يده بعد هذا التحصين مما لا يستطاع على أن تلك الأشياء ليست بحاجز حصين ولا يتحصن بها من كان ذا رأي سديد وعقل رصين وذلك أن مدينة تبريز على عظمها وكونها في القدر قريباً من مصر إلا أنها ليست بمورة وليس فيها قلعة معمرة بل هي محاطة بالبساتين إحاطة بساتين دمشق بها أي مع قطع النظر عن لطف الرونق وحسن المنظر فإن كون المشبه ليس كالمشبه به من كل وجه من المعلوم المقرر حاصل الأمر أنه عمد إلى حيطان البساتين وهي من لبن المغاربة وعمل بين كل حائطين حائطاً فيه طاقات لأن يرمي بها العسكر حال المحاصرة والمحاربة وأبقى في تبريز حاكمها من قبله المسمى بإمام قولي خان وجمع إلى أهاليها أهالي تلك الأطراف وأمرهم بمحاربة العسكر معهم ومساعدتهم بحسب الإمكان وخرج هو مع عسكره إلى مكان خارج عن المدينة وزعم أنها بهذه الأوهام والخيالات قد صارت حصينة وكان في عزمه بل في زعمه أنه إذا جاءت عساكر الإسلام المنصورة وقصدوا أن يحاصروا المدينة المذكورة يذودهم ويصدهم عنها من هو فيها بالنشاب والبنادق وأن تخصم هذه الفرازين بتلك البيادق وأنه يحتاط بالعسكر من خارج المدينة ويحاربهم من الخارج بعسكره الأقل ويزعم بأنه المتصف بمضمون قوله تعالى ليخرجن الأعز منها الأذل معاذ الله بل قال عسكر الإسلام عند قربه للبلد ووصوله نقول بموجب ما قلت ولكن العزة لله ولرسوله ثم إن الوزير تقدم إليها بالعساكر المنصورة وهو في غاية القوة والمنعة وتقدم أمامه بيسير جغال زاده يمشي شيئاً فشيئاً كأنه كما قيل
منصرف في الليل من دعوة ... قد أسرجت قدامه شمعه
حتى أتاها وقام على رياضها وقاربها واستقى من حياضها وعندما قصد أخذها ورام يحاولها وقال رائدهم أرسوانزاولها استعان بالله تعالى ووجه إليه مرامي كادت أن تكون من حديد جبالا وقابل تلك الثغور التي تحصنوا بها بثغور مدافع كأنها تبسم ولكن عن شرر كالقصر وحاصرها من قبل الظهر إلى بعد العصر ورماها بها فكانت كالصواعق المحرقة وأرسل عليها شواظاً من نار ونحاس أحرق بها أهل البدع والزندقة وحوم عليها بالعسكر وحلق
وأخاف أهل الشرك حتى أنه ... لتخافه النطف التي لم تخلق
وابتدع ذلك بمشرفيات كأنهن أنياب أغوال أضحت كسنن لاح بينهن ابتداع وقابل تلك البيادق بأفيال من مدافع لا يمكن عنها دفاع فلما عاينوا ذلك الحريق وشدة وقوده قالوا لا طاقة لنا اليوم بهذا الوزير وجنوده فإن هؤلاء كما قيل
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
فعندما شاهد حاكم تبريز تلك الحالة وعلم أن المملكة مأخوذة لا محالة لم ير بداً من أن ينهزم من البلدة ويتسحب وأوجس في نفسه خيفة وخرج منها خائفاً يترقب وطلع عنها متنكراً وهرب منها مبركاً فكان حاله كما قيل
إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ... خرجت مع البازي علي سواد(3/145)
ولكن سواد الذلة ولباس الخزي والمذلة فلما ذهب على هذه الحالة إلى الشاه مات من قهره وجعل الله كيده في نحره وكفى الله المؤمنين القتال وملكت البلاد بعناية الله على أحسن الأحوال ثم لما خذل الله ذلك العدو وافنشل وهرب بعسكره ناحية واعتزل متحيرين مما لقيهم وقد غشيهم من الهم ما غشيهم وصاروا أضعف الناس قبيلاً وطالما تمنوا المحاربة فلم يجدوا إليها سبيلاً وكلما رام ذلك العدو الضعيف أن يوقد ناراً للحرب أطفأها الله وأخمد منها الضرام ومتى قصد المقاتلة والمقابلة يقال له تنكب لا يقطرك الزحام فعند ذلك قال له قومه اقترح شيئاً نجد لك التياعه ومرنا بأمر نجد بامتثاله بحسب الاستطاعة فقال لهم اتبعوني ولكن في الهرب وجدوا في الهزيمة قبل أن يمسنا العطب فلسنا من فرسان هذا الميدان ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان ثم إن حضرة الوزير لم يقنع منه بالهرب بل كان كلما ترحل عنه لج في الطلب وكلما بلغه خبر شرذمة من أولئك جد في طلبها وأقدم وأرسل لحربها خرباً من شجعان العسكر الضاربين بكل أبيض مخذم ومتى قيل له إن طائفة من أولئك في جهة أرسل عيناً تشرف عليها وهو دائماً ماسك عنان فرسه كلما سمع هتفة طار إليها يجول تلك الأطراف مشارقاً ومغارباً عزماته مثل النجوم ثواقبا
تدبير معتصم بالله مرتقب ... لله منتصر في الله منتقم(3/146)
ثم إنه قبل وصوله إلى تبريز كان يترقب من أهاليها لاسيما الأكابر والأفاضل أن يستقبلوه إلى خارج المدينة بمراحل ويقابلوه بكمال الطاعة والانقياد ويظهروا له كمال المحبة والاعتقاد وأنهم يستبشرون بمقدمه ويسرون بحلول قدمه ويبايعونه على أنهم رعايا وأنهم قدموا أنفسهم له هدايا فيراعي كلاً منهم على حسب حاله ويبلغه من الأمن والأماني ما في آماله إلا أن الشاه كان هددهم غاية التهديد وأوعدهم على إقامتهم بالمدينة بأنواع الوعيد فلما دخلها لم ينظر فيها غير فقراء الرعايا والشيوخ الكبار الذين فيهم من عهد عاد بقايا وأكثرهم فقراء آفاقية وأما أكابر المدينة فلم يبق منهم أحد بالكلية ثم إن أهل المدينة لما ذهبوا أخذوا من أموالهم وأرزاقهم ما رخص حمله وغلت قيمته وابقوا ما عدا ذلك مما يثقل حمله وتكثر مؤنته فحصل للوزير من هربهم غاية الغضب وانحرف مزاجه بهذا السبب وكان فعلهم هذا إلى نهب أرزاقهم وسيلة وذريعة فلما دخل العسكر لاسيما الينكجريه أغمضت عنهم العين فنهبوا ذلك جميعه واسترقوا أولادهم وعيالهم وأخذوا أرزاقهم وأموالهم بحيث لم يتركوا من ذلك شيئاً أصلاً وتتبعوا البيوت باباً باباً وفصلاً فصلاً حتى أخذوا الأخشاب وجعلوها أخطاباً ولم يبقوا في المساكن طاقات ولا أبواباً وكثيراً ما شاهدت أماكن ذات أبواب محكمة الصناعة وآلات حازت من اللطف أنواعه من عمل الصناع العوال والأساتذة التي ليس لأساتذة بلادنا عندهم مجال قد كسرت أبوابها فعادت مبنية على الفتح وهدمت جدرانها من الأساس إلى السطح فأضحت على عروشها خاوية بعد أن كانت لأنواع النقوش والزخاريف حاوية ولم يوجد فيها مكان إلا تهدم ولم يبق من أكثرها كما قيل إلا دمنة لم تكلم ثم إن تحت غالب بيوت تبريز مغارات واسعة جداً ينسب واصفها إلى الغلو إذا رام لرسمها حدا طولها فيما يقال كما بين دمشق والصالحية لا يهتدي إليها كل أحد لأن لها مداخل خفية أضمرها من كان لها صانعاً وجعل لها مثل حجر اليربوع نافقاء وقاصعاً مشتملة على خبايا وزوايا أعدوها قديماً لإخفاء أرزاقهم إذا حل بهم مثل هذه المحن والبلايا فوضعوا أمتعتهم في تلك المغارات وأخفوها عن العيون وجعلوها من قبيل المضمرات المبنية على السكون حتى أخبر من يعتمد على أخباره أن غالب أهاليها وأبنائها إلى الآن مختب في داخلها ومحتب بفنائها إلا أن الينكجرية لكثرة تفتيشهم وتنقيرهم وتتبعهم وتحريرهم ظهروا على كثير من تلك المغارات فتوجهوا إليها وشنوا عليها الغارات وكلما اطلع أحد من الينكجرية على شيء من ذلك ذهب لإعلام رفقائه فتجيء وتستخرج اليربوع من نافقائه وقد شوهد بعض من ذلك النوع وذلك مغارة في الباذستان وضع فيها حاكم البلدة خزائنه لما حصل له من الخوف والروع ولما نهب الباذستان لم يعلم بها أحد ولم يطلع عليها إنسان لكن اطلع عليها كثرة التنقير وبلغ أثر تلك حضرة الوزير فأرسل من جانبه الدفتردار في الحال وضبط جميع ما فيها لبيت المال ثم إن العسكر بعد أن نهبوا المدينة ذهبوا إلى الأطراف فنهبوا الزروع ودخلوا البساتين فقطعوا الأشجار من الأصول والفروع فكان حال أولئك كما قيل في المعنى
للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا
ثم بعد ذلك حضر جماعة من أهل المدينة وأكابرها بعد أن ذهب عنهم الروع وجاؤا بحسن الاختيار والطوع وتقدموا إلى حضرة الوزير واعتذروا بأنهم كانوا مجبورين على هذا التأخير فقبل منهم ما أبدوه عذراً ومن عليهم بفك الأسرى فانقلب كل منهم إلى أهله مسروراً ولقي من بعد ذلك الخوف أمناً وسروراً فشرعوا في العود إلى أوطانهم من بعد الهرب وأقبلوا ينسلون إليها من كل حدب هذا وكثيراً ما سألنا بعض أبنائها عن محاسنها واستفسرنا منه عن لطيف مواضعها وأماكنها فيقول لو رأيتموها وهي مأهولة معمورة وبالخيرات والأرزاق مغمورة لرأيتم شيئاً يحير الأفكار ولحكمتم بأن ليس لها نظير في الديار ثم يتنفس الصعدا ويغدو لسان حاله منشداً
ألما على الدار التي لو وجدتما ... بها أهلها ما كان وحشاً مقيلها
ولو لم يكن إلا معرج ساعة ... قليلاً فإني نافع لي قليلها(3/147)
وفي الحقيقة هي من أحسن البلاد الأنيقة ومعدودة كما هو معلوم من الأماكن الرشيقة لكن تعرضت لها أيدي الحدثان وكان مقدراً عليها أن تصاب بهذا المصاب في هذا الأوان
وإذا تأملت البقاع وجدتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد
وأما جوامعها العظيمة الشأن وحسن رونقها الذي لا يوجد نظيره إلا في الجنان فإنها حازت أنواع المحاسن واللطائف ولا يمكن أن يضبط حسن نضارتها بوصف واصف
لقد جمعت كل المحاسن صورة ... شهدت بها كل المعاني الدقيقة
لاسيما تزينها ظاهراً وباطناً بنفيس القيشاني والنقوش البديعة المعاني والكتابات الحسنة التي تكل عن وصفها الألسنة كخط ابن البواب ومن فاقه من مشاهير الكتاب فإنا لم نشاهد مثل هذه الكتابات قط وقد أنسانا ذلك جميع ما شاهدناه في عمرنا من حسن الخط خصوصاً وضع كل شيء في محله واقترانه مع مناسبه والتئامه كالكتابة على المنارة مثلاً المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة وكالكتابة على الأخرى بالخط الواضح المبين ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين وعلى الأخرى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ولقد شاهدنا على حائط الجامع مما يلي الباب من الجهتين مكتوباً بالخط الجلي القويم آيات من الكلام القديم فمن جهة اليمين قوله تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ومن جهة الشمال قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً لكن لم يتمتع النظر بأنضر من ذلك الخط ولا أجلى ولم تشاهد العين ألطف من ذلك الرقم ولا أحلى كلما زدته نظراً زادك حسناً وكلما راجعت البصر كرة بعد كرة يظهر لك من ذلك الشكل لطيف معنى لو اجتمع كتاب العصر لم يستطيعوا أن يكتبوا على شكله مثالاً والحاصل أن ذلك آية من آيات الله تعالى وكنا نقول عند مشاهدة ذلك سبحان خالق القوى والقدر وإنما لمعان تعشق الصور ثم بعد أن وضعت الحرب أوزارها وأطفأت الفئة الغازية نارها شرع الوزير في أن يحصن المدينة ويعمر بها قلعة حصينة وتفصح عن مكان مناسب يليق وأعمل في ذلك المعنى فكره الدقيق فوقع الاختيار على أن يكون محل القلعة موضع قصر الشاه وبستانه واتفق الرأي على أن تكون القلعة عوضاً عن البستان ومكانه فشرع في تعميرها يوم الاثنين خامس شوال من غير قصور وكان الفراغ منها خامس وعشري الشهر المذكور وصار القصر داخل القلعة المذكورة وعادت البلدة بذلك مستورة وأما القصر المذكور فهو حسن المباني لطيف المعاني لا يوجد له مثل في سائر البلاد ولا عمر نظيره ولا من عهد عاد أحكم واضعه بناءه النفيس وأتقن صانعه في شكله المسدس أشكال التأسيس وهو في الحقيقة كما كتب على بابه كمل هذا القصر المعلى والصرح الممرد المحلى الذي لم يوضع مثله في الجنان ولم يخطر مثاله للجنان وتاريخه سنة تسع وثمانين وثمانمائة ولعمري إنه المعنى بقول القائل
قصر عليه تحية وسلام ... خلعت عليه جمالها الأيام
وقد نقل عن الشاه أنه لما بلغه عمارة القلعة مكان قصره وبستانه تأسف كثيراً على معاهد ملكه وسلطانه وضاقت عليه الأرض بما رحبت وعاين أن روحه من جسده سلبت وما أحراه أن ينشد في هذا الحال تحسراً على القصر المذكور قول من قال
فديناك من ربع وإن زدتنا كرباً ... فإنك كنت الشرق للشمس والغربا
وقد غدا مخذولاً مقهوراً وأضحى كأن لم يكن شيئاً مذكوراً ثم لما أتم الوزير بناء القلعة وأكمل الحصار وأحكم وضعه وضع فيه جمعاً كثيراً من العسكر وأمر عليهم حاكماً الباشا جعفر ثم بعد أن أعطى كما ذكرنا لأهل تبريز الأمان ورجع بعضهم إلى المنازل والأوطان وفتحت بعض الدكاكين والحمامات وأضحت مأنوسة بأهلها بعض المحلات اتفق في ذلك الأثناء أن قتل في بعض الحمامات بعض أشخاص من العسكر ونقل إلى النزير أن جماعة من القزلباش مختفين بالمدينة باتفاق من أهلها فغضب من ذلك وتأثر وأقسم أنه ينتقم من أهالي تبريز غاية الانتقام وأمر فيهم حيث وجدوا بالقتل العام واستوعبهم بالقتل واستأصل وصار حالهم كما قيل(3/148)
فما زالت القتلى تمج دماءها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل(3/149)
وقتل عند ذلك آمنهم وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم بل هي أصبحت مضمحلة لا ترى ولم يذروا منها عيناً ولا أثراً بحيث لم يبق منها إلا بعض المواضع ولم يتركوا منها إلا الثلاث الأثافي والديار البلاقع ولم يبق من أهلها إلا من كان طفلاً أو صارخة تصرخ صراخ الثكلى وكان بقي لهم من رزقهم بعض باق فنهب العسكر ذلك الباقي ولم يتركوا لهم شيئاً يأكلونه فكادت أرواحهم من الجوع ترقى إلى التراقي وصار حالهم إلى أسوأ الأحوال وناهيك بالجرح على قرب الاندمال وقد نقل أنه قتل في جملة أولئك جمع من الأشراف الأفاضل وجماعة من العلماء الأكامل وكان ذلك فعلاً صادراً من غير رأي صائب وأمراً يمجه الطبع ويحكم العقل بأنه أمر محذور العواقب وكان الكف عن هذا الفعل أولى وأحرى وإن صدر من بعض مجهول جرم فلا تزر وازرة وزر أخرى ثم اتفق بمقتضى الحكمة الإلهية والأوامر الربانية أن الوزير مرض عقيب ذلك الفعل من غير تأخير واستمر أربعة أيام والتحق بالعليم الخبير وخرج من تبريز وهو يعالج سكرات الموت وانتقل بالوفاة بعد خروجه منها بيوم من غير فوت انتهى ما لزم إيراده عود إلى ما يتم به من صاحب التاريخ مراده وكان قبل وفاته نصب سنان باشا حاكماً وإنه قائماً مقامه فلما توفي رحل سنان باشا بالعساكر فاعترضهم العدو يميناً وشمالاً ووقع بينهم مناوشة فلما وصلوا إلى حدود المملكة العثمانية أمام قلعة سلماس هجم حمزة ميرزا ابن شاه محمد خدا بنده صاحب عراق العجم في نحو ثلاثين ألف راكب فوقع بين العسكرين قتال كثيرا انجلى الحرب عن هزيمة الأعجام بعد أن حصد غالبهم بالسيف فلما دخلوا مدينة وان شقوا بطن الوزير عثمان باشا وحشوه بالطيب وبعثوا جسده إلى مدينة آمد فدفنوه بها وكان الوزير المذكور رأى مناماً وهو بمدينة تبريز أنه كان راكباً فرساً أبيض فألقاه الفرس إلى الأرض وسقطت عمامته عن رأسه فعرف أنه يموت من مرضه الذي اعتراه فأوصى بما أراد وكان من الشجاعة في جانب عظيم وكان تولى عدة صناجق في ابتداء حاله ثم صار أمير الأمراء ببلاد الحبشة فسار حتى انتهى إلى تخوم أرض الحبشة فرأى مكاناً ينبت الذهب فيه في سفح جبل كما ينبت القصب فوصل إلى إقليم القرود وتقاتل معهم مرات عديدة فكان النصر له وفي سنة أربع وتسعين وتسعمائة جهز السلطان صاحب الترجمة فرهاد باشا الوزير مع عساكر عظيمة إلى بلاد العجم فوصلوا إلى تبريز وحصنوا قلعتها ورمموا سورها وكانت السباهية حاصروها مراراً عديدة وقربوا من أخذها ثم بنى بين وان وتبريز قلعتين وشحنهما بالرجال والسلاح ولم يزل الوزير المذكور يشتي ببلاد الروم ويرجع في الصيف إلى بلاد العجم حتى مهد البلاد التي أخذت من الكرج وبنى قلعة كوري ووصل إلى بلاد قره باغ وكنجه وابتنى هناك حصناً على كنجه وحصناً على بردعه وقاتل صاحب قره باغ محمد خان فكسره وغنم أمواله وعاد إلى بلاد الروم وقد وقع فتح بلاد شروان في هذه السنة ومن العجائب التي وقعت في هذه السنة أنه في خامس صفر منها ولد بحارة بلاط من قسطنطينية بدار رجل يقال له الحاج خضر مولود له لحية بيضاء طويلة وليس له عينان ولا فم وعلى حاجبه أو جبينه ثؤلول قدر الباقلا وأذناه في عنقه وحين ولد سطع له نور وبقي إلى أن مات من يومه ولما مات ذهب ذلك النور وجيء به إلى مجلس قاضي استانبول ورآه الناس وسجل بالسجل وبعث بصورة الواقعة للأمصار وفي سنة سبع وتسعين وردت أوامر إلى الأقطار بأنه ظهر بمدينة مراكش من المغرب ثلاثة أنفار أحدهم اسمه يحيى بن يحيى وهو لابس ثوباً من ليف النخل وفي صدره مرآة وهو راكب جملاً ويقول لا إله إلا الله ويقول الجمل محمد رسول الله وإنه يقول للجدار انهدم بأمر الله فينهدم ويقول كن جداراً كما كنت بإذن الله فيكون جداراً عامراً وإن الثلاثة تفرقوا واحداً إلى الشام وآخر إلى مصر وآخر إلى قسطنطينية وإن الثلاثة يجتمعون بالشام وإن المهدي يتلاقى معهم بالشام ومعنم محضر نائب القاضي على قاضي طرابلس الغرب وخطوط العلماء وغيرهم وإن البندق والسهام والسيوف لا تؤثر في واحد منهم ولما اتصل بعلم السلطان مراد أمرهم أرسل إلى بلاد الغرب أن لا يعتبروا شيئاً من ذلك وكذلك إلى مصر والشام وصح هذا الخبر وثبت وفي نهار الثلاثاء ثالث وعشري شهر ربيع الآخر سنة إحدى بعد الألف وقعت الفتنة بإسلامبول وذلك أن العساكر من طائفة(3/150)
اليمين واليسار والءسلاحدارية وغيرهم اتفقوا ودخلوا إلى ديوان السلطان بسبب إبطاء علوفاتهم عن العادة وأرسلوا يطلبون محمداً الشريف صاحب الدفاتر يومئذ فامتنع السلطان من تسليمه لهم خوفاً من أن يقتلوه ولم تزل قضاة العساكر يترددون لهؤلاء الجماعة لدفع هذه الفتنة فلم يقدروا فرجموهم واستمروا واقفين مصرين حتى هجم عليهم من الداخل بعض الصبيان وساعدهم من وجد من القواد وخدمة الديوان واستمروا يضربونهم ويرجمونهم بالحجارة فازدحموا عند خروجهم من الباب الوسطاني حتى تراكم بعضهم على بعض بين البابين واستد الباب فكان الناس يمشون عليهم فقتل منهم ومن المتفرجين نحو من مائة وسبعة عشر إنساناً فأمر السلطان بإلقاء أجسادهم في البحر وسلم الدفتري المذكور وفي هذه السنة عين الوزير سنان باشا لمحاربة كفار المجر وأرسل معه العساكر ففتح تلك السنة قلعة بستريم وقلعة طاطا وشتى بمدينة بلغراد وفي السنة الثانية فتح قلعة قران بضم القاف وقلعة يانق وهي من أحصن القلاع وأصعبها قد أحاط بها الماء وهي مدينة ماتت الملوك بحسرتها لحصانتها ومنعتها ومتانتها وكان فتحها عند النصارى بمنزلة المحال لصعوبة مراقيها واستعلاء مراميها وذلك بعد أن نال المسلمين شدة عظيمة قيل إن النصارى رموهم بالمدافع فجاء مدفع بصنجق النبي صلى الله عليه وسلم الذي صحبه عسكر الشام معهم فكاد يسقط فتلقاه رجل قبل السقوط فلم يسقط ثم بعد أيام لما اشتد بهم الحصار سلط الله عليهم موتانا فجعلوا يموتون في مدينتهم من غير قتال فسلموا المدينة للمسلمين فدخلوها فوجدوها قد جافت من الموتى وسر المسلمون بذلك سروراً عظيماً وهذه جملة الوقائع التي وقعت في زمن السلطان صاحب الترجمة وبالجملة فإنه كان سعيد البخت وكانت أيام سلطنته معتدلة غاية الاعتدال والعلماء والسادات فيها مكرمون وقد كثر في زمنه العلماء وكان محباً لجمع الكتب مع حسن مطالعتها وله أدب باهر وشعر بليغ وكان غاية في التواضع والاستكانة لله تعالى حكى النجم عن الخطيب أحمد بن النعيمي الدمشقي خطيب أيا صوفيا بقسطنطينية أنه كان في حضرة السلطان مراد حين دخل قسطنطينية بعض أقارب سلطان العجم لطلب المصالحة وقد أمر السلطان أن تعرض عليه عساكره مارين عليه بين يدي الإعجام على وجه الاستيفاء وجلس في مكان له على كرسيه وبين يديه شيخ الإسلام المفتي والخوجه ونقيب الأشراف وإمامه وخطيب أيا صوفية وهو المحدث قال فعرضت عليه العساكر من أول النهار إلى وقت الظهر في موكب عظيم قال فرأينا السلطان قد بكى وانتحب وخر عن كرسيه ساجداً ثم قال لنا اشهدوا علي أني عبد لله تعالى من جملة عبيده هؤلاء لا مزية لي بسلطنتي عليهم فأبكانا وبهذا المقدار من الاستكانة لله تعالى والاعتراف يرجى له المغفرة وكانت ولادته بمدينة قسطنطينية في سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وتاريخ ولادته خير النسب وتوفي يوم الثلاثا سادس جمادى الأولى سنة ثلاث وألف بحصر البول بعد أن استمر مدة طويلة منقطعاً واستمر ميتاً عشرة أيام حتى جاء ولده السلطان محمد وجلس على التخت ثم جهز وأخرج بعد صلاة العصر وصلى عليه بساحة أيا صوفيا وتقدم للصلاة عليه شيخ الإسلام محمد بن بستان ودفن بالقرب من تربة والده بقرب أيا صوفيا وله من العمر خمسون سنة وكانت مدة ملكه عشرين سنة وخلف عشرين ولداً ذكراً غير الإناث فلما استقر ابنه سلطاناً أمر بخنق إخوته كما تقدم في ترجمته والله أعلمن واليسار والءسلاحدارية وغيرهم اتفقوا ودخلوا إلى ديوان السلطان بسبب إبطاء علوفاتهم عن العادة وأرسلوا يطلبون محمداً الشريف صاحب الدفاتر يومئذ فامتنع السلطان من تسليمه لهم خوفاً من أن يقتلوه ولم تزل قضاة العساكر يترددون لهؤلاء الجماعة لدفع هذه الفتنة فلم يقدروا فرجموهم واستمروا واقفين مصرين حتى هجم عليهم من الداخل بعض الصبيان وساعدهم من وجد من القواد وخدمة الديوان واستمروا يضربونهم ويرجمونهم بالحجارة فازدحموا عند خروجهم من الباب الوسطاني حتى تراكم بعضهم على بعض بين البابين واستد الباب فكان الناس يمشون عليهم فقتل منهم ومن المتفرجين نحو من مائة وسبعة عشر إنساناً فأمر السلطان بإلقاء أجسادهم في البحر وسلم الدفتري المذكور وفي هذه السنة عين الوزير سنان باشا لمحاربة كفار المجر وأرسل معه العساكر ففتح تلك السنة قلعة بستريم وقلعة طاطا وشتى بمدينة بلغراد وفي السنة الثانية فتح قلعة قران بضم القاف وقلعة يانق وهي من أحصن القلاع وأصعبها قد أحاط بها الماء وهي مدينة ماتت الملوك بحسرتها لحصانتها ومنعتها ومتانتها وكان فتحها عند النصارى بمنزلة المحال لصعوبة مراقيها واستعلاء مراميها وذلك بعد أن نال المسلمين شدة عظيمة قيل إن النصارى رموهم بالمدافع فجاء مدفع بصنجق النبي صلى الله عليه وسلم الذي صحبه عسكر الشام معهم فكاد يسقط فتلقاه رجل قبل السقوط فلم يسقط ثم بعد أيام لما اشتد بهم الحصار سلط الله عليهم موتانا فجعلوا يموتون في مدينتهم من غير قتال فسلموا المدينة للمسلمين فدخلوها فوجدوها قد جافت من الموتى وسر المسلمون بذلك سروراً عظيماً وهذه جملة الوقائع التي وقعت في زمن السلطان صاحب الترجمة وبالجملة فإنه كان سعيد البخت وكانت أيام سلطنته معتدلة غاية الاعتدال والعلماء والسادات فيها مكرمون وقد كثر في زمنه العلماء وكان محباً لجمع الكتب مع حسن مطالعتها وله أدب باهر وشعر بليغ وكان غاية في التواضع والاستكانة لله تعالى حكى النجم عن الخطيب أحمد بن النعيمي الدمشقي خطيب أيا صوفيا بقسطنطينية أنه كان في حضرة السلطان مراد حين دخل قسطنطينية بعض أقارب سلطان العجم لطلب المصالحة وقد أمر السلطان أن تعرض عليه عساكره مارين عليه بين يدي الإعجام على وجه الاستيفاء وجلس في مكان له على كرسيه وبين يديه شيخ الإسلام المفتي والخوجه ونقيب الأشراف وإمامه وخطيب أيا صوفية وهو المحدث قال فعرضت عليه العساكر من أول النهار إلى وقت الظهر في موكب عظيم قال فرأينا السلطان قد بكى وانتحب وخر عن كرسيه ساجداً ثم قال لنا اشهدوا علي أني عبد لله تعالى من جملة عبيده هؤلاء لا مزية لي بسلطنتي عليهم فأبكانا وبهذا المقدار من الاستكانة لله تعالى والاعتراف يرجى له المغفرة وكانت ولادته بمدينة قسطنطينية في سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وتاريخ ولادته خير النسب وتوفي يوم الثلاثا سادس جمادى الأولى سنة ثلاث وألف بحصر البول بعد أن استمر مدة طويلة منقطعاً واستمر ميتاً عشرة أيام حتى جاء ولده السلطان محمد وجلس على التخت ثم جهز وأخرج بعد صلاة العصر وصلى عليه بساحة أيا صوفيا وتقدم للصلاة عليه شيخ الإسلام محمد بن بستان ودفن بالقرب من تربة والده بقرب أيا صوفيا وله من العمر خمسون سنة وكانت مدة ملكه عشرين سنة وخلف عشرين ولداً ذكراً غير الإناث فلما استقر ابنه سلطاناً أمر بخنق إخوته كما تقدم في ترجمته والله أعلم(3/151)
مراد بن هداية الله العجمي الأصل الدمشقي المولد رئيس الكتاب بدمشق وصاحب دفاتر المحاسبة بباب الدفتري وكان صدراً نبيلاً وقوراً ممدوحاً وهو الذي مدحه الفتح بن النحاس بقصيدته المشهورة التي أولها قوله
بصباح وجهك تشرق الأنوار ... ولباب مجدك تهرع الأمجاد
وإذا جرى ذكر الأنام بمجلس ... بدؤا بذكرك وانتهى الإعداد
سجدت لك الأفلاك حين رفعتها ... والغاب ترفع ذكره الآساد
حيرت حذاق الحساب بفكرة ... تركتهم وألوفهم آحاد
قس الفصاحة لو نطقت سحرته ... ولو دلوا أن الحديث يعاد
لم يسبقوك وإن سبقت بوالد ... فكلاهما في المأثرات جواد
ما المجد إلا أن يكون وراثة ... وتزيد عن آبائها الأولاد
منكم بدا نجم الهداية للعلا ... وعشا لنا رقراكم القصاد
كل يؤمل أن يراد سوى الذي ... خلع القبول عليه وهو مراد
إن السيادة في ذراك تعوذت ... بك أن يمد يداً لها الحساد
عزمات مثلك لا تعاب بحدة ... بيض الصوارم كلهن حداد
هذا الغمام على الخلائق رحمة ... وصفاته الإبراق والإرعاد
يا دوحة ظل السعادة ظلها ... لا زال حولك ظلك المياد
ورعى حماك من العناية حارس ... وسقى ثراك من الحياء عهاد
وكان حج في سنة ثلاث وأربعين وألف فتوفي وهو راجع بعسفان في ثاني المحرم سنة أربع وأربعين وألف رحمه الله تعالى مراد رئيس المغربي المشهور أمير البحر وصاحب المغازي كان ميمون النقيبة قوي الطالع غالباً للكفرة كاسراً لشوكتهم بطلاً من الأبطال ولم يتول منصباً للسلطان بل كان يغزو الكفار ومهما اكتسب من غنيمهم أنفقها على نفسه وعلى جماعته الشجعان وكانت وفاته في سنة ثمان عشرة بعد الألف وكان طاعناً في السن ناهز الثمانين سنة وذكر البوريني أنه ورد في سنة موته كتاب من الأمير فجر الدين بن معن لبعض أصحابه يذكر فيه موته بقوله ومراد رئيس توفي فحسبت هذه الألفاظ فوافقت تاريخ موته(3/152)
مراد باشا الوزير في عهد السلطان أحمد صاحب الحروب مع المجر والعجم والجلالية وشهرته تغني عن تعريفه أصله من الخرواد وكان خدم محمود باشا المشهور الذي كان تولى اليمن ومصر وقتله عسكر مصر في شعبان سنة خمس وسبعين وتسعمائة ثم صار كتخداه فلما قتل الوزير المذكور صار أحد الصناجق بمصر ثم صار حاكماً بالحبشة ثم عينه السلطان مراد حاكماً لليمن فوصل الوزير إلى بندر الصلف في شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وتسعمائة ودخل صنعاء في جمادى الآخرة من السنة المذكورة وضاق حاله باليمن وامتحن فيها فظهر في زمانه الإمام الحسن بن علي المؤيدي في سنة ست وثمانين وكان صاحب الترجمة يحب العلماء ويميل إلى الصلحاء وكان له حسن عقيدة في الشيخ الصالح عبد القادر الجعدي وأولاده قدس الله سرهم وهو الذي بشره بولاية اليمن وهو خازندار من عيال خزانة محمود باشا وأدخل الشيخ عبد القادر المذكور ورأس محمود باشا في كمه فشاهد محمود باشا في كمه رجلاً يريد يرميه ببندق فخاف محمود باشا على نفسه فقال الشيخ عبد القادر ما يكون ذلك إلا بمصر فرموه في ولايته بمصر وأرسل وهو حينئذ سردار العساكر السلطانية بعد عزله من اليمن إلى زيد ابن الشيخ عبد القادر المذكور كساء فاخراً ونقوداً وكتاباً باللغة التركية فأمر الوزير كتخدا سنان باشا وكان كاتب الديوان في خدمته أن يعرب للشيخ زيد مفهوم ذلك الكتاب فعربه ورأى فيه من لطف العبارات ما يدل على مكارم أخلاق الوزير المشار إليه وله آثار حسنة باليمن منها جامع في قصر صنعاء وأجرى له غيلاً من جبل نقيم وانقطع في زمن حسن باشا الوزير وبنى أيضاً قبة معظمة على قبور السادة بني الأهدل بزبيد ودفن فيها من متأخريهم شيخ مشايخ الإسلام والحديث في عصره الطاهر الحسين الأهدل وكا له حسن عقيدة فيهم ورفع عن الرعية جملة من البدع والمظالم ونشر عدله في الجبال وكان مع ذلك سفاكاً ثم عزل عن اليمن ووليها بعده الوزير حسن باشا ولما وصل إلى دار السلطنة أعطى حكومة قرمان وأمر بالسفر مع الوزير الأعظم الموجه إلى تبريز فأسرته العجم في الوقعة قال النجم حدثني شيخنا القاضي محب الدين أنه حدثه عن أسره أنه لما أسرته العجم وانتهى الأمر عرضت الأسارى على الشاه إسمعيل فكان يأمر بقتل البعض ورد البعض إلى الرباط أو الحبس قال وكانت عمامتي قد ذهبت عن رأسي وفرجيتي فلما جاءت نوبتي في العرض عليه قال من تكون أنت من العسكر فقلت واحد من السباهية أو قال من القبو قوليه فقال لي كذبت أنت خان من خاناتهم وهم يسمعون الباشا خانا قال ثم أمر لي بساق رقيق ثم أمر بي إلى السجن قال وكان عرفتني من سروالي فإنه كان من الديباج قال فلما كنت في الأسر والحبس نذرت لله تعالى عشرة آلاف ذهباً إن خلصت وعدت إلى حالي أقف بها عقاراً على فقراء الحرمين الشريفين فلما خلص ولاه السلطان مراد نيابة دمشق فعمر بها السوق الذي عند باب البريد وكان يعرف بسوق الطواقية شرع في تعميره في أواخر سنة اثنتين بعد الألف فهدم الحوانيت القديمة وجدد بناءها ووسع الطريق ورفع السقف وبنى على مربعة باب البريد قبة عظيمة عالية ملاصقة للعمودين العظيمين الباقيين عن يمين باب البريد وشماله فجاءت قبة حسنة وجاء البناء حسناً محكماً وأخذ البيوت التي وراءه وعمرها وكالة حسنة وأمر أن يسكن فيه تجار سوق السباهية فنقلوا إليه برهة حتى مات وأعيدوا إلى السوق المعروف بهم الآن ثم عمر إلى جانبه سوقاً آخر ونقل إليه تجار سوق الذراع والمتولي له عمارة السوق الأول والقهوة والوكالة الشيخ أحمد المغربي متولي الجامع الأموي المقدم ذكره وكان تمام عمارتها في سنة خمس بعد الألف وقال الشيخ أبو الطيب الغزي في تاريخ الوكالة
هاك تاريخاً سما له ... بدرها لات الغزاله
جملة الملك بهاء ... وسخاء وبساله
صح في آخر شطر ... ضمن الدر مقاله
ولي الشام مراد ... فبنى خير وكاله(3/153)
والوكالة اسم للخان كما هو المعروف في عرف المصريين والدمشقيون يسمونه قيسارية والمتولي عمارة السوق الثاني له حسن باشا المعروف بشور بزة نزيل دمشق المقدم ذكره ووقف الجميع على الحرمين الشرفين وقتل مراد باشا في تولية دمشق الأمير منصور بن الفرنج الآتي ذكره والأمير علي بن الحرفوش وصير الأمير فخر الدين بن معن صنجقا وبقي نظره عليه ثم انفصل عن دمشق وولي حلب وديار بكر وسافر سفرة الأنكروس التي فتحت فيها قلعة اكره وظهرت له يد في المقاتلة ثم أعطى ولاية روم ايلي مرتين ثم أنعم عليه بالوزارة وأمر بمحافظة بلغراد ولما قتل الوزير الأعظم درويش باشا يوم السبت تاسع شعبان سنة خمس عشرة بعد الألف أرسل إلى صاحب الترجمة للوزارة العظمى بسوق شيخ الإسلام صنع الله بن جعفر وعقد الصلح بين السلطان أحمد وبين نصارى الأنكروس وقدم إلى دار السلطنة فدخلها في أواخر المرحم سنة ست عشرة تم في أوائل شهر ربيع الأول من هذه السنة عينه السلطان سرداراً على بلاد الشرق وأمره بتمهيد بلاد أناطولي فتوجه إلى حلب بقصد الأمير علي بن جانبولا ذو وقع بينهما حروب كان آخرها انهزام ابن جانبولاذ كما سلف في ترجمته ثم إن الوزير صاحب الترجمة شتى في حلب وخرج منها في أول الربيع لقتال قره سعيد وابن قلندر والطويل وكان ابن قلندر استولى على بروسه وأفسد في أطرافها وفي شهر رمضان سنة ست عشرة أحرق أكثر أماكنها فاجتمع أعيان الدولة من العلماء والوزراء عند مصطفى باشا قائم مقام الوزير ودبروا الأمر في أن يرسل من المتقاعدين وأكابر العسكر طائفة لاستخلاص قلعة بروسه منه فسارت الطائفة المذكورة واستخلصت القلعة فغر ابن قلندر ما فعله أن يقابل الوزير صاحب الترجمة فتوجه نحو حلب فالتقى مع الوزير ووقع بينهما حرب انجلى عن هزيمة ابن قلندر وقره سعيد في شرذمة قليلة وقتل أكثر جماعتهما وتمهدت بلاد أناطولي إلى حد أسكدار وكان في تلك الأثناء خرج ببغداد أحمد الطويل واستولى على بغداد وأراد أن يفتك بأهلها فقبض عليه حاكمها وقتله ولم يبق في بلاد أناطولي من قسم الخوارج أحد واطمأنت البلاد ثم دخل الوزير صاحب الترجمة قسطنطينية في شهر رمضان سنة سبع عشرة في أبهة عظيمة وفي خلال سنة ثمان عشرة عزم على السفر إلى العجم وعبر أسكدار ثم ظهر أن الأمر مأخوذ على التراخي فأبطل العزم ورجع إلى دار الملك ثم في تاسع عشر شهر ربيع الآخر سنة عشرين بعد الألف تحركت عزيمته لنحو بلاد العجم وصمم وأقيم مقامه محمد باشا الكورجي الطواشي وسافر بالعساكر إلى أن وصل إلى حدود تبريز فلم يتيسر له ملاقاة الشاه ولا ظفر بشيء مما كان يؤمله فعاود في أثناء الطريق ابتدأه مرض الموت واسترسل إلى أن وصل إلى ديار بكر وتوفي بها وكانت وفاته عند أذان المغرب من ثامن وعشري جمادى الأولى سنة عشرين بعد الألف وحمل مصبراً إلى قسطنطينية فدفن بتربته التي كان أحدثها لنفسه بمدرسته المعروفة به ووصل خبر موته إلى دمشق في شهر رجب من هذه السنة وتأسف الناس عليه لنصحه الزائد للدولة وللمسلمين وقمع الأشقياء الذين أخربوا البلاد وأهلكوا بعتوهم العباد(3/154)
مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن يوسف بن أحمد الكرمي نسبة لطور طرم قرية بقرلاب نابلس ثم المقدسي أحد أكابر علماء الحنابلة بمصر كان إماماً محدثاً فقيهاً ذا اطلاع واسع على نقول الفقه ودقائق الحديث ومعرفة تامة بالعلوم المتداولة أخذ عن الشيخ محمد المرداوي وعن القاضي يحيى الحجاوي ودخل مصر وتوطنها وأخذ بها عن الشيخ الإمام محمد حجازي الواعظ والمحقق أحمد الغنيمي وكثير من المشايخ المصريين وأجازه شيخه وتصدر للإقراء والتدريس بجامع الأزهر ثم تولى المشيخة بجامع السلطان حسن ثم أخذها عنه عصريه العلامة إبراهيم الميموني ووقع بينهما من المفاوضات ما يقع بين الأقران وألف كل منهما في الآخر رسائل وكان منهمكاً على العلوم انهماكاً كلياً فقطع زمانه بالإفتاء والتدريس والتحقيق والتصنيف فسارت بتآليفه الركبان ومع كثرة أضداده وأعدائه ما أمكن أن يطعن فيها أحد ولا أن ينظر بعين الإزراء إليها فمنها كتاب غاية المنتهى في الفقه قريب من أربعين كراساً وهو متن جمع من المسائل أقصاها وأدناها مشى فيه مشي المجتهدين في التصحيح والاختيار والترجيح وله كتاب دليل الطالب في الفقه نحو عشرة كراريس ودليل الطالبين لكلام النحويين وإرشاد من كان قصده لا إله إلا الله وحده ومقدمة الخائض في علم الفرائض والقول البديع في علم البديع وأقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمتشابهات وقرة عين الودود بمعرفة المقصور والممدود والفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة وبديع الإنشاء والصفات في المكاتبات والمراسلات وبهجة الناظرين في آيات المستدلين نحو عشرين كراساً يشتمل على العجائب والغرائب والبرهان في تفسير القرآن لم يتم وتنوير بصائر المقلدين في مناقب الأئمة المجتهدين والكواكب الدرية في مناقب ابن تيمية والأدلة الوفية بتصويب قول الفقهاء والصوفية وسلوك الطريقة في الجمع بين كلام أهل الشريعة والحقيقة وروض العارفين وتسليك المريدين وإيقاف العارفين على حكم أوقاف السلاطين وتهذيب الكلام في حكم أرض مصر والشام وتشويق الأنام إلى الحج إلى بيت الله الحرام ومحرك سواكن الغرام إلى حج بيت الله الحرام وقلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن وأرواح الأشباح في الكلام على الأرواح ومرآة الفكر في المهدي المنتظر وإرشاد ذوي الأفهام لنزول عيسى عليه السلام والروض النضر في الكلام على الخضر وتحقيق الظنون بأخبار الطاعون وما يفعله الأطباء والداعون لدفع شر الطاعون وتلخيص أوصاف المصطفى وذكر من بعده من الخلفا وإتحاف ذوي الألباب في قوله تعالى يمح الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب وإحكام الأساس في قوله تعالى إن أول بيت وضع للناس وتنبيه الماهر على غير ما هو المتبادر من الأحاديث الواردة في الصفات وفتح المنان بتفسير آية الامتنان والكلمات البينات في قوله تعالى وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأزهار الفلاة في آية قصر الصلاة وتحقيق الخلاف في أصحاب الأعراف وتحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان وتوفيق الفريقين على خلود أهل الدارين وتوضيح البرهان في الفرق بين الإسلام والإيمان وإرشاد ذوي العرفان لما في العمر من الزيادة والنقصان واللفظ الموطأ في بيان الصلاة الوسطى وقلائد العقيان في قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان ومسبوك الذهب في فضل العرب وشرف العلم على شرف النسب وشفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور ورياض الأزهار في حكم السماع والأوتار والغناء والأشعار وتحقيق الرجحان بصوم يوم الشك من رمضان وتحقيق البرهان في شأن الدخان الذي يشربه الناس الآن ورفع التلبيس عمن توقف فيما كفر به إبليس وتحقيق المقالة هل الأفضل في حق النبي الولاية أو النبوة أو الرسالة والحجج المبينة في إبطال اليمين مع البينة والمسائل اللطيفة في فسخ الحج إلى العمرة الشريفة والسراج المنير في استعمال الذهب والحرير ودليل الحكام في الوصول إلى دار السلام ونزهة الناظرين في فضائل الغزاة والمجاهدين وبشرى من استبصر وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وبشرى ذوي الإحسان لمن يقضي حوائج الإخوان والحكم الملكية والكلم الأزهرية وإخلاص الوداد في صدق الميعاد وسلوان المصاب بفرقة الأحباب وتسكين الأشواق بأخبار العشاق ومنية المحبين وبغية العاشقين ونزهة المتفكر ولطائف المعارف(3/155)
والمسرة والبشارة في فضل السلطنة والوزارة ونزهة الناظرين في تاريخ من ولي مصر من الخلفاء والسلاطين وقلائد العقيان في فضائل سلاطين آل عثمان وغير ذلك من فتاوى ورسائل نافعة تداولها الناس وله الرسالة التي سماها النادرة الغريبة والواقعة العجيبة مضمونها الشكوى من الميموني والحط عليه وله ديوان شعر منه قولهلمسرة والبشارة في فضل السلطنة والوزارة ونزهة الناظرين في تاريخ من ولي مصر من الخلفاء والسلاطين وقلائد العقيان في فضائل سلاطين آل عثمان وغير ذلك من فتاوى ورسائل نافعة تداولها الناس وله الرسالة التي سماها النادرة الغريبة والواقعة العجيبة مضمونها الشكوى من الميموني والحط عليه وله ديوان شعر منه قوله
يا ساحر الطرف يا من مهجتي سحراً ... كم ذا تنام وكم أسهرتني سحرا
لو كنت تعلم ما ألقاه منك لما ... أتعبت يا منيتي قلباً إليك سرى
هذا المحب لقد شاعت صبابته ... بالروح والنفس يوماً بالوصال شرى
يا ناظري ناظري بالدمع جاد وما ... أيقنت في مقلتي يا مقلتي نظرا
يا مالكي قصتي جاءت ملطخة ... بالدمع يا شافعي كدرتها نظرا
عساك بالحنفي تسعى على عجل ... بالوصل للحنبلي يا من بدا قمرا
يا من جفا ووفى للغير سوعده ... يا من رمانا ويا من عقلنا قمرا
الله منصفنا بالوصل منك على ... غيظ الرقيب بمن قد حج واعتمرا
يا غامر الكئيب بالصدود كما ... إن السقام لمن يهواك قد غمرا
قل الصدود فكم أسقيت أنفسنا ... كأس الحمام بلا ذنب بدا وجرى
وكم جرحت فؤادي كم ضنى جسدي ... أليس دمعي حبيبي مذ هجرت جرى
فالشوق أقلقني والوجد أحرقني ... والجسم ذاب لما قد حل بي وطرا
والهجر أضعفني والبعد أتلفني ... والصبر قل وما أدركت لي وطرا
أشكوك للمصطفى زين الوجود ومن ... أرجوه ينقذني من هجر من هجرا
وقوله
بروحي من لي في لقاه ولائم ... وكم في هواه لي عذول ولائم
على وجنتيه وردتان وخاله ... كمسك لطيف الوصف والثغر باسم
ذوائبه ليل وطلعة وجهه ... نهار تبدى والثنايا بواسم
بديع التثني مرسل فوق خده ... عذاراً هوى العذري لديه ملازم
ومن عجب أني حفظت وداده ... وذلك عندي في المحبة لازم
وبيني وبين الوصل منه تباين ... وبيني وبين الفصل منه تلازم
وقوله
ليت في الدهر لو حظيت بيوم ... فيه أخلو من الهوى والغرام
خالي القلب من تباريح وجد ... وصدود وحرقة وهيام
كي يراح الفؤاد من طول شوق ... قد سقاه الهوى بكأس الحمام
وله
يعاتب من في الناس يدعى بعبده ... ويقتل من بالقتل يرضى بعمده
ويشهر لي سيفاً ويمرح ضاحكاً ... فيا ليت سيف اللحظ تم بغمده
فلله من ظبي شرود ونافر ... يجازي جميلاً قد صنعت بضده
يبالغ في ذمي وأمدح فعله ... فشكراً لمن ما جار يوماً بصده
وله
لئن قلد الناس الأئمة إنني ... لفي مذهب الحبر ابن حنبل راغب
أقلد فتواه وأعشق قوله ... وللناس فيما يعشقون مذاهب
وكانت وفاته بمصر في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وألف رحمه الله(3/156)
الشريف مسعود بن إدريس بن الحسن بن أبي نمى صاحب البلد الشريف نشأ في كفالة أبيه الشريف إدريس ووقعت له حروب مع ابن عمه الشريف محسن بن حسن وفي بعضها أرسل الشريف محسن ولده محمداً فظفر بالشريف مسعود واستولى عليه وأخذه أخذاً شنيعاً وقتل في المعركة السيد حميصة بن عبد الكريم بن حسن والسيد هاشم بن شبير بن حسن ثم دخل السيد مسعود مكة المشرفة برضا من السيد محسن بكفالة الأشراف أنه لا يسعى بخلاف ولا يقول ولا يفعل فلم يثبت على ذلك ثم ولي مكة بعد السيد أحمد بن عبد المطلب في صفر سنة تسع وثلاثين وألف وحمدت سيرته وكان في الجملة من أجود الأشراف ورخصت في زمنه الأسعار وكثرت الأمطار ووقع السيل المشهور الذي ذكرناه في ترجمة السلطان مراد وقام بأمر العرض إلى السلطنة وتقيد في تنظيف البيت والمسجد ومما وقع له أنه شمر عن أكمامه وأخذ مكتلاً وحمل فيه شيئاً من الطين وفعل الناس كذلك فما كان بأسرع من تنظيفه ثم برز أمره إلى المهندسين والفعلة بتنظيف بيت الله الحرام مما وقع فيه من الأحجار والتراب فنظفوه في أسرع ما يكون وبقي أمر العمارة إلى سادس وعشري شهر ربيع الثاني من سنة أربعين كما فصلناه سابقاً ثم إن الشريف مسعود توفي في ليلة الثلاثا ثامن وعشري شهر ربيع الثاني من سنة أربعين ببستانه بأم عابدة بمرض الدق ونزل به الأشراف وقت الضحوة إلى مكة على محفة البغال وصلي عليه بالملتزم ودفن عند أم المؤمنين خديجة الكبرى رضي الله تعالى عنها وكانت مدة ولايته سنة وشهرين وستة وعشرين يوماً وقام بالأمر بعده عمه الشريف عبد الله المقدم ذكره وفي أيامه تمت عمارة البيت الشريف مسعود بن الحسن بن أبي نمى السيد الشريف الأجل المحترم ناب عن أبيه بعد أخيه السيد الشريف حسين في القيام بالأحكام والتصرف في إقامة ولاة دولته من المقدمين والحكام وكان له البشر والخلق الرضي وامتدح بالقصائد المهذبة وقصد بالتآليف المستعذبة لميله إلى أهل الفضل وشغفه بمذاكرة الأدب وكان بينه وبين الإمام عبد القادر الطبري ألفة شديدة ومحبة أكيدة حتى أنه ألف شرح الكافي في علمي العروض والقوافي خدمة له وما زال في ملازمته مدة مديدة ومما اتفق من نوادر الوقائع أنه تواعد مع بعض محظياته ليلاً فأتاه غيرها فظن أنها هي فواقعها حالاً فحضرت المطلوبة وبيدها شمعة موقدة فندم على مواقعته الأولى وكان عنده معين الدين بن البكا تلك الليلة فخرج إليه في الصباح وقال له أجز قول الشاعر
ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناه مافعلت يداه
فأجابه
وعدت معذبي ليلاً فلما ... تبين أنه شخص سواه
ندمت الخ وكانت وفاته في سنة ثلاث بعد الألف بمكة ودفن بالمعلاة وأرخ وفاته معين الدين المذكور بقوله
يا عين مات المفدى ... مسعود والقلب قد ذاب
وكوكب مذ تبدى ... حاولت تاريخه غاب
مسعود الرومي قاضي القضاة الشهير بآواره زاده ومعنى الأواره في الأصل الأمر بالتفتيش على الصيد ثم أطلق في عرف الروميين على المنفرد بخويصة نفسه ولي صاحب الترجمة قضاء دمشق في سنة خمس وسبعين وألف وكان معتدلاً في حكومته لا يهمه شيء إلا يبتني عليه النشاط والسرور لأنه كان متكيفاً جداً وكان حلو العبارة لطيف العشرة مائلاً إلى المجون والمداعبة وكانت أيامه كلها هنية متواصلة الهناء بالفرح ثم عزل عن دمشق وولي بعدها قضاء أدرنة ثم الغلطة ومات وهو قاض بها وكانت وفاته في حدود سنة تسعين وألف(3/157)
مسلم بن محمد بن محمد بن خليل الصمادي القادري الشافعي شيخ الطائفة الصمادية بالشام بعد أبيه وكان حين توفي والده ليلة الجمعة عاشر صفر سنة أربع وتسعين وتسعمائة بالبقاع فأرسل إليه خبر موت أبيه وبقي والده حتى حضر في صبيحة السبت فدفن والده ذلك اليوم وولي المشيخة من بعده قال النجم وكنت مرة مريضاً فاشتدت بي الحمى ذات ليلة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام بالجامع الأموي وكان اليوم يوم الجمعة وأنا عريان فرأيت حلقة فيها قوم قيام يذكرون الله تعالى فدخلت بينهم لاستتر فيهم لئلا يراني الناس عرياناً فلما فرغوا من الذكر جلسوا فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صدرهم ولم أعرف من على يمينه وإنما عرفت الشيخ محمد الصمادي عن يساره وولده الشيخ مسلم عن يسار أبيه ونقباء الصمادية عن يسار الشيخ مسلم فلما فرغوا من الذكر سأل الشيخ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصمادية فقال صلى الله عليه وسلم لا تتعب ما فيهم غير ولدك مسلم قال ثم استيقظت وقد حصل لي عرق عظيم وعوفيت فبلغت رؤياي الشيخ محمد الصمادي فبعث إلي وقال لي يا سيدي نجم الدين بلغتني رؤياك ووالله إنها لحق وأريد منك أن تقصها أنت علي فلما قصصتها عليه بكى وقال والله لقد صدقت رؤياك ما في جماعتنا غير مسلم ثم توفي بعد هذه الرؤيا بيسير وقام ولده الشيخ مسلم مقامه قال وكنت أقول للشيخ مسلم يا مولانا الشيخ أنا الذي جئت بتوقيفك بالمشيخة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيك فيعترف لي بالفضيلة ويعاملني بالمحبة والاعتقاد وهو كان في نفسه صالحاً ديناً مباركاً سليم الصدر والفطرة وكان له في حلقته همة عالية في زمان والده ثم في حال مشيخته وسافر في آخر أعوامه إلى بيت المقدس في سيارة على طريقتهم ومعه من الزوار جماعة وكان للناس فيه اعتقاد ولهم إليه محبة وبالجملة فإنه كان من خير خلق الله تعالى وكانت وفاته في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وألف(3/158)
السلطان مصطفى بن السلطان محمد بن السلطان مراد الملك الصالح الزاهد المتقشف تقدم ذكره إجمالاً مرات من جملتها في ترجمة والده وأنه أوصى ولده السلطان أحمد حين عهد إليه بالسلطنة أن يراعي أخاه صاحب الترجمة وأن لا يقتله فلما توفي السلطان أحمد تولى السلطان مصطفى مكانه وذلك يوم الخميس رابع وعشري ذي القعدة سنة ست وعشرين وألف وبقي ثلاثة أشهر وثمانية أيام فلم تظهر أهليته ولا كفايته لشدة بذله الأموال وكثرة ركوبه إلى المحلات البعيدة من غير تقيد بأمر مركوب ولا غيره لأنه تارك للدنيا وليس براغب فيها بحيث إنه كان في مدة ملكه لبسه جوخة خضراء بأكمام عربية وأما أكله فإنه لم يأكل الزفر مطلقاً وإنما كان يأكل الكعك الناشف واللوز والبندق وأنواع الفواكه وأما أمره في النساء فإن والدته أحضرت له جواري عديدة فلم يقبل منهن واحدة وكان لا يدري من أحوال الملك إلا ما ألقى إليه فلما رأى أركان الدولة أن الأمر به لا ينتظم ذهب المفتي المولى أسعد بن سعد الدين إلى أسكدار لمولانا الشيخ محمود المعتقد الصالح العالم العامل يستشيره في أمر خلعه فأشار بخلعه وأن يولي مكانه السلطان عثمان ثم جاء من عنده وأخبر قائم مقام الوزير مصطفى آغا ضابط الحرم قريب العشاء من ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الأول فأرسل القائم مقام إلى الصوباشي إذا جاءتك في غد ورقة مختومة فافعل بما فيها واحترس على الأبواب فقال سمعاً وطاعة وأما مصطفى أغا فإنه أول ما مضى من ليلة الأربعاء ست ساعات ذهب إلى أبواب السراي وقفلها جميعاً وكذا ابواب الأمكنة التي فيها أكابر الخدم وأخذ المفاتيح وهيأ المحل الذي فيه تخت السلطنة وأوقد فيه الشموع وفرشه بأحسن الفرش وذهب من حينه إلى السلطان عثمان في مجلسه الذي هو فيه وهو محل عمه صاحب الترجمة الذي كان فيه في حياة أخيه السلطان أحمد وفتح عليه الأبواب فحصل له رعب وتخوف من أن يكون عمه أرسله ليقتله فقال له لا تخف أنت صرت سلطاننا فلم يصدق ذلك فصار يحلف له أن القول صحيح ولا زال يتلطف به إلى أن أدخله إلى محل التخت فألبسه ثياب الملك وأجلسه على التخت وقبل يده وصار يفتح أبواب السراي باباً باباً ويدخل من كان داخل الأبواب للمبايعة حتى لم يبق أحد في السراي بغير مبايعة هذا كله والسلطان مصطفى نائم عند والدته ثم أرسل مصطفى أغا للمفتي وقائم مقام الوزير فحضرا وبايعا ثم ذهبوا إلى السلطان مصطفى قبل الفجر فطلبوه من الداخل فخرج إليهم وقال ما جاء بكم في هذا الوقت فكان أول من تكلم شيخ الإسلام أسعد فقال له إن أمر المملكة اختل وإن الأعداء تسلطت علينا ونحن نخشى ضياع الملك وأنت لست بلائق للسلطنة فأجابه بقوله أنا ما طلبت منكم الملك ولا أردته وليس لي به مصلحة فقالوا جميعاً لا نكتفي بقولك هذا ولابد أن تذهب وتبايع ولد أخيك السلطان عثمان فإنا قد أجلسناه على التخت فقال جعله الله مباركاً وأنا ليس عندي مخالفة وذهب وبايع السلطان عثمان فقالوا الآن نحضر جميع الوزراء وأركان الدولة وأشهد على نفسك بالخلع فقال لهم أفعل ذلك فأرسلوا أحضروا الوزراء وقاضي العسكر وكتبوا عليه حجة بخلع نفسه وأرسل القائم مقام الورقة وهي الموعود بها إلى الصوباشي وفيها الأمر بالمناداة وتولية السلطان عثمان فنودي بذلك ثم لما قتل السلطان عثمان وقعت البيعة العامة للسلطان مصطفى في سادس رجب سنة إحدى وثلاثين وألف ففوض أمر الوزارة العظمى لزوج أخته داود باشا فلم تحمد سيرته فعزل بعد عشرين يوماً من توليته ولم يتفق له حضور الديوان السلطاني إلا مرة واحدة ثم فوض أمر الوزارة لمره حسين باشا وعزل بعد أربعة أشهر لفرط حمقه وغلبة طمعه ثم ولي مكانه محمد باشا الكرجي وكان وزيراً كامل العقل ناصحاً للدولة قائماً برعاية أمور الملك إلا أنه لم يسلم من مكيدة مره حسين باشا فحرك عليه السباهية وثارت فتنة عظيمة لم يمكن أن تهمد إلا بعزل الكرجي وتولية مره فوليها مره ولما وليها وافق أمر الله أن قامت أمراء أناطولي ونوابها على ساق لطلب دم السلطان عثمان وأظهروا الاستقلال التام في ولايتهم فاتفق الرأي على تعيين محمود باشا ابن جغال لتسكين فتنتهم فسار إلى أن وصل إلى أنقره ولم يتفق له مقابلة أحد فرجع لمحافظة بروسه في رجب سنة اثنتين وثلاثين اتفق أن الوزير عزر قاضياً في حضرته فاجتمع العلماء بجامع(3/159)
السلطان محمد وقصدوا إيقاع أمر فلم يمكنهم وبلغ الوزير ذلك ففرق الجمعية وعزل بعض أشراف من العلماء ونفى بعضاً ثم في شوال من هذه السنة اجتمعت السباهية على عزله وتبعهم الجم الغفير فلم يخلص من أيديهم إلا بإرسال مهر الوزارة إلى السلطان واختفى مدة وكان قتله على يد السلطان مراد وولي الوزارة مكانه علي باشا المعروف بكمانكش ثم اختار السلطان صاحب الترجمة التخلي عن السلطنة والعزلة فخلع عن السلطنة في يوم الأحد رابع ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وألف وكانت مدة خلافته سنة واحدة وأربعة أشهر وما عاش بعد ذلك كثيراً وكانت ولادته سنة ألف رحمه الله محمد وقصدوا إيقاع أمر فلم يمكنهم وبلغ الوزير ذلك ففرق الجمعية وعزل بعض أشراف من العلماء ونفى بعضاً ثم في شوال من هذه السنة اجتمعت السباهية على عزله وتبعهم الجم الغفير فلم يخلص من أيديهم إلا بإرسال مهر الوزارة إلى السلطان واختفى مدة وكان قتله على يد السلطان مراد وولي الوزارة مكانه علي باشا المعروف بكمانكش ثم اختار السلطان صاحب الترجمة التخلي عن السلطنة والعزلة فخلع عن السلطنة في يوم الأحد رابع ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وألف وكانت مدة خلافته سنة واحدة وأربعة أشهر وما عاش بعد ذلك كثيراً وكانت ولادته سنة ألف رحمه الله مصطفى بن أحمد بن منصور بن إبراهيم بن محمد سلامة أبو الجود بن محب الدين الدمشقي الفاضل الأديب المشهور كان من أجلاء الفضلاء الذين جدوا في الاكتساب وأفادوا من الفضائل ما يعز إليه الانتساب قرأ بدمشق على الحسن البوريني وغيره وسافر إلى مصر مرتين الأولى في سنة أربع وعشرين بعد الألف وأقام بها خمسة أشهر وانقطع مدة إقامته في الطلب غالباً إلى البرهان اللقاني وخصه بدرس في ألفية الحديث على خلاف عادته من الامتناع عن التخصيص لفرد على الخصوص ثم أجازه بما قرأه عليه وما سمعه منه في إجازة ختمها ببيتين من نظمه وهما
مذ حل في مصر ركاب المصطفى ... فاقت وأشرق أزهر بالنور
من آل فرفور ونخبة خيضر ... كحلول موسى لاقتباس النور
قال المصطفى فقلت مادحاً له مضمناً لهذا البيت مع تعبير بديع من التجنيس حصل للبيت المذكور منه التحسين والتأنيس وأضفت إليه بيتاً آخر وكتبت البيتين بخطي وأعطيتهما للشيخ من يدي وهما
إن اللقاني الهمام انتاشني ... من بعد ما قد كنت كالشيء اللقي
حل من العلياء في أعلى الذرى ... فقصر اللاحق عن طول المدى
قال ثم بعد رجوعي إلى الوطن وسكون القلب بالقرار في السكن بعثني لاعج الحنين إلى الأحباب وتذكر التأنس من تلك المعاهد الرحاب أن صغت أبياتاً بديعة المطلع والختام مفصلة السمط مطبوعة النظام في مدح الشيخ المذكور بنيت البيتين المذكورين بواسطتها وبينت أنهما كواسطتها بحيث جاءت مقصورة مقصوراً عليها البديع أيما قصر رافلة في غلائل البلاغة تفوق دمنة القصر حملها إليه قاضي مصر صاحبنا الشريف وقد اجتاز على دمشق متوجهاً إلى مصر لمباشرة قضائها وذلك في آخر شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين بعد الألف والمقصورة المذكورة هي هذه
قد عن للقلب حنين للسرى ... لمصر وهي الشام في وجه القرى
والأزهر الجامع فيه سادة ... غر ميامين غدا كل رضى
لاسيما فخر اللقان من له ... برهان فضل ليس يغشاه الخفا
حبر لتحقيق وتدقيق حوى ... أهاب بالعلم فلبى وسعى
إن اللقاني الهمام انتاشني إلى آخر البيتين المتقدمين وبعدهما
قد اقتنى العلم فقيه يقتدى ... به لنعم المقتدى والمقتني
يعيد مكنون الخفايا واضحاً ... كالصبح عنه حين ينجاب الدجى
متى يحول حل إشكال عرا ... رعاه توفيق فأجدى وهدى
أجرد طرف البحث منه ما كبا ... ولا حسام الفضل في باب نبا
يشتاقه قلب إليه قد صفا ... والأذن قبل العين راقتها الحلى
جسمي نأى والقلب منه قد دنا ... وثيق عهدي ليس مفصوم العرى
لا زال في صهوة عز يمتطي ... لا يجد السوء إليه مختطى(3/160)
ثم سافر الثانية في سنة تسع وثلاثين قال واجتمعت بشيخنا المذكور وحضرت درسه في صحيح البخاري برواق المغاربة من الجامع الأزهر بمصر ثم توجهت على الطريق المصري لقضاء فريضة الحج فاجتمعت به بمكة في موسم عام أربعين ثم ودعته وداعاً لا تلاقي بعده فتوجه صحبة الركب المصري وتوجهت صحبة الركب الشامي فوافاه أجله في عقبة أيله انتهى ثم استقر بدمشق مدة متفرغاً للإفادة واشتغل عليه جماعة بالجامع الأموي وولي النظر على دار القرآن الخيضرية والتربة التي بمحلة مسجد الذبان وهما إنشاء جده من قبل الأمهات القطب محمد بن عبد الله بن خيضر بكسر الضاد المعجمة الشافعي البلقاوي المشهور بالقطب الخيضري وكان في رحلته إلى مصر وقف على مدرستين له بالقرافة الصغرى فأظهر مسطور وقفها وولي النظر عليهما أيضاً وسافر إلى حلب مرتين أيضاً الأولى في سنة ست وثلاثين والثانية في نيف وخمسين ودخل ثغر صيدا أو بيروت في أيام الأمير فخر الدين بن معن وولده الأمير علي وله من التآليف شرح الملحة وهذا الشرح فيما أدركت من معزاه ليس إلا فهرست تاريخ أجداده وطالما حدثت عن صاحب الترجمة بأنه كان غالب عليه السوداء المحترقة فحقق عندي شرحه هذا أنه بلغ الغاية في التخليط وكثيراً ما وقفت على كتب من متملكاته وعلى غالب هوامشها خطه وكان يكتب الخط الثلث الجلي وكل ما يكتبه لا مناسبة له بما كتب عليه بل ثمرته بتشيع الكتاب الذي يدخل تحت يده وهكذا كان يفعل في الكتب التي لغيره يستعيرها للمطالعة فيملؤها بخلطياته وأحسب أن هذا الأمر طرأ عليه في أوسط عمره فتغلبت عليه السوداء حتى كان يطلع إلى منارة المسجد الذي بمحلتهم وينادي بأعلى صوته بسب بعض العلماء الكبار ويصرح بأسمائهم وقد وقفت له على ترجمة بخط شيخنا الشيخ رمضان العطيفي ذكر له فيها مناظيم كثيرة اخترت منها هذا القدر الذي أورده فمن ذلك ما كتبه إلى شيخ الإسلام أسعد بن سعد الدين لما قدم من الحج وزيارة بيت المقدس في سنة أربع وعشرين وألف
بحلية فضل الأوحد الفضل أسعدا ... تجملت الدنيا وكللها الندى
وقرت به عيناً وقرت لأنه ... غدا فوقها ركناً ركيناً مشيدا
إمام لنحو الفضل قد مد باعه ... فقصر عن أدنى معاركه المدى
حوى العلم عن جد وجد وراثة ... فيا حبذا تأسيس أصل تأكدا
وحل ذرى العلياء مذ كان يافعاً ... فأكرم به فخراً ومجداً وسوددا
عليه من المجد الأثيل شعاره ... وبالعلم والتقوى تأزر وارتدى
وقد تم في أفق السعادة سعده ... ولا غرو سعد من سعيد تولدا
سرى قاصداً نحو المدينة طيبة ... فحج وقد زار النبي محمدا
وعاد إلى القدس الشريف مبادراً ... فزار من الأقصى المبارك مسجدا
وأم دمشق الشام عوداً لبدئه ... فزادت به حسناً أخيراً ومبتدا
ويا ليته لو دام فيها مقامه ... لينقع من ريا خليقته الصدى
ولكن بظهر الغيب أحفظ وده ... وهيهات أن أنسى لديه توددا
وداد له في القلب أزكى مغارس ... وعهد وثيق بالمحبة قد بدا
فدام له العيش المهنأ أرغداً ... وطالعه السيار أسعى وأسعدا
قال وأنشدني من لفظه لنفسه وقال إنه أول نظم نظمته وهو
يا مليحاً حوى جمالاً وظرفا ... وغزالاً قد فاق جيداً وطرفا
كلما ازداد في الملاحة ضعفا ... زادني الوجد في الصبابة ضعفا
وأنشدني من لفظه لنفسه وقال إنه لم ينظم هذين البيتين على طريقة النظم من الفكر والروية بل نفحة ربانية وذلك بمصر
لا أشهد الفضل لكني شهدت به ... للنفس إذ دأبت في العلم تحصيلا
وذاك من باب تحديث لخالقها ... بنعمة منه تحصيلاً وتنويلا
وأنشدني قوله مادحاً للنور الزيادي عالم مصر قبل التوجه فلما توجه وجد الشيخ قد مات فزار قبره وأنشدهما
عجبت عمري لزيد نيل ... قد زاد نيلاً لكل زاد
فقال لي ليس ذا عجيباً ... ففضل فيضي من الزيادي
وأنشدني من لفظه لنفسه ارتجالاً فقال(3/161)
من رام ظلاً وريفاً يستظل به ... وينثني بثناء طيب الخبر
فليطلب العلم بالإخلاص مجتهداً ... يفز بما شاء من عز ومن خطر
وكتب إليه الشيخ عبد الباقي الحنبلي في ذي القعدة سنة ست وخمسين وألف مسائلاً فقال
أيا عالماً أحيا مدينة جلق ... ونحرير هذا العصر كشاف بلواه
دهتني هموم أنت ترجى لكشفها ... فمنها سؤال أنت بالحق مقضاه
وذاك حوالينا لقد جاء مسنداً ... وفي السنة الغراء حقاً رويناه
ففرده حول كذا قال شارح ... وللمجد في القاموس يفرد معناه
وفي الفتح أنصبه بفعل مقدر ... أي امطر حوالينا من القفر حياه
ولكنه مبني أو هو معرب ... فإن قلت بالثاني فبين لمبناه
فكيف يفيد الفرد هل هو مفرد ... وهل هو مجموع فأوضح لمعزاه
وإعرابه بين على كل حالة ... فأنت لهذا الخطب وضاح منشاه
وهل ظاهر الإعراب أو هو مقدر ... أرخى من الأشكال ما صرت ألقاه
فكتب الشيخ مصطفى إليه الجواب وهو
أيا من حوى علماً تقاصر عنده ... علوم ذوي التحقيق عن بعد مسراه
ويا فاضلاً عمت فواضل جوده ... فما طالب إلا وقد حاز جدواه
ويا من له غوص بفضل فطانة ... على كل معتاص على الفهم معناه
أتيت بلفظ في سؤال منضد ... كعقد بجيد الغادة الخود خلناه
وذاك حوالينا الذي جاء وارداً ... بلفظ حديث يجتلي القلب مرآه
وإعرابه نصب على الظرف ظرفه ... مكان والزماني ينافيه مبناه
ولكنه جمع أتى وهو نادر ... على صورة الاثنين حقار ويناه
ولكنه لما أضيف لمفرد ... غدت نونه حذفاً لما قد أضفناه
وهذا الذي يبدو لعبد مقصر ... مقر بتقصير وذنب جنيناه
وعذراً فإن العذر عندك سائغ ... فأنت إمام شاع في الناس تقواه
فلا زالت للإشكال توضح بهجة ... تزيل عن الفهم الذي منه يغشاه
ودمت معاً في سرور ونعمة ... تقر عيون المستفيدين نعماه
وخص إله العرش أفضل خلقه ... نبياً علوم الخلق من فيض علياه
محمد المختار مفزع أمننا ... بدنيا وأخرى فهو ركن عهدناه
بأفضل تسليم وأزكى تحية ... وآل وصحب ما حديث رويناه
ومن خطه نقلت له أيضاً قوله
لا تسأ من مجمل العلم من كتب ... فالعلم أنفس شيء أنت حامله
فأجابه مجيزاً لهذا البيت الشمس محمد الفرفوري فقال
وانقل لصدرك ما أودعت من كتب ... يرحك عن حملها ما أنت ناقله
وكتب من خطه أيضاً قوله
أحسن برأي امرىء عدا الكفاف غنى ... مجرداً لهم في دار يعادلها
طوبى لمن بات في أمن وفي دعة ... فراحة القلب لا شيء يعادلها
قال وسألته عن مولده فأخبر أن والده كتبه على ظهر كتاب وأنه ضاع لكن في غالب ظنه أنه في نيف وسبعين وتسعمائة وحصل له مرض في أوائل سنة إحدى وستين وألف وانقطع في داره التي هي داخل باب توما وتعرف ببيت محب الدين جوار دار شيخ الإسلام ابن عماد الدين فعدته في أثناء المرض فرأيته مترقباً للعافية وآثار الموت عليه غير خافية فتكالمنا معه فأبدى لنا من فضائله ما يسحر العقول من معقول ومنقول ومن كل معنى فائق ونظم رائق ثم بعد ذلك فارقته فراق وداع متأسفاً على طي فضائله التي انعقد على حسنها الإجماع فكان بعد ذلك يراسلني بالرسل والأوراق إلى أن كتبت له جواب رسالة في ليلة السبت ثالث عشر صفر من السنة المذكورة وفي ضمنها هذه الأبيات
أسأل الله من أتم علاكا ... خالق المخلق أن يتم شفاكا
فلقد زاد سقم صبك هذا ... ودواه محققاً رؤياكا
وهو حيران في غياهب شك ... ليس يبدي لنورها إلاكا(3/162)
عشت صدراً لطالب العلم بدراً ... زدت قدراً تسمو به الأفلاكا
لتنال الطلاب منك مناهم ... ومناهم والله أقصى مناكا
ثم قصدت أن أسيرها في اليوم المذكور فلم يتفق لكثرة الأمطار حتى صارت طرقات المدينة كالأنهار فإذا هو انتقل بعد الظهر في اليوم المذكور إلى رحمة رب العالمين ولم يمكن في ذلك اليوم التجهيز والتكفين واستمر المطر متصلالاً ينقطع إلى يوم الأحد فغسل وكفن في الأمطار الغزار وذهب به إلى جامع بني أمية وصلى عليه الظهر وحمل إلى قرية الشيخ أرسلان فدفن قبالة الشباك المواجه للضريح عليه رحمة الحنان المنان واتفق أن صار حالة الدفن مطر غزير لم يتفق مثله في الأعوام قفلت البصيدة التي أولها
بكت السماء بمدمع هطل ... إذ مات غيث الجود والفضل
ولم يذكر منها إلا بيت المطلب هذا وأنا لم أقف عليها قلت ومما يتعلق بترجمة صاحب الترجمة في تسميته نفسه بالمصطفى معرفاً ما وجدته بخط البوريني تحت كتابة للمصطفى فكتب تحتها قاعدة في أل التي تكون للمح الوصف من زوائد الشيخ الطيبي الكبير على ألفية ابن مالك
كالفضل والحرث والعباس ... وليس هذا الباب بالقياس
قلت والبيت في الأصل هكذا
كالفضل والحرث والنعمان ... فذكر ذا وحذفه سيان
وإذا علمت هذه القاعدة على هذا الأسلوب أنه لا يؤتى بأل في مثل هذه الكلمات إلا إذا سمعت من العرب وإذا لم تسمع فالإتيان بها غلط فأل في المصطفى إذا كان مصطفى علماً غير واقعة في موقعها الصحيح لأنها لم تسمع فيه فالواجب حينئذ حذفها فاعلمه مصطفى بن أحمد بن مصطفى البولوي مفتي السلطنة وعالم علمائها ورئيس نبلائها الإمام العالم العلم العلامة الشهير كان أوحد الزمان في الفنون مطلعاً على الظاهر منها والمكنون مشاراً إليه بالتحقيق منذ عرف محلى بنفائس الصفات العلية من حين وصف وكانت دمث الأخلاق رقيق الطبع ذا مروءة وسكينة ومكانة من الأدب مكينه انتمى في مبدأ أمره إلى شيخ الإسلام يحيى بن زكريا وتلمذ له ولازم منه وكان المولى المذكور يحبه ويقدمه وولاه المدارس السامية ثم بعد وفاة المولى المذكور ما زال حظه وصيته ينمو حتى صار مفتش الأوقاف ثم ولي ابتداء قضاء بروسه ولا زال في رفعة إلى أن تولي قضاء العسكرين ثم الإفتاء ثم عزل وأمر بالتوجه إلى مصر وأعطى قضاء الفيوم فأقام بمصر معظماً يقري ويدرس ببيته وللناس عليه إقبال عظيم لتواضعه ولطف معاملته وله من المؤلفات شرح على الكنز وحواش على شرح أشكال التأسيس وغير ذلك من التحريرات الفائقة وكانت وفاته في سنة تسعين وألف(3/163)
مصطفى بن رمضان الشهير بابن صاري خوجه الدمشقي الدفتري الرئيس الجليل الشأن كان من أرباب الوجاهة والمروءة وحسن الخلق لين الجانب حليماً معاشراً سهل الصحبة ذكره والدي في تاريخه فقال في ترجمته كان أبوه رومياً من أهل أدرنه ورد دمشق واستوطنها إلى أن تلا الدهر آية موته وأعلنها وكان اقتنى داراً بباب قلعة دمشق متصلة بدار الحديث الأشرفية وجاءه أولاده منهم صاحب الترجمة فأقرأه وكتبه وعلمه حتى تعلم الرقم والحساب فدخل في زمرة الكتاب واختلط بالأعيان وأكثر من التردد إلى المرحوم حسن بن عثمان الرومي لكونه في جواره وداره تجاه داره وفرغ له عن كتابة أوقاف الدرويشية وكان ممن تمهر على يده في الأرقام الحسابية ثم انحاز إلى إبراهيم باشا الدفتري وصار من خواص جماعته وصار كاتب الوقف الجامع الأموي ومتولياً على وقف الدرويشية ثم صار كاتباً في قلم المحاسبة بالخزينة الدمشقية وكاتباً للكيلار السلطاني وحج بهذه الخدمة مرتين ثم صار محاسباً بالخزينة بعد الرئيس مراد بن هداية الله المقدم ذكره وكبر بهذه الخدمة وصار يراجع في الأمور المهمة وصارت له رتبة الدفترية مع بقاء المحاسبة ثم صار دفترياً أصالة في سنة ثمان وخمسين وألف وعزل عنها وأعيد إليها مرات ثم صارت له رتبة بكلربكية مرعش وصار قائم مقام الوزير الكبير محمد باشا بويني أكرى لما جاءه ختم الوزارة العظمى وهو محافظ دمشق ثم بعد ذلك أكره من قبل الجند الشامي على حكومة الشام في ماجرية مرتضى باشا ثم تناقضت أحواله وتشتت فكره وباله ولا غرو فللزمان صروف تجول وأمور تعرض وتحول فإذا أقبل جد المرء فالإقبال يسعده والأوطار تعينه وتساعده وإذا أدبر فالأيام تعاديه والنحوس تراوحه وتغاديه وأظهر الفقر للأنام والفاقة الشديدة للحكام ثم سار إلى أدرنة بطلب من طرف السلطنة للسؤال عن اختلال الخزينة الشامية فاتهم في بعض أمور أحيلت عليه فنفذ فيه القضاء وأسرع القتل إليه ومات شهيداً ودفن وحيداً وكان قتله في سنة إحدى وسبعين وألف ومن الاتفاق أن والده ولد بأدرنة ودفن بدمشق وهو بعكس ذلك مصطفى بن زين الدين بن عبد القادر بن محمد الشهير بابن سوار الحموي الأصل الدمشقي المولد الشافعي شيخ المحيا السوي الشيخ الإمام الحبر البحر الصالح الناسك من زنده بالفضل واري وعرضه من كل ما يشين عاري إن كان الفضل روضاً فهو نواره أو الصلاح يداً وساعداً فهو سواره
ندب يغار على الفضائل فضله ... فيضمها ضم السوار المعصما
نشأ في صيانة وديانة وترعرع ملىء برده متانة ورزانة وأخذ الفقه عن جمع منهم الشهاب العيثاوي والشمس الميداني والعلوم العقلية عن جماعة أجلهم الملا محمود الكردي والعلوم العربية عن الشيخ عمر القاري والشيخ عبد اللطيف الجالقي وأخذ الحديث عن الشيخ عبد الرحمن العمادي والنجم الغزي ولازمه سنين وروى عنه الكتب الستة وغيرها وصار معيداً لدرسه العام تحت قبة النسر لما مات الشيخ رمضان العكاري سنة ست وخمسين وألف وكان النجم يقول من أراد أن ينظر إلى حواري هذه الأمة فلينظر إليه وكان حسن السمت والخلق لطيف الطباع مهاباً مجللاً عند علماء دمشق وأمرائها وكبرائها معتقداً عند الخاص والعام لا يتردد إلى أحد إلا الخواص وجلس للتدريس وانتفع به جماعة من أجلهم شيخنا الشيخ عثمان ابن محمود المعيد وكان منهمكاً على بث العلوم وإفادتها مواظباً للمحيا النبوي ليلة الاثنين بالجامع الأموي وليلة الجمعة بالجامع البزوري بمحلتهم قبر عاتكة قائماً بوظيفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع الإحسان للفقراء والضعافء ولين الجانب والتواضع التام وكانت ولادته سنة عشر بعد الألف وتوفي سنة إحدى وسبعين وألف ودفن في تربة الدقاقين بمحلة قبر عاتكة ورثاه الأمير المنجكي رحمه الله تعالى بقوله
لعمرك زند الفضل أصبح عاطلاً ... من ابن سوار بعد ما كان حاليا
وقد ملئت منا القلوب لفقده ... مصاباً وأضحى مجلس العلم خاليا(3/164)
ورآه تلميذه صاحبنا الشيخ عبد الله بن علي العاتكي بعد موته في المنام بعد ليلتين وهو طائر فقال له يا سيدي إلى أين تطير قال إلى عليين فقال له بم نلت ذا فقال بكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له ولد اسمه زين الدين وكان من الأفاضل واتفق أنه مات ثاني يوم من وفاة والده ويروى أنه كان لقن أباه وبعد أن فرغ من التلقين دعا الله أن يلحقه بوالده فاستجيب دعاؤه ورؤي والده في المنام وهو يقول إن الشوق إلى زين الدين جذبه إلينا وما قدرنا على فراقه رحمهما الله تعالى مصطفى بن سعد الدين بن محمد بن حسين بن حسن الجباوي الدمشقي القبيباتي الشيخ المجذوب كان من الأسخياء الأجواد حج في خدمة والده في سنة ست وثلاثين وألف ثم اشتغل بالتجارة وسافر إلى مصر مرات ثم تعانى طبخ الصابون وبيع الحرير ثم صار شيخ زاويتهم بعد وفاة أخيه الشيخ موسى في سنة ثمان وأربعين وألف لعدم وجود أحد غيره وأقبلت الدنيا عليه ومالت إليه بالقلب والقالب وانحصرت فيه جميع أملاك بني سعد الدين وأوقافهم وجمع من المال ما فاق به على آبائه وأجداده وتميز به على المشايخ الصوفية وحج ثانياً إلى بيت الله الحرم في سنة ست وخمسين بأهله وأولاده وسافر إلى بيت المقدس ثم حج ثالثاً وكان في جميع شؤنه متناقض الأطوار وبالجملة فقد كان صدق قولهم هو كخبز الشعير يؤكل ويذم والكهندبة يكره ويلم
كماء طريق الحج في كل منزل ... يذم على ما كان فيه ويشرب
وكان له ابن يسمى سعد الدين وكان نجيباً أصيب به في طريق الحج وحزن عليه حزناً شديداً ثم بعد ذلك حط به الدهر واستطالت عليه يد اللئام واستغرق أوقاته في النزاع والخصام وعارضه بعض حكام دمشق في كل أمر وقع له فترك زاويته التي بالقبيبات وسكن داخل دمشق وتزوج أم ولد بعض التجار ثم تزوج زوجة التاجر المذكور أيضاً وزادت عليه الأكدار وكان له بنت مزوجة ببعض الأعيان فماتت بعد أن طلقها وخلفت بنتاً فوضع يده على جميع مخلفاتها وكان إذا طولب بالميراث يقول إن بني سعد الدين لا يورثون الإناث وله من هذا القبيل كلمات عجيبة فمن أعجبها أنه ذكر بعض الأفاضل بحضرته كتباً موجودة عندهم بخط مصنفها فقال وأنا عندي متن الكشاف بخط مصنفه ومما يحكى عن والده أنه لما قدم جعفر باشا محافظ مصر سأله عن طريقه فقال على السنانية فقلت لو قال على باب الله لكان أصاب وكان وقع بينه وبين ابن أخيه الشيخ كمال الدين بسبب المشيخة وكان يتوسط بينهما جماعة بالصلح فإا ذكروا الشريعة في مقام الإنذار يقول إن كان له شريعة فلنا طريقة وكل هذا مبني على الجذب والاستغراق فإن غالب بني سعد الدين يغلب عليهم الغرق وأرى السلامة في اعتقادهم فإن تصرفهم مجرب ثم إن الشيخ صاحب الترجمة غلب عليه الحال وضاق به المجال وزادت عليه الأتعاب من الخارج والداخل فأنشد لسان حاله قول القائل حيث قال
جار الزمان فلا جواد يرتجى ... للنائبات ولا صديق يشفق
وطغى علي فكل رحب ضيق ... إن قلت فيه وكل حبل يخنق
ثم انتهز فرصة الغفلة من حفدته ودخل إلى خلوته بالمشهد الشرقي من جامع الأموي المعروف بمشهد المحيا وقفل الباب وخلع ثيابه ووضع حبلاً في عنقه وألقى نفسه فمات فدخل ولده بعد العصر مع أتباعه فوجدوه ميتاً على الصورة المذكورة فساروا إلى قاضي القضاة بدمشق المولى محمد بن محمود المفتش وأخبروه بذلك فأرسل معهم كشافاً فكتب صورة الكشف وأنزلوه ووضعوه في نعش وأخذوه بعد الغروب إلى بيتهم بالقبيبات وغسل وصلي عليه في قول ابي حنيفة رضي الله تعالى عنه ودفن بمقبرة أجداده بباب الله وأرخ ذلك شيخنا القاضي حسين العدوي المقدم ذكره بقوله
أنظر إلى محن الزمان ... ترى الجواد يموت خنقا
قد دارت الأفلاك حتى ... ذاقت الأحرار رقا
من بعض ما نال ابن سعد ... الدين من نكباته سلباً وسحقا
أن جاد بالنفس العزيزة ... مهدياً للروح خنقا
فلذاك قلت مؤرخاً ... عجباً به قد مات شنقا(3/165)
وكان ذلك نهار الجمعة رابع المحرم سنة تسع وسبعين وألف وبلغ من العمر خمساً وستين سنة واتفق قبل وقعته بنحو سنوات أن رجلاً من المجاذيب دخل دمشق وأقام بالجامع الأموي ساكتاً صامتاً مدة ثم تكلم أياماً وكان يصيح بصوت عال فصيح في صحن الجامع الشيخ مصطفى بن سعد الدين شنقوه وكان الناس يعجبون من ذلك غاية العجب حتى وقع ما وقع قلت ووقع في سنة اثنتين وتسعين وألف أن الشيخ إسماعيل ابن الشيخ أحمد بن سوار بن أخي الشيخ مصطفى شيخ المحيا المقدم ذكره قبل صاحب الترجمة صلب نفسه في المشهد الذي صلب صاحب الترجمة نفسه فيه اقتداء بالشيخ المترجم والله سبحانه وتعالى أعلم مصطفى بن سنان أحد الموالي الرومية تولى قضاء القضاة بدمشق في سنة ثلاث بعد الألف ثم ترقى حتى ولي قضاء العسكر بروم إيلي وكانت سيرته مستقيمة في قضائه كله عفيفاً منزه العرض إلا أن بضاعته في العلم كانت مزجاة وكانت وفاته وهو قاض بروم ايلي في شهر ربيع الثاني سنة اثنتين وثلاثين وألف بقسطنطينية مصطفى بن طه الحلبي نقيب الأشراف بحلب وأحد رؤسائها وكان شهماً جسوراً خبيراً بأمور الناس له أنفة وحرمة ورأس بحلب مدة وكان يراجع في المهام وولي قسمة العسكر بها وسما وكان الباعث لسموه مصاهرته للمولى صالح رئيس الأطباء ونديم السلطان محمد وكانت وفاته في سنة مصطفى بن عبد الحليم البروسوي قاضي العساكر الفاضل الكامل المؤدب المهذب الحاكم الحاسم الفطن الذكي الحري بأن ينشد فيه
قاض إذا التبس الأمران عن له ... رأي يخلص بين الماء واللبن
كان أحد أفراد الزمان وفور فضل وعلم وعقل واثق العهد صادق الود حسن التصرف بريئاً من الرياء والتكلف له ديانة وحسن سيرة مع صحة فطنة وسلامة سريرة عفيف النفس نظيف الملبس طاهر الذيل قريباً لخاطر التأنس اشتغل بطلب العلم ببروسه على العلامة المولى محمد البروسي المعروف بابن المعيد الذي تولى قضاء قضاة الشام في سنة ثلاث وعشرين وألف وعلا غيره ثم دخل قسطنطينية في عنفوان شبابه واجتهد في تحصيل العلوم وقرأ على شيخ الإسلام عبد الرحيم والمولى يحيى بن عمر المنقاري ولازم من شيخ الإسلام يحيى بن زكريا ثم ورد في صحبة أخيه شيخ الإسلام محمد المقدم ذكره إلى دمشق لما ولي قضاء مصر وناب عنه بها ثم درس بالروم ثم ولي وقضاء دمشق وقدم إليها في أوائل سنة اثنتين وسبعين وعظمه أهل دمشق حق التعظيم لما احتوى عليه من الوقار والبهاء في نفسه وتلقيده بفصل الأحكام على وجه العفة والاستقامة ولكون أخيه إذ ذاك مفتي السلطنة ومحل الإنسان من عينها وجاءه خبر عزله عن الفتوى وهو قاض ولم يتأثر وزاد في التصلب وقمع الحكام ثم عزل غرة المحرم سنة ثلاث وتوجه إلى الروم نهار الخميس تاسع المحرم وسافر والدي المرحوم في صحبته سفرته الثانية قال في ترجمته وما رأيته يوماً أطاع سلطان الغضب فيما لاقاه من الراحة والتعب وفي الحديث أن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى الأناة والحلم ثم بعد ذلك صار قاضياً بمصر وخرج عليه قطاع الطريق في نواحي اسكي شهر وأخذوا جميع ما معه من أسباب وأمتعة ثم ولي قضاء مكة وورد دمشق في ثاني عشر شهر رمضان سنة إحدى وثمانين واتفق أن أخاه كان قدمها في غرة رجب وهو متوجه إلى الحج واجتمع به بعد عشر سنوات كانا لم يجتمعا فيها وسار إلى الحج ثم ولي قضاء قسطنطينية ثم قضاء العسكر بأناطولي في سنة خمس وثمانين واجتمعت به وهو قاضيه في سنة ست وثمانين بأدرنه وأسدى إلي نعماً طائلة ومدحته ثم عزل بعد قدوم السلطان إلى قسطنطينية في إحدى الجماديين سنة سبع وثمانين وأقام بدار بمحلة السلطان سليم وكان تأنق في عمارتها وكان شغفاً بالمطالعة والتصحيحات وعمر مدرسته بداخل قسطنطينية قبالة مدرسة شيخ الإسلام زكريا بالقرب من حمام السلطان سليم وبنى فيها مدفناً ورتب فيها قراء وكان تمام بنائها في أوائل سنة ثمان وثمانين ثم ولي قضاء العسكر بروم إيلي وعزل فلم تطل مدته بعد ذلك وكانت ولادته في سنة سبع وعشرين وألف وتوفي في آخر ذي القعدة سنة ثمان وتسعين وألف ودفن بتربته التي أنشأها رحمه الله تعالى(3/166)
مصطفى بن عبد الملك وقيل عثمان البابي الحلبي الأديب الفاضل المتمكن من المعارف وكان من أجل فضلاء الدهر وأوحد أدباء العصر وبالجملة ففضله يجل عن التعريف وأدبه غير محتاج إلى التوصيف نشأ بحلب وأخذ بها العلوم عن جم من أجلهم الشيخ أبو الجود البتروني والنجم الحلفاوي والشيخ أبو الوفا العرضي والمنلا إبراهيم الكردي والشيخ جمال الدين البابولي ودخل دمشق صحبة ابن الحسام قاضي القضاة بدمشق في سنة إحدى وخمسين وألف وأخذ بها عن الشيخ عبد الرحمن العمادي والنجم الغزي وأجازه مشايخه ورحل إلى الديار الرومية فدرس بها وانتفع به جماعة من فضلائها ثم سلك طريق الموالي وتولى قضاء طرابلس الشام ثم مغنيسا ثم بغدام ثم المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام في سنة إحدى وتسعين وحج في هذه السنة فتوفي بمكة وأشعاره كلها نفيسة فائقة مطربة رائقة وهي في الجزالة والفصاحة فوق شعر المفلقين من المتقدمين وفي الرشاقة وحسن التخيل تفوق قول المجيدين من المحدثين وها أنا أتلو عليك منه ما به الأرواح تنتعش والجمادات ترتعش فمن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها ابن الحسام
سرى عائداً حيث الضنى راع عودي ... سرى البدر طيف بالدجنة مرتد
ومارق لو لم يرع وجدي ولا سرى ... على البعد في ثوب الحداد المرقد
فأعجبه شوقي إليه على النوى ... كذا كان حيث الشمل لم يتبدد
وعاتبته والظن أيأس طامع ... فجاوبني والقلب أطمع مجتد
ولاطفته حتى استملت فؤاده ... فيا لك سعداً بعضه لين جلد
وبت كأن الدهر ألقى زمامه ... إلي وصافاني فأحرزت مقصدي
وحكمني من جيده وهو عاطل ... فحلاه دمعي بالجمان المنضد
إلى أن نعى بالبين صبح كأنه ... غراب النوى لكنه غير أسود
وقد جدد التذكار ما أخلق الضنى ... وأي عهود مثلها لم تجدد
فيا ليت أبقى ذكرها لي عبرة ... لأبكي بها أو ليت أبقى تجلدي
خليلي ما آليتما جهد ناصح ... ولكن حيران القضا كيف يهتدي
أما تصلح الأيام بعد فسادها ... فلم تبق من عيشي صلاحاً لمفسد
وقد زادني ظلماً وأوسعني أذى ... يدا عصبة لم تخش لله من يد
فأكبادهم للنحر في جوف جلمد ... وألسنهم للشر في فم أسود
عسى يهدم الإحسان ما شيد الأذى ... إذا لذت بالركن الشديد المشيد
إمام أقال الدهر من عثراته ... وأحيت مساعيه شريعة أحمد
كأن أماليه الرياض ثمارها ... الدراري والأقلام صوت المغرد
منها
يجود الحيا بالماء باك وجوده ... مع البشر يهمي من لجين وعسجد
تقلدت الشهباء صارم عدله ... ولولا مضاء السيف لم تتقلد
ولو كلف المخلوق ما فوق وسعه ... سعت للقاه سعي صاد لمورد
أتى وظلام الشرك فيها كأنه ... وساوس شرك في فؤاد موحد
فأشرق بدر العدل في عرصاتها ... بوجه أغر مبرق العزم مرعد
تردت بثوب بالصيانة معلم ... وحفت ببحر بالمكارم مزبد
عزائم بانت فاختفى كل جاحد ... وقامت فألفى وفرها كل مقعد
وساخت أياديه فشردت الندى ... وردت من العلياء كل مشرد
غدت تقرأ التحميد سورة حمده ... سجوداً ومن يستوجب الحمد يحمد
وقوله من أخرى يمدح بها ممدوحه المذكور فقال
عوجا على رسم ذلك الطلل ... نفضي حقوق الليالي الأول
لعل تثني أعطاف ثانية ... وقد ترجبت غير محتمل
فالدهر يأبى بقاء مغتنم ... فكيف يرجى لرد مرتحل
لكل ماض من شبهه بدل ... وما لعهد الشباب من بدل
سقى لويلاتنا بذي سلم ... كل ملث الرباب منهمل
معاهد طالما اقتطفت بها ... زهر الهنا من حدائق الجذل(3/167)
وأطلع السعد في معالمها ... بدر المنى في غياهب الأمل
حيث قطوف اللذات دانية ... ومورد الأنس مغدق النهل
تعثرتيها في ذيل لذتها ... في هضبات العناق والقبل
بكل متوقف العيون سنا ... يدعو فراغ القلوب للشغل
أثقل أعطافه بخفته ... لطف التصابي فخف بالثقل
وعطلت من حلى النبات عذاراه ... فحلاه الحسن بالعطل
ألقى عليه الجمال حلته ... وحلة الحسن أحسن الحلل
إذا رمتنا من قوس حاجبه ... سهام جفنيه ما بنو ثعل
وارحمتا العاشقين قد دهمتهم ... المنايا في صورة المقل
وقد تفاءلت من مصارعهم ... أن تلافي بالأعين النجل
أسى لقد أزعج الأسى وهوى ... أهويت من أجله على أجلي
فذا الذي حجبت محاسنه ... عنا مساوي الصد والنقل
من كان عني قبل النوى صلفاً ... أبعد من سمعي عن العذل
ما زدت عنه بعداً بفرقته ... لا وأخذ الله البين من قبلي
وفي امتداحي ليث العرين غنى ... عن الغنا بالغزال والغزل
مولى غدا في علاه عن رجل ... أبعد عن حاسديه من زحل
الندب عبد الرحمن من فضحت ... غر سجاياه الشمس في الحمل
أقام للفضل دولة حسنت ... ودولة الفضل أفضل الدول
فأغدقت للورى مناهله ... من بعد ما كان غائض الوشل
قد انتضى الله منه في حلب ... سيف سداد لها من الخلل
حتى كساعد له الليالي ... والأيام ثوب الأسحار والأصل
واستتر الظلم من عدالته ... بين جفون الظباء بالكحل
بأبيض العدل ما تركت بها ... سواد ظلم إلا من المقل
واعتدلت حتى ما استمر بها ... لولا قدود الحسان ذو ميل
ما كنت ادري من قبل رؤيته ... كيف انحصار الأنام في رجل
حتى رأيت امرأ يقوم له ... الدهر على ساقه من الوجل
إن ادعى مبصر له شبهاً ... فاحكم على ناظريه بالحول
وإن يكن في العيون بدر علي ... فبأسه في القلوب سيف علي
رام المهى شأ ومجده فسها ... جزى بطرف بالسهد مكتحل
واعتل من لطفه الصبا حسداً ... لا برحت حاسدوه في علل
وزور الغيث سح راحته ... حتى اعتزى للسخاء بالحيل
يا سيداً أصبحت مكارمه ... أشهر بين الأنام من مثل
كادت معاني الثناء تسبقنا ... إليك والحق واضح السبل
يهنيك عيد به الهناء له ... كما أهنيك والهنا بك لي
وهاكها روضة لقد صبغت ... منها خدود الربى من الخجل
لو نال فصل الربيع بهجتها ... ما سلبت عنه حلة الخضل
وإنما المجد دولة جعلت ... لها معاني الثناء كالخول
وله هذه النونية يمدحه أيضاً
أفي كل يوم لوعة وحنين ... ومن كل فج للفراق كمين
وكل طريق هكذا غير موعر ... فلي طرق كانت إليك تهون
نقضت عهوداً باللوى وتصرمت ... وعود وخابت يابثين ظنون
وولت لذا ذات عهدت وأسفرت ... نوى غربة ما تنقضي وشطون
كأن لم تدر تلك المناجاة بيننا ... ولا هصرت ذاك القوام يمين
ولا أخضلت تلك المعاهد بعدنا ... ولا هطلت فيها سحائب جون
علي لهذا الخطب إيقاظ همة ... يضج لها صلد الصفا ويلين
ووجيه إرقال ينكث بأسها ... قوي الباس تدري العزم كيف يكون(3/168)
فإن فؤاداً بين جنبي حشوه ... أمان ولي عند الزمان ديون
وسائلة عيساً أعيى عن النوى ... عني وعتاب الغانيات شجون
أجل من تقصى المجد يا ابنة مالك ... تولى شمالاً شمله ويمين
فلا تتعبيني واعلمي أنما العلا ... أسير على وجه القلاص رهين
أتلك المطايا البزل أم سفن طغى ... بها الآل تخفى مرة وتبين
تمور لرجع الحدى موراً كأنما ... عراها بأصوات الحداة جنون
إذا لمحت برق العواصم لم تكد ... مناسمها تقوى بهن حزون
تلفت تلقاء الشآم كأنما ... تخلى لها بالرقمتين جنين
إذا أبصر الخالي بها قال علقت ... مشافر هاتي بالغبيط يمين
وصلنا السرى بالسير حتى كأنما ... من الوخد أخفاف لها ومتون
فرينا بها أوداج كل مطوق ... من السحب ممنوع الفناء حصين
جبال تمطت للعلى لو رأيتها ... لقلت لها بين النجوم ديون
أشابت نواصيها الثلوج فارقت ... لها بعد فقدان الشباب عيون
ويا رب ليل ضل فيه دليلنا ... فيهديه من نجل الحسام جبين
فتى لا ضلال بعد رؤية وجهه ... ولا بارق الإفضال منه يمين
علاه رقى نسر السما بجناحه ... وعرض بعيد الغايتين مصون
ورقة خلق راح يحسدها الصبا ... فأضحى عليلاً يعتريه أنين
وبذل تذوب السحب منه خجالة ... وبأس به يمضي القضا ويدين
وعلم لو أن الناس قامت ببعضه ... وهي الجهل حتى لا يكاد يبين
من القوم شادوا ذروة البأس والندى ... ليوث لهم قصب اليراع عرين
هنيئاً حسام الدين يا خير ماجد ... به شيدت للمكرمات حصون
بمقدم مولى قد هدت بقدومه ... قلوب وقرت للكرام عيون
أناخ بأرض الروم أكرم قادم ... له السعد خدن والعلاء قرين
وقد وفدت أخباره الغر قبله ... تطوق أعناق العلى وتزين
ألا هكذا في الله من يك سعيه ... تدين له أيامه وتلين
فيا آل عثمان تهنوا بماجد ... يذب لكم عن عرضكم ويصون
رغمتم به أنف العدو وإنما ... الزمان به عن غيركم لضنين
أطلاب مسعاه هلموا أدلكم ... عليه فإني في المقال أمين
ضعوا يدكم في جنح عنقاء مغرب ... وأرجلكم في الريح فهو متين
وهام السهى فارقوا إذا حلقت بكم ... إليه فما رمتم هناك يكون
أجاذب ضبعي إذ قواي ضئيلة ... ومأمن روعي والزمان خؤن
أما أنه لولاك ما فتقت بنا ... إلى الروم رتق الراسيات ظعون
ولا كنت أدري كيف تكتسب العلى ... ولا كيف صعب الحادثات يهون
أقلت عثار الحال مني إذ همى ... علي سحاب من علاك هتون
وإني لأدري أن فضلك كامل ... لبانات طلاب الكمال ضمين
وما لي بعد الله غيرك مسعد ... من الناس في نيل المراد معين
وفي بابكم حطت رحال مطامعي ... وما تم لي إلا إليه سكون
وإنك أدرى من فؤادي بحاجتي ... وحسبي بهذا كاشف ومبين
وكان وقف على هذه القصيدة أديب الزمان محمد القاسمي فاتهم البابي بانتحالها فكتب إليه البابي هذه القصيدة وهي
أيشعر هذا البرق أي المناسم ... سرى فيذكرنا بآي المعالم(3/169)
وكم دونها من سبسب دون وطئه ... سرى دونه وخد القلاص الرواسم
بريق الغضا هلا درى كيف حالنا ... على البعد أخدان لنا بالعواصم
أسائلهم ما تطيق قلوبهم ... صدعت إذن بالظلم قلب المراحم
سقى الله أرضاً خيموا بفنائها ... وباكرها صوب الحيا المتراكم
ولا زال طفل النبت في مهد تربها ... تدر عليه من دموع الغمائم
ولو سقيت أمثالها قبلها دماً ... لقلت سقاها من دموعي السواجم
معاهد كان للهو فيها مساعدي ... على وفق قصدي والزمان مسالمي
أأيامنا بالأجرع الفرد هل لنا ... سبيل إلى عهد الصبا المتقادم
ليالي لا أقداح مرضي مدارة ... علينا سوى أحداق ظبي ملائم
ولا الخمر إلا من رضاب مبرد ... ولا الورد إلا من خدود نواعم
وسل أثلاث الجزع تخبرك أننا ... نعمنا بعيش في ذراهن ناعم
إذا الروض مخضل الربى وغصونه ... تقلد من قطر الندى بتمائم
وفي خل الأغصان نور كأنه ... مجامر ند في حجور الكمائم
يصافح بعضاً بعضه بيد الصبا ... كباسم ثغر راشف ثغر باسيم
محاسن غطتها مساو من النوى ... وأعراس لهو بدلت بمآتم
سل اليعملات البزل كم فتقت لنا ... بأيدي السرى من رتق أغبر قاتم
وكم شدخت أخفافها هام سامد ... من الشم تيهاً توجت بالغمائم
وكنا إذا فل السرى غرب عزمنا ... تشحذه ذكرى لقاء ابن قاسم
مقل لواء الفضل غير مدافع ... وحامي ذمار المجد غير مزاحم
حديقة فضل لا يصوح نورها ... وبحر بأمواج الذكا متلاطم
عنت لمعانيه الكواكب واقتدت ... بها فاغتدت ما بين هاد وراجم
ولولا مقال جاءني منه أطرقت ... حياء له الآداب إطراق واجم
وقطع أمعاء القريض لهوله ... ورد القوافي وهي سود العمائم
إمام العلى إني أحاشيك أن ترى ... بعين المعاني عرضه للوائم
زعمت بأني سارق غير شاعر ... صدقت بمعنى ساحر غير ناظم
لقد قالها من قبل قوم فألقموا ... بأيدي الهجا حاشاك صم الصلادم
رأوا مثل ما عاينت إبداع أحمد ... وبادرة الطائي وطبع كشاجم
حنانيك بعض البغي لا بدع إن أتى ... بشعر حبيب من رأى جود حاتم
وإن ندى نجل الحسام لروضة ... أينكر فيها طيب سجع الحمائم
فدونكها أبكار فكر تزفها ... يد الشوق عن ود من الريب سالم
مشيدة البنيان لا يستريبها ... حسود ولا يقوى بها كف هادم
ومن مختاراته قصدته التي مدح بها السيد محمد العرضي ومطلعها قوله
هو الفضل حتى لا تعد المناقب ... بل العزم حتى تطلبنك المطالب
وما قدر الإنسان إلا اقتداره ... أجل وعلى قدر الرجال المراتب
أقام الفتى العرضي للفضل دولة ... لها قائد من ناظريه وحاجب
بها اعتذرت أيامنا عن ذنوبها ... وأقبل جاني دهرنا وهو تائب
يجددها رأي من العزم صائب ... ويحرسها بأس مع الحلم عاطب
وللمجد مثل الناس سقم وصحة ... وفيه كما فيهم صدوق وكاذب
أنيط به حتى لو اختار نزعه ... لحن إليه وهو ثكلان نادب
ومن لم يوفي للمعالي حقوقها ... فإن مساعيه لحسان مثالب
ألم ترها كيف اقتناها محمد ... تجاذبه أذياله ويجاذب
إذا الناس لم تشتق لشارب عذبها ... فلا عذبت يوماً عليها المشارب
فساس طواغيها وراض شماسها ... وأضحى له منها وزير وحاجب(3/170)
حوى سودداً تبدو ذكاه بوجهه ... وترنو لعينيه النجوم الثواقب
تغرب لا يرضى ذرى المجد موطناً ... وأمثاله حيث استقرت غرائب
دعاه العلى شوقاً إليه وغيره ... دعته فلباها النساء الكواعب
ومن حسر الراحات يكتسب العلى ... وبعض خسارات الرجال مكاسب
فآب بما يشجي العدى ويسره ... فوائد قوم عند قوم مصائب
ليهن علاه منصب طالما صبا ... له بل تهني إذ رضيها المناصب
من القوم أما عرضهم فممنع ... حصين وأما عرفهم فهو سائب
يدين لهم بالمجد دان وشاسع ... وينعتهم بالفضل ساع وراكب
ففيهم وإلا لا تقال مدائح ... ومنهم وإلا لا ترام الرغائب
إليك إمام الفضل منا توجهت ... كتائب إلا أنهن مواكب
معان تعير العين سحر عيونها ... وتسخر منها بالعقود الترائب
قد انسدلت بين الطروس سطورها ... كما انسدلت فوق الصدور الذوائب
لها من براح الشوق حاد وقائد ... إليك ومن لقياك داع وخاطب
محملة معنى الهناء بمنصب ... تسير ببشراه الصبا والجنائب
وإن سرني أخبار أنك قادم ... فقد ساءني تقدير أني غائب
قد اتسعت ما بيننا شقة النوى ... وضاقت على وجه اللقاء المذاهب
فيا للموالي للعبيد بأوبة ... ليهدا بها قلب من البعد واجب
وتسعد آمال وتسكن لوعة ... ويفرح محزون ويبسم قاطب
ومن مبتدعاته أبياته المشهورة التي توسل بها وهي هذه
هوت المشاعر والمدارك ... عن معارج كبريائك
يا حي يا قيوم قد ... بهر العقول سنا بهائك
أثنى عليك بما علمت ... فأين علمي من ثنائك
متحجب في غيبك ... الأحمى منيع في علائك
فظهرت بالآثار والأفعال ... باد في جلائك
عجباً خفاؤك من ظهورك ... أم ظهورك من خفائك
ما الكون إلا ظلمة ... قبس الأشعة من ضيائك
وجميع ما في الكون فان ... مستمد من بقائك
بل كل ما فيه فقير مستميح ... من عطائك
ما في العوالم ذرة ... في جنب أرضك أو سمائك
إلا ووجهتها إليك ... بالافتقار إلى غنائك
إني سألتك بالذي ... جمع القلوب على ولائك
نور الوجود خلاصة ... الكونين صفوة أوليائك
إلا نظرت لمستغيث ... عائذ بك من بلائك
قذفت به من شاهق ... أيدي امتحانك وابتلائك
ورمته من ظلم العناصر ... والطبائع في شبائك
وسطت عليه لوازم ... الإمكان صدا عن ثنائك
فإذا ارعوى أو كاد ... نادته القيود إلى ورائك
فالطف به فيما جرى ... في طي علمك من قضائك
وله غير ذلك من البدائع وكات وفاته في أواخر ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وألف ودفن بالمعلاة بعد أن قضى مناسكه والبابي نسبة إلى الباب قرية من قرى حلب لها واد مشهور بطيب الهواء وكثرة الرياض وفيه يقول زين الدين عمر بن الوردي هذه الأبيات وهي
إن وادي الباب قد ذكرني ... جنة المأوى فلله العجب
فيه دوح يحجب الشمس إذا ... قال للنسمة جوزي بأدب
طيره معربة في لحنها ... تطرب الحي كما تحيي الطرب
مرجه مبتسم مما بكت ... سحب في ذيلها الطيب انسحب
فيه روضات أنا صب بها ... مثل ما أصبح فيها الماء صب
نهره إن قابل الشمس ترى ... فضة بيضاء في نهر ذهب(3/171)
ولصاحب الترجمة فيه قصائد وأبيات ذكرت منها جانباً في كتابي النفحة فارجع إليها فيه والله أعلم مصطفى بن فخر الدين بن عثمان العلمي القدسي من فضلاء القدس وأعيانها نشأ في طلب العلم ورحل إلى مصر وأقام بالأزهر زماناً طويلاً حتى كادت لغة أهل مصر تغلب عليه وكان دائماً يتكلم بها ورجع إلى القدس وصار كاتب الصكوك في محكمتها وولي النيابة كثيراً وله من الآثار وقف على المؤذنين بالمسجد الأقصى وله على الصخرة قنديل معلق يشعل ليلاً ونهاراً وكذلك له خيرات على خدام سيدنا الخليل وله قنديل على الغار الذي في الصخرة وكانت وفاته في سنة خمس وسبعين وألف ولم يعقب رحمه الله تعالى مصطفى بن قاسم بن عبد المنان متولي أوقاف السنانية بالشام الدمشقي عين الأعيان ومجموعة النوادر الحسان كان واحد الوقت في المحاورة وسرعة البداهة والنكتة والنادرة وفيه يقول الأمير المنجكي رحمه الله تعالى
لنجل أبي المعالي حسن فهم ... وطبع كالزلال العذب صافي
تطاوعه المعاني حين ينشي ... وتخدمه النكات مع القوافي
اشتغل بالطلب على المنلا عبد الله القونوي إمام جامع الدرويشية وعلى العلامة الشيخ رمضان بن عبد الحق العكاري وشارك في العلوم الأدبية وحفظ من الشعر العربي والفارسي والتركي أشياء كثيرة ونظم الشعر وأكثر نظمه كان بالتركية ومخلصه رمزي وحج في صحبة والده سنة ست وأربعين وألف وصار أولاً من الجند الشامي ثم لما مات أبوه في التاريخ الذي ذكرته في ترجمته توجه ثاني يوم من وفاته إلى الروم وصار متولياً مكانه على أوقاف سنان باشا بموجب الشرط للعتقاء وذريتهم وصار من المتفرقة بالباب العالي ورجع إلى دمشق وقام مقام والده ووضع يده على ما خلفه له من أموال وأسباب وتصرف في التولية بعقله ومد يده إلى البسطة والسرف وكانت العقلاء ينظرون إلى عاقبة أمره في عدم الانتظام وصحب الوزراء والموالي وكانوا يقبلون عليه لبداعته وغرابته وكان مكثراً في حكاياته وقلما يحلو من مبالغات في خطاباته لكنه على تعبيراته مسحة الحلاوة وعليها طل الطلاوة والنداوه ولما صار الوزير محمد باشا بويني اكري كافل الشام وزيراً أعظم سافر من دمشق في خدمته وكان له إليه محبة فأنعم عليه برتبة أحد البوابين للسلطان ولم يسبق لغيره من أهالي دمشق ودخل دمشق بطرز غريب وأظهر بعض الخيلاء وكان جند الشام في ذلك العهد قد صالوا وتاهوا فعزموا على مهاجرته فلم يزل منطرحاً في زوايا الخمول حتى استأنف بعض كبرائهم وأظهر لهم كمال الانحياز وأزال الحجاب واختلت بعد ذلك أموره فقابلته الأيام بوجه عبوس وأبدلته بعد النعم بالبوس وأصابته العين ونفد ما عنده من النقد والعين وأخذ يستلف على أقلام الوقف وقل عليه الإيراد وكثر الصرف فزادت عليه الأحوال وتكدر منه الفكر والبال وكان من جملة ما ورثه عن والده الفلاحة والدار بقرية دير العصافير وهي من محاسن الأبنية والبساتين بالقرب من جامع تنكر فباعها بدون ثمن مثلها وأنشأ عوضها قصراً بالصالحية بالجسر الأبيض وصرف عليه مالاً كثيراً وبلغني أن الذي اشترى البستان باع منه أشجاراً من الحور في السنة التي اشتراه فيها بثمنه إلا ثلث قرش فضل عن رأس المال وكان له من هذا القبيل أمور كثيرة وكان كثير النكات وقد جمع من نكاته جانباً في دفتر كان كثيراً ما يوردها ومن المتداول منها أن بعض كفلاء الشام كان طلب رماحاً من أعيان دمشق وطلب منه ثلاثة فتعسرت عليه فأنشد البيت المشهور وهو
ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته ... ولكنه رمح وثان وثالث(3/172)
وكان يوماً بمجلس بعض كفلاء الشام فدخل جماعة من طلبة العلم شاكين من مستوفي الخزينة بأنه قطع من معاليمهم أربعة أشهر من غير وجه وقرأ بعضهم قوله تعالى إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم فقال الأربعة الحرم هي التي قطعها الدفتري واتفق في قدمة مرتضى باشا الوزير ومن معه من العسكر أنه ورد إلى دمشق من أهالي حلب رجل يقال له عسكر وكان يحسن الموسيقى ويتردد إلى الأعيان للاستجداء فكان يخاطبه إذا دخل عليه أتانا مرتضى الجبار بعسكر جرار ووقع له أنه كان في مجلس بعض القضاة بدمشق فدخل الشيخ يس البقاعي وأنشد قصيدة يمدح بها القاضي وكانت القصيدة ركيكة فلما أتم قراءتها تلي صاحب الترجمة الآية وما علمناه الشعر وما ينبغي له وقال له الشيخ مصطفى بن سعد الدين والدك كان خليفة والدي أخذ عنه الطريق وأنت خليفتي فقال لست لك بخليفة ولا ابن الخليفة وأومأ إلى رجل من المجان يعرف بابن الخليفة وكان صاحب الترجمة أحول فقال له بعض من له عليه ادلال من الكبراء كم شخصاً تراني فحدق فيه وقال لا أرى إلا واحداً وبالجملة فهو أكثر أهل العصر نوادراً وتحفاً وكانت ولادته في سنة سبع وعشرين وألف وتوفي في أوائل شعبان سنة تسع وسبعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من قبر أبيه مصطفى بن قاسم الطرابلسي الحلبي نزيل المدينة المنورة مولده ومنشؤه الشام لكنه ممن طابت بطيبة منه المشام فانتظم في سلك جيران الرسول الشفيع وارتفع مقامه بذلك المقام الرفيع وهو ممن فاق في الأدب وبرع وورد مناهله العذبة صفواً فكرع مع مشاركة في علمي الفقه والنحو وتحقيق ما شان إثبات آية محو وقد ترجمه السيد محمد كبريت في كتابه نصر من الله وفتح قريب بما نصه هو مولانا الشيخ درويش مصطفى بن قاسم بن عبد الكريم بن قاسم بن محيي الدين الحلبي الشافعي مذهبا الوفائي طريقة ومشرباً وينتهي نسبه فيما أخبرني به إلى السيد محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه وعن أبيه
فيا نسباً من فرع دوحة هاشم ... ويا حسباً بالأصل قد ألحق الفرعا
ولد بمدينة طرابلس الشام في سنة سبع وثمانين وتسعمائة ونشأ ودأب على الشيخ عبد النافع الحموي مفتي الحنفية والشيخ محمد بن عبد الحق الشافعي والشيخ عبد الخالق المصري وغيرهم ثم دخل دمشق في سنة أربع عشرة بعد الألف فأخذ عن الشيخ أحمد العيثاوي الفقه والحديث وحضر مجالس العلم ثم دخل مصر فأخذ الفقه والنحو عن النور الزيادي والشيخ أبي بكر الشنواني وغيرهما وأخذ المنطق عن الشيخ سالم الشبشيري والكلام عن الشيخ احمد الغنيمي والبرهان اللقاني ثم دخل قسطنطينية وأخذ عن صدر الدين وعن العلامة محمد المفتي مع الملازمة في الطريق ثم قدم المدينة المنورة في سنة سبع وعشرين وألف زائراً ثم قدمها ثانياً في سنة اثنتين وثلاثين وهو يرفل في ثياب الجمال والجلالة فأقام بها وتأهل وأحسن السيرة والسريرة وتقيد بنشر العلم والتدريس بالمسجد النبوي ثم لزم حاله لما كثر الدخيل وتقدم الدنيء والعويل وكثر في اللغو القال والقيل وصارت مجالس العلم لغير أهلها كما هو مقتضى الحال في تقيم الأنذال
وكم قائل ما لي رأيتك راجلاً ... فقلت له من أجل أنك فارس
وله التآليف الرائقة والتصانيف الفائقة منها نزهة الأبصار في السير فيما يحدث للمسافر من الخير ومنها هتك الأستار في وصف العذار ومنها شرح تائية ابن حبيب الصفدي سماه المنح الوفائية في شرح التائية ومنها الدر الملتقط من بحر الصفا في مناقب سيدي أبي الإسعاد بن وفا وله النظم الرائق منه وقد كتب إليه بعض أحبابه
يا غائباً يشكر إقباله ... قلبي ويشكو بعده الناظر
أوحشت طرفي واتخذت الحشا ... داراً فأنت الغائب الحاضر
فكتب
ما غبت عن طرفي ولا مهجتي ... بل أنت عندي فيهما حاضر
إن غبت عن عيني تمثلت في ... قلبي يراعي حسنك الناظر
وله تخميس فائية الشيخ شرف الدين بن الفارض رضي الله عنه وله ديوان شعر يشتمل على قصائد ومقاطيع ومن شعره قوله مستغيثاً وهو مما قاله بمصر في سنة خمس وعشرين
يا من به كل الشدائد تفرج ... وبذكره كل العوالم تلهج(3/173)
وعليه أملاك السماء تنزلت ... وبمدحه لله حقاً تعرج
وإليه ينهى كل راج سؤله ... والسائلون على حماه عرجوا
يا قطب دائرة الوجود بأسره ... يا من لعلياه البرايا قد لجوا
يا سيد السادات يا غوث الورى ... يا من به ليل الحوادث أبلج
قد جئتكم أرجو الوفاء تكرماً ... لكنني للعفو منه أحوج
وحططت أحمال الرجاء لديكم ... فعساكمو أن تنعموا وتفرجوا
انتهى ما قاله السيد محمد كبري في ترجمته قلت وكان الباعث له على تصنيف كتابه نصر من الله أن صاحب الترجمة كان نظم تاريخاً لمكان بناه شيخ الحرم المدني عبد الكريم المصاحب بالمدينة ببئر ودي ونظم له أبياتاً وهي هذه
بشراك يا من صار جار الكريم ... بطيب عيش أنت فيه مقيم
أصبحت في خدمة خير الورى ... ترفل في روض جنان النعيم
بطيبة طابت لمن حلها ... حديث ودي في هواها قديم
طوبى لمن أمسى مقيماً بها ... يلقى أهاليها بقلب سليم
مصاحب السلطان نلت المنى ... بما ترجي من غفور رحيم
بنيت إيواناً به قد سما ... ببئر ودي للصديق الحميم
بغاية الإحكام تاريخه ... مقعد أنس شاد عبد الكريم
وأراد بغاية الإحكام آخرها وهو الميم على طريقة التعمية وعدد الميم أربعون فلما شاعت الأبيات وقف عليها فتح الله النحاس الحلبي فهزأ بها وألف رسالة سماها التفتيش على خبالات درويش مضمونها الاعتراض على هذه الأبيات فألف السيد محمد كتابه انتصاراً لصاحب الترجمة وجمع فيه من غرائب الفوائد وفرائد القلائد ما تقر به العيون وتنشرح له الصدور وكانت وفاة الدرويش مصطفى في السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ثمانين وألف بالمدينة المنورة ودفن بالبقيع رحمه الله تعالى مصطفى بن محمد أبي السعود بن محمد العمادي قاضي العسكرين ابن المفتي صاحب التفسير المشهور وذكره المولى عبد الكريم المنشي فقال في ترجمته سليل العالم على التحقيق ومن هو في الفتوى لأبي حنيفة النعمان شقيق المولى الأجل العلامة أبي السعود العمادي لا زال طائفاً حول قبره من السحاب الرائح والغادي تربى في حجر العزة متفيئاً ظلال الوالد مبسوطاً عليه منه جناح الرأفة رافلاً في حلل حماية الأب الشفيق مسدياً إليه لطفه وعطفه ولا بدع فإنه آخر أولاده ولم يبق من كأس العمر إلا جرعة ويسير بريد المنية إليه في غاية السرعة ولما بلغت أبيات قصيدة سنه النصاب وأقبلت عليه من كتيبة العمر طليعة الشباب خلع عليه أبوه حلة الإعادة باسطاً أجنحة الإفاضة والإفادة وأكرم وزير تلك الدولة والده فتحلى من جمان المدارس الثمان بواحده فلما آذن قمر حياة أبيه بالسرار وبلغ طواف أيام عمره الاعتمار رفعوه منها لا إلى منصب وكان السبب في ذلك حقد المتعصب فنسخت بحديث العزل آيات عزته وقص بمقراض الرفع جناح رفعته ثم رجع إلى إحدى الثمان بزيادة العشر على مهرها وتكفل بما يجب عليه من محافظة أمرها ثم نقل منها إلى المدرسة السليمية بأدرنة المحمية ثم توجه منها إلى سلانيك حاكماً متقلداً من القضاء صارماً ثم عزل ولم تزل تواصله عرائس المناصب مرة وتفارقه أخرى إلى أن فاز بقضاء العسكرين وكان أحق بهما وأولى وأحرى ثم عزل فناوله في نوبته ساقي حمام منيته وكان يسير سير الملوك ويتقلد من الترفه بأزهى سلوك في عيش رائغ وشراب سائغ وله إحاطة بالفروع الفقهية وإلمام بالعلوم العقلية والنقلية وكانت وفاته في حدود سنة سبع بعد الألف ودفن بمشهد قريب من تربة أبي أيوب الأنصاري بجوار أبيه النبيه لا زالت سحب المغفرة تشمل جدثه وتحويه(3/174)
مصطفى بن محمد الشهير بعزمي زاده قاضي العسكر وأشهر متأخري العلماء بالروم وأغزرهم مادة في المنطوق والمفهوم وله التآليف التي ملأت سمع الزمان فائدة وثبت فيه من صلات نفعها كل عائدة منها حاشية على الدرر والغرر في الفقه وحاشية على ابن مالك في الأصول وغيرهما وله الشعر النضير في العربية والتركية ومخلصه على دأبهم حالتي ورباعياته مشهورة مرغوبة وقد جمعها في سفر مستقل وهي في التركية كرباعيات سديد الدين الأنباري في العربية وعمر الخيام في الفارسية إليها النهاية في القبول والتحسين وعليها المعول في لطف النكات والمضامين وبالجملة فآثاره كلها لطيفة وأخباره جميعها ظريفة وقد ذكره ابن نوعي فقال في ترجمته حصل الفنون الرائقة إلى أن أحرز المرتبة اللائقة ثم تحرك على معتاد أرباب الاستعداد فانحاز إلى المولى شيخ الإسلام سعد الدين ولازم منه ثم درس ابتداء بمدرسة حاجة خاتون بأربعين عثمانياً ثم ولي مدرسة محمد أغا برتبة الخارج في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وتسعمائة ثم ولي مدرسة أيوب في جمادى الآخرة سنة ثلاث بعد الألف ثم ولي إحدى الثمان في المحرم سنة خمس بعد الألف ثم ولي مدرسة السلطان سليم القديم في شهر ربيع الأول سنة ثمان ثم ولي السليمانية في ذي الحجة من هذه السنة ثم ولي الخفافية في شعبان سنة عشر ثم ولي قضاء الشام في رجب سنة إحدى عشرة ثم ولي قضاء مصر سنة ثلاث عشرة وفي زمن قضائه بها وقعت فتنة محافظها إبراهيم باشا وقتله العسكر فعزل لتقصيره في تلافي الفتنة ثم ولي قضاء بروسه في شعبان سنة خمس عشرة وفي أيام قضائه بها تسلط ابن قلندر الخارجي عليها وحاصرها وحرق بعض أماكنها فعزل عنها بعيد ذلك ثم ولي قضاء أدرنة في شهر ربيع الآخر سنة عشرين واتفق أنه عزر قاضياً مجهولاً فاجتمع عليه جماعة أزعجوه بالمكالمة والمخاصمة فنقل في شعبان من هذه السنة إلى قضاء دمشق قال الحسن البوريني في بعض مجاميعه ووقع في قضائه يوم الخميس خامس عشر شعبان سنة إحدى وعشرين وألف أن رجلاً كان نصرانياً من قرية صيدنايا من نواحي دمشق فأسلم وأتى إلى مجلس قاضي القضاة مسلماً من مدة تزيد على عشرة أعوام وختن ثم أتى في التاريخ المذكور إلى نائب صاحب الترجمة أولاً وألقى عمامته وصرح على نفسه بالكفر فأرسله النائب إلى قاضي القضاة يعني صاحب الترجمة فاستفهم عن حاله واستنطقه فصرح بما قاله فقال القاضي لعل لك شبهة دينية أو ظلامة دنيوية فإن رغبت في المهلة أمهلناك وتوقفنا إلى التأمل بما في هناك فأبى إلا التعجيل بروحه إلى الهاوية وقال إنه لا يرغب إلا في الفرقة الغاوية وصرح بأنه في مدة اتصافه بالإسلام لم يوصف بصلاة ولا زكاة ولا صيام وكان يبادر إلى طلب النار ويستعجل اللحاق بأهل دار البوار فكتب القاضي ما يستحقه من القتل بالتعجيل وأرسل الصك إلى الحافظ الوزير الجليل فأمضى فيه السيف الماضي امتثالاً لما به الشرع الشريف قاضي وذهب شقياً إلى نار الجحيم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ورأيت بخط الأديب عبد الكريم الطلراني أنه كان لصاحب الترجمة ولد اسمه أحمد وكان في غاية النجابة والحذق والكمال والمعرفة توفي بدمشق في ليلة الجمعة ثاني عشر ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وقد نظمت الأدباء تواريخ كثيرة لوفاته فمنهم الشيخ محمد الحتاني وأبياته هي هذه
لم يعد ما فات يوماً كمد ... والأسى عند الأسى قد يحمد
كل مخلوق قصاراه الفنا ... إنما الباقي الإله الصمد
رحم الله شهيداً عمره ... كان كالأحلام منه الأمد
قلت إذ ناداه مولاه إلى ... جنة فيها نعيم سرمد
نطق خير هو أم تاريخه ... قر في جنات عدن أحمد
قلت وقد مدح في دمشق بقصائد كثيرة وكان مقبلاً على الأدباء ومما أملاه من شعره العربي قوله
لله من رشأ كتائب لحظه ... أهل الصبابة غادرت مأسورا
ولقطعه صلب القلوب كرخوها ... قد صار صارم لحظه مكسورا
وقوله في التوسل أيضاً مقتبساً
يا نفس عوذي بالكريم وعوجي ... فهو الذي يسدي إلينا نعمته
وينزل الغيث الذي يروي الربى ... من بعد ما قنطوا وينشر رحمته(3/175)
ثم عزل عن قضاء دمشق في رجب سنة اثنتين وعشرين وولي بعدها قضاء قسطنطينية وقضاء العسكرين وانعقدت عليه وعلى المولى محمد بن عبد الغني المقدم ذكره صدارة العلماء بالروم وكانت ولادته ليلة الاثنين النصف من شعبان سنة سبع وسبعين وتسعمائة وتوفي في حدود سنة أربعين بعد الألف مصطفى بن محمد الشهير بجسمي زاده أحد الموالي العظام القسطنطيني المولد والمنشأ كان فاضلاً كاملاً بارعاً نبيهاً فقيهاً له خبرة كلية بالآداب حسن المحاضرة والخطاب أخلاقه جميلة ومكارمه جزيلة متحلياً بالعفاف متخلقاً بالحمية والإنصاف اشتغل في أوائل عمره على علماء عصره وجد في الطلب وحاز الفضل والأدب ولازم من شيخ الإسلام أسعد بن سعد الدين ودرس بمدارس قسطنطينية إلى أن انتهى إلى المدرسة السليمانية وولي منها قضاء حلب في سنة ثلاث وخمسين وألف ثم ولي قضاء دمشق وقدم إليها في سنة ثمان وخمسين وكانت سيرته بها أحسن سيرة لقاض ضد ما اشتهر عنه بحلب من الأمور المنكرة وله اليد البيضاء في قمع الظلمة وكان في أيام قضائه ورد الوزير مرتضى باشا محافظاً بالشام وكان جباراً عاتياً ظالماً فعارضه في أمور كثيرة ولم يدعه يتجاوز في الظلم مقدار المكنة وكان له ولدان ختنهما بدمشق وجعل وليمة عظيمة دعا فيها الوزير المذكور وأعيان العلماء والعسكر واستمرت الوليمة سبعة أيام ثم بعد خمسة عشر يوماً تبدل فرحه ترحاً فانثلم غربه واصطفاه ربه وكانت وفاته في ثالث وعشري جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وألف وقد قارب سنه الخمسين ودفن بمقبرة باب الصغير بالتربة المعروفة بالقلندرية وقيل في تاريخ موته قاض في الجنة مصطفى بن مصطفى الشهير بابن بستان قاضي العسكر وهو أخو شيخ الإسلام محمد ابن بستان المقدم ذكره كان من أجلاء الموالي وأصحاب الوجاهة والنباهة وكان فاضلاً صاحب معرفة تامة في العربية والمعاني والبيان ولي القضاء بدمشق ثلاث مرات قال النجم في ترجمته وكان سميناً أكولاً سخياً ولكنه كان يتناول في قضائه قيل أنه أول من تظاهر بالرشوة من قضاة دمشق الروميين وولي أدرنة ومكة وتزوج بنت مراد باشا الوزير وولي قضاء قسطنطينية ثم قضاء العسكر بأناطولي في رابع عشر ذي القعدة سنة ثلاث بعد الألف ثم نقل إلى قضاء روم إيلي بعد شهر من توليته قضاء أناطولي وعزل في خامس وعشرين جمادى الأولى سنة أربع بعد الألف ثم أعيد إلى روم إيلي في ثامن عشر شهر رمضان سنة تسع بعد الألف وعزل في صفر سنة عشر وألف(3/176)
مصطفى بن مصلح الدين قاضي العسكر المرزيفوني قدم في أول عمره إلى قسطنطينية وانحاز إلى المولى محمد جشمي قاضي العسكر ولازم وصار قاضياً ببعض القصبات ببلاد روم إيلي ثم توفي مخدومه المذكور فتزوج ابنته ثم صار قاضياً بشمله بروم إيلي وساعده الحظ بعد ذلك فانتسب إلى ركابدار السلطان إبراهيم جعفر باشا الذي صار وزيراً وصهراً للسلطان فشفع له بقضاء دمشق فوجه إليه وعد ذلك من أغرب ما وقع في الدولة العثمانية لأن رتبته بعيدة الوصول إلى رتبة الموالي فضلاً عن قضاء دمشق المعدود عندهم من أعظم المناصب ولم يبق أحد من موالي الروم ممن رآه أو اجتمع به إلا أظهر له العداوة وقصده بما يؤلمه وهم يقولون إن قطاع الطريق العام أقل وزراً من المتعرض في هذا الطريق الخاص وقدم إلى دمشق في شوال سنة ست وخمسين وألف وكان متكلفاً في أدوات الاحتشام والإجلال وتعاطي الأحكام بهمة في التناول علية وساعده الوقت فحصل مالاً عظيماً وهابه أهل دمشق وعسكرها واحترموا ساحته وانقادوا إليه ومن محاسنه أنه رأى خطيب الجامع الأموي يخطب بعمامة صغيرة نادى الخطيب محمد المحاسني وألبسه العمامة التي تعرف بالمكور وأمره أن لا يخطب بعد ذلك إلا بها فاستمر يخطب بها إلى أن مات وتبعه المرحوم أخوه الشيخ إسمعيل وبالحري أن يكون هذا المعبد الكبير متميزاً عن غيره بخصوصية ثم عزل عن قضاء دمشق وبعد وصوله سعى في قضاء قسطنطينية فناله وبنى داراً عظيمة بالقرب من جامع محمد أغا ثم اجتهد في تحصيل قضاء روم إيلي وصرف على ذلك شيئاً كثيراً من الهدايا والمال وسما سمواً عظيماً ثم لما قام العسكر على السلطان إبراهيم واجتمعوا في جامع السلطان أحمد وحضرت العلماء والصدور عزم على الحضور معهم فنصحه بعض خواص أحبابه فلم ينتصح في عدم الحضور وسار فلما أقبل عليه الجمع غمز عليه بعض الموالي العسكر فتعرضوا له ثم كثر عليه الحط فقتلوه في باب الجامع بمعاينة الصدور والأعيان وكان قتله في ثامن عشر رجب سنة ثمان وخمسين وألف والمرزيفوني بفتح الميم وسكون الراء وكسر الزاي بعدها مثناة تحتية ثم فاء فواو ونسبة إلى بليدة معروفة ببلاد أناطولي والله تعالى أعلم مصطفى المعروف بكوجك مصطفى أحد الموالي الرومية ولي قضاء الشام في سنة إحدى بعد الألف قال النجم وسلك في قضائه مسلكاً حسناً وكان يتحرى في أحكامه ويحررها خصوصاً فيما يتعلق بالجند ومداينتهم وكان يحط على المرابين ودخل عليه خصمان أحدهما جندي فحرر عليه ولم يسع الجندي إلا الترك لرباه ولما فاته ما يحصل له رباه أنكر رهناً كان عنده للمديون فقال للراهن أقم عليه البينة فقال إنه لا يتجرأ أحد على الشهادة عليه فقال للجندي ادن مني فدنا منه فأخذ خاتمه منه وأعطاه للمعين عليه وقال له خذ هذا الخاتم واذهب إلى بيت هذا الرجل وقل لهم أعطوني الرهن الذي صفته كذا وكذا وخذوا هذا الخاتم أمارة فذهب وجاء بالرهن كما وصفه الراهن فاعترف به وكان له من قبيل هذه الفراسة أشياء كثيرة فتهارع الناس إليه في طلب الحقوق وكان إذا مر في أسواق دمشق دعا له أهلها ثم أعطي في السنة المذكورة قضاء مكة وسافر إليها في تلك السنة ثم قال وأحسب أنه مات قبل العشرة وألف والله أعلم مصطفى أبو الميامن شيخ الإسلام ومفتي التخت العثماني كان من كبار العلماء أصحاب الاطلاع فقيهاً متبحراً وافر الحرمة معظماً عند الدولة ولي قضاء قسطنطينية ثم نقل إلى قضاء العسكر بأناطولي في ثاني وعشري رجب سنة إحدى عشرة بعد الألف ثم نقل إلى مشيخة الإسلام بعد شهر ويوم من توليته قضاء العسكر بأناطولي وفي زمن فتواه توفي السلطان محمد وتسلطن السلطان أحمد ثم عزل في المحرم سنة ثلاث عشرة وألف وأعيد في شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وتوفي في رجب من هذه السنة وهو مفت رحمه الله تعالى(3/177)
مصطفى المعروف بابن العلبي الحلبي مفتي الحنفية بحلب ورئيسها السامي المكانة نبع من بين قومه متفرداً بشعار العلماء فإن أهله كلهم تجار غير أن لهم رياسة قديمة في التجارة والتمول وكان سافر إلى الروم وانحاز إلى شيخ الإسلام يحيى بن زكريا ولازم منه وتقرب إليه كل التقرب وكان الشيخ أبو اليمن مفتي حلب لما قارب الوفاة فرغ لابنه إبراهيم المقدم ذكره عن الفتوى فلما أرسل عرضه إلى دار السلطنة كان صاحب الترجمة بها وكان يتطلب من شيخ الإسلام أموراً يستصعبها فوجد الفتوى أسهل وأنفع له فوجهها إليه مع المدرسة الخسروية ولم يعتبر عرض القاضي ثم قدم إلى حلب مفتياً ورأس بها وعلت حرمته ثم لما جاء السلطان مراد إلى حلب وفي صحبته شيخ الإسلام المذكور أراد الشيخ إبراهيم الشكاية إلى السلطان باعتبار أنه أعلم من صاحب الترجمة فوجد لشيخ الإسلام اليد الطولى عند السلطان فعرض الأمر عليه فزجره زجراً عنيفاً ثم قال له مهما أردت من المناصب أسعى لك فيه إلا الفتوى فلم يقبل شيئاً حنقاً ثم أضاف شيخ الإسلام لابن العلبي صاحب الترجمة قضاء إدلب الصغرى ولم ينل هذه الرتبة من تقدمه من مفتية حلب خصوصاً ولا الإخوة الثلاث أبو الجود ومحمد وأبو اليمن مع اتساع علومهم ورفعة مقامهم وابن العلبي هذا بالنسبة إليهم في الفضل بمثابة تلميذ لهم بل ولا تتأتى له هذه المثابة فإنه كان مشهوراً بالجهل وكان في أمر الفتاوى إنما هو صورة ممثلة والذي ينظر أمرها رجل كان يكتب له الأسئلة يعرف بابن ندى ومن غريب ما وقع لصاحب الترجمة أنه حضر يوماً الجامع فأحضرت جنازة فقدم للصلاة عليها إماماً فكبر خمساً فقال فيه السيد أحمد بن النقيب هذه
ومذ مصطفى صلى صلاة جنازة ... وكبر خمساً أعلن الناس لعنه
فقلت اعذروه إنه قلد الندى ... ومن قبل في الفتوى لقد قلد ابنه
يشير إلى قول أبي تمام في قصيدته التي رثى بها إدريس بن بدر ومطلعها
دموع أجابت داعي الحزن همع ... توصل منا عن قلوب تقطع
إلى أن قال
ولم أنس سعي الجود خلف سريره ... بأكسف بال يستقيم ويطلع
وتكبيره خمساً عليه معالناً ... وإن كان تكبير المصلين أربع
وما كنت أدري يعلم الله قبلها ... بأن الندى في أهله يتشيع
وقوله ومن قبل في الفتوى الخ إشارة إلى كاتب أسئلته الذي ذكرناه على طريق الاستخدام وهذا المقطوع من سحر الكلام مصطفى باشا الشهير بابشير الوزير الأعظم أوحد الوزراء المشهورين بالجلالة والرأي الصائب وحسن السياسة ولي الشام في سنة ستين وألف وألجىء في حكومته إلى غزو بلاد الدروز فخرج من دمشق في جمع عظيم وبلغ الأمير ملحم بن يونس المعني خبر خروجه بقصدهم فجمع جمعاً كثيفاً من الدروز وعزم على المقابلة ووقعت المحاربة بين الفريقين في وادي قرنانا فكان عسكر الوزير في أسفل الوادي لكونهم ركباناً وجماعة الدروز من أعلى الوادي فخلص بعد صعوبة وذهب له ولعسكره شيء كثير من الخيل والسلاح والعدد ثم عزل عن محافظة دمشق وأعطي كفالة حلب وله بها الخيرات العظيمة من الجامع والخان والحوانيت وغيرها مما جعله وقفاً على الجامع وعلى صرة لأهالي مكة تحمل إليهم كل سنة وشرط توزيعها لمن يكون قاضياً بمكة ثم جاءه ختم الوزارة العظمى وهو بحلب سنة أربع وستين وألف وقيل في تاريخه وزير الخير ولم تطل مدته في الوزارة وقام العسكر عليه وقتلوه وكان قتله في أوائل سنة خمس وستين وألف مصطفى الشهير بضحكي قاضي العسكر وفقيه الروم كان أعجوبة الزمان في الفضل وكثرة الاطلاع على المسائل وله تآليف في الفقه ولي قضاء قسطنطينية مرات ثم ولي قضاء العسكر بروم إيلي في سنة إحدى وثمانين وألف وكان معتبراً مراعياً لمراسم الطريق مراعاة بالغة بحيث تخرج به مراعاته في بعض الأحيان إلى الهزل والعبث وبالجملة فقد كان من العلماء الصدور وكانت وفاته في سنة تسعين بعد اللف بقسطنطينية(3/178)
مصطفى سبط الشيخ القطب محمود الأسكداري قاضي القضاة السيد الأجل كان من لطفاء الموالي ذاتاً وطبعاً لطيف العشرة متودداً خلوقاً ولي مناصب عديدة منها ديار بكر والمدينة ثم ولي قضاء دمشق في شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين وألف وقدم إليها وكانت سيرته بها حسنة وتوفي بها وكانت وفاته في ربيع الأول من السنة المذكورة ودفن بالقرب من بلال الحبشي(3/179)
مصطفى باشا المرزيفوني الوزير الأعظم في عهد السلطان محمد بن إبراهيم وهو الشهير بقره مصطفى باشا وبالمقتول كان من أمره أنه خدم محمد باشا الوزير الأعظم الشهير بالكبريلي المقدم ذكره فنهض به الحظ على يديه فولاه نيابة ديار بكر ثم جعله حاكم البحر وما زال في عزة تتزايد وسعادة تتصاعد إلى أن مات أستاذه المذكور وولي ابنه أحمد باشا الفاضل الوزارة العظمى فعزله عن حكومة البحر ورأى أن قربه إلى الدولة أجدى له لما يعرف من رابطته المحكمة فصرف جهده في المغالاة بحقه والالتفات إليه وكان هو لا يهمه إلا مراعاة جانب مخدومه المذكور ولا يعرف إلا رعاية حقوقه ولما توجه الفاضل إلى جزيرة كريد صيره قائماً مقامه وأقبلت الدولة عليه إقبالاً ليس وراءه لأحد مطمع وسافر في خدمة السلطان إلى سلانيك ويكي شهر واتسعت دائرة جاهه وأنيطت برأيه الأمور وكان أولى الناس بنيل ما يأمله من ينتمي إليه ويعول في أمره عليه وكثرت في ذلك الإبان حفدته وحواشيه وتملك الأملاك الكثيرة ثم قدم الوزير الفاضل من كريد إلى دار السلطنة أدرنة بعد أن فتح قلعة قندية فبقي في تلك الجلالة مستشار الدولة زائد العنوان والصولة ولما دخلت أدرنة في سنة ست وثمانين والدولة إذ ذاك في بلهنيتها وقد استوفت الكمال من عزتها وحرمتها رأيته قد استوعب أدوات الرفعة وتصرف في السلطنة تصرف الرخ في الرقعة وصيته قد ملأ البلاد وعرها وسهلها وملك جل أمورها وكان أحق بها وأهلها ثم مات الوزير الفاضل فسعت إليه الصدارة ولم يسع لها فقام بأعبائها وتصلب في حمل أثقالها وتمكن منها تمكناً عظيماً ونال من إقبالها حظاً جسيماً وكان في حقيقة أمره مدبراً حازماً عاقلاً متمولاً وجيهاً وله محبة في العلماء والفضلاء يحب المذاكرة العلمية ويرغب في الفائدة وربما اشتغل وذاكر في صنوف من الفنون وكان ملتفتاً لأحوال الناس فيما ينظم أمرهم إلا أنه كان شديد الطمع في جمع المال وعنده عجب وخيلاء ونفسانية وتملك داراً بالقرب من جامع السليمانية وعمرها وأتقنها فاحترقت في أسرع مدة فأعادها أحسن مما كانت عليه وسافر سفرة جهرين بأمر مخدومه السلطان محمد بجيوش عظيمة وافتتحها واحتوى على الملحة التي بالقرب منها وهذه المملحة كما نقله الثقات من أعظم مجالب النفع لبيت المال حتى إنهم يبالغون فيما يدخل منها حد المبالغة وسبب ذلك أن بلاد النصارى المعروفين بالمسقو والقزق محتاجون إليها وليس في بلادهم مملحة غيرها ولما فتحت هذه القلعة سر الناس سروراً عظيماً لأن فتحها كان في غاية الصعوبة وكان كثير من نصارى الروم ممن رأيتهم يزعمون استحالة فتحها ويهزؤن بالوزير صاحب الترجمة في قصدها وشاع عنهم أخبار في انكسار عسكر المسلمين وهزيمتهم وكانوا يظهرون الشماتة وسبب ذلك ما يعرفونه من أنها تابعة لملك المسقور وهذا الملك هو أكثر ملوك النصارى جيوشاً وأكبرهم ملكاً قيل إن مملكته مسافة سنة طولاً ومثلها عرضاً وفي طريق هذه القلعة من جانب قسطنطينية صحراء وارات وهي أرض مجدبة قليلة الخير ليس بها بلاد ومسافتها بعيدة وبالجملة فإن فتح هذه القلعة كان من أعظم الفتوحات وزينت دار الخلافة ثلاثة أيام وكان السلطان محمد إذ ذاك ببلدة سلستره بروم إيلي فكتب إلى قائم مقام الوزير بقسطنطينية عبدي باشا النيشاني أنه يريد القدوم إلى دار المملكة وأنه لم يتفق له رؤية زينة بها مدة عمره وأمره بالنداء لتهيئة زينة أخرى إذا قدم فوقع النداء قبل قدوم السلطان بأربعين يوماً وتهيأ الناس للزينة ثم قدم السلطان فشرعوا في التزيين وبذلوا جهدهم في التأنق فيها واتفق أهل العصر على أنه لم يقع مثل هذه الزينة في دور من الأدوار وكنت الفقير إذ ذاك بقسطنطينية وشاهدتها وأنا متحقق من غير شك يخامرني أنها لم تصدر في زمان ولم يبق شيء من دواعي الطرب إلا صرفت إليه الهمم ووجهت إليه البواعث واستغرقت الناس في اللذة والسرور واستوعب جميع آلات النشاط والحبور وفشت المناهي وقصر فيها المحذور والناهي وعلمت العقلاء أن مثل هذا الأمر كان غلطاً وأن ارتكابه جرم عظيم وخطأ وما أحسب ذلك إلا نهاية نهنهة السلطنة وخاتمة كتاب السعادة والميمنة تم طرأ الانحطاط وشوهد النقصان وتبدل الربح بعدها بالخسران فوقع بيعد ذلك في القسطنطينية حريق عظيم بناحية الفار حرق فيه نحو اثني عشر ألف بيت ثم تراسل الحريق(3/180)
في كثير من المحلات حتى حسب ما وقع منه فكان تسعين حريقاً كل ذلك في سنة واحدة ثم طلب الوزير صاحب الترجمة الإذن من السلطان بالسفر على بلاد الأنكروس وكان عقد الصلح الذي أوقعه معهم الوزير الفاضل بعد فتح إيوار على خمس عشرة سنة قد مضى عليه ثلاث سنين فأذن له السلطان وشرع في تهيئة الأسباب من الذخائر ومكاتبة نواب البلاد والعساكر وجمع من الجيوش والجنود ما لا يدخل تحت حصر حاصر ولم يتفق جميع مثله فيما مضى من الزمان الغابر ثم طلع صاحب الترجمة من قسطنطينية بأبهته العظيمة مصمماً على أخذ بلاد النصارى بالقوى الجسيمة ولم يدر ما خبىء له في الغيب حتى وقع ما وقع فزال الشك والريب ولنسق أمر هذا السفر فصلاً فصلا ونبينه بمعونة الله تعالى فرعاً وأصلا وما أقول الذ ي أقوله إلا عن نقل وعزو مع التحري في ذلك بإثبات ومحو.ي كثير من المحلات حتى حسب ما وقع منه فكان تسعين حريقاً كل ذلك في سنة واحدة ثم طلب الوزير صاحب الترجمة الإذن من السلطان بالسفر على بلاد الأنكروس وكان عقد الصلح الذي أوقعه معهم الوزير الفاضل بعد فتح إيوار على خمس عشرة سنة قد مضى عليه ثلاث سنين فأذن له السلطان وشرع في تهيئة الأسباب من الذخائر ومكاتبة نواب البلاد والعساكر وجمع من الجيوش والجنود ما لا يدخل تحت حصر حاصر ولم يتفق جميع مثله فيما مضى من الزمان الغابر ثم طلع صاحب الترجمة من قسطنطينية بأبهته العظيمة مصمماً على أخذ بلاد النصارى بالقوى الجسيمة ولم يدر ما خبىء له في الغيب حتى وقع ما وقع فزال الشك والريب ولنسق أمر هذا السفر فصلاً فصلا ونبينه بمعونة الله تعالى فرعاً وأصلا وما أقول الذ ي أقوله إلا عن نقل وعزو مع التحري في ذلك بإثبات ومحو.(3/181)
فأقول ناقلاً عن كتاب ورد من بعض الأجناد ملخصاً منه محل المراد قال ولم يزل الوزير بمن معه من العساكر سائرين إلى أن وصلوا إلى قلعة يانق في يوم الخميس ثاني عشر رجب سنة أربع وتسعين وألف وعبر نهر ريا في يوم الجمعة ثم في يوم السبت توجه قاصداً قلعة بج قلت وهذه القلعة هي التي كانت مقصودة له بالذات وأطلق أمره في نهب القلاع والقرى التي على الطريق فما كان للعسكر مشغلة إلا نهبها وإحراقها وإتلاف زروعها فأحرقوا من القلاع المعلومة نحو مائة قلعة وما يتبعها من القرى أشياء كثيرة جداً وكل قرية من هذه القرى بمثابة بلدة تحتوي على ألف بيت أو أكثر وجميع هذه القلاع والقرى في نهاية الإحكام وحسن البناء وبيوتها في غاية من إتقان الصنعة مسواة بالرخام وفيها من السماقي ما لا يوصف كثرة وأكثر بيوت هذه البلاد ثلاث طبقات الثالثة منها مصنوعة بالدف والخشب وعاثت عساكر التاتار في بلاد الكفار إلى قريب قزل ألما التي هي محل ملك الأنكروس المعروف بالبابا ونهبوا ما قدروا عليه من البلاد وحرقوها ورأيت بخط بعض الروميين أن رجلاً من كبار عقلاء النصارى دخل عسكر المسلمين ثم جاء إلى الشيخ محمد الواني واعظ السلطان مسلماً قال وكان له وقوف على أحوال ملكهم وأنهم ذكروا عنده أمر هذه النصرة ولعل لها أسباباً من جانب النصارى أوجب الانتقام منهم فقال إن الملك البابا دخل يوماً على زوجته بنت ملك الاسبانية وهو مغموم فقالت له زوجته ما أغمك فقال أرى أمر هؤلاء العثمانية قد بلغ النهاية في الغلبة علينا ومن أعظم ما يغمني من أمرهم طاعة نوابهم وأمرائهم لهم فإذا طلبوهم بأدنى خطاب من أقصى البلاد لا يمكن أن يتخلفوا ويبادرون إلى الحضور إليهم وامتثال أمرهم وأما أنا إذا أرسلت إلى أمراء المجار مراسيل أطلبهم لأمر فلا يطيعون أوامري ولا يحضرون إلي فقالت له إنما يطيع حكام المسلمين أمر سلطانها لأنهم كلهم أهل ملة واحدة ومذهب واحد فخرج الملك من عند زوجته مغضباً وجهز الرسل إلى بلاد المجار يدعوهم إلى مذهبه فلم يقبلوا فأرسل عساكر من قبله فقبضوا على أكثرهم وأحضروهم إليه فعذبهم وقتلهم وفعل في بلاد المجار أفعالاً شنيعة جداً لم تصدر من ملك قط مع أنهم رعاياه ويؤدون إليه ما عليهم بلا خلاف له فبهذا تحقق النصارى أن الله تعالى سلط المسلمين عليه فخربوا بلاده وألقي الرعب في قلبه وقلب عسكره وهربت رعاياه من هذا الحد إلى حد قزل ألماً وتشتتوا في البلاد كل ذلك بسبب ما فعله مع المجار الذين هم رعاياه وحزبه انتهى ثم إن خان التاتار نور الدين كراي لحق كثيراً من الهاربين فقتل منهم مقتلة عظيمة ومن أغرب ما وقع في هذا الأثناء أن سوقة العسكر كانوا يدخلون قلعة من القلاع المذكورة فيرون فيها أناساً قلائل من النساء والرجال العاجزين عن الحركة فيقتلونهم ويستولون على القلعة ثم يطلقون فيها النار فعلوا هذا في أكثر من أربعين قلعة واستولى قره محمد باشا على قلعة تسمى أووار يقال إنها أحصن من إيوار التي افتتحها الوزير الفاضل في سنة خمس وسبعين وألف وفتح بكر باشا قلعة هانبرق وهي على ما سمعت في الحصانة لا تقصر عن قلعة حلب ثم حرقوا القلعتين المذكورتين وغنم المسلمون غنائم لا تحصر ولا تضبط وأسروا نحو مائة ألف أسير بحيث بيعت الجارية مع ولدها بثلاثة قروش والأبكار لا يتجاوز ثمنها العشرين قرشاً إلا في النادر وبيع الرأس من الغنم بقطعتين ورطل الطحين العال بقطعتين ورطل النحاس بثلاث قطع وهرب عسكر النصارى من بج ونواحيها وأخذوا معهم كثيراً من الأموال فلحقهم جماعة من التاتار فأدركوهم عند لنجه قلعة داخل بج بنحو ستين ساعة فاستأصلوهم قتلاً ونهبوا جميع ما كان معهم وفي عشري رجب توجه نور الدين كراي نحو بابا طاغي بنحو عشرة آلاف من عسكره التاتار فلقي جماعة من النمصارى في عدد عشرين ألفاً فقتل بعضاً واسر آخرين ولم ينج منهم إلا القليل وكذلك فعل حاج كراي سلطان في بعض النواحي فغنم غنائم عظيمة ثم وصل الوزير صاحب الترجمة إلى بج وضرب مخيمه بها من جوانبها الثلاثة الدور والأبنية والعمارات والحدائق ومن جملة ذلك سبعة عشر مكاناً باسم الملك تحتوي هذه الأمكنة على عجائب الزخارف والفواكه والفساقي من السماقي والرخام وقد قدمنا أن عسكر بج كانوا قد هربوا وكذلك هرب أهل الخارج من الرعية ولم يبق إلا نحو عشرين(3/182)
ألف رجل عشرة آلاف من العسكر وعشرة آلاف من الرعية في داخل القلعة فأمر الوزير بإحراق الخارج فأحرق في أقل من طرفة عين ولم يبق إلا محل أوطاق السلطان سليمان ومحله المذكور كانت الكفار قديماً بنته بناء عظيماً وصيرته من أحسن المنتزهات بالبلدة المذكورة تعظيماً منهم للسلطان سليمان فإنهم يعظمونه كثيراً ثم أمر بمحاصرة القلعة فنصبت عليها المكاحل وشرع العسكر في رميها بآلات الحرب فضاق بمن فيها الخناق في أقل من قليل والتجؤا إلى أن يسلموها طوعاً فأبى الوزير خوفاً من أن ينهب العسكر ما فيها من الأموال وحكى أنه أبرم عليه أعيان الوزراء والعسكر في المبادرة إلى دخولها صلحاً خوفاً من أمر يأتي فقال إن ضمنتم لي العسكر في أن لا يأخذوا شيئاً فعلت فأبوا فتمادى الأمر يومين أو ثلاثة وهو وبقية الوزراء في إعمال الفكر على أن يفتحوها عنوة وما لهم علم بما سيحدث عليهم من الأمر وإذا بطلائع الكفار أقبلت وفي أثرها عسكر سد الفضا وشب نيران الغضا لا يبالون بقتل ولا ضرب بل يقدمون على الموت بجنان من الصخر وقلب وهجموا دفعة واحدة والعسكر في غفلة عما يراد بهم واختلطوا بهم طامعين في قتلهم وسلبهم وأطلقوا السيوف وجردوا أسنة الحتوف فلم يكن بأسرع مما انقلب العيان وجمدت في الوجوه العينان وكان المقدم من المسلمين من عمد إلى الفرار ولم يقر له في تلك الحالة القرار فقتل من قتل ونجا من نجا لكن نجاة من عدم المعونة والالتجا واحتوت الكفار على السرادقات والخيول وفازوا بأمر كان يتعسر إليه في أحلامهم الوصول وكر الوزير بمن معه هارباً وللنجاة من اللحاق به طالباً وتفرق العسكر في تلك البراري والوهاد ولم يجدوا من مرشد لهم ولا هاد ونفد ما معهم من الزاد فبعضهم وصل إلى بودم والبعض إلى اكرى وهكذا حتى اجتمعوا بعد مدة ببلغراد ونفذ أمر العلي الكبير وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وأقام الوزير صاحب الترجمة ببلغراد يدبر أمراً في تلافي ما مضى واختلفت بعيد ذلك الآراء وكثرت التخاليط وأظهرت نصارى الأفلاق والبغدان والأردل العصيان وعم الغم وعظم الوهم وزحفت الكفار على بلاد الإسلام فأخذوا بعض قلاع وبعث الوزير في ذلك الأثناء إلى ملك الأنكروس رسولاً برسالة يتهدده فيها ويقول له إنه لابد من مقابلتك وكسرك وأخذ جميع بلادك وقهرك في كلام آخر يعلم من الجواب الذي ورد من ملك النصارى الأنكروس وهذا صورته من سلطان الملة المسيحية وقهرمان السلطنة النصرانية الذي هو ملك ملوكهم وصولته قد أحاطت بأربعة أطراف عالمهم واستولى على جميع المجار وما عداهم قد استقر في ملكه خمسة آلاف مدينة وحصن حصين وجلس على تخت نوشروان وقيصر وصلصال وصار لجملة أمة عيسى سلطان السلاطين أنهي إليك أيها الوزير الأعظم والسردار الأكرم بناء على المحبة دعاء لائقاً وثناء فائقاً وقد ورد من طرفك على يد سردار عسكرنا ما يقاس رسالة فحين وصولها جمعنا وكلاءنا وأمراءنا ورهباننا وقرئت الرسالة بمحضرهم وفهم مضمونها فقولك فيها إن السلطان مراد الغازي القديم لما مضى إلى رحمة الله الجواد الكريم ولي ابنه الذي فتح قسطنطينية وهو السلطان محمد فصرف في سبيل الغزاء بسمة العطية للغزاة ألف حمل ذهب وإن سلطنتكم اليوم أعظم شأناً وأزيد مملكة وأعواناً مما كانت عليه في زمنه فهذا السلطان محمد الذي ذكرته كان سلطاناً عاقلاً عادلاً وملكاً لا نجد له بين الملوك معادلاً قد نال ما ناله بعدالته وظفره الله تعالى بما أراده بعنايته وأما أنتم فلم تقفوا في كتب التاريخ أن قلعة قسطنطينية يأخذها منا سلطان مسمى بمحمد وأيضاً نحن نأخذها من سلطان اسمه محمد وقد ظهر الآن ذلك حداً لظهور وتأكد حيث أخذنا منكم ثماني عشرة قلعة وما عدا ذلك فحكام البغدان والأفلاق والأردل جاؤا إلى خدمتنا واختاروا الانحياز إلى عبوديتنا وقولك إنا نرفع يدنا عن المجار لأنهم هم السبب في هذه الفتنة فهذا الكلام بعيد عن الإفهام وهل هو إلا أمر ينزع تاجنا عن رأسنا فإن التاج لهم وأما قولك ويكون ذلك مدار الصلح والصلاح فهل طلبنا منكم الصلاح والصلح نحن لا نطلب الصلح ولا نترجاه ولا يخطر على بالنا بعد الفساد الذي شاهدناه وأما نقض العهد فمن ابتدأ به سيلقى غبه ويتجرع منه ما لا يسيغه إذا كلف شربه قد راعينا فيما سلف العادة القديمة ورعينا الذمة المستقيمة فأرسلنا هديتنا المعتادة(3/183)
إلى قريب قومران فخرج حاكم بوديم جلالي باشا وأغار على بلادنا وأنزل بها الهوان فهل يليق هذا التعدي الذي ما وقع في عصر من العصور ثم بعد ذلك وقع لرسلنا من الإهانة والحبس ما استدللنا به على النصرة لطرفنا فإن الله غيور وقولك إن سلاطينكم أصحاب مال وعسكر كثير فنحن نعرف هذا المقدار ولكن كسر العسكر الكثير وهلاك من نقض العهد عادة أزلية لذي الجلال القهار والحاصل إن كان المراد الصلح فيكون لنا من البلاد من حدنا الآن إلى حد أسكوب وإلا فلنا معك سوق حرب يقام فيه المتاع المجلوب ثم لم يزل الوزير صاحب الترجمة مقيماً ببلغراد والناس في قلق واضطراب وفي كل يوم يحدث خبر مذهل لأولي الألباب ونصب أهل الممالك له العداوة وذهبوا كل مذهب في أنه من أهل الغباوة والشقاوة ولهجوا بالدعاء عليه وفوقوا سهام ذمهم إليه حيث كان السبب في انتهاك حرمة الإسلام وامتهانه بتغلب الكفرة الفجرة اللئام ولهم فيه بسبب ذلك أقاويل كثيرة وكلمات مزرية شهيرة من أخفها أن أمر الدولة كان غنياً عن هذه المحاربة وأنه كان يمكن الانتصاف من الكفرة وهو الأقرب بنوع من المطالبة وإنما الطمع أداه إلى هذه الأفعال فكان عاقبة أمره الوبال والنكال وحكى لي بعض المقربين إليه وهو من المهرة في علم النجوم والرمل أنه استشاره في أمر هذا السفر فأشار عليه بتركه وأجمل في العبارة قال فقال لي إن السلطان سليمان وصل إلى بج ولم يفتحها فإذا فتحت على يدي كان لي شأن عظيم لم ينله ملك عظيم فقلت الآن أبين لك ما ظهر من تحرير أمر هذا السفر وهو أني لما حررته بان لي فيه نحوسة وكان قبيل ذلك بمدة ظهر نجم له ذنب بقي ليالي وكان ذنبه إلى جهة قسطنطينية فإن أرباب التنجيم قائلون بأن جهة الذنب من نجم يظهر جهة نحوسة قال فقال لي كنت أظنك ناصحاً صدوقاً فالآن تبين لي منك خلاف ذلك فلا تخاطبني بعدها في خصوص هذا السفر بشيء ودع عنك أشباه هذا الكلام فلا تجريه على لسانك مرة أخرى قال فعلمت أن غرور الدولة استحكم فيه وأنه مدل بعجبه إلى خطر عظيم من غير شك ينافيه وما زال الوزير في قلق واضطراب مترقباً لما يظهر في حقه من طرف السلطنة من الجزاء والعقاب فبرز الأمر السلطاني بقتله وتدميره جزاء له على ما جناه من سوء تدبيره فقتل في المحرم من سنة ألف وخمس وتسعين عليه رحمة المولى المعينى قريب قومران فخرج حاكم بوديم جلالي باشا وأغار على بلادنا وأنزل بها الهوان فهل يليق هذا التعدي الذي ما وقع في عصر من العصور ثم بعد ذلك وقع لرسلنا من الإهانة والحبس ما استدللنا به على النصرة لطرفنا فإن الله غيور وقولك إن سلاطينكم أصحاب مال وعسكر كثير فنحن نعرف هذا المقدار ولكن كسر العسكر الكثير وهلاك من نقض العهد عادة أزلية لذي الجلال القهار والحاصل إن كان المراد الصلح فيكون لنا من البلاد من حدنا الآن إلى حد أسكوب وإلا فلنا معك سوق حرب يقام فيه المتاع المجلوب ثم لم يزل الوزير صاحب الترجمة مقيماً ببلغراد والناس في قلق واضطراب وفي كل يوم يحدث خبر مذهل لأولي الألباب ونصب أهل الممالك له العداوة وذهبوا كل مذهب في أنه من أهل الغباوة والشقاوة ولهجوا بالدعاء عليه وفوقوا سهام ذمهم إليه حيث كان السبب في انتهاك حرمة الإسلام وامتهانه بتغلب الكفرة الفجرة اللئام ولهم فيه بسبب ذلك أقاويل كثيرة وكلمات مزرية شهيرة من أخفها أن أمر الدولة كان غنياً عن هذه المحاربة وأنه كان يمكن الانتصاف من الكفرة وهو الأقرب بنوع من المطالبة وإنما الطمع أداه إلى هذه الأفعال فكان عاقبة أمره الوبال والنكال وحكى لي بعض المقربين إليه وهو من المهرة في علم النجوم والرمل أنه استشاره في أمر هذا السفر فأشار عليه بتركه وأجمل في العبارة قال فقال لي إن السلطان سليمان وصل إلى بج ولم يفتحها فإذا فتحت على يدي كان لي شأن عظيم لم ينله ملك عظيم فقلت الآن أبين لك ما ظهر من تحرير أمر هذا السفر وهو أني لما حررته بان لي فيه نحوسة وكان قبيل ذلك بمدة ظهر نجم له ذنب بقي ليالي وكان ذنبه إلى جهة قسطنطينية فإن أرباب التنجيم قائلون بأن جهة الذنب من نجم يظهر جهة نحوسة قال فقال لي كنت أظنك ناصحاً صدوقاً فالآن تبين لي منك خلاف ذلك فلا تخاطبني بعدها في خصوص هذا السفر بشيء ودع عنك أشباه هذا الكلام فلا تجريه على لسانك مرة أخرى قال فعلمت أن غرور الدولة استحكم فيه وأنه مدل بعجبه إلى خطر عظيم من غير شك ينافيه وما زال الوزير في قلق واضطراب مترقباً لما يظهر في حقه من طرف السلطنة من الجزاء والعقاب فبرز الأمر السلطاني بقتله وتدميره جزاء له على ما جناه من سوء تدبيره فقتل في المحرم من سنة ألف وخمس وتسعين عليه رحمة المولى المعين(3/184)
مصطفى بن علي بن نعمان الضمدي اليمني عالم شهد بفضله العالم وسلم له كل مناضل وسالم محله في الفضل معروف لا ينكر وقدره في العلم معرفة لا ينكر ملأ صيته كل موطن وقفر فغنى به حضر وحدا به سفر إلى أدب ما ميط عن مثله نقاب ولا نسقت بمثل فرائده قلائد رقاب ولد بوادي ضمد من أعمال صبيه وحفظ القرآن وجوده على الشيخ العلامة عبد الرحمن اليمني وقرأ عليه شرح الجزرية للقاضي زكريا وقرأ الأزهار على الفقيه عبد الله الوهم وبعض شرحه على القاضي سعيد الهبل وأكثره على أخيه أحمد بن علي بن النعمان وعلى الفقيه إبراهيم المتميز وقرأ البحر الزخار على القاضي أحمد بن حابس وبعضه على السيد أحمد بن المهدي المؤيدي وقرأ مفتاح الفرائض على عمه أحمد بن عبده النعمان وقرأ على السيد صلاح الحاضري تمهيد النخبة وتنقيح الأنظار كلاهما للسيد محمد بن إبراهيم الوزير وقرأ الكشاف على السيد داود وله إجازات من شيوخه بالكتب الستة وسيرة ابن هشام وأمالي أبي طالب وأمالي أحمد بن عيسى والجامع الكافي ومجموع زيد بن علي والأحكام والمنتخب للهادي وشفاء الأوام للأمير الحسني وأصول الأحكام لأحمد بن سليمان وغالبها رواه عن القاضي أحمد بن حابس بسنده المذكور في معجمه وله تصانيف شهيرة منها وهو أجلها الفرات النمير تفسير الكتاب المنير أحسن فيه العبارات وجود فيه الرمز والإشارات قال في آخره هذا آخر ما قصدناه ومنتهى ما أردناه من تأليف هذا السفر الخطير المسمى بالفرات النمير فدونك رخيصاً ثميناً خميصاً بطيناً حوى من أصداف التفاسير لئاليها وأنار من مشكلات الأقاويل لياليها ولن يسعد بحل رموزه ويظفر بكشف كنوزه إلا من برز في علم البيان وأشير إليه في معرفة صحيح الآثار بالبنان وراض نفسه على دقائق مقاصد السنة والقرآن هذا ومع لطافة جسمه فكم حوى من لطائف ومع حداثة سنه فكم حدث بظرائف ومع رشاقة قده فكم رشق من مخالف وكم مشكل أوضحه قد أغفله الأولون وكأي من آية يمرون عليها وهم عنها معرضون فالحمد لله الذي وفقنا لتفسير كتابه وأهلنا لإيضاح معاني خطابه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه انتهى كلامه وقد حظي هذا التفسير باليمن بالقبول عند الفحول ومدحه كثير من علمائه بالأشعار الرائقة والمدائح الفائقة منهم السيد العلامة صلاح الدين ابن أحمد المهدي المؤيدي قال في مدحه هذه الأبيات وهي
هذا الفرات فرد مشارع مائه ... تجد الشرائع أودعت في سطره
كشاف كل غوامض ببيانها ... أسرار منزل ربنا في سره
حبس المعاني الرائقات برقه ... والحق أطلق والضلال بأسره
لا عيب فيه سوى وجازة لفظه ... مع الاحتواء على الكمال بأسره
وله نظم ونثر سائران فمن ذلك قوله
من شافعي نحوكم يحنفكم ... إلي يا مالكي فأحمده
زيدتني حين صرت معتزلي ... وجداً كحر الجحيم أبرده
يا رافضي أنت ناصبي لهوى ... ما كنت قبل الفراق أعهده
وله
تظنوني مرتاحاً ... ومن أين لي الراحه
إذ الراحة في الكيس ... وليس الكيس في الراحه
وكتب إلى السيد صلاح بن أحمد الشرفي ملغزاً في قهوة البن بقوله
وجارية سوداء إن هي أسفرت ... يقبلها أهل المروءة والنهى
إذا ما اشتهى ظلم الحبيبة عاشق ... فمجموعها ظلم لعمري مشتهى
إذا بردت أحشاؤها طال مكثها ... وإن أصبحت محمومة وطاب صبها
وإن ذكر الأحباب طيب أصولهم ... ليفتخروا فالرشق بالقلب أصلها
وإن سقيت من خالص المحض شربة ... تسارع فيها الشيب وابيض جسمها
فأجابه السيد صلاح المذكور بقوله
إذا شئت حل اللغز منه فإنها ... لأول ما يقرى الضيوف أولو النهى
إا خيمها في الرشق فابعث لها دوا ... وفي القشر بنيان لداء دوالها
إذا حذفوا من ابنها الفاء واجتزوا ... فذلك شيء طيب الطعم مشتهى
إذا أدخلوه النار صار محبباً ... وإن أودعوه الظل صار مكرها
ومن شعره أيضاً وهو في غرض السفر إلى اليمن لطلب سماع الحديث(3/185)
تقول عيسى وقد أزممت مرتحلاً ... لحجا وقد لاحت الأعلام من عدن
أمنتهى الأرض يا هذا تريد بنا ... فقلت كلا ولكن منتهى اليمن
وكتب أيضاً إلى السيد صلاح المؤيدي
تزوج هديت تهامية ... تروقك في المئزر المطرف
ودع عنك بيضاء نجدية ... ولو برزت في بها يوسف
عليها قميص وسروالة ... وليست ترق لمستعطف
فأجابه السيد صلاح أيضاً بقوله
اردت بها الذم ألبستها ... سرابيل مدح ولا تختفي
نعم هكذا شيمة المحصنات ... إذا شئت تمدح مدحاً وفي
قسا في القلوب ولين القدود ... وخد نقي وصوت خفي
وإن رام منها الوفا طارق ... فليست ترق لمستعطف
وكانت ولادته في سنة أربع بعد الألف السيد مطهر بن محمد الجرموزي الحسني قال في حقه القاضي حسين المهلا كان من أعيان الدهر وأفراد العصر علماً وعملاً ونباهة وفضلاً وله التاريخ الذي جمع فيه أحوال الأئمة الثلاث الإمام القسم وولديه محمد المؤيد وإسمعيل المتوكل ذكر فيه كثيراً من وقائعهم وما جرياتهم وسيرهم وأحوالهم ومكاتباتهم قال وكان من أصدقاء والدي وبينه وبينه مراسلات ومكاتبات رائقة وله أولاد عظماء أدباء كرماء محمد والحسن وجعفر قلت وقد ذكرتهما في كتابي النفحة والحسين والهادي وإسماعيل وما منهم أحد إلا وله النظم السائر والمحاسن التي تفوق الرياض الزواهر وكانت ولادته في جمادى الآخرة سنة ثلاث بعد الألف وتوفي في سابع وعشري ذي الحجة سنة سبع وسبعين وألف رحمه الله معين الدين بن أحمد البلخي الأصل المصري المولد والمنشأ المعروف بابن البكا نزيل مكة المشرفة الفاضل الأديب المشهور كان من نوادر الزمان وعجائب الأوان مع دماثة أخلاق وطباع ونضارة محاورة واستماع إذا حل بناد فله الصدر الموفي وإذا تكلم داوى كلم الصدور بحديثه المشفى ولم يكن في أهل مصر أرق من حاشيته ولا أحلى من مفاكهته ونادرته قدم إلى مكة في سنة ثمانين وتسعمائة صحبة الركب المصري ثم أقام بها مؤتلفاً بني حسن ائتلاف المقلة بالوسن يسقى بمزن كرمهم ويخصب جدب أمله بهطال ديمهم وهو عند الشريف مسعود مورق العود مثمر السعود وله من الشعر قلائد فرائد كأنها عقود في أجياد خرائد فمن ذلك قوله
يا شقيق الروح والجسم ويا ... دوحة بالود فضلاً أثمرت
كنت لا أخشى حسوداً لا ولا ... عين واش إن بسوء نظرت
وأرى الود وهي بنيانه ... ما كأن العين إلا أثرت
فبحق الود إلا صنته ... لحقير روحه قد سعرت
وقوله في ذيل قول القاضي الفاضل
تراءت ومرآة السماء صقيلة ... فأثر فيها وجهها صورة البدر
ولاحت عليها حليها وعقودها ... فأثر فيها صورة الأنجم الزهر
وله حاذر زويلة أن تمر ببابها ... وطعامها كن آيساً من خيره
فموسط القتلى يقول بها انظروا ... من لم يمت بالسيف مات بغيره
ومثله قول الآخر
لما سلمت من الردى من طرفه ... مع أنه كالسيف في تأثيره
جاء العذار فأيقنت نفسي الردى ... من لم يمت بالسيف مات بغيره
وزويلة بمعجمة مصغرة محلة بمصر كباب زويلة ووجه تسميتها يعرف من الخطط وتواريخ مصر وهذا المصراع مضمن من قول ابن السعدي من قصيدة وهي هذه
أرى المرء فيما يبتغيه كأنما ... مداولة الأيام فيه مبارد
ويضطرم الجمعان والنقع ثائر ... فيسلم مقدام ويهلك خامد
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد
فصبراً على ريب الزمان فإنما ... لكم خلقت أهواله والشدائد
ومن شعر معين الدين قوله يستدعي بعض أصحابه
الدهر أربعة أيامه انحصرت ... صحو وغيم وريح ثم أمطار
فالصحو ظرف لإصلاح المآرب إذ ... تقضي من الحب يوم الغيم أوطار
ويوم ريح لنوم لا حراك به ... ويوم هطل السما للكاس أسرار(3/186)
واليوم قد نثرت دراً سحائبه ... على بساط ربي يكسوه أزهار
فبادر النكاس يا بدر الزمان فمن ... سناء وجهك لاقى الأفق أقمار
وكان له في المعمى وحله يد طائلة وله فيه رسالة مشهورة وله أشعار ووقائع كثيرة وكان الشريف مسعود بن حسن المذكور مقبلاً عليه كثيراً ولما توفي تراجعت أحواله بعض التراجع وكانت وفاته بالمدينة المنورة في سنة أربعين وألف عن سن عالية رحمه الله تعالى الشيخ موسى بن أحمد المحجب بن عيسى بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن عيسى ابن أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي صاحب اللحية أستاذ الأستاذين وشيخ الأولياء العارفين اشتغل بالتحصيل وصحب الأولياء ونال ما نالته الأكابر وتقيد بالشريعة ولازم الطاعة وله كرامات كثيرة ومكاشفات شهيرة وحج مراراً وكان شريف مكة الشريف زيد بن محسن يعتقداه اعتقاداً عظيماً وحصل له منه نفع جسيم وكان يكره ظهور الكرامة إلا عن ضرورة وكان كريماً سخياً يحب الفقراء ويحسن إليهم ويقبل الهدية ويجازي عليها فإذا أتته هدية من ظالم باعها واشترى بثمنها ما يرسله إلى صاحبها وكان كثير الاغتسال لا سيما للصلوات وأكثر غسله في البحر لقربه من داره وكان ورعاً جداً كثير الاحتياط في أموره متقشفاً مخشوشناً متواضعاً ولما بلغه أن بعض الأولياء من أهل الحرمين قال لا يكتب على أهل عصره ذنب إكراماً له بكى وقال أنا أقل عباد الله وأحقر من أن يقال في حقي ذلك وكان يتستر بالعلوم الظاهرة ويقول من فعل كذا أصيب بكذا ومن فعل كذا أعطي كذا فكان كل من خالفه فيما نهاه عنه أصيب بما ذكره ومن أطاعه نال ما ذكره وكان يقول لأهل البحر احترزوا يوم كذا من كذا وفي محل كذا فمن خالفه عطب ومن امتثل سلم وله في ذلك حكايات وكان يكاشف بعض أصحابه بما يخطر بباله وما جرى له في غيبته قال الشلي ووقع لي أني دخلت عليه بعد العصر في شهر رمضان وذلك أول اجتماعي به فحصل لي به غاية المدد والأنس وكان معي ابن عمي وكان أكبر مني ومعناً له هدية من بعض أصحابه بالهند فعزمنا للعشاء فاعتذر ابن عمي عن ذلك وقصد بذلك عدم تكليف الشيخ لأن وقت الإفطار قريب فقال ربما لا تجدون عشاء في هذه الليلة فاتفق أنا درنا في البلد فلم نجد ما نتعشى به لا قليلاً ولا كثيراً فعرفنا أن ذلك من مخالفتنا له وأنها كرامة منه فبتنا وتوسلنا إلى الله تعالى بالشيخ فإذا برجل يقول لنا ما تريدون فقلنا العشاء فقال عندي ولما أصبحنا ودخلنا على الشيخ كاشفنا بما وقع لنا ودعا لنا بالخير ولم يزل يترقى في أعلى الدرجات حتى انتقل بالوفاة إلى رحمة الله تعالى وكانت ولادته في سنة تسعين وتسعمائة وتوفي في سنة اثنتين وسبعين وألف بمدينة اللحية التي اشتهر عن جده الفقيه أحمد بن عمر الزيلعي رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول في شأنها أن من زارها أو دارها كفى جهنم ونارها وأن الميت لا يسئل بها ولا يلقن كما قال محمد الهندي في قصيدته التي مدح بها سيدي أحمد بن عمر الزيلعي رضي الله تعالى عنه منها قوله فيه
إن مات فيها الميت لا يلقن ... ومن سؤال الملكين يأمن
كرامة في غيرها لا تمكن ... طوبى لعبد في ثراها يدفن
فإنها للعبد نعم المستقر
ودفن بتربة سيدي المقبول صاحب القضب رحمه الله(3/187)
الأمير ملحم بن يونس بن قمرقماس الشهير بابن معن ابن أخي الأمير فخر الدين المقدم ذكره وكان أبوه يونس في زمن أخيه رأس الكبانية الذين في خدمته ونشأ الأمير ملحم هذا في عزة وحرمة وافرة ولما قبض على عمه الوزير أحمد باشا الكوجك كان هرب فنجا وظهر بعد ذلك وسعى على الإمارة ببلاد عمه فولي الشوف والعرب والجرد والمتن وكسروان وكان حازم الرأي عاقلاً له حسن تصرف وانقياد تام إلى جانب السلطنة فلهذا أبقى مدة تزيد على عشرين سنة لم ينغص له فيها عيش إلا مرة واحدة لما قصده الوزير ابشير باشا وكان ذلك بإغراء بعض المفسدين من غير داعية حصلت من قبله وانتصر في تلك الوقعة ولكثير من الأدباء فيه مدائح وكان بينه وبين أحمد بن شاهين أديب دمشق رابطة محكمة ومودة أكيدة وكان الشاهين خرج إليه في قصة طويلة واختفى عنده مدة وفيه يقول هذا المقطوع يشير إلى ما كان عليه تبعاً لأسلافه من أنهم يسهرون من الليل أكثره وينامون إلى وقت الزوال خوفاً من أمر يدهمهم بالليل والمقطوع هو هذا
ينام إلى وقت نصف النهار ... ويخرج مستوفياً حه
فأي زمان يراه المشوق ... يرى لحظة سودت لحظه
وكانت وفاته في سنة بمدينة صيدا وبها دفن وخلف ولدين قرقماس وأحمد أما قمرقماس فقتله محمد باشا حاكم صيدا في سنة اثنتين وسبعين وألف وأما أحمد فإنه الآن باق وهو أمير بلادهم المذكورة انتهى الأمير منجك بن محمد بن منجك بن أبي بكر بن عبد القادر بن إبراهيم بن محمد ابن إبراهيم بن منجك الكبير اليوسفي الدمشقي
أمير جند المعالي وبان بجدتها ... إنسان عين العلى والمجد والكرم
نسب ما وراءه نسب وحسب ما مثله حسب تعقد ذوائبه بالنجوم ويستوي عنده المجهول والمعلوم وهو في دماثة السليقة ليس يشبهه أحد من الخليقة وله من الفضل ما لا يحتاج إلى إقامة الدليل ومن الكمال ما اجتمع فيه منه كل كثير وقليل وقد ذكره الخفاجي في كتابه ووصفه بقوله وممن رأيته بالشام من الأعلام الأمير منجك بن منجك وهو جذيلها المحكك وعذيقها المرجب وحبابها المذرب قوله جذيلها المحكك هذا مثل قائله حباب والجذيل تصغير جذل وهو عود يغرز في حائط فتحتك به الجرباء أي يستشفى برأيه استشفاء الإبل بالجذل وذكره البديعي فقال في حقه نجيب ورث المفاخر كابراً عن كابر كالرمح أنبوباً على أنبوب وجمع بين فضيلتي الاقلام والبواتر كما جمعت خلاله بين أهواء القلوب وأريب بكل مدح قمين وأديب له الفضل ترب والسماح قرين وحسيب من قوم تهدى لهم تحف الأشعار وتزف لديهم أبكار الأفكار
وما دب إلا في بيوتهم الندى ... ولا رب إلا في حجورهم الحرب
وما كان بين الهضب فرق وبينهم ... سوى أنهم زالوا ولم يزل الهضب
أولاك بنو الأحساب لولا فعالهم ... درجن فلم يوجد لمكرمة عقب
وله من الكلام ما ينوب عن المدام قلت وبالجملة فهو مذكور بكل لسان وممدوح لكل إنسان نشأ في أيام أبيه متفيئاً ظلال نعمه مبسوط الراحة بهمائه وكرمه وشغف من حين نشأته بالطلب وصرف نقد عمره في تحصيل الأدب وقرأ على مشايخ عظام وانتظم في سلك الفضلاء أي انتظام ومن مشايخه الذين قرأ عليهم وجثا زمناً على ركبتيه بين يديهم الشيخ عبد الرحمن العمادي وأخذ الحديث عن الشهاب أحمد الوفائي وأبي العباس المقري والأدب عن أحمد بن شاهين ووهبه الله تعالى الذكاء وقوة الحافظة وحسن التخيل والأداء وكان فصيح اللهجة فسيح ميدان المحادثة كثير المحفوظات جيد المناسبات كريم الطبع خلوقاً متواضعاً وعلى كل حال فهو كما قيل
ما فيه لو ولا ليت تنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب(3/188)
ولما مات والده في التاريخ الذي ذكرته في ترجمته تقلبت به الأحوال وفجأته طوارق الأهوال ونفق ما ورثه عن والده وأحرزه من طريفه وتالده وذلك لمبالغته في البذل والسرف ومباشرة الأوقاف التي بيده بالإجارات الطويلة والسلف ثم انزوى مدة في داره ولزم الوحدة باختياره إلى أن أنف من الإقامة فقوض عن الشام خيامه وهاجر إلى الديار الرومية وأقام بها مؤملاً إدراك ماله من الأمنية والدهر يعده ويمنيه ويذيقه الغصص في ضمن تأبيه ولقد قاسى في الغربة من المشقة المبرحة والكربة وعناد الدهر في المقاصد والتعني في المصادر والموارد ما لا أحسب أحداً قاساه ولا لقي أحد من أغذياء النعم أدناه ولقد سمعته مرة يحكي أنه كان له جار في الروم معدود من أرباب الوجاهة القروم وله حفدة ودار عظيمة وثروة بين أقرانه جسيمة لم يتفق أنه زاره ولا حيا مزاره وكان بعض أصدقاء الأمير يصاحب رجلاً من المقربين إلى السلطنة وذكر له أمره وما هو فيه من الفاقة والمسكنة فقال إذا نزروه في مكانه ونسعى بعد ذلك في فكه من قيده وهوانه قال ثم جاءني بعيد العصر وما عندي بلغة ولا أجد في الجراب ولا مضغه فما استقر به الجلوس إلا وذلك الجار حباني بجميع ما عنده من خدام الدار وابتدأ خدمه في الخدمة وجلب ما يلزم من المشروبات بكمال الأدب والحرمة ثم وبعد هنيئة جاء بسفرة وآلات الطعام مما لا يوجد فيما أحسبه إلا عند الوزراء العظام وجاء بنفائس من الأطعمة والجار يبالغ في التعظيم وفي التكرمة حتى أكل الطعام واستوفى بعده المشروب والمشموم رأيت الرجل الذي جاء به صاحبي نهض وهو مغموم فتبعه صاحبي إلى باب الدار وعاد لا يدير لحظاً من شدة الأفكار فقلت له ما الذي عراك ومن برد نشاطك الذي كان عراك فقال أمر عجيب وحادث غريب وهو أن الرجل غضب لما وقع وقال أنا أسمع عن الأمير السفه وأنه فيه طبع متبع فلما رأيت ما رأيت تحققت ما سمعت وما ماريت وهذا الرجل لو وجه إليه أعظم منصب في مملكة آل عثمان لا يفي بمصرفه ولا يحصل له منه إلا الخسران قال فحلفت له بالله إن الذي رأيته من نعمة جاره الذي وافاه فلم يصدق وآلى لا عاد مرة أخرى ولا يسعى فيما يخجله عند الدولة وأنه بالسلامة أحرى انتهى ومما اتفق له أنه كان أشار إليه العلامة يوسف الفتحي الإمام السلطاني بنظم قصيدة في مدح السلطان إبراهيم لتكون وسيلة إلى شيء من الأماني فنظم قصيدته الميمية التي أولها
لو كنت أطمع بالمنام توهماً ... لسالت طيفك أن يزور تكرما
فبيضها له المولى عبد الرحمن بن الحسام بخطه المدهش وترجمها بالتركية على الهامش وكان الفتحي عرف به السلطان فدخل لإعطاء القصيدة ثم وقف وتناولها الفتحي وقرأها وحصل من السلطان التفات وقبول لكن القصيدة لم تسفر عن شيء من المواهب ولا قوبلت بمطلب من المطالب نعم دخل الأمير بشيراً وخرج بشراً وكان معه دينار أعطاه للذي أخبره بحصول الإذن للدخول مبشراً وهكذا الدهر أبو العجب وعناده موكل بأهل الأدب واتفق له في أواخر مقامه بالروم رؤيا صالحة حسنة عجيبة وواقعة فالحة مستحسنة غريبة وقد سدت عليه جميع الأبواب وبات القلب منه في اضطراب وذلك أنه رأى رجلاً في سيما الصلاح يتوسم فيه الفلاح وهو واقف بوادي ينشد وينادي كأنه حادي قصيدة مطولة بشرح حاله مفصلة فلم يعلق بخاطره في المنام سوى مصراع المطلع وبيت الختام وقد أورد حضرة الشيخ الأكبر قدس الله سره العزيز في باب من أبواب الفتوحات لعلي بن الجهم هذا البيت
وأبواب الملوك محجبات ... وباب الله مبذول الفناء
ولا غزو فكل باب سوى باب الكريم مسدود وكل واقف غير سائل فهو مردود فسبحان من إذا أغلق باباً فتح أبواباً وإذا قطع سبباً أوصل أسباباً فلما انتبه من الخيال قام في الحال ونظم على سبيل الارتجال مكملاً للمصراع ومضمناً للبيت بحسن الإبداع وذلك آخر جمعة في شهر رمضان عام ست وخمسين وألف والأبيات هي هذه
أين الأساة فقلبي اليوم مجروح ... متيم لعبت فيه التباريح
روح تسيل على خدي فيحسبها ... دمعاً خلي فؤاد ماله روح
والحب سطر بلوح الصدر مكتتب ... مترجم بلسان الشوق مشروح
وضعت خدي على كف الخضوع ولي ... ذل على عتبات العز مطروح(3/189)
فلاح بارق وادي الشعب وانتبهت ... نوام وجدي وفاح الرند والشيح
وقام هاتف ذاك الحي ينشدني ... بيتاً يسلي فؤادي منه تلويح
إن الملوك إذا أبوابها غلقت ... لا تيأسن فباب الله مفتوح
وقال أيضاً في المعنى
ذهب الشراع وضلت الملاح ... في جنح ليل ما لذاك صباح
وسفينتي لم يبق فيها قطعة ... إلا ومزقها بلى ورياح
والسحب تهطل والرعود قواصف ... والبرق سيف فاتك سفاح
وجهت وجهي نحو بابك راجياً ... إذ سدت الأبواب يا فتاح
وله في تغربه بالروم أشعار كثيرة سماها الروميات معارضاً بالتسمية روميات أبي فراس فإنه كان يحذو حذوه ويقفو أثره فمن رومياته قوله أيضاً
نزيح ديار لا أنيس ولا صحب ... وعاتب دهر ليس يعتبه العتب
منازله بالشام أضحت خلية ... حكت جسمه إذ سار عن جسمه القلب
له صبية عند العداة رهينة ... ومدمعهم من فرط لهفهم صب
عراة إذا ناموا تيقظ شرهم ... فأمنهم خوف وسلمهم حرب
جنيت على نفسي الذنب كله ... بسيري وما للذنب في فعله ذنب
غررت بأقوام وعودهم هبا ... تمر جهاماً واسمها عندهم سحب
يلبون بالدعوى لطالب سيبهم ... ولو شاهد وأفلسا على الأرض لانكبوا
ولم أر من قبلي عليلاً طبيبه ... سقيم اختبار ليس يعرف ما الطب
يمد لصيد المدح مني حبالة ... على الغدر معقود بأطرافه الكذب
وما الناس إلا حيث يلتمس الندى ... وما الطير إلا حيث يلتقط الحب
رجعت وعون الله للمرء حارس ... وطرفي لا يكبو وناري لا تخبو
ومنها قوله
إني لآنف من قول الأعاجيب ... لهول ما شاهدته عين تجريبي
الصدق يسأم منه سمع مختبر ... حال الزمان فما شأن الأكاذيب
تلاعب الدهر بي طفلاً وبصرني ... بالفكر ما لا تراه أعين الشثيب
عوضت عن جلق بالروم متخذاً ... يأسي بها بدلاً عن كل مطلوب
بدا بعيد فقلت العيد أيكما ... لما تأملت من حسن ومن طيب
أعاد حزني أفراحاً وصيرني ... أثني على طول تشتيتي وتغريبي
وأشعاره كلها على نمط واحد في الرقة واللطافة ولم تكن مجموعة في دفتر على حدة أولاً لكن لما ورد دمشق شيخ الإسلام عبد الرحمن بن الحسام بعد عزله عن الفتوى أمر والدي بجمعها فأنشأ لها ديباجة وجمعها ورتبها ترتيباً حسناً وهي الآن في دفتر مشهور متداول فمن غزلياته قوله رحمه الله تعالى
وغزال كناسه المران ... ما لقلب من مقلتيه أمان
ذي نواص كأنها ظلمة ... الشرك ووجه كأنه الإيمان
وكأن العذار في صفحة ... الخد كفور في جيده فرقان
وكأنا من أنسه ومحياه ... بروض تظلنا الأفنان
خده الورد والبنفسج صدغاه ... لعيني وثغره الأقحوان
وكأن الحديث منه هو اللؤلؤ ... يرفض بيننا والجمان
وكأن الندى والكأس تجلى ... فيه أفق نجومه الندمان
وكأن الندمان في روضة اللهو ... غصون ثمارها الكتمان
يتعاطون أكؤس العتب إذ ... طاف عليهم بها المنى والأمان
يا سقى الله ذلك الزمان ... وحياه ملث من الرضا هتان
زمن كله ربيع وعيش ... غصنه يانع الجنا فينان
مر لي بالشآم والعيش غض ... وشبابي يزينه العنفوان
ابن عشر وأربع وثمان ... هي عيدي وبعضها مهرجان
وقوله
لحظات ترمي الحشا بنبال ... قاتلات ولات حين قتال
وخدود كالورد لوناً وطعماً ... صقلتها صبا البها والجمال(3/190)
وثنايا كاللؤلؤ الرطب يزري ... حسن نظم لها بعقد اللآلي
وقوام يحكي العوالي ولكن ... فعله في القلوب فعل العوالي
من نصيري على الحبيب المفدى ... بنفوس منا كرام غوال
قمريخجل الشموس سناء ... وقضيب يسقى بماء الدلال
وغزال للمسك في الفم منه ... نفحات تفوق مسك الغزال
قام يشدو بذكر خمرة دن ... عند سمعي فأسكرت آمالي
خمرة صورت عصارة خمر ... لظنون في أكؤس من آل
غادرتني أيدي هواه بجسم ... ناحل ماحل كربع بال
أتمنى خياله وبعيد ... أن يزور الخيال طيف الخيال
ومن خمرياته أيضاً قوله
أدر المدامة يا نديمي ... حمراء كالخد اللطيم
تسري بأرواح النهى ... كالبرء في الجسم السقيم
وأقم إذا جن الدجى ... متردياً ظل الكروم
فالجو راق كأنما ... صقلته أنفاس النسيم
وتبددت زهر النجوم ... تبدد العقد النظيم
قم هاتها واستجلها ... من كف ذي شجو رخيم
بدر يريك محاسناً ... يسبى بها عقل الحليم
إن ماس يزري بالقنا ... وإذا رنا فبكل ريم
في روضة نسجت بها ... أيدي الصبا حبر الجميمي
ضحكت بها الأزهار لما ... أن بكى جفن الغيوم
كم ليلة قضيتها ... في ظلها الضافي الأديم
متذكراً عهد الدمى ... متناسياً ذكر الرسوم
نشوان من خمر الصبا ... جذلان بالأنس المقيم
حيث الشبيبة غضة ... والوقت مقتبل النعيم
وقوله
قم للمدامة يا نديم فإنها ... شرك المنى وحبالة الأفراح
حمراء صافية المزاج كأنها ... ورد الخدود أذيب في الأقداح
شمس إذا بزغت لعينك في الدجى ... أغنتك عن صبح وعن مصباح
مسكية أنى فضضت ختامها ... عبق الندى من نشرها الفضاح
تفتر عن حبب ثغور كؤسها ... كسقيط طل في ثغور أقاح
يسقيكها رشأ إذا غنى بها ... رقصت لذاك معاطف الأرواح
وقوله
ألا هات اسقني كأساً فكأساً ... وحي بها ثلاثاً بل سداسا
فإني في احتساها لا أعاصي ... رشا تخذ الحشا مني كناسا
حبيب كلما ألقاه يغضي ... فلو أعطيته آساً لآسى
يريك إذا بدا قمراً منيراً ... وغصناً إن ثنى عطفاً وماسا
ويبسم ثغره عن أقحوان ... ويجلو خده ورداً وآسا
خلعت عذار نسكي في هواه ... وما راقبت في جيبه ناسا
فأحلى الحب ما كان افتضاحاً ... وأشهى الوصل ما كان اختلاسا
وقوله
زمن الربيع كنشوة العشاق ... غب التفرق في نهار تلاق
فانهض إلى تلك الرياض مبكراً ... تبكير ذات الشجو والأطواق
واشرب على ورد ونرجس أيكة ... صبغاً بلون الخد والأحداق
صهباء تلعب بالعقول وفعلها ... فعل الهوى بالواله المشتاق
وقوله
قم هاتها فانتهاب العيش مغتنم ... من كف معتزل في خير ابان
حيث الرياض اكتست من سندس حللاً ... وتوجت بيواقيت وعقيان
والمسك في الفلك العلوي إذ رتعت ... غزالة الأفق والكافور سيان
ومن ربيعياته قوله
ومنتزه يروق الطرف حسناً ... بما فيه من المرأى البديع
تجول كتائب الأزهار فيه ... وقد كسيت حلى الغيث المريع
وبات الورد فيها وهو شاك ... السلاح يميد في الدرع المنيع
حكى منضم زنبقه طروساً ... وفيها عرض أحوال الجميع
تنمق حليها أيدي النعامى ... وتبعثها إلى ملك الربيع
ومن رياضياته أيضاً قوله(3/191)
أربوتنا حيتك عنا السحائب ... فأنت لوجه الأرض عين وحاجب
نزلنا بظل السفح منك فكلنا ... مصيب لأنواع المسرة صائب
وبتنا وأفياء الغصون سماؤنا ... فنحن بدور والندامى كواكب
وقوله أيضاً في قصرهم المنجكي
قصر الأمير بوادي النيربين سقى ... رباك عني من الوسمي مدرار
كم مر لي فيك أيام هواجرها ... أصائل ولياليهن أسحار
حيث الشبيبة بكر في غضارتها ... وللصبابة أحلاف وأنصار
حيث الرياض تغتبيني حمائمها ... بالدف والجنك والسنطور لي جار
حيث الخمائل أفلاك بها طلعت ... زهر من الزهر والندمان أقمار
حيث المدامة رقت في زجاجتها ... يديرها فاتن الأجفان سحار
عطرية نفضت فيها عوارضه ... فتيت مسك له الأرواح سفار
ياقوتة أفرغت في قشر لؤلؤة ... فلاح للشرب منها النور والنار
شمس تعاطيتها من راحتي قمر ... له من الحسن ما يرضى ويختار
يسعى إلي بها تحت الدجى حذراً ... من الوشاة لأن الليل ستار
متوج الراح بالإبريق ذو قرط ... مثل الهلال له الجوزاء زنار
سقى وساقيه من راح ومن قدح ... إلى الصبا فمرباح ومخسار
يضمنا بأعالي القصر ثوب هدى ... زرت عليه من الأشواق أزرار
متع الطرف مني في محاسنه ... وليس عندي من العذال أشعار
متى تيقظ دهري بعد ما غفلت ... عني حوادثه والدهر غدار
ومن غرامياته قوله
نفس تعلل بالأماني ... لا بالقيان وبالقناني
ومدامع مسفوحة ... بين المعاهد والمغاني
وأبيت مضموم اليدين ... على الترائب والجنان
أشكو الصبابة للصبابة ... بالمدامع لا اللسان
واقول إذ هتفت بنا ... ورق شجاها ما شجاني
يا ورق ما هذا النواح ... فبعض ما عندي كفاني
غادرت بين الغوطتين ... بمنزلي السامي المكان
أو مالها كبد علي ... مذابة مما دهاني
تستخبر الركبان عن ... حالي وتندب كل آن
فعسى الذي أبلى يعين ... يولتقي ناء بدان
ومن زهدياته قوله
أرح مطايا الأماني واترك الطلبا ... لم يبق في العمر شيء يوجب العتبا
قد أطلعتني على الأشياء تجربة ... ما غادرت لي في شيء إذا أربا
ما زال يمنعني ما رمته أدبي ... حتى طفقت لعمري أكره الأدبا
حتام يغرس عندي من بليت به ... غرس الوعود ويجني مطمعي الكذبا
إن قلت واحرباً في الدهر ملتمساً ... منه الإعانة قال الدهر واحربا
وقوله
لا أطلبن مراماً لست أدركه ... وإن رقت بي إلى أعلى الذرى هممي
ولا يلذ لسمعي ذكر سالفة ... من النعيم مضت كالطيف في الحلم
مالي وعرض الجنان السبع لو وضعت ... ولم يكن لي فيها موضع القدم
ومن فخرياته رحمه الله تعالى قوله
نشأت بمهدي رفيع الذرى ... وحولي الظباء وأسد الشرى
ونادمت كل سخي الوجود ... يطعم نيرانه العنبرا
ووالدي الشهم فحل الرجال ... وجدي الأمير أمير الورى
وإن يمم الضيف أحياءنا ... بذلنا له الروح دون القرى
ولكن أناخ علينا الزمان ... وخان عهوداً لنا وافترى
وقوله أيضاً
لعمري ليس بالأشعار فخري ... ولكن بالقواضب والعوالي
وأحسابي لسان الدهر يتلو ... مآثرها على سمع الليالي
وبذلي للنضار بغير من ... على مقدور موجودي ومالي
وآلي تستقي منها بحور ... وأبحر من يفاخر لمع آل
فقل لي يا ابن بنت أبي مداس ... بعم أنت تفخر أم بخال(3/192)
وترفل في ثياب الكسبر تعساً ... لمثلك قد عريت من المعالي
وترمي آل منجك بانتقاص ... وهم أهل الفضائل والكمال
أتنصدع السماء بنبح كلب ... أم الشعرى العبور به تبالي
تسب صحابة المختار حيناً ... وحيناً تدعي حباً لآل
ويكرهك الجميع كما كرهنا ... لأرجلنا العتيق من النعال
ألا دعني وشأني يا ابن ودي ... ومحوي كل شخص من خيالي
فاترك الصدود لدي شيئاً ... يسر من الأحبة بالوصال
نقضت به الأماني من عهود ... أكلفها حقيقة ذي ملال
أيقصد من أسر به سيوف ... طبعن لضرب أعناق الرجال
وله
إن تعزات أو مدحت فإني ... لست بالشاعر المطيل كلامي
أنا من معشر هم الناس أمسوا ... لم يداروا الورى لأجل مرام
كل من قد مدحته فهو دوني ... وحبيب هويته فغلامي
وله
دعني من الشعر إن الشعر منقصة ... فالمجد يختال بين البيض والأسل
لا تدركنه وإن راجت جواهره ... فالعقد للخود لا للفارس البطل
أستغفر الله من شعر مدحت به ... قوماً مديحهم من أعظم الزلل
وقال أيضاً رحمه الله تعالى في ذم الشعر
إني أرى الشعراء أفنوا دهرهم ... في وصف كل حبيبة وحبيب
ومضوا ولم يحظوا بوصل منهما ... بتأسف وتلهف ونحيب
وسواهم يحظى بمن وصفوا له ... فهم من القواد في الترغيب
لكنما القواد تظفر بالعطا ... وهم بمقت الناس والتكذيب
ومن حكمياته قوله
ما فات فات وليس تعلم ما الذي ... يأتيك من قبل الزمان المقبل
لم تلف إلا مدركاً أو آخراً ... يروي وينقل مخبراً عن أول
فإذا تأملت الثرى ألفيته ... غرر الملوك تداس تحت الأرجل
وقوله
لا تغترر بشبابك الغض الذي ... أيامه قمر يلوح ويأفل
ودع اتباع النفس عنك فإنما ... حب الجمال الصبر عنه أجمل
نعم العيون الفاتنات قواتل ... لكن سهام الله منها أقتل
وقال ذكر الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار أن الواقدي شكى للمأمون فاقة نزلت به وديوناً لم يعين مقدارها فوقع له المأمون فيك خلتان سخاء وحياء فالسخاء أبىل يدك بتبذير ما ملكت والحياء منعك أن تذكر لنا فوق حاجتك فإن كنا قصرنا فبجنايتك على نفسك وإن كنا بلغناك بغيتك فزد في بسط كفك فخزائن الله تعالى مفتوحة ويده بالخيرات مبسوطة وأنت كنت حدثتني إذ كنت قاضياً للرشيد أنه قال صلى الله عليه وسلم خزائن الرزق بإزاء العرش ينزل للناس أرزاقهم على قدر نفقاتهم فمن كثر كثر له ومن قلل قلل عليه فقال الواقدي ما فرحت بالعطية ما فرحت بالحديث فإني كنت نسبته وقد نظم الأمير هذا المعنى فقال
زعموا بأن الواقدي قد اشتكى ... من فاقة وأغاثه المأمون
وروى له معنى الحديث فإنه ... قد قال خير العالمين أمين
بإزاء عرش الله جل جلاله ... رزق الورى بخزائن مخزون
فكثر لمكثر ومقلل ... لمقلل للرزق وهو حزين
فابسط يمينك بالعطاء ولا تخف ... فالله ربك كافل وضمين
فعمدت لما أن سمعت مقاله ... لمطيتي ومن العيون عيون
وقصدت باب الله أرجو فضله ... إذ كل فضل دون ذلك دون
فعسى المواهب أن تكون قريبة ... مني ويسعد طالعي ويعين
وأقول هاتوا يا بني رحالكم ... وتمتعوا فكذا الهبات تكون
ومن رباعياته المتعلقة بالإلهيات والنصائح قوله
في حسين إذا ما ... أردت نطقاً يقينا
جوانحي للساني ... تقول ألله فينا
وقوله
إن آمالنا التي شغلتنا ... عن طلاب الحظوظ والأرزاق
آيستنا من كل شيء ولكن ... ما أيسنا من رحمة الخلاق
وقوله(3/193)
اشغل فؤادك بالتقى ... واحذر زمانك تلتهي
واعمل لوجه واحد ... يكفيك كل الأوجه
وقوله
إلام أحمل من نفسي ومن نفسي ... عبئاً من الإثم في صبحي وفي غلسي
عسى الكريم بلطف منه ينقذني ... مني فاخلص شروى الطبر من قفسي
وقوله
تزود فخير الزاد ما كان باقياً ... وخل الأماني المسفرات عن الكرب
يسار الليالي منك في الأخذ لم تزل ... بأسرع من يمناك في طلب الكسب
وقوله
مهلاً سفينة آمالي لعل بأن ... تهب نجوى رياح اللطف والكرم
ويا حظوظي رفقاً لست مدركة ... غير الذي قسم الأرزاق في القدم
وقوله
لا تتهم بالسوء دهرك إنه ... جبل يجيب صداك منه صداء
مرآتك الدنيا وفعلك صورة ... فيها فما الشنعاء والحسناء
وقوله
ربح المخلصون بالإخلاص ... واكتفى العابدون هول القصاص
وأنا المذنب الذي بسوى ... العفو بعيد من الجحيم خلاصي
وقوله
سيدي ما قنطت منك ولا ... راع فؤادي من الخطا محذور
إن أكن راجياً فأنت جواد ... أو أكن مذنباً فأنت الغفور
وقوله
يا إلهي هبني لعفوك إني ... وجل القلب من شنيع الذنوب
حسناتي جميعها سيئات ... واعتذاري إليك عين الذنوب
وقال رحمه الله تعالى يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم
إليك رسول الله وجهت وجهتي ... لأنك أنت المنعم المتفضل
ولا نصر إلا من جنابك يرتجى ... ولا غيث إلا من يمينك يهطل
وكان قبل موته بنحو سنة ترك العزلة وظهر وعاشر قرناءه الذين ألفهم من زمن الصبا منهم والدي المرحم فكان كل يوم غالباً يزور أبي فيتفرغ عن جميع أشغاله لمحادثته وكان يقع بينهما محاورات عجيبة ومحادثات غريبة وكنت أنا أقف في خدمتهما وكثيراً ما يخاطبني الأمير ويطلب من والدي دواوين الشعر المفلقين ويجلسني ويأمرني بقراءة قصائد ينتقيها لي ويسألني عن بعض ألفاظ مغلقة منها فأجيبه عما أعرفه وكان يدعو لي ويحرص على فوائد يلقيها غلي وكتبت عنه في ذلك الأثناء أناشيد كثيرة من شعره وشعر غيره وما رأيته يغالي بشيء من شعره الغزلي بأكثر من هذه الأبيات وهي قوله رحمه الله تعالى
قد زارني وكأنه ريحانة ... يهتز من تحت القباء الأخضر
فظننت منه ضمن كل سلامة ... من طيبه شمامة من عنبر
ولكنز مبسمه دنوت فخلته ... ياقوتة ملئت بأنفس جوهر
فهصرته هصر النسيم أراكة ... متلطفاً حتى كأن لم يشعر
متعانقين على فراش صيانة ... متحذرين من الصباح المسفر
وكتبت عنه من إملائه قوله يمدح أبي رحمهما الله تعالى
أرى العمر في غير السرور مضيعاً ... ومن ودع الأحباب روحاً مودعا
فإني قد نازلت كل كريهة ... وقضيت في النعماء عزاً منوعا
وجالست أرباب الفضائل يافعاً ... وشاهدت أقمار الكمالات طلعا
وصادفت فضل الله وابن محبه ... أجل بني الدنيا وأكرم من سعى
فلا من كساه الله ثوباً كمن غدا ... عليه لثوب مستعار مرقعا
لا من يصيب الناس أنواء فضله ... كمن راح يرضى بالقليل تقنعا
وقال رحمه الله تعالى يمدح بعض الأعيان
بذاتك طابت في الوجود العناصر ... وقرت عيون واطمأنت سرائر
وأيسر وصف من جميلك دوحة ... يجول بها فكر ويرتع ناظر
سقيت رياض الشكر مني مآثراً ... تفتح منها بالثناء أزاهر
أزور وضدي لا سواه مصاحبي ... حماك فتثنيني وحولي عشائر
إذا سرت خفف من عطاياك إنني ... ليثقل ظهري جودك المتكاثر
وما أنا من يأبى نداك وإنما ... يمل من السحب الثقال المسافر
كفاني عزاً أنني بك لائذ ... وحسبك فخراً أنني لك شاعر(3/194)
وحضر يوماً عند والدي فقال لي اكتب ما أملي عليك وهو مما نظمته في هذه الليلة ثم أنشد هذه الأبيات معرضاً بجماعة من صدور دمشق فقال
أسود على ما تدعيه نفوسهم ... نمال إذا عدوا ليوم رهان
يسوؤنني في القول غيباً وإنهم ... لتسدى لهم نعماي طول زمان
وأمسي مروعاً من مخافة عتبهم ... وهم تحت ظلي رأفتي وأماني
ولم أنس ما قد قال والدي الذي ... تعوض عن دنياهم بجنان
أبت همتي العلياء عني أن ترى ... رجالاً مكاني لا تسد مكاني
ثم سمعته بعد أيام يقول قد ظفرت في مسوداتي القديمة بهذه الأبيات الخمسة وكنت قد نظمتها من منذ خمس وثلاثين سنة والآن توارد الفكر فيها وهذا غريب ثم بعد مدة اختلط وظهرت فيه أحوال الطاعنين في السن وتناقضت أقواله ثم مرض وطال به المرض مدة أشهر ونظم في مرضه هذه القصيدة المطولة وليست من حسن شعره بل هي ضعيفة من ضعيف ومطلعها دار عليها وحشة وقتام وتوفي عقيب نظمها بأيام وكانت وفاته في سنة ثمانين وألف عن ثلاث وسبعين سنة ودفن بتربتهم بجامع جدهم بميدان الحصا وروي عنه أنه قال عند حالة نزعه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين وعلى خاتم الرسل الكرام الذي هدانا ودلنا على سبيل الله أشهد الله علي وملائكته بأني أشهد أن لا إله إلا الله آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وحكى أنه رأى الغوث في رابع وعشري جمادى الآخرة وبين يديه أبو الغيث واقفاً في حرم المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام وهو ينشد هذه الأبيات
يا أبا الغيث هل يجاب دعاء ... رحت تدعوه من لساني وتسأل
ويجيء المشير منك بشيراً ... بالتهاني يقول سعدك أقبل
كنت أشقى الأنام قولاً وفعلاً ... فعليك الكريم لطفاً تفضل
كل هذا بفضل أحمد إذ ... كان شفيعاً ذاك النبي المفضل
فأنشدني رجل بغير صوت أسمعه ولا أراه وأظنه ملكاً مقرباً
هاكها قد أتتك والخير يتلو ... بعضه البعض والمواهب تترى
سوف يأتيك ما أقول قريباً ... سوف تلقى من بعد كسرك جبرا
سوف يأتيك ما أقول قريباً ... سوف تلقى من بعد عسرك يسرا
كنت كلباً فهاك قد صرت ليثاً ... تختشيك الأسود سراً وجهرا
وقال لي أمير المؤمنين سعد بن عبادة قال لعرابة وهو تابعي أرى كثيراً من الناس يقولون يا رب خاتمة الخير والخوف من السابقة قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون فقلت يا سيدي كيف حال الواحد منا من العصاة بعد قوله صلى الله عليه وسلم لو علم المرء ما يأتيه بعد الموت ما أكل أكلة ولا شرب شربة إلا وهو يبكي ويضرب على صدره فجاءني شيخ الإسلام الشيخ محمد البطنيني وقال لي أما حدثتك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أقيلوا ذوي البيوت عثراتهم فإن الله ناظر إليهم وإن كان جدك مملوكاً وجدتك جارية حبشية غفر الله لك وقد غفر لك ببيتين قلتهما أيام كنت لبطنك وفرجك وهما
حتام سفن أمانينا على يبس ... تجري بجنح ظلام مطفىء القبس
لعل من جانب الألطاف يدركنا ... ريح النجاة فننجو آخر النفس
وقال صلى الله عليه وسلم إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحراً فكان سبب خلاصي ببيتين وكنت قد نسيتهما كما وقع لابن هاني المكنى بأبي نواس الحكمي غفر له بأبيات قالها وهي قوله
تأمل في رياض الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات ... بأحداق كما الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك(3/195)
منصور بن عبد الرزاق بن صالح المعروف بالطوخي المصري الشافعي إمام الجامع الأزهر الشيخ الإمام العلامة صدر الأفاضل وشيخ المدرسين وبقية العلماء المتمكنين أخذ الفقه والحديث وغيرهما من العلوم الدينية عن جمع من العلماء الأعلام منهم الشمس الشوبري والشهاب القليوبي والشيخ سلطان والشمس البابلي والنور الشبراملسي وغيرهم من أكابر الشيوخ وأكب على طلب العلم والتقيد به حتى بلغ الغاية القصوى في جميع العلوم وشهد أشياخه له بالفضل التام واعترف له أكابر علماء عصره بالتفوق على أقرانه وتصدر للإقراء بجامع الأزهر وصرف فيه جميع أوقاته حتى كان يأتيه غداؤه وعشاؤه في مكان درسه ولا يذهب إلى بيته إلا بعد العشاء بساعة ويأتي إلى الجامع قبل الفجر واستمر على هذه الحالة إلى أن توفي وكان ورعاً جداً وحج وأخذ عنه بالحرمين جماعة وكانت وفاته بمصر في المحرم سنة تسعين وألف ودفن بتربة المجاورين رحمه الله تعالى منصور بن علي السطوحي المحلينزيل مصر ثم القدس ثم دمشق الشافعي العالم العامل والفاضل الكامل المشهور بالعبادة والعرفان والبالغ إلى مرتبة التفرد في الزهد وعظم الشأن دخل مصر وصحب بها الشيخ الولي الصالح مبارك وأخذ عنه طريق الشاذلية وسلك مسلك القوم وهجر المالوف والنوم وصقل قلبه بصيقل المجاهدة فشاهد في طريق الحق ما شاهده وجاور بجامع الأزهر وقرأ الكثير ومهر وبهر ومشايخه كثيرون رأيت بخطه إجازة كتبها لبعض المقدسيين قال فيها عند ذكر مشايخه فمنهم القطب الرباني شيخ عصره بمصر الشيخ نور الدين الزيادي ومنهم شيخ المحققين ولسان المتكلمين وحجة المناظرين وبستان المفاكهين الشيخ أحمد الغنيمي وجميع ما أذكره من مشايخي عند الحذاق أشهر من قفا نبك فلا نطيل بذكر أوصافهم والذي أكذره منهم ليس إلا كما قال القائل في المعنى وأحسن
لي سادة من عزهم ... أقدامهم فوق الجباه
إن لم أكن منهم فلي ... في ذكرهم عز وجاه
ومنهم الشيخ أبو بكر الشنواني ومنهم القاضي يحيى الشامي الحنبلي ومنهم الشيخ إبراهيم اللقاني ومنهم الشيخ يوسف الزرقاني والشيخ سالم الشبشيري ومنهم الشيخ سليمان البابلي ومنهم الشيخ محمد الجابري ومنهم الشيخ عبد الله الدنوشري ومنهم الشيخ سراج الدين الشنواني ومنهم الشيخ عبد المنعم بن الشيخ طه المالكي ومنهم الشيخ محمد القصري ومنهم الشيخ أحمد الكلبي ومنهم الشيخ محمد البكري ومنهم الشيخ محمد بن الشلبي ومنهم الشيخ حجازي الواعظ ومنهم وهو أولهم صاحب الدين المتين الذي اشتهر أنه يقرىء الجن الشيخ يس المالكي ومنهم الشيخ موسى الدميتي ومنهم الشيخ إبراهيم المعمري ومنهم الشيخ محمد الحبار ومنهم الشيخ محب الدين المنزلاوي ومنهم الشيخ محمد الخوانكي ولي مشايخ أخر يؤدي ذكرهم إلى الإطالة نفعنا الله تعالى بهم وببركاتهم جميعاً انتهى ثم قدم إلى القدس وأقام بها منعكفاً على العبادة وتلاوة كلام الله تعالى القديم وإلقاء حديث النبي العظيم واستقر منعزلاً عن الناس ولا يخالطهم في وحشة ولا إيناس فحسده أهل القدس على حبه الخفاء وشهرته تأباه ولإقبال الكبراء والأعيان عليه مع أن ذلك بخلاف رضاه فأظهروا له الشرة والتجري وأسندوا إليه أموراً هو منها في غاية التبري
وحاشاه من قول عليه مزور ... وما علمت ذنباً عليه الملائك
فهاجر إلى دمشق فقابلته بتأهيل وترحيب وأنزلته في صدر منها رحيب وأقام بالجامع المعروف بالصابونية قرب باب الصغير يقصد ويزار واليه بالورع التام والزهد الكامل يشار انعكفت عليه أهل دمشق قاطبة واعتقدوه وأحبوه حتى صار من تلامذته ومريديه خلق كثير من أهلها وكان سبباً لنشر حفظ القرآن فيها فإن الحفاظ صاروا أكثر من أربعمائة نفر بنفسه المبارك وأقام على حالته المذكورة أيضاً منعزلاً لا يذهب إلى أحد من الحكام بل هم يأتون إليه ويلتمسون منه الدعاء ويأتي محبوه إليه بالأطعمة النفيسة والإحسانات وهو لا يدخر منها شيئاً وكان كثيراً ما يحج في غالب السنين وحج في سنة خمس وستين وألف وجاور بالمدينة تلك السنة وهي السنة التي مات فيها فأرسل إليه الشيخ عبد الجواد المنوفي من مكة إلى المدينة هذه القصيدة يهنئه بالمجاورة عند خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم(3/196)
دار الحبيب أحق أن تهواها ... وتحن من طرب إلى ذكراها
وعلى الجفون متى هممت بزورة ... يا ابن الكرام عليك أن تنساها
فلأنت أنت إذا حللت بطيبة ... وظللت ترتع في ظلال رباها
مغني الجمال من الخواطر والتي ... سلبت عقول العاشقين حلاها
لا تحسب المسك الذكي كتربها ... هيهات أين المسك من رياها
طابت فإن تبغي التطيب يا فتى ... فأدم على الساعات لثم ثراها
أبشر ففي الخبر الصحيح مقرر ... أن الإله بطيبة سماها
واختصها بالطيبين لطيبها ... واختارها ودعا إلى سكناها
لا كالمدينة منزلاً وكفى بها ... شرفاً حلول محمد بفناها
حظيت بجيرة خير من وطىء الثرى ... وأجلهم قدراً فكيف تراها
فأجابه صاحب الترجمة بهذه الأبيات وهي قوله
أيا سائلاً عني وعن وصف خلتي ... تريد بها حظاً بأوفر بغيتي
مآرب أمري ثم مر بي مآربي ... بأقوال ربي ثم أفعال سنة
مجامع أمري في اجتماع أحبتي ... بطيبة إذ طابت لنفس زكية
وقرة عين في اقتراب منيتي ... بموطنها إن شاء رب البرية
وأهني بإخبار الأحبة كلما ... أراها بعين الرأس ثم البصيرة
وأذكر ما بين المحبين شأنها ... فتصغى لها أهل الصفا والمودة
فيا قرب داري بالمحبين كلهم ... وسيدهم يوم اللقا والغنيمة
فلله در المغبطين لنا بها ... وقدر بحت نفسي تهني ببغيتي
فوالله لا أنسى محباً ومخلصاً ... وعبد الجواد كريم السجية
وروى عنه أنه قال لما وصلته أبيات الشيخ عبد الجواد أرسل لنا الشيخ هذه الأبيات يودعنا بها وكان كما قال وكانت وفاته في حادي وعشرين شهر رمضان سنة ست وستين وألف ودفن بالبقيع بالقرب من مرقد سيدنا إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن أحمد بن علي بن إدريس البهوتي الحنبلي شيخ الحنابلة بمصر وخاتمة علمائهم بها الذائع الصيت البالغ الشهرة كان عالماً عاملاً ورعاً متبحراً في العلوم الدينية صارفاً أوقاته في تحرير المسائل الفقهية ورحل الناس إليه من الآفاق لأجل أخذ مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه فإنه انفرد في عصره بالفقه أخذ عن كثير من المتاخرين من الحنابلة منهم الجمال يوسف البهوتي والشيخ عبد الرحمن البهوتي والشيخ محمد الشامي المرداري وأكثر أخذه عنه وعنه الشيخ محمد ومحمد بن أبي السرور البهوتيان وإبراهيم بن أبي بكر الصالحي وغيرهم ومن مؤلفاته شرح الإقناع ثلاثة أجزاء وحاشية على الإقناع وشرح على منتهى الإرادات للتقي الفتوحي وحاشية على المنتهى وشرح زاد المستقنع للحجاوي وشرح المفردات للشيخ محمد بن عبد الهادي المقدسي وكان ممن انتهى إليه الإفتاء والتدريس وكان شيخاً له مكارم دارة وكان في كل ليلة جمعة يجعل ضيافة ويدعو جماعته من المقادسة وإذا مرض منهم أحد عاده وأخذه إلى بيته ومرضه إلى أن يشفى وكانت الناس تأتيه بالصدقات فيفرقها على طلبة العلم في مجلسه ولا يأخذ منها شيئاً وكانت وفاته ضحى يوم الجمعة عاشر شهر ربيع الثاني سنة إحدى وخمسين وألف بمصر ودفن في تربة المجاورين رحمه الله تعالى(3/197)
الأمير منصور المعروف بابن الفريخ تصغير فرخ البدوي أمير البقاع العزيزي بعد أولاد الحنش كان في أول أمره بدوياً من عرب تلك البلاد وكان يتكسب بالرجادة ثم انتهى أمره إلى أن حاز الإمارة وتظاهر بقتل المناحيس وأهل الزعارة والشطارة وكان يبغض اللصوص والقطاع ويعاملهم إذا قبض عليهم بالقتل والتمثيل وكان يحب أهل الشجاعة حتى عظم أمره فولي حكومة البقاع ثم أعطي حكومة نابلس وانحاز إليه جماعة من جند دمشق واشتهر وأخاف الدروز ثم شن الغارات عليهم وكان هو السبب في أخذ إبراهيم باشا أحد الوزراء في عهد السلطان مراد بن سليم إليهم وقد جاء من نيابة مصر ثم كان قيدومه حتى أثر فيهم وقتل منهم مقتلة عظيمة واختفى منه أميرهم الأمير قرقماس بن معن حتى مات في اختفائه ثم جمع له بين حكومة نابلس وصفد وعجلون والبقاع وأضيف إليها إمارة الحاج والتزم مالاً عظيماً على صفد ونابلس وجعل نابلس باسم ولده وعجلون باسم واحد من جماعته يقال له دالي علي وصفد باسمه والبقاع بحاكم من قبله وسافر بالحج مرتين في سنة ثمان وتسعين وتسعمائة وفي التي بعدها ثم زاد عتوه وتمرده وخرب بلاداً كثيرة وقتل خلقاً كثيراً وعمر عمارات عظيمة بالبقاع بقرية قبر الياس وشرع في عمارة دار عظيمة خارج دمشق قبلي دار السعادة لم يرسم مثلها جعل بابها بالرخام الأبيض والحجر الأحمر المعدني ونقل لها الرخام من بلاد السواحل والحجارة من البقاع واستعمل فيها العملة بالسخرة وسيرته طويلة وكان مع ما هو فيه من التعدي ملازماً للصلوات محباً للسنة وأهلها مبغضاً للرافض والدروز والتيامنة شديداً على المفسدين وكانت الطرقات آمنة في أيامه ثم لما ولي مراد باشا نيابة الشام وهو الذي صار آخراً وزيراً أعظم طلع من صيدا في سنة إحدى بعد الألف فخدمه الأمير فخر الدين بن معن بخدمة سنية وأطمعه بكل جزئية وكلية فعمل مراد باشا على قبض الأمير منصور صاحب الترجمة وهو آمن منه بعد أن أمره بعمل ضيافة له في بيته الذي ابتناه عند الدرويشية ثم اعتذر عن الذهاب إليه وأمره أن تكون الضيافة عنده في دار السعادة فلم يشعر الأمير منصور إلا وقد أحيط به ثم أودعه قلعة دمشق وعرض فيه إلى السلطان مراد فجاء الأمر بقتله فقتل في نهار الثلاثا ثالث عشر شهر ربيع الأول سنة اثنتين وألف وأخرج من القلعة في بلنسة عتيقة محمولاً فيها من غير نعش وغسل في بيت زوجته بنت مراد باشا ودفن بتربتهم قبلي ميدان العبيد خارج باب الصغير وفيه يقول الأديب يوسف العلمي مؤرخاً
في السجن شخص اشتبك ... مقيداً من غير شك
من ظلمه وجوره ... عليه قد دار الفلك
فكم طغى وكم بغى ... وكم سبى وكم فتك
لم ير في خير سعي ... ولا مشى ولا سلك
فلا نجا لما اعتدى ... ولا افتدى بما ملك
وقد أتى تاريخه ... ابن فريخ جاهلك
وخلف عشرة أولاد أكبرهم قرقماس الظالم العسوف وكان عند قتل والده مقيماً ببوارش من أرض البقاع فأرسل مراد باشا إلى الأمير فخر الدين بن معن يأمره بالكبس عليه فتوجه إليه في جمع عظيم من الدروز والتيامنة فقبل وصوله إلى بوارش التي كان نازلاً فيها جاءه النذير ففر ومعه نحو مائة بندقاني فعمدوا إلى بيوته فنهبوها وحرقوها ونقلوا محاسنها إلى بلادهم ثم نزلوا إلى قبر الياس وبعثوا إلى مراد باشا يخبرونه أن قرقماس هرب إلى ابن سيفا ببلاد كسروان فأرسل مراد باشا يأمرهم بالرحيل عن قبر الياس إليه ثم جاءت الأخبار بأن قرقماس لما توجه من بوارش هارباً إلى ابن سيفا لم يمكنه ابن سيفا من النزول عليه في بلاده فتفرق عنه من كان معه ولم يدر أين ذهب والله أعلم قلت ثم كانت عاقبته أنه قتل على يد الأمير موسى بن الحرفوش بمواطأة الأمير فخر الدين بن معن وكان قتله في حدود سنة ثلاث بعد الألف(3/198)
منصور سبط شيخ الإسلام ناصر الدين الطبلاوي نسبة لبلدة بالمتوفية من أقاليم مصر الشافعي الشيخ العالم المحقق خاتمة الفقهاء ورحلة الطلاب وبقية السلف برع في التفسير والفقه والحديث والنحو والتصريف والمعاني والبيان والكلام والمنطق والأصول وغيرها من العلوم فلا يدانيه فيها مدان بحيث أنه تفرد في اتقان كل منها وقلما يوجد فن من الفنون العلمية إلا وله فيها الملكة القوية ولد بمصر وبها نشأ وحفظ القرآن بالروايات واشتغل بعلوم الشرع والمعقولات وأخذ الفقه عن الشمس الرملي والعربية عن أبي النصر بن ناصر الدين الطبلاوي ولازم في العلوم النظرية المحقق الشهاب أحمد بن قاسم العبادي وبه تخرج وببركته انتفع وحصل وجمع وأفتى ودرس ولازمه بعده جل تلامذته ممن لازمه وأخذ عنه علوماً عديدة الشمس محمد الشوبري وألف المؤلفات السنية ورزق السعادة فيها فانتشرت واجتهد الناس في تحصيلها وسارت بها الركبان ومن مؤلفاته شرح على الأزهرية في مجلد حافل وشرح على شرح تصريف العزي للتفتازاني ونظم الاستعارات وشرحها ونظم عقيدة النسفي وله مؤلف في ليلة النصف من شعبان وغير ذلك من كتب ورسائل وجرد حاشية شيخه ابن قاسم المذكور على التحفة لابن حجر ولم يزل مشتغلاً بالعبادة والإفادة حتى توفي وكانت وفاته بمصر يوم الثلاثاء رابع عشر ذي الحجة سنة أربع عشرة بعد الألف منصور الشهير بالفرضي الشافعي المصري نزيل الصالحية بدمشق الفقيه الفرضي الحيسوب فرد وقته أخذ بمصر عن علماء أجلاء ثم ورد صالحية دمشق فنزل بالمدرسة العمرية وقطن بها مدة حياته ودرس بها وأفاد واشتغل عليه جماعة من فضلاء دمشق وانتفعوا به من أجلهم بقية البيت الغزي الشيخ العالم عبد الكريم ابن الشيخ سعودي مفتي الشافعية بدمشق الآن وغيره وكان صالحاً ناسكاً حسن السمت والنزاهة وللناس فيه اعتقاد وكانت وفاته يوم السبت عاشر ذي القعدة سنة سبعين وألف(3/199)
الأمير منصور المعروف بابن الشهاب التيماني أمير وادي التيم وابن أميرها ولآبائه وعمومته قدم في إمارة الوادي المذكور وجورهم بالنسبة إلى أمراء بلاد الشام كالدروز بني معن والرفضة بني الحرفوش وبني سرحان مقصور على أنفسهم من حيث المعتقد فحسب ومالهم في القديم والحديث كثرة أذية للمسلمين وبلادهم المذكورة من أصح بلاد الشام هواء وأطيبها بقعة والأمراء المذكورون يسكنون منها حاصبيا وريشيا قريتين ولهم فيهما أبنية نفيسة وعمارات فائقة وكان الأمير منصور المذكور صاحب بسطة في المال لطيف الشكل والمصاحبة مائلاً إلى المعاشرة والمباسطة عاقلاً ذا فكرة جيدة إلا أنه لعبت به وساوس الحشمة فأدته إلى موافقة عبد السلام وبقية رؤساء جند الشام في مصادمة مرتضى باشا لما ولي نيابة الشام وقارب أن يدخلها وكان عبد السلام كاتب الأمير منصور وابن عمه الأمير علياً في هذا الأمر وطلب إسعافه بالرجال فجمعوا من بلادهم جمعاً عظيماً وجاؤا بهم إلى دمشق ثم تجمع العسكر وخرج الفتيان ومعهما من الرعاع والأوباش ما ضبط فكان أربعة عشر ألفاً وكان مرتضى باشا وصل إلى القطيفة فخرجوا إلى محاربته فلما سمع بخبرهم رجع ولم يدخل إلى دمشق ورجعوا هم إلى دمشق وأقام الأميران المذكوران بها أياماً وأقبل العسكر عليهما وتغالوا في تعظيمهما ومواساتهما فأعجبهما ذلك الإقبال وظنا أن الدهر سالمهما في الحال والمآل وحسن لهما كثير أن يسكنا دمشق ويدخلا في زمرة جندها فانساغا ولم يعهد فيما أحسب لأحد من أهل بيتهما ذلك الانسياغ وتملكا دارين بمحلة القنوات إحداهما اشتراها الأمير منصور من بني فرهاد والأخرى اشتراها الأمير علي من مخلفات الصنجقدار وصارا كلاهما من كبار الند المعبر عنهم بالبلوكباشية وشرعا في عمارة هذين الدارين على أسلوب متقن محكم وزخرفاهما بأنواع الزخارف والنقوشات وجلبا إليهما الرخام من بلادهما واستمرا مدة يصرفان جهدهما في اتقان بنائهما حتى تمت عمارتهما ولعمري إنهما أبدعا ونوعا وأجادا فيما صنعا وهاتان الداران بعد تناقل الأيدي لهما من محاسن دمشق الآن واتفق قريب التمام قصة قتل عبد السلام كما ذكرنا في ترجمته فتنغص عيشهما وأقلعا إلى بلادهما متخوفين وعلما أن ما ارتكباه كان غلطاً وتواردت عليهما بعد ذلك أخبار زعزعتهما عن مستقرهما وطفقا يلتجئان إلى من يحسن التدبير في أمرهما فلما أعياهما الظفر بمخلص لهما عند أرباب العقد والحل وعظم الكرب عندهما من كثرة الأوهام وجل لم يقر للأمير منصور قرار دون أن ترك الديار والدار وصمم على السفر إلى جهة السلطنة العلية ولم يبال إذا قدم عليهم أتدركه منية أو أمنية فوقع أنه وصل وقابل الوزير فعوجل بالقتل من غير تأخير وكان قتله في سنة ثلاث وسبعين وألف بقسطنطينية ووقع في أطراف دمشق التفتيش على ابن عمه علي فظفروا به تلك السنة وقتل أيضاً موسى بن إبراهيم بن مسلم بن محمد بن محمد بن خليل بن علي بن عيسى بن أحمد بن صالح بن خميس بن محمد بن عيسى بن داود بن مسلم السيد الصمادي القادري الشافعي الدمشقي الشيخ الأجل الصالح الدين الخير الفقيه كان من أجل الصوفية في عصره تلقى الطريقة القادرية الصمادية عن والده وأجازه إجازة خاصة في سنة سبعين وألف وكتب على الإجازة فضلاء دمشق منهم والدي المرحوم وكان من جملة ما كتبه لما تشرف البصر بالنظر إلى هذه الإجازة الشريفة وسرح طرف الطرف في مضمار مطالعة ما ذكر فيها من أهل هذه الطريقة المنيفة الذين بذكرهم تنزل الرحمة وبصبا أنفاسهم القدسية تنقشع غمائم الغمة آنست من جانب طورها الأيمن نار القرى وعلمت أن كل الصيد في جوف الفرا فيا لها من سلسلة أحاديث علاها معنعنة مسلسلة علية الشرف محتوية على السداد والاستعداد من كل طرف متصلة من الأجداد إلى الآباء إلى الأبناء فلا جرم فبالآباء تقتدي الأولاد الأمجاد وعلى عراقها تجري الجياد وحق لنهر شق من بحر أن يكون غزيراً ولنجم استضاء من بدر أن يكون منيراً كحاوي هذه الإجازة من فاز بالشرف وحازه الجامع بين الحسب والنسب والفضل التام والأدب المتحلي باستعداد كل فضيلة نالها
فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها(3/200)
ولا بدع فهو وسلالة البيت النبوي من أصبح إمام الأنام في العصر بالجامع الأموي قد سلك مسلك آبائه العارفين وتابع أجداده واهتدى بهدي سلفه المرشدين فله جد في الطاعة وخلوص في العبادة مع اشتماله على فضل غزير يعرب عن رفع محله وعلم مبني على قاعدة العمل وأصله لا بدع فمن كان له كوالده والد فقد حوى الفلاح والصلاح طارفاً عن تالد وناهيك بوالده العزيز المجيز من أضحى كالعلم الفرد في باب التمييز قطب دائرة هذه الديار ومركز إحاطة عباد العباد الأخيار فأقسم بالمقام والبيت الحرام أن من علم ماله من المزايا وفهم ما خص به من السجايا من واهب العطايا تحقق أن في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ولم يزل صاحب الترجمة بعد موت والده خليفة قائماً بأوراده وأذكاره مشكور السيرة في جميع أحواله وأطواره إلى أن توفي نهار الأربعاء رابع عشر صفر سنة إحدى وثمانين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى موسى بن أحمد الملقب شرف الدين الحمصي الجوسري الشافعي إمام الشافعية بجامع بني أمية بدمشق كان من العلماء الصالحين والفضلاء الموقرين حضر دروس المشايخ الأجلاء واشتغل عليهم وأخذ عنهم منهم البدر الغزي والشهاب الطيبي والشيخ أبي الفداء إسمعيل النابلسي وصاهر الشهاب القابوني وولي إمامة الأولى بالأموي بعد الشهاب الفلوجي وكانت وفاته في سنة إحدى وألف موسى بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد تقدم ذكر تتمة نسبه في ترجمة والده أحمد إلى الشيخ العارف بالله تعالى أحمد بن موسى العجل شيخ بنت الفقيه الأكبر وبركة اليمن وسند تهامة انعقد الإجماع على ولايته قدس سره ولد يوم الأحد سادس وعشري جمادى الآخرة سنة أربع بعد الألف ببيت جده الفقيه بن عجيل وبها قرأ القرآن وأخذ عن والده ورباه وأدبه فأحسن أدبه وكلأه حتى لاحت فيه مخايل النجابة فأقامه مقامه في حياته وجعله خليفته في طاعاته وشارك والده في الأخذ عن عارف زمانه تاج الدين الهندي رضي الله عنه ورحمه طريق النقشبندية وتلقن منه الذكر ولبس الخرقة في ليلة السابع والعشرين من شعبان سنة سبع وعشرين وألف وأخذ عن كثيرين من مشايخ الحرمين واليمن وقرأ على الشيخ العارف الزين بن الصديق المرجاجي رحمه الله تعالى عوارف المعارف للسهروردي وأجازه جل شيوخه بالإلباس والتلقين على طريقة أهل المعرفة بالله تعالى وانفرد في عصره ببلده في علوم الطريقة وانتهت إليه بها الرياسة مع الجاه العريض عند جميع الناس والشفاعة المقبولة المسموعة والتحلية بالاستقامة وكانت وفاته في ثامن عشر شعبان سنة سبع وتسعين وألف ودفن بقرب تربة والده رحمه الله تعالى موسى بن سعد الدين بن محمد بن حسين بن حسن السعدي الجباوي الدمشقي القبيباتي الشافعي كان من كبار الصوفية له الشهامة الزائدة والنعمة الطائلة وقد توسع في آلات الاحتشام حد التوسع وجمع من الذخائر والتحف وأنواع الأمتعة والأقمشة ما لا يحصى كثرة وكان على طريق أسلافه في البذل والإدارات والميل إلى الشهرة وكان معتدلاً في أمر الجذب بل كان الغالب عليه سلامة الفكر وحسن التدبير والصلف وله محاضرة جيدة ولطف أداء ومعاشرة وبالجملة فهو أكمل أهل بيته وأعرفهم وأحذقهم وكانت وفاته في سنة ثمان وأربعين وألف ودفن بتربتهم المعروفة بهم خارج باب الله الأمير موسى بن علي بن موسى المعروف بابن الحرفوش الأمير بن الأمير أمير بعلبك ولي إمارتها بعد قتل أبيه وذلك بعد أن كان قبض على أبيه وأرسل هو والأمير منصور ابن الفريخ والأمير قانصوه إلى الروم ثم خلص هو وابن الفريخ ثم قبض عليه مراد باشا كما قبض على ابن الفريخ وخنقه في قلعة دمشق في سنة إحدى أو اثنتين بعد الألف وهؤلاء القوم من الغلاة في الرفض خذلهم الله تعالى إلا أن صاحب الترجمة كان أقرب أهله إلى التسنن كما قال النجم في ترجمته وكان بطلاً شجاعاً جواداً وكان ركب على الأمير علي بن سيفا صاحب طرابلس الشام بأمر من الوزير محمد باشا السيد الشريف المنفصل عن نيابة مصر حين كان نائباً بالشام في سنة سبع أو ثمان بعد الألف وقتل ابن سيفا في ناحية عزير وقد ذكرنا خبر هذه الوقعة في ترجمة الأمير حسن بن الأعوج وذكرنا بيتين تمثل بهما ابن الأعوج المذكور في صدر رسالة أرسلها إلى الأمير موسى صاحب الترجمة يحثه فيها على قتال ابن سيفا والبيتان هما(3/201)
عزير طور ونار الحرب موقدة ... وأنت موسى وهذا اليوم ميقات
إلى آخرهما فارجع إليهما ثمة وبقي الأمير موسى في إمارة بعلبك حتى دخل الأمير علي بن جانبو لاذ بعلبك قاصداً دمشق فنهض الأمير موسى إلى نواحي حمص لاستقباله مداراة ومحاماة عن أرضه فتحادثا وتقاولا وتشاورا فيما صدر وتجاولا فقال الأمير موسى هل تعطيني عهداً على الصلح وأنا أذهب إلى الشام وآخذ لك العهد الوثيق من الأنام فقال اذهب سليماً وكن يا موسى كليماً فحضر إلى الشام ورمى من عسكرها بغاية الملام وأوجعوه بغليظ الكلام ظناً من جهلائهم أنه عليهم وما كان ناوياً إلا سوق الخير إليهم فلما حضر إلى أمير الأمراء بدمشق قال له قد جئت على قدر يا موسى فجرد سيف عزمك لعله يذهب البوسى فقال إن ابن جانبولاذ يطلب أن تعطى حوران لعمر والبدوي من عرب المفارجة والبقاع العزيزي لمنصور بن الفريخ وأن يؤذن لكيوان بالدخول إلى الشام والعود كما كان ويكتب عرض بأن ابن جانبولاذ لم يدخل إلى أرض الشام وأن فخر الدين بن معن يؤدي ما عليه من مال السلطان وبلاده موصوفة بالأمان فعقد أمير الأمراء ديواناً لهذه المطالب فاتفقوا على أن حوران لعمرو ولكن في السنة القابلة وأما البقاع فإن اعطاءه لمنصور غير معقول لكونه عند الرعايا غير مقبول وأما كيوان فإنه يرجع وعليه الأمان وأنه يكتب عرض بما أراد من عدم دخوله وبتعديل ابن معن ثم وقع في ثاني يوم إباء من الشيخ محمد بن سعد الدين لما صمم عليه أولاً فرجع الأمير موسى إلى ابن جانبولاذ بغير المراد فعزم ابن جانبولاذ على قصد دمشق ثم إن ابن جانبولاذ جاء إلى البقاع وخيم بها وانحاز إليه الأمير يونس بن حسين بن الحرفوش ابن عم الأمير موسى ومن معه من أولاد عمه وقصدوا بعلبك فنهبوها وفرقوا أهلها ووقع من ابن جانبولاذ على المال وصولح ابن معن على أن تكون بعلبك والبقاع للأمير يونس فلما رجع ابن جانبولاذ وعشيره خرج الأمير موسى إلى القيروانية وجمع عشيراً كبيراً لقتال ابن عمه وإخراجه من بعلبك ثم صرف العشير ورجع إلى دمشق مريضاً فمات يوم الجمعة سابع وعشري صفر سنة ست عشرة بعد الألف ودفن في مقبرة الفراديس بالقبة المعروفة ببني الحرفوش موسى بن محمد حجازي الواعظ الشيخ الفاضل العالم المتفنن في العلوم ولد بمصر وبها نشأ وأخذ عن الشمس الشوبري والشيخ سلطان المزاحي والشمس البابلي ولازم أبا النور علي الشبراملسي السنين العديدة ولم يفارقه في غالب دروسه وكان من أجلاء طلبته وكان يجله ويحبه محبة شديدة وكانت وفاته في شهر ربيع الثاني سنة سبع وسبعين وألف وصلى عليه إماماً بالناس شيخه الشبراملسي المذكور وحزن عليه كثيراً وصلى عليه بالأزهر ودفن على والده بتربتهم المعروفة بالمدابغ العتق(3/202)
الأمير موسى بن محمد الشهير بابن تركمان حسن الدمشقي الشجاع الباسل المشهور أمير الحاج وصاحب الوقعة المشهورة مع الأمير حمد بن رشيد أمير بلاد حوران نشأ في طليعة عمره ريان الهزة من ماء الشباب مقتدحاً زناد العزمة مورياً برواء الأتراب وكان ممن أجرى جواد همته في ميدان الشجاعة فحاز قصب السبق في الفروسية والبراعة ثم انتقلت به مناصب الجند بالشام حتى صار باش جاويش وحج مرتين متتابعتين ثم صار كتخدا العسكر وأمر بالسفر إلى محاصرة قنديه في سنة سبع وستين وألف ووقع له ثمة مع بعض الشجعان من الفرنج منازلة كانت الغلبة فيها له فاشتهر بالفروسية وعلا صيته وقدم إلى دمشق وأقام بها مدة ثم وجهت إليه الإمارة ببلاد عجلون فاستقام بها أميراً سنين وأحسن العشرة مع أهلها فعمرت في زمنه وانتظم أمرها وكان له مع عرب البوادي حسن ملاءمة ومعاشرة ولهم إليه انجذاب وانعطاف وتوغل في الميل إليهم حتى صار لا ينطق إلا بلسانهم ولا يتزيا إلا بزيهم ثم وجهت إليه إمارة الحاج وحج بالركب الشامي سنتين متتابعتين ووقع في ثانيتهما قصة ابن رشيد ونهبه للحاج في المكان المعروف بالصافي والحاج راجع وظفرت العرب بأشياء كثيرة من مجلوبات مكة وقتل جماعة من الحاج وبقيت في قلب الأمير موسى حرارة من ابن رشيد فإنه كان فيما يقال يواخيه وبينهما سابق عهود محفوظة فلما وصل إلى دمشق استأذن من جانب الدولة بالركوب عليه ومحاربته فأعطي الإذن فجمع جماعة من دمشق والقدس ونابلس وهذه الدائرة وخرج إليه وتقابلا في مكان قريب الزرقاء ووقع بينهما حرب عظيم ودخل الأمي موسى في المعمعمة وهو يكتنى على دأب العرب ويحث عسكره على القتال وقد قتل جماعة من العرب فاتفق أنه صادفه بعض الأوباش فطعنه برمح أرداه به فوقع ميتاً عن جواده وكان حمد بن رشيد قريباً من موضع مقتله فلما رآه قد سقط بادر إليه يظن أن الطعن لم يرده فلما رآه قد مات علم أن عسكره لا تقوم لهم بدونه قائمة وإذا هم كما ظن قد ولوا هاربين فأمر بالكف عنهم اشتغل بأمر الأمير موسى وعظم مصابه به وأخذ يندبه ويبكيه وحكي عنه أنه كان يقول إن حزن موسى لا يذهب مني أبداً وقتل من جماعته إخوان وهرب بنوه وبقية إخوته وجماعته وكان قتله في سنة إحدى وثمانين وألف وبقي ابن رشيد بعده مدة والطلب واقع عليه فلم يظفر به ثم ساقته المقادير إلى أجله برحلة وقعت له إلى نواحي بغداد نزل فيها عند رجل غدر به فهلك في حدود سنة تسعين بعد الألف موسى القبي الرملي من كبار العلماء أهل الإفادة وكان له في التصوف المهارة الكلية وشهرته في بلاد الرملة غنية عن الإفصاح بعلو المنزلة وكانت وفاته في يوم الأحد حادي وعشري شوال سنة سبع بعد الألف ورأيت في أخباره أنه مكتوب على قبره هذا قبر شيخ الطريقة والحقيقة ثم هذين البيتين
قدمت على الكريم بغير زاد ... من الحسنات والعمل السقيم
وحمل الزاد أقبح ما تراه ... إذا كان القدوم على كريم(3/203)
موسى السندي أحد أصحاب السيد صبغة الله السندي نزيل المدينة ذكره النجم وقال في ترجمته كان من الفضلاء البارعين والأولياء الصالحين جاور بالمدينة المنورة ولازم السيد صبغة الله وله اشتغال بالعلم قديماً وسافر من المدينة إلى الشام قاصداً زيارة الخليل عليه الصلاة والسلام وبيت المقدس قال وصحبناه في طريقه ذلك من المدينة إلى الشام في سنة إحدى عشرة بعد الألف فرأيناه فاضلاً في علوم التفسير والمعاني والبيان والمنطق والحديث والتصوف وكان لطيف المزاج نافذ الفهم ذكياً وكنا نراه كالمقهور والملجأ في خروجه من المدينة لتعلق قلبه بالحضرة النبوية إلا أنه خرج منها المنام رآه قيل له فيه إن الخليل عليه السلام يطلبك قال وزارني في منزلة ذات حج في أوائل صفر وكنت قد اضطجعت للقائلة وأنا حريص عليه لقرب الرحيل وتعذر النوم في المسير فزارني وقد غلب علي النوم وأنا مسجى برداء فلم أنهض له إيذاناً بأني نائم وقلت في نفسي يجلس ثم يقوم ومن عندنا إلى شأنه فعرضت عليه القهوة وشيء من المأكل فقال أنا مكتف إنما جئت لزيارة الشيخ ولم يأكل ولم يشرب فقلت في نفسي أما تستحي من الله تعالى أن رجلاً صالحاً يزورك في الله ولا ينال غرضاً من زيارتك أي جفاء فوق هذا فقعدت وسلمت عليه ورفعت الوسادة فإذا تحتها عقرب كبير فقتلناها وعلمت أن ذلك كرامة له ثم صحبناه برهة من الزمان بدمشق ولم يمكث بها إلا أياماً قليلة ثم سافر إلى بيت المقدس فزار الخليل عليه السلام وقطن في القدس الشريف حتى مات في سنة اثنتي عشرة بعد الألف رحمه الله تعالى السيد موسى الرام حمداني الحلبي البصير الشافعي المذهب فاضل حلب وأديبها ولد برام حمدان من قرى حلب ثم توطن حلب واشتغل بتحصيل الفنون حتى تفنن في العلوم الرياضيات وبرع في العلوم الحكمية واما معرفته بعلم الحرف فإنه المتصرف فيه وكان مطلعاً على مواقع العرب وغرر الأخبار وهو في ذلك بحر زاخر ليس له قرار وأما علم الأدب والشعر فقد أبدع فيه غرائب أنواع السحر وكان من المنتصرين لأبي العلاء المعري ويحفظ أكثر شعره ويرويه ويكره كل من يذمه أو يسيء الظن فيه وإذا ذكر في مجلسه يمدحه غاية المدح ويقول هل خلا كامل غيره من القدح ويقول جميع ما نسب إليه من الأقوال المذمومة افتراء عليه ويقيم الأدلة على ذلك وينشد له من الشعر ما يناقض ما هنالك وله مؤلفات منها نظم الأسماء الحسنى يدل على علو مقامه وذكره البديعي فقال في وصفه فاضل تقتبس مشكاة الصلاح من نوره وتطلب الهداية من جانب طوره وموشحاته وشحت كل جميع وقرعت كل سمع ومن خوارقه أنه بعد ما بلغ أشده خاض بحر القريض واستمده والشاعر يقول في المعنى
وماذا يطلب الشعراء مني ... وقد جاوزت حد الأربعين
وقد أشار إليه السيد أحمد بن النقيب في مكاتبة كتبها إليه يقول فيها
قسماً بمن جعل الفضائل ... والمعالي حشو بردك
وحباك منه قريحة ... كعصا سميك في أشدك
أبطلت سحر بني القريض ... بها فكنت نسيج وحدك
فتلقفت ما يصنعون ... فآمنوا رغماً بمجدك
إن القوافي قد ملكت ... زمامها بعلو جدك
وأخذت كل فريدة ... منها تضيء بسمط عقدك
وبلغت منه ما تروم ... فلم يصل أحد لحدك
فلأنت في شهبائها ... ملك القريض برغم ضدك
فاسلم ولا رميت بنو ... الآداب في حلب بفقدك
فأجابه بقصيدة طويلة منها
فوق الشداد تشرعت ... يا ابن النقيب قباب مجدك
وأطاعك الشرف الرفيع ... فأنت فيه نسيج وحدك
أتعبت جد بني العلوم ... فقصروا عن نيل جدك
وغدوت ترفل في العلى ... تيهاً وترغم أنف ضدك
قال وأخبرني السيد يحيى الصادقي أن السيد موسى انتحل شيئاً من شعره فقال يداعبه
أقسمت بالسحر الحلال ... وحرمة الأدب الخطير
ومجالس الأنس التي ... عقدت على عقد السرور
إن كان موسى ذو الأيادي ... البيض والأدب الغزير
لم يرجع المغصوب من ... شعري وما أبدى ضمير(3/204)
لأذيقه مر العتاب ... لدى الكبير مع الصغير
بل والخصام لدى الهمام ... رئيسنا صدر الصدور
وأصوغ من درر القوافي ... عقد لوم مستنير
ينسى أولي الألباب ما ... فعل الفرزدق مع جرير
فأجابه بقصيدة طويلة منها قوله
ما لي وللقنص الصريح ... وهمتي صقر الصقور
وعصاي طوع يدي ... تلقف كل سحر مستطير
إن ألقها انبجست عيون ... المجد من صم الصخور
وبها على الدر الثمين ... أغوص في لجج البحور
ولي اليد البيضاء بين ... الجمع والجم الغفير
أستغفر الرحمن من ... دعوى تدنس بالفجور
هذي قوافي الشعر ... حاضرة لدى المولى الكبير
نجل الحسام المستبد ... برأيه الليث الهصور
من شرفت حلب به ... وعلت على هام النسور
إن كان ما زعموه حقاً ... فهو أدرى بالأمور
وكتب إليه بعض الظرفاء عن لساني قصيدة منحولة واقتضى الأمر عدم إخباره بذلك فأجاب بقصيدة منها
يا دير سمعان ذكرتني ... رسومك الدرس الدريسا
أودت بسكانك الليالي ... ولم تدع منهم أنيسا
فلا أغبتك غانيات ... ولا عدت ربعك الدريسا
والناس مثل الرسوم إلا ... إذا حبوا فاخراً نفيسا
فكتب له
ليس إلا بالقلب ما بك يوسي ... من جوى دونه يذيب النفوسا
قد سقتك الأيام خمرة وجد ... وأدارت من البعاد كؤسا
بعدت عنك من تحب وهذا ... الدهر يولي الفتى نعيماً وبوسا
أين أوقاتك التي كنت فيها ... لم تبت من رضا حبيب يؤسا
حيث يسقيك خندريساً حبيب ... ريقه العذب يزدري الخندريسا
ذو قوام ما ماس في الروض إلا ... علم الغصن قده أن يميسا
طالما زار في الدجا وثرياه ... تحاكي في المغرب الأنكيسا
غلساً خوف لائم والذي ... يكتم وصلاً يحاول التغليسا
فسقى عهده بجلق عهد ... الدمع من مقلتي وربعاً أنيسا
بلدة ما ذكرتها قط إلا ... حرك الشوق من غرامي رسيسا
واستهلت مدامعي كالغوادي ... وغدا القلب من جواه وطيسا
منذ فارقت أهلها لم يرق لي ... صفو عيش ولا نديم سؤسا
منها
من أناس زكوا أصولاً وكانوا ... من أناس نموا وطابوا غروسا
نصروا دين ربهم بمواض ... كم أذلت جحافلاً وخميسا
يقف الناس هيبة ووقاراً ... بحماهم إذا رأوهم جلوسا
أذهب الله عنهم الرجس ... والفحشاء دون الأنام والتدنيسا
وبعد أن رأى هذه القصيدة المنحولة أخذه ما أقامه وأقعده وملكه ما أزعجه وأكمده ولم يبق أحد إلا زاره واشتكى وحياه وبكى فكتب إليه معتذراً
ما لموسى الشريف أصبح يبدي ... بعد ذاك الإقبال هجري وصدي
ما كفى أنه أراد لي الكيد ... مراراً ولم ينل غير وجد
زار دار النقيب ذو الفضل ... من أوصافه الغر ليس تحصى بعد
ذو المعالي والمكرمات حجازي ... من غدا في الأنام من غير ضد
سيد جوده لو اقتسمته ... الناس طراً لم تلف طالب رفد
الجليل الشهير بابن قضيب ... البان لا زال للورى بدر سعد
واشتكى عنده وذم ولكن ... ذم مثلي من مثله ليس يجدي
شاتماً ملأ فيه في معرض الهزل ... ووالله لم يرم غير جد
مسبلاً دمعه كان حبيباً ... بعد قرب منه رماه ببعد
مبدياً من حرارة القهر ما لو ... حلت الكون لم يكن كنه برد
وبدا مغرماً هناك بشتمي ... آدمي غدا بهيئة قرد(3/205)
والذي أوجب التخاصم أني ... كنت قدماً منحته صفو ودي
ثم كلت قريحتي عن مديح ... فاستعارت له حديقة حمد
ورآها من بعد حول وشهرين ... بدرج قد كان من قبل عندي
فبدا منه ما بدا وسقاني ... وتحسبي من أكؤس الذم دردي
وعلى كل حالة سيد الأحكام ... أرجو وما سواه تعدي
ومما وقفت عليه أنا الفقير من شعره هذه القصيدة التي يمدح بها النجم محمد الحلفاوي خطيب حلب فقال
حيا الحيا حلب العواصم ... والقلاع الأعصميه
وسقى معالمها الممنعة ... المحصنة الأبيه
وتداركتها بالعناية ... كل ألطاف خفيه
بلد تكنفها الحدائق ... والرياض الأريضيه
فاحت على أرجائها ... نفحات أزهار زهيه
وترنحت عرصاتها ... بالرائحات المندلية
وتقمصت أبناؤها ... حللاً من الزلفى العليه
ولمائها وهوائها ... وبنائها أوفى مزيه
فاقت على الدنيا فوافق ... اسمها حلب العديه
بلد هي الملك المطاع ... وكل مملكة رعيه
زهر النجوم لنجمها ... السامي الذري خضعت وليه
نجم الهداية والدراية ... والأسانيد القويه
واللوذعي الألمعي ... السيد الوافي العطيه
لما استهل نواله ... الغمر الذي غمر البريه
صدحت بلابل روضها ... سحراً بأصوات شجيه
عقدت بأعناق العفاة ... شوارد المنن الخفيه
غرر القلائد والقصائد ... والعقود الجوهريه
ضاهى بها السبع الشداد ... على منازله العليه
وكواكب الجوزاء تشهد ... أن رتبته سنيه
وتلونت شمس الظهيرة ... عند غرته المضيه
وتواضع القمر المنير ... لحسن طلعته البهيه
وتمنت الأفلاك لو ... دارت بحضرته المليه
ألقت أعنتها العلوم ... إليه وانقادت أبيه
وسعت لناديه أبيات ... العلوم الفلسفيه
فالفضل كل الفضل من ... فحوى فتاويه الجليه
والجود كل الجود من ... جدوى أياديه النديه
مولى يعامل من أساء ... بحسن أخلاق رضيه
ويصد عن كيد الحسود ... رجا الحظوظ الأخرويه
ويرد من خوف الإله ... عن الأمور الدنيويه
ماتت بغيظهم العدا ... كمداً وأنفسهم سخيه
يا زهرة الدنيا فداؤك ... كل نفس موسويه
وكما تحب وقتك آرام ... الظباء العيسويه
ومنحت ما تختار من ... لثم الشفاه الألعسيه
وسقتك من خمر اللمى ... كأس الثغور الاشنبيه
وسلمت يا مولاي من ... سحر اللحاظ البابليه
ومنيت ما تهواه من ... هصر الخصور الخاتميه
وغنتك سودات المحاجر ... بالبنان العندميه
وتمايلت شوقاً لجبهتك ... القدود السمهريه
ورنت لرؤيتك اللحاظ ... الناعسات الجؤذريه
يا عالم الدنيا نداك ... على البوادي والبريه
واذكر حليفك بل أليفك ... في الديار الأحسنيه
وانظر نديمك بل خديمك ... في الربوع الأنعميه
واعذر كليمك ما طوى ... تلك الدروس الطورويه
وادي المزار ولا مزار ... إذا تعرضت المنيه
واجمع تبدد شملنا ... بك والليالي الأسعديه
فهو كما لم يبق لي ... فرط الغرام به بقيه(3/206)
فإذا تشاء منازلي ... يا غايتي منه الدنيه
وعلام أعتب إن رضيت ... لي المقامات القصيه
بجوار قوم مرملين ... من الخلال الآدميه
لا مصر داري يا همام ... ولا مرابعها العليه
كلا ولا لي ما حبيت ... بجلق والكرخ نيه
إلا جوارك منيتي ... وكذا مراتعه الشهيه
حيث الأخلاء الكرام ... ذوي المروآت الوفيه
راق النسيم تلطفاً ... بهم ورقتهم سجيه
لا خانك الدهر الخؤن ... ولا منتك يد المنيه
وسلمت من غدر الزمان ... ولا ملتك به مليه
عليك مني ما ترنم ... طائر أزكى تحيه
مفتوقة بشذا العبير ... ونافجات عنبريه
واسلم ودم يدم الزمان ... فأنت ميزان البريه
وله أيضاً في وصف الأخوة
خليلي من إن جئت طالب مقصد ... كفاني مؤنات المطالب والقصد
وإن صممت خيلي على شن غارة ... وقى شرها مما يشين وما يردي
وإن نابني خطب من الدهر هائل ... تولى معاناة الخطوب بما يجدي
وإن أسلمتني للردى شقة الردى ... أقام بأقوام جرت بيننا بعدي
فذاك خليل إن ظفرت بمثله ... فرشت مراعاة لمرضاته خدي
وأشغلت بالي في منامي ويقظتي ... بما يرتضيه حالة القرب والبعد
وأسهرت ليلي في صلاح شؤنه ... وعنه جبال الضيم أحملها وحدي
وكنت له حصناً منيعاً وموئلاً ... وصنت بنفسي نفسه صولة الأسد
فإني ما أديت ما يستحقه ... ولو طاقتي فيه بذلت مع الجهد
ومن أين للأيام عين بأن ترى ... لذلك مثلاً لا يكون بلا ند
ومن مقاطيعه أيضاً قوله وأجاد
أشد من الموت الزؤام مرارة ... وأصعب من قيد الهوان وحبسه
معاشرة الإنسان من لا يطيقه ... وحشر الفتى مع غير أبناء جنسه
وله غير ذلك وكانت وفاته في سنة تسع وثمانين بعد الألف بحلب رحمه الله تعالى مهنا بن عوض بن علي بن أحمد بامزروع بن علي بن عوض بامترف القنزلي الحضرمي والقنازلة قبيلة معروفة عندهم وقليلاً ما يستعملون الاسم في هذا الزمن الواسطي نسبة إلى الواسطة بلدة بحضرموت الشطاري الصوفي نزيل الحرمين شيخ الطريقة وإمام أهل التحقيق أخذ بحضرموت عن جماعة من العلماء والصوفية ثم رحل إلى مكة فأخذ بها عن الشيخ عبد الهادي أبي الليل من طريق النقشبندية وقرأ الفصوص على شيخ شيخه الشيخ تاج قدس سره فاعتراه جذب قوي غاب فيه عن حسه حتى دله السيد محمد الحبشي على السيد الجليل سالم بن أحمد شيخان باعلوي فلازمه واختص به حتى كشف عن عين بصيرته الحجاب وعادت بركة تلك الأنفاس عليه وهو في غضون ذلك مقبل على مطالعة كتب العلوم الإلهية وتحصيلها متوجه إلى دقائق معقولها متخلق بأخلاق الصوفية متحقق بالوحدة وله فيها نظم كثير حسن وألف رسالة في طريق الشطارية أحسن فيها كل الإحسان وبين طريقهم وصار بعد موت شيخه المذكور خليفة في الذكر والتربية ثم أخذ عن العارف بالله تعالى أحمد بن محمد القشاشي وكان يحبه ويجله وأرسل إليه مرة بهدية وكتب له على اللفافة مهنا بلا عوض ولا يخفى ما فيه من اللطافة وانتفع به في طريق القوم خلق كثير وتخرج به جم غفير ومن شعره قوله
وكل من ضمه في الحان مجلسنا ... نشوان من خمرة ما شانها سكر
هذا الزمان الذي ما كان يسمح لي ... به الحبيب إذا ما ساعد القدر
أبكي على الصدق والصديق يقصدني ... إذا دعينا يلبينا به عمر
فيثقل الرهط في تأييد نصرتنا ... من عالم الفرق لا يبقي ولا يذر
هذا مثال ضربناه لناهجه ... حتى يرى وجه ليلى كله غرر
ويشهد الجمع والمجموع جامعه ... ويأخذ الجد لا بؤس ولا عبر(3/207)
هذا طريق سلكناه على ثقة ... وكافح السر إعلاناً به الصور
وأذعنوا بعد ما قامت قيامتنا ... وتليت في محاريب لنا سور
وقرروا أننا سر وباطننا ... غيب وما ظلت الخضرا لنا حجر
وقوله
للقادسية فتية ... لا يشهدون العار عارا
قد صيروا جمع الورى ... في حالهم عجزي حيارى
لا مسلمون ولا مجوس ... ولا يهود ولا نصارى
متيمنون منعمون ... فهم به صحوى سكارى
أفراد جناد الهوى ... فحيوا لهم أنى تجارى
صاروا صراعى في الغرام ... وفي حمى ليلي أسارى
شاهدتهم فشهدتهم ... أعيان محبوبي جهارا
مذ بان أني منهم ... أيقنت أن لا لي قرارا
إذ لا مقام لهم يرى ... إلا بفرض الحكم دارا
هم عين شاهد ربهم ... سر بهم منه استنارا
كل يحقق منهم ... بحقيقة لاحت ظهارا
بمحمد لوح القضا ... سراً بأقدار توارى
بمظاهر منها الكريم ... إلى الكليم ألاح نارا
فأتى يهرول نحوها ... فلا جل ذا شكر البدارا
وكانت ولادته كما أخبر به بعض تلامذته في شوال سنة أربع بعد الألف وتوفي بالمدينة سنة تسع وستين وألف رحمه الله تعالى السيد ميرماه الحسيني البخاري المدني العلامة صاحب الذهب الوقاد والفكر النقاد وكان آية باهرة في العلوم بأسرها وله اليد الطولى في كلام سيدي الشيخ الأكبر ابن عربي قدس سره وغيره من أرباب المعارف وكان شيخ هذا الشأن في عصره توطن المدينة المنورة وكان من أصحاب العالم الرباني عبد الرحمن بن علي الخياري وأخذ عنه الحديث ولزمه ولده شيخنا إبراهيم وانتفع به وقرأ عليه التفسير والعربية والمعاني والكلام وكثيراً من الفتوحات ووصايا ابن عربي وجانباً من الفصوص وكثيراً من رسائله وكتبه سيما المحاضرة وكثيراً من كتب القوم وذكره في رحلته في محلات منها وقال في وصفه كان إمام أرباب الطريقة والجامع بين الشريعة والحقيقة سمعته غير مرة يقول إنه لا مخالفة بينهما ومن ادعى ذلك فعليه الجواب ثم ألف مؤلفاً في ذلك سماه مرج البحرين والجمع بين المذهبين يعني مذهب أهل الظاهر وأهل الباطن قال وكانت وفاته يوم الخميس حادي عشر شوال سنة ثلاث وستين وألف ورثاه شيخنا المذكور بقصيدة طويلة ذكرها في رحلته ومطلعها
يا عين جودي بدمع رائح غاد ... لهول خطب عظيم فادح عاد
حرف النون
الناصر بن عبد الحفيظ الهلا الشرفي اليمني إمام الاجتهاد كان له من التمكين ودقة النظر في كل مبحث ومعرفة بالمقاصد والمآخذ وإخراجه للمسائل من غيره مظتها وحل المشكلات وفتح المقفلات شأن عظيم وأمر شهير في الأقاليم استوزره الإمام المؤيد بالله وكان له وللإمام مجالس خاصة تحتوي على بحث عظيم في جميع العلوم أخذ عن شيوخ كثيرين منهم والده وجده العلامة محمد بن الصديق الخاص السراج الحنفي الزبيدي وغيرهم وأجازه شيوخه وغيرهم ممن يطول تعدادهم وعنه أخذ جمع من علماء الزمان منهم أولاده الحسين والحسن وعلي وأحمد ومحمد والسيد الجليل يحيى بن أحمد الشرفي وغيرهم وقصده الطلبة من الأقطار وانتفع به جمع عظيم من علماء الأمصار وله مؤلفات مشهورة منها المقرر والمحرر في القراآت ومنها أرجوزة في الفقه ومنها تكميل منظومة اليوسي في الفقه ومنها مختصر الأوائل ومنها مؤلف أجاب به عن الإمام المؤيد بالله محمد بن إسمعيل في مباحث نحوية شريفة وله أجوبة مسائل يطول تعدادها وله الشعر النضير منه ما كتبه إلى السيد الإمام يحيى بن أحمد الشرفي عاتباً عليه في تأخره عن التدريس لشغل عرض له فقال
أحبابنا ما لهذا الهجر من سبب ... وما الذي أوجب الإعراض واعجبا
يمضي الزمان ولا نحظى بقربكم ... على الجوار وكون الجار ذي قربى
وليس شيء على المشتاق أصعب من ... بعد اللقاء إذا مشتاته قربا
أعيذك الله يا سبط الأكارم أن ... يكون ودك للأحباب مضطربا(3/208)
هذا وإني أدري أن قصدك لي ... وأنت مع ذاك شيخي عكس ما وجبا
لكنه لم يكن مني لحقكم ... جهل ولكن عذري عنك ما عزبا
وطلب السيد يحيى منه أن يرسل له مؤلفه المحرر في علم القراآت فأرسله إليه وكتب معه قوله
سلام الله ما همر السحاب ... ففاح عبير زهر مستطاب
وإكرام وإنعام على من ... له في المجد مرتبة تهاب
على يحيى الذي ما نال كهل ... علوماً نالها وكذا الشباب
وبعد فإن أشواقي إليكم ... كثير ليس يحصرها كتاب
وتقصر السن الأقلام عن أن ... تقوم بوصفها وكذا الخطاب
فيا ابن مدينة العلم التي لم ... يكن غير الوصي لتلك باب
ومن حاز المكارم والمعالي ... فمنه قد بدا العجب العجاب
إليك أتى المحرر في حياء ... لتصلح منه ما العلماء عابوا
وتنظره بعين البر حتى ... يزول إذا وجدت به اضطراب
فمن قد زار من بلد بعيد ... حقيق أن يلان له الجناب
وراجع في عبارته أصولاً ... لديك بحفظها كشف الحجاب
وإني طالب بسطاً لعذر ... ويشملني دعاؤكم المجاب
فإلى غير شعب الآل شعب ... وإن حسنت بزهرتها الشعاب
ودم واسلم معاً في نعيم ... مقيم والقرابة والصحاب
فكتب إليه السيد أيضاً هذه الأبيات
سلام لا يحيط به حساب ... ولا يحصي فضائله كتاب
ولو أن البحار له مداد ... ولم يبرح له الدهر اكتتاب
سلام من فتيت المسك أدكى ... ودون مذاب سلسله الرضاب
سلام حشوه ود مصفى ... يروق فما بتكدير يشاب
ورحمة ربنا الرحمن تهدى ... مع البركات ما انهمر السحاب
إلى من لم يزل للمجد خدناً ... ولم ينفك بينهما اصطحاب
حليف محاسن الشيم الذي لم ... يدنس مجده مذ كان عاب
سليل أكابر العلماء من لم ... يكن كنصاب فضلهم نصاب
حماة شرائع المختار من أن ... تضام وأن يخامرها اضطراب
بناة مكارم التقوى الذين ... اتقوا مولاهم وله أنابوا
وواحد أهل هذا العصر طراً ... بما قد قلته لا يستراب
أليس مقصراً عن نيل أدنى ... علاه الشيب منهم والشباب
وجيه الدين ناصره فما أن ... يزال له بنصرته احتساب
حماه الله من كيد الأعادي ... وأرغم أنفهم عنه وخابوا
وأبقاه الإله لنا ملاذاً ... له في العز مرتبة تهاب
وبعد فإنه قد جاء منه ... كتاب سرني منه الخطاب
بلغت به من الفرح الأماني ... وزايلني برؤيته اكتئاب
وفى بالدين والدنيا جميعاً ... فما لي غير ما فيه طلاب
وكيف وطيه ملك عظيم ... يدوم فلا يخاف له ذهاب
هو الذخر الذي من لم يحزه ... ذخائره وإن كثرت تراب
وذاك العلم أفضل ما تحلت ... به نفس وأفضل ما يصاب
وقد أهديت منه لنا نصيباً ... به منا تطوقت الرقاب
جمعت به المحرر من علوم ... جلاها أهلها طابت وطابوا
فنلت بما أنلت عظيم فضل ... ومغفرة ويهنيك الثواب
ولا برحت فواضلك اللواتي ... علون بها لنا يعلو جناب
ودمت مسلماً ما لاح فجر ... وفاح عبير نشر يستطاب
ولما وفد القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال إليه أيام إقامته في حضرة الإمام المؤيد بالله أخذ عنه علوماً كثيرة من جملتها علوم القرآن وساله نظم شيء يكون فيه له كالضابط المرجوع إليه عند الحاجة فقال الناصر
سألنني يا ابن أبي الرجال ... يا سامياً في رتبة الكمال(3/209)
يا منبع السؤدد والمعالي ... ومعدن العلم الشريف العالي
وأنت في هذا السؤال عندي ... كسائل كيف طريق نجد
أهل طويل ذاك أم قصير ... تلذذاً وهو بها خبير
شرعت في قاعدة تمهد ... غازلها الياقوت والزبرجد
قد كنت ألفت بها المقررا ... ثم اختصرت بعده المحررا
فحين ما استعجلت مني ما ترى ... فعلتها مسارعاً مبادرا
وإن تكن على الصواب فهو من ... إفضال مولانا الإمام المؤتمن
فإنها قد جمعت في حضرته ... ونعمة قد نلتها من دعوته
مع اشتغالي بكتاب التذكره ... وغيرها بعد العشاء الآخره
وفي النهار لم أجد وقتاً يسع ... فاقبل من المهدي إليك ما جمع
ومن هنا خرج إلى المقصود فقال
المد أنواع فجاء متصل ... يا أيها الإنسان هذا منفصل
إلى آخرها فقال القاضي أحمد أيضاً
أنهلني من بحره وعلا ... من قدحه بين الورى المعلى
وزف لي خرائد المعاني ... قد قلدت قلائد الجمان
عين الزمان أوحد الأنام ... من قدره على السماك سامي
لا زال في أفق العلوم طالعا ... ونوره في العالمين ساطعا
من لم يزل للصالحات أهلا ... حاوي الكمال الناصر المهلا
أملأنا في النحور والتصريف ... وملأ الآفاق بالتأليف
لأنني سألته تدريسه ... لي في العلوم الجمة النفيسه
فقال لي لما سألت هلا ... لظنه كوني لذاك أهلا
إلى آخرها وللناصر من السماعات والإجازات على والده وجده المجتهدين وغيرهما ما يطول تعداده وكانت وفاته في صفر يوم الجمعة من سنة إحدى وثمانين وألف رحمه الله تعالى ناصر بن الشيخ ناصر الدين الرملي الدمشقي إمام الحنفية بجامع بني أمية الفقيه المقري أخذ الفقه عن الشيخ عبد الوهاب الحنفي إمام جامع دمشق وغيره والقراآت عن شيخ القراء الشهاب الطيبي وكان خطيباً بالجامع الجديد خارج باب الفراديس المعروف بالجامع المعلق شركة الشهاب العيثاوي ثم ولي إمامة المقصورة بفراغ الشيخ شرف الدين الطبيب له عنها شركة العلاء الطرابلسي ووليا خطابة السليمية بالصالحية برهة من الزمان ثم أخذت عنهما وكان لهما شيء من الجوالي وكانت إمامة الحنفية بالمقصورة في الأمور بينهما الأغير حتى ولي قاضي القضاة محمد نهالي قضاء دمشق فضم غليهما روميا ثم تفرغ الرومي عن إمامته الثالثة الحادثة للشيخ حسين بن عبد النبي الشعال وكان ناص الدين مجذوباً صالحاً إلا أنه كان يترافق مع شريكه العلاء المذكور في التردد إلى الأكابر والحكام وغيرهم للانتفاع وكان للشيخ ناصر الدين جراءة وخفة في العقل فإذا لقنه العلاء شيئاً تلقنه وفعل ما أشار به عليه فإن نفع شاركه في الانتفاع وإن ضر تبرأ العلاء مما أتى به وأقبل على ملامته في حضرته وغيبته وكانا لتثقيلهما على الناس قد سميا بالهم والحزن بحيث يستعاذ منهما وكانت وفاة الناصر يوم الثلاثا عاشر صفر سنة أربع وعشرين وألف وولي الإمامة بعده يوسف بن أبي الفتح السقيفي الشريف نامي بن عبد المطلب بن حسن بن أبي نمى أمير مكة ولاه الأتراك كما قدمناه مبسوطاً في ترجمة الشريف زيد وأشركوا معه السيد عبد العزيز بن إدريس في الربيع محصولاً لا ذكراً في الخطبة وضرباً للنوبة ثم أرسلوا إلى أمير جدة ليسلمها لهم فأبى وقتل الرسل فتجهزوا وساروا وحاصروها يومين ثم دخلوا جدة ونهبوها واستمر السيد نامي يعسف أهل مكة ونهب عسكره البلاد واستباحوا المحرمات وأكثروا فيها الفساد ولما توجه الشريف زيد في تلك الواقعة إلى وادي مر بعد أن دخل إلى مكة ومعه السيد أحمد بن محمد الحرث ومر على بيت السيد عبد المطلب نادى السيد فخرج إليه متجرداً متلففاً في مقنع أزرق فتكلم معه وأطال فقال السيد أحمد ليس الوقت وقت الكلام وكان من جملة ما قاله الشريف زيد
نجازي الرجال بأفعالها ... فخيراً بخير وشراً بشر(3/210)
فالله الله يا نامي بالحريم أو ما يقرب من هذا ثم سار إلى المدينة وعرف وزير مصر بذلك وكان رسوله بذلك السيد علي بن هيزع فلما وصل الخبر لصاحب مصر أرسل سبع صناجق وكان ما كان مما ذكرناه في ترجمة زيد حتى جيء به وبأخيه موثوقين مكتوفين فاستفتى العلماء ماذا يجب عليهما فأجابوا بما اقتضته الآية الشريفة صريحاً إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلال أو ينفوا من الأرض فشنقا عند المدعي ومدة ولايته متغلباً على مكة مائة يوم ويوم وهي عدة حروف اسمه لأنه دخلها خامس وعشري شعبان سنة إحدى وأربعين وألف وخرج منها عصر اليوم الخامس من ذي الحجة من السنة المذكورة وفي هذه السن لم يذهب المحمل السلطاني من مكة إلا في العشر الأول من صفر النجيب بن محمد شمس الدين النكداوي الأنضمي من أكابر شيوخ تنبكت معه فقه وصلاح شرح مختصر خليل بشرحين كبير في أربعة أسفار وآخر في سفرين وله تعليق على تخميس عشرينيات الفازري لابن مهيب في مدحه صلى الله عليه وسلم أخذ عن إسحق سجولية وتوفي في العشر الأول من هذا القرن انتهى والله أعلم(3/211)
نصوح باشا وشهرته بناصف باشا وهذه عادة الأتراك في تلاعبهم بالحروف فيقولون في نصوح ناصف وتبدلاتهم ليس لها حد يحصرها ولا قاعدة تضبطها ونصوح باشا هذا أصله من نواحي درامه من بلاد روم ايلي خدم أولاً في حرم السلطنة الخاص ثم صار من المتفرقة وحكم ببلدة زله ثم صار أميراً خور صغيراً في سنة سبع بعد الألف ثم ولي كفالة حلب وكان متغلباً في حكمه عسوفاً قوي النفس شديد البأس ولما وليها كان لجند الشام حينئذ الغلبة والعتو وكان في ذلك العهد يذهب منهم في كل سنة طائفة إلى حلب وينصب عليهم سردار من كبرائهم يستخدمون بمدينة حلب وكان بعض كبار الجند قد تقووا في حلب وفتكوا وجاروا خصوصاً طواغيهم خدا وردي وكنعان الكبير وحمزة الكردي وأمثالهم حتى رهبهم أهلها وصاهرتهم كبراؤها واستولوا على أكثر قراها فلما رأى نصوح باشا ما فعلوه وما استولوا عليه منها ومن قراها بحيث قلت أموال السلطنة وصارت أهالي القرى كالأرقاء لهم رفع أيديهم عن قراها وجلاهم عن تلك البلاد ووقع بينه وبينهم وقعة وكان معه حسين باشا ابنن جانبولاذ عند المعرة وفروا بين يديه هاربين إلى حماه وأخذوا ما وجد من أموالهم وخيولهم وخيامهم ثم جمعوا عليه عشيراً بحماه وأرادوا قتاله فأدركهم مرور علي باشا الوزير منفصلاً عن نيابة مصر ومعه خزينتها عن سنتين وقد تحفظ عليها بخمسة عشر مدفعاً وعساكر نحو الأربعة آلاف فجاؤا إلى دمشق للقائه واتقائه فلما خرج علي باشا من دمشق بالخزينة قاصداً جانب السلطنة لم يصل إلى حماه حتى هموا بالخروج وخرج أوائلهم ثم ذهب في أثناء ذلك طاغيتهم خدا وردي وفي صحبته نحو عشرين رجلاً من أعيانهم إلى الأمير علي بن الشهاب ثم إلى الأمير خر الدين بن معن ووقعوا عليهما في السفر معهم لقتال ابن جانبولاذ وأخذ ثأرهم منه فسافر قبلهم أمير بعلبك الأمير موسى بن الحرفوش وجمعوا عشيراً كثيراً بحمص وحماه وورد أمر سلطاني وعليه خط شريف بأن طائفة الجند بالشام لا يخرجون إلى حلب لقتال كافلها ناصف باشا وحاكم كلز حسين باشا ابن جانبولاذ لأنهم كانوا اجتمعوا وعرضوا بذلك إلى أبواب الدولة وكان ذلك جواب عرضهم وكان وصوله إلى دمشق يوم السبت عاشر رجب سنة اثنتي عشرة بعد الألف ومن جملة ما ذكر في الخط المذكور أنهم إن خرجوا يكونوا مغضوباً عليهم مستحقين للعقوبة والنكال من السلطان فرأى نائب الشام إذ ذاك فرهاد باشا وقاضيها المولى مصطفى ابن عزمي ودفتريها حسن باشا شور بزه أنهم لا يرجعون إلا بحيلة فرأوا أن يرسلوا الشيخ محمد بن سعد الدين لكسر هذه الفتنة الموجبة للعقوبة إلى حماه ويقرأ عليهم الخط السلطاني ويرجعهم إلى دمشق ليقال لولا خاطر الشيخ محمد ما رجعنا فخرج الشيخ محمد إليهم في ثاني عشر رجب ثم عاد يوم الأحد ثاني شعبان ولم يسمعوا قوله وخرجوا بعد قراءة الحكم عليهم والكلام معهم إلى الطيبة ثم توجهوا إلى ناحية حلب وانضم إليهم غجر محمد الجلالي وعشيره ثم رجعوا في أواخر شعبان إلى دمشق بعد أن صار بينهم وبين ناصف باشا وابن جانبولاذ مناوشة عند كلز يوماً واحداً ثم ولوا هاربين وتفرق عشيرهم وذلك بعد أن حاصروا كلز أياماً وخربوا ما حولها من قرية الباب وعزاز وغيرهما من قرى حلب وهتكوا النساء وافتضوا جملة من أبكارهن ودخلت أشقياؤهم حماماً بكلز على النسوة وفعلوا أفاعيل جاهلية ثم تلاقوا مع نصوح باشا وابن جانبولاذ خارج كلز يوماً واحداً ثم انهزموا من ليلتهم وعادوا إلى دمشق وفر غجر محمد إلى البيوة وكانت الواقعة في أواسط شعبان ثم تتبع نصوح باشا عجر محمد الجلالي ومعه عشيره ومنهم طائفة من جند الشام فأغار عليهم في شوال وهو في الربيع بالقرب من حماه وانتهبهم وأخذ خيولهم وكرر الغارة عليهم فلما كان أوائل ذي الحجة مر مصطفى باشا الشهير بابن راضيه متولياً نيابة الشام بغجر محمد وقد جمع عشيراً نحو ثلاثة آلاف مقاتل فقالوا له لا نمكنك من الذهاب إلى دمشق حتى تنتصف لنا من ناصف باشا فسار معهم مكرهاً وكانوا قد تظاهروا بقطع الطريق وضربوا على أهل حمص وحماه ضرائب من المال واعترضوا القوافل وجرموهم فخرجوا بمصطفى باشا من حماه إلى ناحية حلب فلم يلبثوا إلا وناصف باشا قد انقض عليهم فلم يثبتوا له ساعة وأفلت عليهم المكاحل فقتل منهم جماعة كثيرون وفر الغجر ومن معه من الجند الشامي وانحاز مصطفى باشا إلى ناصف(3/212)
باشا ثم بعث خلف العجر طليعة من العرب فيهم الأمير دندن بن أبي ريشة الحياري فسار خلفه إلى تدمر وشتت شمله ثم شاع الخبر في دمشق في رابع أو خامس الحجة أن ناصف باشا وصل إلى دمشق للانتقام من الجند ثم عقب يومين وصل من طرفه رسول ومعه كتاب منه يطلب منهم نحو ثلاثين رجلاً ليأخذ ما في عهدتهم من الأموال السلطانية التي تناولوها من أموال حلب ومنهم خدا وردي وآق يناق وقرايناق وحمزة الكردي وآخرون وإن لم يسلموا هذه الطائفة إليه وإلا أتى إلى دمشق وقاتلهم واستأصلهم فامتنعوا وأظهروا له العناد والتمرد والقوة والاشتداد ثم دخلت طائفة منهم إلى القلعة واستولوا عليها وتحصنوا ثم بعثوا منهم جماعة إلى الأمير فخر الدين بن معن والأمير موسى بن الحرفوش والأمير أحمد بن الشهاب والشيخ عمر شيخ المفارجة ثم خرجوا إلى القابون واجتمع العشير عليهم ثمة ولم يتأخر إلا الأمير فخر الدين بن معن وبقيت خيامهم بالقابون نحو عشرة أيام وأخذوا في نهب زروع الناس وبعض مواشيهم ودخل أهل الغوطة إلى دمشق ونقلوا أسبابهم وأمتعتهم ونساءهم إليها وارتعبت أهل دمشق ثم شاع في ثامن ذي الحجة بدمشق أن ناصف باشا رجع إلى حلب بعد أن كان وصل إلى الرستن وكان مصطفى باشا نائب دمشق قد فارقه قبل ذلك بأيام ونزل بالقابون فلم يمكنوه من دخول دمشق بل قالوا له ارجع وقاتل معنا ناصف باشا وبقوا ثمة حتى استهلت سنة ثلاث عشرة يوم الاثنين فهموا بالرحيل وافترقوا فرقتين فرقة تقول نذهب إلى حلب وهم الذين كانوا في استخدام حلب والآخرون يقولون نرجع إلى دمشق وقد رجع عنا ناصف باشا ونحن لا نعصي السلطنة ثم فكوا خيامهم وتوجه الحلبيون إلى أرض القصير وعذرا ثم في يوم الثلاثا رحل مصطفى باشا إلى دمشق بعد العصر ومعه ابن الشهاب وابن الحرفوش وأكثر الجند وانقطع أمرهم عن حلب وعن سرداريتهم فيها وليته انقطع عن دمشق أيضاً فلعمري إن بلدة تأمن غوائلهم ولا ترى مصائبهم ونوازلهم لهي أمينة من جميع المصائب مدفوع عنها بلطف الله تعالى جملة النوائب فإنهم مدار كل ضرر آجل وعاجل وليس لهم تالله نفع ولا تحتهم طائل عوداً إلى تتمة ترجمة صاحب الترجمة ثم صار بعد ذلك نائب السلطنة بديار أناطولي ثم ولي محافظة بغداد ثم صار نائباً بديار بكر ثم وجه إليه الوزير الأعظم مراد باشا سردار العساكر حكومة مصر فلم تمض أيام إلا مرض مراد باشا مرض موته فبعث السلطان أحمد مراسيل إلى صاحب الترجمة بأن يكون قائم مقام الوزير ثم توفي مراد باشا فوجهت إليه الوزارة العظمى والسردارية وجاءه الختم في جمادى الآخرة سنة عشرين وألف وعقد الصلح بين السلطان وشاه العجم ثم سافر راجعاً بالعساكر إلى حلب وأرهب جند الشام وغيرهم وهرعت الناس إليه إلى حلب ثم سافر من حلب إلى قسطنطينية فدخلها في شعبان فقابله السلطان أحمد بالقبول والإقبال وزوجه ابنته ثم قتله يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر رمضان سنة ثلاث وعشرين وألف والله أعلماشا ثم بعث خلف العجر طليعة من العرب فيهم الأمير دندن بن أبي ريشة الحياري فسار خلفه إلى تدمر وشتت شمله ثم شاع الخبر في دمشق في رابع أو خامس الحجة أن ناصف باشا وصل إلى دمشق للانتقام من الجند ثم عقب يومين وصل من طرفه رسول ومعه كتاب منه يطلب منهم نحو ثلاثين رجلاً ليأخذ ما في عهدتهم من الأموال السلطانية التي تناولوها من أموال حلب ومنهم خدا وردي وآق يناق وقرايناق وحمزة الكردي وآخرون وإن لم يسلموا هذه الطائفة إليه وإلا أتى إلى دمشق وقاتلهم واستأصلهم فامتنعوا وأظهروا له العناد والتمرد والقوة والاشتداد ثم دخلت طائفة منهم إلى القلعة واستولوا عليها وتحصنوا ثم بعثوا منهم جماعة إلى الأمير فخر الدين بن معن والأمير موسى بن الحرفوش والأمير أحمد بن الشهاب والشيخ عمر شيخ المفارجة ثم خرجوا إلى القابون واجتمع العشير عليهم ثمة ولم يتأخر إلا الأمير فخر الدين بن معن وبقيت خيامهم بالقابون نحو عشرة أيام وأخذوا في نهب زروع الناس وبعض مواشيهم ودخل أهل الغوطة إلى دمشق ونقلوا أسبابهم وأمتعتهم ونساءهم إليها وارتعبت أهل دمشق ثم شاع في ثامن ذي الحجة بدمشق أن ناصف باشا رجع إلى حلب بعد أن كان وصل إلى الرستن وكان مصطفى باشا نائب دمشق قد فارقه قبل ذلك بأيام ونزل بالقابون فلم يمكنوه من دخول دمشق بل قالوا له ارجع وقاتل معنا ناصف باشا وبقوا ثمة حتى استهلت سنة ثلاث عشرة يوم الاثنين فهموا بالرحيل وافترقوا فرقتين فرقة تقول نذهب إلى حلب وهم الذين كانوا في استخدام حلب والآخرون يقولون نرجع إلى دمشق وقد رجع عنا ناصف باشا ونحن لا نعصي السلطنة ثم فكوا خيامهم وتوجه الحلبيون إلى أرض القصير وعذرا ثم في يوم الثلاثا رحل مصطفى باشا إلى دمشق بعد العصر ومعه ابن الشهاب وابن الحرفوش وأكثر الجند وانقطع أمرهم عن حلب وعن سرداريتهم فيها وليته انقطع عن دمشق أيضاً فلعمري إن بلدة تأمن غوائلهم ولا ترى مصائبهم ونوازلهم لهي أمينة من جميع المصائب مدفوع عنها بلطف الله تعالى جملة النوائب فإنهم مدار كل ضرر آجل وعاجل وليس لهم تالله نفع ولا تحتهم طائل عوداً إلى تتمة ترجمة صاحب الترجمة ثم صار بعد ذلك نائب السلطنة بديار أناطولي ثم ولي محافظة بغداد ثم صار نائباً بديار بكر ثم وجه إليه الوزير الأعظم مراد باشا سردار العساكر حكومة مصر فلم تمض أيام إلا مرض مراد باشا مرض موته فبعث السلطان أحمد مراسيل إلى صاحب الترجمة بأن يكون قائم مقام الوزير ثم توفي مراد باشا فوجهت إليه الوزارة العظمى والسردارية وجاءه الختم في جمادى الآخرة سنة عشرين وألف وعقد الصلح بين السلطان وشاه العجم ثم سافر راجعاً بالعساكر إلى حلب وأرهب جند الشام وغيرهم وهرعت الناس إليه إلى حلب ثم سافر من حلب إلى قسطنطينية فدخلها في شعبان فقابله السلطان أحمد بالقبول والإقبال وزوجه ابنته ثم قتله يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر رمضان سنة ثلاث وعشرين وألف والله أعلم(3/213)
نظام الدين السندي النقشبندي ذكره البوريني وقال في ترجمته ورد إلى دمشق ومعه أخ له صغير وصار يدعي علماً غزيراً ويزعم أنه حمل فضلاً كثيراً ولم يكن كما قال ولا صدقت منه الأقوال غير أنه كان ذكياً جداً والعجب أنه كان يتنوع في الدعاوي فتارة يقول أنا شريف علوي وتارة كان يدعي الرياضة المطلقة وترك دمشق ورحل إلى صالحيتها وقطن بمدرسة شيخ الإسلام أبي عمر وصار يدعي أنه مهدي الزمان الموعود به فقيل له ذاك محمد وأنت نظام الدين فقال محمد يلقب بنظام الدين فقيل له ذاك الشريف وأنت سندي أسود فقال أنا شريف علوي صحيح النسب غير أني تركت دعوى ذلك إلا في وقته وأما سواد الوجه فكان يعتذر عنه بأن المراد البياض المعنوي الذي يكون في الأفعال وزاد به الحال إلى أن صعد المنارة الشرقية بين المغرب والعشاء وقال يا أهل دمشق أنا مهدي الزمان وأنا أدعوكم إلى إجابتي واتباعي وسمع ذلك كثير من الصالحين وغيرهم ممن كان بالجامع الأموي وكان مرة بالجامع السليمي السلطاني يوم الجمعة فلما نزل الخطيب عن المنبر قام وأمر رجلاً أن يصعد المنبر ويلعن أمين الدفتري العجمي وقال بصوت عال إن الدفتردار محمد أمين رافضي يبغض أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وقد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ألعنه وشاع ذلك الأمر وذاع فوضع في البيمارستان القيمري بالصالحية مدة وسكن عن التخليط وقلل من التخبيط فأمر قاضي القضاة بإخراجه بعد أن أمر بإيلاجه وضاقت به دمشق بعد هذه الدعوى وكان يذوق من الزمان شديد البلوى فطار من دمشق إلى بيت المقدس ومر بنابلس ودخل غزة واقتتل مع بعض علمائها ووصل إلى مصر ومكث بها قليلاً ولم تطل مدته بل توفي هو وأخوه بها انتهى ما قال البوريني قلت والذي تلقيته من أحوال المنلا نظام أنه كان من المحققين العظام وأنه كان من أرباب الولاية وممن أدركته عين العناية في البداية والنهاية وهو من خواص تلامذة السيد صبغة الله نزيل المدينة المنورة وكان السيد المذكور يحبه وينافس في ولايته المقررة ووقع للسيد بسببه كرامة ذكرتها في ترجمته وألمعت فيها بذكر انتمائه إليه وتلمذته وما وقع بدمشق من بعض التخاليط فقد يقال إنه يموه بها عن حقيقة أمره حتى تعد من الأغاليط ومما شاع أن وضعه في البيمارستان كان عن أغراض نفسانية وأنه دعا على من كان السبب في ذلك من الفضلاء بأن يسلب رونق فضلته البهية فاستجيب دعاؤه فيهم وحرموا لذة النفع بالعلوم على أن كلاً منهم كان ممن برع على هذا الأستاذ في المنطوق والمفهوم ولقد حكى بعض علماء الشام الكبار أنه حج فزار السيد صبغة الله في مدينة النبي المختارفما استقر به الجلوس حتى سأله عن أحوال المنلا نظام مبدياً للقائه غاية الشوق والغرام فقال له ذلك العالم إنه جن ووضع في البيمارستان ولم يتنبه بقرائن السؤال إلى ما تضمنه من الاعتناء لرفعة الشأن فاضطرب السيد وقال لذلك العالم بلسان عاذل لاح ذا مليح وعشاقه كلهم ملاح ويكفي ما في هذه الكلمة من الإشارة إلى علو قدره وأنه ممن يغالى في التنويه بفضله الذي سلم له أعظم أهل عصره وكانت وفاته في سنة ست عشرة بعد الألف رحمه الله تعالى نعمان بن أحمد الحنبلي الدمشقي قاضي الحنابلة بمحكمة الباب بدمشق كان من فضلاء الحنابلة ووجهائهم تفقه على جماعة ولزم من أول عمره هو وأخوه الشيخ الفاضل عبد السلام أديب الزمان أحمد بن شاهين وتخرجا عليه وانتفعا به علماً وجاهاً ولي القاضي نعمان النيابات بوسيلته والتقرب إليه إلى أن استقر آخراً بالباب وكان أمثل القضاة في عصره وجيهاً مهاباً نقي العرض عما يدنس ملازماً خويصة نفسه ودرس بالمدرسة الحجازية وكان له بها خلوة يقيم بها أكثر أوقاته وكانت وفاته في سنة إحدى وسبعين وألف رحمه الله تعالى نعمان بن عبد الرحمن ويعرف في دمشق بابن الجلده أحد الموالي الرومية ولد بدمشق وبها نشأ وقرأ وجد حتى حصل طرفاً صالحاً من العلوم ثم سافر في أول أمره إلى قسطنطينية وسلك بها طريق الموالي فدرس بمدارس دار الخلافة وتوطن ثمة ونهض به حظه نهضة بليغة فترقى في أقرب زمان إلى قضاء بروسه وغدر به الزمان عاجلاً فقتل بها وكان سبب قتله تراخيه في أمر دخول حسن باشا الجلالي إلى بروسه على ما قيل وكانت وفاته في سنة سبع وستين وألف والله أعلم(3/214)
نعمان بن محمد بن محمد الإيجي العجمي الدمشقي الشافعي الشيخ العارف بالله تعالى كان من أجل الصوفية فاضلاً أديباً سخي الطبع يؤثر بماله في وجوه الخير وللناس فيه اعتقاد قال النجم في ترجمته وكان يتزوج كثيراً ويطلق حتى بلغني أنه وقفت عليه سائلة تسأله فقال لها ألك زوج فقالت لا فأخذها إلى المحكمة العونية وعقد عقده عليها ثم لزمها حتى اجتمع بها في منزلها قلت وقد وقفت له على أشعار منها هذا المقطوع نسبه بعض الأدباء إليه ولا أدري صحة النسبة وهو هذا
قالوا نراك بلا خل فقلت لهم ... ما بعد جوهر علمي أبتغي عرضا
جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ود امرىء غرضا
والبيت الأخير مضمن من قصيدة لأبي العلاء المعي وباب هذه التجربة متسع جداً وإذا أضمرت الزهد في الناس فقد نحجت الآمال وأمن البأس ومن شعره قوله أيضاً
أضعت العمر في لهو وطيش ... وكنت أظن في الدنيا صديقا
فلما صرت محتاجاً لفلس ... فقدت الأهل والخل الشفيقا
وقوله
صديق المرء في الدنيا قليل ... وأصدقهم على التحقيق درهم
تمسك إن ظفرت به ودع ما ... سواه فإنه للهم مرهم
وكتب في صدر مكاتبة للرئيس يحيى بن كمال الدين الدفتري في الروم تتضمن الشكاية فقال
من كان ينفعه الأدب ... ويحله أعلى الرتب
فلقد خسرت عليه ما ... ورثت من أم وأب
كم رزقة كانت تصون ... الوجه عن ذل الطلب
أتلفتها لا في القيان ... ولا هوى بنت العنب
بل في الحوائج والحوادث ... والعوارض والنوب
كم قلت لما بعتها ... وحصلت في أسر الكرب
ذهبت دجاجتنا التي ... كانت تبيض لنا الذهب
فلما وصلت الرسالة والأبيات للرئيس يحيى المذكور كلف أبا المعالي الطالوي أن يكتب عن لسانه جواباً فكتب في جواب الأبيات قوله
خسر الذي باع الأدب ... بالبخس في سوق الطلب
أو ما درى أن القناعة ... للفتى مال يحب
ورأى بأن الحر يقنعه ... القليل من النشب
ما رزقه كانت تصون ... وما الذي أورثه أب
حاشا لمثلك عن هوى ... القينات أو بنت العنب
أو ناعم أطرافه ... عذب اللمى حلو الشنب
في كفه لهب المدام ... وفي الحشا منه لهب
كم من أخ كنا نظن به ... إخاء ذوي النسب
حتى بلونا وده ... فازور ينشد في غضب
ذهبت دجاجتنا التي ... كانت تبيض لنا الذهب
هلا تذكر ديكها ... إذا صح صيحته العجب
صعقت دجاج الحي منها ... فهي في قفص الكرب
وغدا يقوقىء حولها ... والقلب من خوف وجب
فاشكر لبازي الجو حيث ... حمى الحمام من العطب
لولاه أصبحت الدجاجة ... لا جناح ولا ذنب
قلت والأبيات التي كتبها صاحب الترجمة ليست له بل هي قديمة وقد غفل الطالوي عن ذكر هذا فلعله لم يطلع على أنها قديمة وكانت وفاة الشيخ نعمان عشية الأحد لليليتن بقيتا من صفر سنة ست عشرة وألف وقد تقدم ابنه محمد وحفيده أحمد وسيأتي حفيده يحيى نعمان العجلوني الحبراصي الشيخ العالم العلامة الفقيه العارف بالله تعالى ذكره النجم وقال في ترجمته سافر إلى مصر وقرأ على الخطيب الشربيني والشمس محمد الرملي وغيرهما وكان يستحضر مسائل الفقه من شرح المنهاج لشيخه الخطيب المذكور كأنه ينظر إليه ولما رجع من طلب العلم إلى بلاده كان يحتج في كل عام ولم ينقطع عن الحج إلا قليلاً واجتمعنا به بدمشق ثم بطريق الحاج كثيراً ثم بالحرمين الشريفين وكان لا يتقيد بملبس ولا مطعم وكان يقبل من الناس ما يعطونه ثم كان يعود على الفقراء بعوائد وكان جواداً سخياً بكياً من خشية الله تعالى وبقي على حاله من الحج من سنة أربع عشرة بعد الألف إلى سنة تسع عشرة فمات في مرحلة المعظم في أواخر المحرم من هذه السنة ودفن بالأخضر(3/215)
الشيخ نعمة الله بن عبد الله بن محيي الدين بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علي بن أحمد بن محمد بن زكريا بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن الشيخ عبد القادر الجيلاني بن أبي صالح موسى بن جنكي دوست حق بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى الحزن بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعنهم كان من أكابر أولياء الله تعالى الذين نالوا منه الوفاء والكرامة ومن محبيه المقتدى بهم في جمال الأخلاق وسطع نور كماله وأشرقت شمس صفاته وتواترت كراماته وكلماته وانعقد الإجماع على ولايته ولد بالهند ورحل من بلاده إلى مكة المكرمة وكان وصوله إليها في سنة أربع عشرة بعد الألف وجاور بها ولازم الصمت والمسجد عدة سنين ثم سكن شعب عامر وتزوج وولد له أولاد واشتهر عند أهل الحرمين ومدحه أكابر العلماء لما رأوا منه من الكرامات الخارقة والأحوال الصالحة ومنهم العلامة الشيخ علي ابن أبي بكر الجمال المكي قال فيه قصيدة مطلعها قوله
يا من يروم قضا مصالحه التي ... صعبت وأشكل أمرها بالمرة
لا تيأسن ولذ بقدوتنا الذي ... أعطاه رب العرش حسن السيرة
وهي طويلة فلنقتصر منها على هذا المقدار وللشيخ الفاضل أحمد بن الفضل باكثير قصيدة مدحه بها ذكر فيا شيئاً من كراماته مطلعها هذا
شفاء فؤادي بل جلاء نواظري ... مراتع غزلان الكناس النواضر
وحضرة أنسي روضة الحسن والبها ... وحضرة قدسي والهوى شعب عامر
فذا الشعب فيه شعب كبرى ولي به ... بديعة حسن لم تحل عن سرائري
وذا الشعب فيه عشب خصب تفتقت ... كمائمه عن مزهرات الأزاهر
وذا الشعب من آفاق علياه أشرقت ... نجوم هدى يهدى بها كل حائر
وذا الشعب أمسى هالة مستنيرة ... ببدر كمال ساطع النور باهر
وذا الشعب أضحى برج سعد ومنزلاً ... لشمس العلى قد أشرقت في البصائر
وذا الشعب بر صار للبر معدناً ... فكم رب فقر منه أضحى كتاجر
وذا الشعب كنز جوهر الحسن قد حوى ... فأكرم به شعباً يضي كالجواهر
أضاء بزهر مشرقات وأنجم ... بها يهتدي للحق أهل السرائر
أضاء بشمس أشرقت فانجلى بها ... دجى كل ليل للمعارف ساتر
أضاء بقطب الكائنات لأنه ... حوى نعمة الله بن عبد لقادر
أضاء بوجه منه ما الشمس في الضحى ... ما البدر في جنح الدياجي لناظر
وما النجم في الأفلاك يسطع نوره ... وهل يستوي نور يعم بقاصر(3/216)
ومن شيوخه الذين أخذ عنهم علوم الطريق الشيخ أبو بكر بن سالم باعلوي صاحب عينات وكان في بدايته ملازماً للرياضات واستمر أشهراً لا يأكل ولا يشرب وهو مختل بغار وخرج منه وهو يتكلم بالعلوم والمعارف وتواترت كراماته التي لا يمكن حصرها وكان ابتدأ العلامة إبراهيم الدهان في جمع شيء من كراماته في مؤلف ولم يعلم بذلك أحد فأتى إليه وهو في بيته وقال له يا شيخ إبراهيم هل يمكن عد المطر للبشر فقال لا فقال كراماتنا كذلك فعند ذلك صرف نفسه عن جميع هذا التأليف وهذه من كراماته ومنها أن الحمى كانت طوع يديه فكان يسلطها يوماً وأياماً وأشهراً وأعواماً على من أراد من المنكرين واتفق له أنه دخل على بعض أكابر الروم في الموسم فلم يكترث به فغضب وقا يا حمى خذيه فركبته من وقته ولم يبت تلك الليلة إلا في تربته ومنها أنه دخل على الأمير رضوان أمير الحاج المصري وكان عنده من علماء مكة الشيخ مكي فروخ فقام له وعظمه ولم يقم له الأمير وتغافل عنه فغضب منه وتكلم عليه وخرج من عنده وقال يا حمى اركبيه فركبته من حينه فأرسل إليه الشيخ مكي يعتذر إليه ويطلب منه العفو فقال إن كان ولا بد فتبقى عليه ثلاثة أيام حتى يتواضع من كبره فبقيت عليه ثلاثة أيام وقد أنهكته وعوفي بعدها ومنها أنه كان يميت بإذن الله تعالى فما اتفق له أنه غضب على شخص فقال مت فمات من وقته ومنها أن بعض التجار المتوسطين كان يتعاطى خدمته في أخذ كسوة له وشبهها فاجتمع له عنده خمسون قرشاً فأتى إليه يوماً فقال له كم اجتمع لك عندنا فقال خمسون قرشاً فقال تأخذها أو تتركها ونعوضك عنها خمسين ألف قرش فقال له الأمر إليك فقال نفسك طيبة بذلك قال نعم فقال اذهب وشاور من تثق به فذهب إلى عمة له كان يحبها وتحبه فذكر لها كلامه فأشارت عليه بتركها له فرجع إليه وقال يا سيدي إني قد تركتها لك فقال اذهب ونفي لك بوعدك فأقبلت عليه الدنيا ولم تمض مدة يسيرة حتى ملك ما ينوف عن خمسين ألف قرش ومنها أنه دخل على الشريف نامي بن عبد المطلب شريف مكة في شفاعة فلم يقبلها منه فخرج من عنده وهو يقول ما قبل شفاعتنا نحن نصلبه وأخاه في مكان عينه فما مضت مدة يسيرة حتى أتى العسكر من مصر وولوا الشريف زيد بن محسن الشرافة وقبضوا على الشريف نامي وأخيه وصلبوهما عند المدعى في المكان الذي ذكره الشيخ ومنها أن الشريف إدريس شريف مكة غضب على بعض الناس وأرسل إليه أن يخرج من مكة ولا يسكنها وأمهله ثمانية أيام فأتى إليه وشكى له حاله وما جرى له من الشريف إدريس فأرسل رسوله للشريف إدريس يشفع له فلم يقبل شفاعته فسكت ساعة ثم قال والله لا تخرج من مكة ويخرج هو منها فبعد يومين أو ثلاثة قامت عليه الأشراف وعزلوه وأقاموا الشريف محسناً مكانه وأخرجوه من مكة ومنها ما أخبر به شيخنا بركة العصر الحسن العجيمي فسح الله تعالى في أجله أن والده قال له يوماً يا سيدي إني أخاف على أولادي من الجوع فقال له أولادك لا يجوعون قال شيخنا فإني بحمد الله لا أجوع أبداً جوعاً مزعجاً يحصل منه مشقة وذكر السيد محمد الشلي في مسودة تاريخه أنه كان إذا طلب من أحد شيئاً ولم يعطه قال له نرسل لك الحمى فتأتيه تلك الليلة ثم زعم أنه من ذرية الشيخ عبد القادر المكيلاني قدس سره والله أعلم بحاله واستمر على تلك الحال حتى أتى مولانا السيد علوي ابن عقيل السقاف وطلب منه أردباً من الحب واعتذر إليه فقال إما أن تعطيني وإما أن أرسل إليك الحمى وكان السيد علوي قد احتجب في بيته فأرسل إليه خادمه وقال له افعل هذا مع غيري وأقعدناك فلم يقدر على القيام فاستغفر وتاب وعاهده السيد على أن لا يضر أحداً وأن يتوب من هذه الحالة وقال له إن ضربت أحداً قتلنا الجني الذي ترسله للناس ثم مرض فأوصى أن يدفن في محله بشعب عامر فدفن فيه اه قال شيخنا العجيمي المذكور لا يخفى على منصف أن الاستخدام بالجان لا ينافي الولاية فقد وقع لكثير ممن لا يشك في ولايته ممن يطول تعداد أسمائهم وذكر صفاتهم نعم كان من صاحب الترجمة إنكار على شيخ مشايخنا أحمد الشناوي رحمه الله تعالى حتى أنه دخل يوماً على السيد سالم شيخان وقال له أخرجك الله من بحر الشناوي فغضب السيد سالم عليه وقام وضربه وقال أفيك أهلية لإجراء اسم الشيخ الشناوي فخرج صاحب الترجمة هارباً من بيت الشيخ سالم ووقع بينهما شبه ما يقع بين(3/217)
الأولياء فماتا في شهر واحد وبين وفاتيهما نحو عشرة أيام وهذا من صاحب الترجمة غير قادح في ولايته أيضاً فقد جاء في حديث الأولياء عند أبي نعيم أن كلاً من الأبدال والأوتاد وغيرهما لو طلع أحد منهم على من هو فوقه في الرتبة لحكم بكفره أو نحو ذلك وكان الشيخ الشناوي ختم زمانه فلا بدع أن يخفى مقامه على أكثر أهل أوانه وبالله تعالى التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق وكانت وفاة السيد نعمة الله صبح يوم الخميس سادس وعشري ذي القعدة سنة ست وأربعين وألف وله من العمر أربع وسبعون سنة وقبره يزار ويتبرك به رحمه الله تعالىلياء فماتا في شهر واحد وبين وفاتيهما نحو عشرة أيام وهذا من صاحب الترجمة غير قادح في ولايته أيضاً فقد جاء في حديث الأولياء عند أبي نعيم أن كلاً من الأبدال والأوتاد وغيرهما لو طلع أحد منهم على من هو فوقه في الرتبة لحكم بكفره أو نحو ذلك وكان الشيخ الشناوي ختم زمانه فلا بدع أن يخفى مقامه على أكثر أهل أوانه وبالله تعالى التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق وكانت وفاة السيد نعمة الله صبح يوم الخميس سادس وعشري ذي القعدة سنة ست وأربعين وألف وله من العمر أربع وسبعون سنة وقبره يزار ويتبرك به رحمه الله تعالى نوح بن مصطفى الرومي الحنفي نزيل مصر الإمام العلامة سابق حلبة العلوم سار ذكره واشتهر علمه وهو في علوم عديدة من الفائقين سيما التفسير والفقه والأصول والكلام وكان حسن الأخلاق وافر الحشمة جم الفضائل ولد ببلاده ثم رحل إلى مصر وتديرها وأخذ الفقه عن العلامة عبد الكريم السوسي تلميذ شيخ الإسلام علي ابن غانم المقدسي وقرأ علوم الحديث رواية ودراية على محدث مصر محمد حجازي الواعظ وتلقن الذكر ولبس الخرقة وأخذ علوم المعارف عن العارف بالله حسن ابن علي بن أحمد بن إبراهيم الخلوتي وألف مؤلفات كثيرة منها حاشية على الدرر والغرر والقول الدال على حياة الخضر ووجود الأبدال وله رسائل كثيرة ولم يبرح بمصر مقيماً بخدمة الدين مصون العرض والنفس متمتعاً بما من الله عليه من فضله حتى توفي بمصر وكانت وفاته في سنة سبعين بعد الألف ودفن بالقرافة الكبرى وبنى عليه بعض الوزراء قبة عظيمة رحمه الله تعالى نوح الدمشقي المنشد كان مجاوراً عند باب المنارة الشرقية من جامع دمشق بواباً بها بعد الشيخ سلامة المصري وكان في بداية أمره عقاداً وكان صوته حسناً وإنشاده مقبولاً فصحب الشيخ موسى السيوري مؤذنن قلعة دمشق وأخذ عنه الألحان والأنغام وكان يحذو حذوه في حب الجمال وكان يحفظ غالب ديوان الشيخ عمر بن الفارض رضي الله تعالى عنه وأشياء من كلام القوم وكان يتناشد هو والشيخ موسى المذكور فيطربان جداً ثم انقطع آخراً واقتصر على ما يحصل له من بوابة المنارة ومن الأكابر المعتقدين له وكانت وفاته ليلة الجمعة رابع عشري ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وألف رحمه الله تعالى
حرف الهاء
السيد هاشم بن أحمد الحسيني باعلوي السيد السند الأمجد النسيب الأوحد مظهر تجلي جمال الجلال ومظهر الرضا بسابق الرأي والمقال ولد بمكة وبها نشأ وصحب أكابر علمائها وأوليائها وكان على طريقة سلفه الصالحين من الاجتهاد في الدين والطاعة قال الشلي في ترجمته ورأيت بخط السيد أبي بكر شيخان ما نصه وكان بينه وبين السيد العظيم الشأن الشريف أحمد شيخان معاقدات أخوة ومباسطات حلوة وصلات سنية وإشارات معنوية لا يحيط بكنهها إلا الفرد الصمد ولا يحط نقابها الألمعي وإن جد تراهما إذا اجتمعا يبديان ما خفي ويتنادمان بالصفا وينتقلان بالمحادثة ويتوغلان بالمباحثة ويمتزجان بالأرواح ويزدوجان بالأشباح
وربي إن حالهما عجيب ... ومن يهواهما في الحال أعجب
هما الشيخان في أهل النهى قد ... أقاما للشباب ربى وملعب
يخالهما الغبي طفلي رضاع ... تعاطى للمدام وعشق أشنب
ولا عجب فهذا شأن قوم ... لهم وإلى الخبير بهم وقرب
وكانت وفاته بمكة نهار الجمعة بعد انقضاء إقامة فرضها لعشر بقين من صفر سنة ثلاث وأربعين وألف ودفن مغرب ليلة السبت بالحويطة الدنيا بالمعلاة بجوار إخوانه السادة(3/218)
الشريف هاشم بن حازم بن أبي نمى الشريف الحسني كان سيداً مقداماً مجالسه معمورة بالعلوم يجمع الفقهاء للمناظرة ولإحياء العلوم وكان كثير العطا وضبط البلاد التي كانت تحت يده وسدد بين قبائلها وتولى بيت الفقيه وما والاها من سنة ست وثلاثين وألف إلى سنة تسع وثلاثين فلما قدم قانصوه باشا إلى اليمن تولى صاحب الترجمة في هذه المدة اللجب والمحرق ثم نزل صحبة الحسن فأقام الحصار على زبيد حتى استولى عليها وتولاها إلى بلاد مور وتمكن من الولاية ما لم يتمكن غيره منها وجبيت إليه الأموال والجنود وكانت ولايته الأخرى تسع سنين وأشهراً ثم توفي صبيحة الجمعة سادس عشري المحرم سنة خمس وخمسين وألف بزبيد ودفن ضحى بتربة الفقيه الولي الشهير أبي بكر بن علي الحداد المفسر شرقي المشهد وحضر جنازته جمع كثير ومات قبله في سادس عشري ذي الحجة سنة أربع وخمسين ولده الشريف علي في تريم وتركوا من الخزائن والعدد ما لا يوصف ولا يعد
هبة الله بن عبد الغفار بن جمال الدين بن محمد المقدسي الحنفي المعروف بابن العجمي الفاضل الأديب الكامل كان من لطف الطبع من أفراد أهل خطته ومن سلامة الطبع ما أجاد أهل جلدته قرأ الكثير وبرع وكرع من بحر الفضائل ما كرع حتى رأس بين أقرانه وعدو أحد زمانه ومن مشايخه الذين أخذ عنهم والده وعليه تخرج وسافر إلى الروم وامتزج بأهلها وولي إفتاء الحنفية بالقدس مع المدرسة العثمانية وكان يكتب الخط المنسوب وله نظم ونثر ولم أقف له على نظم إلا على أبيات راجع بها شرف الدين العسيلي عن أبيات كتبها إليه ملغزاً تقدمت ترجمة شرف الدين المذكور وبالجملة ففضله وكماله غير متنازع فيه وكانت ولادته في سنة ثلاث وعشرين وألف وتوفي في رجوعه من الروم بسعسع في المحرم سنة سبع وسبعين وألف ودفن بها رحمه الله تعالى الهجام بن أبي بكر بن محمد المقبول بن أبي بكر بن محمد بن الهجام بن عمر ابن أبي القسم خزانة الأسرار صاحب القطيع مصغر ابن أبي بكر المعمر بن القسم ابن عمر بن الشيخ علي بن عمر الأهدل كان هذا السيد من أهل الخير والصلاح والولاية عليه ظاهرة وكان الفقيه محمد بن عمر حشيبر يقول السيد الهجام مشيته تشبه مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمايل يميناً وشمالاً من غير اكتراث وبيتهم معروف بالفضل العظيم والشرف الرفيع ولهم ثروة وجاه واسع مشهور بالكرم وإطعام الطعام للوافدين وكانت وفاة الهجام في جمادى الأولى سنة ثلاثين بعد الألف ودفن في زاوية القطيع في مقبرتهم هناك بالمراوعة وتوفي والده في سنة عشرة وألف رحمه الله تعالى هداية الله بن محمد العجمي نزيل دمشق الأمير الجليل القدر أحد الرؤساء المشهورين بالنباهة والعقل الرصين دخل مع والده حلب وسكن بها مدة ثم هاجر إلى دمشق وقطن بها وجعله مصطفى باشا نائب الشام إذ ذاك من آحاد أجناده ثم سافر إلى مصر ثم إلى الروم وترقى في مراتب الأجناد حتى صار صنجقاً وأعطى إمارة الحاج فلم يتصرف فيها وبقي في أواخر عمره منعزلاً عن الناس وصار أولاده الأربعة وهم عثمان ومراد ومحمد وأسد من أعيان كتاب الديوان وكان الأمير صاحب العلماء بدمشق وغيرها وله ولأتباعه في الخزينة السلطانية رزقة واسعة وله أموال هائلة ونعمة طائلة وعاش متنعماً كسوباً عاقلاً وله حشمة زائدة وإحسان إلى الفقراء وكانت وفاته في سنة ثلاث وثلاثين وألف عن سن عالية ودفن بمقبرة باب الصغير هلال المصري المجذوب المستغرق ذكره المناوي في طبقات الأولياء وقال في ترجمته كان لا يزال حاملاً لمفاتيح كثيرة قال الوالد يعني الشيخ زين العابدين المناوي هي مفاتيح كنوز أرض مصر التي هي عبارة عن الأقوات والزروع والثمار والزهور والفواكه والمياه والطير وحيوان البحر والمعدن الظاهر والباطن فكان أعطى حفظها دون التصرف فيها قال لقيته مرة وقد خاضت نفسي في الأمل فمشى أمامي وصار يقول بعرة ويكر وذلك لأن الدنيا جيفة وطلابها كلابها مات في أوائل هذا القرن والله أعلم
حرف الواو(3/219)
ولي المعروف بين الناس بشاه ولي العيني الحنفي الخلوبي العبد الصالح كان في بداية أمره جندياً من أمراء المقام العثماني ثم ترك ذلك وصحب رجلاً صالحاً يقال له الشيخ يعقوب فتربى على يديه وسلك السير إلى الله تعالى ثم مات الشيخ يعقوب ولم يحصل للشيخ شاه ولي كمال فصحب بعده خليفته الشيخ أحمد ثم لما مات الشيخ أحمد كان شاه ولي كاملاً في درجات النفس فاستقل بالمشيخة بعده فأرشد ونصح ورتب الأوراد والخلوات وأخذ العهود وربى ودعا إلى الله عز وجل فكثر مريدوه وأتباعه وهذب نفسه وأدبها مع الصلاح والكرم والعفاف والزهد في الدنيا وكان مثابراً على طاعة الله تعالى مقبلاً على النصيحة مكفوف اللسان ساكن الجوارح عفيف النفس زكي الأخلاق حسن الحال راغباً في العزلة ملازم الصبر يقضي أوقاته بالمرض وعدم صحة المزاج ولم يزل حتى توفي في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة بعد الألف خرج إلى دار عزه لأجل إدخال مريديه إلى الخلوة فمرض بها بحصر البول فجيء به إلى حلب فبقي نحو عشرة أيام على تلك الحالة ثم توفي ودفن بالقرب من مقام إبراهيم الخليل عليه السلام ولي الدين بن أحمد بن محمد ولي الدين بن أحمد الفرفوري الدمشقي الحنفي ولد بدمشق ونشأ بها وقرأ على بعض مشايخها وكان في خدمة أخيه عبد الوهاب يبيض الأسئلة المتعلقة بالفتوى وولي نيابة القضاء بمحكمة الميدان وقسمة المواريث والعونية وكان له على ذلك نهمة شديدة وولي قضاء الركب الشامي وكان كثير الحركة قليل البركة قلق العيش دائم الطيش
كريشة في مهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق
كثير التملق كأخيه مشدودة به في المكر أواخيه ولهذا لقبا بالوسواس الخناس واشتهرا بعدم الرابطة بين الناس إلا أن ولي الدين في ذلك أشهر كما أن أخاه في طريق المدارة أمهر وكان ولي الدين يزيد بأشياء ذاك سالم العرض منها بعيد الساحة عنها وعلمه وكرمه ساتران منه كل عيب موجبان له المدح في كل محضر وغيب وكانت وفاة ولي الدين في أواخر ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وألف ودفن بتربتهم لصيق مزار الشيخ أرسلان قدس سره العزيز
حرف لام ألف خالي
حرف الياء
يحيى بن أبي السعود بن يحيى بن الشيخ العلامة بدر الدين الشهاوي المصري الحنفي الإمام العلامة الفقيه المفيد ولد بمصر وبها نشأ وحفظ القرآن واشتغل فأخذ عن أكابر الشيوخ كالشهاب أحمد الغنيمي والبرهان اللقاني والشمس محمد المحبي والشهاب الشوبري والنور علي الحلبي وغيرهم ممن يطول ذكرهم وأجازه غالب شيوخه وكان من أكابر علماء الحنفية في زمانه خصوصاً في معرفة الكتب وسعة الاطلاع وكانت تعرض عليه كتب منخرمة الأوائل لا يعرفها أحد من أقرانه فبمجرد وقوفه عليها يعرفها بسرعة من غير تردد ولا نظر وكان فاضلاً صالحاً متواضعاً عفيفاً شريف النفس والطبع مجللاً عند خاصة الناس وعامتهم قليل التردد إلى أحد إلا في مهمة وكانت وفاته بمصر في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وألف ودفن بتربة المجاورين تجاه تربة الشيخ أحمد الشلبي شارح الكنز رحمه الله تعالى يحيى بن أبي الصفا بن أحمد المعروف بابن محاسن الدمشقي الحنفي الفاضل الأديب كان أحسن آل بيته فضلاً وكمالاً وأبرعهم استيلاء على المعارف واشتمالاً قرأ وحصل وفرع وأصل ونظم فأجاد وأقرأ فأفاد وقد أخذ جملة العلوم من منطوق ومفهوم عن جماعة أجلا وأشياخ ازدان بهم الدهر وتحلى منهم الشيخ عبد الرحمن العمادي والشيخ يوسف الفتحي ولما ورد أبو العباس المقري دمشق لزمه لزوم الظل للشبح وأخذ عنه غرائب الظرف والملح وكنت رأيت بخطه مجموعاً ذكر فيه كثيراً من أمال شيخه المذكور وبدع فيه بتحف وصفه المحمود المشكور وولي من المدارس المدرسة الغزالية ودرس بها العلم في بلهنية من العيش رضية إلا أنه لم تطل مدة أيامه ففاجأه في نهنهة الشباب حمامه وكانت وفاته في سنة ثلاث وخمسين وألف ورأيت هذه الأبيات لأديب الدهر أحمد بن شاهين كتبها على شعر لصاحب الترجمة وقف عليه وهي تشبه أن تكون رثاء فيه فذكرتها هنا وهي
رحم المهيمن ناظماً ... قدما لهذا الشعر راوي
يحيى الذي قد مات ... وهو لمفخر الأحياء حاوي
قد كان روح بني المحاسن ... وجد عليهم يساوي(3/220)
مدح الديار وأهلها ... ومضى فروض الأنس ذاوي
نشر الثناء وإنه ... لرداء صافي العيش طاوي
يا رب وسع مرقداً ... هو في مضيق منه ثاوي
فنوا المحاسن كلهم ... من بعد مشهده مساوي
السيد يحيى بن أحمد بن محمد الشرفي اليمني عماد الإسلام والجهبذ الهمام عالم الزمن وفقيه اليمن أخذ عن كثير من الأشياخ والأئمة منهم العلامة عبد الحفيظ المهلا وولده الناصر وغيرهما من الأكابر وله مباحث وأشعار رائقة منها أبيات في تحريم التتن مطلعها
الحمد لله مولي الفضل والمنن ... حمداً أكرره في السر والعلن
ثم الصلاة على المختار من مضر ... وآله من هم للخلق كالسفن
ثم الصحابة ثم التابعين لهم ... من كل ماض عن الإحسان لي يني
وبعد أشكو إلى الرحمن خالقنا ... من منكرات بدت في أهل ذا الزمن
ومن مضلات أهواء لها ابتدعوا ... وأجمعوا أمرهم فيها على سنن
منها
والله أنزل تحريم الخبائث في ... كتابه فاتخذه حجة تعن
والتمس من القاضي حسين بن الناصر المهلا أن يرسل له المتحصل من تأليفه المواهب السنية فأرسله إليه وكتب صحبته ارتجالاً
إلى الحضرة العلياء والسدة التي ... أفاد جميع العالمين إمامها
ومحفل أهل العلم والحلم والتقى ... فحق على هذا الأنام احترامها
ومربع علم الاجتهاد الذي به ... ينال المعالي والأماني كرامها
ليحيى الذي يحيا به المجد والعلى ... حليف المعالي في الهداة نظامها
سلام كنشر المسك في روضة ربت ... فراقت بها أزهارها وكمامها
ومن حضرة الأحباب يأتي مقامه ... فيا حبذا منها إليه سلامها
وبعد فأشواق المحب عظيمة ... إلى من به يأتي النفوس مرامها
إلى من يلقى الهداية طالباً ... فيرجع بالفضل العظيم همامها
إلى موقظ الإسلام من سنة الكرى ... ويا طالما استولى عليه منامها
إلى غيث أهل الفضل والغوث للورى ... إذا ضن بالأمطار يوماً غمامها
غرست بأرض العلم غرساً وأثمرت ... براهين فالأعداء حان اخترامها
وأعليت للدين المبين مناره ... فطاب لأرباب العلوم مقامها
فأوليت أهل العلم فضلاً ونعمة ... يدوم على مر الزمان دوامها
فمنك قرى أرواحهم بعلومها ... ومنك قرى الأشباح هام ركامها
وأبرزت من تلك العلوم دقائقاً ... فأحيت نفوساً حين زال سقامها
فأروت نفوساً طالما صديت لها ... فعاد بحمد الله رياً أوامها
طلبت بها تلك المواهب فانثنى ... بأسواقها بين العلوم قيامها
فأنت لها يا ذا المواهب كعبة ... يطيب لها عند الوصول التزامها
فأعذب لها من زمزم العلم مشرباً ... ليحسن منها للخليل مقامها
فأجابه صاحب الترجمة بقوله
أجونة مسك فض عنها ختامها ... وعقد لآل زانهن نظامها
وروض أريض صافح القطر فاغتدت ... أزاهيره يسبي القلوب ابتسامها
أم النظم وافى من بليغ محبر ... حسان القوافي في يديه زمامها
يحبر منها كيف شاء بدائعاً ... يحير أرباب العقول وشامها
ويودعها أسرار كل غريبة ... من العلم عال في العلوم مقامها
فيبرزها للطالبين قريبة ... مسهلة إذ كان صعباً مرامها
وذلك من تثني الخناصر باسمه ... إذا عددت في المكرمات كرامها
وأوحدهم في حوز كل فضيلة ... ينافس فيها غيروان همامها
وأما فنون الشعر فهو مجيدها ... وأما فنون العلم فهو إمامها
إذا قال عاد الدر عند مقاله ... حصى قد علاه في الفلاة رغامها(3/221)
وإن أبرز التحقيق منه دقائقاً ... من العلم حلت في الصدور فحامها
وإن أظلمت في المشكلات عويصة ... جلا صبحها وانجاب عنه ظلامها
علي المقامات الحسين بن ناصر ... حميد السجايا القاصرات سهامها
قفا أثرهم فيما بنوا من مكارم ... بنى ضعفهم فاشتد ركناً شمامها
ووفت معاليه معالي جدوده ... فكان بها من غير نقص تمامها
أعالم هذا العصر والمنهل الذي ... موارده عذب كثير زحامها
ومفزع طلاب العلوم فكلهم ... بحبلك في سبل الرشاد اعتصامها
جمعت فنون الفضل فانتظمت حلى ... بك ازدان في جيد الزمان انتظامها
فهناك ما أولاك ربك من على ... معال قصارى السؤل منها دوامها
وأبقاك محروس الجناب لأنهيزورك منها كل حين سلامها
وكانت وفاة صاحب الترجمة بالقويعة بالتصغير من أعمال الشرف الأعلى ليلة الثلاثا لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة سنة تسع وثمانين وألف وعمره نحو سبعين سنة ورثاه جمع من العلماء بالقصائد الطنانة يحيى بن تقي الدين بن عبادة بن هبة الله الشافعي الحلبي الدمشقي الشهير بالفرضي أحد العلماء الأجلاء كانت العلوم نصب عينه فقهاً ونحواً وأدباً وكان يقرأ بمكتب جامع الدرويشية وكان رئيساً بالهندسة والهيئة والحساب والفرائض ولد بمدينة سرمين وقرأ القرآن بحلب ولما ميز وكبر قدم إلى دمشق وقرأ وبرع خصوصاً في الفرائض والحساب حتى فاق فيهما على جميع معاصريه واشتغل عليه كثير ممن أدركه وانتفعوا به وكان يباشر جميع وظائفه بنفسه من غير أن يقيم أحداً من تلامذته ليكون وفاء لما شرطه أصحابها وله التصانيف الحسنة منها شرح النزهة في مجلدين ذكر فيها كثيراً من الألغاز وفوائد ضمها إليه ثم اختصره في مجلد واحد وشرح المنهاج للنووي وشرح منظومة الجعبري في الفرائض وكان له في الشعر والألغاز والأجوبة يد طولى قال البوريني في ترجمته زارني في منزلي بدمشق يوم الاثنين التاسع والعشرين من صفر سنة إحدى وعشرين بعد الألف وأنشدني من لفظه هذه الأبيات
أمولى المعالي والمعارف والمجد ... وعين العلى كهف الورى منتهى القصد
ويا فاضلاً طال الأنام بفضله ... وقصر عن معثاره كل ذي جد
ويا كاملاً حاز العلوم بعزمه ... وأحرز فخراً قد تزايد عن حد
ولاسيما فن الحساب فإنه ... أقر له كل من الألف والضد
واحرز منه غاية ليس مدركاً ... ذراها ولم يلحق بها قط ذو كد
وهذا وقد وافى الفقير رسالة ... تضمن لغزاً ضاع في حله رشدي
فها هي يا ذا العلم فاسمح وكن لنا ... معيناً عليها دمت في طالع السعد
ولما تجلى الحب في غيهب الدجى ... وأقلق قلبي بالصدود وبالبعد
وقا وصالي لا ينال لطالب ... فقير فجد بالمال إن كنت ذا نقد
فأعطيته سدساً وسبعاً وثمنه ... وتسعيه مع عشر ومع واحد فرد
وأبقيت لي ألفاً أعيش بكسبه ... فكم كان هذا المال إن كنت ذا وجد
فلا زلت كشاف الغوامض للورى ... ومفتاح كنز المشكلات بلا عد
وهذا جواب اللغز لصاحب الترجمة
فهاء وياء ثم قاف رمزتها ... وأربع آلاف صحاح من العد
وهاء وكاف ذي كسور كما ترى ... عليك بها فافهم وكن حافظ الود
مخارجها جيم وياء وخاؤها ... مقامات كسر من لدن قسمة العد
هي المال قطعاً لا خلاف بوضعه ... فسدد مقالي يا أخا الفضل والمجد
وقد أخذ المحبوب ما قد جمعته ... وأبقى لنا ألفاً على القرب والبعد
فدونك شكلاً منهما ما رمزته ... على طرق الحساب يا كامل السعد
وناظمه عبد حقير وذا اسمه ... كما قيل دم يحيى مع الشكر والحمد(3/222)
وكانت ولادته في سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وتوفي في سنة ودفن بمقبرة باب الصغير من قرب بلال الحبشي يحيى بن زكريا بن بيرام شيخ الإسلام وأوحد علماء الروم باتفاق الأعلام ذكره والدي رحمه الله تعالى فقال في حقه سلطان علماء المغرب والمشرق ومطلع كوكب أفق السعادة المشرق شيخ الكل في الكل من الدق والجل واحد الزمان وثاني النعمان من بمكارم الأخلاق في الآفاق موصوف وفي تعداد أفراد النوع الإنساني واحد يعدل ألوف كبير المملكة السلطانية دون منازع بركة الدولة العثمانية من غير مدافع عمدة الملوك مرشد أهل الطريق والسلوك بحر المعارف بدر اللطائف صاحب الكلم النوابغ من ثوب إنعامه على الأنام سابغ الذي ألقيت إليه أزمة السلم واحتوى على جوامع العلم وبدائع الحكم محط رحال الآمال وكعبة أرباب الكمال من لم تسمح بمثله الأدوار ولم يأت بنده الفلك الدوار يقال فيه
هيهات لا يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل
ولد بقسطنطينية ونشأ بها واجتهد في التحصيل على علماء عصره حتى برع وتفوق ثم لازم من شيخ الإسلام السيد محمد بن معلول كما أن والده لازم من والد السيد المذكور ثم درس بمدارس قسطنطينية وحج في خدمة والده سنة أربع وتسعين وتسعمائة وكان والده إذ ذاك منفصلاً عن قضاء العسكر بأناطولي ولما رجع ترقى في المدارس إلى أن وصل إلى إحدى الثمان ومات أبوه وهو مدرس بها ثم درس بمدرسة الشهرزاده ونقل منها إلى مدرسة والدة السلطان مراد الثالث بأسكدار وكان لها شأن عظيم في حياة بانيتها فأعطى منها قضاء حلب وكانت أول مناصبه وكذلك وقع لوالده فدخلها في سنة أربع بعد الألف خلفاً عن المولى الكمال ابن طاشكبري ثم بعد مدة قليلة وقع بينهما مبادلة فنقل صاحب الترجمة إلى قضاء دمشق والكمال إلى قضاء حلب وقيل في تاريخ توليته لها
لما أحيى شرع الهادي ... قاض عنه شاع العدل
يحيى المولى السامي قالوا ... حقاً أرخ قاض عدل(3/223)
وكانت سيرته في هذين القضاءين من أحسن سيرة لقاض ثم عزل وتوجه من دمشق إلى معرة النعمان قاصداً دار الخلافة وكان خرج من دمشق وعليه دين سابق لم يقدر على وفائه وكان قصد أن يمر على حلب ويستدين من بعض أهلها مبلغاً يوفي به مما عليه واتفق أن كتخداه دخل عليه وشكى من المضايقة فلم يستتم الكلام إلا ودخل عليهم قاصد من طرف الدولة ومعه أمر بتوجيه قضاء مصر إلى صاحب الترجمة فسر بذلك وعاد مبلغ المراد وسار إليها وسلك مسلكه المعتاد ونقل أنه كان في خدمته أحد عشر نائباً من ملازمي والده ومن طلبته فاتفق أنه ولى منهم ستة قضاء مصر بعد مدة وعزل عن قضاء مصر فأعطى كلاً منهم مبلغاً من الدراهم من ماله زيادة على ما حصل لهم من الانتفاع في أيام قضائه وكان ابن أخته إسماعيل الذي صار آخر أمره أحد صناجق مصر في خدمته وكان وجه إليه نيابة المحاسبات فبلغه أنه أخذ من بعض النظار عشرة سلطانية من غير وجه فناداه إليه وهو في داخل الحمام وقال له بلغني أنك أخذت من فلان كذا فاعترف فقال له اذن ترحل عني إلى الروم واليوم سفينة فلان متجهزة فلا تتخلف عنها فأقلع من وقته ولما عزل أقام ببولاق بعض أيام عند القاضي زين الدين العبادي كاتب المحاسبات بأوقاف مصر وكان العبادي المذكور من الرياسة والنعمة بمكان لكن حصل منه تقصير في خدمته واتفق أنه شكى إليه كثرة الناموس وطلب منه ناموسية فتهاون في إرسالها إليه فبعث صاحب الترجمة إلى محافظ مصر يستأذنه في الذهاب بحراً فلما وصل رسوله إلى المحافظ وعرض عليه أجابه بأن يتربص أياماً فقام الرسول ليذهب وإذا ببريد قدم من قسطنطينية ومعه أمر بتقرير صاحب الترجمة في قضاء مصر فعاد الرسول مسرعاً وأخبره ثم أرسل الوزير الأمر فدخل الزين العبادي مهنياً وأظهر كمال الريا وكان صاحب الترجمة حقد عليه جداً فأخرج في الحال عنه جميع ما في يده من جهات ومعاليم ووجهها إلى فقراء الأزهر وكانت أشياء كثيرة مع عدم احتياجه إليا لكونه في غنية زائدة وعزله عن كتابة المحاسبات وبقي مقهوراً مدة أيام ثم مات من قهره ثم عزل وسار إلى قسطنطينية وبعد مدة صار قاضياً ببروسة ثم ولي قضاء أدرنة ثم قضاء قسطنطينية ثم صار قاضي العسكر بأناطولي مدة يسيرة ونقل إلى روم إيلي ثم عزل وأعيد مرة ثانية سنة ثمان عشرة وقيل في تاريخه فضل حق ووقع في أيام قضائه أن درويش باشا الوزير الأعظم أمر بقتل رجل في الديوان فقال له صاحب الترجمة ما الذي أوجب قتله فقال له أنت ما لك علاقة بهذا فقام من الديوان وترك منصب قضاء العسكر فلما سمع السلطان أحمد بذلك بعث إليه يستخبر منه عن قضية تركه فأجابه بقوله إن القضاء أمانة والسلطان إنما يولي قضاء العسكر لسماع الدعاوى وإنصاف الظالم من المظلوم والآن قد قتل رجل من غير أن يوجب الشرع قتله فلم يوجد اتصاف بما ولينا لأجله القضاء فتركنا المنصب لذلك ففي ذلك اليوم قتل السلطان أحمد درويش باشا المذكور وحصل لصاحب الترجمة غاية الإقبال من السلطان وعزل بعد مدة وأعيد ثالثاً ثم ولي الإفتاء السلطاني في يوم جلوس السلطان مصطفى وهو اليوم السادس من رجب سنة إحدى وثلاثين والف وقال العلامة عبد الرحمن العمادي مؤرخاً توليته بقوله
لقد صار مفتي الروم يحيى الذي سما ... سناء سماء المجد والعلم والتقوى
فنادى بشير السعد فيها مؤرخاً ... لمولاي يحيى منصب العلم والفتوى
وكان أول سؤال كتب إليه أول واجب على المكلف ما هو فأجاب هو معرفة الله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله وبنى في توليته هذه مدرسته المعروفة قريباً من داره بمحلة جامع السلطان سليم القديم وأرخ عام تمامها الأديب محمد الحتاتي المصري بقوله
مفتي البرايا بنى لله مدرسة ... لها من الأنس أنوار تغشيها
على الهدى أسست واليمن أرخها ... دار العلوم فيحيى العدل منشيها(3/224)
ثم عزل وأعيد ثانياً وكان أول سؤال رفع إليه المؤمن إذا أراد الشروع في أمر ذي بال بماذا يبدأ حتى يكون ما شرع فيه مباركاً فأجاب يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم ثم عزل ثانياً في رجب سنة إحدى وأربعين في حركة العسكر بمخامرة الوزير رجب باشا وشيخ الإسلام حسين ابن أخي وجمعوا جمعاً عظيماً عند السلطان مراد وأرسلوا إلى صاحب الترجمة رسولاً يطلبونه إلى الديوان على لسان السلطان وكانوا صمموا على قتله في الطريق إذا جاء حتى أنهم رأوا المولى محمد الشهير بجشمي قاضي العسكر بأناطولي وهو متوجه فظنوه هو وما حققوه بعينه فلما عرفوه أطلقوا سبيله فأرسل إلى صاحب الترجمة رسولاً يحذره الحضور من الطريق العام فسار من طريق آخر فلما رآه السلطان عرف أنها مكيدة فأشار إليه بالعود بيده فلم يمكنه ذلك فأرسل إليه السلطان رسولاً وأخذه إلى الداخل ثم إن العسكر قتلوا الحافظ الوزير الأعظم ونصبوا رجب باشا مكانه وجعلوا ابن أخي مفتياً وخمدت الفتنة ثم إن السلطان التفت إلى صاحب الترجمة وقال له قد عزلك القوم وأنا ما عزلتك فسر إلى حديقتك واشتغل لنا بالدعاء وإذا صار سلطانك سلطاناً كما كان صرت مفتياً كما كنت ثم فارقه فسار إلى داره ثم توجه إلى بستانه المعروف به بطوب قيوسي من أبواب قسطنطينية وبقي ثمة إلى أن قتل ابن أخي في رجب سنة ثلاث وأربعين فأعيد وبقي في هذه المرة إلى أن مات ولم يتفق لأحد من المفتين ما اتفق له من طول المدة والإقبال والحرمة والجلالة ولم يمدح أحد بما مدح به من مشاهير الشعراء ومدائحه التي جمعها التقي الفارسكوري وقد تقدم ذكر خبرها في ترجمته من ابتداء توليته قضاء حلب إلى أن ولي قضاء العسكر بروم إيلي وما بعد ذلك فقد تكفل والدي بجمع حصة منها بلغت مقدار ثلاثة كراريس وهي قطرة من بحر ورزق السعادة في الجاه والحفدة بحيث صار أحد ملازميه وهو المولى عبد الله بن عمر خواجه زاده قاضي العسكر بروم إيلي وولي الإفتاء من جماعته ثلاثة وهم مصطفى البولوي ومحمد البورسوي ومحمد الأنقروي وأما من ولي منهم قضاء العسكرين وغيرهما من المناصب والمدارس والقضاء من أهل الروم ودمشق وحلب وغيرها فلا يحصون كثرة وأكثرهم شاعت فضائلهم وعمت فواضلهم وبالجملة فإنه أستاذ الأساتذة وأعظم الصدور الجهابذة وقد جمع شيخ الإسلام محمد البورسوي فتاويه التي وقعت في عهده في كتاب سماه فتاوي يحيى وهو الآن مشهور متداول وأما شعره العربي فمنه تخميس البردة للبوصيري يقول في مستهله
لما رأيتك تذري الدمع كالغيم ... غرقت في لجج الأحزان والألم
فقل وسر الهوى لا تخش من ندم ... أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
تمسي بعين بوبل الدمع ساجمة ... ونار وجد بجوف القلب ضارمة
فهل بريد أتى من حي فاطمة ... أم هبت الريح من تلقاء كاظمة
وأومض البرق في الظلماء من إضم
متى السلو لأهل العشق عنه متى ... وحب حب سليمى في الحشا بتا
إن تنكر الوجد عندي بعد ما ثبتا ... فما لعينيك إن قلت اكففا همتا
وما لقلبك إن قلت استفق يهم
تريد تخفي الهوى والدمع منسجم ... وفي حشاك لظى الأشواق مضطرم
هيهات كاتم سر العشق منعدم ... أيحسب الصب أن الحب منكتم
ما بين منسج منه ومضطرم
تقول قلبي سلا عن أعين نجل ... وتدعي الصحو والسلوان عن مقل
إني أخاف وحق الود من وغل ... لولا الهوى لم ترق دمعاً على طلل
ولا ارقت لذكر البان والعلم
منها
إذا وجدت امرأ بالله معتصماً ... اسمع مقالته مسترشدا فهما
وكن لصحبته العلياء مغتنماً ... وخالف النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محضاك النصح فاتهم
حكمت نفسك والشيطان فاحتكما ... يا قلب ويحك ماذا الخبط ويحك ما
لا تقبلن منهما حكماً وإن حكما ... ولا تطع منهما خصماً ولا حكما
فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
ومن لطائف شعره أيضاً
ورد النسيم بأطيب الأخبار ... طاب الورود وسائر الأزهار(3/225)
سكروا بخمر الشوق حتى أظهروا ... ما في ضمائرهم من الأسرار
في جمعهم لم تلق إلا ماسكاً ... قدحاً من الإبريز والبلار
والحوض فيه مجالس ملكية ... والورد كالسلطان في الأنوار
لعب الشمول بهم فحركهم كما ... لعب الشمول بزمرة الشطار
وقوله وهو معنى جيد
كأن ور خده عقار ... شربتها حتى بدا البلار
والبلار لغة في البلور رأيته في استعمال المولدين منهم المعتمد بن عباد على ما ذكره الفتح في قلائد العقيان
جاءتك ليلاً في ثياب نهار ... من نورها وغلالة البلار
والشرب في بيته كناية عن التقبل زالت به الحمرة فبدا البياض ومن لطائفه أيضاً قوله
مجلة حمراء جاءت وقد ... تفوح بالعنبر أذيالها
حليتها لعل وياقوتة ... صيغ من العسجد خلخالها
ومن إنشائه الباهر ما كتبه على كتاب في الطب اسمه مغني الشفا يا له من روضة شحاريرها أقلام المادحين من النحارير وألحان سواجعها ما سمع لدى التحرير من الصرير غصونها أورقت ولكن بصحائف كأنها مملوءة باللطائف أطباق وأثمرت والعجب أن منابت ثمارها بطون الأوراق من وقف عليها وتوقف فيما قلته من الوصف العاري عن المراء فلاشك أنه مبتلى بداء الترك وليس له دواء ولما أجلت نظري في ربوة حسنها وبهجتها ونشقت شذارياً حينها وشممت عرف نفحتها وعاينت مجالس أنسها وقضيت منها العجب وحرك مني سطور طروسها ما يحدثه القانون من الطرب توجهت بمجامع قلبي إليها وقلت مؤثراً موجزاً القول في الثناء عليها هذه الأبيات وهي قولي
يا روضة في رباها ... دوح غدا سجع طيره
مغني الشفاه ومغن ... عن الشفاء وغيره
وكانت ولادته في سنة تسع وتسعين وتسعمائة وتوفي في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وألف ودفن عند والده بمدرسته المعروفة به وقال المولى محمد عصمتي مؤرخاً وفاته بقوله
مفتي الورى يحيى به ... سما العلى وحية
لما مضى مولياً ... عن هذه الدنية
سمعت من جهزه ... بأحسن التحية
يقول تاريخاً له ... في جنة علية
يحيى بن زكريا المعصراني من أولاد نامر القدسي كان فقيهاً نحوياً يقري بالخلوة النجوية بطرف سطح الصخرة القبلي حكى بعض طلبته أنه كان يدرس في الجامع الصغير في آخر أمره بين المغرب والعشاء فكان آخر عهده أنه وقف على حديث من دان نفسه وعمل لما بعد الموت اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة وصلى العشاء بقوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه وكان آخر عهده من دخول المسجد وأوصى بجميع كتبه إلى طلبته وكانت وفاته في سنة ثلاث وثمانين وألف يحيى بن عبد الملك بن جمال الدين بن صدر الدين بن عصام الدين الاسفرايني الأصل المكي المولد الفاضل الأديب الشاعر ذكره ابن معصوم فقال في وصفه أديب منفسح الخطا وأريب مأمون العثار والخطا له في الأدب المقام المحمود والطبع الذي ما شان سلسال قريحته جمود وقد وقفت له على تأليف سماه أنموذج النجباء من معاشرة الأدباء تكلم فيه شارحاً قول القائل
حاشا شمائلك اللطيفة أن ترى ... عوناً علي مع الزمان القاسي
غير أنه لم يعرف قائله فقال ولعمري إنه وإن جهل بانيه فهو من البيوت التي أذن الله أن تسكن فما اللفظ إلا بمعانيه وإن كان قائله ألكن ثم قال وهذا البيت مما يكثر الاستشهاد به أهل الآداب في محاضرة الأصدقاء والأحباب وهو من أربعة أبيات معمرة بلطيف العتاب مبرورة بصدق المنطق واقتضاء الصواب محاسنها غرر في أجياد القصائد والمعاني البديعة بها صلة ومفرداتها عائد تشرق شموس التهذيب في سماء بلاغتها وترشف الأسماع على الطرب من ريق سلافتها فما أحقها بقول القائل
أبيات شعر كالقصور ... ولا قصور بها يليق
ومن العجائب لفظها ... حر ومعناه رقيق
وهي
إني لأعجب من صدودك والجفا ... من بعد ذاك القرب والإيناس
حاشا شمائلك اللطيفة أن ترى ... عوناً علي مع الزمان القاسي
أو ثغرك الصافي يرد حشاشة ... تشكو لهيباً من لظى أنفاسي(3/226)
تالله ما هذا فعالك في الهوى ... لكن حظوظ قسمت في الناس
انتهى كلامه قلت وقد وقفت أنا على مجموعة قديمة بخط أبي البقا الوفائي الوداعي الحنفي يقول فيه القاضي علاء الدين علي بن فضل الله أبو الحسن صاحب ديوان الإنشاء أخو القاضي شهاب الدين أحمد العمري وقف على بيتين للصلاح الصفدي وهما
إني لأعجب من صدودك والجفا ... من بعد ذاك القرب والإيناس
حاشا شمائلك الخ فقال مجيزاً لهما أو ثغرك الصافي يرد حشاشة الخ انتهى فعلم من هذا أن البيت الذي شرحه للصلاح الصفدي وقوله أنه من أربعة أبيات ليس بصواب لإيهامه أن الأربعة قائلها واحد وقد علمت أنها لشاعرين ومن شعر الأديب المذكور وقوله موجهاً بأسماء الأنغام فيمن اسمه حسين وقد ورد المدينة من مكة فقال
أقول لمعشر العشاق لما ... بدا ركب الحجاز وقر عيني
أمنتم من نوى المحبوب فاسعوا ... له رملاً وغنوا في حسيني
وما ألطف قول محمد بن جابر الأندلسي في مثل ذلك
يا أيها الحادي اسقني كأس السرى ... نحو الحبيب ومهجتي للساقي
حي العراق على النوى واحمل إلى ... أهل الحجاز رسائل العشاق
وله
رأى سقم الكئيب فمال عنه ... سقيم الجفن ذو حسن بديع
فقلت له فدتك الروح هلا ... مراعاة النظير من البديع
وله
قالوا أضافك يا يحيى لخدمته ... حبيب قلبك في سر وفي علن
فقلت لما رآني غير منصرف ... عن حبه رام كسرى فهو يجبرني
وقوله
إن الدراهم مرهم ... قد جاء في تصحيفها
فدع التطير قائلاً ... الهم بعض حروفها
كأنه يشير إلى قول القائل
النار آخر دينار نطقت به ... والهم آخر هذا الدرهم الجاري
والمرء ما دام مشغوفاً بحبهما ... معذب القلب بين الهم والنار
وقوله وقد أهدي نبقاً وفلاً
أهديت نبقاً تسقى في الوداد على ... صدق الوداد وإرغام العدا أبدا
ومعه يا سيدي فل يبشركم ... بأنه فل من يشناكم كمدا
وله غير ذلك وكانت وفاته بالمدينة في شهر ربيع الأول سنة أربع وسبعين وألف ودفن على والده بالبقيع(3/227)
يحيى بن علي بن نصوح المعروف بنوعي والد عطائي صاحب ذيل الشقائق الفاضل الأديب الشاعر المشهور كان عالماً محققاً أديباً باهراً وهو من حيث لطافة الشعر عند الروميين مع باقي شاعرهم فرسا رهان وفرقوا بينهما في الترجيح بأن باقي في القصائد أرجح كما أن نوعي في الأغزال أرجح مولده بقصبة طغرة من بلاد الروم ثم قدم إلى قسطنطينية وابتدأ بالاشتغال في سنة سبع وخمسين فأخذ عن المولى أحمد الشهير بابن القرماني ثم اتصل بأخيه المولى محمد وهو مدرس الصحن وقد اجتمع عنده في ذلك العهد من أرباب المعارف والكمالات ما لا يجتمع عند أحد قبله من جملتهم المولى سعد الدين وباقي الشاعر ورمزي زاده وخسرو زاده ومن القضاة الهسي الاسكوبي ويحيى القرماني ومجدي وجوري وحامي زاده ولازم من قاضي زاده الرومي ودرس بمدارس قسطنطينية إلى أن وصل إلى إحدى الثمان في ذي القعدة من سنة خمس وتسعين وتسعمائة ثم ولي منها قضاء بغداد في ثاني وعشري شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وفي ثامن شهر ربيع الآخر من هذه السنة عين لتعليم السلطان مصطفى ابن السلطان مراد ثم سلم غليه من أولاد السلطان المذكور من فيه قابلية القراءة منهم السلطان بايزيد والسلطان عثمان والسلطان عبد الله ونال بسبب ذلك كمال التقريب إلى السلطان مراد وحظي حظوة عظيمة واستمر إلى أن ولي الخلافة السلطان محمد بعد موت أبيه السلطان مراد وقتل إخوته المذكورين فأبقيت في يده الإدارات من المشاهرة واليومية وغيرهما وأعطي رتبة قضاء العسكر وعين له عشرة من الملازمين ثم أضيف إليه بعد ذلك مدرسة حموه محمد بيك بخمسين عثمانياً وتفرغ للإفادة والتأليف ومن تآليفه الفائقة متن في علم الكلام سماه محصل الكلام وله شرح الرسالة القدسية لشمس الدين الفناري وتفسير سورة الملك وحاشية على التهافت للخواجه زاده وحاشية على هياكل النور وتعليقة على أوائل المواقف وتعليقات على التلويح والهداية والمفتاح وله ثلاثون رسالة في فنون متفرقة منها رسالة في الكلام النفسي ورسالة قلمية ومن آثاره التركية ترجمة فصوص الحكم الفه باسم السلطان مراد وكتاب سماه نتائج الفنون ذكر فيه اثني عشر فناً وترجمة العقائد ورسالة منطق نواي عشاق وشرح دوبيت المثنوي وترجمة قصة الخضر وموسى عليهما السلام وترجمة منشآت خواجه جهان وله ديوان منشآت وتحقيق مسئلة الإيجاب والاختيار وديوان شعر وله رسالة منظومة سماها حسب حال ومناظرة طوطى وزاغ مثنوي من بحر ليلى ومجنون وما عدا ذلك مما ألفه بأمر السلطان مراد وضبطه خارج عن الطوق وكانت ولادته في سنة أربعين وتسعمائة وتوفي يوم الأربعاء آخر يوم من ذي القعدة سنة سبع بعد الألف وصلي عليه صبح يوم الخميس بجامع السلطان محمود ودفن بجامع الشيخ وفا رحمه الله الأمير يحيى بن علي باشا الأحسائي المدني الحنفي الأمير الخطير والسري الكبير الذي حوى من الفضل أجمعه ومن الكمال أعذبه وأبدعه ولد بمدينة الإحساء وبها نشأ في حجر والده وتأدب بأكابر علماء بلده وأخذ عن العلامة إبراهيم بن حسن الأحسائي الفقه والحديث وعلوم العربية وأجازه بمروياته وجميع مؤلفاته وتلقن الذكر ولبس الخرقة وصافح من طريق المعمر ابن الشيخ تاج الدين الهندي النقشبندي قدس سره عن الشيخ عبد الرحمن الشهير بمحاجي رمزي قال صافحني الشيخ حافظ علي الأوبهي قال صافحني الشيخان محمود الاسفرازي والسيد مير علي الهمداني قال صافحني أبو سعيد الحبشي المعمر قال صافحني النبي صلى الله عليه وسلم وللأمير يحيى المذكور أشعار منها قوله يمدح النبي صلى الله عليه وسلم
أتريد جاراً حامياً لك سيداً ... ومقام عز عالياً مستفردا
وترود شرقاً للبلاد ومغرباً ... متفكراً متحيراً مترددا
وتروم ذا والحال منك مقصر ... عما ترى والفعل ليس مسددا
فعليك إن ترد النجاة وتبتغي ... خوف العقاب تلاوة والمسجدا
وانزل بدار المصطفى متأوباً ... ولجوده مستمطراً متقصدا
واعرف لفيض الفضل منه موسماً ... فيها وكن مترقباً مترصدا
فلعل أن تحيا كما أحيا به ... للدين رسماً قد عفا وتهددا
فاجهد تكن جاراً له ودخيله ... وابذل لذا روحاً ومالاً مجهدا
وقوله(3/228)
ظلمت نفسي ولم أعمل بموجبها ... وما علمت بأن الغي يتلفني
يقضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وكان والده علي باشا والياً على الاحساء والأمير يحيى هذا أميراً على العطيف بأمره فأرسل والده أكبر أولاده محمداً بهدية إلى ملك الروم على عادتهم فزور كتاباً من والده مضمونه أنه كبر والتمس من السلطان أن يقيم ولده محمدا ًبمرسوم وأجيب إلى ذلك ولما وصل إلى الاحساء رشى أكابر العسكر وأعلمهم بالأمر وتلقاه والده وإخوته فلما اجتمعوا أخرج المرسوم وتولى وأراد حبس والده وإخوته فطلبوا أن يجهزهم إلى الحرمين ويعين لهم مصروفاً وجاوروا بالمدينة وتوفي والدهم بها وتوفي ولده أبو بكر يوم عرفة وتوفي الأمير يحيى رابع عشر رمضان سنة خمس وتسعين وألف بالمدينة عن نحو خمس وسبعين سنة رحمه الله السيد يحيى بن عمر الشهير بابن عسكر الحموي الشافعي كان من الأفاضل البالغين رتبة التفرد الصارفين إلى التحصيل عزمة الهمة والتجرد قرأ بحماه على علماء زمانه وبرع إلى أن فاق على جميع أقرانه ثم دخل الروم مراراً عديدة وأقام بها مدة مديدة وأعطي في بعض المرات المدرسة القيمرية بدمشق فوردها وقطن بها ودرس وأفاد وأخذ عنه جماعة من الفضلاء ثم ارتحل إلى بلده فمات بها وكانت وفاته في حدود سنة سبعين وألف وقد تقدم ذكر ولده أحمد يحيى بن عمر المنقاري الرومي شيخ الإسلام وعلامة العلماء الأعلام صاحب التقرير والتحرير الراقي بعلو جده رتبة الفلك الأثير أخذ بالروم فنون العلم عن أكابر علمائها منهم شيخ الإسلام عبد الرحيم المفتي وتمكن من التحقيق كل التمكن وأحرز من أول أمره في الفضل كمال التعين ثم لازم على دأبهم ودرس بمدارس قسطنطينية وولي المناصب العلية منها قضاء مصر وليها في سنة أربع وستين وألف وأعيد إليها مرة ثانية وعقد بها درساً بمجلس الحكم في تفسير البيضاوي وحضره أكابر علمائها وأذعنوا له بالتحقيق الذي ليس فيه مساوي ومدحه فضلاؤها بالأشعار الرائقة وخلدوا مآثره في صحف محامدهم الفائقة منهم المرحوم السيد أحمد بن محمد الحموي حيث قال فيه
قد شرفت مصر برب الحجى ... العالم النحرير منقاري
والناس في تمداحه أصبحوا ... من كاتب ينشي ومن قاري
وقال فيه أيضاً
إذا ذكر التحقيق في فصل مشكل ... فيحيى الذي تثنى عليه الخناصر
وإن ذكر المعروف والحلم والندى ... فذاك له منه حليف وناصر
به الله أحيا ما انطوى من معارف ... رفاتاً غدت أجداثهن الدفاتر
ثم تولى قضاء مكة ودرس فيها في المدرسة السليمانية في تفسير البيضاوي أيضاً وحضره أكثر العلماء وطلب من الشمس البابلي أن يحضر درسه هو وطلبته فحضروا فشرع يقرر من أول سورة مريم وأتى بالعجب العجاب مما يدل على أنه أخذ من الفنون بلب اللباب مع حسن التأدية والتعبير وسعة الملكة ولطف التقرير ثم ولي بعد ذلك قضاء قسطنطينية وقضاء العسكر بروم إيلي ونقل من قضاء العسكر إلى منصب الفتوى في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وألف وقيل في تاريخ توليته شيخ الإسلام وسار أحسن سير مع التعفف وحسن السيرة وسلامة الناحية والسريرة وراجت في زمنه بضاعة الأفاضل ورغب الناس في تحصيل المعارف والفضائل وكان دأبه المطالعة والمذاكرة فلا يوجد إلا مستعملاً لهما المبادرة وألف تآليف عديدة في فنون شتى منها حاشية على تفسير البيضاوي وحواش على حاشية ميرابي الفتح على شرح آداب البحث وله رسالة في الكلام على قوله سبحانه وتعالى وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له سماها الإتباع في مسئلة الاستماع وانتهت إليه الرياسة في عصره بالعلوم وحظي حظوة لم يحظها أحد مثله عند ملك الروم ثم اعتراه ريح في يده اليمنى أبطل حركتها وعالجها مدة فلم يفد علاجها فكان ذلك سبباً لعزله عن الإفتاء وأمر بالإقامة ببستانه المعروف به ببشكطاش وأقام ثمة معزولاً إلى أن مات وكانت وفاته في سنة ثمان وثمانين وألف ودفن بأسكدار في مكان عينه في وصيته وأوصى أن يعمر عنده مدرسة فنفذ ابنه وصيته بعد موته وقيل في تاريخ موته رحمه الله تعالى
فرحمة ربنا أرخ ... تؤم الحبر منقاري(3/229)
يحيى بن عيسى الكركي من كرك الشويك ويقال السلطي الملحد الزنديق كان رجلاً أسود خفيف العارضين قيل إنه سافر إلى مصر في طلب العلم وكأنه عاشر بعض الملاحدة فغلبت عليه اعتقادات فاسدة وبث فيها شيئاً من اعتقاداته حتى ضرب ثمة ثم انتقل إلى الكرك وأخذ يسعى على ترويج أمره فكان يكتب أوراقاً مشحونة بألفاظ الكفر ويرسلها من الكرك إلى عجلون وكان بعجلون رجل من فقهاء الشافعية يقال له عبد الله بن المدله فلما شاهد ما كتبه يحيى المذكور استشاط وثار وأخذته الغيرة الدينية فأرسل إليه من جانب حاكم البلاد الأمير حمدان ابن الأمير فارس بن ساعد الغزاوي فلما وصل إلى عجلون ادعى عليه الشيخ عبد الله المذكور فأدبه القاضي بضرب خمسمائة سوط على رجليه وعلى بدنه ورجع إلى مقره في بلاد الكرك فأخذ أهل الكرك يشنعون عليه ويقولون له لولا إلحادك ما ضربك القاضي فإن كنت تريد إغماض العين عنك وترك التعرض لك فاذهب إلى دمشق واستكتب علماءها على كلامك هذا بأنه من قواعد أهل الإيمان وكان قبل ذلك يراسل الشيخ شمس الدين الميداني من علماء دمشق بالثناء عليه ثم بث اعتقاداته القبيحة ويقول له أريد أن تكون نصيري ووزيري حتى أظهر الدين وكان الميداني يكتم تلك الرسائل ويقول لعله مجنون أو جاهل ثم دخل دمشق وسكن القبة الطويلة بمحلة القبيبات واجتمع بعوام هوام لا يفرقون بين الصحيح والمعتل ولا يميزون بين المنتظم والمختل وشرع يكتب أوراقاً مشتملة على عبارات فاسدة التركيب مختلة المعنى والترتيب لا لفظ لها ولا معنى ولا ساكن في حيها ولا مغنى وربما تشتمل الصحيفة مما يكتبه على مكفرات عديدة وموجبات للردة جارية عن فكرة ليست بسديدة وخاض في ذلك حتى غرق في بحر الضلالة وجعل الشيطان كفره له حباله فمن جملة ما كتب والعياذ بالله تعالى أنه صعد إلى العرش وأنه شاهد الله تعالى وشاهد فوقه الله أعظم ثم شاهد تحته الله غيرهما فصرح بالإشراك والعياذ بالله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وكتب إن الخضر عليه السلام أخطأ في خرق السفينة وإن الذي اعترض عليه أجهل منه وحمل عنه بعض الطلبة رسالة من رسالاته فيها كثير من ضلالاته وهو غير منكر عليه فيها بل أتى بها إلى الشهاب العيثاوي يقرظها ويزكيها وكان الكركي قبل ذلك بيوم وهو يوم الجمعة رابع ذي القعدة سنة ثماتن عشرة وألف قد حضر إلى الجامع الأموي وعقد مجلساً اجتمع عليه فيه كثير بث فيهم ضلالاته فحمل إلى قاضي القضاة السيد محمد ابن السيد برهان الدين فأمر بوضعه في البيمارستان ثم ذهب الشمس الميداني في اليوم الثاني إلى قاضي القضاة المذكور وعرض عليه رسالة كان بعثها الكركي إليه من عجلون مشتملة على الحط من مقام النبي صلى الله عليه وسلم وعلى لعن الشيخ تقي الدين الحصني وشتم العلماء ودعاوى فاسدة واعتقادات مكفرة فدعا قاضي القضاة الكركي إليه ليلاً وسأله عن الرسالة فاعترف بها وأنها بخطه وذكر أنه تكلم بذلك في وقت الغيبة وفي أثناء ذلك وصلت الرسالة الأخرى إلى العيثاوي وهي بخطه أيضاً في ستة أو سبعة كراريس وكانت مشتملة على الطعن في الدين وأهله وعلى إنكار وجود الصانع جل وعلا وفعله بل على سب رب العالمين وتجهيل الأنبياء والمرسلين صلاة الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين والحط من مقامات العلاء والانحراف عن طريقة الحكماء تارة يدعي فيها الحلول والاتحاد وتارة يعتقد حل ما في أيدي العباد وتارة يعتقد التناسخ والانتقال وتارة يصف بالعجز والحيرة الكبير المتعال وتارة يشتم أول الأمة وتارة ينكر الفضل والرحمة وهو مع ذلك داعية ضلالة ودجال يأمر بالجهالة والعوام اتباع كل دجال لا يفرقون بين هداة وضلال فثار العلماء بدمشق لذلك وتحزبوا واجتمعوا لإزالة هذا الخبيث وانتدبوا ثم ذهب منهم أولاً إلى القاضي الشهاب العيثاوي والشمس الميداني والحسن البوريني والنجم الغزي والقاضي تاج الدين التاجي فبادر القاضي للخروج إليهم وقال لهم والله لقد أزلتم عني كربة بت فيها وشبهة قامت عندي أسأت بها الظن في علماء هذه البلدة فإني تأملت كفريات هذا الملعون وإعلانه بها وقد قبضت عليه واستودعته البيمارستان دون السجن خوفاً من أن تغلب علينا العامة وتستخرجه خصوصاً وقد بلغني أن بعض أكابر الجند وأشقاهم يعتقده وقلت في نفسي سبحان الله أكون في مدينة دمشق وتقع لي هذه الحادثة ولا أجد فيها(3/230)
من يساعدني على إنكارها ويعضدني في دفع ضلالة هذا الخبيث وأنتم الآن بحضوركم قد أزلتم عني هذا العبىء الذي أثقلني والشبهة التي أساءت في العلماء اعتقادي ثم حضر بقية علماء البلدة منهم مفتي الشام عبد الله النجاري والخطيب يحيى البهنسي ومفتي الحنابلة الشهاب أحمد الوفائي والشيخ محمد بن الغزال رئيس الأطباء والشيخ محمد الحزرمي والشيخ حليمي مدرس الجقمقية في آخرين فلما تكامل المجلس أمر بالضال فأحضر في الأغلال وقام الشيخ الميداني إليه وبادر فادعى عليه فاعترف بما ادعى به ولم ينكر سبباً من أسبابه فاتفق أهل المجلس على إكفاره وحكم القاضي بإراقة دمه بعد تحقق إصراره وكتب سجلاً بمحضر من العلماء وجم غفير من الناس وارسل ما كتب إلى الوزير الحافظ ليأمر بقتله حذراً من الفتنة والبأس فوقع الوزير بقتله وأشار بتطويفه كما يفعل بمثله وحضر عند القاضي أعوان الوالي وأاردوا تشهيره في البلد فأشار بعض العقلاء بأنه ربما تظاهر بعض العوام بتخليصه فيقع الخصام واللدد فالأولى أن يهرق دمه عند مجلس الشرع الشريف ليظهر بذلك أن سيف الشريعة طائل الوقع لأهل الضلال والتحريف فضربت عنقه بفناء المحكمة وأطفئت نار ضلالته المظلمة وكان ذلك يوم الثلاثا الثامن من ذي القعدة سنة ثمان عشرة بعد الألف وطمس على قبره على حافة نهر قليط في حدود مقبرة باب الصغير وقال النجم الغزي مؤرخاً لمهلكه يساعدني على إنكارها ويعضدني في دفع ضلالة هذا الخبيث وأنتم الآن بحضوركم قد أزلتم عني هذا العبىء الذي أثقلني والشبهة التي أساءت في العلماء اعتقادي ثم حضر بقية علماء البلدة منهم مفتي الشام عبد الله النجاري والخطيب يحيى البهنسي ومفتي الحنابلة الشهاب أحمد الوفائي والشيخ محمد بن الغزال رئيس الأطباء والشيخ محمد الحزرمي والشيخ حليمي مدرس الجقمقية في آخرين فلما تكامل المجلس أمر بالضال فأحضر في الأغلال وقام الشيخ الميداني إليه وبادر فادعى عليه فاعترف بما ادعى به ولم ينكر سبباً من أسبابه فاتفق أهل المجلس على إكفاره وحكم القاضي بإراقة دمه بعد تحقق إصراره وكتب سجلاً بمحضر من العلماء وجم غفير من الناس وارسل ما كتب إلى الوزير الحافظ ليأمر بقتله حذراً من الفتنة والبأس فوقع الوزير بقتله وأشار بتطويفه كما يفعل بمثله وحضر عند القاضي أعوان الوالي وأاردوا تشهيره في البلد فأشار بعض العقلاء بأنه ربما تظاهر بعض العوام بتخليصه فيقع الخصام واللدد فالأولى أن يهرق دمه عند مجلس الشرع الشريف ليظهر بذلك أن سيف الشريعة طائل الوقع لأهل الضلال والتحريف فضربت عنقه بفناء المحكمة وأطفئت نار ضلالته المظلمة وكان ذلك يوم الثلاثا الثامن من ذي القعدة سنة ثمان عشرة بعد الألف وطمس على قبره على حافة نهر قليط في حدود مقبرة باب الصغير وقال النجم الغزي مؤرخاً لمهلكه
لقد لقي الشقي يحيى الكركي مهلكاً ... جاء دمشق ليضل أهلها فأهلكا
فقلت في تاريخ قطعك عنق يحيى مشركا
وقال الشيخ عبد اللطيف بن يحيى المنقاري
ولما أن طغى الزنديق يحيى ... بدعوى أنه الرب اللطيف
أتى في قتله تاريخ صحب ... دم الدجال أهدره الشريف
يحيى بن محمد بن محمد بن أحمد الأصيلي المصري الأديب الشاعر المشهور ذكره الخفاجي في كتابيه وأثنى عليه كثيراً ورايت له ترجمة في مجموع الأخ الفاضل الشيخ مصطفى بن فتح الله ولست أدري لمن هي قال فيها شاعر ناط شعره بالشعرى وقلد جيد الدهر داراً فسماه شعرا مع رقة طبع وخفة روح ودماثة أخلاق توسى بها الجروح ومجون يسلب الحكيم ثوب وقاره وينسى الخليع كأس عقاره وتعلق بفنون الألحان يدير بها من سلاف الطرب ما يهزأ بسلاف الحان يهزأ اتساق نظامه بالعقد الثمين وتتلو ألسن سامعيه إن هذا إلا سحر مبين كم فصل ببيانه من الأدب مجملا
ألذ من السلوى وأطيب نفحة ... من المسك مفتوناً وأيسر محملا(3/231)
ولم يزل موفور الجاه بالديار المصرية لاسيما عند المشايخ البكرية حتى قصد الحج لأداء الفرض وطوى لمشاهدة تلك المشاهد مهامه الأرض فلما قضى مناسكه وتفثه ولم من وعثاء السفر شعثه طافت به المنية طوافه بتلك البنيه فانتقل من جوار بيت الله وحرمه إلى مقر رحمته وكرمه ولد بدمياط وبها نشأ ثم هاجر إلى مصر فتخرج بالنور العسيلي حتى حلا في ذوقه شهد آدابه وتزينت حقاق أفكاره بفرائد خطابه وكان يتغنى بالقرآن ويقرط بصوته الحسن الآذان وكان فرداً في فنون الغناء والطرب فإذا ترنم أسكر في مجالس الأنس ابنة العنب فيميت الهموم ويبعث الأبدان فتخاله نسيم الصبا والناس أغصان وله شعر يروق السامع والناظر ويحسد أزهاره الروض الناضر فمنه قوله
لي في المحبة عن ملام العاذل ... بجمال من أهواه أشغل شاغل
أغرت عيوني بالسهاد وإنما ... دمعي الذي أضحى بوصف السائل
إن غردت قمري الحمائم جددت ... شوقاً أهاج من الغرام بلابلي
بأبي غزال أرض نجد داره ... لكن لواحظه عزين لبابل
لدن المعاطف رق مرشف ثغره ... فاعجب له من ذابل في ذابل
ولحاظه حفت بأصداغ فيا ... لله من سيف سطا بحمائل
تتطاول الأغصان تحكي قده ... وإلى التناهي مرجع المتطاول
أعيا الفصيح بنبت عارضه فقل ... قس الفصاحة من أسارى باقل
وله فيمن اسمها شمس الضحى مورياً
لما وفت شمس الضحى ... لي موعدي وشفت غليلي
شاهدت أي عجيبة ... شمس الضحى عند الأصيلي
وله في عرب العشير وأجاد في التورية
عن العشير ابعد وكن سالماً ... وكن فتى بالبعد عنهم مشير
عاشرت منهم واحداً خانني ... عهدي وميثاقي فبئس العشير
وله في مليح يعرف بالمنهلي
يناديك حب المنهلي إذا بدا ... تنقل فلذات الهوى في التنقل
وقالت لنا أصحابه دع مقاله ... ورد كل صاف لا تقف عند منهل
وفي تذكرته قال كنا بخدمة الأستاذ محمد البكري قدس سره بمنزله ببولاق أنا وجماعة من فقرائه وذوي ولائه فأرسل لكل واحد حصة من الرمان وكنت قد ظهرت من المنزل لقضاء الحاجة فلما حضرت أخبرت بذلك فكتبت إليه
مولاي يا أكرم الأنام ومن ... بحار جدوى نداه منصبه
قد جاء رمانك الورى جملاً ... والعبد ما جاءه ولا حبه
فأرسل منه جملة وافرة وكتب مجيباً
نأمر بالقلب واللسان بما ... يفيض منه غيث العطا صبه
فليس هذا الفقير يعرف من ... أتباعه مثلكم غدا صيه
فاعذر ولا عتب في الحساب على ... مخطىء محبوبه ولا حبه
فانظر إلى قوله نأمر بالقلب فإنه رمان ثم قال لي احتفظ بهذه الوقعة فإن لك فيها غاية الرفعة وهي تشهد باعترافي بأني لا أعرف أحداً من أتباعي يحبني كمحبتك ويودني كمودتك وقال أيضاً كنت أنا وشيخنا العلامة نور الدين العسيلي جالسين عنده وقد ذكر في المجلس جماعة من أفاضل الدهر وأدباء العصر توفوا في مدة قريبة كالعلامة الفارضي والشهاب السيفي والبرهان البلط وخلائق لا يحصون فأنشد بديهة
أقول وقد قيل لي كم مضى ... أديب له حسن نظم جليل
دعوا كل ذي أدب ينقضي ... ويحيى العسيلي ويحيى الأصيلي
ومن شعره ما كتبه مقرظاً على نظم في العربية لبعض الفضلاء سماه الإشارات فقال فيه
إن الإشارات للعلم العزيز حوت ... وحازت الرفع مثل المفرد العلم
وإن تقل مادحاً في نعتها كلما ... ففي الإشارات ما يغني عن الكلم
وقال اقترح علي مولانا الشيخ شهاب الدين أحمد السيفي المالكي أن أنظم بيتين من بحر المديد عندما وصلت في القراءة عليه إلى هذا الموضع من ابن الحاجب وشرحها لابن واصل فقال
وجنة المحبوب ذات احمرار ... من لظى القلب استعار استعارا
فلهذا صار قلبي كليماً ... حيث من خديه آنست نارا
وقال في كتاب إلى الشريف حسن بن أبي نمى
أيد الله تعالى سيداً ... كاملاً في سره والعلن(3/232)
بدر فضل أشرقت أنواره ... من ذرى الشام لأقصى اليمن
من حوى رق المزايا والعلى ... وشرى المجد بأغلى ثمن
مجده من ذاته من أصله ... حسن في حسن في حسن
وقال من قصيدة يمدح بها الأستاذ محمد البكري
ألا إن لي يا آل صديق أحمد ... لشمس هدى منكم به الكرب ينجلي
فلي منه أستاذ ولي منه مرشد ... ولي منه قطب ذو اتصال ولي ولي
هذا نوع من البديع سماه ابن الوردي إيهام التأكيد وزعم أنه ابتدعه ومثله قول ابن مكناس
نعم نعم محضتهم ... صدق الولا تطولا
وما رعوا عهداً ولا ... مودة ولا ولا
وقوله
أتيت جنينة أستاذنا ... وقد جمعت كل معنى كمل
بها أي ورد وآس به ... تفرق شمل عداه وفل
الفل نوع من الياسمين بلغة أهل اليمن ذكي الرائحة ولم يذكره أهل اللغة ولعله مولد وسماه ابن البيطار في مفرداته النمارق وكتب إلى محمد الصالحي يستأذنه في الدخول عليه لأنه كان شديد التوحش
على الباب من كاد من شوقه ... يموت وذلك يحيى الأصيلي
أتى يتغنى بأوصافكم ... فهل تأذنون له في الدخول
فأجابه
لمولاي يحيى رقيق الطباع ... ولطف السماع وحسن القبول
أمولاي هل خارج صوتكم ... لتحتاج للإذن وقت الدخول
وهذا كقول الجزار حيث قال
أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعلمته في خمولي
أتيت لبابك أرجو الغنا ... فأخرجني الضرب عند الدخول
الدخول عند المولدين حسن الصوت الجاري على قانون الموسيقى وضده الخروج والضرب النقرات المسماة بالأصول وبهذا يتضح حسن الإيهام في الشعر المذكور وله أيضاً
قيل لي إن فلاناً ... قد تعالى وتكبر
ولمن قد ساء رأس ... قلت لا بل رأس منسر
وقوله
مذ بان من أهوى همت ... عيني بماء منهمر
فقلت للقلب إذا ... لم تلف صبراً فاستعر
وقوله
رب قاض قبل ... الرشوة لما أن تملك
قال للظالم إني ... سأنجيك وأهلك
وله
رسالة من لطفها أشبهت ... ريح الصبا مرت بزهر الربا
ولم يزل ما بين أهل الهوى ... رسائل العشاق ريح الصبا
وقوله
وبي عروضي إذا ... أبصره البدر احتجب
أعطافه لصبه ... فاصل بلا سبب
وله
يا ذا العروضي الذي ... أضحى بسيط الحسن كامل
وعن ابن قطاع روى ... هلا رويت عن ابن واصل
وقوله
من منصفي من شادن ... بيت المظالم بيته
أخفيه خشية بأسه ... وأود لو سميته
ومنه قول السراج الوراق
رزقت بنتاً ليتها لم تكن ... في ليلة كالدهر قضيتها
فقيل ما سميتها قلت لو ... مكنت منها كنت سميتها
قال الخفاجي وخطأه بعض الأدباء أنه إنما يقال من السم سممتها وهو لحن واعتذر عنه بأنه إيهام التورية فالمخطىء مخطىء فيغتفر فيه مثله وأصله سممتها من التفعيل ومثله لتوالي الأفعال فيه يبدل ثالث حرف منه بحرف علة وهي الياء يقال في تقضض البازي تقضي وقد قال بعض النحاة إنه مطرد وكتب لخاله بثغر الاسكندرية يقول
لخالي في الاسكندرية رغبة ... ومن بعده قد حال لي في الهوى حال
فإن يك أضحى ثغرها موطناً له ... فيا حبذا في ذلك الثغر لي خال
وأشعاره كلها من هذا النمط عليها مسحة لحلاوة وكانت وفاته لثلاث خلون من المحرم سنة عشر بعد الألف بمكة كما تقدم والأصيلي نسبة لأصيل الدين أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن عثمان بن أيوب(3/233)
يحيى بن محمد بن القسم الملقب شرف الدين بن شمس الدين المعروف بابن المنقار الدمشقي الفقيه الحنفي كان فقيهاً يستحضر فقه الحنفية أحسن استحضار ويحفظ نقوله وفصوصه وكان عجيب الحال في المسائل التي تقع له فيها الخصومة خصوصاً مع أبيه ثم مع أقاربه وكان مغاضباً لأبيه خارجاً عن طاعته وكان أبوه شديد الغضب منه كثير الحط عليه وكان هو إذا ذكر أباه يذكره بلفظ الشيخ ويذكر بعض مساويه مسكنة وأناة وكان أهل دمشق يرون أنه مسلط عليه قصاصاً عن تشدده على الناس وإطلاق لسانه فيهم وذهب أبوه مرة إلى القاضي بدمشق وسأله أن يحضر ولده ويعزره فأحضره وعزره بين يديه وسافر يحيى بسبب ذلك إلى الروم ورمى نفسه في أمور مهلكة حتى وصل خبره إلى السلطان وعرضت عليه قصته ثم آل أمره إلى أنه استخرج حكماً دفترياً أن براءة أبيه في الجوالي لا قيد لها وأنها مفتعلة وأوصل الحكم إلى دفتري الشام فحصل بينه وبين أبيه فتنة عظيمة ثم لما مات أبوه عاش مع أقاربه عيشة مكدرة وكانت عيشته مع زوجته وهي بنت عمه أشد نكراً وكدراً حتى أبانها من عصمته ودرس بالمدرسة العزية في الشرف الأعلى غربي دمشق وولي النظر على المدرسة المردانية وحج مرتين الثانية منهما في سنة ثمان عشرة بعد الألف ورجع مستضعفاً ثم لم يزل على ذلك والناس يسلمون عليه وهو يقوم ويقعد ويظهر التجلد والقوة إلى أن مات يوم الأربعاء ثالث شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة وألف ودفن من الغد في المدرسة المردانية بوصية منه يحيى بن محمد بن نعمان بن محمد بن محمد الإيجي الدمشقي قاضي القضاة الفاضل الشريف الحسيب كان من فضلاء زمانه أديباً مطبوعاً لطيف الطبع خلوقاً اشتغل بدمشق على والده وغيره من الأفاضل ثم رحل إلى قسطنطينية في أيام شبابه وقطن بها ولازم ودرس وأحبه صدورها وأقبلوا عليه لما فيه من الأهلية حتى تزوج بابنة شيخ الإسلام أسعد بن سعد الدين وسما حظه ولم يزل ينتقل في المدارس إلى أن وصل إلى السليمانية ثم ولي قضاء القدس وقدم إلى دمشق ونال إقبالاً من علمائها وصدورها الدماثة أخلاقه واعتنوا به كثيراً ومدحوه ومن مادحيه الأمير المنجكي حيث يقول فيه
من ترى يملك وصفاً لامرىء ... قلد المنة أعناق السماح
ذاك يحيى من به يحيا العلى ... ولناديه غدوي ورواحي
حامل نشر ثنائي في الورى ... عنبر الليل وكافور الصباح
ثم نقل من قضاء القدس إلى قضاء مكة ورجع منها وتوجه إلى الروم فأدركه أجله إثر وصوله وكانت وفاته سنة ست وستين وألف رحمه الله تعالى(3/234)
يحيى بن الفقيه الصالح محمد بن محمد بن عبد الله بن عيسى أبو زكريا النايلي الشاوي الملباني الجزائري المالكي شيخنا الأستاذ الذي ختمت بعصره أعصر الأعلام وأصبحت عوارفه كالأطواق في أجياد الليالي والأيام المقرر براهين التطبيق بتوحيده فلا تمانع فيه إلا من معاند علم مرجعه عن الحق ومحيده آية الله تعالى الباهرة في التفسير والمعجزة الظاهرة في التقرير والتحرير من روى حديث الفخار مرسلاً ونقل خبر الفخار مرتلاً وهو في الفقه إمامه ومن فمه تؤخذ أحكامه وأما الأصول فهو فرع من علومه والمنطق مقدمة من مقدمات مفهومه وإن أردت النحو فلا كلام فيه لأحد سواه وإن اقترحت المعاني والبيان فهماً انموذج مزاياه إذا استخدم القلم أبدى سحر العقول وإن جرت الحروف على وفق لسانه وفق بين المعقول والمنقول وإذا ناظر عطل من مجاريه مجاري الأنفاس واستنبط من بيان منطقه علم الجدل والقياس وبالجملة فتقصر همم الأفكار عن بلوغ أدنى فضائله وتعجز سوابق البيان عن الوصول إلى أوائل فواضله ولد بمدينة ملبانة ونشأ بمدينة الجزائر من أرض المغرب وقرأ بها وبملبانة بلده على شيوخ أجلاء صالحين منهم العلامة المحقق سيدي الشيخ محمد بن محمد بهلول والشيخ سعيد مفتي الجزائر والشيخ علي بن عبد الواحد الأنصاري والشيخ مهدي وغيرهم وروى عنهم الحديث والفقه وغيرهما من العلوم وأجازه شيوخه وتصدر للإفادة ببلده وكانت حافظته مما يقضى منها بالعجب وقدم مصر في سنة أربع وسبعين وألف قاصداً الحج فلما قضى حجه رجع إلى القاهرة واجتمع به فضلاؤها وأخذوا عنه وروى هو عن علمائها كالشيخ سلطان والشمس البابلي والنور الشبراملسي وأجازوه بمروياتهم ثم تصدر للإقراء بالأزهر واشتهر بالفضل وحظي عند أكابر الدولة واستمر على القراءة مدة قرأ فيها مختصر خليل وشرح الألفية للمرادي وعقائد السنوسي وشروحها وشرح الجمل للخونجي لابن عرفة في المنطق ثم رحل إلى الروم فمر في طريقه على دمشق وعقد بجامع بني أمية مجلساً اجتمع فيه علماؤها وشهدوا له بالفضل التام وتلقوه بما يجب له ومدحه شعراؤها واستجاز منه نبلاؤها ثم توجه إلى الروم فاجتمع به أكابر الموالي وبالغ في إكرامه شيخ الإسلام يحيى المنقاري والصدر الأعظم الفاضل وحضر الدرس الذي تجتمع فيه العلماء للبحث بحضرة السلطان فبحث معهم واشتهر بالعلم ثم رجع إلى مصر مجللاً معظماً مهاباً موقراً وقد ولي بها تدريس الأشرفية والسليمانية والصرغتمشية وغيرها وأقام بمصر مدة ثم رجع إلى الروم فأنزله مصطفى باشا مصاحب السلطان في داره وكنت الفقير إذ ذاك بالروم فالتمست منه القراءة فأذن فشرعت أنا وجماعة من بلدتنا دمشق وغيرها منهم الأخ الفاضل أبو الإسعاد بن الشيخ أيوب والشيخ زين الدين البصري والشيخ عبد الرحمن المجلد والسيد أبو المواهب سبط العرضي الحلبي في القراءة عليه فقرأنا تفسير سورة الفاتحة من البيضاوي مع حاشية العصام ومختصر المعاني مع حاشية الحفيد والخطائي والألفية وبعض شرح الدواني على العقائد العضدية وأجازنا جميعاً بإجازة نظمها لنا وكان ما كتبه لي هذا الحمد لله الحميد والصلاة والسلام على الطاهر المجيد وعلى آله أهل التمجيد
أجزت الإمام اللوذعي المعبرا ... أميناً أمين الدين روحاً مصورا
سليل محب الدين بيت هداية ... وبيت منار العلم قدماً تقررا
بإقرائه متن البخاري الذي به ... تقاصر عنه من عداه وقصرا
موطا شفاء والشفاء لمسلم ... إذا مسلماً تقريه حقاً تصدرا
وباقي رجال النقل حقاً مبيناً ... وتفسير قول الله في الكل قررا
أجزت المسمى البدر في الشرع كله ... كما صح لي فاترك مراه تكدرا
وعلم كلام خالي عن أكاذب الفلاسفة ... الضلال والعدل نكرا
أقول لكل فلسفي يدينه ... ألا لعنة الرحمن تعلو مزورا
أجبريل فلك عاشر يا عداتنا ... أعادى شرع الله نلتم تحيرا
بأي طريق قلتم عشر عشرة ... ونفى صفات والقديم تحجرا
حكمتم على الرحمن حجراً محجراً ... ومنعكم خلق الحوادث دمرا(3/235)
أبرى الحبيب اللوذعي عن الردى ... مجازاً بدين الشرع كلاً محررا
ولكن عليه النصح والجد والتقى ... وإن ناله أمر القضاء تصبرا
حماه إله العرش من كل فتنة ... ونجاه من أسواء سوء تسترا
وصل وسلم بكرة وعشية ... على من به أحيا القلوب تحيرا
ثم رجع إلى مصر وصرف أوقاته إلى الإفادة والتأليف وله مؤلفات عديدة في الفقه وغيره منها حاشية على شرح أم البراهين للسنوسي نحو عشرين كراساً ونظم لامية في إعراب الجلالة جمع فيها أقاويل النحويين وشرحها شرحاً حسناً أحسن فيه كل الإحسان وله مؤلف صغير في أصول النحو جعله على أسلوب الاقتراح للسيوطي أتى فيه بكل غريبة وجعله باسم السلطان محمد وقرظ له عليه علماء الروم منهم العلامة المنقاري قال فيه لا يخفى على الناقد البصير إن هذا التحرير كنسج الحرير ما نسج على منواله في هذه العصور تنشرح بمطالعته الصدور وله شرح التسهيل لابن مالك وحاشية على شرح المرادي وكان له قوة في البحث وسرعة الاستحضار للمسائل الغريبة وبداهة الجواب لما يسئل عنه من غير تكلف ومحاضرة بديعة وسافر في آخر أمره إلى الحج بحراً فمات وهو في السفينة في يوم الثلاثا عشري شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وألف وأراد الملاحون إلقاءه في البحر لبعد البر عنهم فقامت ريح شديدة قطعت شراع السفينة فقصدوا البر وأرسوا بمكان يقال له رأس أبي محمد فدفنوه به ثم نقله ولده الشيخ عيسى بعد بلوغه خبره إلى مصر ودفنه بها بالقرافة الكبرى بتربة السادة المالكية ووصل إلى مصر ولم يتغير جسده واتفق أنه لما أرسل ولده بعض العرب ليكشف له عنه القبر ويأتوا به إليه تاهوا عن قبره فإذا هم برجل يقول لهم ما تريدون فقالوا قبر الشيخ يحيى فأراهم إياه فكشفوا عنه فوجدوده بحاله لم يتغير منه شيء فوضعوه في تابوت وأتوا به إلى مصر فدفنوه بتربة المالكية التي كان جددها ورممها ولم يلبث بعده ولده الشيخ عيسى إلا نحو ستة أشهر فمات فدفنوه على أبيه ووجدوه على حاله لم يتغير منه شيء رحمهما الله تعالى يحيى بن مهدي المنسكي اليمني الشاب الأديب الكامل الأريب ولد بالدهنا من أرض صبيا من بلاد اليمن ونشأ وجد فوجد وتعانى النظم والنثر فأجاد فيهما وكان بينه وبين صاحبنا الشيخ مصطفى بن فتح الله مكاتبات منها ما كتبه له يستدعي تاريخاً في أبيات منها قوله
ربما لا يفوت صادقة ... الرأي بأن الضياء سر الهلال
وارى البحر عنده الجوهر ... الشفاف لكنه يريد منه اللآلي
فأجابه الشيخ مصطفى وكان إذ ذاك متوجهاً إلى مكة من جدة في غرة شهر رمضان بقوله رحمه الله
يا ابن مهدي يا كريم الخصال ... وأخا الفضل والنهى والكمال
قد أتاني بديع لفظ شهي ... صار قلبي من بعده في اشتعال
وذكرت الهوى وعهد انقضى ... بعد أن لم يكن يمر ببالي
وطلبتم من المحب كتاباً ... بفنون التاريخ قد صار حالي
فلك العذر يا ابن ودي فإني ... لذرى مكة أشد رحالي
وإذا عدت جدة بعد عيد ... ستراه دانت إليك المعالي
وأبق واسلم في ظل عيش ظليل ... ما تغنى الحمام في الأطلال
وكانت ولادته في سنة ستين وألف وتوفي في رابع عشر المحرم سنة ثلاث وتسعين وألف بمكة ودفن بمقبرة الشبيكة السيد يحيى الحسني صاحب القدم الراسخة في العبادة وكان من أهل الفتوة والحال صاحب جد واجتهاد اجتمع بأكابر القوم كالمرصفي وأضرابه وكان دائم الطهارة والذكر وكانت ذاته تشهد له بالولاية وأنه من أولي العناية وأخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة كثيراً بالجملة فهو من مشاهير الأولياء وكانت وفاته في سنة خمس عشرة بعد الألف ودفن بالصحراء(3/236)
يحيى الشهير بإمام الكاملية المصري الشافعي كان بارعاً في العلوم العقلية علامة في الأصول والنحو ذو لفظ فصيح وذهن صحيح اشتغل بالعلوم وجد واجتهد فحصل وبرع ومن شيوخه العلامة الناصر اللقاني والشيخ الإمام الشهاب الرملي وولده الشمس وغيرهم وله تعاليق مفيدة منها شرح على ورقات إمام الحرمين في أصول الفقه وكانت وفاته بمصر يوم السبت ثاني عشر جمادى الأولى سنة خمس عشرة بعد الألف عن نحو تسعين سنة فما فوقها رحمه الله تعالى السيد يحيى الشهير بالصادقي الحلبي الأديب اللطيف ذكره البديعي فقال في وصفه وهو مع شرف الأصل جامع بين أدوات الفضل صافي ورد الأخوة ضافي برد الفتوة مطبوع على التواضع والكرم معروف بحسن الأخلاق والشيم وكلامه ليس به عثار ولا عليه غبار كما قيل فيه
وإن أخذ القرطاس خلت يمينه ... تفتق نوراً أو تنظم جوهرا
وهو الآن في الشهباء فارس ميدانها فضلاً وناظر إنسانها نبلاً ثم قال وأذكر ليلة من الليالي خيلت لحسنها ليلة القدر رقد عنها الدهر إلى أن انتبه الفجر في منزل حف بأمراء النظم والنثر منهم بدر ترمقه المقل فتجرح منه مواقع القبل أفرغ في قالب الجمال ولم يوصف بغير الكمال واتفق أنه بدد ناراً هنالك بغير اختياره فقال الصادقي
ضمنا مجلس لتاج الموالي ... عالم العصر بكر هذا الزمان
غرة الدهر أحمد ذو الأيادي ... وابن خير الأنام من عدنان
بفريد الحسان خلقاً وخلقاً ... عندليب الإخوان نور المكان
فانثنى كالقضيب تفديه نفسي ... عابثاً بالسياط والمجان
فاصاب الكانون سوط فطار ... الجمر من وقعه على الإخوان
فسالنا ماذا فقال نثار الحب ... جمر لا بدرة من جمان
واعتراه الحيا فأخمدها من ... غير بؤس بساعد وبنان
ففرقنا عليه منها فنادى ... وكذا النور محمد النيران
وقال فيه أيضاً
لاموا الذي حاز لطفاً ... وبهجة وجلاله
إذ بدد النار عمداً ... ليلاً وأبدى الخجاله
وصاغ في البسط شهباً ... إذ كان بدراً بهاله
وكفل الطفي يمناه ... تارة وشماله
كذلك الشمس تدني ... لكل نجم زواله
فقلت لا تعذلوه ... دعوه يوضح حاله
بأنه بدر تم ... حيناً وحيناً غزاله
وقال
أنشدت من أهوى وقد أخذ الهوى ... بمجامعي واستحوذ استحواذا
كبدي سلبت صحيحة فامنن على ... رمقي بها ممنونة أفلاذا
فأشار للكانون فانثالت ... على الجلاس جمراً وابلاً ورذاذا
وبدا يكفكفه حيا ويقول لي ... من كان ذا لب أيطلب هذا
فقال السيد أحمد النقيب
قد قلت إذ عثر الذي ألحاظه ... فعلت بنا فعل الشمول مشعشعه
في مجلس بالنار فانتشرت على ... بسطي فكلله الحياء وبرقعه
وأكب يرفع غيها بأكفه ... مستعظماً ذاك الصنيع وموقعه
جمرات حبك لو علمت بفعلها ... في القلب ما استعظمت حرق الأمتعه
وقال فيه أيضاً
لا تحسب النار التي ما بيننا ... نثرت من الكانون كان شتاتها
بل إنما ذاك الذي ألحاظه ... سلبت عقول أولي النهى فتراتها
لما رأى عشاقه تخفي الهوى ... ولهيب نار رأيه زفراتها
وأراد يفضحها أشار بكفه ... لقلوبها فتناثرت جمراتها
وقال فيه أيضاً الشيخ عبد القادر الحموي
إن الذي أخجل شمس الضحى ... في منزل المولى الرفيع العماد
بدد ناراً كان للاصطلا ... فانبث كالياقوت بسين الأياد
فانصاغ يزوي الجمر في أنمل ... كالخزان حاولت منها انعقاد
وقال إذ رامت بتأجيجها ... تحكي سنا خدي ومنك الفؤاد
نثرتها عمداً على بسط من ... أروى نداه كل غاد وصاد
وولاه بعض قضاة حلب نيابة محكمة السيد خان بها فكتب إليه(3/237)
أصبحت مع الشمس ببرج الميزان ... إذ أنزلني الهمام بالسيد خان
لكن وعلاك كل من ناب يخن ... والعبد يعاف كلمة السيد خان
يس بن زين الدين بن أبي بكر بن محمد بن الشيخ عليم الحمصي الشافعي الشهير بالعليمي نزيل مصر الإمام البليغ شيخ العربية وقدوة أرباب المعاني والبيان المشار إليه بالبنان في محفل التبيان مولده بحمص ورحل مع والده إلى مصر ونشأ بها وقرأ في أوائله على الشيخ منصور السطوحي ثم على الشهاب الغنيمي ولازمه في العلوم العقلية وأخذ الفقه عن الشمس الشوبري وكان ذكياً حسن الفهم وبرع في العلوم العقلية وشارك في الأصول والفقه وتصدر في الأزهر لإقراء العلوم ولازمه أعيان أفاضل عصره وحظي كثيراً وشاع ذكره وبعد صيته وكان مطبوعاً على الحلم والتواضع وله مال جزيل وإنعام كثير على طلبة العلم وكلمة مسموعة ألف كتباً مفيدة منها حاشية على المطول وحاشية على المختصر وحاشية على شرح التوضيح وحاشية على شرح القطر للفاكهي وحاشية على شرح التهذيب للخبيصي وحاشية على شرح ألفية ابن مالك وغير ذلك من الرسائل النافعة وله شعر كثير أكثلره جيد فمنه قوله
في لحظه سحر فلم أر صارماً ... في غمده يفري سواه فمن أرى
عجباً لغصن البان من أعطافه ... فوق الكثيب لبدر تم أثمرا
قد صام عن وصل زكاة جماله ... قرياً فقير القلب رام ففطرا
صبرت عنه القلب فهو بهجره ... ميت عسى يرثي لميت صبرا
وحديث دمعي مرسل لما غدا ... منه الصدود مسلسلاً يا ما جرى
فالرأس مشتعل بشيب صدوده ... والعظم أضحى واهياً وقد انبرى
والقلب من موسى لحاظ قد غدى ... مرضى كليماً وهو لن يتغيرا
إن رام مرأى من بديع جماله ... جعل الجواب له وحقي لن ترى
واللحظ مني حين أبصر خده ... فيه الربيع جرى عليه جعفرا
يا ذا الذي قد زار طيف خياله ... وأتى بخيلاً ما تأهل للقرى
بالطيف قد منيت لكن بالأذى ... أتبعته فسلبت عن عيني الكرا
ما زار إلا كي يعاتبني على ... نومي فينفيه ويجنح للسرى
ولرب ليل طال حتى أنني ... قد قلت لو كان الصباح لأسفرا
لكنن ذكرت بطوله وسواده ... شعر الحسان فطاب لي أن أسهرا
واستمر ملازماً للتدريس والإفادة منعكفاً على تحصيل العلم ملازماً للعبادة ممتعاً بحواسه نافعاً بأنفاسه وكان مغرماً بالطيب وإذا دخل الجامع الأزهر يشم من بصدره رائحة المسك والعنبر والغالية فيعلم أهل الجامع بقدومه وكانت وفاته في نهار الأحد عشري شعبان سنة إحدى وستين وألف رحمه الله تعالى يس بن علي بن أحمد بن أحمد بن محمد الحنبلي الفقيه الفاضل الرحلة رحل إلى مصر لطلب العلم في سنة ثلاث وأربعين وألف ومكث إلى سنة إحدى وخمسين وأخذ عن الشيخ منصور البهوتي الفقه والحديث والنحو وقرأ على الشيخ عامر الشبراوي بشرح ألفية العراقي للقاضي زكريا وأجازه بها وبما يجوز له روايته وكان يفتي على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه ببلاد نابلس وكان ديناً صالحاً تقياً حافظاً لكتاب الله تعالى وكانت وفاته في سنة ثمان وخمسين بعد الألف تقريباً يس بن محمد الخليلي نزيل المدينة المنورة ابن أخي الشيخ غرس الدين الخليلي المقدم ذكره الفاضل المطلع كان متمكناً من علوم كثيرة لاسيما الفقه والحديث أخذ عن عمه المذكور والشمس البابلي وغيرهما وجد واجتهد ودرس بالحرمين وصنف كتباً مفيدة منها شرح على ألفية السيرة لأبي الفضل زين العراقي في مجلدين وشرح رياض الصالحين للنووي لكنه لم يكمل وكانت وفاته يوم السبت ثاني شهر ربيع الثاني سنة ست وثمانين بعد الألف رحمه الله تعالى(3/238)
يس بن مصطفى البقاعي الدمشقي الفقيه الفرضي الحنفي قرأ بدمشق وحصل وضبط وقيد وكتب الكثير بخطه وكان قوي الحافظة في فروع المذهب وكتب الأسئلة المتعلقة بالفتاوى وكان يقعد في الجامع الأموي عند باب البريد وللناس عليه إقبال زائد وولي إمامة مسج بالمحلة الجديدة وسكن هناك وكان عند أهالي تلك المحلة وما يقرب منها هو المفتي حقيقة وكان يباشر لهم جميع ما يقع من أنكحة وخصومات وغيرها ولما ولي قضاء الشام المولى عثمان الكردي نهاه عن تعاطي شيء من ذلك إلا بإذنه فلم ينته فعزره تعزيراً بليغاً ثم كف بعد ذلك عن مخالطة شيء من ذلك إلا نادراً واستبد بكتابة الأسئلة وكانت وفاته في سنة خمس وتسعين وألف رحمه الله تعالى يوسف بن أبي الفتح بن منصور بن عبد الرحمن السقيفي الدمشقي الحنفي إمام السلطان وعلامة الزمان الذي فاق على أهالي عصره وأذعنت له بالفضل علماء دهره ذكره الشهاب الخفاجي في الخبايا فقال في حقه فاضل كامل قدمه الزمان على غيره من الأفاضل لما صار مقتدى دار الخلافة فأضحى كل مجلى ومصلى لا يطيق خلافه فلاحت من بروج الشرف شمس سعادته المشرقة وصحت سماء عزته من غيوم الغموم المطبقة
وانثنى الزمان ينشد فيه ... هكذا تخدم الملوك السعود
فقال مجده طلع الصباح ونادى مؤذن إقباله حي على الفلاح فقامت الأماني خلفه صفوفاً وظلت أرباب الفضائل بسدته عكوفاً حتى غص بذاك ناديه وشرق بماء الحسد معاديه وبحار مكارمه تقذف بدره والمجد عنده حل بمستقره وقال البديعي فيه إمام السلطان الماضي شكر الله مساعيه وإمام السلطان الباقي أدام الله معاليه يريد أنه ولي الإمامة للسلطان عثمان أولاً ثم للسلطان مراد ثانياً فالأول الماضي والثاني الباقي قلت ووليها أيضاً للسلطان إبراهيم فيحتمل أن يكون هو الباقي ثم قال فاضل عرف الدهر قدره فأطلع في فلك النباهة بدره وميزه على أترابه وأقرانه تميز سميه على إخوانه وبلغه الرتبة التي تتقاعس عنها رتبة التمني واعتنى به فأوصلها إليه بغير مشقة التعني وذلك أنه ما شعر إلا وخيل البريد أمامه بأوامر ولي الأمر ليكون إمامه فلما مثل بين يديه بتلك البقعة وكان محاصراً إحدى ممالك شاه تلك الرقعة
تطلع في أعلى المصلى كأنما ... تطلع في محراب داود يوسف
وفي ثالث يوم وصله بلغ السلطان من تلك الممنعة غاية مأموله واعتقد أن ذلك الفتح ببركة قدومه وقارن اعتقاده فيه غزارة علومه فاستخلصه لنفسه واتخذه نديمه أوقات أنسه هذا وله الخط الذي يسحر عقول أولي الألباب حتى كأنه اقتبس نفسه من سواد مقل حسان الكتاب
إذا كتب القرطاس خلت يمينه ... تطرز بالظلماء أردية الشمس(3/239)
والشعر النضر الذي تبدو منه نفثات السحر والنثر العطر الذي تروى عنه نفحات الزهر انتهى قلت ومولده بدمشق وبها نشأ وأخذ عن علماء عصره منهم الحسن البوريني وأكثر انتفاعه به وأخذ طريق الخلوتية عن الشيخ أحمد العسالي وأعطاه الله تعالى ما لم يعطه لأقرانه من الذكاء وحسن الطبع ولطف الشعر وحلاوة المنطق وحسن الصوت وولي في أول أمره خطابة السليمية ثم سافر إلى الروم وأقام بها مدة اشتهر بها أمره وشاع وملا خبر فضله وحسن صوته الأسماع ولم يزل حتى بلغ خبره مسامع السلطان عثمان فاستدعاه إليه وصيره إمامه المقدم في المكانة والمكان وكان في العهد السابق لكل سلطان يلي السلطنة نظارة على جامع بني أمية أظنها أربعين عثمانياً فجعلها السلطان المذكور خطابة ثانية في الجامع المذكور وأحسن بها إليه فلما قتل السلطان عثمان أقلع عن الروم وقدم إلى دمشق وباشر الخطابة المذكورة ووجهت إليه المدرسة السليمية فأقام بدمشق يفتي ويدرس ويخطب إلى سنة اربع وأربعين وألف وكان السلطان مراد في تلك السنة قصد روان فتوفي إمامه في الطريق وطلب إماماً فقيل له إن إمام أخيك السلطان عثمان في دمشق وأنه أحسن إمام يوجد الآن فأرسل إليه فتوجه من دمشق واجتمع بالسلطان مراد بمنزلة خوي وولي الإمامة إلى أن مات ثم وليها لأخيه السلطان إبراهيم وأعطي رتبة قضاء العسكرين وبلغ الرتبة التي ما فوقها مطمح ووقع بينه وبين المولى أحمد بن يوسف المعيد مناظرة في مسائل من فنون كانت الغلبة في جانب صاحب الترجمة وكان له قدرة على المناظرة وله تحريرات وتآليف منها شرح على منظومة جدي القاضي محب الدين فيما سمعت وكتب قطعة صالحة على الشفا للقاضي عياض وكان أقرأه بدمشق أيام عودته وكتب عليه من شعره قوله
حتام نلهو والنفوس رهينة ... في قبضة التمليح والإحماض
وعلام نستحلي مرارات الهوى ... بمساطب وملاعب وغياض
وإلام نسترضي الأنام وكلهم ... غضبان يمشي في ملابس راض
هلا معيناً في خلاص نفوسنا ... من ربقة الأغراض والإعراض
مستمسكين بحبل مدح محمد ... خير البرية ذي الهدى الفياض
وشفيعنا يوم الجزاء بموقف ... رب الخلائق فيه أعدل قاض
يا أيها الجاني الذي عن دائه ... أضحى الطبيب يروح بالإغماض
أتعبت نفسك عج بها فدواؤها ... وشفاء علتها شفاء عياض
فهو الشفاء به صفات المصطفى ... تذكارها يبري من الأمراض
لله ما ضمت سطور طروسه ... من معجزات كالسيوف مواض
وخلائق وشمائل نفحاتها ... تزري بعرف حدائق ورياض
صلى عليه الله ما سرت الصبا ... مختالة في ذيلها الفضفاض
والآل والصحب الكرام مسلماً ... ما دام برق الجو في إيماض
وسقى الإله ثرى عياض كلما ... سقيت منازل للورى وأراضي
ومن شعره قوله أيضاً من قصيدة طويلة مطلعها
سقتك وهناً يا دارها الديم ... وجاد مغناك الوابل الرذم
ولا أغبتك كل غادية ... وطفاء ينهال غبها الأكم
يخلفها فوق جلهتيك من ... الخصب ربيع بالنور مبتسم
حتى نراها تختال في حبر ... دون حلاها ما نمنم الرقم
كم مر لي فيك من بلهنية ... وآنسات الظاء لي خدم
ومن هنات بالرقمتين وفي ... الترب شفاء وفي الصبا سقم
كانت ور يادارين في فمها ... بل أين منها دارين واللطم
وبان أحقافها لنا علم ... واليوم لا بانها ولا العلم
خطفة برق طارت شرارتها ... على فؤادي فكله ضرم
آه لها والوفاء يغدر بي ... وآه ذي الحب في الهوى ذمم
من فلتات قضيتها خلساً ... وسارقتني أيامها القدم
لله أيامنا بذي سلم ... مرت سريعاً كأنها حلم
أيام واليت كل ذي هيف ... كالبدر تنزاح دونه الظلم(3/240)
حيث ثغور الحسان باسمة ... والشمل بالغانيات منتظم
نصلت منه مؤزري ... علم الله بريء والطرف متهم
يا من رأى البرق فوق كاظمة ... يخضب من كف ليله العنم
يبسم للأرض وهي عابسة ... جذوة نار خلالها فحم
قامت فتاة في الحي مقبسة ... ناراً من الربض ما لها ضرم
ضل ابن ليل في الركب يخدعه ... يرشده خلف والهوى أمم
ويلاه مالي إن شمت بارقة ... ظلت زفيري بالنار تضطرم
وإن سرت من سقط اللوى سحراً ... نسيمة هب في الحشا ألم
حتام هذا الجفا وكل هوى ... على صروف الزمان ينصرم
يا بانة الواديين من إضم ... سقيت غيثاً ما أبرقت إضم
إيه ويا برق هات عن نفر ... أين استقرت ظباؤه الجثم
هل عهد لمياء بالعقيق على ... ما كان أم قد أحاله القدم
وهل لليلاتنا على سلمات ... الجزع عود أم صوح السلم
وهل ظباء النقا بوجرة أم ... طارت بهن الوخادة الرسم
يا خاب سعي الوشاة كيف سعوا ... ما بيننا لا مشت بهم قدم
باتوا وفيهم هيفاء مترفة ... الجسم زهاها العفاف والكرم
مصغية الحجل والسوار على ... أن الوشاحين فيهما نغم
قد نشأت والغرام يكنفها ... وأرضعتها في حجرها النعم
ما نطقت بالصفاء مصفقة ... من ماء صدا نميرها الشبم
قد روحتها الجنوب آونة ... وصافحتها العوارض السحم
فبات طل الغمام يزعجها ... بوقعه تارة ويحتشم
تصقلها راحة النسيم ضحى ... وتنتديها تحت الدجى الديم
أبرد من ظلمها على كبدي ... إذا تدانى منا فم وفم
وما رياض بالحزن باكرها ... نوء السماكين وهو منسجم
فاعتم بالنور جوها فغدت ... جنة لهو من دونها إرم
قد توج الرفد هام ربوتها ... ومنطقت خصر دوحها الحزم
ترنو إلى الورد عين نرجسها ... شزراً وثغر الأقاح يبتسم
تغص مما ضاع العبير بها ... إذا تمشى نسيمها الفغم
ألطف من خلق من غدا وعلى ... منهل فتواه الخلق تزدحم
وقال متغزلاً في وادي التل من ضواحي دمشق
أقمنا بوادي التل نستجلب البسطا ... بحيث دنا منا السرور وماشطا
وجئنا الروض فتقت نسماته ... روائح يبعثن الألوة والقسطا
وقد ضربت أفنان أغصانه لنا ... ستائر إذ مدت خمائله بسطا
يباري به الورق الهزار كراهب ... يحاكي بعبراتي ألفاظه القبطا
ويعطف ما بين الغصون نسيمه ... كما اجتمع الألفان من بعد ماشطا
ويملي أحاديث الغرام لحوضه ... فيرويه لكن ربما نسيت شرطا
جلسنا على الرضراض فيه هنيئة ... وقد نظمت كالدر حصباؤه سمطا
به من لجين الماء ينساب جدول ... تجعده أيدي النسيم إذا انحطا
حكى مستقيم الخط عند انسيابه ... فنقط منه الجوز هر الربى نفطا
سقى الله دهراً مر في ظله لقد ... أصاب بما أولى وإن طالما أخطا
وحيى على رغم النوى كل ليلة ... تقضت به لا بالغو يرو ذي الأرطا
ليالي لا ريحانة اللهو صوحت ... ولا وجدت في أرضها الجدب والقحطا
صحبت به مثل الكواكب فتية ... أحاديثهم في مسمعي لم تزل قرطا
يفضون مختوم الصبابة والهوى ... ويرعون حب القلب لا البان والخمطا
إذا نثروا من جوهر اللفظ لؤلؤاً ... أود ولو بالسمع ألقطه لقطا(3/241)
يديرون من كأس الحديث سلافة ... وربتما تحكي الأحاديث اسفنطا
وقال متغزلاً في الصالحية ورياضها ومتشوقاً إليها
لله أيام لنا ... سلفت بسفح الصالحيه
قد طاب لي في ظلها ... عرف الصبيحة والعشيه
أيام كنت من الشبيبة ... في بلهنية هنيه
وبساعدي خنث الشمائل ... ذو لحاظ جؤذريه
رشأ يدير سلافة ... من مقلتيه البابليه
أضحى يفوق للحشا ... من قوس حاجبه حنيه
كيف النجاة وليس لي ... من سهم ناظره تقيه
قسماً بمبسمه الشهي ... وما أحيلاه إليه
وبما حواه من ثناياه ... العذاب اللؤلؤيه
وبطلعة كالبدر ... تحملها قناة سمهريه
وبمقلة قد علمت ... هاروت كيف الساحريه
وبريقة كالمسك ... ممزوجاً براح قرقفيه
وبصبح فرق تزدري ... أنواره الشمس المضيه
وبليل أصداغ به ... سفهت رأى المانويه
ما حلت عن سنن الغرام ... ولو تجرعت المنيه
تفدي ليالينا التي ... سمحت به نفسي الأبيه
حيث الرياض ظلالها ... بالوصل وارفة نديه
والورق تهتف في الغصون ... بطيب ألحان شجيه
باتت تبث لي الهوى ... وأبثها وهي الخليه
بعثت لي الأشواق حتى ... حركت مني السجيه
وكتب إلى الشيخ عبد الرحمن العمادي في صدر كتاب قوله
القلب أصدق شاهد ... عل على صدق المحبه
ومن القلوب إلى القلوب ... موارد للحب عذبه
طوبى لمن يسقى بكاس ... شرابها المختوم شربه
فكتب إليه العمادي في الجواب قوله
الحب أظهر من ... إقامة شاهد بين الأحبه
ومحبة برهانها ... غير العيان تعد حبه
وإن ارتضى المولى بفتوى ... القلب فليستفت قلبه
وكتب إلى الأمير منجك يدعوه إلى الصالحية فقال
يا روحه إن لم تكن شقيقه ... لما حوى من كرم الخليقه
يدعوك صب لم تزل صديقه ... بأن تكون في غد رفيقه
في روضة أريضة أنيقه ... غصونها ناضرة وريقه
تبدي له أشعارك الرقيقه ... تروي حديث جودة السليقه
عن كرم الخيم عن الحقيقه ... وعن عرى إخائك الوثيقه
فانهض ومن أخلاقه خليقه ... بحفظ ود حفظوا حقوقه
لا زال يهديك العلى طريقه
ومن محاسن شعره قوله أيضاً
يا من هواه بقلبي ليس يبرح من ... بين الترائب ترب الشوق والأسف
ألية بليالينا التي سلفت ... وبالغرام وإن أدى إلى تلفي
وبالدموع التي أجريتها غدراً ... ومدمع فيك لم يطعم كرى ذرف
لأنت أنت على ما فيك حبك في ... جوانحي كامن كالدر في الصدف
وقوله عاقداً للحديث الشريف أحبب حبيبك هوناً ما فعسى أن يكون عدوك يوماً ما وأبغض عدوك هوناً ما فعسى أن يكون صديقك يوماً ما
بين المحبة والتباغض برزخ ... فيه بقاء الود بين الناس
بخلاف أقصى الحب أو أقصى الذي ... هو ضده من كل قلب قاسي
فآل كل منهما ندم على ... تفريطه ندم بغير قياس
ومن مقاطيعه
أحببتها هيفاء يزري قدها ... بالغصن حركه النسيم فحركا
مرت فضاع المسك من أردانها ... فوددت بالأردان أن أتمسكا
وقوله
يا ويح قلبي من هوى شادن ... يجرحه اللحظ بتكراره
أرنو فتغدو وردتا خده ... بنفسجاً يزهى بنواره
وقوله
أف لدنيا لم تزل ... عن وجه ذل سافره
تعميرها مستلزم ... تخريب دار الآخره(3/242)
وله غير ذلك وكانت ولادته في ذي الحجة سنة أربع وتسعين وتسعمائة وتوفي في سنة ست وخمسين وألف بمدينة قسطنطينية ودفن بأسكدار والسقيفي نسبة إلى جامع السقيفة بضم السين المهملة وفتح القاف وتشديد اتلمثناة التحية بعدها فاء جامع بدمشق خارج باب توما معروف كان جده منصور خطيباً به فقيل له السقيفي انتهى يوسف بن أحمد الملقب جمال الدين أبو المحاسن العلموي الشاعر كان في طليعة عمره يتكسب بالشهادة ثم تركها وولي بعض التداريس وله شعر كثير وكان كثيراً ما يراسل أبناء عصره بالقصائد المطولة والألغاز والأحاجي ويمتدح الموالي الواردين وخلفاء آل عثمان ويلتمس من أدباء دمشق التقريظ ومن جملة ما له قصيدة رائية نظمها في مدح المولى فيض الله بن أحمد المعروف بالقاق حين كان قاضياً بدمشق وقرظ عليها عامة الأدباء وقد جمع التقاريظ عبد الكريم الطاراني في دفتر مستقل سماه بالفياح المسكية في المدائح الفيضية ومنها قصيدة في مدح السلطان مراد وهي مرتبة على حروف المعجم وكان في مشيته خطل مع نهاية الطول حتى قال فيه بعض الشعراء
قال الأديب العلموي ... الشعر عني ينقل
لأنني نظامه ... أليس أني أخطل
ومن شعره
لما رأيت مناصبي قد وجهت ... لملفق ع أحمق ترياقي
وعلمت أني لا أفوز بردها ... أدركت متنفعاً ببيع الباقي
وبقيت في أيامكم ذا فاقة ... مشهورة في سائر الآفاق
وكانت وفاته يوم الأحد سادس عشر صفر سنة ست بعد الأل ودفن بمقبرة الفراديس يوسف بن أحمد بن يوسف المنعوت جمال الدين العدوي البقاعي رئيس الكتاب بمحكمة الباب كان حسن الخط كثير الخبرة بأساليب المتقدمين من المورقين لحق ابن قاضي نابلس وأخذ عنه وولي رياسة الكتاب بعد ابن خطاب وكان يكتب بين يدي الموالي ولم يكن بالعربية بالعارف لكنه كان ديناً عفيفاً في شهادته لا يكتب خطه في الصكوك التي لم يحضر وقائعها ولو دفع له المال الكثير ولا يتجاسر أحد عليه في طلب ذلك منه وكانت وفاته في يوم الاثنين خامس وعري جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير يوسف بن زكريا المغربي نزيل مصر الأديب الشاعر قال الشهاب في ترجمته عزيز مصره بناناً وبياناً ويوسف عصره حسناً وإحساناً نشأ بمصر يتعاطى صنعة الأدب ويربط بأوتاد شعره كل سبب ويشارك في تجارة الفضل بنصيب ويرمي لأغراضها كل سهم مصيب بطبع ألطف من نسمة الشمال سرت سحرة بليلة الأذيال متتابعة الأنفاس فنبهت طرف نور في مهد الرياض نعاس وقد خمشت الصبا خد الشقيق وخاضت بحار الدياجي من كل فج عميق مرتدية برداء السحر معانقة لقدود الشجر ثم قال وله مورد من الأدب صفي وديوان سماه الذهب اليوسفي والذي رأيته من خبره أنه قرأ بمصر وأخذ عن يحيى الأصيلي وبه تخرج والبدر القرافي وأبي النجا سالم السنهوري والأستاذ محمد البكري قدس سره وغيرهم ومن شعره قوله
أوصيك إن شخص غدا ... يضحك إن مر بكا
لا تغترر بضحكه ... فإن هذا كالبكا
وقوله
اشرب ولا تعتب على عاذل ... فمثله في الناس لم يعتب
وإن تكن يا سيدي طالباً ... دراً وياقوتاً من المطلب
فالكأس والصهباء فيها الغنا ... فخذ حديث الكنز عن مغربي
وله أيضاً
جعلوا الشعور على الخصور بنودا ... والراح ريقاً والشقيق خدودا
جعلوا الصباح مباسماً ثم الظلام ... ضفائراً ثم الرماح قدودا
والورد خداً والغصون معاطفاً ... والشمس فرقاً والغزالة جيدا
ورأت غصون البان أن قدودهم ... فاقت فأضحت ركعاً وسجودا
وهذا كقول ابن قلاقس من قصيدة أولها
عقدوا الشعور معاقد التيجان ... وتقلدوا بصوارم الأجفان
وله في مليح اسمه رمضان
رمضان قد جئته رمضانا ... وهو بدر يفوق كل الحسان
قلت صلني فقال وهو مجيب ... لا يجوز الوصال في رمضان
وهذا كقول الآخر في هذا المعنى
بليت به فقيهاً ذا جدال ... يجادل بالدليل وبالدلال(3/243)
طلبت وصاله والوصل حلو ... فقال نهى النبي عن الوصال
قال الشهاب واعلم أن هذا كله ليس بشعر ترتضيه الأدباء وهو كل شعرر أكثر فيه من البديع قالوا وأول من أتلف الشعر العربي بهذا النمط مسلم بن الوليد ثم تبعه أبو تمام وأحسن هذه الصنعة التجنيس والتورية وهما في الشعر كالزعفران قليله مفرح وكثيره قاتل ولذا لم نجد في أهل مصر من يعرف الشعر ولا ينظمه ومنهم من غلط في ذلك فأكثر من اللغات الغريبة وتوهم بذلك أنه يصير بليغاً على أن باب التورية قفله ابن نباتة والقيراطي ثم رميا المفتاح في تلك الناحية وهذا لا يعرفه إلا من له سليقة عربية وكتب إلى الخفاجي سؤالاً أدبياً صورته أيها الأخ الشقيق الشفيق والرفيق الرقيق الإمام الهمام الهادي لسيالة الأفهام إذا ضلت في مهامه الأوهام إنني أشكل علي قول أبي منصور الثعالبي في اليتيمة اتفق لي أيام الصبا معنى بديع حسبت أني لم أسبق إليه وهو هذا
قلبي وجداً مشتعل ... وبالهموم مشتغل
وقد كستني في الهوى ... ملابس الصب الغزل
إنسانة فتانة ... بدر الدجى منها خجل
إذا زنت عيني بها ... فبالدموع تغتسل
هل استعارته لنظر الحبيب الزنا مما يعد في الأدب معنى حسناً أو هو مما تجاوز الحد فاستحق بالزنا الحد فكتب إليه مجيباً أيها الأخ قرة العين وبدر هالة المجالس الذي هو لها زين إنه من المعاني القبيحة المورثة للفضيحة وقد سبقه إليه ابن هند في قوله
يقولون لي ما بال عينك مذ رأت ... محاسن هذا الظبي أدمعها هطل
فقلت زنت عيني بطلعة وجهه ... فكأن لها من صوب أدمعها غسل
وهو معنى قبيح واستعارة بشعة ألا ترى إلى ما قيل في الذم
أيها الناكح في العين ... جواري الأصدقاء
وقول صردر في قصيدته المشهورة وإن كان معنى آخر
يا عين مثل قذاك رؤية معشر ... عار على دنياهم والدين
نجس العيون وإن رأتهم مقلتي ... طهرتها فنزحت ماء عيوني
وكيف يتأتى لهؤلاء ما قالوه بعد قول يزيد بن معاوية في شعره المشهور
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما طهرتها بالمدامع
أجلك يا ليلى عن العين إنما ... أراك بقلب خاشع لك خاضع
ومنه أخذ العفيف التلمساني
قالوا أتبكي من بقلبك داره ... جهل العواذل داره بجميعي
لم أبكه لكن لرؤية غيره ... طهرت أجفاني بفيض دموعي
وكانت وفاته بمصر يوم الأربعاء ثامن عشر ذي القعدة سنة تسع عشرة بعد الألف ورثاه النور الأجهوري
رحم الله المعنى يوسفاً ... كان زهراً في رياض الأدب
فسقاه الموت كاسات الردى ... فبكى الشرق لفقد المغرب
الأمير يوسف بن سيفا أمير طرابلس الشام وأوحد المشاهير بالكرم والإنعام ولي حكومة طرابلس مدة طويلة واشتهر عنه عزة عظيمة ونعمة جزيلة وقصده الشعراء بالمدائح وأهدوا إليه أنفس بداية المدائح وكان في نفس الأمر ممن تفرد بالهبات الطائلة ورغب في ادخار الثناء الحسن بالعطايا الشاملة واقتدى به أخوه الأمير علي وابنه الأمير حسين وابن أخيه الأمير محمد فكانت دولتهم السيفية اليوسفية كما سمعت عن الدولة البرمكية والمعتمدية جمعوا للمعالي شملاً وأصبحوا للمكارم أهلاً وكانت لهم بلاد طرابلس صافية ووعود الزمان بالمراد لمن قصدها وافية وكان الأمير يوسف أكبر القوم سناً وأحدهم في النجدة والبأس سناً وهو الذي أسس لهم الدولة فبنوا على أساسه واقتدوا به في أمر الحكومة مستضيئين بنبراسه وله من الآثار مسجد بناه بطرابلس فقيل في تاريخه
بنا ابن سيفا يوسف مسجداً ... دام أميراً للعلى راقيا
ومن بنى لله بيتاً يكن ... عليه في تاريخه راضيا
وقصة مقاتلته ابن جانبولاذ وانسكاره قد قدمناها في ترجمة ابن جانبولاذ فلا حاجة إلى إعادتها وكانت وفاته في عشر الثلاثين والله أعلم(3/244)
يوسف بن عبد الرزاق الأستاذ أبو الإسعاد بن أبي العطا بن وفاء المالكي المصري كان علامة زمانه في التحقيق وله الشهرة التامة بالمعرفة التامة بين ذلك الفريق وله الشعر الحسن والنثر الذي يعجز عن محاكاته أرباب الفصاحة واللسن أخذ العلوم عن أبي النجاء السنهوري وأبي بكر الشنواني وعن الدنوشري والشيخ فايد الأزهري والأجهوري ولبس الخرقة وتلقى طريقتهم الوفائية الشاذلية عن عمه الأستاذ محمد عن والده أبي المكارم إبراهيم عن والده أبي الفضل محمد المجذوب عن والده الأستاذ أبي المراحم محمد عن أبي الفضل عبد الرحمن الشهيد عن والده الشهاب سيدي أحمد أخي علي عن والدهما الأستاذ الكبير أبي الفضل سيدي محمد وفاء عن سيدي داود باحلا مؤلف عيون الحقائق وشارح خرب البحر عن الأستاذ الكبير تاج الدين بن عطاء السكندري مؤلف التنوير والحكم ولطائف المنن وغيرها عن الأستاذ أبي العباس المرسي عن القطب الرباني الأستاذ الشريف الحسيب النسيب أبي الحسن الشاذلي عن الشريف عبد السلام ابن بشيش عن الشريف أبي محمد عبد الرحمن العطار الحسني الإدريسي عن أبي مدين التلمساني عن الشاسي عن أبي سعيد المغربي عن أبي يعقوب النهرحوي عن الجنيد عن خاله السقطي عن معروف الكرخي عن علي الرضا عن أبيه موسى الكاظم عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين عن أبيه الحسين عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين ودرس وأملى الكثير وحضر دروسه الأجلاء من الشيوخ كالغنيمي والأجهوري والحلبي وحج مرات وأتى البيت المقدس وله شعر كثير من ذلك قوله
قسماً بكم يا سادتي وغرامي ... ما حلت عن عهدي لكم وذمامي
وأنا المقيم لكم على عهد الوفا ... وعلى هواكم تنقضي أيامي
غيري يغيره الجفاء عن الهوى ... فيميل نحو ملامة اللوام
وأنا الذي لومت فيكم لم أحل ... عنكم ولا يثني الملام زمامي
يا سادتي عطفاً على عبد لكم ... فعساكم تحنوا على الخدام
فالقلب في نيران تبريح الجوى ... يصلى وجفني من جفاكم دامي
وهي طويلة ومن ظرائف لطائفه قوله
حيهم إن جئتهم يا سعد حي ... فهم أهل الوفا في كل حي
عش بهم سبا ومت في حبهم ... من يمت في حب حي فهو حي
هم ملوك الأرض سادات الورى ... فارو عنهم واطو ذكر الفي طي
لم يزل إحسانهم يغمرنا ... مطلقاً بالفيض من نشر وطي
منها
يا لساني أدم المدح لهم ... دائم الدهر ويا فكري تهي
أنا والله محب لكم ... صدقوني ليس بعد الله شي
مختف حبكم في مهجتي ... عن جميع الخلق إلا ملكي
مذ منحتم بوفا دون جفا ... فكذا أنسيتموني أبوي
الخ وكانت وفاته في مرجعه من الحج غرة صفر سنة إحدى وخمسين وألف وصلي عليه بالجامع الأزهر في محفل لم ير في هذه الاعصار مثله ودفن رحمه الله تعالى في زاوية سلفه السادات بني الوفاء رضي الله عنهم ورثاه الشهاب الخفاجي بقوله
قضى نحبه والحج قطب لروحه ... دعا ربه نحو الجنان فلبت
فمن حج للبيت العتيق على تقى ... فروح أبي الإسعاد لله حجت
ومن حج للرحمن إحرام حجة ... مجردة من جسمه دون موقت
فلا برحت سحب الرضا حول قبره ... تظل له هطالة سحب رحمة(3/245)
وإنما ذكرت رجال هذه الطريقة على التفصيل لكونها خاصة بهذا البيت ويتعلق بالمقام فائدة جليلة في لبس الخرقة التي تقدم ذكرها وهي ما قال الصلاح إن من القرب لبس الخرقة التي تقدم ذكرها وهي ما قال الصلاح أن من القرب لبس الخرقة وقد استخرج لها بعض المشايخ أصلاً من السنة وهي حديث أم خالد قالت أتى النبي صلى الله عليه وسلم بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة فقال ائتوني بأم خالد فأتى بي قالت فالبسنيها بيده وقال ابلي وأخلقي وهو مخرج في الصحيح قال ولي في الخرقة إسناد عال جداً وذكره ثم قال وليس بقادح فيما أوردناه كون لبس الخرقة غير متصل إلى منتهاه على شرط أصحاب الحديث في الأسانيد فإن المراد ما تحصل به البركة والفائدة باتصالها بجماعة من الصالحين انتهى يوسف بن عبد الملك البغدادي الدمشقي المعروف بالحمار كان أحد الأعاجيب في حسن العشرة ومخالطة الناس وسعة الرواية في الأخبار والنوادر وكان وجيهاً كبير العمة أبيض اللحية وصرف عمره في الطلب والقراءة وحضور دروس العلم ولزم الشيخ رمضان العكاري والشيخ عبد الباقي الحنبلي وغيرهما إلا أنه لم يحصل شيئاً إلا القليل لغباوة كانت فيه ولهذا لقب بالحمار وإنما ذكرته لأن كثيراً من الأدباء كانوا يعرضون به في بعض أشعارهم ويبنون على لقبه أشياء وكانت وفاته ليلة الأربعاء سابع عشري شهر رمضان سنة تسع وستين وألف وخلف مالاً كثيراً وقال الأمير منجك في التعريض به
قيل عاشت بموته وارثوه ... حيث كانوا من فقرهم في اكتئاب
قلت لا بدع قد سمعنا قديماً ... يوم موت الحمار عيد الكلاب
يوسف بن عمران الحلبي الشاعر المشهور قال الخفاجي في ترجمته أديب نظم ونثر فأصبح ذكره جمال الكتب والسير إلا أنه لعبت به أيدي النوى رحلة ونقله فجعل الآمال على كؤوس الآداب نقله وهو لعمري أديب أريب ما له في ضروب النظم ضريب وحاله غير محتاج لدليل أنى ولا لمى فإنه كما عرفت الشاعر الأمي كما قيل
أصبحت بين الناس أعجوبة ... بين ذوي المعقول والفهم
حموي جدي فاعجبوا وانظروا ... عمي خالي وأبي أمي
وفي آخر عمره داسته أقدام النوب وأدركته حرفة الأدب فصبر على الأيام المكدرة إلى أن صفت وعلى الليالي الجائرة فما أنصفت وقال السيد أحمد ابن النقيب الحلبي في حقه هو أحد المشهورين بهذه الصناعة والمتعيشين بكسب هذه البضاعة وكان في أول أمره ذا تجارة ومال ونباهة وحسن حال فقارن الأدباء من أبناء عصره وتشبث بأذيالهم وقصد أن ينخرط في سلكهم وينسج على منوالهم فنثر ونظم واستسمن كل ذي ورم وأقام على ذلك مدة مديدة بحلب إلى أن أدركته بها حرفة الأدب فطاف بلاد الشام والقاهرة المعزية ثم توجه إلى دار السلطنة السنية وامتدح أكابر علمائها وانتجع ندى رؤسائها ومن شعره
قولوا لمن بهزال الفقر يذكرني ... ظننت أنك في أمن من المحن
فالشاة يؤكل منها اللحم إن عجفت ... وليس يؤكل لحم الكلب بالسمن
وقد جمع ديواناً من شعره كتب عليه بعض الشعراء
لشعر يوسف بحر في تموجه ... يهدي لافها منار وحاور يحانا
ذو منطق ساحر مطر وذا عجب ... للسحر ينشئه وهو ابن عمرانا
ومن منتخبات أشعاره قوله
غصن تمايل في قباء أخضر ... بين الكثيب وبين بدر نير
ريم أحم المقلتين إذا رنا ... فتن الأنام بسحر طرف أحور
يسطو علي بأبيض من أسود ... ومن القوام إذ أثناه بأسمر
سلب النهى منه بقوسي حاجب ... إذ حل صبري عقد بند الخنجر
ومنها في المدح
يعطي الكثير عفاته ويظنه ... نزراً فيشفعه حياً بالأكثر
لما أراني جعفراً من جوده ... فأريته شعر الوليد البحتري
وله
جاءت تهز قوامها الأملودا ... حسناء ألبسها الجمال برودا
حورية في الليل إن هي أسفرت ... خرت لطلعتها البدور سجودا
لم يكفها تحكي الغزالة طلعة ... حتى حكتها مقلتين وجيدا
لعساء باردة اللمى وجناتها ... كالجمر أحرقت الفؤاد وقودا(3/246)
هي روضة للحسن صار خدودها ... التفاح والرمان صار نهودا
فالحسن يكسو كل حين وجهها ... ثوباً أغر من الجمال جديدا
يستوقف الأطيار حسن غنائها ... وغناءها أبداً تظن العودا
وقال
الا تنكروا رمدي وقد أبصرت من ... أهوى ومن هو شمس حسن باهر
فالشمس مهما إن أطلت لنحوها ... نظراً تؤثر ضعف طرف الناظر
ولقد أطلت إلى احمرار خدوده ... نظري فعكس خيالها في ناظري
وله
انظر إلى أجفانه الرمد ... تبدل النرجس بالورد
تحمر لا من علة إنما ... تأثرت من حمرة الخد
وله أشياء كثيرة من كل معنى مبتكر وبالجملة فإن شعره جيد وكانت وفاته في سنة أربع وسبعين وألف يوسف بن محمد أبو المحاسن القصري الفاسي القطب النوراني المجدد على رأس الألف الشيخ الإمام العارف بالله المستغرق في أنوار التجلي مركز أقطاب الدنيا أخذ عن البستي وابن جلال وغيرهما وأخذ عنه خلق كثير منهم أخوه العارف بالله تعالى عبد الرحمن وكان وارثاً لمقام أستاذه الأكبر سيدي عبد الرحمن بن عباد المجذوب فإنه به تخرج وقد أشار الشيخ المجذوب المذكور إلى مقام الوراثة منه صلى الله عليه وسلم إلى عصره بقوله الحبيب مولاي محمد القلوب منه روية الكتاب عند أهل السنة والشراب عند الصوفية وقد أفرد الترجمة لشأنه وذكر أخباره وماله من الشيوخ والتلامذة الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد القادر الفاسي وكانت ولادته في سنة سبع وثلاثين وتسعمائة وتوفي ليلة الأحد ثامن عشر شهر ربيع الثاني سنة ثلاث عشرة وألف يوسف بن محمد البلقيني المصري ثم المكي رئيس القراء كان من الأفاضل الأجلاء حسن القراءة والتأدية ولقراءته وقع عظيم في القلوب انتفع به خلق كثير وكانت وفاته بمكة نهار الأربعاء حادي عشر المحرم سنة خمس وأربعين وألف ودفن بالمعلاة يوسف بن محمد بن أحمد الطهوائي المالكي كان من أكابر علماء القاهرة في الفقه والحديث والأصلين والكلام أخذ عن البرهان اللقاني وأبي العباس المقري ومن في طبقتهما وألف مؤلفات لطيفة منها منظومة حسنة في العقائد سماها فيروزج الصباح وله غير ذلك من تحريرات وتقريرات وكانت وفاته بمصر في نيف وستين وألف يوسف بن محمد القاضي جمال الدين بن محب الدين الأيوب الأنصاري الدمشقي رئيس الكتاب بمحكمة الباب كان من دهاة الكتاب شديد البأس خبير بأحوال الناس وكان في أساليب الصكوك وحسن الخط وسط الحال تعانى في أول أمره الشهادة بالكبرى وصار رئيساً بها ثم نقل إلى محكمة الباب وأثرى جداً وتملك الأملاك العظيمة من البساتين وغيرها ووقفها على أولاده ثم تفرغ عن الرياسة ولزم العزلة وعمي في آخر أمره ونقل أن سبب عماه حلف يميناً فاجرة في خصومة والله أعلم وكانت وفاته في سنة سبع وستين وألف عن نحو تسعين سنة يوسف بن القاضي محمود بن الملا كمال الدين الكوراني الصديقي الأستاذ الكامل العالم العامل الحسيب النسيب الزاهد أخذ عن كثير من شيوخ بلاده منهم ميرزا إبراهيم الحسيني الهمداني وعنه ولده العلامة محمد وغيره وله حاشية على حاشية الخيالي على شرح العقائد وحاشية على الخطائي وحاشية على تفسير البيضاوي وله رسالة في المنطق وغير ذلك وكانت وفاته في سنة بعد الألف يوسف بن يحيى بن مرعي الطور كرمي الحنبلي رحل إلى مصر لطلب العلم في سنة أربع وأربعين وألف وأخذ بها عن الشيخ منصور البهوتي وعن عمه الشيخ أحمد وغيرهما وعاد في سنة تسع وأربعين وكان يفتي ببلاد نابلس وكان يميل إلى القول بعدم وقوع الطلاق في كلمة موافقة لابن تيمية وكانت وفاته نهار الاثنين عاشر صفر سنة ثمان وسبعين وألف(3/247)
يوسف بن يوسف بن كريم الدين الدمشقي رئيس الكتاب بمحكمة الباب بدمشق كان شهماً حاذقاً أديباً مشهور الصيت بعيد الهمة متمولاً ولم يكن في الأصل ممن ساد بآبائه بل نبغ مجداً في طلب المعالي فنالها باعتنائه وصار أولاً كاتباً في بعض المحاكم ثم نقل إلى محكمة الباب فكان بها مدة ثم صاهر القاضي أكمل بن مفلح وزوج كل من الآخر بنته ثم لم يلبث القاضي أكمل حتى مات فاستولى على ما بيده من الأوقاف وغيرها وكان حلو اللسان وله دربة في مصانعة القضاة ثم مات محمد ناصر الدين الأسطواني فتمت له الرياسة وعظم شأنه ولما كان أحمد باشا الحافظ نائباً بدمشق هدده فتناول منه ما شاء من المال ثم ولاه قضاء العسكر لما خرج إلى قتال ابن معن وولي قضاء الركب الشامي وجمع مالاً كثيراً ثم سافر إلى الروم وانتمى إلى شيخ الإسلام يحيى بن زكريا وكان يومئذ منفصلاً عن قضاء العسكرين فأعطي رتبة الداخل بمعونة شيخ الإسلام المذكور ثم عاد إلى دمشق وتصدر بها وعمر القصر بصالحية دمشق وهو من أحسن المنتزهات وفيه يقول الأمير منجك
قصور الشام محكمة المباني ... ولا قصر كقصر بني الكريمي
وكانت وفاته في يوم الاثنين سابع عشر ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وألف يوسف الأصم الصفراني الكردي سمي الأصم لأنه كان يطالع ومر عليه عسكر كثير وتلوثت ثيابه بالطين من مشي خيلهم ولم يشعر بهم فسمي أصم أحد أعاظم المحققين قرأ ببلاده على شيوخ كثيرين ومن مؤلفاته تفسير القرآن مشهور ببلاد الأكراد وله في الفقه المسائل والدلائل وحاشية على حاشية عصام على الجامي وحاشية على حاشية شرح القطب للشمسية لقره داود وحاشية على حاشية الفنري لقول أحمد وحاشية على شرح الأنموذج لسعد الله وغير ذلك وكانت وفاته بعد الألف بقليل يوسف الزفراني المغربي قال المناوي في ترجمته تحول جده من المغرب إلى زفران قرية بالبحيرة فاستوطنها ثم ولد له صاحب الترجمة فحفظ القرآن وأخذ عن والده التصوف وسلك به ومن آدابه قال ما رفعت بصري إلى وجه والدي منذ سلوكي عليه ولا جلست بحضوره ولا واكلته ثم تحول من مصر إلى بولاق وأقبل على العبادة إلى أن مات في سنة خمس عشرة وألف يوسف القره باغي نسبة لقره باغ من قرى همذان أحد أكابر العلماء المحققين توفي في نيف وثلاثين وألف يوسف القيسي المالكي أحد أكابر مشايخ الأزهر الملازمين للدرس قرأ علوم العربية على الشيخ أبي بكر الشنواني ولازم البرهان اللقاني وشاركه في كثير من مشايخه وجلس للتدريس فاشتهر بالنفع التام وكان فيه حدة فإذا غضب يضرب الطلبة وله مؤلفات منها حواش على شرح الشذور وشرح القطر وشرح الأزهرية وغيرها وكانت وفاته سنة إحدى وستين وألف يوسف المعروف بالبديعي الدمشقي الأديب الذي زين الطروس برشحات أقلامه فلو أدركه البديع لاعتزل صنعة الإنشاء والقريض عند استماع نثره ونظامه خرج من دمشق في صباه فحل في حلب فلم يزل حتى بلغ الشهرة الطنانة في الفضل والأدب وألف المؤلفات الفائقة منها كتابه الصبح المنبي في حيثية المتنبي وكتاب الحدائق في الأدب ولما رأى كتاب الخفاجي الريحانة عمل كتاب ذكرى حبيب فأحسن وأبدع وأطال وأطنب وأعرب عن لطافة تعبيره وحلاوة ترصيعه إلا أنه لم يساعده الحظ في شهرته فلا أعلم له نسخة إلا في الروم عند أستاذي الشيخ محمد عزتي ونسخة عندي ومن شعره مادحاً ومودعاً ابن الحسام شيخ الإسلام حين انفصل عن قضاء دمشق
أحاشيه عن ذكرى حديث وداعه ... وأكبره عن بثه واستماعه
وما كان صبري عند وشك النوى على ... الجوى غير صبر الموت عند نزاعه
ونحن بأفق الشام في خدمة الذي ... يضيق الفضا عن صدره باتساعه
أجل حماة الدين وابن حسامه ... وحامي حمى أركانه وقطاعه
عشية توديع المآثر والعلى ... وكل فخار للورى في رباعه
وما سرت عن وادي دمشق ولم يسر ... وسودده في مدنه وضياعه
ولها تتمة وله في مدح النجم الحلفاوي
رويداً هو الوجد الذي جل بارحه ... وقد بعدت ممن أحب مطارحه
هوى تاهت الأفكار في كنه ذاته ... ومتن غرام عنه يعجز شارحه
منها في المدح(3/248)
إمام أطاعته البلاغة مارقاً ... ذرى منبر إلا وكادت تصافحه
تعد الحصى والليل تحصى نجومه ... ولم يحص جزءاً من سجاياه مادحه
وشعره كثير أوردت منه في كتابي النفحة ما فيه مقنع ثم ولي قضاء الموصل ثم توفي بالروم سنة ثلاث وسبعين وألف يوسف المعروف بالحليق أحد مجاذيب دمشق المشهورين بالكشف كان يسكن بالمدرسة الحجازية وكان يمحو شعر وجهه حتى حواجبه وكان يغلب عليه الصمت فلا يتكلم إلا نادراً وللناس فيه اعتقاد عظيم وكانت وفاته منتصف شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين وألف يوسف الرضي القدسي الحنفي الخطيب بالأقصى ورئيس علماء القدس في وقته كان من الفضلاء أهل النباهة حسن الخلق والخلق سخي الطبع أديباً فصيحاً قرأ على مشايخ عصره وتفوق وكان يلي نيابة القضاء بالقدس وبالجملة فقد كان من خيار أهالي بيت المقدس وكانت وفاته في سنة أربع وسبعين بعد الألف انتهى تم يقول مصححه الفقير السقيم مصطفى وهبي أمده الله بفيضه العميم إن أبهى ما تسطره أيدي الفصحاء وأزهى ما تنمقه أقلام البلغاء حمد الإله العلي شأنه العظيم سلطانه وأعذب ما ترتاح له النفوس وتتزين به الطروس دوام الصلاة والسلام على أكمل إنسان سيدنا محمد المختار من جرثومة عدنان وعلى آله أعيان السادات وسادات الأعيان الذين شيدوا مباني الدين وقواعد الإيمان وبعد فإن أجمل ما تحلت به الهمم واعتنت بشأنه الأمم علم التاريخ إذ هو مرآة الزمان وسجل غرائب الحدثان المتكفل بإبراز نكت الأخبار وإبداء محاسن آثار الأخيار به يعرف المبتدأ والخبر وأحوال العالم في البدو والحضر كم مشكلة أماط عنها اللثام وأبرزها مجلوة على طرف الثمام وكفاه شرفاً أن القرآن الكريم احتوى على كثير من الأخبار ليذكر بها أولو الألباب والأبصار ولما كانت الكتب في هذا الفن الجليل لا تدخل تحت انحصار إلا أن أكثرها بعيد العهد متطاول الإعصار والنفس تتوق لاستكشاف ما قرب منها ولم تبعد بكثير عنها ابتدر الأمير المتحلي بأنواع الكمال المرجح لنشر العلوم بطبعه على سائر الآمال ذو المعارف والعوارف محمد باشا عارف أحد أعضاء مجلس الأحكام بمصر المعترف بفضائله العصر لطبع هذا السفر المفيد والكتاب الفريد المسمى بخلاصة الأثر في القرن الحادي عشر فإنه حوى من آثار الفضلاء ونكات الأدباء ما يشهد له بحسن النظام وأنه جدير بقول الأديب الهمام
ورأيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
فعندها لباه هذا العبد الضعيف مجيباً له في إنجاز هذا الغرض المنيف فبذل في تصحيحه جهده وجدد بجميل الطبع عهده فظهر في محلة الوجود على الوجه الأتم المقصود وكان تمام طبعه وإيناع طلعه بالمطبعة الوهبية بمصر المحمية في أواسط ذي الحجة ختام أربع وثمانين ومائتين وألف من الهجرة النبوية المحمدية على صاحبها أزكى سلام وأبهى تحية ما لاح بدر تمام وفاح مسك ختام(3/249)