علي زين العابدين بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن الشيخ عبد الله العيدروس المشهور بزين العابدين وتاج العرافين وهو والد جعفر الصادق المقدم ذكره الشريف الحضرمي الإمام المفنن الكبير كان في عصره رئيس العلماء بحضرموت وكان أمر أشرافها إليه وكان ذا جاه عظيم عند السلطان يصرفه في مملكته كيف شاء ويأتيه إلى بيته ويصدر عن رأيه وتناهى في الرياسة حتى كان هو المخاطب بالأمور ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن وكان سريع الحفظ حسن البديهة ونشأ في حجر أبيه وكان مع تفرده بعلو المنزلة باراً بوالده يقف بين يديه ويعتني بخدمته فكان يمده بدعائه وأخذ عنه العلوم الشرعية والتصوف وألبسه الخرقة وأخذ عن جماعة من الأعيان وصحب كثيراً فمن مشايخه الشيخ زين بن حسين والسيد الجليل عبد الرحمن بن محمد بن عقيل والشيخ محمد بن إسماعيل والأديب السيد عبد الرحمن بن علي بن باحسن صاحب القارة والإمام السيد عبد الله بن محمد بروم وغيرهم وبرع وما خط عذاره وتميز على مشايخه ثم جلس للتدريس فدرس التفسير وحضره من أشياخه جمع كثير وانتفع به خلائق لا يحصون وكان شيخه السيد عبد الله بروم مع جلالة قدره وكبر سنه يأخذ الكتاب ويقرأ عليه ووقع بينه وبين أخيه الإمام شيخ خصومة سببها أن أباهما خص زين العابدين ببعض العقار نذر له به دون أخويه محمد وشيخ فسعى السيد شيخ في إبطال النذر وساعده القاضي أحمد بن حسين بلفقيه وقال أحكم بإبطاله فسعى زين العابدين في عزله عن القضاء فعزله السلطان وولي تلميذ زين العابدين القاضي حسين بن عمر بافقيه وحكم بصحة النذر قال الشلي والمسئلة ذات خلاف فمن أفتى بعدم الصحة قاضي القضاة زكريا والشيخ عبد الرحمن بن زياد وآخرون وممن قال بالصحة جماعة منهم الشهاب أحمد بن حجر في تحفته وأطال في الاستدلال في فتاويه بما يعرف حسنه من وقف عليه قال ومحل الخلاف حيث لم يسن إيثار بعضهم أما إذا نذر للفقير أو الصالح أو البار منهم فيصح اتفاقاً وقال في كتاب الوقف وقد اتفق أئمتنا كأكثر العلماء على أن تخصيص بعض الأولاد بماله كله أو بعضه هبة أو وقفاً أو غيرهما لا حرمة فيه ولو لغير عذر اها واشتغل في آخر عمره بعلم الطب حتى تمهر فيه وكان من أعرف الناس بأمور الدنيا ويعرف عيب كل صنعة وحسنها واتفق في عصره جماعة من الفضلاء والأدباء فكانوا يجتمعون في مجلسه ويقع له معهم نكات رشيقة وكان في استحضار مباحث التفسير والحديث والتصوف آية لا تدرك وكان حافظاً لشوارد اللغة وشواهد النحو مستحضراً لها وله نظم ونثر كثير وأكثر شعره يوجد مقاطيع وله رسائل كثيرة في علوم شتى وبالجملة فهو صدر من صدرو الزمان وكانت ولادته في ذي الحجة سنة أربع وثمانين وتسعمائة ثم مرض أياماً فغم الناس له ثم برأ فأظهر الناس الفرح بصحته وقال كأنكم بي وقد عملك لكم عمل ولد الزرافة ثم أصابه حصر البول فكان سبب موته فتوفي يوم الأحد لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين وألف وقام عليه الصياح من كل جانب وجهز في يومه بوصية منه وأتى السلطان عبد الله بن عمر من بلده سيوون وجد في السير فوصل تريم بعد العصر وأسرع الناس من كل فج فضاقت بجنازته الطرق وأجمع من شاهد جنازته على أنه لم ير أكثر جمعاً منها وصلى عليه ابن أخيه الشيخ عبد الرحمن السقاف ودفن داخل قبة والده بجنان بشار.(2/222)
علي بن عبد الله بن المهلا بن سعيد بن علي الميساي ثم الشرفي قال ابن أبي الرجال في تاريخه كان من حملة الآداب وكملة العلماء الأطياب مولده بكوكبان وبه نشأ وقرأ بصعدة والشرف ثم قرأ بصنعاء مدة وعاد إلى كوكبان ثم تزوج به وحمل أهله إلى صنعاء ترجمه ولده فخر الدين عبد الله بن علي فقال كان عالماً في الفقه والنحو والمعاني والبيان والمنطق والتاريخ أخذ عن جماعة من المشايخ منهم محمد بن عبد الله المهلا والعلامة عبد الحفيظ بن عبد الله بن المهلا وعلي بن محمد الجملوني والسيد محمد بن عز الدين المفتي والسيد عيسى بن لطف الله وغيرهم من العلماء قلت وكان محبباً إلى الفضلاء بمكارم أخلاقه طالما سمعت سيدنا الحسن بن أحمد الحمي يحن إليه وينوح بعد فراقه عليه ويذكر من مكارم أخلاقه ما تتزين به الأوراق وله شعر سيال قليل النظير في عصره أخبرني السيد صلاح بن أحمد بن عز الدين المؤيدي قال قلت قصيدة في السيد الحسن بن الإمام القاسم فلما عرف أني أريد القراءة لقصيدتي قال لي أنه قد قال فينا الفقيه علي بن عبد الله المهلا قصيدتين بليغتين تطلع عليهما قال السيد صلاح وعرفت أنه أراد أن يعرفني أنه يعرف جيد الشعر من نزيفه فقرأت القصيدتين فرأيت العجب وكان السيد الحسن يذكرهما للأدباء لهذا المقصد والقصيدتان الأولى منهما في فتح ربيد وهي
لا تحسبوه عن هواكم سلا ... كلا ولا فارقكم عن قلا
ولا ثنت وهنانة قلبه ... هضيمة الكشح صموت الخلا
الوهنانة لينة الجسم ناعمة تكاد تساقط من النعومة
تفضح بالقد غصون النقا ... ليناً وتحكي الشادن الأكحلا
نشوانة ما شربت قرقفاً ... سحارة ما عرفت بابلا
آهلة الدار بأترابها ... لا عفت الريح لها منزلا
نسميها حدث عن مكها ... فخاله أهل الهوى مرسلا
دع التصابي في المقام الذي ... فاق سناه واقصد الأفضلا
وقل بأعلى الصوت إن جئته ... يا ملكاً حاز جميع العلا
هنيت هذا الشرف الأطولا ... فالفخر الباذخ فوق الملا
أدركت مجداً عشر معشاره ... قد أعجز الآخر والأولا
ما أنت إلا آية أنزلت ... تقمع من حاف ومن أبطلا
يشهد ما في الأرض من خلقه ... أنك صرت الأوحد الأكملا
نور هدى يهدى به ذو التقى ... نار وغى حامية المصطلى
وبحر علم ما له ساحل ... يذخر إن فصل أو أجملا
دقيق فكر ما رأى مشكلاً ... إلا وحل المشكل المعضلا
يا ابن أمير المؤمنين الذي ... ما برح النصر له مقبلا
رمحك لا يألف إلا الحشى ... سيفك لا يعشق إلا الطلا
طرفك يختاض دماء العدى ... كأنها كانت له منهلا
منتعلاً في الروع هاماتهم ... مجللاً أكبادهم والكلى
مهدت للترك وقد خربوا ... أجنادهم تملأ عرض الفلا
تغص قيعان زبيد بهم ... تخال فرسانهم أجلا
فدارت الحرب وقد أقلوا ... رأياً وقد يعكس من أملا
وزاولوا منك فتى ماجداً ... لا يرهب الموت إذا أقبلا
يستحسن الدرع على جسمه ... ثوباً ويستخشن ثوب الملا
سابغة تسخر بالبيض في الهيجا وتستزري القنا الذبلا
فجرعوا من بأسه علقما ... معتصرا عن شجرات الملا
واستبدلوا عن صهوات الذرى ... والضمر الجرد بطون البلا
فمنهم من جاء مستسلماً ... ومنهم من طار خوفاً إلى
فهكذا فلتكن الهمة القعساء والفخر وإلا فلا
فانقشعت تلك الغيابات عن ... مهذب كالقمر المجتلى
عن فاطمي ذكر أيامه ... يفعل في السامع فعل الطلا
الحسن بن القاسم الندب من ... غار على الإسلام أن يهملا
وشاد ركناً لبني هاشم ... طاول من رفعته يذبلا(2/223)
ساس من الشحر إلى مكة ... إلى الحمى عمرانها والخلا
ودوخ الأرض فلو رام تخت الشام بله الروم والموصلا
لأقبلت بالطوع منقادة ... لأمره أسرع من لا ولا
ونال منها كل ما يبتغي ... وحازها بالسيف أو بالجلا
وما هي الأرض وما قدروها ... عندك يا من قدره قد علا
لو أنها عندك مجموعة ... وهبتها من قبل أن تسألا
ولو أمرت الشهب إقبالها ... نحوك لا تلبث أن تنزلا
وضيغم الأفلاك لو رمته ... جعلت من فروته أنعلا
ولو نهيبت الدهر عن فعله ... بالحر لاستعبد واستثملا
وإن يرد منه على بخله ... يوليه براً كاد أن يفعلا
دمت لدين المصطفى معقلاً ... وللهيف المعتفى موئلا
والثانية منهما قوله
هام وجداً بساكني نعمان ... حسبه من أحبة ومكان
جيرة خيموا فخيم قلبي ... واستقلوا فهام في الأظعان
ألفتهم روحي فهانت عليهم ... قلما يسلم الهوى من هوان
الهوى شأنه عجيب فكم من ... مسبل ماء شأنه إثر شان
علق القلب منهم بدر تم ... ساحر اللحظ فاتر الأجفان
وافر الردف كامل الطلعة الغراء مر الصدود حلو اللسان
من لقلبي بعض تفاحه الغض وتقبيل خده الأرجواني
فأداوي الفؤاد من ألم الحب ليشفى معذب الهجران
مالكي ما تريد أصلحك الله بإتلاف مطلق الدمع عان
نم هنيئاً ملء الجفون فإن عاود طرفي الكرى فقل لا هناني
يصطبيني هوى الحسان ولكن ... ما رآني ربي بحيث نهاني
بل تحامي نفسي القريض فيدنيها إليه تشبيهها بالغواني
أجماح مع الصبا بعد ما لا حت ثلاث بيض ثنين عناني
فاتني ريق الشباب وأرجو ... عوده من أكف فرد الزمان
يا أبا أحمد بقيت فما غيرك يدعى إذا التقى الجمعان
ذد عن الدين واحمه بالصفاح البيض والصافنات والمران
أنت مهدي هذه الأمة المرجو إجياؤه عقيب الزمان
لك من قول جدك الصادق الهادي ومن قول حيدر شاهدان
زمن الدهر عندما درس الحق فمذ جئت عاد في العنفوان
غبن المدعى علاك لقد مد يداً ويحه إلى كيوان
يرتجي شأوك الرفيع لقد ضل وغرته نفسه بالأماني
رفع الله منك راية حق ... يتقي بأسها أولو الطغيان
سل زبيداً والنجد نجد المحيريب وقاع القياب من سخان
لو تصدى لها سواك إذا آل كسير القنا قتيل طعان
طفق الروم تحت سيفك أفواجاً يخرؤن منه للأذقان
إن أعداءك البغاة لفي النار يطوفون في حميم آن
ألفت خيلك الوغى فهي من ... شوق إليهم تهم بالطيران
كم جيوش غادرتها للأعادي ... جزراً للنسور والعقبان
من رأى بأسك الشديد وإقدامك يوم الوغى على الأقران
معلماً يلتقي الكتائب فرداً ... حيث تنسى مودة الإخوان
لا يرى غير هامة أو نجيع ... أو قتام أو صارم أو سنان
علم الناس أن مالك ثاني ... واستبانوا أن الفخار يماني
الغنى والغنا بكفيك موجودان ذا للعافي وذا للجاني
ولك المحتد الرفيع وعلياك على الخلق ما لها من مداني
راق مدحي فيمن حوى قصب السبق ودانت لأمره الخافقان
الهمام الذي له الوقعات السود في أهل الزيع والعدوان
مسلك يقهر الجبابرة الصيد ويعنو له ذوو التيجان
حسن بن المنصور سبط السجايا ... مربع الفضل منيع الإحسان
سن للناس مذهب الجود والبأس فما زيد الخيل وابن سنان
نشر الله عدله في البرايا ... ليفوزوا بالأمن والإيمان
وأعاد الأعياد تترى عليه ... أبداً ما تعاقب الملوان(2/224)
وذكره بعض الأفاضل في بعض مجاميعه فقال فاضل مبرز في جميع العلوم يهتدى به في أرض المكارم كما يهتدى بالنجوم وبليغ بز ببلاغته أهل زمانه وجاء من المعاني المبتكرة بما لا يوجد في أقوال الكملة من أرباب أوانه مع كرم وثروة وفضل ومروءة مسكنه مدينة شبام من أعمال كوكبان وسبب استيطانه إياها أن والده أقام بالأهجر من أعمال كوكبان في ذلك الزمان وقصده الطلبة وعلماء الأرض من كل مكان وأحيا فيه علوماً أيام الأمير الكبير العظيم الشأن عبد الرب بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين انتفع بها القاصي والدان ولم يزل صاحب الترجمة منهمكاً على إفادة العلوم حتى توفي في أيام الإمام محمد المؤيد بن الإمام القاسم وكانت وفاته بصنعاء في سنة تسع وأربعين وألف ودفن بحزيبة.
علي بن عبد الله بن أحمد بن حسين بن الشيخ عبد الله العيدروس سراج الأصفياء ونور العالم قال الشلي في ترجمته ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن على معلمنا الشيخ عبد الله بن عمر با غريب وحفظ بعض المنهاج وغيره واشتغل بطلب الفضائل وتأثيل الفواضل فقرأ الفقه والتصوف على شيخنا عبد الرحمن بن علوي بافقيه وأخذ عن غيره من العلماء وصحب كثيرين من أكابر العارفين ثم اشتغل بعبادة مولاه وما ينفعه في آخرته ودنياه وسار سيرة آبائه الأكرمين ونصب نفسه لنفع الأنام وكان سالكاً مع الناس أحسن سلوك وانتشر صيته في تلك البلدان وكان مأوى للغريب وملاذ للبعيد والقريب وظهرت منه كرامات وخوارق عادات لا سيما لمن هفا هفوه أو ندرت منه نادرة أو جفوه وأقر بذنبه واعترف وندم على ما صدر منه وتأسف فمثل هذا يقوم في خلاصه بالحال والقال وبالعناية والاحتفال وكان الناس يقصدونه بالنذور والهدايا ويجازى كلاً بالإكرام والعطايا ولم يزل على ما يحبه الله ويرضاه إلى أن ناداه منادي المنون فلباه وكانت وفاته في سنة ثمان وسبعين وألف.
علي بن عبد الله باراس الدوعني الحضرمي أحد مشايخ الطريقة الجامعين بين الشريعة والحقيقة. انفرد في ذلك الإقليم بالإرشاد والإمداد وصحب في بدايته الشريف العارف بالله تعالى عمر العطامي باعلوي تلميذ الشيخ حسين بن القطب الشيخ أبي بكر بن سالم باعلوي صاحب عينات واستفاد منه وكان يحبه حباً شديداً ويثني عليه ولقي جمعاً من أكابر السادة العلويين وانتفع بهم ففتح الله تعالى عليه بفتوحات كثيرة وقصده الناس من نواحي شتى وتخرج به خلق كثير منهم الشيخ الولي الزاهد محمد بن أحمد بامشموس الدوعني وحكى السيد الجليل محمد بن عبد الله خرد باعلوي أن الشيخ العارف بالله تعالى عبد القادر باعشر الدوعني بشر به قبل وجوده فكان يقول سيخرج بعدي في هذا البلد رجل اسمه كذا وصفته كذا بوصفه هو شمس هذا الإقليم ونوره وله نفع الله تعالى به المصنفات النافعة الكثيرة الشهيرة التي تلقاها أهل ذلك الإقليم بالقبول التام منها شرحان على الحكم العطائية كبير وصغير وشرح قصيدة القطب الشيخ أبي بكر بن عبد الله العيدروس التي أولها
ما حسن يعشق غير حسن لبنى ... ما مثلها محبوب
ولا جمال يذكر بكل معنى ... إلا لها منسوب
وغير ذلك مما يطول وكانت وفاته بالحزيبة بالتصغير من أعمال دوعن من حضرموت في تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وألف.(2/225)
علي بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن عبد الله بن يحيى بن أبي يحيى بن أحمد بن السراج أبو الحسن الأنصاري السجلماسي الجزائري قال تلميذه الإمام العلامة عيسى أبو مهدي بن محمد الثعالبي نزيل مكة رأيت بخطه نسبه مرفوعاً إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج وكان عالماً محدثاً أخبارياً أديباً قال الفيومي والشلي ولد بثافلات ونشأ بسجلماسة ثم رحل إلى فاس وأدرك بها جلة العلماء فأخذ عنهم بها عدة فنون وكان جل أخذه عن الأستاذ الكبير نخبة الشرف السيد أبي محمد عفيف الدين عبد الله بن علي بن طاهر الحسني السجلماسي والعالم الولي بقية السلف أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الدلائي الصنهاجي وحافظ العصر أبي العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني وبلغ الغاية القصوى في الرواية والمحفوظات وكثرة القراءة وحكى بعض تلامذته أنه قرأ الستة على مشايخه دراية وقرأ البخاري سبع عشرة مرة بالدرس قراءة بحث وتدقيق ومر على الكشاف من أوله إلى آخره ثلاثين مرة منها قراءة ومنها مطالعة ثم رحل بعد الأربعين من بلاده فحج ودخل مصر في سنة ثلاث وأربعين وألف وأخذ بها عن الشهابين أحمد الغنيمي وأحمد بن عبد الوارث البكري وعن النور علي الأجهوري المار ذكرهم وغيرهم ولقيه الشيخ الإمام عبد القادر بن مصطفى الصفوري الدمشقي في مرتحله إلى القاهرة فأخذ عنه مع جمع ثم عاد إلى المغرب ووصل إلى فاس ثم صار مفتياً بالجبل الأخضر وبقي هناك وكان آية باهرة في جميع العلوم وجميع أحواله كلها مرضية وله مؤلفات كثيرة غالبها نظم منها التفسير بلغ فيه إلى قوله تعالى ولكن البر من اتقى وشرح النخبة لابن عاصم لم يخرج من المودة وتقييد على مختصر خليل لم يكمل والمنح الإحسانية في الأجوبة التلمسانية ومنها نظم السيرة النبوية سماه الدرة المنيفة في السيرة الشريفة افتتحها بقوله:
قال علي حامل الأوزار ... هو ابن عبد الواحد الأنصاري
ومنظومة جامعة الأسرار في قواعد الإسلام الخمس واليواقيت الثمينة في العقائد والأشباه والنظائر في فقه عالم المدينة وهو نظم وعقد الجواهر في نظم النظائر لم يتم والسيرة الصغرى نظم أيضاً والنظم المسمى بمسالك الوصول إلى مدارك الأصول ونظم أصول الشريف التلمساني وشرحه ومنظومة في وفيات الأعيان وأخرى في التفسير وأخرى في مصطلح الحديث وأخرى في الأصول غير ما تقدم وأخرى في النحو وأخرى في الصرف وأخرى في المعاني والبيان وأخرى في المعاني والبيان وأخرى في الجدل وأخرى في المنطق وأخرى في الفرائض وأخرى في التصوف وأخرى في الطب وأخرى في التشريح وشرح الأجرومية وشرح الدرر اللوامع لأبي الحسن بن بري وديوان خطب ونظم في مسئلة الأوتاد والأبدال وغير ذلك وكانت وفاته في أواخر شعبان سنة سبع وخمسين وألف شهيداً بالطاعون في الجزائر من الديار المغربية وسجلماسة تقدم الكلام عليها في ترجمة أحمد بن أبي مران.(2/226)
علي بن علي أبو الضياء نور الدين الشبراملسي الشافعي القاهري خاتمة المحققين وولي الله تعالى فحرر العلوم النقلية وأعلم أهل زمانه لم يأت مثله في دقة النظر وجودة الفهم وسرعة استخراج الأحكام من عبارات العلماء وقوة التأني في البحث والطف والحلم والإنصاف بحيث أنه لم يعهد منه أنه أساء إلى أحد من الطلبة بكلمة حصل له منها تعب بل كان غاية ما يقول إذا تغير من أحد من تلامذته الله يصلح حالك يا فلان وكان شيخاً جليلاً عالماً عاملاً له قوة إقدام على تفريق كتائب المشكلات ورسوخ قدم في حل أقفال المقفلات مهاباً موقراً في النفوس بحيث أن الإنسان إذا تأمل وجهه النوراني ولحيته البيضاء الطاهرة وهيئته الحسنة يخشع لرؤيته ولا يريد مفارقته وكان حسن المنادمة لطيف المداعبة لا يتكلم إلا في ما يعنيه وكان مجلسه مصوناً عن الغيبة وذكر الناس بسوء وجميع أوقاته مصروفة في المطالعة وقراءة القرآن والصلاة والعبادة وكان زاهداً في الدنيا لا يعرف أحوال أهلها ولا يتردد إلى أحد منهم إلا في شفاعة خير وكان إذا مر في السوق تزاحم الناس مسلمها وكافرها على تقبيل يده ولم ينكر أحد من علماء عصره وأقرانه فضله بل جميع العلماء إذا أشكلت عليهم مسئلة يراجعونه فيها فسينها لهم على أحسن وجه وأتمه وقال فيه العلامة سري الدين الدروري لا يكلمه أحد إلا علاه في كل فن وكان يقول ما في الجامع إلا الأعمى ويشير إليه وكان سري الدين هذا فريد عصره في العلوم النظرية وسئل البشبيشي عن سري الدين وعن المترجم فقال أن سري الدين كان إذا طالع الدرس لا يقدر عليه أحد فيه وإذا نقل إلى غيره وقف يشير إلى قلة استحضاره وأما الشبراملسي فكان إذا نقل إلى أي فن كان لا يختل ولا يتوقف لقوة فهمه وسرعة استحضاره للقواعد من العلوم وكان جبلاً من جبال العلم لا يضجر من البحث في الدرس ويتعب إن لم يبحث معه الطلبة ويقول لهم ما لنا اليوم هكذا وإذا بحث مع أحد من المتقدمين يبحث بغاية الأدب ومن مقولاته قيراط من الأدب خير من أربعة وعشرين قيراطاً من العلم ولد ببلده شبراملس وحفظ بها القرآن وكان أصابه الجدري وهو ابن ثلاث ستين فكف بصره وكان يقول لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأنه كان يومئذ لابسه ثم قدم مصر صحبة والده في سنة ثمان بعد الألف وحفظ الشاطبية والخلاصة والبهجة الوردية والمنهاج ونظم التحرير للعمر يطي والغاية والجزرية والكفاية والرحبية وغير ذلك وتلا جميع القرآن للسبعة من طريقي التيسير والشاطبية وختمه في سنة ست عشرة وألف ثم قرأه كله للعشرة من طريق الشاطبية وختمه في سنة خمس وعشرين وألف على شيخ القراء في زمانه الشيخ عبد الرحمن اليمني وحضر دروس الشيخ عبد الرؤوف المناوي في مختصر المزني في المدرسة الصلاحية جوار الإمام الشافعي وأخذ الفقه والحديث عن النور الزيادي وسالم الشبشيري وانتفع به كثيراً وكان يحكي عنه كرامة وقعت له معه تقدم ذكرها في ترجمة الشبشيري ولازم النور الحلبي صاحب السيرة الملازمة الكلية والشمس الشوبري وعبد الرحمن الخياري ومحيي الدين بن شيخ الإسلام وفخر الدين وسراج الدين الشنوانيين وسليمان البابلي ولزم في العقليات الشهاب الغنيمي وكان لا يفتر عن ذكره وسمع الصحيحين والشفاء على المحدث الكبير الشهاب أحمد السبكي شارح الشفاء وسمع أيضاً صحيح البخاري والشمايل والمواهب وشرح عقائد النسفي وشرح جمع الجوامع ومغني اللبيل وشرح ابن ناظم الخلاصة وشرح جوهرة التوحيد كل ذلك على البرهان اللقاني وحضر الأجهوري في شرح نخبة الأثر وشرح ألفية السيرة والجامع الصغير وشرح الشمسية وشرح التهذيب والحفيد وحضر عبد الله الدنوشري في جميع شرح ابن عقيل وشرح البهجة للولي العراقي في مقدمتين في العروض وتصدر للإقراء بجامع الأزهر فانفرد في عصره بجميع العلوم وانتهت إليه الرياسة وكان آخر أقرانه موتاً ولازمه لأخذ العلم عنه أكابر علماء عصره كالشيخ شرف الدين بن شيخ الإسلام والشيخ زين العابدين ومحمد البهوتي الخسلي ويس الحمصي ومنصور الطوخي وعبد الرحمن المحلي والشهاب البشبيشي والسيد أحمد الحموي وعبد الباقي الزرقاني وغيرهم ممن لا يحصى وكان يكتب على جميع ما يقرؤه من الكتب ولو جمع ما كتبه لجاوز الحد ولكنه تبدد بين يدي طلبته فمنهم من نسب ما بيده له ومنهم من مات وذهب ما كتبه ولم يشتهر من مؤلفاته(2/227)
إلا حاشيته على المواهب اللدنية في خمس مجلدات ضخام وحاشية على شرح الشمايل لابن حجروحاشية على شرح الورقات الضغير لابن قاسم وحاشية على شرح أبي شجاع لابن قاسم الغزي وحاشية على شرح الجزرية للقاضي زكريا وحاشية على شرح المنهاج النهاية للشمس الرملي وسبب كتابته عليه أنه كان يطالع التحفة لابن حجر فأتاه الشمس الرملي في المنام وقال له يا شيخ علي أحي كتابي النهاية يحيى الله قلبك فاشتغل بمطالعتها من ذلك الحين وتقيد به وكتب عليه هذه الحاشية في ست مجلدات ضخام وكان إذا أتى إلى الدرس في آخر عمره يجلس وهو في غاية التعب من الكبر بحيث أنه لا يستطيع النطق إلا بصوت خفي ثم يقوى في الدرس شيئاً فشيئاً حتى يصير كالشاب ويتجلد للبحث وكان كثير المطالعة وإذا تركها أياماً تأتيه الحمى والحاصل أنه مستحسن الخصال كلها وكانت ولادته في سنة سبع أو ثامن وتسعين وتسعمائة وتوفي ليلة الخميس ثامن عشر شوال سنة سبع وثمانين وألف وتولى عسله بيده تلميذه الفاضل أحمد البناء الدمياطي فإنه أتاه في المنام قبل موته بأيام وأمره أن يتولى غسله فتوجه من دمياط إلى مصر فأصبح بها يوم وفاته وباشر غسله وتكفينه بيده وحكي أنه لما وضأه ظهر منه نور ملأ البيت بحيث أنه لم يستطع بعد النظر إليه وصلى عليه بجامع الأزهر يوم الخميس إماماً بالناس الشيخ شرف الدين بن شيخ الإسلام زكريا وكان له مشهد عظيم وحصل للناس عليه من الجزع ما لم يعهد لمثله والشبراملسي بشين معجمة فموحدة فألف مقصورة على وزن سكرى كما في القاموس مضافة إلى ملس بفتح الميم وكسر اللام المشددة وبالسين المهملة أو مركبة تركيب مزج وهي قرية بمصر.ا حاشيته على المواهب اللدنية في خمس مجلدات ضخام وحاشية على شرح الشمايل لابن حجروحاشية على شرح الورقات الضغير لابن قاسم وحاشية على شرح أبي شجاع لابن قاسم الغزي وحاشية على شرح الجزرية للقاضي زكريا وحاشية على شرح المنهاج النهاية للشمس الرملي وسبب كتابته عليه أنه كان يطالع التحفة لابن حجر فأتاه الشمس الرملي في المنام وقال له يا شيخ علي أحي كتابي النهاية يحيى الله قلبك فاشتغل بمطالعتها من ذلك الحين وتقيد به وكتب عليه هذه الحاشية في ست مجلدات ضخام وكان إذا أتى إلى الدرس في آخر عمره يجلس وهو في غاية التعب من الكبر بحيث أنه لا يستطيع النطق إلا بصوت خفي ثم يقوى في الدرس شيئاً فشيئاً حتى يصير كالشاب ويتجلد للبحث وكان كثير المطالعة وإذا تركها أياماً تأتيه الحمى والحاصل أنه مستحسن الخصال كلها وكانت ولادته في سنة سبع أو ثامن وتسعين وتسعمائة وتوفي ليلة الخميس ثامن عشر شوال سنة سبع وثمانين وألف وتولى عسله بيده تلميذه الفاضل أحمد البناء الدمياطي فإنه أتاه في المنام قبل موته بأيام وأمره أن يتولى غسله فتوجه من دمياط إلى مصر فأصبح بها يوم وفاته وباشر غسله وتكفينه بيده وحكي أنه لما وضأه ظهر منه نور ملأ البيت بحيث أنه لم يستطع بعد النظر إليه وصلى عليه بجامع الأزهر يوم الخميس إماماً بالناس الشيخ شرف الدين بن شيخ الإسلام زكريا وكان له مشهد عظيم وحصل للناس عليه من الجزع ما لم يعهد لمثله والشبراملسي بشين معجمة فموحدة فألف مقصورة على وزن سكرى كما في القاموس مضافة إلى ملس بفتح الميم وكسر اللام المشددة وبالسين المهملة أو مركبة تركيب مزج وهي قرية بمصر.(2/228)
علي بن عمر المشهور بالعقيبي الشيخ العارف بالله تعالى ابن الشيخ العارف بالله تعالى زين الدين نزيل دمشق المجمع على ولايته وكان حموياً وهو من أكبر تلامذة الشيخ علوان وكان أمره بالذهاب إلى دمشق فقدمها وسكن بمحلة العقيبة خارج دمشق عند جامع التوبة ولهذا لقب بالعقيبي وابنه علي هذا أدرك الشيخ علوان وولي مشيختهم بعد أخيه الشيخ محمد وكان له ذوق في بيان الخواطر إذا شكيت إليه وحكي أن الشهاب أحمد بن البدر الغزي لقيه يوماً فقال له يا سيدي رأيت في بعض الكتب عن بعض السادة يا نفس هوني وعلى ما كانت الناس كوني وتأملت في ظاهر هذا الكلام فرأيته غير مسلم فقال له يا مولانا المراد بالناس الكاملون في الإنسانية مثل أبي بكر وعمر وأمثالهما فقال له الشهاب بارك الله تعالى فيك بهذا يزول إشكال هذا الكلام قال النجم في ترجمته لقيناه وصحبناه برهة من الزمان ودخلت عليه في مرض موته فسمعته يقول وهو في سكرات الموت يا سيدي يا حبيبي يا ربي والله إنك لتعلم أني أحبك ثم مات عشية ذلك اليوم وكان قد ضعف بصره في آخر عمره ويقال أنه أوفى على المائة سنة ومات في ليلة السبت سابع شهر ربيع الأول سنة إحدى بعد الألف ودفن عند أبيه بزاويتهم بمحلة العقيبة وكانت له جنازة مشهودة وجلس ولده الشيخ أبو الوفا مكانه بالزاوية يوم الثلاثاء رابع يوم دفنه واجتمعت عليه الفقراء.
علي بن عمر بن علي بن محمد فقيه بن عبد الرحمن بن الشيخ علي السيد العالم الهمام العلي القدر قال الشلي في ترجمته ولد بتريم وحفظ القرآن وعدة متون منها الإرشاد وعرض محفوظاته على مشايخه ثم اشتغل بتحصيل العلوم الشرعية والأدبية والصوفية وجد حتى عد من الفحول وتفقه على شافعي زمانه القاضي أحمد بن حسين بلفقيه وأخذ التفسير والحديث والمعاني والبيان عن العلامة أبي بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين والعربية والفقه وغيرهما عن أحمد بن عمر عيديد والتصوف والحديث وغيرهما عن تاج العارفين الشيخ زين العابدين وابن أخيه عبد الرحمن السقاف وأخذ ذلك عن العارف بالله السيد علوي بن عبد الله العيدروس ولازمه وأكثر التردد إليه وكان جل انتفاعه به واعتنى به الشيخ علوي من بين أصحابه ورحل إلى وادي دوعن ووادي عمد وأخذ بهما عن أكابر العلماء ولبس الخرقة من مشايخه المشهورين وأذنوا له في الإلباس والإقراء ونفع الناس وبرع في عدة علوم إلا أن الفقه أشهر علومه والتصوف أكثر معلوماته وكان حسن المذاكرة كثير الفوائد كريماً سخياً عفيفاً ذكياً بصيراً بالأمور نظيف الثياب كثير البشاشة محبوباً لجميع الأنام مقبول الشفاعة وجمع كتباً كثيرة ووقفها على طلبة العلم بتريم وتوفي قبل الاكتهال في أوائل شوال سنة ثمان وثلاثين وألف ودفن بمقبرة زنبل رحمه الله تعالى.
علي بن عمر بن علي بن عبد الله بن عمر بن سالم بن محمد بن عمر بن علي بن أحمد بن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم اشتهر جده الأعلى بباعمر الولي العارف القطب قال الشلي في ترجمته ولد بمدينة ظفار ونشأ بها وحفظ القرآن واشتغل بالتحصيل فأخذ عن الشيخ عقيل بن عمران ولازمه في دروسه واعتنى به الاعتناء التام حتى وصل إلى رتبة السادة ثم قصد مكة فحج ثم دخل الهند وبلاد جاوة ثم رجع إلى وطنه وعظم قدره وأزال ما فيها من الفساد وانقادت لأمره أهل دائرتها وجلس للتدريس فقصده الناس ثم قصد مكة وأقام بها مدة وأخذ عن جمع كثير وأخذ عنه كثيرون قال الشلي وحضر بعض دروسي وسمع مني بقراءة غيره وأجزته بجميع مصنفاتي ومروياتي والبسته الخرقة ثم قصد المدينة وحصل له هناك غاية الإنعام وأخذ بها عن جماعة وأخذ عنه جماعة من المريدين ثم رجع إلى وطنه وهو فريد زمانه منحه الله تعالى حسن الأخلاق وحلماً عظيماً وغير ذلك من المحاسن وله نظم ونثر قلت لم يذكر له شيئاً منهما وكانت وفاته بظفار في سنة ست وتسعين وألف.(2/229)
المنلا علي بن المنلا قاسم بن نعمة الله الشيرازي المكي الأديب الفاضل ذكره ابن معصوم في سلافته فقال في نعته هو إمام المعاني والبيان والغني فضله عن الإيضاح والتبيان ومن عليه المعول في كل مختصر ومطول وأما الأدب فإن نثر فالنثرة في قلق أو شعر عاذت الشعرى برب الفلق وهو شيرازي المحتد حجازي المولد وجده الرابع من آبائه الشيخ ظهير الدين كان أحد العلماء المحققين وله بشيراز مدرسة وطلبة ورتبة أحرز بها من الخير ما طلبه وولد صاحب الترجمة بمكة ونشأ بها وأكب على كسب العلم وتحصيله وتأثيل الفضل وتأصيله حتى ظهر شأنه وتهدلت بفنون العلم أفنانه فلما نبا به الوطن وضاق عنه العطن ارتاح للسفر وأمل حصول الظفر وامتثل قول الأول وإذا نبا بك منزل فتحول فدخل العجم أولاً والهند ثانياً وراح لعنانه عن أوطانه ثانياً فاختطفته المنية في بعض البلاد الهندية ثم أنشد له قوله في صدر الكتاب
أناخ بسوحي جيش هم وأبطال ... وأضحى قرين القلب من بعد ترحال
وما فل ذاك الجيش غير صحيفة ... تجل لعمري عن شبيه وتمثال
أتت تسلب الألباب طرا كأنها ... ربيبة خدر ذات سمط وخلخال
أتت من خليل قربة غاية المنى ... ومنظره الأسنى غدا جل آمالي
فلا زال محفوظاً عن الحزن والأسى ... ولا زال محفوفاً بعز وإجلال
وقوله مضمناً
ولما أتتني من جنابك نفحة ... تضوع من أنفاسها المسك والتد
وقفت فأتبعت الرسول مسائلاً ... وأنشدته بيتاً هو العلم الفرد
وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... شجونا فزدني من حديثك يا سعد
والبيت المضمن للعباس بن الأحنف وبعده
هواها هوى لم يعرف القلب غيره ... فليس له قبل وليس له بعد
قلت وصاحب الترجمة كان تزوج بأم السيد علي صاحب السلافة واستولدها ولده أحمد بن المنلا أحد أدباء مكة الآن وهو في الأحياء كامل الأدوات لطيف الذات فهو أخو السيد علي بن معصوم لأمه وكانت وفاة المترجم في المحرم سنة إحدى وخمسين وألف.(2/230)
علي بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم الملقب علاء الدين بن نور الدين بن القاضي برهان الدين البعلي المعروف بابن المرحل الإمام الفقيه المالكي المذهب القاضي المفتي نزيل دمشق ينتهي نسبه إلى صدر الدين بن الوكيل قرأ ببلده بعلبك على الشيخ شهاب الدين الفصي وغيره ورحل إلى مصر في رمضان سنة تسع وأربعين وتسعمائة وأخذ عن ابن الصيرفي وحج من مصر في تلك السنة وعاد إليها وصحب الشيخ شرف الدين البرهمتوشي الحنفي وقرأ في الرسالة على الشيخ الإمام عبد الرحمن التاجوري المغربي وعلى الشيخ الصعيدي والمختصر للشيخ خليل على الشيخ ناصر الصعيدي مراراً وتفقه على الشيخ عبد الرحمن الأجهوري والناصر اللقاني وآخرين وأخذ النحو عن الشيخ سراج الدين إمام الحنفية بجامع الأزهر وصحب الشيخ الأستاذ أبا الحسن البكري ثم حج ودخل اليمن وأقام بها مدة ثم عاد إلى بعلبك وأقام بها يدرس ويفتي حتى جرت له بها محنة سافر بسببها إلى الروم ثم دخل في سنة ثلاث وستين وتسعمائة وقطن بها وصحب الشهاب الغزي وقرأ عليه قطعة من الإحياء ولازم درس البدر الغزي في الحديث والتفسير وغيرهما وقرأ على العلاء بن عماد الدين والشهاب الفلوجي والبدر حسن بن المزلق ثم صحب الشيخ أحمد بن سليمان الصوفي والشيخ عبد القادر بن سوار ولازم عنده حضور المحيا إلى الممات وكان يصحب أيضاً الشيخ محمد بن سعد الدين وأخاه الشيخ إبراهيم وكان به أخص وكان من أشراف الناس انتهت إليه رياسة مذهبه وكان يحفظ المذهب على ظهر قلبه وولي نيابة القضاء بمحكمة الباب مراراً ولم يتناول شيئاً من المحصول ويقول للقضاة أنا مرادي بالنيابة قيام الناموس وكان عنده حمية وولي إمامة المالكية بالجامع الأموي وكان سليط اللسان قوي النفس في إنكار المنكر وغيره وكان يعزل نفسه عن لنيابة لنصرة الحق ولتنفيذ كلمته ثم تلاطفه القضاة فيعود إلى النيابة عزيزاً مكرماً وفرغ عن النيابة والإمامة آخراً وحج صحبة الشيخ إبراهيم بن سعد الدين وجاورا وعاد في سنة تسع وتسعين وتسعمائة وبقي يفتي إلى أن مات وكانت ولادته في سنة ثمان عشرة وتسعمائة وتوفي في شهر ربيع الأول سنة ثلاث بعد الألف ودفن خارج باب الله عند قبور بني سعد الدين.(2/231)
علي بن محمد بن علي بن خليل بن محمد بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن غانم بن علي بن حسن بن إبراهيم بن عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة سيد الخزرج الخزرجي السعدي العبادي المقدسي الأصل القاهري المولد والسكن الملقب نور الدين الحنفي العالم الكبير الحجة الرحلة القدوة رأس الحنفية في عصره وإمام أئمة الدهر على الإطلاق وأحد أفراد العلم المجمع على جلالته وبراعته وتفوقه في كل فن من الفنون وبالجملة والتفصيل فهو أعلم علماء هذا التاريخ وأكثرهم تبحراً وأجمعهم للفنون مع الولاية والورع والزهد والشهرة الطنانة التي سلم لها أهل عصره وأذعنوا لها مع أن العصريين يجحدون فضل بعضهم بعضاً ولا يذعنون كل الإذعان وقد وقفت على أخباره كثيراً من التواريخ وكتب الآداب المؤلفة فانتقيت ما يحصل المراد من ترجمته فأقول أنه نشأ بمصر وحفظ القرآن وتلاه بالسبع على الشيخ الفقيه الورع الزاهد شهاب الدين أحمد بن الفقيه علي بن حسن المقدسي الحنبلي وأخذ عن قاضي القضاة محب الدين أبي الجود محمد بن إبراهيم السديسي الحنفي قرأ عليه القراآت والفقه وسمع عليه كثيراً وعن قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن عبد العزيز علي الفتوحي الحنبلي الشهير بابن النجار وقرأ عليه الصحيحين وبعض كل من السنن الأربعة وسمع عليه بعض معاني الآثار للطحاوي وغير ذلك من كتب الحديث وغيرها ومن مشايخه المحقق شهاب الدين أحمد بن يونس الحلبي الشهير بابن الشلي صاحب الفتاوى قرأ عليه الفقه وسمع عليه الحديث وغيره ومنهم خاتمة المحققين الشيخ ناصر الدين الطبلاوي والشيخ الإمام ناصر الدين اللقاني المالكي والأستاذ العارف الكبير أبو الحسن البكري والشيخ الشهاب الرملي والعلامة الشهير بعالم الربع العامر الإمام المفنن شمس الدين محمد الشهير بمفوش المغربي التونسي قرأ عليه بعض مسلم وأجازه بسائره وقرأ عليه وسمع عنده كثيراً من العلوم ومنهم الشيخ المسند شمس الدين محمد بن شرف الدين السكندري يروى عنه الحديث المسلسل بالأولية والكتب الستة والقراآت ومنهم السيد قطب الدين عيسى بن صفي الدين الشيرازي ثم المكي الشهير بالصفوي يروي عنه البخاري والشفاء سماعاً لبعضهما وأجازه لسائرهما وشاركه في الأخذ عن شيخه السيد أبي الفضل الأسترابادي تلميذ شيخ الإسلام أحمد بن يحيى الهروي حفيد السعد التفتازاني سمع عليه التلويح للتفتازاني وسمع على السيد الشريف مير عليم البخاري شارح الفوائد الغياثية والمولى محمد بن عبد القادر الشهير بمعلول أمير وقاضي القضاة عبد الله بن عبد العزيز الشهير ببروير قاضي العسكر بمصر وكلاهما يروى عن العلامة أحمد بن سليمان الشهير بابن الكمال المفتي والمولى سعدي المحشي المفتي وتفوق على أهل عصره في كل علم وكان إليه الرحلة من الآفاق وأفتى مدة حياته وانتفع به الجسم الغفير من كبار أهل زمانه منهم الشهابان الغنيمي والخفاجي وأبو المعالي الطالوي الدمشقي وغيرهم ممن لا يحصى وولي المناصب الجليلة كإمامة الأشرفية ومشيختها ومشيخة مدرسة الوزير سليمان باشا ومشيخة الإقراء بمدرسة السلطان حسن وتدريس الصرغتمشية وغير ذلك وحج مرتين ورحل إلى القدس ثلاث مرات وألف التآليف النافعة في الفقه وغيره منها شرح نظم الكنز سماه الرمز وشرح الأشباه والنظائر وله الشمعة في أحكام الجمعة التي قال في مدحها المولى علي بن أمر الله الحنائي
لقد أنست عيناي لمحة شمعة ... توقد من مشكاة علم وإيقان
جلا نورها الوضاح أفق كماله ... غياهب شك كان في ليل نقصان
وكتب عليها شاه محمد الغناري
أضاءت خفيات العلوم بشمعة ... توقد في مشكاة علم وإتقان
جلا نورها البادي بصبح كمالها ... غياهب شك كان في ليل نقصان
وله غير ذلك وذكره الخفاجي وقال في وصفه إمام اقتدت به علماء الأمصار وتنزهت من فضائله في حدائق ذات بهجة وأنوار أثمرت أغصان الأقلام في حدائق فضائله وسالت في بطاح المكارم بحار فواضله
فالناس كلهم لسان واحد ... يتلو الثناء عليه والدنيا فم(2/232)
فالعلم مدينة وعلي بابها وكعبة تحج لها آمال الفضلاء وألبابها لو مست راحته هذا السحاب أمطر كرماً ومجداً أو النجوم جرين في التربيع سعداً ولو رآه النعمان لقال هذا أخي وشقيقي أو الصاحب لقال أنت في طرق البلاغة رفيقي
صفاته لم تزد معرفة ... لكننا لذة ذكرناها
وله في كل فن كعب علي وفكر بنقد جواهر ملي مع نباهة تحلت بها الأشعار وطارت بأجنحة الثناء في الأقطار كأنه بكر معنى سار في مثل كما قال في قصيدة له
لله درك يا من نظمه درر ... قلائد لنحور الغيد تدخر
أو روض فضل نضير لا نظير له ... في دوحه ثمر ما مثله ثمر
مسك الفصاحة من فحواه منتشق ... واللؤلؤ الرطب من معناه منتثر
دخلت ناديه والكون متعطر بنشره متبسم الأيام بثغر سروره وبشره وقرأت عليه طرفاً من العلوم ومن حديث الرسول وأمدني بدعاء لا أشك في أنه على أكف القبول محمول وكان ينوه باسمي ويتوج رأس الدهر برسمي وكنت وأنا أجتني باكورة التحصيل كتبت عند ورود البشائر بوفاء النيل له بيتين وهما
قسماً ليس نيل كفك كالنيل إذا راية المكارم تنشر
أنت عند الوفاء طلق المحيا ... وأرى النيل في الوفا يتكدر
فنثر عليهما من نثار الاستحسان ما يهزأ بانتظام عقود الجمان قال قلت ولم أورد غير هذا من شعره لما قاله ابن بسام في الذخيرة أشعار العلماء على قديم الدهر وحديه بينة التكليف وشعرهم الذي روى لهم ضعيف مشا طائفة منهم خلف الأحمر فإن له ما يستندر هذا ما أورده وأنت إذا أنصفت لم تقدم على هذه المقالة في حق ما أورده من هذه الأبيات فإنها متنزهة عن التكلف والاعتساف وترجمه عبد الكريم بن سنان المنشي فأحسن في ترجمته كل الإحسان حيث قال علي الذات قدسي الصفات العقل الحادي عشر روح القدس في صورة البشر درة مقدسية الصدف من فاق شمس الإشراق في الشرف صاحب أنفاس قدسية وفصاحة قسية نخبة عصره وعزيز مصره له أخلاق أرق من نسمات السحر وألطف من نغمات الوتر تحلى جيده بقلائد الفتوى وعقدت له بالقاهرة عروس الفتوى وكنت في شرح الشباب ركبت غارب الاغتراب فلما أنخت مطية السفر بالقاهرة المعزية أشرفت على شمس ذاته العلية فتقرطقت أذني بلآلئ كلامه واكتحلت عيني بمواقع أقلامه وذلك التاريخ في حدود التسعين والشيخ قد رقي شرف الثمانين وهواي إذ ذاك مع الركب اليمانين قرأت عليه مقدمة الإعراب الحاجبية وسرحت طرف الطرف في رياض فضائله الجنية وكان مع غزارة فضله جامعاً بين النظم ولنثر وناظماً لهما في سلك السحر وله آثار يحق أن تكتب بالنور على صفحات وجنات الحور وكان له من الزهد حظ وافر وقد رزق من العمر ما ألحق الأصاغر بالأكابر ولم يزل بنان قلمه يحل عقد المسائل ومورد فضله لكل سائل سائل إلى أن ختمت صفحات حسناته وجف من منهل العمر ماء حياته وله أبيات يقرظ بها كتاباً حازت من نقد البلاغة نصاباً ويعجبني منها في الاعتذار عن التقريظ بيت ولعمري إنه بيت لا يقال فيه لو ولا يا ليت وهو
جعلت تقريظي له عوذة ... تقيه من شر أذى العين(2/233)
انتهى وذكره ابن نوعي في ذيل الشقائق واستوعب ذكر علومه وأحواله ثم قال وكان مع علمه الزاخر عالماً بغرائب الفنون وله أفاعيل عجيبة في باب السيميا منها ما حكى أن أحمد باشا الحافظ لما كان والياً بمصر في حدود سنة ألف غضب على بعض الجناة فأمر به إلى مركب الحجر وكان له والد ووالدة فتوسلا بالشيخ فشفع عنده فيه فلم يقبل شفاعته فأراه في الحال من ضروب السيميا أنه جاءه من طرف الدولة بريد وأنه خرج إلى استقباله في مركب فصادف مراكب الفرنج فأسروه هو وجماعته وربطوهم للجدف بالمجاديف فبينما هو كذلك إذ رأى الشيخ المترجم واقفاً على ساحل البحر وهو يخاطبه كيف رأيت جدف المجاديف هل هو سهل وهل تريد الخلاص فاستغاث به فمسك بيد الحافظ وحركه فتنبه ونظر إلى حالته فرأى نفسه في مقامه الأول والمجلس لم يتغير وكأن غيبته كانت لحظة فهوى على يد الشيخ يقبلها وأمر بإطلاق ذلك الرجل واتفق له بعدها مع الحافظ المذكور أنه صحبه للتنزه في المكان المعروف بالسبيكة فطلب منه أن يريه شيئاً من الأعمال الغريبة في السيميا فطلب الشيخ منه خاتمه الذي في يده فلما أعطاه إياه ألقاه في النيل فبعد حصة من النهار جيء إلى المجلس ببطيخ فأشار إلى الحافظ بأن الهواء حار جداً فلا بأس بأن تقطعوا البطيخة أنتم ليحصل لكم رطوبة فامتثل أمره فلما فلقها خرج الخاتم في وسطها قال وحكي أنه نشأ له ولد وكان يميل إليه ميلاً زائداً فعلمه العلوم الغريبة بأسرها ثم أنه تغلغل في الهوى والفسق والفجور وتعرض لبعض حرم المسلمين فأفتى الشيخ بقتله آخراً وذهب إلى الحافظ وأمره بقتله فسجل عليه وقتل ومن فوائده المنظومة نظم من حفظ القرآن في زمنه صلى الله عليه وسلم
وحافظ القرآن بالغيوب ... زيد أبو زيد أبو أيوب
عثمان منهم وتميم الداري ... عبادة معاذ الأنصاري
ونظمهم أيضاً وهم ثمانية
وجامع القرآن في عصر النبي ... زيد وثابت معاذ وأبي
عثمان منهم وتميم الداري ... عبادة بن الصامت الأنصاري
وله نظم من أفتى في عصره صلى الله عليه وسلم على ما في شرح المشارق للأربلي
فاز جمع في الصحب بالإفتاء ... فمعاذ مع أربع الخلفاء
وأبي ونجل مسعود زيد ... وابن عوف كذا أبو الدرداء
ثم سلمان مع حذيفة عمار مع الأشعري رب الثناء
وذكره المناوي في طبقات الأولياء وعدد العلوم التي ينسب إليه معرفتها وإتقانها ثم قال وصار في آخر أمره حفيظاً على المراقبة يقوم الليل في عبادة رب العالمين وينام النهار بعد التوقيع على أسئلة المسلمين ويبر الفقراء ويتحيل على كتمان أمره ويفرق الذهب ويحافظ على ستره وكان يجتمع بالفقراء ويحبهم ويحبونه ويعرفهم ويعرفونه ويكرمه الحاضر والبادي وكم له على أهل مصر من الأيادي يعظم الصوفية ويحسن فيهم الاعتقاد ويقول طريق الصوفية إذا صحت طريق الرشاد ورأى المصطفى صلى الله عليه وسلم مراراً عديدة وأخبر شيخه الشيخ كريم الدين الخلوتي أنه شهد الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة وأنه وصل إلى مقام استحق أن يأخذ العهد ويربى وأجازه بذلك ولم يزل على هذا حتى حل بحماه الحمام قال النجم الغزي وقرأت بخطه أن مولده في أوائل ذي القعدة الحرام عام عشرين وتسعمائة ثم رأيت بخط الشيخ عبد الغفار العجمي القدسي أن ولادته كانت في سادس ذي القعدة من السنة المذكورة فهو بيان للأوائل وتوفي ليلة السبت ثامن عشرى جمادى الآخرة سنة أربع بعد الألف وصلي عليه بجامع الأزهر في محفل حافل ودفن بين القصرين من يوم السبت بتربة المجاورين قبلي مدفن السراج الهندي وكان قبل وفاته بخمسة وأربعين يوماً توفي في شيخ الشافعية في وقته الإمام الكبير الشمس الرملي فقال بعض الأدباء بالقاهرة في تاريخ وفاتهما
لما قضى الرملي شيخ الورى ... من كان يملي مذهب الشافعي
ثم تلاه المقدسي الذي ... حاز علوم الصحب والتابعي
فقلت في موتهما أرخا ... مات أبو يوسف والرافعي(2/234)
قلت وسيأتي في ترجمة الرملي المذكور أنه ذهب كثير إلى أنه المجدد على رأس المائة وأن المجدد لا يستقل بمذهب دون مذهب بل ولا منصب دون منصب فلعل صاحب الترجمة يكون المجدد من الحنفية والرملي من الشافعية والله أعلم.
علي بن محمد سلطان الهروي المعروف بالقاري الحنفي نزيل مكة وأحد صدور العلم فرد عصره الباهر السمت في التحقيق وتنقيح العبارات وشهرته كافية عن الإطراء في وصفه ولد بهراة ورحل إلى مكة وتديرها وأخذ بها عن الأستاذ أبي الحسن البكري والسيد زكريا الحسيني والشهاب أحمد بن حجر الهيتمي والشيخ أحمد المصري تلميذ القاضي زكريا والشيخ عبد الله السندي والعلامة قطب الدين المكي وغيرهم واشتهر ذكره وطار صيته وألف التآليف الكثيرة اللطيفة التأدية المحتوية على الفوائد الجليلة منها شرحه على المشكاة في مجلدات وهو أكبرها وأجلها وشرح الشفاء وشرح الشمايل وشرح النخبة وشرح الشاطبية وشرح الجزرية ولخص من القاموس مواد وسماه الناموس وله الأثماء الجنية في أسماء الحنفية وشرح ثلاثيات البخاري ونزهة الخاطر الفاتر في ترجمة الشيخ عبد القادر لكنه امتحن بالاعتراض على الأئمة لا سيما الشافعي وأصحابه رحمهم الله تعالى واعترض على الإمام مالك في إرسال اليد في الصلاة وألف في ذلك رسالة فانتدب لجوابه الشيخ محمد مكين وألف رسالة جواباً له في جميع ما قاله ورد عليه اعتراضاً وأعجب من ذلك ما نقله عنه السيد محمد بن عبد الرسول البرزنجي الحسيني في كتابه سداد الدين وسداد الدين في إثبات النجاة في الدرجات للوالدين أنه شرح الفقه الأكبر المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى وتعدى فيه طوره في الإساءة في حق الوالدين ثم إنه ما كفاه ذلك حتى ألف فيه رسالة وقال في شرحه للشفاء متبجحاً ومفتخراً بذلك أني ألفت في كفرهما رسالة فليته إذ لم يراع حق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث آذاه بذلك كان استحيا من ذكر ذلك في شرح الشفا الموضوع لبيان شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد عاب الناس على صاحب الشفاء ذكره فيه عدم مفروضية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة وادعى تفرد الشافعي بذلك بأن هذه المسئلة ليست من موضوع كتابه وقد قيض الله تعالى الإمام عبد القادر الطبري للرد على القارئ فألف رسالة أغلظ فيها في الرد عليه وبالجملة فقد صدر منه أمثال لما ذكر كان غنياً عن أن تصدر منه ولولاها لاشتهرت مؤلفاته بحيث ملأت الدنيا لكثرة فائدتها وحسن انسجامها وكانت وفاته بمكة في شوال سنة أربع عشرة وألف ودفن بالمعلاة ولما بلغ خبر وفاته علماء مصر صلوا عليه بجامع الأزهر صلاة الغيبة في مجمع حافل يجمع أربعة آلاف نسمة فأكثر.(2/235)
علي بن محمد الملقب علاء الدين بن ناصر الدين الطرابلسي الأصل الدمشقي الحنفي شيخ الإقراء بدمشق وإمام الجامع الأموي كان علامة في القراآت والفرائض والحساب والفقه وغيرها وله تآليف عديدة أشهرها شرحه على فرائض ملتقى الأبحر سماه سكب الأنهر وله مقدمة في علم التجويد سماها المقدمة العلائية في تجويد التلاوة القرآنية ونظم أسئلة تتعلق ببعض المشكلات والألغاز في القراآت العشر وسماها الألغاز العلائية وعدة أبياتها مائة وستة وعشرون بيتاً ولم يجب عنها أحد إلى الآن ووقع له في بعض تآليفه عند ذكر تاريخ ختامه هذا التركيب وقد انتهى في التاريخ الموافق للخمس الخامس من السدس الرابع من الثلث الثالث من الربع الثاني من العشر العاشر من العشر التاسع من العشر العاشر من الهجرة النبوية وقد سألني في حله بعض الأصدقاء فوفقت إليه بعناية الله تعالى ومراده أنه انتهى في اليوم العشرين من جمادى الآخرة لسنة تسعين وتسعمائة لأن المائة العاشرة عاشر أعشار الألف وتاسع أعشار المائة من الأحد والثمانين إلى التسعين وعاشر العشرة هو سنة تسعين والثلث الثالث من الربع الثاني هو الشهر السادس من السنة وهو جمادى الآخرة ورابع أسداسه من ستة عشر إلى عشرين وخامس السدس هو العشرون انتهى وله آثار كثيرة تدل على نباهته ومولده بدمشق وقرأ القرآن على مشايخ منهم والده والشهاب الطيبي الكبير والشيخ عبد الوهاب الحنفي إمام الحنفية بدمشق والشيخ شهاب الدين الأيدوني الشافعي إمام الجامع الأموي والشهاب الفلوجي الإمام الشافعي بالجامع أيضاً وجمع القراآت السبع ثم العشر على المشايخ المذكورين وتفقه على الشيخ عبد الوهاب المذكور وعلى شيخ الإسلام النجم البهنسي شارح الملتقى خطيب دمشق في وقته ومفتيها وقرأ الفرائض على الشيخ محمد النجدي الحنبلي الفرضي وعلى الشهاب العلموي الملقب بشكارة والحساب والجبر والمقابلة مع الهندسة على الشيخ عبد اللطيف بن الكيال المؤقت بالجامع الأموي وأخذ عنه كثيراً من علم الفلك وأخذ قواعد هذا العلم حتى مهر فيه عن الشيخ أبي بكر تقي الدين الصهيوني وأخذ الحديث رواية ودراية عن شيخ الإسلام البدر الغزي وعلوم العربية عن العماد الحنفي والشمس بن المنقار وعرض ألفية ابن مالك على العلامة العلاء بن عماد الدين وولي تدريس الدولعية واليونسية والكوجانية والصبابة وتدريس بقعة بالجامع الأموي وكان إمام الحنفية به وله كرسي وعظ في الأشهر الثلاثة وغير ذلك من الوظائف الدينية قال الحسن البوريني أخبرني من لفظه أن ولادته كانت في صبيحة نهار الجمعة مستهل شوال سنة خمسين وتسعمائة وتوفي بعد أن انقطع في بيته سنوات وأقعد عند طلوع الشمس من صبح يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الثانية سنة اثنتين وثلاثين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير غربي سيدي بلال الحبشي في قبر والده.
علي بن محمد المعروف برضائي سبط شيخ الإسلام زكريا بن بيرام المقدم ذكره القسطنطيني المولد قاضي القضاة بمصر الأديب الشاعر المشهور كان أوحد قطر الروم وباقعة تلك البقعة لطيف نفث السحر خفيف روح النظم والنثر وأشعاره بالتركية في الذروة العليا من الرقة والانسجام وحسن التأدية وهي مجموعة في ديوان مشهور وأما شعره العربي فلم أقف منه إلا على هذا المقطوع في النبغ وهو قوله
غليوننا حين همت كل نائبة ... به وسامرناهم وأفكار
قد اهتديت إلى شرب الدخان به ... كأنه علم في رأسه نار
وهو تضمين حسن فإن المصراع الأخير مضمن من قول الخنساء في أخيها صخر
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار(2/236)
وكان كثير الاعتناء بالأدب واختصر خريدة القصر للعماد الكاتب وسماه عود الشباب وقال في الاعتذار عن اختصاره ولما وجدت بعض نقده أزيف من زائج زماننا شرعت في تمييز الجياد واكتفيت باقتطاف الجياد من ثمار أغصانها بل فنعت بالعرف الضائع من بانها وإني وإن فاتني بعض جواهره فالغائص يعذر بما في يديه ويشكر الصبا مقبلاً من الحبيب ببعض عرف صدغيه فجاء بحمد الله تعالى غادة تسحر القلوب بألفاظها القسية وألحاظها البابلية تصيد القلوب بألحاظها التي زينها الجمال بالفتور فمن نظر فيه يشتعل قلبه بالنار وتكتحل عينه بالنور وإني غير آمل من أبناء الزمان تحسينهم وبقلادة حسن القبول توشيحهم وتزيينهم فإن من جرب الناس في أمرهم يعرف أن الناس مشتقون من دهرهم بل نؤمل من كرمهم الفسيح أن لا يوردوا وجهه بالتصريح بأنه قبيح
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحساناً وإجمال
ثم ختم الديباجة بذكر خاله شيخ الإسلام يحيى وجعل المختصر معنوناً باسمه وعقبه بهذه الأبيات وأظنها من نظمه
يا مصدر الآمال بدنا بعدما ... سقنا إليك مع الرجا أنقاضها
عش في ذرى كافي الكفاة مصاحباً ... نعما بياض الصبح خاف بياضها
وخذ الجواهر من قلائد مقولي ... إذ كان غيري مهدياً أعراضها
انتهى قال الشيخ مدين ولي قضاء مصر في سنة تسع وثلاثين وألف ودخل بولا في يوم السبت السابع من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين وهو رمدان ثم دخل محل حكمه بعد غروب شمس ليلة الخميس ثاني عشرى ذي الحجة ثم بعد ما شفي من الرمد حصل عنده إسهال فاستمر إلى أن مات به وكانت وفاته في الثامن والعشرين من صفر سنة تسع وثلاثين وألف بمنزل أخيه الأمير إسماعيل ودفن بالقرب من قبر القاضي بكار وكانت مدة إقامته بمصر دون ثلاثة أشهر انتهى قلت وقد بلغني أنه لما بلغت وفاته خاله المذكور قال آه وآه رضائي فصادف تاريخ وفاته.
علي بن محمد بن أبي بكر بن إبراهيم بن أبي القاسم بن عمر بن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عيسى مطير الحكمي اليمني علامة بني مطر المشهورين بالعلم والخير الصارفين نفائس أوقاتهم في خدمة الحديث النبوي والملازمين الأتباع للشرع المصطفوي فضلهم مشهور لا يحتاج إلى بيان كالشمس لا تحتاج إلى دليل وبرهان ولد سنة خمسين وتسعمائة وحفظ القرآن واشتغل بفنون العلوم وأخذ عن شيوخ كثيرين منهم الأمين بن إبراهيم بن مطير وأبو بكر بن إبراهيم مطير والفقيه عبد السلام النزيلي وغيرهم وألف المؤلفات الكثيرة النافعة الشهيرة منها الإتحاف مختصر التحفة لابن حجر والديباج على المنهاج وكشف النقاب بشرح ملحة الإعراب للحريري وخلاصة الأحري في تعليق الطلاق على الأبرا وتكملة تفسير جده إبراهيم بن أبي القاسم مطير من أول الكهف إلى آخر القرآن المسمى بالضنائن وشرح قصيدة جده إبراهيم المذكور في التصوف سماها بالفتح المبين في شرح قصيدة الإمام ضياء الدين وغير ذلك وله شعر كثير منه قوله يمدح النبي صلى الله عليه وسلم
متيم إن سرت ريح الشآم صبا ... ومستهام إذا مرت عليه صبا
وذو شجون وما غنت مطوقة ... تبكي على الألف إلا دمعه سكبا
يبكي ويدمع لو فياض مدمعه ... من جوده جاد يواماً طوقها سلبا
وإن تذكر أياماً له سفلت ... مع الأحبة في أوطانهم جذبا
روى الربيع مغانيهم ومربعهم ... وعمم الغيث منها السهل والحدبا
وأزهر الروض منها والحمام غدت ... مغردات عليه تمتطي العذبا
وكلما رام يبغي نحوهم طرقاً ... يعمى السبيل عليه أينما ذهبا
سبحان من نفذت فينا مشيئته ... فما يسهل له سهل وما صعبا
ما زلت أقرع أبواب الرجا ورجا ... نفسي تفوز بجود شامل وحبا
وعمني الله بالإحسان مرحمة ... فضلاً من الله لا فرضاً ولا سببا
وإن تغلقت الأبواب عن أملي ... قصدت من طاب فرعاه وطاب أبا
محمد العاقب الماحي الذي انختمت ... به النبوة أعلى الورى رتبا(2/237)
فهو الذي ملا الأكوان أجمعها ... نوراً وفتح فينا الشخص والحقبا
يا من علا فوق متن البراق ويا ... خير الخلائق قاصيهم ومن قربا
وجئت بالسنة البيضا جعلت فدا ... فحافظيها ومن في درسها دأبا
ولم تزل فرقة من تابعيك على ... نهج الهدى لم يضرهم قول من كذبا
فهم شموس ولم تأفل منافعها ... ولن يزال بها نفع وما غربا
وكم معاً جزلاً تحصى بعثت بها ... عنها نجوم العوالي ضمنت كتبا
يا سيد الخلق يا مفتاح يوم غد ... تولى الشفاعة يوم الحشر إذ صعبا
أنت الذي يوم بعث الخلق شافعنا ... سبقا وأثبتهم إذ ألزموا رهبا
يا سيدي يا رسول الله يا سندي ... إليك جئت لما قد خفته رهبا
سمى صنوك حاشا أن تضيعه ... تكفي السماية عند السادة النجبا
يا خاتم الرسل يا مختار من مضر ... بالله ربك قل ما قلته وجبا
وإن تقدمت للعظمى بيوم غد ... لله ربك مقبولاً ومحتسبا
فقل فروع مطير سيدي حسبوا ... علي فاز الذي من خربهم حسبا
وعمهم رحمة يا سيدي وندى ... يا ملجأ طاب للاجين والغربا
واشفع ليبقى بهم ما منكم ورثوا ... العلم والنور لا البيضاء والذهبا
والمسلمين أنل كلاً مطالبهم ... في الخير منهم جميعاً واكشف الكربا
ثم الصلاة مع التسليم دائمة ... على المهيمن ما أم الوفود قبا
والآل والصحب ما غنت مطوقة ... على أراك فأضحى الدمع منسكبا
وكانت وفاته في حادي عشر ذي القعدة سنة إحدى وأربعين وألف بعبس الحضن من المخلاف السليماني باليمن وبنو مطير منسوبون لمطير تصغير مطر بن علي بن عثمان الحكمي من حكماء الحرهن وكان مطير من أعيانهم وغالبهم في المكان المعروف بالحضن من المخلاف السليماني وهم بيت علم وصلاح مشهورون باليمن واعتقدهم جميع أهله بل جميع البلاد لسلوكهم على المنهج القويم ولا بمن قائم منهم يكون رأساً للعلماء ومرجعنا عند اختلاف الفهماء وحكما للمشكلات للحكماء إذ لا يتعصبون للمذاهب والأقوال ولا ينافسون في المناصب ولا ينقبون على أهل الأجوال ولا يخرجهم عن الحق غضب ولا يدخلهم في الباطل رضا ولا يميلون إلى الحرص على الأموال عصمتهم الكتاب والسة وعقيدتهم في الله تعالى حسنة وله سبحانه عليهم المنة قال السيد الشريف العارف بالله تعالى حسين الأهدل أنه اعتقد فضل بني مطير جميع البلاد وقال الفقيه الصالح الولي المشهور محمد بن الحسن المحلوي وقبره طرف بيت عطاء من جهة اليمن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وسيدي أحمد بن إبراهيم بن مطير يلازمه ويلح عليه فرأيت قلماً من جهة النبي صلى الله عليه وسلم يكتب أولادنا أولادكم وما يعنانا يعناكم ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقد اشتهر اختصاص بني مطر بمزيد محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنهم من مواليه وذكروا ذلك في أشعارهم وغيرها وإنه يحصل لهم العلم من غير كثرة طلب حتى قال الشريف الولي حبيب آل مطير أبو بكر بن أبي القاسم بن إسمعيل الحسيني صائم الدهر طفل بني مطير بئر علم مطوية لا يحتاج إلى إخراج التراب الواقع فيها لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه اتصال بالعلماء منهم في المنام وآثار صادقة ذكرها منهم العلماء الأعلام نفع الله تعالى بهم وأفاد السيد حسين الأهدل في تحفة الزمن أن بني مطير ينتسبون إلى السيد الأهدل قال وإنما نبهت علي ذلك لأن كثيراً من الأهدليين الذي لا خبرة لهم ينكرون نسبهم إلى الأهدل ومما يدل على شرفهم قول السيد الولي الشهير بدر الدين حسين بن الصديق بن حسين بن عبد الرحمن الأهدل في بعض قصائده
فان غصني من أغصان دوحتكم ... فالله في رحمي فالرحم موصول
وقال العلامة الفقيه ضياء الدين بن إبراهيم بن أبي القاسم مطير في بعض قصائده التي توسل بها.
وبالأهدليين الكرام ... فإنهم لهم نسب في ذروة العزيرتمي(2/238)
وفي كلام عبد الرحيم البرعي القطع بشرفهم مشهور في قصائده.
علي بن محمد بن إبراهيم الجملولي الهنومي نسبة إلى هنوم بكسر الهاء وسكون النون أحد جبال الأهنوم ثم السيرافي قال ابن أبي الرجال كان عالماً كبيراً حافظاً لكل طريقة يجري مع الناس على طبقاتهم بما تنجبر به قلوبهم من غير أن يكون عليه وصمة وذلك من عجائبه وله تجربة في الأمور كلها كاملة وآراء ثاقبة يجري كلامه مجرى الأمثال وهو من بيت شهير بالفضل أصلهم من الجملول بهنوم ثم سكنوا الجهرة بسيراف وله تلامذة كثيرون كالقاضي أحمد بن سعد الدين والقاضي جمال الدين وهو كثير الرواية عنه وكانت وفاته ليلة الأربعاء ثالث رجب سنة ثلاث وأربعين وألف بحصن كوكبان شبام كان مقيماً هنالك للقضاء والتدريس بأمر الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم.
السيد علي بن محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن علوي الشبيه ابن عبد الله بن علي بن عبد الله باعلوي الشهير بشيبان أحد مشايخ الطريق العارفين بالله تعالى كان كثير التلاوة لكتاب الله تعالى كثير البكاء وكان مشهوراً بالزهد والورع صحب كثيراً من العارفين منهم السيد الجليل زين بن محمد حزد ولازمه ملازمة تامة وغيره من أكابر العارفين في زمانه وكان الغالب عليه الخمول والتقشف في الملبس والمأكل ويحب الانعزال عن الناس لا يجتمع بهم إلا في الجمعة والجماعة معرضاً عن اللهو واللعب متقمصاً بقميص الجد والاجتهاد كثير القيام والتهجد بالليل متواضعاً جداً لا يرى نفسه إلا أدنى الناس ويلتمس بركته من اجتمع به معتقداً عند الأنام وصحبه جماعة كثيرون منهم السيد محمد بن أبي بكر الشلي باعلوي صاحب التاريخ وذكره في تاريخه وقال استضأنا من ضياء نبراسه وعادت إلينا بركات أنفاسه وما زال يزداد من فعل الخيرات والتقرب إلى الله تعالى بالقربات إلى أن مات في سنة إحدى وستين وألف بتريم ودفن بمقبرة زنبل.
علي بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن الإمام الحافظ محدث اليمن وجيه الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن علي الربيع بن يوسف بن أحمد بن عمر بن عبد الرحمن بن علي بن عمر بن يحيى بن مالك بن حرام بن عمر وبن مالك بن مطرق بن شريك بن عمر بن قيس بن شراحيل بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صغير بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هبت بن أقصى بن دهمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الشيباني الزبيدي الشافعي رأيت بخط صاحبنا الفاضل مصطفى بن فتح الله النسب هكذا ساقه وقال كذا نقلت نسبه من مؤلف لجده عبد الرحمن الديبع عمله فيه ونقل عن مؤرخ اليمن أبي الحسن الخزرجي أن سبب نسبتهم إلى الديبع هو أن والد علي يوسف بن أحمد بن عمر كان له ثلاثة أولاد وهم علي وعبد الله وأحمد خرجوا ذات يوم يلعبون مع الصبيان كعادتهم ولوالدهم عبد نوبي يقال له جوهر فقال له سيده المذكور ادع لي سيدك علي فقال ديبع ديبع على سبيل الاستفهام فقال نعم فخرج يناديه ديبع ديبع فسمعه الصبيان فنادوه به فلزمه هذا اللقب ولزم ذريته من بعده فلا يعرفون إلا به ومعناه الأبيض بلغة النوبة قال السخاوي في الضوء اللامع الديبع بمهملة مفتوحة بعدها تحتانية ثم موحدة مفتوحة وآخره مهملة وهو لقب لجده الأعلى علي بن يوسف ومعناه بلغة النوبة الأبيض كان علي المذكور إمام المحدثين والقراء وإمام أهل التدريس والإقراء وأحد زبيد في عصره إماماً عاملاً عالماً فاضلاً كاملاً أخذ عن شيوخ زبيد منهم الفقيه محمد بن الصديق الخاص الزبيدي والفقيه الصالح العلامة عماد الدين يحيى بن محمد الحرازمي ولازم عصريه العلامة إسحق بن جعمان وأجازه كثير من شيوخه وقدم مكة مرات وأخذ عمن بها من شيوخ عصره وجاور بالمدينة كثيراً ولازم بها الأستاذ الكامل أحمد بن محمد القشاشي وأخذ عنه الطريق واختص به وعنه أخذ الأستاذ الكبير إبراهيم بن حسن الكوراني قرأ عليه طرفاً من البخاري سنة سبع وستين وألف في الروضة الشريفة والسيد العلامة محمد بن عبد الرسول البرزنجي وشيخنا العلامة الحسن بن علي العجيمي المكي وغيرهم وكانت ولادته بزبيد في حدود سنة ألف وتوفي بها في سنة اثنتين وسبعين وألف ودفن بتربة جده عبد الرحمن الديبع المذكور بقرب تربة العارف بالله سيدي إسمعيل الجبرتي.(2/239)
علي بن محمد بن أبي بكر بن مطير العالم العلامة الحجة كان إماماً جليلاً وعارفاً نبيلاً عمرت أوقاته بالعلم وقصده الغادي والرائح مع الحرص على سلوك طريق أهل السنة والجماعة والمواظبة على الخير والاشتغال بالحديث النبوي وعلوم الدين والانهماك على بث العلم والتقوى والورع وعدم مخالطة أحد من الحكام أخذ الفقه والحديث وغيرهما من العلوم النافعة عن كثير منهم العلامة محمد بن علي مظير خاله وأخوه خاتمة المحققين أحمد بن علي مطير وأجازه شيوخه بالإفتاء والتدريس وعنه أخذ جمع منهم الشيخ ذهل بن علي حشيبر وألف مؤلفات منها مختصر التلخيص في الفقه لابن مطير ولم يزل على بث العلم ونشره وملازمة طاعة الله تعالى حتى مات وكانت وفاته في رجب سنة أربع وثمانين وألف بمدينة الزيدية ودفن بقرب تربة العارف بالله تعالى ذهل بن إبراهيم الحشيبري.
علي بن محمد بن عبد الرحيم بن محب الدين بن أيوب الشهير بالأيوبي الشافعي المكي أحد أجلاء خطباء المسجد الحرام وسراة العلماء الفقهاء المحدثين ولد بمكة ونشأ بها وحفظ القرآن والإرشاد والألفية لابن مالك وألفية الحديث وغيرها ولازم الشيخ عبد العزيز بن محمد الزمزمي في دروسه والشيخ علي بن الجمال والشيخ عبد الله باقشير والشيخ محمد بن علان والشيخ محمد بن عبد المنعم الطائفي ثم لازم الشمس محمد البابلي أيام مجاورته بمكة في جميع دروسه وكان معيد درسه وأجازه أكثر مشايخه وتصدر للإقراء والتدريس بالمسجد الحرام قال في بعض رسائله ترعرعت في رياض العلوم وتمتعت بتلاوة كتاب الله تعالى الذي يشفي الأمراض والكلوم ولازمت الجلة وأخذت عن عدة من العلماء فعاد علي من بركاتهم وأسرارهم ما لا ينكره إلا كل جاهل ولا يجحده إلا كل حسود متجاهل ومذ نشأت وهب صبا الصبا لم يحصل لي صبوة ومذ ركبت نجيبة النجابة وجلت بها في ميدان الإجابة لم يحصل لها عثرة ولا كبوة بل كنت إذا فرغت من التلاوة والطلب عدت إلى البيت لتكرار بعض المتون وتحصيل الكتب التي ليست عندي وذلك دأبي منذ نشأت وإذا نودي إلى الصلاة حوقلت وإذا دعيت للصلاة لبيت وأجبت ولم يزل ذلك دأبي إلى آخر عمري بحيث صار لي طريقة وعادة راجياً إن شاء الله تعالى أن تكون نهاية للعناية والسعادة وهذا أقل أثر من حلول نظر العلماء العاملين وحظوظ أثر الفضلاء الكاملين وكل منهم كان يثني علي في غيبتي وإذا بلغني ذلك امتلأت بالسرور والبشر وطابت رغبتي وكنت سليم الصدر من الغش والغل ومن التعرض لأعراض المسلمين سالماً مجانباً لما فيه أذاهم مناصحاً لهم ومواد لهم ومسالماً لا أجتمع بهم إلا لحاجة مهمة أو أداء واجب أو للتأنس بصديق يكاد من لطفه يعلو على العين والحاجب وأقسم بالله الذي هو أبر ألية ويمين وقد خاب وخسر من يفتري عليه ويمين أن خلقي قديماً حب الخمول والعزلة وبغض الاشتغال بما لا يعني جده وهزله وإنما القدرة الإلهية هي التي أرادت الشهرة لي والظهور ومخاطبتي للناس فيما يقصم الظهور وإن كانت النفوس الأبية تروم طلب العليا والشيم الأدبية تسمو أن تدنو إلى سفاسف الدنيا لكن لما طلب الحسناء قبيح الخصال وخطب العلياء غير أكفاء ودخل بيت قصيدها زحاف الطي والقبض والإقواء أعرض عن عوضها كل ذي نفس نفيسه ونكحها كل دني ذي نفس خسيسة.
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس(2/240)
وذلك أني لما بلغت الأشد وبلغت أربعين سنة وكنت عن طلب المناصب في أحلى نومة وسنة لم أشعر إلا وقد خطبت لتقليد الخطابة وألزمني به من أخشى عواقبه ولا أقدر أن أرد خطابه وعلمت أن هذا من إرادة المولى ولا مانع لما أراد ولا دافع لما قضاه في الأزل ولا راد فحينئذ شهرت حسام العزم وأنشأت لكل نوبة خطبة يستملحها ذو الفضل والإنصاف ويستحسنها أولو الشيم الحميدة والأوصاف بحيث أني كلما باشرت بخطبة طلبها مني بعض الناس وخطبها كثير من أهل مكة ومصر والشام واليمن والعراق والأكراد على اختلاف الأجناس فسارت بها الركبان شرقاً وغرباً وطارت الغربان بها عجماً وعرباً بحيث فاقت خطب الذين قبلي من الخطباء وفاقت على إنشاء المتقدمين من الفضلاء والأدباء ثم صار يطلب مني مجالس الأنكحة وعقودها بحيث جمعت من ذلك ديواناً حافلاً سحبت فيه مطارف البلاغة وكنت في برد الفصاحة رافلاً ثم لما حصل جدب في بعض السنين أمرني الشريف زيد أن أباشر الدعاء وصلاة الاستسقاء فصعب ذلك على بعض الناس وظهر الصفار في وجهه كان به علة الاستسقاء ثم لما ورد الأمر السلطاني بالدعاء على باب البيت الشريف امرني صاحب العز الشريف سعد والشيخ الحرم عماد وقاضي مكة بمباشرة الدعاء فأنشأت لكل يوم دعاء غير الأول إظهاراً لما أنعم الله به علي من نعمة وخول انتهى المقصود من ذلك وكتب رسالة يمدح بها قاضي مكة المولى أحمد البياضي سماها القصور المشيدة المشرفة في مدح المقام العالي المولى أحمد قاضي مكة المشرفة وله نظم حسن بليغ وكانت وفاته في سنة ست وثمانين وألف.
علي بن المقبول الأهدل السيد الجليل الولي الشهير تمكن كل التمكن من العلوم الربانية وهو الذي اختط قرية الدريهمي وبنى جامعها بالآجر ولنورة وعمره بالجمعة والجماعة وأقامه أتم قيام ورزق القبول عند الخاص والعام وله في الطب اليد الطولى كما لأبيه وجده فتحاً من الله سبحانه وتعالى صحبه السيد محمد بن الطاهر البحر وكانت وفاته في سنة خمس وخمسين وألف.
علي بن يحيى الملقب نور الدين الزيادي المصري الشافعي الإمام الحجة العلي الشأن رئيس العلماء بمصر ذكره العجمي في مشيخته وأثنى عليه كثيراً وسرد مشايخه الذين تلقى عنهم من أجلهم الشهاب أحمد بن حمزة الرملي شارح الزبد وغيره وولده الشمس والشهاب عميرة البرلسي والشهاب أحمد بن حجر الهيثمي والنور علي الطندتائي والشيخ العارف بالله تعالى شهاب الدين البلقيني شيخ المحيا بجامع الأزهر بعد شيخه العارف بالله تعالى الشيخ نور الدين الشنواني والقطب الرباني أبو الحسن البكري وروى الموطا من طريق يحيى بن يحيى عن الشهاب الرملي عن الحافظ أبي الخير السخاوي عن العز أبي محمد الحنفي بسنده وروى كتاب المواهب اللدنية عن قطب الوجود الأستاذ أبي الحسن البكري عن مؤلفه الإمام الشهاب أحمد القسطلاني وروى الجامع الصغير عن السيد الشريف جمال الدين الأرميوني المالكي إمام المدرسة الكاملية عن مؤلفه الإمام الحافظ السيوطي واجتمع بشيخ الإسلام البدر الغزي وهو بمصر في سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة وأخذ عنه وبلغت شهرته الآفاق وتصدر للتدريس بالأزهر وانتهت إليه في عصره رياسة العلم بحيث أن جميع علماء عصره ما منهم إلا وله عليه مشيخة وكان العلماء الأكابر تحضر درسه وهم في غاية الأدب وكانت حلقته صفوفاً منهم الأفضل فالأفضل والأمثل فالأمثل وكان يقال فلان من الطبقة الأولى وفلان من الطبقة الثانية وفلان من الطبقة الثالثة وكان له في درسه محتسب يجلس كل أحد منهم في مكانه وممن لازمه مدة مديدة العلامة سالم الشبشيري فكان محله منه محل الولد من الوالد وكان بينهما محبة أكيدة ومداعبات لطيفة وتوفي في حياة شيخه فجزع عليه جزعاً شديداً بحيث أنه لم يعقد بعده درساً إلا ويترنم بذكره ويشير إلى جلالة قدره وإذا توقف أهل الدرس في مسئلة تأوه تأوه الحزين وهو يقول كالهائم أتعبنا موت سالم وممن أخذ عنه البرهان اللقاني والنوران الحلبي والأجهوري والشمسان الشوبري والبالبلي والشهاب القليوبي والشيخ سلطان والنور والشبراملسي وعبد البر الأجهوري وخضر الشوبري وعامر الشبراوي والشهاب الخفاجي وهو القائل فيه
لنور الدين فضل ليس يخفى ... تضيء به الليالي المدلهمة
يريد الحاسدون ليطفئوه ... ويأبى الله إلا أن يتمه(2/241)
ودرس بالمدرسة الطيبرسية وكان يقرئ الأصول بإفريز الأزهر شمالي قبلة الحنفية في الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان وكان منقطعاً للاشتغال والفتوى وكان إذا تم الدرس يجلس بباب دكان بقرب باب الجامع للفتوى وكان يصلي إماماً بصحن الجامع الأزهر إذا أذن المؤذن دائماً ويتم الفرض قبل أن يفرغ المؤذن من الأذان وألف مؤلفات نافعة منها حاشية على شرح المنهج اعتنى بها مشايخ مصر وغيرهم من علماء الشافعية بحيث أنه لا يقرأ منهم أحد شرح المنهج إلا ويطالعها وقد اشتهرت بركتها لمن طالعها وله شرح على المحرر للرافعي يوجد كثيراً ببلاد الأكراد وكان يصدر عنه كرامات منها أنه زار بعض أقاربه من النساء فدخل عليها وهي تملأ من البئر ماء فلما رأته مقبلاً أسرعت إليه تقبل يديه فسقط الدلو في البئر فانزعجت لذلك فوقف على البئر وتناوله بيده من قعر البئر من غير انحناء ولا تكلف وأعطاها إياه وكانت وفاته ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وألف ودفن بباب تربة المجاورين وقد كان البلقيني كتب له بخطه في إجازته أنا مدينة العلم وعلى بابها وكان الأمر كذلك بعد موتهما دفن البلقيني بالصدر والزيادي بالباب والزيادي بفتح الزاي وتشديد الياء نسبة لمحلة زياد البحيرة.
علي بن يحيى الخيواني قال ابن أبي الرجال هو من فقهاء الزمان وأعيان الأوان من بيت رياسة من خيوان لهم منصب هنالك فهو من أبناء الوجوه المقدمين في القبائل ولكنه منح الحكمة وطلب العلم وكان أيام السيد الحسن بن الإمام القاسم في القصر بصنعاء هنالك فقرأ وعرف فضائل العلم وأهله وكان هماماً ذكياً حفظه لا يشق له غبار ونور الله تعالى قلبه بأنوار المحبة لآل محمد صلى الله عليه وسلم فما عكف على غير علومهم ث مدخل صعدة واستقر بها ودرس وكان في الفروع نبيلاً مفيداً وله حاشية على الأزهار ولما فتحت صنعاء أيام الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم خرج إليها وحقق وأعاد شيئاً من المسموعات على العلامة المحقق محمد بن عز الدين وكان أحد عيون حضرة السيد فاستفاد وزاد علمه مع أنه كان أيام إقامته بصعدة من أعيانها وكان القاضي أحمد بن يحيى بن حابس يحضره ويحضر العلامة علي بن هادي القصار عند جمعه للتكميل ويسألهم ولهم ثالث كان القاضي يستدنيه ويسأله فات مني وكان صاحب الترجمة مكفوف البصر ولم يزل موفور النعمة صالح الحال مقبلاً على العلم والأدب حتى اختار الله تعالى له جواره وكانت وفاته بصنعاء في إفراد سنة ستين وألف فيما أحسب.
علي بن يوسف المعروف بسنان بن حسين بن الياس ين حسن الأماسي الأصل أحد موالي الروم وفضلائها البارعين كان من كبار الأفاضل أخذ عن والده العلامة المحقق سنان الدين صاحب الحاشية على تفسير البيضاوي ثم انحاز إلى السيد محمد المعروف بمعلول أمير وتلقى عنه كثيراً من المسائل ولازم منه ودرس بمدارس قسطنطينية إلى أن وصل إلى إحدى الثمان ثم ولي قضاء حلب في سنة أربع وثمانين وتسعمائة ثم ولي بعدها قضاء دمشق في سنة ست وثمانين ثم قضاء بروسه وانفصل عنها مدة ثم أعيد إلى قضاء دمشق ثانياً في سنة إحدى وتسعين ووقع في أيام قضائه قضية ابن خطاب مع القابوجي وقد تقدمت في حرف الحاء في ترجمة حسن باشا وكان القاضي صاحب الترجمة متشدداً على القابوجي وصمم على قتله فشنق وعد ذلك من صلابته في دينه ثم بعد قضاء الشام ولي قضاء قسطنطينية وقضاء العسكرين على الترتيب واشتهر صيته وذاع أمره في الفضل والرسوخ وقد ذكره عبد الكريم المنشي فيمن ترجم فقال في حقه سليل العالم الطائر صيت فضله في الأقطار ومن غدت في عقده أبكار الأفكار المولى العلامة سنان لا زال مأنوس الحدث بملائكة الرضوان أحد صدور العصر السليماني الذي جنى العالم من روضه ثمار الأماني اشتغل بالعلم واستضاء من أنوار والده وفاز من نصاب الفضل بطارفه وتالده.
إن السرى إذا سرى بنفسه ... وابن السرى إذا سرى أسراهما
ثم أنشد في حقه
علوت اسماً ومقداراً ومعنى ... فيا لله من معنى جلي
كأنكم الثلاثة ضرب خيط ... علي في علي في علي
وكانت وفاته بقسطنطينية في سنة خمس بعد الألف ودفن بجوار أبيه داخل سور قسطنطينية.(2/242)
علي بن يوسف بن محمد أبو الحسن بن أبي المحاسن القصري الفاسي المالكي الإمام العلامة الشهير في أقطار المغرب الجامع بين الظاهر والباطن أخذ عن والده والسراج الحميدي والمنجور والعزومي وعن الفقيه النوازلي أبي راشد يعقوب بن يحيى البدري وغيرهم وأدرك الشيخ سيدي عبد الرحمن المجذوب وتبرك به ولقي كثيراً من السادة وعنه أخذ كثيرون منهم ولده عالم المغرب عبد القادر الفاسي المقدم ذكره وقد أفرد ترجمته على حدة حفيده عبد الرحمن بن الشيخ عبد القادر استوفى فيها أحواله ومشايخه قال ولما حملت به أمه رأى بعض قرابته بفاس في المنام أن قنديلاً يضيء بصومعة العزوبن في غاية الارتفاع على البلاد كلها والناس ينظرون إلى طوله وظهوره وامتداد ضوئه ونوره وكأن قائلاً يقول هذا قنديل سيدي علي الفاسي وكان يومئذ نساء من قرابته حوامل فلما ولدن سمين أولادهن بعلي الفاسي قصد أن يكون ذلك والله أعلم بما يفعل والقنديل يعبر بالولد فظهر بعد ذلك صاحب الترجمة وولد له الشيخ عبد القادر الذي طبق أرض المغرب علماً قال وكانت وفاته عصر يوم الجمعة السادس عشر من جمادى الأولى سنة ثلاثين وألف.
علي المنعوت بنور الدين بن العظمة المصري المذوب المستغرق ذكره المناوي في طبقاته وقال في ترجمته كان أبوه مقدم الجمالة بركب الحاج وكان في دائرة كبيرة من المال والرجال والجمال فنشأ ولده هذا على طريقته فبينما هو والشيخ أحمد البهنسي في الجيزة في فلاة أرض وإذا بطائفة من الفقراء السائرين الذين سخر لهم الهواء يأكلون تمراً فدفعوا إليهما ثلاث تمرات فأكل الشيخ ثنتين فثبت وأكل صاحب الترجمة واحدة فجذب ونزع ثيابه وصار عرياناً مستغرقاً متجرداً عن الثياب حتى عن ما يستر عورته وكان بدنه أحمر يلمع كالبلور وليس في جسده ولا لحيته ولا رأسه شعرة واحدة وكان كأنه مدهون بزيت من فرقه لقدمه شتاء وصيفاً بحيث إذا رآه الجلف الغبي قطع بولايته وكان أهل الطريق يعرفون مقامه حتى أن بعضهم لم يستطع دخول مصر مدة حياته مهابة له وكان مع استغراقه يتلو القرآن ويسلم على من شاء وله كرامات شتى منها ما حكاه الشيخ حشيش الحمصاني أنه مر عليه فجرى في خاطره الإنكار عليه لعدم ستره لعورته فما تم الخاطر إلا وقد وجد نفسه بين اصبعين من أصابعه يقلبه كيف شاء ويقول له انظر إلى قلوبهم لا تنظر إلى فروجهم وذكر أنه حج فخرج عليه جماعة في ساقة الحج فضربوه وسلبوه ثيابه ومتاعه وجلس وهو متحير فما شعر إلا وقد اعتنقه ابن العظمة من خلفه وهو يلحسه ويقول له قد كان عليك بقية فأخذناها وكانت وفاته في أوائل هذا القرن ودفن بزاوية عمرت له برأس سويقة السباعين بخط منازل آبائه وأجداده.
علي الغزي القاهري الشافعي الملقب علاء الدين نذكره العرضي الكبير في تاريخه وقال في حقه العالم المحقق ولد بغزة سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة تقريباً ونشأ بها وقرأ على شيخنا الشمس بن المشرقي ثم رحل إلى مصر فقرأ على اللقاني يعني الناصر القديم وأكثر من ملازمة الشيخ نور الدين الطندتائي ثم من بعده لازم الخطيب الشربيني شارح المنهاج ولازم الأستاذ البكري والشهاب الرملي وولده الشمس والشهاب بن قاسم والنجم الغيطي وآخرين وصار من فضلاء المصريين قدم حلب تاجراً في سنة تسع وستين وتسعمائة وسأل شيخنا ابن الحنبلي عن مسئلة أن الاسم غير المسمى أو عينه فكتب شيخنا في ذلك رسالته المسماة فتح العين عن الاسم غير أو عين ثم إن صاحب العلائي استشكل عليه أشياء أبدع فيها فأجاب عنها شيخنا وسمعت الرسالة المذكورة على مؤلفها شيخنا بقراءة الشهاب أحمد بن المنلا ثم إن الشيخ علاء الدين قدم حلب مرة أخرى في سنة اثنتين وثمانين فإذا آثار الشيخوخة ظهرت عليه فاجتمعنا به في الجامع وفي منزله ومنزلنا فإذا هو فاضل عجيب ذو ملكة حسنة وقدرة على البحث وثبات للمصادمة ولسن لطيف حسن الروية تام الصلاح والتقوى جرى بيننا وبينه مذاكرة في أنواع من العلوم وبالجملة فهو من محاسن الزمان وأراني في خلال اجتماعنا عنه أيضاً كراريس ألفها على تفسير الجلالين أبدع فيها وكانت وفاته في سنة إحدى بعد الألف.(2/243)
علي الطوري المصري الحنفي العالم المقدم في نتائج الفضل كان عالماً فاضلاً فقيهاً مطلعاً على مسائل المذهب ولد بمصر وبها نشأ وأخذ عن الشيخ زين بن نجيم وغيره حتى برع وتفنن وألف مؤلفات ورسائل في الفقه كثيرة وكان يفتي وفتاويه جيدة مقبولة وبالجملة فهو في فقه الحنفية الجامع الكبير له الشهرة التامة في عصره والصيت الذائع وكانت وفاته بمصر في سنة أربع بعد الألف.
علي دده البوسنوي المعروف بشيخ التربة ولد ببلدة موستار من مضافات لواء هرسك في بلاد بوسنه وقرأ العلوم ثم سلك الطريقة عند الشيخ مصلح الدين بن نور الدين الخلوتي واجتهد عنده إلى أن صار من جملة خلفائه ثم لما فتح السلطان سليمان قلعة سكتوار من بلاد أنكروس ومات بها عند الفتح ودفنوا أمعاءه عند القلعة المذكورة وجعلوا عليه قبة وقفوا عليها ضياعاً صار بها شيخاً وسكن بها إلى آخر عمره وبعد صيته وكان شيخاً جليلاً توفي بقلعة صولنق في سنة سبع بعد الألف.
علي الدفتري صاحب الكتب الموقوفة بدمشق ولي دفترية الشام مرتين الأولى في سنة سبع بعد الألف والثانية في سنة أربع عشرة وحج في السنتين المذكورتين وكان له مشاركة جيدة في الفنون وله أخذ بظواهر كلام الشيخ الأكبر قدس الله سره واعتقاد تام فيه واحتفال بكتبه ووقف كتبه واستودعها بيت الخطابة بالقرب من المقصورة بالجامع الأموي ولم تزل هناك إلى أن ادعى النظارة عليها بعض مفتي الشام واحتوى عليها وفيها نفائس الكتب وكان علي المذكور محباً للعلماء مكثراً من مجالستهم ومعاشرتهم وكانت وفاته في يوم الاثنين خامس رجب سنة ثمان عشرة بعد الألف.
علي المعروف بالنجار الدمشقي الصالحي الشافعي القادري الإمام العامل العابد المعتقد كان في ابتداء أمره مقيماً بالصالحية وكان والده نجاراً ينفق عليه وهو مشتغل بطلب العلم من كسبه أخذ الفرائض عن الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم التنوري الميداني والمحدث الكبير إبراهيم بن الأحدب ثم رحل إلى القاهرة ولازم النور الزيادي والشهاب البلقيني وقرأ الجامع الصغير على الشيخ محمد حجازي الشعراوي وأقام بمصر سبع سنين حتى أجازه شيوخه ثم رجع إلى دمشق فاجتمع إليه خلق كثير من الطلاب للقراءة وانتفعوا به وكان مقبلاً على المجاذيب وكانوا هم يأوون إليه ويعرف ما يقولون بالإشارة وربما تكلم في الحضرة عنهم بكلمات تظهر في وقتها وكان للناس فيه اعتقاد عظيم وهو محل الاعتقاد لانقطاعه إلى الله تعلى ومثابرته على النفع والإفادة وكتب حاشية على شرح القطر للفاكهي لم تشتهر وكانت وفاته في سنة ست وخمسين وألف.
علي العزيزي البولاقي الشافعي كان إماماً فقيهاً محدثاً حافظاً متقناً ذكياً سريع الحفظ بعيد النسيان مواظباً على النظر والتحصيل كثير التلاوة سريعها متودداً متواضعاً كثير الاشتغال بالعلم محباً لأهله خصوصاً أهل الحديث حسن الخلق والمحاضرة مشار إليه في العلم شارك النور الشبراملسي في كثير من شيوخه وأخذ عنه واستفاد منه وكان يلازمه في دروسه الأصلية والفرعية وفنون العربية وله مؤلفات كثيرة نقله فيها يزيد على تصرفه منها شرح على الجامع الصغير للسيوطي في مجلدات وحاشية على شرح التحرير للقاضي زكريا وحاشية على شرح الغاية لابن قاسم في نحو سبعين كراسة وأخرى على شرحها للخطيب وكانت وفاته ببولاق في سنة سبعين وألف وبها دفن والعزيزيبفتحة ومعجمتين مكسورتين بينهما ياء تحتية نسبة للعزيزية من الشرقية بمصر.
علي البصير الحنفي الحموي مفتي طرابلس الشام الفقيه البارع اللسن كان آية باهرة في الحفظ والإتقان ولد بحماة وقرأ بها ثم رحل إلى طرابلس وعمره أربعون سنة وتوطنها وولي الإفتاء بها مدة حياته وله تآليف كثيرة في الفقه وغيره منها شرح الملتقى سماه قلائد الأنحر ونظم الغرر في ألفي بيت ونظم العوامل الجرجانية ونظم قواعد الإعراب وله كتاب منظوم في ألغاز الفقه سماه الحور العين يشتمل على ألف سؤال وأجوبتها ومفتتحة.
قول علي الحنفي المسكين ... من بعد بسم الله ذي التمكين
حمد المن فقهنا في الدين ... فقهاً باجمال مع التبيين
ثم صلاة بسلام تليت ... على النبي المصطفى الأمين
ثم على الآل وصحبته ومن ... يتبعهم بشرعه المبين(2/244)
وبعد أني نظمت بعض ما ... وجدت في مذهبنا المنين
من المسائل التي تعسر عن ... كل فقيه جامع رزين
وله غير ذلك وكانت وفاته في ذي الحجة سنة تسعين وألف ودفن بجبانة الغرباء ظاهر طرابلس رحمه الله تعالى.
علي المحلي الشافعي كان إماماً فقيهاً مفتياً ذاكراً للمذهب عالماً بدقائقه عمدة الفتوى في إقليم الغربية بمصر كثير الفوائد حسن المحاضرة لذيذ المفاكهة جيد المناظرة مكرماً لجليسه مؤنساً له وعنده كياسة وحشمة وإنسانية ومروءة وكان عزيز النفس لطيف الذوق يقول الحق وينكر المنكر ويخاطب الحكام بالغلظة وامتحن بسبب ذلك امتحاناً كثيراً وكان كثير الملازمة لبيته لا يخرج إلا لضرورة محباً للغرباء محسناً إليهم معتقداً لأهل الخير وكان في الفنون العقلية بحراً زاخراً وشاعت فتاويه في الآفاق مع التوقي الشديد في سائر أحواله ولد بالمحلة وبها نشأ وقدم مصر وأخذ بها عن النور الزيادي وسالم الشبشيري وعلي الحلبي ومن عاصرهم من علماء جامع الأزهر وقرأ على النور الشبراملسي ولازمه كثيراً مع كونه شاركه في كثير من شيوخه وأجازه شيوخ كثيرون وأذن لجماعة بمروياته وحج مرات ورحل إلى اليمن واجتمع فيه بالإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم وحظي عنده وعظمت مكانته وأجزل صلته ثم رجع إلى بلده وصحب العارف بالله تعالى حسناً البدوي ولازمه وله معه وقائع كثيرة وتصدر للتدريس وأخذ عنه جمع من الأكابر منهم الشهاب البشبيشي وكان يتعاطى التجارة حتى أثرى وكثر ماله وجمع الله تعالى له بين سعادة الدارين وانتهت إليه رياسة الشافعية ببلده وتفرد بالمشيخة وكان عارفاً بالأمور يمن برأيه وله حظ من الصلاة والصيام قليل الوقيعة في الناس حافظاً للسانه مقتصداً في ملبسه وعيشه ومن الرواية عنه ما أخبر به الشهاب البشبيشي عنه بسنده إلى الحافظ عبد الله محمد بن أبي بكر بن أبي الدنيا حدثنا محمد بن سليمان الأسدي حدثنا أبو الأحوص عن بنان عن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يحتطب أحدكم على ظهره فبقي به وجهه خير من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه قلت ويناسبه ما رأيته في تاريخ النجم الكواكبي في ترجمة الفارضي المصري أوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام لأن تدخل يدك في فم التنين خير من أن تبسطها إلى غني قد نشأ في الفقر ومما اتفق لصاحب الترجمة أن قاضياً شريفاً فاضلاً تولى قضاء المحلة فأرسل إليه بعد قدومه إليها يطلب منه المناظرة ليتبين له حاله لما بلغه ما هو عليه من كمال الفضل فأتاه فقال له المناظرة منتهى مقصود العلماء ودأبهم قديماً وحديثاً فقال له صاحب الترجمة لابأس بذلك لولا أنك شريف لقوله صلى الله عليه وسلم قدموا قريشاً ولا تقدموها وقد قال بعض شراح الحديث في معناه أي لا تغالبوها والمناظرة مغالبة وقد نهينا عنها معكم فاستحسن القاضي جوابه وسرعة استحضاره وتركها وزاد في إجلاله وكانت وفاته بالمحلة الكبرى في سنة تسعين وألف.
الملا علي الكوراني الشافعي إمام مسجد النبي جرجيس عليه السلام بمدينة الموصل أحد أكابر المحققين له مؤلفات حسنة منها حاشية على شرح الشمسية للقطب وحاشية على شرح عقائد النسفي للتفتازاني وكانت وفاته في سنة أربع وتسعين وألف بالموصل ودفن بالمسجد المذكور.(2/245)
عماد الدين بن عبد الرحمن بن محمد العمادي مفتي الحنفية بالشام وابن مفتيها كان فاضلاً وقوراً سليم الصدر نحيف الجسم متواضعاً صامتاً صادق الود وثيق العهد طاهر الفم والذيل عما يشينه قرأ على والده وعلى الحسن البوريني والشيخ تاج الدين القرعوني ولاشمس محمد بن محب الدين وأخذ عن الشهابين العيثاوي والوفائي ولازم من المولى مصطفى بن عزيم ودرس أولاً بالشبلية فراغاً من والده له ولما مات أبوه أراد أن يصير مفتياً مكانه فما قدرت له ووجهت إلى محمد بن قياد السكوتي الآتي ذكره إن شاء الله ثم بعد وفاة السكوتي وجهت إليه وعظمت حرمته وأقبلت عليه كبراء وقته وعظمته حكام الشام وأعيانها ونفذت كلمته عند الخاص والعام وخدمته الأفاضل وكان مع هذا لا يرى لنفسه وجوداً وكان له في الصلاح والتقوى قدم راسخة وذكر لي والدي والمرحوم أنه سمع بعض المجاذيب بمصر يقول أن صاحب الترجمة له رتبة بين الأولياء وهو لا يعرف نفسه وأقام ثماني عشرة سنة مفتياً وفتاويه بأيدي الناس متداولة مقبولة مسددة وكان يصدر عنه كرامات وأحوال كثيرة وبالجملة فقد كان صدراً من صدور الشام وكانت ولادته في سنة أربع بعد الألف وتوفي نهار الخميس خامس عشر رجب سنة ثمان وستين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير عند أسلافه.
السيد عمار بن بركات بن جعفر بن بركات بن أبي نمي الحسني أحد أشراف مكة المشهورين بالفضل والأدب وحسن الشعر ذكره السيد ابن معصوم فقال في وصفه عمار أبنية المجد والمكارم ورافع ألوية شرف آبائه الخضارم نسب في السيادة كعمود الصبح وحسب تنزه بجده الحسن عن القبح طلع في أفق الجلالة بدراً وسما في سماء الأبالة قدراً رأيته في حضرة الوالد بالديار الهندية وقد تفيأ ظلال مكارمه الندية وكان قد دخلها في سنة اثنتين وستين وألف فرأيت فيه الفضل مصوراً وجنيت به روض السرور منوراً ولقد كان يجمعني وإياه مجلس والدي حسب الاقتراح وبيننا من المصافاة ما بين الراح والماء القراح وهو كهل شبت بالظرف شمايله وهبت باللطف جنائبه وشمائله وربما جمعتنا حلبة أدهم وكميت أو بيت شعر لم تتحكم عليه لولا ولا ليت فننتقل من متن جواد إلى شرح بيت وله شعر يفعل بالألباب فعل السحر أثبت منه ما هو أحلى من جني النحل وأجدى من القطر في البلد المحل فنه قوله مخاطباً الوالد النظام أحمد بن معصوم
زرت خلاً صبيحة فحباني ... بسؤال أشفى وأرغم شاني
قال لما نظرت نور محياه ونلت المنى وكل الأماني
كيف أصبحت كيف أمسيت مما ... ينبت الحب في قلوب الغواني
فتحرجت أن أفوه بما قد ... كان مني طبعاً مدى الأزمان
يا أخا المجد والمكارم والفضل ومن لا أرى له اليوم ثاني
أدرك أدرك متيماً في هواكم ... قبل تسطو به يد الحدثان
وابق واسلم ممتعاً في سرور ... ما تغنت ورق على غصن بان
فراجعه قوله
ليست شعري متى يكون التداني ... لبلاد بها الحسان الغواني
وبها الكرم مثمر والأقاحي ... ضحكت عن ثغور زهر لحاني
والبساتين فائحات بعطر ... يخجل العنبر الذكي اليماني
وطيور بها تجاوبن صبحاً ... وعشياً كنغمة العيدان
وبألحانها تذيب ذوي اللب ... وتحيي ميتاً من الهجران
وتمشي بها الظباء الحوالي ... مائسات كناعم الأغصان
كل خود تسطو بلحظ حسام ... وتثن كما قنا المران
وجهها الصبح لكن الفرع منها ... ليل صب من لوعة الحب فان
غادة كالنجوم عقد حلاها ... ما اللآلي وما حلي العقيان
إن ياقوت خدها أرخص الياقوت سعراً وعاب بالمرجان
كل يوم يقضى بقرب لديها ... فهو يوم النوروز والمهرجان
تلك من فاقت الظباء افتتاناً ... فلذا وصفها أتى بافتنان
ما لمضنى أصيب من أسهم اللحظ نجاة من طارق الحدثان
أذكرتني أيام تلك وعزت ... أعيني بالبكاء والهملان
نفثات كالسحر يصدعن في قلب معنى عن الملامة عان
ومنها:
كلمات لكنها كالدراري ... وسطور حوت بديع المعاني(2/246)
إذا أتت من أخ شقيق المعالي ... فائق الأصل غرة في الزمان
ضافي الود صافي القلب قرم ... كعبة قد علا على كيوان
ذاكراً لي فيها تزايد شوق ... وولوعاً به مدى الأزمان
ففهمت الذي نحاه ولكن ... ليت شعري يدري بما قد دهاني
أنا قيس في الحب بل هودوني ... لا جميل حالي ولا كابن هاني
يا أخا العزم قد سلمت ووجدي ... طافح زائد بغير توان
فلحتفي أبصرت من قد رماني ... وعناء تصيد الغزلان
إن تشا شرح حال صب كئيب ... فلقد قاله بديع المعاني
مرضى من مريضة الأجفان إلى آخر البيت للشيخ محيي الدين بن عربي وللسيد عمار مذيلاً ببيت أبي زمعة جد أمية بن أبي الصلت ومادحاً ابن معصوم المذكور
اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً ... في رأس غمدان دار منك محلالا
تسعى إليك بها هيفاء غانية ... مياسة القد كحلا الطرف مكسالا
إذا انثنت كغصن البان من ترف ... وإن تجلت كبدر زان تمثالا
كأنها وأدام الله بهجتها ... ظبي رنا فسبى تيهاً وإدلالا
وكيف لا وهي أمست فيه ساحبة ... بخدمة السيد المفضال أذيالا
ذاك الذي جل عن تنويه تسمية ... شمس علت هل ترى للبدر أمثالا
الباسم الثغر والأبطال عابسة ... والباذل المال لم يتبعه أنكالا
عار من العار كاس من محامده ... لا يعرف الخلف في الأقوال إن قالا
إن قال أفحم ندب القوم مقوله ... أو صال أخجل ليث الغاب إن صالا
علا به النسب الوضاح منزلة ... عن أن يماثل إعظاماً وإجلالا
خذها ربيتة فكر طالما حجبت ... لولا علاك وود قط ما حالا
واسمح بفضلك عن تقصير منشئها ... وحسن بشرك لم يبرح لها فالا
ثم الصلاة على أزكى الورى نسباً ... وآله الغر تفصيلاً وإجمالا
قال السيد علي لقد رأيت هذا المادح ساحباً أذيال العز والجلال بحضرة ممدوحه هذا السيد المفضال وقد أنزله بأعز مكان وأحله عنده محل ابن ذي يزن من رأس غمدان حتى وعده بوعد شام من وميض بارقه السعد فلم يلبث أن استوفى ملء مكياله وهتفت به دواعي آجاله فوافت المسكين منيته قبل تقضى أمنيته وهكذا حلق الدهر العرام وكم حسرات في نفوس الكرام وكانت وفاته يوم الجمعة لعشر بقين من شوال سنة تسع وستين وألف.
عمر بن إبراهيم بن محمد المنعوت بسراج الدين الشهير بابن نجيم الحنفي المصري الفقيه المحقق الرشيق العبارة الكامل الاطلاع كان متبحراً في العلوم الشرعية غواصاً في المسائل الغريبة محققاً إلى الغاية سيال اليراع نديه في التحرير جامعاً لأدوات التفرد في حسن أسلوبه جم الفائدة وجيهاً عند الحكام في زمنه معظماً عند الخاص والعام أخذ عن أخيه الشيخ زين صاحب البحر وألف كتابه الذي سماه بالنهر الفائق شرح الكنز ضاهى به كتاب أخيه البحر الرائق لكنه أربى عليه في حسن السبك للعبارات والتنقيح التام قال في أوله بعد البسملة أحمدك يا من أظهر ما شاء لمن شاء من كنوز هدايته وأطلع من أحب على دقائق الحقائق بفيض فضله وعنايته وأصلي وأسلم على نهاية خلاصة الأصفياء وذخيرة نخبة العلماء من الأنبياء محمد المختار من خيار الأخيار وعلى آله وصحبه كرام الأبرار ما تكرر الليل والنهار وتراسلت قطرات الأمطار في الأقطار وتواصلت أبكار نفائس الأفكار وله فيه مناقشات على شرح أخيه منها قوله في باب التيمم بعد نقل كلام أخيه وأقول هذا ساقط جداً وله غيره من الرسائل والتآليف وكانت وفاته يوم الثلاثاء سادس شهر ربيع الأول سنة خمس بعد الألف بدرب الأتراك ودفن عند أخيه الشيخ زين بجوار السيدة سكينة تجاه مقلاة الحمص قيل مات مسموماً من بعض النساء ويدل على ذلك كثرة تزوجه وعدم مرضه.(2/247)
السيد عمر بن إبراهيم بن محمد شجر القديمي الحسيني كان سيداً كبير الحال عظيم المقال له كرامات شهيرة وكان من الزهد في الدنيا وعدم النظر إليها بمنزلة علية وكان ينفق جميع ما يأتيه من الفتوحات والنذور على الفقراء والمساكين وله بجدة زاوية يجتمع فيها الناس لذكر الله تعالى وطاعته وكل من حضر معهم يحصل له فتح إما ديني وإما دنيوي وكان يجلس في غالب أوقاته بجدة على سرير له منصوب بقرب باب صريف من الجهة الشامية منها وكل من له حاجة أتى إليه وتوسل به في قضائها فتقضى بإذن الله تعالى وسريره إلى الآن منصوب بجدة في مكانه يتبرك الناس بمسه ولا يقدر أحد أن يجلس عليه ومن جلس عليه ضرب من يومه وقد جرب ذلك والناس يتحاشون عن الجلوس عليه خوفاً من ذلك وحكى السيد محمد بن الطاهر بن بحر في تاريخه الذي سماه تحفة الدهر أن صاحب الترجمة كان على جانب عظيم من الخيرات يحب الفقراء ويؤوي المساكين ويكرم الوافدين ويطعم الهريسة في أيام منى لأكثر أهل الموسم على طريقة عمه السيد الولي المشهور أبي الغيث بن محمد الشجر المقدم ذكره قال وحكى لي والدي أن صاحب الترجمة ربى يتيماً وله والدة وهو بها بر كانت تضربه وتأمره بالأمور فيأتمر حتى كبر وبلغ الحنث وكان يحاول شيئاً من أمور الدنيا فلا ينال منها وكان يضحك القوم منه لفقره وتغفله فحج وزار النبي صلى الله عليه وسلم فحصلت له عناية ربانية بواسطة جده صلى الله تعالى عليه وسلم فرزق القبول التام حتى استوطن بمكة وأقبل عليه أهلها وأمراء الأروام فيما دونهم وكان يزور اليمن فيقبل عليه الناس إقبالاً تاماً وما تفوه به أتمه الله تعالى وجميع ما يدخل عليه ينفقه في سبيل الخير وما زال على هذه الحال حتى توفي إلى رحمة الله تعالى وغفرانه وكانت وفاته في سنة عشر بعد الألف بجدة وبها دفن ولا عقب له.
عمر بن إبراهيم بن علي بن أحمد بن علي السعدي الحموي الأصل الدمشقي المولد المعروف بابن كاسوحة المقدم ذكر أبيه في حرف الهمزة كان والده شدي الاعتناء به حتى أشغله واجتهد على تعليمه ودخل به القاهرة غير مرة وأحضره عند الجلة من المشايخ منهم الشمس الرملي ولنور بن غانم المقدسي وإبراهيم العلقمي والشهاب الحانوتي والنور الزيادي والشهاب بن قاسم والشهاب أحمد بن أحمد بن عبد الحق والشيخ صدر الدين الحنفي والزين عبد الرحمن بن الخطيب الشربيني وسمع منهم وأجازوه وأخذ بدمشق عن الشمس الداودي ولازمه مدة وحضر مع أبيه دروس الشهاب العيثاوي ولازم البرهان بن كسباي في القراآت حتى صار أمثل جماعته ثم تصدر للإقراء وكان حسن التلاوة متقناً مجوداً خالياً من التكلف والتعسف مع أنه لم يكن حسن الصوت وكان قليل الحظ من الدنيا ومعيشته أكثر ما كانت من كسب أبيه قال النجم الغزي قرأت بخطه أن مولده في أواخر رجب سنة أربع وسبعين وتسعمائة وتوفي يوم الأحد عشرى جمادى الأولى سنة سبع عشرة وألف بعلة الاستسقاء ودفن عند أبيه بمقبرة باب الصغير.(2/248)
السيد عمر بن أحمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن محمد منفز بن عبد الله بن محمد بن الشيخ عبد الله باعلوي يعرف كسلفه بآل منفز أحد فحول الرجال قال الشلي في ترجمته كان من المشار إليهم بالزهد والصلاح والعبادة وحسن الطريقة صحب الأكابر من الأولياء والعلماء وتخرج بهم في سلوك الطريقة ولقي أستاذ حضرموت الإمام أحمد بن علوي باحجذب ولازم الإمام العارف بالله تعالى محمد بن عقيل صاحب مديحج وكان متمسكاً بآداب الشريعة محترماً عند الملوك والأِشراف وكان في أقصى المروءة وغاية التواضع منقاداً للخير جواداً سخياً يعظم أهل الدين ويكرم الفقراء كثير الصدقة والإحسان إليهم عظيم البر مع إقباله على طريقة أسلافه من العبادة والتهجد وقيام الليل كان يقوم ربع الليل الأخير ويخرج من مسجد آل باعلوي ويقيم كل من كان نائماً فيه ذلك الوقت وربما ضرب من تكاسل عن القيام وكان مستهيناً بالدنيا وعروضها مجانباً كثير الدنيا محتقر الأرباب الدولة ومن يتردد إليهم يطلق لسانه على أهل الظلم والفسوق وألقى الله هيبته ومحبته في القلوب وتزايد اعتقاد الناس فيه ولما تولى السيد عبد الله بروم نظر أوقاف آل عبد الله باعلوي طلع صاحب الترجمة إلى السلطان وأغلظ عليه القول وكان نظر أوقاف مسجد آل باعلوي إليه وأوقف عليه أموالاً كثيرة وكان يأمر بالمعروف وله كرامات وإفضالات وكانت وفاته ليلة الأربعاء لتسع خلون من شوال سنة عشرين وألف ودفن بمقبرة زنبل وقبره معروف.
السيد عمر بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن الشيخ عبد الرحمن السقاف يعرف كأبيه بالمساوي ويعرف جده محمد ببا مقلف ذكره الشلي وقال في ترجمته أحد الأعيان مدبراً لأمور وصاحب الرأي الصائب ولد بتريم ونشأ بها وصحب جماعة من أكابر العارفين واشتهر بالعفة وجودة الرأي ووفور الهيبة وكان يضرب به المثل في جودة الذكاء وانتفع به الناس في الإصلاح بينهم في أمور لا يتقنها غيره مع الصبر على الأمور الدينية كالإقامة بتجهيز الميت ونزوله قبره وإذا مر خطب دبره أحسن تدبير وكفى الناس أمره وكان حيسوباً سريع الجواب حسن الابتدار عجيب الحافظة جيد المحاضرة وكان صدراً رئيساً معظماً عند الخاص والعام تقدمه جميع الطوائف وكان أديباً فاضلاً ذكياً مداوماً على العبادة والجماعة والتهجد وزيارة الصالحين وغير ذلك من الصفات الجميلة غير أنه خدشها بتردده على السلطان فلم يكن يعاب بأشد من ركونه إليهم ثم اختلفت الأحوال ما بين انخفاض وارتفاع ووشي به إلى السلطان فاعتقله بالحصن فأسلم إلى من عاقبه وعمل له قميصاً من ليف النخر وأحرق ذلك الليف ثم صودر وأخذ منه جميع ما معه من النقدين وماله بأيدي الناس وما معه من الأمتعة والأواني ويقال أن مجموع ما أخذ منه نحو عشرة آلاف وكان محفوظاً فيما امتحن به مستسلماً فيما ابتلي به ثم جد واجتهد في العبادة وتوجه بظاهره وباطنه إلى الله تعالى حتى بلغ رتبة الكمال وعد من الفحول ووصل إلى المراتب العلية وظهرت منه كرامات وكانت وفاته في سنة أربع وعشرين وألف وعظم أسف الناس عليه وأثنوا عليه كثيراً وكانت جنازته حافلة جداً ولم يخلف بعده مثله في خصاله.
السلطان عمر بن بدر بن عبد الله بن جعفر الكثيري سلطان حضرموت بالشحر ذكره الشلي وقال في ترجمته كان حسن الشمايل وافر العقل كثير العدل وكانت سيرته مرضية وله التفات تام إلى الرعايا حسن السياسة صادق الفراسة صاحب أخلاق حميدة قل أن ورد عليه أحد من الغرباء إلا وصدر يثني عليه الثناء الجميل وكان شجاعاً مقداماً ولعبد الصمد باكثير فيه عدة مدائح وكانت وفاته سنة إحدى وعشرين وألف وأرخ عبد الصمد المذكور بقوله رضاك وتولى بعده ابنه السلطان عبد الله وكان حسن الخلق والخلق مهاب المنظر آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ولي الملك فأحسن القيام به وأظهر السطوة وقهر البادية وغيرهم فهابته النفوس وأمنت البلاد ثم حصلت له جذبة ربانية فلم يرض إلا بالدرجة العليا وخرج عن أهله وماله وقصد الحرم الشريف وأعرض عن الملك وأقام بمكة إلى أن توفي في سنة خمس وأربعين وألف ودفن بالشبيكة.(2/249)
عمر بن حسين بن علي بن محمد فقيه بن عبد الرحمن بن الشيخ علي إمام الزمان أحد الأساتذة الذين جعلهم الله تعالى خلفاء على عباده وأمناء عليهم من حيث التربية والتهيئة لفيوضات إمداده قال الشلي ولد بتريم وتفقه على جماعة منهم القاضي أحمد بن حسين بلفقيه والقاضي أحمد بن عمر عيديد والفقيه فضل بن عبد الرحمن بافضل وأخذ التفسير والحديث عن العلامة أبي بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين والتصوف والحقائق عن تاج العارفين الشيخ زين العابدين والشيخ علوي بن عبد الله العيدروس ثم رحل إلى وادي دوعن وأخذ عن جمع منهم العارف بالله تعالى الإمام عبد القادر باعشن ورحل إلى اليمن ودخل بندر عدن وأخذ عن كثيرين ثم رحل إلى الحرمين وأخذ عن السيد عمر بن عبد الرحيم البصري والشيخ أحمد بن إبراهيم بن علان والسيد الجليل أحمد بن الهادي وأجازه أكثر مشايخه وألبسه الخرقة جمع وأذنوا له في الإلباس ولما رجع إلى مدينة تريم قصده العلماء ولازموه وتخرج به جماعة ووصل على يده غير واحد من الأفاضل منهم السيد الجليل علي بن عمر والسيد عمر بن عبد الله فقيه والشيخ محمد بن أحمد شاطري قال الشلي وصحبته مدة مديدة وأفادني فوائد عديدة وكان له اعتناء تام بكتب الشيخ الشعراني وله رسائل إلى أصحابه تشتمل على عبارات رشيقة وكان بينه وبين شيخنا الشيخ عبد الله بن أحمد العيدروس صحبة أكيدة وكانا فرسي رهان وكان كثير الصلاة محافظاً على سننها تقياً نقياً كريم الأخلاق يحب أهل العلم والدين ويكره المتمشدقين وكان مرجعاً في الأمور باذلاً نصيحته لكل أحد وكانت وفاته بتريم في سنة خمس وخمسين وألف ودفن بمقبرة زنبل رحمه الله.(2/250)
السيد عمر بن عبد الرحيم البصري الحسيني الشافعي نزيل مكة المشرفة الإمام المحقق أستاذ الأستاذين كان فقيهاً عارفاً مربياً كبير القدر عالي الصيت حسن السيرة كامل الوقار ذكره الشلي وأطال في وصفه بما لا مزيد عليه ثم قال أدرك الإمام الشمس محمد الرملي والشهاب أحمد بن قاسم العبادي وأخذ عنهما عدة علوم وقرأ على الشيخ بجر الدين البرنبالي والشيخ الشهاب الهيثمي والمنلا عبد الله السندي والشيخ علي العصامي والقاضي علي بن جار الله والشيخ عبد الرحيم الحسائي والسيد الجليل ميرباشاه والمنلا نصر الله وغيرهم وفاق في الفنون وأنجب تلامذة أفاضل وألحق الأواخر بالأوائل وأخذ عنه خلق كثير من أجلهم الشيخ عبد الله بن سعيد باقشير والشيخ علي بن الجمال وزين العابدين وأخوه علي ابنا الإمام عبد القادر الطبري والشيخ محمد بن عبد المنعم الطائفي والشيخ العارف بالله تعالى أبو الجود المزين وممن أخذ عنه وتربى به ولده محمد والسيد الجليل عبد الرحمن كريشه السقاف والسيد الفقيه مفتي الحنفية السيد صادق بادشاه وله كتابات حسنة على هامش التحفة وعلى شرح الألفية للسيوطي وله فتاوى مفيدة وصحب أكابر العارفين وأخذ عنهم علوم التصوف والحقائق قال ورأيت بخط شيخنا الشيخ علي بن الجمال ما نصه ومن كراماته وهي أشهر من أن تذكر أنه ما كان يسبق لسانه إلى كلام يقرره في الدرس إلا وهو حق يتعين المصير إليه ومنها ما وقع للفقير دائماً أنه إذا قرر كلاماً لم يفهمه في مجلسه فلا يبرز زمن من داره إلا وقد فتح الله به ومنها أنه كثيراً ما تشكل المسائل على كاتبه الفقير فبمجرد أن يجلس بين يديه يحصل الفتح ومنها أن مجلسه الشريف محفوظ من الغيبة ومنها ما أخبر به الثقة تلميذه وشيخنا الشيخ أحمد الحكمي بعد وفاته بأسبوع أنه رآه في المنام فسأله يا سيدي إنكم انتقلتم فقال نعم واقرأ يا فلان ما تيسر فقرأ من قوله تعالى " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون " فلما وصل إلى قوله عز وجل " أولئك يؤتون أجرهم مرتين فقال له قف أنا منهم ثم قال له يا فلان إن الله تعالى تجلى على بعض قلوب أوليائه بلا واسطة وعلى بعضها بواسطة وأرجو أن تكون منهم فقال له سيدي الشيخ أحمد الحكمي يا سيدي فكيف العيال والأولاد فقال أما أنا فقد استرحت وهم لهم الله تعالى فانتبه وأما عمله فناهيك به أنه قد وصل لرتبة الاجتهاد وانخرط في سلك أهله الأمجاد ولكنه مع ذلك كان متعبداً بمذهب الإمام الشافعي في الفتوى والتدريس ونشر العلم إلى أن نقله الله تعالى لدار كرامته وذكره ابن معصوم في السلافة فقال فيه ناصر الشريعة والطريقة وهاصر أفنان رياضها الوريقة المخبت الأواه الناطقة بفضله الألسن والأفواه السالك مسالك القوم ذو الشيمة الغالية والسوم جمع بين العلم والعمل وبلغ من الفضل منتهى الأمل فرفل في حلل الزهد والتقى ورقي من الشرف أرفع مرتقى إلى بلاغة وبراعة أرعف مهما مخاطم اليراعة وفصاحة ولسن أرهف بهما مخاذم الكلام وسن وأنشد له غيره من شعره قوله في الترغيب بفتوحات ابن عربي:
يا رائماً قرع أبواب المهمات ... وشائماً في امتطاء الحور زهرات
إن كنت ترغب في نجح الكرامات ... فالزم فديتك أبواب الفتوحات
وله رسالة في معنى قول ابن الفارض في تائيته
وما الودق إلا من تحلب أدمعي ... وما البرق إلا من تلهب زفرتي
تدل على تمكنه في التصوف وكانت وفاته مع أذان ظهر يوم الخميس الثامن عشر وقيل الثامن والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة سبع وثلاثين وألف ودفن بالمعلاة وحكى العلامة عبد الله بن محمد العباسي المكي أنه حضر وفاته قال وكان آخر كلام تكل به قول السودي
وقضى يعقوب حاجته ... وانتهى زيد إلى الوطر
ثم خرجت روحه.(2/251)
عمر بن عبد الصمد بن محمد الغلمي وتقدم تمام النسب المقدسي الشيخ البركة الصالح المرشد كان من خيار خلق الله تعالى حسن الأخلاق صافي السريرة بشوشاً سخياً وافر الحرمة مقبول الكلمة مجللاً عند خاصة الناس وعامتهم وكان له صلابة في دينه منقطعاً إلى الله تعالى منزوياً عن الناس إلا في شفاعة مقبولة أو أمر مندوب إليه وكان فاضلاً عارفاً بكلام الصوفية جارياً على مناهجهم السوية أدرك جده الأستاذ الكبير وتلقن منه وصار شيخاً مكانه وعظمته الناس وتبركت به وبالجملة فقد كان في عصرنا بركة من بركات الله تعالى وكانت وفاته في سنة ثلاث وتسعين وألف.
عمر بن عبد القادر المشرقي الغزي العلامة المفنن اشتغل بطلب العلم وجد زماناً بغزة وأخذ عن جماعة من أجلهم الشيخ صالح بن الشيخ محمد صاحب التنوير أخذ عنه النحو والمعاني والبيان وغيرها غير الفقه فإنه كان شافعي المذهب أخذ فقه الشافعي عن الشيخ حسين النخالي وغيره وفضل وصار من أجلاء علماء غزة ولما توفي الشيخ صالح ابن صاحب التنوير المفتي الحنفي بغزة بعد والده صار مفتياً بعد الشيخ عمر بن علاء الدين الآتي ذكره إن شاء الله تعالى فلما توفي الشيخ عمر المذكور في سنة ثمان وخمسين وألف لم يوجد بغزة من له شهرة بفقه الحنفية ليكون مفتياً فاتفق رأى حاكمها حسين باشا وأكابر البلد أن يكون الشيخ عمر المترجم مفتياً وأنه ينتقل إلى مذهب الحنفي وألزموا بذلك لحاجتهم إلى مفت حنفي فجاء من غزة إلى الرملة هو والرئيس محمد بن الغصين ومكث بها مدة وقرأ على شيخ الحنفية الشيخ خير الدين الرملي دروساً في الفقه من الكنز وغيره وأجازه بالإفتاء والتدريس ومكث مفتياً حنفياً إلى أن توفي وحمدت كتابته على الفتاوى ولم يعرف له هفوة لعلمه وتثبته فيما يكتب وكان من أهل الثروة مبجلاً معظماً وله فصاحة كاملة وحسن إنشاء حتى أنه كان حاكم غزة إذا كاتب أحداً تكون مكاتبته بخط المشرقي المذكور وبينه وبين الخير الرملي والسيد محمد بن حمزة نقيب الشام مكاتبات عديدة ومن مخاطبات الخير له فصيح الدهر وبليغ العصر الذي يتقهقر عند منطقه كل منطيق وإذا سئم بليغ من مجاراته أجاب بلا أطيق لا أطيق عمر الزمان وزهر الأوان
من طلعت على الورى ذكاؤه ... فقيل ها أنوار شمس المشرقي
قلت وفي راحة كفي رقمه ... سبحان من يهدي لهذا المنطق
وهي قصيدة ثلاثة عشر بيتاً وكتب إليه في صدر كتاب
إلى ذي المعالي والمعارف من به ... تتيه على الأمصار غزة هاشم
وأعني بذاك المشرقي الذي سما ... على من سواه بالسخا والمكار
وكتب إلى الخير يسأله عن مسئلة الأمي إذا تعلم ما تصح به صلاته فكتب إليه
سحر ترى ما أرى أم نسمة سحرا ... أم كوكب غلبت أنواره القمرا
أم روضة أينعت أغصانها فغدت ... تعطي المنى كل من قد سامها نظرا
بها الذي تشتهيه النفس من نعم ... يميل ميلاً لمن يجني بها ثمرا
أم اللآلي ترى نوراً إذا لمحت ... كذا ترى إذ صفت ألوانها الدررا
أم تلك يا عمر شمس المشرقي بدت ... فجددت عهد فاروق القضا عمرا
نعم بلا شبهة هذا الأخير هو الذي وعيشك للأنظار قد ظهرا
تالله يا عمر العصر الجدير بأن ... نثني عليك لقد فقت الذي غبرا
أعطيت خطا وخطا جامعاً بهما ... علماً وحلماً يردان الذي افتخرا
فصرت مرجع أهل الفضل لا برحت ... علومهم في ازدياد تقتفي الأثرا
هذا وقد جاءني رق البلاغ فما ... أبقى محلاً لما جاءت به الشعرا
ففي الفصاحة شأن لا نظير له ... وفي البلاغة ما إن مثله نظرا
وكم به من معان ليس يدركها ... إلا ذوونا الألى شدوا لها الأزرا
ولم أقلها لشيء أجتنيه وما ... من عادتي في مديحي أجتني الكبرا
لكن علينا عهود الله قد أخذت ... لا نغمط الحق لا سيما إذا ذكرا
وإنني والذي ينشي السحاب كما ... يشاء حبي لأهل العلم قد كبرا(2/252)
فإنهم هم مصابيح الهدى فمتى ... خلوا من الناس كانوا في الظلام سرا
فلا خلا منهم عصر لأنهم ... مثل النجوم إذا غابوا به اعتكرا
أقول قولي هذا ثم أعقبه ... جواب مسئلة الأمي مختصرا
إذا تعلم قرآناً تصح به ... صلاته خلف شخص قد درى وقرا
فيه الخلاف حكوا والأكثرون رأوا ... فساده اعتماداً ليس فيه مرا
لأنه قارئ حكماً بأوله ... حقيقة بعده فاستوجب الغيرا
وقد بنى كاملاً والحال ما ذكرا ... فيه على ناقص قد صار مقتدرا
والفرق في القارئ الأصلي أن له ... محض الكمال على الحالين مؤتثرا
لكن أبو الليث مولانا الفقيه حكى ... في عكس هذا اتفاقاً بعد مسطرا
لأنه قارئ في الحالتين ولا ... فرق إذا ما أعاد الناظر النظرا
كذاك صححه بعض وأيده ... لكن قواعدنا تقضي لمن كثرا
لا سيما ومتون الفقه قاطبة ... قد أطلقت قولها في الاثنتي عشرا
وتلك موضوعة فيما بدا أبداً ... تقضي وتفتي فلا تعدى إذا صدرا
وكتب إليه أيضاً
إلى عمر العلوم سلام خل ... يدوم بقاؤه أمد الدهور
فليت الاجتماع أقام دهراً ... ليبقي القلب في أعلى السرور
وكانت وفاته بغزة نهار الأربعاء عاشر شوال سنة سبع وثمانين وألف وبنو المشرقي بيت علم ومجد شهير بغزة من أهل بيتهم العلامة الشيخ محمد المشرقي أخذ عنه الشيخ محمد صاحب التنوير وترجمه النجم الغزي في الكواكب السائرة وذكر أنه أخذ عن القاضي زكريا وأنه توفي سنة ثمانين وتسعمائة.
عمر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن أحمد بن أبي بكر باشيبان بن محمد أسد الله بن حسن بن علي بن الأستاذ الفقيه الشهير كسلفه بباشيبان الإمام المشهور الحضرمي الأصل الهندي المولد أخذ عن جماعة ببلاد الهند ثم رحل إلى تريم وأخذ بها عن الشيخين الجليلين الشيخ عبد الله بن شيخ وولده زين العابدين وتفقه على القاضي عبد الرحمن بن شهاب الدين وأخذ علوم الدين عن الشيخ أبي بكر بن شهاب وأخويه محمد الهادي وأحمد شهاب الدين ثم رحل إلى الحرمين وجاور بهما عدة سنين وأخذ عن جماعة منهم السيد عمر بن عبد الرحيم البصري والشيخ أحمد بن إبراهيم علان والشيخ عبد الرحمن الخطيب وغيرهم ولبس الخرقة من أكثر مشايخه وأجازه أكثرهم ثم عاد إلى تريم وتزوج بها ودرس ثم رحل إلى الديار الهندية وقصد شيخ الإسلام السيد محمد بن عبد الله العيدروس ببندر سورت ولازمه وتخرج به في طريق القوم وأخذ عنه عدة علوم وقصد الوزير الملك عنبر وأقام عنده يدرس في الفنون العربية إلى أنت انتقل الملك عنبر فرحل إلى السلطان عادل شاه وحصل له عنده قبول تام وأقام بمدينة بيجافور عنده عدة أعوام وأنعم عليه بخراج جرام بالقرب من مدينة بلقام ثم اختار التوطن بمدينة بلقام وتصدر للنفع واقتنى كتباً وأموالاً كثيرة وكان من قصده من الطلبة يقوم بنفقته وكسوته وأخذ عنه الجم الغفير وظهرت بركته وكان حسن الأخلاق عظيم الشهامة لم يدنس مقداره بذم قط ولم يزل بمدينة بلقام إلى أن توفي وكانت وفاته في سنة ست وستين وألف وقبره بها معروف.(2/253)
عمر بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمود بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسين العرضي الحلبي الشافعي القادري المحدث الفقيه الكبير مفتي حلب وواعظ تلك الدائرة كان أوحد وقته في فنون الحديث والفقه والأدب وشهرته تغني عن الإطراء في وصفه اشتغل بالطلب على والده ثم لزم الشيخ الإمام محمود بن محمد بن محمد بن حسن البابي الحلبي المعروف بابن البيلوني وكان عمره إذ ذاك أربع عشرة سنة فقرأ عليه الجزرية ومقدمة التصريف العزية وتجويد القرآن وقطعة من تيسير الداني ثم انحاز إلى المنلا إبراهيم بن محمد البياني الكردي ثم الحلبي الشافعي فقرأ عليه كثيراً من الفنون ثم وصل إلى العالم الكبير محمد رضي الدين بن الحنبلي فقرأ عليه وانتفع به وتخرج عليه وأخذ عن العالم العلامة محمد بن المسلم التنوسي الحصيني نسبة إلى بني الحصين طائفة من الأنصار المالكي نزيل حلب لازمه سنين وانتفع بعلمه وسمع من لفظه صحيح البخاري تماماً مرات عديدة وجانباً كبيراً من صحيح مسلم بقراءة ولده محمد المقتول ومن لفظه حصة كبيرة من الشفاء للقاضي عياض وقرأ عليه في المطول من بحث أحوال متعلقات الفعل من الأنصار المالكي نزيل حلب لازمه سنين وانتفع بعلمه وسمع من لفظه صحيح البخاري تماماً مرات عديدة وجانباً كبيراً من صحيح مسلم بقراءة ولده محمد المقتول ومن لفظه حصة كبيرة من الشفاء للقاضي عياض وقرأ عليه في المطول من بحث أحوال متعلقات الفعل إلى آخر الكتاب وكان قرا من أوله إلى هذا المحل على شيخه المنلا إبراهيم الكردي المذكور آنفاً وسمع عليه بقراءة غيره في شرح الألفية للمرادي وفي مغني اللبيب وفي شرح ابن الناظم على ألفية أبيه وقرأ عليه شرح العراقي على ألفيته بتمامه وحصة يسيرة من شرح العضد على مختصر ابن الحاجب وشرح عليه في قراءة الأصفهاني شرح طوالع البيضاوي في بحث الإلهيات فقرأ عليه درسين ثم حم ابن المسلم ومات ورواية ابن المسلم البخاري عن البرهان العمادي الحلبي وأسانيد معروفة وعن الفخري عثمان بن منصور الطرابلسي وهو يرويه عن أبي العباس أحمد الشاوي الحنفي والزين الهرهامي عن الحافظ العراقي بأسانيده ويرويه وسائر كتب السنن عن قاضي الجماعة بتونس سيدي أحمد السليطي سماعاً من لفظه لصحيح البخاري وأجازه لباقي كتب السنن وأجازه البدر الغزي من دمشق بالمكاتبة ودرس وأفاد وصرف أوقاته في الإفادة ولم يكن في عصره واحد مثله مجداً في الاشتغال وإفادة الطلبة لازم الزاوية الحبشية المنسوبة إلى بني العشائر مدة أربعين سنة وكان أكثر فضلاء زمانه تلامذته وأنبلهم الشمس محمد وأخوه البرهان إبراهيم ابنا الشهاب أحمد بن المنلا وولده أبو الوفاء العرضي ونجم الدين الخلفاوي وغيرهم من رؤساء العلم وصار مفتي الشافعية بحلب وواعظها بجامعها يعظ الناس يوم الجمعة بعد العصر واستمر على ذلك مدة حياته وألف تآليف كثيرة منها شرح شرح الجامي ابتدا فيه من عند قوله فالمفرد المنصرف إلى المنصوبات ولم تساعده الأيام على إتمامه وكان شديد الاعتناء بالجامي حريصاً على مطالعته وإقرائه وفيه يقول
لله در إمام طالما سطعت ... أنوار أفضاله من علمه السامي
ألفاظه أسكرت أسماعنا طرباً ... كأنها الخمر تسقى من صفا الجامي
واقتدى في ذلك بشيخه ابن الحنبلي في قوله
لكافية الإعراب شرح منقح ... ذلول المعاني ذو انتساب إلى الجامي
معانيه تجلى حين تثلى كأنها ... هي الخمر يبدو جرمها من صفا الجامي
ولعبد الله الدنوشري المصري فيه
لله شرح به شرح الصدور لنا ... كأنه الدر أو أزهار أكمام
قد أسكر السمع إذ تتلى عجائبه ... والسكر لا غرو معروف من الجامي(2/254)
وله شرح على رسالة القشيري وشرح العقائد وشرح الشفا في حديث المصطفى أربعة أسفار ضخمة كل سفر قدره أربعون كراساً في مسطرة أحد وأربعين سطراً سماه فتح الغفار بما أكرم الله به نبيه المختار صرف همته مدة اثنتي عشرة سنة في تأليفه وأبرز فيه علوماً جمة وشاع في الآفاق واستكتبه علماء الروم والعرب وكتب حاشية على تفسير المولى أبي السعود في سورة الأعراف وأما رسائله فلا تحصر وأجوبته وفتاويه كثيرة متواترة ومن رسائله رسالة سماها الدر الثمين في جواز حبس المتهمين ورسالة مناهج أهل الوفا فيما تضمنه من الفوائد اسم المصطفى ورسالة في تفضيل الصلاة على البشير النذير ورسالة في شرح قصيدة ابن الفارض الدالية ورسالة أخرى في شرح التائية وأخرى في شرح اليائية ورسالة على قوله تعالى ألم تر إلى ربك كيف مد الظل وغير ذلك من الرسائل ومن تعليقاته جوابه عن مقالة الأستاذ محمد البكري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم جميع علم الله تعالى وقد سئل عنها في مجلس درس فأجاب بأن مقالة الشيخ هذه صحيحة ولا إنكار عليه فيها إذ يجوز أن الله يهبه علمه ويطلعه عليه ولا يلزم من ذلك أن يدرك محمد صلى الله عليه وسلم مقام الربوبية إذ العلم المذكور ثابت لله تعالى بذاته وللمصطفى صلى الله عليه وسلم بتعليم الله تعالى إياه وإلى مثل ذلك أشار الأبوصيري بقوله
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
وفي الحديث قال لي ربي ليلة الإسراء فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت لا أدري فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها في ثديي فعلمت علم الأولين والآخرين ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى فقلت في الوضوء على المكاره إلى آخر الحديث وأورد في تاريخه في ترجمة شيخه ابن مسلم ناقلاً عن تاريخ شيخه ابن الحنبلي أنه قال اجتمعت به أي بابن مسلم مرة عند مولاي الرشيد بن سلطان تونس إذ دخل حلب فجرى ذكر بني أمية فأوردت أن من المفسرين من ذهب إلى أن الشجرة الملعونة في القرآن هي بنو أمية فتغير لذلك فقلت سبحان الله قيل ما قيل والعهدة على قائله فطلب صاحب المجلس مني النقل فأظهرته من تاريخ المحب بن الوليد بن الشحنة قال وأقول أن هذه المقالة لم يقلها عالم معتبر وإنما هي من ترهات الشيعة لغلوهم في بغض بني أمية وإلا فبنو أمية منهم الجيد والرديء فماذا يفعل قائل ذلك في عثمان المشهود له بالجنة وذي النورين جامع القرآن وما يصنع في عمرو بن العاص وولده عبد الله الناسك أحد العبادلة الأربعة وفي معاوية بن أبي سفيان وغيرهم من أكابر الصلحاء كعمر بن عبد العزيز ومعاوية الصغير وكيف تكون بنو أمية شجرة ملعونة وهم عنصر النبي صلى الله عليه وسلم وبنو عمه وابن الشحنة كان رجلاً غايته أنه من فضلاء الناس وليس قوله بحجة وتفسير القرآن لا يحتج فيه بمثل ابن الشحنة ولا بمقالته انتهى وللعرضي شعر قليل أنشد له بعض الأدباء قوله وهو معنى حسن
لم أكتحل في صباح يوم ... أريق فيه دم الحسين
إلا لأني لفرط حزني ... سودت فيه بياض عيني
وأصله قول بعضهم
وقائل لم كحلت عنا ... يوم استباحوا دم الحسين
فقلت كفوا أحق شيء ... يلبس فيه السواد عيني
ومثله لأبي بكر العمري الدمشق
في يوم عاشوراء لم أكتحل ... ولم أزين ناظري بالسواد
لكن على من فيه حيناً قضى ... ألبست عيني ثياب الحداد
وكانت ولادته بحلب بقاعة العشائرية الملاصقة لزاويتهم دار القرآن شمالي جامع حلب في صبيحة يوم الجمعة منتصف جمادى الآخرة سنة خمسين وتسعمائة وجاء تاريخ مولده شيخ حلب ومات يوم الثلاثاء خامس عشر أو سادس عشر شعبان سنة أربع وعشرين وألف وقال الصلاح الكوراني مؤرخاً وفاته
إمام العلوم وزين العلا ... سراج الهدى عمر ذو الوفا
تولى فأرخ سراج بها العلوم هدى فرقاً فانطفى(2/255)
عمر بن علاء الدين بن عبيد بن حسن بن عمر الغزي الحنفي المعروف بابن علاء الدين أحد فضلاء الدهر قرأ بغزة على الشيخ شرف الدين بن حبيب الغزي وعلى الشيخ صالح بن الشيح محمد صاحب التنوير الغزي ورحل إلى القاهرة في سنة إحدى وعشرين وألف وأخذ عن علمائها ومكث بها لأخذ العلم ست سنوات وولي إفتاء غزة من حدود الخمسين إلى أن توفي وله رسالة في قوله تعالى أن رحمة الله قريب من المحسنين ورسالة في قوله وفي السماء رزقكم وما توعدون ورسالة في قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب وغير ذلك وكان وفاته في جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وألف.
السيد عمر بن علي بن عبد الله بن علي بن سالم بن محمد بن عمر بن علي بن عمر بن أحمد بن الشيخ الأستاذ الأعظم محمد بن علي باعلوي الحضرمي ذكره الشلي وقال في ترجمته أحد الزهاد المشهورين كان على جانب عظيم من القناعة والصبر والتسليم والرضا ولد بظفار سنة اثنتين بعد الألف ونشأ في حجر والده وكان يجله ويخصه بأشياء من بين أولاده وصحب ابن عمه السيد عقيل بن عمران باعمر علوي وحضر دروسه وانتفع به ولازمه وألبسه خرقة التصوف وهو من أخص خواص أصحابه وكان السيد عمر يقول في شيخه هذا اعتقادي فيه أنه قطب الوقت وأنه وارث السر المحمدي وذلك لأمور شاهدها فيه ولما توجه إلى الحج اجتمع بجماعة من أكابر السادة من أجلهم السيد عبد الله بن علي صاحب الوهط والسيد أحمد بن عمر العيدروس والسيد عمر بن عبد الرحيم البصري والشيخ أحمد بن إبراهيم علان وغيرهم وكان كثير الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أنه رآه بالمدينة متوشحاً بثوب الوقار والأنوار تغشاه فقال له يا رسول الله بلغنا عن الثقات أن الشيخ أبا الغيث بن جميل اليمني أب من لا أب له يوم القيمة هل ذلك صحيح أم لا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نعم صحيح ثم قال له يا رسول الله ونحن فقال وأنتم منا وإلينا أو كما قال ثم إنه قص الرؤيا على بعض علماء المدينة فقال له رؤياك صدق وحق ولكن ستفقد شيئاً معك وسيعوضك الله ما خير منه وأفضل سراً وعلانية وكان الأمر كما ذكر لي فعوضني الله سبحانه ما كنت أرجوه وأطلبه فحمدت الله تعالى قال ولما قفلت من الحج والزيارة من طريق اليمن اجتمعت بالسيد عبد الرحمن بن شيخ صاحب تعز وحصل لي منه استمداد وألبسني الخرقة ثم أذن لي بالسفر إلى الوطن وقال لي عند الوداع ستجتمع بالخضر في طريقك قال فلما أصبحنا في المرحلة الأخيرة إلى الحج صلينا الصبح وكنا جماعة في القافلة ثم ركبت على الجمل فحال أن استويت على ظهره إذا برجل لم أعرفه غير أن له هيبة ناولني رغيفين حارين ولم يره غيري ولم يكن بذلك الموضع قرية ولا غيرها ثم غاب عني ولم أره ثم وجدت في صدري انشراحاً وفرحاً ومزيد إيمان لاجتماعي بالخضر وإتمام ما وعد به السيد وكان صاحب الترجمة له ذوق في كتب القوم وله كرامات كثيرة منها أنه قال مرة لجماعة أن أمير البلد يقتل ويسحب برجله فما مضت إلا مدة يسيرة وإذا بالأمير الذي عناه قتل وفعل به كما ذكر ثم سافر إلى الهند سنة اثنتين وستين وألف واجتمع بالسيد أبي بكر بن حسين بلفقيه وألبسه الخرقة وكان ذلك ببلده بيجافور فأقام بها بقية تلك السنة ثم مرض بها وكان له خادم يقال له محمد بن قشقاش قال محمد المذكور كنت أرى من سيدي كرامات كثيرة وهو يأمرني بكتمها منها أنه قال في ليلة وفاته إذا رأيت شيئاً فلا تفزع قال محمد فلما كان آخر تلك الليلة رأيت نوراً سطع حتى أضاء ذلك الموضع الذي هو فيه فدخلني من الهيبة والاقشعرار ما شاء الله تعالى ثم دنوت منه فإذا هو ميت وكانت وفاته في شعبان سنة ثلاث وستين وألف فجهز وحضر جنازته جمع كثير من السادة وغيرهم ودفن بمقبرة السادة بني علوي هناك.(2/256)
عمر بن عمر الزهري الدفري الحنفي القاهري الإمام العالم العلامة كان إماماً جليلاً عارفاً نبيلاً له المهارة الكلية في فقه أبي حنيفة وزيادة اطلاع على النقول ومشاركة جيدة في علوم العربية أخذ الفقه عن الشمس المحبي وعبد الله النحريري وعبد الله المسيري الشهير بابن الذيب وعبد القادر الطوري وبقية العلوم عن البرهان اللقاني وأجازه جل شيوخه وتصدر للإقراء بجامع الأزهر وانتفع به خلق لا يحصون وكان مشهوراً بالبركة لمن يقرأ عليه صالحاً عفيفاً حسن المذاكرة حلو الصحبة ومن غريب ما أنفقه له أنه كف بصره نحو عشرين سنة ثم من الله عليه بعود بصره إليه من غير علاج إلى أن توفاه الله تعالى ومن مؤلفاته الدرة المنيفة في فقه أبي حنيفة وشرحها شرحاً نفيساً في مجلد أقرأه مرات عديدة بجامع الأزهر وعم النفع به وكانت وفاته بمصر في تسع وسبعين وألف ودفن بتربة المجاورين وقد جاوز الثمانين.
عمر بن محمد بن أبي اللطف الملقب سراج الدين بن الإمام شمس الدين اللطفي المقدسي الشافعي ثم الحنفي رئيس علماء القدس في عصره ومفتيها ومدرسها قرأ على والده وغيره ورحل إلى مصر وأخذ بها عن الحافظ شهاب الدين أحمد بن النجار الفتوحي وقرأت بخط الشيخ عبد الغفار المقدسي قال أخبرني أنه لما قدم من القاهرة قبل يد والده فقال له بأي هدية قدمت إلينا عمن أخذت الحديث فقلت له عن ابن النجار فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال أن للأب أن يأخذ عن الابن وهي رواية الآباء عن الأبناء فاستعفاه فألح وقرأ حصة من صحيح البخاري فأجازه متأدباً وهو يطلب منه العفو وسافر إلى دمشق هو وأخوه أبو بكر فقرآهما والشيخ الإمام شمس الدين العجلوني الريموني على البدر الغزي شرح جمع الجوامع للمحلي وأخذوا عنه ثم رحل الإخوان إلى القدس وأقام عمر بها يدرس ويفتي وعرض له في آخر عمره صمم بسبب كبر السن وكانت ولادته في سنة أربعين وتسعمائة وتوفي ببيت المقدس في سنة ثلاث بعد الألف.
عمر بن محمد بن أبي بكر المصري الشهير بالفارسكوري العلامة الأديب المفنن ذكره الخفاجي وقال في حقه فاضل قلد جيد عصره من فضائله بحلها ونظم عقد محاسنه في صدر ثديها جنى ثمرات العلوم الرياضية مع أن أنوارها لم تبرز من الأكمام واجتلى أبكارها وعونها وهي حور مقصورات في الخيام فملك من ذلك الفن خمائله ورياضه وكثيراً ما استنشقت عرف خبره واجتلوت من الشقة الفارسكورية رحيق حبره فتكرر من كماله ما ثنى الإعجاب عطفه وحقق أن عمر علم في المعرفة ثم أنشد له قوله وكتب بها إلى ابنه تقي الدين محمد الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف الميم وهو بالروم
شكل اشتياقي ما له من حد ... ونقطة الصبر محاها وجدي
وامتد خط الدمع من محاجري ... بلا تناه فوق سطح الخد
وهيئة الجسم اضمحلت مذ نأى ... وانحصرت حباتها بالعد
وضاق صدري حرجاً لما استدارت حركاتي حول قطب الصد
وأصبحت كرات حظي مركزاً ... مسكناً في وسط جرم الجهد
ومن قسي الهجر كم من أسهم ... نحوي ما شقت جيوب وجدي
والزمن القطاع قد ألف ما ... بين محاجري وبين السهد
وذكره عبد البر الفيومي في المنتزه وقال في وصفه عالم نشرت ألوية فضله على الآفاق وفاضل ظهرت براعة علمه فتحلى بها فضلاء الحذاق له اليد الطولى في العلوم العقلية والنقلية والراحة البيضاء في تعاطي أنواع الفنون الرياضية وبالجملة فهو عالم متضلع وأستاذ قام بالإفادة وهو متربع وقد انتفع به كثير من العلماء وتصدر من طلبته بمصر جم غفير من العظماء ثم ذكر له قصيدة قالها في مدح شيخ الإسلام يحيى بن زكريا ومطلعها
بشر الصابر لا يخشى الجنف ... فسعود الردف حلت في الشرف
وهي طويلة فلا حاجة بنا إلى إيرادها ووجدت في بعض المسودات لبعض الفضلاء ذكره ووصفه بالتفوق وجلالة القدر قال وكان شافعي المذهب وله من التآليف ما لم يسمح بمثله الفلك الدوار منها كتاب ناشئة الليل ونظم الارتشاف ورسائل شتى في علم الهيئة ونظم القطر في علم النحو وسماه بالنبات وجعل أبياته على عدد لفظه وله كتاب جوامع الإعراب وهوامع الآداب في العربية أيضاً نظم فيه جمع الجوامع وشرحه همع الهوامع للسيوطي واستوعب فيه استيعاباً زائداً وقال في آخره(2/257)
فرغته في مبتدا ذي الحجة ... لتسعة الأشهر من ذي الحجة
نظمت فيه الخمسة الآلاف مع ... خمس مئين بالثواني والتسع
وخمسة المئين باقي العدة ... في نحو شهر قبل هذي المدة
فكملت في عشرة شهور ... مبدلة المعور بالميسور
في عام نظميه فقلت مجمله ... الحمد لله على التيسير له
وقوله في عام نظميه يعني أنه فرغ منه في سنة خمس وألف وقوله الحمد لله على التيسير له تاريخ ثان فليتنبه له ومن فائق شعره قوله من قصيدة كتبها لولده وهو بالروم
الدر بعدك لا تروق لناظري ... والربع بعدك لا يشوق لخاطري
قد كان لي من ساكنيه أحبة ... كجآذر بين العقيق وحاجر
فتفرقوا كنظيم عقد جواهر ... عبثت به يد انفصام الناثر
منها:
فهجرت مذ هجر الحبيب معاهداُ ... ووجدتني عنهن أنفر نافر
فطفقن يذرفن الدموع سواجماً ... لمهاجر فارقنه ومهاجر
ومنها:
وازور عنهن الحبيب ولم يعد ... في يقظة أو طيف نوم زائر
بل غادر الأجفان يرقبن السهى ... وجفا لذيذ الغمض مقلة ساهر
ما هكذا البر التقي أراغب ... في أن يبدل بالشقي الفاجر
أو أن يقال شرى الضلالة بالهدى ... دوماً لربح وهي صفقة خاسر
أو أن يقال قضى الشبيبة عنة ... وصبت كهولته لنفثة ساحر
ومنها أيضاً
أمن البصيرة والعمى يغشى الهدى ... حتى يرى الأعمى بصورة باصر
لكن أحذرك الزمان وأهله ... من كائد أو ماكر أو غادر
أو مظهر بالختل سن تبسم ... وإذا اختبرت فناب ذئب كاسر
والدهر مغن عن نصيحة واعظ ... يروي الغرائب خابراً عن خابر
والله ملهمك الصواب لترعوي ... وتؤب أوبة صابراً وشاكر
إن كان ذاك فحبذا ولربما ... كان النهي للنفس أنهى زاجر
أو كانت الأخرى فرفقة يوسف ... وبكاء يعقوب الكئيب الصابر
والصبر داعي الضر ما من صابر ... لكريهة إلا يغاث بناصر
والقهر للناسوت ضربة لازب ... والحكم لله العلي القاهر
ومن مستحسن شعره قوله
إذا كانت الأفلاك وهي محيطة ... علينا قسياً والسهام المصائب
وراميها الباري فأين فرارنا ... وسهم رماه الله لا شك صائب
وله غير ذلك وكانت وفاته يوم السبت سابع عشر شوال سنة ثمان عشرة وألف بدمياط وحمل إلى بلده فارسكور فدفن بها.
عمر بن محمد بن أبي بكر مطير كان من مشاهير العلماء المطيريين وأجلاء المشايخ اليمنيين المنهمكين على خدمة كتب السنة والملازمين لطاعة الله سبحانه وتعالى وكان ذا خلق عظيم وخلق وسيم وجود عميم وطبع سليم حسن المحاضرة حلو الألفاظ مرضي الشيم صاحب همة أخذ عن والده وغيره من علماء عصره وأجيز بالإفتاء والتدريس ونشر معالم العلم وألف وصنف واستمر على ما هو عليه من الصفات حتى توفي ببيت الفقيه الزيدية وكانت وفاته فجر يوم الأربعاء عشرى رجب سنة تسع وثلاثين وألف.(2/258)
عمر بن محمد بن أحمد وقيل عبد القادر بن أحمد بن عيسى الملقب زين الدين القاري الشافعي الدمشقي رئيس أجلاء الشيوخ بالشام وكبير العلماء وصدر الصدور كان إماماً مفنناً بارعاً وحيداً محدثاً فقيهاً أصولياً حسن الرواء متواضعاً خلوقاً جم الفائدة والأدب طويل الباع حسن الخط والتقرير قرأ العربية والمعاني والبيان على العماد الحنفي والأصول على أبي الفداء إسماعيل النابلسي وتفقه على جماعة منهم النور النسفي وأخذ الحساب عن الشيخ محمد التنوري الميداني والهيئة عن الشيخ عبد الملك البغدادي وتلقى الإجازة في الحديث من البدر الغزي والشهاب أحمد بن أحمد الطيبي وكان يعده أجل شيوخه وينقل عنه كرامة وقعت له معه قال بينا نحن جلوس عنده في خلوته الصغيرة يسار الداخل من باب جيرون إذ أقبل رجل مسلماً على الشيخ ومعه هدية له من هدايا الروم وفيها أمشاط فأعطى كل واحد من الطلبة مشطاً إلا أنا فلم يعطني فقال له بعض تلامذته ما لك يا مولاي قد خصصت قوماً ومنعت آخرين فصعد النظر إلى ناحية الشيخ عمر وكان أجمل أهل زمانه فرأى لحيته قد استوفت الغاية وكان له ثلاث سنوات قد نبت الشعر بخديه فأعطاه وسأله عنه لحيته فقال لها ثلاث سنوات قد طلعت وكان هذه المدة لا يرفع أسه نحوه وبرع في فنون كثيرة وانتفع به كثير من الفضلاء منهم أحمد بن شاهين وإسمعيل النابلسي الصغير وعبد الوهاب الفرفوري والسيد محمد بن حمزة النقيب وغيرهم ودرس بالمدرسة الشامية الجوانية وكان له بقعة تدريس بالجامع الأموي وكتب الخط المنسوب على الشيخ محمد الحرستاني نزيل دمشق ونال جاهاً وثروة بسبب أوقاف انتقلت إليه وانحصرت فيه وكانت داعية لكلال طبعه في الجملة نم الجد والاشتغال الذي كان فيه ويحكى أنه لما تشاغل بها كان الحسن البوريني يقول الآن نلت أماني من الزمان يشير إلى أنه طالب التفوق عليه في الشهرة وكان بينهما ما بين الأقران من التنافر وفي نفس الأمر لو كان بقي على جده لأدرك مرتبة غاية في الشهرة على أنه ما قصر عنها وكان البوريني المذكور يقول عنه أنه وجود بين عدمين يشير إلى أن أباه لم يكن من أهل العلم وخرج ابنه علي على غير سمته فإنه كان من العسكر وبالجملة ففضائل الشيخ عمر أكثر من أن تعد وآثاره لا تحصى ولا تحد وكان له مع هذه الكلية شيء من النظم فمن ذلك ما قرأته بخطه
لولا ثلاث هن أقصى المراد ... ما اخترت أن أبقى بدار النفاد
تهذيب نفسي بالعلوم التي ... به لقد نلت جميع المراد
وطاعة أرجو بإخلاصها ... نوراً به تشرق أرض الفؤاد
كذاك عرفان الإله الذي ... لأجله كان وجود العباد
فأسأل الرحمن بالمصطفى ... وآله التوفيق فهو الجواد
ومثله لبعضهم ورأيته بخطه فيما أظن
لولا ثلاث خصال هن من أملي ... ما كنت أوثر أن يمتد بي أجلي
كسب العلوم التي من نور بهجتها ... يبين لي مسلكي في القول والعمل
وجبر خاطر من قد ذل جانبه ... ولم يجد مسعفاً في الحادث الجلل
كذاك لله تسليمي ومرتجعي ... فهذه جل ما أرجوه من أملي
فيا إله الورى سهل مطالبها ... فأنت غوث لمن يرجو النجاة ولي
ومرض مرة فلم يعده ابن شاهين فلما نصل من مرضه أرسل إليه رقعة يعتبه فيها فكتب إليه هذه الأبيات وكان اتفق مجيء العيد
يا سيداً يفديه عبد قد توجع سيده
اخترت أمر عيادتي ... والعذر عنه أشيده
مذ وافق إلا فراق عيد منك وافى جيده
قلنا مقالة مخلص ... في الود هو يؤيده
نسعى إليه مهنئين نعوده ونعيده
وكانت ولادته في ثالث عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وتوفي ليلة الخميس ختام جمادى الأولى سنة ست وأربعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير.(2/259)
عمر بن محمد المعروف بابن الصغير بصيغة التصغير الدمشقي شيخ الأدب بالشام بعد شيخه أبي بكر بن منصور العمري المقدم ذكره الشاعر كان شاعراً مطبوعاً حسن التخيل وله مشاركة في الأدب جيدة قرأ في مبادئ أمره العربية وبرع حتى صار قيم الأدب ولما مات العمري صار مكانه شيخ الأدب وكان يقول بعد أبي بكر عمر ولم يتزوج في عمره وكان له خبرة بالطب وأشعاره كثيرة سائرة ومما يستجاد له قوله معمياً باسم خالد
مذ رق ماء للجمال بوجنة ... كالورد في الأغصان كلله الندى
وتمثلت أهدابنا فيه فظنوه العذار ولا عذار بها بدا
وقد أخذ المعنى من قول البعض
أعد نظراً فما في الخد نبت ... حماه الله من ريب المنون
ولكن رق ماء الحسن حتى ... أراك خيال أهداب الجفون
وأنشد له البديعي في ذكرى حبيب قوله
أفدي الذي دخل الحمام متزراً ... بأسود وبليل الشعر ملتحفا
دقوا بطاساتهم لما رأوه بدا ... توهماً بدر التم قد كسفا
وهو معنى حسن تصرف فيه وأصله ما اشتهر في بلاد العجم أن القمر إذا خسف يضربون على الطاسات وباقي النحاس حتى يرتفع الصوت زاعمين بذلك أنه يكون سبباً لجلاء الخسوف وظهور الضوء هكذا قاله بعض الأدباء والذي يعول عليه في أصله أن هلاكو ملك التتار لما قبض على النصير الطوسي وأمر بقتله لإخباره ببعض المغيبات فقال له النصير في الليلة الفلانية في الوقت الفلاني يخسف القمر فقال هلاكو احبسوه إن صدق أطلقناه وأحسنا إليه وإن كذب قتلناه فحبس إلى الليلة المذكورة فخسف القمر خسوفاً بالغاً واتفق أن هلاكو غلب عليه السكر تلك الليلة فنام ولم يجسر أحد على إنباهه فقيل للنصير ذلك فقال إن لم ير القمر بعينه وإلا فأصبح مقتولاً لا محالة وفكر ساعة ثم قال للمغل دقوا على الطاسات وإلا يذهب قمركم إلى يوم القيامة فشرع كل واحد يدق على طاسة فعظمت الغوغاء فانتبه هولاكو بهذه الحيلة ورأى القمر قد خسف فصدقه بقي ذلك إلى يومنا هذا وعلى هذا فمن ظريف ما يحكى أن شخصاً من ظرفاء العجم كان جالساً مع بعض كبرائهم على بركة ماء صاف تحكي خيال ما قابلها فقام بها ساق جميل الوجه يسقي فتناول منه الطاس ليشرب فأمسكها حيناً ناظر الخيال الساقي في الماء مشتغلاً بذلك عن إعادتها إليه ففطن كبير المجلس لذلك فحرك الماء بقضيب كان في يده فعند تحريكه ذهب خيال تلك الصورة فأخذ ذلك الشخص الظريف يضرب على الطاس فسأله من كان معه عن ذلك فأجاب بقوله هذه عادة بلادنا إذا خسف القمر فاستظرف الكبير والحاضرون منه ذلك وقد كان شغلهم ما شغله كذلك قلت ومن هذا الباب بل أدق منه تخيلاً وأرق مسلكاً ما قرأته في ديوان أبي بكر العمري قال ومما اتفق لي أني كنت مرة جالساً بالمكان المعد لبيع القهوة المسمى بالقهوة الجديدة تحت قلعة دمشق وإلى جانبي الشمس محمد بن عين الملك وإذا بغلام بديع الجمال بارع في الحسن والكمال جلس بالقرب منا فأخذنا نتأمله ونتواصف محاسنه ولطف شمايله وإذا برجل طويل من الناس غليظ يكاد يكون جدار فجلس بإزائنا وحال بيننا وبين رؤية الغلام فحصل لنا غم شديد فقال ابن عين الملك الغلام هو القمر وهذا الغليظ هو الخسوف لأنه حجب عنا رؤيته فبينا نحن في تلك المصاحبة وإذا بالرجل نزع عمامته فإذا هو أقرع وكان رأسه قطعة من النحاس فقلت للشمسي محمد الآن صح تشبيهك فقال إذاً يجوز أن تنظم هذا المعنى فأخذت القلم وكتبت ارتجالاً
حجب البدر أقرع عن عيوني ... فغدا الطرف خاسئاً مطروفا
قال لي اللائمون كف فناديت دعوني وأقصروا التعنيفا
عادة البدر ينجلي ليلة الخسف بدق النحاس دقاً عنيفا
وتراءيت طاسة فجعلت الصفع دقاً فكان عذراً لطيفا
ومن شعره إلى الصغير قوله معمياً في علوان
فديت حبيباً زارني بعد صده ... ومن ريقه واللحظ مع كاس قرقف
سقاني ثلاثاً يا خليلي وإنها ... شفاء لذي سقم وراحة مدنف
وله باسم سليمان:
رأى عاذلي منيتي زار في ... إزار فحيد عن نهجها
وقد لام في مثل عشقي لها ... وما شاهد الخال في وجهها
وله باسم سالم
يا غزالاً أطال بالمطل سهدي ... أنجز الواعد عله منك يجدي(2/260)
قال مهلاً وليل جعدي وقدي ... بعد خط العذار إنجاز وعدي
وله غير ذلك وكانت وفاته في حدود سنة خمس وستين وألف ودفن بمقبرة الفراديس.
عمر بن نصوح الرومي أحد كبراء الدولة العثمانية وهو ابن الوزير الأعظم نصوح باشا المار طرف من خبره في ترجمة السلطان أحمد والآتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف النون وكان عمر هذا من أفراد الدهر في المعارف وجودة الخط النسخ لم يكن في عصره مثله وجمع من خطوط المتقدمين أشياء وافرة وكان ضنيناً بالكتابة لا يسمح لأحد منها بشيء إلا بعد جهد والناس يتغالون في خطه ويتفاخرون بوجود شيء منه عندهم وكان قدم دمشق لجمع مال العوارض في سنة أربع وستين وألف وكان الوزير محمد باشا المعروف بابن الدفتر نائب الشام فكان يجله ويعظمه وحدثني بعض الإخوان أنه طلب منه كتابة سورة الأنعام فتباطأ في كتابتها فاستدعاه يوماً وأعطاه فروة من السمور وخمسمائة قرش وعين رجلاً من أخصائه يلازمه إلى أن يتمها فأتمها في شهر وجلدها وأرسلها إليه فوقعت عنده الموقع العظيم وبعد رحيله من دمشق تقلبت به المناصب حتى استقر نشانيا وسافر في خدمة الوزير أحمد باشا الفاضل إلى كريت فمات بها وكانت وفاته في سنة ثمانين وألف والنشاني نسبة إلى النشان وهو الطرة التي ترسم في أعلى الأوامر والبراآت السلطانية ويقال لها الطغري أيضاً والله تعالى أعلم.
عمر بن يحيى القاضي زين الدين الشافعي المعروف بابن الدويك الدمشقي من أفاضل الزمن وأدبائه وكان عارفاً بفنون عديدة وله في الرياضيات خصوصاً الفلك والميقات مهارة تامة وكان وقوراً مهاباً عظيم الهيئة ولي القضا ءبمحكمة قناة العوني ثم نقل إلى محكمة الباب في سنة ثمان وخمسين وألف وكان ينظم الشعر وله شعر رائق منه قوله من قصيدة راجع بها بعض الأدباء ومطلعها
جازت علي تهز في أردان ... هيفاء رمح قوامها أرداني
تركية الألحاظ إن رنت ... نحوي بطرف ناعس أصماني
غرثى الوشاح ترنحت أعطافها ... من ذا الذي عن حبها ينهاني
في خدها الوردي نار أضرمت ... فعجبت للروضات في النيران
لما انثنت تختال في حلل البها ... سجدت لقامتها غصون البان
جارت على ضعفي بعادل قدها ... عجباً فهل ضدان يجتمعان
لولا جعيد الشعر مع فرق لها ... ما كان لي ليل وصبح ثان
قسماً بطلعتها ولفتة جيدها ... وبثغرها وبقدها وبحسنها الفتان
لم أنس لما إن أتت بملابس ... قد طرزت بمحاسن الإحسان
وافت وثوب الليل أسدل ستره ... حتى غدا كالثوب للعريان
فضممتها ورشفت برد الثغر كي ... أطفي بذلك حرقة الأشجان
باتت تعاطيني كؤس حديثها ... وتشتف الأسماع بالألحان
بتنا على رغم الحسود بغبطة ... وبفرحة ومسرة وأمان
حتى دنا الفجر المنير فراعني ... شيب برأس الليل نحوي دان
قامت وقد ألوت لنحوي جيدها ... خوف النوى والقلب في خفقان
ودعتها والدمع يجري عندما ... في الخد قد قرحت أجفاني
سقيا لها من ليلة قضيتها ... في طيب عيش والسرور مدان
وكتب إليه شيخنا عبد الغني بن إسمعيل النابلسي مداعباً وبينهما قرابة من جهة والدة شيخنا فإنها منهم
قلت وقد أطرب نظمي الورى ... لحاسدي المغموم خفض عليك
لأبدع أن يطرب صوب الذي ... اتصلت نسبته بالدويك
وكانت وفاته في أوائل شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير.(2/261)
عمر المعروف بنفعي بن رومي عالم الروم وشاعرها المتفوق وكان أحد أعيان كتاب الدولة وله شهرة طنانة وهو من بلدة يقال لها حسن قلعه سي بينها وبين أرزن الروم خمس ساعات إلى جهة القرص ولد بها ثم قدم إلى قسطنطينية وتعانى الكتابة والأدب ومهر فيها وشعره غاية في الملاحة سيما مدائحه وأما أهاجيه فلم يصل أحد إلى فحشها فيما أعلم وقد دونها ووسمها بسهام القضاء وحكي أنه لما تم جمعها وصل خبرها إلى السلطان أحمد فطلبها وقرئت بمحضر منه فما تمت قراءتها إلا وأرعدت السماء وأبرقت ونزلت صاعقة بالقرب من مكان القراءة ولهذا شاع بين الناس أن قراءتها تورث بلاء ما وأدرك عهد السلطان مراد وكان السلطان يحبه ويقربه وتعجبه مسامرته ولما ولي الوزارة العظمى بيرام باشا وكان طاعناً في السن وفيه غفلة أمره السلطان بهجائه فامتنع من ذلك فألح عليه السلطان ففعل قصيدة طويلة أفرط فيها كل الإفراط فبلغت الوزير فتألم وأكن له القتل ثم دخل الوزير إلى السلطان شاكياً منه وقال له إن لم تقتل نفعي فقد اخترت أن تقبلني وأبرم على السلطان بذلك ففوض إليه أمره فقتله هكذا تلقيته من الأفواه ثم حكى بعض من له اطلاع على أمره أن الوزير لما بلغه هجوه إياه طلب نائلي الشاعر المشهور وكان ممن تخرج على نفعي وله به زيادة اتصال وأمره بأن يهجو نفعي ولا زال يبرم عليه حتى هجاه بقصيدة وكتبها للوزير بخطه وأعطاه إياها فطلب نفعي وأعطاه الورقة ففطن للغرض وأخذته الحدة فطرح الورقة قبالة الوزير بغيظ فحنق الوزير وقتله في الحال وكان قتله في سنة اثنتين وأربعين وألف قلت وقصة قتله شبيهة بقصة قتل ابن الرومي وقد حكاها كثير من المؤرخين وذلك أن الفضل بن مروان وزير المعتصم العباسي دعا أناساً لوليمة صنعها ولم يدع ابن الرومي فافتكره في آخر الوليمة فجهز خلفه فلما حضر أحضر طبق فيه بيض مصبوغ سبعة ألوان فمد يده ابن الرومي وأكل بيضة حمراء وتوجه فصنع هذين البيتين وهما قوله
وزيرنا أكرم من حاتم ... أكلت في دعوته بيضة
قد أدخلتها أمه في إستها ... وضمختها بدم الحيضة
فلما سمع المعتصم البيتين ضحك ثم نادى ابن الرومي وقال له اهجني فقال الله الله من ذلك يا أمير المؤمنين كيف أهجو من مدحه الله ورسوله فقال له المعتصم هذا على سبيل المداعبة لأجل خاطر الوزير لا يغتاظ فامتنع من ذلك فألح عليه المعتصم فقال
ملوك بني العباس في الأرض سبعة ... ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... كرام إذا عدوا وثامنهم كلب
فضحك المعتصم وأسرها في نفسه وقال متى خرج من عندي أشهر عني الهجو فلما حضر السماط أخذ المعتصم سنبوسكة وشغلها بالسم وناولها لابن الرومي فقام وأخذها ولم يشعر بما فيها فلما أكلها والسم فيها قام مستعجلاً وهو ماسك قلبه فقال له المعتصم إلى أين فقال إلى مكان بعثتني إليه فقال وإلى أين بعثتك قال إلى القبر فقال له المعتصم سلم على أبي هرون فقال مالي على جهنم طريق قال وهل أبي في جهنم قال نعم من تكون أنت ولده فما يكون مأواه إلا جهنم وأتى منزله ومات.(2/262)
الملك عنبر شنبوسنجس خان وزير الهند ومدبره ومرجع أهله هو في الأصل حبشي من الأمحره وتسمى قبيلته مايه ويقال أنه من عبيد القاضي حسين المشهور بمكة ثم اشتراه بعض التجار وجلبه إلى الهند فاشتراه الوزير سنجس خان ولما مات سنجس خان تنقلب به الأحوال إلى أن صار من عساكر عادل شاه صاحب بيجافور من إقليم الدكن وكان المال الذي يعطاه لا يكفيه لكثرة سماحته وإنفاقه فاستزاد من الوزير الأعظم فلم يزده فخرج الملك عنبر من حينه خائفاً يترقب وكان السيد الجليل على حداد باعلوي قد وعده بأنه سيصير ملكاً عظيماً فكان له ظهور عجيب يحتاج إلى تاريخ مستقل ولعذوبته ذكرته لكني لخصته من ملخص ما ذكره الشلي في ترجمته قال وحاصله أنه خرج من عند عادل شاه سنة ست بعد الألف وهو يومئذ ثم أعلم السيد عليا بما هو فيه من ضيق الحال فدعا الله تعالى فوجدوا ركازاً جاهلياً فاتسع أمره وأكثر العساكر والأتباع ولا زال أمره يعظم إلى أن ملك بلاداً كثيرة وكان كلما ملك بلداً أو قرية أحسن إلى الرعايا وأظهر العدل والإحسان ونصب قاضياً للأحكام وحاكماً للسياسة ثم استدعاه السلطان حسين نظام شاه من سلاطين الدكن فانحاز إليه وهو من أعظم سلاطين الهند لكن مذهبه في الاعتقاد مذهب الرفض وكان مقر سلطنته دولة آباد وكان وزيره الأعظم كافراً شجاعاً فاتكاً صاحب جيوش وأموال مستولياً على المملكة وكان الملك عنبر يعجز عن مقاومته فصار يداريه ويترصد له فرصة حتى قتله على حين غفلة وولي مكانة الوزارة العظمى ورأى السلطان محبته وجده فأمده واتفقت له وقائع كثيرة وفتح قلاعاً ونفذت كلمته واتسعت مملكته وأخرب الكنائس وعمر شعائر الإسلام ثم مات السلطان حسين نظام شاه وكان ولده برهان صغير فعقد الملك عنبر له البيعة ولم يكن له من السلطنة إلا الاسم وجميع الأمور بيد الملك عنبر كما كان الخلفاء العباسيون ببغداد ثم استبد الملك عنبر بالأمور واستمر في القتال والجلاد وأزال المظالم من تلك الجهة وعمرها وأخمد الفتنة والبدعة وعمر المساجد والمآثر وكان مؤيداً في حروبه ومغازيه مسدداً في رأيه مسعود في أحواله وكان كثير الإحسان إلى السادة وأهل العلم وقصدته الناس من جميع البلدان فغمرهم بإحسانه خصوصاً أهل تريم من السادات وكان يحسن لمشايخ الطريق والصوفية وكان عصره أحسن الأعصار وزمانه أنضر الأزمنة وكان يحمل كل سنة إلى حضرموت من الأموال والكسوات للسادة والمشايخ والفقراء ما يقوم بهم سنة وكان له ديوان مرتب باسم أرباب الرسوم والقصاد ووقف ربعة قرآن بمنية تريم ووقف بمكة والمدينة مصحفين واشترى في الحرمين دوراً وقفها على من يقرأ فيهما ويهدي ثواب القراءة إليه ومن آثاره الحسنة أنه عقم نهر الكركي وهو نهر عظيم يمر تحت البلاد ولا تنتفع به وسبب ذلك أن بعض وزراء عادل شاه وهو المنلا محمد الخراساني استبعد وقوع ذلك لسعته وكثرة مائه وظن أنه يحتاج إلى عمل كثير لا يقدر عليه أحد من المخلوقات وغرم مالاً كثيراً للملك عنبران قدر على ذلك فشرع فيه وساعد القدر فكمل العمل في خمسة أشهر وجعل له قنوات تجري إلى البساتين والزراعات وكثر به النفع وجمع من في ذلك المكان من السادة والأعيان وأنعم عليهم وأجزل الصدقات وكانت عمارته في سنة أربع وعشرين وألف واخترع الفضلاء لذلك تواريخ عديدة بكل لسان ومن ألطف ما قيل فيه خير جاري وأكثر من شراء الحبوش وكانت التجار تجلبهم إليه ويتغالون في أثمانهم إلى أن كثر واجداً يقال أن جملة ما اشتراه من الذكور نحو ألفي حبشي وكان الجلب أول ما يشتريه يسلمه إلى من يعلمه القرآن والخط ثم إلى من يعلمه الفروسية واللعب بالسيف والعود والسهام إلى أن يتفرس في أنواع الحرب والحيل والخداع ثم يترقى وصاروا يترقون في المراتب ويتفاضلون في المناصب كل بمقدار سعيه واستحقاقه ومرتبته وكان لهم اعتناء بإقامة الجماعة وأمور الدين وكان لكل أمير منهم فقيه يتعلم منه الفقه وأمور الدين وإمام يصلي به ومؤذن وجماعة يتدارسون القرآن وجماعة يذكرون الله تعالى ليلى الجمعة والاثنين وكان لكل أمير سماط مملوء بأنواع الأطعمة الفاخرة وبالجملة فإنهم وإن كانوا عبيداً حبشة فلم تكن العرب تفوقهم إلا بالنسب وقصده جماعة من مشاهير شعراء عصره من البلاد الشاسعة ومدحوه بأحسن المدائح وكان بأحسن المدائح وكان السلطان إبراهيم عادل شاه(2/263)
أظهر له العداوة والحسد وبلغ غاية جهده في اضمحلال هذا الرجل وبذل أموالاً كثيرة لمن يقتله أو يسمه فلم يقدر له ذلك ومن عداوته له أنه عزم جهان كير أعظم سلاطين الهند لمقاتلته وعهد إليه أن يبذل له في كل مرحلة مائة ألف هن والهن بضم الهاء نحو دينار ذهباً فأرسل جهان كير بعساكر وخيل وأفيال ضاق عنها الفضاء وجرى على مراد الله القدر وأقبل عادل شاه بعساكر من الجانب الثاني وأيقن كل من عند الملك عنبر بالهلاك فجمع من عنده من السادة الأشراف والعرب وطلب منهم أن يجتمعوا للدعاء كل يوم وبذل الخزائن للعساكر وأقل بعساكره على القتال ثابتين ثبات الجبال وحمل بمن معه فقتلوا خلائق لا يحصون وأسروا من وزراء جهان كير وعادل شاه أربعين أو يزيدون ورجع الملك عنبر ظافراً منصوراً ثم بعد ذلك جرد الخمام سيفه عليه ومزق جلباب ملكه وتوفي في سنة خمس وثلاثين وألف وأكثر الناس والضعفاء والفقراء والأرامل والأيتام من البكاء حول جنازته ويقال أنه لم يعهد عند أهل الهند مثل ذلك اليوم ودفن بالروضة وهي موضع بالقرب من دولة آباد وعمل على قبره قبة عظيمة وللناس فيه اعتقاد عظيم وتحترمه الملوك والسلاطين ومن استجار بقبره لا يقدر أحد أن يناله بمكروه ورثاه الشعراء والفضلاء بأحسن المراثي وعمل الأدباء لعام وفاته تواريخ نظماً ونثراً ومن أحسنها نثراً قول بعضهم الجنة مثواه وكان موته بالسم وبعد موت الملك عنبر فوض السلطان برهان نظام شاه تدبير مملكته إلى عبد العزيز فتح خان أكبر أولاد الملك عنبر وجعله أمير الأمراء وكان شجاعاً مقداماً كبيراً سخياً لكنه قليل التدبير مبذر لا يصغي لقول مشير وارتكب الأمر الفظيع فكان حجاج زمانه ووقع بسببه فتن ثم تضعضع الزمان وآل ذلك إلى حصاد العلم والدين إلى أن رماهالدهر عن قوس وزارته ثم خربت تلك الديار وذهبت بهجتها وخلقت ديباجتها قال الشلي قلت وقد تكرر ذكر الدكن في هذه الترجمة وقد يتشوف إلى الوقوف على معرفته من لا له معرفة بحقيقته وتفاصيل أمره تحتاج إلى تأليف كبير ولا يحتمل هذا المحل إلا اليسير فلنذكره بطريق الإجمال لضيق المجال ومجمل ذلك أنه إقليم عظيم من أقاليم الهند التي هي أم الدنيا كثير الحصون والقلاع حسن الهواء كثير الأمطار والأنهار والبساتين أعدل الأقطار وفيه حصون وقلاع في غاية الاستحكام والإتقان وكل قصر شامخ له شرف في السماء باذخ تحاكي الأهرام في إحكام البنيان عالية البناء تسامي السماء وهي الروضة المورقة والغيضة المونقة وقلاعها مشحونة بآلات الحرب ولامدافع الكبار مملوءة بالمكاحل الكثيرة حصينة الحصار وأهل حرفة أحذق الفطناء وأفطن الحذاق فما من صنعة إلا ومن مشربهم مطلعها وما من حكمة إلا وعندهم شرفها وإليهم منزعها وما من حرفة توجد إلا وجدتها فيهم وما من عمل يعرف إلا اجتني من مغانيهم ومن أحسن بلاد الهند بلدة بيجافور وفيها وقف على عادل للسادة والعرب أوقف عليها أراض تصرف غلقها للسادة والعرب وفي هذه البلدة وهي محل السلطنة مكان عظيم الشان محكم البنيان تحته بركة كبيرة كأنما عناها الشاعر بقولهظهر له العداوة والحسد وبلغ غاية جهده في اضمحلال هذا الرجل وبذل أموالاً كثيرة لمن يقتله أو يسمه فلم يقدر له ذلك ومن عداوته له أنه عزم جهان كير أعظم سلاطين الهند لمقاتلته وعهد إليه أن يبذل له في كل مرحلة مائة ألف هن والهن بضم الهاء نحو دينار ذهباً فأرسل جهان كير بعساكر وخيل وأفيال ضاق عنها الفضاء وجرى على مراد الله القدر وأقبل عادل شاه بعساكر من الجانب الثاني وأيقن كل من عند الملك عنبر بالهلاك فجمع من عنده من السادة الأشراف والعرب وطلب منهم أن يجتمعوا للدعاء كل يوم وبذل الخزائن للعساكر وأقل بعساكره على القتال ثابتين ثبات الجبال وحمل بمن معه فقتلوا خلائق لا يحصون وأسروا من وزراء جهان كير وعادل شاه أربعين أو يزيدون ورجع الملك عنبر ظافراً منصوراً ثم بعد ذلك جرد الخمام سيفه عليه ومزق جلباب ملكه وتوفي في سنة خمس وثلاثين وألف وأكثر الناس والضعفاء والفقراء والأرامل والأيتام من البكاء حول جنازته ويقال أنه لم يعهد عند أهل الهند مثل ذلك اليوم ودفن بالروضة وهي موضع بالقرب من دولة آباد وعمل على قبره قبة عظيمة وللناس فيه اعتقاد عظيم وتحترمه الملوك والسلاطين ومن استجار بقبره لا يقدر أحد أن يناله بمكروه ورثاه الشعراء والفضلاء بأحسن المراثي وعمل الأدباء لعام وفاته تواريخ نظماً ونثراً ومن أحسنها نثراً قول بعضهم الجنة مثواه وكان موته بالسم وبعد موت الملك عنبر فوض السلطان برهان نظام شاه تدبير مملكته إلى عبد العزيز فتح خان أكبر أولاد الملك عنبر وجعله أمير الأمراء وكان شجاعاً مقداماً كبيراً سخياً لكنه قليل التدبير مبذر لا يصغي لقول مشير وارتكب الأمر الفظيع فكان حجاج زمانه ووقع بسببه فتن ثم تضعضع الزمان وآل ذلك إلى حصاد العلم والدين إلى أن رماهالدهر عن قوس وزارته ثم خربت تلك الديار وذهبت بهجتها وخلقت ديباجتها قال الشلي قلت وقد تكرر ذكر الدكن في هذه الترجمة وقد يتشوف إلى الوقوف على معرفته من لا له معرفة بحقيقته وتفاصيل أمره تحتاج إلى تأليف كبير ولا يحتمل هذا المحل إلا اليسير فلنذكره بطريق الإجمال لضيق المجال ومجمل ذلك أنه إقليم عظيم من أقاليم الهند التي هي أم الدنيا كثير الحصون والقلاع حسن الهواء كثير الأمطار والأنهار والبساتين أعدل الأقطار وفيه حصون وقلاع في غاية الاستحكام والإتقان وكل قصر شامخ له شرف في السماء باذخ تحاكي الأهرام في إحكام البنيان عالية البناء تسامي السماء وهي الروضة المورقة والغيضة المونقة وقلاعها مشحونة بآلات الحرب ولامدافع الكبار مملوءة بالمكاحل الكثيرة حصينة الحصار وأهل حرفة أحذق الفطناء وأفطن الحذاق فما من صنعة إلا ومن مشربهم مطلعها وما من حكمة إلا وعندهم شرفها وإليهم منزعها وما من حرفة توجد إلا وجدتها فيهم وما من عمل يعرف إلا اجتني من مغانيهم ومن أحسن بلاد الهند بلدة بيجافور وفيها وقف على عادل للسادة والعرب أوقف عليها أراض تصرف غلقها للسادة والعرب وفي هذه البلدة وهي محل السلطنة مكان عظيم الشان محكم البنيان تحته بركة كبيرة كأنما عناها الشاعر بقوله(2/264)
وبركة للعيون تبدو ... في غاية الحسن والصفاء
كأنها إذ صفت وراقت ... في الأرض جزء من السماء
خفيفة الماء العذب لطيفة الهواء الرطب وبستان معروف الأشجار مونق الثمار وهو منتزه بديعي حسن وبمحاسنه يذهب عن القلب الحزن
عليه من بهاء البدر نور ... ووصف الشمس يكسوه الشعاعا
وفي هذا المكان خزانة من الخشب وعليه ستور وداخل الخزانة قبضة من ذهب فيها من الآثار الشريفة أعني آثار النبي صلى الله عليه وسلم شعرات من شعره وفي كل ليلة جمعة وليلة اثنين يجعل للعرب خبز وحلوى ومن أعظم حصونه حصن دولة آباد الذي ضاهى إرم ذات العماد وهو عجيب الوضع والبناء بحيث يزعم الناظر إليه أنه من وضع الجن لغرابة أمره ومن عادة سلاطينها وملوكها ووزرائها أنهم يعتنون بالليالي الفاضلة كليلة العيدين وليلة عاشوراء والمولد والمعراج والنصف من شعبان وليالي رمضان يحيونها بالذكر وتلاوة القرآن وتنشد المدائح النبوية السائر بها الركبان ويجتمع عندهم في تلك الليالي العلماء والصلحاء والقراء والكبراء والفقراء ويمدون لهم الأسمطة العظيمة ويفرغ على كواهلهم التشاريف الجسيمة وقد سبقهم إلى تعظيم بعض هذه الليالي كثير من الملوك فقد ذكر المؤرخون أن الملك المظفر صاحب إربل كان ينفق ليلة المولد النبوي ألف دينار وقد قيل في سماطه في بعض المواليد فيما حكاه سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان خمسة آلاف راس غنم مشوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة ألف زبدية حامضة وثلاثون ألف صحن حلوى ويخص أعيان العلماء بالخلع والكرامات ويطلق لهم عنان العطيات انتهى ثم حصل لهاتيك الديار تغير واضمحلال بسبب أنهم اتخذوا رؤساء جهلاء والله أعلم.
عوض بن سالم بن محمد بن عبود بن محمد مغفون بن عبد الرحمن بن أحمد بن علوي بن أحمد ابن الفقيه أحمد بن عبد الرحمن بن علوي عم الأستاذ الأعظم الحضرمي شيخ زمانه وعالمه وكان جامعاً بين العلم والعمل سالكاً طريقة الحق ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن وسار من صغره أحسن سيرة واشتغل بالتحصيل وأخذ عن السيد الجليل عبد الله بن سالم خيله والعارف بالله عبد الرحمن بن محمد الشهير بإمام السقاف وسار سيرته وأخذ عن العارف بالله تعالى زين بن حسين بافضل ولازمه حتى تخرج به وأخذ العربية عن العلامة عبد الرحمن السقاف ابن محمد العيدروس وألبسه مشايخه الخرقة وكان لا يصرف ساعة إلا في قرية وجمع نفسه على أشتات الفضائل وكان من الورع والدين على سنن قوية وكان شيخه وختنه الشيخ زين بن حسين يتبجح بمكانه وكان عارفاً بأهل زمانه حافظاً للسانه يضرب به المثل في التقوى والديانة والورع وكان على غاية من العقل وأخذ عنه جماعة التصوف والفقه قال الشلي وكنت حضرت دروسه وسمعت منه أحاديث وأخباراً ودعا لي بأدعية أرجو أن تكون مستجابة وكان يحب العزلة عن الناس وكانت وفاته في سنة اثنتين وخمسين وألف ودفن بمقبرة زنبل.
عوض بن يوسف بن حيي الدين المعروف بابن الطباخ الدمشقي قاضي القضاة بالمدينة المنورة كان من فضلاء الزمان جم الفائدة فصيح اللسان وسيم الهيئة مقبول الطلعة مشاركاً في عدة فنون وكان له بالطب إلمام تام وكان في ابتداء أمره قرأ بدمشق على جماعة منهم علي بن النجار المار ذكره وصار مقيداً للصكوك في محكمة الباب ثم سافر إلى الروم ولازم على عادتهم ودرس وتنبل واشتهر بمعرفة الطب فكانوا يراجعونه في الداآت الصعبة فيعرفها ويعالجها ومما اتفق له أنه ابتلي بالاستسقاء وعولج فلم يفد علاجه وكن استحكم فاقترح هو دواء لنفسه بقوة الحدس فكان يستعمل في كل يوم قدراً وافراً من الخربز وينام في الشمس وداوم على ذلك أياماً حتى حم فبرئ ثم ولي القضاء بمدينة فلبه وبغداد والمدينة المنورة وكانت ولادته في سنة أربع عشرة وألف ومات أبوه وأمه حامل به فقيل في تاريخ ولادته عوض عن أبيه بدا وتوفي بقسطنطينية.(2/265)
السيد عيدروس بن عبد الله بن أحمد بن ابي بكر بن عبد الرحمن بن الشيخ علي اليمني من أتقياء اليمن وكرمائه ولد بقرية المكله من الديار اليمنية ونشأ بها وحفظ القرآن واشتغل بتحصيل الفضائل ودأب فيها وأخذ عن جماعة منهم علوي بن محمد بن أحمد ولازمه حتى تخرج به ولما مات علوي قام صاحب الترجمة بنمصبهم القيام التام وقصده الناس وعولوا على كرمه وانتهت إليه مشيخة تلك الديار وكان له كرم أخلاق محباً لمصاحبة أهل الخير والصلاح ملازماً لأهل الطريقة الحميدة واشتهر بالتصوف والمكاشفة وكان له أحوال سامية وانتفع به كثيرون وكانت وفاته بالمكلة في سنة خمس وألف.
عيسى بن أحمد الزيلعي كان من المستغرقين في حب الله تعالى التاركين لما سواه المنهمكين على طاعاته والساعين في رضاه وكان واسع الحال عظيم المقال وممن زهد في الدنيا وفي شهواتها ورغب في الآخرة وجناتها وعمل بما علم فأورثه الله تعالى علم ما لم يعلم وكان علمه كهيئة المكنون الذي لا يعرفه إلا من هم بالله عارفون وكان في غيبوبته يسيح في البراري والقفار ويطلع إلى الجبال ولا يقر له قرار ونقل عمن رآه أنه كان يدخل إلى الغيضة وفيها الأسد ويقرب منها ولا تضره وكان يصدر عنه مقالات عظيمة يشير فيها إلى علوم ربانية ومقامات صمدية ومن زهده أنه مات له أخ وكان ذا مال كثير كان من جملة ورثته مع إخوته فأعطوه حقه من الإرث وكان عظيماً ففرقه عليهم ولم يأخذ منه شيئاً وأما كراماته فشهيرة كثيرة منها أنه كان في اللحية عبد أسود معروف كبير الوجه والشفتين فكان يأتي إليه وهو جالس بين الناس ويقول لهم كلاً ما معناه أنه يتولى عليكم عبد يشبهه في خلقه وتنفذ أموره وتعلو كلمته فمات صاحب الترجمة وقدم بعده النقيب سعيد المجذبي من عبيد الحسن بن القاسم متولياً اللحية على ما يخبر به من مشابهته له في خلقه وكانت وفاته باللحية في حدود سنة أربعين وألف.
عيسى بن عبد الرحمن أبو مهدي السكتاني المالكي المذهب مفتي مراكش وقاضيها وعالمها الإمام العلامة النظار خاتمة العلماء الكبار محقق المغرب الأقصى في عصره وأوحد علماء دهره له شهرة كبيرة تغني عن التطويل ببيان فضائله وعلومه حتى قال بعضهم أنه مجدد أمر دين هذه الأمة وقد ستر الله تعالى على ضعفاء العقيدة مقامه العالي بقوة ظهوره بالقضاء والإفتاء وانتهاء الرياسة إليه وكانت له كرامات مشهورة ومناقب كثيرة مأثورة ولد بمراكش وبها نشأ وأخذ بالمغرب عن شيوخ عظام وقادة أجلاء فخام منهم العلامة وحيد الزمان أبو العباس المعروف بالمنجور وغيره وعنه خلق كثير بالمغرب مشهورون منهم العلامة محمد بن سعيد والإمام الهمام محمد بن سليمان نزيل مكة وغيرهما ولم يكن في زمانه من يقاربه في جميع العلوم العقلية والنقلية ببلاد المغرب إلا العلامة أحمد بن عمران الفاسي وكان يقرئ التفسير في فصل الشتاء فيأتيه العلماء من جهات شتى ويلازمون درسه وكان يملي من حفظه كلام المفسرين مع البحث معهم والجواب عما يورده الفضلاء بين يديه فيأتي في أثناء تقريره بالعجب العجاب والأمر الذي يحير العقول والألباب وكان يقال بعد انقضاء طبقة أشياخه علماء المغرب ثلاثة صاحب الترجمة وأحمد بن عمران والشيخ عبد القادر بن علي الفاسيان يعنون أهل المشاركة في العلوم والتحقيق وإلا فقد كان من العلماء كثير ممن طارت فتاويه في الأقطار وسار ذكرهم كل مسير وله مؤلفات عجيبة الأسلوب منها حاشية على شرح أم البراهين للسنوسي وغيرها وكانت وفاته بمراكش في سنة اثنتين وستين وألف وقد ناف على المائة سنة ممتعاً بحواسه لولا ضعف في رجليه على ما أخبر به محمد بن سليمان المذكور.(2/266)
السيد عيسى بن لطف الله بن المطهر بن الإمام يحيى شرف الدين قال ابن أبي الرجال في تاريخه كان هذا السيد أديباً لبيباً رقيق الحاشية عذب الناشية مفاكهاً ملاطفاً حافظاً للآداب والأمثال مجرياً لها في مجاريها كلماته في الناس مخارج الأمثال بها يتمثل المتمثل وكان يغلب عليه اللطافة وحسن الملاطفة للناس ويعم بذلك طبقاتهم مطلعاً على التاريخ لم يزل العلامة أحمد بن سعد الدين يتعجب من اطلاعه وروايته وله التاريخ المشهور الذي سماه روح الروح صنفه في الظاهر للأروام وأفاد فيه أيام سلفه وكان عارفاً بعدة علوم وغلب عليه علم النجوم فصار أظهر ما ينسب إليه وإلا فعنده علوم أخرى وله قصيدة كتبها إلى الإمام القاسم يتنصل عما ينسبه الناس إليه وكان توجيهها من كوكبان إلى شهارة في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وألف وهي
ما شاقني سجع اليمامة ... سحراً ولا برق الغمامه
كلا ولا أذكى الجوى ... ذكر العذيب وذكر رامه
وجموع عيني ما جرت ... شوقاً إلى لقيا أمامه
هيهات قلبي لا يميل إلى مليح هز قامه
ما شاقني إلا الذي ... نفسي عليه مستهامه
بر كريم ماجد ... حاز الجلالة والشهامه
وحوى الفخار جميعه ... حتى غدا في الدهر شامه
لبس الفضائل حلة ... فبدت لها منه وسامه
فرد تفرد في العلا ... ولديه للعليا علامه
أعني أمير المؤمنين مغيث أرباب الظلامه
القاسم المنصور من ... زان الخلافة والإمامه
ركن النبوة شاده ... والبيت ترفعه الدعامه
عرج بمربعه الكريم ترى به وجه الكرامه
وترى جواداً دونه ... في الجود طلحة وابن مامه
أعداؤه شهدت له ... بالفضل طراً والزعامه
والفضل ما شهدت به الأعداء لا أهل الرحامه
أحيا الجهاد فكم له ... يوم حكى يوم اليمامه
وأسأل بذاك سيوفه ... كم أذهبت في الجو هامه
فطن يكون بسلمه ... بدراً وفي الهيجا أسامه
مولاي يا قمر الهدى المذكور في وقت الإقامه
يا من أرى حبي له ... أسنى الذخائر في القيامه
وجهت نحوك سيدي ... عقداً أجزت به نظامه
عقداً من النظم الذي ... سلبت خرائده قدامه
يهدي إليك تحيتي ... ويزيل عن سري لثامه
أيضاً ويوضح حجتي ... والحق مسلكه إمامه
لا تأخذني عيدي ... بمقالة حازت ذمامه
وبقول واش قد خشي ... لضعيف فكرته أثامه
قد قال أني قائل ... بنجوم سعد أو شآمه
ونفيت صنعة ربنا ... ووثقت عمداً بالنجامه
لا والذي جعل النجوم بليلها تجلو ظلامه
ما قلت إلا أنها ... للناس والأنوا علامه
ولمن أتى مستغفراً ... لله رجو في السلامه
مولاي وأسأل لائمي ... فلقد تهور في الملامة
ما صير القمر التمام محقراً يحكي القلامه
ولم الخسوف يصيبه ... في الضعف إن وافى تمامه
والشمس والأفلاك توضح لي بهيئتها كلامه
فيها عرفت بأنها ... خلق الذي يحيي زمانه
وعليك صلى خالقي ... وحبا ربوعك بالكرامه
واسلم ودم في نعمة ... يا خير من رفع العمامه
ومن شعره قوله لما مر ببعض آثار جده المطهر
قلت لما رأيت مرتبع الملك بسوح المطهر الملك تجلى
أبداً تسترد ما تهب الدنيا فيا ليت جودها كان بخلا(2/267)
وذكره السيد العلامة أحمد بن حميد الدين في كتابه ترويح الشموق فقال العلامة المطلع في سماء بلاغته الشموس المرصدة بالثواني والدقائق الجامع لحقائق الحقائق ودقائق الدقائق المتصرف في القلوب بهزله وجده النازلة لطائف محاضرته في بروج سعده روح الروح على الحقيقة وزينة المجالس الذي أحيا الأدب وأقام سوقه الصدر في صدور الكبرا البازي المنقض على محاسن الكلام فإن تكلم متكلم في حضرته قيل له اطرق كرى وأورد في شعره قوله
ظبي على ظبي سطا ... منه المعنى خلطا
يا هاجري كن واصلي ... فواصل نجل العطا
نعيت بالصد ولا ... أقول نعي الخلطا
لملا رأتك مقلتي ... قلت هلال هبطا
أردت منه وصله ... ورمت أمراً فرطا
ورام صبري عاذلي ... فقلت رمت الشططا
قلبي عليه ذائب ... ومنه ما قد قنطا
إذا سلوت عشقه ... فسلوتي عين الخطا
أقسمت ما أتركه ... ولو بشيب وخطا
ولوالي الموت دعا ... حثثت في السير الخطا
وربنا سبحانه ... يغفر في الحب الخطا
وذكره القاضي حسين بن الناصر المهلا فيما كتبه إلى صاحبننا الفاضل الكامل مصطفى بن فتح الله أن والده وجده بينهما وبين المترجم مكاتبات ورسائل بديعة نظماً ونثراً قال وكان نهاية في علم الفلك وله فيه غرائب ونوادر ورأيت لوالدي أبياتاً أجاب بها عليه وقد سأله عن بيض السمك وهي
لعمرك ما روم سمن الدجاج ... بأعظم من روم بيض السمك
ومن رام من بحره مثل ذا ... يضم إلى الفلك علم الفلك
فيا من بنى مجده جده ... ومن لسماء العلا قد سمك
ألا ترقب النسر وقت الطلوع ... وأنت عليم وذا الفن لك
أشار إلى أن بيض السمك يظهر في وقت طلوع النسر النجم المعروف انتهى ولم أقف على وفاة صاحب الترجمة لكنه قد علم أنه من أهل هذه المائة من قول ابن حميد الدين أنه كتب القصيدة المقدمة إلى الإمام في سنة اثنتين وعشرين وألف.
عيسى بن محمد بن محمد بن حسين بن حسن المعروف بابن سعد الدين الجباوي الصوفي لاسعدي الدمشقي كان من الأجواد الأسخياء ولم يكن لأبيه ابن غيره وكان عزيزاً عنده لا يخالفه فيما يريده وكان يجتمع إليه أصحابه فيقدم لهم والده ما يكفيهم من نفائس الأطعمة وأنواع الإكرام بالغاً ما بلغ وإذا خرج للتنزه معهم بعث إليهم ما يكفيهم وإذا رضي عيسى عن أحد رضي أبوه وإذا سخط سخط وانتقم ونشأ لأخي الشيخ محمد الشيخ إبراهيم ولده كمال الدين وكان عن أبيه أعز من عيسى على أبيه وكانا يتناظران ويتغايران ويذكر كل منهما لأبيه ما يوجب غيظه على ابن أخيه ثم سرى ذلك إلى التغايظ بين الأخوين فوقع بينهما بعدان كانا أحسن أخوين توافقا وتحابيا وتناصرا فتنافرا ثم تقاطعا حتى استقل الشيخ محمد بأمر مشيخته وعزل أخاه الشيخ إبراهيم من حلقته وعظمت حرمة ولده عيسى وسمعت كلمته وكثرت عشيرته وجماعته ثم ماتت أم عيسى وكانت من بيت ابن رجب من المزة فتزوج والده بنت الجقوير الأربدي وكان لها سعة من المال فعنيت بالشيخ محمد وعني بها فحصل عند الشيخ عيسى غيرة وغيظ بسبب ذلك وكان يناكد أباه ويعازله فيما يراه وأبوه مقيم على ما كان عليه من المصرف عليه وعلى جماعته وهو يتزايد حرداً ثم خرج حاجاً حرداً على أبيه فلم يدع له أبوه حاجة من أمر السفر إلا قضاها فجاور ذلك العام وهو سنة إحدى عشرة بعد الألف بمكة ثم جهز له أبوه جمالا ًوتختروان وزاداً وبعث ذلك مع أخيه الشيخ سعد الدين بحيث أنه كان قد ختم باب التخت ولم يركب فيه أحد بل كان يحمله بعيران فارغا حتى رجع ليه الشيخ عيسى ثم لم يمكث عند أبيه برهة حتى سافر إلى مصر مغاضباً لأبيه فتوفي بها وكانت وفاته ليلة الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الثانية سنة تسع عشرة وألف عن نيف وأربعين سنة.(2/268)
عيسى بن محمد بن محمد بن أحمد بن عامر جار الله أبو مكتوم المغربي الجعفري الثعالبي الهاشمي نزيل المدينة المنورة ثم مكة المشرفة إمام الحرمين وعالم المغربين والمشرقين الإمام العالم العامل الورع الزاهد المفنن في كل العلوم الكثير الإحاطة والتحقيق ولد بمدينة زواوة من أرض المغرب وبها نشأ وحفظ متوناً في العربية والفقه والمنطق والأصلين وغيرها وعرض محفوظاته على شيوخ بلده منهم الشيخ عبد الصادق وعنه أخذ الفقه ثم رحل إلى لاجزائر وأخذ بها عن المفتي الكبير الشهير الشيخ سعيد قدورة وحضر دروسه وروى عنه الحديث المسلسل بالأولية والضيافة على الأسودين الماء والتمر وتلقين الذك رولبس الخرقة والمصافحة والمشابكة ولازم دروس الإمام الشهير والصدر الكبير أبي الصلاح علي بن عبد الواحد الأنصاري السجلماس مدة تزيد على عشر سنين فشارك ببركته في فنون عديدة وأخذ عنه صحيح البخاري إلى نحو الربع منه على وجه من الدراية بديع التزم الكلام فيه على أستاذه بتعريف رجاله من ذكر سيرهم ومناقبهم ومواليدهم ووفياتهم وما في الإسناد من اللطائف من كونه مكياً أو مدنياص وفيه رواية الأكابر عن الأصاغر والصحابي عن الصحابي ونحو ذلك وعلى متنه بنفسير غريب وبيان محل الاستدلال منه ومطابقته للترجمة وما يحتاج إليه من إعراب وتصريف وما فيه من القواعد الأصولية وما يبنى عليها من الفروع والألماع بما فيه من الإشارات الصوفية وغير ذلك مما يبهر العقول وسمع عليه جميع الصحيح غير مرة على طريق مختصر بين الدراية والوراية وسمع عليه طرفاً من الشفاء تفقهاً فيه بمراجعة شروحه التلمساني والدلجي والشمني وغيرهم وأخذ عنه في علوم الحديث الفية العراقي تفقها فيها وفي شرحها للمصنف وشيخ الإسلام وفي الفقه جميع مختصر خليل تفقها فيه بمطالعة شروحه بهرام والتتائي والمواق وابن غازي والحطاب وغيرهم والرسالة إلى نحو النصف منها تفقها فيها كذلك بمراجعة شروحها الجزولي وأبي الحسن وغيرهما ونبذة من تحفة الحكام في نكت العقود والإحكام لابن عاصم وفي أصول الفقه جميع جمع الجوامع للسبكي مرتين قراءة بحث وطرفاً من أصول ابن الحاجب مع نبذة من شرحه للعقباني وشرحه للقاضي عضد الدين وحاشية المحقق التفتازاني عليه وفي أصول الدين أم البراهين بشرحها للسنوسي من قوله ويجمع معاني هذه العقائد لا إليه إلا الله إلى آخره وجميع المقدمات بشرحها له وطرفاً من الكبرى له وطرفاً من اختصار الطوالع للبيضاوي وفي النحو الألفية لابن مالك سماعاً من لفظه من أولها إلى ترجمة الكلام وما يتألف منه مع الإلماع بلطائف نكت واللامية من أولها إلى باب أبنية الفعل المجرد وتصاريفه وفي فن البلاغة جميع تلخيص المفتاح بشرحه المختصر وفي المنطق جميع الجمل للخونجي مرتين بمراجعة شروحه التلمساني وابن مرزوق الحفيد وابن الخطيب القسطيني وجميع مختصر السنوسي ومن إيساغوجي من القياس إلخ وم نالبردة من أولها إلى قوله نبينا الآمر الناهي وكان يأتي فيها بالعجائب والغرائب وربما يمر عليه الأيام في البيت الواحد منها بمراجعة شرحها لابن مرزوق الحفيد وغيره وفي التصوف المباحث الأصنية نظم ابن البناء في آداب السلوك وغير ذلك مما لا يحصى في فنون شتى كالرسم والضبط والبديع والعروض والقوافي والتفسير وأجازه مرات بل أنابه عنه في مباشرة وظيفة تدريس له وزوجه ابنته واختص به ولم يفارقه حتى مات وماتت زوجته فرحل علن الجزائر وتبعه للقراءة عليه في المنطق شيخنا العلامة المحقق المدقق يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن عيسى بن أبي البركات الشهير بالشاوي وقال أنه سار معه نحو ثمان مراحل حتى أكمل قراءته عليه ودخل تونس وأخذ عمن بها من أجلائها كالشيخ زين العابدين وغيره ولما دخل إلى قسطينة أخذ بها عن الشيخ المعمر عبد الكريم اللكوني ولم يزل على ذلك كلما اجتمع بأحد من العلماء استفاد منه وأفاده حتى وصل إلى مكة المشرفة وحج في سنة اثنتين وستين وألف وجاور بها سنة ثلاث وستين وسكن بخلوة في رباط الداودية وأخذ عنه إذ ذاك الشيخ علي باحاج وقرأ عليه الصحيحين والموطأ ثم رحل إلى مصر وأخذ بها عن أكابر علمائها كالنور علي الأجهوري والقاضي الشهاب أحمد الخفاجي والشمس محمد الشوبري وأخيه الشهاب والبرهان المأموني والشيخ سلطان المزاحي والنور الشبراملسي وغيرهم ممن يطول ذكر(2/269)
أسمائهم وأجازوه بمروياتهم وأثنوا عليه بما هو أهله بل اتفق له مع شيخ الشافعية محمد الشوبري وأخيه شيخ الحنفية أحمد أنه اجتمع بهما في وليمة عند بعض الكبراء فقدم إليهما استدعاء بخطه فلما رآه الكبير منهما وهو الشمس محمد قال معتذراً عن كتابة الإجازة قد جاء في الحديث أن الله كتب الإحسان على كل شيء إلخ وأني لا أحسن كتابة إجازة تناسب هذا الاستدعاء الحسن فطلب من أخيه الكتابة عليه فقال أنا على مذهب الأخ وكتب له البرهان المأموني في إجازته أنه ما رأى منذ زمان من يماثله بل من يقاربه ورحل إلى منية ابن الخصيب وأخذ بها عن الشيخ علي المصري وهو الشيخ العارف بالله تعالى الورع الزاهد الشمهور الولاية العظيم القدر الجامع بين الشريعة والحقيقة صاحب التصانيف منها تحفة الأكياس في حسن الظن بالناس ورسالة الأنوار ومشارق الأنوار في بيان فضل الورع من السنة وكلام الأخيار وغير ذلك ثم رحل إلى مكة شرفها الله تعالى وأخذ بها عن أجلائها كالقاضي تاج الدين المالكي والإمام زين العابدين الطبري والشيخ عبد العزيز الزمزمي والشيخ علي بن الجمال المكيين وأجازوه بمروياتهم ولازم بها خاتمة المحدثين الشمس البابلي وخرج له فهرستاً بمقروآته واشتغل بالتدريس في المسجد الحرام في فنون كثيرة وكان يزور النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء كل سنة ويتردد على الأستاذ الصفي أحمد القشاشي ويأخذ عنه وكان يقول ما رأيت مثل سيدي الشيخ أحمد يكتب ما أراد من غير احتياج إلى تفكر قال وكان شيخنا علي بن عبد الواحد يقول ما دام القلم في يدي ومدته فيه كتبت به فإذا جف احتجت إلى التأمل والاستحضار وأما سيدي الشيخ أحمد فلا يقف وارده عند جفاف قلمه ومكث بمكة سنين عزباً ثم ابتنى له داراً واشترى جارية رومية واستولدها وحصل كتباً كثيرة وكان للناس فيه اعتقاد عظيم حتى أن العارف بالله السيد محمد بن علوي كان يقول في شأنه أنه زروق زمانه وكان السيد عمر باحسن باعلوي يقول من أراد أن ينظر إلى شخص لا يشك في ولايته فلينظر إليه وكفى بذلك فخراً له ومن شهد له خزيمة فحسب وقد شوهدت له كرامات وكانت سائر أوقاته معمورة بأنواع العبادة وانتفع به جماعة من العلماء الكبار منهم الأستاذ الكبير إبراهيم بن حسن الكوراني وشيخنا الحسن بن علي العجيمي وشيخنا الحسن بن علي العجيمي وشيخنا أحمد بن محمد النخلي فسح الله تعالى في أجلهما والسيد محمد الشلي باعلوي والسيد أحمد بن أبي بكر شيخان والسيد محمد بن شيخنا عمر شيخان والشيخ عبد الله الطاهر العباسي وغيرهم وله مؤلفات منها مقاليد الأسانيد ذكر فيه شيوخه المالكيين وأسماء رواة الإمام أبي حنيفة وفهرست البابلي وكانت وفاته يوم الأربعاء لست بقين من رجب سنة ثمانين بعد الألف ودفن بالحجون عند قبر الأستاذ المشهور الشيخ محمد بن عراق.ائهم وأجازوه بمروياتهم وأثنوا عليه بما هو أهله بل اتفق له مع شيخ الشافعية محمد الشوبري وأخيه شيخ الحنفية أحمد أنه اجتمع بهما في وليمة عند بعض الكبراء فقدم إليهما استدعاء بخطه فلما رآه الكبير منهما وهو الشمس محمد قال معتذراً عن كتابة الإجازة قد جاء في الحديث أن الله كتب الإحسان على كل شيء إلخ وأني لا أحسن كتابة إجازة تناسب هذا الاستدعاء الحسن فطلب من أخيه الكتابة عليه فقال أنا على مذهب الأخ وكتب له البرهان المأموني في إجازته أنه ما رأى منذ زمان من يماثله بل من يقاربه ورحل إلى منية ابن الخصيب وأخذ بها عن الشيخ علي المصري وهو الشيخ العارف بالله تعالى الورع الزاهد الشمهور الولاية العظيم القدر الجامع بين الشريعة والحقيقة صاحب التصانيف منها تحفة الأكياس في حسن الظن بالناس ورسالة الأنوار ومشارق الأنوار في بيان فضل الورع من السنة وكلام الأخيار وغير ذلك ثم رحل إلى مكة شرفها الله تعالى وأخذ بها عن أجلائها كالقاضي تاج الدين المالكي والإمام زين العابدين الطبري والشيخ عبد العزيز الزمزمي والشيخ علي بن الجمال المكيين وأجازوه بمروياتهم ولازم بها خاتمة المحدثين الشمس البابلي وخرج له فهرستاً بمقروآته واشتغل بالتدريس في المسجد الحرام في فنون كثيرة وكان يزور النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء كل سنة ويتردد على الأستاذ الصفي أحمد القشاشي ويأخذ عنه وكان يقول ما رأيت مثل سيدي الشيخ أحمد يكتب ما أراد من غير احتياج إلى تفكر قال وكان شيخنا علي بن عبد الواحد يقول ما دام القلم في يدي ومدته فيه كتبت به فإذا جف احتجت إلى التأمل والاستحضار وأما سيدي الشيخ أحمد فلا يقف وارده عند جفاف قلمه ومكث بمكة سنين عزباً ثم ابتنى له داراً واشترى جارية رومية واستولدها وحصل كتباً كثيرة وكان للناس فيه اعتقاد عظيم حتى أن العارف بالله السيد محمد بن علوي كان يقول في شأنه أنه زروق زمانه وكان السيد عمر باحسن باعلوي يقول من أراد أن ينظر إلى شخص لا يشك في ولايته فلينظر إليه وكفى بذلك فخراً له ومن شهد له خزيمة فحسب وقد شوهدت له كرامات وكانت سائر أوقاته معمورة بأنواع العبادة وانتفع به جماعة من العلماء الكبار منهم الأستاذ الكبير إبراهيم بن حسن الكوراني وشيخنا الحسن بن علي العجيمي وشيخنا الحسن بن علي العجيمي وشيخنا أحمد بن محمد النخلي فسح الله تعالى في أجلهما والسيد محمد الشلي باعلوي والسيد أحمد بن أبي بكر شيخان والسيد محمد بن شيخنا عمر شيخان والشيخ عبد الله الطاهر العباسي وغيرهم وله مؤلفات منها مقاليد الأسانيد ذكر فيه شيوخه المالكيين وأسماء رواة الإمام أبي حنيفة وفهرست البابلي وكانت وفاته يوم الأربعاء لست بقين من رجب سنة ثمانين بعد الألف ودفن بالحجون عند قبر الأستاذ المشهور الشيخ محمد بن عراق.(2/270)
عيسى بن محمود بن محمد بن محمد بن كنان الحنبلي الصالحي الدمشقي الخلوتي خليفة شيخنا وأستاذنا السيد محمد بن محمود العباسي روح الله تعالى روحه كان من صلحاء الزمان وفضلائه ورعا عابداً زاهداً في الدنيا قانعاً بما قدر له ساكناً عليه سيما لاصلاح ولد بصالحية دمشق وبها نشأ ولما بلغ سبع سنين من عمره حفظ القرآن ثم لما بلغ العشر سافر مع والده إلى مصر وعاد إلى دمشق ثم سافر إليها ثانياً وحده وطلب العلم على مشايخ أجلاء منهم الشيخ مرعي البهوتي الغزي والنور الشبراملسي والشيخ محمد الخلوتي والشمس البابلي والشهاب أحمد الشوبري والشيخ سلطان وغيرهم وكان مغرماً بزيارة الأولياء والصالحين سيما الإمام الشافعي وكان إذا جلس يقرأ عنده بين القراء يتعجبون منهلحسن تأديته وفصاحته مع كمال لطفه وجميل سيرته وحكي أنه تردد مرة في آية وهو يقرأ عنده وسكت ففتح عليه الإمام الشافعي من داخل القبر ثم رجع إلى دمشق في سنة خمس وخمسين وألف واجتمع بالشيخ الولي الشيخ منصور المحلي الصابوني وقطن عنده بجامع الصابونية يقرأ القرآن واستظهاراً وكان الشيخ منصور يحبه محبة كلية وكان في بعض الأوقات يطرقه الحال والشوق فيخرج هائماً على وجهه يدور في البراري والقفار يدخل بيروت وصيدا ويزور جبل لبنان ومعه ركوة وعكازه ومرقعة ويأكل من الحشيش ويشرب من عيون الأرض وربما كلمه بعض الوحوش ثم يعود إلى زاوية الشيخ منصور وحج مراراً على التجريد ماشياً أمام الحاج لا يعول على مركوب ولا خيمة ولا يطلب من أحد شيئاً إن حصل له شيء أكل وإلا طوى وكان كثيراً ما يرى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له مرة مرحباً مرحباً بفلان باسمه ولم يزل على هذا الحال بعد موت الشيخ منصور حتى وصل إلى شيخنا العارف بالله تعالى الصيد محمد العباسي فأخذ عليه الطريق ولم يزل عنده في أعلى مكانة حتى برع في طريق القوم وأشار إليه بالخلافة بعده فوليها وكانت تظهر له كرامات وأحوال منها أنه أخبر بموت إنسان قيل موته بأيام فكان كما قال وكان له نزاهة وعفة واتفق أن رجلاً أعطاه مائة قرش هبة وأشهد على ذلك ثم بعد أيام شحت نفسه بها فطلبها منه ففي الحال أعطاه إياها من غيرتوقف وأرسل إليه الوزير حسين باشا يطلبه للاجتماع به فلم يجب فأرسل إليه بثلاثين قرشاً فأعطاها للذي أرسلها معه وبالجملة فإنه كان بركة الوجود وكانت ولادته في سنة اثنتين وأربعين وألف ومات للة الاثنين لأربع ليال بقين من شوال سنة ثلاث وتسعين وألف بالصالحية وكان أوصى أن يدفن لصيق شيخه العباسي بمقبرة الفراديس وهيأ له قبراً ثمة قبل موته بمدة يسيرة فدفن به وكانت جنازته حافلة جداً وأسف عليه كثيراً رحمه الله تعالى.
عيسى بن مسلم بن محمد بن خليل الصمادي الشافعي القادري تقدم ذكر أخيه إبراهيم وكان الشيخ في شبيبته مشغولاً باللذات وكان مسرفاً في المصرف ثم تقلبت به الأيام حتى مات جسده وأبوه فولي المشيخة الصمادية بعد أبيه ولما وليها ترك ما كان عليه وأقلع عنه وقام بالمشيخة أحسن قيام وكان حكام الشام يكرمونه حتى انتدبه أحمد باشا الحافظ للذهاب إلى السردار مراد باشا إلى ديار بكر في التخفيف في النزول فذهب إليه وقضى الأمر وسار قبل ذلك إلى مراد باشا وهو في حلب في الانتقام من الأمير علي بن جانبولاذ مع من سار إليه من علماء دمشق وأعيانها ثم تقدم ونبل بعد موت الشيخ محمد بن سعد الدين على سائر الصوفية حتى منتهبته المنية قال النجم وجد بخط جده أبي مسلم أن ولادته كانت في الثامن والعشرين من شوال سنة تسع وستين وتسعمائة وتوفي ليلة الاثنين سادس ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وألف ودفن إلى جانب أبيه بروايتهم المعروفة داخل باب الشاغور رحمه الله تعالى.
حرف الغين(2/271)
غازي باشا ابن شاهوار الجركسي الأصل أحد وزراء الدولة العثمانية كان من مشاهير فضلاء الوزراء مطلعاً على كثير من المسائل والنكات عارفاً باللغات العربية والفارسية والتركية حافظاً لكثير من أشعارها كان والده من الأمراء واقتفى هو أثره في طليعة عمره ثم صار أمير الأمراء بمدينة قونية ولما ولى الوزير البشير الوزارة العظمى توجه من حلب قاصداً بلاد الروم ومر على قونية فاستدعاه ووجه إليه نيابة الشام فقدم إليها في نهار الخميس خامس جمادى الأولى سنة خمس وستين وألف وكان شاباً خفيف اللحية جميل المنظر وكان مع حداثة سنة ورقة طبعة معرضاً عما يقتضيه الشباب من غلوائه مقبلاً على محبة العلماء لا يعرف له صبوة وربما أنه ما نظر إلى وجه أمرد وحكى عنه أنه طلع يوماً للتنزه في الوادي التحتاني فالتقى مع جماعة من أرباب المصنائع خرجوا للسير فأرسلوا له قهوة مع شاب منهم خالي العذار فلم يتناولها منه وأمر بعض أتباعه من الكهول بمناولتها ثم صرف عن دمشق في ثالث ذي القعدة سنة خمس وستين وجاءته رتبة الوزارة وهو مقيم بها ثم رحل إلى الروم وولي بعد مدة محافظة مصر وورد دمشق وهو متوجه إليها وذلك نهار الأربعاء عشري ذي القعدة سنة سبع وستين واستمر بها حاكما ثلاث سنين وسيرته فيها إلى الآن مذكورة مشكورة ثم عزل عنها وأسند إليه بعض أمور هو برئ منه فحبس أياما ثم قتل ودفن بالقرافة تجاه شباك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وكان قتله في سنة إحدى وسبعين وألف ومن لطائفه إنه كتب إليه الإسناد محمد بن زين العابدين البكري وهو في السجن رسالة في شأن مال أخذه منه تعدّيا في زمن توليته من جملتها أن كان الذي أخذ منا من المال عاد عليكم فأنتم في حل منه وإن كان عاد إلى الغير فلا بأس بالإعلام به لنسترجعه فكتب إليه الجواب بيتا ولم يزد عليه وهو شربنا وأهرقنا على الأرض فضلة وللأرض من كأس الكرام نصيب وحكى إنه لما قتل وجد في جيبه كاغد مكتوب عليه هذه الأبيات وكان وهو في السجن كثيراً ما ينشدها وهي:
تجنوا إلى ذنوبا ما جئتها ... يداي ولا أمرت ولا نهيت
ولا والله ما أضمرت غدرا ... كما قد أظهروه ولا نويت
ويوم الحشر موقفنا وتبدو ... صحيفة ما جنوه وما جنيت
ويحكم بيننا المولى بعدل ... فويل للخصوم إذا ادّعيت
قلت وقد تداولت الناس هذه الأبيات كثيراً وخمسوها وأغلبهم يظن أنها من نظمه وليس كذلك فإنها للأمير أسامة بن منقذ ذكرها في ترجمته ابن خلكان ولها أبيات أخر في أولها مثبتة في ديوانه وكان كتبها لأبيه جواباً عن أبيات كتبها أبوه إليه وهي:
وما أشكو تلون أهل ودّي ... ولو أجد شكيتهم شكوت
مللت عتابهم ويئست منهم ... فما أرجوهمو فيمن رجوت
إذا أدمت قوارصهم فؤادي ... كظمت على أذاهم وانطويت
ورحت عليهم وطلق المحيا ... كأني ما سمعت ولا رأيت
تجنوا إلى آخر الأبيات(2/272)
غرس الدين بن محمد بن أحمد بن محمد بن غرس الدين بن محمد بن أحمد بن غرس بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الوهاب بن عبد الفتاح بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر خدرة بن عوف بن الحرث بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة ابن عامر بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد الخليلي ثم المدني الأنصاري الشافعي المحدث الفقيه الأديب المشهور صاحب كتاب كشف الالتباس فيما خفي على كثير من الناس ألفه في الأحاديث الموضوعة وهو كتاب جم الفائدة رأيته ونقلت منه أشياء من جملتها إنه كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم ويأمر الفقراء باتخاذ الدجاج فقال لا أصل له وقد سبقه إلى هذا الوضع جماعة منهم الزركشي والسيوطي وألف فيه النجم الغزي الدمشقي كتابه اتقان ما يحسن في الأحاديث الجارية على الألسن لكن تأليف صاحب الترجمة أسهل مأخذا من الجميع وله من التآليف أيضاً نظم الكنز ونظم مراتب الوجود للإمام عبد القادر الجيلي في رجز في غاية الرقة والانسجام وقد تولى شرحه العارف بالله تعالى عبد الله البوسنوي الرومي شارح الفصوص المار ذكره لما كان بينهما من المودة أخذ بالقدس عن الشيخ محمد الدجاني والشيخ يحيى بن قاضي الصلت إمام المسجد الأقصى وقارئ الحديث به ثم رحل إلى القاهرة في سنة سبع بعد الألف وحضر بها دروس أبي النجا سالم السنهوري في البخاري والشفاء وأخذ عن الأستاذ زين العابدين البكري والحافظ محمد حجازي الواعظ ورأي في منامه وهو بمصر كان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه رغيفا فقص الرؤيا على واجتمع بالوزير الأعظم بواسطة كتاب سيدي أبي الأسعاد وكان تقدم له ولاية بمصر وأظنه بيرام باشا فوجه له خطابة المدينة وعين له ما يكفيه فهاجر إلى المدينة وسكنها وتزوج بها وصار بها منهلا للواردين لا سيما أهالي القدس والخليل وأخيه أهل المدينة وعظم شأنه فيما بينهم ووقع لهم أمر خطير في سنة ثمان وأربعين وألف احتاجوا إلى عرضه للسلطنة فأرسلوه إلى السلطان ومعه الشيخ الفاضل محمد ميرزا السروجي الدمشقي تزيل المدينة فوصلا إلى دمشق صحبة الركب الشامي وكان السلطان آذاك قد رجع من فتح بغداد ووصل إلى حلب فخرجا من دمشق ووصلا إليه وتمت الأمور التي أرسلا لأجلها واجتمع صاحب الترجمة بوزير السلطان المذكور مصطفى باشا وكتب إليه قصيدة يحثه فيها إزالة العبيد الخصيان من المسجد النبوي والقصيدة هذه:
يا مصطفى بالمصطفى العدنان ... وبآي قرآن عظيم الشان
لا تجعلن على المدينة أسودا ... شيخاً على حرم النبي العدنان
وكذلك الحبشان أيضاً منهمو ... فهمو همو لا خير في الحبشان
بل جاء في خبر رواه بعضهم ... ها لفظه لا خير في الحبشان
قوم لهم طمع شديد زائد ... لا يشبعون من الحطام الفاني
لولا المخافة منهم لاتاكم ... شاكون من همّ ومن أحزان
فلتسألوا حنفي أفغدي عنهم ... يخبركم عن خلسة الغربان
ما كان ما يدري يقال وأنتم ... أدري بطيش السادة الخصيان
يستنزلون لأخذ ما قد جاء من ... صدقات خير للفقير العاني
فيصيب أهل الفضل من صدقاتكم ... ما ساءهم من أسهم الحرمان
فانظر لن شيخنا تقيا صالحا ... مستنزها عن ذا الحطام الغاني
إن لم يجز إلا خصياً أسودا ... فاخصوا لنا شيخا من البيضان
يوما تكونوا مثلنا ما أن لكم ... في الناس من أمر ومن سلطان
هدى نصيحة غرسكم في روضة ... الهادي إلى الإسلام والإيمان
يدعو لسلطان الورى ولمصطفى ... سيف الإله وعاضد السلطان
ولما عاد صاحب الترجمة أنزله الفاضل أحمد بن شاهين عنده وأقبلت عليه علماء دمشق وأخذ عنه جماعة من أهلها منهم الشيخ محمد بن علي المكتبي وذكره في ثبته وأثنى عليه قال ومما اتفق له إنه نظم لنا الشمايل في ليلة واحدة فيما بين المغرب والعشاء وكتب عنه أناشيد وأمالي لنفسه ولغيره فمن ذلك قوله:(2/273)
إني لا عجب مما ... صار الزمان إليه
إذ ما بكيت لدهر ... إلا بكيت عليه
فقل إن قال ساقيها المفدّى ... جبايا مرحبا واشكر بشكري
فلا غول ولا تأثيم فيها ... وليست مرة بل طعم تمر
وإن غالي المحب وقال شهد ... أجيب نعم إذا ما كان تمري
ولولا مد حتى للبن قبلا ... لعدت له بهجو ثم هجر
لبئس طباعه وسواد قلب ... له فهو الحري بكل هجر
ونقلت من تذكرة القاضي أحمد بن عيسى المرشدي قال ورد علينا في أثناء عام خمس وأربعين وألف الشيخ إلا وحد الأكمل غرس الدين الأزهري المقدسي الخطيب والإمام بالروضة المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ولم يؤانسه أهل مكة فقال معرضا:
علماء مكة جاوزوا الإفلاكا ... عزا وحق لهم لعمري ذاكا
لولا الرياسة في رؤس نفوسهم ... كانوا وحقك كلهم أملاكا
فقال بعض السادة الأشراف المتصل محتدهم الزاكي بالمغيرة بن عبد مناف فخر الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السما أكرم به نسبا ومنتمي على طريق الجواب عن المكيين:
لله درّك من أديب بارع ... بذكائه ما يعجز الإدراكا
أحسنت إذا أتحفتنا ببدائع ... بهرت وإن جادت فدون نداكا
فجها بذ البيت الحرام مذيعة ... بأريج مدح من بديع ثناكا
وهم الحجاجح والذين سمعوا بمن ... خرم السمار استخدم الأملاكا
لا غروان جازوا الأثير بفضلهم ... وعلوا بحق جواره الأفلاكا
وعن الثانيين:
يا مفلقا لم يزل في كل غامضة ... يبدي بها قلقا بالحق قد ظهرا
وبحر علم تحلى من فرائده ... جيد البلاغة عقدا يفضح الدررا
أثنيت حقا وعين الفضل شاهدة ... وأنت إنسانها الرائي بغير مرا
لم يتركوك لإهمال ومنقصة ... لكن حجبتهم فالذنب منك يرى
وأجابه أيضاً القاضي الفاضل تاج الدين المالكي:
جيران مكة غرس الدين أينع في ... قلوبهم باسقا يهدي الهدى ثمرا
سقوه من أنهر الإخلاص صافيها ... فاخضل يطلع من أكمامها زهرا
ومن يكون روض غرس الدين مهجته ... أسرى وفاز بسرا السرحين سرا
به قد اتحدوا إذ كان بينهم ... تواصل معنوي من ألست جرى
فحيث دارت كؤس الاتحاد على الأرواح ما اعتبر والأشباح والصورا فأجاب الشيخ غرس الدين معتذرا:
يا شهم مكة يا تاج الرؤس بها ... يا شهم مكة قد بكت من عذرا
يا حبر علم يفيد الطالبين بها ... يا بحرفهم به نستخرج الدررا
يا رب حذق غدا رب البيان له ... عبدا وألقى عصا التسليم مفتقرا
يا ألمعيا أضاءت من لوامعه ... مشارق الذهن بالذوق الذي بهرا
يا لوذعيا باعيّ يمازجه ... أعيا وأفحم كلا قال وأشعرا
يا ظرف ولطف كسراً خطأ ... أغصان غرسي على بعد وما شعرا
هل ترفين الذي أخلقت من حللي ... أو تقبلن الذي يأتيك معتذرا
فأجابه القاضي بقوله:
كللت أكيل تاجي بالثنا دررا ... لما بعثت بعقد المدح معتذرا
مضمخا طيب شكر عرف نفحته ... كروض غرسك حيته الصبا سحرا
غرس من المبدأ الفياض منبته ... للسمع نواره عن طيبه خبرا
إني عقدت وقد عرضت معترضا ... لعرض قوم ثناهم لم يزل عطرا
هذا إلى ما هو الأحرى بناوبه ... إذا اقتفينا طريق القوم والأثرا
فخرقة الفقران لم يوف لابسها ... بشرطها نبذته كاسيا بعرا
عودا لبدء فم الاعتذار ولم ... تقر إذ قلت بكت الذي عذرا
وقلت في حق من جازي وعرض لم ... يشعر وأغصان غرسي مخطئا كسرا
قد حصحص الحق فاعلم إنما كسرت ... أغصان غرس الذي أخطا وما شعرا(2/274)
أقرر بذنبك ثم أطلب تجاوزهم ... عنه فجحدك ذنب غير ما غبرا
قضى بما جرت الأقلام منك بما ... جرى به القلم المحتوم حين جرى
يكبوا الجواد ومن يعثر يقل كرما ... فنسأل الله غفرانا لمن عثرا
ونقلت أيضاً من التذكرة المذكورة قال القاضي أحمد كان الشيخ غرس الدين كتب إلى مولانا القاضي تاج الدين أبياتاً ذكرني فيها مجرداً عن الناصب والجازم بأن قال وأحمد المرشدي في ذاك قد حضرا ثم اعتذر مني فكتبت إليه ستة أبيات وأردت أكملها فأكمل عليها مولانا السيد أحمد بن مسعود ستة أخرى وبعثتها إليه:
وهي غرستا لغرس الدين في قلبنا الواد ... فأطلع من أكمام أفواهنا الوردا
فعطر لما أن جنته يد الوفا ... وضاع فأذكى عرفه العنبر الوردا
سقيناه من عذب التصافي زلاله ... وما كدرت منا له جفوة ودا
رعى الله من يرعى أخاه إذا هفا ... ويوسعه عن أن يقابله حمدا
وذلك غرس الدين لازال باسقا ... بروضة من يسقي غرائسه المبدا
وبذكر عهدا أحكمت في قلوبنا ... أو أخيه أيدي الود أكرم به عهدا
أمام سما فوق السماك بأخمص ... وجاوزه حتى سما الابن والحدا
وناظم أشتات العلوم بنثره ... فينظمه في جيد سما الابن والحدا
وكاشف ليل الجهل من صبح علمه ... بشمس فتكسوه أشعتها بردا
أتيت بفضل فاستحقيت شاهدا ... لأحمد فاستوليت عني به مجدا
وأظهرت بالإفضال ما كنت مضمرا ... فكتب به أحرى وكنت به أجدي
ولا عجب سبق الجياد لأنها ... معوّدة بالسبق إن كلفت شدا
فأجابهما بقوله:
أقول وقد غلبت خير كما جدا ... وقاعدة التغليب معروفة جدا
حمدت إلهي أن غرست لنا الودا ... أيا أحمد السامي سماك السما حمدا
فأينع غرسي بعدما كان ذاويا ... وأطلع عن أكمامه الزهر والوردا
وإن دامت السقيا له من وصالكم ... سيثمر في روض الرسول لكم ودا
هنيئا لغرس صار أحمد ساقيا ... له من عيون الود كأس الصفا وردا
فظل يراعى عهده في مغيبه ... ويبني له في بيت مدحته عقدا
وذكره عهدا أو أخيه أحكمت ... يد الود في أرواحنا العقد والشدا
وعذرا لأني قادم وتراهم ... يقولون في الأمثال والحق لا يعدى
لكل غريب قادم دهشة اللقا ... بها يدرأ الحذاق عن ربهم الحدا
وهبنا تجاوزنا الحدود ألتم ... تقيلون من أخطا ومن قد جنى عمدا
إذا لم تكونوا هكذا فتخلوا ... بأخلاق مولى يملك الغي والرشدا
لعمري لو كنت البليغ خطابه ... وأخطبت من قس الأيادي من عدا
ورمت بأن أحصى فضائل أحمد ... لما استوعيت نفسي فضائله عدا
هو ابن الرسول المصطفى وذوي الصفا ... نبي حسن الحسني الذين سموا مجدا
ملوك ملوك الأرض رق ولائهم ... وحبهم أنجي وبغضهم أردي
لهم حرمة يعنوا لها كل مسلم ... بها أخذ المولى علينا لهم عهدا
فالله آداب بغير تطمع ... ولكن من سرّ الرسول بها مدا
وأدّ بني ربي له منه قسمة ... بفرض وبالتعصيب من أرثه مدا
ولله شعر جاوز الشعر رقة ... وجاوز للشعري العبور بما أبدي
ولا عجب من ذاك عندي وربه ... بعزته قد جاوز الاين والحدا
وناظم عقد المكرمات بكفه ... وينثره جودا فيحي به فقدا(2/275)
وكاشف ليل الكرب عن عرش عزمه ... بعزم كان الكون من أيده مدا
وقد كان منك الفضل قدما مقدما ... بسابقة تستوجب السعي والعودا
فأظهرت بالأبيات ما كان مدعما ... ويممت بالإخفاء بيتا حوى عودا
فشمت به تاجا على الرأس مشرقا ... فعانقته حبا وهمست به وجدا
وداخلني منه حياء ودهشة ... لما كان من وهم فأورثنا حقدا
وقابلته بالرحب والبشر فرحة ... ولم نرمنه حين حان اللقاصدا
ولا عجب سبق الجياد فإنها ... معودة بالسبق ما كلفت شدا
ولست بحمصيّ كما قال باهت ... ولكن خليلي تميمي استهدي
وجدي من الآباء فيما روى أبو ... سعيد هو الخدري وأكرم به جدا
وذاك من الأنصار أنصار جدّكم ... رسول به نلنا علا الجد والجدا
عليه صلاة الله ثم سلامة ... وآل وصحب والمحب لهم جدا
أجدك هذا القدح فيمن يحبكم ... ويحمد كم مدحا ويمدحكم حمدا
وما أصلتت كفاك يا كفاك على الأعادي ... سيفا باترا ماضياً حدّا
فحسني علم الله والله عدّتي ... وذمة خير الرسل تكفي من استعدي
وقد ذكره الفيومي في المنتزه ووالدي رحمه الله تعالى في تاريخه وبالجملة ففضائله وآثاره كثيرة معجبة وكانت وفاته في سنة سبع وخمسين وألف ودفن إلى جانب الخياري وإلى جانبهما الشيخ منصور السطوحي المحلي نزيل دمشق.
غياث السيد الشريف العارف بالله تعالى أبو الغيث الشجري اليمني نزيل مكة كان من خير خلق الله عز وجل وله في الكشف والولاية قدم راسخة وللناس فيه اعتقاد زائد ذكره النجم الغزي في الذيل وقال في ترجمته رأيته بمكة ووجدت منه كشفا عظيما وكان يحب الطيب ويحيي به زوّاره كان يتصرف في سلاطين مكة ويأخذ منهم ما شاء ثم يصل بما أخذه الفقراء والمساكين وكان تارة يلبس لباس الملوك وتارة ينزهه ويبيعه ويطعمه للفقراء ويلبس لباس الفقراء وكانت تجار اليمن وغيرهم يستغيثون به في شدائد البحر ومضايق البر فيجدون بركة الاستغاثة به وينذرون له أشياء يرسلون بها إليه إذا تم غرضهم وكان يعمل الموالد بالحرم أيام الموسم وغيرها على طريقة اليمنيين ويلحن ألحانهم بنفسه وكان له رياضة واجتهاد في العبادة وكانت آثار الصلاح فيه ظاهرة وكانت وفاته بمكة في المحرم سنة أربع عشرة بعد الألف ودفن بالشعب الاعلا من باب المعلاة بالقرب من ضريح أم المؤمنين خديجة الكبرى رضى الله تعالى عنها.
حرف الفاء
فايد المصري الولي الصالح العابد تقدم طرف من خيره في ترجمة الإمام خير الدين الرملي وكانت إقامته بباب جامع الأزهر وكانت كبار العلماء تعتقده وتحترمه وإذا جاءه أحد منهم يقف بين يديه فإن أشار إليه بالجلوس جلس وإلا وقف إلى أن يقول له انصرف أو ينصرف هو من ذاته وكان للناس فيه اعتقاد عظيم وكانت الوزراء بمصر يأتون لتقبيل يده والتبرك به فلا يلتفت إليهم وحكى الخير الرملي إنه كان يوماً جالساً عنده فجاءه الوزير قال فأردت القيام فنعنى وقال اجلس فجلست عنده إلى أن ذهب الوزير وكان مواخيا للنور الريادي وكان كل منهما يعتقد الآخر وكانت وفاة الشيخ فايد في حدود سنة ست عشرة بعد الألف.(2/276)
فتح الله بن محمود بن محمد بن محمد بن الحسن الحلبي العمري الأنصاري المعروف بالبيلوني الشافعي الفقيه الأديب المشهور كان أوحد أهل عصره في فنون الأدب وعلوّ المنزلة وشهرته تغني عن الإكثار في تعريفه أخذ عن والده البدر محمود الآتي ذكره وسافر عن حلب إلى الروم صحبة الوزير نصوح وكان صار معلما له فحصل على جاه عريض ثم انحط عند فولى إفتاء الشافعية بالقدس وهو من المكثرين في الرحلة دخل بلاداً كثيرة منها مكة والمدينة والقدس ودمشق وطرابلس وبلاد الروم وألف تأليف فائقة منها حاشية على تفسير البيضاوي والفتح المسوي شرح عقيدة الشيخ علوان الحموي وله الكتاب الذي سماه خلاصة ما يقول عليه الساعون في أدوية دفع الوبا والطاعون وهو مشهور وله مجاميع اشتملت على تعاليق غريبة وأخذ عنه خلق كثير وله شعر كثير منه ما قرأنه في الجواهر الثمينة للسيد محمد بن عبد الله المعروف بكيريت المدني قال أنشدني إجازة لنفسه بحلب الشيخ فتح الله البيلوني قوله:
السبت والاثنين والأربعا ... تجنب المرضى بها أن تزار
بطيبة يعرف هذا فلا ... تغفل فإن العرف عالي المنار
قلت هذا عرف مشهور لكن ورد في السنة ما يرد السبت منه فقد روى أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يفقد أهل قبا يوم الجمعة فيسأل عن المفقود فيقال له إنه مريض فيذهب يوم السبت لزيارته ومن كلام صاحب الترجمة في صدر تأليف له ولما كانت الهدايا يا تزرع الحب وتضاعفه وتعضد الشكر وتساعفه أحببت أن أهدى إليه هدية فائقة تكون في سوق فضائله نافقه فلم أجد إلا العلم الذي شغفه حبا والحكم التي لم يزل بها صبا والأدب الذي اتخذه كسبا ورأيت فإذا التصانيف في كل فنّ لا تحصى والأمالي من سطور العلماء وطروس الحكما أوسع دائرة من أن تستقصي إلا أن التأنق في التحبير من قبيل إبراز الحقائق في الصور ومن هنا قبل لكل جديد لذة ولا خلاف في ذلك عند أهل النظر وذكر السيد محمد كبريت المذكور آنفا في كتابه نصر من الله وفتح قريب أنه أخبره أنه انجر الكلام إلى مثله معلومة عندك لم يطلع عليها الشيخ فيحمر وجهه ثم لا تكاد تفلح أن رأيت في نفسك شيئاً لذلك ولا من هو مثلك فإنه لا يسلم لك كما أنك لا تسلم له فيغد عليك عقلك وتفسد عليه عقله والمعاصر ولا يناصر وعليك بمن هو دونك فإنه أن يظهر الخطأ في وجه مباحثه فقد أخطأ هو لرضاء بالخطا وإنما يعرف حال أهل العلم من جال في ميدانهم بنور الأنصاف كان السيد تلميذ السعد يستفيد منه كل يوم أربع مسائل ويفيده ثمانية مسائل وكان عمره عشرين سنة وعمر شيخه ثمانين فقيل له في ذلك فقال أما الأربع فأضمها إلى الثمانية فتكون أثنى عشر وأما الثمانية التي أفيدها فعدم إفادتها إلا يزيد فيما لدى وما أحسن قول من قال:
أفد العلم ولا تبخل به ... وإلى عملك علما فاستزد
من يفده يجزه الله به ... وسيغني الله عمن لم يقد
وقال ابن المعتز:
لا تمنعنّ العلم طالبه ... فسواك أيضاً عنده خبر
كم من رياض لا أنيس بها ... هجرت لأن طريقها وعر
وقد وقفت على أربعة كراريس جمعها ابن أخيه محمد بن فضل الله من نتفه التي لم تصل إلى حداً لقصيدة وغالبها في النصائح والحكم والاستغاثة فمن ذلك قوله:
يقولون دار الخصم تظفر بودّه ... فذلك درياق من الغل في القلب
فما ازداد مذ داريته غير جفوة ... لأن قديم الداء مستصعب الطب
وقوله:
بباب الله لذ في كل قصد ... وغض الطرف عن نفع الصحاب
فماء الأرض لا يروي ثراها ... إذا لم ترو من ماء السحاب
وقوله وينساب لفتح الله بن النحاس والصواب إنهما لفتح الله هذا:
يقولون وافق أو فنافق مرافقا ... على مثل ذا في العصر كل لقد درج
فقلت وأمر ثالث وهو قول أو ... ففارق وهذا الأمر أدفع للحرج
وقال مضمنا:
لا تجزعن لحادث ... وبصدق عزمك فانفذ
فالصبر أمتع جثة ... والله أعظم منقذ
فالجأ لعز جنابه ... ومن الهموم تعوّذ
وأصرف تصاريف الأمور ... إلى ورائك وانبذ(2/277)
إن المقدر كائن ... ولك الأمان من الذي
ومما قاله عاقد الماروي عن ابن عباس رضى الله عنهما:
وقال ابن عباس ثلاث جزاء من ... حباني بها لا يستطاع فيحصر
سماع لتحدثي وقصدي لحاجة ... وتوسيعه لي مجلسا حين أحضر
ولقد أجاد في قوله:
المرء ما دام في عز وفي جدة ... فكل خل له بالصدق متصف
لا عرف الله عبداً صدق صاحبه ... فإنه بانكشاف الحال يتكشف
وقوله:
هذا مثال جرى فافطن لباطنه ... فعارف الوقت من للوقت قد عرنا
إذا ابتليت بسلطان يرى حسنا ... عبادة العجل قدم نحوه العلفا
وقوله:
توق من العداوة للادانى ... فكيف بمن إذا ما شاء كادك
تبيت لرفعة تبغي وجوها ... ولا تدري بماذا قد أرادك
وأصابه رمد وهو بالقاهرة فكتب لبعض أحبابه:
أيها انشهم قد ملكت فؤادي ... بوداد ما شيب قط بمنك
إن عيني شكت لبعدك عنها ... لا أراك الإله سوأ بعينك
ومن مجونه المستملح:
لا أرتضى المرد ولا أبتغي ... الالقا الحسنا لسرّ بطن
فقل لمن نافق في حبها ... إن من الإيمان حب الوطن
ومما يستجادله قوله في العيون ويعبر عنها بالنظارة التي تستعملها الناس لتقوية البصر:
رب صديق عاب نظارة ... يقوى بها الناظر من ضعفه
وعن قليل صار في أسرها ... يحملها رغما على أنفه
وقال متوسلاً قبل دخول مكة في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وألف:
أبقنا منك بالعصيان جهلا ... وأنت دعوتنا حلما ومنا
فقابل بالرضا يا رب واغفر ... بمحض الفضل ما قد كان منا
وهذا ما وقع اختياري عليه من أشعاره وفيها كفاية وكانت ولادته في شهر رمضان سنة سبع وسبعين وتسعمائة وتوفي سنة اثنتين وأربعين وألف بحلب ودفن بزاوية آبائه والبيلوني بفتح الباء الموحدة ثم مثناة تحتية ولام وواو ونون نسبة للبيلون وهو نوع من الطين يستعمل في الحمام وأهل مصر تسميه طفلا قال الخفاجي وكلاهما لغة عامية لا أعرف أصلها كذا ذكر وفي الصحاح الطفل بالفتح الناعم يقال جارية طفلة أي ناعمة انتهى ولعله سمى به هذا النوع من الطين لنعومته لأنه كالصابون تغسل به الأبدان سيما في الحمام.
فتح الله المعروف بابن النحاس الحلبي الشاعر المشهور فرد وقته في رقة النظم والنشر وانسجام الألفاظ لم يكن أحد يوازيه في أسلوبه أو يوازنه في مقاصده وكثير من أدباء العصر يناضل في المفاضلة بينه وبين الأمير منجك ويدعى أرحجتيه مطلقا وعندي أن أرحجتيه إنما هي من جهة حسن تراكيبه وحلاوة تعبيراته وأما أرحجتيه الأمير فمن جهة معانية المبتكرة أو المفرغة في قالب إلا جادة ونحن لم نطلع لفتح الله على معنى يشبه قول الأمير من الرباعيات:
ما مر تذكر الكري في بالي ... إلا دفعته راحة البلبال
أشفقت من الجفون لما يؤذي ... أقدام خيالك العزيز الغالي
ولا قوله:
لو لم يكن راعها فكر تصورها ... من واله وثنتها مقلة الأمل
ما قابلت نصف بدر بابن ليلته ... وألقت الزهر فوق الشمس من خجل
فهذان مما لا قدرة لمثل الفتح على طرق بابهما وبالجملة فهما شاعر الزمان ولعمري إن زمانا جاد بهما السخي جداً وكان فتح الله في حداثته من أحسن الناس منظراً وأبهاهم صباحة ورشاقة وكان أبناء الغرام يومئذ يفدونه وهو يعرض عنهم أنفت منه مرمته في زاوية الهجران وفي ذلك يقول وقد رأى أعراضاً من صديق له كان يألفه:
إني أنا الفتح سمعتم به ... ما همه حرب ولا صلح
من عدّلي ذنباً قلاني به ... فإنما ذنبي له النصح
قولوا له يغلق أبوابه ... فإنما حاربه الفتح
ثم اندرج في مقولة الكيف وتزيا بزي الزهاد واتخذ من الشعر صدارة حدادا على وفاة حسنة ووفاة جماله وما زال يرثي أيام حسنه وينعي ما يتعاطاه من الكيف وله في ذلك محاسن ونوادر منها قوله في قصيدته التي أولها:
من يدخل الأفيون بيت لهاته ... فليلق بين يديه نقد حياته(2/278)
لو يابثين رأيت صبك قبل ... ما الأفيون أنحله وحل بذاته
في مثل عمر البدر يرتع في رياض ... الزهر مثل الظبي في لفتاته
من فوق خد الدهر يسحب ذيله ... مناه ة إني شاء وهو مواته
وتراه إن عبث النسيم بقدة ... ينقد سرو الروض في حركاته
وإذا مشى تيها على عشاقه ... تتفطر الآجال من خطراته
يرنو فيفعل ما يشاء كأنما ... ملك المنية صار من لحظاته
لرأيت شخص الحسن في مرآته ... ودفعت بدراً لتم عن عتباته
وقال من قصيدة أخرى:
يا هذه إن أنت لم تدر الهوى ... لا تجحديه فللهوى استحكام
وأبيك كنت أحد منك نواظر ... وبكل قلب من جفاي كلام
والسحر إلا في لساني منطق ... والحسن إلا في يدي ختام
لدن القوام مصونة أعطافه ... عن أن تمديدا لها الأوهام
متمنعا لا الوعد يدني وصله ... يوماً ولا لخياله المام
حتى خلفت السقم فيه بنظرة ... ولقد يلاقى ظلمة الظلام
وتنوعت أدواؤه فبطرفه ... شكل الرقيب وفي الصماخ ملام
ألف التجنب في هواك فقربه ... للناس بعدك خطوة وسلام
ثم مل الإقامة بين عشيرته فخرج من حلب وطاف البلاد وكان كثيراً لتنقل لا يستقر بمكان إلا جدد لآخر عزما وفي ذلك يقول وقد أحسن كل الإحسان:
أنا التارك الأوطان والنازح الذي ... تتبع ركب العشق في زي قائف
وما زلت أطوي نفنفا بعد نفنف ... كأني مخلوق لطيّ النفانف
فلا تعذلوني إن رأيتم كتابتي ... بكل مكان حله كل طائف
لعلّ الذي باينت عيشي لبيته ... وأفنيت فيه تالدي ثم طار في
تكلفه الأيام أرضا حللتها ... إلا إنما الأيام طرق التكاليف
فيملى عليه الدهر ما قد كتبته ... فيعطف نحوي غصن تلك المعاطف
ودخل دمشق مرات وأقام بها مدة واتفق عند دخوله الأول جماعة من الأدباء المجيدين وكان لهم مجالس تجري بينهم فيها مفاكهات ومجاورات يروق سماعها فاختلوا به وعملوا له دعوات وكانوا يجتمعون على أرغد عيش وجرت لهم محافل سطرت عنهم ولولا خوف التطويل لذكرت بعضها ثم سافر إلى القاهرة وهاجر إلى الحرمين واستقر آخرا بالمدينة وله في مطافه القصائد والرسائل الرائقة يمدح بها أعيان عصره ومن أرقها قوله يعاتب.
غرست لكم في القدح ما أخضر عوده ... وألقت إليه الزهر عقداً من الزهر
وصارت عيون المنصفين قلائداً ... عليه وعين الحقد تنظر عن شزر
وعدت كما عاد المسيء مذمما ... أغص بشكري وهو يحسب من وزري
وملساء حظا كالذي اجتلب الهوى ... وأسلمه محض الوداد إلى الهجر
ومن نثرها:
عهدي بالشيخ جبلا آوى إليه ... وحمى أحوم وعماد اعتمد بعد الله(2/279)
عليه فما بال الجبل لم يؤو والحمى لم يحم والعماد لم يحو وما باله في مسراته وأنا في ليل الهموم أتوقع تنفس صحبها وأبتهل إلى الله تعالى في طلوع شمسها فعند ما حلت أكف الابتهال عري الدجى ولاح من تنفس صبح الوصال أشعة شمس المنى حال بين طرفي وسناها قذاة العين وأصبحت مصابا بعين أعوذ بالله من أن يلهى الشيخ بزخرف المتمشدق أو تستميله أقاويل المتملق والزخرف عتبة التلاشي والتمشدق باب الهوى والأقاويل مطية الكذب والدخيل قذال يد الرد والتملق مزراب النفاق ولي في محبته الود الثابت والقلب الصابر واللسان الرطب والفم الشاكر وله مني الوداد المحض والقصائداً لغر ولي منه أنه المتوجع ولوعة المصاب وحرقة المهجور وخشية المرتاب وما أراه من اقتفائه أثر المتلبس عليهم الأمر في كسر زجاجة ودادي من زيد بن عمرو ولا غرو قديد مي الجبين أكليله وتهجر الحسام قيونه وكثيراً ما يضل المدلج دليله وتخطى المؤمل ظنونه وكان مع ظهوره بزي الفقراء من الدارويش كثير الأنفة زائد الكبرياء والعجب ومن هنا حرم لذات المعاشرة واستعرض أكدار المذمة وهذا عندي من الحمق العظيم مع إنه ينافيه جودة تخيله في الشعر وقد يقال إن الشعر موهبة لا يتوقف أمره على وجود الصفات الكاملة بأسرها وأما أمر التناقض في الأحوال فكثير من يتبلى بها وهي وصمة لا راد للطعن فيها بحال ومما يحسن إيراده في هذا الشأن ما يروى عن الاسكندر إنه رأى رجلاً عليه ثياب أو تلبس ثياباً على قدر كلامك وقولهم غنّ تشاكل بعضك أصله أن سكرانا مر وهو يهلل فقيل له ذلك انتهى وأشعار فتح الله كثيرة مطبوعة مرغوبة فمن جيدها قصيدته اللامية التي مطلعها:
غير وفاء الحسان يحتمل ... وفي سوى الصبر يحسن الأمل
فخل ما القلب فيه مطرب ... لبعده والمزاج منفعل
وعدّ عن نظرة رميت بها ... فغير جرح اللحاظ يندمل
سمعت بالوصل ثم همت به ... أكل صب قبل الهوى غفل
دنوت من منهل على ظمأ ... ودونه البيض دونها الأسل
فمن زلال الوصال خذ بدلا ... فما لمثلي إذا قضى بدل
هم الظباء الذين إن بعدوا ... قتلت شوقاً وإن دنوا قتلوا
السالبون البقاء إن رحموا ... السافكون الدماء إن عدلوا
لاهون لا يستخفهم حزن ... عليك مستحسنون ما فعلوا
ولا لقتلى لحاظهم عدد ... ولا لا طراف بيضها فلل
هم حرمونا الخدود نلثمها ... وكل وقت يمسها الخجل
وحرموا العطف قسوة وهم ... الغصون والغصن شأنه الميل
أولوا الثنايا البرد سلسلها ... والمقل المنتمى لها النجل
من فرق السحر فيهم اجتمعت ... أسماء منها الرضاب والكحل
من جعلوا الورد يستظل به ... الطلع وأعلاه نرجس خضل
هي الأماني المبيد موردها ... ورب ورد من دونها الأجل
ولي فؤاد أطاع ناظره ... كلاهما بالمشيب مشتعل
فالطرف فيما عناه متهم ... وذا بما لا يعنيه مشتغل
وذبت عشقا لم أدر أم سقما ... بل في ما أعظمى له سبل
لكل عضو إذا وضعت يدي ... يصدها من صبابتي شعل
أودّ آها وليس تنفعني ... وكتمها فوق علتي علل
لا الرشد عندي ولا الفؤاد ولا ... العقل ولا الصبر لي ولا الحلول
أنا الذي في الأنام حيره الحب ... فما الاهتداء ما الحيل
فمن لطرفي أومن لقلبي في ... الحب وذا هائم وذائمل
خلقت صبا كأنما خلقت ... له العيون الفواتك النحل
يودع أحشاه من كنائنها ... ودائعاً ما اهتدى لها ثقل
كمكرمات الأستاذ تودعه ... الجود ولا يتهدي لها البخل
وهي قصيدة طويلة وفي هذا القدر منها كفاية وأرق منها وأشهى قصيدته الدالية التي مدح بها أبا الأسعاد الوفائي وأخاه ومطلعها:(2/280)
قد نفدت ذخائر الفؤاد ... فكم أر بي الدمع للسهاد
فؤاد من يحب مثل دمعه ... ودمعه مظنة النفاد
إذا هدا الليل فطفل مقلتي ... يبيت بالنزيف غير هادي
ومن بكى من النوى فقد رأى ... بعينه تقطع الأكباد
تمايلوا على الجمال ميلة ... فعلموها مشية التهادي
وما سمعت بالغصون قبلهم ... مشت بها أكثبة البوادي
فإن تجد يدي على ترائبي ... فلا تقل لغيبة الفؤاد
وإنما رفعتها لأنها ... كانت لهم حمائل الأجياد
حمر الخدود أن تغب فشكلها ... بناظري داخل السواد
لأجلي ذا الدمع جرى بشوقها ... فنظم الياقوت في نجادي
لا وأبي ومن يقل لا وأبي ... فقد تلي ألية الأمجاد
ما عثر الغمض بديل ناظري ... ولا انثنت لطيفهم وسادي
وهب رشاش مقلتي حبائلا ... فأين منها زلق الرقاد
آه وآه أن تكن ملء فمي ... فإنها مضمضة الصوادي
قد نفض السمع كلام غيرهم ... كما نفضت الصبر من مرادي
أعاذ لي فللهوى غواية ... بعت بها كما ترى رشادي
ولعت بي وشعلتي كمينة ... بقادح يعبث في زنادي
دع الهوى يعبث وبي وإن تشا ... فعدّني من عذبات واد
ما لحق اللوم غبار عاشق ... حدابه من النسيب حاد
أما ترى الأقاح حول لمتى ... حكى ابتسام البرق في البوادي
بشرني طلوعه بأن لي ... صبح وصال لدجى بعادي
ولم أقل مناضل تجردت ... وأركزت بجانب الأغماد
كان شيب الشعرات ألسن ... على ضياع رونقي تنادي
لبست ما أضاعني فأسوتي ... كأسوة الجمرة في الرماد
وحاك في الرأس ضياه خيمة ... ذات طنا بين إلى الأفواد
كأنها عمامة لبستها ... من يد مولاي أبي الأسعاد
مجرد العزم فرنده التقى ... وغمده تبسم الأجياد
ما عرك الجدب أديم أرضه ... ومن يديه فوقها غواد
أما ولو ببابه احتمى الدجا ... لما اختشى خطب سياج عاد
أو دخل النهار تحت ذيله ... ما زحف الليل على العباد
لقيته ومن رأى بني الوفا ... فقد رأى أهلة الأعياد
الضاربين رفرفا على العلي ... الواضحين غرر الرشاد
هم البحوران حبوا أو اجتوا ... قلت الحبي دارت على أطواد
تميزوا في الأولياء مثل ما ... تميز الملوك في الاجتاد
هم الذين فرعوا خصائص ... الملوك من خصاصة الزهاد
قد نقد المجد لهم صفاتهم ... نقد فتاة الحسن للجياد
وقد رأيت فرقدي بني الوفا ... كلاهما لمن يضّل هاد
كلاهما منبع فضل وهدى ... يكرع فيه حاضر وباد
فيا مفيض البركات ذكره ... إن نفدت راحلتي وزادي
أرسلني الحب إليك قاصدا ... وأرتحجى كرامة القصاد
وفي يدي من المديح تحفة ... قليلة لمثلها الأيادي
وباثنتين منك أن أجزتني ... غنيت من جوائز الأنشاد
بنظرة جالبة الوداد ... ودعوة قامعة الفساد
آه ويا رب عسى عناية ... وتستقال عثرة الجواد
وتستقر مقلتي بمائها ... واكتفى من الورى جهادي
كم أزرع الشكر وما لزرعه ... إذا أتى الأبان من حصاد
وأتبع الهوى بكل غادر ... ليس هواه في سوى عنادي
فأنفث الرقي على مخبل ... وأطلب الحر الثمن جماد(2/281)
ولي حظوظ لا تفيد جملة ... كما يخط الطفل بالمداد
تشعبت من الصبا وناصبت ... على السرى مخارم البلاد
بين هوى لخاتل ومدحة ... لباخل وفرقة لعاد
نفرت من قصائدي لأنها ... إلى الكثير سلم التعادي
لا أسفا على ذوات أسطر ... فإنها مراود الأحقاد
ألية لولا هوى بني الوفا ... منزل منزلة اعتقادي
وإن تكون منهم التفاتة ... تثبت في شهرة السداد
لما نظمت ادخرتها وسيلة ... ونعم ما ادخرت من عباد
ومن عقوده الزاهية سلسلته التي نظم بها قلائد إلا جادة وهي في مدح الاستاذ أبي المواهب البكري ومستهلها.
يا مبتدع العذل إن عذلك أشراك ... عذرا لعذار رميت منه بأشراك
للناس غرام يا عاذلي وغرامي ... من سرب ظبا النقا بألعس مضحاك
تسبيك بديباج خده شعرات ... قد غمنمها السحر والجمال لها حاك
تالله وما الحسن غير حسن عذار ... فانظره وسلني فقد تريبك عناك
ما خط عذاره سوى حسنات ... يا رب وأرجوا بذي الصحيفة ألقاك
يا بدر كما جئت للحسان ختاما ... المسك ختاما أتى لحسن محياك
أقسمت بسطر كاللاز ورد بخد ... كالعسجد حلته وجنتاك فحلاك
ما فيك سوى نقضك العهود معيب ... وأفعل ففؤادي على فعالك يهواك
أنعمت صباحا يا من بدا كصباح ... والليل بخير من الذوائب مساك
ما شئت فزدني أسى أزدك ودادا ... ما أجهل من يدعى هواك ويشناك
قد كنت وكنا وأنت بدر دجانا ... واليوم فلم يا هلال نحرم رؤياك
هل كان من الرشد أن تقاطع مثلي ... يا حب وتنقاد مع غواية تنهاك
هب أن رقبيي عليك مثلي وظني ... ما كان رجائي أن العدواة مجناك
إن كان عقاب الذي يحبك هذا ... أفديك فقل لي فما تركت لا عداك
أجفي وأنا العندليب فيك وعار ... تصغي لصدي عاذلي وتطرب أذناك
لا تصغ لدعوى السوى فليس سواء ... مغريك وتزوير ما ادّعاه ومغراك
لو أنك أنصفت لاعتملت بأني ... مضناك وكلهم لكيدي مضناك
يا عصن وإن دمت لم تكن لعتابي ... لا غرولي العذر في إذاعة شكواك
أشكوك لمن تطلب الملوك رضاه ... من فاق جميع الورى بعنصره الزاك
من نسل أبي بكر الإمام إمام ... للودد والفضل والولاية ملاك
ذو الرفعة أعني أبا المواهب من لي ... بالبشر مدى الدهر والسماحة يلقاك
يمسعه تحد من يديه فائض بحر ... لا تنضب سحب البنان منه بإمساك
واستدر به واعتقد وخذه حساما ... عن كل حسام أبو المواهب أغناك
إن تأت له خائفاً وأنت محب ... لابد وأسد العرين ما تتوقاك
يا بحر لآل ويا غمام نوال ... طوبي لموال دنا إليك ووالاك
مولاي أقل عثرتي فليس مقيل ... والحب الجفاني وقل صبري الأك
من مثلك يا ابن الكرام طبت نجارا ... وازددت فخارا فزد يزيدك مولاك
قد أطلعك الله بين قومك بدرا ... لا زلت مثيراً بهم وهم لك أفلاك
يهتز على الحالتين منك حسام ... بدلا وخصا ما كسيف جدك فتاك
يا عترة ذاك الإمام فاق وفقتم ... إن قصر مدحى لكم فعجزي أدراك
ما المدح بمجد سوى الوصول إليكم ... أنتم درر الكون والمدائح أسلاك
لا زال على سيد الورى وعليكم ... أزكى صلوات من السلام بإملاك
ما جاور سر الهوى فؤاد محب ... في الناس وما ذل في المحبة أملاك(2/282)
وكتب إلى العلامة عبد الرحمن العمادي مفتى دمشق وقد أصابه رمد:
فدا لعينيك دون الناس عينائي ... وكل عضو فداه كل أعضائي
نوّد لو كان مودوعاً بأنفسنا ... ما تشتكيه بعين منك رمداء
وأنت لا عن حجاب كنت ناظرنا ... فارفع حجابك وانظر للأحياء
وكتب إلى ابنه إبراهيم يهنئه بمولود:
أتانا بشير الوليد الجديد ... فساق إلينا حياة وبشرى
فلا زلت مولاي حتى ترى ... هلالك مثلك قد سار بدرا
وقال يخاطب بعض الصدور وكان الفتح قدم من الحج فأهداه تمرا:
أحسن ما يهديه أمثالنا ... من طيبة من عند خير الأنام
بعض تميرات إذا أمكنت ... اهداؤها ثم الدعا والسلام
ومن رباعيا قوله:
لا تبد لمن تحبه ما أبدي ... واصبر فلعل الصبر يوماً يجدي
إظهار محبتي لمن أعشقه ... صارت سبباً لطول عمر الصد
وقوله أيضاً:
زروا جل لمسمعي كؤس اللفظ ... واجعل كيدي غمدا لسيف اللحظ
بل زروا هجر ولا تخف مظلتي ... ما أوردني البلاء إلا حظى
وقوله:
من أرقي قد استلذ الأرقا ... ويلاه ومن أعشقه قد عشقا
من ينقذني منه ومن ينقذه ... أفسني حرقا فيه ويفني حرقا
ومن نوادره قوله في مدح الأمير محمد بن فروخ:
عجبا لسيف لحاظ من أحببته ... يزداد صقلامع طراوة حسنة
ويظل يفتك في الأسود كأنه ... سيف ابن فروخ بدا من جفنه
وأنفس نفائسه تضمينه المشهور لمصراع الرئيس ابن سينا:
لا يدعى قرلو جهك نسبة ... فأخاف أن يسود وجه المدعى
فالشمس لو علمت بأنك دونها ... هبطت إليك من المحل الأرفع
ومن روائعه قوله:
أيا رب جعلت متاعي القريض ... وقد كان قدما يعدّ السنينا
فلم لا وقد درست سوقه ... كاطلال أصحابه إلا قدمنا
ولابد للشعر من رزقة ... فيا ويح من يقصد الباخلينا
فها أنا ذا شاعر واقف ... ببابك يا أكرام إلا كرمينا
ومحاسنه كثيرة وفي هذا القدر كفاية وكانت وفاته بالمدينة المنورة ليلة الخميس لثمان بقين من صفر سنة اثنتين وخمسين وألف ودفن ببقيع الغرقد.
فخر الدين بن زكريا بن إبراهيم بن عبد العظيم بن أحمد القدسي المعروف بالمعري الحنفي تقدم أبوه زكريا وكان فخر الدين هذا عالما فقيها نبيلاً رحل إلى القاهرة وأقام بالجامع الأزهر مدة تفقه بالشهاب السوبري وأخذ الحديث عن أبي الحسن بن عبد الرحمن بن محمد الخطيب الشرهيني الشافعي بعد قراءته عليه شرح النخبة في المصطلح وأخذ علم الأصول والفروع عن أبي الإخلاص حسن الشرنبلالي ورجع إلى القدس وانقطع في آخر أمره للتدريس والأفادة بحجرة بالمسجد الأقصى بقرب رواق الشيخ منصور فاشتهرت الآن بخلوة المعري وصار أماما بالسلطانية بالمسجد الأقصى وكانت وفاته في سنة سبعين بعد الألف ولن يعقب.(2/283)
الأمير فخر الدين بن قرقاس بن معن الدرزي الأمير المشهور من طائفة كلهم أمراء ومسكنهم بلاد الشرف ولهم عراقة قديمة ويزعمون أن نسبتهم إلى معن بن زائدة ولم يثبت وكان بعض حفدة فخرة الدين حكى لي عنه أنه كان يقول أصل آبائنا من الأكراد سكنوا هذه البلاد فأطلق عليهم الدروز باعتاد المجاورة لا أنهم منهم وهذا أيضاً غير ثابت فإنهم منشأ زندقة هذه الفرقة وكثرتهم وفخر الدين هذا أولى إمارة الشرف من جانب السلطنة بعد موت أبيه وعلا شأنه وتدرج إلى أن جمع جمعا كبير أمن الكبان واستولى على بلاد كثيرة منها صيدا وصفد وبيروت وما في تلك الدائرة من أقطاع كالشقيف وكسروان والمتن والغرب والجرد وخرج عن طاعة السلطنة ولما وصل خبره إلى مسامع الدولة بعثوا المحاربته أحمد باشا الحافظ نائب الشام وكثيراً من أمراء هذه النواحي فلم يقابلهم وهرب إلى بلاد الفرنج وأقام بها سبع ستين إلى أن عزل الحافظ عن نيابة الشام فطلع إلى مستقرة في شوال سنة سبع وعشرين وألف وزاد بعد ذلك في الطغيان والاستيلاء على البلاد وبلغت أتباعه إلى نحو مائة ألف من الدروز والسكبان واستولى على عجلون والجولان وحوران وتدمر والحصن والمرقب وسلمية وبالجملة فإنه سرى حكمه من بلاد صفد إلى إنطاكية وتنبل ولده الأمير علي وولى حكومة صفد وكان وقع بين فخر الدين بني سيفا حكام طرابلس الشام حروب شديدة ودهمهم مرة فنهب طرابلس وأباد كثيراً من ضواحيها وكان سبباً لخراب هاتيك البلاد ثم صاهر بني سيفا هو وابنه وتزوجا منهم وجاءهما أولاد ولما ولى نيابة الشام الوزير مصطفى باشا بعد عزلة عن مصر في سنة ثلاث وثلاثين قصده بعسكر الشام وكان الشاميون قد خامروا عليه فلما وقع المصاف بين الفريقين بالقرب من غجر ولى العسكر الشامي عرباً فانكسر مصطفى باشا كسرة منكرة وقبض عليه ابن معن وأخذه إلى بعلبك مقيداً في الباطن مطلوقا في الظاهر وبقي عنده إلى أن وصل الخبر إلى دمشق فاجتمع علماؤها وكبراؤها وذهبوا إلى ابن معن ورجوا منه فكاله فأطلق سبيله وقدم دمشق فانتقم ممن كان السبب له في الركوب ورجع فخر الدين إلى بلاده ولم يزدد بعد ذلك الاعتوا وكبرا وبلغت شهرته الآفاق حتى قصده الشعراء من كل ناحية ودحوه ورأيت مدائحه مدونة في كتاب يبلغ مائة ورقة وأكثرها قصائد مطولة وأما المقاطيع فلم أستحسن منها إلا هذا المقطوع أنشده إياه عطاء الله السلموني المصري يخاطبه به:
يراعك أن أبكيته ضحك الندى ... وعضبك أن أضحكته بكت العدا
قسيمة هذاك اعتدى قط رأسه ... وسيمة هذا قط رأس من اعتدى
ولما تحقق السلطان مراد مخالفته وتعديه بعث لمقاتلته الوزير المعروف بالكوجك المقدم ذكره وعين معه أمراء وعساكر كثيرة فركب عليه وقتل أولاً ابنه الأمير عليا ثم قبض آخرا عليه وجهزه إلى طرف السلطنة فقتله السلطان وقد تقدم تفصيل ذلك في ترجمة الكوجك وكان قتله في سنة ثلاث وأربعين وألف وأنشد بعض الأدباء في ذلك:
ابن معن ما كان إلا خبالا ... ضعضع الكون واستمال ومالا
مكن الله منه أحمد باشا ... وكفى الله المؤمنين القتالا
ورأيت في المجموع الذي جمعت فيه مدائحه أن ولادته كانت في سنة ثمانين وتسعمائة وقيل في تاريخ ولادته خطاباً لوالده:
يا أمير الجود هنئت بمن ... آنس الكون وحيا إلا هلا
قد غدا الدين مفتخرا ... أرخوه فخر دين هلا(2/284)
والد رزية طائفة كبيرة ينتسبون إلى رجل من مولدي الأتراك يعرف بالدرزي وقد ظهر في زمن الحاكم بأمر الله العبيدي هو ورجل أعجمي يقال له حمزة وكان الحاكم لعنه الله يدعى الإلهية ويصرح بالحلول والتناسخ ويحمل الناس على القول بذلك وكان حمزة والدرزي ممن وافقوه وأظهروا الدعوة إلى عبادته والقول بأن الإله حل فيه واجتمع عليهما جماعة كثيرة من غلاة الإسماعيلية فثار عليهم عوام المصريين فقتلوا أكثرهم وفرقوا جمعهم وذكر صاحب مرآة الزمان أن الدرزي المذكور كان من الباطنية مصر أعلى إدعاء الربوبية للحاكم لعنهما الله تعالى وصنف له كتاباً ذكر فيه إن الإله حل في علي وإن روح علي انتقلت إلى أولاده واحداً بعد واحد حتى انتقلت إلى الحاكم وتقدم بذلك عند الحاكم وفوض إليه الأمور بمصر ليطيعه الناس في الدعوة وأنه أظهر الكتاب فأعطاه المسلمون وقتلوا جماعته وأراد واقتله فهرب منهم واختفى عند الحاكم فأعطاه مالا عظيماً وقال له أخرج إلى الشام وانشر الدعوة هناك وفرق المال على من أجاب الدعوة فخرج إلى الشام ونزل بوادي تيم الله بن ثعلبة غربي دمشق من أعمال بانياس فقرأ الكتاب على أهله واستمالهم إلى الحاكم وأعطاهم المال وقرر في نفوسهم التناسخ وأباح لهم الخمر والزنا وأخذ يبيح لهم المحرمات إلى أن هلك لعنه الله تعالى فهذا أصل وجود الدروز والتيامتة في هذه البلاد وأما القول فيهم من جهة الاعتقاد فهم والنصيرية والإسماعيلية على حد سواء والجميع زنادقة وملا حدة وقد سرح قاضي القضاة ابن العزو الشيخ برهان الدين بن عبد الحق من الحنفية والشيخ صدر الدين بن الزملكاني والشيخ البلاطنسي والشيخ جمال الدين الشر بيني من الشافعية والشيخ صدر الدين بن الوكيل من المالكية والشيخ تقي الدين بن تيمية من الحنابلة في فتاويهم وغيرهم إن كفر هؤلاء الطوائف مما اتفق والنصارى لأنهم لا تحل منا كحتهم ولا تؤكل ذبائحهم بخلاف أهل الكتاب وإنهم لا يجوز إقرارهم في ديار الإسلام بجزية ولا بغير جزية ولا في حصون المسلمين وجزم الأرواح وحلول الإله في علي والحاكم ومن طالع كتبهم عرف حقيقتهم الخبيثة فإن فيها ما يستبشع جداً ومن جملة معتقدلتهم إن الإلهية لا تزال تظهر في شخص بعد شخص كما ظهرت في علي وشمعون ويوسف وفي غيرهم وأنها ظهرت بعد ذلك في الحاكم وأن كل دور يظهر فيه إله ويقولون هو الآن ظاهر في مشايخهم الذين يسمونهم العقال ويحجدون وجوب الصلاة وصوم شهر رمضان والحج ويسمون الصلوات الخمس بأسماء غيرها ويوالون من تركها ويجعلون أيام شهر رمضان المطهرة أسماء ثلاثين رجلا ولياليه أسماء ثلاثين امرأة وهكذا يقولون في سائر الشريعة المطهرة وينكرون قيام الساعة وخروج الناس من قبورهم وأمر المعاد ويقولون بتناسخ الأرواح وانتقالها إلى أبدان الحيوانات وإن من ولد في تلك الليلة انتقلت روح من مات فيها إليه ويقولون إن العالم أرواح تدفع وأرض تبلع وبالجملة فعتقدهم ضلال كله وإنما ذكرت حالهم وأطلت فيه لكثرة تشعب الآراء فيهم فهذا يقرر ما هم عليه في الأذهان وبالله تعالى التوفيق والشقيف بفتح الشين المعجمة وكسر القاف وسكون الياء المثناة تحت ثم فاء ويعرف بشقيف أرنون بفتح الهمزة وسكون الراء المهملة وضم النون وسكون الواو ثم نون في الآخر قال في المشترك وهو اسن رجل أضيف الشقيف إليه ويعرف أيضاً بالشقيف الكبير وهو حصن بين دمشق والساحل بعضه مغارة منحوتة في الضحر وبعضه له سور وهو في غاية الحصانة وعلى القرب منه شقيف آخر يعرف بشقيف تبرون بكسر التاء المثناة فوق وسكون الباء وضم الراء المهملة وسكون الواو ونون في الآخر وهي قلعة حصينة من جهة الأردن على مسيرة يوم من صفد في سمت الشمال قال في مسالك الأبصار وليست من بلاد صفد وأهل هذا العمل رافضة والله أعلم.(2/285)
فخر الدين بن محمد الخاتوني المكي الكاتب الشاعر ترجمة الأخ الفاضل مصطفى بن فتح الله فقال في وصفه كاتب ماهر وشاعر قلد الطروس من نظمه عقود الجواهر جرى في ميدان القريض ملء عنانه فاحتيي من زهرات رياضة واقتطف ورد جنانه ولد بمكة وبها نشأ على طريقة حسنة وأخذ عن شيوخ عصره علوما عديدة وبرع في الأدب وبه اشتهر وكان عظيم الهيئة حسن الصورة وضىء الوجه نيراً للحية يغلب عليه صفاء القلب ورقة الطبع والانطباع العامة الناس والتغابي عما لا يرضى من أحوالهم ومن شعره قوله في مليحة اسمها غريبة:
رب سمراء كالمثقف لما ... خطرت في الغلائل السندسية
غادة تسلب العقول ولا بدع ... وأعمال طرفها سحرية
جبلت ذاتها من المندل الرطب ... ففاقت على الرياض الذكية
ما لها في الغصون ندوليس الند ... إلا من ذاتها المسكية
منها:
هي للقلب منية ولكم من ... صدها الصعب ذاق طعم المنية
ذات لحظ وسنان يفعل مالم ... يفعل السيف في قلوب الرعية
ومحيا من دونه يخسف البدر ... إذا لاح في الليالي البهية
حوت الحسن كله فهي مما ... أبدع الله صنعه في البرية
شهوها عند التلفت بالظبي ... وهيهات ما هما بالسوية
كل شيء يخفي إذا ما تبدت ... وهي كالشمس لا تزال مضية
ليت شعري وأي شمس بشرق ... لك تبقى إذا بدت غريبة
وقوله يرثي السيد أحمد بن مسعود:
على فقد بدر التم أحمد فلتجد ... لعظم الأسى من كل ندب شؤنه
وإلا فمن ياليت شعري بعده ... إذا هي لم تسمح تسح جفونه
فتى كان والأيام للجدب كلح ... إذا أمّه العافي أضاء جبينه
فتبصر بدراً منه قد تم حسنه ... وتنشق روضا قد تناهت فنونه
تجود وأن أودى الزمام يساره ... بما قد حوت من كل وفر يمينه
فقل للذي قد جدّ في طلب الندى ... رويدك إن الجود سارت ظعونه
وقد غاب من أفق الكمال منيره ... كما غار من بحر النوال معينه
وأصبح وجه المزن للحزن كالحا ... كأن لم تسكن من قبل قرت عيونه
سأبكيه والآداب أجمعها معي ... بدمع تود السحب يوماً تكونه
ولم لا عليه الفخر يبكي تأسفا ... وقد حق منه البين وهو خدنيه
فذاك الذي في مثله يقبح العزا ... ويحسن الأمن هواه مسكونه
عليه من الله التحية ما وفت ... بفرقته من كل حي منونه
ورحمته ما خن أوناح واله ... نأي عنه من بعد التداني فرينه
وكانت وفاته في نيف وخمسين وألف.
الأمير فروج بن عبد الله أمير الحاج الجركسي البطل المتفوق الثابت القلب هو في الأصل من مماليك الأمير بهرام بن مصطفى باشا أخي الأمير رضوان حاكم غزة المشهور ثم بعد وفاة سيدة تنبل وشاع أمره بالشجاعة والسخاء والمروءة حتى ولى حكومة نابلس وإمارة الحاج وتصرف في هذا المنصب تصرفاً عجيباً وصرف جهده في حراسة الركب وكان من المعمرين الصالحين شجاعاً جواداً مدبراً عاقلاً حازماً له خبرة بالأمور معززاً مكرماً ولم يزل في هذا المنصب إلى أن مات بمكة المشرفة في سنة ثلاثين وألف ودفن بجوار الله تعالى.
فضل بن عبد الله الطبري المكي مفتى الشافعية بالبلد الحرام وإمام مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذكره السيد ابن معصوم فقال في وصفه خلف ذلك السلف والمعيد من عهد مجدهم ما سلف الفضل اسمه وسمته النافحة بأرجه نسمته رفع عماد ذلك البيت فأقر عين الحي منهم والميت وهو الآن مفتى الشافعية بالبلد الحرام والملحوظ بعين الإجلال والاحترام يشنف السطور بفرائده ويفوف الطروس بفوائده مع انافته في الأدب بمكانه شيد من ربعها المشيد أركانه فاجتلى بها نجوم لياليه واقتنى منها منظوم لآليه ثم قال ولا يحضرني من شعره غير قوله في التفضيل بين مسمعين يعرف أحدهما بركن والآخر بالقصبي:
تخالف الناس في ركن فقدّمه ... قوم وقوم عليه قدّموا القصبي(2/286)
وقائل الحق والأنصاف قال متى ... أسمعهما ألق أستاذ وألق صبي
وذكره غيره فقال ولد بمكة وبها نشأ وأخذ عن أكابر الشيوخ وله شعر كثير منه قوله:
لا تضيع سهللا فرس ... العمر بلا طاعة ولا تتعلم
سوف يدري الجهول عند انقضا ... العمر سدى كيف ضاع منه فيندم
وقوله مؤرخاً للسيل الواقع بمكة في سنة تسع وثلاثين وألف.
سئلت عن سيل أتى ... والبيت منه قد سقط
متى أتى قلت لهم ... مجيئه كان غلط
ومن مؤلفاته التبجيل لشأن فوائد التسهيل في العروض وله من قصيدة يمدح بها الشريف زيد بن محسن:
يامي حيا الحيا أحيا محياك ... هلا بأعتاب عتبي فاه لي فاك
من لي إليك وقد أودى صدودك بي ... ولا تزالين طوعي لي أفاك
يا هذه لم أزل من بعدها ودنوّ ... السقم من بعدها موثوق أشراك
تيهي أطيلي التجني والجفاء وما ... أردت فاقضيه بي فالحسن ولاك
رفقا رويداً كأني بالعدول علي ... تطاول الصدفي ذا الصب عزاك
منها:
حسبي دليلاً على شوقي المبرح بي ... إني لثمت عدولي حين سماك
والجفن في أرق والقلب في حرق ... والعين في غرق إنسانها باك
يا مهجة الصب غير الصبر لبس وقد ... جئت عليك بما لاقيت عيناك
منها:
وأجملي الود وأخشى عدل ذي الشرف ... المؤيد العز مولائي ومولاك
زيد بن محسن سلطان الأنام أمام ... الحضرتين أمان الخائف الباكي
منها:
يهتز للعفو من حلم ولا طرب الشمول ... من شمس شماس وبتراك
وذكره أرج الأرجاء شاسعة ... فطيب عرف الصبا من عرفه الذاكي
يا نفس آمله بشراك بشراك ... فلو قضيت بإذن الله أحياك
منها:
لو كان في عصره بعد النبوة ... مبعوث لكان بلا دفع وأشراك
لو طرزت باسمه الرايات ما حذرت ... أصحابها غلبا أو حطم دهاك
منها:
قد زاد في شرف البطحاء إنك في ... جيرانها خير فعال وتراك
مولى الجميل ومنجاة الدخيل ومنحاة ... الخديل سرى عين أملاك
قوله في مطلع القصيدة فاه لي فاك جرى فيه على اللغة الضعيفة وهو لزوم الألف للأسماء الخمسة في جميع الحالات كقوله أن أباها وأبا أباها وكانت وفاته بمكة المشرفة في رابع عشري شعبان سنة أربع وثمانين وألف ودفن بالمعلاة.
فضل الله بن شهاب الدين بن عبد الرحمن العمادي الدمشقي الحنفي تقدم جده وأبوه وعماه إبراهيم وعماد الدين وكان فضل الله هذا من فضلاء الوقت وبلغائه وهو من المتنبلين في الأخذ بأطراف الفضائل والاشتمال على كرم الشمائل ويرجع مع ذلك إلى شعر باهر ونثر معجب وكان من حين نشأته إلى مماته متفيئا ظلال النعمة آخذا من التنعم حظه وجاهه في دولة آبائه يحل فرق الفراقد ويزاحم مناط الثوابت وكان معتنياً بالاشتغال من طليعة عمره فقر أفنون الأدب على شيخنا المحقق إبراهيم الفتال والشيخ محمد العيشي وتخرجبأبيه وعميهحتى تفوق وبلغ من الفضل ما بلغ وكان والدي رحمه الله تعالى يفضله ويرجحه على كل من عداه من أقرانه ويقول إنه مما يهزني إلى الطرب حسن منطقه ولطف محادثته وأعهده ينشد في حقه هذه الأبيات غير مرة وهي:
صاحبته فرأيت البدر كلمني ... وجنته فرأيت البحر ينهمل
فيا رعى الله مخدوما نسامره ... وقد تناسب فيه المدح والغزل
قد حازبا كورة الأفضال وهو لدى ... باكورة السن لا زالت له الدول(2/287)
وكان والده فرغ له عن المدرسة الشبلية فدرس بها ولما أناخ الدهر على بيتهم بكلكله ووجهت عنهم الفتيا انزوى مع أبيه في زاوية الوحدة مدة إلى أن ولى المولى محمد بن محمود المعروف بمفتش الأوقاف وهو الذي صار آخر مفتى التخت العثماني قضاء الشام ظهر ظهور الكنز المخفي وكان قاضي القضاة المذكور أقرأ التفسير فكان صاحب الترجمة يحضر درسه ويبدي أبحاثاً فائقة فاشتهر فضله وسما قدره ثم بعد مدة من عزل المولى المذكور عن قضاء الشام سافر المترجم إلى الروم واجتمع بشيخ الإسلام يحيى المنقاري فأقبل عليه ووجه إليه رتبة الداخل ورجع إلى دمشق ولما توفي والدي أعطى مكانه قضاء بيروت على طريق التأبيد ولم تبق عليه كثيراً وكان وراءه للزيادة مواعد ما طله الزمان بها فأرتبط في داخل داره لأدب يقتبسه أو كتاب يطالعه وكان مولعا بالآداب الغضة يهصر أغصانها ويفصد دنانها وكنت لما رجعت من الروم أنست بمجلسه أياماً فوجدته يرجع إلى إتقان في الأدب وذكاء في الخاطر وحدق في البلاغة وتوسع في البضاعة وعثرت بنبذ من أشعاره البهية النقية في بعض المجاميع فصرفت وجه الهمة إلى أخوات لها فمن ذلك قوله:
مذ مال خرت له الأقمار ساجدة ... خوط به من رحيق الثغر أسكار
حط اللئام فغاب البدر من خجل ... وقديد اللدجى في الصبح أسفار
أضحى كجسمي منه الخصر ليس يرى ... ومنطقته من العشاق أبصار
وشاحه مثل قلبي خافق أبداً ... ولحظه الفاتن الفتاك سحار
كأنما مشعرة في خال وجنته ... دخان قطعة ندّ تحتها نار
وهذا معنى لطيف وقد سبق إليه فمنه قول ابن سناء الملك:
سمراء قد أزرت بكل أسمر ... بلونها ولينها وقدها
أنعاسها دخان ندخالها ... وريقها من ماء ورد خدها
وقول السيد محمد العرضي الحلبي:
على وجناته خال عليه ... تبدت شعرة زادته لطفا
كقطعة عنبر من فوق نار ... بدامنها دخان طاب عرفا
ولصاحب الترجمة:
ومد يرلنا المدام بكأس ... مثل عقد حبابه منظوم
هو بدر وفي اليمين هلال ... فيه شمس وقد علتها النجوم
من دنادنه يشم عبيرا ... من شذاه رحيقه مختوم
حي يا صاح بالفلاح عليها ... واصطبحها تنفك عنك الهموم
ودع العمر ينقضي بالتصابي ... وكذاك الوشاة دعهم يلوموا
قوله هو بدر قد أحسن في هذا الجمع لكن تشبيه الكأس بالهلال محل نظر والمتعارف تشبهه بالبدر لتمام استدارته كما في قول الأستاذ ابن الفارض:
لها البدر كأس وهي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
إلا أن يكون قصد الزورق فإنه شبه به الهلال كما في قول ابن المعتز:
وانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
فعكس التشبيه وقد وقع لي في حل بيت فارسي سئلت تعربيه فقلت:
ولما أدار الشمس بدر لا نجم ... بأفق الهنا بين الهلالين في الغسق
عجبت له بيدي لنا الصبح جيدة ... وما غاب عنا بعد في كفه الشفق
فالهلالان هنا الباهم والمسبحة إذا قبضا على الكأس كما يفعله الأعاجم والأروام في مناولة إناء المشروب وقد اقتفى أثرهم فيه أهل بلادنا فينشأ منه صورة هلالين من كل منهما هلال فهو تشبيه بلا شبيه ولصاحب الترجمة:
أطار الهوى من جمر خديه جذوة ... فأصلى بها قلبي الذي ضم أضلعي
وصعد ممن بعد ما قد أذاقه ... وقطره من مقلتي درأ دمعي
وأحسن منه قول قول كمال الدين بن التبيه:
تعلمت علم الكيمياء بحبه ... غزال بجسمي ما بعينيه من سقم
فصعدت أنفاسي وقطرت أدمهي ... فصح من التقطير تصغيرة الجسم
وله:
فديتك ابني الأعراض عني ... ولم أعرف له سببا وحقك
سوى إني المقيم على ودادي ... وإني يا حبيبي عبد رقك
وله:
دائي الحب والأماني طبيبي ... والنوى والفراق من عوّادي
ودوائي ذكر اللوا وسميري ... ضيف طيف موكل بسوادي
وله:(2/288)
ودعني من نواه أو دعني ... شوقاً يزيد الفؤاد نسرانا
وقال لي والبكاء يغلبه ... ياليت يوم الفراق لا كانا
وله غير ذلك وكانت ولادته في سنة خمس وأربعين وألف وتوفي قبيل الظهر بمقدار ساعة من يوم الأربعاء خامس عشري رجب سنة ست وتسعين وألف وصلى عليه بعد العصر بالجامع الأموي ودفن بمقبرة باب الصغير ومن غريب ما اتفق لي في هذا التاريخ إنني لما بيضت منه التبييض الأول كنت وصلت في تبييضه إلى هذا المحل وشغلني العوائق أياماً عن تبييض شيء منه مع إنه لم يعهد لي ذلك حتى مات صاحب الترجمة فأدرجته في محله الذي يذكر فيه وأغرب من ذلك توافقه مع والدي رحمه الله تعالى في أشياء كثيرة يعرفها من طالع الترجمتين والثانية تأتي قريباً ومن جملة الموافقات موافقتهما في الاسم والعمر والفضل وكان ذلك هو الباعث لي على رثائه بهذه الأبيات وهي:
لهفي على الفضل وحيد دهره ... قضى فكل لا هج بذكره
ندب به الأيام قد تشرفت ... عزفهان الدهر عند قدره
حكى أبي في كل وصف ناضر ... ما المسك الأشمة من عطره
بكيته حتى استحالت عبرتي ... دما وهدى مهجتي في أثره
وكيف لا أبكي موافقاً أبي ... في فضله وفي اسمه وعمره
؟فضل الله بن علي بن محمد بن محمد الأسطواني الدمشقي الحنفي رئيس الكتاب بمحكمة قاضي القضاة أحد أفاضل الكتبة إلا كامل وهو ابن خالتي وختني وكان من أفراد العصر في المعرفة والصلف وافر التنعم سخيا متودداً معاشر الزم فيما عهدته شيخنا الشيخ عبد الحي بن العماد العكري المقدم ذكره فقرأ عليه كثيراً واغتنمت في صحبته معه ليالي وأياماً ما زلت أذكرها ثم وفاة شيخنا المذكور شيخنا الشيخ رمضان العطيفي فقرأ عليه الدرر والغرر ومات شيخنا ولم يكمله فشرع في تتميمه على شيخنا الشيخ إبراهيم الفتال ثم بعد وفاة الفتال قرأ دروسا منه على شيخنا الشيخ عبد القادر بن عبد الهادي ودرس بالمدرسة الخاتونية والمقدمية وهي مشروطة لهم وسافر إلى الروم وحج وجمع من نفائس الكتب والذخائر ما لم يجتمع عند أحد من أبناء عصره وولى رياسة الكتاب ثم مرض وطال مرضه مدة إلى أن توفي وكانت وفاته في أوائل ذي الحجة سنة مائة وألف عن ست وخمسين سنة ودفن بمقبرة الفراديس المعروفة بتربة الغرباء عند أسلافه بني الأسطواني.(2/289)
فضل الله بن عيسى البوسنوي الحنفي نزيل دمشق الإمام الفنن الأستاذ الشهير كان أحد أعيان العلماء معرفة واتقانا وحفظا وضبطا للفقه وتفهما في علله مميز الصحيح الأقوال من سقيمها مستحضر الكثير من الفروع على تشعبها وكان عارفاً بالأصلين والحديث وفنون الأدب حق المعرفة نظاراً كثير الاشتغال حسن العقيدة في الصلحاء قرأ في بلدته بوسنة الكثير وحصل ثم ولى الإفناء ببلدة بلغراد وتعين بها كل التعين ثم خرج منها بنية الحج ودخل دمشق في سنة عشرين وألف وحج من طريقها في تلك السنة ولما رجع إلى دمشق توطنها واقتنى داراً داخل باب الجابية بمحلة الشيخ عمود ودرس أولا بالمدرسة الأمينية ثم أخذ المدرسة التقوية عن الشهاب العيثاوي في شهر رمضان سنة إحدى وعشرين وألف ووجهت إليه الحجرة التي في المشهد الشرقي المعروف بمشهد المحيا بالجامع الأموي واتخذها محلاً لدروسه الخاصة وقرأ عليه غالب أعيان الفضلاء في العلوم العقلية والنقلية وكان يقررها أحسن تقرير وكان إليه الغاية في القراءة والتفهيم وأفتى مدة طويلة بدمشق وكانت فتاويه مرغوبة مقبولة وأخذ طريق الخلوتية عن الشيخ العارف بالله تعالى الشيخ أحمد العسالي الخلوتي المقدم ذكره وصار خليفة وكان يلازم حلقه ميعاده ويدخل معه الخلوة وبنى مسجداً بمحلة الحسودية خارج دمشق بالقرب من جامع يلبغا ورتب فيه مبرات ووقف عليه حوانيت بسوق الرصيف قرب المدرسة الأمينية احتكرها من وقف المدرسة المذكورة وكان على ما مكن له من الطول الطائل والتوسع في الدنيا ممسكاً جداً خبيراً بأمر المعاش وحكى عنه إنه كان يقول ينبغي أن يكون حطب البيت قطعا كباراً لئلا يحصل إسراف في وقدها وكان مغرماً بمعاملة الفلاحين واتفق له إنه ادعى عليه لدى قاضي القضاة المولى عبد الله بن محمود العباسي المقدم ذكره بمبلغ أخذه زائد فأهانه قاضي القضاة إهانة بليغة ولم يكن عهد له إنه أهين مدة عمره فإنه كان موقراً محترماً عند كبار الوزراء والأعيان وبالجملة فإنه كان من صدور العلماء وكانت ولادته ببوسنة سراى في صفر سنة تسع وستين وتسعمائة وتوفي في نهار الخميس ثاني عشري صفر سنة تسع وثلاثين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من حضرة بلال الحبشي رضى الله عنه.
فضل الله بن محب الله بن محمد بن محب الدين بن أبي بكر تقر الدين والدي المرحوم الدمشقي المولد والوفاة أركن فضلاء الوقت البارعين وبلغائه المعروفين وكان المعرفة بفنون الأدب يجمع تفاريق الكمالات ويرجع معها إلى خط منسوب ولفظ عذب ومعرفة باللغتين الفارسية والتركية واستكثر في أوائله من القراءة على الشيخ أحمد بن شمس الدين الصفوري المقدم ذكره فأخذ عنه الفصاحة وتفتحت له أبواب الشعر ثم لزم الشيخ عبد اللطيف الجالقي فأخذ عنه الفقه وسما في حداثة سنة إلى مراتب أعيان الأدباء التي لا تدرك إلا مع الانتهاء وكان قوى البديهة حسن المناسبة حكى لي من لفظه قال كنت وأنا في سن ثلاث عشرة سنة معتنيا بالقلم التعليق فحضرت مجلسا للمولى أحمد بن المنلا زين الدين المنطقي وهو قاضي القضاة بالشام ومعه أعيان علماء دمشق في دعوة لوالدي فطلب من والدي أن يرى خطي فكتبت له في قرطاس هذين البيتين:
ألزمت شكرك منطقي وأنا ملي ... وأقمت فكري بالوفا مزعيما
ومتى أقوم بشكر نعمتك التي ... عقدت على من الخطوب تميما
فلما وقف على ما كتبته أعجبته مناسبته غاية الإعجاب فوقع تحته قول الشيخ الإمام التقى السبكي في ابنه:
أرى ولدى قد زاده الله بسطة ... وكمله في الفضل والعلم مذنشا
سأحمد ربي حيث أوتيت مثله ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا(2/290)
وحكى لي أيضاً أن والده دعى إلى وليمة وكان فصل القيظ قد اشتد فحضر وفي يده مروحة وكان الأديب أحمد بن شاهين أحد من حضر فقال جاءنا المحبي بمروحتين يعني المروحة الحقيقية وكبر اللحية وكان الشاهيني أحول فلما بلغ والدي مقالته قال هو رآها ثنتين وهي في نفس الأمر واحدة وله من هذا القبيل أشياء آخر وكان يحب المداعبة ويستعملها إذا خلا مع بعض خلانه وأذكر ليلة خرج الناس بالجامع ينظرون هلال شهر رمضان فرآه رجل من جيراننا وحده ولم يزل يومئ إليه حتى رآه معه غيره وعاينوه ثم جاء إلى الوالد مهنياً وهو مفتخر برؤية الهلال وحده فقال له أخشى على بصرك من تحديقك فيه أن لا تراه ليلة عيد الفطر وهذا سحر الكلام ومات أبوه وسنة ست عشرة سنة فاتصل بحذمة العلامة عبد الرحمن العمادي المفتى وتخرج بالاقتباس من ثوره والاغتراف من بحره وراض طبعة على أخذ نمطه في الإنشاء فصار منشئا بحقه وصدقه متجرا في ترسله وشعره وإن كان جيدا إلا أن نثره أجود وألطف موقعاً وأبدع صنعة وأنا بحمد الله تعالى قد أخذت الإنشاء عنه وتلقيت أساليبه منه كما قلت في ترجمته في كتابي التفحة حتى خصني بتعليم ما تفرد به من الإنشاء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وكان أخذ الحديث عن النجم الغزى وأجازه إجازة عامة في سنة ثمان وأربعين وألف ثم قصد سلوك طريق علماء الروم فسعى على الملازمة من شيخ الإسلام المولى يحيى بن زكريا وسافر لأجلها إلى حلب لما قدم إليها المولى يحيى في خدمة السلطان مراد في سنة ثمان وأربعين وألف وألف في سفرته هذه رحلته الحلبية وفرغ له أبوه عن المدرسة الدرويشية ودرس آخراً بالأمينية مضافة إليها ثم سافر إلى الروم في سنة إحدى وخمسين وألف رحلته الرومية وأقام بها مقدار سنة وانفصل عن مدرسة الأربعين ثم رجع إلى دمشق وأقام مشتغلا فيها بالتأليف ومن مؤلفاته شرحه على الآجرومية أطال الكلام فيه وذكر أشياء لطيفة ثم رحل إلى مصر في سنة تسع وخمسين في خدمة قاضيها المولى محمد بن عبد الحليم البورسوي وناب عنه في محكمة الصالحية وكان ممتعاً بالتفاته وحظى عنده كثيراً ثم ورد مورد الشهاب الخفاجي للتلقي منه وكان البورسوي يبغض الشهاب فوجد بعض حاشيته مسلكاً لذمه وقالوا إنما كان اجتماعه معه ليذمك عنده ويهجوك فانحرف عليه بسبب ذلك وغض عنه طرفه فلم يعد بعدها إلى مجلسه ولما عزل البورسوي استقر هو بالقاهرة ولم يزل مدة إقامته مشتغلاً بأخذ العلم على كبراء الجامع الأزهر منهم النوران على إلا جهوري وعلى الشبراملسي والشهاب الشويري وغيرهم ممن ذكره في رحلته المصرية ثم قدم إلى وطنه وهو مريض واسترسل به المرض حتى استغرق عمره فتخلى للتأليف وجمع كتاباً من مفردات الأبيات يحتاجها المنشئ في ترسلاته ورتبها على أبواب وكان كثير المطالعة لكتب الطب والمراجعة للأطباء حتى تمهر في علم الطب جداً وكان ملازم الحمية وسمعت من لفظه قبيل موته بأشهر أنه من منذ سبع عشرة سنة لم يأكل المشمش والعنب وكان شديد التوهم في أمر المزاج يتوهم أشياء بعيدة ويبني عليها واستمر مجانب الاختلاط مع الناس مدة إلى أن ولى أستاذي المرحوم شيخ محمد العزتي قضاء الشام فنبه حظه من ستة الغفلة وراسل شيخ الإسلام أبا سعيد في الشفاعة له برتبة قضاء آمد فأحسن بها إليه ثم بعد مدة سافر إلى الروم وذلك في تاسع المحرم سنة ثلاث وسبعين وألف وأقام بها أربع سنوات ولما توجه تركني وأنا ابن إحدى عشرة سنة وكنت ختمت القرآن فاتبدأت في الاشتغال من ذلك العهد وتعانيت نظم الشعر وأول شعر قلته هذه الأبيات كتبت بها إليه في صدر رسالة:
أتراه يسرني تبلاقي ... ونواه قد لج في إحراقي
كيف أسلو عهوده وغرامي ... فيه أضحى وقفاً على الأشواق
قد تصبرت بالضرورة حتماً ... وأرى الصبر عنه مر المذاق
فلعل الزمان يقضي بجمع ... لي من بعد طول هذا الغراق(2/291)
فكتب إلى من جملة رسالة وقد قرأت الأبيات القافية التي هي باكورة شعرك وعنوان نجاتيك إن شاء الله تعالى وعلوّ قدرك فإياك من الشعر فإنه كاسد السعر ويشغل الفكر وعليك بالاشتغال لتبلغ درجة الفحول من الرجال والله سبحانه يبقيك ومن كل سوء يقيك ويقرّ عين أبيك فيك وفي أخيك وكان لي أخ أصغر مني وهو الذي ذكره وكان اسمه فيض الله مات في غيبته فلما بلغه موته كتب إلى ولدي وواحدى أطال الله له البقاء وأدام له العز والارتقاء يعرض عليه والده بعد عرض السلام إنه لما قدم فلان وسألته عن أحوال الشام
ومن يسأل الركبان عن كل غائب ... فلا بدّ أن يلقى بشيراً وباعيا
فأخبر عن فقد شقيك من مدة وشهور عدة فغدا القلب دهشاً والبنان مرتعشا والجفن بدمعه فرق والقلب محترق وقد أظلمت في وجهي ديار الروم وعمت على قلبي غيوم الغموم فياله من خبر فتت الأكباد ومتع العين الرقاد كدر العيش وجلب الطيش.
وكان النوى يكفي لتشتيت شملنا ... فكيف إذا كان النوى والنوائب
وكنت أرجو بقاء لاحظى بعد طول هذه الفرقة بلقاء وهذه حسرة إلى الأبد وجمرة لا تكاد تخمد فلا حيلة إلا التسليم والرضى وإنا الله وإنا إليه راجعون بما قدر به وقضى فنسأله سبحانه أن يلهمنا جميل الصبر ويعظم لنا جزيل الأجر وأن يجعل ذلك خاتمة الكروب وقافية بيت الخطوب وما نقص من عمره وانكسف من بدره زيادة في عمر أخيه رأس المال ونتيجة جميع الآمال ففي بقائه عوض عن كل ذاهب وخلف عن كل غارب وإذا دعوت الله أن يمتعني بسمعي وبصري عنيته وإذا قلت اجعلهما الوارث مني فهو الذي أردته لذلك وارتضيته ووقع له في بلاد الروم ما جريات وأشعار وترسلات أثبت منها كثيراً في رحلته الأخيرة وهي أحسن آثاره وكان له أمان من الدهر ما طله بقضائها حتى مل الإقامة ويئس من الطلب فأشار إليه بعض إخوانه بعمل قصيدة للوزير أحمد باشا الفاضل فنظم قصيدته الرائية التي مطلعها:
طيف يمثله الغرام بفكره ... ورجا يحار بطيه وبنشره
حكى لي مراراً أنه لما دخل بها عليه تناول قرطاسها من يده وشرع في قراءتها إلى أن وصل إلى قوله منها:
وألفت صرف الدهر حتى أنه ... سيان عندي عسره مع يسره
فأعجبه البيت ثم سأله عن مطلبه فأنشده بيت الطغرائي:
أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلي قبلي
فزاد إعجاباً بمناسبته ووعده مواعيد أنجزت ولكنها تخلفت أياما فأخذته شدة القلق والغم لتأخرها ومما اتفق له إنه كان في ذلك الأثناء ماراً في بعض أزقة دار الملك وهو في غاية ضيق الصدر فسمع رجلاً من الروم يقول بلفظ عربي فصيح ولا بد في الأوقات وقت مبارك ففرج عنه وأخذ فأله منه فلم يمض أيام قليلة إلا ونالته شفاعة الوزير بقضاء بيروت ولم تطل مدة مقامه بعد ذلك بالروم فتوجه تلقاء الشام ودخلها في يوم الأحد غرة المحرم سنة سبع وسبعين وألف وأقام بها ثلاثة أشهر ثم توجه إلى بيروت وصبحني معه وأقمنا بها مقدار سنة ثم رجعنا إلى الوطن وعدنا إليها مرة أخرى وأقمنا بها مقدار عشرة أشهر ثم رجعنا أيضاً إلى الشام وتفرغ للتاريخ الذي جمعه وذيل به على تاريخ الحسن البوريني والتزم فيه التشجيع وهو أحد مادة تاريخي هذا وجمع ديوان شعره ومنشآته وها أنا مجرد لك قطعة من شعره يبتهج بها الخاطر فمن ذلك قوله من قصيدة مطلعها:
رعى الله أيام الشبيبة من عصر ... وهز نسيم العيش ريحانة العمر
وحيا بقاعا تنبت الحسن تربها ... وتبدي لنا الأقمار من فلك الخدر
حللت بها والدهر أبيض مقبل ... وعيشي مقيم في خمائله الخضر
تحوط بي الغيد الحسان أو أنسا ... كما اشتبكت زهر النجوم على البدر
وقوله من أخرى:
عميد قلبه يجب ... يوجد الخل يضطرب
إذ أعنت له الذكرى ... بنار الشوق يلتهب
فلا وعد يعلله ... ولا يوصل فيرتقب
فليلي كله فكر ... ويومي كله تعب
فحيا ربع كاظمة ... ولا زالت به السحب
وعيشا مر لي رغدا ... عليه الصب ينتحب
يبيت الطرف في دعة ... بمن يهواه يصطحب(2/292)
هلال بالبها تعنو ... له الأقمار والشهب
يروم الريم يحكيه ... ولكن فاته الشنب
يميل بغصن قامته ... إذا ما هزه الطرب
بدا والكأس في يده ... زها باللؤلؤ الحبب
فمسكته غدا قلبي ... وعن عيني يحتجب
فمن أفتاه في تلفي ... ترى للهجر ما السبب
ولوم لو أئمتي لؤم ... وعذل عواذلي عجب
لحل لياليا تصفو ... ودهري للمنى يهب
فتسعدني وتمنحني ... بمولى صدره رحب
وقوله من قصيدة أخرى مطلعها:
غزال باسياف اللحاظ يصول ... له فرع حسن قد نما وأصول
بطول على الليل من فرط هجره ... ولا غر وليل العاشقين يطول
أسائل من شوقي له نسمة الصبا ... إذا زاد وجدي والمحب سؤول
أراه بعين القلب في كل ساعة ... قريباً ولكن ما إليه وصول
أكل محب بالجفاء معذب ... وكل حبيب بالوفاء بخيل
فكم أندب الإطلال مني جهالة ... وهيهات أن يسلى العميد طلول
فها مهجتي وتف عليه محبس ... وقلبي رهين والفؤاد كفيل
عساه بأن يشفي فؤادي بزورة ... فإني من داء الفراق عليل
وعلى زماني بالأماني يجود لي ... فإن جواد الحظ منه جفول
فآها على أوقات قرب تقدمت ... وساعات سعد مالهن مثيل
زمان به غصن الشبيبة يانع ... ووجه زماني بالسرور جميل
سقي الله هاتيك المنازل والربى ... وربعا به أهل الحبيب نزول
وحيا على رغم النوى كل ليلة ... تولت وطرفي بالرقاد كحيل
وأيام أنس لا يكدر صفوها ... بلوم ولم يعذل هناك عذول
فما ملت يوماً بعدها لشمائل ... ولا حركتني للغرام شمول
وقوله من أخرى:
حديث غرامي في هواك صحيح ... وقلبي كأقوال الوشاة جريح
وشوقي إلى لقياك شوق حمامة ... لها فوق أفنان الغصون صدوح
فتنذب إطلالا لها ومعاهداً ... وتظهر أشجانا بها وتصيح
فلا مؤنس في الدار لي غير صوتها ... إذا هاج وجدي والدموع تسيح
كلانا غريب يشتكي الهجر والنوى ... فيبكي على ألف له وينوح
فقلبي وجفني ذا يذوب صبابة ... حزيناً وهذا بالدموع قريح
ومهجة صب مستهام متيم ... بها صار من داء الغرام قروح
أهيم غراماً حين أذكر جلقا ... ودمعي بسفح القاسيون سفوح
ولو كان طرفي في يدي عنانه ... سعيت ولكن عن مناى جموح
وقوله من أخرى:
ومصون عليه عبرة حسن ... حجبته عن أعين الأوهام
حبه في القلوب سر خفي ... كخفاء الأرواح في الأجسام
ملك لم يدع من الحسن شيئاً ... لسواه يراه في الأحلام
ومن مقاطيعة قوله:
وقد كنت أخشى البعد والشمل جامع ... بأحبابنا والقلب دار وداد
فقد صرت في ذا الآن أبعد طالب ... وأقنع من رؤياهم بمداد
وقال من الرباعيات:
يا قلب إن كنت قلبي ... وانعم سحرا بطيب ذاك الأرج
واصبر جلداً ولا تكن في حرج ... فالصبر غداً مفتاح باب الفرج
وله:
يا قلب إن كنت قلبي ... في الحب لا تتقلب
لعل من بعد بعد ... يدنوا لحبيب فتطرب
وله في صدر مكاتبة:
إن كتبي إلى جنابك تبدي ... بعض ما بي من كثرة الأشواق
وفؤادي أضحى عليل اشتياق ... ليس يشفيه منكإلا التلاقي(2/293)
وله غير ذلك وأما منشأته فكثيرة جداً ولما كانت هي المقصودة بالذات من آثاره ذكرت فصولا منها ليتم الغرض فمن ذلك قوله في فصل كتب به إلى قاض نقل إليه عنه إنه يزدريه مولاي حرس الله تعالى مجلسه وشرح صدوره وأدام أنسه إن الأعداء ما زالوا يترقبون فرصة ويرتادون وسيله ليتوصلوا بها في القدح بي لدى هاتيك الحضرة الجليلة حتى غفل البواب وفتح لهم الباب رتبوا شباك الغدر ونصبوا حبائل المكر واستفرغوا في السعاية جهدهم وأخرجوا أقصى ما عندهم وسلكوا في الافتراء طريقاً عجباً وكانوا يتمنون لذلك سبباً.
وأصبح أقوام يقولون ما اشتهوا ... وغاب أبو عمرو وغابت رواحله
ولو رأيت ما افتروه في المنام لتحققت أنه أضغاث أحلام وتعوذت بالله من شر منامي وسألته سبحانه العافية من طوارق أحلامي:
لو كانت الأحلام ناجتني بما ... ألقاه يقظان لا صماني الردى
ولظننت إن تلك الرؤيا نتيجة فكر ردي وبخار خلط سوداوي وإنما دفعت في منامي إلى هذا التخليط لا كل الباذنجان والقرنبيط فيحق حياتك العزيزة عندي وشرف طبعك الذي استأثر بمجموع شكري وحمدي إن ما قيل من محض إلا باطيل ودعوي من غير دليل والله على ما نقول وكيل اللهمّ إنا نسألك عقلاً يعقلنا عن مثل تلك الحماقات ورشد أيمنعنا عن تلك الدعاوي الباطلات.
والدعاوي ما لم يقيموا عليها ... بينات أبناؤها أدعياء
فالباطل يصغر من حيث يكبر ويقل من حيث يكثر والسعاية سلاح من لا سلاح له والكذب كيد من لا كيد له فمن جبل على الكدر لا يصفو أبداً والذي خبث لا يخرج إلا نكداً ومن فصل آخر كتب به إلى صديق له عزل عن منصب وبدل بشخص دنى يعز على أن أنظر إلى ذلك الصدر وقد جلس فيه غير ذلك البدر وإني لاستحي لعيني أن أفتحها على الصغير وقد جلس مجلس الكبير فإني لذلك ضيق ساحة الصدر قريب غوو الصبر كثير المباراة قليل المداراة فما أسرع الأيام على الكريم فيما يضره وعلى اللئيم فيما يسره فترفع كل وغد خسيس وتخفض كل حر نفيس فما هي إلا البحر تسغل فيه الجواهر النفيسة وتطفو قوته الجيفة وكالميزان يرفع من الكفة ما يميل إلى الخفة ويخفض ما يفي بالرجحان ويبعد من النقصان ولا بدع فهي علامة على قيام القيامة وهذا الخروج مقدمة يأجوج ومأجوج.
يا ضيعة الأعمار في طلب العلي ... بالعلم والنسب الذي بالشين
على أن المنصب يشرف بصاحبه والمركب يجل براكبه فالصغير منه بالكبير كبير والكبير منه بالصغير صغير.
أنت الكبير الذي لا العزل ينقصه ... قدراً ولا المنصب العالي يشرفه
وهي جلسة خطيب وسحابة صيف تقشع عن قريب ومن فرح النفس ما يقتل وقد تهافت تهافت الفراش بالشهاب وولغ ولوغ الذباب في الشراب ولو أن الدهر يجيب من خاطبه ويعتب من عاتبه لاستدركت هذه الغفلة عليه وفوقت سهام الملام إليه لكنه أصم عن الكلام صبور على وقع سهام الملام فمن عمود إلى عمود فرج وكم صبر يشم منه طيب الأرج وله من فصل آخر كتب به إلى بعض أحبابه يعتذر عن عدم المكاتبة أريد أن أقدم على المعذرة فأحجم وأكاد أن أعرب عن الشوق فأعجم كيف ولا شوقي مالا تسعه عبارة وذنب تقصيري ليس له غير العفو كفارة.
وما الفضل إلا خاتم أنت فصه ... وعفوك نقش الفص فاختم به عذري(2/294)
وله من فصل آخر في توقع أمينة لا يعزب عن علم المولى بلغه الله تعالى إلى أمله إن أفضل الصدقة أن تعين بجاهك على من لا جاء له وشفاعة اللسان أفضل زكاة الإنسان ولا يخفي قولهم زكاة الجاه رفد المستعين وقد وردت من أنهار فضلك كل معين فمن طلب الري من الفرات لم يخش الظمأ في ورده ومن قصد الكريم برجائه لم يخب في قصده فليس ينجي من هذه الآلام والشدائد التي تعجز عن وصفها السنة الأقلام إلا لمحة من لمحات فضلك ولا يجبر هذا الكسر إلا نفحة من نفحات عدلك وما عسر وعد أنت مستنجزه ولا بعد أمر أنت منتهزه وما خاب من أنت رائش نبله وواصل حبله والثقة واقعة بك على كل حال والمثوبة محققة من الكريم المتعال ومن آخر يعاتب فيه على قطع المراسلة تأخر عني كتاب سيدي متع الله الأدب بطول بقائه وصرف السوء عن شريف حوبائه حتى كدت أنسى أيام المراسلة وصرت أرى في المنام أوقات المكاتبة والمواصلة ثم إني راجعت ظني فوجدت الذنب مقسوماً بينه وبيني فتحملت حصة منه ثم انفردت بجميعه عنه فها أنا الآن أبدي عن ذلك عذراً مع اعترافي بالتقصير كلما ضاق الأمر صدراً أوسعته صبراً.
وما كان قطع الكتب عني ملالة ... وحاشا لمثلي أن يقال ملول
ولكن أمور قد عرت وحوادث ... ألمت وشرح الحادثات يطول
فالمحجوج بكل شيء ينطق والغريق بكل حبل متعلق ولقد عققت الود وظلمت العهد و كنت منتظراً لعساكر العتاب فلم يرد على هذا اليوم من ذلك الجناب خطاب ولا كتاب فكتبت هذه الأحرف أخطب بها مودتي القديمة وصدق ولائي من تلك الحضرة الكريمة وأنا الآن بكتاب سيدي إذا ورد على أشد سروراً من المشتاق إلى التلاق بعد طول الفراق وقد مددت إلى الطريق عيني وأخذت أعد الخطأ بينه وبيني أحسب كل إنسان رسولا وكل شخص كتاباً إلى محمولاً ومن رسالة له أرسلها إلى منصور الطبيب العيسوي.
أنا أصبحت لا أطيق حراكا ... كيف أصبحت أنت يا منصور
قد طالت العلة وطابت العزلة فليس في الحركة هذا الآن بركة والانقطاع أربح متاع والاجتماع جالب للصداع والاختلاط محرك للأخلاط والوحشة استئناس وأجمع للحواس.
خلت الديار فلا كريم يرتجي ... منه النوال ولا مليح يعشق
فهو زمان السكوت وملازمة البيوت وأوان القناعة بالقسوت وذلك قوت من لا يموت فالحرحر وإن مسه الضر فوطؤه خفيف وضالته رغيف:
لزوم البيت أروج في زمان ... عدمنا فيه فائدة البروز
فلا السلطان يرفع من محلي ... ولست على الرعية بالغريز
ولست بواجد حراً كريما ... أكون لديه في حرز حريز
وهذا ما وقع اختياري عليه من منشآته لإثباته في ترجمته ووراءه أشياء أخر تمتع كل مطالع أعرضت عنها حذرا من التطويل وبالجملة فنثره كما تراه مفرغ في قالب السلاسة خال من وصمة التعقيد وفيه معان عذبة وألفاظ رائعة وكانت ولادته ليلة الأربعاء سابع عشر المحرم سنة إحدى وثلاثين وألف وتوفي نهار الثلاثاء قبيل الظهر بمقدار ساعة ثالث عشري جمادى الثانية سنة اثنتين وثمانين وألف وصلى عليه بعد العصر بجامع بني أمية ودفن بمدفننا الخاص قبالة جامع جراح في قبر جده ووالده.
الشيخ فضل الله بن محمد الرومي البركلي وأبوه الشيخ العالم العلم صاحب كتاب الطريقة المحمدية أخذ العلوم عن والده وقدم إلى قسطنطينية في حدود سنة عشرين وألف وأقام بها واشتهر صيت عمله وأعطى وظائف الوعظ والتذكيره من ذلك وعظ جامع السلطان سليم وكان ينقل فيه التفسير ثم أعطى وعظ جامع السلطان بايزيد وكان عالما فصيح اللسان حسن البيان باهر الشان وكان للناس عليه إقبال تام وكانت وفاته في سنة ثلاثين بعد الألف وصار مكانه واعظ العالم الشهير بقاضي زاده الرومي صاحب الطريقة المشهورة في التقشف والصلابة في الدين وكان صار مكانه أيضاً واعظاً بجامع السلطان سليم وسيأتي ابنه محمد المعروف بعصمتي إن شاء الله تعالى.(2/295)
فضل الله باشا الوزير نائب اليمن وليها بعد محمد باشا فكان وصوله إلى بندر الصليف في ثاني شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وألف ودخل صنعاء في رجب من هذه السنة وكان يغلب على ظاهر أحواله الجذب من سرعة حركاته وهو في جميع أحواله من أهل الحزم والدهاء وكان يخاف من الله تعالى ويلوذ بالصالحين وكان كثير الصدقات للعلماء والسادة والفقراء وكان يدور في الليل بنفسه على بيوت الأشراف ويحسن إليهم وكان مجداً في الأمر بالصلوات في الجماعات ومن تأخر عاقبه وبرزت أوامره إلى سائر الولاة بأن يأمروا كافة أهل الإسلام بحضور الجماعات حتى عمرت المساجد في زمنه ونسى اسم الخمر وكان يسعى على قدمه إلى الجوامع للصلوات وكان زمانه خصب وخير رخصت فيه الأسعار وكثرت الأمطار وحصل الأمن في الطرقات ولما وصل الخبر إليه أن بلاد اليمن قد وجهت للوزير حيدر باشا نهض قبل مجيئه بسبعة أشهر خوفاً أن يقع في جانبه كما وقع على من تقدمه من الحكام وخاف من عاقبة هذا الأمر أن يكون سبباً لخراب البلاد فلم يملك بل شمر ونهض معلنا أنه يريد أن يطوف في ولاية اليمن وقد فعل قبل ذلك ليكون سبيلاً لمثل ذلك وإن مراده إظهار العدل والإنصاف ولأجل قع شوكة الفرنج الذين تسلطوا على المراكب في البحر وكان خليقا بهذا الأمر لولا استعجاله بالنهوض وباطنه بخلاف ما أظهر فإنه أضمر في حادي عشري شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وألف فوصل إلى أبي عريس وهي انتهاء حد ولاية اليمن وذلك في شعبان من السنة المذكورة فانتقل إلى رحمة الله تعالى فلما صارت البلاد خالية ممن يدعى الملك نهض الأمير محمد بن سنان باشا وقد أدركه العجب بحب الرياسة والملك اعتماداً منه على أحواله بالقوة الظاهرة وأظهر أنه يريد حفظ الخزانة التي خلفها المذكور وقد رجع كتخدا الوزير فضل باشا بالخزينة والعساكر حين وصل إليه المقر الكريم الأمير خضر لأجل إزعاجهم ممن هو قائم بالأمر فحين التقوا في مرجعهم بالأمير محمد قبض على الخزائن ونكل الكتخدا المذكور وسائر أتباع الوزير بأشد النكال وصادرهم وكاد يبوح بالاستقلال فلما ركب في غير سرجه ودرج في غير برجه أحاطت به النحوس من كل جانب ولما استقر في مدينة زبيد في جمع عظيم وقد اشتهر أخبار وصوله إلى بندر البقعة بقرب زبيد وتطايرت الأخبار إلى الوزير ببعض غرة شهر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وألف فحين خرج من البحر أرسل إلى الأمير أن يصل إليه فلما وصل قابله فيما طلبه من الإسعاف فلما تمكن أمر بقطع رأسه فقطع في يوم الاثنين ثالث ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وألف.
الشريف فهيد بن الحسن بن أبي نمي أحد أشراف مكة كان من أمره أنه شارك أخاه الشريف إدريس وابن أخيه الشريف محسن بن حسين بالربع في جميع أقطار الحجاز الداخله تحت حكم صاحب مكة فكثرت أتباعه من الأشراف وغيرهم بحيث صار موكبه يضاهي موكب الملك وكان إذا جلس وقفت الترك عن يمينه وشماله واتخذ رماة للبندق نحو مائتين أو أكثر ولم يحفظ أتباعه وعبيده من النهب والسرقة فكثر ضرره على الناس وعجز عن مداراته الشريف إدريس ولما اشتد أمره أخذ بجانب أكمل الدين القطبي وأراد أن يصيره مفتيا فلم يرض الشريف إدريس ووقع بينهما فأرسل الشريف إدريس لابن أخيه الشريف محسن وكان إذذاك في اليمن بأن يأتي بجميع من معه من الأشراف والقواد والعرب فحضر ومعه أمير حلي محمد بن بركات الحرامي ونودي في مكة بأن البلاد لله وللسلطان وللشريف إدريس والشريف محسن وخلع الشريف فهيد من الذكر ومنع من الربع ولم يخطب له وكان يومئذ بمكة في بيته وجموعه وافرة فاستعد أصحابه للقتال وأشار إليه أعيانهم بالحرب فامتنع من ذلك وطلب من الشريف إدريس أن يمكنه من سكني مكة بغير ربع بامتنع فانضم إلى بعض أكابر الحاج المصري وسافر إلى مصر وتاريخ قدومه مصر قدومكم خير ثم توجه إلى الديار الرومية واجتمع بالسلطان أحمد فيقال إنه أنعم عليه بإمارة مكة فعاجلته المنية ومات هناك في سنة عشرين بعد الألف وقيل في تاريخ موته مات بالروم فهيد بن الحسن.(2/296)
فيض الله بن أحمد المعروف بابن القاف الرومي قاضي العسكر أحد مشاهير فضلاء الروم كان فاضلا أديباً فصيح اللهجة هدار الشقشقة طنان الصيت وله تقرير وتحرير وأشعار بالعربية حسنة التأدية ولي في ابتدائه قضاء حلب ولما دخلها أنشد لنفسه قصيدة طويلة في مدحها ومستهلها:
الحمد لله منجيناً من الكرب ... جئنا إلى حلب الشهباء بلا تعب
مصر جليل خليل الله عمره ... طوبى لساكن مصر قد نباه نبي
وليس قصدي سوى دفع المظالم عن ... ذي حاجة عاجز يدعو ولم يجب
ثم بعد مدة من عزله عن قضائها وجه إليه قضاء الشام وذلك في سنة تسع وتسعين وتسعمائة ومدحه الجمال يوسف بن العلموي بقصيدة طويلة لم أقف عليها وكان طلب من علماء دمشق أن يقرظوا له عليها فكتب عليها منهم جماعة منهم جدي القاضي والشمس ابن المنقار والحسن البوريني ولما وقف القاضي المذكور على القصيدة والتقاريظ عمل أبياتاً يمتدح بها أهل دمشق ويشير إلى أسماء بعض من قرظ والأبيات هي هذه:
عموا واسلموا يا أهل خلق بالبشر ... صباحاً وفي عيش رغيد مدى الدهر
ولانا لكم ضيم ولا مسكم أذى ... من القاسطين الجائرين ذوي الجبر
أضاءت شموس العلم فاضت بحوره ... فاضت دمشق الشام تعبق بالنشر
مشايخهم في عالم القدس وجدهم ... وأنفاسهم قدسية مجلس الذكر
وكل مريد الخير والبر والتقى ... وكل محب الدين ذو الفضل والقدر
هم حسنو الأخلاق قد طاب شملهم ... وأقوالهم أقوى لهم صدقها يجري
وكم قارئ باب الفضائل قارع ... وكم شاعر يسبي العقول من السحر
أتوا بقريض في المديح كأنه ... جواهر قدراً قد علت أنجم الزهر
فألفاظه قطر الندا موضع الصدا ... على أنه قد فاض حتى على البحر
أإشراق شمس أم سنا البدر قديدا ... وسمط لآل أم عقود من الثغر
أينثر من بحر المعاني لآلئا ... فينظمها في سلك جيد من الفكر
وكم لاقط من درفيه جواهرا ... فرائد تغني النحر عن درر البحر
وإني وإن أبديت للعلم بهجة ... وأعليته حتى سمارتبة البدر
وإني وإن جاهدت في الله قائماً ... بنصر التقي في الدين خيراً من النضر
وإني وإن أصلحت سرى مخلصا ... لربى حتى فزت بالحق في السر
ولكن ظهور الحق صعب وإنني ... على الذنب والتقصير مستوفى العذر
ونيتنا إجراء شرع نبينا ... عليه سلام الله في السر والجهر
فكن عون فيض الله يا سيد الورى ... يا مداد أهل العجز والضعف والفقر
ولما عزل عن دمشق رحل إلى الروم أقام مدة ثم ولى قضاء الغلطة في سنة اثنتين بعد الألف ثم لم يزل يتولى بعد ذلك منصباً بعد منصب حتى ولى قضاء العسكرين وانتقل بالوفاة ومن مشهور شعر قصيدته التي مدح بها السلطان مراد بن السلطان سليم ويذكر فتح عثمان باشا المدينة تبريز وذلك في سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة ومطلعها:
لله در جيوش الروم إذ ظهروا ... على الروافض قد صارت بهم عبر
كم أبدعوا بد عاسبا ومظلمة ... لهم قلوب يحاكي لينها الحجر
فالناس تجأر للرحمن من يدهم ... والله يسمع منهم كلما جأروا
أتت إليهم جيوش الروم يقدمها ... من بأسها المنذران الخوف والحذر
وعندما اقترب الجيش العرمرم من ... تبريز ثم بدا في ذاتهم خور
فشجعوا أنفساً منهم قد امتلئت ... جبنا وقد طاشت الأحلام والفكر
ظنوا بأن الليالي نحوهم نظرت ... فأخطأ الظن لما أخطأ النظر
وأملوا سحراً من ليل كربهم ... فلم يكن لدجى أو صابهم سحر
لما رأى بأسنا حمر الرؤس إذا ... فروا كما فر من أسد الشرى الحمر(2/297)
قلوبهم خشيت أبصارهم عميت ... شاهت وجوههم خوفاً وقد خسروا
سطوا بهم فتراهم ذا يفروذا ... عان أسير وذا في الترب منعفر
والنقع ليل بهيم لا نجوم به ... تلوح للعين إلا البيض والسمر
كأنما السمر مغناطيس أنفسهم ... فحيث مالت ترى الأرواح تنتثر
ذوت رياض أمانيهم فلا ثمر ... يلوح فيها ولا في دوحها ثمر
وللفرار إلى الأقطار قد نفروا ... ومالهم معشر فيها ولا نفر
وتخت تبريز نادى وهو مبتهج ... هذا الزمان الذي قد كنت أنتظر
فيا مليكا له كل الملوك غدت ... تدين طوعاً وتأتي وهي تعتذر
سروا ملك الأرض والدنيا فأنت إذا ... اسكندر العصر قد وافى به الخضر
فيا لها نعمة آثار مفخرها ... كانت لدولته الغراء تدخر
ظل الإله مراد الله قد شرفت ... به المنابر والتيجان والسرر
أجل من وطئ الغبراء من ملك ... بأمره سائر الأملاك تأتمر
بداله في سماء المجد نور هدى ... من دونه النيران الشمس والقمر
بعزمه ظهر الفتح الذي عجزت ... عنه السلاطين قد أفنتهم العصر
وأصبح الملك محروس الجناب وقد ... وافى به المسعدان القدر والقدر
لو فاخرته ملوك الأرض قاطبة ... ما نالهم من معاني فخره العشر
هل يستوي الشمس والمصباح جنح دجى ... ويستوي الجاريان البحر والنهر
عطفا على العبد فيض الله فاطمة ... وقلبه من صروف الدهر منكسر
لا زال ملكك دوري السعود فلا ... يرى له آخر في الدهر ينتظر
بدولة تخلق الأيام جسدتها ... ما لاح جنح الدياجي إلا نجم الزهر
وكان أبو المعالي الطالوي وهو بالروم أحد ندمائه وله في مدحه قصائد كثيرة وله معه مداعبات فمن ذلك ما كتبه إليه في ليلة شاتية يطلب منه ولنسة وفيها لزوم مالا يلزم:
قل لفيض الله مولانا ... أدام الله أنسه
إن نوع البرد هذا ... ما رأينا قط جنسه
هجم الدار وفيها ... عقل الظالم عنسه
وجد المنزل خال ... قد أجاد العبد كنسه
فثوى بين ضلوع ... لقيت ما ليس أنسه
سمعت بالروم منه ... إنني أهل بلنسه
فأغثني يا غياثي ... من يديه بولفسه
وقرأت في كتاب السانحات قال كنت أغشى في زمان عزله كل وقت داره وحماه وأجعل سميري في ليل ذلك العزل قمر محياة وهو يعد ويمنى بحصول بعض المطالب والمآرب إذا ولى منصباً من بعض المناسب فلما ولى قضاء الغلطة صارت تلك المواعيد كأنها مغلطة وأما توليته قضاء اسلامبول فقد خاب فيها الأمل وخيب المأمول فكتبت إليه ولم أعول عليه:
لي صاحب في العزل يبصر دائماً ... ما ليس في الأجسام يدرك بالبصر
فيكاد يحكم عند رؤيته على ... طوق الحمامة ثم ألوان أخر
ولربما نظر النجوم لوا معا ... وقت الضحى ورأى السهمي مثل القمر
بصر حديد في الحديد نفوذه ... كنفوذ أضواء الأشعة في الأكر
فكان زرقاء اليمامة كحلت ... جفنيه من كحل لديها مدخر
لا صبر لي عنه نهاراً كاملاً ... وكذاك عني ليس فيه مصطبر
وإذا جرى ذكر له في مجلس ... جادلت عنه بالخصومة من حضر
أما الصداقة والعلاقة بيننا ... فحديثها بين الأنام قد اشتهر(2/298)
وبث الأمام الرسائل على كافة القبائل على جاري عادته فأجابوه وقامت الحرب على ساقها فوجه الوزير سنان باشا المحاط على الإمام وعبد الرحيم فضعف الإمام القاسم عن المقاومة فعطفت العساكر على عبد الرحيم وحين رأى الإمام اشتغال العساكر بعبد الرحيم نهض على حصن شهارة وتحصن به ثم وصلت الأخبار للوزير سنان باشا بأن السلطان أنعم باليمن على جعفر باشا فتوجه من صنعاء إلى الأبواب السلطانية فأتاه الأجل وألحد بالمخا وسبب موته إنه نزل عن صنعاء أراد الاجتماع بجعفر باشا وهو بتعز فأكثر الناس إلا راجيف وأرهبوا جعفر باشا من لقاء سنان باشا وفهم الأمراء منه ذلك فألجوه إلى المرور في أوعر المسالك فلما وصل إلى المخامات في شعبان من سنة ست عشر وألف ودفن إلى جنب قبر الشيخ الإمام علي بن عمر الشاذلي وكان يحب العلماء والفقراء وآثار خيراته كثيرة ووصل جعفر باشا إلى صنعاء في شوال ولما دخلها رأى تقوى الإمام القاسم بمساعدة عبد الرحيم فصالح الإمام في ذي الحجة سنة ست عشرة وألف على جهات معلومة وفك أولاده من حصن كوكبان فأطلقهم الوزير وأحسن إليهم ووجه العسكر على عبد الرحيم فأسره وأرسله إلى الأبواب السلطانية ثم استمر الإمام القاسم واليا إلى أن حاربه الباشا وحصره في حصن شهارة فخرج منه متنكراً ولم يشعر به أحد وبقى ولده محمد المؤيد إلى أن عجز وضاق حاله فخرج بالأمان على أن يكون قراره عند صاحب كوكبان وخرج بإخوانه وأهله وقبض الباشا حصن شهارة ثم مات بأجله ليلة الثلاثا خامس عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وألف وخلف عدة أولاد منهم محمد و الحسن والحسين وهو أعلمهم وأحمد المخلوع وإسمعيل فقام من بينهم محمد بعد أبيه وجدد المصلح بينه وبين الوزير محمد باشا على ما كان عليه في زمن والده ثم اجتمعت كلمة اليمن إليه وأخرج الأتراك بأسرهم من اليمن وهو أبو القاسم الإمام بن الإمام محمد الداعي بعد موت عمه الإمام إسمعيل المتوكل دعا فأجابه جم غفير من علماء اليمن وأقبلوا إليه من كل حدب وخطب له على منابر شهارة والاهنوم والشرفين وحجة والتها ثم وغيرها وأجابه السيد محمد بن الإمام المهدي أحمد بن الحسن وخطب له على منابر المنصورة وحيس وزبيد وقد كان عا بعد وقاة الإمام إسمعيل ابن عمه المهدي المذكور فتقدم إلى جهات شهارة لطلب الاجتماع بالقاسم واتفق رأيهم على تعيين أكابر العلماء من الجانبين فعين من جهة القاسم جماعة منهم الحسين بن الناصر المهلا والسيد يحيى بن أحمد والسيدان إسمعيل ويحيى ابنا إبراهيم بن حجاف والقاضي محمد بن قدس والسيد علي بن صلاح الصلعي وغيرهم ومن جانب المهدي القاضي علي بن جابر الهبل والقاضي يحيى بن إسمعيل الحادي والسيد محمد الكبيسي وغيرهم واجتمعوا في الرحبة من أعمال شهارة للنظر في الترجيح بين الإمامين وفي خلال هذا كتب السيد يحيى بن أحمد الشرفي رسالة أولها بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة صادرة عن الحق اليقين وعيانه وأن محمداً عبده ورسوله المؤيد بباهر المعجز ونير برهانه والصلاة والسلام عليه وعلى آله الذين شعثعوا أنوار الحق وشادوا رفيع بنيانه وعلى أصحابه الراشدين المرشدين والذين اتبعوهم بإحسان فأحيوا شرائع إحسانه فيقول العبد الفقير إلى الله الغنى به عمن سواه يحيى بن أحمد بن محمد الشرفي تجاوز الله عنه وعافاه وتلقاه برحمته إذا توفاه إنه لما اختار الله وله الخيرة وإليه يرجع الأمر كله لمولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين إسمعيل ابن أمير المؤمنين قدس الله روحه ما لديه من الكرامة وألحقه بآبائه الطاهرين الذين رفع درجاتهم في دار الكرامة وجب النظر فيمن يخلفه في منصبه الجليل ويقوم مقامة وكان المؤهل لذلك الشأن العظيم والمنظور إليه والمؤمل لتحمل الأعباء الثقيلة والمعول عليه هو مولانا أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم ابن أمير المؤمنين المؤيد بالله أيده الله لما أتاه الله وخصه به من أوصاف الكمال في الدين والدنيا وكمال الأوصاف التي يلغي بها في محاسنه إلى الغاية القصوى من العلم والحلم والتقوى والورع والكرم والسخاء والتواضع والإيثار المراضي ربه في كل حال وحسن الأخلاق التي هي واسطة عقد شرائف الخصال وطهارة المنشأ وخصائص الكرامات التي يخص الله بها من عباده من يشأ فلم تتق نفسه(2/299)
إلى تحصيل دنيا دنيه ولا زاحم عليها أحداً من الخلق بل اطرحها وأبت الالتفات إليها نفسه الأبية وهمته العلية وقصر همه في ليلة ونهاره على الاشتغال بما يزلفه عند بارئ البرية حتى فاض عليه من سجال الكرامة من ربه وغشيته أنوار التوفيق الإلهية فألقى الله عليه محبة في قلوب عباده وعمرها بعظمته وغمرها بوداده وأبرز فيه السر المقدس الذي أودعه في آبائه وأجداده فوفقه لاقتفاء آثارهم والقيام بعهاده وبعث همته على الدعوة للإمام على سبيل ربه وأظهر حجته في جميع بلاده فوردت إلينا دعوته الميمونة في يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وألف وهو اليوم الثالث من وفاة مولانا المتوكل على الله إلى كتاب الله وسنة رسوله وإلى الرضا عن آل محمد وكان سبق علمنا بما هو عليه من تلك الأوصاف الحميدة والكمالات العديدة واختصاصه بها من بين أهل هذا البيت واعترافهم له بها كما تواترت به إلينا عنهم الأخبار المفيدة للعلم وتصريح من صرح منهم بأنه الأولى بهذه الخطة الشريفة إن احتج إلى من يقوم بها فعلمنا وجوب إجابة دعوته وجوبا مضيقا ولزمنا فرضها لزوما محققا وإنه من يقوم بها فعلمنا وجوب إذا أقمنا على ما قلناه برهاناً مصدقاً وباردنا إلى ما أوجب الله علينا من وجوب إجابته خوفاً من وعيد الله على التراخي والله أحق أن يتقي ثم بعد ثمانية أيام من ورود هذه الدعوة الشريفة وردت إلينا دعوة من صفي الإسلام أحمد بن الحسن ابن أمير المؤمنين حفظه الله مثل ذلك في كونها إلى الرضى من آل محمد فالدعوتان عند التحقيق واحدة إذا الرضى هو المدعو إليه في كلتيهما فأجبنا عليه بأنا قد أجبنا الدعوة إلى الرضى وإن ما قضت به الأدلة من ذلك الحكم المضيق قد فرغ منه وانقضى وبينا له الوجوه التي ثبت على كل من عليها ذلك القضا من الفضائل التي اختص بها من تقدمت أجابتنا له وعليها بني الأمر في هذه المسئلة من علماء الإسلام جميع من مضى فتكررت كتبه إليه بعد ذلك قاضية بأنه غير موافق على ما قلناه وكاشفة بأنه يريد بالرضى نفسه وإن ذلك مقصودة ومعناه فظهر حينئذ تخالف القصدين وصار المهم هو النظر في أهدي النجدين وفيما ذكرناه سابقاً من الفضائل الظاهرة والمحاسن المتكاثرة لمولانا القاسم واختصاصه ما يقضي برجحان استحقاقه لذلك المنصب الجليل ووجوب الحكم باستحقاقه لخلافة النبوة أن يخاطب بما قيل: تحصيل دنيا دنيه ولا زاحم عليها أحداً من الخلق بل اطرحها وأبت الالتفات إليها نفسه الأبية وهمته العلية وقصر همه في ليلة ونهاره على الاشتغال بما يزلفه عند بارئ البرية حتى فاض عليه من سجال الكرامة من ربه وغشيته أنوار التوفيق الإلهية فألقى الله عليه محبة في قلوب عباده وعمرها بعظمته وغمرها بوداده وأبرز فيه السر المقدس الذي أودعه في آبائه وأجداده فوفقه لاقتفاء آثارهم والقيام بعهاده وبعث همته على الدعوة للإمام على سبيل ربه وأظهر حجته في جميع بلاده فوردت إلينا دعوته الميمونة في يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وألف وهو اليوم الثالث من وفاة مولانا المتوكل على الله إلى كتاب الله وسنة رسوله وإلى الرضا عن آل محمد وكان سبق علمنا بما هو عليه من تلك الأوصاف الحميدة والكمالات العديدة واختصاصه بها من بين أهل هذا البيت واعترافهم له بها كما تواترت به إلينا عنهم الأخبار المفيدة للعلم وتصريح من صرح منهم بأنه الأولى بهذه الخطة الشريفة إن احتج إلى من يقوم بها فعلمنا وجوب إجابة دعوته وجوبا مضيقا ولزمنا فرضها لزوما محققا وإنه من يقوم بها فعلمنا وجوب إذا أقمنا على ما قلناه برهاناً مصدقاً وباردنا إلى ما أوجب الله علينا من وجوب إجابته خوفاً من وعيد الله على التراخي والله أحق أن يتقي ثم بعد ثمانية أيام من ورود هذه الدعوة الشريفة وردت إلينا دعوة من صفي الإسلام أحمد بن الحسن ابن أمير المؤمنين حفظه الله مثل ذلك في كونها إلى الرضى من آل محمد فالدعوتان عند التحقيق واحدة إذا الرضى هو المدعو إليه في كلتيهما فأجبنا عليه بأنا قد أجبنا الدعوة إلى الرضى وإن ما قضت به الأدلة من ذلك الحكم المضيق قد فرغ منه وانقضى وبينا له الوجوه التي ثبت على كل من عليها ذلك القضا من الفضائل التي اختص بها من تقدمت أجابتنا له وعليها بني الأمر في هذه المسئلة من علماء الإسلام جميع من مضى فتكررت كتبه إليه بعد ذلك قاضية بأنه غير موافق على ما قلناه وكاشفة بأنه يريد بالرضى نفسه وإن ذلك مقصودة ومعناه فظهر حينئذ تخالف القصدين وصار المهم هو النظر في أهدي النجدين وفيما ذكرناه سابقاً من الفضائل الظاهرة والمحاسن المتكاثرة لمولانا القاسم واختصاصه ما يقضي برجحان استحقاقه لذلك المنصب الجليل ووجوب الحكم باستحقاقه لخلافة النبوة أن يخاطب بما قيل:(2/300)
أنت الإمام الذي نرجو بظاهره ... يوم النشور من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا ... جزاك ربك عنا فيه إحسانا
فالذي أدين الله به وأشهده على اعتقادي له أن إمام هذا العصر المفترض الطاعة على المسلمين هو مولانا المنصور بالله القاسم بن أمير المؤمنين المؤيد بالله عن نظر صحيح وأدلة يسطع منه المنصف نور الحق الصريح وأستغفر الله لي ولجميع المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم انتهى وبعد أمور يطول شرحها اتفقت الكلمة على إمامة المهدي المقدم ذكره ولم يزل القاسم المذكور ناشراً للمكارم الحسان مقصوداً من جميع البلدان منصفا للوافدين معظما للعلماء العاملين وله كرامات شهيرة منها ما اشتهر أيام دعوته من ظهور اسمه واسم أبيه مكتوباً بأعلى الجراد الحاصلة في اليمن في ذلك الزمن ظهوراً شهيراً في الأنام إلى غير ذلك من الفضائل التي عملها الخاص والعام وله السماعات الكثيرة في الفقه والأصلين والنحو والتفسير مع الحرص على التدريس والإفادة في ذلك الخطب الكبير ومولده في ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين وألف.
حرف القاف
قاسم الخوارزمي أصله من بخاري من قرية فشلان جوبان رحل إلى خوارزم وسلك عند الشيخ حسين الخوارزمي النقشبندي ولازم عند مدة وصار من جملة خلفائه فلما دخل شيخه إلى الشام نقل هو أيضاً إلى بخاري وتوطن بها مشتغلاً بإرشاد الطالبين إلى أن توفي وكانت وفاته في سنة خمس بعد الألف قلت والشيخ حسين الخوارزمي المذكور هو المدفون في الحديقة قرب تربة الصوفية بالوادي الغربي وله في الكواكب السائرة للغزي ترجمة فليرجع إليها ثمة في الطبقة الثالثة.(2/301)
قانصوه باشا نائب اليمن قدمها في ثاني وعشري المحرم سنة تسع وثلاثين وألف من الديار المصري ثم إلى مكة في عسكر عظيم وصحبه من الأمراء والكبراء ما يحيل عن الوصف من مشاهيرهم الأمير موسى بن الخبير من غرب مصر في نحو ثلثمائة فارس أو يزيدون والأمير سليمان بعد أن كان عزم إلى مصر لخدمة الوزير عابدين بمال جزيل ليجهز له عسكراً فلما بلغ إلى مصر بلغة تجهيز قانصوه فساعده ووصل صحبته وتولى تدبير ملك المذكور وكان متهما بنحوسة لسوء تدبيره حتى عاجله القضاء المقدور على يد قانصوه المذكور في سنة أربعين وألف وصحبته حمزة أغا وإدريس أغا في ثلاثة آلاف من الأسباهية من الأبواب السلطانية ونحو ألف من المغاربة وألفين من أهل الشام وأربعة آلاف من مصر وألفين من مكة فحصل بينه وبين الشريف أحمد بن عبد المطلب منافسة فقبض عليه وقتله وأقام مكانه مسعود بن إدريس وأقام بجدة واحداً من جماعته اسمه مصطفى ثم أخذ من مكة أموالاً جمة والمراكب بالخزائن والجنود تمشى محاذية له بحراً فقدم أول عسكره موراً وفيهم الأمير ابن خبير وذلك يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الآخر فلما علم بورودهم التقي بن إبراهيم إنجاز بجنوده إلى ربوع أذرع شرقي بيت الفقيه الزيدية وكذلك الشريف هاشم إنجاز إلى جانب أصاب وكذلك الأمير سنبل قام من حبس إلى شرقية وكان عزم السيد هاشم ليلة الخميس ثالث عشر شهر ربيع الآخر وفي ليلة الثلاثا الثلامن عشر منه يوسف الكتخدا في مائتي حصان في المراوعة إلى بيت الفقيه ثم إلى زبيد وذلك صبح الثلاثا فتوجه إلى المخا عصر ذلك اليوم فورد يوم الأربعاء إلى المخا ضحوة فقبض على عابدين باشا وحبسه وقتله صبرا بعد ثلاثة أيام وقبض خزائنه وجعل عياله في مكان عيال الشريف أبي القاسم الشجر وسمعوا البكاء عليه كما سمع البكاء منهم على المشار إليه وأما قانصوه فورد بيت الفقيه ابن عجيل صبح الجمعة الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر فقبض على الفقيه أحمد بن محمد بن جعفر العجيل وحبسه وأخذ منه مالا جزيلا وصلبه في صبح الاثنين الثالث والعشرين وعظم المصاب وأهدم بيت الفقيه ونهبت جملة من بيوت وأموال لأنه كان عينا في بيت الفقيه رئيساً مقبولاً عند السيد هاشم فحسده أعداؤه ونسبوا إليه المكايد وكان هو السبب في دخول الوهن على قانصوه لأنه لما فعل به ما فعل نفرت قلوب الناس منه وخصوصاً حيث أنه كره شفاعة السيد الطاهر بن بحر ولم يقبل مشورته في العفو عن إساءة الناس ووعظه بوصول الوزير سنان وعفوه فأبي واستكبر لا مرير يده الله تعالى ثم توجه من بيت الفقيه إلى زبيد صبح الثلاثا خامس عشري الشهر بالجند الموفور فواجهه بها الأمراء والكبراء والمشايخ والسادات وورد إليه يوسف الكتخدا في جملة من عسكر المخا فدخل المحطة دخله عظيمة ولما استقر بها أمر بتجهيز الوزير حيدر فكه من الحبس الشديد فجهزوه إلى سواكن هو وبعض مماليكه ثم دخل إلى مصر فإلى الروم وحصل له مقام كامل عند السلطان وأمر الأمير موسى بن الخبير بالمسير إلى حيس فدخلها بجيش كبير فشرع الوباء في الجنود ومات ابن الخبير المذكور وابن أخيه وأكثر جماعتهم ولم يبق منهم إلا اليسير ومات بزبيد الأمير أحمد وعالم كثير حتى كل الحفارون عن الحفر والغالون عن التغسيل فأقام نحو أربعين يوماً ثم توجه إلى حيس وأقام بها فعظم الوباء ومات من جماعته عالم كثير وهلكت الجمال التي وصلت من الشام وكانت نحو عشرة آلاف أو أزيد وكان من أراد جملاً أخذه لموت الجمالين ومعظم الخيل ثم توجه إلى المخا فحظ بظاهرها وبني بها قلعة عظيمة وفي عشر الحجة حصل مهادنة بين قانصوه وبين الإمام إلى سنة أربعين بعد الألف وأرسل إليه محمد ولي وجماعة من أعيانه فكساهم وأنعم عليهم ثم رجعوا إلى المخا وفي أربع عشر الحجة طلب قانصوه يوسف الكتخدا فأمر بضرب عنقه في الديوان فقام عليه العسكر وحصروه في القلعة نحو خمسة عشر يوماً فصالحهم بزيادة في علائفهم وشرطوا عليه قبض سبعة أنفار من جماعته اثنان قتلوهما وأربعة أودعوهم كران والسابع فر بنفسه ونجا ثم حصل بينه وبين العسكر حوادث حتى استحال جماعة منهم إلى الزيدية وعزم من عزم منهم إلى الشام ولم تزل الشحناء بينهم ثم في سنة خمس وأربعين حصلت وقعة بين قانصوه وبين الحسن وقتل جماعة من الفريقين ثم في شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة خرج قانصوه(2/302)
إلى الحسن ودخل تحت طاعته وصار من أتباعه ثم جهزه الحسن يوم الاثنين ثالث جمادى الأولى وأعطاه نحو خمسين حصاناً بسلاحها وعددها ونحو خمسين جملاً باحمالها وجملة من الأموال وجهز معه جماعة وجعل صحبتهم السيد التقي بن إبراهيم إلى مكة فوصل إليها ومكث بها أياماً ثم توجه إلى الروم ومات بها وكانت وفاته في نيف وستين وألف.لى الحسن ودخل تحت طاعته وصار من أتباعه ثم جهزه الحسن يوم الاثنين ثالث جمادى الأولى وأعطاه نحو خمسين حصاناً بسلاحها وعددها ونحو خمسين جملاً باحمالها وجملة من الأموال وجهز معه جماعة وجعل صحبتهم السيد التقي بن إبراهيم إلى مكة فوصل إليها ومكث بها أياماً ثم توجه إلى الروم ومات بها وكانت وفاته في نيف وستين وألف.
حرف الكاف
كمال بن مرعي العيثاوي الدمشقي الفقيه الشافعي كان من الفقهاء إلا جلاء درس بجامع دمشق وانتفع به جماعة من الفضلاء وكان متقشفا صلبا في دينه كثير الصلف مخالطا للعلماء منخرطا في سلكهم يراجعه الناس في مهامهم وكان وافرالحرمة مقبول الكلمة عند العوام وكانت وفاته سنة ست وثمانين وألف.(2/303)
كيوان بن عبد الله أحد كبراء أجناد الشام كان في الأصل مملوكاً لرضوان باشا نائب غزة ثم صار من الجند الشامي وسر داراً عند صوباشي الصالحية فنزع إلى التعدي وأخذ الناس بالتهمة وتطاول إلى أخذ أملاكهم حتى استولى على أكثر بساتين الربوة والمزة وضم بعضها إلى بعض وكان إذا أخذ حصة في مكان احتال على الشركاء فيه حتى يأخذ أشقاصهم طوعاً أو كرهاً وكان يساعده على ذلك نواب محكمة الباب وأعيان شهودها ويبالغون في نصيحته في كتابة التمكات يعلمونه الحيلة وهو يبالغ في إكرامهم ومن غريب خبره أنه كان مستأجر البستان من بساتين وقف بني العنبري قرب المزة وكان ملاصقا لبساتين بيده فطلب من ناظر الوقف أن يأذن له بقطع الغراس ويحكره أرض البستان فلم يفعل ووقع بينه وبين مشاجرة فأدى طغيان كيوان إلى أن جمع جمعا من الفلاحين وأتى بهم إلى البستان ليلا وأمرهم بقطع جميع غراسه الكبير ففعلوا وغرسوا مكانه غراساً لطيفاً وحرثوا الأرض وغيروا حدود البستان وبابه وأضافوه إلى بساتينه ثم استدعى قاضي القضاة بالشام لكثف عليه وأحضر أولاد العنبري فادعوا أن البستان داخل في وقفهم وأبرزوا كتاب الوقف فقرئ بالمحضر العام فلم توافق الحدود والغراسات فمنعهم القاضي وسلط يد كيوان على البستان وبقي كيوان يترقب لابن العنبري الناظر فرصة ليوقعه في هلاك حتى قدم نائب الشام محمد باشا في سنة إحدى بعد الألف فتقرب منه كيوان وأطعمه بجريمة عظيمة في أن يوقع بابن العنبري فعلا فأمر مناديا ينادي على الخواجا محمد بن العنبري بأن من له عنده من جهة بستان أو معاملة أو ظلمه أوزور عليه فليحضر في غد بعد صلاة الجمعة صلى الباشا في السنانية وأرسل خلف الشيخين الشيخ محمد وأخيه الشيخ إبراهيم ابني سعد الدين فخرجا من الجامع بالفقراء وانضم إليهما من رعاع الناس من لا يحصر وأرسل الباشا إلى القاضي فخصر وأمر بإحضار ابن العنبري فأحضر وعقد له مجلس بالبستان وأدعى عليه السيد محمد الجعفري بأن من الجاري في وقف السبع النوري البستان المعروف بالحجاجية وإن الخواجا محمد المذكور وضع عليه يده بغير طريق الشراء فسئل عن ذلك فأجاب بأن نصفه بيده بطريق الإجارة والنصف الآخر بطريق الشراء من فلان وأبرز من يده تمسكات تشهد له بطبق جوابه فأبرز الجعفري ما يدل على أن جميع البستان وقف السبع النوري فقال له القاضي يا رجل هذا ظهر به كتاب وقف يشهد بوقفيته فكيف تشتهري ما هو وقف فقال لم أعلم بكونه وقفا وإنما اشتريته على كونه ملكاً كما يشهد لي بذلك هذه التمسكات على أني لما أطلعت على كونه وقفا خرجت عنه وأعدته وقفا كما كان وأظهر تمسكا يشهد بإعادته وقفا كما كان فقال له القاضي يلزمك ريع مدة وضع يدك عليه فقال إن لزمني شيء دفعته فقال له القاضي ألزمتك بمائة قبرصي بدل ريعه الذي استوفيته منه فقال نعم أدفع ذلك فلما لم يظهر في هذه الدعوى نتيجة كبيرة قال الجعفري للشيخين ومن معهما يا مشايخنا ويا ساداتنا ماذا تقولون في هذا الرجل وفي سيرته فقال الشيخان نشهد أنه رجل مزور مفسد ورموه بأمور وأجابهم الناس من كل جانب هذا مزور مفسد واجب القتل وأمثال هذا حتى صار للخلق ضجة عظيمة فأمر برده إلى القلعة والناس خلفه يضجون عليه قيل كان هيأ هم لذلك كيوان ووقع بعد ذلك إن الباشا أمر بدمع الخواجا محمد بن العنبري فدفع بالنار في جبهته وأنفه ووجهه وأركب حماراً مقلوبا وكشف رأسه وعري حتى صار بالقميص وطيف به في أسواق دمشق وشوارعها هذا جزاء من يزور على أوقاف نور الدين الشهيد ثم بعد التطوف به أعيد إلى القلعة وحزن الناس عليه حزناً عظيماً وكل ذلك كان بتدبير كيوان لعداوته له ثم عظم أمر كيوان وانتقل إلى سر دارية دمشق وأخذ أكابر أهلها بالحيلة وعوامهم بالرهبة وكان له كتخدا يقال له إبراهيم بن البيطار وكان من أخبث الناس وأسعاهم في الأذية وكان من جملة خيانته أن يحتال بنسوة عنده يأخذ المرأة منهن حليا أو حاجة من نساء إلا كابرا أما على سبيل العرض على البيع أو على سبيل العارية وتأتيه به فيأخذه في كمه ويذهب إلى ولي تلك المرأة وهو مظهر لحزنه وهمه ثم يطلعه على ما يكون معه سراً ويقول له قد دفعت اليوم عنك شراً فإن صاحبة هذا المتاع أخذها البارحة جماعة العسس في جمعية فخفت عليك من غائلة هذه القصة فقلت هذا المتاع لبنتي أو لأختي خذ هذا(2/304)
المتاع وأكتم هذا السر وقد ورنت عنك لكيوان كذا وكذا فما يسع الرجل إلا أن يدفع إليه المال ويتحمل منته ولم يزل كيوان على تجربة حتى وقع بينه وبين الجند بعد أمور جرت وبقيت الضغينة في قلبه لهم ولما كانت منته الأمير علي بن جانبولاذ تعسين لمحاربته الأمير يوسف بن سيفاً كما تقدم ومعه أمراء الشام فبعثوا كيوان إلى أحمد باشا أمير غزة ليأتي به فوافق وصوله موت أمير غزة وكان ابن سيفا والعساكر تلاقوا مع ابن جانبولاذ وكسروا فوصل خبر الكسرة إلى غزة فرجع كيوان منها إلى ابن معن حمله على معاونة ابن جانبولاذ واغتنم الفرصة وما زال بابن معن حتى قوى رأس ابن جانبولاذ على المسير إلى دمشق وانتهاك حرمتها وانتبهوا ما أمكنهم نهبه من خارجها ثم إن السلطان عين الوزير مراد باشا لمقاتلة ابن جانبولاذ فلما وصل إلى حلب قاتله وفتك فيه وفي أعوانه من السكبانية حتى كاد يستأصلهم فذهب أهل الشام إليه للشكاية على ابن معن فتوجع كيوان إلى جانب الوزير وخدعه بمال كثير كان معه من ابن معن فترك الوزير ابن معن واستقر قليلا ثم عاد إلى الفتن ورجع ابن معن إلى التمرد على حكام الشام حتى وليها الحافظ أحمد باشا الوزير فكاتب في شأنه إلى عتبة السلطان فجهز إليه العساكر من أول ولاية أنا طولي إلى أرض دمشق ثم خرج إلى ابن معن فحصل له ولكيوان رعب شديد واقتضى رأيهما آخر إلى أن نزلا البحر ولحقا ببلاد الفرنج واستقرا هناك إلى أن عزل الحافظ عن ولاية الشام فخرج إليه الأمير يونس بن الحرفوش أمير بعلبك وكيوان وتوافقا معه على أن يهدما قلعة الشقيف وقلعة بانياس ويسلما إليه مالا وتعطي البلاد لابنه الأمير على وطلبا الأمان للأمير فخر الدين فجاء من بلاد الفرنج وكان كيوان قد استقر بدمشق فأظهر كثيراً من عمل الخير وسمى نفسه الحاج كيوان وأمسك عن قبول هدية الناس وبقى في انفراده وصدارته إلى أن تحرك ابن معن على البقاع وخرج لمقاتلته الوزير مصطفى باشا الخناق نائب الشام وكان كيوان ممن سارع إلى ابن معن لمعاونته ولما انكسر عسكر الخناق وقبض ابن معن عليه وقعت الفتنة بين ابن معن وكيوان بسبب ذلك وآل الأمر بينهما إلى أن ضرب ابن ممن كيوان بخنجره في رأسه فقتله وكان قتله في صبيحة يوم الخميس الثالث والعشرين من المحرم سنة ثلاث وثلاثين وألف ودفن عند باب دمشق من أبواب بعلبك وقيل في تاريخ قتله: وأكتم هذا السر وقد ورنت عنك لكيوان كذا وكذا فما يسع الرجل إلا أن يدفع إليه المال ويتحمل منته ولم يزل كيوان على تجربة حتى وقع بينه وبين الجند بعد أمور جرت وبقيت الضغينة في قلبه لهم ولما كانت منته الأمير علي بن جانبولاذ تعسين لمحاربته الأمير يوسف بن سيفاً كما تقدم ومعه أمراء الشام فبعثوا كيوان إلى أحمد باشا أمير غزة ليأتي به فوافق وصوله موت أمير غزة وكان ابن سيفا والعساكر تلاقوا مع ابن جانبولاذ وكسروا فوصل خبر الكسرة إلى غزة فرجع كيوان منها إلى ابن معن حمله على معاونة ابن جانبولاذ واغتنم الفرصة وما زال بابن معن حتى قوى رأس ابن جانبولاذ على المسير إلى دمشق وانتهاك حرمتها وانتبهوا ما أمكنهم نهبه من خارجها ثم إن السلطان عين الوزير مراد باشا لمقاتلة ابن جانبولاذ فلما وصل إلى حلب قاتله وفتك فيه وفي أعوانه من السكبانية حتى كاد يستأصلهم فذهب أهل الشام إليه للشكاية على ابن معن فتوجع كيوان إلى جانب الوزير وخدعه بمال كثير كان معه من ابن معن فترك الوزير ابن معن واستقر قليلا ثم عاد إلى الفتن ورجع ابن معن إلى التمرد على حكام الشام حتى وليها الحافظ أحمد باشا الوزير فكاتب في شأنه إلى عتبة السلطان فجهز إليه العساكر من أول ولاية أنا طولي إلى أرض دمشق ثم خرج إلى ابن معن فحصل له ولكيوان رعب شديد واقتضى رأيهما آخر إلى أن نزلا البحر ولحقا ببلاد الفرنج واستقرا هناك إلى أن عزل الحافظ عن ولاية الشام فخرج إليه الأمير يونس بن الحرفوش أمير بعلبك وكيوان وتوافقا معه على أن يهدما قلعة الشقيف وقلعة بانياس ويسلما إليه مالا وتعطي البلاد لابنه الأمير على وطلبا الأمان للأمير فخر الدين فجاء من بلاد الفرنج وكان كيوان قد استقر بدمشق فأظهر كثيراً من عمل الخير وسمى نفسه الحاج كيوان وأمسك عن قبول هدية الناس وبقى في انفراده وصدارته إلى أن تحرك ابن معن على البقاع وخرج لمقاتلته الوزير مصطفى باشا الخناق نائب الشام وكان كيوان ممن سارع إلى ابن معن لمعاونته ولما انكسر عسكر الخناق وقبض ابن معن عليه وقعت الفتنة بين ابن معن وكيوان بسبب ذلك وآل الأمر بينهما إلى أن ضرب ابن ممن كيوان بخنجره في رأسه فقتله وكان قتله في صبيحة يوم الخميس الثالث والعشرين من المحرم سنة ثلاث وثلاثين وألف ودفن عند باب دمشق من أبواب بعلبك وقيل في تاريخ قتله:(2/305)
قال لي صاحبي وقد مات كيوان ... هلا كاو من له الذكر يتلى
كيف راح الخبيث ناديت أرخ ... علم الله راح كيوان قتلا
وأرخه أبو بكر العمري شيخ الأدب أيضاً بقوله:
ولما طغى كيوان في الشام واعتدى ... وأرجف أهليها وللظلم فصلا
فقلت لهم قزوا عيوناً وأرخواً ... ففي بعلبك قتل كيوان أصلا
وذهب دمه هدراً والله تعالى أعلم.
حرف اللام
لطف الله بن زكريا بن بيرام الرومي والد أستاذي واحد الدهر عزتي روح الله تعالى روحهما فرد الزماني في التفضل والجمع لاشتات النعم والتمول لازم من شيخ الإسلام سعد الدين بن حسن جان وولى بعض المناصب ثم أعطى قضاء فلبه بالمولوية فأقام بها واستوطنها واقتنى بها دوراً وأتباعاً وعبيداً وتملك عقارات وبساتين وحوانيت وحمامات تفوت الحصر وجمع من الحواشي والمواشي ما تقصر عنه إحاطة الحساب وعمر بها جامعاً وجعل له وقفا ورتب به خيرات كثيرة واستمر بها قاضياً نحو خمسة وأربعين عاماً لم يعزل الأمرتين ما تجاوزت مدتهما العامين بكثير وعوض عنها في إحداهما بقضاء أيوب ووقع له في الثانية أنه صار مكانه المولى عبد الله الشهير ببلبل زاده وكان من أخصاء أخيه شيخ الإسلام يحيى فاجتمعا في وليمة عرس أو ختان وكان به بعض أرباب الملاعب مائة قرش فانتدب صاحب الترجمة وأمر له بخمسمائة قرش وقال لبلبل زاده أنا بعناية الله تعالى في قدرتي أن أعطي أمثال هذا في كل ليلة هذا المقدار فمثلي لا يقابل بإظهار مثل هذا التكرم مع العلم بعدم المكنة ثم أعيد إلى قضائها وأعطى رتبة قضاء العسكر بانا طولي ثم بروم أيلي وكانت وفاته في سنة خمس وأربعين وألف تقريباً وعين أخوه لضبط مخلفاته المولى محمد بن عبد الحليم البورسوي فأقام في ضبطها ثلاث سنوات.(2/306)
لطف الله بن محمد الغياث بن الشجاع بن الكمال بن داود الظفيري قال ابن أبي الرجال في تاريخه شيخ الشيوخ وأمام أهل الرسوخ الحري بأن يسمى أستاذ البشر والعقل الحادي عشر بهاء الدين وسلطان المحققين إلى آخر ما وصفه به مما لا مزيد عليه قال ولقد صار مفخرة لليمن على سائر البلاد ونقل أهل الأقاليم الشاسعة أقواله وما وضعه من الكتب هو مرجع الطالبين في اليمن منها المناهل الصافية على الشافية كالمختصر للرضى أبرز فيها الفوائد من الرضى في صورة تعشقها الأفهام واتى للمنتهى والقاصر بماير يده حتى لم يفتح الطالبون بعدها كتاباً في الفن إلا المتوسع المتجر وقد صارت الشروح كالمنسوخة بالمناهل وكان العلامة أحمد بن يحيى بن حابس أراد التقريب لنجم الأئمة على أفهام الطلبة فلما رأى هذا الكتاب أعرض عن ذلك وقال إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل وله عليها حاشية وولع بهذا الكتاب من رآه ولقد جعله شيخنا القيرواني من فوائد سفره إلى اليمن واعتنى يتملكه وله شرح مفيداً للسعد وهي حاشية مفيدة ما تناقل الناس بعدها غيرها وكانت حاشية العلامة الخطائي كثيرة الدوران وإن لم تكن كاملة فألقاها الناس وحاشية حفيد الشارح وغيرهما ولم يسمها الشيخ باسم فسماها السيد الإمام صلاح بن أحمد بن المهدي المؤيدي بالوشاح على عروس الأفراح والسيد اختار هذا الاسم بناء منه على أن الشرح الصغير يسمى بعروس الأفراح وهو كذلك شائع في الطلبة وليس كذلك إنما عروس الأفراح شرح السبكي ونعما هو فإنه شرح مفيد جداً وله أيضاً شرح على الفصول اللؤلؤية لم يتم له فيهإلى العموموهو كتاب منقح مفيد وكان قد اشتغل بكتاب يفك فيه العبارات المبهمة في الازهار ولم يكن قد علم بالفتح لأنه كان يومئذ بالطائف فلما وصل إلى اليمن أطلع على كتاب يحيى ابن حميد المسمى بفتح الغفار وشرحه المسمى بالشموس والأقمار فاكتفى بذلك لموافقته لما أراد وله في الطب ملكة عظيمة كان الإمام القاسم وهو من علماء هذا الفن يقول الشيخ لطف الله طبيب ماهر ومع ذلك لم يتظهر بهذا الفن ورعا وله في علم الجفر والزيجات وغيرها أدراك كامل وكان قد أراد القامشي إلى تلميده السيد الحسين بن الإمام القاسم فإنه أرسل إليه قبل وفاته أن يبعث إليه بالقاضي العلامة أحمد بن صالح العينسي ليستودعه شيئاً من مكنون علمه فوصل القاضي وقد نقله الله إلى جواره وله أرجوزة مثل الأرجوزة المسماة برياضة الصبيان وكان كابن الهائم في الفرائض والحساب إليه النهاية في هذا العلم وكتب جعفر بن وبير العنقاوي الحسني أيام إقامته بمكة فإنه أسلف في مكة أياماً غراً واختلط بالفضلاء واختلطوا به وكان مجللا مكرما إليه كتاباً يلتمس منه تأليف كتاب في الفرائض والفقه ولفظه.
أيا شيخ لطف الله إلى القائل ... ولا شك من سماك فهو مصيب
لأني رأيت اللطف فيك سجية ... ولله في كل الأمور حبيب
سألتك سفراً أستعين بها على ... عبادة ربي لا برحت تحبيب
فتوضح لي يا شيخنا ما أقوله ... فأنت لداء الجاهلين طبيب
وأنت لنا في الدين عون وقدوة ... بقيت على مر الزمان تصيب
فنظم له أرجوزة في الفرائض وكتاباً بتعلق بربع العبادات ككتاب أبي شجاع في فقه الشافعية ولم يخرجا إلى اليمن وأجابه بقوله:
أمولاي يا من فاق مجداً وسودداً ... وما أن الله في الخافقين ضريب
أتاني عقد يخجل الدر نظمه ... ويعجز عنه أحمد وحبيب
معان وألفاظ زكت وتناسقت ... فكل لكل في البيان نسيب
وما كان قدري يقتضي أن أحبه ... ومثلي لذاك الملك ليس يجيب
وقلتم بأن أسمى يشير بأن لي ... نصيباً وكلا ليس فيه نصيب
أتحسب ما أعطيت من لطف شيمة ... تقصر عنها شمأل وجنوب
تعدى إلى مثلي وأني وكيف ذا ... وإني من أدنى الكمال سليب
ولكن حويت اللطف أنت جميعه ... فقلت على ذا الناس أنت عجيب
وأمركم ماض وحظى قبولكم ... وإني على قدر القصور مجيب(2/307)
وكان صاحب الترجمة في سكناه مكة وأهلها معلقون بأشياء قد استنكرها العلامة ابن حجر وصنف للزجر عنها كتاباً سماه كف الرعاع عن تعاطي اللهو والسماع وقل من يسلم من ذلك إلا من توفرت أسباب تقواه كالشيخ فإنه كان أعف خلق الله عن كل ريبة وحكى أنه مرض مرضاً آل به إلى السكتة وتغير الحس فقال بعض مهرة الأطباء أنه يفيده السماع فقال المعتني بشأن الشيخ أنه لا يرضى بذلك فقال افعلوا مع غفلة حسه ففعلوا فتحرك ثم استمروا فميز فلم يكن المهم له غير تسكيتهم وله شرح على خطبة الأساس للإمام القاسم وأجوبة مسائل منقحة وكانت وفاته بظفير حجه في رجب سنة خمس وثلاثين وألف رحمه الله.
لطفي بن محمد بن يونس الكاتب الدمشقي الأديب البليغ الفائق المعروف بالبصير كان في الذكاء وقوة الحافظة مما يقضي منه بالعجب ولم يكن في زمنه من يماثله في الحذق وقوة البراعة وسرعة الانتقال والبديهة وشدة الحفظ ولد بدمشق ونشأ بها في نعمة أبيه وكان كاتباً في العمارة السليمانية بالميدان الأخضر وكان ذا ثروة عظيمة يضرب به المثل في كثرة المال وجده يونس رومي ورد في خدمة السلطان سليم لما جاء إلى دمشق واستخلصها من أيدي ملوك الجراكة وأما لطفي هذا فإن والده مات وهو في سن خمس وعشرين تقريباً وخلف له ما ينيف على عشرين ألف ديناراً ومن الملبوس الفاخر والأملاك شيئاً كثيراً فسلك أولا طريق العلم فقر أو دأب وأخذ الصرف والنحو والمعاني عن العلامة الكبير علاء الدين بن عماد الدين الأحدب وأخذ الفقه والأصول عن علماء ذلك العصر والحديث والتفسير عن البدر الغزي وأتقن فنوناً كثيرة وتأدب كثيراً ونقلت من خط الحسن البوريني أنه رافقه في القراءة على فاضل الشرق العماد السمر قندي لما ورد دمشق صحبة الوزير حسن باشا ابن محمد باشا قال وقرأنا عليه المعقولات فتشاركنا في هداية الحكمة والمنطق والهيئة وكنا كل يوم نقرأ عليه في درس واحد وذلك في فن واحد لا غير وفي يوم آخر نقرأ دروساً في غير ذلك وكان ذلك الدرس الواحد يطول من كثرة التحقيقات من مطلع الشمس إلى وسط النهار وكان العماد المذكور في المقولات كالسعد التفتازاني في عصره فاستمرت قراءتنا عليه في تلك الفنون الثلاثة مدة ثلاث سنين انتهى ثم بعد ذلك تنقلت بلطفى الأحوال وابتلى في بصره من كثرة الرمد والوجع فقل نظره جداً من تراكم الوجع على عينيه فكان له شوق لحفظ كلام الله تعالى قيل إنه اشترى جارية حسناء وكانت تقرأ القرآن أحسن قراءة فحفظه منه أتم حفظ وكان له طلبة يطالعون له الكتب بأجرة وهو يحفظ ما يسمع من العبارات من قراءتهم حتى حفظ كتبا كثيرة في سائر الفنون فصار آية عظيمة في جميع الفنون خصوصاً في فنون الأدب برمتها وكان إذا أراداً يراد شيء من هذه الفنون يملي العبارات كما هي من حفظه ثم ترك القراءة واشتغل بهوى نفسه وعاشر القينات والغلمان ومما اتفق له أنه تعشق ولدين للشرفي يحيى بن شاهين الصالحي أحدهما يدعى إبراهيم والآخر درويشا وكانا بار عين في الجمال وصرف عليهما جميع ما اقتناه من تراث أبيه وكان يوقد بحضرتهما في مجلس المدام ثلاث شمعات من الشمع العسلي ويضع في كل واحدة ما يزيد على خمسين ديناراً فكلما ذاب منها شيء يسقط دينار فيتناوله أحد الغلامين ودام على هذا زماناً حتى فقد منه المال وأثرى إبراهيم وصار ذا دائرة واسعة وبقى هو صفر اليدين آل أمره إلى بيع جميع ما تركه والده من الأملاك ثم تنقلت به الأحوال إلى أن صار في آخر عمر يقف في بعض أسواق دمشق ويستجدي وبلغ من الفقر والخصاصة إلى حالة فظيعة وفقاً الملبوس ومما يروي له من الشعر قوله وبعث بها إلى معشوقة إبراهيم بعد خصامته:
بروحي الذي عني غدا متمنعا ... وكنت به دون الورى متمتعا
وكانت ليالي السعد تسعدني به ... وكنا كما شاء الهوى دائماً معا
رعى الله هاتيك الليالي فإنها ... ليال بها غرس الهوى لي أبنعا
ليال كان الدهر طوع يدي بها ... وكان الذي أهواه لي منه أطوعا
وكتب إلى صديق له يطلب منه خبراً:
أيا من تضوع أفكاره ... كمسك فيخجل عطاره
تصدق على بمقلوب ضد ... تصحيف قولي خبت ناره(2/308)
وقرأت بخط عبد الكريم الطاراني ومما أنشدني لطفي البصير من محفوظه بيتان من شعر العلامة العماد الحنفي كان نظمهما مؤرخا بهما قناة بناها والد لطفي محمد بالقرب من داره باطن دمشق بمحلة بين الطوالع بالقرب من مدرسة العادل بن أيوب وأتم بناءها في سنة اثنين وسبعين وتسمعائة ونقشهما في بلاطة من الرخان ركبها في أعلى القناة وهي يومئذ موجودة وهما:
محمد قد بني سبيلاً ... للخيرير جوبه سبيلاً
فجاء تاريخه شرابي ... حلا طهور أو سلسبيلا
وكانت وفاة لطفي في سنة خمس بعد الألف ودفن بمقبرة باب الصغير.
حرف الميم
ماجد بن هاشم بن علي بن المرتضى بن علي بن ماجد أبو علي الحسيني البحراني من أجل فضلاء البحرين وأدبائها ذكره السيدين معصوم في السلافة فقال في وصفه هو أكبر من أن يفي بوصفه قول وأعظم من أن يقاس بفضله طول نسب يؤل إلى الني وحسب يذل له الابي وشرف ينطح النجوم وكرم يفضح الغيث السجوم به أحيا الله الفضل بعد اندارسه ورد عزبية إلى مسقط رأسه شفع شرف العلم بطرف الأدب وبادر إلى حوز الكمال وانتدب فملك للبيان عنانا وهصر من فنونه أفنانا فنظمه منظوم العقود ونثره منثور الروض المعهود ومما يسطر من مناقبه الفاخرة الشاهد بفضله في الدنيا والآخرة أنه كان قد أصابته في صغره عين ذهبت من حواسه الشريفة بعين فرأى والده النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فقال أن أخذ بصره فقد أعطى بصيرته ولد ونشأ بالبحرين فكان لهما ثالثا وأصبح للفضل والعلم حارثاً وارثا وولي بها القضا فشرف الحكم وأمضى ثم انتقل منها إلى شيراز فطالت به على العراق والحجاز وتقلد بها الإمامة والخطابة فشرفت به المنابر ونشر خبر فضائله المستطابة فتاهت به المحابر ثم أنشد من شمره قوله:
حسناء ساءت صنيعاً في هيتمها ... ياليتها شفعت حسنا بإحسان
دنت إليه وما أدنت مودتها ... فما انتفاع امرئ بالباخل الداني
وقوله في مليح قارئ:
وتال لآى الذكر قد وقفت بنا ... تلاوته بين الضلالة والرشد
بلفظ يسوق الزاهدين إلى الخنا ... ومعنى يشوق العاشقين إلى الزهد
وقوله:
وذي هيف ما الورد ما ببالغ ... صدى وجنتيه في احمرار ولا نشر
يرينا من العلياء أن سيم وصله ... علينا بما فوق النفوس ولا نشري
وكانت وفاته بشيراز في سنة ثمان وعشرين وألف.
محب الله بن محمد محب الدين بن أبي بكر تقي الدين بن داود جدي والد والدي صدر الشام في زمنه ومرجع خاصتها وعامتها وقد أوصله الله تعالى بين علماء دمشق إلى مرتبة لم يصل إليها أحد فيما تقدمه منهم وأقبلت عليه الدنيا إقبالاً عظيماً وتوفرت له دواعي المعالي وملك من الذخائر والتحف مالا يضبط بالإحصاء ورزق الأبناء الكثير مات منهم عن ثمانية وولي المناصب العالية والمدارس السامية واتفق له أنه تصرف في نيابة الشام وقسمتها العسكرية جمعا بينهما ست عشرة سنة لم يعزل فيها إلا ثلاث مرات أو أربع مرات ولما حج قاضي الشام المولى شعبان بن ولي الدين كان أرسل إلى طرف الدولة يستأذن بالحج فأذن له وفوضت النيابة بأمر سلطاني لجدي المترجم ولما مات والده كان عمره ست عشرة سنة فوجهت إليه عن والده المدرسة الناصرية البرانية واشتغل بطلب العلم فقرأ على أكثر تلامذة والده منهم العلامة عبد الرحمن العمادي وغيره وسما من ذلك العهد فطلب معالي الأمور وسافر إلى الروم ولازم من شيخ الإسلام يحيى زكريا وهو قاضي العسكر بروم إيلي وبوسيلته والتقرب منه نال ما نال وصار قاضي الحج وقاضي العسكر في صحبة أحمد باشا الوزير المعروف بالكوجك لما سافر علي بن معن ودرس بالدوريشية برتبة الداخل المعروفة الآن ثم أعطى رتبة قضاء القدس (مراجعة الصفحة 309 يوجد نقص).(2/309)
الشريف محسن بن الحسين بن الحسن بن أبي نمى سلطان الحرمين كان من أمره أنه أنشأ في كفالة أبية وجده وكان جده ينوه بقدره ويقدمه لنباهته ونجابته وظهور آثار الرياسة عليه في صغره وكان يقدمه في الحروب فيرجع مظفراً ولما تولى عمه أبو طالب إمارة مكة أحله محل ولده إلى أن مات أبو طالب فشارك عمه الشريف إدريس في إمارة مكة ولبس الخلعة الثانية ودعى له في الخطبة وعقد له لواء الإمارة وضربت له النوبة الرومية في بيته ووردت الأوامر السلطانية برسمه وأنت المراسيم إليه مع عمه واستمر شريكا بالربع إلى أن أذن الله له بالاستقلال بولاية الحجاز فجرى بينه وبين عمه حال أدى إلى قيامه عليه وبايعه جميع الأشراف على ذلك فخلع عمه الشريف إدريس واستقل بالأمر يوم الجمعة سنة أربع وثلاثين وألف وفي سادس شهر ربيع الأول من هذه السنة وردت إليه من صاحب مصر الخلع وفي شعبان خرج إلى المبعوث وأقبلت إليه الوفود من كل النواحي ثم دخل مكة في شوال في موكب عظيم ودخل المسجد ونصب لشيخ الإسلام عبد الرحمن بن عيسى المرشدي منبراً بالحطيم وقرأ المرسوم السلطاني وبعد تمام قراءة قلد الشريف محسن بسيف مجوهر ثم ألبس الخلعة السلطانية ثم فتح له البيت العتيق فطاف والخلعة عليه ثم توجه إلى منزله فجئ له بخلعة صاحب مصر فلبسها ثم نشر العدل وانتظم به الحال واطمأنت الرعية وكثر الدعاء له ودخل في سلك طاعته سائر الفرق العاصية ثم توجه إلى المبعوث سائراً إلى بجيلة ونواحيها وناصره في جيش جرار فلما علموا بمجيئه جاءته مشايخ بجيلة ووجوه أهلها مطيعين لأمره وطلبوا العفو والمسامحة بما صدر منهم من العصيان فعفا عنهم ثم توجه إلى ناصرة ونزل بمكان يقال له ميسان من وادي مخرا وأمر الجند بخراب ديارهم لامتناعهم من الدخول تحت طاعته (مراجعة الصفحة 310 يوجد نقص فقرة).
جموعهم ثم أخذ الشريف مسعود وعولج فقطبت جراحاته وجبر ما تكسر منه فعوفي وعاش إلى أن ولاه مكة قانصوه باشا بعد قتله للشريف أحمد بن عبد المطلب ولما كان في آخر صفر سنة سبع وثلاثين وألف وصل الوزير أحمد باشا متوليا الجهات اليمنية فلما وصل إلى محاذاة جدة بحيث يراها انكسرت سفينته وغرقت أمواله فنزل إلى جدة وأرسل إليه الشريف محسن بهدية ثم نزل إليه الشيخ عبد الرحمن المرشدي بمكاتيب منه وأقام عنده أياماً ثم طلب الإعانة من الشريف محسن فشرع في تدبير مال له فلما أن كان في أثناء ذلك وصل الخبر إلى مكة أن أحمد باشا المذكور سجن القائد راجح بن ملحم الدويدار حاكم جدة ومحمد بن بهرام الشريفي أحد خدام الشريف محسن وكان أرسله الشريف إلى جدة بمكاتيب إليه فأرسل الشريف حينئذ الشيخ عبد الرحمن قره باش الواعظ الرومي إلى جدة لينظر في هذا الأمر فلم ينتج شيئاً فلما كان ليلة غرة شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة وصل الخبر بأنه صلب راجح المذكور وأنه ولي السيد أحمد بن عبد المطلب وكان في هذه المدة يتردد إليه فحصل حينئذ اضطراب وقال قيل فبعد مدة وصل خبر وفاة أحمد باشا وأنه نودي بجدة للشريف محسن ففرح الناس بذلك كثيراً ففي ثاني يوم ورد الخبر بأن الأمر عاد إلى ما كان وأنه نودي للشريف أحمد بجدة فبعد مدة برز الشريف محسن بعساكره وجنوده ونزل بومح اسم ماء بقرب جدة ووقعت هناك فتنة بموجب أن الأتراك خرجوا لأخذ غنم ترعى في تلك الجهات فوصل الخبر للشريف محسن فركب ومعه الأشراف والأجناد فوقعت ملحمة عظيمة قتل فيها من الأتراك جانب ومن الأشراف السيد ظفر بن سرور (مراجعة الصفحة 311 يوجد نقص فقرة).(2/310)
بعد صلاة عشاء ليلة السابع عشر من شهر رمضان فالتقوا بالقرب من التنعيم في صبيحتها فوقعت معركة وأطلقت المكاحل وضربت البنادق فتوجه الشريف محسن والأشراف إلى جهة الحسينية ودخل الشريف أحمد بن عبد المطلب إلى مكة ضحى ذلك اليوم وهو السابع عشر من شهر رمضان والمنادى بين يديه وكان دخوله من الحجون فاضطربت الأفكار وتعب الناس فأول ما بدأ به دخول المسجد من باب السلام وفتحت له الكعبة المشرفة فدخلها ثم عزم إلى المخل الذي أراد السكني به فوقه المهرج والمرج وتسلط العسكر على بيوت الناس وحصل الخوف وذهب صاحب الترجمة إلى بيشه بكسر الباء وأقام بها ونزل ولده زيد على القنفده ونهب منها أموالاً جمة وكاتب الإمام محمد بن القاسم فعضده بابن لقمان فجهز إليهم ابن عبد المطلب جيشاً من جدة إلى القنفده فالتقى الجمعان هناك فكسرهم وشتت جموعهم مرات ثم أقام ابن لقمان في عنود هو وزيد وأصحاب ابن عبد المطلب في القنفده وتوجه الشريف محسن إلى الإمام فلما ورد إليه أكرمه وأحسن إليه وأقام عنده أياماً ثم توجه إلى صنعاء يريد التنزه فاختر منه المنية بمحل يسمى غربان وحمل إلى صنعاء ودفن بها وكانت وفاته في خامس شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وألف ويقال إنه مات مسموماً وكانت مدة ولايته ثلاث سنين وثمانية أشهر ونصف ولعلماء عصره وشعرائه فيه مدائح كثيرة يتناقلها أدباء مكة.
محمد بن إبراهيم المدعو ببديع الزمان الفاسي كان فاضلاً لسنا فصيحاً وشاعراً عربياً له نظم رائق ونثر فائق مشتمل على المعاني الحسنة والنكات البديعة وكان حسن إلا يراد مقبول الإنشاد مع ما فيه من رقة الحضارة ودقة البداوة رجل من المغرب إلى المشرق وجال في البلاد ودخل قسطنطينية الروم في سنة إحدى وألف واجتمع بعلمائها وقد ذكره أبو المعالي الطالوي في سانحاته وأثنى عليه كثيراً وذكر مراجعات وقعت بينه وبينه فمن ذلك ما كتبه إليه صاحب الترجمة:
(مراجعة الصفحة 312 يوجد نقص)
وأبقت لي النوى جسما كأني ... لفرط السقم حال أو محال
أفديهم بأموالي ونفسي ... وهل لي في الهوى نفس ومال
أأسلوهم مدى الدنيا سلوهم ... ولو أصلوا فؤادي ثم صالوا
شعاري حبهم والمدح ديني ... لمولى الفضل درويش بن طالو
هو النحرير بحر العلم مهما ... أهم الأمر أو أعيا السؤال
ذكى ألمعي لو ذعي ... سرى ماله حقا مثال
له علم حنيفي محيط ... وحلم أحنفي واحتمال
وفكر عند ذي التحقيق ذكر ... بشكر الله مغرى لا يزال
حوى كل المعاني والمعالي ... بعقل ماله عنه انعقال
له نظم كدر في نحور الغواني ... دونه السحر الحلال
فريد في العلي من غير ندّ ... فدع ما قيل أو ما قد يقال
فيمم داره وأنزل حماه ... إذا جار إلا عادي واستطالوا
وقل للمدعى هل حزت أصلاً ... له بالطالو بين اتصال
لقيناه باسلامبول لما ... عدمنا فيه حراً يتمال
فوالانا وأولانا بشاشا ... وبشراً دونه العذب الزلال
وأنسانا بانياس أناسا ... لهم في القلب حل وارتحال
ألا يا ابن الالي قد حزت فخرا ... له في وجنة البدر انتعال
وسدت اليوم أهل الأرض فاهنأ ... بعز ماله عنك لا ينال
كساها مدحك المحمود حسنا ... لها فيه ازدهاء واختيال
فتبدى تارة دلا لديكم ... ويعروها على الدنيا دلال
ترجى أن تنيلوها قبولا ... عسى يبدو لها منك احتفال
(مراجعة يوجد في الصفحة 313 نقص)(2/311)
الطالوي أنه حن يوماً إلى وطنه حنين الفحل إلى عطنه والمهجور إلى سكنه وقد ذكر مسقط رأسه ومشتعل نبراسه وهي البلدة البيضاء أعنى فاس فتصاعدت منه لغرقتها الأنفاس حتى ذرفت عيناه بالدموع شوقاً إلى تلك المنازل والربوع فلما رأى الحاضرون حاله رق كل له ورثي له قال فقلت على لسان حاله وقد توجه وقد توجه لمنزله ببلباله قطعة سبقته إلى النادي وكانت عنده كبعض الأيادي مع لغزفي اسم بلدة مراكش وكان قد جرى شيء من ذكرها فنظم ذلك في أثرها:
ربعت على تلك الربوع عنون ... وطفاء فيها للبروق حنين
مسفوحة العبرات سفح مدامعي ... نحو الديار كأنهن عيون
فسقي معالم فاس حيث صبابتي ... وصباي فيها صاحب وخدين
فارقتها وأنا الضئين وربما ... يسخو الفتى بالروح وهو ضنين
فعلى معالمها تحية مغرم ... في قلبه لهوى الديار شجون
وأما اللغز فهو:
وما اسم خماسي مسماه بلدة ... تركب من شكين وهو يقين
فشك تراه العين بادبلامرا ... وشك بقلب لا تراه عيون
فكتب إليه بسرعة لما وصلت إليه الرقعة وما زال العبد من حين مفارقتكم لا يقر له قرار إلى أن ورد شذ أنظمكم المعطار فقال طالباً للقبول على استعجال من الرسول
مولاي لا زلت فرداً في المكارم يا ... أبا المعالي ودم في أرفع الدرج
(يوجد نقص في الصفحة 314)
ما ذات عود لها لحن من الهزج ... باتت تغني به في روضها البهج
لها بدعوة نوح طوق غانية ... على وشاح من الأزهار منتسج
مخضوبة الكف لا من عندم خضبت ... ذاك البنان ولكن من دم المهج
مدت قوادم ليل فيه لاح لنا ... بيض الخوافي كصبح منه منبلج
يوماً بأحسن من مرأى نظام فتى ... بذكره فاس ومغنى ربعها لهج
ثم أنه سافر إلى مصر وبها توفي وكانت وفاته في سنة ست بعد الألف.
محمد بن إبراهيم الفرضي الميداني المنعوث شمس الدين التنوري الشافعي أحد مشاهير مشايخ دمشق في علم الفرائض والحساب وكان إليه النهاية في هذين العلمين مع مشاركة في غيرهما وكان صالحا ورعا حسن الاعتقاد وبالجملة فإنه بركة من بركات عصره أخذ الفرائض عن الشيخ محمد النجدي نزيل المدرسة العمرية بصالحية دمشق وكان يسكن محلة ميدان الحصا فيذهب منها في كل يوم إلى الصالحية ويقرأ عليه وخدمه كثيراً حتى مهر وقصده الطلبة من الأطراف وانتفعوا به وممن أخذ عنه الحسن البوريني والشيخ عمر القاري والبدر الموصلي وغيرهم وسكن مدة داخل دمشق في سوق البزوريين وصاحب آخراً رجلا مصريا يقال له الشيخ يحيى وكان يعرف العلوم الغريبة كالزاير جاو اليميا والكيميا وكان الشيخ يحيى قد رحل إلى البقاع العزيزي فكان التنوري يأخذ معه نفأس المأكولات ويسافر إلى البقاع بقصد الشيخ يحيى ويطلب منه التعليم فما سمح له بشيء سوى بعض مبادئ الكيميا فأتلف ما كان يملكه ولم يحصل منها على شيء وعمر كثيراً ومات بمحلة ميدات الحصا في أوائل شهر ربيع الأول سنة سبع بعد الألف قال البوريني في ترجمته وأخبرني ولده الشيخ محمد أنه عاش ستا وسبعين سنة ودفن بتربة الجوزة بمحلة الميدان.
محمد بن إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن محمد الأكمل بن عبد الله بن محمد بن مفلح التماضي (مراجعة إلى الصفحة 315 يوجد نقص فقرة)
لأكمل مولانا خطوط كأنها ... خطوط عذار رزينت صفحة الخدّ
إذا ما امتطى منه اليراع أناملا ... أراك سطور المجد في فلك السعد
فهذا العمري مفلح وابن مفلح ... فتاهيك مولى فاق بالجد والجد
وكان مع كثرة أدبه وإطلاعه لم ينظم شعراً سوى ما رأيته في بعض المجاميع أنه روى له هذا البيت ولم يتفق له غيره وهو قوله:
أليس عجيباً أن حظي ناقص ... وغيري له حظ وإني لأكمل(2/312)
وكان كثير الفوائد ورأيت بخطه مجاميع كثيرة ونقلت منها أشياء مستظرفة فمن ذلك هذه الفائدة فيما تقوله العرب إنه أحد الشيئين حسن شعر المرأة أحد الوجهين والقلم أحد اللسانين وحسن المرافقة أحد النفققين ونشيد الهجاء أحد الهجاءين والعزل عن المرأة أحد الوأدين والأدب أحد الحسبين والجنوب أحد المطرين وحسن المنع أحد البدلين والسؤال عن الصديق أحد الشافعين والتثبت أحد العزمين والقرض أحد الهبتين والتلطف في الحاجة أحد الشافعين واللطافة أحد الخصتين وحسن الخط أحد البلاغتين واليأس أحد الراحتين والطمع أحد المعرتين وسوء الخلق أحد المصيبتين ومن ذلك هذه العجيبة قال أخبرني شيخنا شيخ الإسلام أبو الفتح المالكي ابن عبد السلام أنه لما توجه في سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة إلى دار السلطنة قسطنطينية نزل بمدينة قونيه فرأى بها رجلاً بلحية كبيرة سائلة إلى صدره وهو يتعاطى المتجر فتحرر أمره أنه امرأة وله فرج أنثى وكشف عليه حاكم تلك المدينة فوجده أنثى بفرج فحلق لحيته وأمره بالسترة (يوجد نقص فقرة مراجعة إلى الصفحة 316).
ثياب النساء عنها وألبسها ثياب الرجال من الأجناد وسماها محمد أو جعله من جملة خدمه وأنعم عليه باقطاع وشاهد ذلك كل أحد ورأيت في الكشكول تأليف البهاء الحارثي نقلا عن حياة الحيوان عن ابن الأثير في كامل التاريخ في حوادث سنة ثلاث وعشرين وستمائة قال كان لنا جار وله بنت اسمها صفية فلما صار عمرها خمس عشرة سنة نبت لها ذكر وخرج لها لحية قال البهاء ونظير هذا ما أورده حمد لله المستوفي في كتاب نزهة القلوب وأورده بعض المؤرخين أيضاً أن بنتا كانت في قميشة وهي من ولايات أصفهان فزوجت فحصل لها ليلة الزفاف حكة في عانتها ثم خرج لها في تلك الليلة ذكر وأنثيان وصارت رجلا وكان ذلك في زمان السلطان الجانبولاذ خدا بنده وذكر الأكمل أنه يعرف قصة وقعت بدمشق في سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة وهو أنه كان بمحلة القيمرية شاب أمرد أسمر اللون يسمى علي بن الرفاعي وكان يجلد الكتب ويهواه شخص يسمى عبد الرحمن بن الظني فوقع له معه واقعة أقضى أمرها للوقوف بين يدي القاضي كمال الدين العدوي الشافعي البقاعي الحاكم خلافة بمحكمة الميدان فترجح عنده أن عليا المذكور خنثى وإنه للأنوثة أميل فأمر الأطباء بالكشف عليه فوجدوا له فرجا له حلمة صغيرة فوقها ثلاثة أبخاش صغار فأزلوا ذلك بالقطع فظهر تحت المحل المذكور فرج أنثى فعند ذلك حكم الحاكم الشافعي بأنوثته وسموه عليا وزوجوها بعاشقها عبد الرحمن المذكور فدخل عليها فوجدها بكراً وأزال بكارتها وحملت منه ووضعت أولادا متعددة شاهد ذلك وتحققه غالب أهل دمشق انتهى وكانت ولادة الأكمل في يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ثلاثين وتسعمائة وتوفي نهار الأربعاء وقت الضحوة الكبرى سابع عشر ذي الحجة سنة إحدى عشرة بعد الألف ودفن بمقبرة سفح قاسيون في قبر والده.
محمد بن إبراهيم الملقب بسرى الدين الدروري المصري الحنفي المعروف بابن الصائغ (يوجد نقص فقرة في الصفحة 317).(2/313)
وبه تفوق على نظرائه وكان يعرف اللغة الفارسية والتركية حق المعرفة بحيث أنه إذا تكلم بهما يظن أنه من أهلهما ودرس بمصر في المدرسة السليمانية والمدرسة الصرغتمشية وكان يكتب الخط المدهش وألف حاشية على شرح الهداية للأكمل وحاشية على شرح المفتاح الشريفي وحاشية على البيضاوي ورسالة في المشاكلة وكلها ممتعة نفيسة جارية على الدقة والنظر الصحيح وانتفع به جماعة وسافر إلى الروم بطلب من شيخ الإسلام أحمد بن يوسف المعيد مفتى السلطنة ورزق منه قبولاً تاماً ووجه إليه رتبة قضاء القدس ودخل دمشق ذهاباً وإياباً وأخذ عنه بها الشيخ محمد بن محمد العيثي ووالدي وعرض عليه رحلته الرومية الأولى فكتب عليها الحمد الله الذي تفضل على من شاء من عبادة فكان له محباً وشغفه بالكمال فكان به ولوها وصبا والصلاة والسلام على أشرف الأنام الذي ترقى في حضرات القدس وشاهد الأنس دنوا وقربا وعلى آله وأصحابه الذين لم يجعل لهم في سوى اقتفاء آثاره حاجة وقربي وبعد فقد بعث إلى من وادي الأدب المقدس هدية سنية وسفر أسفر عن بدائع عبقرية حيرتني فلست أدري أروض دبجته أيدي الغمام أم عسجدية حسنتها فارس بأنواع التصاوير والأرقام بيد أنها أعربت عن سموهمة مبدعها بالاقتداء في الهجرة بالآباء الكرام فسار مسيراً الهلال في منازل التحصيل ثم الترقي إلى أوج التمام فالله تعالى يكثر من أمثاله إذ لم تر له مثلاً فضلاً عن أمثال ويبقيه صدراً للأفادة ومحتداً للفضل والأفضال وأورد له والدي رحمه الله في ترجمته قصيدة من نظمه في غاية السلاسة واللطافة وذكر أنه مدح بها قاضي مصر المولى عبد الكريم المنشى ومستعهلها.
رعى الله عصراً بالغرام تقدماً ... أراه بثوب الدهر وشيامنما
(يوجد نقص فقرة في الصفحة 318).
تبدت لي الأيام في زي بأسهم ... وسلت بكف الغدر للقتل مخذما
وضحك مشيبي أن عصر شبيبتي ... يودع جسماً ما أراه مسلما
هبطنا إلى أرض المذلة بالذي ... تخذت لصرح العز مرقي وسلما
ومما دهاني أن بليت بأغيد ... إذا شاء أسكار العقول تبسما
وإن مارنا واهتز غصن قوامه ... فويل المهى منه وتعسا على الدما
تمايل وسنان الجفون وما احتبس ... مداما وأصمانا وما راش أسهما
وولاه سلطان الجمال نفوسنا ... ألست ترى ديباج خديه معلما
وما هو إلا أن تعطفه الحجي ... فيسمح لي في زوره ثم يندما
زرعت بلحظي الورد في روض خده ... أما آن أن يجني بفي أما أما
وهبه حمي وردية بعذاره ... فمنع فم العشاق ذاك اللمي لما
ملكت البقا الأيمن قد صبحته ... أعانقه ليلا إذا لطيف أحجما
وذاك لقاء المغرد الكامل الذي ... غدا الدهر في ترتيل مدحته فما
وكانت وفاته في سنة ست وستين وألف ودفن بمقبرة المجاورين رحمه الله تعالى.(2/314)
السيد محمد بن إبراهيم بن الفضل بن إبراهيم بن علي بن الإمام يحيى شرف الدين قال ابن أبي الرجال هو بحر العلم الخافق في الخافقين وبدر الدين الذي أنار في المشرقين أمام المقولات والمنقولات والمبرهن على حدودها وبراهينها والمقولات صدر السادة وبدر القادة كان قدس الله تعالى سره نسيج وحده وفر يد وقته وإنسان زمانه الكامل القاضي في العلوم على كل فاضل والحاكم الذي لبه رزين والواسطة التي بجواهر العقد تزين وكان رباني عصره معمور الباطن والظاهر مسعوداً في حالاته ملحوظاً إليه بعين التكريم أينما توجه مع كمال في سمته وجلالة باهرة حتى قال بعض الفضلاء أحسب أنه لو اجتمع الخلق في الحشر وخرج السيد محمد بينهم علم كل أحد وكان مع تلك الخلال وذلك الجلال سهل الأخلاق غير مترفع ولا ينقص ذلك من مقداره شيئاً وكانت له فكرة سليمة كما قال شيخه الوجيه عبد الرحمن الحميي في صفته أنه مستغرق الفكرة بالله تعالى وهو مع الناس ظاهراً هكذا ذكره لي شيخنا مشافهة أيام قراءته عليه في الكشاف وكانت أحواله أحوال الأمراء وصيته أعلى من ذلك لما حواه من هذه الكمالات ولماله من النسب الشريف الذي لا يسامي وكان في أهل بيته الكرام وكالبدر بين النجوم ولد سنة اثنتين وعشرين وألف ولم يزل مواظباً على العلم من صغره إلى كبره يستفيد منه الطالبون ويراجعه الفضلاء بالكتب من الآفاق ويستمطرون ديمة آدابه ويفجرون معين علمه فيأتيهم من قبله كل عجيب غريب وقرأ في الفنون بمدينة صنعاء وبلدة كوكبان وشيام ورجل إلى الطويلة لقراءة شيء من كتب أصول الفقه على السيد العلامة عز الدين بن ذريب وأكثر ما تعلق به في صنعاء علم الأدوات والتفسير وأما الحديث فأكثر قراءته على شيوخ وردوا إليه إلى محله المبارك فقرأ من كل فن وجوه كتبه وهيمن على غرائبها وكان واسع الحفظ نادرة في ذلك سيال الذهن ولا يلقى المسائل إلا على جهة الإجابة واستوطن في آخر أيامه وادي ظهر وأنس به الناس هنالك وازداد الوادي به بهجة وعلق به من لا علاقة له به وكان استشارني لمكان المودة في إنزال أهله إلى الوادي فما رجح لي وظهر له الرجحان فكان الصواب رأيه وهو الحري بذلك وله من التأليف نظم الورقات لإمام الحرمين الجويني في غاية الحسن وكان شيخنا الوجيه يتعجب من حسنه ويسر الله تعال في أيام القراءة شرحها بشرح مفيد ولكنه لم يظهر وغاب بين كتبه وشرحها رجل من بني النزيل وكانت وفاته نهار الاثنين غرة رجب سنة خمس وثمانين وألف بمنزلة شيام وكان لموته موقع عظيم عند العلماء وغيرهم وما أحقه بقول الزمخشري في الإمام ابن سمعان:
مات الإمام ابن سمعان فلا نظرت ... عين البصير إذا ضنت بأدمعها
وأي حوباء لا صمت ولا عميت ... ولا استفادت بمرآها ومسمعها
أين الذي أن شريناه لما أخذت ... ببعضه هذه الدنيا بأجمعها
أين الذي الفقه والآداب إن ذكرت ... فهو ابن إدريسها وهو ابن أصمعها
من للإمامة ضاعت عند قيمتها ... من للبلاغة غيث عند مصقعها
من الأحاديث يمليها ويسمعها ... بعد ابن سمعان ممليها ومسمعها
سرد الأسانيد كانت فيه لهجته ... ككف داود في تسريد أدرعها
خلى الأئمة خيراً فقد أعلمها ... على اتفاق وأذكاها وأورعها
وعمر عليه تربة ورثاه من يعرفه ومن لا يعرفه ومن جملة من رثاه القاضي محمد بن الحسن الحمي وجماعة من بلاد كوكبان أجادوا والشيخ البليغ إبراهيم الهندي والقاضي علي بن صالح بن أبي الرحال ولم يحضرني من هذه المراثي غير ما يسره الله تعالى ولست بكامل الصنعة في الشعر وهي قولي:
الله أكبر فلك الصالحات رسا ... الله أكبر راد الأفق عادمسا
والمجد هدت على رغم قواعده ... كم معلم بعد عز الملة أندرسا
ومسمع المجد والعليا به صمم ... ونطقه عن فصيحات اللغى خرسا
هي المصيبة عمت كل ناحية ... يا أيها الناس هذا البدر قد طمسا
فابكوا جميعاً فهذا الهول عمكم ... هذا القوى من رجال منكم ونسا(2/315)
من ذا لعلم رسول الله ينشره ... يحييه يمليه يبدي منه ما التبسا
من للأصولين من ذا الفروع ومن ... بالمنطق الفصل يمليها لمن درسا
لهفي عليها وما لهفي شفا كمد ... شوى فؤادي وأورى في الحشا قبسا
آة وما هي في خطبي ببنافعة ... وإن رثى لي منها الضد والجلسا
مصيبة قد دهت من قد قصاودنا ... وأعظم الناس خطبا معشر الرؤسا
قد كان فينا كشمس الراد مشرقة ... ما إن نخاف ظلا ما أو نرى غلسا
وكان فينا كهثلان نلوذبه ... إذا الزمان علينا بالخطوب أسا
وكان فينا فراتا مرويا فإذا ... يدنس الدين أمر طهر الدنسا
ماذا أقول وقولي فيه ذو قصر ... ومنطقي بعد إفصاحي قد انحبسا
إلى أن يقول:
ما سوى الصبر في خطبي ألوذبه ... عسى يخفف من قلبي الهموم عسى
يا من نأي عن فؤادي وهو موطنه ... وفي سو يداه حب منه قد غرسا
ونحن نبكي كما تبكي مولعة ... بنجلها إذ رأته صار مفترسا
لكننا قد رضينا حكم خالقنا ... وإن يجرع كل من نواك حسا
وسوف نفزع في ذا الخطب نحواسا ... كم بردت من حرارات القلوب أسى
محمد بن إبراهيم الملقب شمس الدين الحمصي الشافعي المعروف بابن القصير بالتصغير واحد قطرة في الفنون وكان فاضلا حسن التحريرندى القلم أفتى بحمص على مذهب الشافعي نحو سبعة وأربعين سنة وله تأليف حسنة منها شرح على منظومة الشيخ أبي بكر القاري في العقائد وشرح الغاية في الفقه وله أجوبة عن أسئلة سئل عنها في التغير والفقه بحلب ودمشق رأيتها وانتخبت منها أشياء نفسية وكانت ولادته في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة بعد الألف وتوفي بدمشق نهار الثلاثا ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وتسعين وألف ودفن بمقبرة الشيخ أرسلان.
محمد بن أبي بكر الشيخ العارف المعروف باليتيم الدمشقي العاتكي الصوفي كان أحد الرجال الأتقياء أرباب المكاشفات كان في أول أمره يتكسب ببيع القهوة بالسويقة المحروقة وكانت قهوته مجمع الصالحين وكان إلى جانبه حوش يجمع بنات الخطا فاستأجره وأجرجهن منه واتخذ فيه مسجداً وكان إذا أذن المؤذن دعا الناس إلى صلاة الجماعة فيه وهذا هو المكان الذي بنيت فيه المرادية ويقال إنه داخل حرمها بناها مراد باشا نائب الشام في سنة ست وسبعين وتسعمائة وكان الشيخ اليتيم يتردد إلى مسجد المرادية ويحبه إلى الممات وكان أخذ الطريق عن الشيخ موسى الكناوي وعن الشيخ سعد الدين الجباوي وأخذ علم التوحيد والتصوف عن سيدي أحمد الميناوي المغربي واجتمع بالاستاذ محمد البكري بالقدس وأخذ عنه وصحب الشيخ منصور السقيفي والشيخ محيي الدين الذهبي وكان الذهبي يتهم بعلم الكيميا وحكى عنه بعض الأخيار أنه قال خطر لي أن أذهب إليه وأسأله أني يعلني إياها قال ثم قلت في نفسي ربما لا يعلمك فلو توجهت إلى روحانية النبي صلى الله عليه وسلم وطلبت ذلك منه قال وكان من عادتي إذا ذهبت إلى زيارة الشيخ محيي الدين بد كانه التي يدق فيها الذهب بسوق القميرية تجاه المدرسة القميرية فبمجرد ما أشرف على دكانه من بعيد يفتح لي باب طاقة الدكان قال فلما أصبحت من تلك الليلة ذهبت إليه فلما أشرفت عليه لم يفتح باب الطاقة على عادته ولما دخلت عليه وجلست عنده قال لي يا محمد النبي صلى الله عليه وسلم يمد الكون بأنواع السعادات ويليق منك أن تطلب منه إلا مداد بالدنيا الفانية هلا طلبت منه أن يمدك بالعارف ثم انقطع في بيته بمحلة قبر عاتكة وكان يتردد إليه الزوار وكان مجلسه غاصا باللطائف والمعارف وبالجملة فقد كان آية من آيات الله تعالى قال الغزي في ترجمته صحبته نحو خمس سنين وكنت أقول ما على من صحب هذا الشيخ إذا فاتته الصحبة مع المتقدمين وكانت وفاته في نهار السبت السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس بعد الألف وكانت جنازته حافلة ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من سيدي نصر المقدسي رحمه الله تعالى.(2/316)
محمد بن أبي بكر بن داود بن عبد الرحمن بن عبد الخالق بن عبد الرحمن الملقب محب الدين بن تقي الدين أبو الفضل العلواني الحموي الدمشقي الحنفي جد أبي شامة الشام وفرد الزمان وإنسان حدقة العلم وروح جسم الفضل وفريدة عقد الأدب ودرة تاج الشعر وكان ممن توحد في عصره بمعرفة الفنون خصوصاً التفسير والفقه والنحو والمعاني والفرائض والحساب والمنطق والحكمة والفنون الغريبة كالزايرجا والرمل وغير ذلك وفاق من عداه في لطف النثر وعذوبة اللفظ وجودة المعنى وغرابة المقصد وانسجام التراكيب وأما خطه فإليه النهاية في الحسن والضبط وكتب الكثير بخطه بحيث لو حسب عمره والذي كتبه لبلغ كل يوم كراسا بالكامل هذا مع كثرة الأسفار وتزاحم الاشغال والارتباط للقضاء والفتوى والتأليف وألف المؤلفات العجيبة السائغة منها حواشيه على التفسير والهداية والدرر والغرر ومنظومته في الفقه التي سارت مسير الشمس سماها عمدة الحكام وقد احتوت على غرائب المسائل واعتنى بشرحها أجلاء الفضلاء منهم الإمام يوسف بن أبي الفتح إمام السلطان والشيخ إسماعيل النابلسي وابنه شيخنا الشيخ عبد الغني وله شرح شواهد الكشاف سماه تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات وشرح منظومة القاضي محب الدين بن الشحنة في المعاني والبيان وكان سنة إذ ذاك ست عشرة سنة وله الرحلة المصرية والرومية والتبريزية والسهم المعترض والرد على من فجر وله عشرون رسالة مجموعة في دفتر وترسلاته كثيرة جداً جمع والدي منها حصة فجاءت في مقدار أربعين كراساً وبالجملة فهو أكثر أبناء عصره أحاطه وأجلهم فائدة وقد ولد بحماة ونشأ بها وقرأ على والده إلى أن تنبل وكان أبوه قد بلغت به السن إلى العجز عن الإقراء فبعثه إلى الشيخ العارف بالله تعالى أبي الوفا ابن ولي الله الشيخ علوان وكتب إليه معه هذه الأبيات من نظمه وكان هو أيضاً ممن أخذ عن الشيخ أبي الوفا:
لما على اعتدى دهري وأحرمني ... تقبيل أعتابكم والرشف من ديم
والغرف من أبحر العرفان مع حكم ... جاءت كدر مع العقيان منتظم
أرسلت فرعي عني نائباً أبداً ... فعده سيدي من جملة الخدم(2/317)
فلزمه ينفقه عليه على مذهب الشافعي إلى أن وصل إلى قراءة شرح البهجة ثم تحول حنفيا وكان أكثر تعبده على مذهب الشافعي إلى أن مات وقرأ من أول البخاري إلى باب القراءة في المقبرة على المسند أبي بكر تقي الدين بن أحمد الشهير بابن البقا بالموحدة والقاف المشددة خليفة الشيخ محمد بن الشيخ علوان الأربلي ثم الحموي وهو أخذ عن شيخ الإسلام العلامة أحمد بن عمبس الحموي بحق إجازته عن ابن حجر العسقلاني وهذا أعلى سند له وكانت وفاة ابن البقا في حدود السبعين وتسعمائة وتاريخ القراءة في أواخر رمضان سنة إحدى وستين وتسعمائة وأجاز بباقي البخاري ثم قرأ عليه في أواخر رجب سنة اثنين وستين ثم قدم إلى حماة الشيخ أحمد بن علي اليمني وكان من المتجرين في جميع العلوم فأسكنه داراً جوار داره وقرأ عليه شرح الكافية للمنلا جامي وشرح العقائد مع الخيالي وشرح الشمسية والمطول وغالب شرح المفتاح وجانبا من تفسير البيضاوي وسمع عليه جانباً من شرح المواقف بقراءة المرحوم منلا أبي الهدى العنتابي ولازمه عدة سنين وكان اليمني هذا مع تضلعه من خرج هو وإياه وجماعة يوماً إلى أحد منتزهات حماة واستمر بهم النشاط إلى أن قرب وقت الغروب وهم خارج البلدة فخافوا من تسكير باب المدينة فذكروا ذلك مقدار ساعة إلى أن دخلوا وبعد وفاة مشايخه المذكورين رحل إلى حلب وأخذ عن علمائها منهم الرضى محمد بن الحنبلي الحنفي كذا ذكره النجم في تاريخه في ترجمة ابن الحنبلي وناقضه في ترجمه الجد في الذيل بأنه لم يلحق ابن الحنبلي وهذا أغرب حقيقته على أن ابن الحنبلي قرظ على شرحه لمنظومة ابن الشحنة أرسل الشرح إليه من حماة فقرظ عليه وذكر في التقريظ نسبته لابن السحنة وإن جد والده البرهان لأمه وكان الجد لم يطلع على نسبته إليه فجعل من التطفل على الشرح مع وجود ابن الحنبلي فأرسل إليه رسالة يعتذر فيها عن ذلك وكان الشمس محمد بن المنقار ممن أخذ عن ابن الحنبلي وكان يفاخر بالأخذ عنه فإذا تذاكره والجد في الأخذ عن علماء حلب بقول له أنت لم تقرأ على ابن الحنبلي فيقول له هو قرظ على مؤلف لي وأخذ بحمص عن الشهاب أحمد الأطاسي ثم دخل الروم واختلط مع كبرائها ومدحهم بالقصائد الفائقة ووجهت إليه مدرسة القصاعية بالشام فورد إليها وأخذ بها عن شيخ الإسلام البدر الغزي الحديث والتفسير وغيرهما وكتب إليه مسائلاً:
ألا يا إمام الفضل يا من ببدره ... يضئ لنا وجه الزمان ويقمر
وإن أشكلت في القواقعات مسائل ... جلاها بإيضاح معانيه تنور
بصيغة تعليق الطلاق ونحوه ... كعتق بشرط عبدكم يتفكر
على أن الانشا يا إمام العلوم لا ... يسوغ لنا التعليق فيه ويظهر
فهل يقع التطليق في الحال سيدي ... وتعليقه يا أوحد الدهر يهدر
فنوابا بداء الجواب تكرّما ... ومن بما فيه يقال ويزبر
وأنعم على هذا المحب لذاتكم ... بما يرفع الأشكال فيه وحرروا
فلا زلت في عزمنيع ورفعة ... ولا برحت أنوار بدرك تزهر
فاتفق أن جاءه السؤال وقد عرض له سوء مزاج فأجاب ولده العلامة الشهاب أحمد عن السؤال وأبياته هي:
ألا يا محب الدين من شاع فضله ... وعنه بكل المكرمات يخبر
لئن كان نور البدر عم ضياؤه ... فطورا لدى الساري الشهاب ينور
ومن فرعها الأشجار تجني ثمارها ... وتحقيق مجناها عن الأصل يؤثر
فإنشاء تعليق يجوز وقوعه ... وتعليق إنشاء به المنع بصدر
فبعتك إن شاء المقال مضح ... وإن شئت بيعا بعتك اللفظ يهدر
ووكلت إن شاءت سعاد طلاقها ... فزيد وكيلي فيه كاللغو يذكر
وقائله الغزى أحمد يرتجى ... من الله في أخراه يعفور ويغفر(2/318)
ثم تدير دمشق وصاهر العلامة أبا الفدا إسمعيل النابلسي الكبير على بنتين ماتت إحداهما قبل أن يبتني بها والأخرى دخل بها وولدت له جدي محب الله المقدم ذكره ولما قدم قاضي القضاة بالشام شيخ الإسلام محمد بن محمد بن إلياس الشهير بحوى زاده كان معه فلما أعطى قضاء مصر من الشام صحبه معه وكان قاضي القضاة المذكور أمر بالتفتيش على كنيسة في القدس وعين معه الصدر أحمد بن عبد الله المعروف بفوري مفتى الحنفية بدمشق في يوم الاثنين ثامن عشر شعبان سنة ثمان وسبعين وتسعمائة فوجدوا النصارى قد أحدثوا أوضاعا منكرة ووجدوا إلى جانب الكنيسة مسجداً قديماً هدم الكفار جدرانه وحولوا وضعه القديم وجددوا بنيانه فأمر قاضي القضاة بهدم ما جددوه فهدمه المسلمون وأعلنوا بالتكبير وأقيمت صلاة الجماعة في عصر ذلك اليوم في المسجد المذكور وصلى قاضي القضاة المشار إليه إماما بالناس ثم زاروا بعض المشاهد ورحل القاضي وفي خدمته صاحب الترجمة إلى القاهرة ورجع فوري إلى دمشق فوصلوا القاهرة في نهار الأربعاء سادس عشري شهر رمضان واجتمع صاحب الترجمة بالأستاذ سيدي محمد البكري ووقع بينهما محاورات ومراسلات أورد صاحب الترجمة كثيراً منها في رحلته منها إنه حضر الأستاذ للسلام على قاضي القضاة وكان أول اجتماعه به قال فتقدمت وقبلت يده وقلت له يا مولانا هذا السلام المجازي يريد أن سلامي عليكم هنا مجازي للملاقاة وأما السلام الحقيقي فهو أن أحضر إلى خدمتكم فلما ذهبت إلى بيته رآني مقبلاً فلما صافحته قال لي هذا السلام الحقيقي فلمح إلى قول أبي العلاء ومن بالعراق قال وأهديت إليه هدية من قلب الفستق واللوز والصنوبر وكتبت إليه:
لما تملك قلبي حبكم فغدا ... مجردا فيه قلباً رق واستعراً
حررته فغدا طوعاً لخدمتكم ... محرراً خادماً وأفاك معتذراً
فعاملوه بجبر حيث جاءكم ... مجرداً مزيد الحب منكسراً
يقبل اليد الشريفة ويلثم الراحة اللطيفة وينهي إنه أهدى ما يناسب إهداؤه لأرباب القلوب ويلائم إرساله لأصحاب الغيوب فقدم العبد رجلاً وأخر أخرى في أن يهدي إلى جنابكم الشريف منه قدراً علما منه بأنه شيء حقير لا يوازي مقامكم الخطير وقد تواري بالحجاب حيث وافاكم وهو حسير وما مثل من يهدي مثله إلى ذلك الجناب إلا كالبحر يمطره السحاب ثم إنه تهجم بإهداء هذا القدر اليسير فإن وقع في حيز القبول أتجبر القلب الكسير ولا يعزب عن علم مولانا بلغه الله أملا النمل يعذر في القدر الذي حملا قال ثم اجتمعت بعد ذلك بجنا به فقال لي ما يقول الإنسان في هدية كلها قلب وأنشدني بديها:
بحسم أقسم أني امرؤ ... صديق حميم بقلبي محب
وأخذ بالقاهرة عن المسند الحافظ النجم الغيطي صاحب المعراج والشيخ الإمام أبي النصر الطبلاوي والإمام العلامة علي بن غانم المقدسي والحافظ الكبير الجمال يوسف بن القاضي زكريا وغيرهم وصحب القاضي بدر الدين القرافي المالكي والشمس محمد الفارضي وله معهما مفاوضات أدبية أوردها في رحلته وكان بينه وبين السري ابن الصائغ رأس الأطباء بمصر مودة أكيدة ووقع بينهما محاورات منها أنه كان حصل لصاحب الترجمة دمل احتاج إلى العلاج فكتب إلى السري أيها الرئيس البارع والبدر الذي في أفق البلاغة طالع ذو الحكمة التي أعيابها جالينوس والحذاقة التي حار فيها أبقراط وبطليموس أشكو إليك دملا أبطأ فجره وآلم ضره وأضمر عامله لا على شريطة التفسير وحصل منه ألم كثير فتغضلوا بما يبرزما استكن فيه على عجل وبماركب علاجا لتنازع ما فيه من العمل بحيث يصير هذا المضمر مبيناً على الفتح لتنطق الألسنة بالدعاء وتعرب عن أفعال المدح فأرسل إليه شيئاً يلائم ذلك وكتب جوابه هل لك أيها المتزج بالروح امتزاج الماء بالراح المهدي إلى النواظر التنزه وإلى النفوس الارتياح الداعي برسالته المعجزة الألفاظ إلى جنة ناضرة المبرز بدلالته وجوه المعاني الناضرة إلى عيون البيان الناظرة لا زالت أزمة الرغبات منقادة منا إليك ونواصي البلاغات معقودة أعنتها بيديك والفصاحة لا تمد سراد فاتها ولا تقصر مقصوراتها إلا عليك.
ودمت إلى كل القلوب محببا ... وفي كل عين شاهدتك حبيبها(2/319)
في بناء ذلك الدمل العاصي عن الاندمال على الفتح ونصب ثناء العامل من الأدوية على المدح والدخول على جميع مادته بصورة التكسير وتصريفها بالتحويل إلى وضعيات التغيير وإرخاء الشد كيلا يكف الدواء ولا يلغي عامله وتقوية المعمول بالتجلد على التأثير الذي ارتفع فاعله فبذلك إن شاء الله تعالى تغتر ثغوره وينبسط على جلد الجلد غوره والله يديم معاهد الفضل بك آهله والفضلاء من مناهلك ناهله والنبلاء في ظلال ظلت قائله لتكون ألسنتهم بأحامد المحامد فيك قائله آمين وأقام صاحب الترجمة بمصر مدة وولي بها قضاء فره ثم رحل إلى الروم وولي قضاء حمص وحصن الأكراد ومعرة النعمان ومعرة نسرين وكلس وعزاز ثم استقر بدمشق في سنة ثلاث وتسعين وتولى النيابة الكبرى سنين عديدة وقضاء العسكر بها وقضاء الركب الشامي ودرس بعد القصاعية بالناصرية البرانية والشامية البرانية والسلطانية السليمية وأفتى مدة طويلة بالأمر السلطاني واشتهرت فتاويه بالآفاق وكان علامة نهاية محققاً مدققاً غواصاً على المسائل طويل الباع في المنقول قوى الساعد في المعقول وكان مستحضر المسائل الفقه حافظاً لعبارات المتون مواظبا على التدريس والإفتاء ويدرس في تفسير القاضي مع مطالعة الكشاف والحواشي وانتفع به أفاضل الطلبة المشار إليهم منهم التاج القطان والشموس الخمس محمد الميداني ومحمد الجوخي ومحمد الأيجي ومحمد الحمامي ومحمد الحادي والبدر حسن الموصلي والشيخ عبد الرحمن العمادي والنجم محمد الغزي وأخوه أبو الطيب والتقي الزهيري والشهاب أحمد بن قولاقسز والشيخ عبد اللطيف الجالقي والشيخ أبو بكر المغربي مفتى المالكية والشيخ أيوب الخلوتي وأخذ عنه بالإجازة الشمس محمد والبرهان إبراهيم ابنا أحمد المنلا الحلبي وغيرهم ممن لا يحصى كثرة وكانت له شهرة طنانة وذكره جماعة من المؤرخين والأدباء وأثنوا عليه كثيراً منهم البوريني والعرضي والغزي والخفاجي والبديعي في وصفه علامة ورد دمشق فأخجل وردها بمنثورة ومنظومة وفهامة ضاهي أنهارها بغزارة مشرقاً بمعلوماته إلى أن غاض بحر فضله وأقل كوكب حياته ومن أجود شعره قوله:
حكت قامتي لاما وقامة منيتي ... حكت ألفا للوصل قلت مسائلا
إذا اجتمعت لامي مع الألف التي ... حكتك قواما ما يصير فقال لا
وأهدى لبعضهم سكراً وكتب معه:
هذا الذي أهداه عبد جنابكم ... من صار معروفاً بكم بين الورى
هو شكر إحسان حلا تكريره ... مستعد باحتي تصحف سكرا
وكتب لبعض الموالي طالبا منه كتاب الصحاح عارية:
مولاي أن وافيت بابك طالبا ... منك الصحاح فليس ذاك بمنكر
البحر أنت وهل يلام فتى سعى ... للبحر كي يلقي صحاح الجوهري
وكتب لبعض أصدقائه:
سلام على من لم أزل تحت ظله ... وتحت أياديه الحسان وبره
سلام محب مخلص لك في الولا ... يعطر أنفاس النسيم بشكره
ومن فوائده أنه سئل عن بيتي أبي إسحاق الغزي:
وخز الأسنة والخضوع الناقص ... أمر أن عند ذوي النهى مران
والرأي أن نختار فيما دونه ... المرّان وخز أسنة المرّان(2/320)
وكان مجلس أحد الموالي فتكلم بعض الحاضرين على ما يتعلق بالبيتين من جهة المعنى وبيان الإعراب فكتب عليهما رسالة ملخصها أن الوخز الطعن بالرمح وغيره لا يكون نافذاً والأسنة جمع سنان وهو نصل الرمح والمران آخر البيت الأخير قال صاحب القاموس هو كرمان الرماح اللدنة انتهى أقول لا يخفي على الفاضل النبيه إنه أصاب لما قصد القلب عند هذا التشبيه ولا يخفي أن تعدد وصف الخبر هنا على حد قولهم حلو حامض أي مز والمعنى أنها حالة متوسطة بين الصلابة واللين وبقية ألفاظ البيت ظاهرة لا تحتاج إلى تبيسين ثم إضافة وخزالى الأسنة معنوية بمعنى اللام أي وخز للأسنة وهو مبتدأ خبره أمر أن وإعراب البيتين ظاهر لا يتحاج إلى سان ولا يخفي ما في البيت الأول من الصناعة البديعية وهو شبه الاشتقاق نحو فأقم وجهك للدين القيم والجمع وذلك أن تجمع بين متعدد في حكم ومن ذلك قوله تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا وقوله الرأي أن نختار إلى آخره الظاهر إن ما في قوله فيما دونه موصولة وتحتمل الموصوفة وصلتها متعلق الظرف وعائدها الضمير البارز والمران فاعل الظرف لاعتماده على الموصول أو الموصوف والتقدير والرأي أن نختار فيما استقر دونه المران أي عنده أو إمامه وخز أسنة المران يعني إذا اجتمع الأمران المران وخز الأسنة والخضوع لناقص فالرأي أن نختار وخز الأسنة على الخضوع يعني أن الدون في جانب الخضوع متحقق بأن يكون له مراتب متفاوتة بعضها دون بعض وأما وخز الأسنة فلا يتحقق فيه هذا المعنى فتقول يمكن أن يغلب الخضوع أو يجعل دون من قبيل قولهم هذا دونه أي أقرب منه كما هو أحد معانيها ويغلب الخضوع على وخز الأسنة من حيث المعنى أو يقدر الدون في جانب وخز الأسنة وحينئذ يظهر له وجه دقيق بالقبول حقيق وله تحرير على المثل المشهور وهو من حفظ حجة على من لم يحفظ وكان سبب تحريره له أنه اجتمع هو وجماعة في مجلس بعض الأعيان فدار الكلام بينهم فيه من جهة الإعراب فاختار بعضهم رفع الحجة بعضهم نصبها فكتب ما ملخصه من اسم موصول مرفوع المحل على الابتداء وجملة حفظ صلة لا محل لها من الإعراب والعائد الضمير المستتر في حفظ وحجة خبر المبتدأ أعني الموصول وهو من وعلى ظرف لغولان عامله من الأفعال الخاصة التي لا يتضمن الظرف له لا محل له من الإعراب وهو متعلق بحجة وعلى حرف جر معناه الاستعلاء وهو هنا معنوي ولم حرف نفي وجزم ويحفظ فعل مضارع مجزوم بلم وجملة لم يحفظ صلة من الثانية المجرورة المحل بعلى وعائدها الضمير المستتر في يحفظ وجملة من حفظ وجعل على فعلا ماضياً والموصول بعد مفعوله منصوباً بنزع الخافض على الحذف والإيصال والتقدير من حفظ حجة علا على من لم يحفظ ثم حذفت على وباشر الفعل المنصوب فتصبه على حد قول الطغرائي:
وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل(2/321)
قلت التقدير لا يروج عند الناقدين إلا للضرورة ولا ضرورة هنا على أن رسم الخط لا يساعده أيضاً فإنه لو كان فعلاً ماضياً لكتب بالألف والموجود بصورة الياء فإن قلت يمكن أن يرجح نصب الحجة بأنه يلزم من عدمه بقاء حفظ بلا مفعول على أنه من الأفعال المتعدية قلت مثل هذا غير عزيز في كلامهم فإنه قد تقرر في فن المعاني أنه قد يكون الغرض من الفعل المتعدى إثباته لفاعله أو نفيه عنه مطلقا من غير اعتبار تعلمه بمن وقع عليه فينزل منزلة اللازم فإن قلت فما ذكرته مرجح لرفع الحجة وحينئذ فكيف يصح حملها على الموصول الذي هو عبارة عن الشخص قلت هو من باب المجاز المرسل من قبيل إطلاق الحال وإرادة المحل أو إطلاق المسبب وإرادة السبب وأمثاله أكثر من أن تحصى ولهذا الكلام تتمة أعرضت عنها لعدم تعلقها بالغرض ومنشأته وآثاره كثيرة وما لطائفه ونكاته فما اشتهر وبهرو ما أحقها بأن تدون ويسامر بها ومن نادرها أنه خرج هو وجماعة من العلماء إلى توديع بعض قضاة الشام كان عزل عنها لنسبة الجهل إليه وأعطى بعدها قضاء حلب فلما ودعوة قال أن كان لكم في الحلب بالتعريف حاجة فاذكروها لنا حتى نرسلها لكم إلى شام بدون تعريف فقال له المترجم ليس لنا حاجة ثمة إلا الألف واللام الذاهبتان من شام فلتنعموا بإرسالهما وله غير ذلك وكانت ولادته في أواسط شهر رمضان سنة تسع وأربعين وتسعمائة وتوفي سحر يوم الأحد الثالث والعشرين من شوال سنة ست عشرة بعد الألف وصلى عليه ظهر اليوم المذكور بالجامع الأموي وحضر للصلاة عليه قاضي القضاة بالشام المولى إبراهيم بن علي الأزنيقي وحمل في جنازته وتأسف على إخلاقه العلماء ودفن بالمدفن قبالة الجانب المحاذي لجامع جراح خارج باب الشاغور وكان آخر درس أقرأه أووقف عليه قوله تعالى ألم تر أنانأتي الأرض ننقصها من أطرافها وأرخ عام وفاته بعض الفضلاء بقوله آها آها مات المفتي ورثاه جماعة منهم الشيخ عبد الرحمن العمادي نظم في رثائه قصيدة بليغة مطلعها:
قامت قيامة مغتينا وقاضينا ... لا بل قيامة دانينا وقاضينا
مصاب علم أضاع القلب منصدعا ... ورزء مجد أطار العقل مفتونا
قدفت من عضد العليا وقلص من ... ظلالها بعد ما مدت لنا حينا
بادرت فيه إلى الأنكار مذ طرقت ... سمعي أحاديثه شكا وتخمينا
حتى إذا صدع الشك اليقين به ... وصح ما كان عند الصب مظنونا
وصار لا طعن لي فيه أحاوله ... رجعت من نصله في القلب مطعونا
أو هي عماد القوى زلزال صدمته ... وصادفت من خلو القلب تمكينا
تبت يدا ذا الردى أو دمى لنابندي ... كف تكف العدا عنا وتكفينا
فليت كل محب دولة وغي ... فدا محب فنون العلم والدنيا
أمات حساده من قبل موتته ... وهكذا دائماً تلفي العرانينا
فحل لبكر المعاني العين مفترع ... قد عنست بعد مهما تلق عنينا
يا طالبا للندى والعز خب أملا ... من بعده قد لزمت العدم والهونا
مضى الجواد الذي كانت مكارمه ... تريشنا إذ صروف الدهر بترينا
صرنا معاشر أهل الشام سائبة ... مباحة غاب راعينا وحامينا
أما العلوم وأهلوها فقد درست ... مات الذي كان يحييها ويحيينا
من للبلاغة إن عنت لطائفها ... من للفتاوى إذا ما احتجن تبينا
حماسة منه شابتها لطافته ... ومازج العز منه الحلم واللينا
أهكذا يستر البدر المنير ترى ... ويصبح البحر تحت الترب مدفونا
ظنوه صور من مجد ونور هدى ... فمذ أعيد بأرض حققوا الطينا
لم أنس وقفتنا تلقاء روضته ... وإذ نحي بها من لا يحيينا
منها:
يا سيدا كنت مسروراً به زمنا ... تركتني بعد طول العمر محزونا
ألزمت قلبي تحريكا عليك أسى ... وعن جميع أماني الدهر تكينا(2/322)
قد كان لي منك ركن شامخ وأب ... فقد فقدت عمادي منك ذا الحينا
فقل لنا من لنا إن ناب نائبة ... نأوي إليه ونشكوها فيشكينا
أعزز علينا بأن الصدر منك خلا ... في مجلس كنت فيه منك تدنينا
بفقدك العلم ثم المجد قد نكست ... أعلامه وغدا بالذل مقرونا
أن خص شخصك بطن الأرض مستترا ... فذكر فضلك عم البيد والبينا
فضائل أن يكن أودى المنون بها ... فإن أجرك فيها ليس ممنونا
سقاك مولاك من صوب الرضا ديما ... منهلة المزن ملقاة العرى جونا
ودمت تسكن في الفردوس مرتبعا ... رحبا تعاين فيه الخرد العينا
ترى الأنيس به المولى ورحمته ... والصالحات وعلما منك مخزونا
تقرا فترقي به أعلى الجنان كما ... نرويه وعدا لأهل العلم مضمونا
في نعمة من جوار الله فقت بها ... على سلاطين في الدنيا أساطينا
ودام من بيتك السامي نرى خلفا ... أولادك الكمل الغر ألميامينا
لا زال منهم رئيس في دمشق لنا ... مكان والده عنه يسلينا
ولا يزالون في لطف يعم وفي ... حب من الله طول الدهر باقينا
ما جددت سنن الأسلاف بعدهم ... أخلافهم حذوهم في الخير يحذونا
والله تحت ظلال العرش يجمعنا ... مع المحبسين فوق العفو آمينا
محمد بن أبي بكر بن محمد بن عفيف بن الهادي بن أبي حجرية بتقديم الجيم مع الباء الموحدة المتأخرة ابن أبي القاسم بن أحمد بن عبد الرحمن الشريعي بضم الشين وفتح الراء ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي الأهدل كان على قدم عظيم من العبادة والزهادة عاكفا في مقصورة من مقاصير الجامع الظافري بزبيد لا يخرج منه إلا لحاجة وكان عالماً عاملاً ورعا زاهدا مقصوداً للقراءة عليه في الفقه غالباً لحقه السيد محمد بن الطاهر البحر سنة اثنتين وعشرين وألف وقرأ عليه بعض المنهاج وممن أخذ عنه السيد أبو بكر بن أبي القاسم الأهدل وكانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وألف وترك جملة كتب وقفها هو وكتب ذلك على أكثرها بخطه.
محمد بن أبي بكر بن محمد بن علي بن عقيل بن أحمد بن أبي بكر بن الشيخ عبد الرحمن السقاف الحضرمي المصوفي ذكره الشلي وأثنى عليه ثم قال ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن وصحب جماعة من أكابر العارفين منهم الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس وولده السيد زين العابدين والسيد عبد الرحمن بن عقيل ثم تدير البلدة المسماة بالقارة وهي قريبة من بلدة تريم وصحب الأمام العارف بالله أحمد بن عبد الله الحبشي ولازمه وأخذ عنه التصوف وقرأ عليه كتباً كثيرة وصاهر بابنته وحج وأخذ بالحرمين عن جماعة وصحب كثيرين منهم عم أبيه السيد علوي بن علي بن عقيل وكان يحبه ويثنى عليه ودعا له بدعوات ظهرت عليه آثار هائم رجع إلى القارة وأقام بها ملجأ للوافدين وكان مبذول النعمة حسن الأخلاق لين العريكة سليم الصدر متواضعاً حافظاً للسانه ثم طلبه ولده السيد أبو بكر لما حصل له مرض شديد إلى مكة فرحل إليها وجاور بها وصحب بها الإمام العارف محمد بن علوي وحصل بينهما اتحاد وصحبة شديدة وصحب الشيخ الجليل السيد عبد الرحمن المغربي وكان يحبه ويثني عليه ثم رحل إلى المدينة وأخذ بها عن غير واحد منهم الشيخ أحمد بن محمد القشاشي ورجع إلى مكة بنية الرجوع إلى وطنه وحاوله أصحابه بأن يقيم بمكة لكبر سنة والتزم له ولده بجميع ما يحتاجه فلم يقبل فلما صمم على الارتحال أدركه الموت فتوفي بمكة لخمس خلون من المحرم سنة اثنتين وستين وألف ودفن بالمعلاة رحمة الله تعالى.(2/323)
محمد بن أبي بكر بن محمد بن محمد المعروف بالزهيري الدمشقي الشافعي الفاضل النبيل الأصيل مات أبوه التقي وهو طفل فنشأ في تربية عمه القاضي نجم الدين واعتنى به فألزمه بالاشتغال فاشتغل على الشرف الدمشقي والشيخ عبد اللطيف الجالقي وأخذ عن النجم الغزي ولزم دروسه زماناً طويلاً وصار خطيباً بجامع المعلق ومعيد الدروس المدرسة الشامية البرانية وألف وصنف ومن تأليفه شرح لامية ابن الوردى طالعته فرأيته يشتمل على أشياء نفيسة وشرح ديوان ابن الفارض وأظنه لم يكمله وقد نظم الكثير وقد رأيت له شعراً لابأس به فمنه هذه القصيدة نظمها في النصيحة وهي طويلة ذكرت بعضها هنا ومستهلها:
ألا خل إلا صاغر وإلا كلبر ... خليلي ذا الزمان ولا تكابر
وجانب جانباً عن كل صدر ... رحيب الصدر لو حزت المفاخر
ولا تركن لذي جاه وجيه ... ومن بالمال في الدنيا يفاخر
ولا يغررك صدق من صديق ... ولا تظهر له منك السرائر
ولا تركن إلى من تأمننه ... ولو طابت به منك المخابر
فكم قلب تقلب بعد صدق ... فعادى وهو أدري بالمضارر
وكم من صاحب أضحى منجيا ... وكم خل يوافي وهو ماكر
إذا كشفت حقيقية عيانا ... تراه في حقيقية مغادر
فإخوان الزمان بكل حال ... جواسيس العيوب لكل باصر
ومنها:
ولا تجزم بأمر من أمور ... إذا لم تحسب العقبي وشاور
وشاور عاقلا شهما نصوحاً ... سليم الفكر برا غير فاجر
فليس يحفر قلبيا كان فيه ... قريباً واقعاً فيما يغادر
وإن والاك من مولاك عسر ... فإن اليسر بعد العسر صادر
ولا تضجر ولو فقر تناهي ... ولا تشكو وكن الله شاكر
فكم حر بضنك العيش راض ... وكم عيد يمتع بالحرائر
وكم شهم تجرع كل وقت ... كؤسا لا تسوغ لها المرائر
وكم نذل تقدم في البرايا ... ومال إلى الميا من والمياسر
وحر الوجه لا تبذله يوماً ... لمن يزريك لو بذل الجواهر
وحاذر أن تعيش بذلا نفس ... وهون في العوالم للأصاغر
فموت الشخص خير من حياة ... له فيها المذلة وهو صاغر
وإن وأفاك ذم من بغيض ... فبالا حسان قابله وغاير
ومنها:
ولا تجلس مع الجهال يوماً ... ولا مع غير جنسك في المحاضر
ولا تحلل محلا ليس فيه ... لا هل الفضل حمد أو مأثر
وجانب بلدة لا حق فيها ... ومصراً لا تقام به الشعائر
ولا تمكث بذل في مقام ... وأرض الله واسعة المحاضر
فمن يرض المذلة دون عز ... ولو في جنة الفردوس خاسر
ولا تحقر لشيخ ذي وقار ... وقدم للكبير وأنت صاغر
وعرضك صنه عن فعل مريب ... وما فيه اشتباه كن محاذر
فمن حول الحمى قد حام يوما ... فيوشك وقعه فيما يباصر
ولا تصحب سوى شخص نصوح ... يكن في أمر أخراه مذاكر
ومنها:
وفكر في ذنوبك واجتنبها ... ولا تيأس فإن الله غافر
ولازم للتقي والدين دوما ... فتقوى الله ربح للمتاجر
وبالله استعذ من شر نفس ... وشيطان يضلك وهو ساحر
وكن مستنصراً بالله حقاً ... فما خاب الذي مولاه ناصر
وبالله استعن في كل أمر ... وسلم للقضاء وللأوامر
وله غير ذلك وكان في آخر عمره أصيب بولد نجيب حزن عليه حزناً شديداً وضاقت أخلاقه بعد ذلك وتغيرت معاملته مع الناس وابتلى باستعمال الأفيون وكان منهما بالكذب وفيه يقول بعض الظرفاء:
سألت عن الشيخ الزهيري وفضله ... فقيل شويخ الكذب حدث عن البحر
وله أخبار ووقائع طويلة الذيل أعرضت عن ذكرها لشهرتها وكانت وفاته في سنة ست وسبعين وألف ودفن بمقبر باب الصغير رحمه الله تعالى.(2/324)
محمد بن أبي بكر مطير أحد أجلاء علماء اليمن الذين لازموا اتقوى الله وجمعوا بين العلم والعمل وتحروا في تحقيق مسائل العلم واشتهر ذكرهم شهرة القمرين وجمعوا بين الشرفين أخذ عن والده وعمه عبد الله بن إبراهيم وغيرهما من أهل ذلك الأقليم حتى برع واشتهر وألف وصنف وله من الأشعار الصالحة ما هو مشهور فمن ذلك قوله يمدح العارف بالله تعالى ذهل ابن إبراهيم حشيير صاحب الزيدية : م
مالي أراك كثيراً لهم والحزن ... ولهانت من شدة الأهوال والمحن
وذا هلا هائماً والقلب منك غدا ... خال من العقل والتدبير في الزمن
كانت مضاجعهم بالليل عن جنب ... لا يسأمون خطاب الله في الدجن
وسرت تقغو بعيد الدار عن وهن ... والقوم قد أدلجوا والله بالرسن
هم سادة الناس في الأحوال أجمعها ... وهم غياث الدنى بالفضل فاستبن
لكن إذا رمن نجعا أو بلوغ مني ... فانهض إلى معدن الأسرار والمنن
هذا الولى الكبير القطب من شهدت ... له الأكابر بالتصريف في الزمن
وسار بالذهل المشهور بلدته ... بها الرضا والهنا للصابر الفطن
بحر المعارف مشهور فمعدنها ... عين الرجال وفحل القوم في السنن
من ساء في سوحه جاءت منيته ... إليه تفجؤه في السر والعلن
من حل روضته قد نال بغيته ... بكل خير بحسن الظن ذاك غني
فاعكف بتربته وإلزم بعروته ... واستبق ذا دائماً ما دمت في المكن
يوليك كل العطا من جود منحته ... وأنت في مأمن من كلذي أحسن
بالله يا زائراً قبراً له شرفاً ... اخلص فؤادك لا تأتي على دخن
فالفصل شيمته والنصر خادمه ... والغوث سيرته والله في المحن
مطالع السعد لا تخفي شواهدها ... فالسعد ساعده كالريح للسفن
وكم ظهرن له في كل معضلة ... آيات حق على الأعداء بالعلن
أبادهم جمعهم في ساعة علنا ... بالطعن والضرب لا يرجعن عن جبن
أن العناية في علم له سبقت ... من الإله على التقدير بالحسن
آل الحشيير من عدنان أنهم ... نجوم أهل النرى للعارف الفطن
بالله يانسله كونوا على نهج ... من الشريعة والتقوى مدى الزمن
يا سيدي الشيخ يا غوثي ومعتمدي ... عبيدكم قاصد للفضل غير غني
فقم بنا مسرعاً وانهض بحجتنا ... فالعلم قد ضاع في شام وفي يمن
طريقة الحق لا تمشي لعزتها ... وصاحب الجهل قد أضحى على فنن
أنا قصدناك في أمر أضربنا ... في الدين والمال والأرواح واغبني
فانعش لغربتنا وافتح بصائرنا ... واكبت لحاسدنا في كل ذي وطن
واطمس عيونا له تبقى على عمه ... هذا حزا من بقي بالخسير لم يسين
أنا لجير أنكم والجار حرمته ... قديمة ذكرت في الذكر والسنن
أرعوا لنا ذمما كانت لنا قدما ... من أجل سالفنا في سالف الزمن
لا تهملونا جميعاً من إعانتكم ... عطفا علينا عبيد بالمطير كني
آل المطير لهم في حقكم نجم ... أهيل علم سموا في أرفع القنن
بالعلم والدين والتحقيق ما برحوا ... في خدمة الشرع والأديان والسنن
وعندكم سيدي عقد لسالفنا ... على الأمانة أدوه لكل بني
ونحن أبناؤكم والكل يطلبكم ... ما عندكم من عظيم الفضل والمنن
من كان في سوحكم من كل ذي نفس ... فحقه واجب فاحموه من عطن
وسامحوه على ما كان من خطأ ... فبحر كم واسع والكل ليس غني(2/325)
عن منتهى جودكم في كل حادثة ... فالله أولا كم من كل ذي حسن
عليكم من إله العرش رحمته ... تغشى ضريحكم كالوابل الهتن
ثم الصلاة على المختار من مضر ... والتابعين لهم ماش على السنن
وكانت وفاته في ثالث عشر شوال سنة ست وثمانين وألف بمدينة الزيدية رحمه الله تعالى.(2/326)
محمد بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي بكر بن علوي بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن علوي بن الأستاذ الأعظم الملقب جمال الدين أو علوي الشلي الحضرمي نزيل مكة المشرفة صاحب التاريخين اللذين أنقل عنهما كثيراً تقدم أبوه وقد ذكرت تتمة نسبه في ترجمته فارجع إليها ثمة وكان صاحب الترجمة من العلماء الإجلاء أصحاب التصنيف وقد ترجم نفسه في تاريخه نفائس الدرر فقال كان مولدي منتصف شعبان سنة ثلاثين وألف وضبطها بعض الأدباء بحروف جد برضاك وسماني والدي محمد أو لقبني جماعة من المشايخ جمال الدين وكأني بعض العارفين بأبي علوي وهو أول أولادي وحفظت القرآن العظيم على المعلم الأديب عبد الله بن عمر باغريب وختمته وأنا ابن عشر سنين وحفظت العقيدة الغزالية والأربعين النووية والأجرومية والقطر والملحة والإرشاد وعرضت محفوظاتي على شايخي ثم من الله تعالى بالاشتغال ووفقني لسماع الحديث من المسندين وقراءة ما تيسر من كتبه المعتبرة مع الملازمة على تحصيل العلوم الشرعية والفنون الآلية والقوانين العربية لا سيما علم الفقه والتصوف والنحو ومنهم الشيخ فخر الدين أبو بكر بن شهاب الدين أخذت عنه التفسير والحديث والأصول والعربية بقراءتي وسماع قراءةغيري عليه ومنهم شيخنا السيد عبد الرحمن بن علوي الفقيه أخذت عنه الفقه الأسول والعربية وجل انتفاعي به ومنهم شيخنا محمد بن محمد بارضوان الشهير بعقلان أخذت عنه الفقه والتصوف ومنهم شيخنا القاضي السيد أحمد بن عمر عيديد أخذت عنه الفقه والنحو ومنهم شيخنا الشيخ السيد عقيل بن عمران باعمر أخذت عنه الفقه والتصوف بمدينة ضمار ومنهم شيخنا عمر بن عبد الرحيم بارجا المشهور بالخطيب بظفار أيضاً فهؤلاء أشهر مشايخي بتلك الديار ثم ارتحلت إلى الديار الهندية وأخذت عن جماعة ثم ارتحلت منها إلى الحرمين وقضيت النسكين وتشرفت بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم وألفيت بهما من المحدثين جماعة أجلاء فلزمتهم للأخذ عنهم الأستاذ الكبير شمس الدين أبو عبد الله محمد بن علاء الدين البابلي أسمعني الحديث المسلسل بالأولية والمسلسل بسورة الصف وسمعت عليه البخاري مرتين والمسلسل بقول وأنا أحبك وحديث المصافحة وأخذت عنه بقراءتي وبقراءة غيري الحديث رواية ودراية والفقه أصولا وفروعاً وكذلك التفسير والمعاني والبيان والبديع والنحو والصرف واللغة والمنطق وأصول الدين ولازمته في دروسه كلها وكان يدرس وقت الضحى وبعد العصر وبعد المغرب وبعد العشاء وأجازني بجميع مروياته ولقنني الذكر ومنهم الشيخ خاتمة الحفاظ أبو مهدي عيسى بن محمد ابن محمد الثعالبي الجعفري المغربي ولازمته مدة إقامته بمكة فأخذت عنه جميع العلوم المذكورة إلا الفقه فأرويه عنه بالإجازة وسمعت منه الحديث المسلسل بالأولية وسورة الصف ومسند الصحبة وألبسني الخرقة الشريفة ولقنني الذكر وأجازني بجميع مؤلفاته ومروياته ولقنني الذكر وألبسني الخرقة وصافحني ومنهم شيخ الإسلام عبد العزيز الزمزمي أخذت عنه الفقه وصافحني وأجازني بجميع مروياته ومؤلفاته وقرأت علم الفرائض والحساب على الأولين من الثلاثة وقرأت علم الميقات والحساب بسند الخرقة والصحبة على شيخنا خاتمة المحققين محمد بن محمد السيدان المشهوران في الحرمين أماما المشرقين والمغربين الشيخ محمد بن علوي والسيد زين باحسن أخذت عنهما علم التصوف وصحبتهما وألبساني الخرقة الشريفة وحكماني وصافاني ولقناني الذكر وقد جمعت مروياتي عن المشايخ الأربعة الأولين في معجم صغير وأجازني غير واحد من مشايخي بالأفتاء والتدريس ولما توفي شيخنا علي ابن الجمال أمرني جماعة من مشايخي منهم الشيخ الجليل عبد الله باقشير بالجلوس في محله بالمسجد الحرام فاعتذرت بأمور منها اشتغالي بالطلب على المشايخ اغتناما لملازمتهم قبل حلول وفاتهم وذلك عندي أهم من التدريس فلم يقبلوا وألحوا على في ذلك فجلست في المسجد الحرام عدة أعوام ثم انقطعت عنه لمرض شديد وطلب مني جماعة القراءة في الدار وكنت أستشفي بذلك واستمريت عليه ثم طلبوا العود إلى المسجد الحرام فلم ينشرح صدري إليه وطلب مني جماعة أن أؤلف في علم الميقات فألفت رسالة في علم المجيب وانتفع بها الطلبة ثم شرحها شرحاً وانتفع به وكتبه كثيرون من أهل مصر واليمن والهند وألفت رسالتين مطولتين في علم الميقات بلا(2/327)
آله ورسالة في معرفة ظل الزوال كل يوم لعرض مكة ورسالة في معرفة اتفاق المطالع واختلافها ورسالة في المقنطر ورسالة في الاضطراب وألفت شرحاً على مختصر الإيضاح للشيخ ابن حجر جمعت فيه ما في الكتب المتداولة فجاء في جلدين كبيرين ولما قرأنا التسهيل على شيخنا الشيخ عيسى المغربي جمعت من شروحه مسودات ثم عن لي أن أجعلها شرحاً لجمع الجوامع النحوي للجلال السيوطي وهو الآن مسودة وشرحت ولكنه لم يتم الآن وشرحت منطق السيوطي وهو الآن مسودة وشرحت مختصر الرحيبة المسمى بالتحفة القدسية نظم الإمام بن القاسم سميته بالمنحة المكية وجمعت ذيلا على النور السافر في أخبار القرن العاشر للشيخ عبد القادر بن شيخ العيدروس فجاء في مجلد كبير وجمعت تاريخا في أخبار القرن الحادي عشر كتبت منه مجلداً وأخذ عني خلق كثير في عدة علوم وطلبوا الإجازة فأجرتهم وليس مني الخرقة كثيرون ومدحني جماعة من أشياخي وغيرهم بقصائد ظريفة ما استحسنت ذكرها واخترت الاستيطان في حرم الله هذا ما ترجم به نفسه ولم أطلع له على أزيد من هذا القدر وهو مشهور الصيت وله عقب بمكة الآن وكانت وفاته في أخرى الحجة سنة ثلاث وتسعين وألف رحمه الله تعالى.ه ورسالة في معرفة ظل الزوال كل يوم لعرض مكة ورسالة في معرفة اتفاق المطالع واختلافها ورسالة في المقنطر ورسالة في الاضطراب وألفت شرحاً على مختصر الإيضاح للشيخ ابن حجر جمعت فيه ما في الكتب المتداولة فجاء في جلدين كبيرين ولما قرأنا التسهيل على شيخنا الشيخ عيسى المغربي جمعت من شروحه مسودات ثم عن لي أن أجعلها شرحاً لجمع الجوامع النحوي للجلال السيوطي وهو الآن مسودة وشرحت ولكنه لم يتم الآن وشرحت منطق السيوطي وهو الآن مسودة وشرحت مختصر الرحيبة المسمى بالتحفة القدسية نظم الإمام بن القاسم سميته بالمنحة المكية وجمعت ذيلا على النور السافر في أخبار القرن العاشر للشيخ عبد القادر بن شيخ العيدروس فجاء في مجلد كبير وجمعت تاريخا في أخبار القرن الحادي عشر كتبت منه مجلداً وأخذ عني خلق كثير في عدة علوم وطلبوا الإجازة فأجرتهم وليس مني الخرقة كثيرون ومدحني جماعة من أشياخي وغيرهم بقصائد ظريفة ما استحسنت ذكرها واخترت الاستيطان في حرم الله هذا ما ترجم به نفسه ولم أطلع له على أزيد من هذا القدر وهو مشهور الصيت وله عقب بمكة الآن وكانت وفاته في أخرى الحجة سنة ثلاث وتسعين وألف رحمه الله تعالى.
محمد بن أبي السرور بن محمد سلطان البهوتي الحنبلي المصري الفاضل الأوحد كان من أجلاء الفقهاء الحنابلة بمصر له في الفقه والعلوم المتداولة اليد الطولي قرأ على الأمامين عبد الرحمن ومنصور البهوتيين الحنبليين وعلى غيرهما وشيخوخه كثير ودرس وأفاد وانتفع به خلق من أهل مصر وكانت وفاته بمصر يوم الخميس خامس عشر رجب سنة مائة بعد الألف رحمه الله تعالى.
محمد بن أبي الصفا بن محمود بن أبي الصفا الأسطواني الدمشقي الحنفي أحد أفاضل الشام المعروفين ونبلائها الموصوفين وهو خالي وله على حق تربية وتعليم وكان آية من آيات الله تعالى في الكمال والمعرفة والتضلع من الأدب وحسن الخط بأنواعه نشأ على نزاهة وطاعة ولم يعهد له صبوة مدة عمره واشتغل ودأب وأخذ العلم عن الشيخ عبد اللطيف الجالقي والشيخ رمضان العكاري والشيخ محمد المحاسني ولازم من الأمام الهمام يوسف بن أبي الفتح إمام السلطان لما كان بينه وبين والده من المودة وكان وكيلاً عنه بدمشق ثم ولي القسمة البلدية في زمن قاضي القضاة محمد المعروف بعصمتي وصيره كاتب عرضه ومهر في صنعة الإنشاء العربي والتركي ودرس بالمدرسة الظاهرية الكبرى وصار كاتباً في وقف سنان باشا بعد أبيه واشتهر بالمعرفة حتى كان يضرب به المثل في ذلك وكان ساكنا صامتا حلو العبارة حسن العشرة وكان خطه متنوعا متناسباً في التظرف وربما لا يوجد فيه كشط أبداً وكانت بينه وبين والدي مودة أكيدة ومدحه بقصائد وفي بعضها يقول في وصفه:
في الفضل والافضال بحر كامل ... وعليه من حلل الوقار سكون
فاق ابن مقلة في الكتابة والنهى ... وابن العميد ودره المكنون
أدب كزهر الروض باكره الحيا ... تصبو إليه أنفس وعيون
مدحي له فرض على محتم ... عندي ومدحي غيره مسنون(2/328)
فله يحركني رسيس صبابة ... ولبعده عني الرقاد شطون
وكانت ولادته في سنة أربع وعشرين وألف وتوفي فجاءة في سنة سبع وسبعين وألف ودفن بمقبرة الفراديس.
محمد بن أبي القسم بن محمد السيد الجليل له مشاركة في العلوم والأنساب وفي السعي بالخيربين العرب والولادة ولهم فيه معتقد عظيم وبيتهم بيت رياسة لهم الجاه المسكين عند الأمراء والعرب خصوصاً أولاد الشريف بن جابر فان لهم عليه اليد المستطيلة بفضل الله تعالى وعلى الفخر وعلى المهادلة وشهر بين مهادلة الدنيا أن كل من قتل قتيلا وركب على تربتهم وتربة سيدنا أبي بكر بن علي الأصم عفي عنه ولم يؤخذ منه دية ولا قود ومسكنهم المنيرة وهم قائمون بالجمعة والجماعة وامتحنوا في أيام فضل الله باشا بمغالطة نسيت إليهم وهي على العرب بني ضليل فاستشهد منهم جماعة لسعادة سيقت وأظن أن زوال دولة الأروام من اليمن بسببهم لأن السيد عبد الله بن أبي القاسم لما قتلوا ولده وأسروه جعل صرخة إلى النبي صلى الله عليه وسلم محفوظة وقال فيها فيظلمهم وبجورهم أنزل بهم ذكره السيد محمد بن الطاهر بن البحر وكانت وفاته بعد أخيه عبد الله في سنة اثنتين وأربعين وألف وخلفه ولده السيد الجليل العلامة المحدث أبو القاسم وقام بزاويتهم بعد أبيه وعمه.
محمد بن أحمد القدسي الخريشي الحنبلي ترجمه الشمس الداودي وقال في ترجمته كان والده بناء وكان يقرأ القرآن وربما ناب عن ولده في الإمامة في بعض الأحيان ورحل هو إلى القاهرة واشتغل بالجامع الأزهر وغيره وأقام بها مدة طويلة حتى برع وتميز وتأهل للتدريس والفتوى وأجيز بذلك من شيوخه المصريين ثم قدم إلى القدس وأقام بها ملازماً على الدروس وكان عالماً عاملاً خاشعا ناسكا متقللا من الدنيا قانعا باليسير طويل التعبد كثيراً نتهجد ملازماً على تلاوة القرآن وتعلم العلم انتفع به أهل القدس انتفاعاً ظاهر أو كثير من أهل نابلس وخصوصاً في العربية وكان لا يجتمع بالأمراء ولا بالقضاة مع حرمهم على الاجتماع به وكان إمام الحنابلة بالمجمع الذي تحت المدرسة القا يتبائية ومفتيهم وكان يعظ الناس ويذكرهم وحصل بينه وبين صاحبنا الشيخ محمد ابن شيخنا الشمس محمد بن أبي اللطف وحشة أدت إلى ترك ذلك قبل سببها أن الخريشي وقف على حكم العذبة والتلحي واستحباب ذلك فأرخى له عذبة ثم تلحي وكان له طلبة ومجنون يعتقدونه فأخذوا بالاقتداء به في ذلك وكثر متعاطو ذلك حتى من أولاد المشايخ وصار بعض الناس يضحكون منه ومنهم ويأمرونهم بترك ذلك وهو يحملهم على الملازمة وترك الالتفات إلى قول المنكرين فأدى ذلك أن أفتى الشيخ محمد المذكور بأن التلحي بدعة ويعزر متعاطية فتسلط السفهاء على المتلحين ويؤذونهم ويؤذون الشيخ المذكور الذي أمرهم بذلك ويقولون هو مبتدع وسعوا في منعه من الوعظ فترك ذلك وتحمل الأذى وصبر فلم تمض إلا مدة قليلة حتى مات الشيخ اللطفي مسكوتا فصار الناس يقولون هذا من بركة الخريشي وإنكاره على السنة وكانت وفاة الخريشي في ليلة الأحد ثالث عشر ربيع الثاني سنة إحدى بعد الألف والخريشي بضم الخاء المعجعة والشين المعجمة مصغراً نسبة إلى قرية في جبل نابلس رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن شهاب الدين الملقب شمس الدين بن هلال الحمصي الأصل الدمشقي الفقيه الحنفي المشهور أخذ الفقه عن القطب بن سلطان والشمس بن طولون والشيخ عبد الصمد العكاري وقرأ المعقولات على العلاء بن عماد الدين ولزم فيها أبا الفتح الشبستري وأخذ الأدب عن أبي الفتح المالكي وقرأ على المولى على ابن أمر الله الحتاتي قاضي القضاة بالشام وبرع في الفقه وشارك في غيره وولى إمامة السليمانية وكان يكتب رقاع الإفتاء وأكثر ما يكتب لمفتية الحنفية من الروم وكان هو المفتى في نفس الأمر ولم يكن بدمشق في زمانه أعلم بالفقه وأقوال الفقهاء الحنفية منه وكان له قدرة تامة على استخراج النقول من مجالها وفيه يقول شيخه أبو الفتح المالكي:
إن الكتابة للفتاوي لم تجد ... أحداً سواك يحل من أشكالها
حملتك مقلتها فيا إنسانها ... أنت ابن مقلتها وابن هلالها
قلت ولقد ظرف في هذا القول وابن مقلة هو أول من نقل الخط الكوفي إلى العربي وخطه يضرب مثلاً في الحسن لأنه أحسن خطوط الدنيا وفيه يقول أبو منصور الثعالبي:(2/329)
خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ... ودت جوارحه لو حولت مقلا
فالبدر يصغر لاستحسانه حسدا ... والنور يحمر من نواره خجلا
وقيل إنه كتب كتاب هدنة بين المسلمين والروم فوضعوه في كنيسة قسطنطينية وكانوا يبرزونه في الأعياد ويجعلونه من جملة تزايينهم في أخص بيوت العبادات ويعجب الناس من حسته ومن خبره أنه تقلبت به أحوال ومحن أدت إلى قطع يده ومن نكد الدنيا أن مثل تلك اليد النفيسة تقطع ومن عجائبه أنه كتب باليسرى بعد القطع وأما ابن هلال فهو أبو علي الحسن بن هلال المعروف بابن البواب وهو الذي جاء بعد ابن مقلة وزاد في تعريب الخط ثم جاء ياقوت المستعصمي وختم فن الخط وأكمله وأدرج في بيت جميع قوانيته فقال:
أصول وتركيب كرأس ونسبة ... صعود وتشميرنز ول وأرمال
وفي القاموس أن أول من وضع الخط العربي مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة ثم تعلموه أهل الأنبار فتعلمه حرب بن أمية ابن أخت أبي سفيان فتعلمه جماعة من أهل مكة فذلك كثر من يكتب من قريش انتهى ولابن هلال صاحب الترجمة أشعار ومنشآت فمن شعره يرثي شيخه العلاء:
لقد فارقت نفسي وانبعاثي ... إلى أيام حزني وانبعاثي
لتكراري نواحي في النواحي ... وتجديد القوافي والمراثي
على من كان في الدنيا ملاذي ... وملجأ غربتي ويد انبعاثي
وكتب مقرظا على شرح العلاء الطرابلسي الذي وضعه على فرائض ملتقي الأبحر نزهت طرفي في رياض هذا الشرح البديع. وأجريت طرفي في ميدان ما أبداه من حسن الصنيع فألفيته سابقاً في حلبة التأليف لما اشتمل عليه من حسن الترصيع والترصيف أغنى به من كان طالباً لعلم الفرائض وراض بعباداته الرائقة كل راغب رائض بين بفصاحته النسبة ما بين الرؤس والسهام وعين ببلاغته ما يستحقه الوارث والمحلق به من ذوي الحقوق والأقسام فأخفي بساطع أنواره ضوء السراج وأبطل بلامع برهانه شهاب الفناري فلم يبق إلى غيره مفتقر ولا محتاج فلله در هذا الهمام على ما أبرز من زهرات الأكمام فلقد أحيا الموات بسكب الأنهر وشرح الصدور بشرح فرائض ملتقى الأبحر ولم يسبقه أحد إلى ذلك ولا يلحقه من سلك تلك المسالك وكان تناظر هو وبعض المفتين بدمشق في مسئلة فقهية وظهر الحق في جانبه فألف رسالة ردبها على المفتى وبعث بها إلى جدى القاضي محب الدين فكتب له عليها هذين البيتين:
أصبت يا ابن هلال في الردود على ... من صار في جهله ناراً على علم
جردت سيفا لجرج في مقاتله ... مر صعا بيواقيت من الكلم
وكانت ولادته في سنة عشرين وتسعمائة وتوفي في المحرم سنة أربع بعد الألف.
محمد بن أحمد بن حمزة الملقب شمس الدين بن شهاب الدين الرملي المنوفي المصري الأنصاري الشهير بالشافعي الصغير وذهب جماعة من العلماء إلى أنه مجدد القرن العاشر ووقع الاتفاق على المغالاة بمدحه وهو أستاذ الأستاذين وأحد أساطين العلماء وأعلام نحارير هم محيي السنة وعمدة الفقهاء في الآفاق وفيه يقول الشهاب الخفاجي وهو أحد من أخذ عنه:
فضائله عد الرحال فمن يطق ... ليحوى معشار الذي فيه من فضل
فقل لغبي رام إحصاء فضله ... تربت استرح من جهد عدك للرمل(2/330)
اشتغل على أبيه في الفقه والتفسير والنحو والصرف والمعاني والبيان والتاريخ وبه استغنى عن التردد إلى غيره وحكى عن والده إنه قال تركت محمداً بحمد الله تعالى لا يحتاج إلى أحد من علماء عصره إلا في النادر وكانت بدايته بنهاية والده وحفظ القرآن والبهجة وغيرهما وأخذ عن شيخ الإسلام القاضي زكريا والشيخ الإمام برهان الدين بن أبي شريف رحمه الله تعالى قال رأيت الشيخ زكريا كالألف في الانتصاب ورأيت برهان الدين وهو قاعد إلى هيئة السجود أقرب من الهرم فقلت لوالدي ما بال الشيخ زكريا مع كونه أسسن من الشيخ برهان الدين أصح جسما ومنتصب القامة فقال كان الشيخ برهان الدين يكثر الجماع جداً فأسرع إليه الهرم وأما الشيخ زكريا فكان معرضاً عن ذلك جداً انتهى وذكر النجم الغزي في ترجمته أن له رواية عن شيخ الإسلام أحمد بن النجار الحنبلي وشيخ الإسلام يحيى الدميري المالكي وشيخ الإسلام الطرابلسي الحنفي والشيخ سعد الدين الذهبي الشافعي وكان عجبب الفهم جميع الله تعالى له بين الحفظ والغهم والعلم والعمل وكان موصوفاً بمحاسن الأوصاف وذكره الشيخ عبد الوهاب الشعراني في طبقاته الوسطى فقال صحبته من حين كنت أحمله على كتفي إلى وقتنا هذا فما رأيت عليه ما يشينه في دينه ولا كان يلعب في صغره مع الأطفال بل نشأ على الدين والتقوى والصبانة وحفظ الجوارح ونقاء العرض رباه والده فأحسن تربيته ولما كنت أحمله وأنا أقرأ على والده في المدرسة الناصرية كنت أرى عليه لوائح الصلاح والتوفيق فحقق الله رجائي فيه وأقر عين المحبين به فإنه الآن مرجع أهل مصر في تحرير الفتاوي وأجمعوا على دينه وورعه وحسن خلقه وكرم نفسه ولم يزل بحمد الله في زيادة من ذلك انتهى وجلس بعد وفاة والده للتدريس فأقرأ التفسير والحديث والأصول والفروع والنحو والمعاني والبيان وبرع في العلوم النقلية والعقلية وحضر درسه أكثر تلامذة والده وممن حضره الشيخ ناصر الدين الطبلاوي الذي كان من مفردات العالم مع أنه في مقام أبنائه فليم على ذلك وسئل عن الداعي إلى ملازمته فقال لا داعي لها إلا أني أستفيد منه مالم يكن لي به علم ولازمه تلميذ أبيه الشهاب أحمد بن قاسم ولم يفارقه أصلاً وسئل ابن قاسم مرة أن يعقد مجلس الفقه فقال مع وجود الشيخ شمس الدين الرملي لا يليق وطار صيته في الآفاق وولي عدة مدارس وولي منصب إفتاء الشافعية وألف التأليف النافعة منها شرح المنهاج أتى به فيه بالعجب العجاب وشرح البهجة الوردية وشرح الطريق الواضح للشيخ أحمد الزاهد سماه عمدة الرابح وشرح العباب لكنه لم يتم وشرح الزبد وهو غير شرح والده وشرح الإيضاح منسك النووي وشرح المناسك الدلجية وشرح منظومة ابن العماد في العدد وشرح العقود في النحو وشرح رسالة والده في شروط المأموم والإمام سماه غاية المرام وشرح مختصر الشيخ عبد الله بأفضل الصغير وشرح الأجرومية وله حاشية على شرح التحرير لشيخ الإسلام وحاشية على العباب وغير ذلك واشتهرت كتبه في جميع الأقطار وأخذ عنه أكثر الشافعية من أهل مصر ورجعوا إليه وأجل تلاميذه النور الزيادي والشيخ سالم الشبشيري وغيرهما واختلف في رأس المائة هل يعتبر من المولد النبوي أو البعثة أو الهجرة أو الوفاة لو قيل بأقربية الثاني لم يبعد لكم صنيع السبكي وغيره مصرح بأن المراد الثالث وقد ذكر الحافظ السيوطي المجددين في أرجوزة سماها تحفة المهتدين بأخبار المجددين وهي:
الحمد الله العظيم المنه ... المانح الفضل لأهل السنة
ثم الصلاة والسلام نلتمس ... على نبي دينه لا يندوس
لقد أتى في خبر مشتهر ... رواه كل حافظ معتبر
بأنه في رأس كل مائة ... يبعث ربنا لهذي الأمة
منا عليها عالما يجدد ... دين الهدى لأنه مجدد
فكان عند المائة الأولى عمر ... خليفة العدل بإجماع وقر
والشافعي كان عند الثانية ... لماله من العلوم السارية
وابن سريج ثالث الأئمة ... والأشعري عدة من أمة
والباقلاني رابع أو سهل أو ... الاسفرايني خلف قد حكوا(2/331)
والخامس الحبر هو الغزالي ... وعده ما فيه من جدال
والسادس الفخر الإمام الرازي ... والرافعي مثله يوازي
والسابع الراقي إلى المراقي ... ابن دقيق العيد باتفاق
والثامن الحبر هو البلقيني ... أو حافظ الأنام زين الدين
وعد سبط الميلق الصوفيه ... لو وجدت مائته وفيه
والشرط في ذلك أن تمضي المائه ... وهو على حياته بين الفئه
يشار بالعلم إلى مقامه ... وينصر السنة في كلامه
وأن يكون جامعاً لكل فن ... وأن يعم علمه أهل الزمن
وأن يكون في حديث قد روى ... من آل بيت المصطفى وهو قوى
وكونه فرداً هو المشهور ... قد نطق الحديث والجمهور
وهذه تاسعة المئين قد ... أتت ولا يخلف ما الهادي وعد
وقد رجوت أنني المجدد ... فيها ففضل الله ليس يحجد
وآخر المئين فيها يأتي ... عيسى نبي الله ذو الآيات
يجدد الدين لهذي الأمة ... وفي الصلاة بعضنا قد أمه
مقرراً لشرعنا ويحكم ... بحكمنا وفي السماء يعلم
وبعده لم يبق من مجدد ... ويرفع القرآن مثل ما يدي
وتكثر الأشرار والأضاعة ... من رفعه إلى قيام الساعة
وأحمد الله على ما علما ... وما جلا من الخفا وأنعما
مصليا على نبي الرحمه ... والآل مع أصحابه المكرمه(2/332)
انتهت الأرجوزة قال الحافظ عماد الدين بن كثير قد أدعى كل قوم في أمامهم أنه المراد بهذا الحديث والظاهر أنه يعم حملة العلم من كل طائفة وكل صنف من أصناف العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء ونحاة ولغويين انتهى وقال في جامع الأصول تكلموا في تأويل هذا الحديث وكل أشار إلى القائم الذي هو من مذهبه وحمل الحديث عليه والأولى العموم فإن من تقع على الواحد والجمع ولا يختص أيضاً بالفقهاء فإن انتقاع الأمة يكون أيضاً بأولى الأمر وأصحاب الحديث والقراء والوعاظ لكن المبعوث ينبغي كونه مشار إليه في كل من هذه الفنون ففي رأس الأولى من أولى الأمر عمر بن عبد العزيز ومن الفقهاء محمد الباقر والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله والحسن وابن سيرين وغيرهم من طبقتهم ومن القراء ابن كثير ومن المحدثين الزهري وفي رأس الثانية من أولى الأمر المأمون ومن الفقهاء الشافعي واللؤلؤي من أصحاب أبي حنيفة وأشهب من أصحاب مالك ومن الأمامية علي بن موسى الرضا ومن القراء الحضرمي ومن المحدثين ابن معين ومن الزهاد الكرخي وفي الثالثة من أولى الأمر المقتدر ومن الفقهاء ابن سريج الشافعي والطحاوي الحنفي والخلال الحنبلي ومن المتكلمين الأشعري ومن المحدثين النسائي وفي الرابعة من أولى الأمر القادر بالله ومن الفقهاء الأسفرايني الشافعي والخوارزمي الحنفي وعبد الوهاب المالكي والحسين الحنبلي ومن المتكلمين الباقلاني وابن فورك ومن المحدثين الحاكم ومن الزهاد الثوري وهكذا يقال في بقية القرون وقال في الفتح نبه بعض الأئمة على أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل قرن واحد فقط بل الأمر فيه كما ذكره النووي في حديث لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق من أنه يجوز أن يكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد ولا يلزم اجتماعهم ببلد واحد بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وتفرقهم في الأقطار ويجوز اجتماعهم ببلد وأن يكونوا في بعض دون بعض ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولاً فأولا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا أتى أمر الله وقال الحافظ زين الدين العراقي في أول تخريج أحاديث الأحياء في ترجمة الغزالي بعد أن ذكر نحو ما مر وإنما قلت من تعيين من ذكرت على رأس كل مائة بالظن والظن يخطئ ويصيب والله أعلم بمن أراد نبيه صلى الله عليه وسلم ولكن لما جزم أحمد بن حنبل في المائتين الأوليين بعمر بن عبد العزيز والشافعي تجاسر من بعده بابن سريج والصعلوكي وسبب الظن في ذلك شهرة من ذكر بالانتفاع بأصحابه ومصنفاته والعلماء ورثة الأنبياء وكذلك من ذكر أمر مظنون في المائة الثامنة فعلمه إلى الله تعالى يبقى العلماء ويديم النسفع بهم إلى أزمان متطاولة ولكن لم تزل الصحابة يظنون قرب الأمر حتى قال بعضهم في الرجل الذي يخرج إلى الدجال ويقتله فكنا نرى أنه عمر بن الخطاب حتى مضى لسبيله ولا إنكار في اقتراب الساعة فقد قال الله تعالى فقد جاء أشراطها انتهى قال العلامة عبد الله بن عمربا مخرمة ويقرب عندي أن المجدد للمائة العاشرة القاضي زكريا الشهرة الانتفاع به وتصانيفه واحتياج غالب الناس إليها لا سيما فيما يتعلق بالفقه وتحرير المذهب بخلاف كتب السيوطي فإنها وإن كانت كثيرة فليست بهذه المثابة على أن كثيراً منها مجرد جمع بلا تحرير وأكثرها في الحديث من غير تميز الطيب من غيره بل كأنه حاطب ليسل وصاحب ذيل والله تعالى يرحم الجميع ويعيد علينا من بركاتهم قال ولا ندري من يكون على رأس العاشرة فإن الجهل عم وأفق العلم أظلم بل قد انمحى رسمه ولم يبق إلا اسمه وصار المعروف منكراً والمنكر مشتهراً وعاد الدين غريباً وصار الحال عريباً انتهى قال المناوي في شرح الجامع الصغير وهنا تنبيه ينبغي التفطن له وهو أن كل من تكلم على حديث أن الله يبعث إنما يقرره بناء على أن المبعوث على رأس القرن يكون موته على رأسه وأنت خبير بأن المتبادر من الحديث إنما هو البعث وهو الإرسال يكون على رأس القرن أي أوله ومعنى إرسال العالم لا بعث فتدبر بالأنصاف ثم رأيت الطيبي قال المراد بالبعث من انقضت المائة وهو حي عالم يشار إليه والكرماني قال قد قال قبيل كل مائة أيضاً من يصحح ويقوم بأمر الدين وإنما المراد من انقضت المدة وهو(2/333)
حي عالم مشار إليه ولما كان ربما يتوهم متوهم من تخصيص البعث برأس القرن أن المقام بالحجة لا يوجد إلا عنده أردف ذلك بما يبين أنه قد يكون في أثناء المائة من هو كذلك بل قد يكون أفضل من غالباً وظهور البدع ونجوم الدجالين قال الشيخ عبد الرحمن بن زياد وهنا دقيقة نبه عليها تاج الدين السبكي على رواية رجل من أهل بيتي وهي أن عمر بن عبد العزيز والشافعي قرشيان تصدق عليهما الرواية المذكورة وبذلك يتعين عندي أن يكون المجدد بعد الشافعي شافعي المذهب فإنه هو الذي من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم والظاهر أن المراد بكونه من أهل البيت بالنسب المعتوي كما ورد في الخبر سلمان منا أهل البيت وزعم الجمال محمد بن عبد السلام النزيلي أن المجدد في العاشر الشيخ علي بن مطير وقال السيد عبد القادر بن شيخ والظاهر أنه عبد الملك بن دعين ويحتمل أنه الشيخ محمد البهنسي قلت أين هؤلاء من الرملي صاحب الترجمة وشهرته كافيه في هذا الباب وكانت ولادته سلخ جمادى الأولى سنة تسع عشرة وتسعمائة بمصر وتوفي نهار الأحد ثالث عشر جمادى الأولى سنة أربع بعد الألف والرملي نسبة إلى رملة قرية صغيرة قريباً من البحر بالقرب من منية العطار تجاه مسجد الخضر عليه السلام بالمنوفية قاله الشعراني.حي عالم مشار إليه ولما كان ربما يتوهم متوهم من تخصيص البعث برأس القرن أن المقام بالحجة لا يوجد إلا عنده أردف ذلك بما يبين أنه قد يكون في أثناء المائة من هو كذلك بل قد يكون أفضل من غالباً وظهور البدع ونجوم الدجالين قال الشيخ عبد الرحمن بن زياد وهنا دقيقة نبه عليها تاج الدين السبكي على رواية رجل من أهل بيتي وهي أن عمر بن عبد العزيز والشافعي قرشيان تصدق عليهما الرواية المذكورة وبذلك يتعين عندي أن يكون المجدد بعد الشافعي شافعي المذهب فإنه هو الذي من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم والظاهر أن المراد بكونه من أهل البيت بالنسب المعتوي كما ورد في الخبر سلمان منا أهل البيت وزعم الجمال محمد بن عبد السلام النزيلي أن المجدد في العاشر الشيخ علي بن مطير وقال السيد عبد القادر بن شيخ والظاهر أنه عبد الملك بن دعين ويحتمل أنه الشيخ محمد البهنسي قلت أين هؤلاء من الرملي صاحب الترجمة وشهرته كافيه في هذا الباب وكانت ولادته سلخ جمادى الأولى سنة تسع عشرة وتسعمائة بمصر وتوفي نهار الأحد ثالث عشر جمادى الأولى سنة أربع بعد الألف والرملي نسبة إلى رملة قرية صغيرة قريباً من البحر بالقرب من منية العطار تجاه مسجد الخضر عليه السلام بالمنوفية قاله الشعراني.
محمد بن أحمد بن حسين بن الشيخ عبد الله العيدروس الولى العارف بالله تعالى الحضرمي قال الشلي في ترجمته كان مشهوراً بالولاية التامة وفيه نفع عظيم وإرشاد وله بمدينة تريم وأخذ عن والده إمام الطريقة وصحب تاج الدين وشيخ العارفين محمد بن علوي يإجحذب وجد في الاجتهاد حتى فاق أقرانه وسار ذكره في الآفاق وقصده الناس من كل مكان وصحبه خلق كثير ولبسوا منه خرقة التصوف وكان كبير القدر واسع الصدر وله كرامات مشهور وحج هو وأخوه الشيخ عبد الله ورجعا إلى وطنهما تريم ولم يزل صاحب الترجمة على حالته المرضية حتى توفي إلى رحمه الله تعالى وكانت وفاته في سنه ست بعد الألف ودفن بمقبرة زنبل بقرب مشهد جده الشيخ عبد الله العيدروس وقبره ظاهر يزار رحمه الله تعالى.(2/334)
محمد بن أحمد بن محمد المعروف بابن المنلا شمس الدين بن شهاب الدين شارح المغنى المتقدم ذكره الحصكفي الأصل الحلبي الشافعي ذكره العرضي الكبير في تاريخه وقال في ترجمته ولد في سنة سبع وستين وتسعمائة ثم نشأ في حجر أبيه وقرأ عليه شرح الشذور لابن هشام قال ودخلت يوما إلى زيارة أبيه وكان صاحبنا فرأيته يقرئه في بحث المبني وهو يتمتع في فهم الكلام وتفهيمه لولده لإكثاره من المطالعة والنظر فأغنيته عن تقرير ذلك الدرس ووضخت للولد المبحث وركز حبنا في قلب الولد فأتى إلينا بإذن أبيه وطلب مني إلا قراء فأقراته شرح الكافية للجامي من أوله إلى آخره فلم يختم الكتاب إلا وقد صار ذا ملكة ثم مشى معنا في مغنى اللبيب ثم في المطول وشرح آداب البحث للمسعودي وفي الأصفاني ومتن الجغميني في الهيئة وشرح ابن المصنف على ألفية أبيه ابن مالك وفي إرشاد ابن المقرى وشرح المنهج للقاضي زكريا وسمع من لفظي صحيحي البخاري ومسلم ورفيقه في معظم ذلك أخوه البرهان ثم أن محمد أتصدر للتأليف فكتب تاريخا لحلب تعرض فيه لمن حكم فيها من حسين فتحها الصحابة إلى زمن إبراهيم باشا الملقب بالحاج إبراهيم أجاد فيه وأنبأ عن إطلاع عظيم وكتب حصة على صحيح مسلم ورسالة حسنة في إسلام أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظم الشعر الحسن وامتدحني بقصائد جمة مع كثرة عبادة وتلاوة للقرآن وصلاة حسنة يصلها عند دخول الوقت مع الجماعة ويكثر فيها من تلاوة القرآن وكرم وافر وإحسان للمحببين وإحسان للمحبين وإجزال الضافات ومحبة الناس والتواضع والتمسك بالسنة مع الفضيلة التامة وبغض الزناد وذكره الشهاب مع أخيه البرهان وكذا البديعي ووصفاهما بأوصاف حسنة وأورد الشهاب من شعر محمد قوله وفي الترجمة من الفارسية هذا الرباعي.
في الليل وفي النهار حراً كبدي ... مقتول ضنى بجائر ليس يدي
تنثر عيني جواهر الدمع علي ... لقياه تظن أنها طوع يدي
وقال ولصاحبنا القاسمي مثله:
لقياك سرور قلبي المحزون ... فالوحشة من نواك لا تعدوني
يا ويح دموعي خشيت شقوتها ... مني فأنت بدرها ترشيني
وقريب منه قول ابن الرومي:
وهبت له عيني الهجوعا ... فأثابها منه الدموعا
ومن البلية أنني ... علقت ممنوعا منوعا
وللأرجاني:
لولا طروق خيال منك منتظر ... يلم بي راقد أما ساءني سهري
كان جفني أكراماً لزورته ... أمسى على قدميه ناثر الدرر
وأنشد له البديعي قوله:
ما أقل الأصحاب أن حسم أمر ... في عظيم وما أقل المساعد
وبلاء لابد للمرء منه ... أن يرى راغباً بآخر زاهد
وقوله:
سيلحق من سره موتنا ... بنا مثل من سرنا موته
فيه زيادة على قول الآخر:
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
وله:
قلت لما تنكرت أمر شيبي ... وأبت دون شرحه في التراضي
كان لي في الزمان بعض حساب ... أخرجته أيدي النوى البياض
وله:
سامرته في ليلة وصباحها ... يتكايدان على كيد المحنق
فالليل يظهر لي بقلب أسود ... والصبح ينظرني بطرف أزرق
وله:
ألا ليت شعري هل زارني ... حبيبي وليس رقيبي قريب
وهل علم الدهر أني امرؤ ... كثير لدى قليل الحبيب
قال العرضي وأصابته حمى الربع فطالت به فوصف له بعض مبغضيه أن يكتوي في ظهره فكواه رجل زنديق من قرية كفر حابس ولا يخفي أن أهلها مختلفوا العقائد في سلسلة ظهره وصادفه مجيء الشتاء فحصل له الكزاز مرض ردئ فمات به في سنة عشر وألف رحمه الله تعالى ودفن في تربة جده لخواجا إسكندر في محلة الجبيلة بحلب.(2/335)
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد العجل بن محمد بن يوسف بن إبراهيم ابن الإمام القطب الغوث الفرد الجامع الفقيه أبي اللقيف أحمد بن موسى بن علي بن عمر العجيل بن محمد بن حامد بن زريق بن وليد بن زكريا بن محمد بن حامد بن مغرب بن عيسى بن محمد الفارسي ابن زيدين دوال بن شبوه بن ثوبان بن عيسى بن شحاده بن غالب ابن عبد الله بن عك بن عدنان أبو الغوائر صاحب بيت الفقيه اليمنى العارف بالله تعالى صاحب الأحوال الباهرة والكرامات الخارقة الظاهرة والأنفاس الطاهرة الذي تواتر حديث فضله وجلالته وأجمع الناس على ولايته وعمت بركاته الحاضر والباد في كل واد وناد وكان نفع الله به إمام أهل العرفان المشار إليه يالبنان وقطب دائرة اليمن الفخيم ومركز محيط ذلك الإقليم متخلقا بالأخلاق النبوية متصفا بالصفات الربانية أمام المرشدين في عصره وأستاذ الأستاذين في دهره جنيد الطريقة في زمانه غزالي الرفيعة لا مكانه ابن عربي الحقيقة بشأنه ومن أرباب الأحوال السنية بل المقامات العلية بهر بجميل جماله أطواد العقول وأنلج ببرد لطفه المناكب والصدور ونال منه تلامذته الوصول وكان له ببيت الفقيه الظهور الكبير العجيب والجاه الطويل العريض الغريب قلد أعناق الرجال باليمن المسنن ودانت له النفوس وإن خالف السر العلن وامتد في المقامات والأحوال باعه وعمرت بالإقبال رباعة قصده الناس الغادي والرائح وخدمته القرائح بالمدائح وكان رضى الله عنه حريصا على سلوك الطريق من أهل السنة والجماعة مواظباً على الخير لا يصرف أوقاته في غير طاعة حافظاً لا زمانه وأوقاته مقيلا على طاعات ربه وعباداته حسن السمت والسيرة نسير القلب والسريرة مع كرامات أشهر من الشمس في رابعة النهار وخوارق اشتهرت في سائر الأقطار ورأيت بخطه نفع الله به ما نصه أخبرني الشيخ الصالح نحم الدين بن أحمد الفيومي المصري أنه رأى في خيال سنته يوم عيد الفطر سنة سبع وألف كان النبي صلى الله عليه وسلم في محل قبره الكريم بارز والنور يخرج من سائر أجزائه ويخرج من صدره الكريم نور له جرم وحلق السبابة والإبهام وقال مقدار هذا قال ورأيت ذلك ممتداً من محله حتى اتصل بسيدي محمد العجل وهو إذ ذاك في حال قراءة المولد والذكر بمسجده وصار النور يدخل في صدره مستمراً على ذلك ورأيت جمعا من الأولياء ينالهم نور من ذلك لكنه صغير الجرم ومثله الرائي بالخيط في مقتضى الحس قال واستيقظت والحال على ما هي عليه من اتصال نور النبي صلى الله عليه وسلم بصدر سيدي الفقيه محمد ودخوله فيه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم انتهى ويقال أن صاحب الترجمة استمر نحو سنتين مريضاً فكان في النهار يذهب إلى الهيجاء ويأتي بالليل إلى تربة جده سيدي الفقيه أحمد بن موسى حتى ظهر له في ليلة وأعطاه أصبعه فمصها وأمره بالرجوع إلى البلد للتربية والإرشاد ويقال أيضاً إنه أتاه آت في منامه وقال له لازم مطالعة كتب الشيخ الأكبر ابن عربي ونحن ندافع عنك بالسيف والترس أخذ الفقه والحديث وغيرهما من العلوم الدينية عن محدث اليمن وحافظه عبد الرحمن الديبع صاحب التيسير وأجازه إجازه عامة بمررياته وأخذ الطريق عن السيد الولي العارف بالله تعالى أبي القاسم بن علي صاحب الضحى وغيرهما من شيوخ عصره وعنه ولده العارف بالله تعالى أحمد أبو الوفاء العجل وكان ينظم الشعر ومن شعره قوله في القات:
لا ندبة الخلان صاح تجمل ... بوجدان قات زانها وتهلل
فيا حسنه إن رق يوماً لمحضر ... وحف بألطاف لها الفضل يجعل
فيا سادة قاموا على قدم الصفا ... إذا لقات وأفاكم فقوموا وهللوا
وقولوا بلفظ الجمع والفرق خلفوا ... لأن سوى الباري خيال مبطل
وحكم اربتاط عادمي غير منكر ... وأحكامه في الشرع حقا تبطل
ولكنه سبحانه جل قدره ... له مع جميع الكائنات تفضل
بها خصهم فضلا ومنا عطية ... وليس لهم بالكسب فيها محصل
فلا تنكرن يا صاح قول مفضل ... أتى عن معاني القرب يحكي وينقل
فسلم لتسلم فالسلام مسلم ... لمن كان أسباب النجاة يحصل(2/336)
ولازم على التسليم في كل حالة ... تنل كل ما ترجو وما أنت تأمل
ودع كل خب في المقال مخرق ... يروع أهل الحق ثم يضلل
فكم عالم بالله يأكل قاتنا ... وما هو عن طرق الهداية يعدل
فيا نعم قوت الصالحين وقاتهم ... ينشط معوانا لهم لا يكل
فأجمع أهل الله من أهل قطرنا ... وممن لهم نور الهداية يكمل
يقولون ما في القات ضر ولا أذى ... ولامس جن للمساوي يخيل
وأما رأيت القات وقتا بحضرة ... إليها يقينا للكرامة يحمل
فقابله يا ذا الود بالرحب والهنا ... وقبل رغام الأرض إذ هو يوصل
فأهلا به ألفا وسهلا ومرحبا ... لأجل الذي فيه مي السريوكل
وبادر إلى ذكر الإله قبيلة ... وذكرك باسم الله للخير يوصل
فحاشا وكلا أن يكون رفيقه ... وقد رافق الأخيار غيا يحصل
فمدح كرام الحي أعظم شاهد ... على جمع أسرار حواها وأعدل
وراها أناس بالكشوفات قالهم ... رجال عليهم في الأمور المعول
فمن بعضها جذب حضور لذاكر ... وفيهم أمور أن خلا ليس تحصل
ولكن أخي لا ينتج القات أن خلا ... عن النية العظمى فإنك تهمل
ويكفيك قول المصطفى في امتداحها ... عظيم حديث في الرسائل أول
فأحرص على القات الشريف بحبه ... وقارنه بالنيات أن أنت تأكل
تشاهد أموراً من غريب معارف ... من الحضرة العلياء تأتيك ترقل
بحلة لفظ من نقوش منمم ... له ترجمان القلب يروى مفصل
ولم نزل نفحات نسماته عاطرة الأرج وزجاجات وارداته ظاهرة الرهج إلى أن أحب الله لقاءه فأجاب داعيه ودرج وبروحه اللطيفة إليه عرج وكانت وفاته ظهر يوم الخميس سابع عشر شهر ربيع الثاني سنة إحدى عشرة بعد الألف ودفن ببيت الفقيه ابن عجيل وبني عليه قبة عظيمة بناها الوزير حسن باشا حاكم اليمن وكان ختم بنائها نهار الخميس رابع عشر شهر شوال سنة اثنتي عشرة وألف وقبر درياق مجرب لقضاء الحوائج رحمه الله تعالى.
السيد محمد بن أحمد بن محمد المنعوت محب الدين الحصني الدمشقي الشافعي السيد العالم العلم الجواد المربى كان غاية في الورع والتقشف والتصلب في أمر الدين دينا خيراً ناجحاً ملازماً للاعتكاف بمسجد الحصنية بمحلة المزاز من الشاغور البراني بدمشق وكان محافظاً على عمارة مطبخ آبائه بخان الكشك المقابل لخان ذي النون خارج دمشق بإصلاح الحلوى والطعام والتفرقة على الحجاج ذهاباً وإياباً وكان سخيا لا يمسك شيئاً وله حفدة ومريدون كلهم عائلة عليه وكانت وفاته نهار السبت حادي عشر شهر رمضان سنة إحدى عشر بعد الألف وقيل في تاريخه:
إن الشريف محمد القطب الذي ... يدعى محب الدين للأخرى انتقل
إن تسألوني أين حل فأرخوا ... في وسط جنات النعيم قد نزل
وبنو الحصني بالشام أشهر من كل مشهور وهم بيت بارك الله فيهم من قواد مهم إلى خوافيهم وجدهم التقي شيخ شافعية الشام في عصره وأوحد زهاد زمنه المشهور بسمو قدره تميز بهم الفاضل من الفضول فالتعرض لشرح أحوالهم ضرب من الفضول.(2/337)
محمد بن أحمد بن علي القاضي شمس الدين المعروف بابن المغربي المالكي الدمشقي مفتى المالكية بدمشق وقاضي الباب أحد الأذكياء الفضلاء حفظ القرآن في ابتداء أمره وصار مؤذنا بالجامع الأموي وكان حسن الصوت وأخذ الفقه عن القاضي علاء الدين بن المرجل البعلي وسافر إلى مصر وأخذ عن علمائها كالبنوفري وغيرع وحج وجار وأخذ عن مشايخ مكة وقرأ بدمشق على مشايخ الإسلام أبي الفداء إسمعيل النابلسي والعماد الحنفي والجد القاضي المحب والشمس ابن المنقار وناب بمحكمة قناة العوني ثم بالباب بعد سفر شيخه القاضي علاء الدين إلى الحج وكان يدرس بالجامع الأموي ويفتى واستقرت له الفتوى منفرداً بها بعد شيخه وكانت سيرته في القضاء حسنة وكان لطيف المعاشرة وصار إماماً بالجامع الأموي وكان يتعاقب على القضاء هو والقاضي كمال الدين بن خطاب واستقر الأمر آخراً لابن خطاب وكان إذا عزل يحصل له قهر عظيم ولما طال عزله آخر الأمر مرض وطال في بيته بحارة قصر حجاج خارج باب الجابية وانتهبوه وأهانوه فزاد قهره واستمر متضعفا يشكو حتى توفي يوم الخميس ثامن عشر ربيع الأول سنة ست عشرة وألف ودفن بمقبرة باب الصغير.
محمد بن أحمد أبو عبد الله المعروف بوحي زاده شارح مغنى اللبيب أصله من بلدة أزنيق وجده على بيك مذكور في تذكرة الشعراء وقد أكمل صاحب الترجمة طريق الصوفية على بعض المشايخ وجلس على سجادة الذكر والوعظ إلى أن مات الشيخ وسنة في سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة وكان مدرس دار الحديث المنسوبة لوالدة السلطان بمدينة أسكدار فوجهت إليه مع وعظ الجامع المنسوب إليها وكان بحراً فياضا في العلوم خصوصاً العربية متفننا في غيرها ومن آثاره الجليلة شرح مغنى اللبيب في مجلدين وهو شرح حافل مفيد يدل على سعة إطلاعه وله على التفسير تعليقات وكانت ولادته في سنة أربعين وتسعمائة وتوفي سنة ثمان عشرة بعد الألف وكان عمره لما مات تسعا وسبعين سنة كذا قاله ابن نوعي.
محمد بن أحمد بن محمد بن إسمعيل بن محمد المنعوت شمس الدين بن الإكرام الحنفي ويعرف بقطا البر كما أن أباه كان يعرف بقطا البحر أحد فضلاء دمشق وأصلائها وكان فاضلا مخشوشنا متقشغا قرأ في أول أمره ثم وصل إلى خدمة البدر الغزي فقرأ عليه في الأحياء ولما مات أبوه في سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة سافر إلى الروم وولى تدريس المدرسة المقدمية ورجع من الروم في شكل عجيب على أسلوب موالى الروم من الأثواب الطويلة بالأكمام الواسعة ولقب نفسه بشيخ الإسلام وكان يجمع الفقراء على الذكر عنده بالمدرسة ويتردد إليه بعض المنشدين وربما يكسوهم ويطعم الفقراء وكان يتظاهر بإنكار بعض المناكر وكان يمر على تخت القمار بمحلة تحت القلعة فيأمر بتكسيره وضرب المقامرين وكان قليل الحظ من الدنيا مع السخاء الزائد وكانت وفاته بداء البطن في وقت الغداء من يوم الثلاثا ثالث عشري ذي الحجة سنة تسع عشرة بعد الألف عن خمس وخمسين سنة ودفن عند أبيه بمقبرة الفراديس وبنو الأكرام بدمشق طائفة كبيرة منهم محمد وهو جد محمد هذا والد والده كان في آخر دولة الجراكسة أميراً من أمرائهم فلما ذهبت بأربعين ألف عثماني فاستمر مباشر الزعامة إلى أن عينوه خادماً للسلطنة في جمع فيه إلى ما هو مبتلى به من خدمة السلطنة وأشار إلى استفهامة عن هذه الأحوال هل تخلص صاحبها عند الله تعالى فكتب إليه الشيخ علوان كتاباً يقول فيه ولا بأس بخدمة السلطان إذا كانت على طريق الاستقامة وأيضاً فإن الرأي أن تكون حيث أنزلك حتى يكون الله عنه نقلك وأيضاً فإن الله لو لم يرد لك هذا الأمر الذي أنت فيه ما سهله لك وساق من ذلك فصلاً وكتب بعده في حاشية المكتوب ومع ذلك أقول:
سجنوا الطيب لغاتهم ... ياليتهم كانوا صموت
موت النفوس حياتها ... من رام أن يحيا يموت(2/338)
فلما وقف على هذين البيتين علم الإشارة فنزع ثيابه كلها وعتق ممالكيه ودخل في عدل تخين وجلس في محلة العنابة في مسجد العين ثلاثة أيام لا يكلم أحداً ولا يأكل ولا يشرب وترك الزعامة والدولة واستمر في بيته بمحلة العنابة جالسا منفرداً عن الناس لابسا ثياب الصوفية إلى أن مات فانتقل ولده أحمد إلى محلة القيمرية وسكن في بيوت ابن الحارة ثم أثبت المدرسة المقدمية وإنه من ذرية واقفها وأظهر على ما ادعاه عدة تمسكات وانتقل إليها وسكنها ثم سكنها بعده ابنه صاحب الترجمة كما ذكرناه آنفا واستمر بيدة تدريسها وتوليتها وهذه المدرسة منسوبة إلى من همن منتسبوب إليه وهو أمير الأمراء شمس الدين المقدم الذي كان من كبار الأمراء في زمن الملك العادل نور الدين الشهيد ثم صار من بكار الأمراء الصلاحية وحج فوقع بينه وبين أمير الحاج العراقي طاشتكين فضرب ابن المقدم بسهم وقع في عينه فمات من غده ذكر ذلك ابن خلكان في تاريخه وغيره من المؤرخين.
محمد بن أحمد بن محمد بن إدريس المنعوت بشمس الدين الحلبي ثم الدمشقي المعروف بابن قولا قسز وقد تقدم ابنه أحمد وكان محمد هذا فاضلاً بارعاً فقيها له إطلاع على مسائل فقه الإمام الأعظم أبي حنيفة قرأ بحلب على عالمها الإمام النجم بن الحنبلي الأصول والفقه والحديث وأخذ عن منلا أحمد القزويني المعاني والبيان والتفسير ثم رحل إلى دمشق وأخذ بها الفقه عن خطيب الشام وفقيهما النجم والبهنسي والحديث عن شيخ الإسلام البدر الغزي وقرأ البخاري عن النور النسفي وأخذ الفرائض عن الشيخ عبد الوهاب الحنفي والقراآت عن الطيبي والمنطق عن مثلا إبراهيم الكردي القزويني الحلبي وبه تفقه ولده أحمد وكان يحب العزلة والأنجماع عن الناس ولم يكن له وظيفة ولا مدرسة وبالجملة فقد كان من خيار الأفاضل وكانت ولادته في خامس عشري شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وتسعمائة وتوفي نهار الأحد رابع عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد الدجاني القدسي الشيخ المعمر البركة العارف بالله تعالى مفتي الشافعية بالقدس الشريف رحل إلى مصر واشتغل بها وبرع ثم رجع إلى وطنه وشرح ألفية ابن مالك والرحبية وأفتى على مذهب الشافعي وصام الدهر أزيد من خمسين عاماً وكان منزوياً عن الناس قليل الاجتماع بهم غير متصنع في هيئته ولا مباهيا بملبسه قليل الكلام مجذوباً وكان للناس فيه اعتقاد عظيم وكانت وفاته صبيحة نهار الأربعاء سابع عشري ذي الحجة سنة ست وعشرين وألف بدير صهيون وصلى عليه بالمسجد الأقصى بعد العصر ودفن في فسقية أبيه وحضر جنازته الخاص والعام وتبرك الناس بحمل جنازته وقد تجاوز الثمانين رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد المرداوي الحنبلي نزيل مصر وشيخ الحنابلة في عصره بها أخذ عن التقي الفتوحي وعن عبد الله الشنشوري الفرضي وعنه أخذ مرعي القدسي ومنصور البهوتيان وعثمان الفتوحي الحنبليون والشمس محمد الشوبري وأخوه الشهاب أحمد والشيخ سلطان المزاحي وكثير وكانت وفاته بمصر في سنة ست وعشرين وألف دفن بتربة المجاورين بالقرب من السراج الهندي رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن مصطفى بن خليل المولى كمال الدين بن عصام الدين المشتهر بطاشكبري زاده قاضي العساكر فرد الدهر المجمع على فضله وبراعته وكان في العلم طوداً شامخاً ير نظيره في طلاقة العبارة والتضلع من العربية قال النجم الغزي في ترجمته لم أرروميا أفصح منه باللسان العربي وكتب إليه شيخ الإسلام أسعد بن سعد الدين يمدحه بقوله:
العز مع المجد هما نحوك مالا ... يا مفخرنا كاسمك لا زلت كمالا
إن كان على حبك لي معذرة ... كم من ألف مال إلى اللام كمالا(2/339)
أخذ عن والده العالم المشهور صاحب الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية وعن شيخ الإسلام أبي السعود العمادي ودرس بمدارس قسطنطينية ثم صار قاضياً بحلب ونقل منها إلى دمشق فدخلها في أوائل المحرم سنة خمس بعد الألف وأقبل على أهلها وعاملهم بالإكرام التام حتى سحر عقول علمائها برعايته وإقباله ثم طلب منهم محضراً في الثناء عليه بعد شهر فكتبوا له محضر أثنوا عليه بما شاهدوه منه ثم لم تتم كتابة المحضر حتى انقلب عن أخلاقه وتظاهر بطمع لم ير نظير وأكثر من الرشوة واتفق أنه جاء في زمنه أمر العوارض بثلثمائة عثماني فنقذه وكان قبل ذلك لم تكلف الناس في العوارض مقدار ذلك فحضر إلى الجامع يوم الاثنين ثامن عشري شهر رمضان من سنة خمس صبيحة إلى الشيخ العارف أحمد بن سليمان الصوفي فلما فرغت الصبيحة دعا الشيخ محمد بن سعد الدين وأخاه الشيخ إبراهيم وأراهما الأمر فذكر له الشيخ محمد فقر الناس وعجزهم عنها فلم يقبل فضج الناس واجتمعوا عليه وأخذوا في شتمه وإظهار الشكاية منه ومن طلمه وتتابع الناس من أرجاء الجامع وأكثروا من سبه وأطلقوا الألسنة فيه وفي الشيخ محمد بن سعد الدين وأخيه ونسبوهما إلى التقصير في ذلك ثم خرج القاضي هارباً من باب العنبرانيين وتبعه أكثر الناس بعضهم يرجمه بلسانه وبعضهم بيده حتى أن بعضهم ضربه بيضة فانكسرت على ثوبه فالتجأ إلى بعض الدور حتى رجع الناس عنه وأما الشيخ محمد بن سعد الدين وأخوه فإنهما خرجا من باب جيرون وتبعهما جماعة يصيحون فردهم النقباء والفقراء عنهما وقالوا لهم الحقوا القاضي ثم لما أصبح القاضي أمر بكتابة عرض ومحضر في تخفيف العوارض وجمعها دنياراً واحداً وأظهر إرادة العدل وفيه عمل أبو المعالي درويش محمد الطالوي قصيدته السائرة يشير فيها إلى حادثته هذه ومطلعها:
إن الكمال على زيادة نقصه ... مولى يجود بنفسه للمجتدي
فإذا أنا كم فاسق فتبينوا ... من حاله والله يجزي المعتدي
يقعي جلوساً وسط مجلس حكمه ... كيما يسكن حكة في المقعد
وإذا مشى أدلى بواسيراً ستة ... من خلفه تحكي أفاعي مربد
مثل الرشاء طويلة أذنابها ... ما بين ذي ذنب أحد وأورد
تنساب فوق نقي يباح صريمه ... سيان فيه رائح أو مغتد
مكمدة ألوانها مسودة ... حمر الرؤس لها لسان مبرد
قد أتخنث فيه الجراح وجرحت ... منه الفقاح فسيرها بالمرود
تلتف في شعر تداخل بعضه ... في بعضه جعد أو غير مجعد
فكان عرفجة هناك تفرعت ... وأصولها ساخت بأرض قردد
تسقي بماء آمن فكأنها ... مطروقة عين ببرقة ثهمد
وعلى المحيا إذ يحيى مسحة ... من سام أبرص خاف لسع الأسود
فاصفر بل قالوا دنانير الرشا ... من أكلها صبغته لون العسجد
من أجل ذا حكوه وهو نبهرج ... يمحك أحجار كوقع مهند
بينا تدار عليه كاسات الرشا ... وقد انتشى منها براحات الدد
في مجلس حاشاه من قول العدا ... ما فيه غير مجسم أو ملحد
فاجاه عزل فاغتدى عن جلق ... عجلان ذازاد وغير مزود
من بعدما عرضت أمور أوجبت ... ما أوجبت وسل العوارض تشهد
إذراح يمشي الخير لي من عجبه ... للجامع الأموي مشى الخرد
والناس مستنئون يتبع بعضهم ... بعضا وقد قعد الحمام بمرصد
ما بين منتعل وحاف خلفه ... يعد وبمرو كالسهام محدد
حتى رمى في دار قوم نفسه ... وأقام فيها خائفاً لضحى الغد
للباب مستبقا وقد قميصه ... يا صاح من دبر فج بالمقصد
وهلاك رب العرش من ظلم الورى ... إن لم يفاج اليوم فاجا في غد
ها قد كشفت لكم حقيقة حاله ... يا قوم فاستموا مقالة مرشد
مذ ذاق طعم العزل راح بحسرة ... رطب العجان وكفه كالجلد
كالا قحوانة بعد فعلى ناجر ... جفت أعاليها وأسفلها ند(2/340)
لا زال حادي النجم يهوي خلفه ... وسقاه نوء الرجم موصول اليد
ما فرخت يوماً عوارض خانة ... وأهين قاض خان شرع محمد
ثم ورد عزله في أواسط ذي القعدة وأعطى قضاء حلب فسار إليها ثم ترقى بعدها في المناصب حتى ولي قضاء العسكرين وكان كثير الآثار وله نظم ونثر فمن نظمه ما كتبه لشيخ الإسلام محمد بن سعد الدين من أبيات.
عاصف الحادثات أفناني ... صرصر الدهر بد أفناني
كمدى آدنى وأعياني ... ارحموا سادتي وأعياني
قال البوريني في ترجمته وكان وهو قاضي بدمشق وجه إلى بقعة تدريس عن الشمس ابن المنقار ولما عزل عن دمشق وتوجه إلى حلب بلغني أنه أعطى يحيى بن الشمس المذكور عرضاً في البقعة المذكورة فكتب إليه كتاباً عتب عليه فيه بسبب ذلك وكان ما بلغني باطلاً كذباً فكتب إلى من إنشائه وذكر رسالة طويلة استحسنت منها هذا المحل فذكرته هنا وهو والعجب منكم إنكم صدقتم مثل هذا الخبر ادعيتم فيه التواتر كأنه حديث أو أثر وما تقرر عندكم ما شاهدتم من محبتنا الراسخة البنيان وقد قيل في الأمثال ليس الخبر كالعيان وكان الواجب أن لا تلتفتوا إلى مثل هذه الخرافات:
وشاهدي في إدعاء الحب خاطركم ... وهوالمزكي فقولي لا تردوه
كفي بقلبي ما يلقي ببعدكم ... لا تحرقوه بنار الهجر خلوه
وكتب أيضاً في غضون رسالته:
وما أنا في حفظ الوفا متصنعاً ... ولا أنا للزور القبيح منمق
وأنت فتدري ما اقتضته جبلتي ... فما أدعى إلا وأنت مصدق
ولكن دهراً قد بلينا بأهله ... أبا جوابه ثوب النفاق ونفقوا
فو الذي يعلم سري وعلني في جميع حالي لم يصدر عني ذلك الأمر ولا خطر ببالي وهل يليق بي أن أدنس العرض بمثل ذلك العرض وأحشر في زمرة الكاذبين يوم العرض:
وودّى أنت تعلمه يقينا ... صحيحاً لا يكدر بالجفاء
فلا تسمع لما نقل إلا عادي ... وما قد نمقوه من افتراء
وله غير ذلك مما يعذب وبالجملة فقد وصفناه من الكمال بما فيه مقنع ولم يكن فيه مما يشينه إلا الطمع وكانت وفاته في سنة ثلاثين وألف وقال الفاضل الأديب إبراهيم بن عبد الرحمن العمادي الدمشقي في تاريخ وفاته.
إلا إنما الدنيا غرور نعيمها ... ينغصه أكدارها وزوالها
قضى الله للمولى الكمال بأن قضى ... فأرخ ديار الروم مات كما لها(2/341)
محمد بن أحمد المنوفي المصري الشافعي نزيل مكة أحد الفضلاء الأعيان كان فاضلاً أديباً صاحب ثروة وكان له إيثار وبسطة يد ولم يزل يعاني التجارة ثم لحقه ضيق يد فسافر إلى الروم وصحب معه مفتاح الكعبة الشريفة قاصداً إعطاءه للسلطان مراد وورد دمشق وعقد حلقة تدريس في جامعها الأموي بعد صلاة صبح الحنفي من أول رجب وأقرأ صحيح مسلم فاجتمع عليه خلق كثير حتى رفع كرسي الوعظ أياما قليلة وضجت العالم من أحداث ما لم يكن ومما اتفق له إنه سئل هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم السحر ويعرفه على التعميم فأجاب عنه إنه كان يعلم كل شيء منه ومن غيره من غير شك فتقل جوابه إلى النجم الغزي فغضب غاية الغضب وكذبه وقال إنه افتراها وأخذ النجم يقيم عليه الحدود في درسه كل ليلة ويقول إنه أن أصر على ذلك كفر وتطلب من أقرانه عمل رسالة على وفق مراده فامتنعوا من ذلك وقالوا أنه أخطأ حيث قالها للعوام ومنهم من أحجم ولم يتكلم وقال قد وقع فيها خلاف وما رجحوا منها قولا ينقل وطال التنقيب على هذه المسئلة حتى ألف الشيخ أيوب الخلوتي المقدم ذكره في ذلك رسالة سماها السك الموفي على رقبة المنوفي وهي رسالة جامعة لكل منثور ومنظوم فكف بعد المنوفي عن الدرس وأقام إلى عيد الفطر ثم رحل إلى ناحية الروم والسلطان مراد في نواحي حلب قاصد المسير إلى روان فصحب العسكر إلى بغداد وأنحجت سفرته ونال أمانية ثم بعد فتح روان رجع إلى دمشق فابتلى بمرض الأمعاء وقاسي آلاما شديدة وكان سبب موته هذا خلاصة ما نقلته من ثبت الشيخ محمد بن علي المكتبي الدمشقي ورأيت للمترجم ترجمة في السلافة وصاحب السلافة سبطه قال في ترجمته هو جدي لامي ومن ملأت به من عريق النسب كمي أمام الأئمة الشافعية ورب الفطنة الألمعية ملك للعلوم زماماً وتقدم في مقام الفضل إماما فصلت إلا فاضل خلفه وظلت الفضائل حلفه لا يشق له غبار في مضمار سباق ولا يباريه مبار في اصطباح واغتباق ولا سوى الفضل والأدب صبوح وغبوق وهو السابق فيهما ومن عداه مسبوق وكان قد شد لرحلة الروم ركابه وإبله:
يريد بسطة كف يستعين بها ... على قضاء حقوق للعلي قبله
فأسفرت سفرته عن وجوه آماله وأهب عليه الإقبال نسائم قبوله وشماله فتلقاه ملكها بأهل ومرحب وأنزله من ألطافه وإسعافه أفسح منزل وأرحب ونفحه بنفحات عنايته المسكية حتى قلده أكثر المناصب المكية فلما عاد إلى وطنه بقضاء أمله ووطره نصبت له المنون أشراكها في طريقه وأغصته إذ ساغت له أمانيه بريقه ثم قال ولا يحضرني الآن من شعره غير ما رأيته منسوباً إليه بخط سيدي الوالد وهو:
عتبت على دهري بأفعاله التي ... أضاق بها صدري وأضنى بها جسمي
فقال ألم تعلم بأن حوادثي ... إذا أشكلت ردت لمن كان ذا علم
قال وهذان بيتان لا يشيد مقلهما إلا من شادر بوع الأدب وسارع لا قتناص شوارد القريض وانتدب وهما أنموذج براعته وبلاغته واقتداره على سبك إبريزا الكلام وصياغته وقد صدرتهما وعجزتهما فقلت:
عتبت على دهري بأفعاله التي ... براني بها برى السهام من المهم
ليصرف عني فادحات نوائبي ... أضاق بها صدري وأضنى بها جسمي
فقال ألم تعلم بأن حوادثي ... وأخطارها اللاتي تلم بذي فهم
يضيق بها ذو الجهل ذرعا وإنما ... إذا أشكلت ردت لمن كان ذا علم
وكانت وفاته في سنة أربع وأربعين وألف رحمه الله تعالى.(2/342)
محمد بن أحمد حكيم الملك بضم الميم وسكون اللام الفارسي أصلا ومحتداً والمكي منشأ ومولداً أديب الحجاز وشاعره وبليغه ذكره السيد معصوم فقال في وصفه فاضل تأزر بالفضل وارتدي وسلك سبيل المكرمات واهتدي سام في فنون العلم وصرح وأوضح متون الأدب وشرح وهو من بيت رياسة وجلاله وقوم لم يرثوا المجد عن كلا له وكان لسلفه عند ملوك الهند التيمورية محل تتضوع المراتب ريه وتستسقي المناصب ريه ولما وفد جده على السادة الأشراف الملوك من بني حسن قابلوه مقابلة الجفن للوسن فاكرموا نزله وقلدوا بأدي منتهم بزله وولد صاحب الترجمة بمكة فنشأ في حجر الفضل والمجد وانتشق عرف خزامي تهامة وشميم عرار نجد فجمع بين تليد المجد وطارفه ورفل في فضفاض الأدب في أبهى مطارفه ولم يزل متبعا تلك الدار محمود إلا يراد والأصدار مع تمسكه من سلطانها الشريف محسن بالعروة الوثقي التي لا تنفصم وحلوله لديه بالمكانة التي ماحلها ابن أبي دؤاد عند المعتصم حتى حصل عليه من الشريف أحمد بن عبد المطلب ما حصل لما انحل عقد ولاية الشريف محسن منها وانفصل فكان ممن نهب الشريف داره وماله وقطع من الأمان أمانيه وآماله فالتجأ مستأمنا إلى بعض الأشراف فأقنه على نفسه بعد مشاهدة الوقوف على الهلاك والإشراف ثم سار مختفياً إلى اليمن واستمر حتى قتل الشريف أحمد فلم ير من شريف مكة الشريف مسعود ما كان يؤمله قبل فتوجه إلى الهند في سنة تسع وثلاثين وألف فألقى بها عصاه إلى أن بلغ من العمر أقصاه ثم ذكر له قصيدته الدالية التي عارض بها قصيدة أحمد المرشدي المقدم ذكرها ومطلع قصيدته:
صوادح البان وهنا شجوها بادي ... فمن معين فتى في فت أكباد
صب إذا غنت الورقاء أرقه ... تذكيرها نغمات الشادن الشادي
فبات يرعف جفنيه تحسبه ... يرجرح المدمع الو كاف بالجادي
جافي المضاجع ألف السهد ساوره ... سم الأساود أو أنياب آساد
له إذا الليل واراه نشيج شج ... وجذوة في حشاه ذات إيقاد
سماره حين يضنبه توحشه ... فيستريب إلى تأسيس عواد
وجدوهم وأشجان ويرح جوى ... ولوعة تتلظى والأسى سادي
أضناه تفريق شمل ظل مجتمعا ... وضن بالعود دهر خطبه عادي
فالعمر ما بين ضن ينقضي وضنى ... والدهر ما بين أيعاد وأبعاد
لا وصل سلمى وذات الخال يرقبه ... ولا يؤمل من سعدي لا سعاد
أضنى فؤادي واستوهى قوى جلدى ... أقوا ملاعب بني الهضب والوادي
عفت محاسنها الأيام فاندرست ... واستبدات وحشة من أنسها البادي
وعطلتها الرزايا وهي حالية ... بساكنيها ورواد ووراد
وعاث صرف الليالي في معالمها ... فما يجيب الصدافيها سوى الصادي
دوارج المورمارت في معاهدها ... فغادرتها عفا الساحات والنادي
وناعب الموت نادي بالشتات بها ... فأهلها بين أغوار وأنجاد
وصوحت بالبلي أطلالها وخلت ... رحابها الفسيح من هيد ومن هاد
أضحت قفاراً نجر الرامسات بها ... ريحا جنوب وشمل ريحها الجادي
كأنها لم تكن يوماً لبيض مهي ... مراتعا قد خلت فيهنّ من هاد
ولم تحل مغانيها بغانية ... تغنى إذا ماردي من بدرها رادي
ولا عطا نبتها ريح ولا طلعت ... بهابد وردجى في برج مصطاد
ولا تثنت بها لمياء ساحبة ... ذيل النعيم دلالا بين انداد
فارقتها وكأني لم أظل بها ... في ظل عيش يجلي عذر حساد
أجنى قطوف فكاهات محاضرة ... طورا أناغي ربة الهادي
هيفاء يزري إذا ماست تمايلها ... بأملد من غصون البان مياد
بجانب الجيد يهوي القرط مرتعدا ... مهواه جد سحيق فوق أكتاد(2/343)
شفاها بين حق الدر قد خزنت ... ذخيرة الفحل ممزوجا بها الجادي
إذا نضت عن محياها النقاب صبا ... مستهتراً كل سجاد وعباد
وإن تجلت ففيما قد جلته دجى ... لنا به في الدآدي أيما هادي
وميض برق ثناياها إذا ابتسمت ... يعارض الدمع من مهجورها حادي
وناظران لها يرتد طرفهما ... مهما رنت عن قتيل ماله وادي
وصبح غرتها في ليل طرتها ... يوماي من وصلها أو هجرها العادي
تلك الربوع التي كانت ملاعبها ... أخنى عليها الذي أخنى على عاد
إلى ملاعب غزلان الصريم بها ... يحن قلب المعنى ما شدا ثماد
بعد الدهر رماني بالفراق بها ... ولا سقي كنفيه الرائح الغادي
عمري لئن عظمت تلك القوادح من ... خطوبه وتعدت حد تعدادي
لقد نسيت وأنستني بوائقه ... تلك التي دهدهت أصلاد أطواد
مصارع لنبي الزهرا وأحمد قد ... أذكرن فخا ومن أردى به الهادي
لفقدهم وعلى المطلول من دمهم ... تبكي السماء بمزن رائح غادي
وشق جيب الغمام البرق من حزن ... عليهم لا على أبناء عباد
كانوا كعقد بجيد الدهر قد قرظت ... من ذاك واسطة أودى بتبدادي
وهو المليك الذي للملك كان حمى ... مذ ماس من برده في خز أبراد
كانت لجيران بيت الله دولته ... مهاد أمن بسرح الخيف ذؤاد
وكان طود الدست الملك محتبيا ... ولا قناص المعالي أي نهاد
ثوى بصنعا فيا الله ما اشتملت ... عليه من مجده في ضيق ألحادي
فقد حويت به صنعاء من شرف ... كما حوت صعدة بالسيد الهادي
فحبذا أنت يا صنعاء من ببلد ... ولا تغشي زياد أو كف رعاد
مصابه كان رزأ لا يوازنه ... رزء ومفتاح أرزاء وأساد
وكان رأسا على الأشراف منذ هوى ... تتابعوا أثره عن شبه ميعاد
لهف المضاف إذا ما أزمة أويت ... من قطب نائبة للمتن هداد
لهف المضاف إذا ما أقلحت سنة ... يضن في محلها الطائي بالزاد
لهف المضاف إذا كر الجياد لدى ... حرا لجلاد أثار النقع بالوادي
لهف المضاف إذا ما يستباح حمي ... لفقد حام بورد الكر عواد
لهف المضاف إذا جلى به نزلت ... ولم يجد كاشفاً منها بمرصاد
لهف المضاف إذا نادى الصريخ ولم ... يجد له مصرخاً كالليث للصادي
لهف المضاف إذا الدهر العطوف سطا ... بضيم جاز لنزل العز معتاد
بل لهف كل ذوي الآمال قاطبة ... عليهم خير مر قاد لموتاد
كانت بهم تزدهي في السلم أندية ... وفي الوغى كل قداد وهناد
على الآرائك أقمار تضئ ومن ... تحت الترائك آساد لمساد
تشكو عداهم إذا شاكي السلاح بدا ... شك القناما ضفا من نسج أبراد
إلى النحو روما تحوي الصد وروما ... وارته في جنحها ظلمات أجساد
بادوا فباد من الدنيا بأجمعها ... من كان فكاك أصفاد بأصفاد
وقد ذوت زهرة الدنيا لفقدهم ... وألبست بعدهم أثواب أحداد
واجتث غرس الأماني من فجيعتهم ... وأنشد الدهر تقنيطا الرواد
يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخذ ... في جمع رحلك واجمع فضلة الزاد
يا قلب لا تبتئس من هول مصرعهم ... وعز نفسك في بوس وإنكاد
بمن غدا خلفا يا حبذا خلف ... في الملك عن خير آباء وأجداد
بحائز أرثهم حاو مغافرهم ... كما حوى الألف من آحاد أعداد(2/344)
وذاك زيد أدام الله دولته ... وزاده منه تأييد بإمداد
سمابه النسب الوضاح حيث غدا ... طريفه جامعا أشتات أتلاد
لقد حوى من رفيعات المكارم ما ... يكفي لمثخن أجداد وأحفاد
أليس قد نال ملكا في شبيبته ... ما ناله من سعي أعمار آباد
أليس في وهج الهيجا مواقفه ... مشكورة بين أعداء وأضداد
أليس أسج بالتنعيم سابحه ... لج المنايا ليحيا قبل أجثاد
أليس يثبت يوم الليث أن له ... وثبات ليث يرجى ذود نقاد
أليس يوم العطا تحكي أنامله ... خلجان بحر بفيض التبر مداد
أليس قد لاح في تأسيس دولته ... من جده المصطفى رمز بإرشاد
دامت معاليه والنعمى بذاك له ... مصونها وهو ملحوظ بأسعاد
ما لاح برق وما غنت على فنن ... صوادح البان وهنات شجوها بادي
قوله أليس قد لاح في تأسيس دولته يشير به إلى ما وقع للشريف زيد فإنه لما وردت الأوامر السلطانية بولايته الحرمين وكان إذ ذاك بالمدينة المنورة قصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فأراد الخدم أن يفتحوا له الباب فوجدوه مفتوحاً وكانوا قد أغلقوه من قبل فعلم الناس إنه إشارة إلى الفتح والظفر وكان الأمر كذلك وكتب إلى القاضي تاج الدين المالكي:
سقي الدمع مغنى الوابلية بالحمى ... سواجم تغني جانبيه عن الوبل
ولا برحت عيني تنوب عن الحيا ... بدمع على تلك المناهل منهل
وقال:
سقاها الحيا من أربع وطلول ... حكت دنفي من بعدهم ونجولي
وقال:
سقى صوب الحياد منا ... بجرعاء اللواد رسا
وزاد محلك المأنوس ... يا دار الهوى أنسا
لئن درست ربوعك ... فالهوى العذري ما درسا
وقال:
سقى بالصفا الربعي ربعابه الصبا ... وجادبأ جياد ثرى منه ثروتي
مخيم لذاتي وسوق مآربي ... وقبله آمالي وموطن صبوتي
إنما المحافظة على الرسوم والآداب والملاحظة للعوائد المألوفة في مفتاح الخطاب لمن يملك أمره إذا اعتراه ذكر زينب والرباب ولم ت خل عقال عقله يد النوى والاغتراب وليست لمن كما لاح بارق ببرقة ثهمد فكانه أخو جنة مما يقوم ويعقد تتقاذفه أمواج الأحزان وتسترامي به طوائح الهواجس إلى كل مكان فهو وإن كان فيما ترى العين قاطنا بحي من الأحياء.
يوما بحزوي ويوما بالعقيق ... والعذيب يوماً ويوماً بالخليصاء
لا يأتلي مقسم العزمات منفصم عري العزيمات لا يقر قراره ولا يرجى اصطباره إن روح القلب بذكر المنحنى أقام الحنين هنا يا ضلوعه أو استروح روح الفرج من ذكر الخيف يمنى أو مضت بوارق زفراته تحد وبعارض دموعه.
من تمنى مالا وحسن منال ... فناي مني أقصى مرادي
فياله من قلب لا يهدأ خفوقه ولا تني ولامعة بروقه ولا يبرح من شمول الأحزان صبوحة وغبوقه يساور هموماً فما مساورة ضئيلة من الرقش ويناجي أحزاناً لولا بس بعضها الضخر الأصم لا نهش ويركب من أخطار الوحشة أهوالا دونها ركوب النعش يحن إلى مواضع إيناسه ويرتاح إلى مراتع غزلان صريمه وكناسة ويندب أياماً يستثمر الطرب من أفنان أغراسه:
أيام لا الواشي بعد ضلالة ... ولهي عليه ولا العذول يؤنب
غيره:
أيام ليلى تريني الشمس طلعتها ... بعد الغروب بدت في أفق أزرار
غيره:
أيام شرخ شبابي روضة أنف ... ما ريسع منه بروع الشيب ريعاني
أيام غصني لدن من غضارته ... أصبو ألي غير جاراتي وخلاني
غيره:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
غيره:
ولم يبق مني الشوق إلا تفكري ... فلو شئت أن أبكي بكيت تفكراً
لم أكن على مفارقة الأحباب جلداً فأقول وهي جلدي وإنما وهي تجلدي مما حملت من النوائب على كندي وفتت صرف البين المشت من أفلاذ كبدي:(2/345)
جربت من صرف دهري كل نائبة ... أمر من فرقة الأحباب لم أجد
وغيره:
فراقا قضى أن لا تأسى بعد ما ... مضى منجداً صبري وأوغلت منها
وفجعة بين مثل صرعة مالك ... ويقبح بي أن لا أكون متمما
خليلي أن لم تسعداني وتناسيا ... ولم تذكرا كيف السبيل إليهما
وله غير ذلك وكانت وفاته بالهند في سنة خمسين وألف.
محمد بن أحمد المعروف بالحتاتي المصري الأديب الشاعر الكاتب المشهور كان من أعيان الفضلاء وبلغاء الشعراء وله شعر رقيق في نهاية الحسن والجودة وكان ظريف الطبع خليعا طروبا وله في الطب باع طويل أخذ عن علماء مصر ثم دخل الروم وأقام بها مدة طويلة وولى قضاء أسيوط والجيزة في نواحي مصر وذكره الخفاجي في الخبايا فقال في حقه أديب فاضل رقيق شمله الشمائل جم المناقب صنو دراري الكواكب أن كان الأدب روضا فهو نواره أو الفضل يدا وساعداً فهو سواره قطف ثمر المجد غض الجنا وكل من عجل الغراس أجتني وهو مع أن ربع الكرم هشيم الحطام مجدب روض ربيعه وسلسال معاليه مفدق مخصب وله في الطب يد كثيرة الأيادي وطبع مفيد العناصر والمبادي وبدائع مجربات شهدت لها الأسباب والعلامات وفكر ألمعي لم يلم به ألم عي وموثق خط يسند وحديث مجد إلى المعالي مسند وشعر رقيق ونثر هو المسك الفتيق وأدب يجل ولا يمل كتنفس الريحان أذا بكى الطل يتغنى به كل حاد وملاح ونثر يترقرق ترقرق الدموع في خدود الملاح وكان في صباه بمصر لا زالت العجب تحط بحماه أثقالها مجداً في كسب المحامد والمعالي لا ترد سؤالها ثم أتهم وأنجد وديباجة حاله بالرحيل تتجدد ولم يزل مغرباً ومشرقاً حتى اتخذ الروم لشمسه أفقا فنعمت فيها باجتناء فواكه محاوراته أزرف من زهر العلوم مونقه فطوقني قلادة من مدائحه وعقداً من مطارحاته أكد سوق الدر ما ينمقه ما بين جد أسكر ابنة الزرجون وهزل اغتبقت واصطحبت منه بسلافة المجون.
هو الضيف سمعي له منزل ... وقلبي فرش وحبي قرا
ثم أنشد له قوله من قصيدة طويلة:
أسترجع الله أحلاما مضين لنا ... في غفلة الدهر أو في يقظة العمر
حيث التصابي معقود اللواء على ... جيش من اللهو بين الأمن والظفر
أيام كانت شموس الصفو تلمع من ... أفق الأسارير والكاسات والثغر
والأنس تطفح عندي صفحتاه وإن ... طغى رقيبي رماه الكاس بالشرر
كأنني كنت في دار النعيم متى ... ما جال للنفس سؤل لاح للنظر
لا غول فيها ولا لغو ولا كدر ... سوى السلاف وصوت الناي والقصر
فكم ليال كست بدر الدجى شرفا ... تمنت الشمس فيه رتبة القدر
أهدى لنا ضوأه لحفا بطائنها ... ريح الصبا وافترشنا زهرة الزهر
وكم ركبنا بها دهما قلائدها ... شهب النجوم على الأحجال والغرر
نبيت فيها نشاوي خمرة وصبا ... غرقي الممرات في ورد وفي صدر
لا نعرف الحقد إلا للصياح وقد ... أضحت تنم علينا غفوة السحر
وكان يرقب ليلاتي ويسبقها ... على المجر وإن لم تمض لم يسر
تلك الليالي التي لو أنصفت وصلت ... بالروح بعد سو يدا القلب والبصر
مضت سراعاً بأحباب عرفت بهم ... حال المراد إذا حالت عن الصور
واسودّ وجه شبابي بعد نضرته ... بأبيض الشهب لا باللؤم والخور
أرى حداد الليالي بعد بينهم ... شبيبتي وحدادي أبيض والشعر
أبكى ويبكيهم دوماً إذا ذكروا ... بأعين النجم دمع الهاطل المطر
فلم تعض عنهم نجم ولا قمر ... ولا شموس ولا زاك من البشر
سوى الشهاب أبي العباس سيدنا ... المولى المفدى بأهل البدو والحضر
يحيا به دارس للعلم حين غدا ... مجدد الدين والآداب والفقر
لوعا صر الأربع الأوتاد نعقد ... الاجتماع منهم آرائه الغرر(2/346)
شقيق نممان لولا ورد بهجته ... ثاني الشقيق وحمر الخاطر العطر
يعطيك ماهية الأشيا ويسلبها ... سحر المجاز بمعنى فيه مبتكر
لم ألق في الملأ الأدنى وفي الملأ ... الأعلى شبيها له فاستجل واختبر
علامة الدهر في كل العلوم لدى ... كل العصور وليس الخبر كالخبر
عرفته سيدا مولى أصول به ... على الزمان وأغد وخير منتصر
أية نصحتك قلبي فهو عروتك الوثقي ... تمسك به في الخطب واقتصر
وناد نفسك إن جاشت لنائبة ... واستبدلت لعلاها اليأس بالوطر
لا يذهب الصبر ما لاقيت واعتمدي ... على معاليه بعد الله والقدر
واستقبلي المجد من علياه همته ... فإنها في مضاء الصارم الذكر
طلق الجبين به استغنى زمانك عن ... شمس الضحى وأبي إسحق والقمر
واستو كفى سبب كفيه يفيك بما ... منه البحور تمنت زينة المطر
ثم قال وكنت نظمت بالشام قصيدة طويلة طائبة أولها:
نثار نور دوح قد تمطى ... وألقى برده صبح تغطي
وقد عطس الصباح فشمتته ... حمائم قد كساها الخز مرطا
فلما وقف عليها أعجب بها وعارضها بقصيدة بديعة وأرسلها إلى وهي هذه:
كسا الروض من رياه ريح الصبا مرطا ... فأثقله واعتل فاعتمد الأبطا
أرى الدوح مفتون النسيم فراقص ... يصفق أن وافى ويطرق إن شطا
يمد له من حليه وثيابه ... وتيجانه من تحت أخمصه بسطا
وكم من أياد للنسيم على الربى ... فيرقدها شطا ويوقظها نشطا
يهذبها بالغيث تهذيب مصحف ... فيعر بها شكلا ويعجمها نقطا
لذاك نبات الروض شقت على الهوى ... جيوبا وحلت عقد أزراها شرطا
لتلثمه خدّا وترشفه فما ... وتنشقه ما المسك عن عرفه انحطا
ومن قبل شرط العقد بث أريجها ... وشرط الهوى أن الجزا يسبق الشرطا
كان الغصون العرس والريح بعلها ... إذا اعتلقا اهتزا وأوراقها تلطا
وإن أعرضت عنها ثناها بفرعها ... إليه وأدناها وأضجعها ضغطا
تجاذب ذات الطوق لكن تهزها ... وتسمعها هزا قلائدها لقطا
ومد صار خلخالا لها النهر لم ينم ... ومن شطه بالساق دار وماعظا
وهم زعموا أن لكواكب جديها ... يهيم ولم يرقد فما باله غطا
رعى الله لبلابات للنهر والهوى ... وللحب أرضا قد عشقت بها السخطا
أردت بلاشط أراه ومن بيت ... على النهر ممن يشتهيه يرى الشطا
غزال بفيه المسك والشهد والطلا ... فلو ذقتها استبشعت قولهم اسغنطا
رشا شعره لما بدا من خلاله ... وميض الطلا وأنساب كالحية الرقطا
طويل دجوجى لحظ عميدة ... وليلته إن غاب أو منع الوأطا
لحاجبه المجذوب راء ممانع ... ومقلته ترمى فتجذبنا قسطا
يلاط بمغناطيسها القلب والنهى الحديد ... فإن تفككه عنه به لطا
بثغر يعيد الليل صبحا كأنما ... حباه شهاب الدين من شعره سمطا
مليك العلي أن كنت تعرف ما العلي ... وإلا فجر الفضل أن كنت مشتطا
همام له سبق الأوائل آخرا ... ورحل العلي والعلم في بابه حطا
مجيد كان الفضل عكس أشعة اختياراته ... اللاتي غدت خلقا سبطا
فقس لديه بأقل وقدامة ... إذا ما رآه أمتاز من دره لقطا
كذلك كعب وامرء القيس لودرى ... طريقته المثلي لما ندب السقطا
لئن علقوا بالبيت شعراً فشعره ... تلقت إلا فلاك في بيته ربطا(2/347)
ولو كان عقد الدهر جيد شعرهم ... لكانت به أشعاره الدرة الوسطى
هي التاج والأكليل فيء مفرق العلي ... وفي أذن الأيام أعرفها قرطا
ومن لي بأن أحصى ثناه وقد غدا ... كمال الورى من عشر أوصافه قسطا
أمولاي أن الشعر عبد ملكته ... ففي مذهب الآداب تحرزه ضبطا
لمجدك حمد من معان وهبتها البلاغة ... لم ترض النجوم لها رهطا
يصيح على الكندي يالخفاجة ... ويسحب سحبان على وجهه مرطا
وعذرا وحيد النسج أن بمهجتي ... ضنى من أسى الأيام أحرقها خمطا
فؤاد كبيت العنكبوت مقلب ... على الجمر محزون بسيف القلاقطا
وبي من صروف الدهر ما الموت دونه ... وما الموت عن خطب ولوهان منحطا
زمان له حقد القدير فباطش ... بنا لا يرى شيخا ولا لحية شمطا
فما الرجل المكتوف ملقى بزاخر ... خضم ولما يقض مضطر باخبطا
بأنكس من حالي وقد ظل مطلبي ... رهين لئيم يملك المنع وإلا عطا
يدافعني عنه مدافعة النوى ... ولو أمكنته فرصة غالني سرطا
وما سابح في بحر بيداء موجها ... الهجير صدى لم يصادف بها وقطا
على فرق أن سار أوعاد أوثوى ... وحيداً بها والوحش في صحبه غطا
بأحيرمني بين قوم أبرهم ... تضيع حقوق الفضل من عده عمطا
عصابة سوء بين جهل مشيد المباني ... ولؤم حط قدر العلي حطا
وقد قرؤا أن لا تؤدوا مكان أن ... تؤدوا وقالوا أن لا حذفت خطا
فلو أنصفوا عبا ودع عنك عدلهم ... لما ضقت ذرعا إذ أتى جورهم فرطا
فإن خذلوا فالله بالنصر مدرك ... وقد تهب الأيام في قبضها بسطا
ولست بمن يبكي على حلم يرى ... ويمضي وقد أبقى له الوزر والوهطا
يموه وجه الذل بالعز خدعة ... ومن قبل ما أعطاه يأخذ ما أعطى
فمن عرف الدنيا اطمأن لنأيها ... وذو العقل لم ينكر دنوا ولا شحطا
وعفوا فدتك النفس يا خير سيد ... ويا عالما وإلى النبيسين والسبطا
فما نفثة المصدور مما تعافه ... الكرام ولو ألوت على وجهه أرطا
ودم باقيا للنظم والنثر والندى ... فلولاك للآداب غيثا قضت قحطا
تدور رحى إلا فلاك دهر إنما ترى ... وما تشتهي إن كان رفعا وإن حطا
وعمرت أعمار النسور على الرضا ... وبلغت حسن الختم ما قلم خطا
ولما أنفذها إلى كتبت إليه:
أيا بحر فضل من اللطف يصفو ... حلا بفم السمع لي منه رشف
لقد حكت شعراً رقيق المباني ... دقيق المعاني عليه يشف
عروس أحلت نكاح الشغار ... بغير مهور إلينا تزف
وقد رسب الدر من خجلة ... له إذ رأى فوقه الدر يطفو
بطبك يشفي مزاج الوداد ... بغير علاج وما فيه ضعف
وما اعتل ريح الصبا مذ غدا ... رسولي لكنه فيه لطف
لبحرك ورد حلا للنهي ... عليه القلوب طيور ترف
فيا خدن روحي ومن شكره ... يقصر عنه نعوت ووصف
لانت حياتي ولكنها ... تبدل منها على اليأس حرف
وقد جدت لي بنضار القريض ... وللفكر نقد وللدهر صرف
ترنم فيه هزار المعاني ... وأقفاصه في سطور تصف
وشعر بشعر ربا لم يجز ... ولكن مولاي للفضل يعفو
فقابل رياحينه بالقبول ... كما سنّ ما طاب للشكر عرف
فلا زلت روضا به أينعت ... ثمار الأماني ولي منه قطف
فأجاب:(2/348)
أعذب نمير من الودّ يصفو ... عليه منير من الدر يطفو
أشعر له نشوة الخمر منه ... لقلبي ولبي بأذني رشف
أم الروض وشته سحب وإلا ... على وجنة الورد للطل لطف
أصب صبا أم مشت جنة الخلد ... أم أعين العين حور ووطف
حسان سبت سحرها روتها ... لها كل قلب أسير والف
أنظم بدا أم عقود اللآل ... وصفو الليالي وهيهات تصغو
أفي قالب الشعر قد أفرغ الحسن ... أم صار روحها له الشعر طرف
أم السبعة الشهب أمست قريضا ... وإلا أتتنا من الشمس صحف
وإلا أتانا من العرش شعر ... وإلا اصطفانا من الوحي صنف
تحدي العقول بإعجاز شعر ... زها لم يعارضه شرع وعرف
أأنفاس عيسى وآيات موسى ... أم الطور والنور معنى وحرف
متين المعاني رصيف المباني ... عليه من المجد ثوب يشف
به الروح حي فأهدى حياتي ... ومنه حيائي علاه محف
ولا يدع أن تولني حسبوة ... يدمنه جازت فؤاداً يرف
مليك على الفخر ما من كمال ... لدى الناس إلا لعلياه وصف
بليغ بأشعاره تنطق البكم لكن ... لديه لها العرب غلف
فصيح تداوي بألفاظه الصم ... والميت يحييه من فيه هتف
فلو شاء بالشعراً بنات براها ... لها الشمس أيدبها البدر وقف
فكم من فحول أنابت لديها ... وكم من مليك لديها مسف
وأهل المعاني كأهل الغواني ... إذا مس قحط لعنين زفوا
أمولاي من للموالي عماد ... وللفخر والمجد نجد وكهف
رأينا بك الشعر فوق الثريا ... فلم يدننا منه وزن وزحف
وأرصدت منه عليها شهابا ... فلم يستقم للشياطين خطف
ولو أدركت عين فكري ثراه ... فهيهات منها وللدهر عنف
ولو ساجلتنا حروب لديه ... ولكن علينا إذا رق ضعف
ولولاك ما فهت بالشعر كلا ... ولا كان قلبي إلى النظم يهفو
ولكنني قد شممت انتصاراً ... بعلياك إني لعلياك حلف
يناجيك قلبي فتجلود جاه ... وللخطب بالبيض أن يدج كشف
ولاحت بفكري معانيك بيضا ... كما لاح للبرق في الليل سجف
أمولاي مالان للدهر عطف ... أما آن منه على المجد عطف
وقبل تمنى ذو والفضل منه ... جنوناً فقالوا عسى الدهر يصفو
أبي العدل وزنا وأولى صروفا ... ولي منه صدع ومنع وصرف
وذنبي لديه لسان قؤل ... وأما ضميري فو الله عف
وأشنا من الدهر أهلوه غدرا ... ندير هواه وفي الخبر حنف
فكم من مشير على الحب يعصي ... وكم من قبيح على الحسن يجفو
فمعنى كبير دنىء وكبر ... ففي الماء أست وفي الأوج أنف
ومعنى عليم طويس بغاء ... له إذ يرى الأير غشى ونزف
سقي الله عصراً تسنمت فيه ... نجوم الأماني بوط يخف
وليلا تمتعت فيه بصحب ... كصبح لها اللطف والمجد ظرف
وحور وعين ودهر معين ... بنجم وبدر وشمس تزف
زمان كما شئت طلق المحيا ... وريعان عمر على الصفو وقف
فعوّضت عن أنه وحشة ... فما تنتهي بجوي لا يكف
فرعيا وسقيا له من زمان ... تبكيه عيني دما لا يجف
فيا حسرتي هل لماضيه عود ... ويا لهف قلبي ولم يجد لهف
مضى فابق لي عنه دهر أوفيا ... ومولي صفيا يفديه ألف(2/349)
إماما على النثر والنظم برا ... وبحراً لنا من أياديه غرف
ودم تكس شعري بمدحك حليا ... وأن أجن ذنباً فلا زلت تعفو
ولا زلت تغدو بديع المعاني ... بياناً ويغدو لها منك لطف
وذكره البديعي في ذكرى حبيب وقال في وصفه كاتب كأنما اقتبس نفسه من مقل الغواني وشاعر كلماته أوقع في الأسماع من إيقاع المثالث والمثاني بألفاظ كأيام الشباب ومعان كمذاكرة الأحباب ولم يزل إلى أن أثخته سهام المنية قائلاً تحت ظلال الدوحة الأكشمية وقد ابتدع في هذا الباب من النوادر ما استوجب أن يكون له قول الشاعر.
وكنت فتى من جند إبليس فارتمت ... بي الحال حتى صار إبليس من جندي
ثم أنشد له من شعره الزاهي قوله من قصيدة:
إليك بعثت الروح ورقاء تصدح ... لتعرب متن الشوق عني وتشرح
رماني النوى والبعد عنكم بأسهم ... لها كل أعضائي قلوب تشرح
بعيني ظما للبارد العذب قربكم ... وإنسانها في مطلق الدمع يسج
فإن تك عن عيني القريحة نائيا ... فأنت بروض الفكر والقلب تمرح
سقي الله ودار بعه سفح مهجتي ... وعهداً على حقيه أمسى وأصبح
وحيا أد كاراً بالصديق وإن يكن ... بسيف تنائيه دم القلب يسفح
لئن صرف الأحباب وجه ودادهم ... فوجه ودادي عنهم ليس يبرح
وإن جنحوا للحرب عزاو جفوة ... فلست لغير الذل والسلم أجنح
وإن سمحو إلى باللقافبتر بهم ... لغير جفوني حرمة لست أمسح
وإن غضبوا صالحتهم وخضعت في ... رضاهم فإن الكبر بالحب يقدح
يذمونني والذنب هم ومحبتي ... على أنني لا أبرح الدهر أمدح
ففي القرب والأبعاد نشر تحية ... تحفهم من روض قلبي وتمنح
ومن جيد شعره قوله:
نظرت إليها ثم للشمس في الضحى ... ليظهر وجه الفرق في الوجه والفرق
فلاحت كما يبدو سواها لمن رأى ... سناها وهمت بالرجوع إلى الشرق
تأثر منها وجهها مثل ما بها ... تاثر وجه السافرين على الطرف
وقوله في الغزل:
أجل الله أعطاف الحبيب ... وأينع قامة الغصن الرطيب
وأنبت وردها غضا طريا ... وسيجه بريحان القلوب
ولا زالت شمائله نشاوي ... مرنحة كغصن في كثيب
وعطفها نسيم الشوق حتى ... تميل إلى معانقة الكئيب
روى أرضها سحا مطيراً ... بغيث من سما جفن نجيب
وقوله:
أراك طروباً عند وقع النوائب ... ضحوكا كوجه السيف في كف قاطب
لعوبا بعقل الصب توعده المنى ... بخوض المنايا في مبارى السباسب
فريداً وشمل المجد منك اجتماعه ... جليداً على فقد المنى والحبائب
مرود الجيش الخطب حربا لسلمه ... كأنك ضد الدهر حلف النوائب
ومما ادعاه لنفسه:
شوقي إليك وقد تناءت دارنا ... شوق الغريب إلى ملاعب تربه
أو شوق ظمآن ألم بمنهل ... منعته أطراف القنا عن شربه
وله في ضمن مكاتبة:
نعم أتتك فلا خضاب الموعد ... متنصل بندى اعتذار المجتدي
جاءتك تدرع السعود كأنها ... غصن من الياقوت تحت زبرجد
وله على لسان جامع مهجور:
واحسرتا والذل حين يمر بي ... ويقال هذا جامع مهجور
لو كنت في أيدي النصارى بيعة ... لبكى على القس والسابور
وله في الاقتباس:
أقول لذات حسن قد توارت ... مخافة كاشح في الحي كامن
أريني وجهك الوضاح قالت ... ألم تؤمن فقلت بلى ولكن
وله معمى في اسم موسى:
أقول لمالحي عذولي ... ولوم من هام ليس يجدي
بالثغر والصدغ والثنايا ... وما بلحظ الحبيب وجدي(2/350)
وله الأبيات المشهورة التي قالها في مرجة دمشق في قدمته إليه مدرسا بالشامية البرانية في سنة اثنتين وعشرين وألف والأبيات هي هذه:
بصبا المرجة المبلل ذيله ... علل القلب عل ببردويله
وادّكريو منا بيومي حبيب ... سلفا والسلاف تركض خيله
ونديم رقت حواشيه لطفا ... وبحكم الهوى تحجب نيله
جئت من تحت ذيله مستجيراً ... والتجني على يسحب ذيله
وله غير ذلك مما يروق ويشوق وكانت وفاته بالجيزة وهو قاض بها في سنة إحدى وخمسين وألف.
محمد بن أحمد بن سلامة الأحمدي الشافعي البصير الشهير بسيبويه كان عالماً نحريراً محققاً عارفاً بجميع العلوم النقلية والعقلية متقنا لها ولكنه اشتهر بالعربية لغلبتها عليه وكثرة اقرائه لها وكان مرجعاً لحل المشكلات العلمية وإذا قرر المسائل تظهر للطلبة بأدنى إشارة وتنطبع في قلوبهم وذلك لأنه جمع الله تعالى له بين العلم والولاية وكل من قرأ عليه نفعه الله تعالى وكل من خدمة خدمة ما أسعده الله تعالى دنيا ودنيا وما بشر أحداً بشيء إلا ناله البتة وكان عز بإلا يخرج من جامع الأزهر إلا إذا تعطلت فسقية الجامع فيخرج لا قرب مكان لقضاء الحاجة وكان ملبسة في الصيف والشتاء جبة حمراء وكان من الزهد في الدنيا بحيث لا يأخذ من أحد شيئاً إلا بقدر الضرورة ويأكل من مرتب الجامع ظهراً وعصراً وكان يعتر به في بعض أوقاته سكوت فلا يقدر أحد أن يبتدئه بكلام حتى يكون هو البادي وكل من بدأه بكلام متعمداً حصلت له متعبة دنيوية بالتجربة وعرف ذلك عند غالب الناس وكان الغالب عليه الجمال لا يرى متكدرا بل منشرح الصدر متبلجا مداعباً ولا تذكر الدنيا عنده بحال لا يعرفها ولا يعرف أحوال أهلها والغالب عليه سلامة الصدر فلا يظن بالناس إلا خيراً وإذا قرأ عليه أحد ولو درسا وأحداً يسأله عن اسمه واسم أبيه ولا يزال يذكره ويسأل عنه وإذا غاب عنه ستين وجاء إليه يعرفه بمجرد تكلمه معه ولا يغيب عنه ذهنه وكان إذا فرغ من الدرس يشتغل بتلاوة القرآن ولم يتخلف في سائر الأوقات عن صلاة الجماعة في الصف الأول بالأزهر ويقوم فيه من النصف الآخر ولا يزال يتهجد حتى يصلى الصبح مع الجماعة وبعدها يقرأ الناس عليه في القرآن إلى طلوع الشمس فيذهب حينئذ إلى فسقية الجامع ويتوضأ ويجلس للتدريس إلى قبيل الظهر هذا دأبه طول عمره إلى أن نقله الله إلى دار كرامته قرأ في بدايته على شيوخ كثيرين منهم العلامة الشهاب أحمد بن قاسم العبادي وأبو بكر الشنواني وعنه أخذ أكابر الشيوخ كالشمس البابلي والنور الشبراملسي ويس بن زين الحمصي وشاهين إلا رمناوي ويحيى الشهاوي ومحمد المنزلاوي ومنصور الطوخي ومحمد بن عتيق الحمصي وغيرهم ولم يمت أحد أخذ عنه إلا بخير وكر أمانة كثيرة شهيرة وكانت وفاته في نيف وخمسين وألف ولم يخلف درهما ولا ديناراً إلا ثيابه التي عليه ودفن بتربة المجاورين ولما مات سمع الناس قائلاً الناس بعد محمد أنا لله وأنا إليه راجعون فضج الناس وصاحوا وبكوا ذكره البابلي فقال ما رأينا في شيوخنا أثبت قدما في الزهد منه وجميع ما نحن فيه من بركته وقال بعض الشيوخ إنه أمه قد خلت رحمه الله تعالى ورضى عنه.(2/351)
السيد محمد بن أحمد بن عز الدين بن الحسين بن عز الدين بن الإمام الحسن بن الإمام عز الدين قال ابن أبي الرجال هو المعروف في ألسن العامة بابن الغزلان أمه ماتت وهو يرضع فعطف الله تعالى عليه عنزاً كانت عند حاجته تنفرد عن الغنم من المرعي وتجري حتى تدخل عليه ثم تنفجح له حتى يمكنه الارتضاع كان من عباد الله الصالحين وأهل التقوى والعقد على طريقة أهل الطريقة كثيراً لصمت قليل الضحك لم تسمع له قهقهة وكان في أيام شبيبته يعتزل النساء ويمضي في الشعاب والجبال متخلياً متعبداً ثم يعود إلى مسكنه بربيع وكان له أصحاب صالحون يتبركون بخدمته ولقائه ويصغون عنه تمسكنا في علم الأسماء وأنه كان يأتي من المسجد فيغلق مكانه على سبيل الممازحة سويعة ثم يفتحه وهو مبتسم ولا يعرف الفاتح ولا المغلق ولا يرى ويروي عنه أنه تمكن من الصنعة وأنه استأجر حاجا لأبيه وأعطاه أجرة من الفضة الخالصة المعدنية وكانت له فكرة عجيبة في كل شيء وعمل ناظوراً يدرك به البعيد فأبصر به من صعدة إلى ربيع أو من ربيع إلى صعدة والحكم واحد مولده ببيت الوادي ربيع من أعمال صعدة في ثاني ذي القعدة سنة ألف من الهجرة وشرح قصيدة الإمام الهادي عز الدين بن الحسن الرائية وفيها معرفة المواقيت تكلم على مواد نافعة من علم الفلك وما يحققونه من الكسوف غير متعرض للإحكام صانه الله عنها وأعمال الربع المجيب وكانت وفاته بهجرة فلله مستقر سلفه في رابع عشري ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وألف ودفن في قبة جده الأمام عز الدين بن الحسن إلى جنب السيد الحسن بن يحيى بن الإمام الحسن إلى جهة اليمين رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن قاسم الشهير القاسمي الحلبي الفاضل الأديب المشهور نادرة الزمان وفريد العصر كان غزير الفضل لطيف الطبع فاق على أهل عصره بصنعة النظم والنثر ذكره الخفاجي في الريحانة والخبايا وأثنى عليه كثيراً وذكر ما جرى بينه وبينه من المراسلة وقال البديعي في وصفه معدن الملح والطرف وينبوع النكت والتحف وجاحظ زمانه وحافظ أوانه ولا يخفي طول باعه في فنون الأدب وأنواعه فأسرار البلاغة لا تؤخذ إلا منه ودلائل الأعجاز لا تروي إلا عنه مه دماثة أخلاق تعيد ذاهب الصبا ورقة دعابة كأنما انتسخها من صحيفة الصبا ومنطق يسوع في الإسماع سلافة يلفظ كأنه اللؤلؤ والآذان أصدافه وقال الفيومي في ترجمته كانت ولادته بحلب ثم قدم الورم وصار بها من كبار المدرسين ثم كف بصره فتقاعد برزق عين له من قبل السلطان فانزوى في بيته وهرعت إليه إلا فاضل من كل جانب فاشتهر فضله وانتشر علمه فاستمر يقرئ أنواع العلوم من كل منطوق ومفهوم ومباد ومقاصد لكل طالب وقاصد فانتفع به كثير من الطلبة قال ولما قدمت الروم وفدت عليه فرأيت الفضائل انقادت إليه فحضرته مجالس في المطول وسيرة ابن هشام فرأيت منه رتبة لا تنال بالاهتمام ومات وأنا بالروم ودفن بدار الخلافة وكانت له رتبة في الأدب هي من أعلى الرتب وشعره غاية في بابه له فيه التشبيهات العجيبة والمضامين الغريبة ما يكتب بماء الوجه على الحدق لا بالحبر على الورق كقوله من قصيدة:
قد دعاه الهوى وداعى التصابي ... لادّكار إلا وطان والأحباب
فأتت دون صبره من أليم الوجد ... نار شديدة الالتهاب
فأتت غصنه الرطيب وجفت ... من رياض الصبا مياه الشباب
شعر المرء نسخة العمر والأيام ... فيها من أصدق الكتاب
فإذا تم منه ما كتبته ... تربته من شيبه بتراب
هذا معنى بديع ذكر أنه لم يسبق إليه قال الشهاب وقد اتفق لي مثله في قولي:
لعمري لقد خط المشيب بمفرقي ... رسائل تدعو كل حي إلى البلي
أرى نسخة للعمر سوّدها الصبا ... وما بيضت بالشيب إلا لتنقلا
رجع لست أسى على الصبا إنما ... أذكر حقا لا قدم الأصحاب
قد سقتني عهوده العيش صفوا ... وكستنيه مونق الجلباب
ومنها في المديح:
بحر فضل لو قيس بالبحر كان ... البحر في جنبه كلمع سراب
وإذا قيل خلقه الروض أضحى ... الروض طلقاً بذلك الانتساب(2/352)
مزج الفضل بالغمام كما مازج ... ماء الغمام صفو الشراب
ما عسى أن أعد من مكرمات ... ضبطها قد أتى على الحساب
وإذا ما الأفكار أمعن فيها ... غرقت من بحورها في عباب
أنت من ناظر الزمان سواد العين ... والناس منه بالأهداب
وقوله:
قال لي العاذلون لم ملت عمن ... بمحياه يخجل إلا نواراً
قلت كان الفؤاد عشا له إذ ... كان فرخاً وحين ريش طاراً
قال الشهاب أنشدني له في مليح مصفر العذار كأنما قيدت الأبصار منه بسلاسل النضار كأنما ملك من الحسن كما له فمدمن الذهب لشكاة الغرام سلسلة العدالة
لما التحي تمت محاسن ... وجهه وصفت طباعه
وغدا بلطف عذاره ... قمراً أحاط به شعاعه
قال الفيومي قلت في إثباته الشعاع للقمر نقد فإنه مضاف للشمس كما أن المضاف للقمر النور وأيضاً فإن الشعاع والنور إنما يحسن استعمالهما في صفة الشيب لا في صفة العذار وفي قوله تعالى واشتعل الرأس شيباً تأكيد لهذا المعنى وله:
كان صدغيه في إحمرارهما ... قد صبغا من مدام وجنته
وله:
ما أحمر وجه حبيبي إن وجنته ... سقته من صبغها خمر ولا خجلا
وإنما لفحت خديه من كبدي ... نار فدبت إلى صدغيه فاشتعلا
وله:
صب على الشنب المعسول ذاب أسى ... وبات من حرنار الشوق في شغل
كالشمع يبكي ولا يدري أعبرته ... من صحبة النار أم من فرقة العسل
هذا البيت الأخير لأبي إسحاق الغزي وقبله:
إني لا شكو خطو بالا أعينها ... ليبرأ الناس من لومي ومن عذلي
كالشمع إلى آخر البيت قال العماد الكاتب في الجريدة عند ذكره رواه بعضهم من حرقة النار أو من فرقة العسل محافظة على التجنيس اللفظي وأنا أرويه من صحبة النار للتطبيق المعنوي وللقاسمي:
قد كنت أبكي على من مات من سلفي ... وأهل ودي جميعاً غير أشتات
واليوم اذفرقت بيني وبينهم ... توق بكيت على أهل المودّات
فما حياة امرئ أضحت مدامعه ... مقسومة بين أحياء وأموات
وله من الرباعيات:
يا ربع سقاك كل مزن غادي ... قد كنت محل أنسنا المعتاد
هل يلحظني الزمان بإلا سعاد ... يوما فتعود فيك لي أعيادي
وله من قصيدة في تهنئة بختان:
أعلامة الوقت مولى الموالي ... وقرة عين العلي والكمال
تبوأ من المجد أعلى مقام ... وضع نعل مسعاك فوق الهلال
فقد أيقن المجد أن المجئ ... بمثلك للدهر عين المحال
فبشرى لكم بالختان الذي ... به لبس الدهر ثوب الجمال
هو الشمع أن قط لا غرو أن ... أنارت به حالكات الليالي
هذا من قول ابن فضل الله في ختان الملك الناصر:
لم يروّع له الختان جنانا ... قد أصاب الحديد منه حديداً
مثل ما تنقص المصابيح بالقط ... فتزداد بالضياء وقوداً
رجع:
وظفر بتقليمه لا تزال ... أكف المكارم منه حوالي
وتشمير ذيل لدى الاستباق ... لنيل الأماني وكسب المعالي
وما للسيراع إذا لم يقسط ... فضل يعدّ على كل حال
ومن بعد برى الغصون ازدهت ... عليها الأسنة سمر العوالي
فلا برحت من مزايا كم ... يجيد الزمان عقود اللآلي
قوله وظفر إلى آخره أصله قول الغزي:
نمالك ودّي حين قلت رأسه ... قياسا على الأقلام والشمع والظفر
ومثل ما لليراع قول الصنوبري:
أرى طهراً سيثمر بعد عرسا ... كما قد تثمر الطرب المدامه
وما قلم بمغن عنك إلا ... إذا ما ألقيت عنه القلامه(2/353)
وللقاضي الفاضل الحمد الله الذي أطلعه ثنيات الكمال وبلغه غاية الجمال ويسره لدرجات الجلال ونقله تنقل الهلال وشذب منه تشذيب الأغصان وهذبه تهذيب الشجعان وأجرى فيه سنة سن لها الحديد فنقصه للزيادة واستخلصه للسيادة ودربه للاصطبار وأدبه للانتصار وألقى عنه فضلة في إطراحها الفضيلة وقطع عنه علقة حق مثلها أن لا تكون بمثله موصوله فلم يزل التقليم منوها بالأغصان ومنها للثمر الوسنان ومبشراً بالنما وميسراً لنشور إلا نتشا ولاين مطروح:
لقد سرت البشائر والتهاني ... إلى الثقلين من أنس وجان
ويصغر كل مبتهج إذا ما ... نسبناه إلى هذا الختان
تود الزهرة الزهراء فيها ... لو اتخذت لها إحدى القبان
وإن البدر طار في يديها ... وإن مراسليها الفرقدان
وتستملى من الأفلاك لحنا ... فما قدر المثالث والمثاني
وتسقي بالثريا فيه كاسا ... ولا أرضى لها بنت الدنان
ولكن من رحيق سلسبيل ... بأيدي عبقريات حسان
ويصغر خادماً بهرام فيه ... على ما فيه من بأس الجنان
فلولا أنه فرض علينا ... لما مدت لخاتنه يدان
وقط الشمع يكسبه ضياء ... وقط الظفر أزين للبنان
ولأبي القاسم الزمخشري من قصيدة يهني بها بعض الرؤساء بختان بنيه
في عصرنا لبنيك فضل باهر ... ما نال أيسره بنو أيامه
طهرتهم فرعا كما طهرتهم ... أصلا فخاز وأطهرهم بتمامه
وأخو الكتابة لا يجود خطه ... حتى ينال القط من أقلامه
والكرام ليس يبين حسن نموه ... إلا على التنقج من كرامه
والورد ليس يفوح طيب ريحه ... إلا إذا انفصمت عرى أكمامه
وكتابك المختوم ليس بواضح ... معناه إلا بعد فض ختامه
وأخو اللطام عن الذراع مشمر ... فالكم يشغله أوان لطامه
وابن الوغى ما لم يسل حسامه ... عن غمده لم ينتفع بحسامه
وللقاسمي:
ويلي من المعرض لا قسوة ... لكن لا قوال العدا والوشاة
ما لاح للعين سنا وجهه ... إلا وفيها من رقيب قذاة
وفي معناه قول بعضهم:
لم ترد ماء وجهه العين إلا ... شرقت قبل ريها برقيب
وله من رسالة:
ما كنت أحب أن يكون ... كذا تفرقنا سريعا
قد كنت أنتظر الوضال ... فصرت أنتظر الرجوعا
قرة عيني ما أسرع ما طلع نجم التفرق في البين وهجمت على ائتلافنا قواطع البين هلا امتدّ زمان الاقتراب حتى تتأكد الأسباب وتأخرت أيام الفراق حتى يتم ميقات الاتفاق واها لأيام قرب ما وفت بما في الضمير ولا ساعدت على بقائها المقادير وإلى الله أشكو في الصدر حاجة تمر بها الأوقات وهي كما هيا وأقسم بالله العظيم أنهم عند ما قالوا الرحيل فما شككت بأنهار وحي عن الدنيا تريد رحيلا فياليت شعري هل تحس بفقدي أتذكرني من بعدي أن فعلت فما أحقك بالإحسان وإن نسيت فمن شيم الإنسان النسيان وأما أنا فاني:
أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل سواكا
ولو أني استطعت خفضت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا
وله:
ورد الكتاب مبشراً بقدوم من ... ملأ النفوس مسرة بقدومه
فطربت بالإسماع من منثوره ... وثملت بالجريال من منظومه
وسجدت شكراً عند مورده على ... أسعاد هذا العبد من مخدومه
وله من فصل من التحية عندي ما يستعير الروض من رياه ويستنير الصبح من محياه ومن الود مالا ينقضي يومه ولا غده ومن الشوق ما أحر نار الجحيم أبرده وأناله ببلوغ إلا وطار وعلوا لمنار ما يكون حقق الله تعالى فيه كمال ما أرتجيه وسرني سريعاً بتلاقيه ومن شعره قوله:
ودعتكم ورجعت عنكم والنوى ... سلبت جميع تصبري وقراري
والجفن يقذف بالدموع ولم أكن ... لولاه أنجو من لهيب النار
وقوله:
نبت عنهم حد الضباب كأنها ... لكثرة ما هانت عليهم صوالج(2/354)
وحلوا بها أعداءهم فكأنها ... قلائد في أعناقهم ودمالج
ومن جيد شعره قوله من قصيدة:
من شفيعي إلى الثنايا العذاب ... من عذيري من الغصون الرطاب
من مجبري مما أقاسي من الأيام ... من فرط لوعة واكتئاب
من نصيري على الليالي التي ما ... زال منها ما بين ظفر وناب
أترجى منها الخلاص فألقى ... من أذاها ما لم يكن في حسابي
صار منها قلبي كقرطاس رام ... مزقته مواقع النشاب
أهو البين أشتكيه وقد عاندني ... في الديار والأحباب
وكساني المشيب من قبل أن ... أعرف مقدار حق الشباب
أم هو الخطب خط ما جئت ... الأيام من طول محنتي واغترابي
ومقامي على الهوان بأرض ... أنا فيها مقوض الأطناب
أصطلي جمرة الهجير فان رمت ... شرابا لم ألق غير سراب
ليس لي من إذا عرضت عليه ... شرح حالي يرق يوما لما بي
بختني الأيام حقي ظلما ... ورمتني بالحادث المنتاب
وأضاعت بين الصدور بطرق ... الفضل سعي وجيئتي وذهابي
ليت شعري ما كان ذنبي إلى ... الأيام حتى قد بالغت في عقابي
وجفتني حتى لقد صرت من ... كل مرام مقطع الأسباب
وقوله من أخرى أحسن في غزلها كل الإحسان:
مهلا أبثك بعض ما أنا واجد ... دمع مقر بالذي أنا جاحد
قد كان يخفي ما تكن ضمائري ... لولا الشؤن على الشجون شواهد
ولطالما خفيت سطور الوجد من ... حالي فضل بها وغاب الناقد
ليت الذي لم يبق لي من مسعد ... فيما ألاقي من هواه مساعد
لو لم يحل بيني وبين تصبري ... مايان ما أشقي به وأكابد
حال كما شاهدت عقل وإله ... وجوانح حراً ووجد زائد
لله ما أشقي أخاحب له ... مع وجده اليقظان حظ راقد
يورى زناد الشوق ذكراه لهم ... فتشب من بين الضلوع مواقد
وآثاره كثيرة ولولا خوف إلا طالة لا السآمة لا وردت له جل شعره فإن مثل هذا الشعر لا يهمل ذكره ومن وقف عليه عرف كيف يكون الشعر وكانت وفاته بدار الخلافة في سنة اربع أو خمس وخمسين وألف وقد تقدم ذكر ابنه عبد الله.
محمد بن أحمد بن عيسى بن جميل المعروف بالكلبي المصري شيخ المحيا بجامع الأزهر الإمام المفيد الحجة الورع الزاهد المشهور أخذ العلم عن أبيه وغيره من مشايخ القاهرة وأجازوه وبرع وفاق وجلس في مجلس المحيا بعد والده وهو بعد الشيخ الصالح محمد البلقيني وهو بعد والده العالم الرباني والعارف الصمداني صالح وهو بعد والده شيخ الإسلام شهاب الدين البلقيني وهو بعد الشيخ بركة الوجود نور الدين الشوني عن إذن من النبي صلى الله عليه وسلم وكان محمد صاحب الترجمة حسن الأخلاق كريماً سخياً كثير الإحسان لا سيما للفقراء لا يفقر عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذكياً محصلاً للعبادة كثير النوافل والطاعة مواظبا على الجمعة والجماعة وكان ناظراً على وقف الإمامين بالقرافة وسار في ذلك أحسن سير مع الإحسان لخدمة المكانين وكانت وفاته نهار الثلاثاء سابع ذي الحجة سنة سبع وخمسين وألف وصلى عليه بالأزهر ودفن بالقرافة الكبرى والكلبي نسبة إلى دحية الكلبي الصحابي رضى الله عنه لأنه من ذريته ودحية بكسر الدال ويجوز فتحها كما نقل عن الأصمعي والمشهور الأول وهو دحية بن خليفة كان من أجمل الناس صورة ولذا كان جبريل عليه السلام يتمثل في صورته أحياناً إذا جاء للنبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أصحاب السنن ومعنى دحية رئيس الجند كما قاله أئمة اللغة.(2/355)
محمد بن أحمد الأسدي العريشي اليمني المكي شيخ العلوم والمعارف ومالك زمامها من تليد وطارف أربى على العمر الطبيعي وهو ممتع بحواسه من بيت علم وصلاح مقيمين على تقوى وفلاح راض بالكفاف من الرزق الحلال إلا رغد ناصب النساخة حبلا لصيد معيشته كما عليه السلف الطاهر إلا مجد اشتغل بالفسقه وبرع وأعرب في النحو قبل أن يترعرع وأخذ من العلوم بتصيب وافر ولازم العلماء الأئمة الأكابر كالسيد عمر البصري والشيخ خالد المالكي وعبد الملك العصامي وعنه ولده العلامة أحمد والقاضي على العصامي وعبد الله العباسي وغيرهم وألف غيرهم وألف مؤلفات عديدة مفيدة منها شرح الكافي في علمي العروض والقوافي في نحو عشرة كراريس ومنها اختصار المنهاج للنووي ومنها شرح على الأجرومية مختصر وكانت وفاته بمكة في سنة ستين وألف ودفن بالشبيكة.
محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد بن إسمعيل بن شعبان الرئيس الكبير المعروف بابن الغصين الغزي كان رئيساً جليل القدر واسع الكرم لم يصل إلى غزة أحد من الواردين عليها إلا وبادر إلى زيادته وحمل إليه ما يليق بحاله وتقرب إلى قلبه بكل طريق وبالخصوص أهل العلم والأدب وهو الذي قال فيه حافظ المغرب أبو العباس احمد المقري بيتيه المشهورين وكان مر على غزة عند رحلته إلى الشام فبذل في إكرامه جهده فقال فيه:
يا سائلي عن غزة ... ومن بها من الأنام
أجبتهم مرتجلا ... ابن الغصين والسلام
وحكي لي صاحبنا الأديب إبراهيم بن سليمان الجنيني نزيل دمشق أن شيخ الإسلام خير الدين الرملي كان توجه إلى غزة في بعض السنين لا مر اقتضي قال وكنت معه فنزل عند الرئيس محمد بن الغصين المذكور فرأى بيتي المقرى مكتو بين على جدار المكان المعد للاضياف فكتب تحتهما ارتجالا:
دار الغصين محط كل مسافر ... وتكية لابن السبيل العابر
وبها المكارم والمقاخر والتقي ... يا رب فاعمرها ليوم الآخر
وعلى الجملة فإن محمداً صاحب الترجمة كان من أفراد الكرام والرؤساء وله مناقب في الكرم لا تعدو مزايا لا توصف وكانت وفاته ليلة الأحد عشري المحرم سنة اثنتين وستين وألف ودفن بغزة ولم يخلف مثله في الكرم والنباهة رحمه الله تعالى.
السيد محمد بن أحمد بن الإمام الحسن بن داود بن الحسن ابن الإمام الناصر بن الإمام عز الدين بن الحسن بن علي بن المؤيد بن جبريل بن محمد بن علي بن الإمام الداعي يحيى بن المحسن بن يحيى بن يحيى بن الناصر بن الحسن بن الأمير العالم المعتضد بالله عبد الله بن الإمام المنتصر لدين الله محمد بن الإمام المختار لدين الله القسم ابن الإمام الناصر لدين الله أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القسم السيد الباسل الشجاع الحليم عين الزمان وبهجة المحافل صاحب الآراء الثاقبة والمحامد الواسعة نشأ على العلم والصلاح بعد موت أبيه وصبر على مشاق الوقت وقاسي في عنفوان شبابه أموراً صبر لها حتى أفضت به إلى محل من الخير لا يدرك وقرأ بصنعاء وصعدة وكان كثير المذكراة وحضرته معمورة بالفضلاء ومع ذلك فهو يقود المقانب ويشارك في المهمات كأحد أولاد القسم بن محمد وكان لا يعد نفسه إلا منهم ولا يعدونه هم إلا من أجلائهم ولم يزل مع السيد الحسن بن الإمام حال خلائق معه وعلاصيته في العلم والجاه والرياسة ثم كان أحد أعيان دولة الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن الإمام القسم وكان بينهما ودأكيد وتولى في أيامه مع العدين حيس من تهامة وبندر المخا وحينئذ ألقت إليه الدنيا أفلاذ كبدها وعاش حميداً ولم يشتغل بتكلفة وشرح كافية ابن الحاجب وشرح الهداية في الفقه وكان يحب الأدب وأهله وله نظم رائق منه قوله:
طرب يهيج اليعملات سباني ... وجوي بأطباق الفؤاد ذواني
وتعللي بخلت له ريق الصبا ... وتصبري كرمت به أجفاني
أن الحبيب وقد تناءت داره ... أغرى فؤاد الصب بالأحزان
لو زار في طيف الكرى متفضلا ... بجماله وحديثة لشفاني
أو لو تفضل بالوصال تكرما ... أصبحت من قتلاه بالإحسان
يا عاذلي عني فلست بمرعو ... عذل العدى ضرب من الهذيان(2/356)
لولا طلوع الشمس في كبد السما ... خلناه أشرف من علا كيوان
فكأنه السفاح منصور اللوا ... جاءت صوارمه على مروان
وكأنه الهادي بنور جبينه ... وكأنني المهدي في أذعان
وكان نور جبينه من يوسف ... فأنا الرشيد به إلى الإيمان
يا أيها المأمون عند إلهه ... والمتبع الإحسان بالإحسان
والحاشر والماحي المؤمل للورى ... تحت اللوا ذخرا إلى الرحمن
المصطفى الهادي النبي أجل من ... وطئ الثري وحباه بالقرآن
الجار والرحم الذي أوصى به ... رب السما ودعاك بالإعلان
فالله في أبا شبير وشبر ... كي لا أخاف طوارق الحدثان
ولما كان الحج الكبير الذي اجتمع فيه أعيان من آل القمم وغيرهم من جملتهم السيد أحمد بن الحسن والسيد محمد بن الحسين بن القسم والسيد محمد بن أحمد بن القاسم وكان معهم أعيان كالقاضي أحمد بن سعد الدين وأظنه عام ثلاث وخمسين جعل الإمام المؤيد بالله محمد بن القسم أمير هؤلاء جميعهم صاحب الترجمة وبالجملة فمحاسنه وفضائله كثيرة وكانت وفاته يوم الأربعاء ثامن من عشر ذي الحجة سنة اثنتين وستين وألف ببندر المخا ونقل إلى حيس فدفن بها في التربة التي أعدها له بوصية منه.
محمد بن أحمد الملقب بشمس الدين الخطيب الشويري الشافعي المصري الإمام المتقن الثبت الحجة شيخ الشافعية في وقته ورأس أهل التحقيق والتدريس والإفتاء في جامع الأزهر وكان فقيها غليه النهاية ثابت الفهم دقيق النظرت متثبتاً في النقل متأدبا مع العلماء معتقد اللصوفية حسن الخلق مهابا ملازما للعبادات وحظى حظوة في الفقه لم يحظها أحد في عصره بحيث أن جميع معاصريه كانوا يرجعون إليه في المسائل المشكلة وكان يلقب بشافعي الزمان حضر الشمس الرملي ثمان سنين وأجازه بالإفتاء والتدريس سنة ألف ولزم النور الزيادي وأخذ الحديث عن أبي النجا سالم السنهوري وإبراهيم العلقمي والعلوم العقلية عن الشيخ منصور الطبلاوي وعبد المنعم الأنماطي وأجازه شيوخه وشهدوا له بالفضل التام واشتهر بالعلم والجلالة وكان يقرى مختصر المزني وشرح الروض والعباب وغيرها من الكتب القديمة المطولة وكان يميل إليها وهو آخر من قرأ بجامع الأزهر شرح الروض والمختصر والعباب ويس الحمصي وغيرهم وألف مؤلفات كثيرة منها حاشية على شرح المنهج وحاشية على شرح التحرير وحاشية على شرح الأربعين لابن حجر وحاشية سبع وسبعين وتسعمائة وتوفي ليلة الثلاثاء سادس عشري جمادى الأولى سنة تسع وستين وألف ودفن بتربة المجاورين والشوبري تقدم الكلام عليها في ترجمة أخيه أحمد.(2/357)
محمد بن أحمد بن محمد بن حسين بن سليمان المعروف بالأسطواني الدمشقي الحنفي الفقيه الواعظ الأخباري أعجوبة الزمان ونادرة الوقت كان من منن الله تعالى على عباده لم يزل يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر وكان ورعا ناسكا متقشفا مخشوشنا كثير العبوس في وجوه الناس لما يكرهه منهم شديد الإنكار عليهم فيما يخالف الشرع لا يقنع في أمر الله بغير إظهاره وكان مطبوعاً على الالتذاذ بذلك متملا للأذى من الناس بسببه وبلغ القول فيه إلى أنه حرم البقلاوة وأمثالها لما كان يحرم الحرام وكان أحد أعاجيب الدنيا في حلاوة المنطق وحسن التأدية ومعرفة أساليب الكلام لا يمل حديثه بحال بل كلما طال طاب وبالجملة فلم ير نظيره في هذا الدور ولم يسمع بمثله في أوصافه كان في الأصل على مذهب أسلافه حنبليا ثم انتقل إلى مذهب الشافعي وقرأ الفقه على مشايخ عصره منهم الشمس الميداني والنجم الغزي وغيرهما وأخذ العربية والمعقولات عن الشيخ عبد الرحمن العمادي والشيخ عبد اللطيف الجالقي والشيخ عمر القاري والإمام يوسف بن أبي الفتح وأخذ الحديث عن أبي العباس المقرى في قدمته لدمشق ودرس بالجامع الأموي ثم رحل إلى مصر وأخذ بها عن البرهان اللقاني والنور على الحلبي والشيخ عبد الرحمن والشمس البابلي وقدم إلى دمشق في سنة تسع وثلاثين وألف ودرس بها وأفاد ووقع بينه وبين شيخه النجم الغزي في مسئلة فسافر إلى الروم بحراً فأسرته الفرنج ثم خلص بعد مدة قليلة ووصل إلى دار الخلافة فأقام لها وحسن حاله وحصل جهات وعلوفات وتزوج وجاءه أولاد ثم تحنف وصار إماما بجامع السلطان أحمد ولازم على عادة موالي الروم ثم قدم إلى دمشق حاجا في سنة ثلاث وستين وألف وعاد إلى الروم فصار واعظاً بجامع السلطان بن أبي الفتح محمد خان واشتهر بحسن الوعظ ولطافة التعبير فانكبت عليه الناس ولزمه جماعة قاضي زاده الرومي وعظم خربه فبالغ في النهي عن أشياء كان غنيا عنها فكاد أن يوقع فتنه فعزل عن وظيفة الوعظ ونفي إلى جزيرة قبرص ثم أمر بالمسير إلى دمشق فوردها في سنة سبع وستين وأقام بها ولزم الدرس تحت قبة النسر بالجامع الأموي بين العشاءين وبعد الظهر ونشر علم القرآن والمواعظ وأقر أشرح الهمزية ورغب الناس في حضور دروسه من علماء وعوام لحسن تقريره وعذوبة تفهيمة ولطافة مناسباته وسمعت والدي رحمه الله تعالى يقول أن درسه كان يليق أن يرحل إليه من بلد إلى بلد وإنه قرر أشياء لم يسمعها من أهالي دمشق أحد وفيه يقول الأمير المنجكي:
إن سمع العقول يصغي لقول ... الأسطواني والقلوب لديه
جمع الفضل والمكارم حتى ... كل حسني تعزي وتنمي إليه
رجل جاء في الزمان أخيراً ... يحد الأول إلا خير عليه
وكان بدمشق بعض مناكر فتقيد بإزالتها أو تخفيفها ومن جملتها لبس السواد خلف الميت ورفع الصوت بالولولة وأعهد يوماً في جنازة بعض أقاربه وأقاربي أمر جماعته بحمل عصى تحت أصوافهم فلما خرجت الجنازة من باب السلسلة وباشر النساء الولولة أشار إلى جماعته بضربهن فضربوهن ولم يدعهن يخرجن إلى المقبرة وله غير ذلك مما يحمد وإلى هذا أشار الأمير المنجكي أيضاً في مدحه:
جوزيت من رب الهدى عن خلقه ... ماذا تشا وكغيت شر الحد
أبعدتهم عن كل لهو مرشدا ... حتى اهتدى من لم يكن بالمهتدي
وصحت بك الدنيا فليس يرى بها ... من مشكر الالحاظ الخرّد(2/358)
ثم وجهت إليه مدرسة السليمية بدمشق وكان بعضهم يزعم أنه يطعن في سلطان العلماء والأولياء الشيخ محي الدين الأكبر بن عربي قدس الله تعالى سره العزيز فلما ولي المدرسة ظهرت محبة له وأثبت نسبه إلى الشيخ حسن القميري وأخذ توليه البيماستان بالصالحية وجمع عقارات وأملاكا كثيرة ولم أسمع أنه ألف أو قال شعراً غير أني ظفرت له بتحريرات على عبارات في التفسير والفقه وكان فيما يمليه مستوفياً أقسام المناسبة ومن إملائه لمحمد بن الحنفية كل عزلا يوطده علم فإلى ذل مصيره ومنه لو كشف الغطاء لما اختير غير الواقع من عرف الله أزال التهمه وقال كل فعله بالحكمه ومنه قوام الدنيا بأربع السلطان وجنده والعلماء والصوفية والتجار وأرباب الصنائع وغيرهم من قبيل الأشراء والهمل قال وأوصى عبد المطلب قبل وفاته أبا طالب بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقال فيما أوصى به:
أوصى أبا طالب بعدي بذي رحم ... محمد وهو في ذا الناس محمود
هذا الذي تزعم الأحبار أن له ... أمراً سيظهره نصر وتأييد
في كتب موسى وعيسى منه بينة ... كما يحدثني القوم العبابيد
فاحذر عليه شرار الناس كلهم ... والحاسدين فإن الخير محمود
ومنه اللغة أرض وبقية العلوم غراساتها ومن املائه للبحتري:
الجاهلات اثنان من دون الورى ... فاقطن أخي وإن هما لم يفطنا
من قال ما بالناس عني من غني ... من جهله أو قال بي عنهم غني
ولما انحلت بقعة درس الحديث تحت قبة النسر بجامع بني أمية عن الشيخ سعودي الغزي مفتى الشافعية المقدم ذكره طلبها الأسطواني من يومه وبعد أسبوعين توفي ولم تطل مدة الأخر حتى توفي بعده وقرأت بخط الأسطواني أن ولادته كانت ليلة الاثنين سابع عشر المحرم سنة ست عشرة بعد الألف وتوفي في قبيل الظهر من يوم الأربعاء سادس وعشري المحرم سنة اثنين وسبعين وألف بالحمى المحرقة ودفن بمقبرة الفراديس المعروفة بالغرباء وقال شيخنا عبد الغني النابلسي في تاريخ وفاته.
قد مات حاوي العلوم طرا ... محمد كعبة الوفود
الأسطواني طود علم ... ومن تسامي بفرط جود
فضر كل الأنام أرخ ... ممات علامة الوجود
محمد بن أحمد بن عمر حماده الحمادي الشافعي الكاتب الأديب الفاضل كان من رؤساء الكتاب بديوان دجرجا قصبة صعيد مصر العظمى قدم مصر وأخذيها عن الشيخ سلطان المزاحي ومعاصريه وكان قرأ ببلده على شيوخ كثيرين وله روايات عالية في الحديث وكان عذب اللسان قوى الجنان له معرفة جيدة بعلوم الطريق وألف فيه رسائل وله معراج على أسلوب غريب وهو أنه جرد سؤالا من نفسه في حقيقة الخمرة التي يتغزل بها العارفون وإليها يشيرون وعنها يخبرون ويصفونها بالكر والغيبة وفي كيفية الاتصال إلى تلك المرتبة ومتى يتقرب إليها من أجناة تعالى وقربه وأجاب عنه وله أشعار كثيرة ولم يحفظ له إلا هذا البيت من قصيدة وهو:
وسرت إلى ما أحجم العقل دونه ... ونلت أموراً لا يحيط بها فكري
وكانت وفاته في سنة إحدى وثمانين وألف بدجرجا وبها دفن رحمه الله تعالى.(2/359)
محمد بن أحمد أبي عصبة بن الهادي من ذرية الشيخ إسماعيل الحضرمي موقف الشمس المدفون ببلدة الضحى بقرب بيت الفقيه ابن عجيل واشتهر بالعبادي نسبة لجده لأمه الشيخ العارف بالله تعالى محمد البكري العبادي نسبة إلى عبادة قرية بمصر وكان جده المذكور من أكابر الأولياء الآخذين عن الشيخ القطب بدر الدين العادلي المشهور قبر بمكة ولد صاحب الترجمة بمكة سنة ثمان وعشرين وألف تقريباً ونشأ في حجر والده أميا وظهرت له في أواخر عمره خوارق عادات عجيبة مع أنه كان سالكاً طريق الملامتية في تخريب الظاهر بأكل الحشيش و الإكثار منه إلا أن كثيراً ممن تعاطي شربه عنده أخبر بأنه ما أثر فيه مع أنه أكثر منه جداً واستدل بذلك على انقلاب عنه أو بطلان ضرره ومن كراماته ما أخبر به ثقة المأمور خلوه من القهوة ولم يستطع أن يواجه أمره بالأباء عن صب القهوة فأمره ثانياً فامتثل أمره فتنا ولها ليصب منها فوجدها ملآنة قهوة فصب لهم منها ما كفاهم وبقيت بحالها ومنها أن شخصاً صادقاً أخبر أنه يطير في الهواء ومنها أن كثيرين شاهدوا منه الصرف من الغيب فيما ينفقه في بعض أوقاته ومنها إن شخصاً كان يحب آخر لغرض فاسد فذهب معه لمحل ليختلى به فمر من تحت بيت المترجم فرآه فناداه فطلع إليه فأمره بالجلوس مع صاحبه بقيه يومه ومنعهما من الذهاب وجلسات عنده في ذلك اليوم إلى آخر النهار فأمرهما بالانصراف وقال للمحب يا فلان ذهب عنك الحال الذي كنت فيه اليوم قال فزال والله من ذلك الوقت عني جميع ما كنت أجده من تلك المحبة المذكورة وتبت إلى الله توبة خالصة وله من هذا القبيل كرامات كثيرة لا يمكن استقصاؤها لكثرتها ومن غريب ما اتفق له أن ثلاثة من أصحابه زاروه يوماً سنة موته فتذاكروا الموت فقالوا لهم على سبيل المداعبة وقالوا ما كان لنا حاجة بهذا الكلام فقال لابد من ذلك فما مضت أيام قليلة حتى مات ولحقه المذكورون كما ذكر واحد بعد واحد وكانت وفاته في يوم الأربعاء ثالث وعشري شهر ربيع الثاني سنة ثلاث وثمانين وألف ودفن ببيته الذي كان يسكنه ملاصقا لقبر أبيه وجده لأمه بقرب جبل شظا على طريق الذاهب إلى المعلاة رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن علي البهوتي الحنبلي الشهير بالخلوتي المصري العالم العلم إمام المعقول والمنقول المفتى المدرس ولد بمصر وبها نشأ وأخذ الفقه عن العلامة عبد الرحمن البهوتي الحنبلي تلميذ الشمس محمد الشامي صاحب السيرة ولازم العلامة منصور البهوتي الحنبلي وأخذ العلوم العقلية عن الشهاب الغنيمي وبه تخرج وانتفع واختص بعده بالنور الشبراملسي ولازمه فكان لا يفارقه في دروسه من العلوم النظرية وكان يجري بينهما في الدرس محاورات ونكات دقيقة لا يعرفها من الحاضرين إلا من كان من أكابر المحققين وكان الشبراملسي يجله ويثنى عليه ويعظمه ويحترمه ولا يخاطبه إلا بغاية التعظيم لما هو عليه من الفضل ولكونه رفيقه في الطلب ولم يزل ملازما له حتى مات وكتب كثيراً من التحريرات منه تحريراته على الإقناع وعلى المنتهي جردت بعد موته من هامش نسخة فبلغت حاشية الإقناع اثنى عشر كراسا وحاشية المنتهي أربعين كراسا وله شعر منه قوله:
سمحت بعد قولها الفؤادي ... ذب أسى يا فؤاده وتفتت
ونجا القلب من حبائل هجر ... نصبتها لصيدة ثم حلت
وقوله:
كان الدهر في خفض الأعالي ... وفي رفع الأسافلة اللئام
فقيه عنده الأخبار صحت ... بتفضيل السجود على القيام
يشير إلى أن كثرة السجود أفضل من القيام بناء على مذهب الحنابلة وكانت وفاته بمصر بعد نصف ليلة الجمعة تاسع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وألف.
السيد محمد يحيى بن الأمير أحمد نظام الدين بن معصوم الحسيني أخو السيد علي صاحب السلافة قال أخوه في وصفه أخي وشقيقي وابن أبي وصديقي ومن لا أرى غيره بي أحق إذا حصحص الحق لا كما قال مهيار:
سألتك بالمودة يا ابن ودّي ... فإنك بي من ابن أبي أحق(2/360)
ما جد ثبتت في المجد وثائقه وفاضل تشبثت بالفضل علائقه أحرز من الأدب النصيب إلا وفر وتمسك منه بما أخجل طيب نشره بالمسك إلا ذفر إلى دماثة شيم ووفا أبرم بهما عقد إخائه وهب بذكائهما نسيم رخائه وله شعر تأخذ بمجامع القلوب طرائقه ويملك ما مع أولى الأشواق شائقه ورائقه فمنه قوله:
تذكرت أيام الحجيج فأسبلت ... جفوني بماء واستجدبي الوجد
وأيامنا بالمشعرين التي مضت ... وبالخيف إذ حادي الركاب بنا يحدو
وقوله مخاطبا لي:
وما شوقي مقصوص الجناحين مقعد ... على الضيم لم يقعد عن الطيران
بأكثر من شوقي إليك وإنما ... رماني بهذا البعد منك زماني
وقوله أيضاً:
ألا لا سقي الله العباد وجوره ... فإن قليلا منه عنك خطير
ووالله لو كان التباعد ساعة ... وأنت بعيدانه لكثير
وقوله أيضاً:
ألا يا زماناً طال فيه تباعدي ... أما رحمة تدنوبها وتجود
لألقي الذي فارقت أنسي إذ نأي ... فها أنا مسلوب الفؤاد فريد
وكتب إلى مادحاً وعلى فنن البلاغة صادحاً وذكر له قصيدة انتخبت منها هذا المقدار ومطلعها:
أفق أيهذا القلب عما تحاوله ... فإنك مهما زدت زادتنا تشاغله
دع الدهر يفعل كيف شاء فقلما ... يروم أمرؤ شيئاً وليس يواصله
وما الدهر إلا قلب في أموره ... فلا يغترر في الحالتين معامله
ويا طالما طاب الزمان لو أجد ... فسر وقد ساءت لديه أوائله
سقي ورعي الله الحجاز وأهله ... ملثا تعم الأرض سقيا هو أطله
فإن به داري ودار عزيزة ... على ومهما أشغل القلب شاغله
ولكن لي شوقاً إلى خلتي التي ... متى ذكرت للقلب هاجت بلابله
أبيت ولي منها حنين كأنني ... طريح طعان قد أصيبت مقاتله
هوى لك ما ألقاه يا عذبة اللمي ... وإلا فصعب ما أنا اليوم حامله
أكابد فيك الشوق والشوق قاتلي ... وأسأل عمن لم يجب من يسائله
تقي الله في قتل امرئ طال سقمه ... وإلا فان الهجر لا شك قاتله
حزين لما يلقاه فيك من الجوى ... فها هو مضني مدنف الجسم ناحله
بلى أن يكن لي من على وعزمه ... معين فإني كلما شئت نائله
فراجعه عنها بقوله:
إليك فقلبي لا تقر بلابله ... إذا ما شدت فوق الغصون بلابله
تهيج لي ذكرى حبيب مفارق ... زرود وحزوي والعقيق منازله
سقاهن صوب الدمع مني ووبله ... منازل لا صوب الغمام ووابله
تقسمه للحسن عبل ودقة ... فرن وشاحاه وصمت خلاخله
وما أنا بالناس ليالي بالحمى ... تقضت وورد العيش صفو مناهله
ليالي لا ظبي الصريم مصارم ... ولا ضاق ذرعا بالصدود مواصله
وكم عاذل قلبي وقد لج في الهوى ... وما عادل في شرعة الحب عاذله
يلوموه جهلا بالغرام وإنما ... له وعليه بره وغوائله
فلله قلب قد تمادى صبابة ... على اللوم لا تنفك تغلي مراجله
وبالحلة الفيحاء من أبرق الحمى ... رداح حماها من قنا الخط ذابله
تميس كما ماس الرديني مائداً ... وتهتز عجباً مثل ما اهتز عامله
مهفهفة الكشحين طاوية الحشا ... فما مائد الغصن الرطيب ومائله
تعلقتها عصر الشبيبة والصبا ... وما علقت بي من زماني حبائله
حذرت عليها آجل البعد والنوى ... فعاجلني من فادح البين عاجله
إلى الله يا أسماء نفسا نقطعت ... عليك غراما لا أزال أزاوله
وخطب بعاد كلما قلت هذه ... أواخره كرت على أوائله
لئن جار دهر بالتفرق واعتدى ... وغال التداني من دهي البين غائله(2/361)
فإني لأرجو نيل ما قد أملته ... كما نال من يحيى الرغائب آمله
من النفر الغر الذين بمجدهم ... تأطد ركن المجد واشتد كاهله
لقد ألبست نفس المعالي بروده ... وزرت على شخص الكمال غلائله
وكانت ولادته في سنة ثمان وأربعين وألف وجاء تاريخ مولده لبعضهم من أبيات:
إن قلت ما تاريخ مولده فقل ... حبر الزمان بدي بأشرف طالع
وذهب إلى والده بالهند وأقام إلى أن مات وكانت وفاته بها في سنة اثنتين وتسعين وألف.
محمد بن أحمد بن محمد العمري المعروف بابن عبد الهادي الدمشقي الصوفي الشيخ البركة المعمر بقية السلف كان من خير خلق الله مهاب الشكل عليه نور الولاية والصلاح وكان عالماً بالعقائد والتصوف وكلام القوم حسن الفهم مداوماً على الدرس والأفادة وانتفع به خلق وكان لطيف الطبع حلوا العبارة متواضعاً خلوقاً ولم يكن أصبر منه على الفاقة وحكي لي بعض من أعتمد عليه إنه سمعه مرة يقول أنا من منذ ثلاث سنوات لم أر في يدي شيئاً من المعاملة وليس ذلك تورعا وإنما هو لعدم دخل شيء وكان طريقه التوكل التام أخبرني هذا المخبر أنه كان يقرأ عليه كتاباً للغزالي وصل فيه إلى التوكل قال فقرر لي في التوكل أشياء متدوالة ولم يزد قال فقلت له أريد ما يعرفني حقيقة التوكل فقال في غد ائتني إلى الجامع الأموي ولا تصحب معك شيئاً من الدراهم وصل الصبح أخذ بيدي ومشى قتبعته حتى انتهينا إلى ميدان الحصا وكنت بلغت الجهد من الجوع وفقد القهوة قال فدعانا شخص إلى داره فسرنا فقدم لنا مائدة عظيمة فأكلنا وأمره الشيخ بأن يسقيني قهوة ثم مضينا فدعانا آخر في القبيبات ثم خرجنا إلى خارج باب الله فوقف الشيخ يقرأ الفاتحة للشيخ الحصني قال وكان التعب أمضني وخشيت أن يذهب بي الشيخ إلى قرية من القرى ولا أقدر على المشي قال فنحن واقفون إذا برجل مكارى راكب على حمار وهو يسحب بغلين فقال لنا أن أردتم التوجه إلى سبينه فاركبا هذين البغلين قال فركبنا ومضينا إلى سبينه فطلع أهلها إلى لقاء الشيخ وأنزلوه فنزلنا وحصل لنا إكرام زائد وبتنا تلك الليلة هناك ثم خرجنا في الصباح وما زلنا سبعة أيام ونحن طائفون على قرى ومتنعمون بولائم حتى جئنا إلى دمشق قال فقال لي الشيخ أرأيت حقيقة التوكل قلت بلى وله وقائع وكرامات كثيرة جداً وكان يستسقي به الغيث وللناس فيه اعتقاد عظيم وهو محل الاعتقاد وكانت ولادته في سنة ست بعد الألف وتوفي نهار الأحد سابع صفر سنة ثمان وتسعين وألف قبيل الغروب بهنيئة وفي ثاني يوم صلى عليه في الجامع الأموي ودفن بمقبرة باب الفراديس وكان تمرض مدة طويلة وأخبرني بعض الإخوان إنه قبل أن يموت بيومين أسكت فلم يتكلم بشيء إلا صبيحة وفاته فسمعه ابنه الشيخ محمد يقول ديننا حق ودينكم شك قال فقال له يا سيدي ألست عن ربك براض فقال بلى وكان هذا آخر كلام قاله واتفق يوم دفنه وصول العالم الرباني الشيخ مراد الأزبكي إلى دمشق من الروم وحكى أستاذنا العلامة المنلا عبد الرحيم الهندي الكابلي نزيل دمشق وكان خرج إلى استقبال الشيخ مراد إلى القطيفة قال قصد الشيخ الرحيل منها قبل رفقائه بنحو أربع ساعات قال فقلت له إن الطريق مخوف ولا يمكن التوجه إلا مع الرفقة قال فقال لي عرضت مهمة ولا يمكن التخلف عنها وقام وركب في التخت ثم توجه وتوجهنا معه فلم يمض الأحصة حتى نزل من التخت وركب فرسا وأسرع في السير فكنا لا نقدر على اللحاق به من شدة المشي حتى وصلنا إلى دومة فقيل لنا أن الشيخ محمد بن عبد الهادي قد مات فوصلنا إلى دمشق ولم ينزل الشيخ مراد إلا في الجامع الأموي وحضر الصلاة على الشيخ محمد ثم توجه إلى المكان الذي هيئ له وهذه من أجل الكرامات للرجلين.(2/362)
محمد صاحب الخال ابن أحمد بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن أحمد بن موسى بن أبي بكر صاحب الخال الأكبر وقد تقدم ذكر بقية النسب لصاحب الخال الأكبر جد صاحب الترجمة الإمام العلامة الفقيه قاضي اللحية وشيخ الشافعية بديار اليمن وأعلهم بالحلال والحرام مع التقوى والتحري والإحاطة والزهد والقناعة والانكفاف عن الناس إلى خلق عظيم وطبع لطيف وجلالة قدر ونفوذ كلمة ولد بمدينة اللحية في سنة أربع وبها نشأ وحفظ القرآن والإرشاد والملحة والرحيبة وغيرها وأخذ عن والده وتأدب بأدبه ولازم العلامة الشهير جمال الدين محمد بن عمر حشيبر والشيخ العارف بالله تعالى أبا بكر بن محمد القمري والشيخ العالم محمد باوزير الحضرمي والشيخ الجليل محمد بن الطاهر فجم وقدم مكة سنة أربعين وألف وأخذ بالحرمين عن السيد العارف بالله تعالى أحمد الهادي باعلوي والحافظ المحدث محمد علي بن علان والفقيه محمد بن عبد المنعم الطائفي والشيخ العلامة إسمعيل بن محمد بن عمر حشيبر والفاضل ذهل بن علي الحشيبري وكانت وفاته ببلده ليلة السبت سادس وعشري صفر سنة مائة وألف وصلى عليه غائبة بالمسجد الحرام يوم الجمعة خامس جمادى الأولى من السنة المذكوره.
محمد بن إسمعيل بن الفتى الزبيدي كان من علماء الظاهر أولا فحصلت له جذبة بعد الأربعين وسلك عند بعض المشايخ حتى وصل إلى غاية ما يتمناه وهو مستغرق منجمع عن الناس وله كرامات ظاهرة وأحوال سنية يقال أنه غوث هذا العصر ومن جملة حاله إنه كان يكشف أحوال الرجال الذين يزورونه بمجرد ما يراهم قال المولى فروخ المكي وصلت إلى خدمته سنة أربع بعد الألف وأقمت عنده مدة ثم قلت له يا سيدي أريد السفر إلى اليمن لازور المشايخ فقال الذي تريد من المشايخ عندنا موجود ولا ينبغي لنا أن يكون محبنا محتاجا إلى آخر فقلت لابد من الرواح فقال تروح ولكن تتعب كثيراً قال فكان كما قال قال أيضاً وقلت له عند المفارقة يا سيدي قد أنست بك والآن أذهب إلى الحرمين فكيف يكون حالي بهما إذا غلب على الشوق إلى لقائك قال يمكن أن تراني تحت الميزاب أو عند الملتزم قلت أنا أريد الارتحال إلى المدينة الشريفة قال وأنا أصلي بها العصر يوم الخميس واشتغل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من العصر إلى آخر النهار عند باب السلام.
محمد بن إسماعيل بأفضل الحضرمي التريمي الإمام الفقيه الشافعي أحد العلماء المشهورين ولد بمدينة تريم ونشأ بها وحفظ القرآن والإرشاد وعرضه على مشايخه وتفقه بالشيخ حسين بن عبد الله بأفضل والسيد محمد بن حسن وأخذ عن شهاب الدين وحج وأخذ الفقه عن الشهاب أحمد بن حجر الهيقي ولازمه في دروسه الفقهية وغيرها وأخذ عن تلميذة الشيخ عبد الرؤف وسمع بمكة من خلق كثيرين وأذن له بالإفتاء والتدريس غير واحد من مشايخه وأثنى عليه جماعة من الأولياء وكان له ذهن ثاقب وحافظ ضابطة وقريحة وقادة وفكر قويم مع عقل وافر وأدب ظاهر وكما ل مروءة وحسب وفتوة ودرس وأفتى وتقريره أمتن من كتابته واشتغل عليه جماعة من الفضلاء وتفقه به كثيرون منهم القاضي أحمد بن حسين بلفقيه والسيد أبو بكر بن محمد بافقيه صاحب قيدون والشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بافقيه وبنو عبد الرحمن بن شهاب الدين وغير هؤلاء وله فتاوى كثيرة لكنها غير مجموعة وهي مفيدة جداً وكان من أروع أهل زمانه متقللا من الدنيا زاهداً فيها وفي مناصبها وكان متقشفا في مأكله وملبسه ومسكنه وكان من له خط حسن ويضرب به المثل في الصحة وكتب بخطه عدة كتب وجمع بين العلم والعبادة والمجاهدة والزهادة وكان أعجوبة الدهر في الإنابة واشتهر في الديار الحضرمية بانفراد بتحقيق العلوم الشرعية وكانت وفاته بمدينة تريم في سنة ست بعد الألف ودفن بمقبرة الفويط والمنيرة وحزن الناس لفقده رحمه الله تعالى.(2/363)
الإمام محمد بن الإمام اسمعيل المتوكل على الله بن الإمام القسم بن محمد بن علي الإمام المؤيد بالله كان إماماً جليلاً عالماً عاملاً كثير الخوف من الله سبحانه محيا للفقراء صارفا بيت المال لمصارفه نشأ على طاعة الله تعالى من صغره لم يعهد له صبوة وتولى الأعمال المهمة في زمن والده وولى صنعاء مدة مديدة وكل بلد تولاها رفع عنها المكوس والمظالم قرأ في بدايته على القاضي أحمد بن سعد الدين وعلى السيد العلامة الحسن بن المطهر الجرموزي وأخذ الحديث عن محدث الشافعية باليمن الشيخ عبد العزيز المفتي وأخذ عن الشيخ العلامة أحمد بن عمر الحبيشي وغيرهم وحج في سنة ست وستين وألف وزار النبي صلى الله عليه وسلم وعمره نحو سبع عشرة سنة ومعه جماعة من الأعيان وأخذ عن علماء الحرمين ولما توفي والده عرضت عليه الإمامة فأباها وتولاها الإمام أحمد بن الحسن المقدم ذكره فلما توفي أحمد بن الحسن أجمع الأئمة والعلماء والناس عليه ولم يختلف عليه أحد فتولاها وسار سيرة الأئمة الهادين وعم الناس بظل عدله وأمر بأحياء العلوم والمدارس وقرب العلماء وتعهد أحوال الفضلاء وأدى حقوق الضعفاء وأمر برفع المظالم ولكن لكثرة علمه وعدم بطشه وتوقفه عن الإقدام على الفتك لم تتمثل أمره باطنا الأئمة من بني القاسم من إخوانه وبني عمه فكان إذا أمر برفع المظالم وأرسل أحد في شأنه يمتثلون أمره ظاهراُ فإذا رجع مأموره رجعوا لما هم عليه من الظلم وكل منهم بسط يده على بلاد فكثرت الفتن بسبب ذلك وكان مراده أخذهم بالحيلة والسياسة فلم تطل مدته وتوفي وكانت وفاته في ثالث جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وألف وتولى بعده الإمامة محمد بن أحمد بن الحسن وبايعه غالب الأئمة والأعيان ودانت له البلاد والناس أشهراً فلما لم تحمد سيرته لعدم ترويه في الأمور عليه ولده عبد الله مع جملة من إخوانه ومن بني الإمام المتوكل إسماعيل وخلعوه من الإمامة وولو الإمامة يوسف بن المتوكل وبايعه الناس وغالب الأئمة وبسط عماله يدهم على البلاد وجهز الجيوش على الإمام محمد بن أحمد المذكور فحصروه بقلعة الحصن المشهور بالمنصورة ثم قويت شوكته وقام ثانياً ودانت له اليمن واستقل بالأمر وبايعه غالب الناس طوعاً أوكرها.
محمد بن إلياس المدني الخطيب قال بعض الفضلاء في حقه أحد الفضلاء الأكياس المثرين من نقود الأدب الفائقة على نقود الأكياس طابت أنفاسه بأنفاس طابه وملأ من نفائس الآداب والفضائل وطابه فهو إذا خطب خطب عرائس الأفكار وأجيب إليها ونصت عليه في أرائك البلاغة فبني عليها وإذا كتب كتب العدو والحسود وأقر بفضله السيد والمسود لم يزل في جوار رسول الله حتى انتقل إلى جوار الله فمن شعره ما كتب به مجيباً للقاضي تاج الدين المالكي وقد أرسل إليه بهدية قول:
مولاي قدرك أعلى ... من كل شيء وأغلى
وقد بعثت بما أن ... ينمي لقدرك قلا
ولا أراه يوازي ... بذاك حاشا وكلا
من ذا يباري كريما ... في الجود حاز المعلي
أم من يجاري جواداً ... في حلبة الفضل جلي
فأقبل لتشفع فضلا ... به تطولت فضلا
فأجابه القاضي تاج الدين بقوله:
يا سيدا وإماما ... قد طاب فرعا وأصلا
حزت المكارم قدما ... وطبت قولا وفعلا
غمرت بالجود عبداً ... لا زلت للفضل أهلا
ودمت مولي كريما ... فأنت أحرى وأولى
وكانت وفاته ليلة الأحد ثاني شهر ربيع الثاني سنة ست وسبعين وألف بالمدينة ودفن بالبقيع قلت ولهذا الأديب أخ اسمه عبد الله ذكره ابن معصوم لكن لم يذكر وفاته وأنا لم أقف عليها فأردت أن أذكره هنا لئلا يخلو كابي من ذكره فأقول قال ابن معصوم في ترجمته أديب يرفل في حلل الجمال ويرتع في رياض الكمال إلى شمائل لرقة الشمول ناسخة وآداب في مقر الإحسان راسخة رأيته فرأيت البشر مجلوا في صورته والظرف متلوا من سورته وله نثر ونظم يملكان المسامع لطفا ويشبهان قائلهما رقة وظرفا فمن شعره قوله في العروض:
إن العروض لبحر ... تعوم فيه الخواطر
وكل من عام فيه ... دارت عليه الدوائر(2/364)
وقرأت بخط السيد محمد كبريت مانصه أنشدني إجازة لنفسه سيدي العفيف عبد الله بن الخطيب إلياس سلما من المكروه والباس
يا سيدي قم لي ولا ... تخشى بحرمتك العنب
كيلا يقال مقصر ... فأكون فيه أنا السبب
فقلت وإن لم يبلغ الظالع شأ والضليع
لم لا أقوم لسيدي ... من غير أن أخشى العتب
وهو الذي قامت له ... بثنائها عليا الرتب
قال وقلت في المعنى:
أقوم على الرأس لما يدا ... جمالك لا لاجتناب العتب
ولم لا أقوم وأنت الذي ... لعلياه قامت كرام الرتب
ولبعضهم في المعنى:
قيامي للعزيز على فرض ... وترك الفرض مالا يستقيم
فهل أحد له عقل ولب ... ومعرفة يراك ولا يقوم
وما ألطف قول بعضهم معتذراً عن عدم القيام:
علة سميت ثمانين عاماً ... منعتني للأصدقاء القياما
فإذا عمر وأتمهد عذري ... عندهم بالذي ذكرت وقاما
ذكرت بهذا ما حكاه أرباب السير عن الصاحب إسماعيل بن عباد إنه لما كان ببغداد قصد القاضي أبا السائب عتبة بن عبيد لقضاء حقه فتثاقل في القيام به وتحقر تحقراً أراء به ضعف حركته وقصور نهضته فأخذ الصاحب بضبعه وقال تعين القاضي على حقوق إخوانه فجعل القاضي واعتذر إليه ورأيت بخط السيد محمد كبريت إلى سدته العلية أعني الخطيب المذكور:
يا أيها المولى الذي فاق الورى ... ببيان منطقة البديع الزين
هات اقتنا في زيد الخفوض في ... ما قام إلا زيد المسكين
فكتب مجيباً:
يا من بشمس علومه زال المرا ... فغدا بمصباح الهدى كالعين
إني أقول جوابكم وبي الجوى ... في فرد بيت زان في العينين
زيد تصور جره بإضافة ... للال وهو العهد للاثنين
حاكته أيدي الوداد بأنامل الإخلاص وسبكتها في قوالب الاتحاد فما حاكتها سبائك الخلاص إلى الحضرة التي يحق لي أن أحن إليها وأشتاق ويليق لي أن أطير مع حمائم البطائق لأفد عليها لو أن ذلك مما يطاق تهدلت أغصان دوحة رياسته وتهللت جباه جلالته ونفاسته حب موثوق بالعرى وقلب منبوذ بالعرا
أأتخذ العراق هوى ودارا ... ومن أهواه في أرض الشام
بيد أن له في سعة الفضل رجا وفي اجتماع الشمل ما تحار فيه عقول أولى الحجا ولا يزال يتذكر سويعات مرت ما كان أحلاها رأويقات ليس في يده إلا أنه يتمناها
فيا ما كان أحسنه زماناً ... وياما كان أطيبه وياما
وبعد كل حال فسلامة المولى هي منتهى الطلب إذا كان في صحة فما أنا لا فيها أتقلب.
محمد ين أيوب بن أحمد بن أيوب الخلوتي الحنفي الدمشقي تقدم ذكر والده وكان محمد هذا فضلاء وقته أديباً مطبوع الطبع حسن المعاشرة خفيف الروح مع صلاح وتقوى وعبادة أخذ العلم عن والده وغيره من علماء عصره ولزم الشيخ أحمد بن علي العسالي مع والده في طريق الخلوتية وكان ينظم الشعر ولم أقف له إلا على هذا المقطوع في ذم العذار وهو:
يا صاح أن الشعر يزرى بذي ... الحسن وإن كان بهىّ الجمال
أما ترى إلا نفس من شعره ... تعاف للماء الفرات الزلال
وهذا معنى تداولته الشعراء والسابق إليه وأبو إسحق الغزي في قوله:
يقولون ماء الحسن تحت عذاره ... على الحالة الأولى وذاك غرور
ألسنا نعاف الشرب من أجل شعرة ... إذا وقعت في الماء وهو نمير(2/365)
وكان مغرماً بالجمال وله مجون مستعذب يؤثر عنه الكثير منه حكى لي بعض الإخوان قال دخل دمشق شخص من أهالي حلب وكان ذا مال وافر ولكنه جاهل فأنزله والد المترجم عنده وكان يعتني بالتمشدق في الألفاظ يظن أنه يجريها على قاعدة الإعراب فربما قال في سبحانه وتعالى سبحانه بكسر النون وكان الشيخ صاحب الترجمة يكرهه فاتفق إذ دعا جماعة ومعهم غلام كان يهواه فدخل عليهم الحلبي وثقل عليهم وبدل صورة مجلسهم يذكر ما معه من المال فقال الشيخ محمد سبحان الله الرجل يملك مائة ألف قرش ويقول سبحانه بكسر النون ويتطفل وأنا أقولها صحيحة ولا أتطفل وما معي ولا الدرهم الفرد وله من هذا النوع أشياء أخر ولما مات والده صار شيخنا بعده وأقام ميعادهم بالجامع لكنه لم تطل مدته وبالجملة فإنه كان من الفضلاء أهل الذوق وكانت ولادته في سنة اثنتين وسبعين وألف ودفن عند والده بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى.
محمد بن بدر الدين الملقب محيي الدين الشهير بالمنشي الرومي الأقحصاري الحنفي المفسر كان من إجلاء العلماء المحققين صنف تفسيره المشهور واقتصر فيه على قراءة حفص وشرع فيء تأليفه ببلدته إقحصار من أعمال صار وخان في مستهل شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وتسعمائة وله في هذا التفسير لطائف كثيرة منها إنه استخرج معميين أحدهما اسم محمد استخرجه من أول سورة الحمد وأول سورة البقرة وفيه عمل عجيب وحله سهل ممتنع إذا استخراجه على أن تكون ألف ولام الحمد ميما والثاني في اسم هود واستخرجه من سورة هود من قوله تعالى وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وإشارته ظاهرة قلت قوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء يرشد إلى أمثال هذا الاستخراج على الوجه الذي لا يبعد عن الطبع من غير احتياج إلى معونة خارجية على أن بعضهم استخرج اسم هاشم من قوله تعالى والقمر إذا تلاها بالعمل العددي وهو أن عدد قمر ثلثمائة وأربعون وهي عدد تلاها فهو هاشم وهذا الاستخراج قريب إلى الاستحسان لا كاستخراج اسم شهاب من قوله تعالى والليل إذا يغشاها على أن يراد من لفظة ليل مرادفه الفارسي وهو شب غشي ها فهذا وإن كان صحيحا إلا أن استعمال الفارسي فيه بعد والفقير وقفت على تفسير المنشى هذا فرأيت له عبارات لطيفة مستحسنة وقد قرظ له عليه جماعة منهم شيخ الإسلام محمد بن محمد بن إلياس المعروف بجوي زاده فقال فيه:
أكرم بتفسير كروض ناضر ... لم يمل حبر مثله بمحابر
حاو لكل فوائد كقلائد ... وبدائع خطرت ببال عاطر
بعبارة قد أحكمت وبراعة ... قد أبكمت لسن البليغ الماهر
شمس المعارف والفضائل أشرقت ... يهدي سناها كل قلب حائر
مولاي محي الدين دمت منولا ... من يم فضلك كل در فاخر
ومما ينسب إلى المنشي من الشعر قوله يمدح البيضاوي:
أولوا الألباب لم يألوا ... بكشف قناع ما يتلي
ولكن فيه للقاضي ... يد بيضاء لسن تبلي
وكان صار شيخ الحرم النبوي في آخر الربيعين من سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة ورحل إلى المدينة وسكنها وكانت وفاته وهو بالحرم المكي في سنة إحدى بعد الألف.(2/366)
محمد بن بدر الدين بن بلبان البعلي الأصل الدمشقي الصالحي الفقيه المحدث الحنبلي المذهب المعمر أحد الأئمة الزهاد من كبار أصحاب الشهاب بن أبي الوفاء الوفائي الحنبلي المقدم ذكره في الحديث والفقه ثم زاد عليه في معرفة فقه المذاهب زيادة على مذهبه وكان يقري في المذاهب الأربعة وسمع ببعلبك وبدمشق على الشهاب العيتاوي والشمس الميداني وأفتى مدة عمره وانتهت إليه رياسة العلم بالصالحية بعد وفاة الشيخ علي القبودي وكان عالماً ورعا عابداً قطع أوقاته في العبادة والعلم والكتابة والدرس والطلب حتى مكن الله تعالى منزلته من القلوب وأحبه الخاص والعام وكان دنيا صالحا حسن الخلق والصحبة متواضعاً حلو العبارة كثير التحري في أمر الدين والدنيا منقطعا إلى الله تعالى وكان كثيراً ما يورد كلام الحافظ أبي الحسن علي بن أحمد الزيدي نسبة لزيد بن علي بن الحسين لأنه من ذريته ويستحسنه وهو قوله اجعلوا النوافل كالفرائض والمعاصي كالكفر والشهوات كالسم ومخالطة الناس كالنار والغذاء كالدواء وكان في أحواله مستقيماً على أسلوب واحد منذ عرف فكان يأتي من بيته إلى المدرسة العمرية في الصباح فيجلس فيها وأوقاته منقسمة إلى أقسام أما صلاة أو قراءة قرآن أو كتابة أو إقراء وانتفع به خلق كثير وأخذ عنه الحديث جمع من أعيان العلماء منهم الإمام المحقق محمد بن محمد بن سليمان المغربي والوزير الكبير مصطفى باشا بن محمد باشا الكويري وابن عمه حسين الفاضل وأشياخنا الثلاثة أبو المواهب الحنبلي وعبد القادر بن عبد الهادي وعبد الحي العكري وغيرهم وحضرته أنا وقرأت عليه في الحديث واتفق أهل عصرنا على تفضيله وتقديمه وله من التأليف مختصر في مذهبه صغير الحجم كثيراً لفائدة وله محاسن ولطائف مع العلماء وولى خطابة الجامع المظفري المعروف بجامع الحنابلة وكان الناس يقصدون الجامع المذكور للصلاة وللتبرك به وبالجملة فقد كان بقية السلف وبركة الخلف وكانت وفاته في سنة ثلاث وثمانين وألف ودفن بالسفح وكانت جنازته حافلة جداً رحمه الله تعالى.
محمد بن بركات بن أبي الوفا الشيخ الصالح القانت مربي المريدين أبو الفضل الموصلي الأصل الشيباني الدمشقي الميداني الشافعي الصوفي القادري كان كأبيه جواداً سخياً حسن الأخلاق له صبر على جماعته وكان يتردد إليه كأبيه أكابر الناس وعلماؤهم وكانوا يعظمونه وبالجملة فقد كان ممن تجمل به وقته وكان بيته مورداً للواردين ومنزلا للوافدين ورزق الخط في الجاه والولد والعمر وأكثر أولاده أسباط فقيه الشام في وقته الشرف يونس العيثاوي وهو والد القاضي بدر الدين حسن الموصلي المقدم ذكره وكانت وفاته في آخر ليلة الجمعة رابع عشري شعبان سنة ثمان بعد الألف وصلى عليه بجامع متجك بميدان الحصا ودفن بتربتهم جوار مسجد النارنج الملاصق للمصلى عن نحو ثمانين سنة أو يزيد عليها وتأسف الناس عليه كثيراً رحمه الله تعالى.(2/367)
محمد بن بركات بن محمد المنعوت كمال الدين بن الكيال الدمشقي الكاتب البارع أحد الأفراد في جودة الخط وحسن الضبط وكان خطه في وقته أغلى قيمة من الجوهر وكان يكتب أنواع الأقلام على اختلافها وهو في كل منها محسن مجيد وأستاذ وحيد وكتب كتباً كثيرة وتغالي الناس في أثمانها وحكى أنه كتب مرة تفسير شيخ الإسلام أبي السعود العمادي وباعه وتوجه بثمنه إلى القسطنطينية ودخلها في أيام السلطان مراد بن سليم وانتسب إلى الشيخ الإسلام سعد الدين بن حسن جان معلم السلطان المذكور فأسكته عنده في داره وهيأله لوازمه وأسبابه وأعطاه نفقة كثيرة وكتب له تفسير أبي السعود المذكور في مدة سنتين وهو مقيم عنده وقد كان تأنق في كتابته جهده فلما رآه السعد مال إليه بكليته وأعكاه مالا فوق ما يتمناه وانتظم حاله ثم بعد مدة مل الغربة فهرب وقدم إلى دمشق وفطن به السعد فتألم لغيبته وأقام بعد ذلك بدمشق وتزوج بها وكان لا يفتر عن كتابة الكتب مدة حياته وبالجملة فإنه كان من المشار إليهم في الكتابة وانتهى إليه الظرف في حسن التناسق وجمع من خطوط أساتذة الكتاب من العجم والروم مالم يجمعه غيره وكان مع ذلك حسن الأخلاق لطيف الطبع لين الجانب كثير الفوائد وكانت وفاته في سنة سبع وعشرين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير واتفق موته ليلة النوروز وهو انتقال الشمس إلى برج الحمل فقال الشيخ عبد الرحمن العمادي مؤرخاً وفاته يقوله:
لقد نسخ الكمال بلا مثال ... عشية قيل للشمس انتقال
تعجب لا تفاقهما وأرخ ... لبرج الجنة انتقل الكمال
قلت وقد أجري التاء المربوطة هاء فليتنسه له وهذا من التواريخ اللطيفة.(2/368)
محمد بن بركات بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد الرحمن السقاف الحضرمي المعروف جده بكريشة أحد أولياء زمنه وأصفياء وقته وله الكرامات الجعة والمناقب العظيمة ذكره الشلي في تاريخه المرتب على السنين وقال في ترجمته ولد بمدينة تريم ونشأ بها وصحب جماعة من أكابر العارفين ثم حصلت له جذبة وربما حصلت منه أمور ممنوعة في ظاهر الشرع كاتلاف الأموال بالنار ورميها في البحر بلا سبب ظاهر وكان لا يقيم ببلد سنة كاملة بل ينتقل في البلدان فرحل إلى الهند والحبشة والسواحل واليمن والحجاز وكان يتردد إلى مكة وكان قاضيها ورئيسها والقاضي حسين المشهور وكان يحبه ويعتقده وأملكه على ابنته وكان كل حاكم يأتي إلى اليمن تصرف في أهلها لا سيما ولاتها وحكامها تصرف الملاك وكان كل حاكم يأتي إلى اليمن يكون تحت أمره المطلق والمقيد ويستبد بالأمر على خدمة وخاصته وكانوا يعطونه من الأموال والجواهر والملابس الفاخرة والخيل وإلا متعة مالا يحصى كثرة وكان عظيم الهيبة عل جماعته وربما أنكر عليه إنه إذا جاء وقت الصلاة أمرهم بها ولا يصلي بل يغيب عنهم وكل من أنكر عليه حاله إذا اجتمع به زال عنه ذلك وكان لا يجتمع إلا بآحاد الناس وكان قليل الشطح وكانت الملوك والسلاطين تعتقده وتعظمه وإذا كتب لأحد في شيء لا يستطاع رده وبالجملة فقد كان من عجائب الدنيا وله كرامات خارقة كما أخبر من شاهدها من الثقات منها إنه يأخذ من التراب والمدر والحجر ويعطيه من يشاء من أصحابه فيجده نقداً أو سكراً أو حلوى على حسب ما طلبه منه ذلك الشخص قال الشلي وهذه الكرامة سمعتها من جماعة من أهل مكة ومن أهل حضرموت شاهدوها ومنها إن حاكم اليمن أتي إلى بيته لزيادة بخيله فأكرمهم وقال له خادمه ليس عند ناشئ من البخور فأدخل يده تحت ثيابه وأخرج قطعه عنبر وقال بخرهم بهذا ومنها إنه اشترى بقرة ولم يكن عند شيء من ثمنها فاستمهل صاحبها فامتنع فضرب صاحب الترجمة قرن البقرة ضربات على عدد ثمن البقرة فتناثر منه قدر ثمنها أخبرني بهاتين الكرامتين السيد عبدروس بن حسين البار ومنها ما أخبرني خادمه عبد الله بن كليب قال أرسلني السيد إلى السلطان عبد الله بن عمر الكثيري يستشفع في رجل فامتنع وقال هذا رجل لنا عليه أموال وفعل أفعالا قبيحة قال فأخبرت سيدي فسكت وإذا بالسلطان يدق الباب ففتح له فاعتذر واستغفر وقال أصابتني ريح في بطني كادت أن تهلكني فمسح بيده على بطنه فعوفي لوقته ومنه أنه لما سافر إلى المدينة نزل خارجها ولم يدخلها وخرج له أكابرها ووقع في نفس شيخ الحرم شيء على السيد من عدم دخوله وساء ظنه به فدخل تلك الليلة الحجرة الشريفة فوجد صاحب الترجمة عند القبر الشريف داخل الحجرة فبهت واستعظم ذلك فلما أصبح خرج إليه معتذراً فكاشفه السيد وقال أتظن أن هذه الجدران تحجبنا وله غير ذلك من الكرامات ثم رحل إلى بندر المخا واستقر فيه إلى أن مات وكانت وفاته في سنة ثمان وأربعين وألف ودفن خارج العمر أن وعمل على قبره عريش من القضبان وقبره معروف يزار ويتبرك به ومن أساء الأدب عنده عوجل بالعقوبة إلا أن يبادر بالاستغفار والتوبة ووقع لبعض العجم إنه أساء الأدب في حضرته فنهاه الخادم فلم ينته فتزحلقت رجله وصار يتحرك كالطير المذبوح ومات لوقته.
محمد بن بركات بن مفرج الشهير بالكوافي الحمصي الدمشقي الشافعي كان من العلماء الصلحاء قدم إلى دمشق في أيام كهولته وقطن بالمدرسة الطبية بمحلة القيمرية مدة أربعين سنة وأخذ عن أجلاء العلماء واشتغل على جماعة من أهل العلم منهم الشيخ محمد بن عبد الله الخباز المعروف بالبطنيني فقرأ عليه القرآن والفقه وغيرهما ورحل إلى مصر خمس مرات وأخذ عن علمائها وكان صوفي المشرب قادري الطريقة وكان أعيان دمشق يذهبون إليه ويقصدون زيارته والتبرك به واستمر مقيماً بالمدرسة المذكورة هذه المدة لا يخرج إلا لصلاة الجمعة أو لأمر مهم وكان يقرئ القرآن والنحو وغيرهما وكتب بخطه الكثير من الكتب هو تلاميذه واتفق له من العجائب إنه أقرأ النحو وسمع القرآن وكتب الفقه في آن واحد ومن عجائبه إنه كان يكتب صحيفة من الورق بغطة قلم واحدة وختم القرآن ختمتين وثمن ختمة في يوم واحد وكان ينظم الشعر فمن شعره قوله في التوسل:
رباه رباه أنت الله معتمدي ... في كل حال إذا حالت بي الحال(2/369)
يا واسع اللطف قد قدمت معذرتي ... إن كان يغني عن التفصيل إجمال
ماذا أقول ومني كل معصية ... ومنك يا سيدي حلم وإمهال
وما أكون وما قدري وما عملي ... في يوم توضع في الميزان أعمال
وكتب إلى بعض أصحابه:
وفوض لمولاك كل الأمور ... فتفويض أمرك خلق حسن
وإن جاء يوم به شدة ... فلا تجز عن ولا تيأسن
وله غير ذلك وكانت ولادته في سنة خمس بعد الألف وتوفي بعد عشاء ليلة الأحد السابع والعشرين من شوال سنة ست وسبعين وألف ودفن بمقبرة الشيخ أرسلان.
السيد محمد بن برهان الدين الشهير بشريف الحميدي نقيب السادة الطالبية بممالك آل عثمان أحد فصحاء الروم وبلغائهم وكان عالماً فاضلاً مشهوراً بالذكاء والتبحر في العلوم لازم من شيخ الإسلام زكريا بن بيرام وكان خدمة نيابته بحلب لما كان قاضياً لها ولما صار قاضي العسكر أعطاه خدمة التذاكر ثم زوجه ابنته وتنقل في المدارس ثم ولي قضاء الشام في سنةو ثمان عشرة وألف ودخلها وأحسن في قضائه ومدحه شعراؤها بالقصائد والمقطعات ولم أسمع بقاض في دمشق مدح بمقدار ما مدح به هذا وكان محباً للأدباء مقرباً لهم متهافتا على التلذذ بمجالستهم وقرأت في أخبار الأديب عبد اللطيف بن يحيى المنقاري أنه كان نديم مجلسه وكان يقربه ويدنيه ومرض أبوه في أيام قضائه فأراد ولده أن يستفرغه عن وظائفه فتتمنع ثم لما أحس بالموت أراد الفراغ فما أمكنه فذهبت الوظائف ولم يحصل له منها إلا القليل وكان بيده تدريس العزية التي بالشرف إلا على بجانب دمشق الغربي فأخذه الجمال يوسف ابن كريم الدين كاتب المحكمة وعجز المنقاري عن أخذه لقرب الكريمي من القاضي فكتب المنقاري إلى قاضي القضاة السيد صاحب الترجمة هذه الأبيات معاتبة على توجيه مدرسة أبيه للكريمي وهي أبيات لطيفة وغالبها تضمين من شعر الغير:
غيرت يا دهر من ودي غدا لهم ... ملازما فنأت عني لهم نعم
قد كنت أرجو وجود الجود مع شرف ... أسمو به فوق أقراني إذا حكموا
فصار جودهم للغير وانخفضت ... مراتب شأوها الإخلاص عندهم
وفي فؤادي من عكس الردى حرق ... قد أضرمنها رياح شابها الألم
ما كل ما يتمنه المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا يشتهي الأرم
لعلها تنطفي من برد حكمته ... ويشتقي القلب من نار لها ضرم
فإن عكس الرجا مر مذاقته ... على كئيب عرته في الورى نعم
مولاي يا من غدا سر الوجود ومن ... سواه عندي وإن أولى الجفا عدم
لأنت إنسان عين الروم حزت على ... ما نالها قط لا عرب ولا عجم
وقفت غيرك في حكم ومعدلة ... وشدت بعاو من سكانه الكرم
طلعت في أفقنا بدراً وليس يرى ... لليل جهل وظلم في الملا ظلم
لكن موضع رحلي أسود وفي ... فيه لهيب الظمأ دون الورى ودم
سقيت جرعة عيش كله كدر ... ووردهم من نداك السلسل الشم
تعلقت بحبال الشمس منك يدي ... ثم انئنت وهي صفر ملؤها ندم
هل في القضية يا من فضل دولته ... وعدل سيرته بين الورى علم
يضيع واجب حقي بعد ما شهدت ... به النصيحة والإخلاص والخدم
ولم أقصر لدى حفظ الوداد ولا ... جرت إلى نحو إخلاصي لك التهم
وما ظننتك تنسي حق معرفتي ... إن المعارف في أهل النهي ذمم
ولم أضيع عهوداً منك لي سلفت ... وما غدرت فلم للود احترم
حرمت ما كنت أرجو من ودادك لي ... ما الرزق إلا الذي تجري به القسم
بالله يا ابن الألي ساروا إلى رتب ... ما نالها أحد في الخلق غيرهم
ما مر يوماً بفكري ما يريبكم ... ولاسعت بي إلى ما ساء كم قدم
أجبتكم لخلال كنت أعرفها ... وإنما تعشق الأخلاق والشيم(2/370)
إذا محاسني اللاتي أدل بها ... كانت ذنوباً فوصلي منك منصرم
مع ذا فأنت مني قلبي فلست إلي ... سواك أن عبس التبريح أبتسم
وبعد لو قيل لي ماذا تحب وما ... هواك من زينة الدنيا لقلت هم
وما سخطت بعادي إذ رضيت به ... فكل جرح إذا أرضاك ملتئم
فاسلم على أي حال شئت يا أملي ... وأنت ذو حكمة بين الورى حكم
مدى الزمان وما أبدي كئيب أسى ... شكاية من شريف داره حرم
وكان صاحب الترجمة ينظم الشعر العربي ومن نظمه ما قاله لما ولي الحافظ أحمد حكومة الشان وقدمها وكان ظالماً عاتياً وكان تقدمه حاكم ألين منه فقال:
أرسل السلطان بالعدل المبين ... حاكما وافي لقمع الظالمين
أحمد وافي دمشقا حافظا ... بيضة الإسلام بالرأي الرزين
دام في عدل وإقبال وفي ... عزة من لطف رب العالمين
مذر أوه ليس من جنس الذي ... قد خلا من قبله في الحاكمين
قال أهل الظلم منه رهبة ... ليس هذا الكعك من ذاك العجين
وعارض هذه جماعة من الأدباء وليس في إيراد معارضاتهم كبير قائدة إلا تضمين هذا المثل فلذا أعرضت عن ذكرها ثم عزل السيد محمد عن قضاء الشام وولى قضاء مصر وقسطنطينية ثم ولى قضاء العسكر بأنا طولي مرتين نقل في ثانيتهما إلى نقابة الأشراف وذلك في جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وألف وهو حادي عشر نقيباً ولي في الدولة العثمانية فإنه من عهد السلطان عثمان الكبير إلى عهد السلطان يلدرم بازيد لم يتعين نقيب للأشراف ثم أن أمير سلطان كان صحب معه إلى بروسه لما دخلها السيد علي النطاع وهو جد عاشق حلبي فعين ناظراً على الأشراف ولما مات ولي مكانه ولده زين العابدين في زمن السلطان بايزيد فقدم في زمانه السيد محمود المعروف بأمير مخلص وكان ساح في العرب والعجم وكان قدومه إلى الروم في أوائل القرن التاسع فوقع من بعض الأشراف أمر اقتضى تأديبه من أجله فعين السيد محمود المذكور لنظارة الأشراف باختيار الجمهور وكان يعرف أن في بلاد العرب يطلق على هذا الناظر نقيب الأشراف فأشار أن يكتب في منشوره هذا اللفظ وابتدأوا وظيفته أولا بعشرين عثمانيا ثم ترقت إلى أن صارت سبعين ولازال السيد محمد شريف نقبا إلى أن توفي في سنة أربعين وألف تقريبا ودفن بقسطنطينية.(2/371)
محمد بن تاج الدين بن أحمد المحاسني الدمشقي الحنفي الخطيب بجامع دمشق تقدم أبوه وأخوه عبد الرحيم وهذا أشهر آل بيته وأفضلهم وكان فاضلاً كاملاً أديباً لبيباً لطيف الشكل وجها ساكنا جامعا لمحاسن الأخلاق حسن الصوت نشأ في نعمة وافرة وكان أبوه ذا ثروة عظيمة فكان يصله بكل ما يحتاج إليه من مال ومتاع وقرأ على علماء عصره منهم الشرف الدمشقي والشيخ عبد اللطيف الجالقي والعمادي المفتي والجمال الفتحي إمام السلطان وأخذ عن الشيخ عمر القاري والنجم الغزي وأبي العباس المقري وسافر إلى الروم صحبة والده وأخذ عن علمائها منهم الشمس محمد المحبي ثم رجع وأعطى بقعة تدريس بالجامع الأموي عن شيخه الشرف لما مات ولازم من المولى محمد بن أبي السعود وولي خطابة جامع السلطان سليم بصالحية دمشق واشتهر بحسن الحطابة ثم صار إماماً بجامع بني أمية ولما توجه شيخه الفتحي إلى الروم وكان عين لإمامة السلطان مراد فوض إليه أمر حصته في الخطابة بجامع دمشق ودرس بالمدرسة الجوهرية وكان يدرس في الجامع في غالب الأيام والليالي سيما في الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان وأقرأ صحيح مسلم وكتب عليه رجل يعرف بالصنجقدار بيتا قبالة المدرسة العادلية الكبرى فسكن فيه وسافر إلى الروم في سنة خمسين وأخذ تولية الجامع الأموي وولي قسمة العسكر مرتينم ثم وفاة والده سكن بداره قرب باب الفراديس وفرغ الفتحي استقل بجميع الخطابة أصالة وبقي إلى أن ولي على القصير دفترية الشام فادعى أن الخطابة التي للفتحي كانت في السابق نظارة للسلطان وأحسن بها إليه عنها وبقيت في يده الخطابة الأصلية التي فرغ له عنها البهنسي ولما توفي الشيخ سعودي الغزي وجه إليه درس الحديث تحت قبة النسر من جامع دمشق كما أسلفته في ترجمة محمد بن أحمد الأسطواني قريباً وهذا الدرس وظيفة حادثة بعد الخمسين وألف رتبها بهرام آغا كتخذا والدة السلطان إبراهيم وبني السوق الجديد والخان قرب باب الجابية لأجلها وعين للمدرس ستين قرشاً وللمعبد ثلاثين ولقارئ العشر عشرة قروش ودرس المحاسني وكان فصيح العبارة وانتفع به خلق من علماء دمشق منهم شيخنا العلا محمد بن علي الحصكفي مفتي الشام وشيخنا المحقق إبراهيم بن منصور الفتال وغيرهما وله تحريرات تدل على علمه وله شعر حسن مطبوع فمنه قوله من قصيدة:
يا سقاها مرابعا للتلاقي ... كل سار من الحيا غيداق
حيث تبدو بقامة تخجل الغصن ... ووجه يزيد في الأشراف
ورعى الله عهدنا بالمصلى ... حيث ذات اللمي على الميثاق
حيث أشكو لها الغرام ووجدا ... قد أسال الدموع من آماقي
يا حداة المطي رفقا بقلبي ... إن طعم الفراق مر المذاق
جبلت طينتي على محنة الحب ... فحسبي من الهوى ما ألاقي
كل يوم قطيعة وبعاد ... واكتئاب وفيض دمع مآقي
شاب فودي يتلو مشيب فؤادي ... فأمانا من هول يوم الفراق
ليت شعري متى تعيد الليالي ... ما أتاحت من صفو عيش التلاقي
ما أظن الأيام تحكم إلا ... بامتناع الإرفاق للإرفاق
ومن جيد شعره قوله:
وتنفسي الصعداء ليس شكاية ... مما قضته سوابق الأقدار
لكن بقلبي جملة تفصيلها ... صعب لدى العقلاء والأحرار
فجعلت موضع كل ذلك أنة ... ضمنت مرادي من عطاء الباري
وكتب إلى بعض أصحابه بدمشق وهو بمصر:
لو كنت يمر أي من خليط نزحا ... ما كان دخيل الوحد مني وضحا
لكن بعد وأفصار سرى علنا ... من بعدهم وصار كأسي قدحا
ومن محله هذا الموشح نظمه على أسلوب موشح لبنت العرندس الشيعي ومطلع موشحه:
أهواه مهفهفا من الولدان ... ساجي الحدق
قد فر من الجنات من رضوان ... تحت الغسق
من ريقته سكرت لا من راحي ... كم جدد لي رحيقها أفراحي
كم أسكرني بخمرها يا صاح ... كم أرقني بطرفه الوسنان
حتى الفلق
لو عامله بعد له ذا الجاني ... أطفأ حرقي(2/372)
من باهر حسنه يغار القمر ... في روض جماله يحار النظر
قد عز لدى أن بدا المصطبر ... ما اهتز يميل ميلة الأغصان
للمعتنق
إلا وأتاح للمحب العاني ... كل القلق
يا ويح محبه إذا ما خطرا ... كالبدر يلوح في الدياجي قمرا
إن أقض ولم يقض لقلبي وطرا ... فالويل إذا المغرم ولهان
في الحب شقي
قد حمل في العشق من الهجران ... ما لم يطق
القدر شيق مثل خوط البان ... واللحظ كيف الهند في الأجفان
والخال شقيق المسك في الألوان ... والخد مورد أسيل قاني
شبه الشفق
والعارض قد سلسل كالريحان ... للورديقي
يا عاذل لو أبصرت من أهواه ... ناديت تبارك الذي سواه
قد أحسن خلقه وقد نماه ... إذ كمله وخص بالنقصان
بدر الأفق
قد أفرغه في قالب الإحسان ... زاكي الخلق
الصبر على هواه مثل الصبر ... والقلب غدا من هجره في حجر
ما ألطفه في وصله والهجر ... لم ألق له في وصله من ثاني
حلو الملق
ما واصل بعد بعده أجفاني ... غير الأرق
ومطلع موشح بنت العرندس هو هذا:
ما رنحت الصبا غصون البان ... بين الورق
إلا وشجي الهوى لقلبي العاني ... نار الحرق
ما هب صبالنحوك القلب صبالاقي وصبايا بدر سماسما على بدر سماللناس صباصلني فعسىتنال مني ذهباعقل ذهباوالقلب مني مواقد النيراننامي القلقوالناظر قد أسال من أجفاني ماء الغدق
ومن شعر المحاسني قوله:
أودعكم وأودعكم جناني ... وأنثر أدمعي مثل الجمان
ولو نعطي الخيار لما افترقنا ... ولكن لا خيار مع الزمان
وله غير ذلك وكانت ولادته في سنة اثنتي عشرة وألف وتوفي عشية الأربعاء غرة شعبان سنة اثنتين وسبعين وألف ودفن بمقبرة الفراديس بالقرب من جده لأمه الحسن البوريني ورثاه شيخنا عبد الغني بن إسماعيل النابلسي بقصيدة مطلعها:
لتهن رعاع الناس وليفرح الجهل ... فبعدك لا يرجو البقا من له عقل
أيا جنة قرت عيون أولى النهي ... بهازمنا حتى تداركها المحل
وهي قصيدة جيد ة غاية ولولا طولها لذكرتها برمتها.(2/373)
محمد بن تاج الدين بن محمد المقدسي الأصل الرملي المولد والمنشأ الحنفي مفتي الرملة الإمام العالم الصالح التقي الخير نادرة الزمان وهو ابن ابن أخت شيخ الإسلام خير الدين الرملي أخذ ببلده عن خال أبيه وابنه الشيخ محيي الدين ثم رحل إلى مصر في حدود سنة ست وستين وألف وأقام بها إلى سنة سبعين وقرأ بالروايات على الشيخ سلطان المزاحي جميع القرآن للسبعة ثم ختمة أخرى للعشرة من طريق الدرة وأخذ عنه الحديث وقرأ عليه شرح ألفية ابن الهائم للشيخ زكريا في الفرائض وأجازه بمروياته وسمع عليه بعض البخاري وبعض سيرة ابن سيد الناس وشرح عقيدة شيخه اللقاني في العقائد وأخذ أيضاً الحديث عن المحدث عبد السلام اللقاني ولازم النور الشبراملسي في شرح ألفيه العراقي للشيخ زكريا وفي المختصر للسعد مع حاشيتيه للحفيد وابن قاسم وقرأ عليه بالروايات من طريق السبعة وأجازه بمروياته وأخذ الفقه عن فقيه الحنفية بمصر حسن الشرنبلالي قرأ عليه الدرر بحاشيته عليه وكان معيد درسه وعن الشهاب الشوبري قرأ عليه من أول الهداية إلى باب العتق فقرأ الشيخ حينئذ الفاتحة ثلاثا قائلا بعدها اللهم اعتق رقابنا من النار وكان ذلك آخر قراءته ومكث أياما قليلة ومات وقرأ على الشيخ عبد الباقي حفيد شيخ الإسلام بن غانم شرح الكنز المنظوم لابن الفصيح وأجازه جل شيوخه ورجع إلى بلده ولازم خال والده زيادة على عشر سنين ولحظه بنظره وأجازه بمروياته ثم نزل عن إفتاء الرملة وكتب إلى شيخ الإسلام يحيى المنقاري مفتي الروم يطلب منه الإجازة بالفتوى وأن يكون بدله فيها الأهلية لذلك فأجابه إلى طلبته وصار هو المفتي في زمان أستاذه المذكور ولم يزل ملازماً له إلى أن مات فانفرد بعده بالرياسة وصار هو العمدة في تلك الخطة وأخذ عن الشيخ محمد بن سليمان المغربي نزيل مكة لما مر على الرملة وأجازه بمروياته ولما مر شيخنا الشيخ يحيى المغربي أيضاً على الرملة سمع منه الحديث المسلسل بالأولية وقرأ عليه طرفا من الكشاف وغيره وأجازه بمروياته ومن إجازته له ولولده.
أجزت أخانا الفاضل العلم الذي ... تسمى بمن في الناس في الحشر يشفع
ونجلا له والله ينجح قصده ... أبا للهدى والشخص بالاسم يرفع
وقال بذا يحيى ونجل محمد ... ومن مغرب الأوطان والله ينفع
وكانت وفاته عقب الحج وهو راجع إلى بلده صحبة الركب المصري عاشر المحرم افتتاح سنة سبع وتسعين وألف بالينبع ودفن بها.
محمد بن جمال الدين بن أحمد الملقب حافظ الدين العجمي القدسي الحنفي القاضي الأجل الفاضل الأديب كان من أفراد الزمان في الفضل وكثرة الأحاطة باللغة والآداب قرأ ببلده وحصل وتفوق وسافر مراراً إلى الروم ولازم من شيخ الإسلام محمد بن سعد الدين وولي القضاء في إقليم مصر وتصرف بعدة مناصب إلى أن انفصل عن قضاء المنصورة ثم صار مفتياً بالقدس ومدرساً بالمدرسة العثمانية بها وقدم إليها فلم يمتزج مع أهلها الطول غيبته عنهم فترك المنصب وورد إلى الشام وأقام بها مدة في محلة القنوات ثم بمحلة بني كريم الدين وتزوج بابنة القاضي برهان الدين البهنسي المقدم ذكره وبعد مدة قليلة طلقها وتنازع هو وأبوها وطال بينهما النزاع وكان عنده غلام جميل يدعى بخند إن لم ير نظيره في الخلق والخلق وكان مملوكا مالكا فوقع بينه وبينه منافرة فهرب الغلام وأعياء تطلبة فتوجه إلى القاضي وشكا إليه حاله وكان له به علاقة قلبية وأظهر ما كان يضمره من شغفه فكثر عليه الاعتراض وبعد أيام ظهر الغلام وجاء إليه فعطف عليه وتغاضي عما أسلفه ثم لم يقر له بدمشق قرار فسافر إلى الروم وأقام بها ثم أعطى قضاء طرابلس الشام وبعدما عزل عنها ورد إلى دمشق وأقام بها مدة وكان ذلك في سنة أربع وأربعين وألف ثم سار إلى دار الخلافة وولي القضاء ببوسنه وصوفية وكان كثير الآثار ورأيت له أشعاراً كثيرة فمنها هذه القصيدة مدح بها شيخ الإسلام يحيى ابن زكريا ومطلعها:
كل له في طريق المجد أسباب ... وكل حكم له أهل وأرباب
وأنت لي سبب ما فوقه سبب ... إن عددت في طريق السعي أسباب
لولاك ضاعت حقوق الناس قاطبة ... وكان يغلب رب العلم حطاب(2/374)
لولاك ما قفل البواب منهزما ... كلا ولا فتحت للفضل أبواب
كسرت بالجبر أنياب النوائب إذ ... أدمت فؤادي فلم ينبت لها ناب
لبيك لبيك يالب اللباب ومن ... منه استضاءت لحسن الرأي ألباب
سرادق الشعر في أبوب عزتها ... لها على حيك المرفوع أطناب
جلبت من بحر فكري كل لؤلؤة ... ما كل من جلب المنظوم جلاب
هذا وكم جوهر لي فيك منتظم ... في اللون والشكل للرائين غلاب
كل غدا موجزا في شكر سيدة ... إن المحب له في الشكر أطناب
ما كل من كان فوق النجم مسكنه ... كمن له تحت وجه الأرض سرداب
جزاك مولاك خيراً عن فقيرك إذ ... في عالم الغيب ردت عنه أحزاب
هابوك لما رأوا بالقلب ميلك لي ... والعبد عبد وكم للعبد أحباب
ما ثم يرفع شان العلم غيرك يا رفيع ... مجد له في المجد أنساب
أيدعي العلم من في الباب يعرفه ... طفل وكهل وجمال وتراب
في ذلك البيت كل الكتب تعرفني ... وخدمتي فيه تحرير ومحراب
من قاس بالشمس في أوج العلي رجلا ... فذاك من فقه نور العين مرتاب
لو لم يكن يوم حشر الناس مقتربا ... ما عارض الحافظ القدسي بواب
لو كان يعلم علما كان أظهره ... حتى يقال له علم وآداب
المدعى لا ببرهان تكذبه ... شواهد الحس والكذاب كذاب
من نازل الحرب لا ينفك في يده ... وقوس دي الجهل والنشاب أخشاب
ما كل من نقل الأقوال يعرفها ... كم معرب ماله في البحث أعراب
ما كل عين لها نور تنيرولا ... كل الجفون لها كحل وأهداب
الفضل كالشمس لا يخفي وصاحبه ... كالبدر ليس له ستر وجلباب
إلى متى الدهر يبدي من متاعبه ... ما آن أن ينقضي للدهر أتعاب
أما دري أن مولانا وسيدنا ... لي في مدائحه العلياء أسهاب
أنا الذي نلت آمالي بدولته ... وكم توالت على داعيه آراب
كل له سيدي عمر يؤب له ... والعبد ما عاش للأبواب أواب
وله غير ذلك وفي هذا القدر من شعره غني وكانت وفاته في سنة خمس وخمسين وألف.(2/375)
محمد بن حافظ الدين بن محمد المعروف بالسروري المقدسي الحنفي البصير من أولاد غانم الفاضل النبيه كان محققاً بارعاً حديد الذهن قوى الإدراك مشاركا في عدة فنون وكان لطيف الطبع حلو المكالمة لا يمل الخاطر من تحفه ونوادره ولد ببت المقدس ونشأ في حجر والده وأخذ عنه العلوم وكذلك أخذ ببلده عن الشيخ منصور السطوحي المحلي المقرى حين إقامته بها ورحل إلى مصر مرتين وأخذ عن علمائها منهم الشيخ حسن الشرنبلالي وأجازه بالإفتاء والتدريس ومن مشايخه الشهاب أحمد وأخوه الشمس محمد السوبريات والنور الشبراملسي والشيخ يس الحمصي وبرع وتوجه إلى الروم مرتين فلقي من أعيان علمائها قبولا وكان المفتي الأعظم يحيى بن عمر المنقاري يعظمه ويجله وحكى أنه كان وهو بالروم تأتي إليه الجن وقت الاضطجاع تأخذ عنه العلم فأقلقوه فذكر أمره للمولى أبي السعود الشعراني فأمره أن يطلب منهم شيئاً من أمر الدنيا فلما فعل ذلك انكفوا عنه ولم يعودوا إليه وولي بالقدس مدرستين وهما التنكزية والمأمونية ورجع من المرة الثانية في سنة إحدى وثمانين وألف ودخل دمشق وأخذ عنه جماعة من أهلها ثم رحل إلى القدس وانقطع للتدريس فدرس الكنز مرتين والهداية من أولها إلى البيوع والدرر بطرفيها وقرأ متن التلخيص وكان يقرأ في الحرم بين العشاءين المغنى ولم يتمه وأقرأ متن المنار وكتاب ابن الصلاح في المصطلح ومختصره للنووي وشرع في إقراء البخاري فعاجلته المنية وكان يحفظ كثيراً من الأشعار والشواهد والأمثال خصوصاً ديوان المتنبي ويعرف ما أوخذ به المتنبي ويجيب عن كثير وكان شيخ الإسلام خير الدين الرملي يعرف حقه ويصفه بالفضل التام ويقول ما في بيت المقدس أفضل منه وذكر صاحبنا الفاضل إبراهيم الجينيني إنه قرأ عليه في أوائل الهداية مع ولد الشيخ خير الدين الشيخ محيي الدين وكان يبحث معه كثيراً في الأبحاث الدقيقة من الفقه وغيره وابتدأه المرض في رجب سنة تسع وثمانين وألف فبقى مريضاً إلى ليلة الجمعة رابع عشر شوال من السنة المذكورة فمات إلى رحمة الله تعالى.
محمد بن حجازي بن أحمد بن محمد الرقباوي بفتح الراء والقاف الأنباني أحد شعراء العصر وأدباء الدهر ولد بانبابه ونشأ بمصر واشتغل برهة من الزمان بعلوم الأدب حتى فاق أقرانه فنظم ونثر ورحل إلى الحرمين وتوطنها مدة ومدح الشريف زيد بن محسن بمدائح كثيرة بليغة وكان يعطيه العطايا الجمعة وجعل له في كل سنة مرتبا ومعلوماً ثم توجه إلى اليمن فمدح الأئمة بني القاسم وانثالت عليه جوائزهم وكان له اختصاص بمحمد بن الحسن وله فيه مدائح كثيرة وله باليمن شهرة عظيمة ومن شعره الشائع قصيدته التي عارض بها حائية ابن النحاس التي مطلعها:
بات ساجي الطرف والشوق يلح ... والدجى أن يمض جنح يأت جنح
مدح بها الشريف زيد بن محسن ومستهلها:
كل صب ماله في الخد سفح ... لم يرق في عينه نجد وسفح
ومتى يعلو بشأن في الهوى ... وله شأن به فيه يشح
إنما الدمع دليل ظاهر ... أن للحب متن فهو شرح
والذي يصبو لاغصان النقا ... لم يكن عنها بغير الطرف يصحو
يستحي من أن يوافيها الحيا ... وهو أوفي منة والغيم يمحو
كيف يستسقي لها ماء السما ... وله جفن متى شاء يسح
روضة للغيد كانت ملعبا ... وهي في لبة جيد الشرق وضح
كلما نقطها قطر الندى ... رشف الطل بها رند وطلح
وإذا مرت بها ريح الصبا ... سحراً أرجها بالمسك نفح
وتغنت فوقها ورق الحمي ... ولداعي بلبل الأشواق صدح
رب ريم ذات لحظ فاتن ... فاتك بالكسر والسقم يصح
كنت في ظل ذياك النقا ... وأذابت كل قلب فيه جرح
طنبت في مهجتي واستحكمت ... في قطعا ليتها بالوصل تنحو
أتراها استعذبت يوم النوى ... لعذابي كاس بين وهو ملح
ما لها لا عبث الدهر بها ... لا ترى الهجران كاف وهو ذبح
كنت أشكو صدها من قبل أن ... تنتوي والآن عندي فيه شح(2/376)
يا نوار اصطنعني باللقا ... فلكم قاليت من في العشق يلحو
أن تكوني شمت في ليل الصبا ... بارقاً فهو لروض الحلم فتح
كم جليت الشمس في غريبة ... وسمحتي وجناح الفود جنح
فاجعليه شافعاً فيما بدا ... أي ليل ماله يا بدر صبح
ولقد أعلم حقا لم يكن ... منك عن ذنب ظهور الشيب صفح
غير أني أرتجي منك الوفا ... وهو في شرع ذوات الحسن قبح
كم أداري فيك عذالي وكم ... ساءني فيك على التبريح كشح
وإذا فعل الغواني هكذا ... كل ذي سكر بهم لا شك يصحو
سأذودن فؤادي راغبا ... عن هوى من جده بالصدق مزح
يا خليلي اعذراني أن لي ... نار وجد مالها بالعشق لفح
خلياني والدي ألقاه من ... زند شوقي ماله بالغيد قدح
أنا عن ألحاظهم في معزل ... وحديثي ظاهر وهوالأصح
قد نسينا ما حفظنا منهم ... ورأينا أن بعض العذل نصح
لا أرى العيش صفا ما لم أعش ... وفؤادي من حروف اللهو ممحو
وعن التشبيب ما أغنى ولي ... في علا زيد العلا شكر ومدح
سيد السادات سلطان الملا ... فارس الخيلين يوم الروع سمح
قامع الأقران في يوم الوغى ... تحت ظل السمر والحرب بقح
أبيض الوجه إذا النقع دجا ... واضح البشر إذا الفرسان كلح
كم له يوم فخار منتمي ... ولوقع البيض بالها مات رضح
صبح الأقيال حربا ولكم ... شرقت من خيله حرب وصلح
يوم أورى بقديح المصطلى ... قدح زندوريه بالفوز قدح
وعلى العمرة أربت يده ... وله في يومها عفو وصفح
أذكر الصنفين إذ ذاك بها ... يوم صفين وللخيلين ضبح
ولغا عني ضلال بعدما ... طاش من تصيحفه في فيه صمح
ولكم سارع بالخيل على ... حرم الله وللأعمار دلح
مانع الجار فلولاذ الدجا ... بعواليه لما جلاه صبح
ولو أن الشمس تحكي نوره ... ما علاها في ظلام الليل جنح
واهب الأرواح في يوم الوغى ... لا عادية الألى بالمال شحوا
ولقد كان أبوه هكذا ... ولماء الورد بعد الورد نضح
أشغلت هيبته فكر العدا ... فهم في غمرة الأشفاق طرح
لو رأوه في الكرى لا نتبهوا ... ولهم من خوفه بالرعب قزح
وإذا شاموا بروقا أيقنوا ... أن أعناقهم بالبيض مسح
وإن انقضت نجوم في الهوى ... زعموا أن مطار الشهب رزح
بأبي أفديك يا بحر الندى ... يا مضئ الرأي أن أظلم قدح
يا عنيد الخيل يوم الملتقي ... يا شديد البأس والأقران طلح
يا عريض الجاه يا حامي الحمي ... يا ملاذ الكون أن لم يغن كدح
يا جميم الفضل والسيف له ... بغدادين الطلي حصد ومسح
خذ حديثي واستمع قولي فما ... كل من قال قريضاً فيه صح
أنت أولي الناس بالمدح ولو ... لم يكن للبحر عن وصفك نزح
هاك نزم الدر من معدنه ... رائق المعنى له بالمدح مزح
واجعل الأبكار في نور الوفا ... واختبرها فهي بالعرفان فصح
ضمن الدهر لها التخليد في ... صفحات الكون والأيام فسح
وهي كالجرد السلاهيب لها ... بمجال الشكر في علياك مرح
حاصرت ما شاد فتح قبلها ... وتلت نصر من الله وفتح
أحرز السبق ولكن فقته ... بك يا ابن الطهر والآيات وضح
لا يروق المدح إلا في الآلي ... لهم الأنساب كالا حساب رجح
أين من جداه طه المصطفى ... وعلى المرتضى ممن يزح(2/377)
برز الفال بها من منطقي ... لك بالإيراد والإسعاد سنح
وأنا منك أيا غوث الورى ... لم يكن صوتي كما قيل أبح
ولقد أغنيتني عن مطلبي ... منك يدا ونظير لا يلح
لو دري النحاس إني بعده ... أصنع الإبريز لم يمسه قرح
لا أرى الغربة ألوت ساعدي ... ولباعي بنداك الجم سبح
طالعي بالسعد وضاح الحجي ... بك في برج الهنا والرجو ضح
ولقد بلغتني كل المنى ... بأحاديث لها في النفس سرح
نعمة منك علينا لم تزل ... يقتفي آثار هافور وربح
دمت يا شمس الهدى ما ابتسمت ... بك أفواه الدجا وافتر صبح
ما همت عين الغوادي وبدا ... بك في وجه الزمان الغض رشح
وكانت وفاته في سنة ثمان وسبعين وألف بمدينة أبي عريش من اليمن والأنبابي بكسر الهمزة وسكون النون ثم موحدة بعدها ألف فموحدة نسبة لا بنابة قرية من بحري جيزة مصر على شاطئ النيل انتسب إليها جماعة من المتأخرين ومن أشهر المنسوبين إليها الأستاذ الشيخ إسمعيل بن يوسف بن إسمعيل وربما قيل لها أبنوبة على وزن أفعولة وكأنه لما يزرع فيها من القصب فالأنبوبة ما بين كل عقدتين من القصب.(2/378)
محمد بن حسن جان المدعو سعد الدين بن حسن جان التبريزي الأصل القسطنطيني المولد والمنشأ والوفاة مفتى الدولة ومعلم السلطان مراد بن سليم أستاذ الأستاذين ورونق علماء الدنيا وأكليل تاج السعادة كان من العلم في مرتبة يعز الوصول إليها وقد وقع الاتفاق على تفرده بأنواع الفنون وأعطاه الله من العزة والحرمة والإقبال ما لم يعطه لأحد من عصره ومدح بالمدائح السيارة ورزق الأبناء الذين هم تاج مفرق الأيام وقد بلغوا في حياته الرتب التي قصر غيرهم عنها ولم يخلف أحد من الكبراء أمثالهم في نجابتهم وبسالتهم ومعرفتهم وعلوهمعهم ودانت لهم العلماء وولوا أرفع المناصب وحكى أنه قيل لوالدتهم بماذا لقى أبناؤك هذه العزة فقالت كنت لا أرضع أحداً منهم إلا على طهارة كاملة وكنت أذبح عن كل واحد في كل جمعة قريانا وبالجملة فهم فخر بلاد الروم وقد تقدم في ترجمة أبي سعيد أسعد بن سعد الدين هذا أن أول من قدم منهم إلى الروم هو حسن جان والد صاحب الترجمة ونبغ ولده سعد الدين هذا وقرأ ودأب ولزم درس المولى شيخ الإسلام أبي السعود العمادي وأخذ عنه وانتفع به ولازم منه ثم ترقي في المدارس وطنت حصاة فضله فنصبه السلطان مراد معلما لنفسه وأقبلت عليه الدنيا بكليتها ولم يبق أحد إلا إنقاد إليه وعول عليه في أمره ولما توفي السلطان مراد تسلطن بعده ابنه السلطان محمد فأبقاه معلما لنفسه أيضاً ثم ولاه الإفتاء وذكره الأديب عبد الكريم المنشي فقال في وصفه مولده دار الخلافة العلية لا زالت كاساتها من قذى الأكدار صفيه نشأبها في ظلال نوال والده متردداً بين مصادر العلم وموارده وبعد ما تحلى جيده بقلائد العلوم وعقدت في عقده عرائس المنطوق والمفهوم تجرك على الرسم العادي حتى ورد إلى منهل المولى المرحوم أبي السعود العمادي فأدار عليه على عاداته كاسات إفاداته ولم يزل متقلداً في الدروس بعقود خطابه إلى أن فاز بشرف الملازمة من جنابه وما برحت المدارس تتحلى بآثار ملكاته حتى غدت إحدى الثمان صدفا للآلي كلماته وبعد ذلك عنه استحقاقه للسلطنة المرادية معلماً وأصبح طراز ملك الدولة بوشي آرائه معلما فلما تشرف بها سرير الخلافة وانتشى الدهر إذ أدار عليه السر ورسلافه ألقى إليه المجد قيادة وأصبح جموح الدهر منقاده ودل عليه لفظ المجد صراحة وكنايه ونزلت فيه سورة السودد آية فآيه إلى أن قال وكان في عهده شمل الفضل ملتئماً وثغر العلم مبتسماً وكان العالم مستنيراً من شموس علومه وآدابه كيف لا ولا ينظم شمل الفضل إلا به وكان كريماً على الإحسان مثابراً وحكيماً لكسيراً كسير القلب جابراً تحلت الأجياد بقلائد وده وولائه وواظبت الألسنة على سور فضله وعلائه تقصر همم الأفكار عن بلوغ أدنى فواضله وتعجز سوابق البيان عن الوصول إلى أوائل فضائله وبالجملة لاتصاد عنقاء وصفة بحبائل الحقيقة والمجاز ولو تعدى الواصف الأعجاب وبلغ الأعجاز ولما أشرقت أنوار السلطنة المحمدية من فلك سريرها ورفعت في الخافقين ألوية سرورها رأى أن الكفر قد احتاج إلى ذوقة من كأسه وحرقة من جمرات بأسه فرفعت راياته خافقة كقلوب أعدائه عالية كهمم أوليائه وهو يلازمه ملازمة الشمس لإشراقها والحمائم لا طواقها وفلك الأمور يدور على محور رأيه وترتيب نتائج الفتح على مقدمات سعيه ولما أراد الله تعالى أن ينبه لحاظ سيوف الإسلام من جفونها ويوفي للنصرة ما وجب على الأيام من ديونها وتقابل الملكات والإعدام والنور والظلام فاستوت الصفوف وجردت السيوف وأطلقت أعنة أفراس الحتوف وحمي الوطيس واستوى المرؤس والرئيس وقامت قيامة الحرب على ساقها وأحدق الكفر بالإسلام إحداق الجفون بإحداقها في موقف فيه ينسى الوالد الولد توجه إلى قبلة الثبات وثبت ثبات الجبال الراسيات ولو لم تكن في ذلك الوقت وثباته وتحريضه على الحرب وفتكاته لماتور دبدم الكفر خد الإسلام ولما شفي غليل صدور المسلمين من عبدة الصلبان والأصنام فلله دره قدعم العالمين خيره وسار بالجميل ذكره فعادوا بالفتح الجليل إلى دار السلطنة العلية والعود أحمد ونظموا عقودة الإسلام بعدما تناثر وتبدد فوزع ساعات أوقاته إلى العلم والعباده وتحلى جيدة بقلادتي السيادة والسعادة إلى أن تفيأت الفتوى في ظلال أقلامه وتزينت صدور الطروس بعقود أرقامه إلى أن أفل من سماء الدنيا كوكب عمره وأودع ذلك السيف في غمد(2/379)
قبره انتهى قلت ولم أر له من الآثار إلا هذه الأبيات قرظ بها على رسالة للشيخ محمد الشهير بمجنكزي الصوفي:ه انتهى قلت ولم أر له من الآثار إلا هذه الأبيات قرظ بها على رسالة للشيخ محمد الشهير بمجنكزي الصوفي:
مجلة قد حوت معنا حلا وصفا ... من رام وصفا يراها فوق ما وصفا
فيها التصوف والعرفان مندرج ... كم من زوايا الزوايا وصفها كشفا
تعبيره كعبير وإلا داء له ... حلاوة الشهد فيه للقلوب شفا
من مشرب قادري قد بدت وهدت ... قلبا غدا عن طريق الحق منحرفا
فيها رموز من الأسرار ما أظهرها ... نشراء سمي لشيخ السادة العرفا
أذاع فيها من الأسرار ما خفيت ... كأنما هاتف في إذنه هتفا
ثم رأيت له هذه الأبيات من تقريظ لطبقات تقي الدين التسمي:
كتاب طاب تعبيراً يحاكي ... عبيراً فائحاً في الروح سار
كنشر القطر عطر كل قطر ... وكالداري فاح بكل دار
بيمن دار منه على تميم ... يليق بأن يكون تميم داري
وكانت وفاته وهو مفت فجأة في ربيع الأول سنة ثمان بعد الألف ودفن بالقرب من أبي أيوب الأنصاري رضى الله عنه.
محمد بن حسن الملقب جمال الدين بن دراز المكي الأديب المنشي الشاعر المشهور ذكره ابن معصوم فقال في حقه جمال العلوم والمعارف المتفيء ظليل ظلها الوارف أشرقت بالفضل أقماره وشموسه وزخر بالعلم عبابه وقاموسه فدوخ صيته الأقطار وطار ذكره في مناكب الأرض واستطار وتهادت أخباره الركبان وظهر في كل صقع فضله وبان وله الأدب الذي ما قام به مضطلع ولا ظهر على مكنونه مطلع استنزل عصم البلاغة من صياصيها واستذل صعاب البراعة فسفع بنواصيها إن نثر فما اللؤلؤ المنثور انفصم نظامه أو نظم فما الدر المشهور نسقه نظامه بخط يزدري بخط العذار راذ بقل وتحسد سائر الجوارح على مشاهدة حسنه المقل ولما دخل اليمن في دولة الروم أقام له رئيسها بما يحب ويروم فولاه منصب القضاء وسطع نور أمله هناك وأضاء ولم يزل مجتليا وجوه أمانية الحسان مجتنيا من رياضة أزاهر المحاسن والإحسان إلى أن انقضت مدة ذلك الأمير ومنى اليمن بعده بالفساد والتدمير فانقلب إلى وطنه وأهله وكابد حزن العيش بعد سهله كما أنبأ بذلك قوله في بعض كتبه ولما قفلت عائداً من اليمن بعد وفاة المرحوم سنان باشا وانقضاء ذلك الزمن اخترت الإقامة في الوطن بعد التشرف بمجلس القضاء في ذلك العطن إلا أنه لم يحل لي التخلي عن تذكر ما كان في تذكرة الخيال مرسوماً وتفكر ما كان في لوح المفكرة موسوماً فاخترت أن أكون مدرساً في البلد الحرام وممارسا لما آذن غب الحصول بالانضمام ولم يكن في البلد الأمين كفايه ولا ما يقوم به الإتمام والوقاية انتهى وما زال مقيماً في وطنه وبلده متدرعا جلباب صبره وجاره حتى انصرمت من العيش مدته وتمت من الحياة عدته ثم أورد له فصلاً من نثره فقال كتب من كتاب إلى بعض أصحابه ينهي المملوك أنه لا يزال ذاكراً لتلك الأيام الماضية شاكراً لها تيك الأعوام التي حلت بفضل مولانا ولا أقول مرت بمسرات لا تزال النفس لدينها متقاضية.
كم أردنا هذا الزمان بذم ... فشغلنا بمدح ذاك الزمان
أقفر الصفا من إخوان الصفا وخلا الحطيم من رضيع الأدب والفطيم وأقوت المشاعر من أرباب الإدراك والمشاعر.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وكان علم مولانا محيطا بحالي إذ كنت آنس بأولئك الجلة وأرباب المعالي فلم يبق من يداينهم فضلاً عمن يساويهم ولا من يباريهم فكيف بمن يجاريهم ولقد ذكرت هنا قول بعضهم:
دجا الليل حتى ما يبين طريق ... وخوف حتى ما يقر فريق
وجردت يا برق المنون مناصلا ... لها في قلوب المبصرين بريق
وزعزعت يا ريح الردى كل شاهق ... عليه لا نفاس النفوس شهيق
سلام على الأيام أن صنيعها ... أساء فهل لي بالنجاة لحوق(2/380)
ومن آخر كتب به إلى كاتب الحضرتين الشريفتين الحسنية والطالبيسة يعزيه بسلطان الحجاز الشريف أبي طالب سنة 1013 كتبت إليك كتب الله لك سعداً لا يزال يتجدد ومجداً لا ينقطع بانقضاء ملك إلا واتصل بملك ملكي مؤيد وإنما كتبت بدم الفؤاد وأمددت البراع سويداي وشفعها اللحظ بما في إنسانه من السواد والكون علم الله كأنما هو بحر من مداد والقلوب ولا أقول الأجساد مسربلة بلباس الحداد لا يسمع إلا الأنين ولا يصغي إلا لمن تفضح بنعيها ذوات الحنين أضحى النقع من مثار النقع كليلة من جمادى وربات الخدور يلطمن الخدود مثنى وفرادي وذو الحجي يغوص في لجة الفكر فيسمع له زفير وليث العرين كاد من صدمة هذا المصاب أن يتفطر من الزئير وشارف الحطيم أن يتحطم أبو قبيس أن يتقطم وبيت الله لولا التقي لقلت ود أن يتهدم وأخال أن الحجر أسف حيث لم يكن تابوتاً لذلك الجثمان وتندم أي داهية دهياء أصابت قطان ذلك الحرم وأي بلية نزلت بلازم أذيال ذلك الملتزم أنا لله وإنا إليه راجعون كلمة تقال عند المصائب ولا نجد لهذه المصيبة مثلاً ولم تشار كافية حزينة ولا ثكلي بأي لسان نناجي وقد أخرسنا هذا النازل بأي قلب نجاجي وقد بلغنا هذا الجد الهازل بينات نحن في سرور وفرح إذ نحن في هموم وترح أشكو إلى مخدومي ضحوة يوم شمسه كاسفه أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفه أقبل نعش لابس أثواب المرحمة بعدا لخلافة المتلقي روحه الملائكة مع الحور على الأرائك تتحفهم السلافة والأيدي ممتدة تشير إليه بالعويل والحجاج وأرباب الفجاج يضجون بالنحيب الطويل وكادت آماقنا والله أن تسيل وأضحت جلاميد القلوب كضحضاح المسيل فلم نجد شخصاً من الرعايا إلا وهو محرور وذو قرابته في الحي مسرور أنا الله من هذه الطامة التي أدهشت العامة وأذهبت الشامة ليت شعري أبعده السلاهب تركب أم الجنائب تجنب أمن المقربات تقرب أم المنابر يتلي عليها غير اسمه ويخطب وأحر قلباه ممن قلبه شيم
مضى من أقام الناس في ظل عدله ... وآمن من خطب تدب عقاربه
فكم من حمي صعب أباحت سيوفه ... ومن مستباح قد حمته كتائبه
أرى اليوم دست الملك أصبح خاليا ... أما فيكم من مخبر أين صاحبه
فمن سائلي عن سائل الدمع لم جرى ... لعل فؤادي بالوجيب يجاوبه
فكم من يذوب في قلوب نضيجة ... بنار كروب أججتها نواد به
سقت قبره الغر الغوادي وجادها ... من الغيث ساريه الملث وسار به(2/381)
فما كان إلا كلمحة طرف أو حلول حتف وقد وضع على الباب الشريف وسمع من أجنحة الملائكة حفيف وتليت ولكنت أود أن أكون المصلى ولا أكون التالي في جميع ذلك الترصيف فما ترك الرئيس لقبا من الألقاب إلا وحلاه بدره وعلمه بدره حتى كاد النهار أن ينتصف والمقل أن تسمح بالدموع وتكف ومن عدم إنصاف الدهر الخؤن أن لم يطف به سبعا وهو لمليك هذا البيت مسنون ثم ازدحم على رفع جنازته قاضي الشرع والسادة فذادوه عنها ورفعوه على أعناق السلاطين والقادة وقلت في ذلك المقام وعيناي تهمل ولا همول الغمام يعز على أن أراك على غير صهوة وأن تنادي بامرغم إلا نوف ولا تجيب دعوه وإن تحف بك الصفوف ولا تدع لكرك فيها فجوه فطالما ضرعت لك السلاطين وخضعت لك الأساطين وأرعدت الفرائض وأوهنت القلائص وحميت الحمى ولم يرعك جساس واقتنصت حتى لم تدع شادنا في كناس أولينا في افتراس فلله جدت ضمك وقد ضاقت الأرض عن علاك ولله لحد علاك وقد اتخذت نعلك من السماك وكيف بك تحل في الثرى وبالأثير ملعب جردك والسدرة مضمار إسلافك والنبوة لحمة بردك فلك بجدك في ارتقائك إلى العالم العلوي أسوه ولنا بفقدك الجزع الذي لا يعقبه سلوه فأنت لقيت الحبيب ولقينا بعدك ما يلقي الكئيب فلك البشري بلقيا ربك وترجو بك اللقيا على الكوثر وأنت فرح بشرابك وشربك ثم يا عفيف لا تسل عن نعش حفه الوقار وتقدمه الروح الأمين والملائكة الأبرار فوائح المسك الأذفر تنفح من كل جانب كأنما ينقص من غدائر خرعوبة كاعب وبالله أقسم أن طيبه تقحني وأنا في الخلوه وهم في تجهيز تلك الذات على هاتيك العلوه وحاصل ما أقص عليك من القصص أنا أودعنا في كنف الرحمن ذلك القفص وعدنا ونحن كما يقال شاهدت الوجوه حياري ولا نعلم من نؤمله ونرجوه وقد أظلم قتام العثير ودجا النقع حتى خيل لنا حياري ولا نعلم من نؤمله ونرجوه وقد أظلم قتام العثير ودجا النقع حتى خيل لنا أنه لم يكن قط صبح أسفر وحين هجوم هذا الخبر المهيل كادت البلاد تنهب لولا تسهيل بعض السادات ما صعب في التسهيل والنداء من الحاكم بالعافية وإلا عين قد امتلأت من الهاربين بالسافية وغلقت الأبواب وانقطعت الأسباب حتى والله كأن القيامة قد قامت وحقت كريمة يوم يفر المرء والأنفس قد حامت وحال بيني وبين الخلوة طريق طالما صلحت للزبا وسبيل وبيل صرت أقطعه وثبا فكل من لاقيته لا يجيب ومن كان من ورائي فكأنما هو طريد أو سليب وبعد الدفن كثرا لقال والقيل ونودي كما بلغكم وصليل السيوف منعنا المقيل وزف المنادي عصبة مشهورة القواضب مستونة الشواذب والأسواق من السكان خالية فكأنما هي خود أضحت عاطلة بعد أن كانت حالية ودور مكة كأنها وبالله أقسم دور البرامكة وكأنها لم يتغزل فيها برهة كدار عاتكة ولقد تذكرت فيها فينة الأمين وقولها كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس غير الأنين هذا وقد أطلت عليك ما ينبغي أن يقتصر فيه مع علو مكانك ومشيد مبانيك في البلاغة وأركانك والله تعالى يلهمك صبراً جميلاً على هذا المصاب ويوليك أجراً جزيلاً على فقد ذلك المليك المهاب ولا يسمعنا وإياك بعدها صوت عزاء ولا أحداً من الأعزاء ولا يحملنا مالا طاقة لنا به مثل هذا الأرزاء فو الرحمن لهو الرزء الذي كان رزء بالنسبة إليه أقل الأجزاء والسلام ومن شعره قوله في صدر كتاب:
هذا كتابك أم در بمتسق ... أم الدراري التي لاحت على الأفق
وذا كلامك أم سحر به سلبت ... فهي العقول فتتلو سورة الفلق
وذا بيانك أم صهباء شعشعها ... أغن ذو مقلة مكحولة الحدق
بتاج كل مليك منه لامعة ... وجيد كل مجيد منه في أفق
روض من الزهر والأنوار زاهية ... كأنجم الأفق في اللألاء والنمق
وذي حمائم ألفاظ سجعن ضحى ... على الخمائل غب العارض الغدق
رسالة كفراديس الجنان بها ... من كل مؤتلق يلهي ومنتشق
كأنما الألفات المائدات بها ... غصون بأن على أيك من الورق
تعلو منا برها الهمزات صادحة ... كالورق ناحت على الأفنان من حرق
ميماتها كثغور يبتسمن بما ... يزري على الدراذ يزهي على العتق(2/382)
فطرسها كبياض الصبح من يقق ... ونقشها كسواد الليل في غسق
يا ذا الرسالة قد أرسلت معجزة ... ردت بلاغتها الدعوى من الفرق
ويا مليك ذوي الألباب قاطبة ... ويا أماما هدانا أوضح الطرق
من ذا يعارض ما قد صاغ فكرك من ... حلى البيان ومن يقفوك في السبق
أنت المجلى بمضمار العلوم إذا ... أضحى قروم أولى التحقيق في قلق
صلى أئمة أهل الفضل خلفك يا ... مولى الموالي ورب المنطق الذلق
مسلمين لما قد خرت من أدب ... مصدقين بما شرفت من خلق
مهلا فباعي من التقصير في قصر ... وأنت في الطول والإحسان ذو عمق
سبحان بارئ هذي الذات من همم ... سبحان فاطر ذا الإنسان من علق
يا ليت شعري هل شبه يرى لكم ... كلا وربي ولا الأملاك في الخلق
عذرا فما فكرتي صواغة دررا ... حتى أصوغ لك الأسلاك في نسق
وأسلم ودم وتعالى في مشيد على ... تستنزل الشهب للأنشا فلم تعق
وقوله:
سلام على الدار التي قد تباعدت ... ودمعي على طول الزمان سفوح
يعز علينا أن تشط بنا النوى ... ولي عندكم دون البرية روح
إذا انسمت من جانب الرمل نفحة ... وفيها عرار للغو يروشيح
تذكرتكم والدمع يستر مقلتي ... وقلبي مشوق بالبعاد جريح
فقلت ولي من لا عج الوجد زفرة ... لها لوعة تغدو لها وتروح
ألا هلا يعيد الله أيامنا التي ... نعمنا بها والكاشحون نزوح
وقوله في صدر كتاب:
بحق الوفا بالود بالمشيمة التي ... عرفتم بها بالجود والكرم الجسم
بتلك الخصال الأشرفيات بالنهي ... بعزتك العليا على قمة النجم
بذاك المحيا الهش بالمنطق الشهي ... بما فيك من خلق رضى ومن عزم
أجرني من التكليف وأقبل تحيتي ... بتقبيل أرض لم تزل منتهى همي
فدهري من الأسهاب أمنع مانع ... ووقتي عن الأطناب أضيق من سم
وماذا عسى في الوصف يبلغ مقولي ... ولو مدت الأقلام من مدد أليم(2/383)
ووجدت الفقير في تذكرة المرشدي مما كتبه الجمال محمد دراز إلى الإمام عبد القادر الطبري سائلاً عما يرد على كلام للسبكي في الطبقات الكبرى في استخراج الملك العلقة التي في صدره صلى الله عليه وسلم مولانا الإمام الذي إليه هذا الحديث يساق الهمام الذي تشد إليه بعملات البلاغة ببدائع السياق فيسفر عن بدر فضل حسن الاتساق ودر نبل منتظم عقود الانتساق فله السلف الذين تتنازل الثريا دون مقاماتهم الرفيعة وينحط الأثير عن مكاناتهم التي هي للفخار شفيعه على إنه العصامي الذي به تفتخر الأبناء وتتبختر في مطارف سودده الأعمام والأصناء فالمزني لا يباري جود مزنه والرازي أضحى رزية من حزنه هدانا الله تعالى به إلى سواء السبيل وأغنانا بسلسال فوائده عن رقراق السلسبيل قال السبكي سمعت الوالد يقول وقد سئل عن العلقة السوداء التي أخرجت من قلب النبي صلى الله عليه وسلم في صغره حين شق فؤاده وقول الملك هذا حظ الشيطان منك أن تلك العلقة التي خلقها الله تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها فأزيلت من قلبه صلى الله عليه وسلم فلم يبق فيه مكان قابل لأن يلقى الشيطان فيه شيئاً قال هذا معنى الحديث ولم يكن للشيطان فيه صلى الله عليه وسلم حظ قط وإنما الذي نفاه الملك أمر هو في الجبلات البشرية فأزيل القابل الذي لم يكن يلزم من حصوله حصول القذف في القلب قال فإن قلت فلم خلق هذا القابل في هذه الذات الشريفة وكان يمكن أن لا يخلق فيها قلت لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية فحلقه تكمله للخلق الإنساني فلا بد منه ونزعه أمر رباني طرأ بعده انتهى كلام السبكي أقول يعارض هذا بختانه صلى الله عليه وسلم فخلقه تكملة للخلق الإنساني ولا شك إن بقاءه على تلك الفطرة الإنسانية ثم أزلتها بعد ذلك فيه تعليم للخلق باتباعه فإن قلت ثم فارق وهو القابل الذي تؤثر فيه الوسوسة قلت الأكمل والأشرف عدم خلق القابل كعدم خلق القلفة وسلامته من الانزعاج الذي حصل له عند شق الملك صدره خصوصاً في أوان سن الطفولية فالمسؤل خلاصكم للسبكي والخلاص من شباك سيدنا السبكي ولمولانا مناسبة بهذا الفن موروثه وفي البقية درر على طنافس الفضل مبثوته والسلام فأجابه الطبري مولانا الذي إليه مطايا آمال إلا فاضل تزجى ومن سحائب سماء فضله الغيوث المغدقة تؤمل وترجى فيهطل يواكف ترفع لتلقيه الأكف المبسوطة وتتألق عن بارق يضيء به مظلم وجه الأرض البسيطة ويرعد بما ينتجع إليه إذا سمع ثقة بوعده ويشرق بذكاء ذكاء أكسبت البدر ساطع ضيائه وطالع سعده ويرهف سمهري القلم في كتيبة الكتابة بالمداد الأسود والأحمر ويرعف عضب اللسان في معرك المناظرة والمناضلة فتال مالم ينله اللدن الأسمر أمام البلاغة رب الكلمات المصاغة دامت فرائد فوائده عقود اللنحور واستمرت وطفاء غيثه ممدة للبحور وافى المشوق المشرف المدبج المفوق فوقفت له أقدام الأفهام حياري وأضحت تاليه وترى الناس سكارى وما هم بسكاري غير أنها درأت ما ألم بها بارتشاق سلسبيله واستضأت بمصباحه لسلوك سواء سبيله فرأيت بعد التكلف في التوفيق بين عبارة مولانا وبين مراده أنه لا معارضة بما أشار إليه من ختان من منح الله تعالى الخلق بإسعافه وإسعاده أما أولا فلانهم اختلفوا في أنه هل ولد مختوناً أو إنه ختن بعد ولادته وقد قال بكل من القولين طائفة فأما على القول الثاني فلا اعتراض بالمعارضة المذكورة وأما على الأول فالكلام في جزء من الخلقة البشرية من الأجزاء الشريفة التي لا تمكن الحياة بدونها في العادة فإنها هي المكملة للخلقة في الحقيقة وأما القلفة فهي كالأظفار والشعور مما لا يترتب على وجود ما يترتب على مثل العلقة المستكنة في ذلك الموضع بالنسبة إلى الحياة وأيضاً الكلام فيما يترتب عليه الأحكام فإن العلقة حيث كانت محل وسوسة الشيطان في البشر ربما يترتب عليه عدم الإيمان عياذا بالله ولا كذلك القلفة وأيضاً خلق القلفة وإزالتها بعد ذلك قد وقع لغيره صلى الله عليه وسلم كإبراهيم عليه السلام فلو وجدت فيه صلى الله عليه وسلم ثم أزبلت لم يكن في ذلك كبير مزية بخلاف الشق المذكور وإخراج العلقة المذكورة نعم يرد على كلام السبكي حيث قرر إنه لم يكن للشيطان منه صلى الله عليه وسلم حظ وأن خلق العلقة فيه لتكميل الخلق أنه لا معنى لإزالتها بعد ذلك حيث لم تكن منه صلى الله(2/384)
عليه وسلم مظنة له فلا يتم حينئذ ما قرره على ذلك النمط هذا ما لاح ودعا إليه داعي الفلاح قلت فيه بعض مناقشة أما نقله الاختلاف في كونه ولد مختونا فلم يكن إلأيه داع إذ الأشكال إنما هو وارد على مقابله فلا معنى لنفي الاعتراض ودعوى كون العلقة من الأجزاء التي لا يمكن بقاء الحياة بدونها ممنوعة وما أورد على كلام السبكي ليس بوارد عليه فإن في إزالتها مع منع الشيطان عنها حكمة هي قطع طمع وصوله إليه والله أعلم بالصواب ولقد فحصت عن وفاة صاحب الترجمة فلم أظفر بها وقد علم أنه كان في سنة اثنتي عشرة وألف موجود أو ما عاش بعدها كثيراً رحمه الله تعالى. وسلم مظنة له فلا يتم حينئذ ما قرره على ذلك النمط هذا ما لاح ودعا إليه داعي الفلاح قلت فيه بعض مناقشة أما نقله الاختلاف في كونه ولد مختونا فلم يكن إلأيه داع إذ الأشكال إنما هو وارد على مقابله فلا معنى لنفي الاعتراض ودعوى كون العلقة من الأجزاء التي لا يمكن بقاء الحياة بدونها ممنوعة وما أورد على كلام السبكي ليس بوارد عليه فإن في إزالتها مع منع الشيطان عنها حكمة هي قطع طمع وصوله إليه والله أعلم بالصواب ولقد فحصت عن وفاة صاحب الترجمة فلم أظفر بها وقد علم أنه كان في سنة اثنتي عشرة وألف موجود أو ما عاش بعدها كثيراً رحمه الله تعالى.
محمد بن حسن المعروف بابن تركمان حسن التركماني الأصل الدمشقي من أعيان جند الشام وسراتهم وكان شجاعاً عاقلاً مهذباً حسن الأخلاق معاشراً سخي النفس كان والده كتخذا الجند الشامي وسكن في محله باب المصلى وأنشأ داراً عظيمة وهي الآن أكبر دار بدمشق ورزق أولاد كثيرة وكان صاحب الترجمة عينهم وأنبلهم وأوجههم صار أولا من آحاد الجند بالشام واشتهر بالفروسية وينقل عنه فيها أشياء غريبة جداً منها أن الحافظ نائب الشام كان قصد أن يميز بينه وبين كنعان الكبير المشهور بالفروسية والشجاعة فخرج بهما إلى ميدان الوادي الأخضر وأمر أن يوضع تحت قدم كل واحد منهما فوق ركابه وهو راكب درهم وأمرهما بالسباق فما برحا يتسابقان من بعيد الظهر إلى قبيل الغروب ثم استدنا هما ونظر إلى الدرهمين فوجد الذي كان تحت قدم كنعان قد وقع والذي تحت قدم محمد باقياً في المكان الذي وضع فيه فأنعم عليه وقربه وبلغ من ثم الشهرة البالغة واختلط بالعقلاة وعاشر الفضلاء ثم صار بلوكباشي وولي السر دارية بباب قاضي القضاة وخدم المولى مصطفى بن عزمي قاضي القضاة بدمشق وعاشره فاكتسب من آدابه ثم سافر مع والده إلى بلاد العجم في زمن السلطان أحمد ولما دارت رمن الحرب بين الفريقين طرح بعض الأعاجم أباه فخلصه محمد منه وقتل عدو والده لكنه أصيب في عينه بهم أصابه وأتفق له إنه سافر إلى روان في بلاد العجم أيام السلطان مراد فوقع له ما وقع لأبيه وقبض عليه بعض الأعجام فخلصه ثاني أولاده وأشجعهم موسى الذي صار آخر أمير الحاج وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ثم رجع إلى دمشق وصار كتخذا الجند في سنة ثمان وأربعين وألف ولما ولي حكومة الشام عثمان باشا جفتلر لي عزله وحبسه في قلعة دمشق ثم أطلقه بشفاعه شيخ الإسلام محمد البهائي قاضي الشام وجعل له علوفة في الخزينة الشامية ثم صار يياباشي وعظم قدره بين العسكر وصار كبيرهم وصار أولاد بلوكباشيه وأخواه بياتا شيين وطنت حصاة شهرتهم في الآفاق وكانوا في الجملة زينة المواكب وربما أنهم كانوا مع توابعهم ولو أحقهم يقاربون ربع العسكر وسار إلى الحج سردارا سبع مرات ثم بعد أن قتل عبد السلام السابق ذكره تنزل عن سموة وانفرد بين العسكر ولم يبق من أقرانه أحد وأصيب بولدين كانا أنجب أولاده وهما رجب وخضر وأخذ منه مال كان لزمه من مال المقاطعات التي بيده ونفدت جميع عقارته وأمواله وغدر به الزمان فبقي منزويا إلى أن مات وكانت ولادته في سنة أربع وتسعين وتسعمائة وتوفي في سنة إحدى وسبعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير عند أبيه تجاه دارهم بالقرب من المصلى.(2/385)
الإمام محمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد بن علي قال القاضي أحمد بن أبي الرجال في ترجمته قائد الحجافل وواحد المحافل السلطان المسعود وإنسان الإعلام المحمود كان سريا حولا قلبا حنكته التجازب وعرف المصادر والموارد وصحبته السعادة في الصغر والكبر ولم يزل حميداً في الحالين واستمرت أيامه على نمط واحد غير مالا بدمنه في أوائل العمر من الوقوف في الكتاب للقراءة وأما مذ أميطت عنه التمائم فما هو إلا مسود مقدم محفوف بالجنود والبنود تولى صعدة ونواحيها وماذر الشعر بعارضيه فحمدت سيرته واتصل به الفضلاء ووفد إليه الأخبار ونكى الأعداء في ذلك الأقليم على شراستهم وأبائهم وغزاً مغازي محمودة الأثر وقرأ في أثناء هذه المدة أكثر الكتب المعتمدة على شيوخ كالقاضي أحمد ابن يحيى بن حابس والفقيه صديق بن رسام السوادي وما ترك من مهمات العلوم فتا إلا وابلغ جهده في الطلب وقيلت فيه المدائح الغر أيام إقامته بصعدة وأجاز الجوائز السنيات ولما توفي والده وكان صاحب الترجمة يومئذ آبياً من زيارته إلى عمه الإمام المؤيد بالله محمد بن القسم فلما بلغ الإمام مرضه نفذه إلى جهة ضورات فوقفه في الديار اليمنية متردداً بين ضورات وذمار ثم سكن مدينتي آب وذي جيله وجمع جنداً جراراً من وجوه العسكر وكبراء الأمراء من أعيان دولة أبيه حتى توفي الإمام المؤيد فدعا صاحب الترجمة إلى محمد الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القسم سلم الأمر طوعا له على يد أخيه السيد أحمد بن الحسن وولاه الإمام ولاية عظمى في أقاليم وحصون ومدن فاستمر على خال حميدة محفوفاً بعساكر يضيق عنها الرحب في رفاهية ودعة لما له من الإسعاد واستمر حاله كذلك على نمو وازدياد من حدود سنة أربع وخمسين إلى سنة تسع وسبعين وكان يجعل شطر الإقامة أيام بذمار واليمن الأسفل وشطرها بصنعاء كما كان يفعل طاوس الفقيه من الإقامة الشتاء بالجند وأيام الربيع وما وراءها بصنعا وقرأ في هذه المدة المتأخر تذكرة العلامة النحوي على علامة اليمن محمد بن صلاح السلامي وكملها على أحمد بن سعيد الهبل وقرأ الفصول اللؤلؤية على إبراهيم السحولي ومن مؤلفاته سبيل الرشاد إلى معرفة رب العباد مختصر مفيد في علم الكلام وشرح مرقاة الوصول إلى علم الأصول لجده الإمام القاسم سماه بالتسهيل وجواب مبسوط في حديث ستفترقي أمتي سأله عنه العلامة أحمد بن مطير الشافعي وفي سنة تسع وسبعين طلع من اليمن إلى صنعاء وصادف قدوم عمه الإمام اسمعيل من شهار متوجها إلى ضوران فامتلأت الساحات بالخلائق وامتلأت القلوب بالمسرة فما كان أسرع من أن أصابه ألم أحسبه ذات الجنب واختار الله له جواره بداره بدرب السلاطين من أعمال الروضة في الثلث الأول من ليلة الخميس ثامن عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين وألف فاجتمع السادات بداره والإمام هنالك ودفن بقرب داره وكان الخطب جسيما لولا حضور الإمام فإنه جبر الخواطر واشتغل بصلاح شأن أولاده وعرض عليهم الولاية وحاول أن أخاه السيد أحمد بن الحسن يلم الشعث ويحفظ البلاد والجند فعف عن البلاد قبل أن يعرف الإمام قدرها فتأخر عن الجميع وبقي أولاد محمد بن الحسن وهما يحيى وإسمعيل بعد أن بعد صيتهما وذكرا في الناس ذكر آبائهما وقد كانا توليا ولايات من والدها فلذلك كان مقامهما قد كبر فاختار الله ليحيى جواره وكان قد ناهز الأشد ومهر في علم الطب خصوصاً ولما مات بقي في يد أخيه إسمعيل جهة العدين من مخلاف جعفر فتوجه إليها عن أمر الإمام فلم يصل إليها إلا وقد ألم به الألم وتوفي في مذيحزة فكان ذلك أنكى للقلوب وأبكى للعيون فسبحان من له البقاء والدوام ولما كان ذلك كذلك أوت العساكر إلى أخيه أحمد بن الحسن وأعطاه الإمام إلى بلاده بلاداً فاستوثق الأمر وانتظم ونظمت في صاحب الترجمة المراثي البليغة ووصلت التعازي إلى الإمام من مكة وممن رثاه ولده إسمعيل وذكر في مرثيته الحال وذكر صنوه يحيى وما أجد أوقع في النفوس منها لأنها عين الحقيقة ولا كلفة فيها وعليها مسحة الحزن ورب شاعر يشعر ويجيد ولا نجد تلك المسحة على غيرها من مرثية أو موعظة أو غزل وأما هذه فانظر بقلبك وهي:
هل أقال الموت ذا حذره ... ساعة عند انتها عمره
أو تراخي عن كحيل رنا ... فاق كل الغيد في حوره(2/386)
أو رثي يوماً لمرضعة ... طفلها ما دب في حجره
أو تراه هائياً ملكاً ... صائلا قد عزفي نفره
أو تناسي من له نظر ... تصدر الأشياء عن نظره
أو تحامي روح سيدنا ... مصطفى الرحمن في بشره
وأبي السبطين حيدرة ... وكبار الآل من عتره
بل دهي من كان منتظراً ... قر به أو غير منتظره
وسقاه كأس سطوته ... مدهقاً من كف مقتدره
ما ترى عن الأنام ثوى ... حفرة إذ آب من سفره
لم يقم في قصره زمنا ... غير وقت زاد في قصره
بعد ما قد كان عزته ... ترشد الساري إلى وطره
وندى كفيه منهمراً ... مذهلاً للروض عن مطره
كان طوداً لا يحركه ... أي خطب جل في خطره
كان بحراً طالما التقط الطالب ... المحتاج من درره
شادركن الدين ملتما ... لرضى الرحمن من صغره
وحوى الدنيا وديدنه ... طلب الأخرى إلى كبره
فسقي الرحمن تربته ... صبياً ينهل في سحره
وعماد الدين أزعجه ... بعده يغدو على أثره
لم ينل في العمر بغيته ... لا ولا أفضى إلى وطره
لم يذق في دهره أبداً ... صفو عيش صين عن كدره
ما أراه الدهر مطلبه ... ليته أخلاه من غيره
رحم الرحمن مصرعه ... ووقاه الحر من سقره
كيف أنسى شمس مفخرنا ... وأرى السلوان عن قمره
فهما قد أضر ما لهبا ... في فؤادي طار من شرره
وأسالا مدمعا بخلت ... أدمعي دهراً بمهمره
لا أفي يوماً بحقهما ... لو أسلت الروح عن قطره
غير أن الصبر شيمة من ... صوب الرحمن في قدره
لينال الأجر منه إذا ... ذاق طعم الصاب من صبره
نسأل الرحمن خاتمة ... برضا الرحمن في صدره
ورثاه الشيخ البليغ صارم الدين إبراهيم الهندي المهتدي بقصيدة فجيعة منها:
قضى الفخار فلا عين ولا أثر ... وأحلو لك الخطيب لا شمس ولا قمر
أمهبط الوحي ما هذا الذي صنعت ... يد القضاء وماذا أحدث القدر
وما الذي مادت الدنيا لصدمته ... تفجعا وتوارى النجم والشجر
وما الذي منه ماج الكون واضطربت ... له الجبال وريع الراد والسحر
وما الذي جزر البحر الكهام له ... واستشعر الحشر منه البدو والحضر
يا ناعي الجود والمجد الأثيل صه ... فإذا زعمت لفيك للترب والحجر
أفق فان جتاح الجيش منخفض ... مما ذكرت وقلب الملك منكسر
مهلاً رويدك فيما قد صدعت به ... دهياء يذهب منها السمع والبصر
مات الإمام أبو يحيى وحسبك من ... رزية تتحامي حرها سقر
مات الذي كان للوراد منتجعا ... وللعفاة إذا ما أخلف المطر
مات المليك الذي كانت موارده ... للواردين عذاباً ما بها كدر
هدت مباني المعالي يوم مصرعه ... ومربع المجد والعلياء مندمر
وأقلعت يالعمري من أنامله ... سحب شآبيبها الأبريز والبدر
وغاض بحر علوم منه كم حفظت ... مسائل هن في جيد العلي درر
وكان في صدره حلم يحقر ما ... يجي المسيء ولكن لات يقتصر
من للرعيل وللخيل العتاق ومن ... يزهر لديه بها التحجيل والغرر
ومنها:(2/387)
لم أنس نعشا له أمست تشيعه ... الأفلاك والشهب والأملاك والبشر
ومن دعاء أمير المؤمنين له ... وسيلة وهي الزلفاء والظفر
طود تحمله ظهر السرير وما ... تحملت جبلا من قبله السرر
ومنها:
يا أيها الملك المولى الخليفة يا ... من بقاه لنا المأمول والوطر
تعز في عز دين الله سيفك من ... كانت به تزهر الآصال والبكر
وآس فيه أخاه الأحمدي وقل ... يا أحمد القوم أنت الصارم الذكر
وشد أزر عماد الدين خير فتى ... له مخائل فضل كلها غرر
وآسى أيضاً ضياء المكرمات تجد ... مهذباً طاب منه الخبر والخبر
محمد بن حسن بن علي بن محمد المعروف بالحر العاملي الشامي الأديب المشهور ذكره ابن معصوم في السلافة فقال في حقه له شعر يستلب نهى العقول بسحره ويحل من البيان بين صدره ونحره فهو أرق من خصر هيفاء مجدولة وادق وأصغي من صهباء يشعشعها أغن ذو مقلة مكحولة الحدق قدم مكة في سنة سبع أو ثمان وثمانين وألف وفي الثانية منهما قتلت الأتراك بمكة جماعة من العجم لما اتهموهم بتلويث البيت الشريف حين وجد ملوثاً بالعذرة وكان صاحب الترجمة قد أنذرهم قبل الواقعة بيومين وأمرهم بلزوم بيوتهم لمعرفته على ما زعموا بالرمل فلما حصلت المقتلة فيهم خاف على نفسه فالتجأ إلى السيد موسى بن سليمان أحد أشراف مكة الحسنيين وسأله أن يخرجه من مكة إلى نواحي اليمن فأخرجه مع أحد رجاله إليها قلت وهذه القصة التي قد ذكرها أفضح فضيحة وما أظن أن أحداً ممن فيه شمة من الإسلام بل فيه شمة من العقل يجتري على مثلها وحاصلها أن بعض سدنة البيت شرفه الله تعالى أطلع على التلويث فأشاع الخبر وكثر اللغط بسبب ذلك واجتمع خاصة أهل مكة وشريفها الشريف بركات وقاضيها محمد ميرزا وتفاوضوا في هذا الأمر فانقدح في خواطرهم أن يكون هذا التجري من الرفضة وجزموا به وأشاروا فيما بينهم أن يقتل كل من وجد فمن اشتهر عنه الرفض ووسم به فجاء الأتراك وبعض أهل مكة إلى الحرم فصادفوا خمسة أنفار من القوم وفيهم السيد محمد مؤمن وكان كما أخبرت به رجلاً مسناً متعبدأً متزهداً إلا أنه معروف بالتشيع فقتلوه وقتلوا الأربع الآخر وفشا الخبر فاختفى القوم المعروفون بأجمعهم ووقع التفتيش على بعض المتعينين منهم ومنهم صاحب الترجمة فالتجأ وإلى الأشراف ونجواً ورأيت بخط بعض الفضلاء أن صاحب الترجمة رجع بعد القصة إلى العجم وأنشده من شعره قوله:
فضل الفتى بالجود والإحسان ... والجود خير الوصف للإنسان
أو ليس إبراهيم لما أصبحت ... أمواله وقفاً على الضيفان
حتى إذا أفنى اللهي أخذ ابنه ... به للذبع والقربان
ثم ابتغى النمرود إحراقاً له ... فسخا بمهجته على النيران
بالمال جاد وبابنه وبنفسه ... وبقلبه للواحد الديان
أضحى خليل الله جل جلاله ... ناهيك فضلاً خلة الرحمن
صح الحديث به فيالك رتبة ... تعلو بأخمصها على التيجان
أصل هذا حديث قدسي رواه أبو الحسن المسعودي في أخبار الزمان قال إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام إنك لما سلمت مالك للضيفان وولدك للقربان ونفسك للنيران وقلبك للرحمن اتخذناك خليلاً ومن شعره قوله:
يراكم بعين الشوق قلبي على النوى ... فيحسده طرفي فتنهل أدمعي
ويحسد قلبي مسمعي عند ذكر كم ... فتذكو حرارات الجوى بين أضلعي
وقوله موريا بلقبه:
قلت لما لجئت في هجو دهر ... بذل الجهد في احتفاظ الجهول
كيف لا أشتكي صروف زمان ... ترك الحسر في زوايا الخمول
قلت للشعراء المتقدمين أشعار كثيرة تتعلق بأسمائهم وألقابهم من ذلك قول السراج الوراق:
بني اقتدى بالكتاب العزيز ... فزاد سروراً وزدت ابتهاجاً
فما قال لي أف في عمره ... لكوني أبا ولكوني سراجا
وقول الشهاب الخفاجي:
قالوا نراك سقطت من رتب ... أترى الزمان بمثل ذا غلطا(2/388)
قلت الشياطين اللئام علوا ... ولذا الشهاب من العلي سقطا
ورأيت للحر هذه الأبيات وفيها لزوم مالا يلتزم فأثبتها له وهي:
لاح وجه من ربع ليلى جميل ... وركاب الركاب والركب ميل
بعدما كاد أن يلم بنا اليأس ... فزاد الرجاء والتأميل
وظننا الحبيب لاح وقلنا ... ذاك ما تشتهي النفوس فيلوا
ذلك السؤل والهوى والأماني ... للبرايا والقصد والمأمول
حدثونا فذا حديث عجيب ... حسن مجمل رواه جميل
كل دمع فرض على كل عين ... وعلى العيش وخدها والزميل
ثم ملنا إلى ربيع ربوع ... نحوها أنفس الجماد تميل
وكأن السهاد للقوم كحل ... وكان الطريق للقوم ميل
بي نقص من الكمال ومنهم ... للمحب التتميم والتكميل
كل حي في ذلك الحي نشوان ... هوى وهو عامل معمول
عمهم يا ابن عمي من ألم الحب ... عموم من الهوى وشمول
كلهم عاشق يميل ومعشوق ... أمالته من هواه شمول
كل شخص منهم بدا قلت هذا ... مستمال في الحب بل مستميل
كل من مات في الهوى أكسبوه ... شهرة ليس يعتر بها خمول
من رآهم في النوم أو يقظة هام ... وأَضحى ودمعه مهمول
جنة قد تجمعت في حماها ... شهوات النفوس والمأمول
كم بتلك المحامل استأسروا ... قلباً غدا وهو في الحمال حميل
حملوه وحملوه البلايا ... في الهوى فهو حامل محمول
بعدوا بالحمول عنا فلم تبق احتمالاللقرب تلك الحمول
وقوله:
وغانية شكل العروس بوجهها ... يقيم عليها لحظها كل برهان
يبين خداها لنا بإشارة ... إلى رابع الأشكال أوضح تبيان
بسالفها مع حاجبيها بدت لنا ... براهين أشكال تشير إلى الثاني
وحاجها للحسن شكل متمم ... فياليته مقرون حسن بإحسان
وقوله:
قد كنت أستنشق من مطلكم ... عرف شذا خيبة آمالي
فالآن قد بان بتصريحكم ... إني لنيران الجفا صالي
إني رأيت اليأس عزا وفي ... كل رجاء نوع إذلال
رجاؤكم غل وها أنتم ... أطلقتم عني أغلالي
والمال ظل حائل زائل ... لا در در الجامع المال
في مذهب المجدو دين العلي ... سيان إكثاري وإقلالي
وله غير ذلك وكانت وفاته باليمن أو العجم في سنة تسع وسبعين وألف.(2/389)
محمد بن حسن القسطموني الأصل القسطنطيني المولد المعروف بحسن زاده أحد أفاضل موالي الروم ثم أخذ طريق مولانا خدا وندكار وصار شيخا براويتهم بالقاهرة كان من السراة النجارير وله شهرة بالفضل طنانة وكان شاعراً بليغا له بالتركية أشعار كثيرة ونظم الشعر العربي وله مخلص على طريقة شعراء الروم وهو شفائي نشأ في تربية أبيه وكان أبوه في الذروة العالية من العلم وهو أستاذين أخذ عنه كثير من العلماء ومنهم ولده هذا وبه برع واشتهر صيته من حين بلغ الحلم ثم لازم من شيخ الإسلام يحيى زكريا وأخذ طريق الخلوتية عن الشيخ العارف بالله تعالى عبد المجيد السيواسي ولازمه مدة وحكى عن السيواسي إنه قال سوف يحصل لهذا وعناه فيض في طريق الصوفية وكان الناس يعجبون من قوله لأنه كان في أوائله متهما ببعض المنكرات ثم درس بمدارس قسطنطينية إلى أن وصل إلى مدرسة السلطان سليم القديم واستمر مدرسا بها ستة أعوام لعذر حصل له ثم نقل إلى السليمانية وولي منها قضاء ازمير برتبة المدينة المنورة ثم ولي قضاء أيوب برتبة بروسه ولما صار المولى حسين الرمال معلماً للسلطان إبراهيم وكان أولا من جملة طلبة صاحب الترجمة نهض به الحظ وصار مرجعاً في المهام وأعطى قضاء الغلطة برتبة أدرنه ونقل إلى مصر فأقام بها ثلاثة أشهر وعزل ولما ولي البهائي الإفتاء كان له به علاقة كلية من حالة الصفر واتحاد تام قصيرة قاضياً بالشام في سنة ستين وأقام بها ثمانية عشر يوماً ثم أعطى قضاء مصر ثانياً ثم عزل وجاء إلى دمشق وأقام بها مدة أربع أشهر وكان قصد أن يحج فما تيسر له وأعيد البهائي إلى الفتيا فوجه إليه رتبة قضاء قسطنطينية ثم ولي قضاءها استقلالا في سنة ست وستين وأعطى رتبة قضاء العسكر بأنا طولي ثم ارتحل بنية الحج ولما وصل إلى قونية أخذ طريق المولوية عن ابن مولانا ولبس تاجهم وقدم إلى دمشق في سنة إحدى وسبعين وسار إلى الحج مع الركب الشامي وعاد إلى مصر صحبة ركبها وألقى بها عصاتر حاله وأعرض عن الدنيا واستوطن مصر واشترى بها دار أو باع داره التي بقسطنطينية بمحلة السلطان سليم وطلق زوجته التي بالروم ولازم على العبادة وإلا وراد ولم يزل بمصر إلى أن مات وكان بينه وبين أبي محبة وصداقة وكانت رسائل كل منهما لا تنفك عن الآخر ومنشأته بالتركية في غاية اللطافة وأما آثاره العربية فلم أرله منها إلا هذه الأبيات كتبها على مؤلف للقاضي عمر المغربي المالكي خليفة الحكم بمصر سماه المصابيح على الجامع الصحيح وهي:
كتاب لأنواع المسائل جامع ... وجمع لاشتات المباحث نافع
وفيه لطلاب الحديث كفاية ... كما فيه للشيخ النبية منافع
جزى ربنا خير الجامعة غدا ... بإذن لمن يوم الجزا هو شافع
عليه السلام التام منه وآله ... وأصحابه ما دام يشفع شافع
وكانت ولادته سنة أربع عشرة وألف وتوفي بعد الخمس والثمانين بقليل رحمه الله تعالى.(2/390)
السيد محمد بن حسن الشهير بابن عجلان الحسيني الشافعي الدمشقي نقيب الأشراف بدمشق كان غزير الفضل فصيح العبارة حسن الفهم كثير المحفوظ وله في التفسير يد طائلة اشتغل على الشمس محمد بن محمد العيثي وعلى الشيخ منصور السطوحي الصابوني وأخذ عن جماعة وحصل ودأب ثم ولى نقابة الأشراف في سنة إحدى وثمانين وألف وعزل بعد مدة فارتحل إلى الروم وولى المدرسة السليمية ورجع وتملك داراً بالقرب من الشيخ عمود داخل باب الجابية وسكنها ولما مات السيد محمد بن حمزة نقيب الشام نهض به حظه فكان تارة بلى النقابة وتارة يعزل إلى أن استقل بها مدة وروجع في الأمور كثيراً وكان كامل العقل خبيراً بما يصنع ونفذت كلمته عند الأعيان وأرباب الحكومات وولي نيابة القضاء وقضاء المواريث ووقع في آخر أيامه أن رجلا سب النبي صلى الله عليه وسلم وتعصب جماعة في تبرئته وأرادوا أن يرغموا الشهود في كتم الشهادة فقام بهاذ الأمر وأثبت عليه السب عند القاضي فقتل وكان ذا مفاكهة عذبة ممتعاً في حديثة وتملك كنا كثيرة واقرأ التفسير في السليمية والبخاري في بيته وكان كثير المطالعة لا يمل من البحث ولا يفتر عن المذاكرة وبالجملة فقد كان من الميزين في الفضل وكانت ولادته في سنة وثلاثين وألف وتوفي بكرة نهار الاثنين ثامن عشر المحرم سنة ست وتسعين وألف ودفن بمدفن خاص بهم بالقرب من مسجد الذبان وكان آخر درس أقرأه في تفسير سورة مريم قوله تعالى وإذا مت فسوف أبعث حيا ويخلف ذكرا وبنو عجلان طائفة بالشام مشهورون بصحة النسب وإسلافهم كانوا قدموا من مصر وسكنوا بزاوية الرفاعية بمحلة ميدان الحصي وهي الزاوية المعروفة بزاوية شيخ المشايخ عند مزار سيدي حسن بن الرفاعي وهي زاوية كبيرة فسيحة وكانت خربت بسبب فتنة صدرت في أواخر دولة الجراكسة في سنة عشرين وتسعمائة وذلك أن السلطان الغوري أرسل حاكماً إلى دمشق يقال له النائب وكان بها حاكم غيره فما أراد تسليمه فتحصن النائب المذكور في زاوية ابن الرفاعي المذكور فرمى نائب القلعة على الزاوية بأحجار المدافع الكبيرة فهدايون الزاوية قاله البوريني والله أعلم.
محمد بن حسن بن أحمد بن أبي يحيى الكواكبي الحلبي الحنفي مفتي حلب ورئيسها والمقدم فيها في الفنون النقلية والعقلية مع سعة الجاه والمال وشهرة الصيت والأناة والحلم وكان أعظم رجل جمع كل صفة حميدة وألم بكل منقبة سامية انتهت إليه مكارم الأخلاق والبشاشة وصدق الوعد وكان مع علمه الزاخر وعلو سنة وقدره لين قشرة المعاشرة مخالطا يحضر مجالس المداعبة والغنا ويقول رب معصية أو رثت ذلا وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً نشأ بحلب وأخذ بها عن جمع من محققي عصره منهم الشيخ جمال الدين البابولي وجد كثيراً حتى نال الرتبة العظيمة وكان حديد الفهم سريع الأخذ للأشياء الغامضة حكى أنه دخل يوماً إلى مجلس النجم محمد بن محمد الحلفاوي خطيب حلب فسأله عن مسئلة في الأصول فلم يدرها وكان النجم قصد أن يظهر زيفه ويعرف أنه لم يشتغل في الأصول فقام من المجلس وانفرد بنفسه مدة في دارة وانكب على مطالعة الأصول حتى عرف من نفسه أنه حصله وأخذ بأطرافه ثم ذهب إلى النجم وناطره في مسائل كثيرة من هذا العلم فأربى عليه وشهد له النجم بمعرفته وكان النجم المذكور في هذا العلم ممن لا يدرك شأوه وما زال بعد ذلك يترقي في الفضل حتى انفرد وولي إفتاء حلب وتصدر بها وأفاد ودرس وألقت إليه علماؤها أعنة التسليم وتواتر خبر فضله وبلغني أن السيد عبد الله بن الحجازي المقدم ذكره كان طالب من الوزير الفاضل أيام انضمامه إليه أن يشفع له في منصب الفتيا عن الكواكبي عند شيخ الإسلام يحيى المنقاري فلما فاوضه الوزير في ذلك قال له المنقاري إذا عزل الكواكبي نضطر إلى أن نوجه إليه منصباً يليق به ولا يليق به إلا منصبي وقصد بذلك أن يكف الوزير عن هذا الأمر فلم يذكره له بعد ذلك وبقيت عليه الفتوى إلى أن مات وألف المؤلفات العديدة منها نظم الوقاية في الفقه وشرح نظمه شرحا مفيداً وله نظم المنار وشرحه في الأصول وحاشية على تفسير البيضاوي التزم فيها مناقشة سعدى وأخرى ناقش فيها عصام الدين وحاشية على شرح المواقف للسيد وغير ذلك من التحريرات وله نظم ونثر في غاية اللطافة فمن شعره قوله:(2/391)
أورقاء عن عهد الحبيب تترجم ... ليهنك ألف بالغرير مخيم
لئن تندبي ألفا وماشط حيه ... فإني على شط المزار متيم
وهب سجعك الموزون باللحن مطرب ... فدمعي أو في صامت يتكلم
لكي مثل في العندليب وسجعه ... ولي بالفراش الشبه والفرق يعلم
وقوله:
يا أيها البدر المنير إذا بدا ... وإذارنا يا أيهذا الريم
ومعلم الغصن الرطيب تمايلا ... رق النسيم لها فكاد يهيم
كم ذا تموه عن صبابة عاشق ... صب على طول الصدود مقيم
فارحم ضنى جسدي وحسن تصبري ... وأرع الجميل فما الجمال يدوم
وله هذا المفرد:
فلا تعجبوا من لكنة في لسانه ... فمن خلو فيه لا يفارقه الحرف
وهذا المعنى أصله بالتركية وكنت عربته قبل أن أرى بيت الكواكبي بقولي:
ما لكنة فيه تشين وإنما ... تأبي الحروف فراق شهد لسانه
ولكواكبي مضمنا بيتي أبي العباس المرسي:
حتام في ليل الهموم ... زناد فكرك تقتدح
قلب تحرق بالأسى ... ودموع عين تنسفح
أرفق بنفسك واعتصم ... بحمى المهيمن تنشرح
وأضرع له أن ضاق عنك ... خناق حالك تنفسح
ما أم ساحة جوده ... ذو محنة إلا منح
أو جاءه ذو المعضلات ... بمغلق إلا فتح
فدع السوى وانهج على ... بهج السوى المتضح
واسمع مقاله ناصح ... إن كنت ممن ينتصح
ما تم إلا ما يريد ... فدع مرادك وإطرح
وأترك وساوسك التي ... شغلت فؤادك تسترح
وله غير ذلك وكانت ولادته في سنة ثمان عشرة وألف وتوفي يوم الخميس ثالث ذي العقدة سنة ست وتسعين وألف.
السيد محمد بن حسين بن محمد بن حمزة الدمشقي الشافعي نقيب الشام وتقدم تمام نسبه في ترجمة حفيدة السيد حسين كان السيد محمد المذكور شافعياً على مذهب آبائه اشتغل هو وأخوه السيد زين العابدين في الفقه على الشهاب العيثاوي وحصل طرفاً من الفقه وكان مشاركاً في غيره ثم ولي نقابة الأشراف بعد أخيه السيد زين العابدين المذكور وكان شهماً عاقلاً حازماً صاحب رأي وخبرة في الأمور وأقبلت عليه الدنيا فحصل جاها ومالا وعقاراً فوق ما يوصف وكان موفور الحشمة زائد المهابة ولما كان الوزير مراد باشا بحلب في قصة الأمير علي بن جانبولاذ قصده بها فلما ذهب الشهاب العيثاوي والشيخ محمد بن سعد الدين والشيخ عيسى الصمادي إلى حلب للشكاية علي ابن معن بسبب مساعدته لابن جانبولاذ كان السيد محمد المذكور والقاضي تاج الدين التاجي بها وكان كيوان الطاغية المقدم ذكره ثمة في تبريد الأمر عن ابن معن فاستعان بهما واستشهد هما عند مراد باشا أن المشايخ إنما جاؤا إليه مكرهين من قبل جند الشام وفي الحقيقة كان الجند باعث كلي على ذلك فإن ابن معن كان سبب انحطاطهم وكسر شوكتهم ثم رجع السيد محمد فمرض في الطريق فلما كان بقربة الطيبة من قرى حماة زادبه المرض فحمل على بغل فمات في أثناء الطريق وكانت وفاته في رابع صفر سنة سبع عشرة بعد الألف وحمل إلى حماة ودفن بها ولم يجاوز أربعين سنة من عمره وهو والد السيد كمال الدين محمد الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.(2/392)
محمد بن حسين الملقب شمس الدين الحمامي الدمشقي العاتكي الحنفي من أنبل فضلاء عصره وأجمعهم لفنون متعددة وكان فاضلاً كاملاً صالحاً دينا خير أبرع وفاق وشهد له أهل وقته بالبراعة والسبق في مضمار الجد والاجتهاد اشتغل في العقه وغيره على الشمس بن المنقار وحضر دروسه كثيراً ولزم دروس جدي القاضي محب الدين في التفسير وغيره وقرأ على المنلا محمد بن عبد الملك البغدادي وحضر الحديث عند الشمس محمد الداودي وبحث مع الأفاضل وكان لين العريكة منصفا وكان عند مشايخه المذكورين مقبولاً ملتفتا وصحب ولي الله تعالى العارف به الشيخ محمد بن أبي بكر اليتيم العاتكي السالف ذكره وانتفع به وحصل له بصحبته خير خطابة جامع المراديه وإمامتها وانتفع به جماعة وبالجملة فقد كان من خير خلق الله تعالى وكانت وفاته نهار الأربعاء رابع عشر شعبان سنة ثمان عشرة وألف ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى.(2/393)
محمد بن حسين بن عبد الصمد الملقب بهاء الدين بن عز الدين الحارثي العاملي الهمداني صاحب التصانيف والتحقيقات وهو أحق من كل حقيق بذكر أخباره ونشر مزايا وأتحاف العالم بفضائله وبدائعه وكان أمة مستقلة في الأخذ بأطراف العلوم والتضلع بدقائق الفنون وما أظن الزمان سمح بمثله ولا جاد بنده وبالجملة فلم تتشنف الأسماع بأعجب من أخباره وقد ذكره الشهاب في كتابيه وبالغ في الثناء عليه وذكره السيد علي بن معصوم وقال ولد ببعلبك عند غروب شمس يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وانتقل به أبوه إلى بلاد العجم وأخذ عن والده وغيره من الجهايذة كالعلامة عبد الله اليزدي حتى أذعن له كل مناظر ومنابذ فلما اشتد كاهله وصفت له من العلم مناهه ولي بها مشيخة الإسلام ثم رغب في الفقر والسياحة واستهب من مهاب التوفيق رياحه فترك المناصب ومال لما هو لحاله مناسب فحج بيت الله الحرام وزار النبي عليه الصلاة والسلام ثم أخذ في السياحة فساح ثلاثين سنة واجتمع في أثناء ذلك بكثير من أهل الفضل ثم عاد وقطن بأرض العجم وهناك همي غيث فضله وانسجم فألف وصنف وقرط المسامع وشنف وقصدته علماء تلك الأمصار واتفقت على فضله أسماعهم والأبصار وغالت تلك الدولة في قيمته واستمطرت غيث الفضل من ديمته فوضعته على مفرقها تاجا وأطلعته في مشرقها سراجا وهاجا وتبسمت به دولة سلطانها شاء عباس واستنارت بشموس رأيه عند اعتكار حنادس الباس فكان لا يفارقه سفراً وحضراً ولا يعدل عنه سماعا ونظرا إلى أخلاق لو مزج بها البحر لعذب طعما وآراء لو كحلت بها الجفون لم يلف أعمى وشيم هي في المكارم غرر وأوضاح وكرم باق جوده لشائمه لامع وضاح تتفجر ينابيع السماح من تواله ويضحك ربيع الأفضال من بكاء عيون آماله وكانت له دار مشيدة البناء رحبة الفناء يلجأ إليها الأيتام والأرامل ويغد عليها الراجي والآمل فكم مهدبها وضع وكم طفل بها رضع وهو يقوم بنفقتهم بكرة وعشيا ويوسعهم من جاهه جنانا مغشيا مع تمسك من التقى بالعروة الوثقي وإيثار الآخرة على الدنيا والآخرة خير وأبقى ولم يزل أنفا من الانحياز إلى السلطان راغباً في الغربة عن الأوطان يؤمل العود إلى السياحة ويرجو الإقلاع عن تلك الساحة فلم يقدر له حتى وإناه حمامة وترنم على أفنان الجنان حمامه وقد أطال أبو المعالي الطالوي في الثناء عليه وكذلك البديعي ونص عبارة الطالوي في حقه ولد بقزوين فانظره مع قول ابن معصوم ببعلبك وأخذ عن علماء تلك الدائرة ثم خرج من بلده وتنقلت به الأسفار إلى أن وصل إلى أصفهان فوصل خبره إلى سلطانها شاه عباس فطلبه لرياسة علمائها فوليها وعظم قدره وارتفع شأنه إلا أنه لم يكن على مذهب الشاه في زندقته لانتشار صيته في سداد دينه إلا أنه غالي في حب آل البيت وألف المؤلفات الجليلة منها التفسير المسمى بالعروة الوثقي والصراط المستقيم والتفسير المسمى بعين الحياة والتفسير المسمى بالحبل المتين في مزايا الفرقان المبين ومشرق الشمسين وشرح الأربعين والجامع العباسي فارسي ومفتاح الفلاح والزبدة في الأصول والتهذيب في النحو والملخص في الهيئة والرسالة الهلالية والأثنى عشريات الخمس وخلاصة الحساب والمخلاه وتشريح الأفلاك والرسالة إلا سطر لأبيه وحواشي الكشاف وحواشي البيضاوي وحاشية الفقيه وغير ذلك من الرسائل المختصرة والفوائد المحررة وأما أشعاره فسأورد لك منها ما يعظم عندك موقعه وتقف أمانيك عنده ولا تتجاوز قال ثم خرج سائحاً فجاب البلاد ودخل مصر وألف بها كتاباً سماه الكشكول جمع فيه كل نادرة من علوم شتى قلت وقد رأيته وطالعته مرتين مرة بالروم ومرة بمكة ونقلت منه أشياء غربية وكان يجتمع مدة إقامته بمصر بالأستاذ محمد بن أبي الحسن البكري وكان الأستاذ يبالغ في تعظيمه فقال له مرة يا مولانا أنا درويش فقير كيف تعظمن هذا التعظيم قال سمعت منك رائحة الفضل وامتدح الأستاذ بقصيدته المشهورة التي مطلعها:
يا مصر سقيا لك من جنة ... قطوفها يائعة دانية
ترابها كالتبر في لطفه ... وماؤها كالفضة الصافية
قد أخجل المسك نسيم لها ... وزهرها قد أرخص الغالية
دقيقة أصناف أوصافها ... ومالها في حسنها ثانية(2/394)
منذ أنخت الركب في أرضها ... أنسيت أصحابي وأحبابية
فيا حماها الله من روضة ... بهجتها كافية شافية
فيها شفاء القلب أطيارها ... بنغمة القانون كالداريه
ومنها:
من شاء أن يحيا سعيد أبها ... منعما في عيشة راضية
فليدع العلم وأصحابه ... وليجعل الجهل له غاشيه
والطب والمنطق في جانب ... والنحو والتفسير في زوايه
وليترك الدرس وتدريسه ... والمتن والشرح مع الحاشيه
الأم يا دهر وحتى متى ... تشقي بأيامك أياميه
تحقيق الآمال مستعطفاً ... وتوقع النقص بآماليه
وهكذا تفعل في كل ذي ... فضيلة أو همة عالية
فإن تكن تحسبني منهم ... فهي لعمري ظنة واهيه
دع عنك تعذيبي وإلا فأشكوك ... إلى ذي الحضرة العالية(2/395)
ثم قدم القدس وحكى الرضى بن أبي اللطف المقدسي قال ورد علينا من مصر رجل من مهابته محترم فنزل من بيت المقدس بفناء الحرم عليه سيما الصلاح وقد اتسم بلباس السياح وقد تجنب الناس وأنس بالوحشة دون الإيناس وكان بألف من الحرم فناء المسجد الأقصى ولم يسند إليه أحد مدة الإقامة إليه نقصا فألقى في روعي أنه من كبار العلماء الأعاظم وأجلة أفاضل الأعاجم فما زلت لخاطرة أتقرب ولمالا يرضيه أتجنب فإذا هو ممن يرحل إليه للأخذ عنه وتشد له الرحال للرواية عنه يسمى بهاء الدين محمد الهمداني الحارثي فسألته عند ذلك القراءة في بعض العلوم فقال بشرط أن يكون لك مكتوم وقرأت عليه شيئاً من الهيئة والهندسة ثم سار إلى الشام قاصداً بلاد العجم وقد خفى عني أمره واستعجم قلت ولما ورد دمشق نزل بمحلة الخراب عند بعض تجارها الكبار واجتمع به الحافظ الحسين الكربلائي القزويني أو التبريزي نزيل دمشق صاحب الروضات الذي صنفه في مرارات تبريز فاستنشده شيئاً من شعره وكثيراً ما سمعت أنه كان تطلب الاجتماع بالحسن البوريني فأحضره له التاجر الذي كان عنده بدعوة وتأنق في الضيافة ودعا غالب فضلاء محلتهم فلما حضر البوريني إلى المجلس رأى فيه صاحب الترجمة بهيئة السياح وهو في صدر المجلس والجماعة محدقون به وهم متأدبون غاية التأدب فعجب البوريني وكان لا يعرفه ولم يسمع به فلم يعبأ به ونحاه عن مجلسه وجلس غير ملتفت إليه وشرع على عادته في بث رقائقه ومعارفه إلى أن صلوا العشاء ثم جلسوا فابتدر البهائي في نقل بعض المناسبات وانجر إلى الأبحاث فأورد بحثاً في التفسير عويصاً فتكلم عليه بعبارة سهلة فهمها الجماعة كلهم ثم دقق في التعبير حتى لم يبق يفهم ما يقول إلا البوريني ثم أغمض في العبارة فبقى الجماعة كلهم والبوريني معهم صموتاً جمود إلا يدرون ما يقول غير أنهم يسمعون تراكيب واعتراضات وأجوبة تأخذ بالألباب فعندها نهض البوريني واقفاً على قدميه وقال إن كان ولابد فأنت البهائي الحارثي إذ لا أجد في هذه المثابة إلا ذاك واعتنقا وأخذاً بعد ذلك في إيراد أنفس ما يحفظان وسأل البهائي من البوريني كتمان أمره وافترقا تلك الليلة ثم لم يقم البهائي فأقلع إلى حلب وذكر الشيخ أبو الوفا العرضي في ترجمته قال قدم حلب مستخفياً في زمن السلطان مراد بن سليم مغيراً صورته بصورة رجل درويش فحضر دروس الوالد يعني الشيخ عمر وهو لا يظهر إنه طالب علم حتى فرغ من الدرس فسأله عن أدلة تفضيل الصديق على المرتضى فذكر حديث ما طلعت الشمس ولا غريب على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر وأحاديث مثل ذلك كثيرة فرد عليه ثم أخذ يذكر أشياء كثيرة تقتضي تفضيل المرتضى فشتمه الوالد وقال له رافضي شيعي وسبه فسكت ثم أن صاحب الترجمة أمر بعض تجار العجم أن يصنع وليمة ويجمع فيها بين الوالد وبيته فاتخذ التاجر وليمة ودعاهما فأخبره أن هذا هو المنلا بهاء الدين عالم بلاد العجم فقال للوالد شتتمونا فقال له ما علمت أنك المنلا بهاء الدين ولكن إيراد مثل هذا الكلام بحضور العوام لا يليق ثم قال أناسني أحب الصحابة ولكن كيف أفعل سلطاننا شيعي ويقتل العالم السني قال وكان كتب قطعة على التفسير باسم شاه عباس فلما دخل بلاد السنة قطع الديباجة وبدلها وذكر أنه كتب ذلك باسم السلطان مراد ولما سمع بقدومه أهل جبل بني عامل تواردوا عليه أفواجاً أفواجاً فخاف أن يظهر أمره فخرج من حلب انتهى وسياق كلام العرضي يقتضي أن دخوله إلى حلب كان في قدمته من العجم قاصداً الحج والله أعلم وأملي لبعض الأدباء بالشام لغزه الذي جعله لامتحان أفكار الأذكياء من فحول العلماء وهذا يدل على تبحره في العلوم وقد أوردته برمته في كتابي هذا تطريه وتنشيطا لمن يعرف مزية الكلام وهو يا أصحاب الفطنة القويمة والفطرة المستقيمة والطبيعة الألمعية والروية اللوذعية أخبروني عن كتاب بعضه من الحروف النورانية وأكثره من حروف الزيادة وبأحد نصفيه يكمل الرجل وبالنصف الآخر تتم الشهادة ثانية قابل لأنواع النقط وأوله ولا يقبل إلا واحدة فقط تالي أوله بالكمال معروف ومتلو ثانية بالاستحداب موصوف مضعفه لوسطيه كمال شعوري ومضعف آخره لثالثة كمال ظهوري التحسين من مقارنة طرفية معلوم والتجرب من مقايسة ذلك مفهوم ثاني كل حرف منه بهيو لاتيه الحروف مشهور وهو فيما بينها بالقطبية مذكور أن(2/396)
أعطى أوله حليته لثانية تساويا في العد وإن انعكست القضية زاد أسماء العدد الموصوف بالكمال أن ضربت أعظم وسطيه في مجموعها حصل عدد جمع الأفلاك المحدبة بمحدد الجهات وأن نقصت من ربعه الرابع عقيم ضروب الشكل الثالث بقي عدد القضايا الموجهات أحد نصفيه فرد يعادل عدد الأغراض والنصف الآخر زوج يعادل العقول وهذا ممالا ريب فيه وإن كان بحسب الظاهر غير معقول كل يساوي انحطاط الشمس من الأفق في آخر غروب الشفق وأول الصبح الكذوب ومضروب صدره في ضعف عجزه يعادل عرضاً يتحقق فيه معكوس الطلوع والغروب أن أضفت ثانية إلى مضعف ثالثة ساوي الحروف المهموسة وإن طرحت منه مكعب ثانية عادل المنازل المنحوسة حرفان منه متقاربان يعادلان طبقات العين وحرفان متعانقان يساويان أركان حساب الخطأين مكرر نصفه في ضروب الموسيقي معدود فإن قلبته فهو طائر معهود وإن زدت على مربع أوله مهملة إلا نصف ثانية عادل عظام بدن الإنسان وإن نقصت من مكعب ثالثه مضعف أوله بقي دية كل من مقاديم إلا سنان مضعف أوله بعدد أنواع الخيار ومكعب آخره كعدد التكبيرات في فرائض الليل والنهار مضروبة في طرفه يساوي فريضة أب وثلاث بنات ومضروب وسطيه في ثانيهما كفريضة الأخوة العشرة والثمانية مع ست زوجات أن أضفت آخره إلى أوله ساوي أحوال المسند إليه وإن جمعت ثانية مع ثالثه عادل من يحج في الشرع عليه وإن ضعفت رابعه ساوي كلم المجازات وإن زدت على مربع ثالثه نصف عادل علاقات المجازات.ى أوله حليته لثانية تساويا في العد وإن انعكست القضية زاد أسماء العدد الموصوف بالكمال أن ضربت أعظم وسطيه في مجموعها حصل عدد جمع الأفلاك المحدبة بمحدد الجهات وأن نقصت من ربعه الرابع عقيم ضروب الشكل الثالث بقي عدد القضايا الموجهات أحد نصفيه فرد يعادل عدد الأغراض والنصف الآخر زوج يعادل العقول وهذا ممالا ريب فيه وإن كان بحسب الظاهر غير معقول كل يساوي انحطاط الشمس من الأفق في آخر غروب الشفق وأول الصبح الكذوب ومضروب صدره في ضعف عجزه يعادل عرضاً يتحقق فيه معكوس الطلوع والغروب أن أضفت ثانية إلى مضعف ثالثة ساوي الحروف المهموسة وإن طرحت منه مكعب ثانية عادل المنازل المنحوسة حرفان منه متقاربان يعادلان طبقات العين وحرفان متعانقان يساويان أركان حساب الخطأين مكرر نصفه في ضروب الموسيقي معدود فإن قلبته فهو طائر معهود وإن زدت على مربع أوله مهملة إلا نصف ثانية عادل عظام بدن الإنسان وإن نقصت من مكعب ثالثه مضعف أوله بقي دية كل من مقاديم إلا سنان مضعف أوله بعدد أنواع الخيار ومكعب آخره كعدد التكبيرات في فرائض الليل والنهار مضروبة في طرفه يساوي فريضة أب وثلاث بنات ومضروب وسطيه في ثانيهما كفريضة الأخوة العشرة والثمانية مع ست زوجات أن أضفت آخره إلى أوله ساوي أحوال المسند إليه وإن جمعت ثانية مع ثالثه عادل من يحج في الشرع عليه وإن ضعفت رابعه ساوي كلم المجازات وإن زدت على مربع ثالثه نصف عادل علاقات المجازات.(2/397)
وإن نقصت من مربع أوله خمس آخره بقي عدد صور الكواكب الموصوده وإن زدت ثانية على طرفه حصل المشهور من العروق المفصودة مجموع آخريه يساوي عدد مقادير النبضات وثلث أوليه يعدل الأجناس العالية للحميات وإن ضممت إلى طرفيه مربع بعضه ساوي بعض الأعداد التامة وإن زدت عليها وسطه عادل ألوف القوائم كما اشتهر على ألسنة العامة شكله شكل العقلة بين الأشكال الرملية وإن نصفت ثالثة لم تكذب القضية إن زدت على مضعف آخره مسطح طرفيه ساوي رقم المربع الميمون وعادل ارتفاعا يساوي فيه الظل للشاخص أينما يكون مهمل أوله رمز إلى ما يوجب الثلج الاشتعال ومعجمه إلى ما هو في زراعة الذهب كثير الاستعمال أن نقصت من آخره نصف ثانية ساوي الباقي أنواع الترجيح وعادل عدد المخصصات الموصولات وفي كل من نصفيه إيماء إلى البرهان الزوج والفرد على امتناع تسلسل العلل والمعلولات أن نقصت من سطح طرفيه ثاني ومبانية ساوي عرض بلد يساوي غاية ارتفاع أول الجدي فيه بعض حروفه يشير شكله إلى البرهان السلمي على تناهي الأبعاد فإن جعلت زاويته قائمة دل على ما فوق المراد وإن وضعت خروج ضلعها العالي إلى غير النهاية ومن طرف السافل آخر مثله مقاطعاً له متحركا عليه تم الدليل على ذلك المطلب بطريق لم يسبقنا أحد إليه وإن جعلتها ثلثي قائمة أشارت إلى البرهان الترسي على ذلك المرام وإن انطبقت على مركز العالم دلت على أن التباعد بين الرؤس أزيد من التباعد بين الأقدام وإن أممتها وجعلت كلا من ضلعها عدد أفرداً أومت إلى الاستدلال على نفي الجزء بشكل العروس وإمكان إثبات ذلك بالبرهان السلمي الغير مأنوس وإن زاد كل منهما على غاية الانفراج وتفارقت أجزاؤهما بالاتصال أمكن أيضاً إثبات ذلك بدليل خطر لنا بالبال وإن جعلتها قائمة حصلت الإشارة إلى بعض براهين استعلام المرتفعات وأن أومأت ما تريد معرفة بعده عنك منتهيا مبلغها الأعلى إلى بصرك حصل الإيماء إلى طريق معرفة عروض الأنهار وسائر الأبعاد المتعسرات وإن أوترها نصف قطر الأرض وبينها وبين مركز الشمس تماس ظهر عليك أن بعد الشمس عنا وهي عليه أزيد بكثير منه حال كونها على سمت الراس ولاح لديك أن تراكم البحار هو الموجب للإحساس بمالا يقتضيه القياس وإن وصلت بين ضلعيها بخط مواز لآخر مماس لهما مخرج من الجهتين أمكن إقامة أدلة عديدة على مساواة زوايا مثلث لقائمتين وفيه حروف على صورة شكل أن أخرجت قطريه أشار إلى نفي الجزء الذي لا يتجزي يوجه منح لنا وهو لزوم مفسدين أعني تلاقي القطرين قبل المرور بالمركز وعلى نقطتين أن ألصقت وتريه بقطره أشار إلى نفيه أيضاً بوجه ما وجد أعظم منه قط وهو لزوم جواز كون قطر الفلك الأعلى ثلاثة أجزاء فقط وإن ماس محيطه وسط ثاني حروفه أشعر بدليل المتكلمين على إثبات الجزء كما هو مشهور وأومأ إلى شبه الظفر من لزوم انفراج الحادة قبل قيامها كما هو على الألسنة مذكور وإن شبه الظفر وازاه أعظم منه وتحرك حتى ماسه تبين لك غلط صاحب المواقف في قدر غلط المتممات وتعجبت من موافقة المحقق الدواني له في أمثال هذه التوهمات وإن تحرك الداخل ضعف الخارج حصلت الإشارة إلى أصل الكبيرة والصغيرة الذي اخترعه سلطان المحققين ولم يسبقه إليه أحد من المتقدمين والمتأخرين وإن ساويت بين وتري قوسين منهما ظهر لك أن سهم قوس الخارج أقصر وأن الطاس تسع من الماء في أعلا المنارة أقل وفي أسفلها أكثر وفيه حرف أن فرضت خروج ذيله إلى غير النهاية أشار إلى برهان امتناع اللاتناهي في جهة أو جهتين وإن ألقت على طرفه عمودان وصلت بينهما أشار إلى طريق وزن الأرض بذي العمودين وفيه حرف وان فصلت بين عمود المخرجين بخط مخرج إلى ألف فرسخ فما زاد حصل لك الإذعان بأن مساحة ظفرك أزيد بكثير من مثلث قاعدته بسمرقند ورأسه ببغداد ولنقتصر على هذا المقدار من الإطناب في ذكر أوصاف ذلك الكتاب والعاقل تكفيه الإشارة والجاهل لا ينتفع بألف عبارة وكتب إليه والده حسين هذا اللغز الغريب فأجابه عنه ورأيت السيد محمد كبريت المدني قد بين السؤال والجواب في بعض تعاليقه فذكرت الجميع ولعل بما بين السيد أن يحتال على اللغز المذكور آنفاً والسؤال هو هذا أيها الولد المؤيد بالإكرام والإعزاز الموفق في حل المصميات والألغاز أخبرني عن اسم آخر أوله آخر الحروف وآخر ثانية بهذا الوصف معروف قلباً(2/398)
أخريه يتوافقان وقلباً أوليه متعانقات لولا ثالثة لصار الاسم حرفاً ولولا ثانية لصار الفعل ظرفاً ولولا رأسه لصات الرجل من النجاسات ولولا رابعه لم يتحقق رابع القياسات بعضه قاتل وبعضه الآخر نصف قاتل طرفاً أوله فعل أمر بطرفين وطرفا ثانية ما نهيت عن قوله للأبوين وإن نقص ربعه بقي ربعه وإن زيد ربعه على ربعه حصل ربعه صدره علامة قلب العاشق وثانية علامة الرقيب المنافق لولا ربعه لم تتميز القبيلة عن القابلية ولم تفترق المعاني عن علة الفاعلية بعضه يمين والبعض في اليسار كمين وبطرف آخره يتبدئ المقام وبطرفه الآخر ينتهي الكلام فأجابه بقوله يا سيدي وأبي وأستاذي ومن إليه في العلوم استنادي هذا اسم رباعي الأعضاء ثلاثي الأجزاء اثنا عشري الأصول عديم الحرف المفصول من الأسماء معدود إلى الأفعال مردود لولا ثلث أوله لصار السخيف بالكرم موصوفاً ولكان كل فقير بسواد الوجه معروفاً ولولا رابعه تحدت الماهية بالوجود ولم يتميز الحاسد من المحسود لو عدم ثانية لم يكن جميع الثمر ثمار أو لصارت قرية بالرى حماراً ولو عدم ربعه لم يكن القلب في الجسد وتبدلت السكينة بالغل والحسد ولصارت الهرة بعض الأزهار ولم تتميز الحنطة عن بعض الثمار أوله بالعراق وآخره بالشام وبثلثي ربعه يتم الإيمان والإسلام وبثلث ثالثه يتبدى السؤال وبثاني ثانية ينتهي القيل والقال شرح ألفاظ السؤال قوله آخر أوله ألح أول الاسم قاف وآخر بالنظر إلى بسطه مسمى الفاء وهو آخر حروف كما ترى وآخر ثانية وهو الألف كذلك الفاء وهو موصوف بهذا الوصف لأنه هوهو قوله قلبا أخريه وهما السين والميم يتوافقان لأن حقيقتهما الياء وقلبا أوليه وهما الألف واللام من قاف وألف حرفان متعانقان لولا ثالثه وهو مسمى السين لصار الاسم حرف عطف وهو أم أي بعد حذف السين من الاسم ولو لا ثانية وهو الألف لصار الفعل ظرفاً ولولا رأسه وهو القاف ولولا رابعه هو المين لم يتحقق القياس التمثيلي وهو رابع القياسات بعضه قاتل وهو سم وبعضه وهو قانصف قاتل طرفا أوله وهما القاف والفاء أمر بحرفين وطرفا ثانية الذي هو ألف أف قوله وإن نقص ربعه الذي هو السين من ربعه الذي هو القاف بقي ربعه وهو الميم لأن الباقي بعد طرح ستين من مائة أربعون وإن زيد ربعه عكس القضية قوله صدره علامة قلب العاشق أي ثاني حروفه وهو ألف والمراد منه جوهر لفظه وهو فعل من الألفة ولم يزل قلب العاشق يألف المعشوق وكذا الرقيب المنافق قوله لولا رابعه الذي هو الألف لم تتميز القبلية عن القابيلة لأن به الفرق بين هذين اللفظين ومثله الفعلية والفاعلية قوله بعضه يمين يعني الميم لأنه يقال م الله في أيمن الله أو المراد ما عدا القاف وهو اسم وبعضه وهو السين في لفظ اليسار كامن قوله وبطرف آخره الأول أو الآخر يبتدئ المقام بل ويختم وبطرف آخره كذلك ينتهي الكلام لأن الميم نهاية لفظ الكلام شرخ ألفاظ الجواب قوله رباعي الأعضاء أي حروف قاسم أربعة ثلاثي الأجزاء أي جملته تنقسم ثلاثة من غير عكس اثنا عشري الأصول لأن كل حرف يشتمل على ثلاثة حروف قوله عديم الحرف المفصول لأنه مركب من حرفين فحرفين وهو معدود من الأسماء لأنه اسم وضع لمسمى بعينه ومردود إلى الأفعال باعتبار أنه مشتق من القسم قوله لولا ثلث أوله الذي هو القاف والمراد الفاء لصار لفظ السخيف بعد حذف الفاء سخيا والسخي موصوف بالكرم قوله وإذا حذف الفاء من لفظ فقير بقي قير وهو أسود الظاهر والباطن قوله ولولا رابعه الذي هو الميم لا تحدث الماهية بالوجود لأن وجود الشيء هيئته فكانه قال لا تحدث الهيئة بالماهية وفيه تسامح لأن المراد من الميم مسماها وهو مفرد فكيف يطلق على المركب من الميم والألف ويكمم أن يقال تعدد المراد في هذا الباب كثير وهو أدخل في الألغاز و قوله ولم يتميز الحاسد من المحسود كالأول لأنه لا فرق بين الحسود والحاسد في اصل المعنى قوله ولو عدم ثانية الذي هو الألف من لفظ الثمار بقي ثمر فلم يبق الجمع قوله قرية بالري وهي خار وإذا لم تكن الألف فيه بقي خرو هو بالفارسية اسم للحمار قوله ولو عدم ربعه الذي هو السين لم يكن ذلك الربع قلب الجسد لسقوطه وتبدلت السكينة فصارت كينه من قوله تعالى فما استكاثوا وفي الصحاح وبات فلان بكنية سوء بالكسر أي بحالة سوء والاستكانة الخضوع قوله الهرة المراد به سنور بعمل(2/399)
الترادف وإذا لم تكن فيه السين كان ثوراً قوله الحنطة المراد منه سلت على التسامح قوله أول بالعراق يعني القاف في لفظ العراق وآخره وهو الميم في لفظة الشام قوله وثلثا ربعه وهما السين والنون من بسط الربع الذي هو السين يتم به الإيمان لأنه تم بالنون والإسلام لأن تمامه بالسين لا يلزم أن يكون آخرا قوله وثلث ثالثه الذي هو السين وهو المراد من بسطه يبتدى السؤال حقيقة كما ترى وبثاني ثانية وهو اللام من ألف ينتهي القيل والقال انتهى وأشعار البهائي كثيرة وأشهر ماله قصيدته الكافية التي سارت مسير المثل ومطلعها:إذا لم تكن فيه السين كان ثوراً قوله الحنطة المراد منه سلت على التسامح قوله أول بالعراق يعني القاف في لفظ العراق وآخره وهو الميم في لفظة الشام قوله وثلثا ربعه وهما السين والنون من بسط الربع الذي هو السين يتم به الإيمان لأنه تم بالنون والإسلام لأن تمامه بالسين لا يلزم أن يكون آخرا قوله وثلث ثالثه الذي هو السين وهو المراد من بسطه يبتدى السؤال حقيقة كما ترى وبثاني ثانية وهو اللام من ألف ينتهي القيل والقال انتهى وأشعار البهائي كثيرة وأشهر ماله قصيدته الكافية التي سارت مسير المثل ومطلعها:
يا نديمي بمهجتي أفديك ... قم وهات الكؤس من هاتيك
خمرة أن ضللت ساحتها ... فسنانور كأسها يهديك
يا كليم الفؤاد دوابها ... قلبك المبتلي لكي تشفيك
هي نار الكليم فأجتلها ... وأخلع النعل وأترك التشكيك
صاح ناهيك بالمدام فدم ... في إحتساها مخالفاً ناهيك
من جملتها:
لست أنساه إذ أتى سحرا ... وحده وحده بغير شريك
طرق الباب خائفاً وجلا ... قلت من قال كل ما يرضيك
قلت صرح فقال تجهل من ... سيف ألحاظه تحكم فيك
قال خذها قد ظفرت بها ... قلت زدني فقال لا وأبيك
ثم وسدته اليمين إلى ... أن دنا الصبح قال لي يكفيك
قلت مهلا فقال قم فلقد ... فاح نشر الصبا وصاح الديك
وقد عارض بها أبياتاً لوالده وذلك هو المخترع لهذا الروي وأبيات والده هي قوله:
فاح عرف الصبا وصاح الديك ... وانثنى ألبان يشتكي التحريك
قم بنا نجتلي مشعشعة ... تاه من وجده بها النسيك
لو رآها المجوس عاكفة ... وحدوها وجانبوا التشريك
أن تسر نحونا نسرّ وإن ... مت في السير دوننا نحييك
وكتب إلى والده وهو بهراة:
يا ساكني أرض الهراة أما كفى ... هذا الفراق بلى وحق المصطفى
عودوا على فربع صبري قد عنا ... والجفن من بعد التباعد ماغفا
وخيالكم في بالي ... والقلب في بلبال
إن أقبلت من نحوكم ريح الصبا ... قلنا لها أهلا وسهلا مرحبا
وإليكم قلب المتيم قد صبا ... وفراقكم للروح منه قدسيا
والقلب ليس بخالي ... من حب ذات الخال
يا حبذا ربع الحمى من مربع ... فغزا له شب الغضا في أضلعي
لم أنسه يوم الفراق مودعي ... بمدامع تجري وقلب موجع
والصب ليس بسالي ... عن ثغره السلسال
وكتب إليه:
بقزوين جسمي وروحي ثوت ... بأرض الهراة وسكانها
فهذا تغرب عن أهله ... وتلك أقامت بأوطانها
وسأله بعض أصحابه أن يعارض قصيدة رثى بها والده مطلعها:
جارتا كيف تحسنين ملامي ... أبد أوي كلم الحشا بكلام
فقال:
خلياني ولوعتي وغرامي ... يا خليلي واذهبا بسلام
قد دعاني الهوى فلباه قلبي ... فدعاني ولا تطيلا ملامي
إن من ذاق نشوى الحب يوما ... لا يبالي بكثرة اللوام
خامرت خمرة المحبة قلبي ... وجرت في مفاصلي وعظامي
فعلى العلم والوقار صلاة ... وعلى العقل ألف ألف سلام(2/400)
هل سبيل إلى وقوفي بوادي الجزع يا صاحبي أو المامي
أيها السائر الملح إذا ما ... جئت نجدا فعج بوادي الخزام
وتجاوز عن ذي المجاز وعرج ... عادلا عن يمين ذاك المقام
وإذا ما بلغت حزوي فبلغ ... جيرة الحي يا أخي سلامي
وأنشدت قلبي المعنى لديهم ... فلقد ضاع بين تلك الخيام
وإذا ما رثوا لحالي فسلهم ... أن يمنوا ولو بطيف منام
يا نزولا بذي الأراك إلى كم ... تنقضي في فراقكم أعوامي
ما سرت نسمة ولا ناح في الدوح حمام الأوحان حمامي
أين أيامنا بشرقي نجد ... يا رعاها الإله من أيام
حيث غصن الشباب غض وروض العيش قد طرزته أيدي الغمام
وزماني مساعد وأيادي اللهو نحو المنى تجر زماني
أيها المرتقي ذري المجد فرداً ... والمرجى للقادحات العظام
يا خليف الندى الذي جمعت ... فيه مزايا تفرقت في الأنام
نلت في ذروة الفخار محلا ... عسر المرتقي عزيز المرام
نسب طاهر ومجد أثيل ... وفخار عال وفضل سامي
قد قرنا مقالكم بمقال ... وشفعنا كلامكم بكلام
ونظمنا لها مع الدر في سمط ... وقلنا العبير مثل الرغام
لم أكن مقدماً على ذا ولكن ... كان طوعاً الأمر أقدامي
عمرك الله يا نديمي أنشد ... جارتا كيف تحسنين ملامي
وله يرثي والده وقد توفي بالمصلى من قرى البحرين لثمان خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وتسعمائة عن ست وستين سنة وشهرين وسبعة أيام ومولده أول يوم من محرم سنة ثمان عشرة وتسعمائة.
قف بالطلول وسلها أين سلماهما ... وروّ من جرع الأجفان جرعاها
ورده الطرف في أطراف ساحتها ... وأرج الوصل من أرواح أرجاها
فإن يفتك من الأطلال مخبرها ... فلا يفوتنك مرآها ورياها
ربوع فضل تباهي التبر تربتها ... ودار أنس يحاكي الدر حصباها
عدا على جيرة حلوا بساحتها ... صرف الزمان فأبلاهم وأبلاها
بدور تم غمام الموت حللها ... شموس فضل سحاب الترب غشاها
فالمجد يبكي عليها جازعا أسفا ... والدين يندبها والفضل ينعاها
يا حبذا زمن في ظلهم سلفت ... ما كان أقصرها عمراً وأحلاها
أوقات أنس قضيناها فما ذكرت ... إلا وقطع قلب الصب ذكراها
يا جيرة هجروا واستواطنوا هجرا ... واها لقلبي المعنى بعدكم واها
رعيا لليلات وصل بالحمى سلفت ... سقيا لأيامنا بالخيف سقياها
لفقدكم شق جيب المجد وانصدعت ... أركانه وبكم ما كان أقواها
وخرّ من شامخات العلم أرفعها ... وانهد من باذخات العلم أرساها
يا ناويا بالمصلى من قرى هجر ... كسيت من حلل الرضوان أصفاها
أقمت يا بحر بالبحرين فاجتمعت ... ثلاثة كنّ أمثالاً وأشباها
ثلاثة أنت أنداها وأغزرها ... جوداً وأعذبها طعما وأصفاها
حويت من درر العلياء ما حويا ... لكن درك أعلاها وأغلاها
يا أعظما وطئت هام السهي شرفاً ... سقاك من ديم الوسمي أسماها
ويا ضريحاً على هام السماك علا ... عليك من صلوات الله أزكاها
فيك انطوى من شموس الفضل أضوأها ... ومن معالم دين الله أسناها
ومن شوامخ أطواد الفتوة ... أرساها وأرفعها قدرا وأبهاها
فاسحب على الفلك إلا على ذيول على ... فقد حويت من العلياء علياها
عليك منا صلاة الله ما صدحت ... على غصون أراك الدوح ورقاها
وله وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه:(2/401)
وليلة كان بها طالعي ... في ذروة السعد وأوج الكمال
قصر طيب الوصل من عمرها ... فلم تكن إلا كحل العقال
واتصل الفجر بها بالغا ... وهكذا عمر ليالي الوصال
إذ أخذت عيني في نومها ... وانتبه الطالع بعد الوبال
فزرته في الليل مستعطفا ... أفديه بالنفس وأهلي ومال
وأشتكي ما أنا فيه من البلوي ... وما ألقاه من سوء حال
فأظهر العطف على عبده ... بمنطق يزري بنظم اللآل
فيا لها من ليلة نلت في ... ظلامها ما لم يكن في خيال
أمست خفيفات مطايا الرجا ... بها وأضحت بالعطايا ثقال
سقيت في ظلمائها خمرة ... صافية صرفا طهوراً حلال
وابتهج القلب بأهل الحمى ... وقرب العين بذاك الجمال
ونلت ما نلت على أنني ... ما كنت أستوجب ذاك النوال
ومن بدائعه قوله في الغزل:
وأهيف القد لدن العطف معتدل ... بالطرف والظرف لا ينفك قتالا
إن جال أهدى لنا الآجال ناظره ... أوصال قطع بالهجران أوصالا
وإن نظرت إلى مرآه وجنته ... حسبت إنسان عيني فوقها خالا
كأن عارضه بالمسك عارضني ... أو ليل طرته في خده سالا
أوطاف من نور خديه على بصري ... فخط بالليل فوق الصبح أشكالا
وقوله:
أسحر بابل في جفنيك مع سقم ... أم السيوف لقتل العرب والعجم
والخال مركز دور للعذار بدا ... أم ذاك نضح عثار الخطب القلم
هذا أصله للراميني الاسترابادي في قوله:
هل عثرت أقلام خط العذار ... في مشقها فالخال نضح العثار
أم استدار الخد لما غدت ... نقطته مركز ذاك المدار
رجع:
أم حبة وضعت كيما تصيد بها ... حب القلوب فصادت كل ملتئم
أحسن منه قول صاحبنا الأديب اللبيب إبراهيم بن محمد السفر جلاني جمل الله به الأدب وأهله:
لا يخدعنك تحت عطفة صدغه ... خال فذاك الخال حبة فخه
رجع:
أم كالفراش هوى طير الفؤاد على ... نار بخدك حتى صار كالفحم
وهذا قول مأخوذ من قول عون الذين العجمي:
لهيب الخد حين بد العيني ... هوى قلبي عليه كالفراش
فأحرقه فصار عليه خالا ... وها أثر الدخان على الحواشي
وللبهاء:
لعينيك فضل كثير على ... وذاك لأنك يا قاتلي
تعلمت من سحرها فعقدت ... لسان الرقيب مع العاذل
ومن رباعياته وهي كثيرة قوله:
كم بت من المسا إلى الأشراق ... من فرقتكم ومطربي أشواقي
والهم منا دمي ونقلي ندمي ... والدمع مدا متى وجفني الساقي
وقوله:
لما نظر الجفن ضعيفا نهكا ... من فرقته رق لضعفي وبكي
وارتاح وقال لي أما قلت لكا ... ما يمكنك الفراق ما يمكنكا
وقوله:
لا تبك معاشر أنأوا أو ألفا ... القوم مضوا ونحن نأتي خلفا
بالمهلة أو تعاقب نتبعهم ... كالعطف بثم أو كعطف بالفا
وقوله:
قم وامض إلى الدير بيخت وسعود ... لا يحسن في المدرسة اليوم قعود
وأشرب قدحا وقل على صوت العود ... العمر مضى وليس من بعد يعود
وقوله:
يا ريح إذا أتيت دار الأحباب ... قبل عني تراب تلك الأعتاب
إن هم سألوا عن البهائي فقل ... قد ذاب من الشوق إليكم قد ذاب
وقوله:
يا عاذل كم تطيل في أعتابي ... دع لومك وانصرف كفاني ما بي
لو لام إذا همت من الشوق فلى ... قلب ماذا فرقة الأحباب
وقوله:
يا غائب عن عيني لا عن بالي ... القرب إليك منتهى آمالي
أيام نواك لا تسل كيف مضت ... والله مضت بأسوء الأحوال
وقوله:(2/402)
لا بأس وعن أذبت قلبي بهواك ... القلب ومن سلبته القلب فداك
وليت وقلت أنعم الله مساك ... مولاي وهل ينعم من ليس يراك
وقوله:
أغتص بريقتي كحسي الحاسي ... إذ أذكره وهو لعهدي ناسي
إن مت وجمرة الهوى في كبدي ... فالويل إذا الساكني الأرماس
وقوله:
إن كان فراقنا على التحقيق ... هذي كبدي أحق بالتمزيق
لو دام لي الوصال ألفي سنة ... ما كان يفي بساعة التفريق
وقوله:
أهوى رشأ عرضني للبلوي ... ما عنه لقلبي المعنى سلوى
كم جئت لاشتكي فمذ أبصرني ... من لذة قربه نسيت الشكوى
وقوله:
يا بدر دجا بوصله أحياني ... إذ زار وكم بهجرة أفناني
بالله عليك عجلن سفك دمي ... لا طاقة لي بليلة الهجران
وقوله:
يا بدر دجا فراقه الجسم أذاب ... قد ودعني فغاب صبري إذ غاب
بالله عليك أي شيء قالت ... عيناك لقلبي المعنى فأجاب
وكتب لبعض أحبابه وهو بالمشهد:
يا ريح إذا أتيت أرض الجمع ... أغني طوسا فقل لأهل الربع
ما حل بروضة بها ئيكم ... إلا وسقي رياضها بالدمع
وكتب لبعض إخوانه بالنجف الأشرف:
يا ريح إذا أتيت أرض النجف ... فالثم عني ترابها ثم قف
واذكر خبري لدى عريب نزلوا ... واديه وقص قصتي وانصرف
وقال أيضاً:
للشوق إلى طيبة جفني باكي ... لو صار مقامي فلك الأفلاك
أستنكف أن مشيت في روضتها ... فالمشي على أجنحة الأملاك
وقال:
يا من ظلم النفس وأخطا وأسا ... هذا حرم يغسل عنك الدنسا
هذا حرم مقبدس يخدمه ... جبريل وميكال صباحاً ومسا
وقال:
يا قوم إلى مكة هذا أنا ضيف ... ذي زمزم ذي مني وهذاك الخيف
كم أعرك عيني لا ستيقن هل ... في اليقظة ما أراه أم هذا طيف
وقال:
إن هذا الموت يكرهه ... كل من يمشي على الغبرا
وبعين العقل لو نظروا ... لرأوه الراحة الكبرى
وكانت وفاته لاثنتي عشرة خلون من شوال سنة إحدى وثلاثين وألف بأصفهان ونقل إلى طوس قبل دفنه فدفن بها في داره قريباً من الحضرة الرضوية وحكى بعض الثقات أنه قصد قبيل وفاته زيارة القبور في جمع من الأخلاء الأكابر فما استقر بهم الجلوس حتى قال لمن معه إني سمعت شيئاً فهل منكم من سمعه فأنكر واسؤاله واستغربوا مقاله وسألوه عما سمع فأوهم وعمي في جوابه وأبهم ثم رجع إلى داره وأغلق بابه فلم يلبث أن أهاب داعي الردي فأجابه والحارثي نسبة إلى حارث همدان قبيلة وجده هو الذي خاطبه أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله يا جار يا حارث تارة بالترخيم وأخرى بالتفخيم وقصته على التفصيل مذكورة في كتاب الأمالي لابن بابويه.(2/403)
محمد بن الحسين بن الإمام القسم بن محمد بن علي قال ابن أبي الرجال عالم ابن عالم كان من أهل العلم ورعاته مطلعاً على مقاصد الأدباء ومناهجهم ومع ذلك فهو مكثر من علوم الآراء وتعاطي الاستنباط والتكلم في المسائل عن نظره من غير متابعة وذلك في آخر أمره واشتغل بشرح آيات الأحكام التي جمعها السيد المحدث محمد بن إبراهيم بن الوزير وعددها مائتا آية ونيف وعشرون آية ففسرها واستنبط منها وأظهر عجائب من علمه وأخرج الأحاديث من أمهاتها وكان من أعيان الدولة المتوكلية من وجوه سادات أهلها في البسطة منهم وكان بعد موت والده مقيماً بالبستان غربي صنعاء يحف به فقهاء وجماعة من الجند ولما توفي الإمام المؤيد وحصل ما حصل من الاختلاف قصد حضرة عمه الإمام إسمعيل المتوكل إلى ضوران وكان طريقه على أعشار وهي طريقة مسلوكه فآنسه الإمام وأنزله منزلته التي يستحقها ثم وجهه إلى حدار للقاء العسكر الخارجة من صنعاء من جانب السيد أحمد بن الإمام القسم فاتفقت حروب حدار وما زالت الحروب مماسية مصابحة للفريقين حتى طلع السيد أحمد بن الحسن بن القسم من دمار لحصار صنعاء فاجتمعا لذلك ثم نفذ إلى ثلاء واتفق تسليم أحمد بن الحسن بثلاء والأمير الجليل الناصر بن عبد الرب ثم عاد مكرماً وارتفعت حاله وعلت كلمته واجتمعت له جنود مثل جنود أبيه وولي أصقاها عن أمر الإمام وأبيه ثم توجه في جنده مع السيد أحمد بن الحسن إلى نجد السلف لقتال سلاطين الشرق واقتضت تهيئته جعله من جانب مفرد فقضى الأمر وكان النصر الذي لم يعهد مثله في ساعة من نهار ذهبت سلاطين الشرق على كثرتهم ونجدتهم بين قتيل وأسير في لمحة الطرف فلم يصل إلا وقد انجلت المعركة عن الفتح والنصر فلم يزل حريصاً على أن يظفر بمثلها فكان في يافع ما كان من الحرب لأنهم لم يسلموا يومئذ تسليم طاعة فاجتمعوا وطلع وتلاه السيد أحمد بن الحسن وأخوه محمد وهو أجد أقطاب الحرب في نجد السلف وأبلى بلاء حسنا فطلعوا جبل يافع وتم النصر واستراح قلب صاحب الترجمة وظفر بنصيب وافر عاد هو السيد أحمد ابن الحسن مرة أخرى إلى هنالك وكان النصر المبين والتفت في آخر عمره إلى العلم التفات أمثاله وكانت الشيوخ تفد إليه إلى منزله واجتمع عنده من الكتب ما لم يجتمع إلا للسلاطين وكانت وفاته بعد عصر الجمعة ثامن شوال سنة سبع وستين وألف ودفن بالتربة المشهورة بالبستان بباب صنعاء الغربي وبجواره فيها السيد أحمد بن علي الشامي وعمه السيد يحيى بن الإمام القسم يحيى هذا كان سيد أقد تأهل للرياسة وتولى أمور النيابة عن أخيه الحسين بن القسم وكانت له مكارم في ريعان الشباب وتوفي عام وفاة صنوه السيد يوسف ابن الإمام القسم توفي بالحمى ودفن هنالك هو والرئيس السيد الهادي بن علي الشامي أظنهما في تابوت واحد وكان يوسف هذا من كملة أهله ووجوه السادة ذا مكارم أخلاق ومع ذلك فكان يزاحم إخوته الثلاثة في الصلاحية والرتبة ومكافحة الأعداء وكان محبباً إلى الملة المحمدية ولعل ذلك سر محبة والده له فإنه كان عنده يوسف إخوته وكمله الله تكميل يوسف في الخلق ومات في عام موتهما السيد الحسن بن الشهيد علي بن القاسم وكان سيداً رئيساً يحب المعالي وتمكن من ركوب الخيل تمكنا عجيباً فيه يضرب المثل وتوفي بضوران وقبر بالمقبرة التي تأخذ من جانب القبلة إلى جانب الغرب عن مدينة الحصى وكان موتهم في وقت متقارب في حدود سنة خمس وأربعين وألف أو قبلها بعام وفي هذا المعنى كتب السيد الحسين بن القسم إلى أخيه الإمام المتوكل إسمعيل قوله:
سادة عجلوا بكاس المنايا ... عجبا ما أمر كأس المنية
من فقيدين سيدين بصنعا ... وبضوران قتل نفس زكيه
ثم من بالحمى أجمل فقيد ... يوسف ذو المحاسن اليوسفية
يا لها أوجها غدت في لحود ... كالنجوم التي تضئ فهي بهيه
ما رعى الموت في علاهم ذماما ... للمعالي وللخلال السنية
أودع القلب فقدها حرنار ... ضاعف الله أجرها من رزيه(2/404)
محمد بن حسين بن محمد المعروف بابن عين الملك الدمشقي الصالحي الشاعر الشهير بالقاق كان شاعراً مجوداً عارفاً بأساليب الشعر واللغة لكنه خبيث اللسان كثير الهجاء والوقوع في الناس لا يكاد يسلم من لسانه أحد وجمع ديوانين من شعره أحدهما للمدح والأخر للهجو وسمى الثاني بئس المصير وكان جده محمد من أهل الصلاح صوفي الطريقة ووالده من أفاضل الأدباء ولهم زاوية في الصالحية باقية إلى يومنا هذا ونشأ محمد هذا ودأب في التحصيل حتى برع قال والدي رحمه الله تعالى في ترجمته ثم نبذ بالقاف وولي النيابة بنواحي دمشق ومنها جبة عسال قلت وإياها عني الأمير المنجكي فيما كتب به إلى القاضي القضاة بدمشق ابن الحسام يتشفع له بتلك الناحية.
عبدك القاق يشبه السعدي ... نتفت ريشه يد البرد
جد عليه بجبة كرما ... ناحية تلك لاكسا البرد
ثم ولى نيابات المحاكم بدمشق كالصالحية والميدان والعوني وكانت هذه الأخيرة أعظم مطلوبه وكان ظرفاء الأدباء يجعلونها مدار النكاتهم إذا قصدوه وذلك لأن بالقرب منها جامعا يقال له الجوزة فكان مما يقال فيه القاق في الجوزة للعوني تعا ثم سافر إلى الروم وأقام بها مدة ولازم وسلك طريق القضا بعدما طار غراب شبابه ومضى وانفصل عن قضاء حمص بعد ما ضبطها مدة قليلة من الزمان وفي المثل كل طير خارج عن لغاته لحان وقد قيل أراد الغراب أن يمشي مشية الحجلة فنسى مشيته الأولى ولم يصب مشيتها فأظهر خجله وكان كما في المثل المشهور أخف حلما من العصفور يبكر إلى زيارة الأصحاب وفي المثل أبكر من غراب له مشرب خاص به لم يسلك أحد على أسلوبه وله شعر كثير غالبه في الهجاء كأنه منحوت من صخر أو غابة ليس فيها زهر وكان دائماً يهدد به من حضر وليس بصياح الغراب يجيء المطر وكان ارتحل إلى طرابلس الشام وسكنها وتزوج بها وجاءه أولاد بتلك الديار وصار بها نائباً عن بعض القضاة فرجم ذلك القاضي بالأحجار وفي المثل من كان دليله الغراب رضى بالمنزل الخراب.
إذا كان الغراب دليل قوم ... فناووس المجوس لهم مصير
وفر منها صاحب الترجمة وطار إلى عشه الأول ولم يعد عن أخلاقه السيئة ولم يتحول وكان وحشياً لا يألف كل أحد إلا بعض أشخاص ألفهم وألغوه ومن قديم عرفوه ونتفوه ولأدباء دمشق فيه أهاج كثيرة ولهم معه مداعبات مشهورة والطف ما وقفت عليه منها قصيدة كتبها الأديب إبراهيم الأكرمي الصالحي إلى أحمد بن شاهين وذكر فيها أسماء جملة من الطيور إلى أن استطرد إلى ذكر القاف وهي قصيدة عجيبة في بابها ومطلعها:
مولاي يا نسر المعالي رفعة ... يغد ولديها الرخ ذا أطراق
لك عزمة الشاهين حقا يا ابنه ... وسطا العقاب بكل أخيل زاق
أفديك من باز حماه أعز من ... بيض الأنوق أعزدي أشراق
فقت القطامي المجد براعة ... وبلاغة يا أحوذي سباق
يا مزريا بالببغاء فصاحة ... أنا ذا مطوقك الصدوح الزاقي
يا خير مسعود بأيمن طائر ... يا دائم الافضال والاشفاق
يا بلبل الأفراح في دوح المنى ... وهزار أنس الواله المشتاق
لازلت ما دعت الهديل حمائم ... قوال صدق ليس بالمذاق
ندعوك للجلي فيجلي خطبها ... لازلت مذخور النفع رفاق
قل للبغاث الصعو خفاش الدجا ... حاكي الصدافي الخلق والأخلاق
ثاني غراب البين آوى منزلا ... بحديث زور مسند كنفاق
يا أيها الصرد الذي من سافر ... أدهى وأجبن خل عنك شقاقي
ما يدرك الخطاف في طيرانه ... للجوشأ والأجدل الخفاق
والمطرب الصداع لست أعده ... في الطير قبل إلا بقع النعاق
هل أنت إلا كالحجاري خصلة ... فسلاحها بسلاحها الدفاق
قبحت يا حزب الخرائب ذلة ... يا مشبه العصفور من دراق
أضحى يعرض نفسه من جهله ... للخارج الفتاك ذي الأخفاق
أطرق كراان النعامة في القرى ... يرنو إليها الطير بالأحداق(2/405)
نحن البراة الشهب في أفق العلي ... تعتولها العنقاء بالأعناق
ويصفق الطاوس من عجب بنا ... ويغرد القمري للعشاق
ولنا الشوارد فالجوارح بعضها ... والبعض هنّ سواجع الأوراق
فتشان أقوام وأقوام بها ... تزهو كزهو الورق بالأطواق
فمن العجائب وهي عندي جمة ... عتبي على زاغ بغير خلاق
ومن استحالات الزمان وقبحه ... وصفي وطاوط مالها من واق
رخم سوانحها بوارح عائف ... تحكي العقاعق أولعت بشقاق
وأسلم ودم في نعمة لبدية ... أبدية تبقي ومجدك باقي
ما غردت ورق الحمام فهيجت ... وجد الكريم ولا عج الأشواق
فلأنت فينا نعمة بل رحمة ... يا أحمد المحمود باستحقاق
وفي إيراد هذه القصيدة غنية عن ذكر ما هجي به ومن أحاسن شعره قوله من قصيدة:
سقي الخزاما باللوى والأقاح ... من عارض أبلج سجل النواح
حتى تراها وهي مخضلة ... تغص ريا بالزلال القراح
معاهدا للأنس كانت وهل ... لي وقفة بين جنوب البطاح
أيام في قوس الصبا منزع ... وللملاهي غدوة أو رواح
والظبية الأدماء لي منية ... وحبذا مرض العيون الصحاح
لم أنس يوم الطلح إذ ودعت ... وأدمت القلب بغير الجراح
يا وقفة لم يبق فيها النوى ... إلا ظنوناً ليس فيها نجاح
يا قلب خذني عن طريق الهوى ... ففي مناجاة المعالي ارتياح
فالراح والراحة ذل الفتى ... والعز في شرب ضريب اللقاح
ومن شعره قوله في دولاب الماء:
ودولاب روض قد شجانا أنيته ... وحرك منا لوعة ضمنها حب
ولكنه في بحر عشق جهالة ... يدور على قلب وليس له قلب
وله غير ذلك وكانت ولادته بالصالحية في سنة ست بعد الألف وتوفي في ختام ذي الحجة سنة ست وسبعين وألف ودفن بزاويتهم بسفح قاسيون ومن غريب خبره أنه تمرض ببستان يعرف بالجور تحت جوزة فيه ومات ثمة.
محمد بن حسين الملا بن ناصر بن حسن بن محمد بن ناصر بن الشيخ القطب الرباني شهاب الدين الأشقر العقيلي المشهور المعروف قبره بمدينة حماه الحموي الحنفي الفاضل البارع المفنن كان له صحة فهم وذكاء ومشاركة جيدة في علوم متعددة وطيب محاورة وصدق لهجة ولد بحماة وبها نشأ ولازم والده في العلوم العقلية والنقلية وتخرج به وأخذ عن خاله الخطيب أحمد بن يحيى علو ما متعددة وتأدب بهما ولما جارت حكام ذلك الأقليم على أهله هاجر غالبهم إلى دمشق فكان ممن هاجر مع والده وأهله وتوطن دمشق سنين عديدة ورحل إلى مصر وأخذ بها عن شيوخها كالعلامة عامر الشبراوي والشيخ سلطان المزاحي والشمس البابلي ولازم في الفقه حسن الشرنبلالي وعمر الدفري وغيرهما من فقهاء الحنفية وأجازوه وكتب بخطه كتبا كثيرة وتكرر تردده إلى مصر لطلب الرزق بالتجارة على عادة أسلافه المارة وجاور بالحرمين سنين كثيرة ورحل إلى اليمن مرتين ثم تدير مصر وأقام بها على الاشتغال وهو خال صاحبنا الفاضل الأديب الأريب مصطفى بن فتح الله شقيق والدته كفله بعد موت أبيه ورباه وبه تخرج كثيراً وقرأ عليه طرفا من العربية وذكر إن له شعراً كثيراً قال لكن لمن يحضرني منه إلا قوله في غلام اسمه عذيبي:
قد مسني قلق في وسط ساعية ... والبين يجري دموعي وهي تجري بي
من عشق ذي هيف حلوا للمي غنج ... أزوره خافيا والصبح يغري بي
أشكو إلى الله من ممشوق قامته ... وريق ثغر عذيبي فيه تعذيبي
وكانت ولادته في سنة أربع وعشرين وألف وتوفي بمصر يوم الجمعة تاسع جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وألف ودفن بمقبرة المجاورين رحمه الله تعالى.(2/406)
محمد بن خليل الإحسائي المكي الأديب الشاعر المشهور ذكره السيد علي ابن معصوم وقال في وصفه قاض قضى من الأدب الارب وحظى بارتشالى الضرب من لسان العرب وما زال بكعبة الفضل طائف حتى تقلد منصب القضاء بالطائف وكان شديد العارضة في علم العروض مبينا لطلابه منه السنن والفروض مع المام جيد باللغة والإعراب ومفاكهات تنسى معها نوادر الإعراب وهو من أبدع الناس خطا وأتقنهم للكتب نقلا وضبطا كتب ما ينوف على الألوف وخطه بالحجاز معروف ومألوف وله شعر أجاد فيه وأبدع وأودعه من الإحسان ما أودع فمنه قوله مهينا الشيخ عبد الرحمن المرشدي بالمدرسة السليمانية لما تقلد تدريسها.
لقد سرني ما قد سمعت فهزني ... بلذته هز المدام فأسكرا
وذلك لما أن غدا الحق راجعا ... لاهليه من بعد الضلال مكبرا
فدونكها مفتى الأنام حقيقة ... وأنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
وقوله في النسيب:
وشادن كالبدر شاهدته ... عيونه الدعج تميت الأنام
بدأت بالتسليم حباله ... فقال بالغنج عليك السلام
وكتب إلى القاضي تاج الدين المالكي وقد فوض إليه تغريق الصدقات الهندية:
أمام هذا العصر لا ... تجعل محبك في الأضاعه
ما خلت حاجاتي إليك ... وإن نأت داري مضاعه
لا تنس ثدي مودتي ... بيني وبينك وارتضاعه
فلقد عهدتك في الوفاء ... أخا تميم لا قضاعه
علما بأنك لي تود من ... التفاريق الفقاعه
صدقات قطر الهند قد ... صارت إليك بلا دفاعه
لا تتركني في الرعاع إذا تفرقت البضاعه
وكتب إليه مستقضيا منه إرسال نعل كان طلبها منه وهو بالطائف:
قاضي الشرع فقت هذا الأناما ... بحجي ثابت وعز فداما
وذكاء يفيد كل ذكي ... وإطلاع يخجل النظاما
أن أهل الكمال عطل وتاج الدين تاج يزين إلا قواما
من أناس في بطن مكة سادوا ... إذ غدوا يمنحون فضلا لها ما
زينوا منصب الرياسة والفضل ... بفضل ومنطق لن يراما
مذ حللت الحجاز ضاء ومذغبت ... رأينا عليه حزناً ظلاما
كل وقت لم ننسى ذكرك فيه ... فأحفظن للمحب منك الذماما
وادّكر حاجة المحب وإن رك ... إدّ كارى لها فحاشي المقاما
فراجعه القاضي بقوله مداعبا:
وصلت رقعة الحميم ولكن ... اقتضى النظم أن أقول الحماما
وصلت يقظة عيانا وكانت ... وصلت قبل ذا مراراً مناما
أذكرتني فأذكرت غير ناس ... لا تخلني أنساك حاشي المقاما
وكأني أراك تعرك بالتفكير ... فيها منك القذال دواما
إن تكن قد ضعفت لما تراخي ... بعثها عن وصولنا يا هماما
فاعتذاري شحي بأنسك لما ... كل حين تزورنا أحلاما
يالها من مطية أمتعتنا ... بمحياك زائراً بساما
قد لعمري وريت فيها بلطف ... واحتكمت التنكيت فيها احتكاما
كل أبياتها قصور ولكن ... كان بيت القصيد منها الختاما
فنشقنا فتيت مسك ختام ... زاد نشرا بما افتتحت النظاما
عجل الله ذلك الفأل منه ... وأقام المحب ذاك المقاما
فأعاد عليه الجواب بقوله:
وصلت زورة الفريد على ما ... كان في حليها مجا فقاما
وهي في كفه يفكر فيها ... أيرى ذروة لها أم سناما
أم يخلى سبيلها في عفاء ... ليرى أنها تقيم النظاما
وإذا احتجتها ليوم نزال ... فحميمي يكون فيها إماما
زينة يوم زينة وهي في الكف ... سلاح إذا أردنا اللطاما
إلى أن قال:
ثم لا زلت من أياديك تمطى ... كل وجناء لا تمل الزماما
كل يوم أرى نوالك يهمى ... مخجلا حين يستهل الغماما(2/407)
يا أخا الفضل إنني في زمان ... سل من جوره على الحساما
صدّعني فصدعني صديقي ... ورآني لا أستحق السلاما
هذه قسمتي جرت من قديم ... كلما رمته أراه حراما
وابق يا سيدي وقرة عيني ... في سرور ونعمة لا تسامي
ما أجاد المطالع الغر ذو الشعر ... وما أحسن البليغ الختاما
وأتبع ذلك بنثر فقال وبعد فقد وصلت المطية التي هي حمراء الوبر المركوبه في السفر والحضر الكافية راكبها مؤونة نفسها فلا تشرب الماء ولا ترعى الشجر فقبلها المملوك وما قبلها وأجهدها بعد ما قبلها فشكر الله فضلكم ولا أعدم أحبابكم طولكم والسلام قلت وتشبيه النعل بالمطية والراحلة وقع كثيرا في شعر العرب من المتقدمين والمتأخرين فمنه قول بعض العرب:
رواحلنا ست ونحن ثلاثة ... نجنهن الماء في كل منزل
وقال أبو نواس:
إليك أبا العباس من بين من مشى ... عليها امتطينا الحضرمي الملسنا
قلائص لم تعرف حنينا على طلا ... ولم تدر ما قرع الفتيق ولا الهنا
وقال أبو الطيب:
لانا قتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
شراكها كورها ومشفرها ... زمامها والشوع مقودها
وقال أيضاً:
وحبيت من خوص الركاب بأسود ... من دارش فغدوت أمشى راكبا
ولما تولى القاضي محمد قضاء الطائف في سنة أربع وثلاثين وألف أرخ ولايته الباشا محمد رضا الشهير بعجم زاده بقوله القاضي محمد وأرخه القاضي تاج الدين بقوله قاض بالطائف وكان قد عزل به القاضي إحسان ابن المدرس ولم يكن محمود السيرة فكتب إليه القاضي تاج الدين.
قاض طريقته المثلى قد اشتهرت ... فليس يخفى سناها منه كتمان
تبدي سريرته معلوم سيرته ... كالطرس دل على ما فيه عنوان
فحبه لصلاح الخلق أجمعهم ... سجية لم يخرها قط إنسان
ما زال يبذل في المعروف قدرته ... حتى تناقلت الأخبار ركبان
فصان عن فعل إحسان حكومته ... إذ طالما استعبد الأحرار إحسان
قلت ورأيت بخط الأخ ابن فتح الله هذه الأبيات كتبها القاضي محمد المذكور إلى القاضي تاج الدين وقد طلب شيئاً من شعره:
لديك أخا العلياء والفضل والعلم ... ومن جل من بين الإخلاء بالفهم
تحل رحال الظاعتين ومن غدا ... إليك بدا في حاملي العلم كالنجم
لئن كان رب العلم كالرأس في الورى ... فأنت له تاج يضئ بلا كتم
طلبت من النظم البديع لالئا ... فدونكها كالعقد في الحسن والنظم
تشنف أسماع الرواة بدرها ... وتقطع أفلاذ الغبي من العم
فيا أيها القاضي المولد طبعه ... من العلم أفنانا تجل من العقم
نوائب هذا الدهر غالت قريحتى ... ودقت عظامي بعد تمزيقها لحمى
فلو أن هذا الدهر يبدي تعطفا ... لظل بديع النظم والنظم في سهم
ولو أن جزأ من همومي مفرق ... على الخلق عاموا في بحار من الهم
وسامح فمنديل القرار مقطع ... ورق القلب لا يقر من الفدم
ودم أبدا في نعمة ضدها له ... يطأطئ رأسا في الرغام من الرغم
وكانت وفاته في سنة أربع وأربعين وألف.
محمد بن داود قاضي القضاة بالشام الشهير برياضي الأطروش الرومي أوحد فضلاء الروم وشعرائهم المفلقين ونبغائهم الموصوفين وديوانه بينهم سائر مشهور مرغوب فيه وله تذكرة الشعراء وهي مقبولة أيضاً واختصر من تاريخ ابن خلكان كتاباً مختصراً وكان يتحجج بتأليفه ولي قضاء الشام في يوم الأربعاء ثامن عشر جمادى الأولى سنة ست وعشرين ودخلها وأرخ توليته الشيخ عبد اللطيف المنقاري بقوله:
قال الحيا لما استقر بجلق ... قاض به قاضت عيون حيانسي
أرخت مقدمه فكتان بجلق ... يا صاح تاريخا بهاء رياضي(2/408)
وكان مذموم السيرة في قضائه لكثرة طعمه وقلة أنصافه وتصرف في زمنه يوسف بن كريم الدين رئيس الكتاب في حقوق الناس وأموالهم وجمع أموالاً كثيرة لأنه كان يلعب به لعب الصبيان بالكرة وكانت له زوجه مشغولة باللهو واللعب سمع عندها ليلة صوت الآلات فقال ما هذا فقالت له إن المؤذنين يذكرون في المنارة فصدق قولها وكانت متصرفة في منصبة وفيها يقول العمادي:
قضايا ابن داود في حرثه ... على عجل لم تزل جاريه
تلقنه الحكم عند القضا ... فيا ليتها كانت القاضيه
وقد سبقه إلى ذلك بعض الشعراء في هجو قاض كان محكوماً لامرأته:
بلينا بقاض له زوجة ... عليه أوامرها ماضيه
فيا ليته لم يكن قاضياً ... وياليتها كانت القاضيه
ثم عزل عن قضاء الشام ورحل إلى الروم فلم تطل مدة مكثه بها حتى مات وكانت وفاته في حدود سنة ثمان وعشرين وألف بقسطنطينية قاله النجم الغزي.
محمد بن زين الدين النجمعواني الأصل الدمشقي المولد تقدم أخواه إبراهيم وأحمد المعروف بالمنطقي ومحمد هذا هو الأكبر منهم كان من أعيان علماء الشام وكرمائها ورزق الحظ العظيم في الرياسة أول أمره ونفذت كلمته وولي النيابة بدمشق مرات عديدة وكذلك قسمة العسكر وكان حسن الخط وله معرفة بالإنشاء في اللغة الفارسية والتركية وفيه سخاء ولطف وحسن لقاء إلا أنه كان محتالا كذوباً واستبد بعزة وافرة ولم يسبقه أحد إلى التصر ف الذي كان فيه والاختلاط بالوزراء والحكام وكان جل الناس الذين يحترموت ساحته يخشون من أذيته لجسارته في الأمور ولوجود أخيه الأوسط المنطقي في الروم بالجملة فقد كان صدراً من صدور الشام وفيه يقول الفتح ابن النحاس قصيدته المشهورة وهي من غرر القصائد ومطلعها:
نظر والغايتك التي لم تلحق ... فتحققوا أن العلي للسبق
طلبوا العلي وسعوا ولكن فتهم ... وأتيت من طرق لها لم تطرق
شابوا وما لحقوا الغبار فحظهم ... ما كان غير غبار شيب المفرق
بأخيك أو بك أشرقت سبل العلي ... وتبسمت بالبارق المتألق
من للعلى بمحمد وبأحمد ... حتى تدل بمنظر وبمنطق
لا يبعد الإخوان كل فرقد ... لكن كلا مشرق في مشرق
وهما كما ضاءت بنجمهما العلي ... ستضئ بالصبحين جبهة حلق
أمحمد وكلا كما من دوحة ... تدلى بفرع في المعالي معرق
حببت عشق المجد حتى سامه ... من كان ذا عشق ومن لم يعشق
لكن تفاوتت الحظوظ فعاشق ... رزق الوصال وآخر لم يرزق
إني لا عذل حاسديك لأنهم ... يترقبون وقوع مالم يخلق
تعب الذي في الأرض أصبح طاويا ... للفرقدين حشا الحسود المحنق
لا تخشهم فالدهر أن تنقم بهم ... ينقسم وإن تعطف لرفق يرفق
وإذا وجدت من العناية سلما ... فامدد خطاك وثق بربك وارتقي
وأسلم على خدع الحظوظ موقفا ... ليدوم من عاداك غير موفق
ولما ولى أخوه المنطقي قضاء حلب أرسل يطلبه إليه فرحل وأخذ معه أخاه الأصغر ووالدتهم وأختالهم ثم ولي أخوة قضاء الشام فصيره بعد أيام نائباً عنه ووقعت منه هفوة فأهان الشيخ عمر بن قطب الدين وهو معروف بصحة الانتساب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه فاتهم لذلك بالرفض وقتل أخوه قريباً من ذلك فضاقت في وجهه الشام وخرج إلى حلب وآمد وأقام مدة في تلك النواحي ثم رجع إلى الشام في سنة ثمان وأربعين وألف وولي قسمة العسكر ثم عرضت له أمور فهاجر إلى الروم وأقام خمس سنوات ثم صار قاضياً بأرزن الروم ولما عزل عنها جاء إلى دمشق وأقام بها مدة وباع أكثر كتبه وأسبابه ورحل إلى دار الخلافة فلم يطل مقامة بها حتى مات وكانت وفاته سنة ست وخمسين وألف عن ست وخمسين سنة.(2/409)
محمد بن زين العابدين بن محمد بن علي أبو الحسن الأستاذ الكبير قطب الأقطاب الشمس البكري الصديقي المصري بركة الدنيا وسر الوجود ولسان الحضرة ولب الباب العرفان كان ومن العلم والتحقيق آية من آيات الله تعالى ومن الولاية والتحقق غاية من الغايات وكان فصيح العبارة طلق اللسان كثير الفوائد جم النوادر وكانت الولاية ظاهرة عليه مع الدين المتين والعقل الكامل والتظاهر بالنعمة في الملبس والمأكل والخدمة وكان من أحسن الناس خلقا وخلقا مجللا عند الكبراء والوزراء ذا جاه عريض معتقداً عند عامة الناس وخاصتهم مسموع الكلمة مقبول الشفاعة يرجع إليه في مشكلات الأمور رفيع الهمة كريم الأخلاق ولد بمصر ونشأ بها وحفظ القرآن وتأدب واشتغل بطلب العلوم واتقنها وبرع في كثير من الفنون سيما علم التفسيروالحديث وكان له في علوم القوم وأصول التصوف قدم راسخ وأقبل على التدريس إلى أن صار رئيس البيت البكري فكان يدرس على عادة إسلافة في الجامع الأزهر في الليالي المشهورة كليلة المولد والمعراج والنصف من شعبان ثم لما كبر ترك ذلك كله واستقل بالإفادة في بيتهم المعمور وقد ذكره والدي رحمه الله تعالى في رحلته المصرية فقال في وصفه عين أعيان هذه القادة وثمين درر هذه القلاده فرع غصن الدوحة البكرية وفنن الشجرة الطاهرة الصديقيه التي لم تزل من البركة والسمو في النماء أصلها ثابت وفرعها في السماء رونق الليالي والأيام وتاج رأس العلماء الأعلام بهجة الجميع ورواء حسنها البديع من أضحت له في العلوم الحقيقية الرتبة الشامخة وفي المعارف الإلهية القدم الراسخة ولو لم يكن له من عموم الشرف إلا خصوص هذه النسبه لكفاه ذلك في الفخر وعلو الرتبه وناهيك فخراً بأنه من ذرية من اختاره الرسول للصحبة والمصاهرة واصطفاه للخلافة على ملته وشريعته الطاهرة فيحق لأهل السنة والجماعة أن يطوفوا ويسعوا إلى هذا البيت في كل وقت وساعة فياله بيت عموده الصبح وطينته المجره ومن ادعى بيتا يضاهيه فتلك منه معرة إن تكافأت البيوت في الشرف فعلى شرف هذا المعول أو تطاولت في الأنساب فدعائم هذا البيت أعز وأطول وإني لأحمد الله تعالى على أن جبلني على المغالاة في حبهم وطبعني على الموالاة لأهل البيت ولأهل نسبهم انتهى واجتمع به شيخنا العلامة إبراهيم بن عبد الرحمن الخياري المدني في مرتحله إلى مصر وذكره في رحلته التي ألفها وقال بعد توصيفه وقد شرفني لمناسبة ذكر النيل بتأليف له فيه جديد عهد وفريد عقد ذكر فيه النيل وما ورد فيه من الآيات والأدحايث وما يتعلق به من ذكر مبدئه ومن أين هو أجاد فيه كل الأجاده وحاز الحسني وزيادة وأما شعره فما العقد الفريد في أجياد الغيد قد أشرقت في الخدود ذات التوريد وما قلائد العقيان تنضدت في نحور الحسان وأما نثره فما لرياض النضرة كلل عيون زهرها الطل ونبه أحداق الورد النرجس بها الوبل وسرى عليل نسميها مبلل الأذيال بعذب تسيمها وماز واهر الأفق المنتثرة قد لاحت مشرقة في فلكها مضيئة في طرائق حبكها تهدي من ضل وتورده من نهر مجرتها النهل والعل مع تتويجهما بجواهر المعارف وتسمطيهما باليواقيت من بحر كل عارف تلهج منهما إذ تحلى بهما بعد الآذان السطور والطروس وتتملى بهما الأعيان والقلوب والنفوس وقد أصبحا بيت القصيد المشيد العالي ويتيمة سلك الخلاص المنضد بفرائد اللآلي فتخلب الأفئدة وتشوق وتدعو إليهما الألباب وتسوق وقد جاوزا الحد كثرة وبلاغة وتفننا في طرق الصناعة والصياغة وأفرداً بالجمع فكانا دواوين وحليا كل سمع فما العقد الثمين وانتشر في مشارق الأرض ومغار بها وعما جميع مسالكها ومذاهبها أردت أن أسطر شطراً منهما في هذه الوريقات ثم أحجمت لأن ذكر البعض وحذف البعض تقصير في حقوقهما الواجبات والنفس مولعة بالانتقاء والانتقاد وكلها أفراد جياد واستيفاء الموجود كله لا ينوء المتن بحمله فليحج كعبة ديوانه من أراد أبياته وليسلك في سعيه بالصفا إليه ميقاته ليظفر بالحجر المكرم من ذلك البيت ويفوز بكيمياء السعادة التي لا تفتقر إلى لو ولا ليت ومدحة بقصيدة مطلعها:
ليس يهدا تشوقي والحريق ... وفؤادي أودي به التفريق
وضلوع من الجوي خافقات ... حين عز اللقا وبأن الفريق(2/410)
معشر أصبح الفؤاد لديهم ... في أسار والدمع فيهم طليق
معشر بالنقا وبأن المصلى ... برناهم قلبي المعنى رشيق
لست أنسى معاهداً لظباء ... لحن فيه والخد منها شريق
إن تبدوا فكل ذاتي عيون ... أو تناء وافكل نهج طريق
من عذيري في حبهم من مجيري ... من ولوعي بهم وكيف أفيق
غربتني الحظوظ حتى أطاحت ... بركابي النوى ونهج سحيق
غربة الشكل واللسان مع الأهل ... ومن ذا لبعض ذاك يطيق
ثم تخلص إلى المدح قلت وقد وقفت للاستاذ على ديوان مجموع أوقفني عليه غصن دوحته الاستاذ الأعظم زين العابدين في قدمته التي شرف بها الشام لا برح واطئا فوق السها بأقدام الإجلال والإعظام وهذا الديوان قد اشتمل على نفائس القصائد والموشحات والمقاطيع والألغاز ورأيت الأمر فيه كما قال شيخنا بينا يراد انتخاب بعض شيء يقف الرأي عند جميعه والوقت يضيق عن كتابته فلم أتشرف منه إلا بهذه الأبيات من جملة قصيدة مدح بها شيخ الإسلام يحيى المنقاري وأرسلها إلى الروم ومطلعها:
أمسكية الأنفاس أم عبقة الند ... وناسمة الازهار أم نفحة الورد
منها في المديح:
ومعتقل للغر صعدة عزمه ... أنا بيبها رعافة بدم الأسد
ومرسل إرسال العطايا مباريا ... بأيسرها وطف الغمائم في الرفد
فيا من له ودي من الناس كلهم ... ومن هولى من بينهم غاية القصد
ومن صرت في مدح علاه كأنني ... حمامة جرعا فوق ميالة الملد
على أنني ما فهت يوما لماجد ... سواه بشعر لا بقرب ولا بعد
ولكن دعاني الشوق لبيت مسرعا ... وهذا وما أخفيه بعض الذي أبدي
ألية محنى الضلوع على الأسى ... تحار الأسى مما يراه من الوجد
له زفرات من فؤاد تضرمت ... به نار شوق دونها النار في الوقد
لأنت الذي ما حل في القلب غيره ... ولا حال حالي فيه من ذلك العهد
ولم ترعيني مثله بعده وهل ... يميل إلى غورفتي عاش في نجد
وكانت وفاته ليلة الجمعة ثاني عشري شهر ربيع الأول سنة سبع وثمانين وألف وصلى عليه إماما بالناس الشيخ منصور الطوخي بالأزهر في مشهد عظيم حافل ودفن بالقرافة الكبرى في قبة آبائه المعروفة هناك رحمه الله تعالى.
محمد بن سعد الكلشني نزيل دمشق كان من أدباء الصوفية له محاضرة رائفه وأخبار عجيبة وكان فضلاء دمشق يميلون إليه ويعاشرون منه رحلا سهلا خلوقاً متودد إطارحا للتكلف صاحب نوادر وآداب وكان ينظم الشعر وله شعر مطبوع منه قوله:
وإني امرؤ في طبعي العز والفتا ... ومذ كنت طفلا لا أذل وأخضع
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكن ... إليه بوجه مدة مدة العمر ترجع
وقوله:
يا ناظر الخيال الفكر مفتكراً ... أنت الخيال وفيك السر فاعتبرا
أنظر مصور هذا الكون منك ترى ... مصور الكل في الأشياء قد ظهرا
وقوله مضمنا:
يا واحداً عم الوجود وجوده ... وجماله في الكون أضحى بينا
أنت الذي ظهرت حقيقة ذاته ... في كل شيء والحجاب تعينا
كالشمس يمنعك اجتلاء وجهها ... فإذا اكتست برقيق غيم أمكنا
وله غير ذلك وكانت وفاته بدمشق في سنة سبع وثلاثين وألف.
محمد بن سعيد باقشير المكي الفاضل الأديب الشاعر من ألطف أدباء الحجاز وأكثرهم نوادر وتحفا وقد ذكره ابن معصوم فقال في وصفه أديب بارع وشاعر له في مناهل الأدب مشارع نظم فأجاد وأرزم سحاب فضله فجاد فعلت رتبته في القريض وسمت وافترت ثغور محاسنه وابتسمت كل ذلك عن غير تكلف نحو عروض بل عن قريحة تذلل له جوامح الكلام وتروض فجاء نظمه السهل الممتنع ونزهة الناظر والمستمع ثم ذكر قوله من قصيدة يمدحها السيد أحمد بن مسعود:
علقا أظنك بالكعاب الرود ... أم والها بهوى الظباء الغيد
أسبلن أمثلة الغداف غدائرا ... سودا تطل على الليالي السود(2/411)
وسفرن عما لو لطعن بمثله ... خد الظلام لما بد بالبيد
بيض يرنحهن ريعان الصبا ... تيها كخوط البانة الأملود
عذرا لعذول على الهوى فيها وقد ... عنت لنا بين اللوى وزرود
فطففت أنشده على تأنيبه ... أرأيت أي سوالف وخدود
ترتب يدا للوام كم ألظت حشا ... دنف بألهوب من التفنيد
أو مادروا أن الجمال حبائل ... ما أن يصاد بهن غير الصيد
ولرب مهضمة الحشا بهنانة ... المتنين منعمة الأزار حرود
ترنو فتحسب أم خشف ثارها ... القناص عن خضل الكلا مخضود
لله أحداق الحسان وفعلها ... في قلب كل متيم معمود
ألحقنني البر حاء لكني امرء ... وزري بركن في الملوك شديد
وقوله وكتب بها إليه أيضاً يصف أمة له سوداء مداعبا:
أبت صروف القضا المحتوم والقدر ... إلا أشابه صفو العيش بالكبير
وإن من نكد الأيام أن قربت ... دار الحبيب ولكن شط عن نظري
بي من سطا البين مالو بالجبال غدت ... عهنا وبالسبعة الأفلاك لم تدر
نوى الأحبة والشوق الشديد ولي ... جوى تجدده مهما انقضى فكري
وزادني الدهر هما لا يعادله ... هم بسمراء ألهتني عن السمر
زنجية من بنات الزنج تحسبها ... حظى تجسم جثمانا من البشر
كأن قامتها ليلى ومنخرها ... ذيلي فيالك من طول ومن قصر
لها يد ألفت حطب الكسار ولو ... باتت تحوط بالهندية البتر
تسطو على القرص سطوي غي ذي جبن ... لو أنه بين ناب الليث والظفر
كم غادرتني من جوع ومن سغب ... جزنا أعض بنان النادم الحصر
ورب يوم غدا موتي يجر عني ... كاساته فيه حتى عيل مصطبري
أروضها تارة عتبا وأزجرها ... طورا فلم يجد تأنيبي ومزد جرى
وربما أفحمتني القول قائله ... وليس كل مقال بالجواب حرى
تخشى الردى وبنود المجد خافقة ... على ابن مسعود فرع الفرع من مضر
وقال على مصطلح أرباب الحال وهي قصيدة غريبة:
ربما عاكف على الخندريس ... رافل في ملابس التلبيس
جهبذ يملأ الدفاتر علما ... لم يبل بالتقرير والتدريس
أيما خطة أردت تجده ... قهرمان المعقول والمحوس
يعلم السابقين من عهد طسم ... ويفيد الطلاب عصر جديس
علم لم يكن على رأسه نار ... ولكن كالنور في الحندوس
ماشياً عمره على نهج الصدق ... على مابه من التدليس
دفة مرة وآونة قس ... وطوراً يمليك عن إبليس
وعليم بطب علة بقراط ... ويهز وبجد جالينوس
أرمه حيث شئت تلق أخا ... النجدة من آدم ومن إدريس
لعب الجد منه بالجيل الراسي ... وبالضيعم الهموس العبوس
من هوى ربة الحجال ومن قد ... لعبت من دلالها بالنفوس
والتي خيمت على كل قلب ... ورمت كل مهجة برسيس
وأبت أن ترى بعين محب ... قط إلا في صورة ولبوس
لاح من نورها الأغر سناء ... فترا آى في ناره للمجوس
قد بدت للكليم ناراً ولكن ... لا بحصر ففاز بالتقديس
وغدا المانوى منها على رأى ... صحيح لكن بلا تأسيس
والنصارى ظلت على صور ... شتى فضلت برأيها المعكوس
قيدوا مطلق الجمال فباتوا ... في قيود الشماس والقسيس
كيف من قيدت تقيد والإطلاق ... قيد القيد غير مقيس
شأنها في محبها فتها الأكباد ... من رائس ومن مرؤس(2/412)
رب قلت قدتاه فيها فلم ... يدر حسيسا ولم يمل للمسيس
ظل فيها في حجفل من سرور ... وخميس يلقي الأسى بخميس
كلما أسفرت له عن نقاب ... وفني في فنائه المأنوس
أشرقت من وراء ذاك لعينيه ... بمغنى حسن الجمال النفيس
فطوى كشحه على غصص ... الوجد تقي بين طامع ويؤوس
قلت تذكرت بمطلع هذه القصيدة وصدرها ما حكاه العلامة البهاء في كشكوله وهو أن تاجراً من تجارة نيسابور أودع جارية عند الشيخ أبي عثمان الحميري فوقع نظر الشيخ عليها فعشقها وشغف بها فكتب إلى شيخه أبي حفص الحداد بالحال فأجابه بالأمر بالسفر إلى الري لصحبة الشيخ يوسف فلما وصل إلى الري وسأل الناس عن منزل الشيخ يوسف أكثروا من ملامته وقالوا كيف يسأل تقي مثلك عن بيت شقي فاسق مثله فرجع إلى نيسابور وقص على شيخه فأمره بالعود إلى الري وملاقاة الشيخ يوسف المذكور فسافر مرة ثانية إلى الري وسأل عن منزل الشيخ يوسف ولم يبال بدم الناس له وازدرائهم به فقيل له أنه في محله الخمار فأتي إليه وسلم عليه فرد عليه السلام وعظمه ورأى إلى جانبه صبيا بارع الجمال وإلى جانبه الآخر زجاجة مملوءة من شيء كأنه الخمر بعينه فقال له الشيخ أبو عثمان ما هذا المنزل في هذه المحلة فقال أن ظالما شرى بيوت أصحابي وصيرها خمارة ولم يحتج إلى بيتي فقال ما هذا الغلام وما هذه الخمرة فقال أما الغلام فولدي من صلبي وأما الزجاجة فخل فقال ولم توقع نفسك في مقام التهمة بين الناس فقال لئلا يعتقدوا إني ثقة أمين فيستودعوني جواريهم فأبتلي بحبهن فبكى أبو عثمان بكاء شديداً وعلم قصد شيخه انتهى وبهذه الحكاية يظهر معنى صدر هذه القصيدة ويحصل الجمع بين ما في ظاهرها من المدح والقدح رجع ومن شعرها صاحب الترجمة وهو مختار من قصيدة له:
أتعذل في لمياء والعذر أليق ... تعشقتها جهلا وذو اللب يعشق
ولا عيش إلا ما الصبابة شطره ... وصوت المثاني والسلاف المتق
وجوبك أجواز الموامي مشمرا ... إلى المجد يطويها عذافر معتق
وإن تنهاداك النعائم معلما ... تضلك أو تهديك بيداء سملق
وغن ترد الماء الذي شطره دم ... فتسعي برأى ابن الحسين وترزق
وأسوغ ما بل النهى بعد عيمة ... وأروى من الماء الشراب المروق
فدع لجج التعنيف وابك بذي اللوى ... دياراً كأنها للتقادم مهرق
أحالت مغانيها السنون فأصبحت ... قوى لهريق الودق والريح مخرق
وقفت بها والقلب بالوجد موثق ... كغيت الردى والجفن بالدمع مطلق
أناشدها بينونة الحي عن حوى ... بقلب إذا هب النسائم يخفق
شح تتصاباه الصبا وتلوعه الجنوب ... ويشجوه الحمام المطوق
إلى الله أفعال الليالي بهاوبي ... لقد كنت منها دائم الدهر أفرق
فلو سلمت من حادث الدهر دمنة ... بديل على هام الدهور الخورنق
ومن محاسنه قوله في زيات بديع الجمال وقد أجاد في التورية:
أفديه زياتا رنا وانثنى ... كالبدر كالشادن كالسمهري
أحسن ما تبصر بدر الدجى ... يلعب بالميزان والمشتري
وله غير ذلك من غرر النوادر وكانت وفاته بمكة في سنة سبع وسبعين وألف.(2/413)
محمد بن سعيد المريغتي السوسي الأصل والمنشأ نزيل مراكش وإمام مسجد المواسين بها كان إماما عالماً في التفسير والحديث والفقه وعلوم العربية وفي الأوفاق والتنجيم والفلك بحر إلا ساحل له قرأ ببلاده على كثيرين ثم بتافيلات على الشريف عبد الله بن طاهر وبمراكش على مفتيها عيسى الكناني ثم تصدر بها للتدريس وانتهت إليه بها الرياسة في العلوم وكان مكثراً من قراء الكتب الستة والشفا وإسماعها لطلبة الحديث النبوي وأخذها عنه عالم لا يحصون وتخرج به في طريق التصوف كثيرون ولازمة أفاضل عصره من المغرب الأقصى والأدنى وممن أخذ عنه وتخرج به الفاضل العلامة إبراهيم السوسي ومحمد البوفراني وكانا كثيراً ما يديمان ذكره ويحاضران به في مجالسهما ويذكران عنه وقائع غريبة منها أن رجلا شكي إليه وإلى بلده وذكر له مظلمته فقال له سر إليه وقل له يقول لك محمد بن سعيد لا تجلس في البلد فلم يبت بها وفارقها ولم يرجع إليها وبلغ السلطان خروجه منها بغير إذن منه فأرسل يطلبه فسأله عن سبب الخروج فقال لما أرسل إلى لم يستقر لي قرار بالجلوس وخرجت بغير اختيار فعزله عن عمله وأرسل لها واليا آخر ومنها أن رجلا اجتمع عليه ديون كثيرة وعجز عن قضائها فأتى إليه وذكر له ذلك فقال له اذهب إلى المكان الفلاني واقرأ الأخلاص إلى أن يأتيك رجل صفته كذا فقل له يقول لك محمد بن سعيد أعطني وأطلب منه ما تريد فذهب وأتاه الرجل فذكر له ذلك فأعطاه ما طلبه وله مؤلفات كثيرة منها منظومة في الوفق المخمس الخالي الوسط ومنظومة في علم الحجر ومنظومة في التنجيم ومنظومة في التصوف ومنظومة في الفقه وأخرى في النحو وله شعر وإنشاء وكانت وفاته شهيداً بالطاعون في سنة تسعين وألف بمراكش وصلى عليه بالجامع المذكور ودفن بتربة باب أغمات وعمره خمس وتسعون سنة.
محمد بن سليمان بن محمد الكيلاني القاضي الشاعر الرومي الشهير بحكيمي ذكره ابن نوعي وقال أصله من لاهجان في خطة كيلان وقال ابن الحنائي في تذكرة الشعراء أصله من أبهر من قصبات قزوين كان في ابتداء أمره صحب المولى اللارى وبسببه رحل إلى الهند واتصل بسلطانها هما يون شاه ثم ورد الروم في عصر السلطان سليم الثاني ووصل إلى معلم ابنه السلطان مراد المولى إبراهيم ولازمه وفي ذلك الأثناء صار معلماً لمحمد باشا المعروف ببكلر بكى نديم السلطان ثم ولى التداريس فصار أولا مدرس الجانبازيه ثم لما تمت مدرسة الوزير الأعظم عثمان باشا في سنة سبع وتسعين وتسعمائة أعطيت له فهو أول مدرس بها ثم أعطى مدرسة فاطمة سلطان ثم مدرسة محمد باشا باسكدار ثم أعطى قضاء قيصرية وطرابلس الشام دفعات وله شعر وإنشاء ذكر منه ابن الحنائي أشياء نوادر وكانت وفاته في أواخر المحرم سنة ست وعشرين وألف بمدينة قسطنطينية.
السيد محمد بن سليمان بن محمد بن أبي الفتح بن تاج الدين بن أحمد بن إسمعيل بن موسى ابن يحيى بن مرعي بن إسمعيل بن سليمان الميسوني المقيم ببلده شيري بميسون بن إبراهيم أبن علوان بن إسمعيل بن أبي بكر بن إدريس ابن إدريس الأكبر ابن عثمان بن حسين بن محمد بن موسى بن يحيى بن عيسى بن محمد التقي عيسى أبي الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضاء بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضى الله عنه السيد الشريف المصري نزيل الشام المعروف بالمسرابي قدم الشام وسكن قرية مسرابا بكسر الميم ثم سين مهملة ساكنة وراء بعدها ألف ثم باء موحدة وألف مقصورة من قرى الغوطة وكان فاضلاً متمكنا ورعا زاهد القي من الناس قبولا تاما وأقبلت أهالي دمشق عليه وعظموه واعتقد وافيه ولزمه جميع من الفضلاء فكانوا يقصدونه كل يوم في موطنه للقراءة مع بعد المسافة وبعضهم يذهب ماشياً لأجل التبرك وبلغني أن بعضهم التزم أن يذهب إليه حافياً وكانت له أحوال تدل على صلاحه وعلمه وكان في التصوف مفرد زمانه ويحل كتب ابن عربي واضرابه أحسن حل ولم أسمع أنه ألف أو قال شعراً وغاية ما يقال فيه أنه كان من خيار خلق الله تعالى وكانت وفاته في رابع شعبان سنة اثنتين وستين وألف.(2/414)
محمد بن سنان المعروف بشيخ زاده أحد موالي الروم البارعين قدم أبوه إلى قسطنطينية من بلده كيبوزه وهي بليدة صغيرة على ساحل البحر يتوصل منها إلى اسكدار على طريق الذهب من قونية وبينهما مسافة سبع ساعات وكان شيخنا معتقدا وأعظا ورزق أولاداً أكبرهم محمد هذا فنشأ مشتغلا بالعلم حتى عد من العلماء الكبار وكان فقيهاً مطلعاً على المسائل قوي الحافظة واشتهر بالفقه مع أنه في غيره أيضاً من الفائقين ولازم من شيخ الإسلام أبي الميا من ثم اتصل بخدمة شيخ الإسلام يحيى بن زكريا فصبره أمينا لفتواء ومهر في هذه الخدمة حتى صار فيها مرجعا يعول عليه ولما بني المولى يحيى المذكور مدرسته بقسطنطينية صيره مدرسها وهو أول من درس بها وصحبه معه إلى سفر روان ولم يزل بعدها يترقي في المدارس إلى أن ولي السليمانية ونقل منها إلى المدرسة أيا صوفيا بتربة دار الحديث ثم ولى قضاء حلب في سنة اثنتين وخمسين وألف ثم ولي قضاء الشام ودخلها في سنة سبع وخمسين ثم عزل عنها وولي بعدها قضاء الغلطة ثم أدرنه ثم صار أمين الفتوى لشيخ الإسلام البهائي ثم صار قاضياً بقسطنطينية ثم أعطى رتبة قضاء العسكر بانا طولي وقضاء أنقره على وجه التأبيد ولم تطل مدة حياته بعد ذلك فتوفي في شوال سنة ثمان وستين وألف ودفن تجاه داره بقسطنطينية قريب المكان المعروف بقرمان.
محمد بن شعبان الطرابلسي الحنفي من أهل طرابلس المغرب ذكره ابن نوعي ووصفه بالفصل الباهر وقال قدم قسطنطينية في سنة ست عشرة وألف وتناظر مع علمائها فظهرت مزيته وروعي حقه وأقبل عليه شيخ الإسلام صنع الله بن جعفر وأعطاه قضاء بلده باعتبار المولوية وأضاف إلى القضاء الفتوى والتدريس فتوجه إلى وطنه وله تأليف باهرة منها شرح مجمع البحرين سماه تشنيف المسمع في شرح المجمع وجمع مناقب الشيخ أبي الغيث القشاش المقدم ذكره وله غير ذلك من الآثار ما ليس له نهاية وفتاويه كلها مسلمة وكانت وفاته في سنة عشرين وألف.
محمد بن صالح بن محمد بن عبد الله بن أحمد الغزي التمرتاشي حفيد شيخ الإسلام الشمس محمد بن عبد الله صاحب التنوير وغيره الآتي ذكره قريباً إن شاء الله تعالى كان محمد هذا من فضلاء الفقهاء الحنفية برع في شبابه وقد أخذ ببلده عن والده وعن ابن المحب ثم رحل إلى القاهرة وتفقه بها على الشهاب أحمد الشوبري والحسن الشرنبلالي والشيخ محيي الدين الغزي الفاروقي والشيخ أبي بكر الجبرتي وأخذ الحديث عن الشيخ عامر الشبراوي والشيخ عبد الجواد الجنبلاطي والشيخ أبي الحسن بن عبد الرحمن بن محمد الخطيب الشربيني الشافعي والشيخ محمد بن عبد الرحمن الحموي والشمس محمد بن الجلال البكري وأبي العباس أحمد المقري المغربي والشيخ عبد الرحمن ابن يوسف البهوتي الحنبلي ورجع إلى بلده وقد بلغ الغاية من الفضل وألف في حياة والده تأليف منها شرح الرحيبة ونظم ألفية في النحو شرحها أبوه في حياته وأولها قال محمد هو ابن صالح أحمد ربي الله خير فاتح وله منظومة في المناسخات ورسالة في تفضيل الإنسان وله شعر ك ثير وكانت وفاته في سنة خمس وثلاثين وألف ووالده موجود في الأحياء رحمه الله تعالى.
محمد بن صالح بن محمد بن أحمد أبو الفتح شمس الدين الدجاني القدسي الشافعي كان من العلماء الراسخين ارتحل إلى مصر وأقام بالأزهر سنين عديدة واشتغل بالفقه على مشايخ كثيربن منهم الشهاب القليوبي والشيخ سلطان المزاحي والشيخ علي الحلبي صاحب السيرة وأخذ عن البرهان اللقاني والشهاب أحمد بن عبد الوارث الصديقي وعبد الجواد الجنبلاطي وغيرهم في علوم متفرقة وأخذ الحديث عن أبي العباس المقري واشتغل في أواسط عمره بالتصوف أخذه عن جده لأبيه وصنف رسالة العقد المفرد في حكم الأمرد وله غيرها من التأليف وانتفع به خلق كثير وكان في آخر أمره شرع في قراءة الجامع الصغير للسيوطي فوقف عند حديث أتتكم المنية وتوفي وكانت وفاته في سنة إحدى وسبعين وألف.(2/415)
محمد الأمين بن صدر الدين الشرواني نزيل قسطنطينية أجل أفراد الدنيا في التحقيق والتجر من كل فن لم ترعين من وصل إلى شمة من ذكائه وتضلعه من العلوم في عصره أخذ عن الملا حسين الخلخالي وكان يعرض عليه حاشيته على شرح العقائد العضدية للملا جلال الدواني فيزيفها له حتى شهد له بأنه أفضل منه ومن مؤلفاته تعليقات على أماكن من تفسير البيضاوي وكلامه فيها يدل على أنه جمع الفنون كلها وشرح على جهة الوحدة التي للغزي في أول شرحه على إيساغوجي صعب المسلك وهو يقرأ في الروم واعتنى به جماعة وكتبوا عليه حواشي وتحريرات منهم السيد المعروف بازميري أمير واعظ جامع السلطان بايزيد كان وقد قرأته بعون الله تعالى مع حواشيه بالروم وانتفعت به وله كتاب سماه بالفوائد الخاقانية مشتمل على ثلاثة وخمسين علماً ألفه باسم السلطان أحمد وجعل العلوم التي فيه عدد اسمه وكان خرج من بلاده فوصل إلى الوزير نصوح وهو معين لقتال شاه العجم فعظمه وبالغ في احترامه ورتب له التعابين الوافرة ثم صحبه إلى الروم فأقبل عليه أهلها ولزمره للأخذ عنه واشتهر حد الاشتهار فولاه السلطان أحمد مدرسته برتبة قضاء قسطنطينية وانعكفت عليه الأفاضل وكان يحضر درسه ما يزيد على ثلثمائة تلميذ وحدثني حفيده المولى الفاضل صادق قاضي القضاة بمصر أن جماعة من قضاة العساكر كانوا يذهبون إلى درسه ويستمعون من الشبابيك ولا يدخلون إلى داخل الدرس حذرا من هضم جانبهم وحضورهم في زي مستفيد وحكى لي من فطانته وتحقيقه واستحضاره للمسائل وأجوبتها ما يبهر العقل قال ولما قدم إلى قسطنطينية قاضي زاده الرومي حضر إلى مجلسه فقيل له أن قاضي زاده عندي ثلاثون سؤالا في أنواع من العلوم أريد جوابها منك قال وكان مضطجعاً على الوسادة فقال والله لا رفعت جنبي عن الوسادة حتى أجيبك عنها هات ما عندك فشرع قاضي زاده يورد له السؤال فقبل أن يتمه يجيبه عنه من غير انفعال ولا ترو وكل ما يجيبه به يقبله ويكتبه عنه وعلى الجملة فهو آخر المحققين وبه ختم هذا الباب وسألت حفيده المذكور عن وفاته فقال لي أنه توفي في سنة ست وثلاثين وألف.
السيد محمد الأمين بن صنع الله الحسيني القسطنطيني مفتى السلطنة المعروف بصنعي زاده المحقق البارع الألمعي كان عالما فاضلاً كامل العيار أديباً أريباً عاقلاً حسن الخلق مشهوراً بالفضل مشهود له به وفيه يقول بعض الأدباء مضمنا:
إن ابن صنعي الذي جلت فضائله ... لم يلف في عجم ثانية أو عرب
لولا عجائب صنع الله ما نبتت ... تلك الفضائل في لحم ولا عصب(2/416)
ولم يرم من المعائب قسط إلا بالشره لما في أيدي الناس من قسم الملبس والأمتعة وجمع من الكتب والمتحف مالا يدخل تحت حصر حاصر وكان اشتغل بتحصيل العلوم على علماء عصره حتى ساد وقدم بخدمة والده إلى حلب لما ولي قضاءها في سنة عشرين بعد الألف وهو شاب فأخذ عن بعض علمائها ثم لازم من المولى عمر معلم السلطان عثمان ولزم بعد ذلك قاضي العساكر مصطفى بن عزمي وانتفع به وعليه تخرج في كثير من الفنون وكان عنده في منزلة ولده وصيره كاتباً لرسائله وهو قاضي العسكر ثم درس بمدرسة شيخ الإسلام يحيى بن زكريا وهو ثاني مدرس بها واتصل ببانيها وهو مفت فأحبه وأدناه منه حتى اشتهر ووصل خبره إلى السلطان مراد وحكى أن السلطان مراداً كان يتفقده وإذا صارت سلسلة المدرسين يستخبر هل وجه إليه مدرسة أولا فلم يزل يترقي في المدارس حتى وصل إلى المدرسة السليمانية وولي منها قضاء سلانيك في سنة خمسين وألف وأقبل عليه الوزير الأعظم قره مصطفى باشا فأعطى بوسيلته رتبة أدرنه ثم عزل عنها وقدم إلى دار الخلافة واقتنى داراً بالقرب من جامع السلطان سليم لطيفة غاية ثم ولي قضاء حلب ونقل منها إلى قضاء مصر وحكى أنه كان في ابتداء أمره مع مصطفى باشا بن حيدر الوزير وكان من جملة العسكر إذذاك فقال له صاحب الترجمة ستصير إن شاء الله تعالى حاكما بمصر فقال له وعسى أن تصير أنت قاضياً بها في ذلك الزمان ونجتمع معاً ثم دعيا بذلك فاستجيب دعاؤهما واجتمعا بمصر على الحكومتين ثم عزل صاحب الترجمة وقرر بها قبل أن يخرج منها ثم عزل وولي قضاء قسطنطينية في سنة تسع وخمسين ثم ولي قضاء العسكر بانا طولي في سنة خمس وستين واتفق أن ابن خالته السيد محمد المعروف بقدسي زاده صار قاضي العسكر بروم إيلي سنة اثنتين وسبعين ونقل منها إلى الفتوى في أواخر السنة وكان السلطان محمد إذذاك في أدرنه وقيل في تاريخه أرخوا مفت كريم عالم عامل ووافق تاريخ توليته إمضاءه الذي يكتبه على الفتاوى وهو لفظ كتبه محمد الأمين الفقير وهذا من أعجب ما وقع من التواريخ ثم عزل في نهار الثلاثاء تاسع شهر ربيع الثاني سنو ثلاث وسبعين وأمر بالإقامة في حديقته ببشكطاش فأقام بها مدة إلى أن مات وكانت وفاته في رابع المحرم سنة أربع وسبعين وألف ودفن باسكدار بالقرب من مرقد الشيخ محمد الاسكداري.(2/417)
محمد بن الظاهر بن أبي القسم بن أبي الغيث بن أبي القسم بن أبي بكر شعاع بن علي الابيع بن أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن النجيب بن حسن بن يوسف بن حسن ابن يحيى بن سالم بن عبد الله بن الحسين بن علي بن آدم بن إدريس بن الحسين بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين ابن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه هكذا نقل نسب بني البحر محمد بن أبي بكر الأمخر في كتابه كشف الغين وإن نسبهم هذا يجتمع فيه ثلاثة عشر قبيلة من أشراف سرو والحسينيين بالتصغير يجمعهم الحسن ابن يوسف وأم المترجم عائشة بنت أحمد بن أبي الغيث بن أبي القسم البحر المتقدم السيد المولى المشهور ولد في ثامن عشر شهر رمضان سنة اثنتين وألف بالمنصورية وهي من أعمال بيت الفقيه بن عجيل من قرى اللأمين معروفة بينها وبين زبيد مرحلة كاملة من جهة القبلة وكان أسلافه بمدينة الحرجة بفتح الحاء المهملة والراء والجسيم من أعمال بيت الفقيه الكبيراً بن حشيبر بقرب اللحية بلدة معروفة خربت قديماً وأول من قدم من أجداده إلى المنصورية أحمد بن أبي الغيث بن أبي القسم البحر ومعه أخوه أبو القسم بن أبي الغيث القبور برباط الشيخ محمد بن عمر النهاري المشهور بقمر الصالحين وقبره هناك يزار ويتبرك به فسكنوا في محل يقال له منيبر قرب محلتهم الآن من الشرق ويقال أن ذلك باستدعاء عامر بن عبد الوهاب ودخل صاحب الترجمة إلى زبيد في سنة إحدى وعشرين وألف للقراءة فقرأ على شيخ القراء عبد الباقي بن عبد الله العدني للشيخين ثم لحفص عن عاصم وقرأ في الفقه على إبراهيم بن محمد جعبان وعلى القاضي أبي الوفا أحمد بن موسى الضجاني وعلي محمد بن أحمد المريري الأزهري وعلى محمد بن أبي بكر حجر به الأهدل صاحب مقصورة الجامع في زبيد وفي العربية على الشهاب أحمد بن محمد بن يحيى المطيب الحنفي وسمع صحيح البخاري وصحيح مسلم مرات متعددة على الشيخ العلامة علي بن أحمد بن جعمان وبعض المنهاج والأذكار وجملة من البخاري وحج سنة أربع وأربعين وألف وأخذ بمكة عن الشيخ محمد علي بن علان التفسير والحديث وأجازه بمروياته وله مؤلفات منها تحفه الدهر في نسب الأشراف بني بحر ونسب من حقق نسبه وألف بالمنصورية وبها دفن عند أسلافه السادة روح الله تعالى أرواحهم.
محمد بن عبد الباقي بن محب الدين بن أبي بكر تقي الدين بن داود المحبي الدمشقي الحنفي ابن عم أبي كان فاضلاً كاملاً لطيفاً أديباً ظريفاً ذكياً حسن الخط وله صوت يأخذ بمجامع القلوب لم يكن أحسن منه ولا أندي في عصره وكان يعرف الأدب والموسيقى معرفة جيدة وله في الضروب واصطناع الأغاني يد طائلة وكان أبوه ذا ثروة عظيمة ولما مات في سنة سبع وعشرين وألف فيما أحسب ترك مالا كثيراً فنفد في أقل قليل وهو أخو جدي لأبيه وأم محمد أخته من أمه وهي بنت الشيخ عبد الصمد العكاري مفتى طرابلس واسمها بديعة الزمان وكانت من العلم والمعرفة ونظم الشعر في ذروة سامية اشتغلت الكثير على جدي القاضي محب الدين أخذت عنه الفقه والعربية وقرأ عليها ابنها محمد المترجم وانتفع بها ثم لزم الشيخ عبد الرحمن العمادي والشيخ عبد اللطيف الجالقي وأخذ عنهما وتخرج في الأدب علي بن أبي الطيب الغزي والقاضي عبد الكريم الطاراني ثم لازم من شيخ الإسلام عبد العزيز بن قرة جلي ودرس بدار الحديث الكبرى وولي النيابات بدمشق وكان في حياة جدي محب الله مرفه البال رغيد العيش مكفي المؤنة زوجه بابنته عمتي وبني قصراً على سوق الرصيف يشرف على المدرسة إلا مينية وأتقن بناءه وصنع له تاريخاً من نظمه كتبه على بعض جدرانه وهو قوله:
منذ أنشا العبد المحبي قصراً ... من نوال المولى الكريم ومنه
قد سما بهجة وحاز بهاء ... ورقي رفعة وفاق بيمنه
وهو فرد فزده فرداً وأرخ ... قصر ناقد زهي برونق حسنه
ولما مات جدي سائت حاله واستولي عليه الغم فسافر إلى الروم وولي قضاء بعلبك ثم قضاء صيدا وما برح الدهر يصدمه ويزعجه إلى أن مات وفي ذلك يقول:
لولا الأماني إذا أعيش مسلماً ... للنفس في نيل المرام إلا بعد
لقضيت من محن الزمان فد أبه ... جوراً لفعال على اللبيب إلا مجد(2/418)
ومن هذا المعنى قول بعضهم:
لولا مواعيد آمال أعيش بها ... لمت يا أهل الحي من زمني
وإنما طرف آمالي به مرح ... يجري بوعد الأماني مطلق الرسن
وكانت ولادته في سنة عشرة وألف وتوفي وهو راجع من الروم بمدينة حمص في سنة ستين وألف ودفن بها.
السيد محمد بن عبد الحسين بن إبراهيم المكني بأني عبد الله بن أبي شبابة الحسيني البحراني أديب البحرين ومنطيقها والمطلع نفائس درها وجوهرها ذكره ابن معصوم فقال في وصفه علم الفضل ومناره ومقبس الأدب ومستناره فرع دوحة الشرف الناضر المقر بسمو قدره كل مناضل ومناظر أضاءت أنوار مجده مآثرا ومناقبا:
كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نوراً ثاقبا
وكان قد نسل الهند فاجتمع بالوالد ومدحه بمدائح وقابله من الإكرام بما استوجبه واستحقه وذكره عند مولانا السلطان فعرف له حقه ثم رحل إلى ديار العجم وأقام بأصفهان إلى أن مات ثم أورد له هذه القصيدة مدح بها والده النظام ومستهلها:
أرى علما ما زال يخفق بالنصر ... به فوق أوج المجد تعلو يد الفخر
مضى العمر لا دنيا بلغت بها المنى ... ولا عمل أرجو به الفوز في الحشر
ولا كسب علم في القيامة شافع ... ولا ظفرت كفى بمغن من الوفر
وأصبحت بعد الدرس في الهند تاجراً ... وإن لم أفز منها بفائدة التجر
طويت دواوين الفضائل والتقي ... وصرت إلى طي الأماني والنشر
وسودت بالأوزار بيض صحائفي ... وبيضت سود الشعر في طلب الصغر
وبعت نفيس الدين والعمر صفقة ... فيا ليت شعري ما الذي بهما أشرى
إذا جئني الليل البهيم تفجرت ... على عيون لهم فيه إلى الفجر
تفرقت الأهواء مني فبعضها ... بشير ازدار العلم والبعض في الفكر
وبالبصرة الفيحاء بعض وبعضها ... القوى يبيت الله والركن والحجر
فمالي وللهند التي مذ دخلتها ... محت رسم طاعاتي سيول من الوزر
ولو أن جبرائيل رام سكونها ... لا عجزه فيها البقاء على الطهر
لئن صيد أصحاب الحجا بشباكها ... فقد تأخذ العقل المقادير بالقهر
وقد تذهب العقل المطامع ثم لا ... يعود وقد عادت لميس إلى العتر
هذا تلميح إلى المثل المشهور وهو قولهم عادت إلى عترها لميس أي رجعت إلى أصلها والعتر بكسر المهملة وسكون المثناة من فوق الأصل يضرب لمن رجع إلى خلق كان قد تركه وليس هو المثل بعينه حتى يعترض بأن الأمثال لا تغير.
مضت في حروب الدهر غاية قوتي ... فأصبحت ذا ضعف عن الكرّ والفرّ
الأم بأرض الهند أذهب لذتي ... ونضرة عيش في محاولة النضر
وقد قنعت نفسي بأوبة غائب ... إلى أهله يوماً ولو بيد صفر
إذا لم تكن في الهند أضعاف نعمة ... ففي هجر أحظي بصنف من التمر
على أن لي فيها حماة عهدتهم ... بناة المعالي بالمثقفة السمر
إذا ما أصاب الدهر أكناف عزهم ... رأيت لهم غارات تغلب في بكر
ولي والد فيها إذا ما رأيتمه ... رأيت به الخنساء تبكي على صخر
ولكنني أنسيت في الهند ذكرهم ... بإحسان من يسلي عن الوالد البر
إذا ذعرتني في الزمان صروفه ... وجدت لديه الأمن من ذلك الذعر
وفي بيته في كل يوم وليلة ... أرى العيد مقرونا إلى ليلة القدر
ولا يدرك المطري نهاية مدحه ... ولو أنه قد مدّ من عمر النسر
وفي كل مضمار لدى كل غاية ... من الشرف إلا وفي له سابق يجري
إذا ما بدت في أول الصبح نقمة ... ترى فرحا قد جاء في آخر العصر
فقل لي أبيت اللعن إن عن مفظع ... أأصبر أم أحتاج للأوجه الغر
إذا لاعلت في المجد أقدام همتي ... ولو كان شعري فيك من أنفس الشعر(2/419)
وإني لأرجو من جميلك عزمة ... تبلغني الأوطان في آخر العمر
تقرّ عيونا بالعراق سخينة ... وتبرد أكباداً أحر من الجمر
وتونس أطفالا صغاراً تركتهم ... لفرقتهم مازال دمعي كالقطر
وعيشي بهم قد كان حلوا وبعدهم ... وجدت لذيذ العيش كالعلقم المر
إذا ما رأوني مقبلاً ورأيتهم ... نقول أيوم القر أم ليلة النفر
وما زلت مشتاقاً إليهم وعاجزاً ... كما اشتاق مقصوص الجناح إلى الوكر
ولكنما حسبي وجودك سالما ... ولو أنني أصبحت في بلد قفر
فمن كان موصولاً بحبل ولائكم ... فليس بمحتاج إلى صلة البر
وقوله على لسان أهل الحال وقد أجاد:
لعمري لقد ضل الدليل عن القصد ... وما لاح لي برق يدل على نجد
فبت بليل لا ينام ومهجة ... تقلب في نار من الهم والوجد
وقلت عسى أن أهتدي لسبيلها ... بنفحة طيب من عرار ومن رند
فلما أتيت الدير أبصرت راهباً ... به ثمل من خمرة الحب والود
فقلت له أين الطريق إلى الحمى ... وهل خبر من جيرة العلم الفرد
فقال وقد أعلى من القلب زفرة ... وفاضت سيول الدمع منه على الخد
لعلك يا مسكين ترجو وصالهم ... وهيهان لو أتلفت نفسك بالكد
أرى زمرة العشاق في مجلس الهوى ... نشاوى غرام من كهول ومن مرد
ألم ترأنا من مدامة شوقهم ... سكارى ولم نبلغ إلى ذلك الحد
فكم ذهبت من مهجة في طريقهم ... وما وصلت إلا على غاية البعد
فقت أأدنو قال من كل محنة ... فقلت أأرجو قال شيئاً من الصد
ألم ترنا صرعي بدهشة حبهم ... نقلب فوق الترب خدّا إلى خد
فكم طامع في حبهم مات غصة ... وقد كان يرضى بالمحال من الوعد
وكانت وفاته في سنة إحدى وثمانين وألف بأصفهان ونقل إلى طوس ودفن بالمشهد الرضوي بقرب تربة الشيخ بهاء الدين العاملي.
محمد بن عبد الحق بن أبي اللطف الملقب كمال الدين القدسي الحنفي كان فاضلا ظريفاً رقيق حاشية العشرة طارحاً للتكلف خليعا ماجنا مقبول النادرة وكان كثير الأسفار قلما يقيم ببلده رحل إلى القاهرة وأقام بها سنين عديدة واشتغل على علمائها وبرع ثم سافر إلى الروم وطلب تدريس المدرسة العثمانية بالقدس فوجهت إليه عن الشيخ زكريا المصري وتصرف بها وكان ينظم الشعر وشعره مطبوع جيد فمنه قوله من تخميس:
بدا بكأس مدام والدجا حلكا ... وعزة النفس أرخت فوقه شبكا
فقلت لما أتى لا يحنتشى دركا ... يا بدر تم غدا قلبي له فلكا
إن كنت أبذل روحي في الهوى فلكا
وسمعت له قصيدة في نهاية الحسن فلم يعلق في خاطري منها إلا مطلعها وهو:
أهدي الزمان إلى الأنام نفيساً ... فالحق أن نهدي إليه نفوسا
وقد تقدم له ثلاث أبيات في ترجمة السيد عبد الرحمن بن النقيب في تشبيه القرنفل وهي في غاية الجودة وكان اعتراه مرض الفواق وهو قادم في طريق الروم لشدة البرد ففي ثاني يوم من دخوله البيت المقدس توفي وكانت وفاته في أواخر ذي العقدة سنة ثلاث وثلاثين وألف وقد بلغ من العمر ستين سنة.(2/420)
محمد بن عبد الحليم المعروف بالبورسوي وبالأسيري مفتى السلطنة ورئيس علمائها المشهور بالعلم والتصلب في الدين وكان طوداً من العلم راسخاً متمسكاً بحبل الله في سره ونجواه يناضل على الحق ويباحث عنه وكان كثير العبادة والتلاوة للقرآن مهابا متواضعاً أخذ نبلده بروسه عن المولي محمد المعروف بابن المعيد وعن الشيخ الكامل محمد حافظ زاده ولازم درسه ثم دخل قسطنطينية وتلمذ بها للشريف الشرواني وكان مدرساً بمدرسة أيا صوفياً وسمعته يحكي ما كان فيه إذا ذاك من رقة الحال وضنك العيش ويبالغ ثم اتصل بخدمة شيخ لإسلام يحيى بن زكريا وصار من خواص طلبته ولازم منه وتعين لكتابة الفتاوي ثم صار أمين الفتوى وانفرد في هذه الخدمة بأشياء من التفرس وسرعة الأخذ لم يسبقه إليها أحد وأقبلت عليه الدنيا ونفذت كلمته وشاع ذكره وقصدته الناس من أقاصي البلاد ووصل خبره للسلطان مراد وكانت الوزراء وقضاة العساكر ومن في رتبتهم يراجعونه في المهام ثم درس بمدارس قسطنطينية إلى أن وصل إلى مدرسة السلطان سليم القديم وولي منها قضاء مكة وسافر هو وسنبل أغا حافظ الحرم السلطاني بحراً فأسرتهما الفرنج وأخذا إلى جزيرة مالطه وذهب لهما من الأمتعة والأموال شيء كثير واستمر صاحب الترجمة أسيراً قريباً من أربع ستين ثم خلص ووصل إلى دار الخلافة فأعطى قضاء مصر وكان ذلك في سنة تسع وخمسين وألف وقدم إلى دمشق وتوجه إلى القاهرة فصحبه والدي رحمه الله تعالى ونال منه قبولاً تاماً فارقه في مصر كما تقدم في ترجمة والدي وعزل فخرج إلى دمشق ونزل في دارنا وولد له ولد سماه يحيى ثم توجه إلى الروم فمات ولده هذا بانطاكية وبعد وصوله بمدة أعطى قضاء أدرنه وأخذ بها طريق القشاشية عن العارف بالله تعالى الشيخ مصلح الدين ولزم إلا وراد والأذكار ثم عزل ونفي إلى ينبولي ثم جئ به وولي قضاء دار الخلافة ووجه إليه رتبة قضاء العسكر بأنا طولي ثم قضاء أنا طولي استقلالا وأقبل عليه الوزير الأعظم محمد باشا الكويريلي فصيره مفتيا ولما سار السلطان محمد إلى بورسة وأدرنه كان في خدمته واستبد بالإقبال التام ووقع من الوزير المذكور قتل جماعات في أطراف البلاد وفي محل التخت السلطاني فكان لا يقدم على ذلك حتى يستفتيه وهذا مستفيض على الألسنة والله أعلم بما هنالك وكان لما ولي الإفتاء استرضاه والدي فرضى وكتب إليه بالصفح عن تباعده عنه فراجعه والدي برسالة اقترحها على لسان فرس كانت عنده من مشاهير الخيل وكان صاحب الترجمة في قدمته إلى الشام رآها وعرفها فأظهر اعتذاره عن التقصير الذي نسب إليه في خدمته على لسان حالها والرسالة هي هذه حضرة المولى شيخ الإسلام مفتى الأنام الهمام المقدم في حلبة الرهان والإمام المصلي الذي به يقتدي المجلي والتالي في ميدان البيان الغرة في جبهة دهم الليالي وشهب أيامه ربيع المفاخر والمعالي جعل الله تعالى مجمل سعادته غنياً عن الإفصاح وجياد أوصافه الحسنة متبارية في ميدان المداح بجاه سيدنا محمد الذي علا على البراق وتشرفت به الآفاق وآله الكرام وأصحابه الفخام وبعد فالذي يعرض على عالي حضرته بعد تقبيل سامي عتبته أنه لا يخفي ما ورد في الحديث الشريف عن النبي النبيه أهدى الله إليه صلاته وسلامه الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة وإنني تلك الفرس الأصيلة الطرفين والحجرة العريقة الجانبين الهذبة الأخلاق الكريمة الأعراق سبوح لها منها عليها شواهد نشأت في أراضي الشام وشمعت ذلك العرار والبشام فأبي من العتاق المغبقية وأمي من الصافنات الجياد السقلاويه معروفة الأب والجد في تهامة ونجد صحيحة النسب بين العرب:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
وقد كان شرفني المولي بالركوب وأملت منه المطلوب وسبقت الجياد وفزت بالشرف والمراد وتقدمت الخدم أمامي وحملت الغاشية قدامي ومشيت بالأدب والوقار ولم يصدر مني عثار ولا نفار ولا غرو فالسيوف على مقادير الأعضاء تفري والخيل على حسب فرسانها تجري:
والخيل عالمة ما فوق أظهرها ... من الرجال جباناً كان أو بطلا(2/421)
وفي المثل الخيل بفرسانها والدار بسكانها وقد طرق سمعي أن المولى صار فارس الميدان وسابق الرهان وامتطى من الصدارة صهوة الإقبال وسحب له جنيب العز والإجلال وملك الأمور وشد حزام عزمه في مصالح الجمهور فحصل لي بذلك كمال السرور والنشاط وكدت أن أفك ما بي من الرباط وأجد في المسير إلى تهنئة جنابه الخطير لكن أقعدتني الأيام عن ذلك ومنعتني عن سلوك هذه المسالك بما حل بي من مواصلة الصيام والركوع والسجود عند القيام وتقدمني في المسير الرفيق الذي جمعني وإياه هذا الطريق:
إن العوائق عقن عنك ركائبي ... فلهن من طرب إليك هديل
وكان بلغني أنه ركض على في ميدان حضرتك بعض اللئام ووضع قدم قوله حيث شاء من الملام ونسبني إلى البطر والجموع وسلك طريق قلة الأدب المتروك المطروح وإن البحر على تعكر والورد الصافي تكدر
قد كان لي مشرب يصفو بموردكم ... فكدرته يد الأيام حين صفا
فو الله ليس لما قيل أصل أصيل وكنت أود أنني أتوسل إلى بره وأكرع من فائض بحره وأرد موارد إحسانه وأفوز بلطفه وامتنانه فلا خير في حب لا يحمل أقذاؤه ولا يشرب على الكدر ماؤه ومعلوم حضرته أن البهائم لا تعلم شعر أبي تمام ولا تعرف ما بلاغة أبي الطيب الهمام ولا تطرب الخيل إلا لسماع الكيل ولا تستغني إلا كاديش عن أكل الحشيش والعلاف لا يعرف مسائل الخلاف ومالكي وإن كان هو الأصيل العريق لكنه مقتر للضيق في العليق كثير الشعر قليل الشعير ينشد بلسان التقصير:
ومالي صنعة غير القوافي ... وشعر لا يباع ولا يعار
فالشعير أبعد من الشعري العبور ولا وصول إليه ولا عبور فالبطن ضامر لا يشد عليه حزام والفم خال ليس فيه سوى اللجام وقد بليت بعد الهزال بالخرس وصار حالي كما قيل الجل خير من الفرس وغيري ممن هو دخيل ليس له أصل ولا فصل ولا أدب ولا فضل يرتع في رياض الأنعام والبر التام.
حمار بسبب في روضة ... وطرف بلا علف ير بسط
فإن أنعم المولى دام له المسار بمنصب في هذه الديار فأكرم الخيل أشدها حنينا إلى وطنه وأعتق الإبل أكثرها نزاعا نحو عطنه فلينتهز فرص الاقتدار ويغتنم التجاوز عن عثرات الأحرار فالدابة تضرب على النفار لا على العثار فليس لي سواه من أعول عليه وأرفع قصتي إليه:
وهيهات ان يثني إلى غير بابه ... عنان المطايا أو يشد حزام
والله سبحانه ولي التوفيق والهادي بكرمه إلى سواء الطريق وهو قاضي الحاجات وميسر المرادات وعالم بكل الأحوال وعليه في جميع الأمور الاتكال
ودم وابق في سعد وعز مخلد ... وخيلك في أوج السعادة تسبق(2/422)
قلت وقد حدا في هذه الرسالة حذو الوهراني في رقعته التي كتبها على لسان بغلته وعلقها في عنقها وسيبها في دار الأمير عز الدين موسك وهي من محاسن مخترعاته ولطائف نزعاته يقول فيها المملوكة ريحانة بغلة الوهراني تقبل الأرض بين يدي الأمير عز الدين حسام أمير المؤمنين نجاه الله من حر السعير وعظم بداره قوافل العسير ورزقه من التبن والشعير وسق مائة ألف بعير واستجاب فيه أدعية الجم الفقير من الخيل والبغال والحمير وتنهي إليه ما تقاسيه من مواصلة الصيام والتعب في الليل والدواب ينام قد أشرفت مملوكته على التلف وصاحبها لا يحمل الكلف ولا يوقن بالخلف ولا يقول بالعلف وإنما يحل به البلاء العظيم في وقت حاجتي إلى القضيم والشعير في بيته مثل المسك والعبير والأطر يفل الكبير أقل من الأمانة في النصارى الأقباط والعقل في رأس فاضي سنباط فشعيره أبعد من الشعري العبور ولا وصول إليه ولا عبور وقرطه أعز من قرطي ماريه لا يخرجه صدقة ولا هبة ولا عارية والتبن أحب إليه من الابن الجلبان أعز عنده من دهن البان والقضيم بمنزلة الدر النظيم والفصة أجل من سبائك الفضة والفول من دونه ألف باب مقفول وما يهون علبه يعلف الدواب إلا بفنون الأداب والفقه اللباب والسؤال والجواب وما عند الله من الثواب ومن المعلوم أن الدواب لا توصف بالحلوم ولا تعيش بسماع العلوم ولا تطرب بشعر أبي تمام ولا تعرف الحرب بن همام ولا سيما البغال التي تستعمل في جميع الأشغال شبكة قصيل أحب إليها من كتاب التحصيل وقفة من الدريس أشهى إليها من فقه محمد بن إدريس ولو أكل البغل كتاب المقامات لمات ولو لم يجد إلا كتاب الرضاع لضاع ولو قيل له أنت ووقوفه في الكلا أحب إليه من شعر أبي العلا وليس عنده طيب شعر أبي الطيب وأما الخيل فلا تطرب إلا إلى استماع الكيل وإذا أكلت كتاب الذيل ماتت بالنهار قبل الليل والويل لهائم الويل ولا تستغني الأكاديش عن أكل الحشيش بكل ما في الحماسة من شعر أبي الخريش وإذا أطعمت الحمار شعر ابن عمار حل به الدمار وأصبح منفوخاً كالطبل على باب الأسطيل وبعد هذا كله فقد راح صاحبها إلى العلاف وعرض عليه مسائل الخلاف وطلب من تبنه عشر قفاف فقام إلى رأسه بالخفاف فخاطبه بالتقصير وفسر له آية العير وطلب منه قفة شعير فحمل على سؤاله ألف بعير فانصرف الشيخ منكسر القلب مفتاظاً من الثلب وهو أخسر من ابن بنت الكلب فالتفت إلى المسكينة وقد سلبه الغيظ ثوب السكينة وقال لها أن شئت أن تكدي فكدي لاذقت شعيرة ما دمت عندي فبقيت المملوكة حائرة لا قائمة ولا سائرة فقال لها العلاف لا تجزعي من خياله ولا تلتفتي إلى سباله ولا تنظري إلى نفقته ولا يكن عندك أخس من عنفقته هذا الأمير عز الدين سيف المجاهدين أندي من الغمام وأمضى من الحسام وأبهى من البدر ليلة التمام لا يرد سائلا ولا يخيب آملا فلما سمعت الملوكة هذا الكلام جذبت اللجام ورفست الغلام وقطعت الزمام وشقت الزحام حتى طرحت خدها على الأقدام ورأيك العالي والسلام انتهى رجع ولما مات الوزير الكويريلي المذكور عزل عن منصب الفتوى ونفي إلى كليبولي وحكى أنه جاءه خبر العزل يوم الجمعة وهو في الجامع والخطيب يخطب فلم يمكنه التخلف ونهض مسرعا وأخذ من وقته إلى السفينة فأركب فيها وجهز وبعد مدة أعطى قضاء رودس وأمر بالمسير إليها فأقام بها مدة تسع سنوات ثم أستأذن في الحج فأذن له وورد دمشق في عزة رجب سنة إحدى وثمانين وألف وكان وجه إلى أخيه شقيقه المولى مصطفى قضاء مكة فاجتمعا في دمشق ورحلا صحبة الحاج وحجا وجاورا بمكة سنة ثم فارقه أخوه وبقي هو في المدينة سنة أخرى ثم قدم إلى دمشق وأقام بها مدة ثم أعطى قضاء القدس فتوجه إليها وحكم بها نحو سنة ثم عزل وقدم إلى دمشق ثم أمر بالتوجه إلى بلده بروسة فخرج من دمشق وصحبته أنا إلى الروم وكان خروجنا من دمشق في ثامن صفر سنة ست وثمانين وألف واستمريت مرافقا له إلى بروسة وفارقته منها وأقام هو وأعطى قضاء مطانية على وجه التأييد واستمر مدة إلى أن توفي وكانت وفاته سنة وثلاث وتسعين وألف.(2/423)
محمد بن عبد الخالق المنزلاوي الشافعي الإمام العلامة الصالح الولي الزاهد الجامع بين العلم والعمل المجد في بث العلوم النافعة كان عالما مفتنا وكان يختم في كل سنة نحو عشرة كتب كبار في فنون وقراءته تحت اللفظ لا يتعدى المقصود بالذات من كتاب ويقول القراءة هكذا في هذه الأزمان أفودفان الهمم قصرت والأفهام كلت مع كونه إذا سئل عن مشكل في الكلام أجاب عنه بأحسن عبارة ومن شيوخه البرهان اللقاني والنور الزيادي وسالم الشبشيري وأحمد الغنيمي والنور على الحلبي وغيرهم وعنه أخذ أكثر المدركين من مشايخ العصر منهم منصور الطوخي وسليمان الشامي وداود الرحماني وأحمد البشبيشي وأفلج في آخر عمره واستمر به الفالج سنين وهو ببيته ومع ذلك كان يدرس وهو بهذا الحال وسبب فلجه كثرة انهماكه على الجماع بحيث لا يتركه ليلاً ولا نهاراً وكان له عدة نساء وسراري قال ونصحني بعض شيوخي عن ذلك وقال لي أن كثرته هكذا تورث الفالج بالتتبع فلم يفدني ذلك حتى كان من أمر الله تعالى ما كان واجتمع به صاحبنا الفاضل الأديب مصطفى بن فتح الله وسمع عليه طرفا من تفسير الجلالين ومن شرح الألفية للمرادي بقراءة شيخه الفهامة موسى بن حجازي الواعظ وذلك بعد ما أفلج وأجازه بمروياته قال وأخبرنا عن شيخه العلامة طه السفطي إنه كان يأتي إلى الدرس بعصا يضرب بها من يسأله سؤالا غير مناسب للمقام واتفق إنه كان يوماً يقرئ في مختصر خليل فسأله بعض طلبته سؤالا من ذلك فضربه فقال بديهة:
لقد نلت يا طه مقاما ورفعة ... فما نالها بين الأنام أمير
تقرر في معنى خليل بمطرق ... كأنك تراس ونحن حمير
والتراس سائق الحمير بلغة المصريين وكانت وفاة المنزلاوي في سنة اثنتين وثمانين وألف بمصر وعمره نحو ثمانين سنة رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الرحمن بن الفقيه محمد بلفقيه المشهور بالأعسم الحضرمي الشيخ الأعظم أحد العلماء العاملين ذكره الشلي وأحسن الثناء عليه ثم قال ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن وصحب جماعة من أكابر العارفين منهم عمه السيد الجليل عبد الله من محمد بلفقيه صاحب الشبيكة ومن في زمانه من العلماء كالشيخ أحمد بن علوي باجحذب والسيد محمد بن حسن والشيخ حسين الفقيه عبد الله بأفضل وكان كثير العبادة محباً للصوفية وكان له الشأن العظيم كثير المسامحة ظاهر الولاية والصلاح واسع الصدر رفيع القدر وكانت وفاته سنة سبع بعد الألف بتريم ودفن بمقبرة زنبل والأعسم أفعل من العسم وهو اليبس في المرفق والله أعلم.
محمد بن عبد الرحمن بن محمد الملقب شمس الدين الحموي اشتهر والده بالمكي الحنفي نزيل مصر كان إماماً عالماً بالفقه والتفسير والحديث والقراآت والأصول والنحو كثير الاستحضار للأحاديث النبوية خصوصاً المتعلقة بالأوراد والفضائل أديباً ذكياً فصيحاً صالحاً ورعا متواضعاً طارحا للتكلف متصوفاً كثير المروءة عظيم البر خصوصاً لأقاربه كثير الزيارة والموافاة لأصحابه حسن الصوت بالقراءة صادق اللهجة والمحبة والنصح وكان مع ذلك كثير الأنبساط حلو النادرة وفيه دعابة زائدة وبالجملة فهو من كملة الرجال أخذ عن النور الزيادي والشمس محمد الخفاجي والشيخ محمد الوسيمي والصفي العزي والشيخ طه المالكي والشمس محمد الدمراوي والسراج ابن الجائي وأبي النجا السنهوري والشهاب أحمد بن خليل السبكي وقرأ بالروايات على شحادة اليمني المقري وأخذ علوم العربية عن أبي بكر الشنواني واشتغل بالفقه على علامة عصره علي بن غانم المقدسي وغيرهم وفاق أهل زمانه في الفضل وذكره عبد البر الفيومي في المنتزه فقال في وصفه عالم نشر ألوية فضله الزهية فتلقاها باليمين كل فاضل رام دقائق العربية رقيق الطباع دقيق الفكر بلا دفاع علمه متين وعقله رصين وأدبه باهر وشعره زاهر لزمت درسه وشهدت فضله وأنسه وألف وصنف وزين الأوراق ورصف فحشي المغني بحاشية لكل طالب تغني وله كتابات آخر منها حاشية على المسرح القواعد الهشامية للشيخ خالد اختصرها من حاشية شيخه الشنواني وله بديعية مطلعها:
أوجوه غيد أم حسان ربوع ... عيون آرام تزيد ولوعي
أو نشر زهر ضاع فامتلأ الربى ... عطراً عبيراً أم رياض ربيع(2/424)
والماء قد صقل النسيم متونه ... أم في جسدا وله متون دروع
والطل قد زان الشقيق بلؤلؤ ... أم وجنة مطلولة بدموع
والقضب من لطف النسيم تمايلت ... خجلاً فأبدت ذلني وخضوعي
والبدر أشرق في ثنيات الدجا ... سحراً وبرد الليل في توشيع
سفراللئام فلاح في وجناته ... ورد الخدود فخار فيه بديعي
ساجي اللواعظ فاتك بجفونه ... ذو خبرة في صنعة التقطيع
ما تم مسك عذاره في خده ... إلا ليظهر عذر كل خليع
والثغر قد حاز العذيب وبارقا ... وجواهراً للدر غير مضيع
يا قلب خل هوى الحسان وخلني ... من ذكر أحباب وذكر ربوع
وأقطع أقاويل الوشاة فقطعها ... سبب لوصلة حبلنا المقطوع
واجنح إلى ظل الجناب المرتجي ... قاضي القضاة إلا مجد المرفوع
يحيى الذي يحيى الوجود بجوده ... سحت يداه بسيحها المهموع
يعطي مؤمله بغير شفاعة ... ما رامه من نائل مشفوع
مذ شاع في مصر السعادة عدله ... دامت له الأحكام بالتوفيع
حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمين حديثه الموضوع
كفر يمينك يا زمان ولا تعد ... ليس الشريف الجد مثل وضيع
ومنها:
يا من رجوت وقد أمنت بجاهه ... من كل خطب للزمان فظيع
ووضعت عن كتفي السؤال لغيره ... والموت أطيب من سؤال وضيع
ورجوته بالشعر لما خصني ... منه جميل اللطف عم جميعي
اسمع بمذهبها البديع وهاكها ... تختال بالتهذيب والترضيع
قصرت خطاها عن سواك وأقبلت ... تمشي إلى علياك مشي سريع
فاقبل وزدني في العطا ما غربت ... شمس النهار وأشرقت بطلوع
لا زلت ممدوح الخصال جميعها ... ما نار وجد أضرمت بضلوع
وكانت وفاته بمصر يوم الأحد تاسع عشر شوال سنه سبع عشرة بعد الألف.
محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن الجمال محمد بن الشهاب أحمد بن أحمد البوني المكي المالكي الأديب الركن الماهر قدم جدد من المغرب وهو فقير جداً فقطن الحجاز وترقي ابنه بخدمة الشريف بركات بن أبي نمي صاحب مكة وكان فيه خير ونفع وقف في مرض موته على البيمارستان المكي بعض الأماكن وخلفه ابنه في الترقي وله أخوه وكان محمد هذا على مذهب آبائه وكان كاتباً شاعراً ولد بمكة وبها نشأ وحفظ أشعار العرب ونافس أقرانه في علوم الأدب وله أشعار حسان منها قوله مجيباً للبرهان إبراهيم المهتار عن قصيدة خمرية نظمها وأرسلها إليه ليعارضها ومطلعها:
دع الوقوف على الأطلال والنجب ... ولا تعرج على مجهولها الخرب
فعارضها بقوله:
ما دام كأس الحميا باسم الشنب ... فترك لثمي له من قلة الأدب
فاستجلها بنت كرم مع ذوي كرم ... من كف ساق ببرد الحسن محتجب
كالبدر يسعى بشمس الراح في يده ... فاعجب لبدر سعي بالشمس للهب
إذا رنا قلت خشف في تلفته ... وإن تثني فغصن ماس في الكثب
من لي بها وهي تجلي في زجاجتها ... ومن سنا مؤنسي باللهو والطرب
مع رفقه كالنجوم الزهر ساطعة ... حازوا جميع النهى والذوق في العرب
والورق تشدو على الأغصان قائله ... باكر صبوحك بالكاسات والنجب
ولها تتمة لم أقف عليها وكتب إليه المهتار قصيدة مبدؤها:
بقلبي سيف اللواحظ سنه ... وأفرض وجدي وهجري سنه
فراجعة بقصيدة طويلة أولها:
أجبتك مولاي من غير منه ... فذوقك قد حفني الفضل منه
وإني مطيعك فيما أمرت ... به وودادي كما تعهدنه
ومنها:
عجبت لسحر عيون الظبا ... تصيد القساور من غابهنه
وهن الدمى الخرد الآنسات ... ومن لهم الشعب أضحى مظنه(2/425)
فكم دون أخدارهم مهلك ... وكم حولهم من جياد معنه
يبيض الصفاح وسمر الرماح ... وصفر القسي وزرق الأسنه
فحي حمى الشعب من عامر ... حيا لم يزل يسقي أطلا لهنه
فثم الغواني الملاح الصباح ... يرن الوشاح باعطا فهته
إذا مسن ما بين تلك الخدور ... يحاكي القنالين أعطافهنه
فطيرا لحشا لم يزل واجبا ... عليهن إن لحن في حيهنه
ما أحسن قوله واجبا بعد قوله فطير وطيور الواجب المتعاوفة عند أرباب القوس والبندق أربعة عشر وهي الكركي والسبيطر والعنز والسوغ والمرزم والغرتوق وهذه الستة يقال لها قصار السبق وإنما قيل لها طيور الواجب لأن الرامي كان لا يطلق عليه لفظ الرامي إلا بعد قتل هذه بأجمعها بالبندق وجوبا صناعياً:
ومن ثم أهوى بديع الجمال ... حوى اللطف والظرف من بيهنه
رشا حضره مضمرنا حل ... إذا قام والردف ما أرجحته
فوجبته منذ دب العذار ... حكت يا ذوي العشق ناراً وجنه
ومن شعره قوله:
أنحل الله خصر ذات المثال ... فهي والله لا ترق لحالي
وأراني ألحاظها في انكسار ... ولظي جمر خدها في اشتعال
وله غير ذلك وكانت وفاته في سنه ثمان عشرة وألف ودفن بالمعلاة والبوني نسبة لبونة بالمغرب من أعمال تونس.
محمد بن عبد الرحمن بن سراج الدين الملقب جمال الدين الحضرمي الفقيه الشافعي القاضي كان من العلماء المبرزين انتهت إليه رياسة الفقه في جهته قرأ العلم على والده وغيره وارتحل إلى الشحر وأخذ عن الفقيه علي بن علي بايزيد ولازمه حتى تخرج به وتصدر للفتوى والتدريس وولي القضاء في عدة بلاد منها تريم والشحر وشبام والغرفة وله رحلة طويلة رحل إلى الهند في شبابه وإلى المسقاص ودوعن وصحب جماعة من أكابر العارفين أجلهم الشيخ أبو بكر بن سالم وأدرك الشيخ معروف باجمال ولحظه بنظراته وله نثر ونظم وولي الخطابة وكان فصيحاً جهوري الصوت عذب المنطق له بسطة في العلم والجسم وكان مقبولاً عند الخاص والعام كثير البكاء والخشوع وكان زاهداً في الدنيا كريما يحب الفقراء وتخرج عليه جماعة وله مؤلفات كثيرة منها منظومة الإرشاد وشرحها ومنظومة في النكاح كبرى وأخرى صغرى وله مؤلف في الفقه صغير وكتاب البر الرؤف في مناقب الشيخ معروف رتبه على مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة وجعل الخاتمة في مناقب الشيخ أبو بكر بن سالم قال ومن أراد أن يكتبه مفرداً فليسمه بلوغ الظفر والمغانم في الشيخ أبي بكر بن سالم وجعل خاتمة الخاتمة في تراجم بعض الأعيان قال ومن شاء أن يفردها فليسمها بالدر الفاخر في تراجم أعيان القرن العاشر وله فتاوى كثيرة غير مدونة وحصل له في آخر عمره أعراض عن الخلق فصار كالذاهل ولم يزل كذلك إلى أن توفي وكانت وفاته في شعبان سنة تسع عشرة بعد الألف ببلده الغرفة ودفن بها رحمه الله تعالى.
محمد الهادي بن عبد الرحمن بن أحمد شهاب الدين بن عبد الرحمن بن علي المعروف بابن شهاب الحضرمي الشافعي الصوفي الباهر الطريقة ذكره الشلي في تاريخه الذيل وقال في ترجمته ولد بتريم وربى في حجر والده وحضر دروسه في الفقه والحديث وأخذ عنه العلوم الشرعية وحفظ القرآن وتفقه بالشيخ محمد بن إسمعيل بأفضل وأخذ التصوف عن الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس وعن غيره ثم لبس الخرقة من كثيرين وأذن له جماعة من مشايخه بالإفتاء والتدريس وأقرا كثيراً وتزهد حتى شاع ذكره وقصدته الطلبة من الأقطار وانتفع به جم غفير منهم ولده السيد الجليل أحمد نزيل مكة وسيدي الصنو أحمد والشيخ عبد الله بن زين بافقيه والسيد علي بن عمر فقيه وغيرهم من العلماء والأدباء ورزق في العبادة أوفر نصيب وكان جواداً كريماً حليماً عفيفاً وكان بصيراً بزمانه متواضعاً خلوقا عظيم القدر والهيبة وله رسائل في علم التصوف وكانت وفاته في سنة أربعين وألف رحمه الله تعالى.(2/426)
محمد بن عبد الرحمن بن محمد وتقدم تمام نسبه في ترجمة ابن أخيه إبراهيم بن أبي اليمن البتروني الحلبي مفتى الحنفية بحلب ويعرف بمفتي العقبة لسكناه في محلة العقبة كان قليل البضاعة في العلم وتولى الفتوى ولم يكن أهلا لها وسبب ذلك أن الشيخ فتح الله البيلوني معتقد الوزير الأعظم نصوح باشا وشيخه واتفق أن محمداً صاحب الترجمة ذهب إلى الروم لطلب المعاش من قضاء أو غيره فأنزله البيلوني عنده وأكرمه وقال له أقض مآربك ثم بعد أيام قال له قد شفعت لك عند الوزير الأعظم وأخذت لك منصباً جليلاً ولا أعطيك الأوراق حتى تقطع البحر وأودعك إلى أسكدار وأسلمها لك ففعل فلما ودعه سلم مكتوب الفتوى فامتنع وقال أنا لست أهلا لذلك وهل يمكنني التصرف بها مع وجود أخي الشيخ أبي الجود فقال له أن لم تقبل أسعى على إهانتك ونفيك فلم يسعه إلا القبول ولما دخل إلى أخيه قبل أقدامه وعرض عليه هذا الأمر فقال جعله الله مباركاً وأنا أعلم أن هذا من مكر فتح الله فافعل ولا تخالف فإننا نخشى شره ثم بعد لم يقبلها أبو الجود وتصرف بها مدة محمد ووجهت بعده لأخيهما أبي اليمن وكان أبو اليمن ومحمد بمنزلة الخدام عند أخيهما الكبير أبي الجود المذكور وكانت وفاة محمد في سنة اثنتين وأربعين وألف.
محمد بن عبد الرحمن بن علي بن موسى بن خضر الخياري المدني الشافعي الأديب الأريب اللوذعي نشأ وحفظ القرآن وأخذ بالمدينة عمن بها من العلماء الأعيان ورحل إلى مصر والشام والروم وكان ينظم الشعر وله شعر وسط منه قوله يمدح شيخ الإسلام يحيى المنقاري مفتي الروم.
في كل قطر حيث ذكرك ينشر ... يبدو الثناء عليك مسك أذفر
وتود أرباب المقام بأنها ... من ترب نعلك دائماً تتعطر
شرفت بك الأيام حتى أنها ... ودّت تراك الماضيات الأعصر
وأتى الزمان إليك عبداً طائعا ... يصغي لما تنهاه عنه وتأمر
وقد اقتصرت على مديح جنابكم ... إذ مدح خير الخلق فيكم أكبر
في قوله العلماء ورثة قد كفى ... الصادق المصدوق فيما يخبر
وإذا أردت بأن أصوغ مدائحا ... فيكم فإني ما حييت مقصر
من أجل هذا قال قبلي من مضى ... بيتا وذاك البيت فيكم أشهر
وعلى تفنن واصفيه بحسنه ... يفني الزمان وفيه مالا يحصر
فاليك يامولاي صغت دراريا ... تهدي إليك وأين منها الجوهر
ضمنتها أوصافك الغر التي ... ما شامها الثقلان إلا كبروا
لا ترتجي إلا القبول إجازة ... وإجازة الشعراء أبيض أصفر
وكانت ولادته في شعبان سنة أربعين وألف وتوفي بالمدينة في شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وألف ودفن بالبقيع رحمه الله تعالى.(2/427)
محمد بن عبد الرحيم بن محمد قاضي العسكر بن المفتي عبد الرحيم المقدم ذكره صدر الروم ورئيسها وواحدها في الفضل والمعرفة وكان فاضلاً كاملاً مطلعاً على الأشعار العربية مائلاً إليها أديباً له طبيعة مطيعة وفطنة قويمة صاحب همة وجاه عريض صاحب رابطة متقنة جوالا بالحق بريئاً من الرياء والمداهنة صافي المشرب حسن الشكل جريا في الكلام حكي لي بعض الأخوان من الرومبين إنه ذكر عند المترجم ثلاثة من القضاة الكبار في زمانه كانوا معروفين بالجور وتناول الرشوة فقال أن ولائي الله تعالى أمرهم صلبت منهم فلانا في مكان كذا وفلانا في محلة اليهود وفلانا في محلة النصاري فبلغ أحدهم ما قاله فذهب إليه يستفسر منه في زي متعتب فقال له كيف سمعت مقالتي قال بلغني أنك قلت أن وليت حكمه صلبته في محلة النصارى قال إنما قلت عنك أصلبه في محلة اليهود لأن شهرتك بالجور فوق ذينك الشخصين وله من هذا القبيل أشياء أخر وهو أحد من أخذ عن أبيه العلوم ولازم من المفتى أبي سعيد وسافر في خدمة واجه إلى يكي شهر لما ولى القضاءها ثم درس بمدارس قسطنطينية إلى أن وصل إلى مدرسة والدة السلطان مراد فاتح بغداد وولي منها قضاء الغلطة وكان والده إذذاك مفتياً فعظم شأنه وراجعته الناس في مهماتهم ولما عزل أبوه عن الفتوى أمر بالحج فكان معه وأعطى رتبة قضاء دار الخلافة وحجا وعاداً من طريق مصر ثم رجعا إلى دمشق فوجه إلى والده قضاء القدس وتوجه معه إليها وأقام بها مدة يسيرة ثم سافر إلى الروم وولي قضاء دار الخلافة وعزل عنها فأعطى قضاء بعض القصبات وأمر بالمسير إليها فأقام بها مقدار نصف سنة ثم استأذن في الذهاب إلى دار الملك فأذن له ثم ولي قضاء العسكر بأنا طولي في سنة اثنتين وسبعين وألف واستمر مدة طويلة وأقبل عليه الصدر الأعظم الكوبريلي لما رأى من تصلبه واستقامته ثم عزل وولي بعد ذلك قضاء العسكر بروم إيلي مرة ثانية وكان السلطان محمد يومئذ بمدينة سلانيك فتوجه إليها ودخلها منحرف المزاج فلم يلبث كثيراً حتى توفي وكانت وفاته في آخر سنة ثمانين وألف ودفن بها وولي مكانه العالم العلم المولي مصطفى المعروف بضحكى فقال شيخنا إبراهيم الخياري المدني يرثيه وكان إذذاك بسلانيك.
إن ابن الرحيم قاضي ... عساكر الروم دون شك
رمته عن قوسها المنايا ... بكل سهم عظيم شك
وقد أصيبت به البرايا ... فكل عين عليه تبكي
مذعمهم غمهم عليه ... أبدلتهم ربنا بضحكي
38 - //الجزء الرابع محمد بن عبد العزيز بن محمد بن حسن جان الشهير بالبهائي مفتي الديار الرومية وأحد أفراد الدنيا ذكره والدي المرحوم في ذيله فقال في وصفه عزيز الروم وابن عزيزها وبدر افق المعالي الحائز قصبات السبق في مضمار العلى وتبريزها ومن أطاعته البلاغة ففتحت له عن كنوزها واطلع على دقائق حقائقها ورموزا الحري بما قاله فيه خاله المولى ابن أبي السعود النبيه:
ابن عبد العزيز في آل سعد ... كابن عبد العزيز بين أميه(2/428)
نشأ في حجر العز العالي وتربى في مهد العز والمعالي وارتضع من أفاويق الفضل أخلافها وانتجع من الفواضل أكنافها فهو كريم الجدين ومحبوك المجد من الطرفين أما جده لأبيه فهو شيخ الإسلام الخواجه سعد الدين وأما جده لوالدته فهو المولى مصطفى بن شيخ الإسلام أبي السعود المفسر اشتغل بطلب العلم وجد فوجد ومدباعه إلى أقصى الفضائل فنالها في أقصر أمد ولازم القراءة أولا على بعض الأفاضل ثم قرأ على شيخ الإسلام عبد الرحيم وسبق في ترجمة عبد الرحيم المذكور أن والد البهائي كان اتخذه لتعليمه أستاذاً وفي حل مشكلات العلوم ملاذا اعتمده في ذلك عليه وفوض أمر قراءته إليه وأنزله بمنزله وأكرم نزله ورفع قدره بين أقرانه وأجله فأقرأه قراءة من طب لمن حب وبذل في ذلك جهده وأتى في النصح بأقصى ما عنده وكان له نفس مبارك في القراءة والتعليم والتقرير والتفهيم ولما اشتهر فضله وشاع كماله ونبله تحاسدت عليه العيون والآذان وحقق الخبر في فضائله العيان حكى بعض الفضلاء أنه لما بلغت شهرته المولى محمد بن عبد الغني قاضي العساكر وفاضل الروم ظن أن الناس يبالغون في وصفه فطلب الاجتماع به من شيخه المشار إليه فجاء به فلما ذاكره رآه فوق ما وصف فالتفت إلى عبد الرحيم وقال له سراً كنت أظنك فطنا فإذا أنت غبي وسبب ذلك أنك بالغت في النصح مع شخص يصير عليك نقمة لأنه من آل حسن جان وهم أولو المناصب العالية ولهم الغيرة العظيمة على طريق أسلافهم وقد وقع ما قاله فإنه كان سبباً لعزل الأستاذ عن قضاء روم أيلي والفتيا ووليهما مكانه وحكى بعضهم أيضاً أن البهائي دخل إلى مجلس ابن عبد الغني المذكور وكان عنده قاضي العسكر صنوه في الفضل المولى مصطفى بن عزمي فتباحث الصدران المذكوران في بحث مغلق فشاركهما البهائي مشاركة جيدة فشهدا تفوقه على جميع المخاديم من أهل بلدتهم ولما حج أبوه في سنة خمس وعشرين وألف حج في خدمته ولازم من عمه الأوسط شيخ الإسلام أسعد ونظم الشعر في طليعة عمره وحكى أنه لما ابتدأ النظم نظم رباعية بالتركية ورفعها إلى شيخ الإسلام يحيى بن زكريا يطلب منه أن يضع له مخلصاً على عادتهم فوضع له لفظ بهائي وأفاد أنهم من نسل الشيخ العارف بالله تعالى الشيخ بهاء الدين نقشبند وشعر البهائي في الذروة العليا من المتانة وحسن التخيل والمضامين العجيبة لكنه قلق التراكيب يستعمل فيه الألفاظ الغريبة ولهذا كان يقول عنه المولى يحيى المذكور من أراد أن يطالع شعر البهائي فليهيء القاموس ولغة الدشيشة الفارسية ثم ينظر فيه ولما شاع أمره أعطى مدرسة بقسطنطينية ولم يزل يدرس في مدرسة أثر مدرسة حتى وصل إلى مدرسة شهزاده فنظم قصيدة للسلطان مراد وأوصلها إليه على يد بعض أركان الدولة من المقربين فوقعت من السلطان في أتم موقع فوجه إليه قضاء سلانيك ثم نقل منها إلى حلب ثم عزل منها ونفي إلى جزيرة قبرص فأقام بها مدة ثم أعيد مكرماً ولما سافر السلطان مراد إلى بغداد صحبه في خدمته وولاه في الطريق قضاء الشأم وذلك في المحرم سنة ثمان وأربعين وقال أبو بكر بن منصور العمري في تاريخ قضائه:
لا تقل لي في العدل زيد وعمرو ... وخذ الصدق بالكلام الوجيز
إنما العدل يا أخا ألفهم أرخ ... عدل هذا محمد بن عزيز
ثم عزل عنها في ذي القعدة سنة خمسين ثم ولي قضاء أدرنه وقسطنطينية وقضاء العسكر بأناطولي ثم ترقى إلى روم أيلي في عشري ذي القعدة سنة ست وخمسين وعزل ثم أعيد في ثامن جمادى الأولى سنة سبع وخمسين ثم ولي الافتاء في ثامن رجب سنة تسع وخمسين وأنشد والدي فيه عند ذكر توليته الافتاء:
زان الرياسة وهي زين للورى ... فازداد رونق وجهها بعلائه
كالدر يحسن لطفه وبهاؤه ... في لبة الحسناء ضعف بهائه
وأرخ عام فتواه ابن عمي محمد بن عبد الباقي الماذر ذكره بقوله:
ولما تولى مفتي العصر من غدت ... فضائله تسمو بغرب وتبريز
وشيد بيت السعد أركان مجده ... فساد بهاء بافتخار وتمييز
تباشرت الدنيا بفتواه فازدهت ... وأضحت به الأيام عيدا كنوروز
هفا هاتف للبشر قال مؤرخا ... فطوبي لفتوى الروم بابن عزيز(2/429)
ومدحه الأمير منجك بقصيدته البائية التي لم يقل أجود منها ولا أحسن ومستهلها:
يعد علي أنفاسي ذنوبا ... إذا ما قلت أفديه حبيبا
وأبعد ما يكون الود منه ... إذا أما بات من أملي قريبا
حبيب كلما يلقاه صب ... يصير عليه من يهوى رقيبا
سقاه الحسن ماء الدل حتى ... من الكافور أنبته قضيبا
يعاف منازل العشاق كبرا ... ولو فرشت مسالكها قلوبا
فلو حمل النسيم إليه مني ... سلاماً راح يمنعه الهبوبا
أغار على الجفا منه لغيري ... فليت جفاه لي أضحى نصيبا
وأعشق أعين الرقباء فيه ... ولو ملئت عيونهم عيوبا
لقد أخذ الهوى بزمام قلبي ... وصير دمع أجفاني جنيبا
وما أملت في أهلي نصيرا ... فكيف الآن أطلبه غريبا
وأقصد أن يعيد روا شبابي ... زمان غادر الوالدان شيبا
وما خفيت علي الناس حتى ... أروم اليوم من رخم حليبا
إذا طن الذباب خشيت منه ... لفقد مساعد يلفي مجيبا
وهب أني حكيت الشاة ضعفا ... فما لي أحسب السنور ذيبا
عسى يوماً يراش جناح حظى ... فأغدو قاصدا شهماً وهوبا
عزيزا مستفاداً من عزيز ... كورج أكسب الأيام طيبا
لئن سعدت ولو في النوم عين ... برؤياه لتلك العين طوبي
وإن ضن السحاب فلا أبالي ... وفيض نداه قد أضحى سكوبا
وهل أبغي وفي النادي سناه ... طلوع الشمس أو أخشى المغيبا
ظفرت بمدحه فعلوت قدرا ... وسماني الزمان به أديبا
وغادر روض أفكاري جنيا ... وصير غصن آمالي رطيبا
إذا تليت مآثره بأرض ... غدا الفلك المدار بها طروبا
قلت ولهذه القصيدة خبر عجيب أحسب أني سمعته من فم الأمير وذلك أنه لما نظمها دفعها لبعض المتأدبين المقيمين بدار الخلافة من أهل دمشق ليبيضها له بخطه وكان حسن الخط فأخذ نسختها وبيضها ونسبها لنفسه ودفعها إلى البهائي فأعجب بها ونالت ذلك الرجل شفاعته عند قاضي العسكر بمنصب فحصل على طول واشتهر بحسن الشعر وقبول البهائي وكان بعض أصحاب الأمير وقف على جلية الأمر وذكره له وأراد أن يظهر زيف الرجل فأعرض عنه الأمير وقال لا نخيب من توسل بنا في حال وللرجل نصيب ناله على يدنا فالله يمتعه ويزيده وهو غاية في مكارم الأخلاق رجع ثم عزل البهائي وأمر بالمسير إلى بعض القصبات القريبة وأعيد ثانياً في سنة ثلاث وستين وأرخ عوده الأديب يوسف البديعي بقوله:
تشيد المجد بالمعالي ... وصار في الأرض كالسماء
والدهر قد سر قال أرخ ... فتواى عادت إلى البهائي
وبالجملة فقد كان رونق علماء الدولة علماً وكرماً وسماحة ويحكى عنه في الكرم أشياء غريبة جداً منها أنه كان يجود بثوبه الذي يستره كما قيل وقس عليه غيره والكرم إلى حد يذكر من قبيل المعدوم في الروم ولطف طبعه وظرفه مما يقضي منهما بالعجب حتى يروي أنه كان إ جاء رمضان استعمل خادمين نصرانيين إشفاقاً على خدمته المسلمين من تأذيهم بالخدمة من قبل أن يستوعبوا المأكل والمشرب وآلاتهما ولم يكن فيه عيب يسند إليه إلا استعماله المكيفات من الأفيون والبرش ونوادره وأشعاره وآثاره كثيرة ولم أقف له من آثار العربية إلا على ما كتبه على نسبة أدهمية يقول فيه حمدا لمن جعل الانتساب إلى بعض الأنساب من أوكد الأسباب الناجعة في إنشاء ذخائر الحمد والثنا وأباح لأقدام المتشبثين بأذيالها مواطىء العز ومدارج العلا ونصب لهم سلماً يرفعون فيه إلى سماء السمو وفلك الارتقا:
مرابع قدس نالها كل أقدس ... سما من سما من نائليها إلى السما(2/430)
وصلاة وسلاماً على من به بدئت نسخة الجود والعطا كما به ختمت رسائل النبوة والاصطفا وعلى آله وأصحابه الكرماء النجبا وبعد فهذه شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السما تؤتي أكلها كل حين بأمرر بها وتفوح من كل زهرة منها روائح كأنها نوافج النوافج حسناً وطيباً ويبدو من محاسنها ما يخاله الإنسان غصناً طيباًكأنها اتصلت بأفواه عروقها عين الحياة إذا نسحبت عليها أذيال نفحات الجنان بتلك الحسنات يا لها من شجرة زكية تسد عين الشمس بأوراقها وتعطر أعماق الثرى بطيب أعراقها ثابتة في تربة طالما ربت غصوناً طاميات ودوحا ناميات من أسفل سافلين إلى أعلا عليين وجنة عالية قطوفها دانية وثمارها يانعة غير فانية تورد أخدود خدودها حياء وخجل حيث تشرفت بلثم أنامل السيد الأجل ملك أقاليم الإطلاق على الإطلاق وارث أسرة مقامات الكمل بالاستحقاق الذي أتحف الضرتين بطلاق وقام في مقام الجد على ساق فطوبي لمن له نصيب في تلك الشجرة الرفيعة الشأن السامية المكان المورقة الأغصان المشرقة الأنوار المزهرة الأزهار اليانعة الأثمار طوبي له ثم طوبى له كالشيخ الأجل والصاحب الأمجد الكمل فلان فان فيه مما يشهد له ألسنة الأقلام من أجلة العلماء الأعلام بصحة هذا النسب الباذخ والحسب العاطس من أنف شامخ دلائل تدل على تلألؤ نور السيادة من غرته وانبلاج صبح السعادة عن مفرق طرته قاله بفمه وكتبه بقلمه مستيقنا بصحة هذا النسب الأخطر وحاكما بها على ما يوجبه الشرع المطهر فلان انتهى وسئل عن صاحب كتاب اخوان الصفا وحكم قراءتها فكتب أنا الفقير رأيتها منسوبة للمجريطي وما تحققت من هو وما أخباره وحاصل تلك الرسائل ليس إلا مذهب الباطنية الإسماعيلية وهم على أنحاء شتى ومعظم القول في هذا الشعبة من شعبهم تناسخ الأرواح وادعاء حلول الباري جل وعلا عما يقوله المبطلون في الأنبياء المشهورين من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام وفي أئمة آل البيت وآخرهم المهدي ويعظمونه على الجميع والإسماعيلية يوافقون الإمامية في ذلك في الصادق ومن قبله ويخالفونهم في الكاظم ويقولون بإمامة إسمعيل بن جعفر الصادق وإليه ينسبون بالسبعية لقولهم بسبعة أئمة وممن ذم من يقرأ كتب اخوان الصفا محمد بن المجلى الطبيب المعروف بالعنتري بقوله:
رسائل إخواننا في الصفا ... هم أصبحوا كأفاعي الصفا
إذا جئتهم لم تجدهم سوى ... أراقم من تحت شوك السفا
عناصرهم كدرات الطباع ... ومن كدر كيف يرجى الصفا
وكانوا ظباء الربى بالنقا ... فصاروا ذئاب الفضا بالفلا
طلبت فلم أر منهم سوى ... عقارب في منزل قد عفا
تمرد كل امرىء منهم ... على الله مذ عبد القرقعا
لقد رسبوا في بحار الهوى ... فلست ترى منهم من طفا
وما في بني آدم صادق ... يدوم على وده والوفا
خليل صفا ليس فيه قذا ... جواد جدير بأن يصطفى
سوى العقل عن حكم بالنجا ... ة يلقبهن وكتب الشفا
سقى الله نفس الرئيس الذي ... هدانا من العقل غيث الهدى
فتلك مقدسة بالجنان ... قد اتحدت بنفوس السما
فلا تفش لله سرا ولا ... تبث البرايا علوم الحجى
فلولا الشرائع قيد النهي ... لضل المهيمن كل الورى
فإن كنت متخذا صاحبا ... لدنياك فليك رب التقي
فذلك خير من اللوذعى اللئي ... م الطباع الكثير المرا(2/431)
قلت ورأيت في بعض المجاميع مما يتعلق بهذه الرسائل أن الوزير صمصام الدولة ابن عضد الدولة سأل أبا حيان التوحيدي عن زيد بن رفاعة وقال لا أزال أسمع عن زيد مقالاً يريبني ومذهباً لا عهد لي به وقد بلغني أنك تعاشره كثيراً وتجلس إليه وعنده دائمً ومن طالت عشرته لإنسان أمكنه اطلاعه على مستكن رأيه فقلت له أيها الوزير هناك ذكاء غالب وذهن وقاد فقال فعلى هذا ما مذهبه قلت لا ينسب إلى شيء لكنه أقام بالبصرة زماناً طويلاً وصادف بها جماعة عندهم أصناف العلم فصحبهم وخدمهم وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة وتصافت بالصداقة واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله تعالى وذلك أنهم قالوا أن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال فصنفوا خمسين رسالة في خمسين نوعاً من الحكمة ومقالة حادية وخمسين جامعة لأنواع المقالات على طريق الاختصار والإيجاز وسموها رسائل اخوان الصفا وكتموا فيها أسماءهم وبثوها في الوراقين ووهبوها لأكثر الناس فحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية والأمثال الشرعية والحروف المحتملة والطرق المموهة وهي محشوة من كل فن بلا اشباع ولا كفاية وفيها خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات فتعبوا وما طربوا وعنوا وما أغنوا ونسجوا فهلهلوا ومشطوا فغلغلوا وبالجملة فهي مقالات مشوقات غير مستقصاة ولا ظاهرة الأدلة والاحتجاج ولما كتم مصنفوها أسماءهم اختلف الناس في الذي وضعها فكل قوم قالوا قولاً بطريق الحدس والتخمين قوم قالوا هي من كلام بعض الأئمة العلويين وقال آخرون هي تصنيف بعض متكلمي المعتزلة في العصر الأول والله اعلم بحقيقة الحال انتهى ثم رأيت ابن حجر المكي ذكر في فتاويه وقد سئل من صاحب رسائل اخوان الصفا وما ترجمته وما حال كتابه فأجاب بقوله نسبها كثير إلى جعفر الصادق وهو باطل وإنما الصواب أن مؤلفها مسلمة بن أحمد بن قاسم بن عبد الله المجريطي ويقال المرجيطي ومجريط بن قرى الأندلس ويكنى أبا القسم كان جامعاً لعلوم الحكمة من الإلهيات وطبائع الأحجار وخواص النبات وإليه انتهى علم الحكمة بالأندلس وعنه أخذ حكماء ذلك الاقليم وتوفي بها في آخر جمادى سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة وهو ابن ستين سنة وممن ذكره ابن بشكوال وغيره وكتابه فيه أشياء حكيمة وفلسفية وشرعية وممن شدد عليه ابن تيمية لكنه يفرط في كلامه فلا تغتر بجميع ما يقوله انتهى وكانت ولادته البهائي في سنة عشرة وألف وتوفي في ثالث عشر صفر سنة أربع وستين وألف ودفن قبالة داره في تربة مخصوصة عمرها لنفسه بالقرب من جامع السلطان محمد الفاتح من جهة قرمان الصغيرة وقال والدي يرثيه:
الروم قد محيت محاسن أنسها ... وغدا بها رسم العلا كهباء
وتعطلت لما نأى ابن عزيزها ... إذ لا بهاء لها بغير بهائي
محمد بن عبد العليم بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي الأهدل وتقدم تمام النسب في ترجمة أبي بكر بن أبي القاسم وصاحب الترجمة هو السيد الجليل له رياسة الحديدة الثغر المشهور باليمن وكان ذا جاه ومكارم وأخلاق رضية ودنيا واسعة صحب السيد الطاهر ابن البحر وكانت وفاته بالحديدة في سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة وألف وصلى عليه إماماً بالناس السيد الطاهر المذكور.(2/432)
محمد بن عبد الغني بن مير بادشاه المعروف بغنى زاده وبنادري نادرة الروم وقاضي العسكر المشهور في الآفاق كان من الفضل في أعلى ذروة منه وهو أشهر موالي الروم في الذكاء والفطنة والنظم والنثر وبالجملة فهم ثلاثة اجتمعوا في عصر واحد من علماء الروم لم يتفق نظيرهم في عصر من العصور وهم حسين ابن أخي وصاحب الترجمة وابن عزمي لكن صاحب الترجمة أطولهم باعاً في التحقيق ولطف الطبع والأخذ من الفنون بالنصيب الوافر وممن تخرج به الشهاب الخفاجي وكان لا ينفك عن مجلسه وله من المؤلفات حاشية على تفسير البيضاوي لم تتم وكلامه وفيها يدل على تحقيق عظيم وله من الآثار الأدبية تقريظ على كتاب في الفقه رأيته بخط بعض الأدباء فكتبته هنا وهو لما نظرت في الكتاب وجدته حديقة أنيقة شقائق حقائقها النعمانية لأزهار الحدائق الجنانية شقيقه تأصل فيها خلاف الأئمة فأخذ في النما حتى صار شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السما امتدت أغصانه المختلفة في الآفاق فأضلت الأنام حيث ظلت ملتفة الأوراق وغردت ساجعات قلم الفتوى على ما هو الأصح من أغصانه المختلفة والأقوى ولله در من غرسه في مقامه وأمده برشحات مراعف أقلامه جعل الله تعالى سعيه مشكوراً وصير عمله بالبر الأخروي مبرورا وكان يرمى بتعاطي المدام واتفق له من النكات البديعة أن أحمد باشا الحافظ كان حاكم البحر فاجتمعا وتذاكرا شيئا من مباحث التفسير وكان ابن عبد الغني إذ ذاك مشتغلاً بتحشية التفسير فقال له الحافظ ما كتبت على قوله تعالى يسئلونك عن الخمر والميسر فقال الآن أنا أكتب على قوله تعالى ظهر الفساد في البر والبحر وحكي أنه قال له شيخ الإسلام يحيى بن زكريا بلغني عنك أنك تستعمل الخمرة وتبعث بعض غلمانك إلى الحانة ليأتيك بها وهذا لا يليق بشأنك فقال له أما الشأن فلست في شأنه وأما قولك إني أبعث بعض غلماني فلا كان ذلك لأن الله جعل لي رجلين فأنا أسعى إلى الحانة وأشربها في محلها وهذا من باب الغلو في المداعبة وإلا فقدره يجل عن كل هذا وينقل عنه في هذا الباب أشياء غريبة أخر ولعلها مصنوعة وقد ولي مناصب عديدة منها قضاء قسطنطينية وقضاء العسكرين ولشعراء عصره فيه مدائح كثيرة ويعجبني منها قصيدة كان أحمد ابن شاهين الدمشقي مدحه بها وهو بالروم يهنيه بقضاء العسكر ومطلعها:
بنا منك ما بالربع من وجد مغرم ... سوى أننا نشكو ولم يتكلم
شكونا له وهنا فظلت ركابنا ... تميد بنا أكوارهن وترتمي
ورحنا نواليه بصوب غمامة ... من الدمع تغنى عن سمال وزمزم
هي الدار دار المالكية والهوى ... تجل بأن توطا بخف ومنسم
سقى الله أياماً صحبت بربعها ... جآذر بانت في عرينة ضيغم
غرمت شبابي والشباب تعلة ... ولكن من يشرب هوى الغيد يغرم
وما الشيب شيب العارضين وإنما ... هي النفس شابت بين جنبي فاعلم
هرمت ولم يعل المشيب عوارضي ... ولكن من يهجر وعيشك يهرم
على أنها الأيام تلعب بالفتى ... فتحزن مسروراً وتلهو بمغرم
لحا الله ذي الدنيا حديثا لسامر ... ونصرا لمظلوم ويسرا لمعدم
طلبنا بها مقدار همات صدرنا ... فضاقت كما ضاق البخيل بدرهم
ولو أن كفى قد أمطيت بهمتي ... لطال إلى نيل السماكين معصمي
يقول في مديحها:
فيا عالماً في ثوبه كل عالم ... وما الدهر إلا في مقام التعلم
ليهن قضاء الروم حين وليته ... ببسطة علم مثل رأيك محكم
ويهن بني الدنيا جميعاً فإنهم ... لقوك وقد وافوا الأعظم متعم
فلله أقلام بكفك أصبحت ... تجول بتفسير الكتاب المكرم
ولله هذا السعي إذ رحت منشيا ... لحاشية قد أوضحت كل مبهم
وأبرزت للقرآن كل خفية ... ترد إلى عقل رصين محكم
جبلتك العلياء وهي شريفة ... لآدم باستحقاق علمك تنتمي
فأنت صفى جئت من خير صفوة ... كأنك من نور خلقت مجسم(2/433)
ولها تتمة طويلة وقد اكتفينا بزبدتها وكانت وفاة صاحب الترجمة في سنة ست وثلاثين وألف.
محمد بن عبد القادر بن أحمد بن أبي بكر بن اسرائيل بن إسمعيل بن محمد بن عمر اليمني ذكره الشلي في تاريخه المرتب على السنين وقال في وصفه الإمام العلامة الذي ظهر شرفه وعلت غرفه وأنبأ عن جوهر كلمه صدفه صنف عدة كتب في فنون كثيرة منها تفسير غريب القرآن سماه شذور الإبريز في لغات الكتاب العزيز وهو كتاب يعجز الواصفون عن وصف جماله وتعشى العيون من شمس كماله وله رسالة في القهوة ورسالة في علم المساحة سماها المشمة النفاحة بتحقيق المساحه جمع فيها الكثير المتفرق من الكتب في هذا الفن على أقصد سبيل وأقرب مأخذ وله نظم حسن ورد على الشيخ محمد بن عمر بحرق في قصيدة له في السلطان بدر الكثيري في قوله وكأنما أنصارك الأنصار فقال صاحب الترجمة: أنقيس غفلا جاهلاً بنبينا ومن نظمه في القهوة:
يا شاعر أفاق في أقواله الشعرا ... أبدي لنا من قوافي نظمه دررا
أطربتني إذ وصفت القاف تتبعه ... هاء وواء وهاء بعده زبرا
حققت في وصفها وصفي كفى ورقا ... بل قد شفى وجلا عن قلبي الكدرا
فإنها قوة مهما حذفت لها ... هاء تبين ذا من في الأنام قرا
لذاك ناسبها في ذكرك اسم قوى ... موافقا عدها فاعدده واعتبرا
بقافها قويت أعضاء كل فتى ... وهاؤها لهدى والواو منه جرا
فاشرب هنيئا فما في ذاك منقصة ... كلا ولا حرمة تخشى بها ضررا
وله غير ذلك وكانت وفاته يوم الأربعاء لثنتي عشرة بقيت من رجب سنة خمس عشرة وألف ودفن بروضة بني اسرائيل.
محمد بن عبد القادر المنعوت شمس الدين الشهير بالحادي الصيداوي الشافعي مفتي صيدا الفاضل الأديب المشهور له ألحان الحادي بين المراجع والبادي وضعه على أسلوب الحان السواجع للصلاح الصفدي قال في خطبته بعد أن ذكر أنه وقف على كتاب الصلاح فتحركت القريحة لجمع ما هو كالشريد وإن كان بين المقامين بون بعيد والفضل للسابق على كل تقدير وأجر اللاحق له من غير تقتير لكن الشيخ صلاح الدين افتقر لذكر السواجع للألحان والحادي غني بألحانه عن تحريك العود من الأغصان وشتان بين من يتصرف بأنواع فنون نغماته من الإنسان وبين مغردة تفتقر في تحريك ألحانها إلى سكون فنن من الأفنان قلت وقد وقفت على هذا الكتاب وطالعته مراراً فلم أجد فيه كبير فائدة سوى أنه ذكر مشايخه الذين أخذ عنهم بالشأم منهم بالشمس بن المنقار وجدى القاضي محب الدين والملا أسد الدين بن معين الدين التبريري والشمس محمد الداودي والشهاب العيثاوي والشمس الميداني وأضاف إليهم بعض أدباء راسلهم وراسلوه وقد استوعبت شعره الذي ذكره فيه فلم أر له أجود من قوله من قصيدة راسل بها الشيخ الإمام حسن جمال الدين الصيداوي مستهلها:
إذا أنكرت دعوى المحب شهوده ... فحسبي أني في الغرام شهيده
فلله شوقي لا يقر قراره ... من البعد حتى ماله من يعوده
وقد مله عواده وهو مدنف ... حليف جوى صب الفؤاد عميده
رعى الله أياماً تقضت بقربهم ... ومن لي بذاك القرب من ذا يعيده
أيا عاذلي عمن نعيمي وعده ... وحر حجيمي بعده ووعيده
ولم يتلطف بالوصال لمغرم ... وقد طال منه هجره وصدوده
فهذا ملامي مسمعي لا يريده ... وهذا غرامي لا أزال أروده
وإن كان دهري قد يجوز زمانه ... تخلصت منه بالذي عم جوده
فراجعه بقصيدة اخترت نسيبها ومبدؤها:
مريض هواكم مله من يعوده ... فعصر التداني ماله من يعيده
أقمتم على هجري وإني على الولا ... مقيم وعندي كل آن مزيده
بماذا استجتم ضر صب بحبكم ... غدا عد ما بين الأنام وجوده
كساه النوى ثوب اكتئاب وحسرة ... مدى العمر لا يبلي لديه جديده
فإن شئتمو عودوا على من غرامه ... قضى بعناه والدموع شهوده
وحاشاكمو أن لا تجودوا الطالب ... إلى نحوكم في الدهر سارت وفوده(2/434)
وما هو باق ما يقيم على الذي ... عهدتم ولو زالت لديكم عهوده
فيا عاذلي ما عادلي الآن مسمع ... بما نالني والصبر حلت عقوده
وما أنا ممن قد شكى حكم دهره ... بضد الذي يرجو به ويريده
وقد حق شكري حيث قد صار مسكنا ... فؤادي لمولى أخجل اليم جوده
وذكر في ترجمة شيخه الشمس الداودي أنه ختم عليه قراءة شرح المحلى على المنهاج فعمل دعوة حضرها جمع من العلماء والأدباء فأنشد بعضهم:
ويوم قد قطعناه سعيد ... لجيد الدهر قد أضحى محلى
بروض زاهر جنبات نهر ... ومأكول ومشروب محلى
قطعناه بقرآن وذكر ... وإخوان حووا أسنى محلى
وكان ختامه مسكا فقالوا ... كذلك فليكن ختم المحلى
وكان كثير النظم وله في عمل الألغاز وحلها اليد الطولي ومتى كتب إليه شيء منها حله في وقته وكتب الجواب وكان لطيف المحاضرة لذيذ الصحبة ممتع المؤانسة وكان رؤساء الشأم يميلون إليه جداً وبعدونه ريحانه الندماء ويعاشره منهم من تطيب عشرته وتلين قشرته ولهم معه نكات تجري بينهم ومقاصد لا يغضب منها ولا يتألم ولو كانت سبا حكى أنه دخل على بعضهم وكانت المائة العاشرة تمت ودخلت المائة الحادية عشر فقال ذلك الرئيس قد خلصنا من القرن العاشر وهذا القرن الحادي قد أقبل واتفق له أنه اجتمع عنده في حجرة له بأحد مساجد صيدا عشرون شخصاً من أصحابه فجاء أحد الشعراء ممن كان يألفهم فلما وجدهم خرج وكتب على باب الحجرة:
أحد وعشرون لقد جمعوا ... كلهم في خلوة الحادي
فقاتل العشرين رب السما ... ولعنة الله على الحادي
وله لطائف من هذا الباب كثيرة فمن ذلك ما كتبه إلى أبي اللطف بن محمد الخوجي يطلب منه شدا:
يا أبا اللطف أن فضلكم ... ليس يحصى بكثرة العد
شد وسطي بما ترى كرما ... ولا تماطل فكثرة الشد
فسير له شداً وأرسل له هذا المقطوع في كتاب وهو قوله:
مقصد ذا العبد من تفضلكم ... من دون من قبول ذا الشد
قد سدت فضلا وشدت كل علا ... وقد شددت القلوب بالود
وله غير ذلك وكانت وفاته بمدينة صيدا في سنة اثنتين وأربعين وألف وصيدا معروفة وهي مدينة بساحل البحر الرومي بينها وبين دمشق ستة وثلاثون ميلا سميت بصيدون بن صدفا بن كنعان بن حام بن نوح النبي عليه السلام وهو أول من عمرها وسكنها وقال في الروض المع طار سميت بامرأة وقياس النسبة إليها صيداوي بفتح الصاد المهملة كما هي مفتوحة في المفرد والعامة تكسرها فكسرها من غلط العوام.
محمد حجازي بن عبد القادر بن محمد الشهير بابن قضيب البان الحلبي الحنفي نقيب حلب كان عالماً فاضلاً جسوراً كثير العرفان فصيح اللسان في اللغات العربيه والفارسيه والتركيه وكان ذا همة علية مغبوطه ويد للخيرات مبسوطه ولي بعد أبيه نقابة الأشراف بحلب مدة وقصدته الناس في المهمات ثم سلك طريق الموالي ووجه إليه قضاء أريحا على طريق التأييد وأعطى رتبة القدس ورأس في حلب وكان ينظم الشعر وشعره لا بأس به فمن ذلك من قصيدة يمدح بها البهائي المفتي المقدم ذكره لما كان قاضياً بحلب ومستهلها:
ألا منجداً في أرض نجد من الوجد ... فما عند أهليها سوى لوعة تجدي
وقفت بها مستأنساً بظبائها ... كما يأنس الصب المتيم بالوجد
أسائل عمن حل بالجزع والحمى ... وأنشد عمن جاز بالأجرع الفرد
خليلي إن الصدر ضاق عن الجوى ... فلا تعجبا من طفرة النار في الزند
قفي الجسم من سعدي جروح من الأسى ... وفي القلب من أجفانها كل ما يعدى
بثغر يزيد الوقد من خمرة اللمى ... وصدغ يثير الوجد من جمرة الوجد
تقرب لي باللحظ ما عز دركه ... وتنفر عمداً كي تصاد على عمد
تلاعب في عقل الفحول بطرفها ... ملاعبة الأطفال من غرة المهد
رمت مهجتي أهدابها عن تعمد ... نبالاً فزادت من توقدها وقدي(2/435)
دنوت إليها وهي لم تدر ما الهوى ... وما علمت ما حل بي من هوى نجد
فقلت أمالي من رضا بك رشفة ... معللة أروى بها غلة الوجد
وهل للتداني ساعة أستمدها ... وأبذل في انجاز وصلتها جهدي
فقالت أما يكفيك وعدي تعلة ... لقلبك فاقنع يا أخا الود بالوعد
ولا ترج مهما تقصد النفس نيله ... فإن الرزايا في متابعة القصد
ولا تستمح من كل خدن وصاحب ... إخاء فقد يفضي الإخاء إلى الزهد
فما كان إنسان تراه مهذبا ... ولا كل خل صادق الوعد والعهد
ولا كل نجم يهتدي بضيائه ... ولا كل ماء طيب الطعم والورد
ولا المسك في كل المهاة محله ... ولا ريح ماء الورد من عاصر الورد
ولا فضل مولانا البهائي محمد ... كفضل الموالي السابقين على حد
وقوله من أخرى في مدح البهائي المذكور:
قطب السماء هو الطريق الأقصد ... دارت عليه نجومه والفرقد
والمشتري والزهرة الزهراء في ... أوج السعود هبوطها والمصعد
والشمس ما شرفت على أقرانها ... إلا بنسبته إليها العسجد
والله لا تحصى شؤون كماله ... فالويل ثم على الذي لا يشهد
ولقد أبيت الدهر غير مغادر ... في حالة منها أقوم وأقعد
فسألته من بالحمى فأجابني ... مفتي الأنام أبو البهاء محمد
وقوله من الصهباء وتعليل نشأتها:
لا ترض بالإضرار للناس ... إن رمت أن تنجو من الباس
وانظر إلى الخمر وما أوقعت ... في شاربيها بعد إيناس
لما رضوا في دوسها عوقبوا ... بضربة منها على الرأس
وله غير ذلك وكانت ولادته بمكة المكرمة سنة إحدى بعد الألف وتوفي بحلب في صفر سنة تسع وستين وألف.
محمد بن عبد اللطيف بن محمد محب الدين بن أبي بكر تقي الدين ابن عم أبي المحبي الخلوتي الدمشقي الحنفي المعروف بشقير كان من الفضلاء المشار إليهم بالنباهة والبراعة وكان قوي الحافظة للمسائل والشعر والأخبار حسن الصحبة كثير العبادة والمطالعة لكتب التفسير والتصوف وله رسائل وتحريرات على مواطن من التفسير لطيفة قرأ على الشيخ عبد اللطيف الجالقي وعلى المفتي فضل الله بن عيسى البوسنوي والمولى يوسف بن أبي الفتح وأخذ عن جماعة كثيرين منهم العمادي المفتي والنجم الغزي والفتح البيلوني والشيخ علي القبردي الصالحي ولزم الشيخ أحمد العسالي وأخذ عنه طريق الخلوتية وداوم على قراءة الأوراد ودخل معه الخلو مرات عديدة وسافر إلى القدس والقاهرة وحج من طريق مصر في صحبة الأمير رضوان أمير الحاج المصري وحكى عن نفسه مرات أنه من حين خرج من مصر في صحبته إلى أن عاد إليها لم يصرف سوى قرش واحد وهبه للجمال وسببه محبة الأمير المذكور له وتقيده به ثم قدم إلى دمشق وأقام بخلوة له في مدرسة الكلاسة وعمرها عمارة فائقة وحببت إليه العزلة واستمر عمره كله مجرداً وكان سمته غريباً لا يشبه أحداً وكان نديم الرؤساء والكبراء يحاضرهم أحسن محاضرة ويورد النكات البديعة والأشعار اللطيفة ويحسن اللغة التركية جداً وكان مغرماً بالجمال ومضى عمره كله في نشاط وسرور فلم ير إلا مسروراً متبسماً وكان سخياً متعبداً يصوم غالب الأيام وله شعر كثير في لسان القوم وبينه وبين أدباء عصره مراسلات من ذلك ما كتبه إلى الأديب محمد بن يوسف الكريمي ملغزا في غزال:
نراجع في الفضل أهل الكلام ... ونأخذ عن كل حبر همام
ونسأل من ساحة الأكرمين ... ونخضع للمجد لا للأنام
فنتبع من رفعته النفوس ... ونترك من قدمته اللئام
فأختار طوراً زوايا الخمول ... وطوراً أحب الأمور العظام
تراني على كل حال أرى ... أسير الهوى ومليك الغرام
وما جرعة الحب إلا المنون ... وما لوعة الهجر إلا الهيام
وما راحة العشق إلا العنا ... ولا صحة الصب إلا السقام(2/436)
ولي حسرة بعد أخرى لها ... زفير وليس له انحسام
يذيب الحشا ويثير الشجون ... بنار غدا وقدها كالضرام
وهل للهوى غير من ذاقه ... فنشكو له مر سمع الملام
ولا كل من غاص بحر الهوى ... حوى من جواهره باغتنام
ولا كل من قد سما في العلوم ... يقرر مشكلها عن إمام
فذاك هو الندب بدر العلوم ... ومن نوره لم يزل في التمام
كخلي الكريمي من فضله ... تلفعه يافعاً باهتمام
مهذب أخلاق أهل الوفا ... حفيظ لعهد التقي والذمام
وجامع آداب أهل النهي ... وباني بيوت المعالي الفخام
وفي كل فن تراه له ... نصيب وحظ أبي الانقسام
فيوضج من مشكلات العلوم ... بفكر خلا ضوءه من ظلام
فنظم القريض يرى دونه ... عصامي طبع شريف المقام
يشابه للدر في سلكه ... ويحوي اشارات طعن السهام
فلو رام سحبان ألفاظه ... لقصر في رقة الإنسجام
ويهفو جرير لتقبيلها ... ويعجز عن مثلها في النظام
فيأيها الخدن شمس العلى ... وجرثومة الفخر نسل الكرام
فما اسم رباعي إذا ما بدا ... فنعتا يرى في مجاز الكلام
فآونة تلقه في العلا ... وفي الأرض طوراً بحول الأكام
ثلاثة أرباعه إن قلبت ... هي اسم لما بدؤه في انعدام
وإن لم ترد قصد تقليبها ... فمعناه في الحرب بادي اللثام
وأيضاً يرادف معنى الذهاب ... إذا كان عن بدئه في انفصام
ونصف له بعد تصحيفه ... حرى به من له احترام
وباقيه بالقلب لا يقتضي ... لا ثبات شيء وأمر يرام
فأنعم بحل رموزي التي ... لها الفكر في حيرة واصطلام
وألغز لنا ما بدا في الجواب ... وبين لنا قصدنا والمرام
ودم وابق في سودد سرمدا ... مدى الدهر ما ناح ورق الحمام
فأجابه بقوله:
أزهر الربى كللته الغمام ... أم الزهر ساطعة في الظلام
وهل ما أرى حبباً رائقاً ... بكاس طلا حسن الانتظام
أم البرق أم درر نظمت ... أم افتر ثغرك عند ابتسام
أيا بدر تم غرامي به ... قديم أكيد وحق الغرام
ويا ريم أنس لجراه لم ... يعد لي سوى سقمي من مرام
يماني لحظك هلا نبا ... وخطى قدك هلا استقام
ويا ممرض القلب من هجره ... وبالجسم يا مورثا للسقام
ويا تاركي مثلا في الهوى ... أفديك جد وارع لي في الذمام
رضينا الهوى حاكماً بيننا ... أحل من المغرم الانتقام
وجد بالنهي شرط أحكامه ... وأي حجي كان للمستهام
أخي لظمك العذب هاج الجوى ... القديم وذكرني بالهيام
ولم أنس قط ولكنما ... التذكير يذكي خفي الضرام
فدار الهوى ما نحاها مزاج ... عليل كجسمي إلا استقام
سقاها الرضا من ربوع غدا ... خلال خباها لغيري حرام
مغاني المنا وديار الشفا ... ومأوى الغريب ودار السلام
لقد رمت أدرك في وصفها ... مدى عاقني عنه ضيق المقام
وحلى امتثالاً للغز حوى ... قوافي رقت وحسن انسجام
لخدني الذي فضله شامل ... وبادلنا بين خاص وعام
محبي نجار وحبي له ... بصدق لفضل له مع نظام
أبو الفضل حاوي العلا ماجد ... وندب أهالي العلوم الكرام
وذو الأدب الرائق المشتهي ... وبين ذويه أمير الكلام(2/437)
وحاوي الفضائل والمكرمات ... ومن هو في كل فن إمام
بهرت بلغزك عقلي وكم ... فتى فيه مثل مسماه هام
قريب بعيد تحار العقول ... به وحلال وفاه حرام
هو الشمس للعين من حسنه ... ضياء إذا ما المذاق استقام
رباعي حروف ومنطوقها ... مع اثنين عشر حروف تمام
ثلاثة أرباعه فعله ... بعينيه في المغرم المستهام
بغير استوا قلب أرباعه الث ... لاثة ما قلت يا ابن الهمام
وزال يرادف معنى الذهاب ... مراداً به وصف نفي المرام
وإن حرف النصف منه يع ... د مصحفه العز والاحتشام
ولا قلب باقيه يا سيدي ... نعم وسلمت لنا والسلام
وهذا هو الجهد في حل ما ... أمرت وإلا فيأتي الكلام
بقيت مفيدا لنا دائماً ... فرائد باهرة الانتظام
مدى الدهر ما نفر الريم عن ... متيمه ناقضاً الذمام
وكانت ولادته صاحب الترجمة في سنة ثمان عشرة وألف وتوفي في صفر سنة اثنتين وسبعين وألف ودفن على أبيه بمقبرته التي أنشأها بالقرب من جامع جراح.(2/438)
محمد بن عبد الله بن أحمد الخطيب ابن محمد الخطيب ابن إبراهيم الخطيب ابن محمد الخطيب التمرتاشي الغزي الحنفي المذهب رأس الفقهاء في عصره كان إماماً فاضلاً كبيراً حسن السمت جميل الطريقة قوي الحافظة كثير الإطلاع وبالجملة فلم يبق في آخر أمره من يساويه في الدرجة أخذ ببلده أنواع الفنون عن الشمس محمد بن المشرقي الغزي مفتي الشافعية بغزة ثم رحل إلى القاهرة أربع مرات آخرها في سنة ثمان وتسعين وتسعمائة وتفقه بها على الشيخ الإمام زين بن نجيم صاحب البحر والإمام الكبير أمين الدين بن عبد العال وأخذ عن المولى علي بن الحنائي قاضي القضاة بمصر ورجع إلى بلده وقد رأس في العلوم وقصده الناس للفتوى وألف التآليف العجيبة المتقنة منها كتابه تنوير الأبصار وهو متن في الفقه جليل المقدار جم الفائدة دقق في مسائله كل التدقيق ورزق فيه السعد فاشتهر في الأفاق وشرحه هو الشرح المسمى بمنح الغفار وهو من أنفع كتب المذهب واعتنى بشرحه جماعة منهم العلاء الحصكفي مفتي الشأم والملأ حسين بن اسكندر الرومي نزيل دمشق والشيخ عبد الرزاق مدرس الناصرية الجوانية بدمشق وكتب علينا شيخ الإسلام بالديار الرومية وهو المولى محمد الأنكروي كتابات في غاية التحرير والنفع وكتب على شرح مؤلفه شيخ الإسلام خير الدين الرملي حواشي مفيدة وله من التآليف في الفقه شرح الكنز وصل فيه إلى كتاب الإيمان وقطعة من شرح الوقاية وحاشية على الدرر والغرر وصل فيها إلى نهاية كتاب الحج وله منظومة وشرحها وكتاب معين المفتي على جواب المستفتي في مجلد كبير وجمع مجلدين من فتاويه وله رسائل كثيرة منها رسالة في خصائص العشرة المبشرين بالجنة ورسالة في بيان جواز الاستبانة في الخطبة وكتاب مسعف الحكام على الأحكام ورسالة في بيان أحكام القراءة خلف الإمام ورسالة النفائس في أحكام الكنائس ورسالة في عصمة الأنبياء ورسالة في دخول الحمام ورسالة في الجويز ورسالة في مسح الخفين ورسالة في النقود ورسالة في أحكام الدروز والإرفاض وكتاب شرح مشكلات وردت عليه من الفروع والأصول وله في الأصول كتاب الوصول إلى قواعد الأصول وقطعة من شرح المنار إلى باب السنة وشرح مختصر المنار في مجلد وفي الكلام اللامية يقول العبد وشرح مختصر المنار في مجلد وفي الكلام شرح اللامية يقول العبد وشرح زاد الفقير للكمال بن الهمام سماه إعانة الحقير ومنظومة في التوحيد وشرحها وله رسالة في التصوف ورسالة في علم الصرف وكتاب شرح العوامل للجرجاني في النحو وقطعة من شرح القطر وصل فيه إلى إعمال اسم الفاعل وانتفع به جماعة منهم والده صالح ومحفوظ والشيخان الإمامان أحمد ومحمد ابنا عمار ومن ومن أهالي القدس البرهان الفتياني المؤلف والشيخ عبد الغفار العجمي وغيرهم وذكره جدي القاضي محب الدين في رحلته إلى مصر ووصفه بأوصاف جليلة وذكر ما وقع بينهما من المحاضرة قال ثم اتسعت معه دائرة المخاطبة واستطرد القول بطريق المناسبة إلى ذكر رحلته إلى بلدتنا حماة المحروسة وتغزل لنا بوصف ما فيها من تلك الأماكن المأنوسة ثم سألني عمن يعهده فيها من أفاضل الأصحاب فكان سائل دمع مقلتي الجواب ثم حدثنا بكثير من حسن المحاضرات ولطيف المحاورات التي كانت تصدر بيته وبين فاضلها المرحوم سيدي الشيخ محمد بن الشيخ علوان وكان يتعجب من فصاحته وبلاغته التي حارت فيها العقول والأذهان ويمدح فضائله وفواضله الغزار ويذكر صفاء العيش الذي قضاه في صحبته في تلك الديار انتهى وكانت وفاته في أواخر رجب سنة أربع بعد الألف عن خمس وستين سنة رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الله بن شيخ عبد الله العيدروس الحضرمي أحد الأولياء الكبار ذكره الشلي في تاريخه المرتب على السنين وقال ولد في مدينة تريم في سنة خمس وثلاثين وتسعمائة وظهرت عليه لوايح الفلاح فسلك طريق الأقدمين ولازم التقوى وكان كثيرا الصلاة والعبادة مخلصا في أعماله حافظا لسانه وكان معظما عند الملوك والأمراء مكرما محترما عند الأغنياء والفقراء وانتفع به الخاصة والعامة واشتهر بالولاية التامه وكانت وفاته في سنة خمس بعد الألف ودفن بمقبرة زنبل رحمه الله تعالى.(2/439)
محمد بن عبد الله بن الإمام شرف الدين من أعيان ملوك كوكبان المشهورين بالفضل نشأ في حجر الخلافة والإمامة ودرج في حجرات العلم والورع وطلب العلم عن جهد وجدّ حتى انتهى إلى أقصى غاية وجد لم يزل لاهجا بطلابه مغري باكتسابه حتى الحق الأصاغر بالأكابر وغدا كل كبير له صاغر وعقد عليه عند ذكر العلماء بالخناصر فما من فن من الفنون إلا وقد بلغ غايته القصوى وفاز بقدحه المعلى ذكره السيد العلامه أحمد بن حميد الدين في كتابه ترويح المشوق فقال هو العلامه الذي يستغرق مدحه الكلام وتحفى في قطع مسافة أوراقه جاريات الأقلام وتطأطىء البلغاء رؤسهم عند سماعه أن نظم قال النظام لا محالة أنّ جوهر عقدك الفرد أو نثر قال الفاضل أنت ملك الكلام ومولاه وأنا العبد أو جد قال المزاح رعتني بجدك وقال القاضي السعيد ما أرى السعد إلا بجدك وجدك وما هو الإسورة النور في الشعرا والآية التي حام الأفاضل يتلونها زمرا وقد تتبع سيدي عيسى بن لطف الله تقاصير نظمه الذي يطرح عند مشعر ابن مطروح ونظمها في أحسن سلك وهل يقوم جسم الفصاحة إلا بالروح رحم الله وجهه ونضره وإلى سبيل الجمة يسره فمنها:
يا راقد الليل لم يشعر بمن سهرا ... أسهرت عيني فعيني لا تذوق كرا
تنام عني وأجفاني مؤرقة ... عبراء ما مرها نوم ولا عبرا
سلبت عقلي وأودعت الهوى كبدي ... يا منيتي وملكت السمع والبصرا
فأنثني واضعا كفا على كبد ... حرا وكفا يكف الدمع حين جرى
يدني لي الوهم غصنا منك أعشقه ... حتى أكاد أناجيه إذا خطرا
وأرفع الكف أشكو ما أكابده ... أقول أنت بحالي يا عليم ترا
أدعو إذا جنني ليل ولي مقل ... تفيض دمعا وقلب ذاب واستعرا
لا وأخذ الله من أهوى بجفوته ... ولا ملا مثل قلبي قلبه شررا
ولا ثناه الهوى وجدا ولا اكتحلت ... عيناه مثل عيوني في الدجا سهرا
رق النسيم لتبريح الصبابة بي ... لما انثنى ذيله من أدمعي خضرا
والبرق شق جيوب السحب عن كبدي ... والرعد حن وأبكى دمعي مطرا
يا صاحبي إنّ لي سرا أكاتمه ... أخفيته من نسيم الريح حين سرا
إن كنت تضمن لي أن لا تبوح به ... سمعت من سري المكنون ما استترا
غزيل الحلة الفيحاء أرشقني ... من لحظه بسهام راشها وبرا
رماني الرمية الأولى فقلت بلا ... عمد رماني فأصماني وما شعرا
وحين فوق لي سهميه ثانية ... بكيت نفسي واستبكيت من حضرا
هذا من قول مهيار:
رمى الرمية الأولى فقلت مجرّب ... وكررها أخرى فأحسست بالشر
بكيت نفسي لعلمي أن مقلته ... لا تقتلني ظلما وسوف ترى
ممنع الوصل لا يرجى تواصله ... لوزاره الصب في طيف لما صدرا
لا تستطيع صبا نجد إذا خطرت ... تهدي إلى الصب من أكنافه خبرا
ربيب ملك كأنّ الله صوّره ... ملكا وخيره بين الورى الصورا
مهفهف القد لا يطفى لظى كبدي ... إلا ارتشافي لماه البارد العطرا
أغنّ يكسر جفنيه على حور ... يذيب نفسي ونفسي تعشق الحورا
بدر على غصن بان في محبته ... أكاد أعشق غصن البان والقمرا
أقبل الدر من عشقي لمبسمه ... لما رأيت ثنايا ثغره دررا
أقرب البانة الغنا إلى كبدي ... لما حكت قده الميال إذا خطرا
عليه كل هلال ينحني أسفا ... وكل بدر حيا من وجهه استترا
والنرجس الغض غض الطرف حين رنا ... واحمرّ ورد الربى من خدّه خضرا
ذكرته حين فاحت لي معنبرة ... ريح الصبا وسرى لي سرها سحرا
يأيها القمر الساري إذا خطرت ... إليك عيناه واستحلى بك السمرا
أبلغه يا بدر قل مضناك أو دعني ... أهدي إليك سلاما طيبا عطرا
يمسي سميري ويبكي من صبابته ... شوقا إليك ويرعى الأنجم الزهرا(2/440)
عسى أخوك إذا أخبرته خبري ... يرثي لحالي فحالي شجو من نظرا
وله سامحه الله تعالى
نسمات النسيم من نعمان ... وابتسام الوميض باللمعان
سعرا نار مهجتي وأثارا ... شجو قلبي وهيجا أشجاني
ذكراني بعصر وصل تقضي ... آه لهفي لفوت ما ذكراني
هاشبابي مضى وما نلت وصلا ... أين مني شباب عمر ثاني
يا خليلي خلياني فما بي ... من غرام أذاب قلبي كفاني
لا تحلا باللوم عقد عهودي ... واعذراني بالله أو فأعذلاني
فبسمعي من ذلك اللوم وقر ... قد أجبت الغرام لما دعاني
قسما بالحطيم والحجر والبي ... ت العظيم المقبل الأركان
وبمن حل عقد عهدي ومن قد ... حل مني هواه كل مكان
وبعصر الشباب عذر التصابي ... وعفا في إذا وصلت الغواني
وبعصياني الملام مطيعا ... لغرامي وهذه أيماني
إنني قد حملت من مثقلات الص ... د ما لا يطيقه الثقلان
يا مريدا لسلوتي كف عني ... فعن الحب ليس يثني عناني
أنا حلف الهوى رضيع الص ... بابات حلف الغرام والأشجان
بين قلبي وسلوتي مثل ما ب ... ين حسان الوجوه والاحسان
فاسترح عاذلي ودعني أعاني ... من تباريح لوعتي ما أعاني
لا تلمني ومثل نفسك عامل ... ني فإن الإنسان كالإنسان
لست لا والغرام تجهل شأنا ... لمحب وإن تجاهلت شاني
أنت إمَّا مغالط لي وإلا ... فغيور أو حاسد أوشاني
ومن جيد شعره قوله:
يا طلعة البدر في ديجور اغلاس ... ويا هلالا على غصن من الآس
يا من كتمت الهوى صونا له فإذا ... فاهوا بذكر اسمه غالطت جلاسي
يا من إذا ضربت في حبه عنقي ... ما مال إلا إليه مسرعا رأسي
يا منية القلب ما عني أتاك فقد ... أوحشتني يا حبيبي بعد ايناس
فقد أتاني حديث منك آربني ... وزاد والله من همي ووسواسي
أذاب نفسي مما جاء منك فلو ... لا أدمعي أحرقتني نار أنفاسي
وحين عاينت صبري عنك ممتنعا ... وبت أضرب أخماسا بأسداس
كتبت والدمع يمحو ما تخط يدي ... حتى بكت لي أقلامي وقرطاسي
فاعطف على مستهام عاشق دنف ... بين الرجاء لطيف منك واليأس
ماذا الصدود الذي ما كنت آلفه ... متى يلين لما بي قلبك القاسي
لو أن لي ساعة أشكو عليك بها ... حالي وقد نام حسادي وحراسي
ما لي أملك نفسي من يعذبها ... بالصد عني وما لي أذكر الناسي
يا ناس هل لي مجير من هوى رشأ ... مهفهف كقضيب البان مياس
أذاب قلبي وسل النوم من مقلي ... بفاتن فاتر الأجفان نعاس
من لي بزورته جنح الظلام وقد ... غاب الرقيب ونامت أعين الناس
أمسي أعانقه ضما إلى كبدي ... ما في العناق وما في الضم من باس
وأنثني عند رشفي خمر مبسمه ... شكرا وأسكر من ماريقه الكاسي
عسى الذي قد قضى بالحب يجمعنا ... يا طلعة البدر في ديجور أغلاس
وقوله:
نفسي الفداء لشادن ... مر الجفا حلو المراشف
قاسي الفؤاد أعار أغص ... ان النقالين المعاطف
لهبت بنار صدوده ... كبدي ودمع العين ذارف
وممنع كالغصن دو ... ن لقائه خوض المتألف
من وصله وصدوده ... أنا دائما راج وخائف
فعلت بنا ألحاظه ... ما تفعل الأسد الرواعف
متجاهل عما يقاس ... ي فيه قلبي وهو عارف
وله غير ذلك مما يروق ويشوق وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة عشرة بعد الألف.(2/441)
محمد بن عبد الله بن أحمد بن عبد الرؤف المكي أحد الفضلاء الأذكياء والأدباء الألباء وممن نشأ في طاعة الله ولازم تقواه واشتغل بما يعنيه من أمور دينه ودنياه وجد في طلب العلم النافع فأدرك ما لم يدركه الكبار وهو يافع وأخذ عن كثيرين منهم الشيخ عبد الله بن سعيد باقشير وصحب السيد العارف بالله تعالى سالم بن أحمد شيخان وتلقن منه الذكر ولبس الخرقة ولازمه واختص به وفتح الله عليه بفتوحاته السنية إلا أنه لم تطل حياته فاختر منه المنية في شبابه وهو والد الشيخ عبد الرؤف الموجود الآن وكان ينظم الشعر ومن شعره قوله يمدح السيد أبا بكر بن شيخه السيد سالم المذكور ويشير إلى ثبوته على حلقة الذكر التي كان يعقدها والده في المسجد الحرام ومنعه من أراد أن يتعدى بمنعه في المسجد ونصره الله على أعدائه:
سلوا عن فؤادي في الهوى كل شائق ... وعن شوق كلي للوى كل سائق
وكل فتى قد نال مني صبابة ... ولا مال عن نهجي ولا بمقارقي
يخال بأن الحب لم يبق من ضنى ... بقايا للقيا أو لرؤيا المفارق
صبابا لصبا قدما لكم في صبابة ... فهل مثله صب وذو قلب خافق
ومن حب ليلى ثم هند وزينب ... ورافع دعد ذي المواضي الهوارق
إذا لاح من تلك الثنايا بويرق ... ثنتنا المنايا وافتتنا بطالق
وإن لاح في شرق بريق شروقها ... وجادت بريق من وميض البوارق
فإني الصدا لصادي لطيف خيالها ... بمهجة ايقادي ومقلة وامق
وإن ماست الأعطاف منها من الصبا ... ومالت بها الأرداف ميلا كآنق
تسترت الأغصان في قضب دوحها ... حياء وعادت كالفئام الطوارق
ومن كلها كلي قتيل جمالها ... وتفصيله مني فليس بلائق
ومن هز عطفها بقلبي جراحة ... ومن سحر عينيها أسرنا بواسق
ومن قدها قد قّدّ قلبي سناؤها ... وأسنانها لاحت ببارق بارق
أسير على الأجفان إن قيل أنها ... تنيل الفتى الوسنان عهد وثائق
فعندي عقد الوصل لو طال بيننا ... كأهنى وصال عند أصدق صادق
ومن عرفات الوصل سارت قبابها ... ومالت إلى جمع المنى والحقائق
وظلت مطايا الحب تطوي محسرا ... فيا حسرة المشتاق من قلب تائق
وفي منحتي ضلعي وخيف بنائه ... هناك المنى فيه المنايا الآبق
وفي الجمرات اللاء خيمن في الحشا ... علامات نيران الهوى لواثق
سقى الله أياماً مضت ولياليا ... عرفت الهوى فيها وحلت بسابق
لقد جاءنا نصر من الله حفنا ... وفتح قريب عمنا مثل وادق
على فرقة الفرق الذين عموا على ... بصيرة أبصار ورشد لحاذق
يريدون أن يطفوا ضيا الإله بال ... عقول التي قالت بقول منافق
فردوا بغيظ لم يحوزوا به العلا ... وباؤا بخسران جزاء لفاسق
على أنهم لم يعلموا الحق ظاهرا ... فكيف بأمر باطن غير طارق
على أنهم من افكهم شفعوا الذي ... تفرد عن فرد وعن كل لاحق
على الحق لا يعلو على كل باطل ... على جرف هار وليس براهق
بليث همام زاكي الأصل سيد ... كريم السجايا نسل أعلى الخلائق
حليم لدى الأمر العظيم ولم يزل ... على أثر آثار الجدود السوابق
وفي الذروة العليا التي لا ينالها ... جميع الألى كانوا وكل اللواحق
حمانا بسيف الصدق من كل معتد ... تعدى بدعوى الجهل ليس بصادق
هو السيد العالي أبو بكر الذي ... سما عن سماء المجد من كل شاهق
ونجل وحيد الدهر سالم من غدا ... سليلا لشيخان أمام الطرائق
مفيد الورى عن سر أسرار من مضى ... ومظهر دين الحق ثم الحقائق(2/442)
فمن رام أن يحصى صفات كماله ... كمن رام أن يلفى شريكا لخالق
وصلى إلهي ثم سلم ما حدث ... حداة المطايا نحو أصدق ناطق
عليه وآل ثم صحب ومن غدا ... وريثا لهم في علمهم غير زاهق
وكانت ولادته في سنة أربع وعشرين وألف وتوفي في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وألف بمكة ودفن بالمعلاة.
محمد العيدروس بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن الشيخ عبد الله العيدروس الحضرمي أحد الكمل المشهورين ذكره الشلي وقال في ترجمته كان إمام وقته علماً وعملاً وحالاً ومقالاً وزاهداً وتحقيقاً وورعاً ولد بمدينة تريم في سنة سبعين وتسعمائة وضبط عام ولادته في قوله تعالى أنا أعطيناك الكوثر ثم حفظ القرآن وغيره في فنون عديدة وربى في حجر والده وقرأ عليه عدة علوم وتخرج به في طريق القوم وتفقه على السيد محمد بن حسن والفقيه محمد بن إسمعيل والسيد عبد الرحمن بن شهاب وأخذ التصوف عن جماعة وسمع الحديث من طائفة ولزم العبادة وأثنى عليه مشايخه وغيرهم بل انعقد الإجماع على فضله وكماله وأخذ عن عمه الشيخ عبد القادر ابن شيخ وكتب إلى والده يقول له يكفيك فخراً يا عبد الله طلبه إليه وهو بأحمد آباد من أراضي الهند فرحل إليه واجتمع به فيها وذلك في سنة تسع وثمانين وتسعمائة وأشار إلى ذلك جده المذكور في بعض قصائده بقوله قدومك حافظ للشمل جامع فإن عدد حافظ كذلك ولازم جده في جميع دروسه وأحواله واقتدى به فبلغ ما لم يبلغه المشايخ الكبار وقرأ عليه في كثير من العلوم عدة متون وشروح وألبسه الخرقة وصافحه وحكمه وأذن له في الإلباس والتحكيم وجعله ولي عهده ثم انتقل جده شيخ المذكور في سنة تسعين وتسعمائة فقام من بعده وكان ينفق على جميع من يموته جده من أهل الهند وحضرموت ولما سأل عنه والده عبد الله السيد الولي أحمد بن علي أجابه بقوله الذي أعتقده فيه أنه أحسن من أبيه فسجد والده شكراً وقال هذا الذي كنت أوده وأتمناه وقال كل أحد لا يريد أن يكون أحد أحسن منه إلا ولده وبعد انتقال والده أجرى ما كان يجريه والده من نفقة وكسوة وغيرهما فكان الوارث لأبيه وجده ثم ارتحق من أحمد آباد إلى بندرسورت واستوطنه واشتهر كما الاشتهار وأعتقده أهالي تلك الدائرة وكان سلطان الهند يعرف قدره ويرجحه على أهل زمانه ويجري عليه كل يوم ما يكفيه من النفقة العظيمة وكان كثير العطايا كريما وكان مع كثرة مدخوه لا يفي مدخوله بنفقته وربما زاد عليها ضعفين أو أكثر وكل ذلك دين يبقى عليه وكان يستغرق أحيانا فربما دخل عليه شخص ولم يشعر به وكانت وفاته في سنة ثلاثين وألف ودفن ببندرسورت وبني عليه بعض التجار قبة عظيمة وبني عندها مسجد أو بركة ماء وأجرى لمن يقرأ عليه أجرة وأوقف على ذلك ضياعا وأراضي ورباعا وقبره ظاهر يزار ويتبرك به رحمه الله تعالى.
الشريف محمد بن عبد الله بن الحسن بن أبي نمي كان سيداً شجاعاً مقداماً رئيساً ولاه والده الشريف عبد الله مكة في حياته وأشرك معه الشريف زيد بن محسن غرة صفر سنة احدى وأربعين وألف وخطب لهما على المنابر إلى شعبان من السنة المذكورة فوصلت الأتراك من اليمن في قصة ذكرتها في ترجمة الشريف زيد فوقعت اللقيا بالقرب من وادي البيار بين السادة الأشراف وبين الأتراك فحصلت ملحمة عظيمة وقتال شديد وقتل صاحب الترجمة وقتل معه جماعة من الأشراف منهم السيد أحمد بن حراز والسيد حسين بن بنايس والسيد سعيد بن راشد وخلق آخرون وأصيبت يد السيد هيزاع بن محمد الحارث فقطعت وتعلقت بباقي جلدتها ولم تنفصل ودخل بقية الأشراف إلى وادي مر ودخل الأتراك إلى مكة ونودي بالبلد للسيد نامي بن عبد المطلب وكان دخولهم من جهة بركة ما جن فتعب الناس أشد تعب وحصل الخوف الشديد وتسلطت العساكر على الناس وأزعجوهم نهبا وفسقاً وظلماً وتقطعت الطرق وعصت الأعراب وحمل صاحب الترجمة في عصر ذلك اليوم ودفن بالمعلاة في مقابر آبائه وأجداده بعد أن قاتل قتال من لا يخاف الموت وكانت الوقعة المذكورة في رابع عشري شعبان سنة احدى وأربعين وكانت مدة ولاية الشريف محمد ستة أشهر وأربعة وعشرين يوماً.(2/443)
محمد بن عبد الله بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الولي المنقول بن محمد بن عبد الولي جعمان كان إماماً عالماً علامة مشهوراً في اليمن أخذ عن جماعة واستفاد وأفاد وروي وضبط توفي بالروحاء بعد أن زار النبي صلى الله عليه وسلم في سنة خمس وخمسين وألف وجده الفقيه عبد الولي بن محمد وأخوه عمر بن محمد صاحب الموجز كانا في بيت الفقيه ابن عجيل في أيام السلطان عامر بن عبد الوهاب الأموي وكان الفقيه عمر بن محمد مفتي بيت الفقيه وصاحب رياستها على ولاية عظيمة مشهورة فاستولد بها عبد الولي ثم تزوج في محل الأعوص القرية المشهورة فاستولد بها أيضاً فلما توفي قبر في تربة الفقيه أحمد بن موسى العجيل فرآه أخوه في المنام وكأنه يقول له انقلني إلى محل الأعوص فانتبه الفقيه عمر من نومه فقال هذه رؤيا منام والنقل عند الفقهاء حرام ونبش الميت أعظم خطيئة فجاءه ليلة أخرى ثم في الثالثة كذلك فقال له لئن لم تنقلني وإلا خرجت من القبر فجاء الفقيه المذكور إلى التربة لينقل أخاه فرآه خارج القبر بأكفانه فحملوه فنقل إلى قبره الآن بمحل الأعوص فسمي المنقول وهذه الكرامة مستفاضة والفقيه الرائي ثقة عارف والله أعلم.
السيد محمد كبريت ابن عبد الله بن محمد بن شمس الدين بن أحمد بن قاسم بن شرف الدين بن يحيى بن شرف الدين بن حسين بن فخر الدين بن موسى بن كريم الدين بن محمد ابن إبراهيم بن داود بن محمود بن حسن بن عباس بن علي بن محمد بن حمزة بن أحمد بن جعفر بن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه السيد الجليل كان من أعجب خلق الله تعالى في الأخذ بأهداب الفنون كثير النوادر جم المناقب ولد بالمدينة وبها نشأ وحفظ القرآن واشتغل بالعلوم النقلية والعقليلة فقرأ النخو والتصريف والمعاني والبيان على جماعة منهم عبد الملك العصامي والشيخ الإمام وجيه الدين عبد الرحمن بن عيسى المرشدي وأخذ العلوم الرياضية والحكمية والطبيعية وعلم الحقيقة عن المحقق الكبير عبد الله بن ولي الحضرمي تلميذاً لقطب العارف بالله تعالى السيد صبغة الله بن روح الله السندي ثم توجه إلى الروم في سنة تسع وثلاثين وألف وألف رحلة بديعة سماها رحلة الشتاء والصيف ذكر فيها ما وقع له في سفرته هذه من الغرائب ودخل دمشق واجتمع فيها بالاستاذ الكبير أيوب بن أحمد المقدم ذكره وأخذ عنه ثم رحل إلى القاهرة ولزم بها الاستاذ محمد بن زين العابدين البكري وكان أشار إليه بالأخذ عن بعض السادة الخلوتية شيئا من علم الأسماء فأخلاه المأخوذ عنه أربعين يوماً لرياضة نفسه ففتح عليه ثم عاد إلى المدينة واختص بصحبة سيدنا محمد مكي المدني الآتي ذكره أن شاء الله فكان لا يفارقه في أغلب أوقاته وأقام على بث العلم ومراقبة الله تعالى وألف تآليف كثيرة بديعة منها كتاب سماه نصر بن الله وفتح قريب شرح فيه أبياتاً لبعض أفاضل عصره جمع فيه من كل غريبة ومنها كتاب الجواهر الثمينة في محاسن المدينة ومنها بسط المقال في القيل والقال في مجلدين وغير ذلك من مفرد ومجموع وله ركاز الركاز في المعمى والألغاز ورسالة سماها خمائل الأفراح وبلابل الأدواح تشتمل على أشعار لطيفة وكتاب الزنبيل احتصر فيه كتاب الكشكول للبهائي العاملي وكتاب العقود الفاخرة في أخبار الدنيا والآخره وكتاب حاطب ليل كبير جداً وشرح ديوان ابن الفارض سماه ظل العارض وكتاب المطلب الحقير في وصف الغني والفقير وهو كتاب حسن الوضع عجيب الأسلوب قال في آخره وهذا آخر ما جرى به القلم من تسطير هذه الحكم وربما اشتمل على كلام لا يفهم ومفهوم لا يكاد يعقل ومعقول لا يكاد يقبل بحسب ما قيل:
يقولون أقوالا ولا يفهمونها ... ولو قيل هاتوا بينوا لم يبينوا
ثم ذكر كلاماً طويل الذيل من هذا القبيل وأنشد لنفسه في مدح الكتاب قوله:
لله تأليف غدا جامعا ... بين النقيضين لمن يعقل
جامعه أغرب في نقله ... لكنه لم يدر ما ينقل
وعكف آخر عمره على مطالعة الفتوحات المكية والفصوص للشيخ الأكبر ابن عربي وألف في وحدة الوجود رسالة وكان يصدر عنه قولات ربما أنكرها بعض معاصريه ونسبوه فيها إلى الإلحاد وله أشعار كثيرة حسنة التركيب بينة الجودة فمن مقاطيعه قوله:(2/444)
هبوا أن ذاك الحسن عني محجب ... أليس برياه سرت نسمة الصبا
إذا رمت أن تبدي مصونات خدره ... فحدث بذاك الحي عن ذلك الخبا
وقوله:
يا من تبادى بهجر ماله سبب ... وصد عمدا يرى في ذاك تبكيتي
كان هجرك بعد الوصل يا أملي ... أوائل النار في أطراف كبريت
نقله حسن للمصراع الأخير عن موضوعه الذي هو تشبيه البنفسج وهو:
ولازوردية تزهو وبزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت
وقوله:
أرى مطالعتي في الكتب ما نفعت ... لعل وجهك يغنيني عن الكتب
فمن رأى وجهك الباهي وبهجته ... فإنه في غنى عن كل مكتتب
وقوله:
ليست على الحر الكريم مشقة ... بأضر من أن لا يرى أمثاله
ذاك الغريب وإن يكن في أهله ... وارحمتاه له لما قد ناله
وله:
يا لأئمي في حب من ... عزت علي ربوعه
خفض عليك وخلني ... أحلى الهوى ممنوعه
وقال يفتخر:
نشأت بفضل الله في ظل دوحة ... سمت بنبي كنت من بعض عترته
فإن شئت في سفح العوالي وإن أشأ ... بدار الذي طابت وطالت بهجرته
فهاتيك دار للحبيب وهذه ... بها منزهي يا صاح من حول حجرته
وقال في تفصيل العالية:
أراك تغالي في العوالي وفي قبا ... وأنت على وهم الخيال تعول
إلى كم ترى تهوى الذي أنت سائر ... إلى غيره إذ أنت عنه تحول
فكن سائراً في لا مقام فإنما ... تقلب من شأن لشأن وترحل
العالية أرض ذات رياض فائقة قال في الوفاء هي من المدينة ما كان في جهة قبلتها من قباء وغيرها على ميل فأكثر وأقصاها عمارة على ثلاثة أميال وأربعة إلى ثمانية أو ستة على الخلاف في ذلك انتهى ووجه التسمية جلى وذلك لأن السيول تنحدر من تلك النواحي العالية إلى سوافل المدينة فعلى ذلك يقال نزلنا من العوالي إلى المدينة وطلعنا إلى العوالي وله في مدحها قطع كثيرة غير هذه فمنها قوله:
فضل العوالي بين ولأهلها ... فضل قديم نوره يتهلل
من لم يقل أن الفضيلة طينت ... أرض العوالي وهو حق يقبل
إني قضيت بفضلها وأقول في ... وادي قبا الفضل الذي لا يجهل
وله:
إذا كنت في أرض العوالي تشوقت ... لأرض قبا نفسي وفيها المؤمل
ولو كنت فيها قالت النفس ليت لي ... بأرض العوالي يا خليلي منزل
فيا ليت إني كنت شخصين فيهما ... وما ليت في التحقيق إلا تعلل
وله من أبيات قالها وهو بالروم يتشوق إلى معاهده:
ما أطيب الأيام فيها تنقضي ... والعين قد قرت بوصل حبيبها
ما العيش إلا في حماها ليت لي ... مأوى ولو في سفحها ورحيبها
وله وهي من لطائفه:
الحمد لله على ما أرى ... من ضيعتي ما بين هذا الورى
صيرني الدهر إلى حالة ... يرثي لها الشامت مما يرى
بدلت من بعد الرخاشدة ... وبعد خبز البيت خبز الشرا
وبعد سكني منزل مبهج ... سكنت بيتا من بيوت الكرا
ولو تحققت الذي نالني ... لارتفع الشك وزال المرا
ورأيت في كتابه الجواهر قال مررت في رحلتي ببعض قرى الروم فرأيت قبراً عليه بنيان قد أظهرت فيه الحكمة زخارف صنعة البنا وعلى رأسه مكتوب
وما ينفع الإنسان بنيان قبره ... إذا كان فيه جسمه يتهدّم(2/445)
وذكره ابن معصوم فقال في وصفه مفرد جامع وأديب ضوء أدبه لامع نافت شمائله على أنفاس الشمول والشمال وقال من ظرفه وأدبه بجنتين عن يمين وشمال كان لطيف قشرة العشرة تحسد تباشير الصباح بشره لا تمل ندماؤه مجالسته ولا تسأم أصحابه مؤانسته إلى فصاحة ولسن وتجمل بكل خلق حسن وتقنع بقناع القناعة والكفاف واشتمال بإيراد الصون والعفاف سلك مسلك من نبذ الدنيا وراء ظهره ورضى منها بمسالمة خطوب دهره ورام انتحال مذهب أهل الحال فتكلم بعضهم في اعتقاده ونقل عنه فلتات أشعرت بخفى الحادة وكانت له اليد الطولي في جميع نوادر الأدب والنسل إلى تقييد شوارد النكت من كل حدب وله في ذلك مؤلفات منها محك الدهر وكتاب المباهج ورشح البال بشرح البال وغير ذلك إلا أنه لم يكن له في سائر العلوم رسوخ قدم معلوم أخبرني الوالد بسماعه عنه أن أستاذه خالف في تعليمه النظام وطفر به طفرة النظم فنقله من الأجرومية إلى الكشاف وأبدله النشاف من الارتشاف وله شعر انتظم به في سلك من نظم ثم أنشد له قوله:
وإذا جلست مع الرجال وأشرقت ... في جو باطنك المعاني الشرد
فقال لي بلسان غير مقتدر ... لا أشتهي أن أوافي غير عشاقي
انتهى وكانت ولادته في سنة اثنتي عشرة بعد الألف وتوفي بعد الظهر عشري شهر رمضان سنة سبعين وألف وصلى عليه السيد العارف بالله تعالى محمد باعلوي ودفن شمالي القبة المطهرة قبة سيدنا إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم ببقيع الغرقد رحمه الله.(2/446)
محمد بن عبد الملك البغدادي الحنفي نزيل دمشق الشيخ الإمام المحقق كان من كبار العلماء خصوصا في المعقولات كان لهي والطبيعي والرياضي وهو من جماعة علامة الزمان منلا مصلح الدين اللاري قيل وأخذ عن أخيه شمس الدين البغدادي وكان في الأصول والفقه علامة وله اليد الطولي في الكلام والمنطق والبيان والعربية قدم دمشق في سنة سبع وسبعين وتسعمائة ودخلها لابساً عباءة من الصوف وثوباً من القماش الأبيض القطن وجاور بجامع دمشق في بيت خطابته ثم انتقل إلى المدرسة العزيزية جوار الكلاسة وحضر دروس البدر الغزي ولازم أبا الفدا إسماعيل النابلسي وقرأ فقه الشافعي على الشهاب العيثاوي ثم تحنف وولي وظائف وتداريس منها المدرسة الدرويشية وبقعة في الجامع الأموي وتولى تصدير حديث بالجامع المذكور وكان له من صندوق السلطنة في كل يوم ما يزيد على أربعين عثمانيا وتولى مشيخة الجامع فسمي شيخ الحرم الأموي وتولى تولية الدرويشية وعظم أمره وتردد إلى القضاة وشمخ بأنفه حين رجع الناس إليه وكان يحضر دروسه أفاضل الوقت ودرس التفسير بالجامع وكان في لسانه لكنه عظيمة حتى أنه كان لا يفصح عن كلامه أبدا وشاع ذكره في الأقطار الشامية ولما مرض مرض الموت وثقل في مرضه حضر إليه قاضي القضاة بدمشق المولى إبراهيم بن علي الأزنبيقي وعاده وقال له أفرغ عن وظائفك لنائبنا حسن الطويل وهو ابن عثمان الذي ذكرناه في حرف الحاء فيقال أنه أفرغ له وقيل أنه لم يفرغ ولكن كتب ذلك القاضي رغبة أن تصير الجهات المذكورة لنائبه وقال له القاضي أين أموالك فقال له وما تريد بأموالي فقال له نريد أن نحرزها خوفاً عليها من سارق يأخذها وأنت مريض فيقال أنه أذن له في أخذها وقيل بل أخذها القاضي جبرا فلما أخذت أمواله أفاق من سكرات مرضه وطلب الأموال من حسن الطويل فقال له وما تصنع بها إن كنت محتاجاً إلى شيء من المال أقرضتك من عندي ما تخرجه وأما مالك فإني لا أستطيع إحضاره إليك خوفاً عليه فيقال أنه لما قال له ذلك احتد واشتد غيظه ومديده إلى لحية النائب وضربه على رأسه فقال له أنت في جنون المرض ولا حرج عليك فيما فعلته ولم يأت له بالمال فانتكس ورجع إلى المرض بعد أن كان أبل منه قليلاً ومات عقيب ذلك وكانت وفاته في ليلة الاثنين عشري شعبان سنة ست عشرة وألف ودفن شمالي تربة مرج الدحداح في أقصاها عن بضع وستين سنة وكان له بنت من أمة سوداء فنفاها قبل موته بأشهر لامررآه على الأمة فأنكره ثم بعد موته ثبت نسب البنت إليه بشهادة قاضي القضاة على اقراره وأخر ثم جاء بعد مداة ابن عم له من بغداد إلى دمشق فصالحه النائب على شيء من المال ثم ذهب فشكاه إلى الوزير نصوح باشا وكان الوزير المذكور رأس العساكر إذ ذاك بحلب فوردت أوامر بطلب النائب بسبب ذلك إلى حلب والعجب العجاب أنه كان في دمشق رجل من العسكر يقال له محمد البغدادي موافق لصاحب الترجمة في الاسم والنسبة مات يوم موته فبقي الرجل يقول مات محمد البغدادي اليوم فلا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بنسبية العلم لهذا ونسبة العسكرية لذاك والله تعالى أعلم.
محمد بن عبد المنعم الطائفي الفقيه الشافعي كان من فضلاء وقته ذكره الشلي وقال في ترجمته ولد سنة أربع بعد الألف وحفظ القرآن ثم نسيه فقيل له لم لا تحفظه ثانيا فقال أخشى أن أنساه ثانيا وأخذ العلوم عن مشايخ عصره منهم السيد عمر بن عبد الرحيم البصري والشيخ أحمد بن علان والشيخ أحمد الحكمي والشيخ عبد الملك العصامي وأذن له غير واحد بالافتاء والتدريس فدرس في المسجد الحرام وانتفع به جماعة منهم السيد محمد بن عمر الباز والشيخ عبد الجامع بن أبي بكر بارجا الحضرمي وكان شيخنا أبو الحسن النبتيتي مع جلالته يحضر درسه وكذلك الشيخ أبو الجود المزين وله تآليف منها شرح حسن على الأجرومية أسلاه على بعض طلبته وله حواش على شرح المتهج وحواشي على النهاية للشمس الرملي وكان حسن الأخلاق بارا بوالدته لا يخالفها في كل ما أمرت به وترك الزواج خوفا من أن يتكدر خاطرها وكان كثير العبادة والتهجد يحب الفقراء والمساكين ويعرض عن غيرهم من أرباب الشأن قانعاً من الدنيا باليسير ومدحه صاحبه الشيخ غرس الدين الخليلي المدني بقصيدة أولها:
والله إني مغرم بالطائفي ... لم لا وذلك كعبة للطائف(2/447)
وكانت وفاته يوم الخميس حادي وعشري شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وألف في مكة بعلة الإسهال ودفن بالمعلاة رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الوهاب بن تقي الدين المعروف بابن المهمندار الحلبي الحنفي والد شيخنا العالم الفهامة أحمد مفتي الشام الآن وزبدة من بها من العلماء ذوي الشأن لا برحت فضائله ملهج ألسنة الوصاف وفواضله مظنة الإطراء والإتحاف كان المذكور من أشهر مشاهير العلماء له بسطة باع في الفنون ويد طائلة في التحرير والتهذيب قرأ بحلب على علمائها الإجلاء منهم الشيخ عمر العرضي وخرج وهو متقن متضلع ودخل دمشق في سنة أربع وثلاثين وألف ثم هاجر إلى الروم وتوطنها ودرس بها العلوم وانتفع به جماعة ثم لازم من المولى يحيى وصيره شيخا لابنه المولى عبد القارد ثم استخلصه المولى صادق محمد بن أبي السعود لنفسه وقرأ عليه وانتفع به وبه شاع ذكره واشتهر بين موالي الروم ثم درس بمدارس دار الخلافة إلى أن وصل إلى مدرسة والدة السلطان مراد فاتح بغداد وولي منها قضاء مدينة أيوب وله من التآليف رسالة في المعاني وله تحريرات كثيرة وتنميقات لطيفة وكانت وفاته وهو قاض بأيوب في سنة ستين وألف عن اثنتين وستين رحمه الله تعالى.
محمد بن عتيق الحمصي الشافعي نزيل مصر الشيخ الفاضل كان قوي الذكاء والفطنة حسن الإشارة فصيح العبارة ذا دعابة لطيفة وطبع مستقيم دخل القاهرة في أيام شبابه واشتغل بفنون العلوم وأخذ عن البرهان اللقاني والنورين على الحلبي وعلى الأجهوري وعبد الجواد الجنبلاطي وحسين النماوي ومحمد النحوي الشهير بسيبويه ويس بن زين الحمصي والشمس البابلي وسلطان المزاحي والنور الشبراملسي وجد واجتهد وبرع في سائر الفنون وفاق أقرانه وتقوى على حل المشكلات العلمية وألف حاشية على شرح التلخيص المختصر للسعد ورسائل في فنون شتى ثم عرض له قاطع عن العلم واشتغل بتحصيل الدنيا وفتح حانوتاً للبيع والشراء وكثرت دنياه بحيث أعرض عن النظر في كتب العلم نحو عشرين سنة ثم طرقه طارق الخير فرجع إلى ما كن عليه في بدايته من الجد والاجتهاد واشتغل بتصحيح جميع ما عنده من الكتب على كثرتها وجد في تحصيل كتب الحديث وكتبها بخطه وكان حسن الخط ولم يزل على هذا الحال إلى أن مات وكانت ولادته بحمص في سنة عشرين وألف وتوفي في جمادى سنة ثمان وثمانين وألف بمصر ودفن بتربة المجاورين ورآه بعض إخوانه في المنام بعد موته فقال له ما فعل الله بك فقال غفر لي وكتبني عنده من العلماء قال فقلت له كيف وقد كنت انقطعت عن العلم مدة فقال لي الفضل أوسع وما رأيت الأكل خير وإن أردت النجاة في الآخرة فعليك بالاشتغال بالعلم فإنه من أعظم أسباب المغفرة عند الله تعالى وإياك والتكلم في أحد بسوء فإن عليك رقيبا أي رقيب.
محمد بن عثمان الملقب أمين الدين الدمشقي الصالحي الهلالي أحد الموقعين للأحكام بالمحكمة الكبرى الأديب الشاعر الناظم الناثر اشتغل في العلم ثم تركه وتعانى التوقيع والشعر وكان لطيف الذات حلو النادرة ومن ألطف ما وقع له أنه كتب على خاتمه من شعره:
يرجو ابن عثمان الأمين الصالحي ... من ربه حسن الختام الصالح
وكان مغرما بالهجاء وثلب أعراض الناس وقيل له مالك لا يكاد يجود شعرك إلا في الهجاء فقال خاطري لا يغرف إلا من البحر المنتن وحكى البوريني أنه سمعه مرات يقول كل شاعر له عينان نضاختان في فكره الواحدة عذبة للمديح وما يضاف إليه والثانية منتنة للهجو والمثالب قال فقلت له تبارك يا بغيض هل ييق بك أن تقبح محاسن القريض فقال هذه جبلة ذاتيه وطبيعة على القبيحة مبنيه ومن شعره قوله في هجو عمه ولي الدين البزوري:
إذا رأيت ولي الدين مفتكرا ... منكسا رأسه انسانه ساهي
فذاك من أجل دنيا لا لآخرة ... خوفاً من الفقر لا خوفاً من الله
وله في بني الخطاب الذين كانوا قضاة مالكية بالشام أهاج كثيرة وقد جمعها في جزء خاص وسماه قرع القبقاب في قرعة بني الخطاب وفيه كل عجيبة وكل مسبة غريبة فمن ذلك قوله:
بيت ابن حطاب غدا ... بيتاً قليلاً خيره
ينفق فيه عاشق ... قام عليه أيره
ونظر يوماً إلى شهود محكمة الكبرى فوجدهم تسعة وهو واحد منهم ووجد قضاتهم أربعة ومنهم كما الدين أحد بني خطاب المذكورين فقال:(2/448)
قالت لنا الكبرى أما ... آن لكم ما توعدون
قضاتنا أربعة ... لكنهم لا يعلمون
شهودنا عدتهم ... تسعة رهط يفسدون
والكتخدا والترجما ... ن في الجحيم خالدون
ومن شعره قوله يهجو بعض الأدباء:
يخوض بعرضي من غدا عار دهره ... ومن هو أدنى من سجاح واكذب
ومن أقعدته همة المجد والعلا ... وطارت به للخزي عتقاء مغرب
ومن كان في عهد الحداثة ناقة ... يقاد إلى أردى الأنام ويركب
وقد كان قصدي أن أبين وصفه ... ولكن اجمال القبائح أنسب
ودخل يوماً على الخواجة الرئيس أبي السعود بن الكاتب فأنشده:
يا من به رق شعري ... وجال في الفكر وصفه
قد مزق الدهر شاشي ... والقصد شاش ألفه
فأعطاه شاشا وبالجملة فنوادره كثيرة وكانت ولادته ليلة عيد الفطر سنة خمسين وتسعمائة وتوفي وقت الضحوة الكبرى من يوم الخميس ثالث عشر شعبان سنة أربع بعد الألف ودفن في قبر والده في تربة الفراديس.
محمد بن عثمان الصيداوي الفقيه الأصولي الشافعي المذهب نزيل دمشق كان من العلماء العاملين كامل الخصال كثير التقوى والصلاح والورع وكان زاهداً في الدنيا لذيذا المصاحبة خفيف الروح تميل إليه القلوب إلا أنه كان حاد المزاج كثير الانفعال مع صفاء السريرة وكان علماء دمشق يعظمونه وللناس فيه اعتقاد عظيم وبالجملة فهو بقية السلف خرج من بلدته صيدا وهو في ابان الطلب فدخل القاهرة وأخذ عن علمائها وأقام مدة بجامع الأزهر وبرع في كل الفنون واشتهر صيته وكان مع تغربة ذا وجاهة وإيثار على طلبة الأزهر قرأت في ثبت الشمس محمد بن علي المكتبي الدمشقي قال لما حججت في سنة تسع وخمسين وألف اجتمعت في مكة بالحافظ الشمس محمد البابلي فسألني عمن بدمشق من العلماء وعمن اجتمع به في مصر حال قراءته على مشايخه فسردتهم عليه واحدا بعد واحد إلى أن وصلت في التعداد إلى شيخي الصيداوي فبكى وقال ليس لأحد على منة ولا فضل سواه لأنه كان يأتيه من أبيه دنانير من الذهب فيصرفها علينا ويطعمنا بها لذيذ الأطعمة ويأخذنا إلى الأماكن المفرحة ويمزح مع كل منا بما يوافقه حتى أنه أعطاني جوخة سوداء جاءته من والده ليلبسها وكان ذرعها أربعة أذرع ونصف فلم تكفني على العادة فطفت مصرا أتطلب فيها نصف ذراع لتتميمها فلم أجد فشار علي بعض الإخوان ببيعها وقال اشتر بدلها من الجوخ فبعت كل ذراع منها بخمس من الريال واشتريت ببعض الثمن جوخة خضراء مع كلفتها وها أنا لابس لها إلى يوم تاريخه مع ما فضل لي من الثمن انتهى ثم قدم إلى دمشق في سنة ثلاثين وألف وأقام بمحلة القنوات وأقرأ وأفاد وكان لا يفتر ولا يمل من المطالعة والبحث وحضر دروس الشمس الميداني والنجم الغزي وولده الشيخ سعودي تحت قبة النسر ولزم العمادي الفتي في دروسه أيضاً وكان أصحاب المجلس يرجعون إلى ما يقوله وكان يطيل البحث وكان صوته جهوريا فيسمع من بعيد وربما تهور على بعض الطلبة فآلمه بالكلام ولا ينفعل كل الانفعال إلا تلافي ما يقع منه لصفاء طويته وكان لا ينادي أحداً إلا باسمه كائناً من كان ولم يلبس السراويل مدة عمره وكان كثير التقشف في أمر العبادة وربما عارضته الوسوسة في الضوء والصلاة ودرس في بقعة بالجامع الأموي فرغ لها عنها الحافظ أبو العباس المقري ليلة ارتحاله إلى القاهرة وأعطى بعض جهات في بعض الأوقاف ومن الحوالي شيئاً قليلاً وكان جميع ذلك لا يقوم به لما كان عليه من السخاء وبسط الكف وكان متوكلاً في أموره كلها وإذا فاوضه أحد في مصرفه يقول أنفق ما في الجيب يأتي ما في الغيب وكان كثير الشغف بإيراد حديث أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش اقلالاً وكانت ولادته بمدينة صيدا في سنة خمس وتسعين وتسعمائة وتوفي سنة خمس وستين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير في قبر كان اشتراه في حياته وأعده لنفسه قبل موته بنحو عشر سنين بالقرب من قبر سيدي نصر المقدسي رحمه الله تعالى.(2/449)
محمد بن عثمان بن محمد بن علي الهوش الدمشقي الصالحي الشافعي الفاضل الأديب البارع صاحب الرأي والمعرفة مع الخلق الحسن والصدر السليم والتواضع وحفظ اللسان صحب جماعة من أعيان المشايخ بدمشق منهم الشيخ عبد الباقي الحنبلي والشمس محمد بن بليان وأخذ الطريق عن العارف بالله تعالى أيوب الخلوتي ثم رحل إلى مصر وأكثر تردده إليها وكان من أخيار التجار وأخذ بها عن الشيخ سلطان والشمس البابلي والنور الشبراملسي وغيرهم وأجازه جل شيوخه وحج مرات وجاوز بالحرمين وله شعر منه قوله في تخميس لأمية ابن الوردي بعد قوله:
وأله عن آلة لهو أطربت ... وعن الأمر دمرتج الكفل
أعربت عنه لغات الفصحا ... أنه كالبدر بل شمس الضحى
قلت للعاذل فيه اذلحا ... أن تبدي تنكشف شمس الضحى
وإذا قناه بالبدر أفل
حل بالقلب وعظمى وهنا ... ونفى عن ناظري الوسنا
مذ تبدي ولعطفيه ثنى ... زاد إذ قسناه بالشمس سنا
وعدلناه ببدر فاعتدل
وكانت ولادته في سنة ثلاثين وألف وتوفي بدمشق ليلة الخميس ثاني عشر رجب سنة احدى وتسعين وألف.
محمد بن عقيل بن شيخ بن علي بن عبد الله وطب بفتح الواو وسكون الطاء المهملة آخره موحدة ابن محمد بن عبد الله بن محمد بن الشيخ الإمام عبد الله بن علوي ابن الاستاذ الأعظم إمام الصوفية بديار حضرموت والقائم بوظائف السنة فيها المشهور بصاحب مديحج بميم ودال مهملة ومثناة تحتية وحاء مهملة وجيم تصغير مدحج وهو اسم مسجد كان ملازما ما فيه الاعتكاف ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن وتلاه على طريقة التجويد واشتغل بعلم التوحيد وقرأ العلوم الشرعية وحقق التصوف وأخذ الفقه عن القاضي محمد بن حسن بن الشيخ علي وأخذ عن السيد شهاب الدين بن عبد الرحمن والشيخ حسين بن عبد الله بأفضل عدة علوم ثم لزم العارف بالله تعالى أحمد بن علوي ملازمة تامة واقتدى به في أحواله فكان يجتهد في جميع المقاصد وكان متصفا بمحاسن الأوصاف موصوفا بالورع والعفاف والزهد مواظباً على الإعتكاف والتلاوة وكان مواظباً على الجماعة ويصلي جميع الصلوات في أول وقتها وكان يحضر للصلاة خلفه خلق كثير بحيث إن المسجد يضيق بالمصلين ويصلي كثير منهم في الشارع ومن لم يكن متوضئا قبل الوقت لم يدرك معه الصلاة لأنه يأمر بإقامة الصلاة بعد صلاة الراتبة عقب الآذان وتصدى لنفع الناس وقصدته الخلائق وأخذوا عنه وممن تخرج به السيد أبو بكر ابن علي معلم خرد والسيد عبد الرحمن بن عقيل والسيد عبد الرحمن بن عمر بارقيه وبنو أخيه عبد الله وعقيل وعلي ومحمد وأحمد وكان له اعتناء تام بكتاب أحياء علوم الدين فكان يقرأ منه جزءاً في كل يوم سوى غيره من الكتب وكان عارفاً بعدة علوم وله كرامات كثيرة وكانت وفاته في سنة خمس بعد الألف وحضر الناس لتشييع جنازته من جميع النواحي حتى ضاقت بهم الطرق ودفن بمقبرة زنبل رحمه الله تعالى.(2/450)
السيد محمد بن عقيل الإمام الكبير الولي الحضرمي ذكره الشلي وقال في ترجمته تليمذه شيخ بن عبد الله في السلسلة قال كان عظيم الحال منقطع القرين كثير المجاهدات ملازما للعبادة متخليا عن العلائق كلها لم يتزوج قط ولا غرس نخلا ولا بني بيتاً ولا تعلق بشيء من أسباب الدنيا فراراً من قوله صلى الله عليه وسلم ذبح العلم على أفخاذ النساء وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم من غرس نخلاً أو بني بيتاً فقد ركن إلى الدنيا وهكذا كان صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من السلف الصالح لم يضعوا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة إلى أن فارقوا الدنيا وسبب ذلك أنهم رأوا الدنيا جسراً منصوباً على نهر عظيم وهم عابرون عليه راحلون عنه ولا غر وأن من بني على مثل ذلك فقد تعرض للتلف ولقد سمعت عن الشيخ المجذوب صندل الحبشي صاحب المخا حكاية تومي إلى ذلك وذلك أن بعض ملوك الهند أرسل إلى فقراء الشيخ صندل بمال وأمرهم أن يبنوا له بيتاً يسكنه ويكون بإشارة منه في أي موضع يريد فلما أعلموه والتمسوا منه الإشارة إلى أي موضع يريد ليقدموا في العمارة فقام وخرج بهم إلى ساحل البحر ثم أشار إلى الباحة في البحر وقال ابنوا هاك فتحيروا في ذلك فسألوا الفقيه على الجازاني فتعجب من ذلك وأشار إليهم بالذهاب إلى الفقير وكنت إذ ذاك بالمخا عند رجوعي من الحج في سنة سبع بعد الألف فقلت الله أعلم أن مقصود الشيخ صندل بالإشارة إلى البحر الإشارة إلى فناء الدنيا وزوالها وإن من فيها كأنه مبني على أمواج البحر هذا ما قاله الشيخ شيخ وكانت وفاته السيد محمد في سنة ست بعد الألف.(2/451)
محمد بن علاء الدين أبو عبد الله شمس الدين البابلي القاهري الأزهري الشافعي الحافظ الرحلة أحد الأعلام في الحديث والفقه وهو أحفظ أهل عصره لمتون الأحاديث وأعرفهم بجرحها ورجالها وصحيحها وسقيمها وكان شيوخه وأقرانه يعترفون له بذلك وكان إماماً زاهداً ورعاً بركة من بركات الزمان حكي أنه رأى ليلة القدر ودعا بأشياء منها أن يكون مثل ابن حجر العسقلاني في الحديث فكان حافظاً نبيهاً ما وقع نظره قبل انكفافه على شيء إلا وحفظه بديها والذي عد من محفوظاته القرآن بالروايات والشاطبية والبهجة والفية العراقي في أصول الحديث والفية ابن مالك وجمع الجوامع ومتن التلخيص وغيرهما وكتب بخطه كتبا كثيرة مها فتح الباري لابن حجر وكان قدم به أبوه من قريتهم بابل من أعمال مصر إلى القاهرة وهو صغير دون التمييز وسنه دون أربع سنين وأتى به إلى خاتمة الفقهاء الشمس الرملي وهو منقطع في بيته فدع له بخير ودخل في عموم إجازته لأهل عصره ولما ترعرع لزم النور الزيادي والشيخ علي الحلبي والشيخ عبد الرؤف المناوي وأخذ الحديث والعربية وغيرهما عن البرهان اللقاني وأبي النجا سالم السنهوري والنور على الأجهوري المالكيين وأخذ علم الأصول والمنطق والمعاني والبيان عن الشهاب الغنيمي والشهاب أحمد بن خليل السبكي والشهاب أحمد بن محمد الشلبي وخاله الشيخ سليمان البابلي والشيخ صالح بن شهاب الدين البلقيني ومشايخه في العلوم لا يمكن حصرهم منهم الشيخ حجازي الواعظ والشيخ أحمد بن عيسى الكلبي والجمال يوسف الزرقاني والشيخ عبد الله بن محمد النحريري والشيخ سالم الشبشيري والشيخ موسى الدهشيني والشيخ محمد الجابري والشيخ عبد الله الدنوشري والشيخ سيف الدين المقري والشيخ أحمد السنهوري وجد واجتهد إلى أن وصل إلى ما لا يطمع في الوصول إليه من أهل زمانه أحد وكان من أحسن المشايخ سيرة وصورة وكان له في الطريق قدم راسخ يواظب على التهجد وصرف عمره في الدروس والنفع التام وكان قانعاً باليسير عارفاً نفسه كمال المعرفة حكى بعض الأخباريين أنه سمع علامة الزمان يحيى بن عمر المنقاري مفتي الروم يقول كنت وأنا قاض بمصر وجهت إلى البابلي تدريس المدرسة الصلاحية بعد موت الشمس الشوبري وهو مشروط لا علم علماء الشافعية قال وكتبت تقريرها وأرسلته إليه فجاء إلي وامتنع من قبولها جدا مع الأقدام عليه مرات وادعى أنه لا يعرف نفسه أنه أعلم علماء الشافعية قال فقلت له حينئذ تنظر لنا المستحق لها من هو حتى نوجهها له فقال اعفني من هذا أيضاً وانصرف وذكره الشلي في تاريخه المرتب وأثنى عليه كثيراً ثم قال وهو ممن تزينت ببديع صفاته المدح ونشرت على الدنيا خلع المنح أقلام فتواه مفاتيح ما أرتج من المسائل المشكله والعلم باب مفتاحه المسئلة وأما حاله في إلقاء العلوم ونشر مطارف المنثور منها والمنظوم فكان فارس ميدانها وناظورة ديوانها ومشكاة أضوائها وعارض أنوائها وسهم اصابتها وطراز عصابتها قد تأنس به معقولها وسموعها وقرت به عينا أصولها وفروعها يجري على طرف لسانه حديثها وتفسيرها وينقاد لعلم بيانه تنقيحها وتحريرها وطوع يديه تواريخها وسيرها ونصب عينيه إنشاؤها وخبرها كلما أقرأ فناً من الفنون ظن السامعون أنه لا يحسن غيره وقد حج مرات وجاور بمكة عشر سنين وأخذ عنه جماعات لا يحصون فمن أخذ عنه من أهل القاهرة الشيخ منصور الطوخي والشهاب أحمد البشبيشي والشمس محمد بن خليفة الشوبري ومن أهل الشام الشيخ عبد القادر الصفوري والشيخ محمد الخباز المعروف بالبطنيني والشيخ محمد بن علي المكتبي ومن أهل مكة الشيخ أحمد بن عبد الرؤف والشيخ عبد الله بن طاهر العباسي والشيخ علي الأيوبي والشيخ علي بن أبي البقا والشيخ اسكندر المقري والشيخ سعيد بن عبد الله باقشير والشيخ عبد المحسن القلعي والشيخ إبراهيم بن محمد الزنجبيلي والشيخ علي باحاج ومن أهل المدينة شيخنا المرحوم إبراهيم الخياري وغيرهم وله فهرست مجمع مروياته وشيوخه ومسلسلاته جمعها تلميذه شيخ مشايخنا العلامة عيسى بن محمد الجعفري المغربي في نحو خمسة كراريس حصلت عليها من تفضلات شيخنا الإمام أحمد بن محمد النخلي المكي عندما أجازني بجميع مروياته في حرم الله الأمين يوم الأربعاء ثاني ذي الحجة سنة إحدى ومائة وألف ومع تبحره في العلوم لم يعتن بالتأليف وألجىء من الوزير الأعظم(2/452)
أحمد باشا الفاضل إلى تأليف كتاب في الجهاد وفضائله فألف فيه في أيام قليلة كتاباً حافلاً أتى فيه بالعجب العجاب من الآثار الواردة فيه وأحكامه المختصة به وكان ينهي عن التأليف ويقول التأليف في هذه الأزمان من ضياعة الوقت فإن الإنسان إذا فهم كلام المتقدمين الآن واشتغل بتفهيمه فذاك من أجل النعم وأبقى لذكر العلم ونشره والتأليف في سائ الفنون مفروغ منه وإذا بلغه أن أحداً من علماء عصره ألف كتاباً يقول لا يؤلف أحد كتاباً إلا في أحد أقسام سبعة ولا يمكن التأليف في غيرها وهي أما أن يؤلف في شيء لم يسبق إليه يخترعه أو شيء ناقص يتممه أو شيء أخطأ فيه مصنفه يبينه أو شيء مفرق يجمعه قلت ويجمع ذلك قول بعضهم شرط المؤلف أن يخترع معنى أو يبتكر مبني وحصل له عارض في في عينيه أذهب بصره قبل انتقاله بنحو ثلاثين سنة وكان إذا طالع له أحد حثه على الإسراع بحيث أن السامع لا يفهم ما يقرأه القاري وإذا توقف القاري في محل سابقه بالفتح عليه حتى كأنه يحفظ ذلك الكتاب عن ظهر قلب وكان كثير العبادة يواظب على قراءة القرآن ولا يفارقه خوف الله في جميع الأحيان وكان يعفو عند الإقتدار وله خلق سهل رضي وكان محله يشتمل على حكايات ونكات وكان منصفا حد الانصاف حكى لي بعض العلماء وأنا بمكة عن الشهاب البشبيشي عن البابلي أنه كان يقول إذا سئلنا من أفضل الأئمة نقول أبو حنيفة وبالجملة والتفصيل فقد اجتمعت فيه الصفات الحسنة بأسرها ولم يكن في وقته أرأس منه ولا أورع ولا أكثر تقللاً قال الشهاب العجمي عندما ترجمه في مشيخته وكانت ولادته في سنة ألف وتوفي عصر يوم الثلاثاء خامس وعشري جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وألف ورثاه شيخنا إبراهيم الخياري بقصيدة طويلة ذكرها في رحلته ولم يعلق في خاطري منها إلا بيت التاريخ وهو:مد باشا الفاضل إلى تأليف كتاب في الجهاد وفضائله فألف فيه في أيام قليلة كتاباً حافلاً أتى فيه بالعجب العجاب من الآثار الواردة فيه وأحكامه المختصة به وكان ينهي عن التأليف ويقول التأليف في هذه الأزمان من ضياعة الوقت فإن الإنسان إذا فهم كلام المتقدمين الآن واشتغل بتفهيمه فذاك من أجل النعم وأبقى لذكر العلم ونشره والتأليف في سائ الفنون مفروغ منه وإذا بلغه أن أحداً من علماء عصره ألف كتاباً يقول لا يؤلف أحد كتاباً إلا في أحد أقسام سبعة ولا يمكن التأليف في غيرها وهي أما أن يؤلف في شيء لم يسبق إليه يخترعه أو شيء ناقص يتممه أو شيء أخطأ فيه مصنفه يبينه أو شيء مفرق يجمعه قلت ويجمع ذلك قول بعضهم شرط المؤلف أن يخترع معنى أو يبتكر مبني وحصل له عارض في في عينيه أذهب بصره قبل انتقاله بنحو ثلاثين سنة وكان إذا طالع له أحد حثه على الإسراع بحيث أن السامع لا يفهم ما يقرأه القاري وإذا توقف القاري في محل سابقه بالفتح عليه حتى كأنه يحفظ ذلك الكتاب عن ظهر قلب وكان كثير العبادة يواظب على قراءة القرآن ولا يفارقه خوف الله في جميع الأحيان وكان يعفو عند الإقتدار وله خلق سهل رضي وكان محله يشتمل على حكايات ونكات وكان منصفا حد الانصاف حكى لي بعض العلماء وأنا بمكة عن الشهاب البشبيشي عن البابلي أنه كان يقول إذا سئلنا من أفضل الأئمة نقول أبو حنيفة وبالجملة والتفصيل فقد اجتمعت فيه الصفات الحسنة بأسرها ولم يكن في وقته أرأس منه ولا أورع ولا أكثر تقللاً قال الشهاب العجمي عندما ترجمه في مشيخته وكانت ولادته في سنة ألف وتوفي عصر يوم الثلاثاء خامس وعشري جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وألف ورثاه شيخنا إبراهيم الخياري بقصيدة طويلة ذكرها في رحلته ولم يعلق في خاطري منها إلا بيت التاريخ وهو:
قد ختم العلم به ... فأرخوه الخاتمه
وذكر لي بعض الإخوان أن أبا بكر الصفوري الدمشقي نزيل مصر رثاه بقصيدة مطلعها:
ما أرى نقصها من الأطراف ... غير موت الأئمة الأشراف
ولم أقف عليها بتمامها والله أعلم.(2/453)
محمد بن علوي بن محمد بن أبي بكر بن علوي بن أحمد بن أبي بكر بن الشيخ عبد الرحمن السقاف نزيل الحرمين نادرة الزمان وعلم العلماء ذكره الشلي وقال في ترجمته ولد ببندر الشحر وحفظ القرآن ولازم قراءته وصحب العلماء فأول من صحبه الإمام العارف بالله ناصر الدين بن أحمد بن الشيخ أبي بكر بن سالم وتربى في حجره وأخذ التصوف والفقه عن الفقيه السيد عمر باعمر ثم رحل إلى مدينة الأشراف تريم وأخذ عن شمس الشموس زين العابدين ابن علي بن عبد الله العيدروس وعن السيد الجليل عبد الرحمن بن عقيل وعن السيد الكبير أحمد بن حسين العيدروس والعارف بالله عبد الله بن أحمد العيدروس والعارف بالله تعالى زين بن حسين بأفضل وغيرهم وأمره شيخه السيد عبد الرحمن بن عقيل بالخلوة في زاوية مسجد الشيخ على أربعين ففعل وحصل له الفتح وظهرت له أمور ثم رحل إلى قرية السادات المشهورة بعينات فأخذ عن أمامها المقدم الشيخ الحسين بن أبي بكر بن سالم وعن وعن أخويه الحامد والحسن وغيرهم من السادة وأخذ عن الشيخ العرف الأديب الإمام حسن بن أحمد باشعيب الأنصاري ورحل إلى الهند وأخذ عن الشيخين السيدين الجليلين عبد القادر بن شيخ بن عبد الله ومحمد بن عبد الله العيدروسين وأمره الشيخ عبد القادر بالرحلة إلى الشيخ الولي السيد عبد الله بن علي فرحل إليه وهو بالقرية الشهيرة بالوهط ولازم صحبته وألبسه الخرقة وحكمه وأمره بالحج سنة تسع عشرة وألف فحج حجة الإسلام وزار جده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى شيخه وقد أجزل من الفضل فأقبل عليه وزوجه ابنته ثم انتقل شيخه في سنة تسع وثلاثين وألف فحج عن شيخه حجة الإسلام ثم رجع إلى وهط اليمن وأراد أن يجعلها محلا للوطن فلم تطب له فرجع إلى وطنه بندر الشحر وكان في غاية الخمول ويخفى حاله فما مضى عليه زمن إلا حصل له ظهور عجيب وظهرت منه خوارق واشتهر في جميع تلك البلدان وقصده الناس ثم قصد قطر الحجاز وتوطن به واعتقده أهله وانعقد على ولايته الإجماع وكان ملجأ للوافدين قال الشلي وهو من أجل مشايخي في علم الحقيقة أخذ عنه الطريقة ولبس منه الخرقة كثيرون وأما كرمه وإيثاره فكان غاية لا يدرك وله كرامات منها استقامته على طريقة واحدة يواطب على الجمعة والجماعة ولا يمضى عليه ساعة إلا وهو مشتغل بطاعة ومنها أن الدنيا لا تذكر بحضرته ولا الغيبة ولا النميمة ومنها أن من رآه ذكر الله تعالى ومن شاهده ذهل عن الدنيا والآخرة ومنها أنه ما دعا لأحد من أصحابه إلا استجيب دعاؤه ومنها أني أول ملاقاتي له خطر بالبال أن يلقنني الذكر فما استمر خاطري إلا وقد نظر إلي وأقبل بوجهه علي ولقنني الذكر الذي خطر لي وله كرامات غير ما ذكر وعلى الجملة فهو بقية السلف وكانت وفاته بمكة بعد صلاة الجمعة لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الثاني سنة إحدى وسبعين وألف وحضر جنازته سلطان مكة فمن دونه ودفن شروق يوم السبت بمقبرة المعلاة وعمل على قبره تابوت عظيم وهو بقرب قبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها.
محمد بن علي بن أبي بكر بن عبد الرحمن السقاف الحضرمي كان من كبار العلماء له مناقب مأثورة ومآثر مشهورة قال الشلي ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن وأخذ عن والده الشيخ على ولازمه حتى تخرج به وصحب جماعة من العارفين وسمع الحديث ولبس الخرقة من والده وغيره وحكمه والده وأجازه بالإلباس والتحكيم ولزم الطاعة وكان والده يثني عليه كثيراً ولما ولد رأى والده وغيره في جهته آية الكرسي واعتقد بعض جهلة العوام أنه المهدي المنتظر وكانت وفاته في سنة اثنتين بعد الألف بمدينة تريم ودفن بها.(2/454)
محمد بن علي الملقب شمس الدين العلمي القدسي الدمشقي الفقيه الحنفي وهو خال الشيخ محمد بن عمر العلمي الصوفي الآتي ذكره قريباً أن شاء الله تعالى وهذا يعرف بالعالم وذاك بالصوفي وهو سبط شيخ الإسلام بن أبي شريف رئيس العلماء في زمانه وكان عالماً عاملاً حسن الاعتقاد في الناس وكان ألين المقادسة المقيمين بدمشق عريكة وأحسنهم مودة منصفا في البحث غاية في الاستحضار ذكره النجم في الذيل وقال في ترجمته طلب العلم في بلده ثم دخل القاهرة وتفقه بها على الشيخ أمين الدين ابن عبد العال والشيخ زين بن نجيم صاحب الأشباه والبحر والشيخ علي بن غانم المقدسي وغيرهم وأخذ النحو عن الشمس الفارضي المصري ثم دخل دمشق وقطنها آخراً وصحب شيخنا الشيخ زين الدين بن سلطان وكان يتردد إليه كثيراً وكان يدرس ويفيد وولي آخر أمره تدريس القضاعية الحنفية بعد الشمس بن المنقار وأفتى بعد وفاة شيخنا القاضي محب الدين وكان في حياته يتردد إليه وكان شيخنا القاضي يعظمه ويعرف حقه قال وأنشدني ليلة الجمعة تاسع شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة وألف قال أنشدني شيخنا العلامة الشاعر المجيد الفاضل الشمس محمد الفارضي المصري الحنبلي وذكر أن البيضاوي خطأ من أدغم الراء في اللام ونسبه إلى أبي عمرو:
أنكر بعض الورى على من ... أدغم في اللام عندراء
ولا تخطى أبا شعيب ... والله يغفر لمن يشاء
وأنشدنا له:
اجرر محلا وانصبت وارفع نا ... في ربنا مع أننا سمعنا
وكانت وفاته في نهار الاثنين السابع من ذي القعدة سنة ثمان عشرة وألف ودفن بمقبرة باب الصغير.
محمد بن علي بن محمد بن علي الشبراملسي المالكي الإمام الجليل الجامع للعلوم الذي تضلع منها وصرف أوقاته في التحصيل والتفريع والتأصيل وانفرد في عصره بالعلوم الحرفية والأوفاق والزايرجة وبقية العلوم العقلية وألف مؤلفات كثيرة منها شرح على ايساغوجي في المنطق وقد أخذ عن شيوخ منهم الشيخ أحمد الشناوي الخامي وعنه الشيخ موسى القليبي وكان في سنة إحدى وعشرين وألف موجودا.
محمد بن علي المنعوت شمس الدين بن علاء الدين بن بهاء الدين البعلي الشهير بابن الفصي الفقيه الشافعي مفتي ديار بعلبك وآباؤه كلهم رؤساء العلم بتلك الناحية كان مشهوراً بالفضل الوافر وله تآليف منها شرح البردة سماه الخلاص من الشده وكان قرأ على عمه الشيخ أبي الصفا في بعلبك ورحل إلى دمشق فقرأ على الشهاب الطيبي الصغير والشهاب العيثاوي ورجع إلى بلده ودرس بالمدرسة النورية وتفرد بها عند انقراض الفضلاء وحمدت طريقته وأفتى مدة وعظم شأنه ثم لما مات الأمير موسى بن علي بن الحرفوش أمير بعلبك واستولى عليها الأمير يونس ابن عمه بعد فتنة ابن جنولاذ رحل إلى دمشق مع من رحل من بعلبك وسكن دمشق مدة ثم ألجأته الضرورة إلى الرجوع إليها فلم ير من الأمير يونس ما كان يعهده من الإقبال فصار كاتباً بمحكمة بعلبك وأقام بها وكان أديباً حسن الشعر وكان بينه وبين الحسن البوريني محبة أكيدة وأناشيد وذكره في تاريخه وأثنى عليه ثم قال وكتبت إليه مرة مكتوبا مرغوباً وقررت فيه مراما مطلوباً ورقت في صدره هذه الأبيات:
يا ليت شعري والزمان تنقل ... هل نلتقي من بعد طول تفرق
أم هل يعود القرب بعد تباعد ... وتزول أسباب الفراق ونلتقي
يا قلب مهلا قد أطلت تحسري ... وحبست في طرفي القريح تأرقي
ومنعت عيني أن تشاهد منظرا ... يحلو لها أو حسن روض مونق
أسفا على تلك الليالي ليتها ... طالت وليل الوصل فيها قد بقي
فكتب إلي بعد مدة الجواب ورقم في أوله هذه الأبيات مشيراً إلى أمر أوهم خاطره حصول بعض المضمرات فقال:
قال العداة وأكثروا لا أمهلوا ... وجوانحي حذراً عليك تحرق
أمسى وأصبح والهاً متنسماً ... خبرا بروح نسيمه أترفق
هذا ولي جسم أسير قلبه ... بيد الهموم ودمع عيني مطلق
ولسان سري لا يزال مكررا ... يا رب صنه علي مما أشفق
قال فأوجبته بمكتوب كتبت في صدره هذه الأبيات مشيراً إلى رد ما توهمه من المضمرات على حكاية بعض الحساد لا فازوا بحصول مراد فقلت:(2/455)
كذبت ظنون الحاسدين وأخفقوا ... وتعذبوا طول المدى وتحرقوا
لا كان ما راموه من آمالهم ... وتفرقوا أيدي سبا وتمزقوا
يلغون في حقي وذلك منهم ... سبب لإظهار الكمال محقق
ماذا يروم الحاسدون من الذي ... طول الزمان له الصفاء المطلق
ما كان منه الكسر يوماً لامرىء ... من دهره فيه انكسار موبق
بل دأبه جبر القلوب وهذه ... صفة بها كل الخلائق تنطق
يا سيدي وأنا الذي أختاره ... يشفى وداداً في فؤادي يورق
وصلت رسالتك التي أبدعتها ... وبضمنها روض الكمال منمق
وافت وكنت مسافراً فلقيتها ... وقت القدوم وفي الفؤاد تشوق
فقنعت منها بالسلام ومن لقا ... أهل لهم طول المدى أتشوق
فبقيت تحفظ للصديق وداده ... وإليك أحداق السعادة تحدق
ومن شعره ما كتبه إلى البوريني أيضاً في صدر كتاب:
يا سادتي قسماً بلطف صنيعكم ... وهو اليمين لدي لما أحلف
ما حلت عن عهد المودة لحظة ... والله يشهد والملائك تعرف
قلت وأورد في شرح البردة عند الكلام على قوله:
فكيف تنكر حباً بعد ما شهدت ... به عليك عدول الدمع والسقم
بيتين ونسبهما لنفسه وهما في غاية الرقة:
قلبي وطرفي ذا يسيل دماً وذا ... دون الورى أنت العليم بقرحه
وهما بحبك شاهدان وإنما ... تعديل كل منهما في جرحه
ثم رأيتهما في أماكن كثيرة منسو بين للظهير الإربلي وذكر في بعض مروياته في شرف العلم وإن الأرض قد حرم عليها أن تأكل أجساد العلماء كما ورد في الحديث قال أنشدنا شيخنا النسفي الشافعي قال أنشدنا القاضي زكرياء قال أنشدنا شيخنا ابن كمال باشا من نظمه:
لا تأكل الأرض جسماً للنبي ولا ... لعالم وشهيد القتل معترك
ولا لقارىء قرآن ومحتسب ... أذانه لا له مجرى الفلك
وللبهائي صاحب الترجمه
تعلم فإن العلم زين لأهله ... وصاحبه ما زال قدماً مبجلاً
وإني بتقوى الله أوصيك دائماً ... وبالجد في العلم الشريف لتفضلا
ولا تتركن العلم يوماً وكن فتى ... حريصاً على جمع العلوم فتكملا
ويشركني في صالح من دعائه ... فظهري بأوزار غدا متثقلا
وله غير ذلك وكانت وفاته ببعلبك نهار الاثنين سابع وعشري شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وألف رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن إبراهيم الأسترابادي نزيل مكة المشرقة العالم العلامة صاحب كتب الرجال الثلاثة المشهورة له مؤلفات كثيرة منها شرح آيات الأحكام ورسائل مفيدة وصيته بالفضل التام شائع ذائع وكانت وفاته بمكة لثلاث عشرة خلون من ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وألف.(2/456)
الأمير محمد بن علي السيفي الطرابلسي أحد أمراء بني سيفا حكام طرابلس الشام وولاتها المشهورين بلكرم والأدب كان هؤلاء القوم في هذا العصر كبني برمك في عصرهم فضلاً وكرماً ونبلاًما برحوا في طرابلس لهم العزة الزاهرة والحرمة الباهرة والدولة الظاهرة وهم مقصد كل شاعر ومورد كل مادح ومدحهم شعراء كثيرون قصدوهم وكانوا يعطون أعظم الجوائز وكان الأمير محمد بينهم كالفضل في بني برمك وكان من أهلا لأدب الظاهر والفضل السامي أدبياً فاضلاً بليغاً ولي حكومة طرابلس بعد الأمير يوسف السيفي الآتي ذكره إنشاء الله تعالى وبذل العطايا وكانت إحسانته تستغرق العد ويحكى عنه من ذلك ما يبعد وقوعه فمن ذلك ما حكاه الأديب الشاعر محمد بن ملحة العكاري وكان من شعراء الأمير المختصين به قال لما دهم الأمراء بني سيفا الخطيب من فخر الدين بن معن وركب عليهم وحاربهم كنت إذ ذلك في خدمة الأمير محمد فابرحت أدافع عنه بالمقاتلة حتى لقيني رجل من عسكر ابن معن فضربني على رجلي بسيف فجرحها فبعث بي الأمير إلى منزله وأمر بمعالجة رجلي حتى برأت وكان أمرهم انتهى إلى الصلح والمصافاة فخرج الأمير يوماً إلى التنزه وأنا معه وكان الفصل فصل الربيع وقد أزهرت الأشجار فجلست إلى جانب شجرة مزهرة فسألني عن رجلي فقلي قد برأت وأريد أن أريك قوتها ثم ضربت بها تلك الشجرة فتناثر من نوارها شيء كثير فسر بذلك وأمر لي بجائزة من الدنانير بمقدار ما سقط من النوار وكان شيئاً كثيراً واختص به جماعة من الشعراء كحسين بن الجزري الحلبي وسرور ابن سنين وكلن يقع بينهما محاورات بحضرته حتى خاطب الأمير محمد بن الزري بقوله معترضاً بسرور وكان قد انقطع عن المجلس أياماً
وحقك ما تركتك عن ملال ... وسهو أيها المولى الأمير
ولكن مذ ألفت الحزن قدما ... أنفت مواطنها سرور
وأنشد بديهة في مجلس شراب وسرور حاضر وقد ألقى فراش نفسه إلى النار
يظن الفراش الليل سجنا مؤبدا ... عليه وضوء الشمس من سجنه بابا
كذاك السخيف العقل يقصي مهذبا ... كريماً ويدني ناقص العقل مرتابا
وطلب الأمير حسينا ليلة للشرب فجاءه وهو سكران فأنشده ارتجالاً:
يا ابن المكارم والعلا ... إني أريك الذنب مني
فلقد ثملت بليلتي ... في منزلي من خمردني
والعفو من شيم الكر ... ام فإن تشاء عفوت عني
وأنشده بديهة في مجلس شراب:
خلونا بدار للمدام تكاد أن ... تماثلها الأفلاك لولا نعيمها
فهذي الندامى كالبدور وشمسها ال ... أمير وأقداح المدام نجومها
وكان معه في قبولاً بجبل عكار فأوقد نارا شعاعها متصل بالجو فأنشده بأمر منه:
كأن نارك يا مولاي قلب شج ... به الصبابة تعلو حين تشتعل
ومن أشعتها في الجو ألسنة ... تدعو الإله ببقياكم وتبتهل
وسافر الأمير محمد إلى حلب في عاشر ذي الحجة سنة أربع وعشرين وألف فبلغ حسبنا أن بعض حساده أكثروا الوقيعة فيه عنده فأنشده قصيدته المشهورة:
هل نحيها ربي وربوعاً ... وهيا نسقيها دماً ودموعاً
وهي من أعذب شعره وأحلاه ولولا شهرتها لذكرتها بتمامها وللأمير محمد من القريض مواليا كثير ولم أظفر له بشيء من الشعر ولعله كان ينظم وكانت وفاته في سنة اثنتين وثلاثين وألف بمدينة قونية مسموماً وكان متوجهاً إلى الروم هكذا رأيته بخط الأديب عبد الكريم الطاراني ولما بلغ ابن الجزري خبر وفاته قال يرثيه:
ولما احتوت أيدي المنايا محمد الأم ... ير بن سيفا طاهر الروح والبدن
تعجبت كيف السيف يغمد في الثرى ... وكيف يواري البحر في طية الكفن
حكى أن أختا للأمير محمد سمعت بهذين البيتين فبعثت إلى ابن الجزري بسبعمائة قرش وفرس وكان الأمير المذكور نظام البيت السيفي ومن بعده تقلب بهم الزمان وخرجت عنهم الحكومة وتفرقوا أيادي سبا وحكى لي بعض الأدباء قال أخبرني بعض الأدباء قال أخبرني بعض الإخوان أنه جاور منهم امرأة بدمشق وكانت تعرف الشعر حق المعرفة قال فسألتها يوماً عن دولتهم وما كانوا فيه من النعمة فتنهدت وأنشدت:(2/457)
كان الزمان بنا غرا فما برحت ... به الليالي إلى أن فطنته بنا
محمد بن علي بن أحمد المعروف بالحريري وبالحرفوشي العاملي الدمشقي اللغوي النحوي الأديب البارع الشاعر المشهور كان في الفضل نخبة أهل جلدته وله تصانيف كثيرة منها شرح الأجرومية في مجلدين سماه اللآلى السنية وشرح شرح الفاكهي وشرح التهذيب وحاشية شرح القواعد ونهج النجاه فيما اختلف فيه النجاه وشرح الزبدة في الأصول وطرائف النظام ولطائف الانسجام في محاسن الأشعار وغير ذلك قرأ بدمشق وحصل وسما وحضر دروس العمادي المفتي وكان العمادي يجله ويشهد بفضله وطلبه المولى يوسف بن أبي الفتح لإعادة درسه فحضره أياماً ثم انقطع فسأل الفتحي عن سبب انقطاعه فقيل أنه لا يتنزل لحضور درسك فكان ذلك الباعث على إخراجه من دمشق وسعى الفتحي عند الحكام على قتله بنسبة الرفض إليه وتحقق هو الأمر فخرج من دمشق إلى حلب هارباً ثم دخل بلادا العجم فعظمه سلطانها شاه عباس وصيره رئيس العلماء في بلاده وكان وهو بدمشق خامل الذكر وكان يصنع القماش العنايات المتخذ من الحرير ولذلك قيل له الحريري وكان كثير من الطلبة يقصدونه وهو في حانوته يشتغل فيقرؤن عليه ولا يشغله شاغل عن العلم وكان في الشعر مكثراً محسناً في جميع مقاصده وقد جمعت من أشعاره أشياء لطيفة فمن ذلك قوله:
حباني الوجد والحرقا ... وأودع مقلتي الأرقا
وروع بالجفا قلبا ... بغير هواه ما علقا
رنا بصوارم خدم ... تسمت بيننا حدقا
حمى أوراد وجنته ... بأسود خاله ووقا
ولاح بواضح أضحى ... له شمس الضحى شفقا
له خصر بألحاظ ال ... ورى ما زال منتطقا
هذا كقول المتنبي:
وخصر تثبت الأحداق فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا
وفيه تعارض مع السرى الرفاقي قوله:
أحاطت عيون العاشقين بخصره ... فهن له دون النطاق نطاق
فيا لله من بدر ... غدا قلبي له أفقا
ألا يا حبذا من ... حظيت به ونلت لقا
زمان لم أجد فيه ... لشمل الوصل مفترقا
أهيم بسالف حلك ... وأهوى واضحا يققا
تولى مسرعا عنقا ... ومر كطارق طرقا
وطبع الدهر لا يبقى ... على حال وأن رفقا
فسكن خلوا به فردا ... وسر في الأرض منطلقا
وكن جلد لاذا ما الده ... ر أبدى مشربار نقا
وقوله
يا ليتها إذ لم تجد بوصال ... سمحت بوعد أو بطيف خيال
جنحت لما رقش الوشاة ونموا ... من أنني سال ولست بسال
كيف السلو ولي فؤادي لم يزل ... بحجم نيران الصبابة صالى
ومدامعي لولا زفيري لم يكد ... ينجو الورى من سحها المتوالي
ونحول جسم واحتمال مكاره ... وسهاد جفن وادكار ليالي
فالأم أظمأ في الهوى ومواردي ... فيه سراب أو لموع الآل
ولم اختباري عن فؤادي كل من ... ألقي وقلبي عند ذات الخال
أخذه ولم يحسن الأخذ من قول الباخرزي:
قالت وقد فتشت عنها كل من ... لاقيته من حاضر أو بادي
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترني فقلت لها وأين فؤادي
هيفاء ريحها الدلال فأخجلت ... هيف الغصون بقدها الميال
في خدها الورد الجني وثغرها ... يحوي لذيذ الشهد والجريال
حجبت محياها الجميل ببرقع ... كرقيق غيم فوق بدر كمال
ونضت من الأجفان بيض صوارم ... نصرت بهن ولم تناد نزال
وقوله من قصيدة طويلة يفتخر فيها وهي من غرر قصائده هو ومستهلها:
الحمد لله أحرزت الكمال وما ... أرجوه مما لدى أهل العلا حسن
وطلت فوق السهي قدراً ومنزلة ... أصاب أهل المعالي دونه الوهن
وطبت أصلا وقدري قدر كاشراف ... وحرت مجداً به العرفان مقترن(2/458)
ونلت فضلاً به الأعداء قد شهدت ... وأعلنت وكفي من ينكر العلن
فالشمس ينكرها الخفاش ليس لها ... في ذاك منفعة تلفي فتمتهن
أنا ابن قوم إذا جاء يسألهم ... ذو فاقة وهبوا ما عندهم وغنوا
يعفون عمن أتى في حقهم سفها ... وهم على الجود والمعروف قد مرنوا
ويرغبون شراء المجد مكرمة ... منهم وجوداً ولو أرواحهم وزنوا
لكن دهري لم ينهض بكلكله ... عني ولا ارتفعت من صرفه المحن
كأنه قد أتاني أن يذيق بني ال ... علياء من بأسه الضراء إذا فطنوا
ولم يزل قدر أهل الجهل يرفعه ... على ذوي الفضل طورا وهو مؤتمن
كم قلت من ظلمه والناس في سعة ... والقلب في سجنه بالضيق مرتهن
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وذكره البديعي في ذكرى حبيب فقال في وصفه إمام من أئمة العربية جليل يقصر عند سيبويه والخليل وقد أعرب كتابه المعنون بنهج النجاه فيما اختلف فيه النحاه عن غزارة فضله فإنه كتاب لم تنسج يد فكر على منواله ولم تسمح قريحة بمثله وله غيره من التصانيف المحرره والرسائل المحبره مع شعر ديباجة ألفاظه مصقوله وحلاوة معانيه معسوله ثم أورد من شعره هذه القصيدة يمدح بها النجم الحلفاوي الحلبي وأرسلها إليه من دمشق إلى حلب وهي:
فؤاد المعنى في التباعد مودع ... بحي الذي يهوى فلوموه أو دعوا
ففي قلبيه شغل من الوجد شاغل ... وليس له في العيش بالبعد مطمع
يؤد بأن يقضي ولم يقض ساعة ... له بالنوى لو كان ذلك ينفع
وما باختيار منه أصبح نازحا ... وماذا الذي فيما قضى البين يصنع
سأشكو من البين المفرق بيننا ... إلى الله عل الله بالشمل يجمع
فجسمي نحيل مذنأي من أوده ... وعيني لطول البعد لم تك تهجع
فلو عادني العواد لم يهدهم إلى ... مكاني سوى ما من أنيني يسمع
ولو عاد من أهوى لعادت به القوى ... لجسم بأثواب الضنى يتلفع
فيا ليت شعري هل أراه ولو كرى ... وهل ذلك الماضي من العيش يرجع
وقد علم الأحباب إني مفارق ... حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا
وهل هم على العهد القديم الذي أنا ... عليه مقيم أم لذلك ضيعوا
فيا سائراً يطوي المفاوز مسرعا ... فعرج وقاك الله ما منه تجزع
إلى حلب الشهبا وأبلغ تحيتي ... إلى من لبعدي عنهم أتوجع
وخص بها عين الأفاضل بل ومن ... على فضله أهل الفضائل أجمعوا
جلا غيهب الظلماء عن كل شبهة ... وأحيا رسوما للعلى وهي بلقع
علا رتبة من دونها اقتعد السهى ... وأصبح كل نحوها يتطلع
لعمري لقد أصبحت للفضل منهلا ... وحضرتك العلياء للعلم مشرع
عليك سلام من محب متيم ... لطول النوى أحشاؤه تتقطع
فبعدك أضناه وذكرك عندي ... هو المسك ما كرريه يتضوع
وقوله فيه أيضاً وهو بحلب يتشوق لدمشق:
سقى جلق الفيحاء مغني النواسم ... وجاد رباها هاطلات الغنائم
ولا برحت تهدي إليها يد الصبا ... نسائم يزري نشرها باللطائم
ولا زال يجري في أنيق رياضها ... جداول تنساب انسياب الأراقم
ودامت على الأغصان تهتف بالضحى ... حمائم يشجى صدحها قلب هائم
وحيا الحيا تلك المعاهد من فتى ... يرى حفظ عهد الود ضربة لازم
ألا حبذا دهر نعمت بظلها ... أتيه به ما بين تلك المعالم
هصرت بها هيف الغصون كأنها ... غصون أمالتها أكف النسائم
خرائد في ألحاظها سحر بابل ... وفي لفظها للمجتلي در ناظم(2/459)
قضيت بها ما تشتهي النفس نيله ... وجانبت ما يأتي الهوى غير واجم
وخالست دهري فرصة ما غنمتها ... وفرصة صفو العيش أجدى المغانم
فمذ بان عني من أحب وخيمت ... على القلب أخطار الجفا المتراكم
وولت ليال كنت أحسب أنها ... تدوم وما عيش رخي بدائم
تقنعت بالفكر الذي صدع الحشا ... أسامر فيه سائرات النعائم
ومن مديحها:
سرى رقي أوج الكمال بهمة ... وجاز السهى من قلب لي العمائم
هو البحر حدث عن علاه وفضله ... بما شئت من قول فلست بزاعم
له كرم لو شاع في الناس بعضه ... لأصبح كل جوده مثل حاتم
له قلم إن جال من فوقطرسه ... حباه دراري الأفق من كف راقم
حوى رتبة في الفضل قصر دونها ... بنو الدهر واستعصت على كل حازم
لقد شاد ربعا للفضائل طالما ... غدا دارس الأركان رث الدعائم
به حلب فاقت على كل بلدة ... وأضحت به تفتر عن ثغر باسم
وله يندب أوقاته الماضية:
رعى الله أوقاتاً بها كنت أجهل الف ... راق وأياماً بها أنكر الجفا
تقضت كلمح العين أو زور طارق ... أتى مسرعاً أو بارقا في الدجى خفا
وأبدلت منها فرقة وتشتتا ... وعبدا وهجراً دائماً وتأسفا
فيا رب أنعم باللقاء لمدنف ... وإلا فكن بالحتف يا رب مسعفا
ومما يستجاد له قوله:
يا حبيباً أضحى جميل المعاني ... وهو في الحسن مفرد في الحقيقه
قد مضى موعد بوصلك قدما ... وهو لا شك من علاك وثيقه
قال لي موعدي مجاز فقلت الأص ... ل في سائر الكلام الحقيقه
قلت معنى قولهم الأصل في الاستعمال الحقيقة ليس معناه إنه إذا دارت الكلمة بين أن تكون حقيقة أو مجازاً تحمل على الحقيقة بل معناه أنه إذا علم موضوعها الحقيقي ولم يمنع مانع من ارادته لا يعدل عنه إلى المعنى المجازي وأما مع جهل موضوعها الحقيقي فتحمل على المجاز قطعا لأن استعمال المجاز في اللغة كثير بل قال ابن جني أنه أكثر من الحقيقة قال سيد المحقيقين اثبات الحقيقة أصعب من خرط القتاد وعلى ما ذكر يحمل قولهم الأصل في سائر الكلام الحقيقة وله في الخال:
قال لي من غدا أمام أولى الفض ... ل ورب المباحث الفلسفيه
إن عندي برهان حق على نفس ... ي الهيولي والصورة الجسميه
قلت ما هو فقال شامة حبي ... قد غدت وهي نقطة جوهريه
قلت هذا جار على رأى المتكلمين في الرد على الحكماء من أن اثبات النقطة يستلزم نفي الهيولي والصورة وقد حاول محاولة عجيبة ومثل هذا الاستعمال من ذكر ألفاظ المتكلمين ونحوهم من المهندسين والنحويين مما قال فيه ابن سنان الخفاجي ينبغي أن لا يستعمل في الكلام المنظوم والمنثور قال لأن الإنسان إذا خاض في علم وتكلم في صناعة وجب عليه أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة ثم قال ذلك بقول أبي تمام:
مودة ذهب أثمارها شبه ... وهمة جوهر معروفها عرض
قال ابن الأثير في المثل السائر وهذا الذي أنكره هو عين المعروف في هذه الصناعة:
إن الذي تكرهون منه ... هو الذي يشتهيه قلبي
فقوله لأن الإنسان إلخ مسلم إليه ولكنه شذ عنه إن صناعة المنظوم والمنثور مستمدة من كل علم وكل صناعة لأنها موضوعة على الخوض في كل معنى وهذا لا ضابط له يضبطه ولا حاصر يحصره وجود الحريري في قوله:
تروم ولاة الجور نصراً على العدى ... وهيات يلقى النصر غير مصيب
وكيف يروم النصر من كل خلفه ... سهام دعاء عن قسي قلوب
وهذا معنى تداولته الشعراء والحسن منه قول ابن نباتة المصري:
ألا رب ذي ظلم كمنت لحربه ... فأوقعه المقدور أي وقوع
وما كان لي الإسهام تركع ... وأدعية لا تتقي بدورع
وهيهات أن ينجو الظلوم وخلفه ... سهام دعاء من قسي ركوع(2/460)
مريشة بالهدب من جفن ساهر ... منصلة أطرافها بدموع
وللحريري:
أشكو إلى الله لا أشكو إلى أحد ... ما نابني من صديق يدعي الرشدا
صافيته من ضميري ود ذي ثقة ... فاعتضت منه بمذق باللسان غدا
فعدت من بعده والدهر ذو عجب ... لا أصطفي في الورى لي صاحباً أبدا
وكانت وفاته بديار العجم في شهر ربيع الثاني سنة تسع وخمسين وألف والحرفوشي نسبة لآل الحرفوش أمراء بعلبك.
محمد بن علي بن عمر بن محمد المشهور بابن القاري الدمشقي الحنفي تقدم جده عمر وابنه حسين وكان محمد هذا فاضلاً نبيلاً شاعراً لطيفاً حسن المحاضرة جيد الخط له كرم أخلاق وطلاقة وجه وكان مائلاً إلى الصلف والفخامة ويروى عنه أنه كان كثيراً ما يلهج بقول بعض الكبراء أنظر يميناً فلا أرى قريناً وشمالاً فلم أجد مثالاً قرأ على جده وعلى المفتي فضل الله بن عيسى البوسنوي وأخذ العربية عن الشرف الدمشقي وتفقه بالشيخ عبد اللطيف الجالقي وأخذ الحديث عن أبي العباس المقري ولازم من المولى عبد الله بن محمود العباسي المقدم ذكره وفرغ له جده عن المدرسة الشامية الجوانية فدرس بها برتبة الداخل وولى قضاء الحج في سنة إحدى وخمسين وألف وسافر إلى الروم ونال جاها وحرمة بين أقرانه وكان ينظم الشعر ورأيت هذين البيتين بخط بعض أصحابه منسوبين إليه وهما:
خلت العيون الراميات بأسهم ... يجرحن قلباً بالعباد معذبا
فاعجب للحظ قاتل عشاقه ... في حالتيه إذا مضى وإذا نبا
وهو معنى لطيف وأصله قول ابن الرومي:
نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت عنه فكاد يهيم
ويلاي إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم
وكان بينه وبين أحمد بن شاهين مودة أكيدة ومراسلات كثيرة منها ما كتبه إليه الشاهيني في صدر كتاب وهو في الحج:
سلام كورد فاتح مونق ندى ... على منزل فيه خيام محمد
محمد قاضي الركب لا زال ساميا ... لأوج حجاز خدن رأى مسدد
ورد إلهي ذلك الوجه سالما ... بعيش على رغم الحواسد أرغد
وكانت ولادته في سنة إحدى عشرة وألف وتوفي.
ودفن بمقبرة باب الصغير وحكى والدي في ترجمته قال مما اتفق لي معه أني ذهبت أنا وإياه إلى عيادة مريض فصادفنا عنده يعقوب الطبيب اليهودي فلما خرجنا خرج الطبيب معنا فسأله القارىء عن المريض فقال ربما أنه يموت اليوم أو غدا فإن نبضه ساقط جداً ففي ثاني يوم من ذلك مرض القارىء ومات بعد أيام ولم تمض جمعة إلا والطبيب مات أيضاً وعوفي المريض فذكرت قول القائل:
كم من عليل قد تخطاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعود
السيد محمد بن علي المعروف بالمنير الحسيني الحموي الأصل الدمشقي الشافعي المذهب الشيخ المعمر المنير الخير البركة قطب وقته كان من المعمرين الأخيار اتفق أهل عصره على صلاحه وديانته وكان في جميع أحواله ماشيا على نهج الكتاب والسنة وعمر كثيراً قيل أنه جاوز المائة وانقطع مدة عن الحركة وله كرامات وأحوال عجيبة منها ما حكاه بعض الثقات أنه رآه في موقف عرفة وكان لم يخرج في تلك السنة من دمشق وذكره والدي رحمه الله في ذيله وأثنى عليه كثيراً ثم قال ومن شاهد أحواله لا يشك أنه من القوم السالمين من المحذور واللوم إذا حلوا أرضاً أخصبت من أنواء جودهم وأضاءت بأنوار وجودهم:
إذا نزلوا أرضاً تولى محولها ... وأصبح فيها روضة وغدير
وإن رحلوا عنها غدت ورمالها ... من المسك طيب والتراب عبير
وبالجملة فهو بركة الزمان وكانت وفاته في سنة إحدى وستين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير وخلف ثلاثة أولاد أكبرهم السيد حسن وتقدم ذكره في حرف الحاء وأوسطهم السيد عبد الرحمن وكان عالماً عاملاً تقيا نقيا توفي في سنة(2/461)
وثالثهم السيد اسحاق وهو الآن حي موجود عالم صالح وهؤلاء الثلاثة لا شك في أنهم من خيار أمة محمد صلى الله عليه وسلم وذريته ولقد حكى لي بعض الإخوان عن صدوق من الناس أنه رأى والدهم صاحب الترجمة فسأله عن مرتبتهم في الولاية فقال أما حسن فكنا نتجاري نحن وإياه فسبقنا وأما عبد الرحمن فقد وصل وأما اسحق فمع الركب مجد على الوصول والله أعلم.
محمد بن علي بن عبد الله صاحب الشبيكة ابن عم محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن أحمد بن علي بن محمد بن أحمد ابن الاستاذ الأعظم الفقيه الأجل السيد الجمال الفقيه المشهور في مكة كأبيه وجده بالعيدروس ذكره الشلي في تاريخه وأطال في وصفه بما لا مزيد عليه ثم قال ولد بمكة ونشأ بها وحفظ القرآن وتفقه على الشيخ عبد العزيز الزمزمي والشيخ عبد القادر الطبري وصحب والده وغيره من أكابر الأولياء وكان واحد عصره وشيخ زمانه وانتهت إليه الرياسة وكان يلبس الملابس الفاخرة وتهابه الصور ولا ترد له شفاعة وكان يقيم بمنى المدة المديدة فتفد عليه الأعيان ويكرمهم بالأطعمة الفاخرة ويعمهم بخيراته وكان يعطي العطايا الجزيلة وكان سيرته سيرة الملوك ثم انخلع من تلك الحالة وترك اللهو وتجنب صحبة أهل الظواهر وتجرد للطاعة ورغب في صحبة بني عمه من السادة قال وكنت ممن لازمه إلى الممات ودعا لي بدعوات ظهر لي نفعها وكانت تقع له كرامات خوارق من جملتها إني كنت جالساً عنده فجاء بدوي فسألني عنه فأشرت إليه فلما سلم عليه قال هات النذر الذي معك فبهت البدوي ثم قال أخبرني ما هو فقال كذا وكذا فأكب البدوي على رجله يقبلها ثم قال لي ما علم أحد بنذري غير الله تعالى ومنها أن بعض الفقراء شكى إليه حالته فقال له اذهب إلى شريف مكة يحصل لك مطلوبك فذهب إلى الشريف وأنشده قصيدة وافقت ما في ضميره فطرب لذلك وأمر له بكسوة وجائزة ومنها أن حاكم مكة مات وطلب مرتبته من شريف مكة جماعة من المتأهلين لها ووقفوا على باب الشريف ينتظر كل واحد أن يوليه الحكومة وكان الأمير سليمان بن منديه يعتقد صاحب الترجمة فجاء إليه وأخبره بذلك وكان لا يرومها لضعف حاله فألبسه السيد ثوبا من ثيابه وقال له اذهب الآن إلى الشريف فأنت حاكمها فلما دخل على الشيف وجده مفكرا فيمن يوليه من الطالبين للحكومة فلما رآه انشرح صدره وخلع عليه خلعة الإمارة ومنها أن عين مكة انقطعت وقرب مجيء الحجاج والبرك فارغة وكان الشريف بعيداً فكتب لحاكمه أن يجتهد في تملية البرك بأي وجه أمكن وعلم الحاكم عجزه عن ذلك لقرب المدة فأتى إلى صاحب الترجمة وشكى إليه حاله فقال له أعط الخادم خمسة حروف يتصدق بها على الفقراء فلما أصبحوا أمطرت السماء وسالت أودية مكة وامتلأت البرك من السيل وغير ذلك وكانت وفاته بعد صلاة الجمعة حادي عشر ذي القعدة سنة ست وستين وألف ودفن شروق يوم السبت في قبر والده في مشهدهم الشهير بالشبيكة وكانت له جنازة حافلة.
السيد محمد بن علي بن حفظ الله بن عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن أحمد بن عيسى الحسني النعمي وتقدم ذكر بقية نسبه في ترجمة أخيه السيد حسن بن علي النعمي كان السيد محمد المذكور جمال العلماء وتاج الحكماء سيدا جليلاً وأديباً نبيلاً علم المعاني الحسان والناسج من وشي البلاغة ما يقصر عنه بديع الزمان له الشعر الرائق والنثر الفائق عني بجمعه ابن أخيه صفي الدين أحمد بن الحسن بن علي بن حفظ الله في ديوان فمنه قوله متغزلاً:
من لقلب مزاجه الأهواء ... وعيون أودى بهن البكاء
لشجي متيم مستهام ... عمه النوح دائماً والإساء
يا خليلي بالبكا ساعداني ... في عراص ربوعهن خلاء
دار ليلى ودار نعم وهند ... وديار تحلها أسماء
وقفا بي هديتما لو فواقا ... فوقوفي على الطلول شفاء
أيها الرسم هل تجيب سؤالا ... لمشوق أودت به البرحاء
كائنا عند وداد ليلى بهند ... وبنعم وشوقه أسماء
وكذا كل مولع بحبيب ... يتكنى وهل تفيد الكناء
بح غراماً إن كنت حلس وداد ... وقل اللوم في الحسن هداء
أنا حلف الغرام في كل حين ... وفؤادي من السلو هواء(2/462)
كلما أزمع الفؤاد سلوا ... ذكرتني وهنانة هيفاء
ذات قد كأنه غصن بان ... جللته غمامة سوداء
وعيون فواتر ساجيات ... رسل الموت بينها كمناء
قائلات لمن تمنى لقاها ... لا بقاء مع اللقا لا بقاء
وقدود بميلها تتثنى ... ظاميات أكفالهن رواء
يطمع الصب لينها في لقاها ... وهي للصب صخرة صماء
لم أنلها بالعين إلا اختلاساً ... رد عيني عن الصفات الضياء
وعداني عن ازدياري حماها ... رقباها وصدها الرقباء
فتراني أهوى الممات طماعاً ... لازدياري منها وبئس الرجاء
أو أرجي يوم النشور لقاها ... وكثير من الرجاء هباء
إنما الحب ذلة وغرور ... وسقام يكل عنه الدواء
وقوله أيضاً:
سمحت بوصل المستهام العاشق ... هيفاء خصت بالجمال الفائق
بيضاء صامتة الموضح طفلة ... تزري القضيب بلين قد باسق
من بعد ما شحت بطيب وصالها ... نحوي ولم تسمح بطيف طارق
وافت وثوب الليل أسود حالك ... في جسم عاشقها وزي السارق
باتت ذوائبها الحسان قلائدي ... وموسدي نعم الذراع الرائق
نشكو الجوى ونبث سر غرامنا ... في غفلة الرقبا ونوم الرامق
لله من وصل هنالك نلته ... في جنح ليل غيهبي غاسق
في ليلة ظلما كأن نجومها ... في لج بحر أوثقت بوثائق
من شادن غنج أغن مهفهف ... أحوى العيون بديع صنع الخالق
ملك الفؤاد يدله ودلاله ... فجوانحي كجناح طير خافق
تالله لا أنساه ليلة قال لي ... لا تنس مني محض ود صادق
واسأل فؤادك عن فؤادي أنه ... ينبيك عما جن قلب الوامق
وإليك يا سبط المكارم حلوة ... عذرا تضوع عنبر للناشق
ألقت إليك زمامها منقادة ... وتبرزت نحو اللبيب الحاذق
فاجعل إجازتها الجواب فإنه ... طب الفؤاد المستهام العالق
وله من قصيدة مدح بها الإمام محمد بن الحسن بن القسم مطلعها:
سقى المنحني صوب من المزن هاطل ... وسحت على كثب العقيق المسائل
فألبسها من حلة النبت سندسا ... وماس غضاها تزدهيه الغلائل
منازل أنس للأوانس حبذا ... لدى الصب هاتيك الربا والمنازل
وملعب غزلان ومسرح ربرب ... وما الدار شجو الصب لولا الأواهل
ومنها:
فيا من لصب تيمت قلبه النوى ... وجار الهوى فيه وما البين عادل
تحامته أحداث الزمان لأنه ... بأكناف عز الدين والملك نازل
ومنها في مدحه:
وما اشتبهت يوماً لديه قضية ... من الأمر إلا ظافرته الدلائل
ولم ينأ جباز عليه بجانب ... من الأمر إلا قربته الصواهل
ومنها:
تلاقي العطايا والنوائب والوغى ... ووجهك وضاح وكفك باذل
لذلك لا يلفي ببرك سائل ... وكيف يلاقي حضرنا وهو سائل
ومنها:
وحسبي من التفصيل ما أنت أهله ... وفي الليل للمرتاد شرب ونائل
ودمت لهم بل للبرية عن يد ... وعلمك مأهول ومالك راحل
وله في النسيب:
تيمتني بجيدها والدلال ... وأباحت دمي بغير قتال
ذات فرع كأنه جنح ليل ... وجبين يحكي ضياء الهلال
وسواج ينفثن سحراً مبينا ... وهي للعاشقين أي نبال
ولها الحاجب الأزج قسي ... إن قتلي ما بين تلك النصال
غضة بضة رداح شموع ... برزت في صفاتها والخصال
تسلب الخشف جيده ورناه ... وتصاهي في الأفق بدر الكمال
جل من خصها بحسن بديع ... وبراها شخصا بغير مثال(2/463)
روضة للعيون بين رياض ... عللت بالمجلجل الهطال
عذل العاذلون لي عن هواها ... ليس يصغي سمعي إلى العذال
لست أنسى منها ليالي ود ... إن الله درها من ليالي
يوم أعطتني الوداد دهاقاً ... وسقتني من ثغرها السلسال
من شيب كأنه عقد در ... شيب بالخمر والمعين الزلال
في خلاء عن الرقيب وواش ... ساعدي فرشها وفرش الدلال
فلئن أسعدت على الوصل غيري ... وحمتني اللقا وطيف الخيال
فلكم فزت باللقاء قديما ... في لييلاتنا القدام الخوالي
فمن المبلغ السلام إليها ... من كئيب حذته حذو النعال
وأذابته بالصدود وخلت ... مدمعيه تفيض فيض السجال
وعليكم أحباب قلبي سلام ... كل يوم ما مال فيء الظلال
أو تذكرت وصلكم فشجاني ... أو سفحت الدموع في الأطلال
تيمتني ذات الخدود الرهاف ... وبرتني ذات القدود اللطاف
طفلة تفضح القضيب قواما ... تسبل الليل فوق رمل الحقاف
أعلى من هوى لتلك ملام ... لا ورب الحديد والأحقاف
وله غير ذلك مما يطول به ذيل الكلام وكانت ولادته في سنة ست وعشرين وألف وتوفي في عشري جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وألف بجهة مور وبها دفن والنعمي تقدم الكلام عليها في ترجمة الحسن والله أعلم.
السيد محمد بن علي بن محمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن علي النقيب بن خليل ابن عماد بن زهيف بن عثمان بن قيس بن علي الرئيس ابن منصور بن طاهر النقيب ابن المحسن بن علي بن الحسين بن حمزة بن محمد بن علي بن الحسين بن الحسين بن أحمد بن اسحق بن إبراهيم المرتضى ابن موسى الثاني الأصغر ابن إبراهيم المرتضى ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام زين العابدين علي بن الإمام أبي عبد الله الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه المعروف بالسيد القدسي وبابن خصيب الدمشقي الشافعي من فضلا الدهر المعروفين ونبلائه المشهورين وكان مع كرم حسبه وتكامل شرفه يرجع إلى علم طائل وأدب باهر إلا أنه كان مستخفا بنفسه وعنده طيش وكان ممسكا محباً للدنيا فلهذا انخفض قدره بين الناس وسقط من مرتبة الفضل مع أنه كان في مرتبة من العلم يقصر عنها أضرابه قرأ بدمشق على الشمس الميداني وغيره ورحل إلى القاهرة فقرا بها القرآن للسبع على شيخ القراء الشيخ عبد الرحمن اليمني وحضر اللقاني في مغنى اللبيب والجاربردي وجوهرة التوحيد ولزم الشهاب الغنيمي والبرهان الميموني وأخذ عنهما فنون الأدب وأخذ التفسير عن الشهاب أحمد بن عبد الوارث البكري والحديث عن الحافظ أبي العباس المقرىء وكلهم أجازوه بالإفتاء والتدريس ثم قدم إلى دمشق فدرس بها مدة وانتفع به جماعة ثم رحل إلى الروم وسلك طريق علمائهم فلازم من شيخ الإسلام يحيى بن زكريا وكان لزمه مدة مستطيلة حتى نال منه ذلك ورأيت بخطه قطعة إنشاء كتبها إليه أيام ملازمته وفي صدرها هذان البيتان:
يقول لي الناس مذ رأوني ... أسعى لقوت مني يفوت
قدمت سعياً فقلت حاشا ... أيام يحيى مثلي يموت(2/464)
ثم أعقبهما بالنثر وهو مدين المآرب ومنتهي المطالب قصدت التمسك بثرى أعتابك والتشرف بملازمة بابك وجنابك ليرى موصول ضميري بالخير عائداً واسناد خبري في رياض بيانك رائدا زائداً ولم يبعثني لناديك سوى فضلك وجود أياديك والعبودية التي ورثها البعد من الوالد عن الجد فبالفعل أنت مصدر الكمال فلا تتركني بعد نحوك ملغي من الأعمال فقد أصبحت بحماك نزيلا وفي ذمامك دخيلا ولقد لقيت ظامياً بحراً طامياً ومن قصد البحر استقل السواقيا لا زال رأيك الفصل جامعاً لوصل مثلي ومقدمات افضالك محققة لإنتاج شكلي ثم درس بالمدرسة اليونسية برتبة الداخل وأخذ وظائف كثيرة عن أهلها وهم في الأحياء وحكى أنه أتى بصندوقين من البراآت السلطانية وآل أمره فيها إلى المشقة والنصب ولم يتصرف منها إلا بالقليل وكانت هذه الفعلة منه أحد أسباب بغض الناس له ولزم العزلة مدة وحفظ وكتب وكان له في فن التاريخ والسير والوقائع جمعية عظيمة وله شعر وقفت على كثير منه فمنه قوله من قصيدة طويلة حسنة الديباجة مطلعها:
سواك بقلبي لم يحلل ... وغير مديحك لم يحل لي
وغيرك عند انعقاد الأمور ... إذا اشتدت الحال لم يحلل
قصدتك سعيا على ضامر ... حكاني نحولا ولم ينحل
يكاد يسابق برق السما ... ولولا وجودك لم يعجل
وجردت من خاطري صاحبا ... لشكوى الزمان وما تم لي
أعاطيه كأس الهوى مترعا ... شكاة فألقاه لم يم لي
وصحب بجلق خلفتهم ... سواهم بقلبي لم ينزل
وخضت بدمعي مذ فارقوا ... وبالصد منزل قلبي بلي
فقلت لجاري عيوني قفا ... لذكرى الحبيب مع المنزل
وفتانة سمتها وصلها ... فأصمت بمنظرها مقتلي
بقد ترنحه ذابلا ... وخديه الورد لم يذبل
مهاة من الحور في ثغرها ... رحيق الحياة مع السلسل
لختم الجمال به شامة ... تهيج البلابل كالبلبل
تحرش طرفي بلحظ لها ... وكان عن العشق في معزل
فآبت بمهجته للحمى ... أسير ظبا طرفها الأكحل
ومدت شراك دجا شعرها ... فصادت لطائر دمعي ولي
وقوله من أخرى مستهلها:
أما آن أن تقضي لقلبي وعوده ... ويورق من غصن الأحبة عوده
فقد شفه داء من الصد متلف ... ولي له غير السقام يعوده
وما حال مشتاق تناءت دياره ... وأحبابه مضنى الفؤاد عميده
يراقب من زور النسيم زيارة ... فإن جاءه يذكي الجوي ويزيده
حكى النجم بين السحب يبدو ويختفي ... إذا سال أجفانا وثار وقوده
ولو كان يسعى للزيارة ممكنا ... لسار ولكن أثقلته قيوده
ومن مقاطيعه قوله:
جذبت بمغناطيس لحظي خاله ... فصار لجفني ناظرا وعلاجا
ومذ خاف من عين المراقب أنبتت ... دموع زفيري للجفون سياجا
وقرأت بخطه أنشدني الأمير المنجكي بداره بدمشق في سنة خمس وأربعين وألف
ولما طارت الآمال شرقا ... وغربا ثم لم أرلي مغيثا
بسطت جناح ذلي ثم إني ... وقفت بباب عزك مستغيثا
قال ثم بعد مدة تأملتهما ومعناهما وقلت ما أحق مثلي بهما وما أحلاهما وجعلت إذ ذاك بيتين من الوزن دون القافية وهما:
ولما ضاقت الأيام ذرعا ... بأحوالي ولم أر لي نصيرا
شرحت فؤاد آمالي يذل ... وقت بباب عزته فقيرا
وكانت ولادته في سنة اثنتي عشرة بعد الألف وتوفي في سابع عشر شهر ربيع الثاني سنة اثنتين وثمانين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من بلال الحبشي رضي الله عنه.(2/465)
محمد بن علي بن محمد بن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن جمال الدين بن حسن بن زين العابدين الملقب علاء الدين الحصني الأصل الدمشقي المعروف بالحصكفي مفتي الحنفية بدمشق وصاحب التصانيف الفائقة في الفقه وغيره منها شرح مطول عليه قدره في عشرة أسفار كتب منها سفرا واحداً وصل فيه إلى باب الوتر والنوافل وسماه خزائن الأسرار وبدائع الأفكار وله شرح ملتقى الأبحر سماه الدر المنتقى وشرح المنار في الأصول سماه أفاضة الأنوار وشرح القطر في النحو ومختصر الفتاوى الصوفية والجمع بين فتاوى ابن نجيم جمع التمرتاشي وجمع ابن صاحبها وله تعليقة على صحيح البخاري تبلغ نحو ثلاثين كراسة وعلى تفسير القاضي البيضاوي من سورة البقر وسورة الأسراء وغير ذلك من رسائل وتحريرات وكان عالما محدثاً فقيها نحوياً كثير الحفظ والمرويات طلق اللسان فصيح العبارة جيد التقرير والتحرير إلا أن علمه أكثر من عقله ولد بدمشق وقرأ على والده وعلى الإمام محمد المحاسني خطيب دمشق المقدم ذكره ولازمه وانتفع به وبلغت محبته له إلى أن صيره معيد درسه في البخاري وأجازه إجازة عامة في شوال سنة اثنتين وستين وألف وارتحل إلى الرملة فأخذ بها الفقه عن شيخ الحنفية خير الدين الرملي ثم دخل القدس وأخذ بها عن الفخر بن زكرياء المقدسي الحنفي السالف الذكر وحج في سنة سبع وستين وأخذ بالمدينة عن الصفي القشاشي وكتب له إجازة مؤرخة بعاشر المحرم سنة ثمان وستين وله مشايخ كثيرون منهم الشيخ منصور بن علي السطوحي نزيل دمشق والاستاذ القطب أيوب الخلوتي والشيخ عبد الباقي الحنبلي واشتغل عليه خلق كثير وأخذوا عنه وانتفعوا به أجلهم شيخنا الشيخ إسماعيل بن علي المدرس فقيه الشام الآن وأصحابنا الإجلاء الشيخ درويش الحلواني والشيخ إسماعيل بن عبد الباقي الكاتب والشيخ عثمان بن حسن بن هدايات والشيخ عمر ابن مصطفى الوزان وغيرهم وحضرته أنا بحمد الله تعالى وهو يقري تنوير الأبصار في داره وتفسير البيضاوي في المدرسة التقوية والبخاري في الجامع الأموي وانتفعت به وكان في أول عمره فقير الحال جدا فسافر إلى الروم في سنة ثلاث وسبعين ونهض به حظه لإقبال الوزير الفاضل عليه فولي المدرسة الجقمقية ثم فرغ عنها وطلب افتاء الشام فناله وقدم إلى دمشق بحشمة باهرة واستمر مفتيا خمس سنين وكان متحرياً في أمر الفتيا غاية التحري ولم يضبط عليه شيء خالف فيه القول المصحح ولما توفي الشمس محمد بن يحيى الخباز الشهير بالبطنيني انحلت عنه بقعة التحديث بجامع دمشق فوجهت إليه ودرس بها وعلا صيته واشتهر أمره ثم سعى بعض حساده في كتابه ما هو عليه من الأنفة والخيلاء وزادوا أشياء وأرسلوا في ذلك كتباً إلى جانب الدولة فاستقر ذلك في عقول أصحاب الحل والعقد واتفق أنه مات في غضون ذلك العلامة المنلا أبو بكر بن عبد الرحمن الكردي المقدم ذكره وكان مدرس السليمية فعرض فيها قاضي القضاة بدمشق المولى عبد الله بن محمد الطويل لنائبه شيخنا الهمام أحمد بن محمد المهمنداري فوجهت السليمية لشيخنا صاحب الترجمة ووجهت الفتيا لشيخنا المهمنداري وأعطى درس التحديث عنه للشمس محمد بن محمد العيثي وبقي على هذا نحو سنة ثم سافر إلى الروم واجتمع بشيخ الإسلام يحيى المنقاري وشكى إليه حاله فوجه إليه قضاء قاره وعجلون على التأييد وأعاد إليه بقعة التحديث وكان الوزير الفاضل يومئذ في محاصرة جزيرة كريت فتوجه إليه فلما وصل استقبله وأكرمه وفتحت مدينة قندية وهو ثمة فعينه الوزير لخطبة الفتح في الجامع الذي وسم باسم السلطان محمد بن إبراهيم وحصل له بذلك كمال الاشتهار ووجه إليه قضاء حماة فقدم إلى دمشق ودرس مدة ثم أشيع موته في الروم فوجهت عنه المدرسة السليمية والقضاء فبقي مدة صفر اليد ثم لما مات السيد محمد بن كمال الدين بن حمزة نقيب الشام وجهت إليه مدرسة التقوية ثم سافر إلى الروم وأضاف إليها قضاء صيدا ثم رجع إلى دمشق وبقي يفيد ويدرس إلى أن مات وكان موته يوم الاثنين عاشر شوال سنة ثمان وثمانين وألف عن ثلاث وستين سنة ودفن بمقبرة باب الصغير واتفق له قبل موته أحوال تدل على حسن الختام له منها إنه كان من حين ابتدأ درس البخاري في سنة موته يقرأ الفاتحة كل يوم في أول درسه وآخره ويهديها للنبي صلى الله عليه وسلم فوافق أنها كانت ختام درسه فإنه انتهى درسه في البخاري عند(2/466)
آخر تفسير الفاتحة في اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان واتفق أنه في ثاني يوم ثبت العيد وكان يوم الجمعة فحضر إلى الجامع وعقد درسا حافلا فاجتمع الناس من كل مكان وقرأ من تفسير سورة البقرة ومن صحيح البخاري في حديث الشفاعة العامة ولما أتم الدرس شرغ في الدعاء وكان يقول يا عباد الله أوصيكم بتقوى الله والإكثار من قول لا إله إلا الله ويكرر ذلك مراراً ويقول أكثروا من ذلك حد الإكثار وأنا لا أريد منكم أن تشهدوا لي بفضل ولا علم ولا جاه سوى إني كنت أقول لا إله إلا الله وإني كنت أذكر كم بها ثم لما ختم الدعاء ودع الحاضرين بعبارات مرموزه وذهب إلى بيته واستمر عشرة أيام في عبادة وتسبيح وتهليل حتى مات ورثاه جماعة منهم الشيخ الإمام محمد بن علي المكتبي الآتي قريباً فإنه رثاه بقصيدة طويلة أولها:ر تفسير الفاتحة في اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان واتفق أنه في ثاني يوم ثبت العيد وكان يوم الجمعة فحضر إلى الجامع وعقد درسا حافلا فاجتمع الناس من كل مكان وقرأ من تفسير سورة البقرة ومن صحيح البخاري في حديث الشفاعة العامة ولما أتم الدرس شرغ في الدعاء وكان يقول يا عباد الله أوصيكم بتقوى الله والإكثار من قول لا إله إلا الله ويكرر ذلك مراراً ويقول أكثروا من ذلك حد الإكثار وأنا لا أريد منكم أن تشهدوا لي بفضل ولا علم ولا جاه سوى إني كنت أقول لا إله إلا الله وإني كنت أذكر كم بها ثم لما ختم الدعاء ودع الحاضرين بعبارات مرموزه وذهب إلى بيته واستمر عشرة أيام في عبادة وتسبيح وتهليل حتى مات ورثاه جماعة منهم الشيخ الإمام محمد بن علي المكتبي الآتي قريباً فإنه رثاه بقصيدة طويلة أولها:
قفا يا صاحبي على الرسوم ... نسائلها عن العهد القديم
وما فعلت أيادي الخطب فيها ... مع الأهوال والزمن الغشوم
ونوحا وابكيا مولى جليلا ... أمام العصر في كل العلوم
علاء الدين حلال القضايا ... وحيد الدهر ذا الرأي السليم
دعاه الله للفردوس لبي ... مطيعا مسرعا نحو الرحيم
فوا أسفي عليه مدى حياتي ... ولست على التأسف بالملوم
ولولا أن دمعي من حماء ... سقيت سراه كالغيث العميم(2/467)
محمد بن علي بن محمود بن يوسف بن محمد بن إبراهيم الشامي العاملي الشهير بالحشري الأديب الشاعر البليغ الوحيد في مقاصده البعيد الغاية في ميدانه ذكره السيد علي بن معصوم في السلافة واستوعب ذكر فضائله فأغناني عن شرح أحواله حيث قال البحر الغظمطم الزخار والبدر المشرق في سماء المجد بسناء الافتخار الهمام البعيد الهمه المجلوة بأنوار علومه ظلم الجهل المدلهمه اللابس من مطارف الكمال أطرف حله والحال من منازل الجلال في أشرف حله فضل تغلغل في شعاب العلم زلاله وتسلسل حديث قديمه فطاب لراويه عذبه وسلسا له وفحل رقي من أوج الشرف أبعد مراقيه وحل من شخص المعالي بين جوانحه وتراقيه شاد مدارس العلوم بعد دروسها وسقي بصيب فضله حدائق غروسها وأنعش جدودها من عثارها وأخذ من أحزاب الجهل بثارها ففوائده في سماء الإفادة أقمار ونجوم وشهب لشياطين الانس والجن رجوم إن نطق صفد المعاني عن أمم وأسمعت كلماته من به صمم وإن كتب كبت الحاسد عن كثب فجاء بما شاء على الاقتراح وترك أكباد أعدائه دامية الجراح ومتى احتبى مفيدا في صدر ناديه وجثت بين يديه طلاب فوائده وأياديه رأيت دأماء العلم تقذف درر المعارف غواربه وقمر الفضل أشرقت بضياء عوارفه مشارقه ومغاربه فيملأ أصداف الأسماء درا فاخراً ويبهر الأبصار والبصائر محاسن ومفاخرا وأما الأدب فعليه مداره وإليه إيراده واصداره ينشر منه ما هو أذكى من النشر في خلال النواسم بل أحلى من الظلم يترقرق في ثنايا المباسم وما الدر النظيم إلا ما انتظم من جواهر كلامه ولا السحر العظيم إلا ما نفثت سواحر أقلامه وأقسم أني لم أسمع بعد شعر مهيار والرضى أحسن من شعره المشرق الوضي أن ذكر الأنسجام فهو غيثه الصيب أو السهولة فهو نهجها الذي تنكبه أبو الطيب ثم قال وله على من الحقوق الواجبة شكرها ما يفل شبا يراعتي وبراعتي ذكرها وهو شيخي الذي أخذت عنه في بدء حالي وأنضيت إلى موائد فوائده يعملات رحالي واشتغلت عليه فاشتغل بي وكان دأبه تهذيب أدبي ووهبني من فضله ملا لا يضيع وحنا علي حنو الظئر على الرضيع ففرش لي حجر علومه وألقمني ثدي معلومه حتى شحذ من طبعي مرهفا وبرى من نبعي مثقفا فما يسح به قلمي فهو من فيض بحاره وما ينفح به كلمي إنما هو من نسيم اسحاره وأما خبر ظهوره من الشام وخروجه وتنقله في البلاد تنقل القمر في بروجه فإنه هاجر إلى الديار العجمية بعد ابدار هلاله وانسجام وسمي فضله وانهلاله فأقام بها برهة من الدهر محمود السيرة والسريرة في السر والجهر عاكفا على بث العلم ونشره مؤرجا الأرجاء بطيبه ونشره ولما تلت الألسن سور أوصافه واجتلت الأسماع صور اتسامه بالفضل واتصافه استدعاه أعظم وزراء مولانا السلطان يريد به سلطان الهند إلى حضرته وأحله من كنفه في نهجه العيش ونضرته ثم رغب الوالد في انحيازه إلى جنابه فاتصل به اتصال المحبوب بعد اجتنابه فأقبل عليه إقبال الوامق الودود وأظله بسرادق جاهه المدود فانتظم في سلك ندمائه وطلع عطاردا في نجوم سمائه حتى قصد الحج فحج وقضى من مناسكه العج والثج وأقام بمكة سنتين ثم عاد فاستقبله ثانيا بالإسعاف والإسعاد وكنت قد رأيته حال عوده ببندر المخا ثم رأيته بحضرة الوالد وبينهما من المودة ما بيربي على الإخا فأمرنا بالاشتغال عليه والاكتساب مما لديه فقرأت عليه الفقه والنحو والبيان والحساب وتخرجت عليه في النظم والنثر والفنون الآداب وما زال يشنف أذني بفرائده ويملأ ارداني بفوائده حتى حسدنا عليه الدهر الحسود وجرى على سجيته في تبديل الأيام البيض بالليالي السود فقضى الله علينا بفراقه لأمور أوجبت نكس الآبل بعد اعراقه ثم أنشد له من شعره قوله:
شرق على حكم النوى أو غرب ... ما أنت أول ناشب في مخلب
في كل يوم أنت نهب مخالب ... أو ذاهب في أثر برق خلب
متألق في الجو بين مشرق ... غص الفضاء به وبين مغرب
يبكي ويضحك والرياض نواسم ... ضحك المشيب على عذاري الأشيب
أزعمت أن الذل ضربة لازب ... فنشبت في مخلاب باز أشهب
لعبت بلبك كيف شاء لها الهوى ... مقل متى تجد النواظر تلعب(2/468)
زعمت عثيمة أن قلبك قد صبا ... من لي بقلب مثل قلبك قلب
قد كنت آمل أن تموت صبابتي ... حتى نظرت إليك يا ابنة يعرب
فطربت ما لم تطربي ورغبت ما ... لم ترغبي ورهبت ما لم ترهبي
ولقد دلفت إليهم في فتية ... ركبوا من الأخطار أصعب مركب
جعلوا العيون على القلوب طليعة ... ورموا القفار بكل حرف ذعلب
ترمي الفجاج وقلبها متصوب ... في البيد أثر البارق المتصوب
هو جاء ما نفضت يدا من سبسب ... إلا وقد غمست يدا في سبسب
تسري وقلب البرق يخفق غيرة ... منها وعين الشمس لم تتنقب
تطفو وترسب في السراب كأنها ... فلك يشق عباب بحر رعرب
تفلي بنا في البيد ناصية الفلا ... حتى دفعت إلى عقيلة ربرب
وافتك تخلط نفسها بلداتها ... والحسن يظهرها ظهور الكوكب
كفريدة في غيهب أو شادن ... في ربرب أو فارس في موكب
تمشي فتعثر في فضول ردائها ... بحياء بكر لا بنشطة ثيب
وقوله من قصيدة:
باجتلاء المدام في الأقداح ... وبمرآة وجهك الوضاح
لا تذرني على مرارة عيشي ... أكل واش ولا فريسة لاحي
صاح كلني إلى المدام ودعني ... والليالي تجول جول القداح
لا تخف جور حادثات الليالي ... نحن في ذمة الظبار والرماح
طوع أيدي الخطوب رهن المنايا ... تتخطى بها إلي صفاحي
قلدتني من المشيب لجاما ... كف رأسي شكيمة عن جماح
صاح أن الزمان أقصر عمرا ... من بكاء بدمنة ونواح
رق عنا ملاحف الجو فاسمح ... برقيق من طبعك المرتاح
يا مليك الملاح أن زمانا ... أنت فيه زمان روح وراح
طاب وقت الزمان فاشرب عساه ... يا صباحي يطيب وقت الصباح
واسقنيها سقيت في فلق الفج ... ر على نغمة الطيور الفصاح
وقوله:
أيا ريح الصبا أن جئت نجدا ... فجدد بالظباء العين عهدا
فقد أرضعتني ثدي الأماني ... وشبت وما بلغت به أشدا
وكم زفت إلي طوال ليل ... ذوائب ذلك الرشأ المفدى
وما نجد وأين ظباء نجد ... سقى الرحمن ماء الحسن نجدا
وقوله من قصيدة:
وقد جعلت نفسي تحن إلى الهوى ... حلا فيه عيش من بثينة أومرا
وأرسلت قلبي نحو تيماء رائدا ... إلى الخفرات البيض والشدن العفرا
تعرف منها كل لمياء خاذل ... هي الريم لولا أن في طرفها فترا
من الظبيات الرود لو أن حسنها ... يكلمها أبدت على حسنها كبرا
وآخر أن عرفته الشوق راعني ... بصد كأني قد أتيت له وترا
أناشد فيه البدر والبدر غائر ... وأسأل عنه الريم وهو به مغرى
فما ركب البيداء لو لم يكن رشا ... ولا صدع الديجور لو لم يكن بدرا
لحاظ كأن السحر فيها علامة ... تعلم هارون الكهانة والسحرا
وقد هوى الغصن الرطيب كأنما ... كسته تلابيب الصبا ورقا نضرا
رتقت على الواشين فيه مسامعا ... طريق الردى منها إلى كبدي وعرا
أعاذلتي واللوم لؤم ألم ترى ... كأن بها عن كل لائمة وقرا
بفيك الثرى ما أنت والنصح إنما ... رأيت بعينيك الخيانة والغدرا
وما للصبايا ويح نفسي من الصبا ... تبيت تناجي طول ليلتها البدرا
تطارحه والقول حق وباطل ... أحاديث لا تبقى لمستودع سرا
وتلقي على التمام فضل ردائها ... فيعرف للأشواق في طيها نشرا
يعانقها خوف النوى ثم تنثني ... تمزق من غيظ على قدك الأزرا(2/469)
ألما ترى بأن النقا كيف هذه ... تميل بعطفيها حنوا إلى الأخرى
وكيف وشي غصن إلى غصن هوى ... وأبدى فنونا من خيانة تترى
فمن غصن يدني إلى غصن هوى ... ومن رشأ يوحي إلى رشأ ذكرا
هما عذلاني في الهوى غير أنني ... عذرت الصبا لو تقبلين لها عذرا
هبيها فدتك النفس راحت تسره ... إليه فقد أبدته وهي به سكري
على أنها لو شايعت كثب النقا ... وشيح الخزامى إنما حملت عطرا
ومن مبدعاته قوله من قصيدة أخرى:
ما في التصابي على من شاب من باس ... أما ترى حلوة الصهباء في الكأس
الناس بالناس والدنيا بأجمعها ... في درة تعطف الساقي على الحاسي
يئست واليأس احدى الراحتين وكم ... جلوت مني صدا الأطماع باليأس
منها:
في كل غانية من أختها بدل ... إن لم تكن بنت رأس فابنة الرأس
أودعت عقلي إلى الساقي فبدده ... في كسر جفنيه أو في ميلة الكأس
لا أوحش الله من غضبان أوحشني ... ما كان أبطاه عن بري وإيناسي
سلمت يوم النوى منه وأسلمني ... إلى عدوين نمام ووسواس
ذكرته وهولاه في محاسنه ... عهود لا ذاكر عهدي ولا ناسي
وددت اذبعته روحي بلا ثمن ... لو كنت أضرب أخماسا لا سداس
يا ويح من أنت يا لمياء بغيته ... ما كان أغناه عن فكر ووسواس
قامت تغني بشعر وهي حالية ... به ألا حبذا المكسو والكاسي
تقول والسكر يطويها وينشرها ... أي الشرابين أحلى في فم الكاس
يا حبذا أنت يا لمياء من سكن ... وحبذا ساكن البطحاء من ناس
ما أن ذكرتك إلا زاد بي طربي ... وطاب ريح الصبا من طيب أنفاسي
ولا ذكرت الصبا إلا وأذكرني ... لياليا أرضعتني درة الكأس
وجيرة لعبت أيدي الزمان بهم ... أنكرت من بعدهم نفسي وجلاسي
أيام أختال في ثوبي بلهنية ... وميعة من شباب ناعم عاس
عار من العار حال بالصبا كاسي ... كأنني والصبا في برد أخماس
أنضيت فيه مطايا الجهل والباس ... عريت منه وما عريت أفراسي
في صبية كنجوم الليل أكياس ... كأن أيامهم أيام أعراس
أسمو إليهم سمو النوم للراسي ... أدب فيهم دبيب السكر في الحاسي
باتوا بميثاء صرعي لا حراك بهم ... وإنما صرعتهم صدمة الكأس
يا عاذلي أنت أولى بي فخذ بيدي ... فأنت أوقعتني فيهم على رأسي
ويا حمام اللوى هلا بكيت معي ... على زمان تقضي أو على ناس
وقوله من أخرى:
أتراك تهفو للبروق اللمع ... وتظن رامة كل دار بلقع
لولا تذكر من ذكرت برامة ... ما حن قلبي للوى والأجرع
ريم يأجوبة العراق تركته ... قلق الوساد قرير عين المضجع
في السر من سعد وسعد هامة ... رعناء لم تصدع ولم تتضعضع
منها:
قالت وقد طار المشيب بلبها ... أنشبت في حلق الغراب الأبقع
وتلفتت والسحر رائد طرفها ... نحو الديار بمقلة لم تخشع
ولكم بعثت إلى الديار بمقلة ... رجعت تعثر في ذيول الأدمع
عرفت رسول الدار بالمتربع ... فبكت ولولا الدار لم تتقشع
أملت لو يتلوم الحادي وما ... أملت إلا أن أقول وتسمعي
وله وهي من غرره:
أرأيت ما صنعت يد التفريق ... أعلمت من قتلت بسعي النوق
رحل الخليط وما قضيت حقوقهم ... بمنى النفوس وما قضين حقوقي
علقوا بأذيال الرياح ووكلوا ... للبين كل معرج بفريق
وغدوت أصرف ناجذي على النوى ... واغص من غيظ الوشاة بريقي(2/470)
هجروا وما صنع الشباب بعارضي ... عجلان ما علق المشيب بزيقي
فكأنني والشيب أقرب غاية ... يوم الفراق كرعت من راووق
لا راق بعدهم الخيال لناظري ... أن حن قلبي بعدهم لرحيق
لعب الفراق بنا فشرد من يدي ... ريحانتي صديقتي وصديقي
لله ليلتنا وقد علقت يدي ... منه بعطف كالقناة رشيق
عاطيته حلب العصير وصدنا ... عن وجه حاجبنا يد التعويق
ما كان أسرع ما وحته وإنما ... دهش السقاة به عن الترويق
أيقظته والليل ينفض صبغه ... والسكر يخلط شائقاً بمشوق
والنوم يعبث بالجفون وكلما ... رق النسيم قست قلوب النوق
والبرق يعثر بالرحال وللصبا ... وقفات مصغ للحديث رفيق
باتت تحرش والقنا متبرم ... بين الغصون وقده الممشوق
فأجابني والسكر يعجم صوته ... والكأس تضحك للثنايا الروق
لولا الرقيب هرقت مضمضمة الكرى ... وغصصت صافية الدنان بريقي
وله:
آه يا غصن النقا ما أميلك ... جل يا غصن النقا من عدلك
قد قضى لي بتباريح الجوى ... من قضى بالحب لي والحسن لك
أكل الحب فؤادي بعدما ... لاك مني ما تمنى وعلك
هلك الشامي وجدا وأسى ... ما يبالي يا حياتي لو هلك
قل لي فيك غراما وجوى ... قلل الله عذ ولا قللك
حكم الله لفودي على ... نسخة الشيب وتسويد الحلك
أتراهم قد رووا أي دم ... هرق الواشي على تلك الفلك
يا غراب البين لا كنت ولا ... كان واش دب فيهم وسلك
أخذوا مني وأعطوا ما اشتهوا ... ما كذا يحكم فينا من ملك
جرت في الحكم على أهل الهوى ... لا تخف فالأمر لله ولك
ليت شعري أمليك في الورى ... أنت يا انسان عيني أم ملك
حكم الدهر علينا بالنوى ... هكذا تفعل أدوار الفلك
وله:
آه من داءين باد ود خيل ... وخصيمين مشيب وعذول
ما على من طال ليلى بعدهم ... لو أعانوني على ليلى الطويل
عاجل القلب إليهم ناظري ... ما أضر الحسن بالقلب العجول
نادمت منهم بناني ناجذي ... واستشاط الوجد في أثر الحمول
وبأكناف المصلي غادة ... سخت لي مسخ الظبي الجذول
عرضت شرط المفدى في مهى ... يتعثرن بأطراف الذيول
قد عرفنا وقفة الركب دجى ... في سنا الجو وأنفاس القبول
إذا شفيعي عند لمياء الصبا ... ورسولي خلسة اللحظ الكليل
نظرت نحوي ورقراق السنا ... يخطف الأبصار عن طرف كحيل
حكم الله لقلبينا على ... قلق القرط ووسواس الحجول
زاد شوقي يا حمامات اللوى ... عللينا ببكاء وعويل
أنا أولى بنواح وبكا ... لا يزالاني كوجدي وغليل
ليت شعري والأماني ضلة ... هل صبا نجد إلى الغيد رسول
يا صبا نجد ومن لي لو وعت ... رجع قولي أو أصاخت لسؤول
أنت أدرى يا هناتي بالجوى ... خبريهم يا لك الخير وقول
لو رأى وجه سليمى عاذلى ... لتفارقنا على وجه جميل
بشرت سلمى عذولي بالنوى ... آه مما أودعت سمع العذول
وله:
كليني لهم لا ينام ونامي ... فالشام أن ضاقت علىّ بشام
وما بي سوى أم رؤم وجيرة ... عزاز علينا ياعثيم كرام
وقد كنت قبل البين جلدا على الاسى ... تطالبني نفسي بكل مرام
لصوقا بأكباد الحسان محببا ... إلى الغيد يحلولي لهنّ كلامي(2/471)
يقودونني قود الجنيب إلى الهوى ... فما لي منبوذ إلى ذمامي
وفي الركب مدلول اللحاظ إلى الحشا ... يدافع عن أترابه ويحامى
لقد كنت أم المنايا بلحظة ... كون المنايا في شفير حسام
يشايعه من آل كسرى ضراغم ... براثنهم عند اللقاء دوامى
يروحون والتيجان فوق رؤسهم ... ألا رب تيجان زهين بهام
برزت لهم والحتف منى على شفا ... أرى الحتف خلفي تارة وأمامي
أوارب عن صحبي وأعلم أنني ... لأول مقتول لأول رامي
فناضلته والركب بين مفوق ... وآخر مقروح الجوانح دامي
أصابت وكانت لا تصيب سهامه ... وطاشت وكانت لا تطيش سهامي
كذا الغيد يا عثماء أما مجاهر ... وأما ختول لا يفي بذمام
وله:
لا يتهمني العاذلون على البكا ... كم عبرة موهتها ببناني
يا من يفدني على ابنة وائل ... عنى إليك فغير شأنك شأني
آليت لا فتق العذول مسامعي ... يوما ولا خاط الكرى أجفاني
قالت عثيمة قد كبرت عن الصبا ... ما للكبير وصبوة الشبان
ما الشيب إلا كالقذاة لناظري ... فقليله وكثيره سيان
سلبت أساليب الصبابة من يدي ... صبري وأغرت ناجدي ببنان
وله:
طرقت تخطى رقبة الواشين بي ... وعيونهم مطروقة بكراها
وأنا وموار اليدين نلوذ في ... سجف الغمام كأننا طنباها
ومنها:
هل في القضية أن يشايعك العدا ... في ليلة ناجيت فيك سهاها
هب أن للشامي فيها بالسهى ... نسبا فأين هم وأين دجاها
ليت التي بعثت إلى خيالها ... أذنت لعيني أن تذوق كراها
وله غير ذلك مما لا تنتهي بدائعه وكانت وفاته في نيف وتسعين وألف.
محمد بن علي بن سعد الدين بن رجب بن علوان المعروف بالمكتبي الدمشقي الخطيب المكتبي الإمام الشافعي المذهب كان من أجل علماء الزمن محدثا فقيها اخباريا أديبا له نظم ونثر وكان حسن الأخلاق صدوقا ثبت الرواية جمع لنفسه مشيخة وقفت عليها بخطه ونقلت منها بعض تراجم أشياخه فمنهم والده والشيخ محمد الميداني والنجم محمد الغزي والشيخ علي النجار الصالحي والشيخ علي القبردي والشيخ يحيى الفرضي والكمال العيثاوي والسيد إبراهيم الصمادي والشيخ إبراهيم الحلبي العلواني إمام الصابونية بدمشق والشهاب أحمد العرعاني وهؤلاء كلهم شافعيون ومن الحنفية العمادي المفتي والشهاب أحمد البهنسي والمولى يوسف بن أبي الفتح والأديب أحمد ابن شاهين والشيخ رمضان العكاوي والشيخ أيوب الخلوتي والشيخ عبد اللطيف الجالقي والشيخ محمد الحزرمي البصير ومن الحنابلة الشيخ عبد الباقي المفتي والشهاب أحمد الوفائي ومن المالكية أبو القاسم المغربي وهؤلاء كلهم دمشقيون وأخذ عن أبي العباس المقرى وشيخنا الشيخ يحيى الشاوي وحج في سنة أربع وأربعين وألف وأخذ بمكة عن الجمال محمد علي بن علان الصديقي ثم حج ثانيا في سنة تسع وخمسين وأخذ بالمدينة عن الصفى القشاشي وبمكة عن الشمس البابلي ودخل القدس وأخذ بها عن مفتى الحنفية بها الشيخ عبد الغفار وولى إمامة السنانية وخطابة السيبائية وكان له كرسي وعظ بجامع بني أمية وبالسنانية ودرس بالجامعين المذكورين كثيراً وانتفع به جماعة وكان جهوري الصوت فصيح العبارة في وعظة وكان فقيراً كثير العائلة صابراً قنوعاً سخى الطبع مجداً في العبادة والمطالعة ونفع الناس لا يمل ولا يكل وكان للناس فيه محبة لتواضعه وكرم أخلاقه وله أشعار كثيرة غالبها في المدح والرثا وبالجملة ففضله لا يحتاج إلى شاهد وكانت ولادته في اليوم السابع عشر من ذي القعدة سنة عشرين بعد الألف وتوفي نهار السبت ثاني عشرى جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى(2/472)
ابن فواز محمد بن عمر بن فواز الملقب شمس الدين الدمشقي الشافعي كان فاضلًا أدبياً لطيف الذات حسن الخلال عذب المفاكهة في عدة فنون وله شعر حسن لطيف السبك أخذ بدمشق عن العلامة العمادي الحنفي ثم رحل إلى القاهرة وأقام بها سنين وصحب أفاضلها المشاهير ولزم الأديب محمد الفارضي المشهور وروى عنه منظومات كثيرة ورجع إلى دمشق ودرس ببعض المدارس وكان كثيراً ما يألف الشيخ محمد الحجازي مفتي الشافعية بدمشق وولده عبد الحق وكان عبد الحق يقرأ عليه وانتفع به وكان يراسله فما كتبه الفوازي إليه وقد انقطع عن صحبته أياما لجفوة صدرت منه وتعتب عليه في المهاجرة.
يا غائبا والذنب ذنبك ... متعتبا الله حسبك
لا تبعدن فإنما ... أملى من الأيام قربك
فلا صبرن وأرضين ... بما قضاه الله ربك
وقد ذكره البوريني في تاريخه وأحسن الثناء عليه ثم قال وكان عندنا في يوم قد هب نسيمه وصح بوصف السلامة سليمه فقرأ بعض الأصحاب هذا البيت من كتاب الصادح والباغم لابن الهبارية وظاهره لا يخلو من شيء على مقتضى الشريعة المحمدية والبيت هذا:
وليس في العالم ظلم جاري ... إذ كان ما يجري بأمر الباري
فأظهر أشكاله وأودع حقيقة الحق أقواله فقال:
هذا كلام ظاهر الأشكال ... ظاهره لا يخل من مقال
إذ عالم الكون مع الفساد ... كم قد حوى كفرا على عناد
وكم به ظلم على اعتداء ... والله لا يأمر بالفحشاء
ومدعي هذا أتى بهتانا ... إذ قوله يصادم القرآنا
مناقض فائدة الإرسال ... وحكمة التكليف بالأعمال
كقوله لا تقربوا أقيموا ... فظلمنا مرتعه وخيم
فان أراد العلم والارادة ... بالأمر فهو ظاهر الافادة
وهي صفات ربنا في القدم ... والظلم في فعل العباد فاعلم
وربنا منزه عن ظلم ... إذ فعله عن حكمة وعلم
وما جرى في الكون بالتقدير ... مع القضا في سائر الأمور
والله سمى البعض ظلما حقا ... فليس من ينكره محقا
وكم حوى القرآن ذم الظالمين ... وكل من خالف نهج المؤمنين
ويجب الإيمان بالقضاء ... ولم يكن سراً بلا امتراء
وامتنع الرضاء بالمقضى ... إذ كان شيئا ليس بالمرضى
كقول أهل العلم وهو الصدق ... إن الرضا بالكفر كفر حق
فلا تجوز الرضا بالظلم ... أنكر ولو بالقلب يا ذا الفهم
هذا جواب حسن محقق ... والله مولانا هو الموفق
ومن نظمه ما يتعلق بأكل المكيفات من البرش مضمنا
بالكيف تظهر أخلاق الرجال لنا ... لا بالصنائع والهيئات والحرف
والكيف كيفية للنفس تخبرنا ... عن خلق صاحبها أخبار معترف
فإنها الريح إن مرت على عطر ... طابت وتخبث إن مرت على الجيف
وفيه تضمين مع نقل وأصله:
لا تشرب الراح إلا مع أخي ثقة ... واختر لنفسك حراً طيب السلف
فالراح كالريح أن مرت على عطر ... طابت وتخبث أن مرتعلى الجيف
قال ومما قرأته له بخطه في طلب سفينة شعر من بعض إخوانه:
يا سيداً في المعالي ... له أياد مبينه
إني بك البر فابعث ... يا بحر نحوي سفينه
لا زلت تهدي دواما ... لي اللآلى الثمنيه
ورحل آخر أمره إلى مكة وجاور بها وكان سبب رحلته أن رجلاً من أجناد دمشق أخذ له صراً بمكة المشرفة في كل سنة ما يقرب من ثلثمائة دينار ذهباً فرحل إليها وتديرها وقرأت بخط البوريني قال لما عزم على الرحيل إلى ذلك الجناب وصمم على ترك الإقامة باختيار الذهاب ذهبت إليه مودعاً وأنشدته متوجعاً مرتجلاً في نظمه مظهر الهيب الفراق بعد كتمه مضمنا البيت الأخير لأبي الحسن التهامي مودعاً له في غضون كلامي فقلت:(2/473)
فاز ابن فواز ففارق جلقا ... وغدا بمكة جار أكرم جار
وغدوت فردا في دمشق لبعده ... متجرعا غصصا لجار الدار
جاورت أعدائي وجاور ربه ... شتان بين جواره وجواري
ولم يذكر وفاته في تاريخه وقد كنت فحصت عنها فرأيتها في مجموع بخط عبد الكريم الطاراني المقدم ذكره قال فيه إن وفاته كانت بمكة في أوائل ذي الحجة سنة خمس بعد الألف ومات وله من العمر نيف وخمسون سنة تقريباً وورد خبر موته إلى دمشق في عشري صفر سنة ست بعد الألف.
محمد بن عمر الملقب شمس الدين بن سراج الدين الحانوتي المصري الفقيه الحنفي كان رأس المذهب في عصره بالقاهرة يرجع إليه أمر الفتوى والرياسة بعد شيخ المذهب علي بن غانم المقدسي وكان فقيهاً واسع المحفوظ له الفتاوى المشهورة وهي في مجلد كبير مرغوبة يعتمدها الفقهاء في زماننا ولوالده أخرى نافعة سائرة تفقه على والده وعلى قاضي القضاة نور الدين الطرابلسي ثم المصري والشهاب أحمد بن يونس بن الشلبي صاحب الفتاوى وأخذ عن الإمام تقي الدين الفتوحي وقاضي القضاة شمس الدين الشامي المالكي والإمام الناصرين حسن اللقاني المالكي والشهاب أحمد الرملي والشهاب ابن عبد الحق والأستاذ أبي الحسن البكري والشمس محمد الدجلي شارح الشفا والشمس محمد الشامي الصالحي ثم المصري صاحب السيرة والشيخ محمد الداودي تلميذ السيوطي والمظفري وأخذ عنه جماعة من الإجلاء منهم الشيخ الإمام خير الدين الرملي وكانت ولادته ليلة الجمعة تاسع عشر صفر سنة ثمان وعشرين وتسعمائة وتوفي بالقاهرة في سنة عشرة بعد الألف.
محمد بن عمر الخفاجي والد الشهاب المقدم ذكره المصري الشافعي أحد أجلاء العلماء في عصره كان من الفضل في المكانة السامية والهضبة العالية مفنناً بارعاً محققاً مشهور الصيت ذائع الذكر أخذ عن كبار الشيوخ وتصدر للإفادة والتدريس وانتفع به جماعة من كبار العلماء منهم أبو بكر الشنوني وكفاه بتلمذ هذا له مفخراً ولزمه ابنه الشهاب وتأدب به وعليه تخرج في كثيره من الفنون وبالجملة فجلالته وعظم قدره أشهر من أن يذكر وكانت وفاته في سنة إحدى عشرة بعد الألف ورثاه الفاضل الأديب محمد بن يس المنوفي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى بقصيدة مطلعها:
ما بال أيدي النائبات تخون ... وتذيم رصف المجد وهو رصين
يا دهر لا عتبي عليك ولا رضى ... كل المصائب بعد ذاك تهون
تعد الورى البوسي فتسرع وقعها ... وإذا وعدت بما يسر تمين
منها:
لو كان يجدي النوح ميتا قبله ... نفعا لناحت أعصر وقرون
يا واعظاً بسكونه حركتنا ... ولأنت بالوعظ المفيد قمين
وغدا ضجيج الرمس إلا أنه ... في قلب كل موحد مدفون
ختامها:
حفتك رحمة ذي الجلال وعفوه ... وسقى ثرى جدي حواك هتون
وسرت محاسن ما صنعت حواملا ... حسن الثناء يحفها التأمين
محمد بن عمر بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن عمر بن أبي بكر بن عمر بن العزب السيد محمد بن عمر ولد باليمن بسرد وأخذ عمن به من الشيوخ من بني القديمي ثم رحل من اليمن واتفق أنه دخل زبيد لقضاء حاجة لبعض شيوخه فدخلها بعد المغرب فوجد سورها مغلوقاً فبات على باب البلد وإذا هو برجل فجلس عنده وأكل معه وأنسه إلى الصبح وقال له سلم على شيخك فقال له السيد من أنت فقال هو يعرفني فأخبر شيخه بذلك فقال له أما عرفته قال لا قال ذاك الخضر هو صاحبي فتعب السيد فقال له لا تتعب سيصير صاحبك بعدي ولما دخل القنفدة كان صاحب المنصب من أولاد الشيخ علي الطواشي بمدينة جلي ليلة قدومه إلى القنفدة يقوم ويقعد وينظر يميناً وشمالاً ويقول دخل هذه البلاد في هذه الليلة نور عظيم وأوصى بعض المتوجهين إلى جهة القنفدة يسأل عمن قدمها في تلك الليلة فأخبروه أن القادم تلك الليلة السيد ومحمد المذكور ثم ظهر حاله وشاع أمره واعتقده الناس وكان يغلب عليه السكون والثبات في جميع الأمور وكانت وفاته في سنة أربع عشرة وألف وبها دفن رحمه الله تعالى.(2/474)
محمد بن عمر بن عبد القادر بن أحمد بن حسن بن عمر بن محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن الشيخ علي بن عمر الأهدل كان هذا السيد من كبار مشايخ الصوفية أهل الحل والعقد المستعان بهم في النوائب والشدائد والشفاعات صاحب زاوية واكرام وافضال وانعام وشهرته تغني عن شرح حاله أخذ عن والده ونصبه جده عبد القادر وهو في سن الصغر دون التمييز شيخنا فكان يقول له يا شيخ والله إن لك جداً لو نظر إلى أهل الأرض لصاروا كلهم مشايخ انتهى وكان صاحب الترجمة كثيراً ما يتلو القرآن بالجهر تلاوة مجودة بترتيل وحسن صوت مواظباً لزيارة جده الشيخ الكبير علي الأهدل كل يوم ثم يقف عند كل قبر من القبور المعروفة هناك ساعة ثم يدخل مسجد التربة فيصلي فيه ركعتين ويدعو وينصرف إلى بيته ولم يزل كذلك إلى أن توفي ليلة الجمعة رابع عشر شوال سنة اثنتين وثلاثين وألف.
محمد بن عمر بن محمد سعد الدين بن تقي الدين بن القاضي ناصر الدين بن أبي بكر ابن أحمد بن الأمير موسى وتقدم تمام النسب في ترجمة ابن أخيه أحمد بن صالح الشيخ البركة الولي المعتقد المعروف بالعلمي القدسي كان من أصلح صلحاء زمانه وأعرفهم بالله تعالى إلى الطريقة الباهرة والسمت الحسن في مصطلحات الصوفية وذكرهم وكان للناس فيه اعتقاد عظيم وكان في مبدأ أمره يسكن دمشق بخانقاه تقي الدين عمر الكردي في محلة القنوات ثم حج وجاور ولم يستقر بعد ذلك في دمشق فرحل إلى موطنه القدس وقطن بها واعتقده أهلها وأحبوه واشتهر صيته في الآفاق وكان عالماً صالحاً سالكاً على نهج كبراء الصوفية وله على لسانهم شعر نفيس فمن ذلك قوله مشيراً إلى الوحدة المطلقة:
سلم إذا ذكر اتحاداً عاشق ... وافطن فطور المرء ليس يزيد
فالنار يدخلها الحديد فيغتدى ... ناراً فذاك معاين مشهود
فإذا تخلى عن مقام وصالها ... فالنار نار والحديد حديد
وله كرامات مشهورة منها ما حكاه خليفته الشيخ علي الحوراني الحبراصي من حبراص قرية بحوران وكان من أخص جماعته وذلك أنه شاور الشيخ في الذهاب إلى بلاده لزيارة أهله فحذره من أمر يأتي عليه وقال له دافع عن نفسك مهما أمكنك ولم يصرح ثم توجه فلما وصل إلى الدراهم التي يعهدها دخلها فخرجت إليه امرأة وأدخلته ولم يدر أنها غريبة فلما استقر داخل الدار غلقت عليه الأبواب وراودته عن نفسه وكان غارقاً في الجذب فصرخ عليها بقوله الله فلم تلتفت وأقبلت عليه فلم يشعر إلا والجدار قد انشق والشيخ العلمي واقف يقول له هات يدك يا علي وسحبه وأخرجه فلما أتى القدس لزيارة الشيخ وسلم عليه مسك الشيخ يده وشد عليها وأومأ إليه بالكتم وذكره الفيومي في المنتزه وقال في وصفه أشرقت شمس معارفه بالأرض المقدسة فأطلعت أهل إرشاده هادية ومؤنسة فانتشرت فضائله واشتهرت فواضله وأكبت عليه الناس وأقبلت عليه أرباب الباس فنفذت كلمته وازدادت حرمته وله ديوان شعر مشهور وتائية في السلوك درها منثور على النحور افتتحها بقوله تبعا لابن حبيب في تائيته:
باسم الإله ابتدائي في مهماتي ... فذاك حصني في كل الملمات
والحمد لله ربي دائماً أبداً ... حمدا ننال به أعلى المبرات
ثم الصلاة على المختار سيدنا ... محمد المصطفى عز الوجودات
كذا سلام من المولى يضاعفه ... منه إليه بأنواع التحيات
في كل حين وآن لا انقضاء له ... من رحمة الله يأتي بالمسرات
كذاك للآل والصحب الكرام ومن ... للدين قد أيدوا في كل حالات
وهي كبيرة تشتمل على قواعد أهل الطريقة والحقيقة وذكره البوريني في تاريخه وأثنى عليه ثم قال ولما كان بدمشق سرت إليه يوماً من الأيام وهزني الشوق والغرام لاغتنام مصاحبته واجتلاء مكالمته فصادفت الديار خاليه والمنازل عاطلة غير حاليه لأنه قد سار إلى زيارة أهله في بيت المقدس فلما رأيت وحشتها بعد أنسها وظلمتها بعد أنوار شمسها وأنشدت مرتجلاً وكتبت عجلاً على جدار الخانقاه التي كان يسكنها هذه الأبيات:
أتيت ديار الحي بعد ارتحالهم ... فصادفت ربعا بعد سكانه أقوى
ورمت من القلب التصبر بعدهم ... فقال على بعد الأحبة لا أقوى(2/475)
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى ... منازل من يهوى على غير ما يهوى
انتهى وكانت وفاة العلمي في سنة ثمان وثلاثين وألف ودفن بجبل الطور ظاهر القدس رحمه الله تعالى.
محمد بن عمر بن أبي بكر بن يوسف بن محمد بن أبي بكر عبادة بن يوسف بن أحمد بن أبي بكر بن محمد بن إسماعيل بن محمد الأحنف مصنف كتاب الثمرة في الفقه ابن إسماعيل بن عمر بن يحيى بن عمر بن محمد بن علي بن الشويش بن علي بن وهب بن صريف بن ذوال وقد مر تتمة النسب في ترجمة إبراهيم بن عبد الله جعمان فبنو عباده وبنو جعمان يجتمعون في عمر بن محمد كان صاحب الترجمة فقيها عالماً ورعاً زاهداً قام في محل آبائه أتم قيام في الفتوى والتدريس ببيت الفقيه ابن عجيل وكانت وفاته في شعبان سنة خمسين وألف.
محمد بن عمر بن الصديق الحشيبري مفتي الديار اليمنية ومحدثها كان فقيهاً عالماً محققاً نقالاً ورعاً زاهداً عابداً صاحب تربية وأخلاق رضية وأفعال مرضية وأحوال وكرامات خارقة وله رؤيا منا تدل على تمكنه وقرب منزلته عند الله تعالى صاحب السيد الطاهر بن البحر وأخذ عن العلامة محمد بن أبي القسم جعمان وعنه أخذ السيد محمد بن الطاهر المذكور والعلامة محمد صاحب الخال وعبد الرحمن الخلي وكثيرون وكانت وفاته في ذي الحجة سنة خمسين وألف ودفن ببيت الفقيه الأيمن بتربة جده الولي الشهير علي بن أحمد حشيبر وجدهم الفقيه الولي محمد بن عمر نفع الله تعالى بهم وحصل بموته التعب الشامل ونزل العلم بموته درجة لأنه لم يخلف بعده مثله في الحفظ والإتقان ورثاه السيد محمد بن الطاهر بقصيدة أولها:
دهتنا الليالي بموت الفقيه ... إمام الهدى غوث أهل اليمن
وهي طويلة أعرضت عنها لطولها والله أعلم.
محمد بن عمر بن محمد بن علوي بن أبي بكر بن علي بن أحمد بن محمد أسد الله ابن حسن بن علي بن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم نزيل مكة المشرفة وشهرته بالغزالي وبالحبشي كسلفه صاحب المناقب والأحوال المرشد الكامل فريد الزمان ولد بتريم وحفظ القرآن وغيره وصحب الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس والقاضي عبد الرحمن بن شهاب الدين والسيد عبد الرحمن بن عقيل والسيد أحمد بن محمد الحبشي والسيد عبد الله بن سالم وغيرهم وتفقه بجماعة منهم الشيخ محمد بن إسمعيل بافضل ولزم الطاعة واعتنى بكتب الغزالي ومن ثم قيل له الغزالي ثم رحل إلى الحرمين وصحب بهما جماعة من العارفين وأخذ عن السيد عمر بن عبد الرحيم البصري والشيخ أحمد بن علان ثم صحب السيد صبغة الله والسيد أسعد والشيخ أحمد الشناوي ولازم مطالعة كتب الشيخ الأكبر ابن عربي ولزم طريقته وربما حصل منه بعض شطح وتكلم فيه بعض الفقهاء وتوطن مكة وأكثر المحققين من العلماء لم يثبتوا له قدماً في التربية وجعلوه ممن يعتقد ولا يقتدي به وله نظم فائق أكثره في طريق القوم فنه قوله:
تجلت عن تجليها فسلني ... فقائلها بها أعطى التثني
بذات لاتصال في افتراق ... بجمع الجمع في عين التجني
مكان الفرد والزوجين لاحت ... تلاهت لابها والفرد يثني
فكنا فيه بل هو كان فينا ... فطبنا رب زدني رب زدني
فكاسي لا تزيده الردايا ... وفيضي لاتساع الفقير يغني
ولم لا والمحيط الحق مني ... بمنزلة الهجوم علي مني
سألت وما علمت سواي لكن ... بحكم الفرق كنت رميت عني
فأسهمك التي بعدت باذني ... وصيدك لم يكن الأباذني
ولولا الرتق بعد الخرق أبقى ... لسحرك في البيان لكل فن
لما كتب البيان سواد عين ... ولكن ما النظار قران قرن
ثم ابتلى بمرض هائل واستمر إلى أن مات وكانت وفاته يوم الأربعاء ثامن عشر صفر سنة اثنتين وخمسين وألف وقد جاوز السبعين ودفن بالمعلاة.(2/476)
محمد بن عمر بن شيخ بن إسمعيل بن أبي بكر بن إبراهيم بن الشيخ عبد الرحمن السقاف اشتهر كسلفه بالبيتي لكون جده إلا علي أبي بكر بيت مسلمة فنسب إليها السيد الأجل العالم ذكره الشلي وقال في ترجمته ولد بتريم ونشأ بها وحفظ القرآن وصحب أكابر العارفين وأخذ عن جماعة منهم الشيخ محمد بن إسمعيل بافضل وأخذ عدة علوم عن الشيخ الكبير القاضي عبد الرحمن بن شهاب الدين والشيخ زين بن حسين بافضل وعن الشيخ العارف بالله تعالى عبد الله بن شيخ العيدروس وابنه زين العابدين ولازم صحبته ورحل إلى الحرمين فأخذ عن السيد عمر بن عبد الرحيم البصري والعارف بالله تعالى أحمد بن علام والشيخ سعيد بابقي والشيخ الكبير عبد الرحمن باوزير قرأ على هذين الأحياء وأخذ التصوف عنهما وعن السيد الجليل عبد الله بن سالم خيلة وأخذ باليمن وغيرها من جم غفير وكان كثير التردد إلى الحرمين والمجاورة فيهما ثم لزم الإقامة بتريم ولازم صحبة العارف بالله تعالى عبد الرحمن السقاف بن محمد العيدروس في دروسه وكان يحضر درس الوالد يعني الشلي الكبير أبا بكر بعد العشاء في مسجد القوم كل ليلة وكان بينهما صحبة أكيدة قال وصحبته سنين وكان كثير الأوراد والإذكار مواظباً على الجماعات وكان لا يترك الجماعة في مسجد بني علوي ومسجد السقاف إلا عن عذر شرعي وكان كثير الزيارة للقبور لا سيما قبر الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم والغالب عليه العزلة عن الناس فلا يجتمع بهم إلا في مسجد جماعة أو مجلس علم وكان له خلق حسن ولم يزل مواظباً على العلم والعمل إلى أن مات في سنة اثنتين وخمسين وألف بتريم ودفن بمقبرة زنبل.
محمد بن عمر بن محمد بن أبي بكر الملقب تقي الدين قاضي القضاة الفارسكوري المصري المولد نزيل قسطنطينية من أفضل فضلاء الزمان وأبلغ البلغاء نظماً ونثراً وبراعة وكان وهو بمصر اتصل بخدمة قاضيها شيخ الإسلام يحيى بن زكريا وتوجه بخدمته إلى الديار الرومية وأقام بها ولازم على قاعدتهم ودرس وما زال عند المولى المذكور في المانة المكينة إلى أن دبت لأجله عقارب الحسد من حواشيه وندمائه وطفقوا يركبون الصعب والذلول في ذمه فأبعده عن مجلسه وأقصاه فلزم العزلة وغضت عنه الأبصار ورمى في زاوية الهجران وله في ذلك أشعار ورسائل يشير بها إلى سوء معاملتهم معه ومنها أبياته المشهورة التي يقول فيها:
من الرأي ترك الترك إني بلوتهم ... فلم أرهم في الخير يوماً ولا الشر
وكم من جهول بي ولم يدر جهله ... ولم يدر علمي أنه بي لا يدري
مدحت فلم ينتج هجوت فلم يفسد ... وعهدي بأشعاري تؤثر في الصخر
فلا يأملوا من بعد خيري كما مضى ... فقد حيل بين العير وليأمنوا شرى
ولا يطمعوا في المدح مني ولا الهجا ... فقد شط شيطاني وتبت عن السحر
وأدت العذاري من بنات خواطري ... بقلبي وأم الشعر طلقها فسكرى
البيت الأول سبكه من الحديث وهو ما أخرجه الطبراني عن ابن مسعود اتركوا الترك ما تركوهم فإن أول من يسلب أستي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء وبنو قنطوراء الترك وهي جارية لإبراهيم عليه السلام من نسلها الترك والبيت الأخير لطيف المعنى ومنه قول الشهاب الخفاجي:
بنات أفكاري التي ... وأدتها إذ كسدت
موؤدة ما سئلت ... بأي ذنب قتلت(2/477)
والموؤدة البنت يدفنها أبو هاحية في الجاهلية انتهى ثم لما مات أستاذه المذكور ولي بعد وفاته قضاء القدس وكان من الأدب والبلاغة والشعر وصحة التخيل والانطباع في الذروة العليا وكان عارفاً بكثير من الفنون كثير الإطلاع وجمع مدائح أستاذه هذا التي مدح بها في بلاد العرب أيام قضائه بحلب ودمشق ومصر والتزم أن يذكر الشاعر عند ايراد شيء من شعره ولا يزيد على توصيفه بكلمة أو كلمتين واعتذر عن اطالة التراجم بقوله في أوله وكنت أردت أن أترجم كل شاعر منهم عند ايرادي لشعره وأتكلم في حقه هناك بما عساه أن لا يتعدى به طوره بل يوقفه عند قدره وذلك بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال وحسبما يثبت دعوى فضله عند حاكم العقل من شهود المقال فاخترت وقتا بعد جمع هذه القصائد حررت فيه الطالع والغارب وضبطت غب إطلاعي على الفرائد منها والفوائد مقامات الجوزهرات ومقدمات الكواكب ثم نظرت نظرة في النجوم واستخرجت المجهول منها من المعلوم فظهر لي أنه لا شيء أدل من شعر المرء على عقله ولا أصدق من ذلك الطل على وبله كما قيل:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على الأنام فإن كيسا وإن حمقا
فاكتفيت في الدلالة على فضائله بذلك المقدار وناهيك منه بدلالة النور على النار والشمس على النهار انتهى ومما أورد في كتابه المذكور من أشعاره الغضة الشهية قوله من قصيدة مطلعها:
ما هبت الريح بريح الرند ... إلا أثارت ساكناً من وجدي
وما بدا رعد الحمى الأهمي ... دمعي دماً مخدداً للخد
وإن تلح بارقة جاوبها ... من خفقان القلب أي رعد
أواه واشوقاه هل من حيلة ... إلى لقاكم يا أهيل ودي
غادرتموني نازحا والقلب من ... ي خافقاً مثل سهيل الفرد
بأي حكم زمن ولم أحل ... عن عقد عهد كم نقضتم عهدي
بين الهوى والقلب حرب داحس ... والسلم بين مقلتي والسهد
من أجل ظبي مهجتي كناسه ... وليس حظي منه غير الصد
كالماء رق جسمه لكنه ... يحمل قلباً قاسياً كالصلد
أمير حسن ماله جماله ... وحوله عشاقه كالجند
إن سل سيف غنجه من جفنه ... قام له قلبي مقام الغمد
أخرني على علو رتبتي ... كأنه يرقمني بالهندي
ينصف غيري غير أنه يرى ال ... إنصاف إن يقتلني بالعمد
قد قلد ابن البارزي ردفه ... وخده يقلد ابن الوردي
نفسي ومن تحت السماء له الغدا ... فإن أبوافبي حبيبي وحدي
بالله يا مالك رقي حسنه ... عذب بما تشاء غير البعد
وحق عينيك وذلي الذي ... ألبسني العز وكل المجد
وصبح غرة هداني للهوى ... وليل طرة أضاع رشدي
لا حلت عن حبيك في الدنيا وفي الأ ... خرى أراه مؤنسي في لحدي
وقوله من أخرى مستهلها:
قفي ودعي يا ربة الأعين النجل ... فكم من تباريح الهوى بارح العقل
ولا تمنعيه اللحظ إن لم يكن وفا ... إذا عز وبل لا أقل من الظل
صددت فعاينت الردى غير أنني ... تأسيت بالعشاق فيك الآلى قبلي
ونعاسه العينين يقظانة الجفا ... مفرغة الهميان ملآنة الحجل
يفرع دجى من فوق فرق كأنه ... صباح وجسم ملء أثوابه عبل
وظلم كراج لم يدنسه عاصر ... وطرف كحيل صبغة الله لا الكحل
دعاني لدين العشق مرسل فرعها ... وما مذهبي إلا هوى الشادن الطفل
حبيب أرانا الله في عصرنا به ... حلي يوسف الصديق في الحسن والشكل
بوجه علي قد على ردفه علا ... كبدر على غصن على نقوى رمل
بخديه تفاحي وعينيه نرجسي ... ومن ثغره راحي وألفاظه نقلي(2/478)
رنا لي بطرف ساحر لو رنا به ... سها كل ذي نسك عن الفرض والنفل
ترى من غدا في السحر أستاذ طرفه ... فهاروث لم يقدر على ذلك الفعل
نظرت له يوماً فأدميت خده ... وما خلته يقتص في الجرح بالقتل
لعمري لقد أبكيت عيني وإن أمت ... بكت لا بكت عيناك في الأجل من أجلي
أتقتل نفساً حرم الله قتلها ... ولم تخش من شكواي للحاكم العدل
وقوله من أخرى مبدؤها:
حتام واخيبة المسعى أرى قدمي ... يسعى لمن في رضى الواشي أراق دمي
يبيت في الليل ملآن الجفون كرى ... وليلتي فيه ساهي الطرف لم أنم
لم أقض من حبه في حبه وطرا ... بلى قضيت أسى من هجره الوخم
أعارني خصره ثوب النحول ومن ... لحظيه كان كساني حلتي سقم
وليس دمعي عليه راقئا وبدت ... عقارب الصدغ شبه الخط في اللقم
ريم من الروم ما أزرى بوجنته ... من عارض غير خط الله لا القلم
ونافطار فؤادي نحو ناظره ... كان الشقافي السقا كالسم في الدسم
آهالها نظرة كانت شقاي بلى ... دم على ما ترى في خد ريمهم
ما فاض دمعي إلا افتر مبسمه ... كالزهر يبسم زهواً من بكا الديم
لو لم يكن غصنا ما كان قابلني ... من غيث دمعي بثغر منه مبتسم
ما أنبت اللحظ في خديه ورد حيا ... إلا وأثمر في جفني بالعنم
يا عاذلي دعاني من ملامكما ... في الحب فالعاشق المطبوع لم يلم
صبرا فآيات رايات السواد على ... عوارض الخد لاحت منه في العجم
لا كنت يا قلب كم تصبو على شبح ... صيرتني بعد زهدي عابد الصنم
حتام تصبوا لي الحور الحسان ولم ... تذكر خلودك في نيران هجرهم
صحا المحبون وانفضت عواذلهم ... وخلفوني صريع الوجد والألم
وقوله من أخرى أولها:
قد حركت طرب الغريب العاني ... كأس المدام الخندريس العاني
طافت بهالتها البدور يحثها ... نغمات إسحاق ورقص غواني
لو خامرت صلد الحجارة لاستحى ... أن لا يرى في خفة السكران
أو أشرقت من مدلهم دنانها ... ليلاً أزالت شبهة من ماني
مزجت بظلم سقاتها بيض الطلا ... سود الغدائر في اللباس القاني
وجآذر الآرام لا الآرام في ... صفة الشمس على غصون البان
من كل أشنب صاغه ريح الصبا ... ثمل بخمرة ريقه نشوان
ساد القبائل في صباه له على ... فتك الأسود تلفت الغزلان
قد ضرجت بدمائنا وجناته ... وسيوفه لم تنض من أجفان
يقوي غرام المستهام به إذا ... عبث المدام بعطفه الريان
آس العذار بجلنار خدوده ... منه تغار شقائق النعمان
في وجهه وحماه غاية بلغتي ... ونتيجة الأوطار والأوطان
قال وقلت في يوم سرور:
سقى الله يوم المرجان كما سقى ... وحيا فأحيا فيه ساق مقرطق
تجمع فيه كلما شئت باصر ... ولكنه مما يروق ويعشق
كؤس وساقوها وشرب ومشرب ... شموس وأقمار وغرب ومشرق
شغلنا عن التدريس فيه وحبذا ... منازلة الغزلان ذا اليوم أليق
ركبنا فحزت السبق في حلبة الهوى ... ففي اللهو لي طرف من الطرف أسبق
إلى حلة حيث الثريا قصورها ... يقصر عنها في النظام الخورنق
وصحبة قوم قد تشابه رقة ... حديثهم والبابلي المعتق
نعمت بهم والدهر لم يغف لحظه ... وراء ستور الغيم والغيم مطبق
حكى فوق عين الشمس أجفان نائم ... يفتحها بالبرق نحوي ويطبق(2/479)
ولو لم أكن في ظل يحيى أصابني ... صواعقه مع من أصيبوا فأحرقوا
فلا قلصت للحشر عني ظلاله ... ففيها كما نهوى نعيش ونرزق
قال وقلت أيضاً في يوم نوروز:
تنبه فوسنان الزهور تنبها ... وأفواهها افترت تسبح ربها
وقد وعظ الأيك الهزار فأخرجت ... أكفا بها تستغفر الله ربها
وشابهت الأرض السماء فزهرها ... كزهر وكان النجم بالنجم أشبها
وطاب الهوى حتى الغصون تعانقت ... كمحبوبة مالت تعانق حبها
وحيهل الصهبا بلال بلابل ... ففتح آذان الورود وقلبها
ورش الحيا ثوب الربى وشقيقه ... مجامره بالعنبر الرطب شبها
وما فتح الدهر الربيع يخال من ... يراه ثغورا كي يتم بهابها
ولكن رأى يحيى يفتح بالندى ... ثغوراً لنا في مدحه فتشبها
وقلت أيضاً ارتجالاً وقد ألبسني حلتني من ملبوسه الفاخر فخرجت أجر منهما ذيول المعالي والمفاخر:
ألبستنا المجد في الباسنا الحللا ... قشبا وأنسيتنا الأوطان والحللا
كسوتنا كسوة رحنا نجربها ... ذيل الفخار على أكفائنا خيلا
هذا وكم لك من أسداء مكرمة ... بها فضحت الندى والوابل الهطلا
يا من إذا جاد المعافي بما ملكت ... يداه ظن سخاء أنه بخلا
قبولنا منك فيض الفضل فيه لنا ... عز وفخر وأما من سواك فلا
وقلت أيضاً وقد توالت بالروم الأمطار والغيوم واستولت على القلب الأكدار والغموم.
يا رب قطر غزير القطر صيرني ... أعض كفي لما جئته أسفا
حسبت فيه رداء المجد يدفئني ... فلم أر المجد أغناني ولا الشرفا
كم ليلة خانها صبح كمصطبري ... وغيثها كدموعي بالعهود دوفا
دجت فلم يدر فيها الخل وجه أخ ... من بردها بل وجاري مائها وقفا
وكم نهار به ظل النهار ضحى ... حسبي من الوكف ما شاهدته وكفي
والشمس في فرو سنجاب السحاب بدت ... مريضة قلبها بالرعد قد رجفا
والأرض قد نسجت أيدي الرياح لها ... من شقة الوحل أخياط الحما لحفا
أما ترى بعد تفصيل البروق لها ... قوس الغمام لقطن الثلج قد ندفا
كأنه كف يحيى باللجين على ... أمثالنا من أهالي العلم والضعفا
لولا تلافيه كان البرد أتلفني ... فقد حماني وعني أتلف التلفا
ولم يزل يوصل الجدوى فضقت بها ... لأنها أثقلت من كاهلي كنفا
لا زال في برج سعد غير منقلب ... ونجم حاسده للحشر منكسفا
انتهى وقد ذكره الخفاجي في كتابيه وقال في حقه في الخبايا فاضل أديب وحبيب ابن حبيب وإذا طابت الأصول زكت الفروع وإذا صحا الجو أشرق بدره في الطلوع وقد ضمني وإياه عقد الاجتماع بعدما كانت درر مآثره مالت صدفة الأسماع فرأيت الناس في رجل والدهر في ساعه وجلى علي في سوق العروس أنفس بضاعة وشاهدت في مرآه سماته وجوه محاسن صفاته مما تقر به عيون المدائح وتنشرح له صدور المجالس وتطيب نفوس المكارم فطفت بكعبة فضائله ونزهت عيون المنى في رياض شمايله وانتشيت من صهبائه وتنقلت بإنشاده وإنشائه وما كل قول حسن ولا كل خضراء خضراء الدمن وشكرت دهراً لف شملي بشمله وعرفني بضالة الفضل في ظله ولم أقل إذ مد لي به أيادي الامتنان إن دهري يضن بالإحسان ثم أنشد له من شعره قوله مضمناً:
تقول سليمى بعدما تبت تبت عن ... هواي وعن ذي الخال لست بتائب
تواصل واوات بخد معذر ... وتجفو بلا ذنب ذوات الذوائب
إليك فإني لست ممن إذا اتقي ... عضاض الأفاعي نام فوق العقارب
وقوله من قصيدة في المديح:
يا من محياه يستسقي به المطر ... وعدله كاد ينسى عنده عمر
إن كنت تبغي بنار الهجر تجربتي ... إني على الخالتين العنبر والعطر(2/480)
وسوف ينبيك صبري في الجحيم على ... جفاك هل أنا ياقوت أم الحجر
أصله قول سعيد بن هاشم الخالدي:
تزيدني قسوة الأيام طيب ثنا ... كأنني المسك بين الفهر والحجر
وقول الآخر:
ألقني في لظى فإن غيرتني ... فتيقن إن لست بالياقوت
وقوله:
إن قسطنطينية طرفة الد ... نيا وبيمارستان هذا الوجود
ساكنوها مر ضى وزمن ... ي وأهلوها المجانين والطبيب يهودي
وقال الفيومي فيه روض آداب أو حوض ملىء بأعذب شراب حبر شمايله الصبا قد ساد من عصر الصبا سيد الأدبا فاق أقرانه أدبا وحسبا وله إنشاء وشعر كل منهما نضير وروض أدبه كله ربيع خضير ثم أورد له أبياتاً من جملة قصيدة تائية قالها في مدح أستاذه المولى يحيى المذكور وقد عارض بها قصيدة للشهاب أحمد الفيومي المصري وهي أيضاً في مدح المولى المذكور ومطلع قصيدة التقي:
حسب المعنى عيون بابليات ... لكسرها في جيوش الصبر كسرات
بالضعف تقوى على إهلاك عاشقها ... يا للرجال ضعيفات قويات
من كل ساق بيمناه ومقلته ... كأن عينيه للعشاق حانات
وأول قصيدة الفيومي:
بدت لمدحي وآدابي براعات ... معنية بالتهاني مستهلات
والوقت صاف ومن أهواه بعد قلي ... وافي وكان له من قبل نفرات
بدر على المشتري يعلو وغرته ... كزهرة وله في الخدر زهرات
فالطرف مشرقه والقلب مغربه ... بدا له فيه اشراق وطلعات
وقوله وفيه حسن الأتباع:
وما في البدر معنى منه إلا ... قلامة ظفره مثل الهلال
وقد تبع فيه ابن المعتز في قوله:
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدت من الظفر
وقبله:
وجاءني في قميص الليل مستترا ... يستعجل الخطو من خوف ومن حذر
وابن المعتز أخذه من قول بعض العرب:
كأن ابن مزنتها جانحا ... فسيط لدى الأفق من خنصر
وابن مزنتها الهلال والفسيط بفتح الفاء وكسر السين المهملة قلامة الظفر وقد أبرز عبد البر الفيومي هذا المعنى في أدق مبني فقال:
ومذ رام الهلال وقد تعدى ... مشابهة له من غير قابل
أجاب قلمت من ظفري شبيها ... له ورميته فوق المزابل
ومن جيد شعر التقي قوله:
توهمته شمسا وكان يريبني ... نسيم الصبا منه ومن طبعها الحر
فلما دجا ليل العذار ولم يغب ... علمت وزالت شبهتي أنه البدر
ومحاسنه كثيرة وكانت وفاته بدمشق وهو مار إلى القدس في رجب سنة سبع وخمسين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من بلال الحبشي رضي الله تعالى عنه.
محمد بن عمر بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمود بن علي بن محمد بن محمد بن محمد ابن الحسين العرضي الحلبي أنا أقول في حقه أنه لم تنجب الشهباء من منذ بنيت بمثله كان من الفضل في مرتبة الآحاد ومن الأدب في مرتبة لا تنال بالاجتهاد وحاصل ما أقول إني عاشق له والعاشق معذور فيما يقول وهيات أن تستوعب مزاياه ولو فشا القول والمقول وكان له سيادة من جهة أمه فهو سيد قومه وقد ولي القضاء مدة طويلة ثم درس بالمدرسة الكلتاوية والسعيدية وولي افتاء الحنفية بحلب مدة سنين ثم سافر إلى الروم وأقام بها مدة مديدة وأخذ بها عنه الأدب جماعة من الصدور وقصة تولهه بغلام خمار ولزومه له مدة طويلة وهيمانه به وشغفه مما شاع واشتهر ولما مات أخوه أبو الوفا صار مكانه مفتي الشافعية بحلب وواعظاً بجامعها وحصل له جذب إلهي وتكلم في وعظه برموز ودقائق على لسان القوم ووعظ أربع مرات ثم مات وذكره الخفاجي وأجاد في مدحه وبث فضائله ثم قال وكتب لي مع هدية أهداها إلي:
مولاي من يوم لقياه الأغر غدا ... هدية من زمان قبل ضن بكا
لو كان تنصفني الأقدار آونة ... وكنت أنصف فيما أرتضيه لكا
لكنت أهدي لك الدنيا وزينتها ... والشمس والبدر والعيوق والفلكا
قال وأكل عندي برشا فلما انتشى قال:(2/481)
وما كان أكل البرش مولاي كي أرى ... بفرحة نشوان وغبطة مسرور
ولكنني كنت السليم ببينكم ... فكان لآلامي به بعض تحذير
وعلى هذا فانظر قوله في الصفرة التي وسط الورد:
أتظنون صفرة وسط ورد ... عبثا أظهرت لنا ألوانا
إنما خاف من ثألم قطع ... فاحتسي قبل قطعه زعفرانا
وفيه أيضاً لي:
فتح الورد في الرياض صباحا ... عندما قبل النسيم خدوده
بلع الزعفران فهو لهذا ... ضاحك شق من سرور بروده
وهذا فن من قرض الشعر من النوادر يسمى الإغراب وهو وصف ما لم يعهد وصفه وتشبيهه ومن أغرب ما مر لي فيه قول ابن رشيق في ضم الأصابع إشارة للتقليل:
قبلني محتشم شادن ... أحوج ما كنت لتقبيله
أومأ إذ حيا بأترجة ... عرفت فيها كنه تأويله
لما تطيرت بمعكوسها ... ضمت بناناً نحو تقليله
وأحسن منه قولي:
وأزرار ورد لم تفتح كأنها ... لمعنى بديع للأنام تشير
إلى أن أيام السرور قصيرة ... كأيام هذا الورد حين يزور
وذكره البديعي وقال في وصفه فاضل روض فضله أريج دبج حدائق معلوماته أدبه البهيج وشاعر رقت طباعه وكثر اختراعه وإبداعه يسترق القلوب بألفاظه الزاهرة ويسكر العقول بمعانيه الساحره ينظم فيأتي بكل عجيبه ويشنف الأسماع بكل غريبه وينثر فيفتض أبكار الدقائق بنظره الثاقب ويجلي غياهب المشكلات بفكره الصائب وقد تقمص جلابيب المعارف في عنفوان عمره فأسبغت عليه ظلها الوارف من ابتداء أمره وقد توجه إلى الروم مقدرا أن يبلغ كل مروم ولم يعلم أن الحظوظ ليست بالعلوم قال لما ضاقت رقاع بلادي ونفدت حقيبة زادي فوقت سهام الاحتيال وأجلت قداح الفال فكان معلاها السفر سفينة النجاة والظفر طفقت أتوكأ على عصا التسيار وأقتحم موارد القفار أفري فلاة يبعد دونها مسرى النعي وألطم خدود الأرض بأيدي المطي فكنت فتى قذفته رقة الحال على بريد النوى واعتنقته الهمة العاقرة وألحقت بعزمه لو أقبح المنى أساير عساكر النجوم والأفلاك وقد ركز الليل رمح السماك فأنخت بمخيم المجد وقرارة ماء السعد كعبة الأفاضل إلا أنهم يحجون إليها كل آن وسوق عكاظهم إلا أنها تنصب فيها مصاقع الروم لا مصاقع عدنان فلما ألقتني فيها أرجوحة المقادير فإذا هي فلك العز ومطلع التدبير إلا أن حالي تقسمت فيها بين الاغتراب والاضطراب والاكتئاب أثلاثاً فأنزلت منها منازل إلا حسبتها علي أجداثاً وسقتني الدردي من أول دنها وسوء العشرة من باكورة فمنها كل هذا وأنا أستلين مس خشونتها وأسيغها على كدورتها وأقول إذا لم تتم الصدور فتتم العواقب وإن لم تريش القوادم فستريش الخوافي والجوانب ثم أنشد له قوله من قصيدة نبوية مطلعها:
سقى الله ذات الشيح والعلم الفردا ... وحيا الحيا وجه البشامة والرندا
وما طلبي السقيا لها عن ظما بها ... ولكن بسقياها بقلبي أرى بردا
ومنها:
وحلت خيوط الغاديات يد الصبا ... على أنها من قبل قد أحكمت عقدا
وقد أوقدت في مجمر الزهر عنبرا ... يمين شمال من براد الندى أندى
ذكرت بها ريا الحبيب وساعة ... بها ابيض وجه الدهر من بعد ما اسودا
حبيب زنت عيني بعين جماله ... فصيرت تزويج السهاد لها حدا
ومنها:
وقربني منه وأخشى بعاده ... قرب اقتراب جر من بعده بعدا
كسهم الرمايا كلما ازداد قربه ... إلى صدر رامية تباعد وامتدا
وهذا معنى مطروق ومن ظريفه:
مدت إلي يدا تودعني ... فدنا إليها المغرم الصب
كالسهم راميه يقربه ... ولأجل بعد ذلك القرب
ومنها:
ترى تمتري عشب الحجاز رواحلي ... وتلطم أيديها وجوه الفلا وخدا
وله من نبوية أخرى:
ما زلت حساناً له ولبيته ... ولصخر ذاك البيت كالخنساء
أبكى البقيع وساكنيه وليتني ... كنت المخضب دونهم بدماء
وله من أخرى:(2/482)
مذ نشرت صحيفة البيد سرى ... رسمت بالمنسم واو اللنوى
ومن أخرى:
هاب القريض مديحه ... فانشق أنصافا سطوره
وهو معنى مبتكر لطيف إلى الغاية وله:
أيها الريم هل تريم بنظره ... علّ يصحو الفؤاد من بعد سكره
بأبي أنت غصن بان تثنى ... وغدا يمزج الدلال بخطره
ألف القد زانها نقطة الخ ... ال فأضحى وواحد الحسن عشره
قلت هي حسنة والحسنة بعشر أمثالها:
شارب أخضر وبيض ثنايا ... سودا وجه عيشتي بعد خضره
أنت زهر غض وقلبي كمام ... فلمذا أوقدت بيتك جمره
قلت ومن شعره قوله:
لم يبق مني هوى ذاك الغزال سوى ... بقية من حياة نازعت بدني
فسين طرته معنون حاجبه ... كلاهما سن لي سيفا من المحن
هذا من التوليد الحسن فإنه ولد من الطرة والحاجب لفظة سن ومثله لبعض الشعراء:
كيف لا يسرق العقول وذا العار ... ض واللحظ منه لام وصاد
وهو مأخوذ من قول بعض ظرفاء العجم قال الزكي بن أبي الأصبع في تحرير التحبير إن أغرب ما سمعت في التوليد:
كأن عذاره في الخدلام ... ومبسمه الشهي العذب صاد
وطرة شعره ليل بهيم ... فلا عجب إذا سرق الرقاد
فإنه ولد من تشبيه العذار باللام وتشبيه الفم بالصاد لفظة لص وولد من معناها تشبيه الطرة بالليل وذكر سرقة النوم فحصل توليد واغراب وإدماج وله:
روحي الفداء لظبي ذبت فيه أسى ... مؤنس الطرف وسنان بلا وسن
لم أنس إذ قام للتوديع وانبسطت ... يد الفراق لقطع الشمل بالمحن
يقول والدمع في الآماق يخنقه ... يا ليت معرفتي إياك لم تكن
وله:
وجهه كعبة حسن ... ولماه ماء زمزم
خلت ذاك الخال منه ... حجر الأسود يلثم(2/483)
وقد وقفت على أنموذج من شعره أظنه من جمعه وفيه كل نادرة وتحفة ساحرة فاخترت منه جله لهذا الكتاب وأرجو أن لا يقال طال به بل طاب وقد صدره بهذه الديباجة الآتية من إنشائه النفيس وجعلها مقدمة لرسالة أهداها لشيخ الإسلام مصطفى الشهير ببالي زاده في فتح قلعة ينوه على يد الوزير الأعظم محمد باشا الكوبري في سنة ثمان وستين وألف فقال سبحان من جعل اندفاق امداده لأوليائه وفيضه الإلهي غير مشوب بانقطاع ولا امتناع مع أنه منظوم في سلك المسلسل الغير متناهي وإن كبت جياد هممهم في بعض الأحيان تداركها لطفه بنشاط فيكون لها السبق والأحراز في حومة الميدان فلا تزال خيولها بالمراح كالسيول متدفقة وكمائمها في حدائق الكون عن نوار النجاح متفتقه والصلاة والسلام على من جعل الله به للعرب الفخر الأشب وحوز بحبوحة النسب والنشب فأنزلهم من غوارب الضوامر وأركبهم متون الأسرة والمنابر فلهم به الفحار البكر على سائر القبائل والأمم فاستأسرت لهم مماليك وعبيداً ملوك الديلم والعجم رفع الله به منار الدين وقطع دابر القوم الكافرين فالإسلام وإن بدىء بالذلة والاغتراب فسيعود عزيزاً وينقلب نحاس أربابه لدى السبك ذهباً إبريزا وعلى آله وسائط القلائد واللآلى الفرائد وأصحابه مصابيح الدجى وشموس الضحى ونجوم الليل إذا سجى وبعد فلما برز الأذن الإلهي بتبرج الفتوحات الإسلامية من خدور الغيوب وجالت أفراس الأفراح تركض في ميادين القلوب ودبت حميا المسرة في الضمائر وقامت خطباء الأقلام تصدح بالبشائر وهدرت شقا شقها من أنامل الكتاب على المنابر وزرفنت في وجنات الصفحات بالمداد الغوالي تشرح ما كتبته في صدور الكفرة صدور العوالي وذلك بإقبال ظل الله في الأرض الفائض من وجه البسيطة على الطول والعرض واسطة عقد ملوك آل عثمان لا زالت الأمور متسقة النظام ما قام له كل يوم ديوان وإقدام حضرة الصدر الكبير القائم بأعباء الرأي والتدبير من هو من فلك الوزارة بمنزلة النير الأعظم من بين الكواكب السياره ويمن حضرة شيخ الإسلام ودرة تاج الملك وفص الختام بكر عطارد العلم وثاني الفرقد ومن هو من بين جواهر الذات در التقاصير والزبرجد لا زالت غرة المجد شادخة في جبينه وقلم الفتيا راكعاً وساجداً في محراب يمينه عن لي نظم أبيات براعتها التهنئة بهذا الفتح المبين وختامها تاريخه من الهجرة النبوية بالسنين ضاماً إلى ذلك رسائل علمية تبحث عن اسمه الشريف فقط وهي وإن لم تبلغ الذروة العليا من التحقيق لكنها كما قيل خير الأمور الوسط وهي لما كانت كالمولود الجديد من بين بنيات الصدر تستحق التسمية كما تستحق الرضاح والدر سميتها بمنهل الصفا على اسم المصطفى لا زال لمسماه من هذا الاسم نصيب أنه سبحانه قريب مجيب ثم قال فلنبدأ أولاً بالقصيدة وهي هذه:
قبول يرود ويتلوه نجيح ... وأيد لتسآل قصد تلح
فأهلا بنشر بشير أتي ... يضمخ من مسكه الروع جنح
كأن الخزامى وشيح الربى ... متون وريح الصبا ذاك شرح
فلله بكر قد افتصها ... مهندة وسنان ورمح
وعهدي بها هامة للجبال ... فأضحت بتمهيدها وهي سفح
وكم طرف طرف كبا دونها ... له في بحار الميادين سبح
ولكن بإقبال سلطاننا ... تزول الرواسي وينهد صرح
مليك بكلكله قد أناخ ... فانقاد صعب وانزاح جمح
ونكس أعلام كفرعتت ... ولما شقها عاد صلح
فعيد شعانينهم مأتم ... عليهم وأبكم قد عاد فصح
ففي مهرق الأرض أمسوا كخط ... سقيم له صارم الدين يمحو
قد استله يمن سلطاننا ... وتدبير صدر توخاه نصح
وإقبال شيخ لإسلامنا ... تخطى المعالي وحاشاه كدح
تصدر رغما لأنف العذا ... ولكن به قر طرف وكشح
تقدم من قبله معشر ... هم لليالي ذنوب وقبح
مضوا قبله كبهيم الدجى ... وقد جاء من بعدهم وهو صج
ولا بدع أقلامه إن جرت ... بغالية النفس والنفس شح
فصحف فتاويه من حسنها ... خدود العذارى عليهن رشح(2/484)
ولله سر بدا في علاه ... ومنذ تولى تولاه مدح
وحتى أعاديه لم ينطقوا ... بذم وإن نابهم منه ذبح
يراعي قد طاش في مدحه ... وثنى العنان إلى الفتح مرح
فلله فتح مبين إذا ... وما هو إلا من الله منح
لذا أنشأ الحال تاريخه ... لنصر من الله حم وفتح
وقال وهي من غرره:
تألق البرق لي سلاسل ... قلت وشاح على المنازل
أو شرد الطيف عن جفوني ... فامتد منهاله حبائل
أو أنها قد حكت عشورا ... أخذت منها فالألقابل
أو صارم والسماء قين ... غدا لها بالنسيم صاقل
ذكرني بالوميض خصرا ... جال به للنطاق جائل
أو أنه ابتسام ثغر ... فيه شفاء لكل ناهل
بل طلعة العالم المفدى ... عين المعالي صدر الأفاضل
درة تاج المليك يزهو ... جيد به للزمان عاطل
يراعه مثمر المعالي ... يصيب منه الشبا الشواكل
أن يسقه النقس فهو غصن ... يضوع منه شذا الخمائل
صريره مطرب قضاة ... ما بين راج منهم وآمل
ثاني عصاة الكليم تجري ... لنا أنابيبه جداول
ولفظه عنبر بشحر ... يقذفه البحر للسواحل
أنجب دهر به أتانا ... رضيع ضرع العلوم حافل
وكان من قبله عقيماً ... كذاك ليلاته حوائل
فليهننا طالبي نداه ... فزنا ورب الورى بطائل
أعاد أفراد من تقضى ... كالصاحب الشهم وابن وائل
إن رمد الطرس من جهول ... فهو بميل اليراع كاحل
أعر لقولي مولاي سمعا ... أشكوك دهراً علي حامل
قطع أسبابنا اللواتي ... كانت لحاجاتنا وسائل
تلا محياك لي سطورا ... فيها نجاح لكل سائل
ومما أورده قوله في الرثا:
لك الله من غاد يسير بلا عزم ... ومغترب في أهله والحمى المحمي
ومن راقد ليست له هيئة الكرى ... ونشوان راح لا من التمر والكرم
فكم ناشد منا ويدري مكانه ... فهلا وجدنا ما نشدناه في الرسم
حبيب فقدنا منه نجم سعوده ... وكوكبه الوضاح بل قمر التم
أقامت عليه الكائنات مآتما ... فدمع السحاب الجون من بعده يهمي
والبس أثواب الحداد الدجى أسى ... وبدر الدجى في وجهه أثر اللطم
وقد حلقت رأساً وألقت جلابباً ... وشقت جيوبا روضة جادها الوسمي
وقد لبست ثوب الصدار سماؤنا ... بغيم وليس الغيم إلا من الغم
وصكت بنعل الفرقدين صدورها ... فمن زرقة قد أثرت الختم
عجبت له وهو الضنين بنفسه ... يحارب عنها كيف يجنح للسلم
بنينا المراثي بعده وبيوتها ... وقد صار منه هيكل الجسم للهدم
عزاء بني الأمجاد والشرف الجم ... وصبراً جميلاً لا يقبح بالأثم
فسيف القضاء الحتم لا يسلب المضا ... يصول بلا ذنب ويسطو بلا جرم
وما أمهات الخلق إلا صوائر ... بثكل وما الأبناء إلا إلى اليتم
لقد أنتج الآباء أشكالنا سدى ... فيا ليت ذا الإنتاج بدل بالعقم
فيا رب أسكنه الجنان ممتعا ... وأسبل عليه ستر غفرانك الجم
وأبدله عن هذي الرسوم وأهلها ... قصوراً وحوراً قاصرات بلا نقم
وقوله من قصيدة وهي من تحائفه:
على أثلاث الواديين سلام ... وبعض تحايا الزائرين غرام
تذكرت أيامي بها وأحبتي ... إذا العيش غض والزمان غلام
والمامتي بالحي حيث تواجهت ... قصور بأكناف الحمى وخيام(2/485)
ألام على هجرانهم وهم المنى ... وكيف يقيم الحر وهو يضام
هم شرعوا أن الجفاء محلل ... وهم حكموا أن الوفاء حرام
وأبلج أما وجهه حين يجتلي ... فشمس وأما كفه فغمام
جرى طائري منه سنيحا فعلني ... بدر أياد ما لهن فطام
شردت عليه غير جاحد نعمة ... أكلف خسفا بعده وأسام
وقد يسلب الرأي الفتي وهو حازم ... وينبو غرار السيف وهو حسام
فقد وجد الواشون سوقا ونفقوا ... بضائع زور ما لهنّ دوام
وبعض كلام القائلين تزيد ... وبعض قبول السامعين أثام
فأصبح شمل الأنس وهو مبدد ... لديه وحبل القرب وهو ذمام
يقرب دوني من شهدت وغيبوا ... ويوصل قبلي من سهرت وناموا
تزاو رحتي ما يرجى التفاته ... وأعرض حتى ما يرد سلام
فلا عطف إلا لحظة وتنكر ... ولا رد إلا ضجرة وسآم
قال ومما نسجته في حلية من نسج عليه العنكبوب من حليته الشريفة وهو مثبوت:
استمع حلية النبي المكنى ... من لآل فرائد ذات معنى
أبيض اللون أنفه كان أقنى ... ذو جبين طلق وأفرق سنا
خافض الطرف هيبة وحياء ... وله حاجب أزج مثنى
وكثيف اللحى مجمع شعرا ... أسود العين كاسر لك جفنا
هدب عينيه مثل أقدام نسر ... وله راحة غدت وهي تثنى
مثل مارق أنملا رق قلبا ... مثلما طال أيديا طال منا
بالسطر من فوق مهرق صدر ... من شعور كالخز لينا وحسنا
إن يسر سار جملة كانحطاط ... من علو يجوز ركنا فركنا
كامل القد لم يسايره قرن ... في مداه ألا تراه أرجحنا
وإذا رام في مجالسه القو ... ل بنصح فيوزن اللفظ وزنا
دائم الفكر مظهر لسرور ... في محياه وهو يكتم حزنا
فعليه الصلاة كل مساء ... وصباح ما صيغ في القول معنى
وله ملغزاً في عيد وكتب بها إلى السيد بكر بن النقيب المقدم ذكره:
رعى الله ظبياً في الحشاشة مرعاه ... وحياه قلب لم يفارق محياه
بوجه له اختطت محاريب حاجب ... أطلت صلاة اللحظ فيها لمرآه
وقام بلال الخال فيها مراقبا ... صباح جبين لا تغيب ثرياه
ولم أنس إذ جاذبته طرف المنى ... وقد نظمت عقد التهاني ثناياه
بجنح دجى من قبل نبت عذاره ... تسربل في شيب من الصبح خداه
وقد طلعت فيه شموس كؤوسنا ... كما أطلعت نجل الشهابي دنياه
نجيب لعين المجد أصبح قرة ... وأمسى قذاة في نواظر أعداه
ولا بدع أن يطوى له سبب العلا ... وينشر في سوق المفاخر رداه
فمن كان من نسل الشهابي عطارد ... سيملك من قدح المعالي معلاه
فيا بكر بشرى أنت بكر عطارد ... ومن لم تقف في حومة البحث خيلاه
لقد جاش في صدري مباراة طبعكم ... وصقل يماني له لأن متناه
فما اسم حكى النعمان في يوم بؤسه ... ويوم نعيم يستطار لنعماه
يريق دما من ليس يجني على الورى ... ويطعم أخرى جائعاً من تلقاه
وليس من الأجسام لكن له يد ... وعين على مر الجديدين ترعاه
إذا صحفوه فهو عبد مقيد ... إذا أطلقوه كان مولى بمولاه
فجد بجواب نستضىء بنوره ... ونقطف ازهار الأماني جدواه
بقيت بأفق الفضل والمجد طالعاً ... يقول الذي يلقاكم ربك الله
وله في والد السيد بكر المذكور وهو السيد أحمد المار ذكره يشير إلى خال له كان يلقب بآلا وإلى غلام كان يهواه يعرف بصاحب الخال:(2/486)
من مبلغ عني الشهابي أحمدا ... نجل النقيب الشامخ المتعالي
لا تفخرن عليك بعد بقية ... ما لم تنلها لست بالمفضال
المرء يكرع من مناهل خاله ... وشراب آلا كالسراب الآل
لله قاضي دهرك العدل الذي ... أعطاك خالاً ثم صاحب خال
فبقدر ما تهواه من ذي الخال قد ... أعطيت عكس هواك عند الخالي
وله من مكاتبة كتبها وهو بالروم:
أيها القاصد العواصم من أكنا ... ف شهبائنا ذوات النطاق
إن لي حاجة إليك فهل أن ... ت ترى في وفائها خير راقي
قل لكان جامع طالما طار ... دت بالبحث فيه خيل الباق
لم جفوتم صبا لقد قذفته ... راحة البين فوق حوض العناق
فتلافوا فؤاده بكتاب ... فكتاب الأحباب نصف التلاقي
وله في الغلام الخمار الذي كان يهواه:
مهلا فعيني من بكا ونحيب ... عميت وتوجني الهوى بمشيب
في حب بدر ما استضآت بوصله ... إلا وأعقبه الجفا بمغيب
أورد عيني عيسوي جماله ... إلا وأدركها العمى برقيب
وله فيه أيضاً:
وعصر بقسطينية قد قطعته ... على وفق ما قد كان في النفس والصدر
يميني بها كراسة أجتلي بها ... علوما لقد زاولتها غابر الدهر
أحرر منها في الطروس بدائعا ... فاملأ صدر القوم في الورد والصدر
وطوراً أحلى من زماني عاطلاً ... بعقد نظام صاغه صائغ الفكر
معان إذا ما الصر در دعي لها ... تراه بصر راح وهو بلا در
أضمنها سولى الحزبن ورقية الس ... ليم ومأخوذ من اللحظ بالسحر
وخمر شمالي للشمول متابع ... إذا حثها الساقي أذاعت له سرى
من العبقريين الذين تحملوا ... نقى كلكل الزنار فوق وهي الخصر
إذا اعتم زرقاء اليمامة خلتها ... سماء بها قد لاح نور سنا البدر
وإن قام بين الشرب خلت قوامه ... قنا ألف قامت على وسط السطر
وإن أترع الكاسات خلت يمينه ... لجينا تحليها مقامع من تبر
وإن نظرته العين نظرة ذي هوى ... سقاني بكأس العين خمراً على خمر
وأدجو بليل من ذوائب شعره ... فيا رب هل في لثمتي الثغر من فجر
أفكر في يوم النوى ليلة اللقا ... فأذري دماء العين من حيث لا أدري
فأمسح في كافورة الجيد مقلتي ... عسى أن بالكافور دمعي لا يجري
فما زال في ثوب الخلاعة ظاهري ... وقلبي بذكر الله بقتر عن در
إلى أن قذفت الشرك عن صفو خاطري ... كما تقذف الأدناس عن لجة البحر
ومن غزلياته قوله:
الصخر رق لحالتي يا ذا الفتى ... مذ صرت خنساء وقلبي قد عتا
يأيها الريم الذي ألحاظه ... سلت على العشاق سيفا مصلتا
عطفا علي بنظرة أولفته ... إذ عادة الآرام أن تتلفتا
كم ذا أعاني فيك أهواء وكم ... أصلي بنيران الهوى وإلى متى
الله أعلم لم أبح بهواكم ... لكنما العينان فيها نمتا
أترى زماناً مر حلواً بالحمى ... هو عائد والعيش غض ثمتا
ما كان في ظبي الفراق وإنما ... قاضي الغرام علي ذلك أثبتا
كم ليلة للوصل قربت الكرى ... عطس الصباح ولم أجبه مشمتا
وعلى الذي نطق الكتاب بمدحه ... وأتى الخطاب له بسورة هل أتى
مني صلاة أجتني نوارها ... من جنة عيناي فيها نامتا
ومن بدائعه قوله من قصيدة:
ما الخال مسكافت في الأجياد ... بل أنه بقيا فتيت فؤادي
أو أنه شحرور روضة وجهه ... قد جاوبته بلابل الإنشاد(2/487)
أو عابد لبس المسوح وقد رقي ... من سحر عينيه بسورة صاد
وأقام في محراب حاجبه الهدى ... يحكي بلابلاً للصلاة ينادي
بل أنه كرة تجول بسالف ... كالسيف يسكن في حشا الأغماد
أو أن وجنته صحيفة مهرق ... قلم الإله أمدها بمداد
أو نقطة ولها العذار حمائل ... أو كالكمام بغصنه المياد
بل أنه حبب طفا وخدوده ... قدح تطفح من دم الأكباد
أو مركز والخد دائرة المنى ... خطت ببيكار الجمال البادي
بل حبة نصبت لصيد حشاشتي ... بل قطرة من نقس عبد الهادي
ومن مقاطيعه قوله:
ريحان خدك ناسخ ... ما خط ياقوت الخدود
وقع الغبار بها كما ... وقع الغبار على الورود
وقوله:
تلك الثنايا واشقائي بها ... باتت تريني عند لثمي الطريق
تبددت من غيرة عندها ... سبحة در نظمت من عقيق
وله:
يا ليلة طالت على عاشق ... بات من الوجد على جمر
كليلة الميلاد في طولها ... تسبح فيها العين بالقطر
كأنها ثكلى جنين لها ... أغر قد سمته بالفجر
وله في شريف:
لما تعمم بالخضراء ذو شرف ... قوامه صيغ من تبر ومن صلف
أيقظت صحبي وعين النجم ساهرة ... قوموا انظروا ويحكم للبدر في الشرف
وله:
ارفقوا فالفؤاد ليس بجلد ... وارحموا ذلتي وطول عويلي
إن شحاذ حسنكم وعيوني ... يا غناة الجمال كالكشكول
وله في يتيم:
إن ذاك الرشأ الخشف الذي ... مات عنه والد فهو كظيم
زاده موت أبيه قيمة ... كان درا فغدا اليوم يتيم
وله في أرمد:
ذاك الذي طلت دمي عينه ... وراح يسمى أرمد الاسم
لما رآني لدمي ثائرا ... عصبها بالطرف المعلم
قولوا له يكشف عن عينه ... فإن فيها نقطا من دمي
وله في جراح
لحا الله الطبيب لقد تعدى ... وجاء لقلع ضرسك بالمحال
أعاق الظبي قد شلت يداه ... وسلط كلبتين على غزال
وله في حامل قنديل:
وشادن جاء والقنديل في يده ... ما بيننا وظلام الليل معتكر
كأنه فلك والماء فيه سما ... والنار شمس به والحامل القمر
وله في موشم:
أفدى غزالاً تعرى من ملابسه ... والجسم من ترف أضحى كفالوذج
كأنه وطراز الوشم داربه ... جسم من الدر فيه نقش فيروزج
وله:
إن خال الحبيب لما دهاني ... وشجاني منه الجفا والمطال
قلت إذ زاد نكهة وصفاء ... قم أرحنا بقبلة يا بلال
وله:
ويلاه من جيد كماء الحياه ... حف به زيق كشط الفراه
كأنما أطراقه حوله ... فوارة تمطر ماء الحياه
وله:
لم أزل من صحيفة القلب أملى ... في دجا الاغتراب سطر مثالك
ناصبا هدب جفن عيني شباكا ... فعسى أن أصيد طير خيالك
وله في العيون المستعارة للنظر:
قال لي الحب لم وضعت على الأن ... ف عيوناً وفي عيونك مقنع
قلت مذ خط كاتب الحسن في ثغ ... رك كحاجبين وأبدع
فجعلت العيون أربع على ... إن أرى يارشا حواجب أربع
وله:
وجنة كالشقيق مرآتها اليو ... م صفت من قذاة عين الرقيب
خضبت من دم الرقيب فما ... تبصر إلا تعلقت بالقلوب
وله:
عاب قوم شربي المدام ولا يد ... رون أن التعييب عين العيوب
جبر قلب الأقداح بالراح خير ... في اعتقادي من كسر كاس القلوب
ولما طال مكثه بالروم قال:
شيبت فود سيد الرسل هود ... ولقد شيبت فؤادي الروم
ورجع إلى وطنه فأخذ يندب أوقاته الماضية فما قاله في ذلك المعرض:
ما قصرت تلك الليالي التي ... في جنحها بت سمير الملاح(2/488)
لكن أشواقي لذاك الرشا ... ما عاجلتني خوف وشك البراح
شققت جيبا كالدجا حالكا ... عن صدره فانجاب لي عن صباح
وقال:
قد ألفت الهموم لما تجافت ... عن وصالي الأفراح وازددت كربه
فديار الهموم أوطاني الغر ... ودار الأفراح لي دار غربه
وقال:
ألا قل لقسطنطينية الروم إني ... أعادي لقسطنطين اسمك والرسما
لقد غيبته في الثرى غير واجد ... محبا يفاديه الحشاشة والجسما
وقد تركتني ساهر الطرف بعده ... مشتت شمل البال أرتقب النجما
سأهجر فيه خلة الكأس والهوى ... وأجتنب اللذات أن عدن لي خصما
وقال:
كان لي في الحظوظ بدرة عيش ... بدرتها يد الشبيبة نثرا
ليت حكم النهي حماها فكانت ... لي في فاقة الكهولة ذخرا
وقال:
قالوا عهدنا غصن عمر ... ك بالصبا تدنو قطوفه
فذوي بمغبر المشي ... ب وطالما روى نزيفه
فأجبتهم ضيف أل ... م بنا دجى لم لا نضيفه
وربيع ذاك العمر سا ... ر فليت لو يبقى خريفه
ولما لزم الزهادة شرع في عمل الأشعار المتعلقة بالإنكفاف والتوسل والمناجاة فمن جملة ما صنعه قوله:
دواتي كاسي والكتاب حديقتي ... وساقي مدام الفكر قام على قدم
صرير يراعي مطربي فكأنما ... سطوري أوتار ومضرابها القلم
وقوله:
ألا أن حبي لطول الحي ... اة ليس لأجل حظوظ مضاعه
ولكن لأشهد لطف الإله ... فأزداد شكر أو أزداد طاعه
وقوله:
أيا رب نفسي أتعبتني حظوظها ... وتسويلها الإيقاع في زلة القدم
فيا رب إن كنت الشقي تفعلها ... فما أنا إلا السن يقترع الندم
ولست بإياها وحاشاي إنني ... من الروح ذات القدس لي أوفر القسم
وقوله:
إليك رسول الله وجهت وجهتي ... وأرسيت في تيار بحر الرجا فلكي
فكن شافعي يا من يشفع في غد ... بستري في الدارين من فاضح الهتك
وقوله:
قيل لي كم وكم ترى تتمادى ... في الهوى والطريق وعرقصي
قلت ظني بالله ظن جميل ... وبخير الأنام جدي علي
إن لله رحمة تسع الخل ... ق جميعاً فمن هو العرضي
وكانت وفاته في صفر سنة إحدى وسبعين وألف وبلغ من العمر نحو ستين سنة.(2/489)
السيد محمد بن عمر العباسي الخلوتي الدمشقي الصالحي الحنبلي شيخنا في الطريق ولي الله ومعتقد الشام بنسب إلى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم من جهة والده والي الشيخ أبي عمر بن قدامة الحنبلي من جهة والدته كان شيخاً جليلاً من أكابر العارفين والأولياء المتمكنين أخذ الفقه عن الشهاب أحمد الوفائي المفلحي ومن شيوخه البرهان بن الأحدب الصالحي والنجم الغزي وأخذ الطريق عن الأستاذ العارف بالله تعالى أحمد العسالي لازمه بقرية عسال وتخرج به حتى صار خليفته من بعده وكان يؤثر الخمول على الظهور إلى أن أراد الله سبحانه ظهوره لما حبس الغيث عن دمشق سنة سبعين وألف واستسقى أهلها مرات فلم يمطروا وكان شيخنا رحمه الله تعالى لا يخرج معهم هضما لنفسه فأنطق الله بعض المجاذيب بأنكم إن أردتم الغيث فاستسقوا بالعباسي فأمره نائب الشام بالخروج للاستسقاء بهم فخرج وهو في غاية الخجل وقال اللهم إن هؤلاء عبادك قد أحسنوا الظن بي فلا تفضحني بينهم فأغيثوا من ساعتهم وما رجعوا إلى البلد إلا بمشقة من كثرة المطر واستمر المطر ثلاثة أيام فاشتهر عند ذلك ذكره ولم يمكنه أن يكتم أمره وأكبت عليه المريدون وتسلك به من أهل الطريق الصالحون وانتفع له الجم الغفير الذين لا يمكن حصرهم وأعطاهم الله تعالى حسن السمت والقبول ونور حالهم ببركته ودعائه وقد وفقني الله سبحانه وتعالى للأخذ عنه والتبرك بدعواته وكان يتحفني بامداداته الباطنية ثم انقطع عن الناس وكان لا يقبل من الحكام هدية ولا يتردد إليهم وكراماته كثيرة مشهورة منها أن بعض المجاورين بمكة من أهل دمشق رآه يصلي الأوقات الخمسة بالمسجد الحرام بالمقام الحنبلي وهو بالشام وكانت وفاته في سنة ست وسبعين عن سن عالية ودفن بمقبرة الفراديس وقبره معروف يزار.
محمد الباقر ابن عمر بن عقيل بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن جمل الليل محمد بن حسن اشتهر كسلفه حسن العالم العلامه البحر الحبر قال الشلي في ترجمته ولد بتريم وبها بتريم وبها نشأ وحفظ القرآن وأخذ العلم عن أخويه عقيل وعلوي والشيخ زين العابدين والشيخ عبد الرحمن العيدروسيين والشيخ عبد الله بن زين بافقيه وحضر درس الشيخ أحمد عيديد والشيخ أحمد أحمد بلفقيه ثم ارتحل إلى الحرمين الشريفين وحج وزار جده صلى الله عليه وسلم وأخذ بهما عن جماعة من السادة ودخل الهند واتصل بولاتها ثم رجع إلى بلده بالسلامة فلم تطب له فدخل الهند ثانياً وأقام بها زمناً طويلاً وأكثر في نواحيها الترداد يرحل من بلد إلى أخرى إلى تقدس نفس وذات ومداعبات مستلذات وحظي من العربية والأدب وتميز بهما نظماً ونثراً ومنحه الله تعالى مكارم الأخلاق قال الشلي في مشرعه اجتمعت به في الديار الهنديه وقد اجتمعت فيه الصفات العليه واشتملت على كرم الطباع شمايله ودلت على النجاح والفلاح مخائله فتعاشرنا معاشرة صدق ووفا وتواددنا وداد محبة وصفا ثم عاد إلى وطنه واستقر به النوى وألقى به من يده العصا ثم عكف على العلوم الصوفيه عكوف توبة على حب الاخيلية ولازم قراءة كتاب الأحياء ملازمة غيلان دارميه ولزم صحبة شيخ البلاد والعباد صاحب الإرشاد والإمداد السيد عبد الله بن علوي الحداد فحصل له الإسعاد وفتح الجواد وتجردهما كان من عليه من تلك الأوصاف ولم يتطلع إلى ما فوق الكفاف ولبس ثوب القناعة والعفاف فأسفرت له وجوه المحاسن سافرة النقب ظاهرة الجمال من وراء الحجب ولم يصادف إلا من قال له أهابك إجلالاً وناداه كل محب هكذا هكذا والإفلالاً وكان صدر المحافل إذا عقدت وصيرفي الأمور إذا انتقدت ولم يزل كذلك إلى أن مات وكانت ولادته في سنة سن وعشرين وألف وتوفي في تريم في سنة تسع وسبعين وألف ودفن بمقبرة زنبل.(2/490)
السيد محمد بن عمر بن يحيى بن الماسوي الرديني الحسني القطب العارف بالله تعالى المتوجه بكل كليته إلى مولاه أحاطت به المعرفة فظهرت منه العجائب وكان في بدايته مشتغلا قراءة القرآن مجداً في العبادة ثم أخذ باليمن عن شيوخ من السادة بني الأهدل وغيرهم ثم قدم الحرمين وجاور بهما سنين ولازم بالمدينة الصفي القشاشي وأخذ عنه وبه تخرج وانتفع كثيراً وكان القشاشي يشير إليه كثيراً ويقول في شأنه إذا ألبس السيد محمد أحداً خرقة فهي خرقة نبوية ورأى صاحب الترجمة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قائلاً له قدمك كقدمي ومسجدك كمسجدي ورأى بعض الصالحين في عالم الرؤيا أيضاً قائلاً يقول محمد صلى الله عليه وسلم أمين الله على خزائن الأرض ومحمد بن عمر أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يعتريه في بعض أوقاته حال يغيب فيه عن شعوره فيجلس اليوم واليومين مصطد ما لا يتكلم ومناقبه وكراماته لا يحصيها عد ولا يحيط بها حد واستمر على المجاهدة والصيام واطعام الطعام والإنفاق على الفقراء والإحسان إليهم بحيث أنه كان ينفق جميع ما يحصل له من بلاده ومزارعه على كثرتها ولما قربت وفاته قرأ من أول سورة الأنعام إلى قوله تعالى الله يعلم حيث يجعل رسالته ثم خرجت روحه وكانت وفاته يوم الخميس رابع شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وألف ودفن بقرية السنان بكسر السين من بلاد بني جل من أعمال الشرف من اليمن رحمه الله تعالى.
محمد بن عيسى المنعوت بشمس الدين الميموني المصري الشافعي أحد العلماء الكبار أخذ عن الشمس الرملي والشهاب البلقيني والشهاب أحمد بن قاسم والشيخ الفاضل الواعظ محمد شمس الدين الصفوي الشافعي والشيخ عبد الحميد السمهودي وغيرهم وأخذ عنه جماعة من العلماء وله من المؤلفات مختصر الآيات البينات تأليف شيخه ابن قاسم وبعض رسائل تتعلق بآيات شريفة قرآنيه وكانت ولادته في نيف وثلاثين وتسعمائة وتوفي في صفر سنة ثلاث وعشرين وألف ودفن بتربة المجاورين قاله الشيخ مدين القوصوني.
محمد بن فتح الله بن محمود بن محمد بن محمد بن حسن البيلوني الحلبي القاضي أبو مفلح كان غرة في جهة الفضل كثير الأدب راوية للشعر والوقائع خبيراً بصنعة النقد غواصاً على دقائق الأدب ولد بحلب وبها نشأ وتأدب بوالده فتح الله المقدم ذكره ورحل إلى الروم وسلك طريق القضاء فولي المناصب الستة في إقليم مصر وقد ذكره الفيومي في المنتزه فقال في وصفه فاضل ركعت أقلامه في المحابر وسجدت في محاريب الدفاتر فطرزت فلك الأوراق بما لذ وراق من نثر تغار منه النجوم وشعر كأنه عقد الدر المنظوم ثم أورد له قوله من قصيدة مطلعها:
وجه يقابلني لكنه قمر ... في الليل يطلع لكن ليله شعر
نظرته فسطا في القلب ناظره ... ورب حتف به قد أوقع النظر
لله ما صنعت بي وجنتاه ومن ... للنار يقرب لا ينفك يستعر
ظبي سبا اللب إلا أنه ملك ... من الملائك لكن طبعه بشر
ولم يزد على هذا القدر وأنا رأيت القصيدة في مدائح يحيى التي جمعها التقى فاخترت منها قدراً وهو:
علقته بدوياً راق منطقه ... ورق حتى استعارت دله أخر
للسحر من لحظه معنى بقوته ... عن العقول صواب الرأي مستتر
ما شاقني قبل رؤيا شكله قمر ... ولم يشم بعد ريا نعله عطر
جم المحاسن معسول الدلال له الق ... د الذي خصره لا يدرك البصر
لا عيب فيه سوى أن المحاسن من ... دون الأنام جميعاً فيه تنحصر
عن كأسه خده سل يا نديم لكي ... ينبيك أن الحميا منه تعتصر
وانظم محاسنه دراً كمبسمه ... منه كدمعك در اللفظ ينتثر
الله أكبر ما هذا الفتى بشر ... ولا تشاكله في ذاته الصور
لكنه سر صنع الله أبرازه ... فلا يحيط به عقل ولا فكر
كم ليلة بت والأشواق تلعب بي ... والفكر سامرني والنجم والسهر
تعذب القلب آمال الوصال دجى ... حتى فؤادي كضوء الصبح ينفجر
لا الحب دان ولا وعد أسربه ... ولا فؤاد عن الأشواق ينزجر(2/491)
إذا تذكرت أيامي الألى سلفت ... يسيل من عبراتي السهل والوعر
أيام أنسى التي كان الزمان بها ... في غفلة ليس تدري شانها الغير
وكلما خطرت أمنية قضيت ... ويكمل السعد لما يحصل الوطر
هذا الذي ذكره أنسى الحياة إلى ... أن صرت حيا مع الأموات ادكر
لا الشوق ينسى ولا دهري يعود بما ... قد كان منه وليس القلب يصطبر
لكنها حسرة تبدو لسفك دمي ... بها وإن دما أهل الهوى هدر
منها في المدح:
يكاد بدر الدجى ينمي لطلعته ... لو كان يمشي على وجه الثرى القمر
قضى الإله بأن يفدي بحاسده ... فما له حاسد باق له عمر
والدهر لو أنه ناواه لانقلصت ... ظلاله ورأينا الناس قد حشروا
وله من قصيدة أخرى أولها:
دمت يا مربع الأحبة تندي ... كاسياً بالزهور برداً فبردا
يا له مربعاً إذا جاده النو ... ء فساقي الصبوح يقطف وردا
وإذا انساب في جداوله الم ... اء حساما جلى النسيم الفرندا
جنة والغصون في حلل الأزه ... ار حور بها ترنح قدا
وتهادى معاطف البان سكرا ... بتهادي العناق أخذا وردا
وتدير الصبا كؤوس شذا الن ... ور على نعمة البلابل سردا
كيف جزت الطريق جوزا ومن خ ... وفك دمعي بالسيل يسلك سدا
لو رعيت العهود أحسنت لكن ... قلما تحفظ المليحة عهدا
وله من أخرى مطلعها:
صبابة اصطبار يضمرها ... ومهجة لا خليل يعذرها
ودمعة لا الزفير ينضبها ... وزفرة لا الدموع تضمرها
وعشقة قد أبان أولها ... إن هلاك المحب آخرها
فكل نار إذا علت خمدت ... سوى التي جمره تسعرها
ويح جريح اللحاظ علته ... في الطب حيث الطبيب خنجرها
تبات عين الحبيب ليلته ... كالنجم لكن أبيت أسهرها
لولا الكرى قامت مرنحة ... لم تك أيدي الجفون تهصرها
لي زفرة لم أزل أصعدها ... ودمعة لم أزل أقطرها
ما العشق إلا كالكيمياء أنا ... دون جميع الأنام جابرها
تبسم إن كلمت مشاكلها ... ودر دمعي غدا يناظرها
هيفاء ما الغصن مثل قامتها ... لكن أعطافه أشايرها
أعشق من أجلها الكثيب إذا ... تضم أمثاله مآزرها
وأحسد البدر في محبتها ... فغيره لا يكاد ينظرها
وألثم المسك والعبير عسى ... يكون مما فتت ظفائرها
لله ما في الهوى أعالج من ... لواعج في الهوى أصابرها
يا حبذا خلسة ظفرت بها ... في غفلة للزمان أشكرها
حيث لعهد غدت تمديدا ... لم تدر أسرارها أساورها
يسألها خاطري الوصال ولا ... يجيب عنه إلا خواطرها
ليت ليالي الوصال لو رجعت ... أو ليت قلبي معي فيذكرها
ومن مقطوعاته قوله:
لا تلم من شكا الزمان وإن لم ... تشف شكواه علة المجهود
إنما يحوج الكرام لشكوى ... شوق ما في طباعهم من جود
وله غير ذلك وكانت وفاته في سنة خمس وثمانين وألف والبيلوني تقدم الكلام عليها في ترجمة والده.(2/492)
الأمير محمد بن فروخ أمير الحاج الشامي النابلسي المولد أحد شجعان الدنيا المشهورين وكرمائها المذكورين كان من أمره أنه لما رحل أبوه بالحج وهو أمير في سنة موته وهي سنة ثلاثين وألف ترك ابنه محمد هذا في نابلس مبعداً عنه لنفرة كانت بينهما وفوض أمر حكومة القدس ونابلس لمملوك له يدعي يوسف وكان يحبه فأشار عليه بعض أتباع أبيه بقتل يوسف في غيبة والده فقتله وقام مقامه فوقع خوفه في قلوب أهالي تلك البلاد وهابوه واتفق موت والده فسافر إلى الروم واجتمع بالوزير الأعظم مره حسين باشا وكان بينه وبين والده حقوق قديمة فولاه إمارة الحاج وقدم إلى دمشق وسار بالحجيج في سنة إحدى وثلاثين وأرهب العربان وكبر صيته واشتهر خبره وبقي في الإمارة مدة ثماني عشرة سنة وشهرته تتضاعف وأخباره تتزايد وبلغت رهبته في قلوب العربان إلى أنهم كانوا إذا أرادوا يخوفون أحداً منهم يقولون ها ابن فروخ أقبل فتتلوى قوائمه وإلى ذلك أشار فتح الله بن النحاس في قصيدته المشهورة التي مدحه بها بقوله:
وإذا قيل ابن فروخ أتى ... سقطوا لو أن ذاك القول مزح
وهذه القصيدة من أحسن المحاسن الشعر وأعذبه ومطلعها:
بات ساجي الطرف والشوق يلح ... والدجا إن يمض جنح يأت جنح
وغزلها مشهور متداول فلهذا تركته وأما مديحها فمنه قوله في وصفه:
بطل لو شاء تمزيق الدجا ... لأتاه من عمود الصبح رمح
كم سطور بالقنا يكتبها ... وسطور بلسان السيف يمحو
بأبي أفدى أميري أنه ... صادق الطعن جرى القلب سمح
كلما قد قيل في ترجيحه ... في الندى أو في الوغى فهو الأصح
يا عروس الخيل والسيف له ... في قراع الخيل والأبطال صدح
يا راحة الخيل والخيل لها ... في حياض الموت بالفرسان سبح
حط سيف الجود في حظي الذي ... هو كالدهر يمني ويشح
طالع الإدبار ما لي وله ... إن يكن من كوكب الإقبال لمح
وكان على ما مكن له من الطول الطائل يتفرغ للأدب وكان يحفظ من الأشعار والأخبار شيئاً كثيراً وروي أنه كان يحفظ مقامات الحريري وكان فكه الطبع مائلاً إلى الغناء وأرباب الموسيقة وهو في الشجاعة ممن لم ير نظيره في عصره وللناس فيه مدائح كثيرة فمن ذلك هذه الأبيات قالها فيها الإمام الهمام عبد الرحمن العمادي المفتي:
محمد باشانا ابن فروخ من له ... عجائب شاعت من عظيم نعاله
فكم طعنات أقصدت من رماحه ... وكم رشقات أنفذت من نباله
شهدنا وشاهدنا له في حديدة ... منافذ سهم خارقاً من نصاله
إذا كان هذا في الحديد فعاله ... فما حال أجساد العدي في قتاله
وما ذاك فعل السهم بل فعل ساعد ... يساعده الرامي بقوة حاله
وللأمير المنجكي فيه:
أميرنا لا برحت في رتب ... ينحط عن دون بعضها الفلك
بيكلر بكيا سموك مظلمة ... وأنت بالمجد والعلى ملك
إذا طويت الكتاب تنفذه ... إلى العدى قبل فضه هلكوا
وإن قصدت النفوس تبذرها ... تركت طير المنون تحتبك
سلكت بيض الوجوه أودية ... رأيك لولاه قط ما سلكوا
عبيد نعماك أينما ذهبوا ... حاز والمعالي وللمنى ملكوا
زهد قلب المشوق بأسهم ... حب الغواني يعيده النسك
من كل زمر إذا بعثت به ... قام به في العداة معترك
يحمده الذئب في الفلاة وفي الج ... و نسور والأبحر السمك
حار لساني فما يقول ترى ... أنت مليك الزمان أم ملك
حويت كل الفخار منفردا ... وفي سواك الفخار مشترك
وله فيه أبيات أخر مطلعها:
يا ربع كم لك من شجى هالك ... مغرى بجؤ ذرك المصون الهاتك
لست الملول وإن رددت مآربي ... ممنوعة وهواك ليس بتاركي
أوقفت دمعي في عراصك بعدما ... سد الجوى إلا إليك مسالكي(2/493)
عهدي وشمل السعد فيك منضد ... والعيش يبسم عن ثنايا ضاحك
وعليك من وجه الأمير بشاشة ... أفديه من وجه أغر مبارك
ملك جناحا خيله ورماحه ... يوم الوغى من فتية وملائك
تمشي الفوارس تحت أمر ركابه ... طوع القياد فيا له من مالك
وأقل عبد من شراء هباته ... مأوى الطريد وقبلة للسالك
يأيها المولى الذي قد دبرت ... آراؤه الدنيا بحسن تدارك
قلدت أعناق العداة مكارما ... بحسامك الحق الجلي الفاتك
ومحوت من صحف الحياة نفوسهم ... محو الصباح ظلام ليل حالك
تخذوا سهامك في الجسوم أمارة ... فنجوا بيمن جادها من مالك
لم يكفروا نعماك لكن ساقهم ... قدر الإله لورطة ومهالك
وكانت وفاته في سنة ثمان وأربعين وألف بنابلس ودفن بها وخلفه ولدان له علي وعساف وكلاهما وليا الإمارة فالأول وليها سنة واحدة ولا أتحقق موته في أي سنة كان والثاني وليها مرات وتوفي وهو متوجه إلى الروم بقونيه في سنة إحدى وثمانين وألف.
محمد بن فضل الله البرهانبوري نسبة لبرهانبور بلدة عظيمة بالهند الصوفي الهندي سلطن الصوفية في عصره كان إماماً عالماً زاهداً عابداً ورعاً اشتهر في الهند الشهرة العظيمة وبلغ في ذلك مبلغاً لم يبلغه أحد وذلك أنه كان يحاسب نفسه كل يوم في آخر نهاره وكان من طريقته أن يكتب جميع ما وقع منه وتصرف فيه وكان عظيم الخوف من الله تعالى يتوقع الموت في كل وقت وبالجملة فإنه كان من أسياد الصوفية وحجتهم وبطانة خالصة العلماء بالقول والفعل سالكاً محجتهم وكان من أكابر القائلين بالوحدة الوجودية وألف فيها رسالة سماها التحفة المرسلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان فراغه منها في سنة تسع وتسعين وتسعمائة وشرحها شرحاً لطيفاً أتى فيه بالعجب العجاب واعتذر فيه عما يقع من محققي الصوفية من الشطح الموهم خلاف الصواب اعتذاراً يقبله من أراد الله تعالى له الزلفي وحسن المآب وممن تولى شرحها أيضاً الأستاذ رأس المحققين إبراهيم بن حسن الكوراني نزيل المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام ومن شيوخ صاحب الترجمة الشيخ وجيه الدين بن القاضي نصر الله العلوي الأحمد أبادي الهندي أمام الصوفية في الهند وغيره من أكابر شيوخهم وكانت وفاته ببلده برهانبور في سنة تسع وعشرين وألف رحمه الله تعالى ورضي عنه.
محمد بن فضل بن محمد المعروف بعصمتي الرومي قاضي العسكر أوحد الزمان كان أجل فضلاء الروم وأفصحهم وأظرفهم مميزاً بينهم بالمعرفة والفضل وكل من رأيته من أرباب المعرفة سمعته يصفه بالفضل والذكاء وجودة الطبع وحسن الشعر والفصاحة وهو من بيت فضل وصلاح وقد تقدم ذكر أبيه وقد نشأ وحصل ودأب ثم اتصل في أوائل أمره بشيخ الإسلام يحيى بن زكريا فصيره ملازماً ثم أراد أن يسلك طريق الملاخدا وندكار فلم يتيسر له فعدل إلى طريق الموالي وضمه شيخ الإسلام المذكور إليه واستخلصه لنفسه ثم درس بمدارس قسطنطينيه إلى أن وصل إلى المدرسة التي جددتها والدة السلطان مراد فاتح بغداد وهو ثاني مدرس بها حكى والدي عن شيخ الإسلام المذكور قال سمعته يقول لما وجهت إليه المدرسة المذكورة اتفق أن السلطان طلبني لأمر وعرفت أنه يسألني عمن وجهت إليه مدرسة والدته وكان عندي شرح المفتاح بخط عصمتي فأخذته معي فقال لي السلطان لمن وجهت المدرسة فقلت لصاحب هذا الخط وهو حفيد الشيخ محمد البركلي فأعجبه خطه وسألني عن فضله فذكرت له فضله وزكته فقال لي سمعت نبله من الأفواه ثم أخذ الكتاب وأبقاه عنده لإعجابه به قال والدي ولقد أخبرني عصمتي أنه بعد وفاة السلطان وصل إليه الكتاب على يد بعض الكتبيين فاشتراه ثم ولي من تلك المدرسة قضاء الشام وذلك في شوال سنة تسع وأربعين وألف وكبابه الجواد قبل قدومه إلى دمشق فانصدعت رجله فأنشده الأديب محمد بن يوسف الكريمي ارتجالاً هذه الأبيات في مجلس الاجتماع به فقال:
انهض فلا قعدت بك الأيام ... وسما بك الاقدام والاقدام
قدم العلي انصدعت فلما صدعت ... صدع الفؤاد فلا يكاد ينام(2/494)
ولم ينزل بقرية حرستا على عادة القضاة بل دخل وكان دخوله إليها في سابع ذي الحجة فقال الفاضل عبد اللطيف بن يحيى المنقاري في تاريخ قدومه:
زمانك يا شمس المعالي مشرق ... وعصرك يا بدر الكمال لطيف
وفضلك بين الخلق قد ضاء نوره ... وقدرك ما بين الأنام منيف
وأنك في جمع الكمالات مفرد ... وأنك في حكم القضاء عفيف
وليت دمشقاً حاكماً في رعية ... بعدل له ظل عليك وريف
ولما أتيت الشام قلت مؤرخا ... قدومك عيد عندنا لشريف
ومدحه أدباء لشام بقصائد كثيرة ووقع له مجالس سطرت عنه ومما رأيته من آثار قلمه ما كتبه على نسبة أدهمية لابن المرزناتي بدمشق الحمد لله الذي جعل الأنساب في بعض الفروع النجباء وسائط لاستفاضة الأنوار والهمم العالية من الأصول الأتقياء عصيا يتوكؤن عليها ويدركون بها غاية المنى ويرتقون إلى مدارج العلى ولهم فيها مآرب أخرى والصلاة والسلام على رسوله الكريم النور الأول والظهور الآخر فاتحة مصحف الوجود وخاتمة رسالة الرسالة محمد المصطفى الذي هو حجته الكبرى من استضاء بمصابيحه أبصر ونجا ومن أعرض عنها ذل وهوى صلى الله تعالى عليه وعلى آله وعترته الذين هم حبل الهدى وشجرة التقوى وسفينة النجاة العظمى وعروة الدين الوثقي وبعد فلما تشرفت بصاحب هذا النسب الجليل وجدته رفيق المجد وخليله نزيل الصلاح وزميله تناول الفضل كابرا عن كابر وأخذ الفخر عن أسرة ومنابر في ناصية تلوح عليها آثار السعادة كانور وفي جبينه الانتساب إلى من هو كالتاج على مفرق هذا المنشور سطور فمن نظر إلى جميل خلقه وحسن فعاله كاد ينشد لسان حاله بالله صلى الله تعالى على النبي وآله والشيخ الكامل الواصل إلى مقام العبودية المدعو لهذا النسب بعبد الحق ولا ريب في أن ألسنة الخلق أقلام الحق من سر العنصر الكريم ومعدن الشرف الصميم الذي ببركة أنفاسه القدسية تبتهج الدنيا وعلى عماده تضرب خيام الزهد والتقوى سيدنا وسندنا الأكمل الأتم إبراهيم بن أدهم قدس الله سره وأفاض علينا خيره وبره انتهى قلت وهذا المترجم مع فضله الباهي هو أحد القضاة المذمومين بالشام وذلك لأنه قرب جماعة من أهل دمشق معروفين بالبغي وسلمهم أمره فبالغوا في التعدي ونسب ذلك إليه فعزل وسافر من دمشق فصحبه والدي إلى الروم وألف رحلته الأولى باسمه قال ولما وصلنا إلى دار الخلافة كان شيخ الإسلام المولى يحيى المذكور آنفا مريضاً فاتفق أنه عاده الوزير الأعظم مصطفى باشا وسأله عن حاله فقال الحمد لله تعالى حصل لي الشفاء بقدوم عصمتي وكان الوزير المذكور نلويا أن يوقع به مكروها لما سمعه من خبره فكانت كلمة شيخ الإسلام سبباً للعفو عنه ثم صار قاضياً ببروسه وعزل في مدة جزئية وعانده الزمان مدة وانخفض حتى ولي قضاء أيوب وازمير ورق حاله وركبه دين عظيم ولما ولي البهاء الفتيا تقيد بتنمية فصيره قاضياً بقسطنطينية عشرة أيام ونقله إلى قضاء سلانيك وفي أثناء الطريق ضرب بعض خدامه من غير عمد فمات الخادم وحصل من سلانيك مالا جزيلاً وقدم فبقي معزولاً مدة طويلة حتى أقبل عليه الوزير الأعظم محمد باشا الكوبري فجعله قاضي العسكر بانا طولي وروم أيلي وتكرر له قضاء روم أيلي ثانياً وكان شهماً علي القدر صلفاً لحسن المنادمة وكان ظرفاء الروم يتنافسون في حضور مجلسه ويتفاخرون في مكالمته وكان أديباً باهر الطريقة وقد ذكره الفيومي في كتابه فقال فيه له أدب كزهر الرياض وشعر كماء حلا وعذب في الحياض فهو كمامة الزهر بل نادرة الدهر تشرفت به وربطت سببي بسببه فشنف سمعي وبعشرته رق طبعي فكم تلقيت من فيه ما هو نزهة النبيه وكم تلقفت منه زهر الآداب النديه وبيان الفصاحة الأدبيه فمن درره الزاهره وأشعاره الباهية الباهره هذه المقاطيع:
أهلا بمن فاق السماك مخجلا ... شمس الضحى في رفعة وسناء
فكأن لي فوق الثريا منزلا ... علقت بسدته حبال رجائي
وقوله في صدر مكاتبة:
يا سراج التقي وبدر المعالي ... دم منيراً وهاديا للعباد
كنت من قبل ألثم اليد بالإج ... لال والآن نال ذاك مدادي
وكتب إلى شيخ الإسلام أبي السعود في صدر كتاب وهو:(2/495)
لا زلت في فلك السعادة ساطعاً ... أنت الكفى بحاجتي وحسيبي
أملت حظوة نظرة من أجلها ... أشغلت ساحتكم ببسط كروبي
قال ولما قرأت عليه في تاريخ ابن خلكان قول ابن عبد ربه:
نعق الغراب فقلت أكذب طائر ... إن لم يصدقه رغاء بعير
أنشدني لنفسه:
ورد النسيم فقلت أصدق قائل ... إذ كان من ألم الغرام خبيرا
وبعث رقعة إلى واحد الدنيا الشيخ محمد المعروف بعزتي وفي صدرها:
يومكم نصفه تقضي بنوم الع ... ز والنصف منه للقرناء
طالع الدرس بعد كل عشاء ... فالليالي تعد للأحياء
قال ولما كنت معه في بروسه وجاء زمن الورد أنشدني لنفسه:
عصر ورد عش بالرحيق الصفوق ... دم فإن الصبوح مثل الغبوق
أنت بالفتح والدلال أنيس ... ولي الخمر كالصديق الصدوق
وانتحل علي أن أنظم من هذه القافية قصيدة فقلت:
قم إلى الروض واغن بالراووق ... من سلاف قد راق في الإبريق
في ربيع وأعين الورد تبدو ... بين غمض الزهور والمستفيق
واجتل الكأس في الرياض عروساً ... تشف بالراح من لهيب الرحيق
هي راح وراحة وشفاء ... بل وبرء لكل قلب خفوق
قد صفت في الزجاج عند التصافي ... فهي أهل الصفا لصب مشوق
طاب وقت الربيع فاغتنم الص ... فو وبادر إليه نحو الرفيق
طيب عيش اللبيب بالذوق والأ ... نس وخل موافق ورحيق
والمليح الذي إذا ماس عجبا ... وانثنى قد سبا بخصر رقيق
يسلب العقل والفؤاد بوجه ... وبطرف ومبسم وبريق
أن تدر كاسه ترى القوم صرعى ... من مدام حبابه في بريق
قم وبادر فالروض في طالع الس ... عد ومن أفق روضه في شروق
حركته على الغصون شمال ... فهو نشوان فوق غصن وريق
حار عقل اللبيب في ساعة الب ... سط وقد دار كأس خمر عتيق
بين ورد وجنة ومدام ... وانحدار المياه بالتصفيق
أتما العمر عيشة المرء في الصف ... و بروض البها وحسن الصديق
حيثما السكر من دنان الحميا ... نشأة الصب في منى والعقيق
وذكره والدي رحمه الله تعالى وأطال في وصفه إلى أن قال وتشرفت به في سفرتي الثانية إلى الروم سنة ثلاث وسبعين وألف فرأيته منعما بها وقد دارت رحى رجاله على قطبها وذكرني بأشياء كنت نسيتها الطول الغيبة بل تناسيتها وقد صدئت مرآة فهمي لطول المدة عن حضرته وتكدر ماء خاطري لبعد العهد عن خدمته
فان الصارم الصمصام ينبو ... شباه لطول عهد بالصقال
ورأيته لم يتغير عن معاملتي في الحقيقة وهذا خلاف مشربه المشهور عند الخليقة وتقيد بأحوالي وهو في صدارة الروم على حسب ما أمكنه عند السادة القروم وقد شمت من كرمه بارق سحاب وحصلت من وعوده على أخصب جناب ومن زرع خيرا حصد جزاء فحالت غيوم سوء الحظ بين طرفي المنى والاحسان فلم يساعد على الأمنية المقصودة الزمان وكتبت إليه في تلك الأيام قصائد ورسائل وفصولا هي لشرح حالي وسائل قلت وقد أورد منها في ترجمته وفي رحلته الثانية أشياء كثيرة قال ولم يزل على الظرف والصلف. إلى أن جاور من مضى من السلف وفاجأته المنية وناوله ساقي الحمام كأس المنون لا كأس المدام وذلك في ثاني عشر صفر قريب وقت السحر سنة ست وسبعين وألف ودفن بباب أدرنه من أبواب قسطنطينة ولم يخلف ولدا ولقد فجعت الروم منه بفاضل نجيب وكامل لبيب
وسهم الرزايا بالنفائس مولع
انتهى(2/496)
محمد بن القاسم الملقب شمس الدين بن المنقار الحلبي ثم الدمشقي الحنفي العالم البارع المناظر القوي الساعد في الفنون كان من أعيان العلماء الكار ذكره الخفاجي فقال في حقه صدر من صدور دهره مخلط مزيل سابق في حلبة عصره روض تجاذبت الأخبار أذيال فضائله واهتزت أغصان الربى إذا حدث النسيم عن شمايله تزينت بتاج ذكره هام الأيام وتاهت به على سائر البلدان بقاع الشام صدحت ورق فصاحته في ناديها وسارت محاسنه رائحها وغاديها وأثمرت أقلام الفتوى بشمس آفاق له ارتفعت فيا لها من أغصان أثمرت من بعد ما قطعت ونور فضله بادي لكل حاضر وبادي:
كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
قوله مخلط مزيل يضرب للذي يخالط الأمور ويزايلها ثقة بعلمه واهتدائه إليها انتهى قال النجم في ترجمته ولد بحلب ونشأ بها ولازم لرضى بن الحنبلي وغيره ثم وصل إلى دمشق في سنة إحدى وستين وتسعمائة وتديرها ورافق الشيخ إسمعيل النابلسي والعماد الحنفي والمنلا أسد وطبقتهم في الاشتغال على العلاء بن العماد والشيخ أبي الفتح الشبشيري وغيرهما وحضر دروس شيخ الإسلام الوالد ورأيت في بعض مجاميع الطاراني أنه درس بعدة مدارس ومات عن تدريس القصاعية والوعظ بالعمارتين السليمانية والسليمية والبقعة بالجامع الأموي وغير ذلك من الجهات والحوالي وأفتى على مذهب الإمام أبي حنيفة وكان يدرس في البيضاوي وأخذ عنه جمع كثير منهم التاج القطان والحسن البوريني والشمس الميداني والشيخ عبد الرحمن العمادي والشمس محمد الحادي وغيرهم وكان عالماً متضلعاً من علوم شتى إلا أن دعواه كانت أكبر من علمه وكان يزعم أن من لم يقرأ عليه ويحضر درسه فليس بعالم وكان كثير اللهج بذكر شيخه ابن الحنبلي المذكور والإطراء في الثناء عليه وإنما يقصد بذلك التميز على أقرانه والإنفراد عنهم به وكانت بينه وبين رفيقه النابلسي والمنلا أسدمها جرات بسبب المناظرة والمباحثة حتى يؤدي ذلك إلى المنافرة وكان النابلسي يلائمه ويأخذ بخاطره لأنه كان أنبل منه وأوسع جاها وأطلق لساناً وكان كثير المخاصمة والجدال يحب التصدر على أعلام الشيوخ في المجالس الحافلة ويتمثل بأشعار الجاهلية وغيرهم كقول سحيم:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
وقول أبي الطيب:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... وإذا نطقت فإنني الجوزاء
وكان كثيراً ما يلهج بأبيات أبي العلاء المعري من قصيدته اللامية المشهورة:
إذا وصف الطائي بالشح مادر ... وعير قسا بالفهامة باقل
وطاولت الأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
وقال السهي للشمس أنت خفية ... وقال الدجى للصبح لونك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي إن دهرك هازل
وكان إذا وصل إلى قوله وقال السهي للشمس يضع يده على صدره مشيراً إلى نفسه إلى غير ذلك وكان مع ما اتصف به من التفاخر مبغضا لمن يتصف بفضيلة وجرى له في أيام سليمان باشا ابن قباد بن رمضان لما كان نائباً بدمشق في سنة تسع وثمانين وتسعمائة أنه تعصب على الشمس محمد بن محمد بن داود المقدسي الآتي ذكره بسبب قراءة الحديث بالجامع الأموي بين العشاءين على أسلوب الأستاذ الكبير محمد بن أبي الحسن البكري بالديار المصرية ومنعه من ذلك وشق على أهل العلم ما فعله فقال السيد محمد بن محمد بن علي بن خصيب القدسي نزيل دمشق الآتي ذكره هذه الأبيات يخاطب ابن المنقار بها:
منعت ابن داود الحديث بجلق ... وما مثله في الشام والله من فار
وتزعم حصر العلم فيك بجلق ... فتنقر أهل العلم فيها بمنقار
سيأتيك من ربي بلاء وفي غد ... ستلقى بوجه يا ابن منقار من قار
ثم عظم الأمر بين ابن المنقار والداودي ولا زال يبلغه غليظ ما يكره حتى قال فيه الداودي قصيدة رائية أولها:
يا سخطة من عظيم القهر جبار ... حلى بساحة من يدعي ابن منقار
منها:
يصفر من حسد حتى كأن به ... ربعاً قديمة عهد ذات أدوار
ويعتريه اضطراب في مفاصله ... كأن أفكل في أعضائه سار(2/497)
ورأيت بخط الطاراني قال ومن أعجب ما وقع لي معه أنني مدحته بقصيدة ميمية بديعة أولها:
سقى مربع الأحباب ودق الغمائم ... وجادت عليه هاطلات السواجم
وبيت المخلص:
سفرن بدوراً عن محيا كأنه ... سنا نور شمس الدين عين الأكارم
فما كانت جائزتي منه غير الذم والمقابلة بما لا يليق وقصة حطه على النجم الغزي مشهورة وملخصها كما قال النجم في ترجمته أن النجم كان يعظ ويقرأ الحديث في الجامع الأموي وهو دون العشرين فأنكر ذلك الشمس واتفق أنه حضر يوماً إلى الجامع وكانت الشمس كسفت وصلى الشهاب العيثاوي إماماً بالناس صلاة الكسوف بمحراب الشافعية ثم حضر الشرف الحكيم الخطيب بالجامع وصلى وحضر ابن المنقار ولما فرغ الناس من الصلاة أخذ في الإنكار على العيثاوي والنجم في الصلاة وعطف عليه أنه علم النجم وقواه على النظم والتدريس فاجتمع به العيثاوي والنجم فلما تكالموا ثارت العوام عليه وألجأوه حتى خرج من باب البريد حافياً وهو بعمامة صغيرة غير عمامته المعتادة وهم يصيحون به ثم آل الأمر أن عقد له مجلس عند قاضي القضاة مصطفى بن بستان وحضر جماعة من أعيان العلماء منهم الجد القاضي محب الدين والشهاب العيثاوي فأصلحوا بينهما ثم طلبوا المناظرة بينهما فتناظرا في عبارة من تفسير البيضاوي وكانت الغلبة للنجم وألف العيثاوي رسالة حافلة فيما وقع بينهما وكان ذلك اليوم قد ظهرت نجوم السماء نهاراً لقوة السكوف فقال بعض الأدباء مصراعاً أجاد فيه وهو قوله:
وعند كسوف الشمس قد ظهر النجم
فسبكه النجم في أبيات هي قوله:
بعام ثمان بعد تسعين حجة ... وتسعمىء مرت جرى الأمر والحكم
بأن حضر الشمس ابن منقار الذي ... تحرى جدالاً حين زايله الحزم
وناظرنا يوم الكسوف فلم يطق ... لنا جدلا بل خانه الفكر والفهم
فقيل وبعض القول لا شك حكمة ... وعند كسوف الشمس قد ظهر النجم
ولولا تلافى الله جل جلاله ... أصاب تلافاً حين تابعه الرجم
والحاصل أنه كان ضيق الخلق وأما علمه فمسلم عند من يعرفه وإن طعن فيه طاعن فعن عداوة وحسد وله أشعار كثيرة وقفت في بعض المجاميع على أبيات له كتبها إلى قاضي القضاة بالشام العلامة المولى علي بن إسرائيل المعروف بابن الحنائي وكان وقع له وهو قاضي بدمشق أنه أخرج عن رجل بعض الوظائف فكتب الرجل محضراً في شأن نفسه واستكتب الأعيان فكتب له بعض من له يظهر الصداقة والمودة للقاضي المذكور فبلغه ذلك فقال مضمناً:
لنا في الشام إخوان ... بظهر الغيب خوان
فأبدوا في الجفا شانا ... به وجه الصفا شانوا
وظنوا أنهم ذهلوا ... وما غدروا وما خانوا
ولما إن رأينا الذ ... هل طبع الناس مذ كانوا
صفحنا عن بني ذهل ... وقلنا القوم إخوان
وأبيات الشمس هي هذه:
لسان العدا أن ساء فهو كليل ... قصير ولكن يوم ذاك طويل
وأقلام من ناواك ضلت وأخطأت ... ولي لهم في ذا السبيل دليل
لقاليك شان شأنه سوء فعله ... وفعل الذي والي علاك جميل
فلا تحتفل مولاي إن قال قائل ... ستنشدهم عند اللقا وتقول
وننكر أن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
إذا طلعت شمس النهار تساقطت ... كواكب ليل للافول تميل
وهل يغلب البحر المعظم جدول ... وهل يدعي قهر العز يزد ليل
وهل لجهول أن يقاوم عالماً ... وليس سواء عالم وجهول
فلا عجب أن خان خل وصاحب ... لأن وجود الصادقين قليل
على أنني أصبحت للعهد حافظاً ... وحاشا لدينا أن يضيع جميل
صفونا ولم نكدر وأخلص ودنا ... وفاء عهود قد مضت وأصول
وأنا لقوم لا نرى الغدر سنة ... إذا ما رآه صاحب وخليل
نعم قد كبا عند الطراد جوادهم ... وأنت كريم لا برحت تقيل(2/498)
وكان بينه وبين جدي القاضي محب الدين مراجعات ومطارحات كثيرة لما كان بينهما من سالف مودة وإخاء ثم تغيرا وانحرفا كما سأذكره ولقد ذكر الجد في رحلته قطعاً من تلك المراجعات ورأيت الفقير بخط الجد في بعض مجاميعه أبياتاً كتبها إليه الشمس مسائلاً فأجابه عنها الجد بأبيات من نظمه فأما أبيات الشمس فهي هذه وتاريخ كتابتها سنة ست وسبعين وتسعمائة وهي قوله:
أيا فاضلاً أثنت عليه الأفاضل ... وشاعت وذاع عن علاه الفواضل
جمعت علوماً ثم رحت تفيدها ... فأصبحت فرداً في الورى لا تماثل
وكم غصت في القاموس نحو صحاحه ... فأخرجت در اليس يحويه فاضل
ففي نظمك الدر النضيد منظم ... وفي النثر منثور الجواهر حاصل
حللت محب الدين في الشام فانثنت ... تتيه بكم إذ زينتها الفضائل
ولا بدع أنت البحر في العلم والندى ... وكم عم طلاب القرى منك نائل
رقيت مقاماً في الفصاحة سامياً ... يقصر عن غاياته المتطاول
لبيد بليد وامرؤا القيس مطرق ... لديه وسحبان الفصاحة باقل
وقد أرسل المملوك نحوك سائلا ... سؤال محب للحبيب يسائل
لأنك في الفقه الإمام محمد ... لذلك قد قامت عليه الدلائل
فأي وكيل لا مجال لعزله ... وإن مات ذو التوكيل فهو يزاول
بعثت سؤالاً عاطلاً نحو ربعكم ... ولكنه يرجو الحلى ويحاول
وقد جاءكم عبد يروم كتابة ... ويكفيه فخراً أنه بك نازل
تأخرت في عصر وأنت مقدم ... وفزت بما لم تستطعه الأوائل
فجد بجواب لا برحت تفيدنا ... لأنك شيخ في الحقيقة كامل
وأما أبيات الجد فهذه وهي قوله:
أهذي سطور أم قدود عوامل ... وتلك شموس أم بدور كوامل
وهل هذه الألفاظ أزهار روضة ... سقاها من المزن الغدير هواطل
وتلك المعاني أنجم مستنيرة ... أم القاصرات الطرف فيها تغازل
وبعد فيا رب الفضائل والندى ... ويا بحر علم ما لفضلك ساحل
لئن كان ما أظهرت في الطرس أنجما ... فإنك شمس في سما الفضل رافل
وإن كان ما رصعت درا منظماً ... فإنك بحر في الحقيقة كامل
لقد أفحم النظام ما أنت ناظم ... وأعجز أهل الفضل ما أنت قائل
أشرت بالغاز وحسن تلطف ... إلى لغز فيه العيون تغازل
وصورته مولاي توكيل راهن ... لمرتهن في ربيع رهن يزاول
وقد شرط التوكيل في عقد رهنه ... فإن مات قبل البيع لا عزل حاصل
فجد وتفضل بالقبول فإنني ... لعبد فقير خامد الفكر خامل
وسامح لهذا العبدان بضاعتي ... لفي الشعر مزجاة وحظي سافل
فوابل نظمي عندك الطل قد غدا ... كما أن يا مولاي طلك وابل
فلا زلت في أوج الفضائل ساميا ... وفي ذروة المجد الرفيع تحاول
ولا زلت صدر للعلوم ومورداً ... فلا غروان طابت لديك المناهل
ومن ألطف شعره أيضاً قوله من قصيدة كتب بها إلى الأديب محمد بن نجم الدين الهلالي الصالحي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى ومطلعها:
وقفت على ربع الحبيب أسائله ... ودمعي بالمكتوم قد باح سائله
وقلت له منى إليك تحية ... أما هذه أوطانه ومنازله
أما ماس في روضاتها بان قده ... ومالت لدى مر النسيم شمايله
فما لك قد أصبحت قفزاً وطوفت ... طوائح دهري فيك ثم زلازله
فقال سرى عني الحبيب وفاتني ... سنا برق شمس الدينثم هواطله(2/499)
وله غير ذلك وكانت ولادته في سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة وتوفي عند غروب الشمس من يوم الثلاثاء رابع عشري شوال سنة خمس بعد الألف ودفن بمكان صغير به محراب قديم على الطريق الآخذ إلى السويقة المحروقة غربي تربة باب الصغير قال النجم وكان سبب مرضه أن شيخنا القاضي محب الدين كان يتأدب معه ويعظمه لسنه وجرياً على عادته في التأدب مع أهل دمشق واكرام كل منهم على حسب ما يليق به فكان شيخنا إذا اجتمع هو والشمس يقدمه في المجلس فلما انتصر لنا شيخنا بسبب تعنت الشمس وقع بينهما وكان كلما تعرض الشمس لنا بادر شيخنا إلى الانتصار حتى بلغه أذية الشمس له قلت وقد أسلفت في ترجمة الشيخ عبد القادر ابن أحمد بن سليمان أن الشحناء تأكدت بينهما بسبب قيام الجد بنصرته فاجتمعا آخرا عند قاضي القضاة الكمال ابن طاشبكري قاضي دمشق فتقدم عليه شيخنا في المجلس فغضب ابن المنقار وقال أنت كنت سابقاً تقدمني فلم تقدمت علي قال تقدمت إلى مجلسي وكنت أوثرك سابقاً بمقامي وكان الشيخ محمد بن سعد الدين في المجلس فأخذ بيد الشمس وأجلسه بينه وبين القاضي ثم بقي الشمس على غيظه حتى مرض منه وجعل تتزايد به الأمراض حتى توفي في اليوم الذي ذكرناه انتهى.
محمد بن قاسم بن علي القيسي الغرناطي أصلاً وأبا والقصار لقباً مفتي فاس وريحانة ذلك الكناس ومحدث الغرب الأقصى الذي فضائله لا تعد ولا تحصى فقيه عصره وعلامة قطره حفظ القرآن وجوده وأخذ العلوم الفقه والحديث عن ولي الله أبي نعيم رضوان بن عبد الله الحملولي الفاسي وعن المتفرد بالمنطق والكلام وأصول الفقه والبيان بفاس جار الله محمد خروف الأنصاري التونسي وعن الأستاذ محمد النولي وعن أبي عبد الله محمد الغزي مفتي دمشق وغيره وعنه أخذ علماء العصر من المغرب كأبي العباس المقري ومحمد بن أبي بكر الدلائي الفشتالي والسيد عبد الهادي السجلماسي الحسني وأبي عبد الله محمد بن يوسف أبي المحاسين العربي الفاسي وكان سوق المعقول كاسداً في فاس فضلاً عن سائر أقطار المغرب فنعق في زمانه ما كان كاسداً من سوق الأصلين والمنطق والبيان وسائر العلوم لأن أهل المغرب كانوا لا يعتنون بما عدا النحو والفقه والقرآن مما يوصل إلى الرياسة الدنيوية وكان من قبل هذا القرن فيه أيضاً كذلك وأكثر إلى أن رحل البيستني إلى المشرق فأتى بشيء من ذلك ثم ورد الشيخ خروف التونسي وكان إمام ذلك كله والمقدم فيه إلا أنه جاء من غير كتب لابتلائه بالأسر وغرق كتبه في البحر ومع ذلك كانت بلسانه عجمة مع ميله إلى الخمول فلم يقدروا قدره وإنما انتفع به الشيخ المنجور والشيخ القصار صاحب الترجمة وكان للمنجور مشاركة في فنون كثيرة وتنقيح عبارة ومعرفة بالتدريس وكان للقصار عبارة قاصرة مع زيادة تحقيق وكمال معرفة وتحرير وغوص على المسائل فما انتفع به إلا من صلحت نيته ولم يثنه عنه عبادة ولا خمول وإليه وإلى المنجور مرجع شيوخ المغرب مع ملازمة القصار أكثر لانفراده بعده وله مؤلفات مفيدة وفهرست جمعت فيه مروياته في الفقه والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية وله نظم من ذلك قوله:
تسع أبي منها أولو الأ ... حلام والهمم السنيه
الإ بحال ضرورة ... تدعوا لها من حسن نيه
وهي الشهادة والوسا ... طة والحكومة في القضيه
وكذا الامامة والود ... يعة والتعرض للوصيه
وكذا الإجابة للط ... عام وللولائم والهديه
فسد الزمان وأهله ... إلا القليل من البريه
وكانت وفاته في فاس في سنة اثنتي عشرة بعد الألف رحمه الله تعالى برحمته.(2/500)
الإمام محمد المؤيد بالله ابن الإمام القسم بن محمد بن علي وبقية نسبه في ترجمة أبيه القسم قال الحسين بن المهلا لا برحت آثاره زينة الكتب وفضائله حلية الأزمنة والحقب أنه السيد الذي ظهرت فضائله في البلاد وأذعن لفضله الحاضر والباد واجتمعت كلمة اليمن إليه وأخرج الأتراك بأسرهم وأقبلت عليه الفتوحات من كل وجهة وقام بنصرته إخوته الحسن والحسين وأحمد أبو طالب وإسمعيل وكان إماماً جليلاً مفنناً في كثير من العلوم قائماً بأعباء الإمامة مباشراً للأمور بنفسه لا ينام من الليل قليلاً محسناً إلى الفقراء حافظاً للبلاد كلها أصلح الله تعالى في ولايته بين الخلق وأمن الله تعالى الطرقات ببركات نيته ومكث في الإمامة نحو سبع وعشرين سنة لم ينكب فيها استوزر والدي العلامة ناصر بن عبد الحفيظ واختصه بمجالس النظر الخاصة في جميع العلوم وألف رسائل كثيرة تشتمل على علم واسع وأجوبة فيها أنواع العلوم مشهورة وكانت وفاته في سابع وعشري رجب سنة أربع وخمسين وألف في شهاره ودفن بها عند قبر والده ولما توفي بويع بالخلافة ولي عهده أخوه أحمد في شهاره ثم دعا أخوه إسمعيل إلى نفسه في ضوران فبايعه جمع من الناس وكذلك دعا محمد بن الحسن بن القسم إلى نفسه فبايعه أهل اليمن في أب وجبلة وما يليها لما تفاقم الأمر وتفرقت الأحوال اتفق رأي العقلاء من الناس فاجتمع محمد بن الحسن وأخوه أحمد ومن والاهم ففوضوا الأمر لإسمعيل فبايعوه وكان رأياً سديداً فأقبلت عليه الناس وأمراء البلاد من كل جهة وطاعوه وجهز على أخيه أحمد السيد محمد بن الحسين فسار يريد مدينة ثلا فلما علم بقدومه أحمد أغار من شهاره بأعيان من فيها وصحبته القاضي أحمد بن سعد الدين وجماعة من الكبراء فيهم إبراهيم بن أحمد بن عامر وغيره فالتقى الجمعان فيما بين الطريق إلى ثلا فاقتتلوا فكانت الطائلة لجماعة إسمعيل واجتاز أحمد إلى ثلا فحصروه فيها ثم قدم الإمام أحمد إلى أخيه إسمعيل من ثلا إلى ضوران فسلم إليه الأمر وبايعه وصحبته الأمير الناصر بن عبد الرب صاحب كوكبان في جمع من الأعيان وفيهم القاضي أحمد بن سعد الدين والناصر بن راجح وجمع وكان يوماً مشهوداً لاجتماع عصابة المسلمين وإصلاح ذات البين ثم توجه أحمد إلى صعدة متولبا عليها من قبل أخيه الإمام المتوكل انتهى.
محمد بن قباد المعروف بالسكوتي البدوني ثم الدمشقي الحنفي مفتي الشام وأجل فضلاء الزمان كان فقيهاً بارعاً حافظاً للمسائل كثير الإطلاع عليها عفيفاً خيرا ديناً وكان حسن الخط والإنشاء حسن المعرفة كثير الصمت مثابراً على العبادات والمطالعة ويروى عنه أنه كان لا يفتر عن المطالعة ولو كان ماشياً في طريق وجمع كتباً كثيرة وأكثرها عليها تعليقاته وتحريراته وكان وروده إلى دمشق صحبة قاضي القضاة المولى محمد بن يوسف المعروف بنهالي في سنة أربع عشرة وألف ولما زل القاضي المذكور عن قضاء دمشق أقام بها وتأهل وولي النظر على أوقاف الدر ويشية ودرس في المدرسة الجوزية وأعطى نظارة النظار وتولية البيمارستان القيمري وولي النيابة الكبرى وقسمة المواريث مرات وانحط مدة فاستولى عليه الإقلال وحكى أنه في تلك المدة دعاه الرئيس الجليل محمد بن الطباخ أحد الكتاب وكان مصاهره إلى بستان في يوم نوروز وكان ممن حضر في الدعوة الإمام الهمام يوسف بن أبي الفتح ووالده أبو الفتح المذكور وكان أبو الفتح يعرف علم الزايرجا حق المعرفة فأبرم عليه ولده في استخراج طالع صاحب الترجمة فجمع أعداداً ثم ركبها وقال قد طلع في طالعه منصب قريب جداً وقد وصل خبره إلى دمشق فلم يمض إلا هنيئة وإذا بشخص من جيران السكوتي دخل عليهم وذكر أنه جاءه ساعي من الروم فقام من وقته وتوجه إلى بيته فرأى الساعي ينتظره وقد جاءه بأمر النيابة فلما صار الفتحي المذكور أمام السلطان مراد نبه حظه من رقدته فكان لا ينفك عن النيابة ورأس بدمشق وعظم شأنه ومات العلامة عبد الرحمن العمادي فوجهت الفتية إليه ودرس بالسليمانية وإلى ذلك يشير أحمد بن شاهين في قصيدته التي رثا بها العمادي فقال:
يا مفتياً طال السؤال لقبره ... وجوابه متعذر الامكان(3/1)
وحكى والدي بل الله ثراه بوابل عفرانه أنه وقف على رسالة كتبها أولاد العمادي إلى مفتي الروم يطلبون منه الفتية ويذكرون ما دهمهم من صاحب الترجمة واستشهدوا ببيت المتنبي المشهور
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وكلام
واستمر مفتيا إلى أن مات وكانت وفاته في ثاني شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير والبدوني بضم الباء الموحدة ثم دال مهملة ثم واو ونون نسبة إلى قاعدة بلاد البشانقة وأعظمها وهي الحد الفاصل بين بلاد العثامنة سلاطين بلادنا أعزهم الله وبلاد النصارى الأنكروس وتعرف هذه البلدة بمفتاح بلاد الإسلام وقد استولت عليها النصارى الآن بعد حروب تقذت بها عين الإسلام والمأمول من الله تعالى أن يعيد بإعادتها رونق الدين كما كان بمنه وكرمه.(3/2)
السيد محمد بن كمال الدين بن محمد بن حسين بن محمد بن حمزة وبقية النسب ذكرته في ترجمة أخيه السيد حسين نقيب الشام وعلامة العلماء الأعلام الحسيني المنتمي الحنفي المذهب رئيس وقته في العلم والجاه ووحيد دهره في دهره في سودده وعلاه وكان عالماً محققاً وحبراً مدققاً غواصاً على المسائل كثير التبحر مملوءاً معارف وفنوناً وقد حظي من التخصيص والتنعيم بما قصر عنه غيره وتقدم على كل من عاصره من الكبار وبلغت شهرته الآفاق ورزق الأبناء الذين هم غرر جباه المعلومات وأكاليل تاج المكرمات والسعادات وهم السيد عبد الرحمن الماضي ذكره والباقي على مدى الأزمان حمده وشكره والسيد عبد الكريم والسيد إبراهيم الباقيان كالفرقدين النيرين والساميان في الإنارة على نور القمرين أحياهما الله تعالى الحياة الطيبة وروى الآمال بسحائب مواهبهم الصيبه وقد ولد بدمشق وربى في حجر والده وقرأ القرآن العظيم على الشيخ المعمر الصالح أبي بكر السليمي الحنفي وجوده عليه ثم على الشيخ عبد الباقي الحنبلي وقرأ عليه لأهل سما افراداً وجمعاً من طريق الشاطبية والتيسير إلى أواسط سورة البقرة وأحضره والده إلى الفقيه المسند المعمر الشمس محمد بن منصور بن محب الدين الحنفي وأجازه بما يجوز له روايته وحضر مجلس الشمس الميداني في صحيح البخاري تحت قبة النسر من جامع الأموي في دمشق في الثلاثة أشهر رجب وشعبان ورمضان فسمع عليه بعض الصحيح وأجازه بسائره وما يجوز له روايته في آخرين وقرأ على المسند المعمر الشهاب أحمد بن محمد الفرغاني البقاعي قطعة من صحيح البخاري وقطعة من صحيح مسلم وقطعة من الأربعين النووية وأجازه بسائرهن وبما يجوز له روايته وجد في طلب العلوم على جماعة من العلماء منهم السيد أحمد بن علي الصفوري وسمع بقراءته بعض صحيح البخاري على النجم الغزي ومنهم الشيخ محمد بن علي الحرفوشي العاملي الحريري والشيخ إبراهيم القبردي وسمع عليه بعض صحيح البخاري والشيخ عبد اللطيف الجالقي والشيخ عبد اللطيف بن المنقار وعليهما تفقه والشيخ عمر القاري والشيخ رمضان بن عبد اللطيف بن المنقار وعليهما تفقه والشيخ عمر القاري والشيخ رمضان بن عبد الحق العكاري وتفقه عليه وسمع عليه بعض صحيح مسلم والشيخ يوسف ابن أبي الفتح وتفقه عليه والشيخ عبد الرحمن بن عماد الدين وتفقه عليه وسمع عليه بعض تفسير الزمخشري وبعض صحيح البخاري والنجم محمد الغزي وسمع وقرأ عليه شرح التبصرة للحافظ العراقي وأجازه بها وبشرح القاضي زكرياء وبسائر تآليفه في آخرين وكتب لهم في طبقة السماع خطه بذلك ولازم مجلسه تحت قبة النسر في صحيح البخاري في الثلاثة أشهر فسمع عليه كثيراً من الصحيح والمنلا عبد الكريم الكوراني نزيل دمشق وقرأ وسمع عليه شرح العقائد النسفيه للسعد التفتازاني وشرح الطوالع للسيد الفنري وشرح منازل السائرين وأجازه بما يجوز له روايته في آخرين ولما ورد الحافظ الأثري أبو العباس أحمد المقري إلى دمشق في سنة سبع وثلاثين وألف ولازمه وحضر درسه في شرح الهمزية لابن حجر وفي أرجوزته المسماة بإضاءة الدجنة وسمع عليه من صحيح البخاري قطعة ثم قرأ عليه قطعة منه ومن صحيح مسلم وقطعة من الأربعين النووية وأرجوزية المذكورة وأجازه بسائرهن وما تصح له وعنه روايته ولما رحل إلى دار السلطنة صحبة والده سنة أربعين وألف لازم بها دروس الشيخ حسين بن عبد النبي الشعال الدمشقي ولما حج في سنة خمسين وألف اجتمع بمحدث مكة المكرمة الشيخ علي بن علان وقرأ عليه قطعة من الشفا للقاضي عياض وأجازه بما يجوز له روايته وكتب له خطه بذلك واجتمع بمحدث المدينة المنورة الشيخ عبد الرحمن الخياري وقرأ عليه قطعة من أول صحيح البخاري وأجازه بسائرهن وما يجوز له روايته وأنشد حين ابتهج بمشارق أنوار طابه وألم بمزار من فضل الله تعالى على كافة الخليقة ترابه هذه الأبيات:
حياك يا طيبة الغراء مبتكرا ... من الحياء جزيل النفع منسكب
فلى بأفقك بدر كامل أبدا ... في حبه مهجتي والروح أحتسب
به اعتصامي إذا ما شفني ألم ... به أغاث إذا حلت بي الكرب
به غنيت عن الدنيا وزخرفها ... به توطد لي الأكناف والرتب
به فتيت جوى يا حبذا تلفي ... والحب مقترب والوصل مرتقب(3/3)
عليه أزكي تحيات معطرة ... من نشره إذ إليه العرف ينتسب
ما اخضر عيش محبيه بروضته ... وقام فيها على الأقدام منتحب
وقال أيضاً ممتدحاً باب السلام على داخله السلام:
حبذا باب السلام إذا ... عاينته مقلة البادي
فيه لي نشأة نشأت ... كأنما نوديت للنادي
ولما ورد لدمشق سنة اثنتين وخمسين وألف المولى الشهاب أحمد الخفاجي وقد وافق قدومه ورود الورد كتب لخدمته:
إذا حل مجد في ديار تزينت ... بأحسن ما تولى الرياض وما تبدى
وحيث اغتدى المولى الشهاب بجلق ... فلا غرو أن تزهو بها بهجة الورد
وتكرر سفره إلى دار السلطنة ولازم على عادتهم ودرس ومدح مشايخ الإسلام وصدور الدولة بقصائد فائقة فمن ذلك ما مدح به قاضي العساكر الرومية المولى أحمد الشهير بالمعيد:
أبي القلب أن يقوى على النار والصد ... وغصن الصبا غض يميل إلى الود
وما كان تبريح يطاق احتماله ... ولا كل من تهوى تجنيه لا يردى
وبي مائل في مهجتي لا اعتياض لي ... بذات وشاح عن لقاه ولا برد
خميل الدمى عذب اللمى مونق الحمى ... ظريف السمى غض النما مائس القد
جميل المحيا يخجل الشمس إن بدا ... ضحى أو مسا أزرى على الأغصن الملد
وإن قام حاكى السمهري اعتداله ... ويا حبذا أن رنح العطف بالقصد
مليح وشي النمام من فوق خده ... عذارا تحاشى من سطا شوكة الورد
غزانا بهتدي من اللحظ صارم ... فيا حسنه من فارس فاتك نجدي
حكى شعره ليل التجافي بطوله ... وأعقب خلفا بعد ما جاد بالوعد
وألوى وما ألوى علي بزورة ... فيا حسرة غاض الوفا من ذوي العهد
ولكن لي من فضل مولاي أحمد ... نتائج عقد فاح منها شذا الند
وكتب في صدر كتاب لبعض أحبابه قوله:
لقد هيج القلب التنائي وزادني ... ولوعاً فهل أقضي الليالي بعلما
وإني لراج للقا بعد بعدنا ... وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
وقال يشكو فراق بعض أحبابه:
كنا ازدواجا فبنا ... والان صرنا فرادى
يا فرقة قطعتنا ... وما نسينا الودادا
وقال أيضاً في معنى قول مهيلر:
أبكي ويبكي غير أن الأسا ... دموعه غير دموع الدلال
ما لفظه:
يقضي الدجى غيري بمطلوبه ... وصلا وأقضيه بوعد محال
أحيي ويحيى الليل لكنما ... ليل التجافي غير ليل الوصال
وكتب إلى أخيه السيد حسين بن دار الخلافة قوله:
كم من بعيد والقلوب دياره ... والعين من طول المدى تختاره
يا نازحين ولي بهم وجد على ... وجد تشعب حيث شبت ناره
رعياً لأيام مضين ونحن في ... مرح التألف والهنا أقطاره
أيام مرجنا الرياض ومرحنا ... فوق الحياض وأنسنا أقماره
وحديثنا النجوي بدار ألذ من ... كأن العقار تشعشعت أنواره
وخطابنا السحر الحلال أسر من ... طيف الخيال إذا بدت أسراره
لله من عصر نضى لما مضى ... سيف العتو على الحشا تذكاره
عود فعود مدنفا فيكم قضى ... شرخ الشباب وما انقضت أوطاره
وتعطفوا بحشاشة الصب الذي ... هجر الكرى وتواصلت أخطاره
وعساه يسعده بلطف شامل ... من وصلكم فعلى الكريم مداره(3/4)
ثم رجع إلى الشام وأقام بها وولي النيابة الكبرى بدمشق وقسمة العسكر ودرس بالتقوية ولما توفي والده ولي مكانه النقابة وانعقدت عليه صدارة الشام وهرعت لبابه الطلبة وأرباب الحاجات ودام على الإفادة والتحرير وأجاز في الاستدعاآت وألف التآليف الحسان المقبولة من ذلك حاشية على شرح الخلاصة لابن الناظم شرع في تأليفها من باب الإستثناء مع الدرس والتحريرات على الهداية مع الدرس من كتاب الطهارة إلى أثناء كتاب الصلاة وغير ذلك من الرسائل والتحريرات وانتفع به جماعة ومن أجل من أخذ عنه الإمام الهمام محمد بن محمد بن سليمان المغربي نزيل الحرمين الشريفين وشيخنا الشيخ رمضان بن موسى بن عطيف وشيخنا الشيخ أبو المواهب الحنبلي وشيخنا الشيخ عبد الحي العكري وغيرهم وكانت تصدر له مجالس تؤثر عنه ويحدث عن عظم وقعها في النفوس فمن ذلك أنه خرج يوماً إلى منتزه يسفر عن محياه وينفتق عن طيب رياه فقرىء بين يديه ما غنته نعم الجارية بين يدي المأمون وهو:
ولقد أخذتم من فؤادي أنسه ... لا شل ربي كف ذاك الآخذ
وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في قلبي بسهم نافذ
ونعم هجرتك فاغفري وتجاوزي ... هذا مقام المستجير العائذ
هذا مقام فتى أضر به الهوى ... قرح الجفون بحسن وجهك لائذ
قلت وقصة هذه الأبيات ذكرها ابن خلكان وقال أنه استعادها المأمون الصوت ثلاث مرات وكان بحضرته اليزيدي فقال له يا يزيدي أيكون شيء أحسن مما نحن فيه قال قلت نعم يا أمير المؤمنين فقال ما هو فقلت الشكر لمن خولك هذه النعم العظيمة الجليلة فقال أحسنت وصدقت ووصلني وأمر بمائة ألف درهم يتصدق بها فكأني أنظر إلى البدر وقد أخرجت والمال يفرق انتهى فلما قرئت أنشد النقيب صاحب الترجمة لنفسه مضمنا لمصراع هذا مقام المستجير العائذ فقال:
نقل العذول بأنني أفنيت ما ... أخفي الحفاظ من الغرام الواقذ
هبني اقترفت لما افترى فاغفره لي ... هذا مقام المستجير العائذ
وأنشد أيضاً قوله:
نبذ الخليط مودتي حيث العدا ... حولي يروعني بهجر النابذ
فسألته الرجعي وقلت دع القلى ... هذا مقام المستجير العائذ
ثم أشار لأولاده ومن في مجلسه من أحفاده بأن يضمن كل منهم هذا المصراع وينظم ما يناسبه على وجه الأتباع وما قصده إلا سبر قرائحهم واختبار سافلهم وراجحهم فانتدب ولده الندب السيد عبد الرحمن فقال:
نبذ العهود مغاضبي فألم بي ... في صورة الإشفاق طيف النابذ
فسألته أن لا يفوه بما جرى ... فيحيله عني بقول نافذ
فمضى ونم علي فيما قلته ... فأتى يهددني بسف شاحذ
رحماك قد صدق الخيال وإنما ... هذا مقام المستجير العائذ
ثم تلا تلوه السيد عبد الكريم فقال:
هب قادني فيك الغرام فما الذي ... ألجاك تعذبي بهجر واقذ
أضراعتي أم ما افترته عواذلي ... عني إليك من الكلام النافذ
رحماك بي لا ترع غير مودتي ... وحفاظ ودي لا تكن بالنابذ
فلديك منك بك استعذت وإنه ... هذا مقام المستجير العائذ
وقال أيضاً:
ريم رنا نحوي بطرف أدعج ... فاستل روحي من جميع مآخذي
فطفقت أستعفي اللواحظ قائلاً ... هذا مقام المستجير العائذ
ثم ثلث الثالث السيد إبراهيم فقال:
قد أوسعت عيناه قلبي أسهما ... إن غض عني هذه أصمي بذي
ما فوقت إلا وقلت لسهمها ... هذا مقام المستجير العائذ
ثم قال شيخنا بركة الوجود الشيخ عبد الغنى النابلسي:
لاحظت خالاً فوق صفحة خده ... متوارياً خوف اللهيب النافذ
فسأله ماذا المقام فقال لي ... هذا مقام المستجير العائذ
ثم اتصل بشيخنا الشيخ عبد القادر بن عبد الهادي فقال:
وافي الحبيب بغير وعد زائراً ... يرنو بطرف بالمجامع آخذ
أربي بسكر هوى وسكر مدامة ... حتى إذا سدت علي منافذي
ناديته حسب فديتك زائرا ... هذا مقام المستجير العائذ(3/5)
ثم قال شيخنا الشيخ عبد الحي العكري:
أنزلت آمالي بوادي مخصب ... وحمى منيع نعم كهف اللائذ
فلذاك ناداني يقيني معلنا ... هذا مقام المستجير العائذ
وقال الشيخ زين الدين البصروي:
وأغن فتاك اللواحظ ادعج ... يرمي بنبل في القلوب نوافذ
نادته أفلا ذي وقد فتكت بها ... هذا مقام المستجير العائذ
وقال شيخنا عبد الرحمن التاجي البعلي:
ولقد وقفت على الطلول عشية التو ... ديع يوم البين وقعة لائذ
فاستعبرت عيناي لما بان من ... أو هي بفرقته جميع مآخذي
لام العذول وقد رآني والها ... فأجبته خفض عليك منابذي
لو راعك البين المشت عذرتني ... هذا مقام المستجير العائذ
وقال الأمجد بن السفر جلاني:
يا آل بيت المصطفى شعري حلا ... فيكم وطابت بالمديح لذائذي
وافيتكم أبغي حماكم منشدا ... هذا مقام المستجير العائذ
وقال الشيخ محمد الذهبي:
يا من إذا جاريته في مسلك ... ألفيته قد سد طرق منافذي
أهون بمضناك الذي حيرته ... هذا مقام المستجير العائذ
ثم بعد أيام طلب تضمينه من الأمير المنجي فقال:
بسوى حماكم لا تراني مقلة ... يا من لهم ودي المؤكد لائذي
فإذا وقفت ببابكم متذللا ... هذا مقام المستجير العائذ
وقال الشيخ عبد الرحمن الموصلي:
عاهدته أن لا يميل وقد رآى ... نبذ العهود فديته من نابذ
رد الصباح لناظري بهجره ... ليلاً وسدد بالصدود منا فذى
ناديته واليأس أمسى ضاحكاً ... وأنامل الآمال تحت نواجذي
رفقا بقلب لا يميل لغيركم ... هذا مقام المستجير العائذ
انتهى ومما يحكى من مكارم أخلاقه أنه دعاه بنو الأصفر أعيان تجار الشام فسقط قنديل مملوء زيناً على عمامة صاحب الترجمة وفروته فاستشاط غيظاً وحنقاً فأنشد بعض الأدباء مخاطباً أصحاب الدعوة بمسمع من صاحب الترجمة بيتي محيي الدين بن عبد الظاهر في الملك الأشرف لما نازل عكا وهما:
يا بني الأصفر قد حلت بكم ... نقمة الله التي لا تنفصل
نزل الأشرف في ساحلكم ... فابشروا منه بصفع متصل
فسرى عنه الغضب وتلافى المجلس بأحسن تلاف وانهش قال لي بعض الإخوان وكان حضر ذلك المجلس ما رأيته سر سروره في تلك الليلة وقد وقفت على أشعار كثيرة وقد ذكر لي ولده الصغير الكبير الشان السيد الفاضل إبراهيم أنه جمع ديواناً لنفسه ومما يلطف موقعه قوله في الغزل:
أمل ليس ينقضي في تمني ... نظرة تستفاد عند التفاتك
لست أرضاك مسرفاً في تجني ... ك بحال والحسن بعض صفاتك
لك في كل مهجة راضها الح ... ب هوى يستطاب في مرضاتك
بقوام يملي علي إذا ما ... ل حديث الرماح في لفتاتك
ومحيا يرى ضئيل نحولي ... لعذولي والصبح للسر هاتك
وسنا مبسم إلى الرشد يهدي ... هائماً ضل في دجى مرسلاتك
يا بديعاً تحكى الرياض سجا ... ياه أقل مهجتي شبا لحظاتك
أنا من لا يحيله فرط اعرا ... ضك عن مذهب الولا وحياتك
وعلى مهجتي رقيب من الوج ... د أرى في لقاه بهجة ذاتك
حسب قلب وناظر يتمنا ... ك بأن لا يرى سوى حسناتك
ملح تسلب النهي ومزايا ... أيها يستطاع واللحظ فاتك
وله غير ذلك مما ذكرته في كتابي النفحة وكانت ولادته في غرة رجب سنة أربع وعشرين وألف وتوفي ختام صفر سنة خمس وثمانين وألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى.(3/6)
محمد بن لطف الله بن زكرياء بن بيرام الشهير بشيخ محمد العربي أستاذي ومرجعي وملاذي عين الروم وعماد ملك بني عثمان وصدر علمائهم وأوحد العصر في العلم والفضل وسائر أدوات الرياسة والآخذ من الآداب بالطرف القوي وكان إليه الإشارة في الفصاحة والبراعة مع حسن النظم والنثر في الألسن الثلاثة وجزالة الألفاظ وسلاستها إلى براعة المعاني ونفاستها وقد جمع الله تعالى له أدوات الفضائل ولم يزل يتدرج إلى المعالي حتى بلغ ما بلغ وازداد على الأيام رونقاً واتساقا ورياسة وعزة واستقر في الذروة العالية من قضاء العسكر ورياسة العلماء وكان مقصد الشعراء من كل مكان لا تزال عطاياه واردة عليهم واحساناته فائضة لديهم ولو جمع ما مدح به من القصائد والمقاطيع لناف على ألف ورقة وجمع من الكتب ما لا يدخل تحت حصر حاصر ولا ضبط ضابط وكان مع كثرة تنوعها لا يشذ عن فكره شيء منها برسومه كلها ولقد شاهدت منه غريبة وهي أنه افتقد يوماً ملحمة دانيال فأمر حافظ كتبه أن يخرج الرسائل المتعلقة بالعلوم الرياضية فاستمر الحافظ والفقير معه ثلاثة أيام في مراجعة هذه الرسائل وظفرنا من الملحمة بنسخ متعددة وكانت النسخة التي أرادها لم تخرج بعد فكان يشخصها بأسطرها وورقها ثم ظفرنا بها على طبق ما شخصها وكان من الذكاء في مرتبة لم تسمع عن أحد حتى أنه جاءه يوماً رجل بأسطر لاب عليه كتابة بلسان الأرمني وكان عرضه على أناس ممن يعرف ذلك اللسان فلم يستخرجوا الكتابة وكان الأستاذ صاحب الترجمة لم يعرف مصطلح كتابة الأرمني فاستملى من شخص نصراني مقطعات حروفه وما زال يعمل فكرته حتى استخرج الكتابة بقوة رأيه وسلمها له أرباب ذلك اللسان وكانت الكتابة تاريخ عمل الأسطرلاب وله من هذه الخوارق في الحدس أشياء كثيرة ولد بغلبه وتقدم أن والده ولي قضاء هامدة خمس وأربعين سنة وتوفي أبوه وهو ابن سبع سنين فأحضره إليه عمه شيخ الإسلام يحيى وتقيد بحفظ هذا الدار اليتيم وكان عنده وعند زوجته أعز من كل أحد فإنهما ما رزقا ولدا وكان عمه يطلب له الدعاء من كل من يدخل إليه ويرد من أهالي البلاد عليه لا سيما من أهالي الحرمين الشريفين ثم شرع في الاشتغال فقرأ أولا على الأستاذ السيد محمد نزيل قسطنطينية ثم على حامد بن مصطفى الاقسرابي وعلي العلامة أحمد الشهير بدرس عام وعلي المولى حسن الطويل قاضي العسكر باناطولي رتبة ثم لزم المولى محمد الكردي الشهير بمنلا حلبي وعلى الملا عبد الله وتخرج في الأدب على عمه سلطان العلماء والشعراء وكان في عنفوان عمره يعرض عليه لطائف أشعاره فيصلح ما فيها وتخلص أولا بشيخي ثم بعزتي واشتهر كماله من حين كان ولداً وكان السلطان مراد يسأل عمه عنه كثيراً ويرسل له العطايا الطائلة ولقد ذكر والدي بوأه الله تعالى فسيح جنانه أنه استدعاه السلطان مراد وأعطاه في يده بعض دنانير ففاضت عن يده وسقط منها إلى الأرض جانب فلم يلتفت إلى ما سقط فعجب السلطان من نزاهته ثم لازم على دأبهم من السلطان إبراهيم في أوائل شوال سنة إحدى وخمسين ومات عمه بعد ذلك فاستقر في داره وانضمت إليه حواشي عمه من الصدور وحكي أنه لما عاد من جنازة عمه إلى داره ومعه حفدة عمه صحبهم السيد محمد نقيب الأشراف فلما أتوا الدار أخذ المخدوم صاحب الترجمة إلى صدره وضمه وقبل رأسه وأجلسه مكان عمه وكساه الله تعالى في ذلك الوقت ثوب الوقار والسكون والهيبة وكان عمره يومئذ ثمان عشرة سنة فأقام بدار عمه وورثه وحفته جماعة عمه كالمولى محمد عصمتي والمولى محمد العجمي ثم اتصل بكريمة شيخ الإسلام أبي سعيد فأقبل عليه وصيره كأحد أولاده في المحبة والحنو ووجه إليه ابتداء مدرسة عمه برتبة موصلة الصحن ثم نقله إلى إحدى الثمان ومنها درس بمدرسة أسماخان بنت السلطان سليمان ونقل منها إلى دار الحديث وأعطى منها قضاء الشأم وكان ذلك في سنة أربع وستين وألف وأرخ قضاءه عبد البر الفيومي بقوله:
للشام عز وشرف
وقدم إليها نهار الجمعة عشري رجب من تلك السنة وسلك طريقاً محمودة مع الوقار والعفة وكتب إليه والدي هذه القصيدة يمدحه بها وهي:
صبح الوصال بدا عموده ... والدهر قد صدقت وعوده
والروض أضحى باسماً ... لمسرتي واخضر عوده
وتضوعت أنواره ... بمناى اذ وردت وروده(3/7)
قد صاح فيه العندليب ... وفاح في الآفاق عوده
من منصفي من شادن ... في الحب قادتني قيوده
ملك تحكم في الورى ... وقلوبهم طوعا جنوده
رقت معاطف خصره ... فتحيرت فيها بنوده
إن رمت معنى الحسن من ... ه عليك تمليه خدوده
وعلى الحقيقة ماله ... من مشبه لولا صدوده
نشوان من خمر الدلا ... ل عليه ما قامت حدوده
ما زلت أخشى بعده ... فعلى إذ وفدت وفوده
والصب من نار الغر ... ام فؤاده فيها خلوده
وعلى مياه خدوده ... ورياضها أبدا وروده
رق العذول لحاله ... يوم النوى وكذا حسوده
وافي خيال خياله ... فأتى لمضناه يعوده
فلك المسرة والمنى ... نحوي لقد دارت سعوده
بقدوم مولى الشام من ... أملي من الدنيا وجوده
قد حاز رقي بالولا ... ولرق أجدادي جدوده
من ذا يضاهي مجده ... لا سؤدد إلا يسوده
ما المجد إلا مجده ... فإليه قد خضعت أسوده
قاض عدالته غدت ... كل الأنام بها شهوده
ملئت ملابسه حيا ... ومن التقى نسجت بروده
في العلم طود والتوا ... ضع مفرد والبحر جوده
أبقاه بي ملجأ ... أبداً وللعليا صعوده
ثم نقل منها إلى مصر في غرة رجب سنة خمس وستين ثم عزل وتولى قضاء بروسه ثم أعطى رتبة قضاء أدرنه ثم صار قاضياً بدار السلطنة في سنة اثنتين وسبعين واستمر بها قاضياً سبعة عشر شهرا ووصل إليه والدي في أثناء قضائه فوجه إليه نيابة أخي جلبي وأجزل عليه نعمه الدارة قال والدي ووجدت فيه أبا شفيقا وأخابارا شقيقاً فنظم أمري واغتنم شكري وأجرى ورعي في معروفه معروف أسلافه لأسلافي وجعل السعود في جميع المقاصد من أخلافي بانيا كما بنوا وبادياً من حيث انتهوا فغدت وحشة اغترابي بخدمته انساً وألسن شكري لأياديه ونشر مساعيه خرساً وكنت أرى من فضله وبديع بديهته وصفاء قريحته ولطف طبيعته واشاراته الذوقية ومحاضراته الأدبية ما يبهر العيون ويحقق الظنون إلى ما حواه من كرم الشمايل والاحتشام والمحاسن الموفرة الأنواع والأقسام فما أنكرت طرفا من أخلاقه وأقواله وما شاهدت إلا مجداً وشرفاً من أحواله:
وإذا نظرت إلى أميري زادني ... ضنا به نظري إلى الأمراء
فلو صرفت أوقات عمي وتشرعت بجميع مذاهب الثناء والدعاء له طول دهري لما كنت إلا في كمال التقصير ومعترفاً بالعجز الكثير ومما شنف سمعي به في أثناء المذاكرة أيام تشرفي في مجالسه الزاهية الزاهرة قوله من رباعية أنشدنيها:
ناديت أحبتي لأجل السلوى ... والدهر رسول ربعهم قد سوي
بالنوحة جدت في المغاني حتى ... قد ساعدني على بكائي رضوي
فأنشدته بديهة على طريق المعارضة وهي:
يا من بعدوا وأورثوني البلوى ... والدهر رسوم ربعهم قد سوى
أصبحت وحبكم عميدا دنفا ... من بعدكم رق لحالي رضوى
وأنشدني بعد أيام قوله أيضا
يسبي العقول بلحظة فكأنما ... سقيت سيوف جفونه بسلاف
سيفيه صاد القلوب بنظرة ... من بين نقل قوادم الخطاف
فأنشدته
رشأ رقيق القد والاعطاف ... لم يخش صارم لحظة اتلافي
خطف الفؤاد بنظرة من لحظة ... لما رآني انقض كالخطاف
ثم فارقته عازما على الرحلة إلى الوطن وأنشدته حالة التوديع هذا
إن سار عبدك طاعنا ... في الناس أو أضحى مقيما
فهو الذي لحماكمو ... ما زال في الدنيا خديما(3/8)
انتهى ثم ولى قضاء العسكر بانا طولي في ثامن عشر المحرم سنة تسع وسبعين وكان وهو قاضي بدمشق وعد أبي بملازمة لي فأحسن بها وأرسلها من مدينة يكى شهر وكان توجه إليها في خدمة السلطان محمد وأرسل إلي معها مدرسة لامعى في بروسه بخمس وعشرين عثمانيا ثم نقل إلى قضاء عسكر روم ايلي وأرسل إلى مدرسة خوجة خير الدين بثلاثين عثمانيا ثم عزل عن قضاء العسكر وقدم إلى دار السلطنة فأنزوى في داره واستمر مدة لا يخرج إلا في الثلاثاء ويوم الجمعة وكان إذا خرج في هذين اليومين تواردت عليه الأفاضل من كل ناحية وجبيت إليه أنفس البضائع من الفنون فلا تمر لحظة من ذلك المجلس إلا في مذاكرة ومطارحة ولما وصلت إلى قسطنطينية في سنة سبع وثمانين رأيته في تلك الحالة وحضرته فوجدته محط رحال الفضلاء ومقصد الأدباء والشعراء فدخلت إلى مجلسه وأنشدته هذه الأبيات وهي
دنا الركب من حي تقادم عهده ... وهيج فيه القلب وجد يجده
دعته إلى الشكوى معالم انسه ... ولكن أسرار الغرام تصده
بنفسي من جرعائه كل شادن ... تملك مني حبة القلب وده
من الصيد يرنو لحظه عن مهند ... يقد القلوب الدارعين فرنده
أرد عيوني عنه خيفة كاشح ... وهل يمنع الصادي عن الماء رده
سقاني مدا مارق في اللطف جرمها ... فشف بها عن أحمر الورد خده
سلافاً يصير الصبح في كشفه لنا ... قناع الدجى منه سنا يستمده
وقد بسطت في الروض كف ربيعه ... نسيج نوار حيك كالوشي برده
أقنابه نملي حديث صبابة ... إلى العمر أشهى من شباب يوده
إلى أن دعاني للوداع فهاج بي ... خفي سعير يظهر البث وقده
وقفت وطرفي لا أردد دمعه ... وقد كنت حيناً للفراق أعده
وطار بي الغي المشت وما أرى ... فؤاد شجى يصحب الحب رشده
أنهنه طرف الشوق في كل منهل ... يكاد الفضا يبدي ولم يبد ورده
وعزمي يقود الشوق مني عنانه ... لربع جواد يملأ الدهر رفده
أخو عزمات لا يفل حسامها ... وغند مضاها يجهل السيف حده
يفوت احتمال المرء أول عفوه ... وقد جاوز المقدور في السعي جهده
إذا أشرقت شمس العلى عن جبينه ... فطلعها يستخدم الدهر سعده
يروق به غصن من الحمد يانع ... ويعبق من نشر الثنا فيه رنده
فلا تعثر اللحظات دون مقامه ... بغير مثال يقدح العز زنده
بما تستجد المزن روضاً يروقه ... ومن فيض يمناه المنى يستجده
أدر على الأيام سيباً تفجرت ... ينابيع حتى الصخر أعشب صلده
ولم يبق للمقدار غير تعلة ... يسير بها من قارن اليمن كده
فيا من يرني من نداه أمانيا ... يسالمني فيها من الدهر وغده
رعى الأمل الغادي إليك انسيابه ... فكان إلى صوب المجرة قصده
وشام لديك البحر في صورة الحجا ... يفيض علينا من هباتك مده
فلا تنتهي في يومنا لك نعمة ... كما أنه لا ينتهي فيك حمده
وكانت الأمراض قد أثرت فيه تأثيراً بالغاً وأحناه الضعف حتى صار كالقوس وكان لا يقدر على الحركة إلا بمشقة عظيمة وكانت النزلات تعتريه في دماغه وفي الشتاء يجلس في مكان صغير ويكون عنده منقل كبير يكون عليه من الفحم والنار شيء كثير وكذا في الموقد كثير من الحطب وعليه الثياب الكثيرة وتحته الطرحة الوثيرة بحيث أنه يوجد الحر والكرب وهو مرتاح ثم ولي ثانيا قضاء روم أيلي وازدانت به الدولة وأقبل عليه السلطان محمد اقبالاً زائداً وكان يطلب الاجتماع به وطلب أن يضيفه في بستانه الذي باستبه فأضافه فلما تم المجلس ألبسه السلطان فروة من السمور ثم عزل فقلت أسليه بهذه القصيدة وهي:
ضرب الغمام مضارباً من عنبر ... ملئت خزائنها بأنفس أحور
والأرض ترفل في مطارف سندس ... كالخود في حلل الحرير الأخضر(3/9)
والروض معتل النسيم كأنه ... دار النعيم وماؤه كالكوثر
فاشرب على ورد الخدود مع الربى ... راح الزجاجة والرضاب المسكر
وانهب زمان اللهو قبل فواته ... فالعيش ليس بدائم لمعمر
والدهر أغدر من أضب فإنه ... يصمي الفتى من حيث ما لم يحذر
ولقد عرفت بنيه معرفتي به ... فعجبت من حظ اللبيب المدبر
والناس أميل ما رأيت إلى الغنى ... فيكاد يعبد كل عبد موسر
ولرب ذي فضل يواصل ليله ... طيا وجهل في النعيم الأوفر
لا سامح الله الزمان فإنه ... من شأنه تقديم كل مؤخر
والنذل أضعف ما يرى متقدما ... كتقدم المعمول قبل المصدر
والندب أجمل ما يكون مجردا ... كالعضب ليس يقد ما لم يشهر
وإذا الضمائر في المراتب قدمت ... وتظاهرت حسن اختفاء المظهر
ما خص ذو الجهل الدني برتبة ... إلا كما خص الختام بخنصر
والمرء أتعب ما تراه إذا ابتغى ... خطرا وليل حظوظه لم يقمر
كالمدح أضيع ما يكون إذا جرى ... في غير روح الكون قاضي العسكر
علامة الدنيا وخير مقدم ... هو في الصدور كتبع في حمير
قلب الوجود العزتي محمد ... ذو الوجه والفعل الجميل الأزهر
وتر الكمال فمن رأى أهل العلى ... وأضله أمسى كمن لم يوتر
متواضع للسائلين وربما ... يسمو تكبره على المتكبر
بالعدل تقطر نعمة أيامه ... للمهتدين ونقمة للفجر
لو كان يطلب قدره لم يرضه ... إلا الأسرة أو مراقي المنبر
مولى إذا بخل الغمام أفاض من ... يمناه بالنقدين خمسة أنهر
يعطي على الحالين قدرة ملكه ... ويريك عذر المذنب المستغفر
لا شيء أكرم منه إلا جائد ... كرما به والجود أشرف مخبر
تبع الأفاضل وإلا ماجد رأيه ... إن القليل لتابع للأكثر
قامت فضائلهم به فكأنها ... عرض وجوهر ذاته كالجوهر
من قاسهم جودا به فكأنما ... قاس الجداول جاهلا بالأبحر
نسخت مكارمه أحاديث الألى ... سبقوه من معن الجواد وجعفر
ولئن تأخر عصره عنهم فما ... هو في سبيل المجد بالمتأخر
ليس الزمان بموجب تفضيلهم ... فسميه المختار آخر منذر
والطل قبل الوبل والأسفار من ... قبل الضحى والخلد بعد المحشر
وتجىء فذلكة الحساب أخيرة ... لتكون جامعة العديد الأوفر
واضرب لهم مثلا مناقب ماجد ... محصورة لمناقب لم تحصر
يأيها المولى العظيم وخير من ... ورث السيادة قسورا عن قسور
خذها بديعة بابها وضاحة ... رقت فرق لها قريض البحتري
واستجلها بكراً قبولك مهرها ... والبكر ليس تحل ما لم تمهر
فلأنت أهل المدح دمت لأهله ... ما بيع إلا كنت أنت المشتري
لا زلت في أوج السعادة راقيا ... ومقامك المحمود فوق المشتري
ما حجك الراجي وبابك قبلة ... بقلائد فضحت صحاح الجوهري
فألبسني من حلله جوخة بنفسجية اللون ركب فيها فروة من النافة فقلت هذه القصيدة أمدحه بها ومستهلها قولي:
شأن الموله أن يعيش متيما ... والحب ما منع القرار المغرما
هو ما علمت غرام صب دمعه ... ما زال يظهر سرة المتكتما
لو شاء من أضناه فرط هجيره ... رد الحياة لجسمه متكرما
وإذا الصبابة خامرت قلب امرىء ... وجد الشفاء من الحبيب تنعما
ولرب مغبر الأديم قطعته ... من فوق مبيض القوائم أدهما(3/10)
لا تستطيع الشمس توسم ظله ... فإذا مشى سبق القضاء المبرما
والليل بحر قد تدافع موجه ... وترى الكواكب فيه تسري عوما
وكأن وجه الأفق منقد فضة ... والبدر تحسبه عليه درهما
وكأنما المريخ شعلة قابس ... أو رأس نصل خضبته يد دما
أسرى وشخصك لا يزال مسامري ... وأرى التصبر عنك مرا علقما
يا آفة الأرواح ما ألهاك عن ... دنف لذكر هواك يهوى اللوما
لله عهد كنت بدر ضيائه ... أيام نلقى كل وقت موسما
في روضة لبست رداء زمرد ... صبغت حواشيه الشقائق عندما
وكأن أجياد الغصون كواعب ... أظهرن عقدا في النحور منظما
لا تسمع الآذان في أرجائها ... إلا هدير هزارها مترنما
وشربتها صهباء من يد شادن ... فضحت محاسنه الغزار إلا نجما
نادمته والراح يعطف عطفه ... كالغصن جاذبه النسيم فهيما
فهصرت قدا كالقضيب ومعطفا ... ولثمت خدا كالاقاح ومبسما
مهلاً فلست بمن توقد عنانه ... إلا الصبابة منجداً أو متهما
وأظن لي في الدهر حظاً كامنا ... كالنار أودعت الزناد الأبكما
مالي وللأيام أبغي منها ... وإلى جناب العزتي لي أنتما
علامة الثقلين أفضل ماجد ... حلف الزمان بمثله لن ينعما
مولى إذا ظلم الزمان فما ترى ... إلا إلى عزماته متظلما
جاري الملوك إلى مقامات العلي ... فتأخروا عنه وكان مقدما
لو مد راحته لثغر مقبل ... أنف الثريا أن تكون لهافا
أو تنطق الدنيا بمدحة ماجد ... نطق الزمان بمدحه وتكلما
دعواته تحبلوا الكروب وعزمه ... لو يلتقيه الموت مات توهما
ولو استجار به النهار من الدجى ... لم تبصر الأحداق شيئا مظلما
قد حكم المعروف في أمواله ... والرعب في أعدائه فتحكما
يعطي الألوف سماحة متكتما ... والجود ليس بممكن أن يكتما
ومتى تخيلت القرائح مدحه ... سبقت جوائزه القريض تكرما
متوقد كالبدر ليلة تمه ... فإذا تحرك للعطاء تبسما
ملىء الزمان مهابة من عدله ... حتى أخاف الظبي منه الضيغما
وسرت له سير معطرة الربى ... فكأنما كانت صبا متنسما
يا من نلوذ من الزمان ببابه ... ونرى نداه لما نؤمل مغنما
ماذا نقول سموت عن افهامنا ... حتى استوت فيك البرية أعجما
لله أنعمك التي من بعضها ... لم تبق في الدنيا فقيرا معدما
وخصالك الزهر التي لم يرضها ... أن تجتلي قمم المراتب أنجما
ألبستني نعما رأيت بها الدجى ... صبحا وكنت أرى صباحي مظلما
فبقيت يجسدني الصديق وقبلها ... كان العدو يمر بي مترحما
ما عذر من شرفته بفضيلة ... أن لا ينال بها السها والمرزما
هيهات لست بشاهد جود امرئ ... من بعد ما عانيت جودك منعما
فاليكها زهراء ذات بلاغة ... لو رامها قس لأصبح أبكما
من كل بيت لو تجسم لفظه ... لرأيته وشيا عليك منمنما
وتهن بالعام الجديد ممتعا ... بسعادة رحب الجناب معظما
واسلم لنشر فضيلة معلومة ... لولاك طال على الملا أن تعلما
إن العلى بدئت بذكرك مثلما ... آلت بغيرك في الورى لن تختما(3/11)
وكتبت إليه أستدفع به ما نابني من سلوك طريق القضاء وأرجوه في تخليصي من هذه الورطة قبل أن أتولى منصبا وأن يشفع لي بالملازمة لباب شيخ الإسلام على مدرسة في الروم فقلت:
باكر الحانة والكأس تدار ... فشباب العمر ثوب مستعار
هذه الأرض اكتست أزهارها ... ما على من يغنم اللذات عار
وكأن الروض وشيء فاخر ... نقشه آس وورد وبهار
إن سرت في سرحه ريح الصبا ... فضح العنبر رند وعرار
وكأن المزن تبر كنزه ... درة بيضاء والماء نضار
فتقت كف الغوادي جيبها ... فهمي منها على الدوح نثار
يا رفيقاي دعاني والهوى ... إنما الصبوة للصب شعار
كنت أخفي محنة في خلدي ... لو يكن للقلب في العشق خمار
من يبت ولهان في حب الظبا ... خانه القلب وعز الإصطبار
يعذب الهجر لمن يعرفه ... وبمطل الغيد يحلو الإنتظار
إنما نشوان أحداق المهى ... صحوه من سكرة العشق خمار
يا سقى موطن لهوى بالحمى ... أدمعي إن سحت السحب الغزاز
كم ليال فيه قد قضيتها ... ومن الأيام حلو ومرار
فانقضت أسرع من سهم القضا ... يا ابن ودي ليس للعيش قرار
وحبيب بات زندي طوقه ... والمنى ثالثنا والحظ جار
قمر يحسده البدر إذا ... لاح والغصن متى مال يغار
قد نأى لكن عن العين وكم ... نازح الدار له القلب ديار
أي نفع في اقتراب الجسم أن ... بعد القلب وما يغني الجوار
هكذا تفعل أحكام الهوى ... في بنى العشق وللدهر الخيار
ينقضي العمر ومالي مسعف ... ومن الضيم مصيح لإيجار
هذه حالي وإن طال المدى ... واعتبار الحال للمرء اختبار
غير أن الحرص غلاب النهي ... والمني منها اختيار واضطرار
لا أذم الدهر حاشاي ولي ... أنعم المولى عن الذنب اعتذار
كعبة الآمال والركن الذي ... للمنى فيه استلام واعتمار
ماجد قد صيرت آلاؤه ... كل مجد من علاه يستعار
جمعت فيه المعالي والتقى ... وله العزة خيم والوقار
قد جلا خطب الليالي عزمه ... مثل ما يجلو دجى الليل والنهار
لو يكن للبحر أدنى بره ... لم يلح للعين بر وقفار
وحماه ملتقى عيش المنى ... لا سواه للندى مأوى ودار
روض فضل نجتلي من جوده ... وكذا تجني من الروض الثمار
يغفر الذنب ولو جل وقد ... يحسن الأمر عفو واقتدار
وإذا ناب امرأ جهد القضا ... فإلى سدته منه الفرار
أيها الأستاذ والبحر الذي ... غرفت من فيض كفيه البحار
أنت من لولاه ما كان لنا ... ملجأ يرجى وكهف يستجار
لك أنهى نوبا من بعضها ... يذهل اللب وذو العقل يحار
حل بي الشيب فأفنى رونقي ... وكذاك البدر يعلوه السرار
فأغشى من كروب في الحشا ... حرق منها ومن الطرف انكسار
وتمتع بقواف كربي ... ضاحك النور بها الجلنار
بدع قد أشربت ألفاظها ... ريقة المبسم والخمر العقار
كخدود الغيد تحمر حيا ... وإذا شئت كما اخضر العذار
أنا حسان القوا في فإذا ... فهت طاب الشعر وارتاح الفخار
وإذا غنتك أطيار الثنا ... فأنا من بينها وحدي الهزار(3/12)
ليس لي مال ولكن كلمي ... عسجد ينحل دراً ونضار
لم أقل طالت وأطناب الورى ... في معاليك مدى الدهر اختصار
فابق أعلى الناس جاها وندى ... وإلى مجدك بالعز يشار
لك أهنى عيشة تختارها ... ولأعداك البلايا والدمار
وكانت ولادته في صفر سنة تسع وثلاثين وألف وتوفي في نهار الأحد ثالث عشر شوال سنة اثنتين وتسعين وألف ودفن بمدرسة جدة شيخ الإسلام زكريا مما يلي عمه شيخ الإسلام يحيى ولم أقم بعد وفاته بالروم إلا يوماً واحداً ورحلت إلى دمشق وأنا الآن أليف حزنه وكئيب مصانه انتهى.
محمد بن مبارك باكراع الحضرمي محتداً المدني الأديب الشاعر ذكره ابن معصوم فقال في حقه أديب مستعذب الموارد ومقتنص الأوايد والشوارد إلى أدب سند حديثه مسلسل وعتيق رحيقه سلسل ومحاضرة تنسى معها محاضرات الراغب ومحاورة يوسي باسترواحها اللاغب ونظم نظم به عقود الجمان وقلد بفرائده تحر العصر وجيد الزمان فمنه ما كتبه إلى القاضي تاج الدين مهنئا له بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم:
أاكليل رأس المجد والفضل والتقى ... وسابق شأو السعد والعز والبها
وعلامة العصر الشريف وفخره ... وفهامة الأعلام مرجع ذي النهى
ومن عقد الاجماع والله شاهد ... على فضله عقلاً ونقلاً أودها
فدمت بحمد الله تاجا لدينه ... ودمت بشكر الله في جبهة السهى
وزرت رسول الله والحال منشد ... هنيئا مريئا لنا فضلك ما اشتهى
فأجابه:
أيا من حوى الافضال والفضل والنهى ... وحاز التقى والدين والحسن والبها
وأصبح فردا من الكمال كأنما ... تصور في تكوينه مثل ما اشتهى
تطولت لما أن بعثت برقعة ... إذا ما حكاها الروض قيل تشبها
وكللت تاجي من جواهرك التي ... تعالى ما قدراً على مفرق السهى
ودمت ولا زالت صفاتك كلما ... تلاها محب زاد فيك تولها
البيت الثاني ينظر إلى قول القائل في حق خير الكائنات صلى الله عليه وسلم:
خلقت مبرأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء
قال ورأيت بخط الوالد ما نصه من املاء الشيخ محمد باكراع بمكة سنة أربع وأربعين وألف وهو قوله دوبيت في حسين:
صيرت جفني واصلا والكراراء فجد بالوصل فالوصل زين
ولا تجبني في سؤالي بلا ... فالقلب يخشى كرب لا يا حسين
ثم وقفت في الريحانة أنهما للشهاب الفيومي وتعقبهما بعد إنشادهما فقال في قوله زين ابهام غير زين لأن العامة تقول في حروف الهجاء زين والصحيح فيها زاي بالمد والقصر ويقال زي بزنة كي وأما هذه فتحريف قبيح انتهى وأنا أقول هو ابهام حسن فإن الإبهام يكفيه هذا القدر وإن كان في اللغة غير صحيح إذ المعنى لا يتوقف عليه لأنه لم يقصد بالزين هنا إلا الحسن لكن بمقابلة الراء أو هم هنا ارادة الزاي.
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن بركات الملقب شمس الدين الدين المعروف بابن الكيال الشافعي العالم الهمام المطلع أخذ الفقه عن البدر الغزي والنور النسفي وغيرهما وسافر إلى القسطنطينية ساعياً في المدرسة الشامية البرانية بعد أن استقرت على أبي الفداء إسمعيل النابلسي فلم تتيسر له لشهرة النابلسي بالفضل العام التام ومعرفة أركان الدولة وبفضله أما مشاهدة وإما سماعا فبقي في الروم سنين وورد دمشق في حدود سنة تسعين وتسعمائة وبقي بها مدة ثم رجع إلى الروم ولما مات أبو الفداء وجهت الشامية البرانية للمنلا أسد الدين بن معين الدين ووصل الخبر إلى الروم بتوجيهها إليه قبل التوجيه إليه ولم يكن صاحب الترجمة منها وبقي هناك حتى مات ثمة بعد الألف.(3/13)
محمد بن محمد القاضي شمس الدين بن محيي الدين الرجيحي الحنبلي الدمشقي أحد نواب الحكم بمحكمة الباب بدمشق وليس هو بابن الرجيحي وإنما هو ابن بنت القاضي الرجيحي قيل كان والده صفديا يعرف بابن المحتسب من أعيان صفد فصاهر الرجيحي المذكور ورأس بمصاهرته وولي نيابة القضاء نحو خمسين سنة منها بالباب أربعين سنة وكان حسن الأخلاق منعما مثريا ظاهر الوضاءة والنباهة وله محاضرة جيدة وكان في مبتدأ أمره يخدم قاضي القضاة ولي الدين بن الفرفور ثم طلب العلم وأخذ عن الرضى الغزي وتفقه بالشيخ موسى الحجازي والشيخ شهاب بن سالم وولي قضاء الحنابلة بالكبري في سنة ثلاث وستين وتسعمائة ونقل إلى نيابة الباب وسافر إلى مصر في سنة إحدى وتسعين وتسعمائة واجتمع بالأستاذ محمد البكري وغيره واستمر بها مدة ثم عاد إلى دمشق وولي مكانه إلى أن مات وكان له حجرة بالمدرسة الباذرائية وسرق له منها أمتعة ثمينة فلم يتأثر وكان محبباً في الناس جميل اللقاء كثير التجمل وكان يلبس الثياب الواسعة والعمامة الكبيرة على طريقة أبناء العرب بالأكمام الواسعة والعمامة المدرجة والشد على الكتف وإذا جلس في مجلس أو كان بين جماعة أخذ يتكلم عن أخبار الناس ووقائعهم القديمة التي وقعت في أيام الجراكسة وأوائل أيام العثمانية حتى ينصت له كل من حضر وكان شهود الزور يهابونه فلا يقدمون بحضرته على أداء الشهادة وكان يعرفهم وبالجملة فقد كان من الرؤساء الكبار قرأت بخط الطاراني أن ولادته كانت في سنة ست عشرة وقيل في سنة سبع عشرة وتسعمائة وتوفي نهار الجمعة سادس عشر شوال سنة اثنتين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من سيدي بلال الحبشي رضي الله عنه وحضر جنازته خلق كثير وكتب وصيته قبل موته بمدة وأبقاها تحت وسادته بخلوته بالبارذرائية لما احتضر قال قد وضعت وصيتي تحت الوسادة فإذا مت فخذوها واعملوا بمهنته ثم لما قضى نحبه أخرجت فوجد فيها جميع ما يملك وأنبأت بأشياء أجازها ورثته وخلف أشياء كثيرة من كتب وأمتعة وغيرها وذكر الغزي في ذيله أنه رآه في النوم بعد سنين من موته قال فقلت له ما فعل الله تعالى بك فضحك إليه وقال أما علمت أني مت ليلة الجمعة رحمة الله تعالى.
محمد معروف ابن محمد شريف قاضي للقضاة بالشام ومصر ولي دمشق في سنة تسع وتسعين وتسعمائة ولم يدخلها ثم ولي قضاء مصر في حادي رجب سنة إحدى وألف وعزل في تاسع ذي الحجة سنة اثنتين وحصل له مرض الفالج فأقام بها وبها توفي وكان عالماً فاضلاً متضلعاً من فنون وله بالتصوف وكلام القوم خبرة تامة وشرح تائية سيدي الشيخ عمر بن الفارض رضي الله عنه وله آثار غير ذلك وكانت وفاته يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثلاث بعد الألف وصلى عليه بسبيل المؤمنين بالرملة وحضر للصلاة عليه أحمد باشا الحافظ ومن دونه ودفن بجوار العارف بالله تعالى سيدي الشيخ عمر بن الفارض قدس الله سره العزيز تجاه مقصورته وقبره ظاهر رحمه الله تعالى.
السيد محمد بن محمد السيد الشريف كمال الدين بن عجلان الدمشقي الميداني الشافعي شيخ مشايخ الحرف الرفاعي الطريقة والد السيد محمد النقيب الآتي ذكره قريباً كان من السادة أهل الصلاح والسكون صحيح النية حسن الأخلاق وربما كان يأكل من كسب يمينه ونسج الحرير وكان يقيم الذكر في زاويتهم التي ذكرنا خبرها في ترجمة السيد محمد بن حسن في رجب وشعبان ورمضان يوماً في الأسبوع وهو يوم الأحد وكان كريماً سخياً عاقلاً قليل الاختلاط بالناس وكان محباً للخمول والأنزواء وقال الحسن البوريني في ترجمته وعندي أنه كان من أولياء الله تعالى لأن أخلاقه كانت أخلاق الأولياء العارفين وقال النجم كنت يوماً جالساً في الجامع الأموي فدخل من باب العنبرانيين وصلى ما تيسر له فأسرع في الأركان فخطر لي فيه أنه عامي لا يحسن الطمأنينة في الصلاة فسلم من صلاته ثم قام من مجلسه وأقبل علي وصافحني وقال لي يا سيدي لا تؤاخذني فإني عامي وصلاة العامي لا تعجب العلماء فعلمت أنه كشف منه فكارمته في الخطاب واعتذرته وكانت آثار الصلاح ظاهرة على وجهه وكانت وفاته يوم الثلاثاء سابع جمادى الآخرة سنة أربع بعد الألف وشيخ المشايخ هو الذي يعقد الشد والعهد لأهل الصنائع وكان صاحب هذا المنصب قديماً يعرف بسلطان الحرافيش ثم كني احتشاماً بشيخ المشايخ والله تعالى أعلم.(3/14)
محمد بن محمد بن بركات الملقب ولي الدين بن شمس الدين بن الكيال الشافعي الدمشقي الإمام العالم الصالح الدين وهو والد شمس الدين المقدم ذكره آنفا وجد جدتي لأبي وله وقف أهلي نصفه بيدي كما ذكرته في ترجمة ابن عمه بركات بن تقي الدين وكان خطيب الصابونية وولي نيابة النظر بالشامية البرانية فلما ولي تدريسها أبو الفداء إسمعيل النابلسي عوضه عنها بتولية الظاهرية فبقيت معه إلى أن مات وكانت وفاته في اليوم الذي توفي فيه الشمس محمد بن المنقار المقدم ذكره بل في الوقت الذي مات فيه وهو وقت الغروب من يوم الثلاثاء رابع وعشري شوال سنة خمس بعد الألف بعد أن تمرض وأقعد سنوات ومات وهو في عشر الثمانين ودفن يوم الأربعاء بتربة بيت بباب الصغير رحمه الله تعالى.
محمد بن داود المنعوت شمس الدين بن صلاح الدين الداودي القدسي الدمشقي الشافعي المحدث الفقيه علم العلماء الأعلام والمفتي المدرس الهمام قرأ بالقدس على العلامة محمد بن محمد بن أبي اللطف المقدسي وغيره ثم رحل إلى مصر وأخذ عن جماعة من المصريين منهم النجم الغيطي والناصر الطبلاوي والجمال يوسف ابن القاضي زكرياء والخطيب الشربيني والشمس الرملي ودخل دمشق فأخذ بها عن البدر الغزي ولازم دروسه وأعاد للعلامة إسمعيل النابلسي بالشامية وأخذ عنه العلوم العقلية والنقلية وكان له مشاركة جيدة في الفقيه ومسايرة تامة في المعاني والبيان وسائر علوم العربية واستحضار جيد للشواهد والأمثال وأما الحديث فكان فيه متقنا ماهراً ولما دخل دمشق سكن في حجرة في العزيزية وكان فقيراً فسعى له شيخه النابلسي المذكور في أقسام من العمارة السليمانية ثم ولي مشيخة الحافظية خارج دمشق ودرس في الحديث بالجامع الأموي بعد موت البدر الغزي وبه اشتهر فأقرأ صحيح مسلم ثم صحيح البخاري ثم السيرة وكان يقرأ بين يديه الشيخ محمد الحادي الصيداوي ونقلت عن خطه ما نصه وقع الختم للسيرة النبوية بقراءة الشيخ محمد الحادي على الفقير بجامع بني أمية عشية الخميس السابع والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين بعد الألف وحضره جمع من العلماء والمشايخ والطلبة وغيرهم وأملينا فيه حديثين وهما مما ذكره الحافظ العراقي في أماليه أحدهما حديث اعذار الله إلى عبد أخر عمره إلى الستين أو السبعين وذكر أن البخاري رواه من غيرا والسبعين والآخر حديث قال رجل يا رسول الله أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله فسقناهما باسنادين منا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكذا ما أملاه في معناهما عقب املائهما وهو قوله نظما:
أكملت في ذا اليوم سبعين سنه ... مرت وما كأنها الأسنه
لم أدخر فيها سوى توحيده ... وحسن ظني فيه وهو حسنه
ما حال من لم يتعظ بزاجر ... وفي مراعي اللهو أرخى رسنه
قد أعذر الله لذي الستين هل ... يلفي مسىء عمل أو محسنه
وإن شر الناس من طالت به ... حياته وفعله ما أحسنه
وإن خير الناس من طالت به ... حياته وفعله قد أحسنه
لكننا نأمل من خالقنا ... عافية دائمة مستحسنه
متعنا الله بأسماع تعي ... وأعين باصرة وألسنه
ونرتجي عند انقضا آجالنا ... ختما بخير ووفاة حسنه
وإنما لناس نيام من يمت ... منهم أزال الموت عنه وسنه
قال وقلت أنا من لفظي لنفسي عقب املائي لما ذكر يوم الخميس عشري شهر رمضان سنة اثنتين وألف وهو:
أدركت في ذا العام ستين سنه ... وقد مضت مثل خيال وسنه
ظلمت فيها النفس ظلما بينا ... قصرت عن كسب الخصال الحسنه
لم آل جهداً في أتباعي للهوى ... ولم أحصل قربا مستحسنه
وأخجلتا في موقف العرض إذا ... يصير سر كل شخص علنه
لكن ظني في كريم حسن ... ينيلني من الجميل حسنه
إلا أجى يوم اللقا معترفا ... بالفقر والعجز وذل المسكنه
مرتجيا غفرانه عن زلتي ... بخصلتين كل إحدى حسنه
توحيده بالقلب مني مخلصا ... كذاك نشري للنبي سننه(3/15)
فالفوز أرجو من إلهي بالرضا ... في جنة الفردوس دار المأمنه
وبشفاعة النبي أرتجي ... منزلة تقرب فيها وطنه
فصل يا رب عليه دائما ... واجعل إلهي ختم عمري أحسنه
ولما وقفت على ما أسنده الحافظ أبو الفضل العراقي إلى الإمام أبي القاسم الرافعي مما أملاه من لفظه لنفسه ولم يذكر تاريخ إملاء الرافعي لذلك ولا مكانه وذكر تاريخ املائه هو له ومكانه وهو المجلس المائة الواقع بالقاهرة بالمدرسة القراسنقرية يوم الثلاثاء تاسع جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وسبعمائة وهو:
طوبي لمن طيب أوقاته ... إذا نأى عنكم بذكراكم
إذا دنا عطر أردانه ... بما يغيظ المسك رياكم
كل فؤاد بكم مغرم ... وكل عين تترضاكم
إذا حييتم فدعوني أمت ... فإنما محياي محياكم
رفقا بمن صار أسيرا لكم ... أما ترقون لأسراكم
أما لكم في وجهه سيمة ... روحي فداء لثناياكم
أما لكم في شأنه رحمة ... رحمنا الله وإياكم
فقلت أنا من لفظي لنفسي وأمليته عقب ختمي لمجلس الوعظ على الكرسي بالجامع الأموي في يوم الاثنين سلخ شهر رمضان سنة اثنتين بعد الألف:
إذا حضرتم واجتمعنا بكم ... فقد تمتعنا برؤياكم
وإن نأت عن دارنا داركم ... فقد تداوينا بذاكراكم
طوبي لمن أنستموه بكم ... فهو بغيب يتراآكم
وقد سكنتم في سويدائه ... فأينما وجه يلقاكم
فالعبد منكم وإليكم وفي ... باب رضاكم يترجاكم
وماله من سبب موصل ... إلى مناه غير رحماكم
فمن يرجى جودكم صادقا ... تولوه من فيض عطاياكم
وكان يعظ يوم الأحد والخميس من كل جهة في الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان عن ظهر قلب وكان الوعاظ غيره يعظون الناس من الكراريس فثار جماعة الشهاب الطيبي المتوفي في سنة أربع وتسعين وتسعمائة إليه وقالوا كيف يأتي رجل غريب ويعظ غيباً وأنت شيخ الوعاظ والمفسرين بدمشق وتعظ الناس من الكراريس فلا زالوا به حتى ترك الكراريس وصار يملي في التفسير وغيره ففاق على الداودي لأنه كان واسع الصوت فصيح العبارة سيع الإملاء وكان الداودي منخض الصوت وله في لسانه رتة إلا أنه كان صحيح العبارة حسن الاستحضار عليه مهابة العلماء وله سكينة وولي آخرا تدريس الأتابكية بالصالحية وانتفع به جماعة كثيرون من الفضلاء المشار إليهم أنبلهم الحسن البوريني فإنه أخد عنه الحديث وذكره في تاريخه وأطنب في مدحه على عادته ثم قال وكان مع كمال فضله وغاية فطنته ونبله ينظم الشعر البديع الذي يعترف بحسنه البديع كتب إلي وكتبت إليه وأورد علي وأوردت عليه فمن ذلك ما أرسل إلي ملغزاً في ورد فقال:
يا إماما قد حاز كل المعاني ... ورقي للعلى بغير تواني
دمت للمجد والفضائل كنزا ... دائماً آمنا من الحدثان
ما اسم شيء له حروف ثلاث ... وحروف تزيد فوق ثمان
وإذا ما حرفته كان دأبا ... لذوي الدين من أولى العرفان
وإذا ما حذفت أول حرف ... منه أضحى فعلاً لماضي الزمان
وكذا مصدر وتحريف هذا ... فعل أمر وصحبة في بيان
وإذا ما عكست ذا الأمر تلقى ... جوهراً في نحور حور حسان
وإذا ما بدلت أول حرف ... منه باء أضر بالإنسان
أو بجيم فوصف ثوب معنى ... فاقداً القوت عادم الإمكان
أو بفاء أبدلته فهو وصف ... للإله له المهيمن الديان
أو بنون فذا حرام علينا ... معشر الناس من أولى الإيمان
وإذا قلبه أزلت تجده ... لك في قلب خلص الإخوان
وإذا ما أبدلت بالقلب عينا ... صار ممن تحب أقصى الأماني
أو بغين أبدلته فهو وصف ... لرقيب منه الكروب أعاني
أو بفاء فاسم لمن لحماكم ... أم يرجو منا الإحسان(3/16)
أو بقاف فوصف ما بفؤادي ... للقاكم من لاعج النيران
وهو يبقى بالجسم للناس دهرا ... وبروح إن جسمه صار فاني
ويسر النفوس في مجلس الإن ... س إذا ضاع نشره في المكان
وهو في وجه من تحب تراه ... واضحاً دائماً مدى الأزمان
ورد اللغز نحو بابك يسعى ... يرتجى حله بحسن البيان
فأجب سيدي فلا زلت أهلا ... للمعالي في نعمة وأمان
قال وهذا الجواب الذي كتبته إليه وهو:
أمعان بدت لنا من مباني ... أم عقود فاقت عقود الجمان
أم سلاف راقت ورقت فلما ... ما زجتني غدوت كالسكران
أم حبيب مواصل بعد هجر ... من لطفا بقربه والتداني
أم نظام قد جاءنا من إمام ... واحد الدهر ماله فيه ثاني
فظباء العلوم ترتع زهوا ... في رباه ما بين تلك المغاني
ما امرؤ القيس في القريض وقس ... عندما قلت يا إمام الزمان
أنت بحر الندى وحبر المعالي ... أنت إنسان عين هذا الزمان
أنت شمس لكن بغير كسوف ... أنت بدر لكن بلا نقصان
لك يا أوحد الزمان بيان ... قد غدا حاوياً بديع المعاني
كل أهل العلوم ركن ولكن ... أنت مولاي عمدة الأركان
فضلكم شامل الأنام فإني ... واجد شكركم بكل لسان
كل شخص أتى يؤم حماكم ... شملته هواطل الاحسان
جاء من در بحر فضلك لغز ... فاق لطفا قلائد العقيان
هو روض وفاح منه عبير ... فغدا مذكري خدود الحسان
إن هذا والله سحر حلال ... فاتني حله بعقد اللسان
كان في خفية فهبت عليه ... نسمات الأفكار والأذهان
فأثارت منه العبير فاضحى ... واضحاً ظاهراً لعين جناني
وإذا ما قلبته قلب بعض ... صار دورا يا كامل العرفان
وإذا ما حذفت قلبا فيبقى ... مشبهي صدغ شادن فتان
فيه نشر حكى ثنائي عليكم ... لعطاء كالوابل الهتان
يا إماماً سما على كل سام ... فعلا رفعة على كيوان
خذ جواباً أتاك يبدي قصورا ... من حليف الهموم والأحزان
أين نظم القريض من فكر شخص ... أغرقته مواطر الأشجان
عاندته يد الزمان فاضحى ... في مكان وقصده في مكان
ثم قل لي ما اسم ثلاثي وضع ... ثلثاه عش دائماً في أمان
وإذا ما فتحت عينا تراه ... صار فعلاً لماضي الأزمان
آخر منه مثل علمك طود ... أول منه أنت في الإنسان
ليس يخلو منه لطيف وإني ... صرت منه في الناس كالحيران
إن تصحفه تلقه ضد ضوء ... فيه أبكي من زائد الهجران
فاكشفنه وأوضحن لمعنى ... دمت في رفعة مدى الأزمان
ما تغنت على الأراكة ورق ... فأمالت موائد الأغصان
قال فأجابني بقوله بهذه وهي:
أيها الفاضل الذي في المعاني ... وبيان علا بديع الزمان
يا فصيحاً قد فاق في الفضل قسا ... وبليغا أربى على سحبان
من يجاري جواد فكرك يكبو ... طرفه في غداة يوم الرهان
هكذا هكذا القريض وإلا ... فالأحق السكوت للإنسان
قد حللت المعقود أحسن حل ... وعقدت المحلول عقد الجمان
وبذكر الخدود هيمت قلبا ... كان من قبل زائد الهيمان
وبواو الأصداغ والدال أضحى ... لي دور في الورد والريحان
وحوى نظم عقد لفظك لغزا ... سلب الروح من يد الجثمان
هو شيء له الناس حكم ... من تولى عليه أصبح عاني(3/17)
حاكم ظالم لطيف عنيف ... باطن ظاهر بلا كتمان
جائر في قضائه ليس يخشى ... من وزير علا ولا سلطان
وقلوب الأسود بالرغم أمست ... منه قهراً مراتع الغزلان
كم له في الأحياء مثلي قتيلا ... من كماة لدى الوغى شجعان
وهو في اللفظ ذو حروف ثلاث ... ولدى البسط واحد مع ثمان
أول منه أن بدا لي أنادي ... مرضى من مريضة الأجفان
وأخير مماثل طورسينا ... عكسه فاق شامخ البنيان
أن تفصل حروفه وتصحف ... تلقه في مفصل القرآن
وتراه مصحفا عاد كالصبح ... إذا من هاجر بالتداني
وهو في القلب كامن وتراه ... ناطقاً مفصحاً بغير لسان
ثلثاه أودعته في مقالي ... عشت دهراً ممتعاً في أمان
خذ جواباً بينته لك حتى ... صار من بعد واضح التبيان
ثم دم راقيا سنام المعالي ... حائز المجد فائق الأقران
ما جرى بين أهل فضل سؤال ... وجواب يفوق زهر الجنان
ومما أورده النجم الغزي ما أنشده إياه قوله:
لولا ثلاث هن من ودي ... ما كنت أخشى الرمس في لحدي
إن أنشر السنة أبغي بها ... نصراً على الحاسد والضد
وأتلو القرآن ليلا إذا ... نام الورى في الفرش والمهد
وإن أرى في عمل مخلصا ... لدى الإله الواحد الفرد
فهي ثلاث أرتجي في غد ... أرقى بها في جنة الخلد
قال النجم مولده كما سمعته من لفظه ثم قرأته من خطه في أحد الربيعين سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة وتوفي يوم الأربعاء ثالث شعبان سنة ست بعد الألف وكانت جنازته حافلة ودفن بمقبرة باب الصغير قال وكان سبب موته مرض عقب غيظ حصل له في مجلس عقده عليه شيخ الإسلام يحيى بن زكريا حين كان قاضياً بالشأم بسبب حمية لأبي زوجته السيد أبي بكر الحصري بسبب دعوى سبقت منه في زمن المولى كما الدين حسين كان قاضي الشأم علي زين الدين بن المريد أنه سبه وسب أجداده وكانت مفتراة على ابن المريد فأراد ابن المريد أن يذب عن عرضه ويدفع ما سجل عليه من الدعوى فعرضت صورة الدعوى على شيوخ العصر فوجدوها متناقضة هي والشهادة وبينوا التناقض فعارض في ذلك الداودي فجمع قاضي القضاة العلماء منهم شيخنا القاضي محب الدين الحنفي والشيخ شهاب الدين العيثاوي الشافعي وكانا قد أفتيا بعدم مطابقة الشهادة للدعوى فعارضهما الداودي وأيد أهل المجلس كلامها وأفهموا القاضي ما أفهماه ووقع من القاضي في حقه بسبب أنه قال معتذرا عن قيامه في ذلك المصاهرة تقتضي المناصرة وقال له القاضي لا تكتب على الفتوى بعدها فحصل له غيظ وانزعاج ومرض من يومئذ فلما كان اليوم الذي مات فيه إبراهيم بن البطاخ المقدم ذكره دخل ضحوة النهار جماعة يعودون الداودي فبينما هم عنده إذ دخل عليه منلا على العجمي الأعرج وكان من أصدقائه وتلاميذه فقال له أعظم الله أجركم في الشيخ إبراهيم بن الطباخ فتألم الداودي وتأوه وتأسف عليه وتكدر المجلس لما كان بينهما من الصداقة والتلازم فخرج الناس فقال لأخيه الشيخ عبد القادر أقعدني يا أخي فأقعده فلقف ثلاث لقفات ومات لوقته رحمه الله تعالى.
محمد بن محمد الملقب بدر الدين الكرخي الشافعي نزيل مدرسة السلطان حسن بمصر ذكره الشيخ مدين القوصوني فقال في حقه كان عالماً عاملاً فاضلاً كاملاً فقيهاً مفسراً محدثاً مطلعاً أخذ العلم عن جماعة منهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري قال رحمه الله تعالى قرأت عليه سورة الفاتحة وأجازني بجميع مروياته ومؤلفاته ومنهم الإمام شهاب الدين أحمد الرملي وولده الشمس والشيخ العلامة الشمس محمد بن إبراهيم التتائي المالكي قال ومن جملة ما قرأته عليه شرحه على القصيدة التي في مصطلح الحديث التي أولها قوله:
غرامي صحيح والرجا فيك مفصل ... وحزني ودمعي مرسل ومسلسل(3/18)
قال قرأته عليه في سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وألف التآليف الفائقة منها حاشيتان على تفسير الجلالين كبرى في أربع مجلدات وصغرى مجلدين ضخمين وله أيضاً حاشية على شرح المنهاج للشيخ جلال الدين المحلى وكانت ولادته في عشرة وتسعمائة وتوفي سنة ست بعد الألف في ذي القعدة ودفن بحوش الإمام الشافعي رحمهما الله تعالى.
محمد بن محمد بن عبد الرحمن مؤذن باجمال قال الشلي في وصفه صاحب الأحوال والمهابة ولد في سنة خمس وتسعمائة بعد وفاة والده محمد فسمي باسمه وتربى في حجر عمه الفقيه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن وحفظ القرآن وقرأ على عبد الرحمن المذكور العلم وأخذ الفقه عن الفقيه عبد الرحمن بن سراج ووالده والفقيه محمد وصحب جماعة من العلماء الأكابر كالفقيه عبد الله بن سراج الفقيه علي بن محمد بامهيد وحصل كتباً كثيرة ووقفها على طلبة العلم وكان صحيح القلب والجسم معاً في الأمراض معاشراً بالمعروف قائماً بحقوق الإخوان والمحبين في الله تعالى من الإكرام وصلة الرحم له صبر شديد شكور لله تعالى على نعمة الظاهرة والباطنة وكان له همة عليه ومرؤة تامة في جميع أحواله ووقف على عمارة كتبه وقفاً كبيراً ووقف سقايتين ووقف عليه ما يقوم بهما وكانت وفاته في سنة سبع بعد الألف.
محمد بن محمد بن عبد الله التركي الخلوتي المصري أخو عبد الله بن الصبان المقدم ذكره المناوي في طبقاته وقال كان شيخاً صالحاً متعبداً متزهداً ريض الأخلاق حسن الشمايل جيد الخبرة بطريق التصوف مشاركاً لأهل الحقائق أخذ عن الشيخ كريم الدين الخلوتي ثم عن أخيه الشيخ عبد الله وكان مع تخلقه بأخلاق القوم وتمكنه في طريقهم لا يأكل إلا من عمل يده فكان يعمل المناخل ويبيعها ويتقوت منها وهو مع ذلك ملازماً للجد والاجتهاد بحيث لا يغفل طرفة عين وكان محمدي الصفات إن ذكرت الدنيا ذكرها معك وإن ذكرت الآخرة ذكرها معك ولم يكن للغضب عليه سبيل وكان قد انتهى إلى حالة يسمع معها نطق الحيوانات والجمادات بالتسبيح وكان إذا اشتغل بالذكر شاركه الموجودات قال ولزمته فما رأيته غضب وقال لي أنه أقام ثلاثة عشر عاما لا يضع جنبه إلى الأرض بل يصلي الصبح بوضوء العشاء وقال لي أنه أقام بمكة سنين ينفصد في كل أسبوع مرتين لشدة حر القطر وحدة الاشتغال قال وهذه كرامة لا ينكرها إلا حاسد أو معاند ووقع له أنه دخل بيتاً ليس فيه مصباح فأضاء بدنه وكان يتأسف على اندراس أهل الطريق واختفاء آثارهم وحج في آخر عمره ورجع مريضاً ومات في سنة سبع بعد الألف بعد نحو شهر من قدومه وقال في مرضه قد فتشت وطفت الحجاز فلم أر أحداً من الظاهرين فيه أهلية التسليك وطريقة الخلوتية قد صارت شاذلية وصلى عليه بجامع الأزهر ودفن بجانب أخيه عبد الله بحارة بهاء الدين تجاه مدرسة ابن حجر ولم يخلف بعده مثله رحمه الله تعالى.(3/19)
محمد بن محمد شمس الدين القدسي الشافعي الدمشقي المعروف في بلاده بابن خصيب وبالسيد الصادي وفي دمشق بالسيد القدسي وقد تقدم حفيده محمد بن علي وذكرت نسبه ثمة فليرجع إليه وكان هذا السيد المترجم من أهل الفضل والأدب نشأ على الجد والاجتهاد حتى ساد وبرع ونبغ من بين أهله وحيد إلا أنه لم يكن فيهم صاحب معرفة بل كلهم من أرباب الحرف ورحل إلى مصر في ابتداء أمره وحفظ فيها صفوة الزبد وكان يقول كنت أسمع العلماء ببيت المقدس يقولون من قرأ هذا الكتاب لا بد أن يلي القضاء قال وكنت لا أرغب فيه فكنت أقول انخرمت القاعدة فلما كنت بالروم احتيج إلى قاض شافعي لأجل فسخ نكاح فوليت القضاء في تلك القضية فقلت هذا تأثير ما قيل في من قرأ الصفوة وأخذ تدريس المدرسة الجوزية وأخذ في مرة أخرى توجه فيها إلى الروم تدريس المدرسة العمرية بالصالحية وكانت للشهاب العيثاوي فأعطاه العيثاوي دراهم واستفرغه عنها ثم سافر إلى الروم مرة أخرى فأخذ تدريس العذراوية فقرأ واقرأ وأخذ العذراوية عنه القاضي ابن المنقار فسافر وأخذها عن ابن المنقار ثانياً واستمرت عليه إلى أن مات ودرس بالجامع الأموي ولما هدمت دار العدل التي كان قد عمرها الملك العادل نور الدين بدمشق وكان هدمها في أواخر سنة ألف أخذ السيد المذكور حصة من أرضها وعمرها داراً له وسكن بها مدة وكان قبل ذلك ساكناً بالمدرسة الريحانية وكان في مدة اقامته بدمشق يزاحم أكابرها ويداخلهم ويشفع فتقبل شفاعته إلى أن ولي قضاء الشام شيخ الإسلام يحيى بن زكرياء فولاه قضاء الشافعية بدمشق قال البوريني فاقتضت حكمة الله تعالى أن اختل تدبيره وانهدم تعميره وصار عقله معقولاً وعقد تصرفه محلولاً وصار يسير في الأسواق منفرداً ويدخل بيوت الطباخين وحيداً فيأكل من طعامهم ويلتذ بكلامهم ويلقى أصحابه فلا يعرفهم وينصرف عنهم ويصرهم ولما ظهر اختلاله واختلفت أفعاله وتناقضت أقواله ولم تنتظم أعماله قيده ولده في داره ومنعه من تسياره ومضت له مدة شنيعة وانقضت أحواله البديعة والدهر أبو الأهوال ولا يبقى مع أحد على حال ثم قال وكان لي رفيقاً وكنت له صديقاً لا أفتر عن مصاحبته ولا أغيب عن موافقته فأما يكون عندي وأما أكون عنده وكان لا يلتذ بالعيش بعدي ولا ألتذ بالعيش بعده كما قيل في معناه:
بروحي من نادمته فوجدته ... ألذ من الشكوى وأصفى من الدمع
يوافقني في الهزل والجد دائماً ... فينظر من عيني ويسمع من سمعي
قال وكنت في صحبته مرة في قرية منين من قرى الشام وهي في الحقيقة ذات روض نسام وزهر يفوق وزر على الثغر البسام ماء جاري ونسيم ساري وواد لا ترى فيه الشمس إلا من خلال الأشجار وفوقها أطيار تسبح الواحد الغفار في الأصل والأسحار فلما دنا وقت الظهيرة وحمى حر الهجيره أراد الراحه فانفرد عنا للاستراحة فما رأيت المنام غنما بل رأيته في مثل ذلك المكان غرماً فكتبت إليه مرتجلاً وأرسلت إليه عجلاً:
بحقك خلى لا تضع فرصة المنى ... وبادر إلى هذا الغدير المسلسل
وإن لم تجد زهر الرياض فإننا ... نريك زهوراً من كلام مرتل
فكتب إلي وعطف بجوابه علي قوله:
على غدير جلسنا في مذاكرة ... ودوحة قام من سوق على ساق
فخلت أغصان ذاك الدوح باكية ... تريد تكتب ما نملي بأوراق
ولما وصلا إلى وحصلا لدي كتبت إليه هذا:
جلسنا بروض فيه زهران أسقيا ... بماء افتكار والمياه الدوافق
فمن زهر يبديه روض كلامنا ... ومن زهر يبديه روض الحدائق
قال وبالقرب من قرية منين قرية يقال لها التل قبل الوصول إليها من جانب دمشق فلما قفلنا من جانب منين عزم علينا أهلها أن نمكث بها عندهم يوماً فأجبنا الدعوه وانتهزنا فرصة الأيام الحلوه فكتب إلي السيد المذكور مداعباً فقال:
أيا سيد السادات يا من بنانه ... تضيف الورى بالجود في الزمن المحل
إذا ساعد الحظ السعيد فإننا ... نطل على الوادي ونرقى على التل(3/20)
وكان بدمشق خطيب في الجامع الأموي وكان أعرج أعوج متهما في العقيدة وفي الأفعال وهو شرف الدين محمود بن يونس الطيب وكان مع جهله يتعرض للفتيا وكان للناس يعدون ذلك من البلوى فكتب يوماً على بعض أحكام قاضي القضاة بالشام مصطفى بن بستان أنه باطل ومن حلي الحقيقة عاطل فجمع عليه العلماء وكتب فيه رسالة بالجهل بعض توابع القاضي المذكور وهو الفاضل أحمد بن اسكندر الرومي وكتب عليها غالب علماء البلدة فمن جملة من كتب عليها السيد صاحب الترجمة وصورة ما كتبه الحمد لله الذي أيد الحق بالبرهان القاطع وأظهر الدين وقع كل فاسق مخادع والصلاة والسلام على رسوله المصطفى الذي ما زال عن الشريعة يدافع حتى أزال الظلام وبدا وجه الحق بالنور الساطع وعلى آله الذين هم طراز المحافل وعلى صحبه ما ارتفع الحق وخفض الباطل وبعد فقد وقفت على رسالة التي سارت بسيرتها الركبان وتناقلها أكابر الفضلاء في هذا الزمان فوجدتها غريبة المثال معربة عن قائلها بأن لسان الحال أفصح من لسان المقال قد تضمنت ما انطوى عليه هذا الغمر من القبائح وما انتشر منه في هذا العمر القصير من الفضائح فإنه قد امتطى غارب الجهل والعناد وانتضى حسام الزور والشرة بين العباد وأخذ أموال الناس وتوصل بها إلى الحكام وحصل ضرره وفساده في الأرض للخالص والعام ومشى على غير استقامة حسا ومعنى وأنشد قول القائل في ذلك المعنى:
من يستقم يحرم مناه ومن يزغ ... يختص بالاسعاف والتمكين
أنظر إلى الألف استقام ففاته ... عجم وفاز به اعوجاج النون
تصدر للفتيا مع أنه أجهل من توما الحكيم وأنصف حماره ابن حجيج فركبه في الليل البهيم قد فتح فاه بجهله وصدر فتياه بقوله الحمد لله سبحانه والشكر لله تعالى شأنه ولم يميز في السجعين بين الفاعل والمفعول فكأنه اشتغل بباب البدل مع حبه فحصل له بروحه هذا الذهول لأنه رأى في كتب النحو المهذبه أن الفاعل ما اسند إليه فعل فظنه بهذه المرتبه ولو سئل لأبرز من ضميره هذا الخاطر وحلف بأبي عمرة أن هذا هو الظاهر ولقد شهدته حضر بمجلس قاضي القضاة بدمشق الشام مع واسطة عقد الفضلاء الكرام وبدر الليالي وشمس الأيام الشيخ حسن ابن محمد البوريني فدار بينهما الكلام حتى ذكر في أثناء كلامه ولا رجل لغوي ففتح اللام في المنسوب فقال له البدري حسن أنك لغوي مبين وانفضح في ذلك بين العالمين فيا ليت شعري بهذه الرتبة السافله والدرجة النازله يروم أن يرقى المراتب العليه بل هذا دليل على أنه أجهل البريه:
لا يستوي معرب فينا وذو لحن ... هل تستوي البغلة العرجاء والفرس
وطالما عرج على درج المنبر وجعل أمرده أمامه ولولا التقية لجعله أمامه وما تلفت على أعواد المنبر يميناً وشمالاً إلا ليقتنص ظبياً أو يصيد غزالاً وإذا ترنم وأظهر الخشوع واهتز لغير طرب وأجرى الدموع فلا جل مليح يراه عند المحراب ولم يستطع أن يشافهه بالخطاب أو ليخدع بعض الحضار من الاتقياء الأخيار فأنشدته ارتجالاً وأنفاسي تتصعد ومهجتي بنار الكمد تتوقد:
أفاضل جلق أين العلوم ... وأين الدين مات فلا يقوم
يجاهركم خطيبكم بفسق ... ويفتي فيكم توما الحكيم
أبالحب والخب ترجو الرفعة على الأنام أم بالرشوة والتزوير تنال الرتب في هذه الأيام أم بالسعي في إبطال حق وحقيقة باطل شتان بين من تحلى بالفضائل وبين من هو منها عاطل وما كفاك أخذك التدريس بالتدليس وخوضك في الفتن التي فقت بها على إبليس حتى دخلت على العلماء من غير باب ورددت أقوال الفضلاء بغير صواب كأنه خطر في زعمك الفاسد وفكرك القبيح الكاسد أن الله قبض العلماء ولم يبق منهم أحد واتخذ الناس رؤساء جهلاء في كل بلد فتصل الناس كما ضللت وتعديت وتنفق بضاعتك الكاسدة بقولك أفتيت وفيه:
قولوا لأعرج جاهل متكبر ... قد جاء يطلب رفعة وتكرما
دع ما تروم فإن حظك عندنا ... تحت الحضيض ولو عرجت إلى السما(3/21)
ومما يدل على جهلك المركب وعدم فهمك الذي هو من ذاك أعجب أنك ترى دمشق الشام مشحونة بالعلماء والأفاضل الذين ليس لهم في الدهر من مماثل وهم مشتغلون بالعلوم وتحريرها وتنقيح المسائل وتقريرها وأنت تغالط بنفسك وتدخلها مع غير أبناء جنسك وتترفع على من لا يرتضيك تقبل رجله ولا يراك أهلا لخدمة نعله دع الفخر فلست من فرسان ذلك الميدان ولا أنت ممن أحرز قصب السبق في يوم الرهان ومالك في ذلك ومالك شيخ في التدريس سوى أبي مرة إبليس فما زلت تسلك في مسالكه وتقع في مهاوي مهالكه حتى أنشد لسان حالك في قبيح سيرتك وخبث أفعالك هذين البيتين:
وكنت فتى من جند ابليس فارتقى ... بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فلو عشت يوماً كنت أحسنت بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فلما تبين من حالك أنه كالليل الحالك طردك شيخ الإسلام وأقصاك وحجب سمعه عن كلماتك الملفقة وما أدناك فتضاعف له الدعاء من سائر الورى وترادف له الشكر من أهل المدائن والقرى لا زال طائر الفضل في بستان فضله مغرداً ودام يعلو على جميع الأقران مفرداً فهو ذو الفكر الصائب والفهم الثاقب أعلم العلماء على الإطلاق وأوحد الأصلاء بالاتفاق حامي حوزتي العلم والشريعة حاوي الدقائق التي أصبحت له مطيعه مظهر الحق في سائر الأمصار ممحي الباطل وقامع الأشرار من سقيت أصوله الزاكية من بستان العلوم وطابت فروع ذلك الأصل زاهرة كالنجوم أمد الله تعالى أطناب دولته السعيده وأدام صولته الشديده بمحمد وآله ومن سلك على منواله انتهى وللسيد صاحب الترجمة أشعار وأخبار كثيرة وفي القدر الذي أوردناه له مقننع وكان عرض له فالج قبل موته بنحو سنة ثم مات بالإسهال في يوم السبت ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثمان بعد الألف ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى.
محمد بن محمد بن أحمد بن عمر بن إسمعيل بن أحمد بن الفرد في زمنه الشيخ محيي الدين ينتهي نسبه إلى السلطان إبراهيم بن أدهم قدس الله سره وقد قدمنا تتمة نسبه في ترجمة ابنه عبد الحق المرزناتي الصوفي الحنبلي المذهب الصالحي الشيخ الصالح الخير كان من أمثل صوفية الشام وكان أخذ طريق القادرية عن الأستاذ أحمد بن سليمان وادعى بعد موت شيخه أنه خلفه وأراد أن يجلس مكانه على سجادته فما مكن وذكرنا ذلك في ترجمة الشيخ عبد القادر بن أحمد بن سلميان المذكور فلا نطيل بإعادته وكان المترجم كثير الرحلة إلى الروم وله مع علمائها اختلاط كثير وكان له فيما يفعله مشايخ الصوفية من النشر والتعويذات شهرة تامة وكان يروج بذلك مقداره عند الأروام بسبب اعتقاد المتقدمين منهم ونار بسبب ذلك قبولا وأخذ وظائف ومعاليم كثيرة وكان فاضلاً عارفاً وله في التاريخ معرفة وقيد كثيراً من أحوال معاصريه في مجاميعه وذكر وفيات بعض العلماء وقد رأيت منقولاً من خطه كثيراً من الفوائد من ذلك ما صورته وفي نهار السبت ثالث جمادى الآخرة سنة تسع وألف رأيت أسماء السبعة رضي الله عنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين قتلوا وأجسامهم بقرية عذرا ورؤسهم بالسبعة وأقصابهم بمسجد الأقصاب وأقدامهم بمسجد القدم فقال:
وسبعة بفنا عذراء قد دفنوا ... وهم صحاب لهم فضل واكرام
حجر قبيصة صيفي شريكهم ... ومحرز ثم كرام وهمام
مني السلام عليهم دائماً أبدا ... تترى يدوم عليهم كلما داموا
قلت قال ابن كثير في تاريخه يستحب زيارة قبور الشهداء بقرية عذراء وهم حجر بن عدي الكندي حامل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن همام وقبيصة بن ضبيعة العبسي وصيفي بن نسيك الشيباني وشريك بن شداد الحضرمي ومحرز بن شهاب السعدي وكرام بن حيان العنزي كلهم في ضريح واحد بجامع القرية المزبورة وهي مكتوبة على لوح من صخرة نظمهم بعض العلماء فقال في ذلك:
جماعة بثرى عذراء قد دفنوا ... وهم صحاب لهم فضل واكرام
إلى آخر البيتين عودا وكانت وفاة صاحب الترجمة في أربع عشرة بعد الألف.(3/22)
محمد بن محمد بن عمر بن سالم الملقب شمس الدين بن أبي البقا المعروف بالقصير الموصل الأصل الدمشقي الشافعي المذهب ذكره النجم وقال كان يحفظ كلام الله تعالى حفظاً متيناً ويحفظ من خطب الشهاب الطيبي كثيراً أخذ القراآت عنه وعن ولده الشهاب أحمد الصغير وكان حريصاً على مصنفات الطيبي ومناطمه وكان يلازم صلاة الظهر والعصر في جامع الأموي ويصلي الجماعة أربع مرات وليم على الزيادة على مرتين فلم يدع ذلك وولي ربع خطابة التوريزية بمحلة قبر عاتكة مقدار أربع سنين وتوفي في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة بعد الألف ودفن بمقبرة مرج الدحداح على والده قلت وقد ذكر النجم أباه أبا البقا في الكواكب وذكر أن جده لامه قاضي القضاة محيي الدين النعيمي وأنه مات في غرة جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وتسعمائة.
محمد بن محمد بن جانبك القاضي شمس الدين المعروف بالكنجي الدمشقي الشافعي ذكره النجم وقال أخذ العلم عن العلاء بن العماد والنور النسفي القاضي وغيرهما لكنه لم يحصل شيئاً وكان مغفلاً يعتقد الفضيلة في نفسه ويدعيها وناب في القضاء في تولية المولى علي بن الحناىء في سنة اثنتين وسبعين وتسعمائة بمحكمة قناة العوني ثم بمحكمة الميدان ثم بمحكمة الصالحية ثم بمحكمة الكبرى ثم بالباب بعد القاضي عمر بن الموقع وعزل منها مرارا وأعيد إليها وامتحن في فتنة البواب يعني التي ذكرنا خبرها في ترجمة حسن باشا بن محمد باشا الوزير وأخذه هو والقاضي عبد الله ابن الرملي المالكي من المحكمة الكبرى مهانين وحبسهما في بيت ابن خطاب وكان أحد الشهود بها محمد بن عثمان أمين الدين الصالحي يداعب القاضي الكنجي ويقول له يا مولانا أنت ضائع في هذه المحكمة وقد قصروا في حقك فيقول له يا قاضي أمين الدين أما أنا صالح للنيابة فيقول له يا مولانا القاضي الشافعي قامتكم ما تصلح إلا للباب فيتشكر منه ويفرح بما يقوله وهو يريد التورية عن نيابة الباب بالباب الذي تعزر به السوقة ولما ولي النيابة في أول الأمر أنكر الناس ذلك لقلة بضاعته وعدم صلاحيته إذ ذاك للقضاء وكان يتعاقب القضاء بالباب هو والسيد أحمد بن محمد الجعفري المعروف بالصالحي ثم استقر هو في النيابة حتى مات في أواخر شهر ربيع الأول سنة ست عشرة بعد الألف عن بضع وسبعين سنة.
محمد بن محمد الملقب شمس الدين المهدوي المالكي الأزهري ذكره الشيخ مدين وقال في حقه كان عالما نحويا له من التآليف شرحان على الأجرومية كبير وصغير ذكر فيهما إعراب كل شاهد ذكره قال والكبير رأيته بخطه في تسعة عشر كراسا بخط مظموم في نصف الفرخ سماه بالتحفة الأنسية على المقدمة الأجرومية وكانت وفاته يوم الاثنين الثالث عشر من المحرم سنة عشرين وألف ودفن خارج باب النصر بالقرب من حوض اللفت بجوار العارف بالله سيدي إبراهيم الجعبري قدس الله سره.(3/23)
محمد بن محمد بن حسين بن حسن شمس الدين الشهير بابن سعد الدين الشيخ المربي الجواد الجباوي الدمشقي الشافعي الصوفي كان في مبدأ أمره يتعانى التجارة ويسافر إلى الحجاز ووقع له اجتماعات بسادات من الأولياء حلت عليه أنظارهم وجرى له معهم مكاشفات حدث من لفظه أنه كان هو وبعض إخوانه بمكة وقد فرغت نفقتهم وكان معهم بضائع شامية إلا أنها كانت كاسدة إذ ذاك فأصبحنا يومنا ونحن في اضطراب وتردد في الاستدانة من مقصد فدخل علينا الشيخ الصالح المعتقد أبو بكر اليمني نزيل مكة وقال كيف حالكم يا أولاد أخي وجلس يعمل القصب وكانت حرفته فلما قام قال هاتوا أربعين محلقاً قال ولم يكن معنا غيرها فدفعناها إليه فأخذ خواطرنا ودعا لنا فلم يكن بأسرع من أن جاءنا الدلال وبعنا ما كان معنا من البضائع ومن ثم اتسعت دائرته ونبل وتولى مشيخة بني سعد الدين في سنة ست وثمانين وتسعمائة وتصدى لتلقي الصوفية والزوار المتبركين واستعد للناس استعداداً عظيماً وشيعه في ذلك أخوه إبراهيم المقدم ذكره وكان الشيخ محمد يستمر في زاويتهم ويستعقب أخاه المذكور في حلقتهم بالجامع الأموي يوم الجمعة وكان إذا تردد إلى الحكام ووجوه الناس كانا معاً وعلت كلمتهما في دمشق حتى نشأ لهما ولدان هما عيسى بن محمد وكمال الدين بن إبراهيم فتناظر الوالدن ودخل بينهما المترددون بالقال والقيل حتى تعاديا وسرى ذلك إلى أبويهما فوقع النزاع بينهما وترافعا إلى الحكام مراراً وآل الأمر إلى أن عزل الشيخ محمد أخاه من مشيخة الحلقة وصار يذهب هو بنفسه إلى الحلقة وانقطع أخوه في بيته ثم مات قبل أخيه فاستقل الشيخ محمد بالمشيخة وزاد في الاستعداد للناس وكان يعم الحكام بنواله ويدعونه إلى بيوتهم وأقبلت الناس عليه إقبالاً زائداً وكان سمته في القرى للواردين سمة الملوك وبالجملة فقد كان من أفراد الدهر ومحاسن العصر ولزمه جماعة من الفضلاء منهم العلاء بن المرحل مفتي المالكية والشمس الميداني والتقى الزهيري والشهاب الجعفري القاضي الشافعي وأبو الطيب الغزي والشيخ عبد الرحيم الأسطواني وأخوه أمين الدين والشيخ محيي الدين الخضيري والقطب بن سلطان في آخرين وكانوا في عداد جماعته ورأس في آخر أمره في الشام بحيث كان صدراً في المجالس ومرجع الناس وجدد زاويتهم وعمل مجلساً آخر للضيافة وعمر قبل ذلك بيته عمارة الملوك وكانت الهدايا تترادف إليه من سائر الأقطار وملك من المزارع والأراضي والبساتين والحمامات والدكاكين شيئا كثيراً لا يمكن ضبطه وكان مع ذلك محافظاً على الأوراد والصلوات بالجماعة في أول الأوقات ويقيم الذكر على طريقتهم بالجامع الأموي بالزاوية وكان يكرم العلماء ويجلهم ويرجع إلى قولهم ويوقر الكبراء ويحسن إلى الفقراء إلا أنه كان لا يعارض في أغراضه لسعة جاهه ونفوذ كلمته ووفور حرمته وكان جواداً سخياً متواضعاً وكان سافر إلى القدس غير مرة وحج مراراً كثيرة ومدح بالقصائد البديعة وأثنى الناس عليه كثيراً وكانت وفاته في ثلث الليل الأول من ليلة الثلاثاء العشرين من صفر سنة عشرين بعد الألف وحفلت جنازته كثيراً ودفن خارج باب الله غربي التربة المعروفة بتربة الحصني وقد مات عن احدى أو اثنتين وسبعين سنة ومكث في مشيخة بني سعد الدين اثنتين وثلاثين سنة رحمه الله تعالى.
محمد بن محمد بن حسين بن سليمان الملقب ناصر الدين الأسطواني الحنبلي أحد العدول بدمشق كان من أعرف الكتاب بمحكمة الباب وكان يكتب بين يدي قضاة القضاة وكان شيخ الإسلام الشهاب العيثاوي يثني عليه كثيراً ويعدله ويقول هو أحسن الشهود كتابة وأدينهم وكان صامتاً قليل الكلام لا يدخل فيما لا يعنيه وكانت وفاته في رجب سنة عشرين بعد الألف ودفن بمقبرة باب الفراديس المعروفة بتربة الغرباء رحمه الله تعالى.(3/24)
محمد بن محمد بن أحمد الملقب شمس الدين الحجازي الحميدي الحمصي الدمشقي ويعرف في حمص بابن سماقة وفي دمشق بالحجازي لمجاورته بمكة بضع عشرة سنة وكان إذا انتسب ينتسب للحميدي الشيخ الإمام العالم الفقيه المفتي الهمام أخذ طريق القوم عن الشيخ علي الأنبلاقي اليمني القاطن بالمدينة المنورة وكان موجوداً في سنة سبع وستين وتسعمائة ثم عاد إلى دمشق فصحب الشيخ منصور بن عبد الرحمن خطيب السقيفة وزعم أنه أخذ عنه علم الزايرجا وعلم الكيميا وعرفهما وصحبه لذلك الخواجة ابن عتور فاتلف عليه مالاً كثيراً وأخذ الطب عن الشيخ يونس بن جمال الدين رئيس الأطباء بدمشق واختصر بصحبة زماناً وكان يحاضر بأخباره كثيراً فمن ذلك ما ذكره أبو المعالي الطالوي في كتابه السانحات وفي القصر أخبرني من لفظه في مسجد القلعي داخل سور دمشق غرة ذي القعدة سنة ست بعد الألف قال بينما أنا في مجلسه وإذا بقاصد من قبل القاضي معروف الصهيوني المتوفي سنة إحدى وسبعين وتسعمائة ومعه سكرجة يستهدي فيها شيئاً من التركيب المسمى ببره ساعة وفي طراز السكرجة هذه الأبيات:
لا زال كل رئيس ... يريك سمعا وطاعه
وكل رب مزاج ... بكم يرجى انتفاعه
عبد أتاكم محب ... قد مد كف الضراعه
يشكو أذى ودواه ... لديكم برء ساعه
فقضى حاجته وكتب تحت السكرجة في أقل من دقيقة هذه الأبيات:
العبد عبد محب ... أبدي قبولاً وطاعه
كالسحر قابل أمراً ... مطرزاً بالبراعه
أهدى إليكم دواء ... مهذباً بالصناعه
يشفى بفعل وحي ... على المكان ابن ساعه(3/25)
وصاحب الشيخ موسى الكناري الدمشقي الصوفي العارف بالله تعالى المشهور المتوفي سنة ست وسبعين وتسعمائة وأخذ عنه وأعرض عنه الكناري آخرا وكان سبب إعراضه عنه أن الشيخ موسى ذكر حديثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه رخصة فقال الحجازي أن النبي صلى الله عليه وسلم عجرف في ذلك فغضب الشيخ موسى وقال لا تعد إلينا بعدها ولم يعد حتى سافر إلى مصر ثم جاء بعد مدة ومعه من الهدية أشياء إلى الشيخ فلم يقبلها منه وقال يا رجل خرجنا عنك لله فلا نعود واستقر آخر أمره على الإفادة مع التردد إلى الحكام واستجلابهم بالألواح الموفقة والتبشير لهم على دعوى معرفة ذلك بالأرصاد والإستخراج من الجفر وبالخط في الرمل وغيره وكانوا يجلونه لذلك وحظي عند قاضي القضاة السيد محمد بن معلول وبشره بأن زوجته تحمل وتلد ولدا ذكرا وأمره أن يسميه محمدا فوافق أن ولد له ولد ذكر فسماه محمداً وبشره بأنه يكون المهدي الموعود به في آخر الزمان وبشره بأنه يلي قضاء العسكر فيكون فيه سبع عشرة سنة فلما ولي قضاء العسكر باناطولي كان الحجازي معه فأعطاه المدرسة التقوية بدمشق عن شيخ الإسلام البدر الغزي وكان ذلك تعصبا من ابن معلول فإنه غضب على البدر الغزي لما كان قاضياً بدمشق لأنه كان قد مات له بنت فما خرج البدر لجنازتها فاضمر ذلك في نفسه فلما ولي قضاء العسكر أراد اهانته فولي المدرسة المذكورة الحجازي فلما ورد الخبر بذلك إلى الشام كادت تميد باهلها استعظاماً لهذا الأمر حتى أن بعضهم ما كان يعتقد صحة هذا الخبر لأنه من قبيل المستحيل عادة فبعد نحو شهرين جاء الخبر بعزل ابن معلول من قضاء العسكر وصيرورة شيخ الإسلام شيخ محمد بن محمد بن الياس الشهير بجوي زاده مكانه فرد المدرسة إلى البدر في أول يوم من توليته لأنه قد روى الحديث بدمشق عن البدر حين كان قاضياً بها في سنة سبع وسبعين وتسعمائة وعاد الحجازي إلى دمشق متوليا فلحقه عزله وكان سفر الحجازي من دمشق فدخلها في سابع عشري رجب من السنة المذكورة متولياً للتقوية بعد أن فرغ عن دار الحديث الأشرفية لولده عبد الحق المقدم ذكره وورد الخبر بعزله وإعادتها للبدر يوم الأربعاء تاسع شوال منها وعمل في الحجازي أشعار وأهاج وبقيت في يد البدر سنة وأياماً ثم مات البدر ولي الحجازي التقوية ولما مات الشهاب الفلوجي عرض القاضي له إذ ذاك في الشامية البرانية وكتب شيخ الإسلام أبو الفداء إسمعيل النابلسي كتاباً إلى بعض أصحابه بالروم من الموالي فجاءت براءة الشامية باسم النابلسي وكان سعي الحجازي في التقوية بعد ذلك ودرس بالعذراوية ودار الحديث الأشرفية وجمع له بينهما بعد أن تفرغ عن التقوية لابنه عبد الحق وكان هو وولده ملازمين لمسجد القلعي يدرسان فيه ويتردد الناس إليهما وكان ينسب للمترجم جمع الأموال وربما حصل له بسبب الشفاعات والمخافات الهدايا والأموال وكان يصوم العشر الآخر من جمادى الآخرة ورجب وشعبان ولا يأكل اللحم عند صومه ولا يأكل عند الفطر إلا الحمص والزيت ويعد الناس منه ذلك رياضة لأجل التوصل إلى ما هو فيه من استعمال الأسماء وتوفيق الأوفاق وكان ينسب إليه قلة الأنصاف والطمع الزائد قرأت بخط العلامة إسماعيل بن عبد الغني بن أبي الفداء إسماعيل النابلسي قال وجدت بخط العلامة العمدة الفهامة المرحوم السيد محمد ابن محمد القدسي أنه في عام ثمانين انحلت مشيخة الجهاركسيه في الصالحية فتوجهت لطلبها من قاضي القضاة بدمشق فأخذ في الوعد فذهبنا إلى الشيخ محمد الحجازي ليدعو لي بتحصيلها فما قمت من عنده إلا وقد أرسل إلى القاضي يطلبها لنفسه فقلت في ذلك هذه الأبيات ودفعتها القاضي دمشق:
لقاضي جلق وافيت يوماً ... ولي جهة ونفسي تشتهيها
فما طلني فرحت إلى الحجازي ... ليوصلني بدعوات إليها
فأطرق رأسه للأرض يدعو ... ودمعته غدت تجري بديها
وصار لنفسه يسعى بعزم ... وكان بكاؤه حرصاً عليها
قال النابلسي وقد اتفق لي مع ولد ولده في الفراغ عن هذه الوظيفة نحو ذلك بقصة مطولة وهذا من عجيب الاتفاق وبعد هذا فالإنصاف فيه أنه كان متضلعاً من العلوم الفقهية والعربية العلامة فيهما وكان له استحضار حسن للأبحاث والشواهد وكان ينظم الشعر ومما رأيته منسوباً إليه قوله:(3/26)
بدا كالبدر يجلي فوق غصن ... يميس بحسن قد وابتسام
وأرخى فوق خديه لثاما ... فما أحلاه في ذاك اللثام
يغار البدر منه إذا تبدى ... ويخفي تحت أذيال الغمام
محيل الطرف ذو خد اسيل ... نحيل الخصر ممشوق القوام
له مقل مراض قاتلات ... فواتر راميات بالسهام
رمى بسهام مقلته فؤادي ... فما أحلاه من رشا ورام
فوا أسفاه كيف أموت وجدا ... ولا أقضى من الرامي مرامي
له ثغر حوى فيه رحيقا ... به يشفي العليل من السقام
أنا المضني المتيم في هواه ... وجفني من جفاه جفا منامي
وله أيضاً هذا المقطوع وهو قوله:
يا خل ذا الحبشي يفتن واقفا ... من شطه قاضي الهوى قد حار في
يقضي بذاك الشرط في عشاقه ... فالصب مقتول بشرط الواقف
وله غير ذلك وكانت ولادته في سنة ثلاثين وتسعمائة كما أخبر به من لفظه للبوريني وتوفي يوم الاثنين رابع عشري شعبان سنة عشرين بعد الألف قاله البوريني وقد اعتمدته وأما قول النجم أنه سنة تسع فقد ناقضه مناقضة ظاهرة بقوله في ترجمة ولده عبد الحق أنه توفي لخامس عشر رمضان سنة عشرين وعقبه بقوله وبينه وبين والده أحد وعشرون يوماً ودفن بمقبرة باب الصغير قال البوريني والعجب أنه كان واقفاً عند باب مسجد القلعي على حانوت خباز كان يعتاد الوقوف عليه لقضاء بعض الحوائج فأعطاه رجل سؤالاً ليكتب عليه الجواب فأخذ القلم بيده وكتب الحمد لله رب زدني علماً ومد صورة ألف ليكتب لاما فانجر القلم مع يده على القرطاس ووقع مغشياً عليه فاستمر في بيته نحو أسبوع وقضى إلى رحمة الله ولم ينطق بحرف فيما علمناه والله أعلم.
محمد بن محمد شمس الدين بن الجوخي الشافعي الفاضل الذكي المشهور كان جيد المشاركة محسنها في كثير من العلوم كالفقه والنحو والمعاني وغيرها وآباؤه من رؤساء التجر المياسير بدمشق ولما مات والده ترك له ولأخيه محي الدين أموالاً كثيرة فكانا يتعاونان في تنميتها وكان منزوياً عن الناس مقتصراً على نفع نفسه وينسب إليه الشح لزم أبا الفداء إسماعيل النابلسي والشهاب العيثاوي في الفقه وأخذ العربية والمعاني عن النابلسي المذكور والعماد الحنفي والشمس بن المنقار وأخذ التفسير عن جدي القاضي محب الدين وتزوج بنت الشيخ العماد المذكور بعد وفاة بعلها الشيخ محمد بن يحيى البهنسي وسافر إلى مصر فأخذ عن شيوخها وملك كتبا كثيرة وكان رفيقاً للقاضي بدر الدين حسن الموصلي في الاشتغال وبينهما صداقة كلية وتناسب كثير وكان مع ما كان من تقليب الأموال لا يترك الاشتغال بالعلم وكان ينظم الشعر ووقفت على أبيات له في مجموع بخط ابنه أبي اللطف كتبها للعمادي المفتي في صدر كتاب له وهي هذه:
وما شوق ظمآن الفؤاد رمت به ... صروف الليالي في ملمعة قفر
شكا من لظى نارين ضمت عليهما ... أضالعه نار الهجير مع الهجر
يروي غليل الأرض من فيض دمعه ... وليس له جهد إلى غلل الصدر
إلى عارض من مزنة عطفت به ... نسيم صبا الأحباب من حيث لا يدري
بأبرح من شوقي لرؤياكم التي ... أعد لعمري أنها لذة العمر
وكانت وفاته في أوائل شعبان سنة اثنتين وعشرين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير وولي أمره وأمر أولاده الشيخ عبد الرحمن العمادي لغيبة أخيه الخوجامحي الدين بمصر ثم لما رجع إلى الشأم سلم إليه ما كان بيده قلت وكان نبغ له ولد اسمه أبو اللطف وكان نبل وفضل وله أدب وشعر وبينه وبين الأمير المنجكي مراجعة وقد ذكرته هو ووالده في كتابي النفحة وأوردت له بعض أشعار ووقفت عليها بخطه من جملتها قوله:
بعيشكم أهل الصبابة والصبا ... أقلبا رأيتم مثل قلبي معذبا
فلم أر لي في محنة الحب منجدا ... ولم أستطع من فيض دمعي تحجبا
وقد صرت من حر الفراق بحيث لو ... يشاهد حالي كل واش تحجبا
فيا ليت من أهواه في النوم زارني ... فمثلي معنى صار في حبه هبا(3/27)
سألت الذي قد قدر البعد بيننا ... سيجمعنا يوماً يكون له نبا
وإنما لم أفرد له في كتابي هذا ترجمة لأنه لم أقف على تاريخ وفاته واحسب أنه تجاوز عشر الثلاثين.
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن الفرفور الحنفي الدمشقي تخرج أولا بعمه القاضي جمال الدين ثم اشتغل على القاضي محمد الأندلسي بن المالكي المغربي فقرأ عليه كثيراً من النحو والصرف وقرأ على الحسن البوريني حصة من شرح التلخيص المختصر للتفتازاني ثم حضره دروس الجد القاضي محب الدين وولي نظارة أوقافهم ودرس بالمدرسة الأغلبكية بمحل القميريه بدمشق وهي مشروطة لهم وكان له هيئة حسنة وظرافة وكان له خيل على عادة أولاد الأكابر وكان ينظم الشعر فمن شعره ما كتبه إلى شيخه البوريني مستجزاً وعداً:
يا عالماً قد رقي في العلم مرتبة ... دارت بقطت سناها دارة القمر
وكاملاً قد سما في الخافقين له ... بالفضل ذكر حميد سار كالمثل
ومن هو الجهبذ الحبر الذي شهدت ... له الموالي هداة العلم والعمل
حوى معارف فضل ليس ينكرها ... سوى جهول لفرط الحمق معتزل
شيخ العلوم التي تبدي فوائدها ... فوائداً لم تقل في الأعصر الأول
جواهر قد حلي جيد الزمان بها ... من بعد ما مر حينا وهو ذو عطل
مولى غدا مجرزاً فضل السباق بمض ... مار العلى في سياق البحث والجدل
ودوحة الفضل تزهو من جلالته ... ورونق العلم منه عاد في كمل
يا صاح إن رمت حل المشكلات فلذ ... به وعن فهمه السيال قم فسل
حب تفرد في جمع الكمال فلا ... يرى مضاهيه في ماض ومقتبل
هذا وقد طال وعد منك يا سندي ... والقلب من أجله قد صار في شغل
والوعد دين لدى رب الكمال يرى ... قضاؤه لازما من غير ما مهل
فحققن رجائي فاعتقادي في ... صدق العلى لكم عار عن الزلل
وجد برد جوابي فالجوى بي قد ... أحاط والوجد مني غير منتقل
وخادع الدهر قد أبدى جنايته ... كأنه طالب ثاراُ على دخل
أقلب الطرف من وجدي لعلي أن ... أرى معيناً لدفع الحادث الجلل
وذكر النجم هذا المقطوع وقال أنه مما أنشدنيه:
إذا أراد الإله أمراً ... قضاؤه في النفوس مبرم
فوضت أمري وقلت خيراً ... ما دفع الله كان أعظم
قال ومما اتفق له أنه لما ولي قضاء دمشق السيد محمد الشريف وكان له حدة وكان ممن صحب الأمير محمد بن منجك فشفع الأمير محمد إلى القاضي المذكور لابن عم محمد المترجم عمر بن جمال الدين أن ينظر فيما بينه وبين ابن عمه من الاستحقاق في أوقافهم فاحتد القاضي على محمد حتى عزله عن النظر وولاه ابن عمه عمر فحصل لمحمد غاية القهر والكسر ثم أصلح بينهما الأمير بعد أن وصل إلى مراده وبقي محمد على انكساره إلى أن مات قال البوريني أخبرني من لفظه أن ولادته في ثالث عشر ذي القعدة سنة إحدى وثمانين وتسعمائة وتوفي بعد أن تمرض أياماً قليلة بحمى محرقة في يوم الجمعة حادي عشري شعبان سنة اثنتين وعشرين وألف عن ثلاث وثلاثين سنة وأبوه مات أيضاً وسنه ثلاث وثلاثون سنة ودفن بتربتهم جوار ضريح الشيخ أرسلان قدس الله سره.(3/28)
محمد بن محمد سعد الدين بن حسن جان الشهير بابن الخوجه مفتي السلطنة ورئيس علمائها وكان في الفضل والفطنة والحافظة في مرتبة خارجة عن طوق البشر ولقد يحكى عنه أنه ركب يوماً البحر بقصد السير في بستان له معروف قديماً به وكان أمين الفتوى في خدمته وكان توزيع الفتاوى قرب فقال له أخرج الأسئلة واقرأها علي لاستحضر أجوبتها فإذا وصلنا البستان سهلت الكتابة عليها فأخرجها وقرأها حتى أتى على آخرها وكان يضع المقروء أمامه في الزورق الذي هم فيه فهبت ريح عاصفة بالأوراق وألقتها في البحر فاضطر الأمين لذلك غاية الاضطراب فقال له لا بأس عليك فلما وصل البستان استدعى بقراطيس وقسمها صوراً وقال أكتب ما أملي عليك وأخذ يمليه الاسئلة المكتتبة وهو يكتب حتى لم يبق شيء منها وبلغني من بعض الروميين أنها كانت تنوف على مائة سؤال وهذه المنقبة من أعظم ما يكون وهي كافية له عن الأطناب في وصفه وله نظم بالألسنة الثلاثة وخمس القصيدة البرأة بتمامها وله إنشاء وخطب وتقاريظ كلها ممتعة ولقد وقفت له على تغريظ كتبه على كتاب في الطب يقول فيه:
روضة أنوار آثار الشفا منها تلوح ... دوحة أنوار أثمار الصفا فيها تفوح
عرفها ذاك يقوى القلب طيباً طيباً ... منه للأرواح روح فيه للأبدان روح
كامن في طبه قانون أصحاب الدوا ... موجز في منته توضيح ألباب الشروح
روضة نباتها أزهرت فاقتطفت منها أدوية الشفاء وحديقة دوحتها أثمرت فاجتنبت من أغصانها أفاويه الدواء أجاد جامعها وأحسن وأمعن فيما جمع وأتقن حيث أتى بمختصر حسن في تلخيص مطولات هذا الفن فغدا موجزاً سديداً نفيساً يليق بأن يكون لحذاق الطب أنيساً فيه ما لا يسع الطبيب جهله وإنما يعرف قدره أهله جرى فيه على سمت الطبائع كما هو بين أهل الفن شائع فإن الشرع مناع الشنائع يدل الأسباب والعلامات على إتقان بأوضح العلامات يتعين للأعيان أن يتمموا آماله ويطيبوا بطيب التطبيب باله وقد ولي قضاء دار الخلافة ثم قضاء العسكر بأناطولي في ثاني عشر رجب سنة أربع بعد الألف وسافر هو وأبوه مع السلطان محمد ابن مراد في سفر أكرى وظهرت كفايتهما في ذلك السفر وحكى أن صاحب الترجمة تدرع أيام المحاربة وجاهد مجاهدة عظيمة ونفع النفع التام عند هجوم الكفار على صف السلطان فكان يجمع العسكر إلى طرف السلطان ويقاتل أشد القتال حتى وهب الله النصر والظفر وفتحت قلعة أكرى ولما رجع السلطان عزل عن قضاء العسكر في خامس عشر جمادى الأولى سنة خمس بعد الألف ثم ولي قضاء روم أيلي في خامس عشر ذي القعدة سنة سبع بعد الألف وعزل في ثامن عشر شهر رمضان سنة تسع بعد الألف وولي الافتاء في صفر سنة عشر وألف وبقي إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وألف وقال الشيخ عبد الرحمن العمادي مفتي الشام في تاريخ وفاته:
قد مات محمد العلوم المعلوم ... فالروم رجت لفقد ذاك المخدوم
لم لا وأتى وفق وفاة المرحوم ... تاريخ أفول شمس علم في الروم
محمد بن محمد بن محمد الشريف شمس الدين بن السيد كمال الدين بن عجلان نقيب الأشراف بدمشق وكان قبل ذلك كأبيه وقد تقدم ذكر شيخ المشايخ فلما مات السيد محمد بن السيد حسين بن حمزة في سنة ست عشرة وألف بحماة قافلاً من حلب كما تقدم في ترجمته وكان الشيخ محمد بن سعد الدين إذ ذاك بحلب فطلب النقابة عنه للسيد محمد المذكور من الوزير الأعظم مراد باشا فعرض له فيها فوجهت إليه ووليها مدة سلك فيها مسلكاً حسناً وتصدى للناس بالكرم وحسن الخلق مع صغر سنه وكان حسن الموافقة كثير الحياء والسخاء متخلقاً بالأخلاق التي تدل على صحة الشرف والنسب وكانت وفاته يوم السبت ثامن عشري رجب سنة خمس وعشرين وألف بعد أن تمرض نحو خمسة أيام بحمى محرقة ولم يبلغ أربعين سنة ودفن بتربة الجورة من ميدان الحصى بالقرب من دارهم.
محمد بن محمد بن محمد بن جانبك القاضي كمال الدين بن القاضي شمس الدين المالكي المذهب وأبوه المقدم ذكره كان شافعياً ويعرف بالكنجي ولي القضاء بقناة العوني ثم بالكبرى وكان فاضلاً ساكناً وهو على كل حال أفضل من أبيه وأحذق وكانت وفاته في أواخر شوال سنة تسع وعشرين بعد الألف.(3/29)
محمد بن محمد بن حبيقة الدمشقي الميداني الطبيب أخذ الطب عن عمه يحيى وغيره وعالج الناس كثيراً فصار له آخر المر حذق ومعرفة تامة وانتفع به الناس ولازمته الحمى سنتين أو ثلاثة حتى قال ما رأيت أعجب من هذه الحمى التي تأخذني ومات بدمشق في شعبان سنة ثلاث وثلاثين وألف وقد جاوز التسعين رحمه الله تعالى.(3/30)
محمد بن محمد بن يوسف بن أحمد بن محمد الملقب شمس الدين الحموي الأصل الدمشقي المولد الميداني الشافعي عالم الشام ومحدثها وصدر علمائها الحافظ المتقن كان بديع التقرير متين لتحقيق غاية في دقة النظر وكمال التدقيق حافظاً ضابطاً ذا ذهن ثاقب وقريحة وقادة وسرعة فهم ونظر مستقيم ومروءة وعقل وافر وشكل نوراني شديد الانقباض عن الناس شديداً في الدين مهاباً جداً عند الناس ولد بدمشق وقرأ القرآن وغيره على شيخ قزيحة إمام جامع منجك بميدان الحصى خارج دمشق وقرأ في القرآن على الشيخ حسن الصلتي والفرائض والحساب على الشيخ محمد ابن إبراهيم التنوري ثم أنكر مشيخة المذكور فكان يقول غصبني اسمي وشهرتي وسمي نفسه محمد الميداني وإنما محمد الميداني أنا وهو مسكنه بالقبة الطويلة جوار حارة باب المصلى ثم قرأ في القراآت وغيرها على شيخ الإسلام الشهاب أحمد بن أحمد الطيبي والشهاب أحمد بن البدر الغزي وأخذ عن البدر وكان يحضر دروسه وعن الشرف يونس العيثاوي ومنصور بن المحب وقرأ العلوم العقلية عن أبي الفداء إسماعيل النابلسي والعماد الحنفي والشيخ محمد الحجازي والشهاب العيثاوي ثم أنكر مشيخة هذين بعد عوده من مصر ورحل إلى مصر في سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة وجاور بالأزهر تسع سنين وحضر دروس مشايخ الإسلام بها كالشمس الرملي والنور الزيادي ومن في طبقتهما من علماء وقته وانهمك على الطلب واستغرق فيه جميع أوقاته حتى كان أهل الأزهر يضربون المثل بفهمه وثباته وكتب جملة كتب بيده ثم قدم الشام في سنة إحدى وتسعين وتسعمائة فتصدر بها للتدريس والقراءة فاجتمع إليه الطلبة طبقة بعد طبقة نحو أربعين سنة وشاع أمره قال النجم وكان أعظم معلوماته الفقه إلا أنه كان يشبه على الطلبة ويورد الاشكالات عليهم فإذا أجابوه خطأهم فإذا احتجوا عليه بكلام المتأخرين كشيخه الرملي والزيادي وابن حجر يقول ما علينا من كلامهم ويخطئهم وإذ روجع غاظ من يراجعه وكان يحب التبكيت بالطلبة والنداء عليهم بالجهل وعدم الفهم وكان لا يتواضع مع العلماء والأفاضل فبهذا السبب مكث بدمشق سنين ولم يجعل له من الجهات والوظائف إلا قليل حتى ظفر بعض تلاميذه بالوظائف السنية وهو محروم منها وكان يتكبر على الأكابر من العلماء الموجودين إذ ذاك كالشمس ابن المنقار والقاضي محب الدين الذين يحتاج إلى ملايمتهم والتردد إليهم وحضور دروسهم ولم يحصل على مراده منهم ثم حصل على امامة الشافعية الأولى بجامع بني أمية وشطر أخرى بينه وبين القاضي بدر الدين الموصلي ثم انحلت قراءة الحديث عن الشيخ نجم الدين بن حمزة العاتكي فوجهت إليه وقراءة الحديث والوعظ عن الشيخ ولي الدين الكفرسوسي فوجهت إليه ولم يباشرهما قط ثم لما انحلت امامة المقصورة شركة شيخنا يعني الشهاب العيثاوي عن الشيخ محمد ابن موسى بن عفيف الدين الآتي ذكره وجهها قاضي القضاة محمد الشريف إليه ولما انحلت خطابة الصابونية عن الشيخ بركات بن الكيال ذهب ليشفع لولده الشيخ كمال الدين الكاتب فيها فطلبها لنفسه فأعطيها وكان لما مات الشمس الداودي فقد الناس مجلسه للحديث فقامت الطلبة على الميداني لعقد مجلس في الحديث بعد موته بسنتين أو أكثر فاقرأ في صحيح البخاري بعد صلاة العصر واختار أن يكون جلوسه تحت قبة النسر وكان الداودي يجلس تجاه المحراب الذي للشافعية وكانت العوام تحمل عنه مسائل فنشأ عنه القول بتفضيل الملائكة مطلقاً وإنكار أن تكون قراءة كل قارىء بالنسبة إليه متواترة إلا أن يتلقاها عن مشايخ يبلغ عددهم التواتر وكان له من هذا القبيل أشياء ولما توفي الشيخ عبد الحق الحجازي وجه إليه قاضي القضاة بالشام المولى نوح بن أحمد الأنصاري تدريس دار الحديث الأشرفية فلما كان طاعون سنة تسع وعشرين مات له ولد بالغ كفيف البصر له فضيلة وكان اسمه محمدا ولم يكن له ولد غيره سوى بنت فوجد لفقده وحمله حزنه على إن تفرغ عن وظائفه وأظهر أنه يريد الحج والمجاورة بمكة ثم سافر صحبة الشيخ سعد الدين إلى مكة وجاور ثم رجع من العام المقبل سنة ثلاثين ثم ورد عليه في سنة اثنتين وثلاثين براءة في تدريس الشامية البرانية سعى له فيها محمد البحري بدلالة باكير محضر باشي عن مدرسها النجم الغزي فبادر قاضي القضاة بدمشق وسلمها إليه فسافر النجم لأجلها إلى الروم وألف رحلته التي سماها بالعقد المنظوم في(3/31)
رحلة الروم وقرر بالمدرسة بقيد الحياة وتلسمها فلما كان أواخر ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين بعث باكير براءة بتقرير الشمس في المدرسة أيضاً وترافعاً لدى قاضي القضاة فأبرز النجم نقلا عن علماء الحنفية أن السلطان إذا أعطى رجلا وظيفة بقيد الحياة ثم وجهها لغيره لا ينعزل عنها إلا أن ينص السلطان على الرجوع عن الإعطاء بقيد الحياة فلما رأى قاضي القضاة المولى عبد الله المعروف ببلبل زاده النقل قال للنجم الحق لك لكن تطيعنا على رعاية سن هذا الرجل ونقسم بينكما التدريس فصارت الوظيفة بينهما شطرين إلى أن مات الميداني فضم الشطر الثاني إلى النجم وكان الميداني مبتلياً بالقولنج قال النجم ولم يدرس بالأشرفية ولا بالشامية ولم يباشر وظائفه إلا الإمامة في بعض الأوقات وكان يمدح الحرص وجمع الدنيا وكان يغلب عليه الفقه إلا أنه انفرد بمسائل كان يفيدها على خلاف المذهب وكان ينكر أن يقال تحية المسجد وهو خلاف المنقول الجاري على ألسنة العلماء قديماً وحديثاً ومن أغرب ما وقع له في مجلس عثمان باشا نائب الشام في ليلة النصف من رمضان سنة إحدى عشرة وألف وكان في المجلس الشهاب العيثاوي والعلاء الطرابلسي والنجم الغزي فتذاكروا فضل دمشق وجامعها حتى ذكر السيد معاوية رضي الله عنه وأنه مدفون بباب الصغير وقبره معروف يزار وكان الذاكر لذلك العلاء فقال الشمس هذا المشهور بباب الصغير وقبره معروف يزار وكان الذاكر لذلك العلاء فقال الشمس هذا المشهور بباب الصغير قبر معاوية الصغير لا معاوية الكبير ومعاوية الصغير ابن يزيد بن معاوية وكان صالحاً بخلاف أبيه فقال له العلاء فأين قبر معاوية الكبير قال في بيته في قبلة الجامع الأموي وقيل أن قبره غير معروف وأخفى قبره وهذا منه غير تثبت ولا أحسب أنه يرى له نقل فإن كون قبر معاوية في باب الصغير شائع محفوظ في الألسن وذكره غير واحد منهم الحافظ السيوطي فإنه قال في تاريخ الخلفاء في ترجمة معاوية رضي الله عنه أنه دفن بين باب الجابية وباب الصغير وكان قديماً وقع بينه وبين بعض مشايخه في مسئلة الكأس الموضوع الآن في صحن الجامع الأموي فكان الشمس يقول بصحة الوضوء منه لأنه يتحرك الماء بحركته وهو زائد على القلتين وكلما يتحرك الماء بحركته يعتبر فيه القولان وشيخه يخالفه في ذلك ويشنع عليه وكان إذ ذاك شاباً بالجملة فالقول فيه أنه عالم عصره ورئيس محدثيه وفقهائه خصوصاً بعد موت الشهاب العيثاوي وبلغ به سطوع الشأن إلى مرتبة قل من يضاهيه فيها حتى أن الحكام كانوا لا يستطيعون الظلم خوفاً منه ويحترمونه أقوى احترام مع عدم تردده إليه وقلة اكتراثه بهم وحطه عليهم وأكثر الناس من الأخذ عنه والقراءة عليه ومن أجل من أخذ عنه وأعاد دروسه سنين الشرف الدمشقي والشيخ علي القبردي وله من التحريرات حاشية على شرح التحرير في الفقه لم تشتهر وكان يكتب الخط المنسوب وجمع من الكتب شيئاً كثيراً وكانت وفته بالقولنج في وقت الضحى يوم الاثنين ثالث عشر ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وألف وصلى عليه قبل صلاة العصر ودفن بمقبرة باب الصغير عند قبر والده ولما أنزل في قبره عمل المؤذنون ببدعته التي ابتدعها مدة سنوات بدمشق من افادته إياهم أن الأذان عند دفن الميت سنة وهو قول ضعيف ذهب إليه بعض المتأخرين ورده ابن حجر في العباب وغيره فأذنوا على قبره وحكى الشيخ محمد ميرزا الدمشقي نزيل المدينة أنه دخل عليه في مرض موته يعوده فروى له حديثاً بسنده وهو نعمتان مغبوط فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ وحكى الشمس محمد بن علي المكتبي في ثبته أن والده المذكور رأى ليلة وفاة الشمس وهو نائم في خلوته بالمرادية أنه حضر لسماع خطبته بالصابونية فإذا به قد خرج من بيت الخطابة وعلى رأسه عمامة بها تروك عدتها أربعون وكل ترك منها لا علامة تميزه بعذبة مرخية فوق الجميع فخطب خطبة أولى ونزل ولم يتم الثانية ثم خرج النجم الغزي من بيت الخطابة وعليه تلك العمامة بعينها من غير تغيير لها فخطب الخطبة الثانية وصلى بهم الجمعة ودخل باب الصغير المقابل للجامع المذكور والمقتدون في وجل عظيم فقام من منامه وجلا وعلم من التأويل أن الميداني قضى نحبه فتوضأ وصلى بعض ركعات وإذا بالمؤذن دخل وهو يهلل جهراً ويحادث بعض جماعة ويقول أن الشيخ شمس الدين قد مات وأول هذه الرؤيا بأن الشمس رأس الأربعين(3/32)
وأكثر الناس فيه من المراثي والتواريخ فمن ذلك تاريخ الأديب إبراهيم الأكرمي الصالحي وهو قوله:كثر الناس فيه من المراثي والتواريخ فمن ذلك تاريخ الأديب إبراهيم الأكرمي الصالحي وهو قوله:
شيخ دمشق وشمس دين ال ... إله فيها قضى وفاتا
فقلت واحسرتاه ارخ ... أشافعي الزمان ماتا
ومن ذلك تاريخ الشيخ أبي الطيب الغزي قوله:
أيها العادل دعني وبكائي ... أنت خلو من مصابي وبلائي
عد عني لا تلمني أبداً ... في رثائي لامام العلماء
غاب شمس الدين فإذن ... نحن في ظلماء من بعد ضياء
غاب عنا بغتة فانقمعت ... لرداه نجباء النبهاء
كان والله حنيفا مسلما ... مستقيماً من كبار الصلحاء
يا له من عالم تاريخه ... مات بالقولنج نور النبلاء
وقال أيضاً:
أيها العصر الذي ... باينته المكرمات
ساوت الأيام في ... ك الليالي المظلمات
فات منه المسلم ... ين الهدى ثم المسلمات
وابكه للمشكلا ... ت الصعاب المبهمات
واستمع تاريخه ... شمسك العلام مات
وقال فيه أبو بكر العمري شيخ الأدب:
مغاني العلم قد درست ... وقد أقوت معالمها
لموت العالم النحر ... ير عيني فاض ساجمها
من افتخرت به العلياء وان ... تظمت مكارمها
أمام العصر شمس الدي ... ن مساهمها
قضى وعليه قد قامت ... من الدنيا مآتمها
فقل إن شئت أو ارخ ... دمشق مات عالمها
محمد بن محمد المعروف بآلتي برمق صاحب السيرة النبوية التركية أصله من بلدة أسكوب وكان يعرف بابن الجقرقجي أي الخراط أخذ طريق البيرامية عن السيد جعفر المدفون باسكوب وحصل طرفاً عظيماً من المعارف ثم قدم قسطنطينية ووعظ بها بجامع السلطان محمد وحدث وفسر واشتهر صيته ثم رحل إلى القاهرة وألقى فيها رحل الاقامة وأحرز جرايات وجهات ووعظ ومشيخة وحج منها ورجع وأقام بها وله تآليف منها ترجمة المطول بالتركية والسيرة التركية وهي ترجمة معارج النبوة وترجمة نكارستن غفاري سماه نزهة جهان ونادرة الزمان وكان عذب البيان منطلق اللسان حلو المحاوره لطيف المجاوره شريف النفس عظيم الجاه مشهوراً بعظم القدر والشان وبالجملة فهو مفرد زمانه وأوحد أقرانه وكانت وفاته في سنة ثلاث وثلاثين وألف رحمه الله تعالى.(3/33)
محمد حجازي بن محمد بن عبد الله الشهير بالواعظ القلقشندي بلد الشعراوي طريقة لوالده الخلوتي طريقة له الإكراوي مولد الشافعي الإمام المحدث المقرى خالتمة العلماء كان من الأكابر الراسخين في العلم واشتهر بالمعارف الإلهية وبلغ في العلوم الحرفية الغاية القصوى مع كونه كان يغلب عليه حب الخمول وكراهية الظهور نشأ بمصر وحفظ القرآن وعدة متون في النحو والقراآت والفقه وعرضها على علماء عصره وأخذ عن جماعة من العلماء منهم الحافظ النجم الغيطي والشيخ الجمال ابن القاضي زكريا والشيخ أحمد بن أحمد بن عبد الحق السنباطي والشيخ عبد الوهاب الشعراوي والشمس محمد الرملي والشيخ شحاذة اليمنى والسيد الأرميوني والشمس العلقمي والشيخ كريم الدين الخلوتي وأجازه المحدث المسند أحمد بن سند بثلاثيات البخاري في حدود السبعين وتسعمائة وأخذ عن عضد الدين محمد بن أركماس اليشبكي التركي الحنفي رفيق الشيخ عبد الحق الكافيجي قال المترجم كما رأيته بخط ابنه الشيخ عبد الرحمن ناقلاً من خط والده أسماء مشايخه حتى وصل إلى ابن أركماس وهو أعلى من لقيناه لسبقه بالسن انتهى وذكر الشيخ صاحب الترجمة في إجازة شيخ الحنابلة بالشام الشيخ عبد الباقي البعلي قال أروي بحق الإجازة عن الشيخ محمد بن اركماس الحنفي المعمر الساكن بغيط العدة بمصر إلى موته بحق إجازته عن شيخ الإسلام حافظ العصر أحمد بن حجر العسقلاني وبحق اجتماعه مع الحافظ الجلال السيوطي والشيخ عبد الحق السنباطي قال أحدهما عن الشيخ محي الدين الكافيجي فبفضل الله تعالى هذا الاسناد أنا منفرد به مشرقاً ومغرباً انتهى قلت وقد تكلم في لحوق ابن أركماس لابن حجر فاستبعد وأنا رأيت ترجمته في طبقات الحنفية التي ألفها القاضي تقي الدين اليمني فقال فيها محمد بن أركماس اليشبكي عضد الدين النظامي نسبة للنظام الحنفي لكونه ابن أخته ولد سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة ومات والده وهو صغير فرباه خاله المذكور وحفظ القرآن والشاطبية والمنار والكنز والفية ابن مالك وغيرها وعرض على ابن حجر وغيره واشتغل على ابن الديري والزين قاسم وغيرهما وحج غير مرة وكنت بخطه الكثير وجمع تذكرة في مجلدات وكان لطيف الذات حسن الصفات غزير الأدب انتهى وأنت إذا عرفت مولده لم تستبعد أنه أخذ عن ابن حجر فإن وفاة ابن حجر في سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة فقد ثبت بهذا الوجه لحوقه لابن حجر وأما لحوق صاحب الترجمة فمسلم لا مطعن فيه وبالجملة فقد نال صاحب الترجمة بهذا السند شأنا عظيماً وله مشايخ كثيرون يبلغون ثلثمائة شيخ وعنه أخذ الشمس البابلي وعامة الشيوخ المتأخرين بمصر ومن الدمشقيين الشيخ عبد الباقي المذكور آنفاً وكل من لقيه مثن عليه وألف كتباً كثيرة نافعة منها شرح الجامع الصغير للسيوطي وهو شرح جامع مفيد سماه فتح المولى النصير بشرح الجامع الصغير وقد وصل حجمه إلى اثني عشر مجلداً كل مجلد خمسون كراساً وله شرح على ألفية الحديث التي للسيوطي أيضاً وله سواء الصراط في بيان الإشراط وهو كتاب جليل في اشراط الساعة أوصلها فيه إلى ثلثمائة وله القول الشفيع في الصلاة على الحبيب الشفيع وشرح على الطيبة الجزرية ونظم طيبة على روى الشاطبية وشرحها وله ثلاثة شروح على المقدمة الجزرية وشرح على الأربعين المضاهية للأربعين النووية للحافظ السيوطي وشرح على القواعد والضوابط النووية وقطعة على تلخيص ابن أبي جمرة لصحيح البخاري وقطعة على نظم الشيخ العمريطي للتحرير ورسالة سماها القول المشروح في النفس والروح وله كشف اللثام عن آية أحل لكم ليلة الصيام والقول المقبول في كفارة ذنب المقتول ووثوق اليدين بما يجاب عن حديث ذي اليدين والرقيم المسطور في علم الموتى بمن يزور القبور ومعترك الخلاص في تكرير سورة الإخلاص والجواب الشفيع عن الجناب الرفيع والقول العلي في رؤية الملك العلي والسراج الوهاج في إيضاح رأيت ربي وعليه التاج والجلالة بمد الألف قبل هاء الجلاله والموارد المستعذبه بمصادر العمامة والعذبه والبرهان في أوقاف السلطان والاستعلام عن رؤية النبي في المنام والجواب المصون في آية أنكم وما تعبدون واتحاف السائل بما لفاطمة من الفضائل واطلاق العنان في رؤية الله تعالى في العيان وتنبيه اليقظان في قول سبحان والقول المثبوت في قصة هاروت وكشف النقاب في حياة الأنبياء إذا تواروا(3/34)
في التراب وغير ذلك مما يطول ذكره وكانت ولادته في الليلة السابعة عشرة من ذي القعدة سنة سبع وخمسين وتسعمائة بمنزلة أكرى من منازل الحاج المصري حال التوجه إلى بيت الله الحرام وتوفي بمصر بعد أذان العصر من يوم الأربعاء سادس عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وألف ودفن عند والده بتربة فيها ولي الله تعالى الشيخ محمد الفارقاني داخل جامع يعرف بالشيخ المذكور بسويقة عصفور بالقرب من المدابغ القديمة والأكراوي نسبة لاكري بالقصر ويقال أكره منزلة بطريق الحاج المصري معروفة بقلة مائها وفيها يقول فتح الله البيلوني الحلبي:في التراب وغير ذلك مما يطول ذكره وكانت ولادته في الليلة السابعة عشرة من ذي القعدة سنة سبع وخمسين وتسعمائة بمنزلة أكرى من منازل الحاج المصري حال التوجه إلى بيت الله الحرام وتوفي بمصر بعد أذان العصر من يوم الأربعاء سادس عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وألف ودفن عند والده بتربة فيها ولي الله تعالى الشيخ محمد الفارقاني داخل جامع يعرف بالشيخ المذكور بسويقة عصفور بالقرب من المدابغ القديمة والأكراوي نسبة لاكري بالقصر ويقال أكره منزلة بطريق الحاج المصري معروفة بقلة مائها وفيها يقول فتح الله البيلوني الحلبي:
تعففت عن وادي الفقير ومائه ... وسرت لبيت الله أهدي له شكره
ووفرت ما عندي احترازا وأنني ... صوني ماء الوجه لم أر ما أكره
محمد بن محمد بن عبد القادر بن أحمد بن القاضي تقي الدين محمد بن عبد السلام ابن روزبه بن محمود بن إبراهيم بن أحمد الكازروني المدني الزبيري إمام الشافعية بالمقام النبوي صلى الله على ساكنه وسلم وكرم وعظم ومفتي المدينة ومدرسها بروضة الشفاء كان في العلوم بحرا زاخراً وعلماً ظاهراً ساهم في الفضائل فأدرك ما أدركه الأواخر والأوائل وتخرج على يديه الفضلاء مع عذوبة اللسان وسعة الصدر وحسن الخط وكان مبتلى بالشك في الطهارة مع كبر سنه وشيخوخته وكان صدرا عالي القدر وافر الحرمة أخذ عن الطاهر بن علي بن الشيخ محمد بن عراق ولازمه وبه تخرج ونزل له عن امامته دون ولده وأشرك معه فيها محمد مكارم البناء ثم أنهما فزغا لولدي شيخهما محمد وأخيه على بالثلث بطيب نفس منهما وكان مقام الشافعية بطيبة خاصاً بهؤلاء الثلاثة الوظائف وهي الوظائف القديمة ولم يكن لأحد سواهم فيه وظيفة وأخذ عنه أكابر لا يحصون كثرة منهم عبد الله باولي وابن عمه أبو السعود الكازروني المقدم ذكره وأحمد الصالحي وكان ذا دنيا متسعة بحيث أن ورثته تقاسموا النقد بالطاس كما أخبر بذلك من أدركه وكانت وفاته في يوم الجمعة تاسع عشر ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وألف بالمدينة المنورة ودفن ببقيع الغرقد بمدفن آبائه وأجداده.
السيد محمد بن محمد بن برهان الحسيني الشهير بشيخي وبالعلامة الحميدي الأصل القسطنطيني المولد نقيب الأشراف بممالك الروم المحروسة العالم الحبر المتبحر في المعقول والمنقول الباهر السمت كان عالماً بارعاً نبيهاً نبيلاً صاحب أخلاق حميدة ومكارم جزيلة ومعرفة تامة بلسان العرب وله أشعار وانشاآت غضة لازم من شيخ الإسلام يحيى بن زكريا ودرس ولما ولي الولي المذكور قضاء العسكر بروم أيلي ثاني مرة صيره في خدمة التذاكر وقد اتفق لابن عمه المولى السيد محمد بن برهان الشهير بشريف المقدم ذكره أنه كان من ملازمي والد المولى يحيى بن زكريا وصيره وهو قاضي العسكر بروم أيلي في خدمة التذاكر ثم تنقل صاحب الترجمة في المدارس إلى أن وصل إلى المدرسة السليمانية ثم ولي منها قضاء حلب ثم صار قاضياً بالقدس في سنة ثلاث وثلاثين وألف ونظم قصيدته المشهورة وتعرف بالثلجية ورتب لمن يقرؤها كل ليلة في الصخرة الشريفة وقفاً وهي إلى الآن تقرأ كل ليلة ومطلعها قوله:
ما الثلج ثلج على ذا الطور والحرم ... نور تجلى به الرحمن ذو الكرم
من عهد موسى تجلى لا نظير له ... لكنه شامل للعرب والعجم
منها:
من أيمن الطور نار الله قد سطعت ... هياكل النور في الزيتون والأجم
من جانب الروم ضيف قد ألم بنا ... أنجى الخلائق من جدب ومن ألم
منور الوجه شيخ من محاسنه البي ... ض ببيض وجه البان والعلم(3/35)
ثاني سليمان من حف أريكته ... فالريح تحملها بالخيل والحشم
تواضعاً وجهه في الأرض محتشم ... فمن تخطاه قل يا زلة القدم
ثم عزل عن قضاء القدس فوجه إليه قضاء الغلطة ثم صار نقيب الأشراف مكان ابن عمه الشريف المذكور آنفا ووجه إليه رتبة قضاء العسكر بأناطولي وعظم شأنه وروجع في مهام الأمور وشمله التفات السلطان مراد وكان وافر السخاء والمروءة وكان مجلسه مجمع الفضلاء من كل جانب وكان يورد عنده كل غامضة ويبث كل رائقة وكثير من الأدباء مدحوه وأثنوا عليه فمنهم الأديب أحمد بن شاهين فإنه كتب إليه هذه القصيدة لما صار نقيباً مهنئا له وهي:
ثناء لآل المصطفى وسناء ... بمطلع سعد لم تنله ذكاء
وأني لشمس الأفق مطلع سودد ... له من علا نور النبي سناء
وكل فخار بعد نور محمد ... نبي الهدى في العالمين مناء
لك الحمد اللهم فيما منحته ... وخيرتك اللهم حيث تشاء
لصفوة هذا الوقت من آل هاشم ... ومن قصرت عن شأوه النظراء
لمولاي شيخ الدهر علما ومن له ... مناقب لم يظفر بها النقباء
لعلامة الدنيا وحسبك شهرة ... له لقب دانت له العلماء
سما لمقام قد رقي بسموه ... لذاك لكل من علاه بهاء
وما كان إلا البدر نوراً ورفعة ... وحظ الورى منه سنا وسناء
فأصبح شمسا لا يوقت نورها ... سواء صباح عندها ومساء
وما زاده فخرا حلول برتبة ... بروج ذكاء في السمو سواء
وإنك يا مولاي أشرف ذا الورى ... لذلك نقيبا عدك الشرفاء
فيا ابن رسول الله وابن وصيه ... ومن كل قلب فيه منك رجاء
كفيت من الدنيا وأنت ذخيرتي ... لآخر أي من دونه الكرماء
وليس قريضي بالغا فيك مدحة ... ولا هي مما يبلغ البلغاء
وإن إله العرش أوصى بفضلكم ... بنى المصطفى فليقصر الشعراء
وكتب إليه في جواب كتاب ورد إليه من جنابه هذه
جاءني من جناب شيخي كتاب ... مستطاب مهذب مألوف
من جناب الشريف صدر المولى ... هو ذاك العلامة المعروف
در كله وسحر وخمر ... فلآليه كلهن شفوف
فبألفاظه اهتديت فهما ... قيل أحسنت قلت أني رديف
قائلاً فيه قل أجيبك مهما ... رمته عند همتي للطيف
فترويت ثم جئت ببيت ... قاله شاعر خبير عريف
ما لنا في الندى عليك اختيار ... كل ما يمنح الشريف شريف
وحكي والدي قال أخبرني المول العلامة الشهاب الخفاجي وأنا بمصر في سنة ستين وألف أنه كان في يوم من الأيام في مجلسه الرفيع المقام مع جماعة من الفضلاء وزمرة من الأماجد النبلاء فاحتجب الشهاب عن المجلس لأجل الدخان وكان المنع عنه قد حصل من حضرة السلطان ولما عاد إلى المجلس أنشد هذين البيتين وهما نظم وقتهما من غير منين:
إذا شرب الدخان فلا تلمنا ... وجد بالعفو يا روض الأماني
تريد مهذباً من غير ذنب ... وهل عود يفوح بلا دخان
قال فأجاب صاحب الترجمة في الحال على سبيل الارتجال:
إذا شرب الدخان فلا تلمني ... على لومي لأبناء الزمان
أريد مهذبا من غير ذنب ... كريح المسك فاح بلا دخان
ومن آثار قلمه البديعة ما كتبه إلى الإمام الهمام يوسف بن أبي الفتح إمام السلطان وهو بدمشق:
يا من علا بجماله ... وكماله أعلى العلا
مني إليك تحية ... حرز البقا لذوي العلى(3/36)
ينهي على رسم أولي النهي إلى المحل الذي خصه الحسن والبها أنه كنا مجهزين إليه قبل تاريخه كتاباً مكتوباً بمداد الصدق والخله وخطابا فيه شفاء من العلة والغلة ثم قعدنا ناظرين بم يرجع المرسل فلم يظهر ممن رحل وقفل وطلع وأقل نوع أثر من عين ونغمة خبر من رباب ذي رعين فلعل المجهز ضاع في البين وما ضاع نشره بين اثنين وإلا فالحبيب لا محالة وثيق الوفا سحيق عن شفا جرف الجفا فلو وصل لوصل وما قطع عروق ما حصل ودمت يوسف الحقائق موفيا كيل الدقائق بين متهم ومنجد ومشئم ومعرق وكتب على رقعة دفعت إليه من بعض الفضلاء على يد واسطة بعض خواص الأفاضل متضمنة لعتب حصل من المولى المذكور يحضرون إلى البيت ويحكون الحكاية كيت وكيت قضية الهجر فرية الواهمه والقطيعة من الجيران لا من أهل كاظمه عند الملاقاة تظهر الأمور ولذي المصافاة يحصل شفاء الصدور والسلام وكتب على إجازة لبعض الحلبيين لما تشرفت بمطالعة هذا الطامور الفائق على هياكل النور وقلائد الحور بيمن ما احتواه من ذكر الصالحين الذي تنزل الرحمة عنده وتحصل الأجور اللأئق كتبه بالمسك على الكافور بل سواد أحداق الحور على صحائف قد ود بات الخجول والقصور ذكرتهم بالدعاء الصالح والثناء العطر الفائح وأثنيت على صاحبه الفائض الفالح بالمدح العبق اللائح مستمداً من روحانيتهم العالية متيمنا بحسن الانتظام في زمرتهم الساميه ومستمطراً سحب همتهم الهامية الناميه فقلت فيه مقرظا:
حققت أن جمال الدين من زمر ... حلوا محل سواد القلب والنظر
من أهل خرقة تجويد بها ادرعوا ... والتاج بيضهم تحمي عن الضرر
من مشرب عبقري بيضهم جدد ... المرتوي صدرهم من رملة الصدر
المنتمين إلى الباز المحلق في ... جو العلا الأشهب العالي عن النظر
طوبي له إذ جلا مرآة خاطره ... بخرقة منهم تجلو عن الكدر
جمال ذي العصر في محياه دام واد ... حلت شعوب جمال الكتب والسير
بين الألى فرأوا عز النظير له ... عز الفريدة في عقد من الدرر
فإن له ينبح الحساد من حسد ... فلا يضر عواء الكلب للقمر
ثم عزل عن النقابة وأعطى قضاء مكة المشرفة فسافر بحراً على طبق ما أمر به من قبل السلطان فلما وصل إلى ثغر جدة أدركه بريد الحمام وذلك في سنة ثلاث وأربعين وألف.
محمد بن محمد بن علي الشهير بالحزرمي البصير الدمشقي المولد والوفاة الحنفي الفقيه العالم الجليل القدر أحد شيوخ الحنفية المتصدين للإفادة أخذ الفقه عن إجلاء كبار منهم الشيخ محمد بن العلمي نزيل دمشق وقرأ أنواع العلوم على المنلا محمد بن عبد الملك البغدادي الدمشقي وحصل وبرع ولزمه جماعة من الفضلاء أخذوا عنه وانتفعوا به وكان أول أمره فقيراً فسكن في حجرة بمدرسة العزيزية واتفق أنه دخل حجرته بعض السراق وأخذوا أسبابه وبعض دراهم كان جمعها من كد وجهد فحصل له كمال الألم وفي أثناء ذلك عرض له العمى وكان عروضه له في حدود سنة عشرين وألف فعالج بصره مدة فما أفاده العلاج فسافر إلى بغداد راجياً أن يبرأ على يد أحد فما تيسر له فعاد إلى دمشق ثم وجهت إليه المدرسة اليونسية فدرس بها وكان له بقعة بالجامع الأموي وكان قبل أن يكف ولي الخطابة بجامع السلطان سليمان مدة وكانت وفاته في سنة اثنتين وأربعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير والحزرمي نسبة إلى حزرما بفتح الحاء المهملة بعدها زاي ساكنة ثم راء مفتوة فميم فألف قرية بغوطة دمشق.
محمد بن محمد الملقب نجم الدين الحلفاوي الأنصاري الحلبي الدار الحنفي المذهب خطيب جامع حلب وصدرها المستوفي أقسام النباهة والبراعة وكان في عصره أوحد الفضلاء وأبلغ البلغاء وله الصيت الذائع بالسخاء والمروءة ووفور المهابة والفتوة ذكره الخفاجي في الخبايا فقال في وصفه نجم طلع من أفق المكارم زائد الارتفاع ونزل منازل سعد رقي فيها عن قوس الشرف بأطول ذراع يقطع أوقاته في طلب الفضائل والكمال ولا ينزه طرفه في غير سماء خلال أو رياض جمال فلو كان العلم بالثريا لنا له أو بالعيوق لطاله ثم أورد له أبياتاً كتبها إلى النجم فيها سؤال نحوي والأبيات هي هذه:
أنجما أضاءت سماء الرتب ... به وتسامت فخاراً حلب(3/37)
أخا لي واسمي أخ لاسمه ... وكم من إخاء يفوق النسب
أين كلمة قيل مبنية ... بغير اختلاف لهم أو شغب
وإن نعتت كان إعرابها ... بإعراب ناعتها ما السبب
فتبوعها لم يزل تابعا ... على عكس ما في لسان العرب
فدم نجم سعد برأس العلا ... وطالع أعدائه في الذنب
فأجابه النجم أيضاً بقوله:
أمولاي منشى لسان العرب ... وقاضي دوادين أهل الأدب
ومن فضله شاع في الكائنات ... ونال به ساميات الرتب
سبقت الألى في نظام القريض ... وفي كل علم بلغت الإرب
وجادت أكفك بالنائلات ... وفاضت بها غاديات النشب
لعمري لقد فقت كل الأنام ... بذوق حلا وبفهم ثقب
كل المسائل قطر الندا ... وفكرك كالسحب منها انسكب
وقد كنت أسمع أوصافكم ... فلما تيدت رأيت العجب
وقد كنت في تعب للعلوم ... فلما رأيتك زال التعب
وقد شرفت بك كل البلاد ... وضاق بفضلك نادي حلب
بعثت لعبدك در النظام ... وصغت له أنجما من ذهب
سكرت بخمر معان صفت ... به نقط الخط مثل الحبب
تضمن لغزا ينادي بيا ... شهاب بن شمس حويت الطلب
فلا زلت تنظم نثر اللآل ... وتنثر من دره المنتخب
ولا زلت أنشد فيه المديح ... وأطوى الزمان به والحقب
وأثنى عليه بآلائه ... وأقرب منه نأي أو قرب
وأذهب من نور آدابه ... ظلام الدياجي وظلم النوب
مدى الدهر ما انقض نجم وما ... شهاب سما في سماء الرتب
وترجمة تلميذه البديعي فقال في وصفه إمام الفضلاء الذي به يقتدون وبأنواره من حنادس الشبه يهتدون عالم جدد رسوم البلاغة بعد أن نسجت عليها العناكب وأحيا ربوعها بعد أن قامت عليها النوادب وافتتح بصوارم أفكاره مقفلات صياصيها واستخرج خرائدها الممنعة بمعاقلها واسترق نواصيها حسن سيرته وطهر سريرته وقدرها بخطابته الجامع الأكبر:
لو أن مشتاقاً تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليه المنبر
وقد نسجت أفكاره شعراء العسر وشائع مفاخره وخلدت في دواوينها ظرائف مآثره ولم تزل حضرته الشريفة كعبة الجود وسدته المنيفة قبلة الوفود مع سماحة شيم وفصاحة كلم ورجاحة كرم وقد أصاب شاكلة الصواب وأتى بفصل الخطاب من قال في مدحه:
لقد بت في الشهباء ما بين معشر ... تهاب الليالي أن تروع لهم جارا
مقاديرهم بين الأنام شريفة ... ولكن نجم الدين أشرف مقدارا
ترى البشر يبدو ومن أسارير وجهه ... فلو جئته ليلا لاهداك أنوارا
ثم أنشد له من شعره قوله من قصيدة:
أترى الزمان يعيد لي إيناسي ... ويرق لي ذاك الحبيب القاسي
كم قد نشرت به بساط لذائذي ... وهصرت من عطفيه غصن الآس
أيام لا غصن الشباب بملتو ... عني ولا حبي لعهدي ناسي
قطر الحيا في وجنتيه مكلل ... مثل الحباب على صفاء الكأس
ساقيته طعم المدام فلم يشب ... صفو الحياة بكدرة الأدناس
لم أنسه متسر بلا ثوب الحيا ... متبختراً في قده المياس
وقوله من قصيدة:
نثر الدر من كلامك نظما ... لم نكن بعد ورده الدهر نظما(3/38)
قلت وهو ممن أخذ عن شيخ الإسلام عمر العرضي وغيره وتصدر للإقراء فانتفع به الجم الغفير من أهل دائرته من أجلهم العلامة محمد بن حسن الكواكبي مفتي حلب والفاضل الأديب مصطفى الثاني وشيخنا العلامة الأجل أحمد بن محمد المهمنداري مفتي الشام وغيرهم واجتمع به والدي في عودته من الروم في سنة اثنتين وخمسين وألف وذكره في رحلته التي ألفها وقرظ له عليها النجم المترجم فقال بعد الحمدلة والتصلية وبعد فلما تشرفت الشهباء بقدوم مولانا فخر الأفاضل وعمدة الأدباء الوارث سلافة المجد عن أبيه وجده الحائز قصبات الرهان في ميدان البلاغة بعزمه وجده من فاق ببلاغته نثر النظام وسما في متانة نظمه على البحتري وأبي تمام وملك ديوان الإنشاء ولا بدع فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وكان قدومه عليها ووروده إليها من دار السلطنة العليه قسطنطينية المحميه راتعاً طيب العيش بحصول المآرب ناهلاً من وروده على ألذ المشارب فأوقفني على هذه الرحلة التي تشد إليها الرحال وتقف عندها مطايا الآمال فوقفت على حديقة أريجة النبات وصحيفة بهيجة الصفات واجلت طرفي في ألفاظ أرق من السلافه وألذ من إلا من بعد الاخافه ومعان أحلى من لعاب النحل وأعذب من الخصب بعد المحل جمعت فضائل الآداب وملكت معاقل الألباب تعرب عن بلاغة منشيها وتبلغ الأنفس من أمانيها فلا زالت الأعين من لقائها مبتهجة والألسن بحسن ثنائها ملتهجة وامدة الله تعالى بسعد لا انقطاع لحبله وأيده بمحد لا انصداع لشمله لا برح يرتع في رياض الفضائل ويطبق من أصول دلائله المسائل على الدلائل انتهى وكانت وفاته في سنة أربع وخمسين وألف وجاء تاريخ وفاته زفت لنجم الدين حور الجنان والحلفاوي بفتح الحاء المهملة وسكون اللام ثم فاء بعدها ألف مقصورة قال ابن الحنبلي في ترجمة العفيف محمد بن أبي النمر أخبرني إنما قيل لأجداده بنو حلفاء لما أنه كان لهم أب ولد في طريق الحجز بجوار أرض كانت تنبت الحلفاء ولم يكن له مهد يوضع فيه فكانت أمه تأخذ شيئاً من ورق الحلفاء وتضعه تحت ولدها إلى أن فارقت تلك الأراضي فكني بأبي حلفاء قال فنحن بنو أبي حلفاء إلا أنه اختصر فقيل بنو حلفاء بحذف مضاف قال وكان أمر أن يكتب في نسبه الأنصاري في آخر وقته لما بلغه أن أباءه كان من ذرية حباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري الخزرجي وهو الذي ذكر ابن دريد في ترجمته في كتاب الاسعاف أنه شهد بدرا قال وهو ذو الرأي سمي لمشورته يوم بدر ذا الرأي.
محمد بن محمد المعروف بابن طريف الصالحي الحنبلي قاضي العونية كان من الفضلاء والأخيار الاتقياء عفيف النفس قانعاً من الدنيا باليسير متجملاً في جميع أموره تولى نيابة القضاء بمحكمة قناة العوني مدة تزيد على أربعين سنة ولم ينسب إليه مكروه قرأت بخط الشيخ عبد الحق المرزناتي أنه أخبره أن مولده في ذي الحجة سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وتوفي نهار الخميس تاسع شوال سنة سبع وخمسين وألف بالصالحية وصلى عليه بالجامع المظفري ودفن بالروضة من السفح قلت وهو والد القاضي عبد اللطيف بن طريف رئيس الموقعين بالعونية وأمهر أهل فنه في عصرنا الأخير مات سنة ثمان وتسعين وألف.(3/39)
محمد علي بن محمد علان بن إبراهيم بن محمد بن علان بن عبد الملك بن علي بن مجدد المائة الثامنة كما هو مشهور على الألسنة والأفواه الشيخ المحقق الطيبي والخطيب التبريزي صاحب المشكاة علي بن مبارك شاه البكري الصديق العلوي سبط آل الحسن الشافعي وتقدم نسبهم في ترجمة عمه الشيخ أحمد بن إبراهيم منظوماً فلا حاجة إلى إعادته وصاحب الترجمة هو واحد الرهر في الفضائل مفسر كتاب الله تعالى ومحي ألسنة بالديار الحجازية ومقرى كتاب صحيح البخاري من أوله إلى آخره في جوف كعبة الله أحد العلماء المفسرين والأئمة المحدثين عالم الربع المعمور صاحب التصانيف الشهيرة كان مرجعاً لأهل عصره في المسائل المشكلة في جميع الفنون وكان إذا سئل عن مسئلة ألف بسرعة رسالة في الجواب عنها ولد بمكة ونشأ بها وحفظ القرآن بالقرآات وحفظ عدة متون في كثير من الفنون وأخذ النحو عن الشيخ عبد الرحيم بن حسان قرأ عليه شرح الأجرومية الأزهري وشرح القواعد له وشرح ألفية ابن مالك للسيوطي وعن الشيخ عبد الملك العصامي قرأ عليه شرح القطر للمصنف وشرح الشذور للمصنف وأخذ عنه علم العروض والمعاني والبيان وأخذ القراآت والحديث والفقه والتصوف عن عمه الإمام العارف بالله تعالى أحمد رحمه الله تعالى ورضي عنه وعن المحدث الكبير محمد بن محمد بن جار الله بن فهد الهاشمي والسيد عمر بن عبد الرحيم البصري والصدر السعيد كمال الإسلام عبيد ا لله الخجندي وروى صحيح البخاري وغيره من كتب السنن إجازة عن كثير من الشيوخ الوافدين إلى مكة كالشيخ العارف بالله تعالى الولي جلال الدين عبد الرحمن بن محمد الشربيني العثماني الشافعي وعن العلاة الحسن البوريني الدمشقي وعن مفتي الحنفية بمصر الشيخ عبد الله النحرواي وعن محدث مصر محمد حجازي الواعظ إجازة منه في سنة عشرين وألف وتصدر للإقراء وله من السن ثمانية عشر عاماً وباشر الإفتاء وله من السن أربع وعشرون سنة وجمع بين الرواية والدراية والعلم والعمل وكان أما ما ثقة من أفراد أهل زمانه معرفة وحفظاً واتقاناً وضبطاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلماً بعلله وصحيحه وأسانيده وكان شبيهاً بالجلال السيوطي في معرفة الحديث وضبطه وكثرة مؤلفاته ورسائله قال الشيخ عبد الرحمن الخياري أنه سيوطي زمانه وحكى تلميذه الفاضل محمد النبلاوي الدمياطي نقلا عنه أنه قال رؤى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يعطي الناس عطايا فقيل له يا رسول الله وابن علان فأخذ يحثو له بيده الشريفة حثيات وقال المترجم أيضاً أخبرني بعض الصالحين عن بعضهم في عام سبع وثلاثين وألف أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ليلة السادس والعشرين من رجب على ناقته عند الحجون سائر إلى مكة فقبل يده الشريفة الكريمة وقال يا سيد المرسلين يا رسول الله الناس قصدوا حضرتك الشريفة للزيارة فلماذا وصلت قال لختم صحيح البخاري أو لختم ابن علان شك الرائي ثم يوم الختم الثامن والعشرين من رجب ذلك العام حضر بعض الصالحين فحصلت له واقعة رأى خيمة خضراء باعلي ما بين السماء والأرض فسأل فقيل هذا النبي صلى الله عليه وسلم حضر لختم البخاري وكان حسن الخط كثير الضبط وانتصب للتدريس ونفع الناس فأخذ عنه جماعة كثيرون يطول شرحهم وقرأ صحيح البخاري في جوف الكعبة أيام بنائها لما انهدمت في سنة تسع وثلاثين من جهة الحطيم وكان سبب هدمها مجىء السيل الآتي بيانه في هذه الترجمة وكان اتفق له أنه قارب ختم الصحيح وكان البناؤن قد جعلوا لهم ستراً حال التعمير فخطر له أن يدخله ويختم فيه ويشرب فيه القهوة ففعل فوشي بعض أعدائه إلى الشريف وقالوا أنه قد جعل بيت الله حانة للقهوى فاغضبوا الشريف عليه فأرسل في الحال أحضره وحبسه وأراد أن يوقع به أمراً فأخذ يتلو القرآن ويتوسل إلى الله تعالى بنبيه أن يكشف عنه هذا الكرب فاتفق أن الشريف كان قام إلى صلاة المغرب وهو بقصره فاهتزت أركان القصر وظن السامعون أنها زلزلة وقعت فنادى الشريف وزيره وسأله عن الأمر فأجابه أنها كرامة للشيخ ابن علان فلما سمع مقالته قال له كيف يكون حالنا معه وقد فعلنا به هذه الفعلة فقال السبيل إلى أخذ خاطره إطلاقه الساعة فناداه إليه واستعفى مما فعله به وأنعم عليه فاعتذر ابن علان أن ما وقع منه كان هفوة فلما كان عند الصباح وجده أعداؤه طائفاً بالبيت وكانوا(3/40)
يظنون غير ذلك وصنف في جواز التدريس داخل البيت مصنفاً حافلاً أطنب فيه المقال في هذا المقام وجمع فيه الأقوال في هذا المرام وسماه القول الحق والنقل الصريح بجواز أن يدرس بجوف الكعبة الحديث الصحيح وألف كتباً كثيرة في عدة فنون تزيد على الستين وتآليفه كلها غرر فمنها التفسير سماه ضياء السبيل إلى معالم التنزيل وله رفع الإلتباس ببيان اشتراك معاني الفاتحة وسورة الناس وله رسالة في ختم البخاري سماها الوجه الصبيح في ختم الصحيح وله فتح الكريم القادر ببيان ما يتعلق بعاشوراء من الفضائل والأعمال والمآثر ونظم أنموذج اللبيب للسيوطي وشرحه شرحاً عظيماً ونظم أم البراهين سماها العقد الثمين ونظم عقيدة النسفي سماها العقد الوفي ونظم مختصر المنار في أصول الحنفية ونظم ايساغوجي والعقد والمدخل في علم البلاغة للعضد وله فتح الوهاب بنظم رسالة الآداب للعضد وله شرح على تصريف الشيخ محمد البركلي المسمى بالكفاية سماه حسن العناية بالكفاية وشرح الأذكار للنووي ورياض الصالحين وله درر القلائد فيما يتعلق بزمزم وسقاية العباس من الفوائد وشرح منسك النووي الكبير سماه فتح الفتاح في شرح الإيضاح وشرح منظومة السيوطي في موافقة عمر رضي الله عنه للقرآن وله مؤلف في رجال الأربعين النووية ومؤلفان في التنباك أحدهما يسمى تحفة ذوي الإدراك في المنع من التنباك والآخر أعلام الإخوان بتحريم الدخان والابتهاج في ختم المنهاج ونظم القطر والأجرومية وحاشية على شرحها للشيخ خالد الأزهري ورشف الرحيق من شرب الصديق وله مؤلف في أجداده إلى الصديق رضي الله تعالى عنه وإرضاه ومؤلف فيمن اسمه زيد وحسن النبا في فضل قبا اختصره من جواهر الأنباء للشيخ إبراهيم الوصابي اليمني وزهر الربا في فضل مسجد قبا والنفحات الأحدية تصدير وتعجيز الكواكب الدريه أمن تذكير جيران بذي سلم والعلم المفرد في فضل الحجر الأسود له اتحاف أهل الإسلام والإيمان بيان أن المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يخلو عنه زمان ولا مكان وشمس الآفاق فيما للمصطفى صلى الله عليه وسلم من كرم الأخلاق وحاتم الفتوة في خاتم النبوه والطيف الطائف بتاريخ وج والطائف ومؤلف فيمن أردفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معه على مركوبه سماه بغية الظرفا في معرفة الردفا وبلغوا فوق الأربعين وله المنح الأحديه بتقريب معاني الهمزيه وشرح قلادة العقيان بشعب الإيمان للشيخ إبراهيم بن حسن مفتي ديار الشرق والأقوال المعرفة بفضائل أعمال عرفه وكتاب الفتح المستجاد لبغداد ومنهج من ألف فيما يرسم بالياء ويرسم بالألف ومورد الصفا في مولد المصطفى والنفحات العنبريه في مدح خير البريه وعيون الإفادة في أحرف الزيادة وشرح منظومة ابن الشحنه في المعاني والبيان وشرح الزبد وله المنهل العذب المفرد في الفتح العثماني لمصر ومن ولي نيابة تلك البلد وله ثلاثة تواريخ في بناء الكعبة أحدها ألفه برسم خزانة السلطان مراد وسماه باسم فيه تاريخ عام عمارته هو أنباء المؤيد الجليل مراد ببناء بيت الوهاب الجواد وأرسله إلى السلطان صحبة المشير بتأليفه السيد محمد الأنقروي وسأله أن يعين له من الصدقات والجرايات ما يقوم بالكفاية وأن يجدد له درساً لتفسير الكتاب الكريم ولحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم فما أجدت وله رسالة في تعريف واجب الاستثناء وجائزه سماها فتح المالك في تجويز طريق ابن مالك وله مؤلف في السيل المقدم ذكره آنفاً سماه أعلام سائر الأنام بقصة السيل الذي سقط منه بيت الله الحرام ثم لخص منه مجرد ما وقع في عمارة البيت وأعرض عما في أصله مما زاد عن بيان أعمال تلك الكره من أحوال عمارته العشره وما يتعلق بها من الأحكام وجعل هذا المختصر باسم خزانة السلطان مراد وله مؤلف في ذلك أيضاً سماه نشر ألوية التشريف بالأعلام والتعريف بمن له ولاية عمارة ما سقط من البيت الشريف سببه أن البيت العتيق لما سقط سأل الشريف مسعود صاحب مكة إذ ذاك العلماء عن حكم عمارته فأجابوا بأنه فرض كفاية على سائر المسلمين ولشريف مكة تعاطي ذلك وأنه يعمره ولو أنه من القناديل التي لم يعلم أنها عينت من واقفها لعين العمارة ووافقهم صاحب الترجمة أولا ثم ظهر له أن هذا العمل لا يتوجه إلا أن السلطان الأعظم وتوقف معظم العلماء عن موافقته فألف المؤلف المذكور ثم بلغه توقفهم عن دليله في ذلك فألف(3/41)
مؤلفاً آخر سماه البيان والأعلام في توجيه فرضية عمارة الساقط من البيت لسلطان الإسلام وله فتح الكريم الفتاح في حكم ما سد به البيت من حصر وأعواد وألواح قال الفته صبيحة يوم الاثنين سلخ رمضان إلى ضحوة نهار وكنت في عصر ذلك اليوم نسخته لرئيس المعلمين علي بن شمس الدين وبين فيه عملهم أتم بيان وله رسالة في الأعمال التي يحتاجها النائب عن العمارة سماها فتح القدير في الأعمال التي يحتاج إليها من حصل له بالملك على البيت ولاية التعمير وله رسالة سماها لسنى المواهب والفتوح بعمارة المقام الإبراهيمي وباب الكعبة وسقفها والسطوح وله رسالة في حجر إسماعيل وكتاب النفحات الأريجه في متعلقات بيت أم المؤمنين خديجه وسارت بتآليفه الركبان واشتهرت بالآفاق وله النظم الفائق فمنه قوله في بئر زمزم:ً آخر سماه البيان والأعلام في توجيه فرضية عمارة الساقط من البيت لسلطان الإسلام وله فتح الكريم الفتاح في حكم ما سد به البيت من حصر وأعواد وألواح قال الفته صبيحة يوم الاثنين سلخ رمضان إلى ضحوة نهار وكنت في عصر ذلك اليوم نسخته لرئيس المعلمين علي بن شمس الدين وبين فيه عملهم أتم بيان وله رسالة في الأعمال التي يحتاجها النائب عن العمارة سماها فتح القدير في الأعمال التي يحتاج إليها من حصل له بالملك على البيت ولاية التعمير وله رسالة سماها لسنى المواهب والفتوح بعمارة المقام الإبراهيمي وباب الكعبة وسقفها والسطوح وله رسالة في حجر إسماعيل وكتاب النفحات الأريجه في متعلقات بيت أم المؤمنين خديجه وسارت بتآليفه الركبان واشتهرت بالآفاق وله النظم الفائق فمنه قوله في بئر زمزم:
وزمزم قالوا فيه بعض ملوحة ... ومنه مياه العين أحلى وأملح
فقلت لهم قلبي يراها ملاحة ... فلا برحت تحلو لقلبي وتملج
وقوله:
يا رب أنت حبست الحسن في قمر ... حلو الشمايل لا يرثي لمن عشقه
أكاد أدعو عليه حين يهجرني ... لكن لفرط غرامي تمنع الشفقه
وقوله:
يا مالكاً رق قلبي ... رفقاً بنفس رقيقك
الله بيني وبين السو ... اك في رشف ريقك
وقوله:
يا من يلم في هواه ... ولا يراعي الجمالا
بالله دعني فإني ... لقد فنيت انتحالا
وله مضمنا:
كتبته ولهيب الشوق في كبدي ... والدمع منسكب والبال مشغول
وقلت قد غاب من أهواه وا أسفي ... بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
ومن املائه لنفسه قوله في عقد الحديث:
إذا أمسيت فابتدر الصياحا ... ولا تمهله تنتظر الصباحا
وتب مما جنيت فكم أناساً ... قضوا نحباً وقد ناموا صحاحا
وله أشعار كثيرة منها تشطير الهمزية وتخميسها وخمس قصيدة الشيخ أبي مدين قدس سره وذيلها وأنشد له بعضهم هذه الأبيات:
الموت بحر موجه طافح ... يغرق فيه الماهر السابح
ويحك يا نفس قفي واسمعي ... مقالة قد قالها ناصح
ما ينفع الإنسان في قبره ... إلا التقى والعمل الصالح
وعلى كل حال ففضله وشرف قدره مما شا وذاع وملأ الدنيا والأسماع قال البوريني في تاريخه كانت ولادته في العشرين من صفر سنة ست وتسعين وتسعمائة وتوفي نهار الثلاثاء لتسع بقين من ذي الحجة سنة سبع وخمسين وألف ودفن بالمعلاة بالقرب من قبر شيخ الإسلام ابن حجر المكي رحمهما الله تعالى.(3/42)
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن مفرج بن بدر وتقدم تمام النسب في ترجمة أخيه أبي الطيب محدث الشام ومسندها الشيخ الإسلام الإمام نجم الدين أبو المكارم وأبو السعود بن بدر الدين بن رضى الدين الغزي العامري الدمشقي الشافعي شيخ الإسلام ملحق الأحفاد بالأجداد المتفرد بعلو الإسناد ترجم نفسه في كتابه بلغة الواجد في ترجمة والده البدر فقال مولدي كما رأيته بخط شيخ الإسلام يوم الأربعاء حادي عشر شعبان المكرم سنة سبع وسبعين وتسعمائة وسط النهار وقت الظهيرة ودعا لي الوالد بعد ما كتب ميلادي فقال أنشأه الله تعالى وعمره وجعله ولداً صالحاً تقياً وكفاه وحماه من بلاء الدنيا والآخرة وجعله من عباده الصالحين وخربه المفلحين وعلمائه العاملين ببركة سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم وحسبنا الله نعم الوكيل انتهى ما وجدته بخط الشيخ الوالد ولا بأس بذكر شيء مما من الله تعالى علي بن على عادة علماء الحديث وإن كنت في نفسي مقصراً وعن حلبة العلماء مقهقراً فأقول ربيت في حجر والدي وتحت كنفه حتى بلغت سبع سنوات وقرأت عليه من كتاب الله تعالى قصار المفصل وحضرت بين يديه يوم عيد الفطر عام وفاته وقلت يا سيدي أريد أن أقرأ عليك من أول البقرة قال وتعرف تقرؤها قلت نعم قال هات المصحف فجئته به فقرأت عليه الفاتحة ثم من أول البقرة إلى المفلحون فقال لي يكفيك إلى هنا فأطبقت المصحف بعد أن لقنني سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وأنعم علي حينئذ بأربع قطع فضة ترغيباً لي وأمرني وأنا ابن ست سنوات أن أصوم رمضان ويعطيني في كل يوم قطعة فضة فصمت معظم الشهر وكان ذلك ترغيباً منه وحسن تربية وصمت رمضان السنة التي مات فيها إلا يوماً أو يومين وأنا ابن سبع وبقيت اجلس معه للسحور وكان يدعو لي كثيراً وأحضرني دروسه أنا وأخي الشيخ كما الدين في سنة اثنتين وثمانين وثلاث وثمانين وأربع وثمانين وحدثتني والدتي عنه أنه كان يقول أن أحياني الله تعالى حتى يكبر نجم الدين أقرأته في كتاب التنبيه وأجازني فيمن حضر دروسه إجازة خاصة وأجازني في خربه الذي كتبه لمفتي مكة الشيخ قطب الدين إجازة عامة في عموم أهل عصره من المسلمين ثم ربيت بعد وفاته في حجر والدتي أنا واخوتي فأحسنت تربيتنا ووفرت حرمتنا وعلمتنا الصلوات والآداب وحرصت على تعليمنا القرآن وجازت شيوخنا على ذلك وكافأتهم وقامت في كفالتنا بما هو فوق ما تقوم به الرجال مترملة علينا راغبة من الله سبحانه في حسن الثواب والنوال وجزيل الحظ من قوله صلى الله عليه وسلم أنا أول من يفتح باب الجنة ألا أنى أرى امرأة تبادرني فأقول لها مالك ومن أنت فتقول أنا امرأة قعدت على أيتام لي رواه أبو يعلى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال الحافظ المنذري وإسناده حسن إن شاء الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة وأومأ بيده يريد ابن زريع السبابة والوسطى وامرأة آمت من زوجها من زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى باتوا أو ماتوا رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال الخطابي السفعاء التي تغير لونها إلى الكمودة والسواد من طول الأيمة يريد بذلك أنها حبست نفسها على أولادها ولم تتزوج فتحتاج إلى الزينة والتصنع للزوج فجزاها الله عنا أحسن الجزاء وعوضها عما تركت من أجله لوجهه في دار البقاء وساعدها على ذلك كله شقيقها الخواجا زين الدين عمر بن الخواجا بدر الدين حسن بن سبت وأجزل إلينا خيراً وكانت معيشتنا من ريع وقف جدنا وملك أبينا وميراثه الذي تلقيناه عنه أحسنت والدتنا التصرف في أموالنا وفي مؤنتنا وكسوتنا ولم تحملنا منه أحد قط وتقول هو ببركة والدهم ثم أنها أعزها الله ومد في أجلها اشغلتنا بقراءة القرآن وطلب العلم فقرأت القرآن على الشيخ عثمان اليماني ثم نقلني الوالد قبل وفاته إلى الشيخ يحيى العماري فختمت عليه القرآن مرات وأقرأني في الأجرومية والجزرية والشاطبية والألفية تصحيحاً وحفظاً لبعضهن وحفظت عليه معظم القرآن قلت وقد ترجمه في الكواكب وقال أنه كان من أولياء الله تعالى ممن تطوى له الأرض قال ثم أخذت في طلب العلم فترددت إلى مجلس الشيخ العلامة زين الدين عمر بن سلطان مفتي الحنفية فقرأت عليه(3/43)
الأجرومية حفظاً وحلاً وشرحها للشيخ خالد ثم لزمت درس شيخنا شيخ الإسلام شهاب الدين العيثاوي فقرأت عليه شرح الجزرية للمكودي وقرأت عليه شرح المنهاج بتمامه إلا فرقاً يسيراً من أواسطه وأواخره ولكن سمعت عليه ما فاتني وقرأت عليه نصف شرح المنهاج الصغير الأول لشيخ الإسلام والدي وسمعت عليه مواضع صالحة من شرح المحلى وقرأت من أوائل شرح البهجة للقاضي زكريا وسمعت عليه من أول الإرشاد وأوسطه بقراءة الشيخ محمد بن داود وصاحبه الشيخ محمد الزوكاري الصالحين وسمعت عليه عقيدة الشيباني بقراءة أبي الصفاء بن الحمصي وله على تربية وحنوة وعطف وهو أعز شيوخي عندي واحبهم إلي جزاهم الله عني خيراً وقرأ عليه في الحديث من أول البخاري وغيره وإلى الآن في صحبته من سنة إحدى وتسعين وتسعمائة ثلاث عشرة سنة أطال الله صحبتنا ومتعني بحياته ونفعني ببركته ولزمت شيخنا مفتي الفرق شيخ الإسلام أبا الفضل محمد محب الدين القاضي الحنفي أعز اله جانبه فقرأت شرحه على منظومة الشيخ العلامة محب الدين ابن الشحنة كما تقدم في ترجمته ومن أوائل المطول وقرأت عليه نحو ربع صحيح البخاري وكتب لي به وبغيره إجازة بخطه وهو متع الله بحياته إلى الآن يوصل إلينا إحسانه وإنعامه علماً وثناء ومالاً وغير ذلك مما لا نستطيع مكافأته إلا أن يجاز يد الله عنا أحسن الجزاء ويمتعنا بحياته وعلومه ما تعاقب الصباح والمساء وقرأت على السيد الشريف الحسيب النسيب الإمام العلامة اللوذعي المحقق الفهامة قاضي القضاة في حلب ثم المدينة ثم آمد بضميمة الافتاء بها وقضاء البيره السيد محمد بن السيد محمد بن السيد حسن السعودي تغمده الله تعالى برحمته حين قدم علينا دمشق الشام في سنة ثمان وتسعين وتسعمائة مواضع من تفسير القاضي العلامة ناصر الدين البيضاوي منها تفسير قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو الآيتين بإشارته وأجازني بمروياته منها تفسير المفتي الأعظم والإمام الأقدم أبي السعود محمد بن العمادي رحمه الله تعالى ولم أر في موالي الروم أذكى منه ولا أرغب في العلم منه رحمه الله تعالى وأجازني من المصريين شيخنا شيخ الإسلام شمس الدين الرملي المصري وشيخنا العارف بالله تعالى الأستاذ الأعظم زين العابدين البكري متع الله بحياتهما كتابة إلي قلت وسمع المسلسل بالأولية من محدث حلب شيخ الإسلام محمود بن محمد البيلوني الشافعي حين قدم دمشق في سنة سبع بعد الألف وأجاره بمروياته وأخذ عن محدث مكة المشرفة شيخ الإسلام الشمس محمد بن عبد العزيز الزمزمي الشافعي في سنة سبع بعد الألف قال وفتح الله تعالى علي بالنظم والنثر والتأليف من سنة إحدى وتسعين وتسعمائة وذكر من شعره قوله:الأجرومية حفظاً وحلاً وشرحها للشيخ خالد ثم لزمت درس شيخنا شيخ الإسلام شهاب الدين العيثاوي فقرأت عليه شرح الجزرية للمكودي وقرأت عليه شرح المنهاج بتمامه إلا فرقاً يسيراً من أواسطه وأواخره ولكن سمعت عليه ما فاتني وقرأت عليه نصف شرح المنهاج الصغير الأول لشيخ الإسلام والدي وسمعت عليه مواضع صالحة من شرح المحلى وقرأت من أوائل شرح البهجة للقاضي زكريا وسمعت عليه من أول الإرشاد وأوسطه بقراءة الشيخ محمد بن داود وصاحبه الشيخ محمد الزوكاري الصالحين وسمعت عليه عقيدة الشيباني بقراءة أبي الصفاء بن الحمصي وله على تربية وحنوة وعطف وهو أعز شيوخي عندي واحبهم إلي جزاهم الله عني خيراً وقرأ عليه في الحديث من أول البخاري وغيره وإلى الآن في صحبته من سنة إحدى وتسعين وتسعمائة ثلاث عشرة سنة أطال الله صحبتنا ومتعني بحياته ونفعني ببركته ولزمت شيخنا مفتي الفرق شيخ الإسلام أبا الفضل محمد محب الدين القاضي الحنفي أعز اله جانبه فقرأت شرحه على منظومة الشيخ العلامة محب الدين ابن الشحنة كما تقدم في ترجمته ومن أوائل المطول وقرأت عليه نحو ربع صحيح البخاري وكتب لي به وبغيره إجازة بخطه وهو متع الله بحياته إلى الآن يوصل إلينا إحسانه وإنعامه علماً وثناء ومالاً وغير ذلك مما لا نستطيع مكافأته إلا أن يجاز يد الله عنا أحسن الجزاء ويمتعنا بحياته وعلومه ما تعاقب الصباح والمساء وقرأت على السيد الشريف الحسيب النسيب الإمام العلامة اللوذعي المحقق الفهامة قاضي القضاة في حلب ثم المدينة ثم آمد بضميمة الافتاء بها وقضاء البيره السيد محمد بن السيد محمد بن السيد حسن السعودي تغمده الله تعالى برحمته حين قدم علينا دمشق الشام في سنة ثمان وتسعين وتسعمائة مواضع من تفسير القاضي العلامة ناصر الدين البيضاوي منها تفسير قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو الآيتين بإشارته وأجازني بمروياته منها تفسير المفتي الأعظم والإمام الأقدم أبي السعود محمد بن العمادي رحمه الله تعالى ولم أر في موالي الروم أذكى منه ولا أرغب في العلم منه رحمه الله تعالى وأجازني من المصريين شيخنا شيخ الإسلام شمس الدين الرملي المصري وشيخنا العارف بالله تعالى الأستاذ الأعظم زين العابدين البكري متع الله بحياتهما كتابة إلي قلت وسمع المسلسل بالأولية من محدث حلب شيخ الإسلام محمود بن محمد البيلوني الشافعي حين قدم دمشق في سنة سبع بعد الألف وأجاره بمروياته وأخذ عن محدث مكة المشرفة شيخ الإسلام الشمس محمد بن عبد العزيز الزمزمي الشافعي في سنة سبع بعد الألف قال وفتح الله تعالى علي بالنظم والنثر والتأليف من سنة إحدى وتسعين وتسعمائة وذكر من شعره قوله:(3/44)
لو بحت بالحب الذي ... أضنى الفؤاد وكلما
لبكى لي الصخر الأص ... م وكاد أن يتكلما
ثم قال بعد ذلك ودخلت في يوم عرفة سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة على شيخ الإسلام الشيخ إسماعيل النابلسي أهنيه بالعيد فرأيت عنده جماعة منهم شيخنا العلامة المنلا أسد بن معين الدين أقول فعلم من قوله ذلك أن المنلا أسد من مشايخه ثم رأيته ذكر في ترجمة الأسد في الكواكب أنه قرأ عليه في شرح الشذور لابن هشام ودروسا من شرح الجاربردي على الشافية ثم قال ومن مؤلفاته نظم الأجرومية سميته الحلة البهية واقتديت في نظمها بوالدي لشرح الأجرومية لطيف ممزوج وشرح القطر لابن هشام وشرح القواعد لابن هشام أيضاً وشرح منظومة والدي في النحو نظماً في أربعة آلاف بيت سميته النجمية في شرح الملحة البدرية قرط العلماء عليها ومنظومة في النحو مائة بيت ومنظومة في التصريف والخط كذلك مائة بيت ونظم العقيان في مورثات الفقر والنسيان للناجي وهو غير نظم الجد الشيخ رضى الدين ومختصر في النحو سميته البهجة وكتبت قطعة على التوضيح لابن هشام وقطعة على الشافية لابن الحاجب وشرح لامية الأفعال لابن مالك في التصريف في شرحين ممزوجين الأول منظوم من بحر الأصل وقافيته في نحو ألف بيت ونظم شرح شيخنا علامة العصر المحب الحموي على منظومة العلامة المحب ابن الشحنة في المعاني الفقهية كل ما كان أكثر عملاً أو أشق فهو أكثر في الثواب وسميته تحفة الطلاب وشرحت أبياتاً لصاحبنا الشيخ أبي الوفا الحموي العبدري في شروط تكبيرة الثاني منظوم سميته تحفة النظام في تكبيرة الأحرام وشرحت كتاب اللآلى المبدعة في الكتابات المخترعة لشيخ الإسلام الجد ونظمت خصائص الجمعة في منظومة سميتها اللآلى المجتمعه ونظمت كتاب رواة الأساطين في عدم الدخول على السلاطين للشيخ السيوطي واختصرت كتاب المنهل الروي في الطب النبوي له أيضاً في مختصر سميته المختار وكتبت شرحاً حافلاً على قول الشيخ علوان الحموي رحمه الله تعالى:
وشرع وق وحق وشرع ... وجمع وفرق وفرق وجمع
ينال الفتى كل ما يشتهي ... بتنزيه طرف وتقديس سمع
وترك هوى باتباع الهوى ... وتأديب نفس وتنزيه طبع
عليك بها أنها أنها ... جماع لخير ومفتاح جمع
وسميته كتاب الهمع الهتان في شرح أبيات الجمع للشيخ علوان وأعظم مؤلفاتي الآن شرحي على ألفية التصوف لشيخ الإسلام الجد المسمى بمنبر التوحيد ومظهر التفريد في شرح جمع الجوهر الفريد في أدب الصوفي والمريد وهو كتاب حافل جمعت فيه جميع أحكام الطريق ووفيت فيه شروط الشرع في عين التحقيق وهو وكل مؤلفاتي التي أشرت إليها الآن كوامل بفضل الله ماعدا شرح التوضيح وشرح الشافية وشرح اللآلى المبدعة لكن الأخير مشرف على الكمال وفي عزمي الآن أن أكتب في الفقه كتاباً حافلاً وأنا شارع في مؤلفات أخرى اسأل الله تعالى التوفيق ومن مؤلفاتي التي كملت الآن أيضاً مجالسي في تفسير سورة الإسراء التي أمليتها في سنة ثمان وتسعين وتسعمائة ومجالسي التي أمليتها في السنتين بعدها إلى آخر سورة طه ثم تركت تدريس مجالس وعظي وجعلت أمليها على ما يفيض الله من سيب فضله ويفتح ومن مؤلفاتي أيضاً هذا الكتاب الحاف المسمى بلغة الواجد في ترجمة الإسلام الوالد وفي ضمنها أربعون حديثاً من مسموعاتي كما تراها مسطرة في الباب السابع ونسأل الله تعالى التوفيق وقد قرط أكابر علماء مصر والشام على شرحي اللمحة البدرية وشرحي على منظومة ابن الشحنه أهذا كلامه ثم ذكر شيئاً من التقاريظ أقول ومن مؤلفاته أيضاً كتاب عقد النظام لعقد الكلام وهو كتاب غريب الوضع مبني على مقولات للسلف في النصيحة والزهد وأشباههما ثم ينظم تلك المقولات ويذكر نظمه عند آخر كل مقولة نقلت منه أشياء منها ذكر النووي في تهذيب الأسماء واللغات عن الإمان الشافعي أنه قال ما ألح في العلم إلا من طلبه في القلة ولقد كنت أطلب القرطاس فيعسر علي وقال لا يطلب أحد هذا العلم بالمال وعز النفس فيفلح ولكن من طلبه بذلة النفس وضيق العيش وخدمة المعلم والتواضع في النفس أفلح قال وقلت في معناه هذا:
من يطلب العلم بذل وضي ... ق العيش والخدمة والانقطاع(3/45)
فهو الذي يفلح لا من غدا ... يطلبه بالعز والاتساع
وقلت:
من يطلب العلم بعز الغنى ... يبطر ولا يفلح بما يصنع
للعلم طغيان كما للغنى ... والعلم بالطغيان لا ينفع
لا يبلغ العالم شأو العلا ... إلا لتقي الأروع الأورع
ومنها عن أبي سليمان الداراني رضي الله عنه قال لو اجتمع الخلق جميعاً أن يضعوا عملي كما عند نفسي ما قدروا على ذلك قال وقد ضمنت كلامه رضي الله عنه في قوله:
قل لنفسي أن تراعي ... حق ربي لن تراعي
إنما نقص وضعف ... وانتقاص من طباعي
من يضع مني ويجهد ... لم يضعني كاتضاعي
إن عرفاني بنفسي ... قد كفاني وعظ واعي
إنما الدنيا متاع ... لم يدم فيها انتفاعي
إنما يسعى لدار ... لم تضع فيها المساعي
دار تكريم إليها ... قد دعاني كل داعي
وله كتاب تحبير العبارات في تحرير الإمارات وهو أيضاً عجيب نقل فيه ما نصه يبتلي المغتاب بأن يغتاب روى أبو الشيخ بن حيان في كتاب النكت والنوادر عن عبد الله بن وهب قال قال مالك بن أنس رضي الله عنه كان عندنا بالمدينة قوم لا عيوب لهم تكلموا في عيوب الناس فصارت لهم عيوب وكان عندنا قوم لهم عيوب سكتوا عن عيوب الناس فنسيت عيوبهم قلت:
عائب الناس وإن كا ... ن سليما يستعاب
والذي يمسك عن عي ... ب الورى سوف يهاب
ما دخول المرء فيما ... ليس يعنيه صواب
وذكر فيه أيضاً روى أبو الشيخ عن مطرف قال قال لي مالك بن أنس رضي الله عنه ما تقول الناس في قلت أما الصديق فيثني وأما العدو فيقع فقال ما زال الناس كذلك لهم صديق وعدو ولكن نعوذ بالله من تتابع الألسن كلها وقلت:
لا ترى كاملاً خلا ... من عدو يعيبه
بل له من سبابه ... وأذاه نصيبه
أحمق الناس من يرى ... إن ذا لا يصيبه
وأخو الكيس قد رج ... ا الله عنه يثيبه
حسبه الله ربه ... فهو عنه ينوبه
ونقل فيه عند ذكر امارات الصبيان قال ومن لطائف العلامة الشيخ زين الدين عمر ابن المظفر الوردي وقد ولي السلطنة صبي مميز غير بالغ:
سلطاننا اليوم طفل والأكابر في ... خلف وبينهم الشيطان قد نزغا
وكيف يطمع من مسته مظلمة ... أن يبلغ السؤل والسلطان ما بلغا(3/46)
وله كتاب التنبيه في التشبيه وهو كتاب بديع في سبع مجلدات في قطع النصف لم يسبق إلى تأليفه وهو أن يذكر ما ينبغي للإنسان ما يتشبه به من أفعال الأنبياء والملائكة والحيوانات المحمودة وما يتشبه به من اجتناب ما يذم فعله رأيته ونقلت منه أشياء لطيفة منها قوله لقد مر بي في بعض مجالسي من نحو عشرين سنة أني دعوت الله تعالى فقلت اللهم اجعلنا من الصالحين وآخر سيئاً أو ما هذا معناه فبعد انقضاء المجلس اعترض علي بعض السامعين فقال يا سيدي كيف تدعو الله أن يجعلنا من المخلطين والمعصية مقررة فيهم قلت سبحان الله والعمل الصالح مقرر فيهم أيضاً وهو أولى من أن نكون من المصرين فإن لم يصبها وابل فطل ثم وقفت على كلام مطرف وهو ما روي البيهقي عن مطرف قال أني لأستلقي في الليل على فراشي وأتدبر القرآن فأعرض نفسي على أعمال أهل الجنة فإذا أعمالهم شديدة كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون يبيتون لربهم سجداً وقياماً أمن هو قانت آناء الليل ساجاً وقائماً فلا أراني منهم فأمر بهذه الآية وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فأرجو أن أكون منهم فحمدت الله تعالى على موافقته على أن المخلطين المذكورين كانوا من أعيان الأنصار والصحابة الأخيار وأني لنا باللحاق بأقلهم وقوله تعالى عسى الله أن يتوب عليهم فعسى ولعل في القرآن يدلان على تحقيق ما بعدهما بإجماع المحققين من المفسرين فالتوبة مقبولة منهم بفضل الله تعالى انتهى ومما ذكره فيما يجتنب التشبيه بالثيران ونحوها من الفظاظة وجهر الصوت والتكلم بما لا يليق بالمكان والزمان والناس يشبهون كل فظ غليظ بليد أكول بالبقرة والثور وتقدم فيما أنشدناه عن عبد الحق الإشبيلي وهو:
يا راكب الروع للذاته ... كأنه في أتن عير
يأكل من كل الذي يشتهي ... كأنه في كلأ ثور
وكنت يوماً في جماعة منهم العلامة المنلا أسد الدين بن معين الدين العجمي أحد تلاميذ والدي عند بعض الصوفية فبينما المنلا أسد يقرأ الفاتحة إذا فقير من فقراء ذلك الصوفي صرخ متورا فانذعر المنلا أسد ونزعج ثم التفت إلينا وقال والله لم أعلم قول فقراء الصوفية نوروا من أي شيء اشتقاقه إلا في هذا الوقت علمت أنه مشتق من لفظ الثور فإني رأيت هذا الرجل الآن خارخوارا كأنه ثور وذكر أن بعض الوعاظ كان يعظ طائفة من الناس وهو يلقي الكلام فنظر منهم اعراضاً ولغطا فأراد أن يستبطنهم فقال ألا اسمعوا يا بقر فقال بعضهم قل يا ثور ونقلت من خطه قال أوردت في بعض مجالسي هذا الحديث يقول الله تعالى للمحفظة يوم القيامة اكتبوا العبدي كذا وكذا من الأجر فيقولون ربنا لم نحفظ لك عنه ولا هو في صحفنا فيقول أنه نواه وقلت على هذا بديهة حتى كان المنشد على لساني ينشد هذين البيتين:
تلوموني على فعل ... بفرط اللوم ولعتب
ولم تدروا الذي بيني ... وبين الله في قلبي
وحكى أنه رأى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في النوم في ليلة مرتين فأنشده يقول:
لئن تقضي زمن أنت فيه ... فإن آثارك تكفي النبيه
من تبع الآثار منك اهتدى ... ومن أباه فهو في أي تيه
صلى عليك الله يا سيدي ... مسلماً ما فاه بالنطق فيه
أصله فيه بالحركة الظاهرة وله فوائد منظومة كثيرة منها قوله جامعاً آداب العيادة للمريض وهي:
إن تعد يوماً مريضاً فليكن ... في زمان لاق فيه أن تعود
واطرق الباب برفق ثم باس ... مك صرح ما صديق كالحسود
واغضض الطرف ولا تكثر إذا ... من سؤال ثم خفف في القعود
لأتكلم في الذي يضجره ... أوله فيه ارتياب في الوجود
ضع عليه يدك اليمنى وعن ... حاله سله على وجه يجود
أظهر الرقة وسع مدة ... وعدنه بالعوافي أن تعود
وأشر بالصبر حذر جزعا ... وادع بالإخلاص مولاك الورود
تلك آدابك أن عدت ومن ... يحفظ الآداب يرجى أن يسود(3/47)
وله التاريخ الذي ألفه في أعيان المائة العاشرة وسماه بالكواكب السائرة والذيل الذي سماه لطف السمر وقطف الثمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر والثاني أحد مادة تاريخي هذا وكلا الأثرين له جيد جزاه الله على صنعهما خيراً إلا أنهما يحتاجان إلى تنقيح وحسن ضبط فإن فيهما الغث وتكرير بعض تراجم وبعض سهو في الوفيات وما خا لله إلا أنه أجاد كل الإجادة في هذا الجمع على كل حال وأما ما فيه من بعض الإغراض فقد عرفت بها المؤرخون في الماضي وأبرأ أنا منها في الحال ومن نظر في كتابي بعين الرضا عرف أني أتلافي كثيراً مما مضى وبالله أستعين واستدفع المكروه واسأله أن يبيض وجهي يوم تبيض الوجوه عوداً ثم تصدر للإقراء والتدريس فدرس بالشامية البرانية تفرغ له عنها الشهاب العيثاوي اختياراً وكذلك فرغ له عن تدريس بالعمرية وعن إمامة بالجامع الأموي وعن وعظ به بعد أن وليه عن الشيخ أحمد ابن الطيبي ثم ولي العيثاوي الوعظ أيضاً عن الشمس الداودي ففرغ له ولابن أخته البدر الموصلي وأذن له العيثاوي بالكتابة على الفتوى قبل وفاته بنحو عشرين سنة فكتب في هذه المدة على فتوى واحدة في الفقه وغير واحدة في التفسير تأدباً مع العيثاوي فلما كان قبل وفاته بنحو خمسة أيام دخل النجم عليه فحضرت فتوى فقال له اكتب عليها فكتب وقال اكتب اسمكم قال بل اكتب اسمك فكتبه ثم تتابعت عليه الفتاوى فاستمر يفتي من سنة خمس وعشرين وألف إلى سنة إحدى وستين وهي سنة وفاته وكان مغرما بالحج إلى بيت الله الحرام واتفق له مرات فأول حجاته كانت في سنة إحدى وألف قال في ترجمة والده في الكواكب بمناسبة وقع لنا اتفاق غريب وهو أنا حججنا في سنة إحدى وألف وهي أول حجة حججتها وكنا نترجى أن يكون عرفة يوم الاثنين فرأينا هلال ذي الحجة ليلة السبت وكان وقوفنا بعرفة يوم الأحد وهو خلاف ما كان الناس يتوقعونه فقتل لبعض إخواننا من أهل مكة وغيرهم ظهر لي اتفاق غريب وهو أن الله تعالى قدر الوقوف يوم الأحد في هذا العام لأنه عام أحد بعد الألف فاستحسنوا ذلك وقلت مقيد الهذا وهو:
لقد حججنا عام ألف وأحد ... وكانت الوقفة في يوم الأحد
اليوم والعام توافقا معا ... فجل مولانا المهيمن الأحد(3/48)
قلت والموافقة الثالثة أنها أحد وقفة بعرفة وسافر إلى حلب مع شيخه العيثاوي في جماعة من مشايخ دمشق منهم السيد محمد بن عجلان نقيب الأشراف والسيد إبراهيم بن مسلم الصمادي والسيد أحمد بن علي الصفوري في آخرين إلى الوزير محمد باشا بقصد رفع التكليف من أهل دمشق بسبب سفر العجم الواقع ذلك في سنة خمس وعشرين وألف ولما وجهت عنه الشامية للشمس الميداني كما ذكرناه في ترجمة الميداني تقريراً آخر فاشتركا في المعلوم ثم لم تمض سنة إلا مات الميداني فاستقل بالمدرسة وجلس مكان الميداني تحت القبة في الجامع الأموي لإقراء صحيح البخاري في الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان ورأس الرياسة التامة ولم يبق من أقرانه الشافعية أحد وهرعت إليه الناس والطلبة وعظم قدره وبعد صيته وكان قارى الدرس بين يديه السيد أحمد بن علي الصفوري ثم الشيخ الإمام رمضان بن عبد الحق العكاري ثم الشيخ العالم مصطفى بن سوار وكانت مدة جلوسه تحت قبة النسر سبعة وعشرين سنة وهو قدر مدة الميداني وهو غريب الاتفاق وانتفع الناس به وأخذوا عنه طبقة بعد طبقة وهم في الكثرة لا يحوم إلا حصاء حولهم وقد مر منهم في كتابنا جماعة وسيأتي جماعة وكان له بالحجاز الصيت الذائع والذكر الشائع وحكي الشيخ العالم التقي الشيخ حمزة بن يوسف الدوماني ثم الدمشقي الحنبلي أبقاه الله تعالى غير مرة أنه لما حج في سنة تسع وخمسين وألف كان النجم حاجا تلك السنة وهي آخر حجاته وكذلك الشيخ منصور السطوحي المحلى كان حاجاً قال وكنت في صحبة الشيخ منصور فبينما أنا ذات يوم عند الشيخ منصور بخلوة عند باب الزيادة وادا بحس ضجة عظيمة قال فخرجت فنظرت وإذا بالشيخ النجم بينهم وهم يقولون له أجزنا ومنهم من يقول هذا حافظ العصر ومنهم من يقول هذا حافظ الشام ومنهم من يقول هذا محدث الدنيا فوقف عند باب الزيادة وقال لهم أجزتكم بما تجوز لي روايته بشرطه عند أهله بشرط أن لا يلحقنا أحد حتى نطوف ثم مشي إلى المطاف فما وصل إليه إلا وخلفه اناس أكثر من الأول فوقف وأجازهم كما تقدم وقال لهم بشرط أن لا يشغلنا أحد عن الطواف قال فوقف الناس وطاف الشيخ قال ولم يكن يطوف مع الشيخ إلا اناس قلائل كأنما أخلى له المطاف فلما فرغ من الطواف طلبوا منه الإجازة أيضاً فأجازهم ثم أرسل الشيخ منصور ودعاه إلى الخلوة فذهب ولحقه الناس إلى باب الخلوة وطلبوا منه الإجازة فأجازهم ودخل الخلوة ثم جاء الشمس محمد البابلي ثم بعد هنيئة جاء الشريف زيد صاحب مكة فلما استقر بهم المجلس تذاكروا أمر الساعة فأخذا الشمس البابلي في الكلام فقال النجم بصوت مزعج وقد جلس على ركبتيه وشرع يورد أحاديث الساعة بأسانيدها وعزرها لمخرجيها ويتكلم على معانيها حتى بهر العقول وأطال في ذلك ثم لما فرغ قال البابلي تجيزونا يا مولنا بما لكم وكذلك استجازه الشيخ منصور والشريف زيد وأنا ومن حضر فأجاز الجميع ثم قدم لهم الشيخ منصور من عنده سماطا وأردفه الشريف زيد بأشياء من المآكل فلما فرغوا انصرف الشيخ النجم وبقي البابلي فقال للشيخ سبحان الله ما هذا إلا عن نبأ عظيم فقال له الشيخ منصور أنا كنت إذا رأيت كتبه وتصانيفه أعجب منها وإذا اجتمعت به لا يتكلم إلا قليلاً فأعجب من ذلك ولكن الآن تحقق عندي علمه وحفظه انتهى وكان قبل موته بست سنوات أو سبع سنوات اعتراه طرف فالج فكان لا يتكلم إلا قليلاً فعد هذا المجلس وكثرة الكلام فيه بالمناسب لما هم بصدده من غير توقف ولا تلعثم كرامة له وهو محل الكرامة فقد أخبر بعض الثقات أنه سأل بعض الصالحين عن الأبدال بالشام فعد منهم ثلاثة أحدهم النجم وما اشتهر من أن سكوته بذلك العارض كان من الشيخ حسين بن فرفره كما ذكرناه في ترجمة الشيخ حسين لا يقدح في ولايته كما يظن ولعل ذلك كان سبباً لولايته في مقابلة انكسار حصل له وتوجه إلى القدس قرب موته هو والشيخ إبراهيم الصمادي في جمعية عظمية ونزلاً إلى الرملة وزارا تلك المعاهد ورجعا إلى دمشق فتخلى النجم للعبادة وترك التأليف وبلغت به السن إلى الهرم وبالجملة فهو خاتمة حفاظ الشام وكانت وفاته يوم الأربعاء ثامن عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وألف عن ثلاث وثمانين سنة وعشرة أشهر وأربعة أيام ودفن بمقبرة الشيخ أرسلان رضي الله عنه ومن غريب ما اتفق له في رسه تحت القبة أن الشمس الداودي كان وصل في قراءته(3/49)
البخاري إلى باب كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى لا يكف شعراً ولا ثوباً ودرس بعده الشمس الميداني من ذلك الباب إلى باب مناقب عمار بن ياسر وتوفي ودرس من بعده النجم إلى أن أكمله في ثلاث سنوا ثم افتتحه وختمه وأعاد قراءته إلى أن وصل إلى باب البكاء على الميت ووقع له قبل موته بيومين أنه طلع إلى بساتينه أوقاف جده واستبرأ الذمة من الفلاحين وطلب منهم المسامحة وفي اليوم الثاني دار على أهله ابنته وبنتها وغيرهم وزارهم وأتى إلى منزله بيت زوجته أم القاضي يحيى بن حميد بزقاق الوزير الآخذ إلى سوق جقمق وصلى المغرب ثم جلس لقراءة الأوراد وأخذ يسأل عن أذان العشاء وأخذ في ذكر لا إله إلا الله وهو مستقبل القبلة ثم سمع منه وهو يقول بالذي أرسلك أرفق بي فدخلوا عليه فرأوه قد قضى نحبه ولقي ربه رحمه الله تعالى ورثاه جماعة من الفضلاء منهم الأديب محمد بن يوسف الكريمي رثاه بقصيدة طويلة مطلعها:خاري إلى باب كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى لا يكف شعراً ولا ثوباً ودرس بعده الشمس الميداني من ذلك الباب إلى باب مناقب عمار بن ياسر وتوفي ودرس من بعده النجم إلى أن أكمله في ثلاث سنوا ثم افتتحه وختمه وأعاد قراءته إلى أن وصل إلى باب البكاء على الميت ووقع له قبل موته بيومين أنه طلع إلى بساتينه أوقاف جده واستبرأ الذمة من الفلاحين وطلب منهم المسامحة وفي اليوم الثاني دار على أهله ابنته وبنتها وغيرهم وزارهم وأتى إلى منزله بيت زوجته أم القاضي يحيى بن حميد بزقاق الوزير الآخذ إلى سوق جقمق وصلى المغرب ثم جلس لقراءة الأوراد وأخذ يسأل عن أذان العشاء وأخذ في ذكر لا إله إلا الله وهو مستقبل القبلة ثم سمع منه وهو يقول بالذي أرسلك أرفق بي فدخلوا عليه فرأوه قد قضى نحبه ولقي ربه رحمه الله تعالى ورثاه جماعة من الفضلاء منهم الأديب محمد بن يوسف الكريمي رثاه بقصيدة طويلة مطلعها:
لما لجنات العلى ... شيخ الشيوخ انتقلا
وجعل تاريخ الوفاة في بيت هو آخر القصيدة وهو هذا:
يا نجم الدين الله من ... أفق دمشق أفلا
محمد بن محمد بن محمود بن أحمد بن محمد بن خضر بن محمد بن عبد الرحمن بن سليمان بن علي القاضي بدر الدين المناشيري الصالحي الشافعي الفقيه الأخباري كان من الفضلاء المثابرين على الإفادة والاستفادة قرأ الكثير وأخذ عن النجم الغزي والشيخ علي القبردي والشيخ محمد الأسطواني والشيخ محمد بن بليان وغيرهم وضبط وقد وكتب الكثير وانتفع به جمع وولي قضاء الشافعية بمحكمة باب قناة العوني وكان لا يفتر عن حضور مجالس العلم ويذاكر بأدب ولطف تعبير وكان نقي العرض مما ابتلى به كثير من قضاء المحاكم ساكناً قليل التكلم وله قوة حافظة للأخبار والأشعار فإذا فاوضه أحد في شيء من ذلك جاش مجره ووقفت على مجموع بخطه يبلغ ستين كراساً جمع فيه كل غريبة ووقف عليه بعض الظرفاء فكتب عليه زنبيل الأعمال فلما رأى الكتابة كتب تحتها الصالحة إن شاء الله تعالى وبالجملة فهو مجموع نوادر وكانت ولادته كما قرأ بخطه يوم الثلاثاء بين الظهر والعصر رابع عشر شهر ربيع الثاني سنة سبع وعشرين وألف وتوفي سنة سبع وسبعين وألف ودفن بسفح قاسيون وأرخ بعضهم وفاته بقوله:
نجل المناشيري لما قضى ... فقلت من لهفي بدمعي سجام
عساك يا ذا الطول مذ أرخوا ... بوأت بدر الدين دار السلام
والمناشيري نسبة إلى المناشير وهي رقاع الأحكام وكان جده خضر الأدنى كاتب الإنشاء بالديار المصرية وكان صاحب فضل وأدب رحمهما الله تعالى.(3/50)
محمد بن محمد بن أحمد العيثاوي الدمشقي كان علامة فهامة في جميع العلوم أحد عن النجم وأخيه أبي الطيب الغزيين وعن الشيخ عبد الرحمن العمادي والشيخ رمضان العكاري والشيخ أحمد البهنسي والشيخ علي القبردي والمنلا حسن الكردي والمنلا أحمد بن حيدر الظهراني والسيد حسن الحجار ومن الواردين عن السري الدروري المصري والشيخ غرس الدين الخليلي المدني ومشايخه يزيدون على الثمانين وفاق أقرانه في الأخذ بأنواع الفنون ودرس وأفاد وانتفع به جماعة منهم السيد محمد بن حسن بن عجلان النقيب وكان كثير الثناء عليه وانتفاعه كان به وكان متصلباً في أمر الدين قوالا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم ومما اتفق له أنه دخل مرة على محافظ الشام في مصلحة متعلقة بالخانقاه السمساطية وطعامها فتشاغل الباشا عنه بأوراق فمسك الباش من طوقه وجذبه وقال له انظر في أمر هؤلاء الفقراء واقض مصلحتهم فالتفت إليه وقضى له ما جاء فيه ودخل مرة أخرى على حاكم آخر بسبب معاليم الجامع الأموي وكان سنان باشا المتولي عليه كتب بها دفتراً وأراد قطع شيء منها فوجد الباشا ينظر في دفتر المتولي ويتأمله فجذبه أيضاً من طوقه وقال له لا تلتفت إلى ما كتبه هذا الظالم وكان حاضراً في المجلس وانظر إلى عباد الله بنور الله فعمل على مراده وترك ما أراد المتولي وله من هذا القبيل أشياء أخر وله تحريرات على التفسير وغيره لكنها لم تجمع وذهبت وولي آخر أمره تدريس البخاري في الأشهر الثلاثة تحت قبة النسر بجامع بني أمية ودرس وكان يقرر تقريراً جيداً إلا أنه كان ضيق العبارة وكانت وفاته ليلة الخميس رابع شهر ربيع الأول سنة ثمانين وألف بداء الاستسقاء ودفن بتربة باب الصغير.
محمد بن محمد بن موسى بن علاء الدين أبو اليسر الملقب كمال الدين العسيلي القدسي ينتهي نسبه إلى الشيخ عبد الرحمن الصنابحي ذكره ابن قيم الجوزية في صفة الصفوة كان عالماً محدثاً حافظاً لكتاب الله تعالى محباً للفقراء والصالحين محسناً إليهم أجازه جده الشيخ ابن قاضي الصلت الإمام بالمسجد الأقصى بحديث الأولية وكان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة ورحل إلى مصر في سنة خمس وخمسين وألف هو وأخوه يوسف وأخذ بها الحديث عن المعمر الشيخ إسماعيل بن ماضي بن يونس بن إسماعيل ابن خطاب السنجيدي الشافعي خطيب جامع الحاكم وله إجازات جمة من علماء الأزهر منهم الشيخ عبد الرحمن اليمني أجازه في القراآت السبع ومنهم البرهان اللقاني والشيخ إبراهيم البيجوري شيخ القراء بمقام الإمام الشافعي وكان مواظباً لزيارته في كل ليلة سبت والقراءة معه في المقرأ الكبير وولي الإمامة بالمسجد الأقصى وحج ثلاث مرات وأخذ بمكة عن ابن علان الصديقي واجتمع القطب الغوث بمكة في المرة الثالثة ودعا له بحسن الخاتمة فجاء من الحج في تلك السنة وهي سنة سبع وثمانين وألف متوعكاً وتوفي في شهر ربيع الأول من تلك السنة.
محمد ميرزا بن محمد المعروف بالسروجي الدمشقي الميداني كان في ابتداء أمره وهو بدمشق يشتغل السروج ويبيعها ثم طلب العلم وأخذ عن الشمس الميداني والنجم الغزي وعن أبي العباس المقري وأجازه بجميع مؤلفاته ومروياته وأخذ عن العارف بالله تعالى المحقق الصوفي عبد الله الرومي البوسنوي شارخ الفصوص الشهير بعبدي رحمه الله ورحل إلى الحرمين وأخذ بمكة عن الشيخ الولي الكامل تاج الدين النقشبندي قدس الله روحه ونور ضريحه وأخذ بالمدينة المنورة عن الشيخ غرس الدين الخليلي وجاور بالمدينة نحو أربعين سنة وكان يحج غالب السنين وكان تقيا ورعاً زاهداً في الدنيا ورياستها ملازماً للعبادة والذكر كثير المطالعة لكتب القوم خبيراً باصطلاحاتهم محققاً لكتب الحقائق لا سيما كتب الشيخ الأكبر قدس الله سره العزيز وكان يحل المشكلات التي يستشكلها غالب الناس وأقام بمكة سنين قال الشلي وأخذت عنه وصحبته مدة مجاورته وكان حسن الأخلاق متواضعاً مشتغلاً بما يعنيه وكانت وفاته بمكة في سنة ثمان وثمانين وألف ودفن بالمعلاة.(3/51)
محمد المرابط بن محمد بن أبي بكر أبو عبد الله شهر بالصغير الدلائي الفشتالي المغربي المالكي نادرة الدهر وفريد العصر لم يأت من المغرب في هذا العصر له شقيق فهو لعمري بجمع الفضائل حقيق له حسب تليد وباع في المجد طويل مديد له في كل علم سهم مصيب وحذق عجيب خصوصاً علم العربية فأنه رأس المؤلفين في زمانه وسار ذكره سير المثل بين أقرانه روى عن جمع منهم والده العلامة العارف بالله تعالى محمد وعن إمام المغرب أبي عبد الله محمد المغربي بن يوسف أبي المحاسن الفاسي وعن الولي أبي محمد عبد الهادي بن عالم الغرب في الحديث أبي محمد عبد الله بن علي بن طاهر السجلماسي واشتهر في الآفاق وانتفع به خلق كثيرون من أفاضل المغرب وقدم القاهرة في سنة ثمانين وألف فأقبل عليه فضلاؤها واستفاد منه نجباؤها وجرى بينه وبين العلامة الشهاب البشبيشي مطارحات واسئلة منظومة في فنون العربية وكان أخوه محمد الحاج بن محمد بن أبي بكر سلطان فاس ومكناس والقصر وما والاها من أرض الدلا وسلا وغيرها من أرض المغرب ومكث ملكاً نحو أربعين سنة ثم انتزع الملك منه مولاي رشيد الشريف الحسني كما انتزعه من غيره وحبسه إلى أن مات مسجونا وخرب مدينتهم المعروفة بالزاوية كما أسلفناه في ترجمة مولاي رشيد ورحلوا بأجمعهم إلى تلمسان وورد معه إلى مصر ابن أخيه عبد الله بن محمد الحاج وكان أميراً بمدينة سلا وما والاها من قبل والده وله ولد اسمه محمد كان من أكابر الأفاضل تصدر لقراءة العلوم العقلية وله شعر حسن وللشيخ محمد المرابط مصنفات منها نتائج التحصيل في شرح التسهيل وفتح اللطيف للبسط والتعريف والمعارج المرتقيات إلى معالي الورقات والبركة البكرية في الخطب الوعظية والدرة الدرية في محاسن الشعر وغرائب العربية وفصل الخصمين في متعلق الظرفين والدلائل القطعية في تقرير النصب على المغية والتحرير الأسمى في إعراب الزكاة اسما ورفع اللبس عن ورود تفعل بمعنى فعل والعكس وله غير ذلك وله ديوان كبير الحجم من طالعه عرف في البلاغة مكانه منه قوله:
سبحت إذا أو مضت للصب عيناك ... وكدت أقضي هوى من حسن مرآك
يا من ثملت براح من لواحظها ... لله ما فعلت فينا حمياك
أفردت حسنا كما أفردت فيك صفا ... ودو حاشاي من شرك وحاشاك
تكاملت فيك أوصاف جللت بها ... عندي فسبحان من بالحسن حلاك
يا أخت ظبي النقاد لا وفرط بها ... ردى ودائع قد أودعتها فاك
ولا تجوري فأنت اليوم مالكة ... ذوي الصبابات واستبقى رعاياك
واجتمع به الأخ الفاضل مصطفى بن فتح الله لا برح رونق الأدب ومبلغ السؤل والأرب وكتب إلينا أبياتاً يستدعي منه الإجازة مطلعها قوله:
مليك نحاة العصر علامة الدهر ... ويا علما في الفضل مرتفع الذكر
منها:
وقبلك ما كان ابن مالك هكذا ... وعمرو نسيناه وعاد بلا بكر
أجزني بما ألفته وقرأته ... على السادة الأعلام أشياخك الغر
بقيت بقاء الدهر يا غاية المنى ... وبلغت ما تهواه يا ابن أبي بكر
وسنده في العلو والافتخار أشهر من الشمس في رابعة النهار ثم رحل إلى المغرب وأذن له مولاي رشيد في الدخول إلى مدينة فاس فأقام بها إلى أن مات وكانت وفاته في سنة تسعين وألف رحمه الله تعالى.(3/52)
محمد بن محمد بن سلميان بن الفاسي وهو اسم له لا نسبة إلى فاس ابن طاهر السوسي الروداني المغربي المالكي نزيل الحرمين الإمام الجليل المحدث المفنن فرد الدنيا في العلوم كلها الجامع بين منطوقها ومفهومها والمالك لمجهولها ومعلومها ولد في سنة سبع وثلاثين وألف بتار ودنت بتاء مثناة من فوق بعدها ألف ثم راء مضمومة فواو ثم دال مهملة مفتوحة فنون ومثناة من فوق ساكنتان قرية بسوس الأقصى وقرأ بالمغرب على كبار المشايخ من أجلهم قاضي القضاة مفتي مراكش ومحققها أبو مهدي عيسى السكناني والعلامة محمد بن سعيد المريغني المركاشي ومحمد بن أبي بكر الدلائي وشيخ الإسلام سعيد بن إبراهيم المعروف بقدروه مفتي الجزائر وهو أجل مشايخه ومنه تلقن الذكر وليس الخرقة ولازم العلامة أبا عبد الله محمد بن ناصر الدرعي أربعة أعوام في التفسير والحديث والفقه والتصوف وغيرها وصحبه وتخرج به ثم رحل إلى المشرق ودخل مصر وأخذ عمن بها من أعيان العلماء كالنور الأجهوري والشهابين الخفاجي والقليوبي والمسند المعمر محمد بن أحمد الشوبري والشيخ سلطان وغيرهم وأجازوه ثم رحل إلى الحرمين وجاور بمكة والمدينة سنين عديدة وهو مكب على التصنيف والإقراء ثم توجه إلى الروم في سنة إحدى وثمانين وألف صحبة مصطفى بيك أخي الوزير الفاضل ومر بطريقة على الرملة وأخذ بها عن شيخ الحنفية خير الدين الرملي وبدمشق عن نقيب الشام وعالمها السيد محمد بن حمزة والمسند المعمر محمد بن بدر الدين بن بلبان الحنبلي ولما وصل إلى الروم حظي عند الوزير ومن دونه ومكث ثمة نحو سنة ورجع إلى مكة المشرفة مجللاً وحصلت له الرياسة العظيمة التي لم يعهد مثلها وفوض إليه النظر في أمور الحرمين مدة حتى صار شريف مكة لا يصدر إلا عن رأيه وأنيطت به الأمور العامة والخاصة إلى أن مات الوزير فرق حاله وتنزل عما كان فيه ثم ورد أمر السلطان إلى مكة سنة ثلاث وتسعين وألف بإخراجه منها إلى بيت المقدس وسببه عرض الشريف بركات أمير مكة فيه إلى السلطنة وطلب اخراجه من مكة بعد أن كان بنيهما من المرابطة ما كان وعلى يده تمت له الشرافة ونهض به الحظ وكان يوم ورود الأمر يوم عيد الفطر فألح عليه الشريف سعيد بن بركات شريف مكة يومئذ وقاضي مكة في امتثال الأمر السلطاني فامتنع من الخروج في هذه الحالة وتعلل بالخوف من قطاع الطريق فأبى أن يسلم نفسه وماله فأمهل بعد علاج شديد وتشفع عند بعض الأشراف إلى مخرج الحج ثم توجه صحبة الركب الشامي وأبقى أهله بمكة وأقام في دمشق في دار نقيب الأشراف سيدنا عبد الكريم بن حمزة حرس الله جانبه وجعل طوع أمره مجانبه واجتمعت به ثمة مرة صحبة فاضل العصر ودرة قلادة الفخر المولى أحمد بن لطفي النجم المولوي نضر الله به وجه الفضائل وأبقاه مغبوطة به إلا وأخر من الأوائل فرأيت مهابة العلم قد أخذت بأطرافه وحلاوة المنطق في محاسن أوصافه واستمر بدمشق مدة منفردا بنفسه لا يجتمع إلا بما قل من الناس واشتغل مدة اقامته بتأليف كتاب الجمع بين الكتب الخمسة والموطأ على طريقة ابن الأثير في جامع الأصول إلا أنه استوعب الروايات من الكتب الستة ولم يختصر كما فعل ابن الأثير وله من التآليف الشاهدة بتبحره ودقة نظره مختصر التحرير في أصول الحنفية لابن الهمام وشرحه ومختصر تلخيص المفتاح وشرحه والمختصر الذي آلفه في الهيئة والحاشية على التسهيل والحاشية على التوضيح وله منظومة في علم الميقات وشرحها وله جدول جمع فيه مسائل العروض كلها واخترع كرة عظيمة فاقت على الكرة القديمة والأسطرلاب وانتشر في الهند واليمن والحجاز وغير ذلك من الرسائل وله فهرست يجمع مروياته وأشياخه سماها صلة الخلف بموصول السلف ذكر فيه أنه وقع له بالمغرب غرائب منها أنه كان مجتازاً على بلد العارف بالله تعالى أبي عبد الله محمد ابن محمد الواورغتي الناولي وهو قاصد بلدا أخرى فسأل عن البلد فقيل له أن فيه شيخاً مربياً صفته كذا وكذا قال فجذبني الشوق إليه ولم أملك نفسي حتى دخلت بلده فلقيني رجل خارج إلي وقال أمرني الشيخ أن أخرج إليك وآتيه بك فلما دخلت عليه رفع إلي بصره فوقعت مغشياً علي بين يديه وبعد حين أفقت فوجدته يضرب بيده وبين كتفي ويقول وهو على جمعهم إذا يشاء قدير أفمن وعدنا وعداً حسناً فهو لاقيه فأمرني بملازمته ومذاكرة أولاده بالعلم فقلت له أني طلبت(3/53)
كثيراً لكن إلى الآن ما فتح الله تعالى علي بشيء ولا أقدر على استخراج كتاب ولا الأجرومية وكنت إذ ذاك كذلك فقال لي اجلس عندنا ودرس أي كتاب شئت في أي علم شئت ونطلب من الله تعالى أن يفتح لك فجلست ودرست طائفة من الكتب التي قرأتها وكنت إذا توقفت في شيء أحسن بمعان تلقى على قلبي كأنها أجرام وغالب تلك المعاني التي كانت مشايخنا تقررها لنا ولا نفهمها ولا أتذكرها قبل ذلك وكان مسكني قريب مسكنه فكنت أعرف أنه يختم القرآن العظيم بين العشاء المغرب يصلي به النوافل ورأيته يوماً تصفح جميع المصحف الشريف وجميع تنبيه الأنام وجميع دلائل الخيرات في مجلس فعجبت من ذلك وسألت عن ذلك بعض الحاضرين فقال لي من ورد الشيخ أنه يختم ثلاثتها بعد صلاة الضحى وشاهدت له العجب العجاب في نزول البركة في الطعام وغير ذلك مما هو محض كرامات الأولياء ومنها أنه لقي يوماً العلامة عيسى المراكشي مفتي مراكش وقد احتف به خلق كثير يزدحمون على تقبيل يده وركبته وهو راكب فزاحمهم حتى قبل يده تبركاً قال فانحنى إلي دون الناس وقال أجزتك بجميع مروياتي فكأنما طبعها في قلبي الآن وكان ذلك قبل اشتغالي بطلب العلم ولست متزيياً بزي طلبته حتى يقال أنه رأى علامة الأهلية ولا أن ذلك من عادته مع المتأهلين للإجازة بل لم يظفر بالإجازة منه إلا القليل من أخصائه فيما أظن ثم بعد غيبتي عنه ثمانية أعوام في طلب العلم الشريف من الله تعالى بالرجوع إليه وتجديد الأخذ عنه في سنة ستين وألف قبل وفاته بسنة ولله تعالى الحمد والمنة قلت والظاهر من شأنه كما نقلت عن شيخنا المرحوم عبد القادر بن عبد الهادي وهو ممن أخذ عنه وسافر إلى الروم في صحبته وانتفع به وكان يصفه بأوصاف بالغة حد الغلو ويذكر الفنون التي كان يشير بمعرفتها فيستغرق العد أن ذلك فيه بمجرد فتح إلهي ببركة شيخه الواورغني المذكور فإنه كان يقول أنه يعرف الحديث والأصول معرفة ما رأينا من يعرفها ممن أدركناه وأما علوم الأدب فاليه النهاية فيها وكان في الحكمة والمنطق والطبيعي والإلهي الأستاذ الذي لا تناب مرتبته بالاكتساب وكان يتقن فنون الرياضة إقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطي ويعرف أنواع الحساب والمقابلة والإرتماطيقي وطريق الخطاءين والموسيقى والمساحة معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها وكان يبحث في العربية والتصريف بحثا تاماً مستوفياً وكان له في التفسير وأسماء الرجال وما يتعلق به يد طائلة وكان يحفظ في التواريخ وأيام العرب ووقائعهم والأشعار والمحاضرات شيئاً كثيراً وكان في العلوم الغريبة كالرمل والأوفاق والحروف والسيميا والكيميا حاذقاً أتم الحذق وبالجملة فقد كان كما قال الشاعر في المعنى:اً لكن إلى الآن ما فتح الله تعالى علي بشيء ولا أقدر على استخراج كتاب ولا الأجرومية وكنت إذ ذاك كذلك فقال لي اجلس عندنا ودرس أي كتاب شئت في أي علم شئت ونطلب من الله تعالى أن يفتح لك فجلست ودرست طائفة من الكتب التي قرأتها وكنت إذا توقفت في شيء أحسن بمعان تلقى على قلبي كأنها أجرام وغالب تلك المعاني التي كانت مشايخنا تقررها لنا ولا نفهمها ولا أتذكرها قبل ذلك وكان مسكني قريب مسكنه فكنت أعرف أنه يختم القرآن العظيم بين العشاء المغرب يصلي به النوافل ورأيته يوماً تصفح جميع المصحف الشريف وجميع تنبيه الأنام وجميع دلائل الخيرات في مجلس فعجبت من ذلك وسألت عن ذلك بعض الحاضرين فقال لي من ورد الشيخ أنه يختم ثلاثتها بعد صلاة الضحى وشاهدت له العجب العجاب في نزول البركة في الطعام وغير ذلك مما هو محض كرامات الأولياء ومنها أنه لقي يوماً العلامة عيسى المراكشي مفتي مراكش وقد احتف به خلق كثير يزدحمون على تقبيل يده وركبته وهو راكب فزاحمهم حتى قبل يده تبركاً قال فانحنى إلي دون الناس وقال أجزتك بجميع مروياتي فكأنما طبعها في قلبي الآن وكان ذلك قبل اشتغالي بطلب العلم ولست متزيياً بزي طلبته حتى يقال أنه رأى علامة الأهلية ولا أن ذلك من عادته مع المتأهلين للإجازة بل لم يظفر بالإجازة منه إلا القليل من أخصائه فيما أظن ثم بعد غيبتي عنه ثمانية أعوام في طلب العلم الشريف من الله تعالى بالرجوع إليه وتجديد الأخذ عنه في سنة ستين وألف قبل وفاته بسنة ولله تعالى الحمد والمنة قلت والظاهر من شأنه كما نقلت عن شيخنا المرحوم عبد القادر بن عبد الهادي وهو ممن أخذ عنه وسافر إلى الروم في صحبته وانتفع به وكان يصفه بأوصاف بالغة حد الغلو ويذكر الفنون التي كان يشير بمعرفتها فيستغرق العد أن ذلك فيه بمجرد فتح إلهي ببركة شيخه الواورغني المذكور فإنه كان يقول أنه يعرف الحديث والأصول معرفة ما رأينا من يعرفها ممن أدركناه وأما علوم الأدب فاليه النهاية فيها وكان في الحكمة والمنطق والطبيعي والإلهي الأستاذ الذي لا تناب مرتبته بالاكتساب وكان يتقن فنون الرياضة إقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطي ويعرف أنواع الحساب والمقابلة والإرتماطيقي وطريق الخطاءين والموسيقى والمساحة معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها وكان يبحث في العربية والتصريف بحثا تاماً مستوفياً وكان له في التفسير وأسماء الرجال وما يتعلق به يد طائلة وكان يحفظ في التواريخ وأيام العرب ووقائعهم والأشعار والمحاضرات شيئاً كثيراً وكان في العلوم الغريبة كالرمل والأوفاق والحروف والسيميا والكيميا حاذقاً أتم الحذق وبالجملة فقد كان كما قال الشاعر في المعنى:(3/54)
وكان من العلوم بحيث يقضي ... له في كل علم بالجميع
وقد أخذ عنه بمكة والمدينة والروم خلق ومدحه جماعة وأثنوا عليه وكانت وفاته بدمشق يوم الأحد عاشر ذي القعدة سنة أربع وتسعين وألف ودفن بالترية المعروفة بالأيجية بسفح قاسيون بوصية منه ورثاه شيخنا الشيخ عبد القادر بن عبد الهادي رحمه الله تعالى بقصيدة طويلة مطلعها قوله:
صبراً فكل الأنام يفقد ... لا أحد ههنا يخلد
يقول من جملتها هذا:
والناس آجالهم كخيل ... فالسابق المضمر المجرد
وعالم الكون في فناء ... فحقق الأمر فيه وأشهد
والخطب عم الأنام طرا ... بموت شيخ العلوم أوحد
ابن سليمان من حباه ... المصطفى باسمه محمد
تبكي علوم الألى عليه ... وطرسها قد غدا مسود
منها:
في كفه دائماً يراع ... له وجوه الطروس سجد
إن هزه فالصواب يبدو ... من أمره واضحاً مؤكد
في كل علم تراه فردا ... أدرك آحاده وجدد
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد المعروف بالبخشي البكفالوني الحلبي الشافعي المحدث الفقيه الصوفي العذب الطريقة كعب الأحبار ولد ببكفالون بفتح الموحدة قرية من أعمال حلب وبها قرأ القرآن ونشأ في حجر والده ورجل في أوائل طلبه إلى دمشق وأخذ عمن بها من علمائها كالشيخ عبد الباقي الحنبلي والشيخ محمد الخباز البطنيني وشيخنا الشيخ محمد بن بلبان وشيخنا الشيخ محمد العيثاوي وغيرهم وأخذ طريق الخلوتية عن العارف بالله تعالى الشيخ أيوب الخلوتي وقرأ عليه جملة فنون وأطلعه على أسرار علمه المكنون حتى نال منه غاية الأمل وأثمرت له غيث دعائه أغصان العلم العمل فرجع إلى أهله بنعم وافرة ثم توطن حلب وأخذ بها عن عالمها محمد بن حسن الكواكبي المفتي بها وأقام على بث العلم ونشره في غالب أوقاته وانتفع به كثير من فضلاء حلب وله من التآليف الشافية نظم الكافية وشرح على البردة وغيرهما وسافر إلى الروم في سنة ست وثمانين وألف واجتمعت به بادرنهثم اتحدت معه اتحاداً تاماً فكنا نجتمع في غالب الأوقات وكنت شديد الحرص على فوائده وحسن مذاكرته مع الأدب والسكينة وما رأيت فيمن رأيت أحلم ولا أحمل منه وكان روح الله تعالى روحه من خيار الخيار كريم الطبع مفرط السخاء ثم اجتمعت به بقسطنطينية بعد عودنا إليها وكان لأخي الوزير الأعظم الفاضل مصطفى بيك عليه إقبال تام وله إليه محبة زائدة وكان جاء إلى الروم بخصوص مشيخة التكية الإخلاصية الخلوتية بحلب فوجهت إليه وتوجه إلى حلب وأقام بالتكية المذكورة شيخاً مبجلاً معظماً مقصوداً ثم نازعه فيها بعض الخلوتية فلم تتم له وبقيت على صاحب الترجمة ودرس بالمقدمية التي بحلب ثم بعد مدة مل الإقامة بحلب فقصد الحج بنية المجاورة وأقام ابنه محمداً مقامه في المشيخة ودخل دمشق صحبة الحاج وأقام بمكة مجاوراً وأقبلت عليه أهالي مكة المشرفة على عادتهم وقرأ عليه بعض أفاضلها ولقي حظاً عظيماً من شريفها المرحوم الشريف أحمد بن زيد لما كان بينهما من المودة والصحية بالروم أيام كان وكنت حتى مدحه وأخاه الشريف سعداً بقصيدة غراء مطلعها هذا:
خليلي إيه من حديث صبا نجد ... وإن حركت داء قديماً من الوجد
فآها على ذاك النسيم تأسفا ... وآه على آه تروح أو تجدي
عليلة أنفاس تصح نفوسنا ... معطرة الأردان بالشيح والرند
وهيهات نجد والعذيب ودونه ... مهامه تغوي الكدر فيها عن الورد
ومن كل شماخ الأهاضب خالط الس ... حاب يروم الشمس بالصد والرد
وتسري الصبا منه فتمسي وبيننا ... من البون ما بين السماوة والسند
سقى الله من نجد هضاباً رياضها ... تنفس عن أذكى من العنبر الوردي
وحيا الحيا حيا نعمنا بظله ... بنعمان ما بين الشبيبة والرفد
نغازل غزلانا كوانس في الحشى ... أو أنس في ألحاظها مقنص الأسد
تحاكي الجواري الكنس الزهر بهجة ... وتفضلها في رفعة الشأن والسعد(3/55)
حجازية الألفاظ عذرية الهوى ... عراقية الألحاظ وردية الخد
بعيدة مهوى القرط معسولة اللمى ... مرهفة الأجفان عسالة القد
تميس وقد أرخت ذوائب فرعها ... فتخطر بين البان والعلم الفرد
وتعطو بجيد عطل الحلي حسنه ... كان ظبية تعطو إلى ريق المرد
وكم ليلة باتت يداها حمائلي ... وباتت يدي من جيدها مطرح العقد
ندير سلافاً من حياب حبابها ... على حين ترشاف ألذ من الشهد
ولما تمطى الصبح يطلب علمنا ... تكنفنا ليل من الشعر الجعد
عفيفين عما لا يليق تكرماً ... على ما بنا من شدة الشوق والوجد
وقد كاد يسعى الدهر في شت شملنا ... ولكن توارى شفعنا عنه بالفرد
انظر إلى هذا المعنى تجده في غاية اللطافة وكأنه اختلسه من قول بلديه ومعاصريه الملوى مصطفى البابي من قصيدة وهي:
وماسها الدهر عن تفرقنا ... بل ظننا لالتئامنا واحدا
رجع فأصبحت أشكو بينها وفراقها ... بشط النوى شكوى الأسير إلى القد
وإني قد استدركت درك مطالبي ... وتبليغ آمالي وما ند عن حدي
بطلعة نجلي ذروة الجد غارب المعا ... لي سنام الفخر بل غرة المجد
أمام المصلى والمحصب والصفا ... وراثة جد عن نمى إلى جد
أبي أحمد زيد الصناديد في الوعى ... بني حسن الأسد الكواسرة الحد
بزاة العلا الغر الميامنة الألى ... سما قدرهم يوم التفاخر عن ند
غيوث إذا أعطوا ليوث إذا سطوا ... مناقهم جلت عن الحد والعد
فما أفلت شمس لزيد وقد بدا ... لنا من ضياها شمس أحمد والسعد
هما نيرا أوج المعالي وشرفا ... بروج قصور الروم في طالع السعد
ومذ رحلا عن مكة غاب أنسها ... فكانا كنصل السيف غاب عن الغمد
أضاءت لهم أرض الشآم وأصبحت ... ضواحي نواحي الروم تنضح بالند
وقد طال ما ذابت قديماً تشوقا ... إلى نيل تقبيل المواطىء بالخد
إلى أن تجلى الله جل جلاله ... عليهن بالإنعام واليمن والرشد
فأصبحن يحكين الجنان تبرجا ... ويرفلن من نور الخمائل في برد
جوادين في شوط المماجد جليا ... وحازا رهان السبق في حنق الضد
براحتهم أن تنسب الجود في العطا ... فتلك بحور تتقي الجزر بالمد
وأن أحيت السحب النبات بمائها ... فكم أحيت الراحات أنفس مستجد
رياض لمرتاد حصون للأئذ ... رجوم لمستعد نجوم لمستهد
شمائل تهزا بالشمائل لطفها ... وعطف شمول الراح هزته تبدي
إذا ما دجا ليل الخطوب بمعضل ... أماطا لثام الكشف عن ذاك بالجد
بهم شرفت أرض الحجاز وآمنت ... ظباها وامتها الوفود إلى الرفد
بنو هاشم إن كنت تعرف هاشماً ... وما هاشم إلا الأسنة والهندي
بهم فخرت عدنا والعرب كلها ... ودانت لهم قحطان أهل القنا الصلد
فمن مجدهم يستقبس المجد كله ... ومن جودهم أهل المكارم تستيدي
هنيئاً لنسل المصطفى الشرف الذي ... تسامى فلا يحصى بعد ولا حد
بمدحتكم جاء الكتاب فما عسى ... تقول الورى من بعد حم والحمد
وعذر ابني الزهراء أني ظامىء ... إلى المدح والأيام تنسى عن الورد
يود لساني أن يترجم بعض ما ... لكم في فؤاد الصب من صادق الود
وقد نضبت منه القريحة نضة ... على حذر من حاذر احذر الريد
كنفثة مصدور ولمحة عاشق ... تسارقه عين الرقيب على بعد(3/56)
فإن أعطت الأيام بعض قيادها ... رأيتم له من مدحكم أعظم الورد
وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وألف بقرية بكفالون وتوفي بمكة المشرفة ليلة الثلاثا الخامس من شهر ربيع الثاني سنة ثمان وتسعين وألف وصلى عليه أما ما بالناس ضحى يومها بالمسجد الحرام شيخنا العالم العامل الشيخ أحمد النخلي الشافعي فسح الله في أجله في مشهد حافل حضره شريف مكة الشريف أحمد بن زيد وقاضيها وغالب أعيانها ودفن بالمعلاة بالقرب من مزار أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها وكان في بلاده أخبره بعض الأولياء أنه يقيم بمكة المكرمة مدة طويلة جداً فكان في كلام ذلك الولي اشارة إلى أنه يموت بمكة فإنه لم تطل مدة اقامته فكانت بها ميتا رحمه الله تعالى.(3/57)
محمد بن محمود بن أبي بكر الوطري التنبكتي المالكي عرف ببغبغ بياء مفتوحة فغين معجمة ساكنة فباء مضمومة فعين مهملة مضمومة قال تلميذه العلامة أحمد بابا في كتاب كفاية المحتاج لمعرفة ما ليس في الديباج مختصر كتاب الذيل ذيل به كتاب الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب للإمام برهان الدين بن فرحون المسمى نيل الابتهاج بتطريز الديباج لشيخنا وبركتنا الفقيه العالم المتقن الصالح العابد الناسك كان من صالحي خيار عباد الله الصالحين والعلماء العاملين مطبوعاً على الخير وحسن النية وسلامة الطويه والانطباع على الخير واعتقاده في الناس حتى كان الناس يتساوون عنده في حسن ظنه بهم وعدم معرفته الشر يسعى في حوائجهم ويضر نفسه في نفعهم وينفجع في مكروههم ويصلح بينهم وينصحهم إلى محبة العلم وملازمة تعليمه وصرف أوقاته فيه ومحبة أهله والتواضع التام وبذلك نفائس الكتب العزيزة الغريبة لهم ولا يفتش بعد ذلك كائناً ما كان من جميع الفنون فضاع له بذلك جملة من كتبه نفعه الله تعالى بذلك وربما يأتي لبابه طالب يطلب كتاباً فيعطيه له من غير معرفة فكان العجب العجاب في ذلك إيثاراً لوجهه تعالى مع محبته للكتب وتحصيلها شراء ونسخاً وقد جئته يوماً أطلب منه شيئاً من كتب النحو ففتش في خزانته فأعطاني كل ما ظفر به منها مع صبر عظيم على التعليم وإيصال الفائدة للبليد بلا ملل ولا ضجر حتى يمل حاضروه وهو لا يبالي حتى سمعت بعض أصحابنا يقول أظن هذا الفقيه شرب ماء زمزم لئلا يمل من الإقراء تعجباً من صبره من ملازمة العبادة والتجافي عن ردىء الأخلاق واضمار الخير لكل البرية حتى الظلمة مقبلاً على ما يعنيه متجنباً الخوض في الفضول ارتدى من العفة والمسكنة أزين رداء وأخذ بيده من النزاهة أقوى لوء مع سكينة ووقار وحسن وأخلاق وحياء سهل الورود والإصدار فأحبته القلوب كافة وأثنوا عليه بلسان واحد فلا ترى إلا محباً مادحاً ومثنياً بالخير صادقاً مع تشبيه بجوامع العامة وأمور القضاة لم يصيبوا عنه بديلاً ولا نالوا له مثيلاً طلبه السلطان لتولية القضاء بمحله فأنف وامتنع وأعرض عنه واستشفع فخلصه الله تعالى لازم الإقراء سيما بعد موت سيدي أحمد بن سعيد فأدركته أنا يقرى من صلاة الصبح أول وقته إلى الضحى الكبيرة دولاً مختلفة ثم يقوم إلى بيته ويصلي الظهر بالناس ويدرس إلى العصر ثم يصليها ويخرج لموضع آخر يدرس فيه للاصفرار أو قربه وكان غواصاً على الدقائق حاضر الجواب سريع الفهم منور البصيرة ساكناً صامتاً وقوراً وربما انبسط مع الناس ويمازحهم وكان آية الله في جودة الفهم وسرعة الإدراك معروفاً بذلك ولد عام ثلاثين وتسعمائة على ما سمعت منه وأخذ العربية عن الفقيهين الصالحين والده وخاله ثم قطن مع أخيه الفقيه سيدي أحمد شقيقه بتنبكت فلازما الفقيه أحمد بن سعيد في مختصر خليل ثم رحلا للحج فلقيا بمصر اللقاني والتاجوري والشريف يوسف الأرميوني والبرهمتوشي الحنفي والإمام محمد البكري وغيرهم فاستفادا ثمة ثم رجعا بعد حجهما وموت خالهما فنزلا بتنبكت فأخذا عن ابن سعيد الفقه والحديث ولازماه وعن سيدي ووالدي الأصول والباين والمنطق قرآ عليه أصول السبكي وتلخيص المفتاح وحضر على شيخنا جمل الجويخي ولازم مع ذلك الإقراء حتى صار خير شيخ في وقته في الفنون لا نظير له ولازمته أكثر من عشر سنين وذكر مقروآته عليه ثم قال وكانت وفاته يوم الجمعة في شوال سنة اثنتين بعد الألف وله تعاليق وحواش نبه فيها على ما وقع لشراح خليل وغيره وتتبع ما في الشرح الكبير للتتائي من السهو نقلاً وتقديراً في غاية الإفادة جمعها في آخر تآليفاته والله تعالى أعلم.(3/58)
محمد بن محمود الشهير بحلوجي زاده أحد موالي الروم المشهورين بالأدب والشعر وكان يتخلص على عادتهم بعارف ذكره ابن نوعي في ذيل الشقائق وقال في ترجمته قرأ على علماء دار الخلافة إلى أن وصل إلى مرتبة الاستعداد فلازم من المنلا حسان الدين بن قره حلبي ودرس بإحدى الثمان في شهر ربيع الأول سنة ثمان بعد الألف ثم وجه إليه قضاء مغنيساً في ذي القعدة من هذه السنة فلم يفعل واختار العزل فبقي معزولاً إلى صفر سنة عشرين ثم وجه إليه التدريس بإحدى الثمان ثم ولي قضاء أزمير في جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين ثم فلبه في شعبان من هذه السنة ثم قضاء القدس في شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين ثم قضاء أيوب في سنة ثلاثين وكان فاضلاً له من كل فن نصيب وافر وشعره وإنشاؤه مسوكان في قالب الرقة إلا أنه كان متكيفاً كثير الاستعمال للبرش وكان كثيراً ما تأخذه نشوة الكيف فيغرق ويستغرق به النعاس والسرد قال ابن نوعي وشهدته يوماً وقد حضر في محفل جامع وكان صدر المجلس نفس زاده مدرس الخانقية بوفاء وكان من متعيني أهل الفضل وكان معتمد شيخ الإسلام صنع الله بن جعفر في أموره ومستشاره الذي لا يصدر إلا عن رأيه وكان في نفس الأمر من أهل العلم والوجاهة إلا أن له كبر نفس ودعوى طائلة فأخذ في نقل بعض الماجريات وأطال بحيث مله الحاضرون وكان في أثناء خطاباته يلتفت يمنة ويسرة ويتمشدق ويحسن ما يقوله ووجد صاحب الترجمة في غضون ذلك فرصة للنوم وهو يسرد فاتفق أنه رأى في نومه رجلاً يحكي له حكاية لكنه أغرب فيها حتى ظن المترجم استحالتها فهب من نعسته ونفس زاده ناظر إلى جهته وهو يقول كل ما تقوله كذب لا أصل له فغضب نفس زاده واحتد وقام من المجلس وهو يسبه فاعتذر إليه صاحب المجلس بالبيت المشهور:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
فسكن غضبه بعض سكون إلا أن أهل المجلس عجبوا من وقوع هذا الأمر على هذه الصورة واستولى عليهم الضحك فغلب الحياء على نفس زاده حتى تصبب عرقاً ولصاحب الترجمة من هذا القبيل نوادر كثيرة مطربة ومما يستظرف منها أنه دخل على شيخ الإسلام أسعد بن سعد الدين وكان ولي قضاء أيوب فقال له يسليه عن توليته منصباً أرفع منه ويرغبه فيه أن أيوب بمثابة شهنشين استانبول بمعنى روزنتها فاستجاد صاحب الترجمة هذا التشبيه وصار يكتب في امضائه القاضي بشهنشين قسطنطينية وهذا غاية في سلامة الطبع وهكذا تفعل فويضات البرش وجدت رقعة بخطه فيها امضاؤه وهذا نصها وثيقة ثقتي وحجة مستنابي بمحكمتي بالباب صحيحة الاحتجاج من غير لجاج وارتياب وأنا الفقير غفرت ذنوبي وسترت عيوبي محمد المبتلي بالقضاء الأيوبي الجاري على لسان أهل الجنة الدريه الشهير بشهنشين قسطنطينية لا زال ظلال جلال حاميها غير مفارق أهاليها يوم الحساب عفى عنه الرب الوهاب وكانت وفاته في سنة اثنتين وثلاثين وألف رحمه الله تعالى.
محمد بن محمود بن محمود بن أحمد بن محمد بن خضر بن محمد بن خضر بن عبد الرحمن ابن سليمان بن علي المناشيري الصالحي الشافعي والد القاضي بدر الدين المقدم ذكره كان من فضلاء الشافعية قرأ وحصل وكان أديباً مطبوعاً وله شعر مستعذب منه قوله:
وأهيف له دعج ... بعينه سبى المهج
يا سائلي عن وصفه ... بوصفه نلت الفرج
وقوله:
صرفت زكاة الحسن هلا بدأت بي ... وإني لها المحتاج إذ أنت تعرف
فقير ومسكين وغاز وغارم ... كذا ابن سبيل عامر ومؤلف
فمن أي قسم إن أردت فإنني ... محب صدوق للمحبة آلف
وله:
كثرة المكث في الأماكن ذل ... فاغتنم بعدها ولا تتأنس
أول الماء في الغدير زلال ... فإذا طال مكثه يتدنس
هذا ينظر إلى قول البديع الهمداني الماء إذا طال مكثه ظهر خبثه وكانت ولادته ليلة الأحد ثامن عشر ربيع الثاني سنة إحدى وثمانين وتسعمائة وتوفي ليلة الخميس بعد العشاء حادي عشري رجب سنة تسع وثلاثين وألف ودفن غربي البركة بسفح قاسيون.(3/59)
محمد بن محمود الشهير بابن الناشف الدمشقي أحد الأعيان الذين رقوا بجدهم ونالوا ما نالوا بسعيهم وكان في طليعة عمره معانقاً للقلة ثم أثرى وأقبلت عليه الدنيا بقضها وقضيضها وصار كاتباً للجند الشامي وسافر الأسفار الكبيرة وقاسى مشاقاً ولقي أهوالاً خصوصاً في سفرة أردويل وشهر زور وغيرها من الأسفار السلطانية ثم تفرغ له الرئيس محمد الشهير بابن الخياط عن خدمة التذاكر المتعلقة بالزعماء وأرباب التيمارات وتفوق وتمكنت قواعده في الجاه والحرمة ونفوذ الكلمة ولما قدم الوزير أحمد باشا نائب الشام المعروف بالكوجك وعين لمقاتلة الأمير فخر الدين بن معن قربه إليه وأدناه وكان معه في سفره وانحل قرى ومزارع وتيمارات كثيرة فأخذها وتصرف بها وأخبه الوزراء والحكام وكانوا يعاملونه بالإجلال ويتخذونه محرماً لاسراراهم ويزورونه ليلاً وكان يبذل جهده في تمشية حاله عندهم ويبالغ في الأسباب الموصلة إليهم وجمع من الكتب النفيسة والخيول والأمتعة والأملاك مالا يمكن وصفه وملك كثيراً من المماليك والجواري وسافر إلى روان لما سافر إليها السلطان مراد وأهدى إلى كبراء الدولة الهدايا العظيمة واشتهر عند أركان الدولة وسافر إلى بغداد أيضاً عام فتحها ثم استقر بدمشق وصار ركنها الركين وحج مرة في صحبة عمه الرئيس حسن بن الناشف أحد الكتاب بدمشق ثم حج ثانياً في سنة سبع وخمسين ثم صار كتخدا الدفتر وهو رأس أرباب التيمارات وعزل بعد قليل وأصيب بولد كان أكبر أولاده ثم بعد موته بيومين مات له ولدان في يوم واحد وصلى عليهما معا ثم تبعهم من المماليك والعبيد والجواري والخدم وما يقارب الخمسين وبقي له ولد كان ثاني أولاده وكان اسمه أحمد وكان تقيا نزيهاً محباً للصالحين مواظباً على الصلوات في أوقاتها مع الصيام والقيام ولين الجانب ثم أمر المترجم بعمارة قلعة تبوك فتعلل أولا ثم أمر ثانياً فأسرع في الذهاب وأخذ معه جماعة من العسكر الشامي وشرذمة من البنائين وعمرها عمارة متقنة وعاد إلى دمشق وكانت عمارتها في سنة أربع وستين وألف ولما جاء ختم الوزارة العظمى للوزير أبشير بحلب توجه إليه مع جماعة من أعيان دمشق وكان بينه وبينه مودة سالفة أيام حكومته بدمشق فصادف منه اكراماً وصحبه معه إلى قسطنطينية ثم جعل له رتبة حكومة روم أيلي وأيا صوفيه فقدم إلى دمشق بأسلوب غريب وطور عجيب وفرغ عن خدمة التذاكر لابنه أحمد المذكور آنفاً ثم صار دفترياً بالشام سنة سبع وستين وألف وكان المنصب المذكور مبدأ انحطاطه بقدر صعوده فلما جاء ختم الوزارة لمحمد باشو بني اكرى أي أعوج الرقبة وهو بدمشق محافظ لها أهانه اهانة كلية ثم فوض إليه أحمد باشا ابن مصطفى باشا الشهير بابن الطيار لما صار نائب الشام أمر الحكومة قبل قدومه إليها فلما ورد اهانه بأبلغ مما أهانه به الوزير وزجر ولده أحمد زجرة أثرت فيه فكانت سبب موته فتوجه صحبة ابن الطيار إلى السفر مع جملة العسكر فتوفي في الطريق ولما وصل خبر موته إلى والده حزن كثيراً حتى أداه حزنه عليه إلى مرض طالت مدته وكابد عللاً شتى وبالجملة فإنه كان صدرا رئيسا حسن الملقى متودداً لكنه مغرور بإقبال الدنيا وقد مدح كثيراً وأثنى عليه لإقباله على الأدباء وكثرة تقربهم إليه وكانت ولادته في سنة سبع وألف وتوفي في عاشر صفر سنة أربع وسبعين وألف ودفن بمدفن عمه بالقرب من دارهم بمحلة قصر حجاج رحمه الله تعالى.(3/60)
السلطان محمد بن مراد بن سليم بن سليمان بن سليم بن بايزيد بن محمد الملك الأعظم الباهر الشأن كان سلطاناً عظيم القدر مهيبا جوادا عالي الهمة مظفرا في وقائعه وقورا أريبا وجيها مهيبا صالحا عابدا ساعيا في إقامة الشعائر الدينية مراعيا الأحكام الشريعة الشريفة مطيعا لأوامر الله منقادا لما يقرب إليه مداوما للجماعة في الأوقات الخمس قائما بالسنن والرواتب ومن عادته المرضية أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نهض قائما وبالجملة فأوصافه كلها حسنة فائقة وكان على عادة أجداده الكرام ربما نظم الشعر وكان يتخلص على عادة شعراء الروم بعد لي ذكر مبدأ أمره أنه لما بلغ من العمر ست عشرة سنة صنع له أبوه الختان الذي طنت حصاة خبره في الآفاق ولم يتفق لأحد من أبناء الملوك مثله على الإطلاق وسأذكر تفصيله في ترجمة والده وأشير من خبره إلى طريفه وتالده ثم في ثاني سنة من ختانه وهي ستة إحدى وتسعين وتسعمائة خلع عليه أبوه خلعة الإمارة وقلده بلاد قاعدة الملك صارخان ومدينتها العظمى مغنيسا فتوجه إليها ثاني ذي الحجة من السنة المذكورة واستمر بها إلى أن اندرج أبوه إلى عفو الله وغفر أنه يوم الأربعاء سادس جمادى الأولى سنة ثلاث بعد الألف فأرسل إليه بالخبر وأخفى موت والدة عشرة أيام حتى وصل فجلس على التخت يوم الجمعة سادس عشر الشهر المذكور وقيل في تاريخه الذي تسلطن فيه:
قد مهد الله البلاد ... بحكم سلطان نبيل
والكون نادى منشدا ... تاريخه ظل ظليل(3/61)
قال المولى عبد الكريم المنشي لما تلالات أنوار السلطنة المحمدية من سريرها وأصبحت الدنيا بتلك الأنوار مشرقة بحذافيرها بدأ أحسن الله مبدأه وختامه وأغمد في قراب الظالمين حسامه بقتل إبراهيم باشا من عم العالم ظلمه وفشا قلت وإبراهيم هذا تقدمت ترجمته وذكرت هناك تتمة ما ذكره المنشي هنا ثم صير راس المقربين إليه وهو لا لا محمد باشا وسيأتي ذكره منفردا بترجمة وزيرا وفرهاد باشا صدر الوزراء وكان قائما مقام الوزير وعينه سردارا على العساكر لقتال ميخال حاكم بلاد الأفلاق من قبل السلطنة العثمانية وكان خرج عن الطاعة وجمع جموعا من الكفار الأرجاس وتمرد وعاث في بلاد روم أيلي فوصل إليها فرهاد باشا وجرد عزمه لمقاتلته وكان بعض المقربين إلى السلطان حسن له عزلة وتولية سنان باشا المشهور الوزارة ففعل وعينه للسفر مكانه فوصل سنان باشا إلى العسكر وبلغ ميخال عزل فرهاد باشا وكان ألقى رعبه في قلبه ففرح بعزله وقوى جاشه وقابل العسكر فظهر بعض الظهور وزاد في عتوه بعد ذلك السلطان سنان باشا وولى لالا محمد باشا الصدارة في منتصف شهر ربيع الأول سنة أربع بعد الألف فمات بعد عشرة أيام من توليته بمرض الأكلة فأعيد سنان باشا وبهذه المرة تم له خمس مرات ثلاثة في عهد السلطان مراد وثنتان في عهد السلطان محمد ففتح حرب الأنكروس المشهور وشرع في تهيئة لوازمه ومهماته والزم السلطان بأن يسافر بنفسه فأدركه الأجل في شعبان من هذه السنة قبل أن يسافر فولى الوزارة إبراهيم باشا الوزير الثاني وكان السلطان صمم على السفر فخرج من دار خلافته في شوال سنة أربع بعد الألف ووصل إلى قلعة في غاية المنعة والتحصين فنازلها بجنوده وأطلق أمره في ضربها بالمكاحل فاشتد البلاء بمن فيها فخرجوا منها طائعين وسلموها في أواخر صفر سنة خمس وألف ووصل خبر أخذها إلى ملك الأنكروس فقام وقعد وأرغى وأزبد لأنها كانت عندهم من القلاع المعتبرة فكاتب ملوك النصارى يطلب الأمداد منهم بالعساكر والذخائر فاجتمع إليه ملك النمجة وملك الفرنج وحاكم الأردل وحاكم البغدان وحاكم الأفلاق وسواكن الجزائر من حكام البحر فجاؤا إلى أمداده بسبعة جيوش يضيق عنها الفضاء وكان السلطان محمد سار بعسكره بعد فتح اكرى إلى القلعة التي بها المعدن فبينما هو في أثناء المرحلة الثالثة إذ دهمته النصارى من كل جانب وأحاطوا به وكان عسكر الإسلام حينئذ غير مستعدو النصارى في غاية الكثرة جدا بحيث أن جمعهم المخذول لا يحصى وكان يوم دهمتهم يوم الخميس ثاني شهر ربيع الأول من السنة ووقع حرب عظيم في ذلك اليوم كله إلى أن دخل الليل فتفرقوا وأصبحوا يوم الجمعة متحاربين أيضا واستعدت النصارى أزيد من اليوم الأول فكانوا غرقى في الفولاذ ثم هجموا دفعة واحدة على المسلمين وفرقوهم بددا ووصلوا إلى مخيم السلطان فطلب السلطان إليه معلمه الخوجه سعد الدين وكان في صبحته فحضر بين يديه وجعل يثبته والسلطان يستنهض عساكره الخاصة به من سلاحداريه وبلطجيه ويستغيث بالله فلم يكن بأسرع من أن قوى المسلمون وأدركهم بعض المنهزمين ففرقوا شمل النصارى وأبادوهم ودخلوا بينهم والتحم القتال وتراجع جميع العسكر مسعفين فسكروا النصارى وردوهم على أعقابهم ووقع السيف فيهم وهم فارون حتى قتل بعضهم بعضاً من الزحام وغيره ووهب الله تعالى له النصر والتأييد ولم يسلم أحد من الكفار إلا من هرب وغنم السلطان ومن معه غنيمة عظيمة وأكثر ذلك كان على يد الوزير سنان باشا ابن جغال والوزير حسن باشا ابن محمد باشا وأحصيت قتلى المسلمين فكان الذي استشهد من القواد ما يقرب من أربعمائة ومن أصحاب الألوية المعبر عنهم في اصطلاح الروم بالصناجق بضعة عشر رجلاً ومن الأمراء الكبراء أربعة أنفار ومن العساكر ما بين فارس وراجل ما لا يحصى ووافق بعد الظفران السلطان قتل من عسكره الفارين جماعة كثيرين.(3/62)
وقبض على باقيهم وحقرهم غاية التحقير في منصرفه وعاقب بعض من فر بقطع علوفته وضبط ملكه وماله لجهة بيت المال والحاصل أن ما وقع له من هذه النصرة لم يقع لأحد من ملوك آل عثمان وذلك إنما هو بمحض لطف آلهي وإمداد رباني غير متناه ولقد حكى كثير من السياح أن ملوك الفرنج تطلق على هذا السلطان صاحب القرآن وهذا الوصف إنما هو لمن بلغ في الشجاعة المرتبة التي لا تسامى وأنهم على عادتهم يصورون ملوك آل عثمان فيقدمون هذا في التصوير على كل الملوك وذلك كله بسبب هذه النصرة التي رزقها وحكى ابن نوعي في ذيل الشقائق عن أبيه قال بينما الناس في ترقب أمر النصرة للسلطان إذ هو بشرني بهذه المبشرة الغيبية وذلك أنه رأى في منامه أنه دخل مجلساً فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فسمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتذاكرون أمر هذه الغزوة ووقائعها ويحكون ما جرياتها على الترتيب أمراً بعد أمر قال ثم سمعت حضرة الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه يقول أن انهزام المسلمين كان مقرر لكن لما كان السلطان محمد أكرمه الله تعالى فأمده بملائكة النصر حتى حصل له الظفر والتأييد ثم في ثاني يوم من النصرة عزل الوزير الأعظم إبراهيم باشا وصير سنان باشا ابن جغال مكانه وكذلك فعل في خان التاتار غازي كراي خان فإنه عزله وأمره بالتوجه إلى دار السلطنة وصير أخاه فتح كراي خانا وعين حسن باشا ابن محمد باشا لمحافظة بلغراد ثم أمر العسكر بالرحيل إلى جانب دار الملك ورحل بهم فلما وصل إلى قرب أدرنه عزل ابن جغال وأعاد إبراهيم باشا وذلك بعد خمسة وأربعين يوما من تولية وكذلك فعل بفتح كراي إلا أنه قتله وأعاد أأأغازي كراي إلى مكانه ودخل إلى مقر ملكه في ثالث جمادى الآخرة سنة خمس وألف بموكب حافل واستقرو في أواخر شوال من هذه السنة عين حسن باشا لمحافظة نهر الطونة عوضاً عن بلغراد وعين محمد باشا الساطورجي سردار على بلاد الأنكروس فتقابل مع الكفار ووقع بينهم قتال ووقع من محافظ بوسنه حسن باشا الترياقي إهمال في مساعفته ولولاه ما خلص منهم أحد وبقي إلى سنة سبع سردارا وفيها فتح قلعة واردار وفي شهر ربيع الأول في سنة ست عزل إبراهيم باشا بسبب أنه كان السبب في قتل فتح كراي بعد سبق إعانته العسكر في السفر وولي حسن باشا الخادم الوزارة وفي ثاني شهر رمضان من هذه السنة حبسه في يدي قله ثم قتله بعد ثمانية أيام وصار محمد باشا الجراح وزيراً وفي أثناء ذلك استولت الكفار على قلعة يانق وبعض قلاع وفي تاسع شوال صار ابن جغال حاكم البحر وفيها ولي حسن باشا ابن محمد باشا محافظة بغداد وأرسل أحمد باشا الحافظ الطواشي لمحافظة طونه وفي أوائل سنة سبع كبس ميخال اللعين على غفلة قرب نيكبولي ففر الحافظ منهزماً فحاصر اللعين قلعة نيكبولي مدة ثم رحل عنها وفي ثاني عشر ربيع الأول مها عين محمود باشا الشهير بكوزلجه سردارا على العسكر ببلاد روم أيلي وفي جمادى الآخرة عزل الجراح بتقاعد وجه إليه وأعاد إبراهيم باشا وبهذه تم له ثلاث مرات وفي عشري شوال عينه سردارا على بلاد الأنكروس فوصل إلى بلغراد وأقام بها مستنظرا قدوم محمد باشا الساطورجي وكان غضب عليه السلطان لإهماله في أمر المحاربة واتعابه العسكر وإسرافه في المصارف وانتزاع يانق في زمانه واقتلاع بعض قلاع فأرسل إليه ضابط الجند الطرفجي فقتله في ذي الحجة وفي هذه السنة تحركت الطغاة في بلاد اناطولي لخلوها من العساكر واشتغالهم بمحاربة الكفار فخرج عبد الحليم اليازجي المقدم ذكره وحسين باشا حاكم الحبشة ثم تبعهما حسن أخو عبد الحليم وقد ذكرنا تفصيل أحوالهم في ترجمة عبد الحليم فلا نطيل بإعادتها وفي سنة ثمان هلك ميخال اللعين وفيها قتل الوزير جعفر باشا محافظ تبريزا كدره خان من أمراء الجرج وبعث برأسه وبابن له فحبس ابنه في يدي قله ثم أسلم فأطلق وسمي محمدا وفيها هدم محمود باشا قلعة يركوك وقدم إلى دار السلطنة وفي رجب منها وصل خبر موت جعفر باشا محافظ تبريز وفي غرة شعبان صار حسن باشا اليمشجي قائماً مقام الوزير وفي شوال رفعت أمانة الخمر ونهى عنها وفي السنة فتحت قلعة قاينسرة وكان فتحها على يد الوزير الأعظم إبراهيم باشا وكان فتحاً عظيماً يعادل فتح اكرى وسر بها المسلمون وزينت البلاد لهذا الفتح ثلاثة أيام وكان في أيام محاصرتها وقع اضطراب عظيم فرأى بعض(3/63)
الصلحاء في منامه شيخ الإسلام صنع الله بن جعفر وهو يأمره بقراءة هذا الدعاء وهو اللهم قوّ قلوب المؤمنين بقوة الكرام البرزه وألق الرعب في قلوب الكفرة الفجرة فشاع هذا الدعاء وداوم على قراءته الناس فظهر أثره ولله الحمد وفي عاشوراء محرم سنة عشر ورد خبر وفاة الوزير الأعظم إبراهيم باشا فصير حسن باشا اليمشجي مكانه وسافر على وجه السرعة إلى بلغراد وصار خليل باشا قائماً مقامه وفي هذه السنة استولت النصارى على استون بلغراد وصار وكثرت الجلالية والزرب بدار السلطنة وبالغوافي التعدي والشقاوة فاجتمع العلماء وذهبوا إلى خليل باشا القائم مقام وأقاموا النكير عليه وذكروه ما يفعله القوم من خرق حرمة الشرع فعرض ما قالوه على السلطان فكان جوابه لكل شيء وقت وزمان وفي أوائل ذي القعدة عزل خليل باشا الساعتجي مكانه وفي أوائل جمادى الأولى من سنة إحدى عشرة قتل عبد الرحمن المعروف بصارى عبد الرحمن مدرس مدرسة بهرام كتخدا وقد ثبت أنه ملحد زنديق وفي عشرة رحب اجتمع العسكر وطلبوا عزل الساعتجي فعزل وصير مكانه محمود باشا وفيه اجتمع السباهية وطلبوا أن يرتب السلطان ديوانا يحضر فيه أعيان العلماء ليعرضوا على السلطان بعض أمور بالمشافهة فجمع إليه السلطان المفتي صنع الله والقائم مقام وقاضي العسكر ونحو ثلاثين مدرساً وعالماً ثم دخل من السباهية حسين خليفة وبويراز عثمان وكاتب حزي وذكروا أن رؤوس العساكر خلت منهم بلادنا طولى فكان ذلك سبباً لاتصال الطغاة بهذه البلاد وما ذاك إلا من إهمال وكلاء الدولة ومسامحة المقربين للسلطنة فظن السلطان أنهم يعنون الساعتجي والطرنقجي فأمر بإحضارهما فأظهر القوم براءة ذمتهما أحالوا الأمر على غضنفر آغا حافظ الباب السلطاني وعثمان آغا ضابط الحرم فأمر السلطان بقتلهما فقتلا وفي هذه السنة استرد اليمشجي قلعة استونلي بلغراد وقدم إلى مقر الملك فلما وصل إلى قريب من قسطنطينية أعمل عليه محمود باشا حيلة أدت إلى تحريك الأشقياء وطغيانهم وذلك أنه استفتى المفتي فيه بنسبة التقصير في أمر المسلمين وسوء التدبير في أمر الحرب وأعطى الفتيا للسباهية فبلغ الوزير الخبر فأسرع في الدخول إلى داره وفي ثاني يوم اجتمع إليه العسكر واختفى المفتي صنع الله ومحمود باشا ووجد في مجلسه أبو الميامن فوجهت إليه مشيخة الإسلام ثم اقتضى الرأي أن يوجه ضابط الجند إلى السباهية وكانوا مجتمعين بآت ميدان فهجم عليهم وفرق جمعهم ثم استحضر منهم بويراز عثمان واكوز محمود به كور رضوان بعد تفتيش بليغ فقتلوا في حضرة السلطان وفي أواخر ذي الحجة سنة إحدى عشرة بلغ السلطان عن ولده محمود وهو أكبر أولاده بعض أمور تتعلق بالملك فأحضره وقال له مالك تدخل في أمور الملك فأجابه بجواب ما أرضاه فضربه بخنجر فقتله وكان عمره نحو ثمان عشرة سنة ثم ندم على ذلك الندم الكلي وفي سنة اثنتي عشرة عين الوزير اليمشجي وزراء كثيرين وأمراء للمافظة وتلافى أمر الطغاة بالصلح وانتقم من أعدائه وظهر له أنه أستقل بأمر الملك فتمرد وأجحف وكثر شاكو ظلمه وفساده فعز له السلطان في سلخ ربيع الآخر وصير ياوز علي باشا مكانه ومحمد باشا الجراح قائما مقام الوزير وفي هذه الأثناء أعطى ضابط الجند قاسم باشا رتبة الوزارة وفي أوائل جمادى الأولى طلب الجند إعادة اليمشجي إلى الوزارة فغضب السلطان من جراءتهم في الطلب فأرسل إلى اليمشجي من قتله وكان ببستانه المعروف في قصبة سوليجه وفي خامس عشرة جمادى الآخرة عزل الجراح لمرض كان اعتراه وصير مكانه قاسم باشا وفي سلخ هذا الشهر ورد من محافظ عجوان أمير باشا كتاب يذكر فيه أن شاه العجم نقض عقد الصلح واستأجر محافظ تبريز واضطرب أمر المسلمين فضمت تبريز إلى وان واعتبر وزارة ووجهتا لكافل حلب نصوح باشا مع ضم السردارية وفي ذلك الأثناء ورد من حسن باشا الساعتجي كتاب يذكر فيه أن الأمر مقتض لعسكر يرسل إلى تبريز فعين السلطان عسكراً جراراً وأردف بهم نصوح باشا إلى هنا انتهت الوقائع الصادرة في زمن السلطان محمد وقد ذكرنا تتمتها في ترجمة ابنه السلطان أحمد وكانت ولادته في الليلة السابعة من ذي القعدة سنة أربع وسبعين وتسعمائة وتوفي يوم الأحد سابع عشر رجب سنة اثنتي عشرة بعد الألف وحكى ابن نوعي أنه وقع له في ثاني عشرة جمادى الأولى وكان متوجها إلى دار سعادته فاستقبله شخص(3/64)
مجذوب وقال له أيها الملك أنه يحدث بعد ست وخمسين يوما حادثة عظيمة فلا بكن غافلاً عنها فإذا هي موتة ومما نقل عنه أنه قبل وفاته بثلاثة أيام جمع إليه سائر الوزراء والمفتي وقضاة العسكر وسائر أركان الدولة وعهد بمحضرهم لولده السلطان أحمد بالملك ثم أحضره وأوصاه بأن تكون جدته وهي والدة صاحب الترجمة في السراي العتيقة وإن لا يقبل فيها قولا وبأن لا يقتل أخاه السلطان مصطفى ولا يجعل وزيره الأعلى باشا صاحب مصر ثم أمرهم بالانصراف فلما توفي اجتمع أهل السراي وأرسلوا إلى قاسم باشا قائم مقام الوزير والمفتي وضابط الجند فلما اجتمعوا بالسراي خرج عليهم السلطان أحمد وأعلمهم بموت والده فقبلوا يده ودعوا له ثم جهز السلطان محمد وحضر للصلاة عليه العلماء والوزراء وتقدم سيخ الإسلام أبو الميامن مصطفى فصلى عليه ودفن مما يلي تربة السلطان سليم وكانت مدة عمره تسعة وثلاثين سنة ومدة سلطنته تسع سنين وشهرين ومن الطف ما قيل في تاريخ وفاته قول بعض الفضلاء - مات السلطان محمد ابن مراد - ثم قال في تاريخ تولية ولده وهو التاريخ بعينه وتسلطن السلطان أحمد على العباد وأولاده أربعة وهم السلطان سليم توفي في ثلاي عشري شهر رمضان سنة خمس بعد الألف والسلطان محمود قتله في سابع عشرى ذي الحجة سنة عشر والسلطان أحمد والسلطان مصطفى وسيأتي ذكره بترجمة مستقلة إن شاء الله تعالى ومعلموه الذين قرأ عليهم وهم المولى جعفر مات في أواخر سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة والمولى حيدر مات في شوال سنة ثمان وثمانين وتسعمائة والمولى عزمي مات في رجب سنة تسعين وتسعمائة والمولى نوال مات في جمادى سنة ثلاثين وألف ووزراؤه العظام تسعة وهم سنان باشا وفرهاد باشا وسنان باشا ابن جغال وحسن باشا الخادم ومحمد باشا الجراح وحسن باشا ومشايخ الإسلام خمسة وهم المولى محمد بن بستان وسأذكره بعده والمولى سعد الدين محمد بن حسن جان والمولى صنع الله بن جعفر والمولى محمد بن سعد الدين والمولى أبو الميامن وصدور العلماء في قطر روم إيلي تسعة وهم المولى صنع الله والمولى عبد الباقي الشاعر والمولى مصطفى بن بستان والمولى علي بن سنان والمولى محمد الداماد والمولى قوشيجي والمولى مصطفى بن أبي السعود والمولى محمد بن سعد الدين والمولى عبد الحليم أخي زاده وصدورانا طولى اثنا عشر وهم المولى علي بن سنان والمولى مصطفى بن أبي السعود والمولى مصطفى بن بستان والمولى محمد الداماد والمولى محمد بن سعد الدين والمولى قوشيجي والمولى عبد الحليم أخي زاده والمولى شمس بن الخوجه عطاء الله والمولى اسعد بن الخوجه سعد الدين والمولى أبو الميامن والمولى مصطفى الشهير بكتخدا والمولى كمال الدين محمد بن طاشكبري وهذا الصنيع لابن نوعي حاكيه فيه والله أعلم.ذوب وقال له أيها الملك أنه يحدث بعد ست وخمسين يوما حادثة عظيمة فلا بكن غافلاً عنها فإذا هي موتة ومما نقل عنه أنه قبل وفاته بثلاثة أيام جمع إليه سائر الوزراء والمفتي وقضاة العسكر وسائر أركان الدولة وعهد بمحضرهم لولده السلطان أحمد بالملك ثم أحضره وأوصاه بأن تكون جدته وهي والدة صاحب الترجمة في السراي العتيقة وإن لا يقبل فيها قولا وبأن لا يقتل أخاه السلطان مصطفى ولا يجعل وزيره الأعلى باشا صاحب مصر ثم أمرهم بالانصراف فلما توفي اجتمع أهل السراي وأرسلوا إلى قاسم باشا قائم مقام الوزير والمفتي وضابط الجند فلما اجتمعوا بالسراي خرج عليهم السلطان أحمد وأعلمهم بموت والده فقبلوا يده ودعوا له ثم جهز السلطان محمد وحضر للصلاة عليه العلماء والوزراء وتقدم سيخ الإسلام أبو الميامن مصطفى فصلى عليه ودفن مما يلي تربة السلطان سليم وكانت مدة عمره تسعة وثلاثين سنة ومدة سلطنته تسع سنين وشهرين ومن الطف ما قيل في تاريخ وفاته قول بعض الفضلاء - مات السلطان محمد ابن مراد - ثم قال في تاريخ تولية ولده وهو التاريخ بعينه وتسلطن السلطان أحمد على العباد وأولاده أربعة وهم السلطان سليم توفي في ثلاي عشري شهر رمضان سنة خمس بعد الألف والسلطان محمود قتله في سابع عشرى ذي الحجة سنة عشر والسلطان أحمد والسلطان مصطفى وسيأتي ذكره بترجمة مستقلة إن شاء الله تعالى ومعلموه الذين قرأ عليهم وهم المولى جعفر مات في أواخر سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة والمولى حيدر مات في شوال سنة ثمان وثمانين وتسعمائة والمولى عزمي مات في رجب سنة تسعين وتسعمائة والمولى نوال مات في جمادى سنة ثلاثين وألف ووزراؤه العظام تسعة وهم سنان باشا وفرهاد باشا وسنان باشا ابن جغال وحسن باشا الخادم ومحمد باشا الجراح وحسن باشا ومشايخ الإسلام خمسة وهم المولى محمد بن بستان وسأذكره بعده والمولى سعد الدين محمد بن حسن جان والمولى صنع الله بن جعفر والمولى محمد بن سعد الدين والمولى أبو الميامن وصدور العلماء في قطر روم إيلي تسعة وهم المولى صنع الله والمولى عبد الباقي الشاعر والمولى مصطفى بن بستان والمولى علي بن سنان والمولى محمد الداماد والمولى قوشيجي والمولى مصطفى بن أبي السعود والمولى محمد بن سعد الدين والمولى عبد الحليم أخي زاده وصدورانا طولى اثنا عشر وهم المولى علي بن سنان والمولى مصطفى بن أبي السعود والمولى مصطفى بن بستان والمولى محمد الداماد والمولى محمد بن سعد الدين والمولى قوشيجي والمولى عبد الحليم أخي زاده والمولى شمس بن الخوجه عطاء الله والمولى اسعد بن الخوجه سعد الدين والمولى أبو الميامن والمولى مصطفى الشهير بكتخدا والمولى كمال الدين محمد بن طاشكبري وهذا الصنيع لابن نوعي حاكيه فيه والله أعلم.(3/65)
محمد بن مصطفى المعروف أبوه ببستان الرومي مفتي الدولة العثمانية ورئيس علمائها وعالمها المشهور الذي طنت حصاة فضه في الخافقين وذاعت معاليه في المغربين والمشرقين ذكره الأديب المنشي فقال في وصفه نشأ في رياض فضل ناضره وعين العناية إليه ناظره وربي في مهد العز وولده يتعهده بحسن إجماله ويتفقده بتفصيل كرمه وإجماله فأحرز الفضائل وتحرك على ما هو العادة حتى وصل إلى خدمة أبو السعود وتحلى بقلادة الإعادة ولم يزل منظورا بعين العناية المتواصلة المدد وملحوظا بنهاية الرعاية على توالي المدد والفلك يدور حسبما أراد وكوكب السعد يدل له بالإسعاف والإسعاد مع استقلاله بالمآثر التي اختص بها دون الأشراف واستبداده بالمفاخر التي سار ذكرها في أقصى البلاد والأطراف ولم يزل تتشرف به المناصب ويطلع بدرا من سماء المراتب إلى أن حل من الدولة محل الإنسان من العين وأشرقت بشمس ذاته فضاء العسكرين ثم بعد العزل زفت له عروس القاهرة وعدت في عقدة وأصبحت محلاة من حسن السلوك بعقدة ففارقها بعد التمتع بها ونفوس غيره تحترق بأشواقها وسمحت همته العلية لمثل هذه الحسناء بطلاقها فلما وصل إلى دار السلطنة أثمر روض سروره وأزهر واستقبله السعد وبسط بين يديه شقة قضاء العسكر وبعد ذلك طرز حلل الفتوى بوشي رقمه وحل عقد المشكلات ببيان قلمه ثم فارقته ولم تصبر على نواه فراجعها بعدما استحلت بسواه فعاد روض الفضل إلى نمائه وكوكب السعد إلى سمائه كعود الحلي إلى العاطل ولم يزل تكتحل الطروس بميل براعته وتتشنف الإسماع بلآلئ براعته إلى أن ذبل بسموم المرض غصن نباته وقطفت بيد الموت زهرة حياته ونفسه من أحشاء المكارم تنزع وعين العلا على مصائب فقده تدمع ثم أورد له من شعره العربي قوله من قصيدة يرثي بها السلطان سليمان مطلعها
ألا أيها الناعي كأنك لا تدري ... بما قلت من سوء المقالة والشر
أسلت سيول الموت في الدهر بغتة ... وقد بلغ السيل الربى من جوى الصدر
وشقت قلوب المسلمين جراحه ... بصارم سيف قد مضى ماضي الأمر
سهام المنايا من قسي صروفها ... أصابت بدهر في ابتسام من الثغر
نسيم الصبا رقت بأشجان فرقة ... حمامة ذات السدر حنت من الذعر
همام على هام الممالك تاجه ... أمين رشيد في الخلافة ذو قدر
فأعني جوادا في جواد بذكره ... لقد سارت الركبان في البر والبحر
عزيمته في البحر كانت عظيمة ... وهمته فاقت على الأنجم الزهر
وأيامه كالشمس كانت مضيئة ... وأعوامه في الحسن أبهى من البدر
وما قيل أجمال لبعض جميله ... ولا يمكن التفصيل بالنظم والنثر
فهاتيك أوصاف لعمري جليلة ... فدونكها أبهى من الزهر والزهر
على عكس ما طاف البلاد بجنده ... كشمس غريبا عاب في مغرب القبر
صحائف أكوان تدبرت كلها ... فصادفتها شرحا لفن من الهجر
على صفحة الخدين أمليت ما جرى ... بأقلام أهداب من البؤس والضر(3/66)
وذكره النجم في الذيل وأثنى عليه قال وكان فصيح العربية علامة فهامة وكان في أوائله ولي فضاء الشام وقدمها في خامس عشرة ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وتسعمائة ثم ولي مصر ثم ترقى إلى قضاء العسكرين ثم ولي قضاء مصر ثانيا ثم كتب إليه السلطان مرادخان بأني لم أعزلك عن مصر فأقم من شئت فيها في مقامك ثم جئنا زائراً فدخل دمشق في ركضان سنة أربع وتسعين وتسعمائة فاجتمعت به إذذاك في صحبة شيخنا يريد به العيثاوي فيما أحسب في مجالس كانت حافلة بالعلماء وسمعته يقول كنت بمصر لا أترك زيارة الإمام الشافعي رضي الله عنه وكنت أستنهضه في المهمات فإذا كان أمر مهم يحتاج إلى العرض فيه إلى السلطان أذهب إلى ضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه وأقول له يا إمام هذه بلدتك وقد حدث بها كذا وكذا وأنا أرجو منك الإمداد ثم أرجع فآمر بشيء فيتم ببركة الإمام الشافعي رضي الله عنه قلت ثم سافر إلى قسطنطينية فولي بها فضاء العسكر ثم صار مفتيا في جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وتسعمائة وعزل في رجب سنة إحدى بعد الألف ثم أعيد في شوال من السنة المذكورة واستمر مفتيا إلى أن مات وكانت وفاته في رابع شعبان سنة ست بعد الألف بقسطنطينية وهو اليوم الذي توفي فيه الشمس الداودي بدمشق ووصل الخبر بموته يوم الاثنين ثامن وعشرة شهر رمضان منها وصلى عليه غائبة يوم الجمعة بعد صلاتها رحمه الله تعالى.
محمد بن مصطفى الشهير بكاتي الرومي الأصل المدفي المولد والمنشأ الحنفي كان من الفضلاء الأعيان وأهل البلاغة والبيان وكان أميراً من جهة الأتراك حين كانوا مستولين على اليمن وكان حسن السيرة صافي السريرة وله إطلاع على العلوم الأدبية ومعرفة جيدة لعوم العربية وله تاريخ سماه بغية الخاطر ونزهة الناظر جعله برسم الوزير محمود باشا وابتدأ فيه من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله من زمن ميلاده إلى هجرته ووصل فيه إلى سنة ثلاث وثلاثين وألف وذكر فيه الأئمة الدعاة من الزيدية وغيرهم وملوك آل عثمان وحكامهم في اليمن وله أشعار كثيرة حسنة منها قصيدة في مدح خير الخلق صلى الله عليه وسلم من جملتها قوله
يا نبيا كمل الله له ... كل وصف زينته الشيم
والذي من يأسه نار لظى ... وأياديه الزلال الشيم
والذي قد أصبحت أمته ... يتدانى من علاها الأمم
من لصب ليس يشفيه البكا ... وهو من أجفانه منسجم
ولقلب ولبرق مثله ... تحت جلباب الدجا يضطرم
وكئيب القلب صنعا داره ... ما بدا رسم له أو معلم
حب جرعا طيبة جرّعه ... كأس شوق ما حكاه العلقم
يا أحيبابي وأيام خلت ... هي أيام مضت أو حلم
وعهود قد حفظناها لكم ... ما نرى أنكم ضيعتم
وهواكم وهو عندي قسم ... بسواه حلفا لا أقسم
بعدكم لم يجر من بعدكم ... غير دمع قد جرى وهودم
وسقام لا يداويه سوى ... من برؤيا ميداوي السقم
حيث لا يصبر إلا رغبة ... في جنان ظلها مرتكم
في ربي طيبة طابت تربة ... حيث حل المصطفى والحرم
مضجع حل الحبيب المصطفى ... في ثراه والعلا والكرم
بقعة ضمت بها أعضاؤه ... أفضل الأرض بقول يجزم
بلد بالمصطفى الهادي له ... كل يوم وقفة أو موسم
النبي الهاشمي المجتبى ... سيد الخلق وإن هم رغموا
صفوة الله وما من آدم ... كان في الكون ولا كانوا هم
جمع الله به أشتاتنا ... من شتات كاد لا يلتئم
هومك طيب من أجل ذا ... أنبياء الله منه ختموا
نجل إسماعيل في عرق الثرى ... وابن إبراهيم فانظر من هم
يا خليل الله هل من نفحة ... يخجل البحر بها والد يم
يا رسول الله هل من جذبة ... حيث حل الركن والملتزم
يا حبيب الله هل من شربة ... يرتوي العطشان منها زمزم(3/67)
يا عظيم الجاه هل من غارة ... هي بالنصر المرجى موسم
يا أجل الخلق هل تسمعني ... مثل ما قال الأجل الأكرم
وإليك اليوم أشكو خلة ... أسقمت جسمي وما بي سقم
خوف أعدائي ونفسي والهوى ... وشياطين عن الحق عموا
بل أنا عبد مسيء مذنب ... منذ وافى سائل لا يحرم
يا جميل الخلق فعلي سيئ ... فاسأل الرحمن يا من يرحم
فأنا المضطر وافي سائلا ... جود مولى ما عداه الكرم
لست بالكاني لما أشكو لكم ... أنتم بالحال منه أعلم
وحياء لم أقل لي ذمة ... باسمك المحمود ذاك الأعظم
فكنيت الاسم إجلالاً وإن ... صح لي منه الذمام المحكم
فعليك الله صلى دائما ... ما هدى الساعي إليك القدم
وكذا آلك أرباب التقى ... وكذا الصحب الهداة الأنجم
محمد باشا بن مصطفى باشا الوزير بن الوزير الشهير بابن الدفتر دار البوسنوي الأصل القسطنطيني الأصل المولد والمنشأ والوفاة قدم أبوه من بوسنة إلى دار السلطنة وولي بها الخدمات السلطانية ثم استقر دفتريا في عهد السلطان مراد صاحب بغداد وأعطي رتبة الوزارة ونشأ ولده هذا وقرأ ودأب واشتغل بالعلم حتى صار له ملكة ولازم من شيخ الإسلام يحي بن زكريا ثم درّس ثم عدل إلى طريق أرباب الخدمات فصار من كبار البوّابين للسلطان ثم أمير الأمراء ثم وزيرا وولي محافظة مورة ثم محافظة الشام في سنة ثلاث وستين وألف ودخلها في خامس عشر رمضان وكان في حكومته معجبا بنفسه متعاظما قال والدي رحمه الله تعالى وما أحقه بما قاله بعض الأطباء في وصف رئيس صفراوي الذكاء سوداوي الرأي دموي المزاج ولولا ما في لفظ البلغم من الكراهة لقلت بلغمي الأناة ولما كان صاحب الترجمة هوائي المشرب ناري الطبيعة مائي الطمع صاحب نفس عامية لا ترابية غلب عنصر الماء في أيام حكومته واشتعلت النار في زمن ولايته ووقع السيل العظيم المشهور بهذه البقاع حتى علا الماء على حجر التاريخ الذي السلطان مراد صاحب بغداد وأعطي رتبة الوزارة ونشأ ولده هذا وقرأ ودأب واشتغل بالعلم حتى صار له ملكة ولازم من شيخ الإسلام يحي بن زكريا ثم درّس ثم عدل إلى طريق أرباب الخدمات فصاروإنما كان في الخارج كمان شاهدناه وأخذ بعض الرجال والنساء والأطفال حتى رؤى من الأطفال الصغار حصة وهم في المهاد وأظن أن الذين غرقوا منهم جاوزوا التعداد وتلف للناس من العسل والرز والسمن وبقية المؤن شئ كثير لان أكثر بقالة دمشق في ناحية الزبادة وخصوصاً سوق المؤيدة الشهير وبقي الماء من بعد الظهر إلى نحو نصف الليل ثم غاض بإذن رب الأرض والسماء الملك الفيض وكان ذلك نهار الثلاثاء تاسع عشر جمادى الأولى سنة أربع وستين وألف ثم وقع أيضاً الحريق بسوقي الطواقية والذراع العتيق لصيق الجامع الأموي وسبب ذلك أن بعض أهل الصناعة من أهل السوق غفل عن إطفاء النار بحانوته المغلوق فشبت النار في صبيحة النهار ووقع التنبيه على المبادر لإطفائها وامتحن الناس ساعتئذ بكربها وبلائها ثم جاء الوزير صاحب الترجمة ومعه غالب العسكر والسقائين والبنائين والقصارين إلى محل الحريق ووقف بنفسه وأطفاه وذهب للناس من القماش والأمتعة مالا يمكن ضبطه أحصاه وكان ذلك نهار السبت العشرين من رجب سنة أربع وستين وألف وكان جملة ما حرق من الحوانيت مائة وثلاثة وعشرين حانوتاً(3/68)
واتفق أن صاحب الترجمة تجاوز الحد في الظلم وابتدع مظالم كثيرة وانتهك محارم غزيرة فاجتمع العسكر الشامي وتحزبوا لمصادمته وصمموا على محاربته ومقاتلته وجاؤا إلى الجامع الأموي بجمعية عظيمة وأحضروا علماء البلدة وذكروا ما أخذه من الأموال على سبيل الجريمة ونقموا عليه أخذ البقر من أصحابها بدون أثمان ليطعم منها رجاله من الصارجية والسكبان وقد كان شدد في ذلك كبني إسرائيل لما شددوا شدد عليهم فأرسل إليهم صاحب الترجمة المراسيل العديدة في تهميدهم فلم يفد إرساله إليهم ثم نهبوا غالب اتباعه وهمدت الفتنة وزالت بعون الله تعالى تلك المحنة وكان جاء ختم الوزارة العظمى في تلك الأثناء للوزير بشير محافظ حلب الشهباء وكان بينه وبينه منافرة كلية وكان صاحب الترجمة يتجلد في أمره معه خصوصا بعد صدور القضية فاتفق أنه عزله وورد متسلم الكافل الجديد غازي باشا إلى دمشق فخرج المترجم منها في أول ربيع الأول سنة خمس وستين وألف وبعد وصوله إلى دار السلطنة قتل الوزير ابشير باشا فصار دفتردارا ثم قتل أيضا قريبا من صيروريته في سنة ست وستين وألف كما قتل أبوه وهو دفتردار أيضاً.
محمد بن مصلح بن إسماعيل الرومي نزيل القدس الشريف كان من الصلحاء خادماً لكتب العلم والقرآن العظيم كتابة ووقع له أنه كتب قل هو الله أحد على أرزة وكتب سورة يس في حروف البسملة والقرآن جميعه في حروف سورة يس وكان لا يتعلق بشيء من أمور الدنيا مهما جاءه أنفقه فلا يجمع شيئاً وتصبر إذا لم يجئه شيء وعمر زماناً طويلا وكانت وفاته في سنة إحدى وثمانين وألف ودفن في باب الرحمة رحمه الله ورحم أنامله آمين.
محمد بن الفقيه معرف بن عبد الله بن أحمد العقيبي بأجمال أحد عباد الله الصالحين المواظبين على طاعة الله تعالى كان ورعاً زاهداً قانعاً يحب الخمول ويكره الشهرة يحب الصالحين حسن الظن بإخوانه صحب خاله العارف بالله تعالى عبد بن عمر بأجمال وحصلت له نظرات ولحظات ودعوات ظهر عليه بركاتها وله صدقات كثيرة منها بناء المسجد المعروف بالحمام في وسط مدينة الغرفة وآبار كثيرة وقفها على المسلمين وله أوقاف على مساجد بمدينة هنيز وأوقاف على قرابته وصدقات تقسم على الفقراء يوم عاشوراء وحصل كتباً كثيرة وقفها ووقف على عمارتها مع قلة ماله وليس له صنعة ولا تجارة وكان محبوباً عند الناس معتقداً مقبولاً وكانت وفاته ليلة السبت منتصف صفر سنة اثنتين وعشرين وألف.(3/69)
محمد أبو سرين بن المقبول بن عثمان بن أحمد موسى بن أبي بكر بن محمد بن عيسى بن القطب صفي الدين أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي صاحب اللحية رضي الله عنه رأيت ترجمته بخط صاحبنا الفاضل مصطفى بن فتح الله ولست أدري أهي له أم لغيره قال فيها ليست تحضرني عبارة تنبئ عن محله وعلو مرتبته في العلم والولاية والقدم الثابت في مراقبة الله تعالى والرعاية سارت بذكره الركبان وبلغ الشرق والغرب ماله من علو المكان وكان في عصره مرجع اللحية وما والاها من القرى والعرب مطيعون له إطاعة الإمرا وكانت دولة الأتراك لا تصدر إلا عن رأيه وإشارته ولا تخرج جميع الحكام عن طاعته وكان رئيساً عالي الهمة آمراً بالمعروف ناهيا عن المنكر صاحب عيادة وزهاده ممداً من الله تعالى سبحانه بالسعادة وكان حافظاً للقرآن على ظهر قلبه كثير التلاوة له عظيم القيام به وكانت اللحية في زمنه كالحديقة المزهرة ووجوه بني الزيلعي بنور وجهه ضاحكة مستبشرة وهو مرجعهم في المهمات والمدار عليه من بينهم في الملمات وله المهابة في القلوب والجلالة في النفوس برؤيته ينجلي كل هم وبؤس وكان من الكرم في ذروته العالية ومن التواضع بمكانة غالية مقدماً في قومه معظما في عشيرته نشأ على خير وفي خير وكني بابي سرين لأنه كان له سرتين ولما ولد واجتمع الناس من أصحاب والده لتسميته في سابعة أتى به أبوه ووضعه بينهم وقال لهم من يقدر منكم يرفع رأسه من الأرض فأخذ كل منهم برأسه فلم يقدروا على رفعه فقال لهم والده هذا صاحب الترجمة أمه أم ولد فأراد والده تنبيههم على ذلك وأنه الأحق بما هنالك وفضل الله يؤتيه من يشاء ولصاحب الترجمة مع الأتراك وقائع كثيرة وكرامات شهيرة وكان لا يتعرض له أحد بسوء إلا عطب وتصرفه في عصره مشهور وعيد الناس مذكور ومن كراماته أنه وشى به بعض الحساد إلى السيد الحسن ابن الإمام القاسم ومن جملة ما رموه به أنه يعين الأتراك ويمدهم بمال من عنده ويقدم لهم الهدايا ويحثهم على المحاربة للأئمة فأرسل إليه جماعة من أتباعه يأمره بالوصول إليه فأتوا به إليه وهو مريض محمول على سرير وكان أراد قتله بمجرد وصوله فلما أتوا به إليه ورآه أجله وأكرمه واعتذر له من فعله وأمر بإرجاعه إلى بلده مجللاً مكرماً ثم اشتغل عن ذلك فأتى إليه وقال له إني مريض ومرادي أموت ببلدي فجهزني سريعا وأعلم أنك ميت على أثري فجهزه لوقته وسار إلى بلده اللحية فلما وصل إليها جلس أياماً قليلة ومات وكانت ولادته في سنة تسع وخمسين وتسعمائة وتوفي في ثاني شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وألف ومات في أثره السيد الحسن ابن الإمام القاسم رحمه الله.(3/70)
الأمير محمد بن منجك بن أبي عبد القادر بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن منجك الكبير اليوسفي الذي اشتهر في الدنيا وتناقلت أحاديثه الناس في العليا وصاحب الترجمة نبع في الدوحة المنجكية نبيلاً وسما قدره في دمشق جليلاً وارتقى إلى أعلى ذروة ولم يحذ أحد في المعلوات حذوه كان أميراً جليل القدر سامي الهضبة سخي الطبع كبير الشأن إلا أنه مغال في الكبر والتيه بذي اللسان كثير الوقيعة في الناس مفرط في أذيتهم ولهذا خافه الناس وكبرت دولته وعظمت صولته ومدحه الشعراء وانقادت إليه الفضلاء سلك أولاً طريق العسكر فصار من آحاد الجند الشامي ثم زعيماً ثم متولياً على عمارة السلطان سليمان بالميدان الأخضر وصار بعدها أميراً بتدمر مع التولية المذكورة ثم صار متقاعداً على قانون آل عثمان عن دفتر دارية دمشق ثم عرض له الزير محمد باشا ابن سنان باشا في أن يكون أمير الأمراء بمدينتي الرقة والرها فنهض بهذه الرتبة وسما وتقلبت به الاحوال وطافت به الاهوال حتى سافر مرات إلى دار السلطنة وخالط الوزراء حتى علا في المقام وولي أنظار أوقافهم عن عمه الأمير عبد اللطيف بن أبي بكر لما مات في ثاني عشر شوال سنة إحدى وتسعين وتسعمائة وكان الأمير عبد اللطيف وليها عن عمه الأمير إبراهيم بن عبد القادر في حياته ولم يتم له التصريف حتى مات عمه في شهر ربيع الأول سنة موت عبد اللطيف وأما والد صاحب الترجمة الأمير منجك فإنه لم يتولى الأنظار المذكورة ومات في سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة والحق أنه لم يصل منهم أحد إلى ما وصل إليه المترجم فإنه بلغ من نفوذ القول إلى مرتبة عظيمة وعمر العمارات الفائقة منها القاعة المشهورة في دارهم بين باب جيرون وباب السلسلة فإنه أنق في عمارتها بالقاشان والرخام وصرف عليها أموالاً كثيرة وعمر القصر المعروف به في الوادي الأخضر أحد منتزهات دمشق وانتهت عمارته في سنة إحدى عشرة وألف وفيه يقول الشيخ عبد الرحمن العمادي المفتي مؤرخاً بناءه ومخاطباً بانيه بقوله
بنيت قصراً أم الجنان جرى ... من تحتها النهر فوقه الغرف
جاورت في سمكه السماك مع ... الجوز أولم ينته له طرف
بدر الدجا من سناه ممتحق ... شمس الضحى من سناه تنكسف
بنيت مجداً وسؤدداً وعلاً ... ظهرت فيها والحاسدون خفوا
بناء من لا يمل من كلف ... متيم بالعطا به كلف
يضيق للوفد مع توسعه ... فبعضهم تحت ظله يقف
قد جاوز الواصفون حدهم ... في وصفه وهو فوق ما وصفوا
فحسن ذات العمادا خلفه ... عماد هذا وحبذا الخلف
إن سأل الواردون عن شرف ... أعلى ومروا به وما عرفوا
فاصدقهم الأمر وأهدهم كرما ... وقل وأرخه قصري الشرف
وقال أبو بكر بن منصور العمري
وقصر تود قصور ... الجنان لو أنها بابه تخدم
وكوثرها دائر حوله ... وأشجارها تربه تلثم
بناه الأمير فتى منجك ... محمد الفارس المعلم
وشرفه فغد اقدره ... عظيماً وتاريخه أعظم
قلت وكان الأمير منجك ابن المترجم الآتي ذكره وهب القصر المذكور لأحمد باشاالمعروف بالكوجك لما كان كافل دمشق فأدرجه الكوجك في وقفه وهو الآن من جملة وقفه غير أنه لعبت به أيدي الجادثات فذهبت برونقه ولصاحب الترجمة أحوال ووقائع وماجريات وفظائع تجاوزت الحد وكا عنها العد وبالجملة فهو كما تلقيناه وأخذناه من الأفواه رجل إساءته أكثر من إحسانه فإنه قل من سلم من يده ولسانه ولعمري لقد أنصف ابنه المرحوم الأمير منجك سقى الله ثراه صيب الرحمة فيما قال مشيراً لما فعله أبوه من الظلامات المدلهمة.
أساء كبارنا في الناس حتى ... جرى هذا الإساء على الصغار
لقد شرب الأوائل كأس خمر ... غدت منها الأواخر في خمار(3/71)
وكانت وفاته في رابع وعشري شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وألف ودفن بجامع جده بالميدان وجده الأعلى صاحب الأوقاف مذكور في كتب التواريخ منها المنهل الصافي لابن ثغري بردي وذكرانه تنقل في نيابات الشام كحلب وطرابلس ودمشق وصفد وطرسوس وولي قبل ذلك الوزارة في زمن الناصر محمد ابن قلاون وجرى عليه أمور وقبض عليه مرات محمد بن منصور بن إبراهيم بن سلامة محب الدين الملقب شمس الدين الشهير بالمحبي الدمشقي الحنفي الفقيه المحدث المقري المعمر البركة ملحق الأحفاد بالأجداد حفظ القرآن وجوّده وأخذ القراآت عن الشهاب الطيبي والشيخ حسن الصلتي وغيرهما والفقه عن النجم البهنسي الخطيب بجامع دمشق وغيره والحديث عن والده المسند الكبير عن القاضي زكريا والبرهان القلقشندي والحافظ عبد الحق السنباطي المصريين والتقوى بن قاضي عجلون والسيد كمال الدين بن حمزة الدمشقيين وأتقن وضبط وانتفع به ولده إبراهيم ومات في حياته في سنة ست وثمانين وتسعمائة عن ثلاث وثلاثين سنة وكان نبل جداً ولم أقف على وفاته وانتفع به شيخ الإسلام عبد الرحمن العمادي وتزوج بوالده العمادي آخر عمره وكان منقطعا في بيته يتلو كلام الله تعالى وألف ومن تأليفه شرح على الهداية على ما سمعت وما رأيته ورأيت له من شعره هذين البيتين منسوبين إليه فأثبتهما له وهما
يا قارئاً خطا لمن يجد ... حظاً مدى الأيام من دهره
عساك أن تدعو بغفران ما ... جنى من الآثام في عمره
وكان يغلب عليه التغفل والصلاح قال النجم الغزي ميلاد في سنة إحدى وثلاثين وتسعائة كما نقلته من خط المحيوي الشيخ عبد القادر النعيمي وتوفي سنة ثلاثين بعد الألف قلت فيكون بلغ من العمر مائة سنة وقال الشهاب العمادي في تاريخ وفاته
مات المحبي شيخي ... وكان نعم المحب
بدر الفضائل لما ... هوى تخلف شهب
وأشرف شمس علم ... منه لها القبر غرب
سلطان فضل حمته ... كتائب هن كتب
قطب الوجود تسامى ... فيه صلاح وجذب
فقلت ياصاح أرخ ... بالشام قد مات قطب(3/72)
قلت وبيت محب الدين هؤلاء غير بيتنا بدمشق وهم أقدم منا فيها ويقال لهم بيت ناظر الجيش لأن جدهم الأعلى القاضي محب الدين كان ناظر الجيش أيام السلطان الغوري وأما صاحب الترجمة إبراهيم الذكور فكان بسبب موته الفتنة المشهورة بدشق وأخذ العلماء منها إلى مصر تحت الترسيم وذلك أنه مات وله ثلاث وثلاثون سنة وكان أبوه بمصر عند الأشرف الغوري فلما دفن بنيت عليه قبة في ملاصقة قبة القطب الولي العارف بالله تعالى سيدنا الشيخ أرسلان قدس الله سره العزيز فأفتى السيد كمال الدين مفتي دار العدل بهدم القبة المذكورة لكونها في مقبرة مسبلة وأفتى التقوى ابن قاضي عجلون بعدم هدمها وقال هذه القبة كانت موجودة ولها أساس ومابنيت الثانية الأعلى أساس الأولى والأولى كانت عامرة مدة طويلة من غير تعرض لها والأصل وضع الشيء بحق وكان القاضي الحاكم بهدمها قاضي القضاة خير الدين المالكي وكان الأمير سيباس أمير الأمراء بدمشق حاضرا على هدمها فلما صدر ذلك ذهب الخبرالي والد الميت القاضي محب الدين فقدم إلى دمشق وأستمر من الطريق عازماً صدر ذلك ذهب الخبرالي والد الميت القاضي محب الدين فقدم إلى دمشق وأستمر من الطريق عازماً إلى قبر ولده وعزاه الناس فيه هناك ثم إنه أخذ عظاماً من التربة ووضعها في وعاء وذهب إلى مصر وألقى العظام بين يدي الملك الأشرف قانصوه الغوري فقال له ما هذه قال هذه عظام ولدي التي أخرجتها أكابر دمشق من قبره وما فعلوا ذلك إلا لأنتسابي إليك وقال للسلطان عندي كنز يحتاج إلى النجور فقال عندي بخوره بكتب له عند ذلك أسماء الجماعة الذين كانوا داخلين في القصة منهم التقوى ابن قاضي عجلون مع أنه أفتى بعدم هدم القبة ولكن كأنه أخذ ليستشهده على من أفتى بهدمها ومنم السيد كمال الدين مفتي دار العدل والشهاب أحمد الرملي إمام الجامع الأموي والقاضي خير الدين المالكي وجماعة وكتب حكم سلطاني بأسماء هؤلاء وأرسل خاصكي إلى دمشق بطلب هؤلاء الجماعة فذهبوا متفرقين ودخلوا إلى السلطان بمصر فرسم عليهم إلا التقوى فإنه أبقاه في بعض المدارس غير مرسم عليه ولما حضروا في الجمع إلى السلطان زجر الجماعة ولم يزل الأمر يزيد وينقص إلى أن وقعت الدعوى على القاضي المالكي الذي حكم بهدم القبة وحكم قاضي حنبلي بصر بأن الحكم الصادر بهدمها لم يقع موقعه وخسر القوم بسبب هذه القصة ما يزيد على عشرين ألف دينار ورجعوا بمناصب زالت بعد قليل والله أعلم.
؟؟؟؟؟؟القابوني ؟؟؟؟؟؟؟محمد بن موسى بن عفيف الدين المنعوت شمس الدين بن شرف الدين القابوني الدمشقي الشافعي ذكره الغزي وقال هو سبط الشهاب أحمد بن أحمد بن أحمد بن بدر الدين الطبيي عرف بجدي لأنه كان يلازم جده الطيبي فيقول له جدي جدي فغلب عليه ذلك كان خطيب جامع منجك المعروف بمسجد الأقصاب خارج دمشق كأبيه ثم ولي إمامة المقصورة من الجامع الأموي شركة شيخنا يعني به العيثاوي بعد موت خاله الشهاب أحمد بن أحمد بن أحمد في منتصف شهر رمضان سنة أربع وتسعين وتسعمائة بمعرفة قريبهم الشيخ أحمد بن النعمي خطيب ايا صوفيه وكان ورد دمشق حاجاً في صحبة المولى عبد الغني قاضي قضاة الشام وقدو لها ثانيا ثم قال وكان يحفظ القرآن وختمه في المحراب مرات وكان يلازم في جمعة شيخنا أيضاً وكان له مشاركة في القرآن ويقرأ مجودا وولي نصف وظيفة الوعظ في يوم الأربعاء من الثلاثة الأشهر عن ابن قنديل شركة التاج القرعوني فباشره وكان يعسر عليه التأدية من الورق لضعف بصره وعبارته فكان يتصحف عليه ألفاظ ويتكرر منه تصحيفها وتحريفها حتى سمعته يورد هذا الحديث غيره مرة لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة فيقرؤه في سن بالتشديد يريد واحد الأسنان وكانت وفاته يوم الأحد خامس عشر صفر سنة تسع عشرة وألف ودفن من الغد بقبرة الفراديس عند قبر جده وخاله الطيبيين قلت والشيخ أحمد النعيمي الدمشقي تقلبت به الأحوال بدشق فسافر إلى الروم فصار خطيب السليمانية وأمام ايا صوفية بقسطنطينية وكانت وفاته في سنة ثمان وتسعين وتسعمائة.
العسيلي القدسي(3/73)
محمد بن موسى بن علاء الدين المعروف بالعسيلي القدسي ولد الشيخ كمال الدين القدم ذكره كان من كبار الفضلاء أصحاب التصانيف أخذ الفرائض عن الولي البركة الشيخ محمد الدجاني وأجازه وأخذ الفقه والحديث عن الشيخ يحيى ابن قاضي الصلت القدسي والتصوف والعقائد عن الشيخ محمد العلمي وكان مغرماً به وقارئ درسه وأخذ المعاني والبيان عن الإسلام رضى الدين اللطفي والشيخ محمود البيلوني وقرأ البيضاوي بتمامه على المنلا علي الكردي وأجاوز شيخ الإسلام التمرتاشي الغزي صاحب التنوير رحمه الله تعالى بماله من مروياته نظماً ووقفت على الإجازة وأرسل له النور الزيادي إجازة من مصر لما سأله عن أسئلة عديدة وطلب منه الإجازة فأجازه ولم يره ومن مؤلفاته حاشية على الفاكهي وقطعة كبيرة على الجلالين احترمته المنية قبل إكمالها ونظم القطر وشرحه ونظم خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وشرح النظم شرحاً لطيفاً لم يسبق إليه مع زيادات على أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب وسماه النظم القريب في خصائص الحبيب وكانت وفاته في سنة إحدى وثلاثين وألف ودفن بما من الله.
؟؟؟؟الجمازي محمد بن موسى بن محمد الجمازي نسبة إلى الأمير عز الدين جماز بن شيخة بن هاشم بن قاسم بن مهنا بن حسين بن مهنا بن داود قاسم بن عبد الله بن طاهر بن يحيى بن جعفر بن عبد الله بن الحسين الأصغر بن على زين علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنهم الحسين المالكي أحد الفضلاء الأعيان وأحد أئمة البيان أخرز من الأدب طرفا وحوى منه جانبا مستظرفاً وكان له بمصر منزلة ومكانه وقدر شرف به زمانه ومكانه وولي القضاء بمحكمة ابن طولون ومن شيوخه محمد بن محمد الغزي الحنفي لازمه سنين عديدة وأختص بصحبته وأخذ عن عبد الواحد الرشيدي أمام برج مغزل ومن مشايخه مرعي الحنبلي وخاتمة المحدثين النور الأجهوري وله مؤلفات منها شرح الأندلسية في العروض ونظم أم البراهين للسنوسي وغير ذلك من الرسائل وله شعر منه قوله في النعل الشريف:
من شاهدت عيناي شكل نعاله ... خطرت على خواطر بمثاله
فغدوت مشغول الفؤاد مفكراً ... متمنياً أني شراك نعاله
حتى ألامس اخصميه ملاطفاً ... قدماً لمن كشف الدجى بجماله
يا عين إن شط الحبيب ولم أجد ... سبباً إلى تقريبه ووصاله
فلقد قنعت برؤيتي آثاره ... فأمرغ الخدين في أطلاله
واصل هذا قول علاء الدين بن سلام حيث قال:
يا عين إن بعد الحبيب وداره ... ونأت مرا تعه وشط مزاره
فلقد ظفرت من الزمان بطائل ... إن لم تريه فهذه آثاره
ومثله قول لسان الدين بن الخطيب الأندلسي حيث قال فيه:
إن بان منزله وشط مزاره ... قامت مقام عيانه أخباره
قسم زمانك عبرة أو عسرة ... هذا ثراه وهذه آثاره
ومن شعر الجمازي أيضاً قوله يمدح السيد ذكريا المقدسي نقيب السادة الأشراف بمصر من قصيدة مطلعها قوله:
إن بعدي وغربتي واشتياقي ... وافتراقي كفرقة الاعتزال
واصطباري على المقام هوانا ... بين قوم كعصبة الدجال
لم يفيد وأعلما ولم يستفيدوا ... أن فيهم تهاتها مع جدال
وتقضي الزمان في ترهات ... آفة العلم قلة الاشتغال
لا حياة هنيئة في عيال ... وارتكاب لا خبث الأعمال
وكانت وفاته بمصر في سنة خمسين وستين وألف رحمه الله تعالى.
البليني المصري محمد بن ناصر الدين بن علي البليني المصري الأديب الشاعر ذكره الخفاجي فقال في وصفه فاضل شافعين المذهب ولبيب طراز فضله بالآداب مذهب من القوم الآلي في طريق الخيرات ساعون والذين هم لا ماناتهم وعهدهم راعون النسيب إلى التجنيس والغريب ثم أنشد قوله من قصيدة:
أهلاً به ملكاً في زي إنسان ... أهلاً به قادماً في شهر نيسان
منها قوله في المدح:
أبكي على حين مرغوس على جني ... ومن تلافي فيه قد تلافاني
الحين الهلاك والرغس النعمة:
وأنتا شني باليد البيضاء سودده ... من أسود الخطب لما أن تخاطاني(3/74)
قد كنت غصان بالماء الزلال وهل ... يجري سوى الماء في حلقوم غصان
صديان أشكو فلا أشكي كأن خرس ... الصدا وصم فلا يجري بميدان
يا جامعاً شمل أشتات الفضائل في ... جثمانه عز عن جمع وجثمان
ومن تفرد في هضبات عزمته ... أليه ما لفرد منك من ثان
حجلت غيرك عما ظلمت تملكه ... أرثا من الفضل حجباً حجب حرمان
قوله قد كنت غصان معنى مطروق كقوله:
من غص داوي بشرب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء
وقوله:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
وهو في معنى قوله:
كنت من محنتي أفر إليهم ... وهم محنتي فأين الفرار
ولأبي فراس:
قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا أشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بضد ما أملته ... والمرء يشرق بالزلال البارد
ومن كلام ابن المعتز ربما شرق شارب الماء قبل ريه وللشاب:
فديتك مأكل مطل له ... يصبر من ذاقه وأحتمل
إذا مطل الماء ذا غصته ... فقد رام إنجاز وعد الأجل
وعدت بنصري على حالة ... لها الصبر عادي وفر الأمل
وللبليني من قصيدة طويلة مطلعها هذا:
لو علمت الجمال يا جمل بعدي ... لو صلت الوصال بعد أيعبد
زعمت أنني شغفت بد عد ... جمل فاستأثرت بلى وصد
ما لها أعرضت ولم آت ذنباً ... غير أني علقت منها بود
كل حال يجل ما شئت فيها ... غير رفض الهوى وصد ورصد
حادي العيس سر بسربي لسرب ... بالمصلى لهم جوامع عهدي
حبهم في جوانحي مستجن ... في ضمير بدا وما كدت أبدي
نم دمعي به فنم شجوني ... ظاهر مخبر بباطن وجدي
ليت شعري وما شعرت أغيري ... مغرم في الغرام أم أنا وحدي
لم أجد حيلة فحيلة وجدي ... وجدد مع خد أخدود خدي
وقوله من أخرى مستهلهاً:
ظل ظل الهوى بنعم مقيماً ... فأقمنا به فكان النعيما
ورأينا ولا نرى الصد يسمو ... في معالي الكمال وجهاً وسيما
يا خليلي أن تر وما فر وما ... غصن بان إذا تثنى وريما
يصحب الصحب بالتكرم فيهم ... بابنة الكرم مكرماً ونديما
وأكسبا المجد ما احتسى الراح روح ... وأكتسى الروض عن نسيج نسيما
وإذا الغانيات غنتك فاغنم ... من بنات العريب صوتاً رخيما
غادة غادرت دموعي غديراً ... دائراً حائراً وصبري عديما
جمعت في القوام ضدين فأعجب ... عجزاً رابياً وكحشاً هضيما
أوهنت قوتي فأقوت هيولاي ... وبادت فصرت هشاً هشيما
لزمت قولها ففارقت قومي ... قائماً اقتضى القوام القويما
ورنت باللحاظ في كسر جفن ... ظل يهدي إلى حشاي الجحيما
ففؤادي بها السليم بلدغ ... لا تظنن ذا السليم السليما
ومشت في الربى فاربت على ما ... ماس من غصنها فأمسى خديما
وأمالت مثل الرديني قداً ... منه بثت في الروض عرفاً شميما
بعثت طيفها لطيفاً وودت ... لو يكون الرسول عنها النسيما
علمت أنني سقيم فأهدت ... لي من حسنها مثالاً سقيما
فتنبهت لم أجد فلو جدى ... في لطيف جعلت خدي لطيما
وتخيلت في البروق ضياء ... هو كالطيف فاغتديت مشيما
فر مني من ليته قر حتى ... أذكر العهد في سليمى القديما
ما على من على الهوى من جناح ... لزم السهد أم أتى التهويما(3/75)
حالتاه أجهدناه فاما ... يرصد الطيف أو يناجي النجوما
يحسب العاذلون أني إذا ما ... لج بي الشجولا أكون الكتوما
إنما الشعر حكمة يصطفيها ... مصقع مدره يسمى الحكيما
ومنها في المديح:
ورأى البدر منه في الأرض بدراً ... فأرتضى أن يكون عيداً خديما
من يكن رائماً سواه فأني ... عن حماه وحمده لن أريما
وقلوب الورى تداخل وداً ... فسليم الفؤاد يهوى السليما
كحروف الإدغام تدغم في المث ... ل وقد يدغمون في الفاء ميما
صاح من لوعتي توالت همومي ... منهم والهموم تعزي الهموما
طال مدحي لهم و ما نلت إلا ... مدح مدحي فظل برئي سقيما
فكأني أسلفتهم نقد لفظ ... فرأوا رد جنسه تسليما
منها:
أيها المبتغى العباب ليروي ... من صداه ويغبق الشغموما
صد عن غيره وعرج وعود ... عودك الوخد نحوه تسقيما
وترحل عما سوى أرضه وأر ... ض بأرض يكون فيها مقيما
وإذا لم يكن من السعي بد ... فالرحيل الرحيل أبغى الرحيما
وله غير ذلك وكانت وفاته بمصر يوم الخميس حادي وعشرين شوال سنة تسع عشرة وألف والبليني بضم أوله ثم لام ساكنة بعدها تحتية مفتوحة نسبة لبلينة بحري هو بلد من الصعيد.
الدرعي العربي محمد بن ناصر الدرعي العربي النحوي اللغوي الناظم مجدد الطريقة الشاذلية مربي العلماء والفقهاء بركة المغرب صاحب الكشوفات وأوحد الدهر أجمع أهل المغرب على جلالته وعظم قدره وما أظن أحد أبلغ رتبته في الاشتهار عندهم فأني كثيراً ما أسل عنه آحاد المغاربه فيبادروني بذكر فضائله وولايته بأول وهلة ولا أراهم في وصف غيره كذلك وكانت وفاته في سنة خمس وثمانين وألف رحمه الله تعالى.
الصالحي الهلالي محمد بن نجم الدين بن محمد الملقب شمس الدين المعروف بالصالحي الهلالي الدمشقي الأديب الكاتب المنشي الشاعر المشهور فرد الزمان وأوجد الأوان ولد بدمشق وقرأ بها القرآن ثم توجه إلى مكة المشرفة وقرأ بها الفقه على الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي وعلى الشيخ عبد الرحمن بن فهد وعلى القطب المكي الشهر وأني ثم قدم دمشق بعد وفاة والده في سنة أربع وستين وتسعمائة وقرأ بها النحو والمعاني والبيان على العماد الحنفي والشهاب أحمد المغربي وتفقه بالنور النسفي المصري نزيل دمشق وبرع في الفقه والتفسير والأدب مع الذكاء الفرط وحسن الفهم ولزم العزلة في حجرة بالمدرسة العزيزية وكان في الغالب يكتب تفسير البيضاوي وخطه في غاية الجودة ومشهور حق الشهرة خصوصاً في الروم فإنهم يتغالون فيه وكان جمع مالاً عظيماً ولم يتزوج مدة عمره وكانت له أخت متزوجة في طرابلس الشام فسافر لزيارتها في سنة ثمان بعد الألف فأجتمع هناك بالأمير علي بن سيفا فجعله في مدة إقامته بطرابلس معلماً لولده الأمير محمد السيفي فكان ذلك سبباُ لإقامته بطرابلس مدة ومدح الأمير علياً وأخاه الأمير يوسف بقصائد طنانة ثم رجع إلى دمشق والذي تخلص فيه من القول أنه أبلغ بلغاء عصره وأفصح فصحاء دهره لم تكتحل بمثله عين الزمان ولم يبتسم لنظيره ثغر العرفان وقد ذكره الخفاجي وأثنى عليه كثيراً وهو أخذ عنه الأدب ثم قال في ترجمته وكان رحمه الله تعالى من سنته الاعتزال عن الناس وتقديم الوحشة على الاستئناس عاملاً في أواخر عمره بقول علي رضي عنه بقية عمر المرء لا ثمن لها يدرك بها ما فات ويحيي ما مات وقد عقده البستي بقوله:
بقية العمر عندي ما لها ثمن ... وإن غداً خير محبوب بلا ثمن
يستدرك المرء فيها ما أفات ويحي ... ي ما أمات ويحيى السوء بالحسن
ومن شعر العلامة الزمخشري قوله في هذه البقية:
خربت هذا العمر غير بقية ... ولعلني لك بالبقية عامر(3/76)
وأشعاره ومنشآته كثيرة وله ديوان في مدح المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام سماه صدح الحمام في مدح خير الأنام ذكر فيه تسعة وعشرين قصيدة مرتبة على حروف المعجم وقد ذكر في ديباجته نبذاً من صفاته ومعاهد أنسه ولذاته ومسارح آرام أترابه ولداته قال في فضل صدره انني لما نشأت بمكة المشرفة والأماكن التي هي بالجوزاء ممنطقة وبالثريا مشفة وقد كساني الزمان قشيب بروده وطفت فيها ما بين عقيق الحمى وزروده وغصن الصبا بأيام السعادات مورق وبدر الشباب في سماء الكمالات مشرق خلي البال منفى البلبال لا دأب لي إلا موسم وفود العلوم في سوق عكاطها ولا شغل لي إلا أستكشاف وسائم وجوه المعاني المخبأة تحت براقع ألفاظها أستمري من أخلاف الأئمة المشايخ در الفهوم وأستخرج من بحر كل حبر راسخ در العلوم أفاضل أمتطوا من سائر العلوم غوارب الإنتاج وأماثل فاضت بحور علومهم كما يفيض البحر المتلاطم بالامواج أغترفوا من حياض المعارف نمير الحقائق وأقتطفوا من رياض الآداب ثمرات اللطائف والرقائق لو سمع قس فصيح لغاتهم لادركه العي بسوق عكاظ ولو شاهدهم سحبان لولي يسحب ذيله خجلاً من جزالة المعاني ورقة الألفاظ شموس فضائلهم لم تزل دائمة الطلوع ومزن أدبهم ما أنفك بقطر النظم والنثر هموع ثم لما قضى الله بحمل عصا الترحال وشد الأقتاب وحلول إنتاج الإجمال وبطلت حركة ذلك الدور وتنقل الزمان من طور إلى طور أعملنا حروف النجائب تنض بنا البيداء في سراها ولطمنا خد الأرض باخفافها إلى أ، براها السرى في براها فكم جاوزنا جبالاً شوامخ زاحمت بمناكبها أكتاف السحائب وذرعنا بأذرع الناجبات شقة فقر فلم تطو إلا بأيدي الركائب وكم جسرنا بالجاسرات على ملاقاة زنجي الظلام وكلما راعنا أشرعنا إليه من الكواكب أسنة وسللنا عليه من البرق حسام إلى أن بدت لا عيننا قباب المصلى كالفوانس وشاهدنا عروس الشام تنجلي في سندس الملابس وحق للمسافر أن ينشد البيت السائر
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
فنزلنا بأرض دمشق المحروسة وحللنا رحابها المأنوسة فعكفت على ما كنت بمكة عليه وفوقت سهام عزمي إلى غرض كان مرماي قديماً عليه من إقتناص الشوارد وتقييد الأوابد وصادفت بها سادة أئمة وقادة يهتدى بنورهم في ظلم الجهل المدلهمة أعيان مجد يشار إليهم بالأصابع وأقران فضل لا طاعن فيهم ولا مدافع وصدور علم تتجمل بهم صدور المجالس إذا ألتفت عليهم المجامع وآساد بحيث يتضاءل لصولتهم كل معاند منازع وفرسان كلام في ميدان نثر ونظام أشرقت شموس فضائلهم في أفلاك السعود ونظموا في سلك الفضائل كنظم الدر في أسلاك العقود رياض آداب كلها زاهر وبحار علوم كلها لآلئ وجواهر وقال
قد انتظموا في سلك فضل قلادة ... وكلهم وسطى وناهيك من عقد
فصحبتهم برهة من الزمان ونظمت من منثور فضائلهم قلائد العقيان ثم أن غالب هؤلاء الذين أخيراً ذكرتهم وحلبت أشطرهم في حال الصحبة وخبرتهم راسلته وراسلني برائق شعره وسجعه وأدرت كؤس قوافي شعري على أفواه سمعه ومنهم من مدحته لا رغبة في نواله ولا طمعاً في الارتواء من سجله يوم سجاله بل تلوت عليه غرائب أسماري استقداحاً لزناده وزففت إليه عرائس أفكاري استجلاباً لوداده.
فهن عذارى مهرها الود لا الندى ... وما كل من يعزي إلى الشعر يستجدى
ثم عن لي وارد رباني وخاطر إلهي رحماني سار بذكرى في مجاز الحقيقة وأشهدني عقبى الأمور السحيقة فرأيت كل قول لا ينفع صاحبه غداً فهو من زخرف القول الفاني وعلمت يقيناً أن هذه الشقاشق لا تعقب في الآخرة سروراً ولا تهاني وقوي العزم على أن أقدم بين يدي مقدمة من نتائج الفكر وحجة يقضي العقل بصحة ثبوتها لتضمنها مدح خير البشر عسى أنها إذا قبلت تكون وسيلة إلى الفوز بالنجاة وكفارة لذنوب اكتسبتها وجرائم اقترفتها أيام الحياة وظني إنها من القضايا المنتجة وان أبواب القبول مفتوحة لها غير مرتجه قلت وكل قصائده هذه جيدة لكن تعجبني هذه الرائية ومستهلها قوله:
يا ثاني الغصن من قد له خطر ... ومفرد الحسن ها قلبي على خطر
ويا مديراً علينا من مراشفه ... سلافة الراح في كأس من الثغر(3/77)
لا تحبس الراح عمن راح ذا علل ... شوقاً لورد اللملي من ريقك الخصر
يا صاحبي بنعمان الاراك خذاً ... عن يمنة الحي أو كونا على حدر
فمرصد الحب حيث الغصن منعطف ... ومكمن الموت بين الورد والصدر
وحيث مسرح آرام رعايتها ... حب القلوب بسفح الأضلع الشعر
من كل ريم يصعد الأسد ناظره ... ويكسر الجفن يوم الروع من حور
منها:
يا ثبت الله قلب الصب حين دنا ... من موقف يستطير العقل بسفح الأضلع الشعر
منها:
وقد تسر بل درع الصبر سابغة ... وراح في السير بين الأمن والحذر
منها:
ما كنت أدري بأن الحب ذو محن ... حتى ابتليت وليس الخبر كالخبر
أمسي وداء الأماني لا يفارقني ... إن الأماني تضني القلب بالذكر
والجسم قد رق من ضعف ومن سقم ... حتى تشكي مسيس القمص والأزر
والجفن لم يعرف الإغماض مذ عقدت ... بحاجب منه أهداب من الشعر
كم قلت للقلب من خوف عليه وقد ... أمسى بحب ظباء البدو في فكر
أنهاك أنهاك لا آلوك معذرة ... عن نومة بين ناب الليث والظفر
فما أصاخ إلى قولي وموعظتي ... حتى رمي من صروف الحب بالغبر
أن تمس يا قلب من قتلي الهوى فلكم ... ملوك عشق هووا من أرفع السر
وغير بدع فلك الحب سطوته ... تصير الأسد أشلاء الظباء العفر
يا ظبي أنس له فتك الأسود ومن ... لو لاه لم ألف ألف الهم والغير
كف الإغارة عن قلب به فتكت ... سيوف لحظ صحيح الجفن منكسر
ما إن يمر به يوم بلا نصب ... ولا يباح له صفو بلا كدر
سليته يوم ملقانا بذي سلم ... حيث الخزاما وبنت الضال والسمر
وها أنا مستجير من هواك بمن ... أجار ظبي الفلا المختار من مضر
منها:
سائل قريشاً غداة النفع حيث رموا ... بعارض من زوام الموت منهمر
وكيف أضحوا جفاء عند ما غرقوا ... بسيل خيل جرى في الاخذ منحدر
كأنما الخيل في الميدان أرجلها ... صوالج ورؤس القوم كالاكر
وقوله أيضاً من الطائية وأولها:
سقى طللاً حيث الإرجاع والسقط ... وحيث الظباء العفر ما بينها تعطو
هزيم همول الودق مرتجس له ... بإفنائه في كل ناحية سقط
ولو أن لي دمعاً يروي رحابه ... لما كنت أرضى عارضاً جوده نقط
ولكن دمعي صار أكثر دماً ... فأني يرجى أن يروي به قحط
هذا كقول مهيار:
بكيت على الوادي فحرمت ماءه ... وكيف يحل الماء أكثره دم
وكقول الأبيوردي أيضاً في المعنى:
سقى الله ليل الخيف دمعي والحيا ... أريد الحيا فالدمع أكثره دم
رجع:
ولما رماني البين سهماً مددا ... فأقصني والحي ألوي به شحط
نحوت بأصحابي وركبي أرجاعا ... فلا دفل يلفي لديها ولا خمط
وجئنا دياراً لو تصدت لقطعها ... روامس أرياح لاعيت فلم تخط
منها:
سريت وصحبي قداد يرت لديهم ... سلاف كروي العيس في سيرها تمطو
وقد مالت الاكوار وانحلت البري ... لطول السري حتى فري الالسع الغط
كأنا ببحر الآل والركب منجد ... ونحن ببطن الغور نعلو وننحط
كمثل غريق ليس يدري سباحة ... وقد صار وسط الماء يبدو وينغط
وقفنا برسم الربع والربع خاشع ... نسأله عن ساكنيه متى شطوا
فلو أن رسماً قبله كان مخبراً ... لقال لنا ساروا وبالمنحني حطوا
كان قناء الربع طرس وركناً ... صفوفاً به سطر ورسماً به كشط(3/78)
رعى الله طيفاً زار من نحو غادة ... وحيا وفود الليل ما شابه وخط
فحييت طيفاً زار من نحو أرضها ... ومن دونها والدار شاسعة سقط
فيا طيف هل ذات الوشاحين واللمى ... على العهد أم ألوي بها بعدنا الشحط
وهل غصن ذاك القد يحكي قوامه ... إذا خطرت في الروض ما ينبت الخط
وهل ذلك السبط المرجل لم يزل ... يمسج فتيت المسك من بيئة المشط
وهل عقرب الصدغين في روض خدها ... لشوكتها تحمى وروداً به تغطو
وهل خصرها باق على جور ردفها ... فعهدي به قدما وما ذقته اسفنط
وهل حجلها غصان من ماء ساقها ... وهل جيدها باق به العقد والقرط
وهل ريقها كالخمر يا صاح مسكر ... فعهدي به قدما وما ذقته اسفنط
وهل ردنها والذيل مهما تفاوحا ... يضوعان عطراً دونه المسك والقسط
وهل سرها ما ساء عشاق حسنها ... وقد نزفوا للبسين دمعاً وقد أطوا
وهل نسيت ليلاً وقد دار بيننا ... حديث كمثل الدر سمعي له سفط
وهل علمت أني نظمت قلائداً ... فما عقدها في الجيد منها ولا السمط
قلائد في وصف الذي طوق الورى ... عوارف مثل البحر ليس له شط
وقوله أيضاً من الفائية وأولها
أجيراننا الغادين والليل مسدف ... عساكم لمضني القلب أن تتخلفوا
وركب طلاح صاحبوا النجم في السرى ... ترامي بهم في السير بيد ونفنف
نضوا منهم في السير عزما كمرهف ... وأنضوا قلاصاً في المفاوز تعسف
يخوضون بحر الآل يطغى عبابه ... وطور أدياجي الليل والليل مسدف
كان المطايا والاكلة فوقها ... سفين بأيدي الأرجيات عيدف
كأنهم قد عاقدوا العبس حلفة ... على أنها في كل بيداء توجف
إلى أن يروا تلك القباب التي بها ... شفيع الورى ذاك النبي المشرف
وقوله أيضاً من الكافية
يا ربة الحسن لو تممت حسناك ... لعدت مضني وما أضناه الاك
لا بدع في الشرع عود الصب ذي دنف ... وكيف والصب يا ضمياء مضناك
لا تعجبين وقد أسقمت مهجته ... والعاشقون وأهل الحي قتلاك
ترمين أسهم الحاظ تفوقها ... إذا نظرت إلى العشاق عيناك
كفى لحاظك أن شئت البقاء على ... هذا الأنام أطال الله بقياك
لحظي ولحظك ما زالت فعالهما ... تحكى فعائل سفاح وسفاك
حذرت قلبي مما قد ألم به ... كأن تحذير هذا القلب أغراك
هل تلمين بأن القلب في قلق ... شوقاً إليك وأن القلب يهواك
لولاك ما بت أرعى النجم ساهرة ... مني العيون حليف الوجد لولاك
لما خطرت بقد كالقنا خطرت ... ذكراك في قلب صب ليس ينساك
وكيف ينساك صب ماله شغل ... في كل صبح وليل غير ذكراك
أبعدت صبك إذ قربت ذاهلة ... من لا يزال مدى الأيام يشناك
كأنما المبغضون الأصدقاء غدوا ... والأصدقاء وأهل الحب أعداك
نصبت حبة قلبي والضلوع غدت ... مني كأشباه أفخاخ وأشراك
ورمت صيدك يا أخت الغزال فقد ... غدوت والقلب والإشراك أسراك
فأضلعي المنحنى إذ تنزلين بها ... وحبة القلب إذ ترعين مرعاك
وها أنا اليوم عبد طائع فمري ... يسمع وأرضاي فيما فيه أرضاك
سلطان حسنك نادى في ممالكه ... وهي القلوب بأنا من رعاياك
ملكت قلبي فارعي حق صحبته ... بعين عطف فعين الله ترعاك
هل تسمحين بورد الثغر منك لنا ... أو هل يجود بنفثات اللمى فاك(3/79)
قال الأراك وقد حاس الشفاه ولم ... يجسر ليدنو منها غير مسواك
سألتها ما الذي بين الرضاب أذا ... حصباء در وإلا ذا ثناياك
يا ربة الخدر جاد الغيث تبعاً ... قد ضمنا فيه جنح الليل مغناك
حيث العفاف رقيب ما يزايلنا ... وحيث مغناك معمور بمعناك
وجاد سلعاً وقبراً أرضه شرفت ... على سماء وجنات وأفلاك
به استقر الذي فاق الأنام علا ... وساد حتى على جن وأملاك
وقال رحمه الله تعالى من قصيدة طويلة مطلعها هذا
أذكرت ربعاً من أميمة أقفرا ... وأسلت دمعاً ذا شعاع أحمرا
أم شاقك الغادون عنك سحيرة ... لما سروا وتيمموا أم القرى
زموا المطى وأعنقوا في سيرهم ... لله دمعي خلفهم يا ما جرى
ما قطرت في السير أجمال لهم ... إلا ودمعي في الركاب تقطرا
فكأن ظهر البيد بطن صحيفة ... وقطارها فيه تحاكى أسطرا
وكأنها وهوادجا قد رفعت ... سفن ولمع الآل يحكي الأبحرا
شكت الركائب من حثيث مسيرها ... وونين من جذب الأزمة والبرا
رحلوا وما عاجوا على مضناهم ... واها لحظي كيف كنت مؤخرا
إن كان جسمي في الديار مخلفاً ... فالقلب معهم حيث قالوا هجرا
لم يأل جهداً في المسير لعله ... يحظى بقرب أو يموت فيعذرا
وقال أيضاً رحمه الله من أخرى على وزنها ورويها مطلعها
ما لاح في أفق المحاسن أو سرى ... إلا حمدت بليل طرته السرى
عقد الإزار على كثيب في نقا ... فغدا اصطباري عنه محلول العرى
لا تذكر الغزلان عند كناسها ... معه فإن الصيد في جوف الفرا
ومن بدائعه رحمه الله تعالى هذه الثمانية الأبيات ولها سبع قواف تقرأ على ثلاثة عشر وجهاً بلا كلفة وتبلغ بالتداخل إلى مائتين وستة وخمسين وجهاً وبإمعان النظر والتداخل وبالضرب تبلغ أربعة آلاف وستة وسبعين وجهاً ويخرج منها محمد زريق مرتين وبالجملة فهي من محاسن النظام وهي هذه
ملك الجمال بحسنه لما انثنى ... هذا الرشا من تيهه متأودا
حاز الملاحة يا له قلبي سبا ... ريقاً حمى حاوي الرضاب مبردا
من لحظ بابل جفنه إذ قدرنا ... متحرشاً ماضي الحسام مجردا
دمع الكئيب أساله فله صبا ... بدر سما دع عنك رشدي والهدى
زاد الحزين بغينه وهي المنى ... لما مشى زين المحاسن قد بدا
ريم يفوق غزاله بين الربى ... عذب اللمى رشأ ربيباً أغيدا
يهوى الخلود بسجنه مما جنى ... أضنى الحشى يبغي الهلاك تعمدا
قلب إليه أماله وله نبا ... وجد نما قاسى الفؤاد به الردى
قال الخفاجي في الخبايا وكنت كتبت إليه قصيدة تائية من شعر الصبا تنبه بها في صباح العمر نسيم الصبا كما قال الباخرزي هي التمر باللباب بل هي باكورة ثمار الآداب بل الروض النضير الذي سقى من ماء الشباب وكنت لما مدحته نوه باسمي وجرى من الكرم على رسمه فوق رسمي كتبت إليه فصلاً منه قولي سيدي وأنت أنت وأنا أنا إن أصبت الغرض فبباعك استعنت وكيف لا يعلو شهاب تنوه بذكره وتشرق بأنوارك السنية سماء قدره وحق شعر أنت له راويه أن يبيت لكل بيت منه في القلب زاويه ويطا بأخمصه هامة النجوم ويرفرف طائر يمنه على نسر السماء ويحوم كما قال شيخ المعرة في المعنى
والنحل يجنى المر من نور الربى ... فيصير شهد في طريق رضابه
أو كما قال قاضي تستر والشيء بالشيء يذكر
شعري وأنت له الراوي لرفعته ... الشعرى وشعرى شعرى حيثما رويا
والبحر يلفظ دراً كان واقعه ... في أذن أصدافه قطراً إذا رعيا
أو كما قال أيضاً
أخذت قولي معوجاً وتورده ... على الورى مستقيماً حيثما اجتليا
كالشمع يقبل نقش الفص منعسكاً ... مكتوبه ليريه الناس مستويا(3/80)
فأجاد وجاد وصفا من قذى الكدر موارد الوداد ثم أورد قصيدته التي راجعه بها برمتها ومطلعها هذا
طالت وقد قصرت عنها العبارات ... وحازت الحسن هاتيك البراعات
يقول فيها
غراء فائقة باللطف رائقة ... تحلو الخلاعات فيها والصبابات
أخت الغزالة إشراقاً وملتفتاً ... لها لدى السمع لذات ونشوات
ثم ذيل القصيدة بقوله تذييل في حسن الختام من البديع الاستخدام كقوله أخت الغزالة الخ إلا أن هنا فائدة ينبغي التنبيه عليها وهو أن المذكور في البديع هو الاستخدام بالضمير وهو معروف وهو لا ينحصر فيه فيكون باسم الإشارة وهو ظاهر وقد يكون بالتمييز كقوله إشراقاً وملتفتاً وهو مصدر لا ضمير فيه وقد أغرب سيدنا العارف بالله تعالى عمر بن الفارض قدس الله روحه إذ استخدم بالاستثناء في قوله رضي الله تعالى عنه أبدا حديثي ليس بالمنسوخ إلا في الدفاتر انتهى قلت لكنه في استعماله الغزالة بمعنى الظبية اعتراض مشهور وزبدته أن الغزالة لم يسمع إلا بمعنى الشمس في أول النهار إلى الارتفاع وأما في مؤنث الغزال فلا يقال غزالة بل ظبية وقد غلطوا الحريري في قوله فلما ذر قرن الغزالة طمر طمور الغزالة وقالوا لم تقل العرب الغزالة إلا للشمس وقد رد هذا الدماميني في حاشيته على شرح لامية العجم للصلاح الصفدي وأورد له شواهد كثيرة انتهى قال البوريني وكان الصالحي المذكور يعادي معاصره أحمد العناياتي المقدم ذكره فيذمه ويقدحه ويؤلمه ويجرحه عملاً بما عليه الأقران من التحاسد والخذلان وكان إذا أغضبه ينكر حسبه ويستلئم نسبه ويقول هذا من سبتيات مكة وكان في وقت الرضا ينكر معرفته ويبدي نسكه وما كان ذلك إلا للحسد الذي لا يخلو منه في الغالب جسد لاسيما أهل الفضائل فإن الحسد عندهم مركوز في الطبائع غير زائل وكان العناياتي أيضاً يسب الصالحي المشار إليه وكان شديد البغض له والتحامل عليه كنت يوماً ماراً في بعض أزقة دمشق فصادفته فقال لي هل سمعت بالخراع الذي أبداه محمد الصالحي فقلت له إلام تشير وعلى أي كلام تبدي النكير فقال إنه يقول في مطلع مرثيته لشيخك العلامة العمادي الحنفي الدمشقي
لم أقض من يوم الفراق شؤني ... فقضيت إن لم أجر ماء جفوني
قال انظر إلى عدم الرابطة بين المصراعين وأي مناسبة بين الجزءين هذا مع كونه مأخوذاً من قول مهذب الدين الموصلي أخذه أخذاً شنيعاً وسرقه وكساه ثوباً فظيعاً لا وشياً بديعاً ولا زهراً أظهره الزمان ربيعاً فقلت كيف قال مهذب الدين في نظمه المهذب فأنشدني له مطلع قصيدة منضدة من الدرر فريدة وذلك
أعلمت حقاً أن ماء شؤني ... سبب يدل على خفاء شؤني
قال حشفا وسوء كيله إنها خطة سوء في أسوأ قبيلة وأنكر عليه كثيراً من معانيه وغط في شيء من مستهجن مبانيه قلت أما مناقشته في المعاني فغالبها مسلمة وأما مناقشته في الألفاظ فكالسيوف المثلمة ليست عندنا بمقبولة ولا عن الأعلام منقولة فأقول أما قوله أخذه من قول المهذب إن أراد أنه أخذ لفظي الشؤن فسلم له ولا محذور فيه إذ الألفاظ ليست بملك لأحد وإن أراد أنه أخذ المعنى فقد أبعد وأما قوله لا رابطة بين المصراعين فليت شعري إذا كان لم أقض دليل جواب الشرط على أن يكون المعنى إن لم أجر ماء عروق دمعي لم أقض من يوم الفراق أموري فمت والمرء إذا لم يقض أموره التي لابد منها يكون معدوماً أي وصمة فيه على أنه يروي إذ مكان ان فالارتباط حينئذ أجلى من الجلي والعجب من البوريني كيف رافقه ووافقه ويغلب على ظني أنه في هذا المعرض نافقه وأعجب من هذا أنه قال بعد ما نقل كلامه نعم إنه رأى له ضبطه في كتاب خطه وهو ديوان الأستاذ سيدي عمر بن الفارض قدس الله سره العزيز عند قوله في تائيته الكبرى المسماة بنظم السلوك حيث قال رضي الله عنه
ففي مرة لبنى وأخرى بثينة ... وآونة تدعى بعزة عزت(3/81)
فإن الصالحي كتبها بعزة عزة وكتب اللفظين على صورة واحدة بالتاء المربوطة الصغيرة وذلك مخالف للصواب بل الحق كتابة الأولى بالتاء المربوطة والثانية بالتاء الممدودة على أنه فعل ماض وأن الجملة دعائية أي أعزها الله تعالى فإن هذا مما لا يسقط فضيلة فاضل مرتبة كامل وما من أحد سلم من عثرة لسان كيف والسهو والنسيان من عادة الإنسان فهذا العناياتي قالفي مطلع فائيته
قلبي على قدك الممشوق بالهيف ... طير على الغصن أو همز على الألف
فدق في بيته كما دق ثم تداركه الله تعالى بتوجيه أرق من كل شعرة وأدق فأما الاعتراض عليه فيه فهو أنه لا وجه لتشبيه القلب بالهمزة وهذا الاعتراض قوي وأما الجواب فيمكن أن يقال أنه لما شبهه بطير على غصن وهو كثير في الشعر نزله منزلة المحقق فبنى عليه تشبيهاً آخر كالترشيح له لأن الطائر على الغصن يشبه بذلك كما قال بعضهم في وصف قصيدة همزية وهو قوله
والقوافي إليك حنت حنيني ... فتأمل فهمزها ورقاء
وهذا الجواب للخفاجي وهو غريب جداً وبالجملة فالصالحي والعناياتي في الأدب فرسا رهان وطليقا عنان وإن أربى الصالحي في المشاركة في الفنون العلمية والتفوق بحسن الخط التعليق والعراقة في الجملة وكانت ولادته في دمشق في سنة ست وخمسين وتسعمائة وتوفي نهار الاثنين تاسع عشر صفر سنة اثنتي عشرة بعد الألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى.
محمد بن نعمان بن محمد بن محمد الشهير بالإيجي الدمشقي الشافعي العالم العامل التقي كان من الفضل في رتبة علية وكان حسن الأخلاق مرضي الشيم قرأ على العلامة أسد الدين بن معين الدين التبريزي الدمشقي وعلى الشمس بن المنقار والجد القاضي محب الدين وحاز الأدب والعلم والحلم ودرس ببعض مدارس دمشق وأفاد وقرأ عليه جماعة وكان جيد الخط قوياً على الكتابة بالضبط الصحيح وكتب كتباً كثيرة وحواشي عديدة وتزوج بابنة نقيب الأشراف السيد حسين بن السيد حمزة ولد له منها ولدان وهما أحمد وتقدم ذكره ويحيى وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وكانت وفاته في شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وألف ودفن بالإيجية بسفح قاسيون والإيجي تقدم الكلام عليه في ترجمة ابنه أحمد انتهى محمد بن نور الدين المعروف بابن الدرا الدمشقي الشافعي الأديب الشاعر المطبوع كان من أنبل أبناء وقته فاضلاً ممتع المحاضرة معاشراً مسلوب الاختيار مغرماً بالجمال كثير الهيام والتعشق ولهذا رق شعره وعذب موقعه فإن من شفه الغرام يأخذ منه ويدرك مراميه فيه وعلى كل حال فما أراه إلا محسناً في غزلياته وإن لم يطل باعه في الشعر وأنواعه قرأ العربية على شيخنا النجم محمد بن يحيى الفرضي وحضر دروس النجم الغزي وكان قبل ذلك حضر دروس الشيخ عبد الرحمن العمادي وتفوق من حين نشأته وشاع فضله وبحث وناظر ونظم وقد وقفت له على أبيات من بحر الرجز كتبها إلى العمادي المفتي المذكور يسأله فيها عن بيت الأستاذ ابن الفارض رضي الله تعالى عنه في قصيدته الكافية وهو قوله
ومر الغمض أن يمر بجفني ... فكأني به مطيعاً عصاكا
والأبيات هي هذه
ماذا يقول جهبذ الجهابذة ... وكعبة الطلاب والتلامذه
حبر العلوم صاحب التحقيق ... بحر الندى ومعدن التدقيق
مفتاح إيضاح المعاني من غدا ... كنزاً لمن رام الهدى ومقصدا
هداية الفحول والأكابر ... رقى على الأشباه والنظائر
شيخ على مشايخ الإسلام ... وصاحب الإفتاء للأنام
في قول شيخ الوقت والحقيقه ... أستاذ أهل الله في الطريقه
أعني به ابن الفارض السالك في ... مراتب الرقى في التصوف
في فكاني حيث جاء بعده ... به مطيعاً سؤلنا ما قصده
أبن لنا إعرابه والمعنى ... وفز بتكرار الدعاء منا
واعذر فعن ضرورة سؤالي ... لازلت ترقى في رتب المعالي
فأجابه بقوله
يا فاضلاً أدى لنا أرجوزه ... بديعة بليغة وجيزه
لا غرو حيث إنه ابن الدرا ... فهو بأنواع الفنون أدرى
وجده الولي ذو مناقب ... رويتها عمن رواها عن أبي(3/82)
عليهم الرحمة والرضوان ... ثم بهم يرحمنا الرحمن
سألت عن بيت الولي الفارضي ... روحه الله بفضل فائض
لكونه من معضل الأبيات ... معنى وإعراباً لدى النحاة
أما كأن فهي للتقريب ... إن شئت فانظر مغني اللبيب
فقد حكى الأقوال في إعرابها ... وكلها غريبة في بابها
ذكرت بعض أوجه لطيفه ... منها وأعرضت عن الضعيفه
ثم قرنت بالوجوه المعنى ... مناسباً لما عليه يبنى
وذاك وسع طاقة الإمكان ... في فهم قول العارف الرباني
أو ردته نثراً لضيق النظم ... مرتجياً تقريبه للفهم
معترفاً بالعجز والتقصير ... في مثل هذا المسلك الخطير
ثم ختمته بحمد ربي ... مستعفياً مستغفراً لذنبي
مصلياً مسلماً على النبي ... القرشي الهاشمي العربي
وآله وصحبه الأبرار ... وتابعيه السادة الأخيار
وقال ذاك أضعف العباد ... عبيد رحمن الورى العمادي
اعلم إن كان في البيت حرف تقريب على رأي الكوفيين مثلها في قولهم كأنك بالشتاء مقبل وكأنك بالفرج آت وكأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل وقول الحريري من قصيدته الفريدة من مقاماته المفيدة
كأني بك تنحط إلى الجهد وتنغط ... وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم
وقد اختلف النحويون في إعراب ذلك على أقوال أقواها قول أبي علي الفارسي إن الكاف في كأنك حرف خطاب والياء في كأني حرف تكلم لا محل لها من الإعراب والباء بعد هما زائدة والمجرور بها محله النصب على أنه اسم كان التقريبية والجملة بعدها خبر ثم الألطف من تلك الأقوال قول الإمام أبي الفتح ناصر الدين المطرزي النحوي الفقيه الحنفي خليفة الزمخشري أن أصل الكلام كأني أبصر الدنيا لم تكن وكأني أبصرك تنحط ثم حذف الفعل وزيدت الباء ونقول التقدير كأنك تبصر بالدنيا أي تشاهدها من قوله تعالى فبصرت به عن جنب والجملة بعد المجرور بالباء حال والمعنى كأنك تبصر بالدنيا وتشاهدها غير كائنة انتهى وهذا من الرضى انتصار لمذهب البصريين في إنكار إفادة كأن معنى التقريب وإبقائها في مثل هذه الأمثلة على معنى التشبيه الأصلي فنقول في إعراب البيت على قول أبي علي الياء في كأني حرف تكلم لا محل لها من الإعراب والباء في به زائدة والهاء منصوبة المحل اسم كأن التقريبية وجملة عصاك خبرها ومطيعاً حال من فاعل عصاك والمعنى كأن الغمض عصاك في حال طاعته وسيأتي بيان صحة هذا الكلام إن شاء الله تعالى وعلى قول المطرزي الياء ضمير المتكلم منصوبة المحل اسم كان التقريبية وخبرها محذوف تقديرها أبصر والباء زائدة والهاء مفعول الفعل المحذوف وجملة عصاك حال من الهاء ومطيعاً حال متداخلة من فاعل عصاك والتقدير كأني أبصر الغمض عاصياً لك في حال طاعته وعلى قول الرضي الياء اسم كأن التشبيهية وخبرها محذوف وبه متعلق بالمحذوف والتقدير كأني أبصر بالغمض وأشاهده عاصياً لك في حال طاعته ومحصل المعنى المراد من البيت والله أعلم أن الشيخ أفاد في البيت الذي قبله وهو قوله رضي الله عنه
ذاب قلبي فأذن له ... يتمناك وفيه بقية لرجالكا(3/83)
إنه على شرف الفناء ولكن فيه بقية رمق يمكنه فيها تمني الوصال ثم سأل في هذا البيت إن لم يسمح بالإذن المذكور أن يأمر الغمض بالمرور بجفنه الآن حيث يمكن الغمض أن يطيعه في المرور ما دامت البقية موجودة لأنها إذا زالت انعدم محل الغمض بالفناء المحض فلا يمكن الغمض طاعته من المرور بالجفن بعد انعدامه ثم بين بقوله فكأني به الخ أن بقية الرمق وإن كانت موجودة الآن وطاعة الغمض ممكنة لكنها قريبة الزال وعلى شرف الاضمحلال حتى كأن عصيان الغمض لتحقق قرب وقوع الزوال واقع في حال طاعته الآن من غير إمهال فعلى كون كان تقريبية أفادت أن حال بقية الرمق التي يمكن فيها طاعة الغمض قريبة من حال الفناء التي يقع فيها عصيانه وتمتنع طاعته حتى كأنها واقعة فيها وعلى كونها تشبيهية أفادت أن حال قبية الرمق التي يمكن فيها الطاعة شبيهة بحال الفناء التي يقع فيها العصيان حتى كأنها هي وكأن العصيان الواقع في تلك الحالة مقارن للطاعة الواقعة فيها انتهى عود الذكر صاحب الترجمة وكان رحل إلى القاهرة وأخذ بها عن الشيخ سلطان ومن عاصره ثم حج وجاور وأخذ بمكة عن ابن علان الصديقي وترر له بعد ذلك السفر إلى مصر ومدح بها الأستاذ محمد ابن زين العابدين البكري بقصيدتين مطلع الأولى
خليلي حطا بالركائب في مصر ... سقاها وحياها الهزيع من القطر
والثانية
من لقلب من الهوى لا يفيق ... وعيون إنسانهن غريق
واجتمع به والدي بها في سنة ستين وألف ثم حج وجاور بمكة في سنة أربع وستين وعمل بمكة شرحاً على سقط الزند لأبي العلاء المعري وجعله برسم الشريف زيد بن محسن وصدره بقصيدة من نظمه ثم أدركه المرض بمكة ولم يكمل الشرح والقصيدة المذكورة مطلعها هذا
خذ يمين الحمى فثم بدور ... طلعت في دجى الشعور تنير
كل بدر يقله غصن بان ... مثمر بالدلال لدن نضير
فقدت قلبها المناطق فيه ... فهي حيرى على الخصور تدور
سلب الظبى لفتة ولحاظاً ... ظبي أنس مرعاه منا الضمير
كل لحظ إذا أشار بشزر ... فالمنايا تحل حيث يشير
وإذا شابه الرضى فحياة ... فهو حتف طوراً وطوراً نشور
خل عنك الرقى فسحر ظباه ... في نفوس الرقى له تأثير
إن نضاه فلا يقيك مجن ... ولو أن المجن منه ثبير
قد وحق الهوى وعهد التصابي ... أعوز العاشقين منه المجير
بيد أن تستجير بالحرم الآمن ... حيث الملاذ حيث النصير
حيث قطب الملوك في فلك ... المجد عليه زهر الفخار تدور
يقول في مديحها
شرف المشرفي حين رقى ما ... رصعته من الملوك الثغور
من بنان الشريف فهو على الهام ... إلى الله بالسجود يشير
في مقام تكاد هام عداه ... قبل أن ينتضي ظباه تطير
نظرة أحمدية حبذا من ... آية الرعب للشريف نصير
مع إمضاء عزمة هي في الحرب ... إذا طاشت العقول سعير
وتراه بالبشر يعرف إذ ذاك وقد ... أنكر العشير العشير
في بنان اليسار منه عنان ... الطرف والموت في اليمين أسير
موطئا ميم مهره عين أعداه ... وهم في طرس الوطيس سطور
لابساً لام طاعة ألف الخوض ... ببحر الهيجاء وهو صغير
حيث لا مهد غير سرج المذاكي ... وله هالة الشموس سرير
وهذه القصيدة من أجود شعره واكتفيت منها بهذا القدر لأن لها أخوات تذكر بقولهم لكل جديد لذة فمنها ما كتبه إلى بعض خلانه من أهل مكة المشرفة وهو قوله
فديناك من خل أرق من الصبا ... وأعذب من ترشاف كأس لمى الثغر
وآخذ للألباب من سورة الطلا ... وأنفذ فيها من مخالسة السحر
وأشهى إلى الأحداق من رونق الضحى ... بروض كسته الدر غادية القطر
وأبهج من روق الشباب وزهره ... وقد قذيت أجفان حادثة الدهر(3/84)
وأوقع للآمال من وصف معرض ... تميل الأماني إن يبيح سوى الهجر
من الترك في أحداقه طبعة الدجا ... وتشرق من أطواقه طلعة البدر
إذا خامرته نشوة الدل والصبا ... يريك المنايا من لواحظه الشزر
رقيق حواشي الحسن كالورد مترف ... يبرمه وحي الوشاح إلى الخصر
رخيم المعاني كالسلاف لطافة ... يكاد مع الأرواح من لطفه يجري
تدفق في خديه ماء جماله ... فاطلع ورداً في خمائله الخضر
ومال بعطفي بانة نقوية ... بريقته نشوان لا بطلاً من الخمر
يجر ذيول التيه فينا تصلفاً ... فيختلس الألباب منا ولا ندري
أما وسويعات لنا بوصاله ... نعمنا بها بالأمن من سطوة الهجر
لأنت على وفق المنى ورضا الهوى ... وإنك ملء العين والسمع والصدر
وليس لصهباء المدامة موقع ... إذا رحت تملي بيننا أكؤس الشعر
سأثني على الأيام ما دمت إنها ... رمتني إلى ما لم يجل قط في فكري
ولما نظم هذه القصيدة عتب عليه بعض الأدباء بمكة وقال إن فلاناً الذي مدحته بهذه لا يستحقها فكتب للمعاتب في الحال يقول له
يا من تنكر وهو كالنبراس ... أو تختفي اللألاء بين الناس
هون عليك فما كذلك من جرت ... منا إليه جداول الإيناس
وتسابقت أرواحنا لوداده ... مرتاضة ليست بذات شماس
فعلام أو فيم التناكر بعد ما ... هب التعارف طيب الأنفاس
إن كان ذلك من تجنيك اتئد ... فالقلب طود للتجني راسي
أو كان من طرف الدلال وتيهه ... فعلى محاجري القبول وراسي
لكن أرى في ضمن ما أرشفتني ... من كأس عتبك حسنها من كاس
عوض الحباب قذى يكدر ما صفا ... من سلسلبي مزاجها للحاسي
فالغض فيما بين إخوان الصفا ... من بعضهم من زينة الوسواس
وأعيذ جمعكم المنضد شمله ... من شر خلسته برب الناس
هذا وما نظمي القريض لأنه ... فخر أتيه به على الجلاس
لكن فيه للنفوس علالة ... تختار كالريحان للأكياس
لا تعتقد أني أراه صناعة ... وأعده من حليتي ولباسي
ما الفخر إلا بالعلوم وكسبها ... أفدي رقائقها بكل حواسي
فيها يجر المرء أذيا العلى ... وبغيرها عار وإن يك كاس
وأبيك لا أزهو بنسبة غيرها ... إني وتلك الرأس للرآس
ومن غزلياته أيضاً قوله
مال كالغصن حركته الشمائل ... يتثنى تيهاً بلطف الشمايل
رشأ دب في لواحظه الغنج ... وأضحى في طرفها السحر جائل
لست أدري أبابل هي هذي ... أم إليها بالسحر تنسب بابل
سل منها على القلوب سيوفاً ... ما لها غير عارضيه حمائل
تقتل الصب وهو يصبو إليها ... وعجيب ميل القتيل لقاتل
أهيف زانه الجمال ولاحت ... بين عطفيه للدلال دلائل
تخذ العجب عادة فحال ... أن يرى فيه للوصال مخائل
جذبتني ألحاظه فأطعت الحب ... فيه وقد عصيت العواذل
نحلتني فيه الصبابة حتى ... صار هذا النحول في مفاصل
خلته إذ بدا قضيباً ولكن ... كذبتني بما ظننت الغلائل
رمت منه وقد مددت إليه ... يد ذلي وصلاً ودمعي سائل
فانثنى والصدود يعطف منه ... عن وصالي عطفاً يهيج البلابل
فهجرت الكرى وأوصلت سهداً ... عنه قد كانت الجفون غوافل
أسهر الليل في مسامرة النجم ... ونجم سامرته غير آفل
يا رعى الله مهجتي كم تلاقى ... من قوام الحبيب والطرف ذابل(3/85)