حسن باشا الوزير صاحب اليمن كان من أعيان الوزراء أرسله السلطان مراد ابن سليم إلى اليمن في سنة ثمان وثمانين وتسعمائة فدخل إلى صنعا عاشر المحرم سنة تسع وثمانين وكان ذلك الوقت جبال اليمن وحصونها في أيدي الحكام من الأشراف الآتي ذكرهم كان حصن ثلا وحصن مدع وحصن نسور وبلادهم تحت حكم السيد علي بن يحيى بن المطهر ابن الإمام شرف الدين وكان حصن ذي مرمرو بلاده وبلاد الشرق تحت حكم السيد لطف الله بن المطهر وكان حصن غفار وبلاده في حكم السيد غوث الدين بن المطهر وحصن مبين وبلاد حجة في يد السيد عبد الرحم بن المطهر وحصن ظفار وبلاد الطاهر في يد السيد محمد بن الناصر الجونى وصعدة وبلادها في يد الإمام الحسن بن علي المؤيدي القائم في زمن مراد باشا وحصن كحلان وبلاده في يد السيد الحسن بن شرف الدين وكان الوزير المذكور كما قال الشاعر
إن المكارم والمعروف أودية ... أحله الله منها حيث تجتمع(1/360)
وكان عادلا وقورا عارفا خيرا راجحا مشكورا مهابا يحب الأشراف وينصفهم ومن أعجب الأمور إنه كان بعض أعداء آل المطهر حسن له التقبيح إليهم فقال لا أغير شيئا لآل الرسول ولا أرميهم بالنار رعاية لجدهم صلى الله عليه وسلم وفي دخوله إلى صنعا فكر ودبر في أحوال اليمن وشاور العقلاء وجالس ذوي الفطن ثم نهض لحرب ملوك اليمن ونحن نذكر من فتوحاته نبذة على جهة الاختصار فعين على العساكر كتخداه الأمير سنان وفتح حصن ظفار في سنة تسع وثمانين وتسعمائة وقبض على حاكمه السيد محمد بن الناصر الجونى وفتح حصن عمران في سنة تسعين وتسعمائة وحصن مدع في صفر وحصن ذي مرمر في ذي العقدة من السنة المذكورة وخرج إلى يده حاكم الحصن السيد لطف الله بن المطهر وفتح صعدة وبلادها في سنة إحدى وتسعين وتسعمائة وقتل حاكمها السيد أحمد بن الحسين المؤيدي وسلم الفقيه عبد الله بن المعافى حصن السودة طاعة للسلطان فكافؤه بالصنجق السلطاني وقررت بلاد السودة تحت يده وهي الآن تحت يد أولاده في سنة اثنتين وتسعين وفتح حصن ثلا في جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين وخرج إلى يده السيد علي بن يحيى بن المطهر وقبض على الإمام الحسن بن علي المؤيدي وفتح بلاده في شهر رمضان من السنة المذكورة من الصاب بجبل أهنوم من جبال الاهنوم وفتح حصن غفار في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة وخرج إلى يده حاكمه السيد غوث الدين بن المطهر وفتح بلاد الصاب في سنة ثلاث وتسعين وقبض الوزير حسن على أولاد المطهر المذكورين لأنهم بعد طاعتهم له لم يسكتوا على إثارة الفتن وأرسل بهم إلى الأبواب السلطانية وذلك في ذي العقدة سنة أربع وتسعين وهم الإمام الحسن بن علي المؤيدي وعلي يحيى ولطف الله وغوث الدين وحفظ الله ومحمد ابن الهادي الجميع آل المطهر وعين الوزير حسن باشا لفتح بلاد يافع كتخداه الأمير سنان سردارا على العساكر فتقدم على بلاد يافع في العشر الأوسط من ذي العقدة سنة ست وتسعين وتسعمائة فلم يزل الأمير سنان يغاديهم ويراوحهم بالحرب فكان بينه وبينهم ثلثمائة وقعة سجالا تارة لهم وتارة عليهم فأعطاه الله النصر عليهم وفتح بلاد يافع في سنة سبع وتسعين وتسعمائة وفتح حصن أحور وحصن الغراب ورجع سالما غانما في شعبان سنة تسع وتسعين وقد فتح اليمن بأسرها ولما استولى حسن باشا عليها وسكنت عنه الفتن وساعدته الأقدار ودانت له الأقطار ونامت عنه عيون الحوادث استكثر العساكر فشرع في تقليلهم فظهر في بلاد الشرق الإمام القاسم بن محمد بن علي وادعى الإمامة في سابع عشرى المحرم سنة ست بعد الألف فأطبق أكثر أهل جبال اليمن على طاعته وسارعوا إلى إجابته وصاروا من جملة جماعته فاشتعلت نار الفتن وضاقت أحوال الوزير من تردد أصحاب الإمام إلى صنعا وقام عليه الأعلى والأدنى وحار به من كان لديه في المحل الأسنى ولم يبق مستقيما على الطاعة إلا الأمير شمس الدين أحمد بيك ابن محمد بيك ابن شمس الدين بن الإمام شرف الدين الحاكم بمحروسة كوكبان فإنه لزم ما التزمه والده للأمير محمد من الطاعة للسلطنة حسبما تقرر بينه وبين الوزير الأعظم سنان باشا فبذل النفس والنفيس في إشادة نصرها حتى نال بذلك ما نال وفاز فوزا عظيما وقفاه على فعله ولداه الأمير أحمد والأمير إسماعيل وتلاهما الأمير جمال الدين علي بن شمس الدين وولداه الأمير وجيه الدين وعبد الرب فشيدا من الخدم السلطانية ما فاقا به غيرهما فنهض حسن باشا وجمع أهل النجدة من الرجال وبذل الأموال وعين كتخداه الأمير سنان سردارا على العساكر وأمده بالرجال والأموال وطلب حاكم الحبشة على باشا الجزائري فوصل وكان لوصوله تأثير في تسكين الفتن من بلاد اليمن الأسفل ثم توجه إلى بلاد ينوه فاستشهد بها في ثلا سنة ثمان وألف وانضافت خزائنه بالعساكر إلى جانب الوزير حسن باشا وتوجه السردار الأمير سنان إلى جهة كوكبان فاجتمع هو والأمير أحمد بن شمس الدين بن شرف الدين فافتتحا بلاد كوكبان جميعها بعد استيلاء أصحاب الإمام عليها ثم توجه السردار على سائر البلاد ففتح بلاد ثلا وحصنها وبلاد عمران وحصن مدع وحصن غفار وحصن بلاد الطاهر وبلاد حضور وبلاد الحمية وبلاد سنحان وبلاد مغرب أنس وذمار وبلاد تريم وبلاد جبل اللوز وبلاد خولان ثم عطف على بلاد الطاهر فاستقر بخمر والصرارة وهما بلدان يتوسطان بلاد الزيدية فوصل إليه(1/361)
الأمير عبد الرحيم بن عبد الرحمن ابن المطهر وكان مواليا للسلطنة فحصره الإمام القاسم في حصن مبين ببلاد حجة فاستولى الإمام على بلاده فخرج من حصن مبين إلى عند الإمام بالأمان فأخذ عليه العهد منه وإليه وأرسله لحرب السلطنة فكان طريقه من عند الإمام إلى عند السردار فاستفتح بلاد حجة وألزمه السردار باستفتاح بلاد الشرق فاستفتحها فلما شاهد الوزير حسن باشا علو همته ومناصحته لجانب السلطنة أنعم عليه ببلاد الشرق وقرره على بلاد حجة وكانت له إنعامات من السلطنة كثيرة فلم يرع حقوقها في آخر مدته بل طغى وسنذكر ما آل أمره إليه فيما بعد واستولى الإمام علي بلاد صعدة فقام على ساق الحرب الأمير مصطفى وانتقل بالوفاة ثم قام مقامه الأمير محمد الكردي فاتفق الصلح بينه وبين الأمير المؤيدي فحصل الفتح وأنعم عليهم بالصنجق السلطاني ونال من السلطنة ما رغم به أنف أعدائه وكان ذلك في صفر سنة سبع وألف وضعفت شوكة القاسم ولم يبق في يده إلا حصن شهارة في بلاد الاهنوم فتحصن به فعين الأمير سنان عليه فأحدق به فخرج وهرب من الحصن متنكرا ولم يشعر به أحد وبقي ولده السيد محمد متحصنا مكانه فضاق حاله فخرج بالأمان وإن يكون مقره عند صاحب كوكبان فأعطاه الأمان على ذلك وكان ذلك في سنة ست عشرة وألف ولما طالت مدة صاحب الترجمة باليمن عزل عنه وخرج على وجه مستحسن فتوجه إلى الروم في اليوم الحادي والعشرين من صفر سنة ثلاث عشرة وألف وولى بعده كتخداه سنان باشا ثم توفى صاحب الترجمة بقسطنطينية سادس عشر رجب سنة ست عشرة وألف رحمه الله تعالىأمير عبد الرحيم بن عبد الرحمن ابن المطهر وكان مواليا للسلطنة فحصره الإمام القاسم في حصن مبين ببلاد حجة فاستولى الإمام على بلاده فخرج من حصن مبين إلى عند الإمام بالأمان فأخذ عليه العهد منه وإليه وأرسله لحرب السلطنة فكان طريقه من عند الإمام إلى عند السردار فاستفتح بلاد حجة وألزمه السردار باستفتاح بلاد الشرق فاستفتحها فلما شاهد الوزير حسن باشا علو همته ومناصحته لجانب السلطنة أنعم عليه ببلاد الشرق وقرره على بلاد حجة وكانت له إنعامات من السلطنة كثيرة فلم يرع حقوقها في آخر مدته بل طغى وسنذكر ما آل أمره إليه فيما بعد واستولى الإمام علي بلاد صعدة فقام على ساق الحرب الأمير مصطفى وانتقل بالوفاة ثم قام مقامه الأمير محمد الكردي فاتفق الصلح بينه وبين الأمير المؤيدي فحصل الفتح وأنعم عليهم بالصنجق السلطاني ونال من السلطنة ما رغم به أنف أعدائه وكان ذلك في صفر سنة سبع وألف وضعفت شوكة القاسم ولم يبق في يده إلا حصن شهارة في بلاد الاهنوم فتحصن به فعين الأمير سنان عليه فأحدق به فخرج وهرب من الحصن متنكرا ولم يشعر به أحد وبقي ولده السيد محمد متحصنا مكانه فضاق حاله فخرج بالأمان وإن يكون مقره عند صاحب كوكبان فأعطاه الأمان على ذلك وكان ذلك في سنة ست عشرة وألف ولما طالت مدة صاحب الترجمة باليمن عزل عنه وخرج على وجه مستحسن فتوجه إلى الروم في اليوم الحادي والعشرين من صفر سنة ثلاث عشرة وألف وولى بعده كتخداه سنان باشا ثم توفى صاحب الترجمة بقسطنطينية سادس عشر رجب سنة ست عشرة وألف رحمه الله تعالى(1/362)
السيد حسن المجذوب المعتقد المعروف بالغريق نزيل دمشق أصله من قرية من ضواحي نابلس قيل إن اسمها زيتا قدم إلى دمشق وجاور بالجامع الأموي عند رواق اليمانية وكان يكثر الكلام في الجامع بالصوت العالي ثم خرج من الجامع وسكن في جامع يلبغا واتفق أن رجلا مؤذنا قتل هرة في الجامع المذكور ثم نام فقام إليه السيد حسن وألقى على رأسه صخرة عظيمة فقتله وعرض على حسن باشا بن محمد باشا المقدم ذكره وكان نائب الشام حينئذ فسأله لم قتلت هذا فقال لأنه قتل قطى فأطلقه لجذبه ثم انتقل بعد هذه الحادثة إلى بستان بأرض أرزة من المزارع فقطن به نحو خمس سنين لا يفارق البستان في الفصول الأربعة وكان الثلج ينزل عليه يطمه وهو جالس لا يبرح وقيل إنه كان لا يصيبه الثلج إذا وقع ولا يصيب المكان الذي هو فيه وكان لا يتضرر من حر ولا برد صيفا ولا شتاء وكان الناس تقصده بالزيارة هناك ويأتون إليه بالطعام والشراب وربما يرون منه مكاشفات غريبة ثم انتقل إلى سفح قاسيون وأقام بمغارة الشياح بين مغارة الدم وكهف جبريل وانضم أليه الشيخ حسين الرومي وكان يتعبد بذلك الوادي قبله بستين فتجاور بالمغارة المذكورة وتردد الناس إليهما كثيرا وكان حسن مجذوبا كثير الكلام عند زيارة الزائرين فيأخذ كل أحد من كلامه حصة لنفسه تناسب مقصده فاشتهر بالمكاشفة ووقع عليه أهل دمشق خصوصا النساء فإنهن كن يترددن إليه كثيرا وكان يجتمع عنده منهن في الوقت الواحد ما يزيد على مائة امرأة وكان حسين الرومي عاقلا يعرف الكلام وكان من العجب في كونه قيد السيد حسن المذكور في ذلك المكان وكان يطعمه ويسقيه ثم إن حسينا تزوج بامرأة من نساء الصالحية ونزلا من المغارة إلى بيت المرأة في الجبل وكان الناس يقصدونه أيضا في بيت المرأة ويزورونه ويهدون إليه الهدايا الجليلة ولم يزل هو وحسين مقيمين على هذا الحال إلى أن وقع سيل عظيم في دمشق هلك فيه أكثر من مائة نفس وكان منهم السيد حسن ورفيقه حسين وكان ذلك يوم الاثنين ثالث عشر صفر سنة ثمان عشرة وألف وكان ثامن أيار فجاءت قبيل العصر سحابة فيها رياح عواصف ورعود شديدة وبروق متواترة ثم تراكم غمامها وجاء برد شديد كبير بقدر البندق في ثلاث نوب أو أربع ووقع غالبه على الصالحية والجبل ومعظمه كان بالجانب الغربي منها وكثير منه على مدينة دمشق حتى امتلأت منه الأفنية والطرقات ثم سالت أودية الصالحية خصوصا الوادي الذي فيه مغارة الشياح فأخذ السيل دورا وقبورا وفتح في تلك الأرض مع صلابتها خنادق عظيمة عميقة وأطلع صخورا عظيمة واستخرج السيد حسن صبيحة يوم الثلاثا رابع عشر صفر من هذه السنة وحضر جنازته الجم الغفير من الرجال والنساء ثم في آخر ذلك اليوم نبش الدرويش حسين وأخرج ودفن من الغد رحمهما الله تعالى الشيخ حسن الديرعطاني من دير عطية قرية من قرى دمشق تابع ناحية جبة عسال بالقرب من النبك المجذوب ورد إلى دمشق وجاور بالجامع الأموي وكان لا يخرج منه إلا قليلا وكان ينكر على السوقة بيعهم المآكل الطيبة ويقول إنهم يكدرون على الفقراء عيشهم ويؤذونهم وكان لا يقتات إلا بالخبز الخشن ويتأدم بالخل والزيتون أو نحوهما وكان لا يقبل من أحد شيئا إلا من بعض جماعة مخصوصين ويظهر لامتناعه في الغالب حكمة من كون ما يدفع إليه فيه شبهة أو عدم إخلاص وكان له مكاشفات ظاهرة وليس عليه سوى قميص أزرق يلبسه صيفا وشتاء وينام في الجامع وهو نظيف الثوب والبدن وإذا كان رمضان ذهب إلى أهله فصام هناك وترك الجامع لاجتماع الناس فيه وكثرة لغطهم وذكر عنه الإمام الحجة الشهاب أحمد بن أبي الوفا المفلحي المقدم ذكره أنه سمعه قبل حادثة ابن جانبولاذ وهو يقول اظلم ظلموا اظلم ظلموا قال فقلت له عمن تقول قال عن هؤلاء الظلمة يشير إلي جند الشام سوف ترى كيف يسلط عليهم علي بن جانبولاذ فلما تلاقوا معه ولم يصبروا حتى انكسروا وهربوا منه وتشتتوا في البلاد وله غير ذلك من الأحوال الباهرة وكانت وفاته يوم الأحد تاسع شعبان سنة ثمان وعشرين وألف تشكى يوما أو يومين من غير انقطاع ولا اضطجاع ولما كان اليوم المذكور أراد الخروج من الجامع وقت الضحى والواعظ يعظ فسقط قبل أن يصل إلى باب العنبرانيين ميتا ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى(1/363)
الشيخ حسن الكردي العمادي الشافعي نزيل دمشق أحد المحققين في العلم المشهود لهم بالتبحر في العقليات قدم دمشق في حدود سنة إحدى وثلاثين وألف وتزوج بها وتملك دارا بالقرب من المدرسة الظاهرية ودرس بدمشق فانتفع به غالب طلبة عصره من أبناء دمشق وكان سريع الكتابة صحيح الضبط كتب بخطه الكثير من الكتب من جملة ذلك حاشية شيخي زاده ووقف جميع كتبه على طلبة العلم بدمشق قلت وهذه الكتب موضوعة عند بني السعسعاني هي وكتب الدفتري وهي محتوية على نفائس الكتب وأعطى المنلا حسن آخرا تدريس دار الحديث الأحمدية فدرس بها مدة وبالجملة فإنه كان من أفراد وقته علما وكمالا وكانت وفاته سنة ثمان وأربعين وألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى حسن باشا الناجم على الدولة في عهد السلطان محمد بن إبراهيم كان في ابتداء أمره حاكم التركمان ثم ولى كفالة حلب وخرج بها عن الطاعة وفتك في تلك النواحي وانضم إليه بعض أمراء ورعاع من طائفة السكبان وقويت شوكته ولما تعين نائب الشام أحمد باشا ابن الطيار إلى سفر السلطان في أواسط شعبان سنة ثمان وستين وألف خرج من الشام ومعه خمسمائة نفر من جندها فلقبهم حسن باشا في أطراف أنطاكية وضمهم إليه وأرسل إلى جانب السلطنة يقول أنه لا يتوجه إليهم إلا أن يقتلوا الوزير الأعظم فلم يجيبوه إلى ذلك وأرسلوا إليه ليأتي إليهم فلم يفعل وما زال ينهب ويفتك إلى أن وصل إلى بروسة ثم عاد وعسكر الشام معه فعين السلطان لقتاله الوزير مرتضى مع عدة أمراء وعساكر فتقابل الجيشان وانكسر مرتضى ونهبت أمواله ثم خرج عنه عساكر الشام بأمره ورجعوا إلى دمشق وبلغ السلطان ما فعل فازداد غضبه عليه وأرسل إلى الوزير مرتضى ومن معه من العساكر يقول لهم إنهم يدخلون حلب وأضاف إليهم عساكر أحر وأمر مرتضى باشا عليهم وكان من جملة أولئك قدري باشا نائب الشام فلما دخلوا إلى حلب جاء حسن باشا إلى كاس فدخل بين الفريقين بعض أمراء تلك الناحية بالصلح وكانت حيلة من مرتضى باشا على أن يأتي حسن باشا إلى عند مرتضى باشا فإذا اجتمعا حصلن المصافاة واتبع حسن باشا أمر السلطان في المسير مع مرتضى باشا إلى طرف السلطنة ورتب مرتضى باشا لحسن باشا ضيافة وكل من أمراء مرتضى باشا أضاف واحدا من جماعة حسن باشا المتعينين بأمر مرتضى باشا حتى صار كل واحد من أولئك عند من عين له وأوقعوا بهم المكيدة وقتلوا حسن باشا وأعيان جماعته وتفرق عسكره ونهبت أمواله وكان ذلك في آخر جمادى الأولى سنة تسع وستين وألف حسن الصفدي العيلبوني الشاعر اللبيب الفائق ويقال إنه درزي كان حسن المطارحة طيب العشرة رحل إلى مصر وأخذ بها عن الشمس البابلي والشيخ سلطان والنور الشبراملسى وغيرهم ودخل دمشق وجاور بها مدة بالخانقاه السميساطية وله شعر كثير منه قصيدة نونية هجا بها الدروز وهي طويلة تبلغ ثلثمائة بيت يذكر فيها مذهبهم الفاسد وضلالاتهم وله غير ذلك وأجود ما ظفرت به من شعره قوله
حكى دخان سما من فوق وجنة من ... قد مص غليونه إذ هزه الطرب
غيما على بدر تم قد تقطع من ... أيدي النسيم فولى وهو ينسحب
فقلت والنار في قلبي لها لهب ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
ثم ارتحل من دمشق إلى عكة وأقام بها مدة وبها توفى وكانت وفاته سنة خمس وثمانين وألف والعيلبوني بفتح العين ثم ياء مثناة من تحت ساكنة فلام فموحدة مضمومة بعدها واو ثم نون نسبة إلى عيلبون قرية من أعمال صفد والدرزي سيأتي الكلام عليه في ترجمة فخر الدين بن معن في حرف الفاء إن شاء الله تعالى(1/364)
الشيخ حسين بن أبي بكر بن سالم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن السقاف اليمني العيناتي الشيخ الكبير العارف كان أحد أجواد زمانه وله أحوال باهرة وكرامات شائعة ولد بمدينة عينات وقرأ القرآن وصحب أباه وكانت الولاية لائحة عليه من صغره وظهر برهانها عليه في كبره واشتغل بالعلوم الشرعية والتصوف ولزم مطالعة كتب الغزالي وصحب أعيان عصره وأخذ عنهم ولما مات أبوه قام مقامه وشاع أمره وصارت إليه الرحلة في وقته وكانت له حفدة كثيرون وكانت العربان تفد إليه من أقطار الأرض وترفه أمورها إليه وكان محسنا إلى الفقراء ويكره لهم التفعل في طلب المقامات ويأمرهم بإخلاص العمل ويقول لا تتخذوا الأعمال وسائل لمقاصد النفوس تحشروا مع الخاسرين وكان يكره الجبابرة ولا ينظر إليهم إلا شزرا وإذا جاءه أحدهم مشى الهوينا ولما كتب إمام الزيدية إلى أهل البلاد والحضرمية يستدعيهم إلى الدخول في طاعته فلم يرد لهم جوابا وقال حقيق لمن لم يدع إلى ما يرجى فيه الثواب أن ينقلب صاحبه بغير جواب وكان شديد الإنكار على من يشرب التبغ واعتنى بإزالته من تلك الديار فتم له ونودي في الأسواق وصنف له الشيخ محمد علي بن علان المكي في حرمته مصنفين وتبعه بعض الحنفية في تحريمه والذي أفتى به الشيخ عبد العزيز الزمزمي والشيخ عبد الله بن سعيد باقشير من شافعية الحجاز عدم الحرمة إلا لمن حصل له به ضرر قلت وظهور التنباك المسمى بالتبغ وبالتتن بجهة الغرب والحجاز واليمن وحضرموت كان في سنة اثنتى عشرة وألف كما وجدته بخط بعض المكيين وتاريخه بغى وأما ظهوره في بلادنا الشامية فلا أتيقنه لكنه قريب من هذا التاريخ انتهى ولما حصل على السلطان عبد الله بن عمر الكثيري ما حصل خاف من القبض والأسر فالتجأ إليه فنجاه مما حل به ولم يقع في البلاد اختلال ومحصل القول أنه كان من صلحاء وقته وكانت وفاته سنة أربع وأربعين وألف ودفن بمقبرة عينات بالقرب من وادله رحمه الله تعالى الأديب حسين بن أحمد بن حسين المعروف بابن الجزري الشاعر المشهور الحلبي أحد المجيدين جمع في شعره بين الصناعة والرقة نشأ بحلب وأخذ بها الأدب عن إبراهيم بن أحمد بن المنلا والقاضي ناصر الدين محمدا الحلفا وشغف بتعلم الشعر صغيرا وحفظ قصائد عديدة وفحص عن معانيها وأكثر من مطالعة كتب الأدب واللغة حتى صار له رسوخ ثم أخذ يمدح الأعيان وكان إذا تكلم لا يظنه الإنسان يعرف شيئا وكان له خط نسخي في غاية الحسن إلا أنه كان سيئ الأخلاق ولما تنبل اقتعد غارب الاغتراب فرحل إلى الشام والعراق ودخل الروم في سنة أربع عشرة وألف وقرأ فيها على محمد بن قاسم القاسمي الحلبي حصة من هداية الفقه وفي ذلك يقول في قصيدته البائية يمدح بها القاسمي المذكور وهي
لقد آن إعراضي عن الغي جانبا ... وأن أتصدى للهداية طالبا
وهي مذكورة في ديوانه فلا حاجة بنا إلى ذكرها ثم عاد إلى حلب واستقر بها وكان أحيانا يتردد لبني سيفا أمراء طرابلس وله فيهم المدائح الكثيرة جمع له ديوانا وهو موجود بأيدي الناس وكان مغرما بشعر أبي العلا المعري كثير الأخذ منه وأخبر أنه رآه في منامه وكان يقرأ عليه اللزوم وفهم من تقريره في تلك الرؤيا الخير كل الخير فيما أكرهت النفس الطبيعية عليه والشر كل الشر فيما أكرهتك النفس الطبيعية عليه وكتب على ديوانه اللزوم قوله
إن كنت متخذا لجرحك مرهما ... فكتاب رب العالمين المرهم
أو كنت مصطحبا حبيبا سالكا ... سبل الهدى فلزوم ما لا يلزم
ومن شعره في الغزل قوله
ما عشت من ألم الفراق ... لو لم أطل أمل التلاقي
فأظل كالملسوع من ... أفعى النوى ورجاي راقى
يا ثالث القمرين إلا ... في الكسوف وفي المحاق
حتام دمعي فيك لا ... يرقا وروحي في التراقي
وإلام يستسقى الفؤا ... د ظما وأجفاني سواقي
وغريق دمع العين لا ... تلقاه إلا في احتراق
والحب ما أورى الضلو ... ع جوى وما أروى المآقي
فعساك أن تجزى مجيب ... ك المحبة بالوفاق
ولقد لقيت هواك أع ... ظم ما لقيت وما ألاقي(1/365)
وصبرت فيك على العدا ... صبر الأسير على الوثاق
وعلمت أن الصبر يا ... عذب اللمى مر المذاق
فاعرض عن الأعراض إع ... راضي لديك عن النفاق
وارفق ولو بالالتفات ... علي ما بين الرفاق
فلقد يكون تلفت ال ... أعناق داع للعناق
واستبق مني باللقا ... ء بواقيا ليست بواقي
أعضاء صب ماله ... إلاك من عينيك زاقي
فالبيض سود عيونها ... أمضى من البيض الرقاق
وقد ودهن رواشق ... في الطعن كالسمر الرشاق
وإذا بليت بحبهن ... بليت بالدمع المراق
وقوله من قصيدة طويلة مطلعها
منهل دمع المحب من دمه ... فارفق بمغرى الفؤاد مغرمه
أبكيته والبكاء شاهد ما ... يذوب من لحمه وأعظمه
كأنه في الفراش من سقم ... معنى رقيق يجول في فمه
يا قمرا فرعه الظلام على ... غصن النقا باسما بأنجمه
أي ظلوم سواك ينصره ... لم يخف الله في تظلمه
والصب يبدي أليم صبوته ... للحب في الحب من تألمه
ومن سائر شعره قوله متغزلا
نتفداك ساقيا قد كساك الح ... سن من فرقك المضئ لساقك
تشرق الشمس من يديك ومن في ... ك الثريا والبدر من أطواقك
أوليس العجيب كونك بدرا ... كاملا والمحاق في عشاقك
فتنة أنت إذ تميت وتحيى ... بتلاقيك من تشا وفراقك
لست من هذه الخليقة بل أن ... ت مليك أرسلت من خلاقك
وقوله
يا ليلة جمعتنا والسرور معا ... لا روعتها دواعي الأفق بالفلق
لو استطعنا وقد شابت مفارقها ... صبغا لها من سواد القلب والحدق
بكيتها وشباب العيش في دعة ... منا وغافل طرف الدهر لم يفق
علما بأن الليالي غير باقية ... وكل مجتمع يرمي بمفترق
وله وهو معنى غريب
وبي مضاضة عيش مسني لغب ... منها وساورني في سورها سغب
حتى تصور لي منها على ظمأ ... إن المنية في ثغر المنى شنب
وله
أحجب من أهواه خوف وشاته ... وأقصيه عني والمزار قريب
ولم أر في الدنيا أشد مضاضة ... على القلب من حب عليه رقيب
وقوله وهما من ملحه
قديم محبة وحديث عهد ... مقرهما فؤاد أخ حميم
وإن خلتم سواكم لي خليلا ... فإن الحب للخل القديم
وقال وهو بدمشق في غلام رمدت عينه
وما رمد في عين حبي لعلة ... ولكنني أنبيكم بوجوده
أراد يرى ما في محياه من سنا ... فأثر فيه جرم شمس خدوده
وقال يمدح فصل الربيع
قابلتنا أيدي الربيع بوجه ... حسن فيه للمحاسن شاهد
ولنعم الزمان منه منحنا ... فضل فصل الربيع لو كان خالد
وقال
يا خير من محوه يرجى ... لزلة أثبتت بسهو
أني أهل لكل ذنب ... وأنت أهل لكل عفو
ومن مفرداته قوله
عسى شمس هذا الدهر تأتي بوفق ما ... نرجى وسعد الوفق في شرف الشمس
وقوله
تغافلت عن أشياء منه وربما ... يسرك في بعض الأمور التغافل
وله
نأسو برؤياك ما أساء بنا ... لا يصلح الجرح غير مرهمه
فإن هذا الزمان محسنة ... كفارة عن ذنوب مجرمه
وقوله وأجاد
وليل كأن الصبح فيه مآرب ... نؤمل أن تقضى وخل نصادقه
وسافر في آخر عمره إلى حماة لرجاء عن له بها فرأى ليلى سيره كأنه يودع أهله فاستيقظ وهو ينشد
قومي احسني منك وداعى فما ... بعدك حسنا يا ابنة القوم
وزودي جفني طيف الكرى ... فليس بعد اليوم من نوم
فلما دخلها توفى ابن أميرها الأمير علي بن الأعوج واسمه روحى فقال
لا تعجبوا إن سال دمعي دما ... واشتعلت نار تبار يحى(1/366)
فلست من يبكي على غيره ... وإنما أبكي على روحي
وبعد مدة توفى وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وألف هكذا ذكر البديعي وفاته في السنة المذكورة ثم رأيت في نسخة من ديوان ابن الجزري مات بعد إنشاد البيتين المذكورين بثلاثة أيام ولم يقل بعدهما شعر وإن وفاته كانت في سنة أربع وثلاثين وناقض أبو الوفاء العرضي في وفاته فذكر أنها في سنة اثنتين وثلاثين ولست أدري أي المقولات أصح وزاد العرضي أنه توفى غريبا بحماة كما توفى والده بالبصرة غريبا وعمره نحو الخمس والثلاثين ودفن بالتربة المعروفة بالعليليات والجزري نسبة إلى جزيرة ابن عمر من بلاد الأكراد وبها كان أجداده ولهم فيها المكانة والجاه كما أشار إلى ذلك في بعض قصائده
إن الجزيرة لا عدا ... جوديها الغيث الهتون
خلقوا بها آباي آس ... اد الشرى وهي العرين
ولهم بها البيت المؤث ... ل في قواعده المكين
وبركنه المجد المتين ... وظله المجد المبين
ولنابهم نسب على الدن ... يا له شرف ودين
وهذه القصيدة من غرر قصائده وهي طويلة فنكتفي منها بهذا المقدار ففيه كفاية(1/367)
حسين باشا بن جانبولاذ الكردي أمير الأمراء بحلب كان في ابتداء أمره من المتفرقة ثم تولى إمارة كاس منصب والده وعزله أخوه الأمير حبيب وشبت العداوة بينهما ثم استمرا يتعازلان فتولى ديوسليمان كلس فاحتاج إلى جمع السكبانية وكان ابتداء كثرتهم وظهور قوانينهم من عبد الحليم اليازجي أحد أتباع المسطور ولما سجن صاحب الترجمة بحلب وبيعت جميع أسبابه وعقاراته بأبخس الأثمان لمال سلطاني كان عليه تولى كاس بعد ذلك وصمم على الامتناع من تسليمها إن عزله أحد فكان إذا عزل من جانب السلطنة سعى في العود من غير تسليم المتولى الجديد فعلم أكابر الدولة إنهم إذا صمموا على عزله شق العصا فتركوه وارتضوا بالمال فكثرت أجناده وأمواله وكان له مروءة وفتوة ومحبة للعلماء والصالحين إلا أنه كان ظالما لاحتياجه إلى علوفات السكبانية وكان له فضيلة في علم الفلك والزايرجا والتقويمات والرمل وصرف أكثر عمره في ذلك ولما توجه محمد باشا الوزير ابن سنان باشا الوزير الأعظم سردارا على حسين باشا أمير لواء الحبشة وكان خرج عن الطاعة وشق العصا وسبه أنه لما تولى إمارة الحبشة أخذ منه أكابر الدولة مالا جزيلا استدان غالبه ثم عزلوه سريعا فشق العصا مغاضبا لهم فتوجه صاحب الترجمة لحربه صحبة السردار فقدم إلى كاس خارجي من السكبانية يقال له رستم ومعه من البغاة أجناد كثيرة وكان ضابط كاس عزيز كتخدا من جماعة صاحب الترجمة فبعث واستنجد بعساكر حلب منهم العسكر الجديد فخرجوا لنصرته واجتمعوا جميعا فتقابلت الأجناد وقام بينهم سوق الحرب والطعن والضرب فانتصر عسكر رستم على عسكر كاس وحلب وقتل عزيز كتخدا وقتل من العسكرين ما لا يحصى وولوا منهزمين فنهب الخارجي كاس وصادر أعيان أهل القرى ولما تولى نصوح باشا كفالة حلب وكان عساكر دمشق تغلبوا على حلب ونواحيها وأمره السلطان أحمد بإخراجهم وعجز عن ذلك فاستعان بصاحب الترجمة فبعث ابن أخيه الأمير علي بعسكر عظيم فأصبح نصوح باشا وقد أخذ القلعة ووضع متاريس تحت قلعة حلب واستعدت جماعته فكانوا نحو ستمائة فأخذت العساكر الدمشقية باب بانقوسا واستعدوا وجمعوا عساكرهم نحو الألفين وهم لا يعلمون أن صاحب الترجمة بعث عساكر فأحضر نصوح باشا إليه كنعان سردار الدمشقيين وأخبره أن السلطان رفعهم من الاستخدام وأمر بإخراجهم من حلب بعيالهم فامتنعوا ثم تواردت الأخبار أن الأمير علي بن جانبولاذ وصل إلى قرية حيلان بعساكر لا تحصى فخرجوا في الظلام ولم يبق منهم أحد وفي اليوم الثاني دخل الأمير علي بالعساكر المتكاثفة فتبعهم نصوح باشا ومعه الأمير علي إلى قرية كفرطاب فوقع بينهم محاربة فانهزم الدمشقيون بعد ما قتل منهم جم غفير فصادر نصوح باشا أقاربهم وأتباعهم وفعل حسين باشا مع نصوح باشا هذا الفعل فأخذ نصوح باشا يتكلم بين الناس إنه يريد قتل حسين باشا فسمع الخبر فأخذ في جمع العساكر وبعث جماعة إلى السردار سنان باشا ابن غاله الذي أرسله السلطان لقتال الشاه فبلغ ذلك نصوح باشا فاشتدت عداوته فعزم على المفاجاة بالقتال لكون كاس قريبة من حلب فخرج في عساكره مجدا حتى وصلها في يوم واحد فقابل حسين باشا بعسكره والتقت الفئتان فانكسر نصوح باشا وقتل أكثر عسكره ودخل حلب منهزما ثم في اليوم الثاني أخذ في جمع الأجناد وبذل الأموال لتكثير العدد والأعداد ظنا منه إن صبح سعده أسفر ثم جاء رسول من السردار سنان باشا ابن غاله يخبره بالأوامر السردارية أنه قد صار حسين باشا كافل الممالك الحلبية وعزل نصوح باشا منها فلبس نصوح باشا جلد النمر وامتنع من تسلم حلب لحسين باشا وقال إذا ولوا حلب لعبد أسود أطيع ذلك إلا ابن جانبولاذ فما مضى أسبوع إلا وقد أقبلت عساكر حسين باشا بجموعها إلى قرية حيلان فاستقبلهم نصوح باشا بالحرب ثانيا فانكسر ثانيا فنزل حسين باشا بعساكره في محلات حلب خارج السور وأغلق نصوح باشا أبواب المدينة وسدها بالأحجار وفتح باب قنسرين وحرسه بعساكر أوقفهم هناك وقطع حسين باشا الماء عن حلب ومنع الميرة والطعام عن داخل المدينة ونصب حسين باشا متاريس على أسوار المدينة وصف عساكره على الأسوار مع المكاحل وقامت بينهم حرب البسوس وأخذ حسين باشا في حفر اللغوم والاحتيال على أخذ البلدة ونصوح باشا في حفر السراديب لدفع اللغوم وعم الحلبيين البلاء من المبيت على الأسوار وحفر(1/368)
السراديب ومصادرة الفقراء والأغنياء كل يوم وليلة لطعام السكبانية وعلوفاتهم وأغلقت الدكاكين وتعطلت الصناعات وحرقت الأخشاب للطعام والقهوة بسبب قطع حسين باشا الميرة حتى الخشب والحطب ونزل البلاء من جانب السماء على حلب فبيع مكوك الحنة بمائة قرش ريال وجرة الشيرج بثمانية عشر قرشا ورطل لحم الخيل الكديش بنصف قرش والتينة الواحدة بقطعة وأوقية بزر البطيخ بأربع قطع وأعظم من في البلدة يجد أكل البصل والخل من أحسن الأطعمة وكان بعضهم يأخذ الشمع الشحمي ويضعه في طعام الأرز والبرغل وكان العساكر لا يجدون التبن بل يأخذون الحصر وينقعونها في الماء ويقطعونها ويطعمونها للخيل بدلا عن التبن وكل فقير يغرم في اليوم قرشين والمتوسط عشرة والغني عشرين واستمر الحصار نحو أربعة أشهر وأياما ثم قدم السيد محمد المشهور بشريف قاضيا بحلب فنزل خارج المدينة وأخذ يسعى في الصلح ثم عقد الصلح ولم يرض نصوح باشا إلا بأيمانات السكبانية وعهودهم فإن لهم عهودا وثيقة فخلفهم بالسيف أن يكون آمنا على نفسه وأمواله وإنه إذا تعرضه حسين باشا يقاتلونه معه ثم أمر الشريف نصوح باشا أن يذهب بنفسه إلى حسين باشا ويصالحه لكون نصوح باشا كان ضرب بنت حسين باشا وأخذ أموالها فذهب ومعه شاطر واحد إلى منزل حسين باشا فأكرمه وسقاه شربة سكر بعدما امتنع نصوح باشا فشرب حسين باشا من الإناء قبله فاقتدى به وشرب ولما ذهب كان لابسا درعا تحت الثوب وظن الناس خروج نصوح باشا خفية ليلا خوفا من حسين باشا وعساكره فلم يكن الأمر كذلك بل خرج بعساكره وطبوله وزموره وقت الغداة فودعه حسين باشا واستولى على الديار الحلبية وشحنها من السكبان وصادر الأغنياء والفقراء لأجل علوفة السكبان ثم أمر سنان باشا حسين باشا بالتوجه إليه لقتال الشاه فقدم رجلا وأخر أخرى وتثاقل عن السفر حتى حصلت الكسرة ببلاد العجم للعساكر العثمانية في وقعة مشهورة قتل فيها جماعة من الأمراء وكانت في سادس عشرى جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وألف فلما رجع الوزير سنان باشا ابن جغاله أدركه حسين باشا في رجعته بمدينة وان فقتله لتأخره في السنة المذكورة وكان يريد جعل ابن أخيه الأمير عليا قائما مقامه بحلب فلما بلغه قتل عمه تملك حلب وخرج بها على السلطنة وتولدت من ذلك فتن عظيمة سنذكرها في ترجمة الأمير علي إن شاء الله تعالىاديب ومصادرة الفقراء والأغنياء كل يوم وليلة لطعام السكبانية وعلوفاتهم وأغلقت الدكاكين وتعطلت الصناعات وحرقت الأخشاب للطعام والقهوة بسبب قطع حسين باشا الميرة حتى الخشب والحطب ونزل البلاء من جانب السماء على حلب فبيع مكوك الحنة بمائة قرش ريال وجرة الشيرج بثمانية عشر قرشا ورطل لحم الخيل الكديش بنصف قرش والتينة الواحدة بقطعة وأوقية بزر البطيخ بأربع قطع وأعظم من في البلدة يجد أكل البصل والخل من أحسن الأطعمة وكان بعضهم يأخذ الشمع الشحمي ويضعه في طعام الأرز والبرغل وكان العساكر لا يجدون التبن بل يأخذون الحصر وينقعونها في الماء ويقطعونها ويطعمونها للخيل بدلا عن التبن وكل فقير يغرم في اليوم قرشين والمتوسط عشرة والغني عشرين واستمر الحصار نحو أربعة أشهر وأياما ثم قدم السيد محمد المشهور بشريف قاضيا بحلب فنزل خارج المدينة وأخذ يسعى في الصلح ثم عقد الصلح ولم يرض نصوح باشا إلا بأيمانات السكبانية وعهودهم فإن لهم عهودا وثيقة فخلفهم بالسيف أن يكون آمنا على نفسه وأمواله وإنه إذا تعرضه حسين باشا يقاتلونه معه ثم أمر الشريف نصوح باشا أن يذهب بنفسه إلى حسين باشا ويصالحه لكون نصوح باشا كان ضرب بنت حسين باشا وأخذ أموالها فذهب ومعه شاطر واحد إلى منزل حسين باشا فأكرمه وسقاه شربة سكر بعدما امتنع نصوح باشا فشرب حسين باشا من الإناء قبله فاقتدى به وشرب ولما ذهب كان لابسا درعا تحت الثوب وظن الناس خروج نصوح باشا خفية ليلا خوفا من حسين باشا وعساكره فلم يكن الأمر كذلك بل خرج بعساكره وطبوله وزموره وقت الغداة فودعه حسين باشا واستولى على الديار الحلبية وشحنها من السكبان وصادر الأغنياء والفقراء لأجل علوفة السكبان ثم أمر سنان باشا حسين باشا بالتوجه إليه لقتال الشاه فقدم رجلا وأخر أخرى وتثاقل عن السفر حتى حصلت الكسرة ببلاد العجم للعساكر العثمانية في وقعة مشهورة قتل فيها جماعة من الأمراء وكانت في سادس عشرى جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وألف فلما رجع الوزير سنان باشا ابن جغاله أدركه حسين باشا في رجعته بمدينة وان فقتله لتأخره في السنة المذكورة وكان يريد جعل ابن أخيه الأمير عليا قائما مقامه بحلب فلما بلغه قتل عمه تملك حلب وخرج بها على السلطنة وتولدت من ذلك فتن عظيمة سنذكرها في ترجمة الأمير علي إن شاء الله تعالى(1/369)
الشيخ حسين بن حسن بن أحمد بن سليمان أبو محمد الغريفي البحراني فقيه البحرين وعالمها المشار إليه في عصره ذكره السيد علي في السلافة فقال في حقه ذو نسب يضاهي الصبح عموده وحسب أورق بالمكرمات عوده وناهيك بمن ينتمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الانتما وغصن شجرة أصلها ثابت وفرعها في السما وهو بحر علم تدفقت منه العلوم أنهارا وبدر فضل عاد به ليل الفضائل نهارا شب في العلم واكتهل وهمى صيب فضله واستهل فجرى في ميدانه طلق عنانه وجنى من رياض فنونه أزهار أفنانه إلا أن الفقه كان اشهر علومه وأكثر مفهومه ومعلومه عنه تقتبس أنواره ومنه يقتطف ثمره ونواره وكان بالبحرين أمامها الذي لا يباريه مبار وهمامها الذي يصدق خبره الاختبار مع سجايا تستمد منها المكارم ومزايا تستهدى محاسنها الأكارم وله نظم كثيرا ما يمده بالفخر وكأنما نقره من صخر فمنه قوله
قل للذي عاب فعاب الذي ... قلت وقلت السر مني ضر ومن
لا تمتحنها تمتحن إنها ... ولية قد وليت عن مروس
بل وقناتي صعدة صعبة ... تخبر أن الهبزري الشموس
قلت لو كان لي أمر السلافة ما رضيت لها هذا العكر وكانت وفاته في سنة إحدى بعد الألف ولما بلغ نعيه الشيخ داود بن أبي شاقين البحراني استرجع وأنشد بديهة
هلك الصقر يا حمام فغنى ... طربا في أعالي الغصون
ورثاه الشيخ جعفر بن محمد الخطي البحراني بقصيدة منها قوله
جذ الردى سلب الإسلام فانجذما ... وهد شامخ طود الدين فانهدما
وسام طرف العلا غمضا فأغمضه ... وفل غرب حسام المجد فانثلما
الله أكبر ما أدهاك من زمن ... قصمت ظهر التقى والدين فانقصما
حسين باشا ابن حسين بن أحمد بن رضوان بن مصطفى الغزى المولد حاكم غزة كان نبيه القدر كبير الهمة حسن الشكل وله آداب ومآثر مأثورة يحسن بماله وجاهه إلى قصاده وكان أميا ويحاكي الخطوط الحسنة من مهرة الكتاب ولى في حياة أبيه إمارة نابلس وإمارة الحاج سنة ثلاث وخمسين وألف ولما توفى أبوه صار مكانه حاكم غزة وكان له حزم وسعد فكبرت دولته وإطاعته العربان وصار ركنا ركينا ثم انتشأ له ولد اسمه إبراهيم فولى حكومة القدس ثم نزله له أبوه عن حكومة غزة وصار هو حاكم نابلس وأمير الحاج وسافر إلى الحج سنتين ولما مات ولده المذكور في سنة إحدى وسبعين وألف بالبقاع العزيزي وقد كان تعين للسفر على الدروز في خدمة الوزير أحمد باشا عاد حسين باشا إلى حكومة غزة بعده ووشى به إلى جانب السلطنة بسبب أمور يرجع أكثرها إلى عدم تقيده بأمر الحجاج وحراستهم فأتى به من المزيريب إلى قلعة دمشق وضبطت أمواله وأقام مدة مسجونا بالقلعة وكتب إليه الأمير المنجكى يسليه بهذه الأبيات
جفن الحسام ترى أم مربض الأسد ... سجن حللت به يا خير معتمد
أم شمس ذاتك عن عين الغبي غدت ... محجوبة وهي في الإشراق للأبد
وقدر جاهك في الآفاق مرتفع ... ما حط يوما وإن لم يخل من حسد
ثم أخذ إلى الباب السلطاني مقيدا وأحاطت به المكاره فسجن ثم قتل في السجن وذلك في سنة ثلاث وسبعين وألف وأنشدني صاحبنا المرحوم عبد الباقي بن أحمد السمان الدمشقي هذه الأبيات لنفسه قالها في رثائه حين بلغه قتله وكان إذ ذاك بمصر قال وكنت لما مررت على غزة في سنة إحدى وسبعين قاصدا مصر أسدى إلي معروفا وإنعاما فقلت أرثيه
أسفي على بحر النوال ومن له ... بأس الملوك وعفة الزهاد
لو أن بعض صفاته اقتسم الورى ... لرأيت أدناهم كذي الأعواد
لم يجن ذنبا غير أن زمانه ... قد فوض الأحكام للحساد
هابوه وهو مقيد في سجنه ... وكذا السيوف تهاب في الأغماد
ذهب السرور بفقده فكأنما ... أرواحنا غضبى على الأجساد
يا ثالث الحسنين عاجلك الردى ... والحتف قد يسرى إلى الأطواد
لك بالكواكب والسحائب أسوة ... فاذهب كما ذهب السحاب الغادي
فسقى ثراءك منه صيب رحمة ... ما أطرب الركبان صوت الحادي(1/370)
حسين باشا بن رستم المعروف بباشا زاده الرومي نزيل مصر واحد الدهر على الإطلاق المحقق الفهامة رأس الفضلاء في وقته رأيت خبره في كثير من التحريرات والمجاميع وذكره الشيخ مدين القوصوني وقال في ترجمته مولده ببلغراد في يوم الأربعا ثاني عشر شوال وكان ذلك في أوائل فصل الخريف من سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وقدم إلى مصر في سنة سبع وسبعين وتسعمائة وحج منها إلى بيت الله الحرام ثم رجع إلى البلاد الرومية وعاد إلى مصر ثانيا وأقام بها وكان أبوه من موالي السلطان سليمان ثم انه لم يزل يتنقل في الولايات حتى صار أمير الأمراء بطمشوار وبودين وكانت وفاته بها وأما والدته فهي بنت إياس باشا الذي كان رأس الوزراء في دولة السلطان سليم وكان من موالي السلطان بايزيد بن محمد وأخذ صاحب الترجمة عن جماعة من الموالي العظام بالديار الرومية منهم المولى يحيى الذي كان متقاعدا عن إحدى المدارس الثمان وكان أخا للسلطان سليمان من الرضاع وكان السلطان المذكور يعظمه ويزوره أحيانا ويقبل شفاعته ومنهم المولى عبد الغني ومنهم المولى محمد بن بستان المفتي ومنهم المولى فضيل بن المفتي علاء الدين الحمالي ومنهم المولى محمد ابن أخي ومنهم المولى أبو السعود المفتي العمادي صاحب التفسير وصار ملازما بمدرسة السلطان سليم الأول بقسطنطينية ثم ترك ذلك وعزم على الإقامة بمصر وطلب من السلطان أن يعين له من بيت المال ما يكفيه هو ومن معه من العيال من الدراهم والغلال فعين له ذلك ثم قدم إلى مصر وأقام بها بالعزة والاحترام مع الإحسان والشفاعات في العلوفات والجرايات للخاص والعام وأنشأ بيتا متسعا مصلا على بركة الفيل جعله محلا للجلوس فيه للواردين عليه انتهى ورأيت له ترجمة في بعض المجاميع وأظنها من إنشاء بعض المصريين قال فيه بعد ذكر اسمه وشهرته غرة جبهة الزمان وواسطة عقد الفضائل المزرى بعقود الجمان جر على هامة المجرة ذيله وأنار بقمر فضله ليله فأصبح وهو عزيز مصره والفاخر ذو التاج المحجب في قصره أجرى بمصر نيله فأخجل نيلها وما زال مانح الفضائل والفواضل ومنيلها وأما أدبه بمادة البراعة والإحسان القاصر عن نظمه ونثره سحبان وحسان وما برحت كواكب فضله مشرقة لائحه وسواكب افضاله غادية رائحة حتى وافته بأجله وفاته وعفت آثاره وبكت عليه عفاته وأثبت له من شعره ما كتب به إلى القاضي محمد دراز المكي قوله
على ألمعي شاقني بخياله ... سلام يحاكي منه طيب خصاله
عشقت وما أبصرته غير أنني ... سمعت من الحاكين وصف كماله
وكتب إلى الشيخ عبد الرحمن المرشدي
عندي لودك فاعلم ذاك ميثاق ... وللتملي بمرأى منك أشتاق
وللحلول بأرض أنت ساكنها ... قلبي بحادي الجوى والوجد ينساق
وظفرت له بقصيدة أثبتها له في ترجمته في كتابي النفحة ومطلعها
أراك تروم المجد ثم تساهل ... وزاملة العمر اليسير تناقل
وهي قصيدة لا بأس بها فارجع إليها في الكتاب المذكور وكانت وفاته بمصر في آخر يوم الجمعة ثالث رجب سنة ثلاث وعشرين وألف ودفن يوم السبت بالقرب من قبر القاضي بكار رحمه الله تعالى الأديب حسين بن شهاب الدين حسين بن جاندار البقاعي الكركي الأديب الشاعر العائق كان أديبا شاعرا مطبوعا مقتدرا على الشعر جيد القريحة سهل اللفظ حسن الإبداع للمعاني ذكره البديعي في كتابه ذكرى حبيب وقال فيه هو ثاني أبي الفضل البديع الهمداني وثالث ابن الحجاج والواساني وقد دون مدائحه وسماها كنز للآل وجمع أهاجيه ووسمها بالسلاسل والأغلال فمن حسن شعره وشعره كله حسن قوله من جملة قصيدة مطلعها
هو الحب لا قرب يدوم ولا بعد ... وقد دق معنى أن يحيط به حد
يحار أولو الألباب في كنه ذاته ... فمن جده هزل ومن هزله جد
لك الله قلبي كم تجن لواعجا ... يذوب لأدنى حرها الحجر الصلد
نصحتك جهدي لو قبلت نصيحتي ... فعدل الهوى جور وحر الهوى عبد
لقد عالج الحب المحبون قبلنا ... فما نالهم إلا القطيعة والصد
فإن قال قوم إن في الحب لذة ... فما أنصفوا هذا خلاف الذي يبدو(1/371)
نعيم هو البلوى ورى هو الظما ... وذاك فناء الجسم يجلبه الوجد
على أنني جربته وبلوته ... إذا انه كالصاب ديف به الشهد
وما قلت جهلا بالغرام وإنما ... يصدق قولي من له بالهوى عهد
لعا لعثاري كم أحث عزائمي ... وهل لنهوضي في طلاب العلى حد
أما آن أن أنضو الركائب بالثرى ... وإن مسني مما أكايده جهد
وإن عاينت عيناي بأن طويلع ... فبشراك يا قلبي ألم بك السعد
ولاحت لنا تلك المعاهد من قبا ... وبانت قبان البان والعلم الفرد
وقوله في قصيدة أخرى مطلعها
ما صاح صاحي الورق في أفنانه ... إلا وأسكره بديع بيانه
وإذا تنازعه اللوائم ثم في الهوى ... دكر العقيق فسح من أجفانه
كلف إذا هبت به نجدية ... يذكو بها ما باح من أجفانه
مغرى بذكر العامرية مغرم ... ظام إلى عذب العذيب وبانه
يخفى الجوى لو مس يذبل بعضه ... دكت هضاب الشم من أركانه
ويروم إغضاء الجفون على القذى ... فرقا فيعرب شانه عن شانه
يا لائمي في حب أهيف لو بدا ... للبدر لم تعدده من أقرانه
متمنع يرنو بناظر جؤذر ... ويلاى من وسنانه وسنانه
أأذاد عن مضمار حلبة حبه ... وأنا المجلى ويك خيل رهانه
أيلوم من أودى بمهجته الهوى ... من لم يذق في الدهر طعم طعانه
حسبي بما ألقاه من ألم الجوى ... ما قد ترى والعمر في ريعانه
لو أن بالفلك المحيط ذبالة ... من حرقتي ألهته عن دورانه
أو حل وجدي بالكواكب لانبرى ... بهرامها يشكو إلى كيوانه
أو غال رضوى بعض ما قد غالني ... لرأيته كالعهن قبل أوانه
أو كان يسعدني على قدر الهوى ... دمعي لعم الأرض من طوفانه
ولقد سلكت الحب لا غر به ... وعرفت كنه خفيه وعيانه
وعلمت إذ ذقت الغرام بأنني ... حاس بكأس جميله وحسانه
وقوله في قصيدة مطلعها
ما لاح برق من ربى حاجر ... إلا استهل الدمع من ناظري
ولا تذكرت عهود الحمى ... إلا وسار القلب عن سائري
أواه كم أحمل جور الهوى ... ما أشبه الأول بالآخر
يا هل ترى يدري نؤوم الضحى ... بحال ساه في الدجى ساهر
تهب إن هبت يمانية ... أشواقه للرشأ النافر
يضرب في الآفاق لا يأتلى ... في جو به كالمثل السائر
طورا تهاميا وطورا له ... شوق إلى من حل في الحائر
كأن مما رابه قلبه ... علق في قادمتي طائر
أصل هذا المعنى لعروة بن حرام
كأن قطاة علقت بجناحها ... على كبدي من شدة الخفقان
وذكره السيد علي بن معصوم في السلافة فقال في حقه طودرسى في مقر العلم ورسخ ونسخ خطة الجهل بما خط ونسخ رأيته فرأيت منه فردا في العلوم وحيدا وكاملا لا يجد الكمال عنه محيدا تحل له الحبى وتعقد عليه الخناصر أوفى على من قبله واعترف بفضله المعاصر يستوعب شواهد العلم حفظا بين مقروء ومسموع ويجمع شوادر الفضل جمعا فهو في الحقيقة منتهى الجموع حتى لم ير مثله في الجد على نشر العلم وإحياء مواته وحرصه على جمع أسبابه وتحصيل أدواته وقد كتب بخطه ما يكل لسان القلم عن ضبطه واشتغل بعلم الطب في آخر عمره فتحكم بالأرواح والأجسام بنهيه وأمره غير أنه كان فيه كثير الدعوى قليل الفائدة والجدوى لا تزال سهام رأيه فيه طائشة عن الغرض وإن أصابت فلا تخطئ نفوس أولى المرض فكم عليل ذهب ولم يلف لديه فرج فأنشد أنا القتيل بلا إثم ولا حرج
الناس يلحون الطبيب وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدور(1/372)
ومع ذلك فقد طوى أديمه من الأدب على أغزر رديمه ومتى هتفت لهاة قاله بالشعر أرخص من عقود اللآلى كل غالي السعر إلى ظرف شيم وشمايل تطيب بأنفاسها الصبا والشمائل وإلمام بنوادر المجون يحلى حديثه والحديث شجون ولم يزل يتنقل في البلاد ويتقلب حتى قدم على والده قدوم أخي العرب على آل المهلب وذلك في سنة أربع وسبعين وألف فأحله الوالد لديه محلا عقد فيه نواصي الآمال بين يديه وأمطره سحائب جوده وكرمه ورد شباب أمله بعد هرمه فأقام بحضرته بين خير وخير وتقدم ما شاء ما شابه تأخير إلى أن خوى من أفق الحياة طالعه وأدجت بأفول عمره مطالعه ومن مصنفاته شرح نهج البلاغة وعقود الدرر في حل أبيات المطول والمختصر وهداية الأبرار في أصول الدين ومختصر الأغاني والإسعاف وغير ذلك وأنشد له قوله من قصيدة مطلعها
لك الخير لا زيد يدوم ولا عمرو ... ولا ماء يبقى في الدنان ولا خمر
فبادر إلى اللذات غير مراقب ... فما لك إن قصرت في نيلها عذر
فإن قيل في الشيب الوقار لأهله ... فذاك كلام عنه في مسمعي وقر
وقالوا نذير الشيب جاء كما ترى ... فقلت لهم هيهات أن تغنى النذر
لئن كان رأسي غير الشيب لونه ... فرقة طبعي لا يغبرها الدهر
يقولون دع عنك الغواني فإنما ... قصاراك لحظ العين والنظر الشزر
وهل فيك للغيد الحسان بقية ... وقد ظهر المكنون وارتفع الستر
وما للغواني وابن سبعين حجة ... وحلم الهوى جهل ومعروفه نكر
فقلت دعوني فالهوى ذلك الهوى ... وما الغمر إلا العام واليوم والشهر
نشأت أحب الغيد طفلا ويافعا ... وكهلا ولو أوفى على المائة العمر
وهن وإن أعرضن عني حبائبي ... لهن علي الحكم والنهي والأمر
أحاشيك بي منهن من لو تعرضت ... لنوء الثريا لاستهل لها القطر
ترقرق ماء الحسن في نار خدها ... فماء ولا ماء وجمر ولا جمر
فيا بعد ما بين الحسان وبينها ... لهن جميعا شطرها ولها الشطر
برهرهة صفر الوشاح إذا مشت ... تجاذب منها الردف والعطف والخصر
من البيض لم تغمس يدا في لطيمة ... وقد ملأ الآفاق من طيبها نشر
تخر لها زهر الكواكب سجدا ... وتعنو لها الشمس المنيرة والبدر
تخال بجفنيها من النوم لوثة ... وتحسبها سكرى وليس بها سكر
وقال إلى هاروت ينسب سحرها ... أبى الله بل عن لحظها يؤخذ السحر
تخالف حالي في الغرام وحالها ... لها محض ودي في الهوى ولي الهجر
قلت وهذه القصيدة من أمتن شعره وأغلاه وقد ترجمته في كتابي النفحة وذكرت له أشياء من شعره ما عليها غبار وبالجملة فكل شعره لطيف السبك وكانت وفاته على ما ذكره ابن معصوم يوم الاثنين لإحدى عشرة بقيت من صفر سنة ست وسبعين وألف عن أربع وستين سنة رحمه الله تعالى حسين بن عبد الله بن شيخ بن الشيخ عبد الله العيدروس الحضرمي السيد الأجل أحد أسخياء العالم ذكره الشلى في تاريخه وأثنى عليه كثيرا ثم قال ولد بتريم في سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة واجتهدوا تبع السنة النبوية وتخرج بوالده وأخذ عن أخيه شيخ وغيره من العلماء العاملين والأولياء الصالحين ولبس الخرقة الشريفة منهم وأجازوه في الإلباس وانتفع به كثير من الناس وقصد من البلاد البعيدة وكان يكرم الوافدين ويحسن للفقراء وله كرامات ظاهرة وله جاه عظيم عند الأكابر لا سيما أرباب السيف يقابلونه بالتعظيم وكان مشغولا بذكر الله حتى مات في سنة ثمان بعد الألف ودفن بمقبرة زنبل رحمه الله تعالى(1/373)
الشيخ حسين بن عبد الكريم بن عبد الله الملقب زين الدين الغزى المعروف بابن النخالة الشافعي مفتي الشافعية بغزة الفقيه البارع المتمكن من بيت ولاية وورع وتقوى وجده عبد الله نطق له الحمار كما قرأته في بعض إجازات حسين صاحب الترجمة من الشيخ عامر العزيزي الآتي ذكره ونشأ حسين هذا في غزة وقرأ بها ثم رحل إلى مصر في حدود سنة ثمان وتسعين وتسعمائة وأخذ بها عن إمام الفرائض في زمنه عبد الله الشنشوري الشافعي الخطيب بجامع الأزهر وعن الشمس محمد الرملي والنور علي الزيادي وأبي بكر بن إسماعيل الشنواني ويحيى ابن محمد بن علي بن موسى الهيتمي الأصل الأنبابي والشمس محمد التمرتاشى صاحب التنوير والشهاب أحمد بن زين الدين الخطيب الشربيني الشافعي والشيخ عامر ابن عبد الله العزيزي الشافعي والشيخ علي بن عمر بن شيخ البير الغزى والشيخ علي ابن أحمد بن محمد أبي العزا بن أحمد الغزى الشافعي الأنصاري الأزهري ورجع إلى غزة وانكب على الإفادة وشاع ذكره واشتهر فضله وكان عالما جليلا متضلعا من العلوم وإن غلب عليه علم الفرائض وكانت وفاته في سنة إحدى وخمسين وألف الشيخ حسين بن عبد الله المعروف بالمملوك نزيل دمشق أحد الأفراد المجمع على جلالته وتبحر في العلوم وتمكنه في التصوف والمعارف الإلهية والأدب وكان عالما متبحرا زاهدا ورعا عابدا متنسكا متجردا عن المال والأهل منفردا في زوايا التواضع والمسكنة حكى عن نفسه مرارا أنه كان في مبدأ أمره رقيقا لرجل من أعيان التجار بمدينة حلب بمحلة البياضة يقال له قرابكر واستمر مولاه يربيه كولده الذي من صلبه ويعلمه الكمالات ويقرئه باجتهاده وطلبه من عهد حداثته وأيام شبابه حتى مال طبعه إلى الكمال وقرأ على مشايخ حلب منهم الشيخ عمر العرضي وتلميذه الشمس العمادي العلوم العربيه والفنون الأدبيه ولم يزل حتى حصل شيئا وافرا من العلوم وأخذ طريق القوم عن الشيخ محمد العمادي والد الشمس وكان له قدرة على تأليف مقامات الصوفية بالألحان الطيبة وينشد كلام القوم في حلقة الشيخ محمد العمادي المذكور ويقرئ الطلبة في مقدمات العلوم وكان أعتقه مولاه من رقه وأحسن إليه وبالغ في إكرامه وسلم إليه جميع ماله وصار يرسله إلى البلاد بأسفار التجارة ويلاحظه السعد في أسفاره إلا أن حصل لسيده شيئا كثيرا من المال ثم توفى سيده بحلب فتجرد من قيده في التجارة وفارق حلب ورحل إلى مصر وجاور في جامع الأزهر وقرأ على مشايخ ذلك العصر واجتهد في التحصيل إلى أن صار من أكابر العلماء وصناديد الفضلاء وحج وجاور سنين وقدم دمشق وأقام بها مدة ثم سافر إلى حلب وأخذ العهد من طريق الخلوتية وتجرد وترك صحبة الناس ومعاشرتهم والتزم السلوك في طريق الحقيقة على دأب مشايخ الصوفية وبرع في الزهد والصلاح وكان له في الأدب حظ وافر وله التفوق في دقائق الألغاز والمعميات ونظم الشعر البديع وجمع لنفسه في آخر أمره ديوانا من شعره وأحسن في جمعه وضبطه وكذلك جمع ديوانا من ألغازه ورتبه على حروف المعجم ووسمه بتشحيذ الحجا بألغاز حروف الهجا وشرح ألغاز الأستاذ عمر بن الفارض في نمط بديع وأسلوب عجيب وألف رسائل كثيرة في فنون عديدة ومن شعره قصيدته النونية في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ومطلعها
لاح برق من بروق الابرقين ... أم سنا من نور أهل الرقمتين
حارت الألباب في معناهما ... ومعنى الوصل لا يدري لأين
بعد الطالب والمطلوب هل ... تنفع الشكوى بعيد الهجرتين
ليس يدنيه معين إذ غدا ... قاصي الدار معين المقلتين
فدعاه بعد بعد رحمه ... هاتف الغيب لمجلى الحضرتين
ثم نادى بلسان طلق ... صادقا في قوله من غير مين
يا أخا العزم بحزم حازم ... وبقلب يقظ ما فيه رين
قدم القلب وأخر قالبا ... والزم التقوى بصدق القدمين
واطلب الشرع ولازم عرشه ... مجمع البحرين جمع الجسين
وابق بالأخيار واجمع فوقهم ... وكن ابن الوقت وانف العدمين
إن ترم ترقى على هام العلى ... ساميا فوق سماء الفرقدين
فأت من أبوابها بوابها ... وتوسل برسول الثقلين(1/374)
أحمد المختار كنزا لا تقيا ... بهجة الكونين نور المشرقين
قامع الكفار ماحي شركهم ... جامع الأنصار حامي البلدتين
فاتح الأمصار بالسيف سوى ... يمن اليمن بها قرة عين
بكتاب أسلمت واستسلمت ... عدن الخير وصنعا وعدين
لم يكن لولا وجود المصطفى ... جود غفران وجود العالمين
فجزاه الله أعلى ما جزى ... من بني حاتم فياض اليدين
يا رسول الله يا سؤل الورى ... يا جميل الوجه أبهى القمرين
يا خطيب الحق للخلق ويا ... جامع الصدق إمام القبلتين
يرتجى الحسنى حسين سيدي ... يا أبا الإحسان جداً لحسنين
كن له يا ذا المعالي شافعا ... في عماد يا عماد النشأتين
وأعنه حيث يأتيه القضا ... وأغثه من سؤال الملكين
وتقبل سعيه يا من به ... شرع الحج ومسعى المروتين
فعلى ذاتك من رب السم ... اء صلاة وسلاما دائمين
وعلى الآل مع الأصحاب ما ... ذكر البدر ببدر وحنين
وقرأت بخطه على هامشها ما صورته هذه القصيدة عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرني به قطب وقته السيد صبغة الله القاطن بالمدينة المنورة والعهدة عليه وقرأت بخط بعض الناس نقلا عن صاحب الترجمة قال ورد سؤال إلى الجامع الأزهر بمصر مشتمل على بيتين قيل إنهما للشيخ العارف بالله تعالى أبي الحسن الشاذلي وهما
عينان عينان لم ترقأ دموعهما ... لكل عين من العينين نونان
نونان نونان لم يخططهما قلم ... لكل نون من النونين عينان
فأجاب من أجاب عنه بما ناسب قدره لكنه ضل في غيهب ليل فكره وما صادف قدره وألهمني الله عنه ما يقرب من الجواب فلعله أن يكون قاضيا به لا قاصيا عن الصواب فقلت
جوابه سورة الرحمن ناطقة ... به أيا روح ذاتي عين إنساني
فكل عين لها نون عليك بها ... لكنها باعتبار البسط نونان
هذا ونونان أن تطلب بيانهما ... فاسماهما منهما لا رسم قرآن
فاسم على سمك واسم على ملك ... يرى لكل من الاسمين عينان
هاك البيان بتقرير اللسان به ... تحرير سر جناه كنز عرفان
ومن شعره قوله مقتبسا
كم من جهول في الغنى سارح ... ومن عليم في عناه مقيم
قد حارت الألباب في سر ذا ... وطاشت الناس فقال الحكيم
لا يسئل الخلاق عن فعله ... ذلك تقدير العزيز العليم
وقوله
يا راضيا بعلومه بين الورى ... إياك فيها أن يشينك قادح
لتكون مرضيا بها عند الندى ... يا أيها الإنسان إنك كادح
وقوله
يا من يروم إلى الحقائق مسلكا ... إن شئت فيها أن تصير بصيرا
فعليك بالهادي النصير كفاية ... وكفى بربك هاديا ونصيرا
وقوله
إلهي تناجيك السماء وأهلها ... وترجوك أهل الأرض حقا وتقصد
تباركت يا رحمن أنت رحيمنا ... ومالك يوم الدين إياك نعبد(1/375)
وبالجملة فله آثار كثيرة واستقر آخر أمره بدمشق وسكن في المدرسة الكلاسة في حجرة صغيرة تجاه الجامع الأموي في جوار مرقد السلطان صلاح الدين بن أيوب وقرأ عليه الجم الغفير من أهل دمشق أنواع العوم وبه انتفعوا في فنون الأدب وفي حل كلام ابن الفارض وكان عيشه بدمشق أمرا غريبا لا يعرف له أحد وجه معاش وكان لا يقبل من أحد شيئا ما ولو كان على سبيل الهدية وكان لا يعاشر إلا الفقراء وأرباب الطريق من الصوفية وكان ملازما لزيارة قبور الأنبياء والأولياء ومشايخ العلم ممن لهم مراتب معلومة وكان في أكثر أوقاته يوجد متنزها في بساتين دمشق وغياضها ويجلس على جانب الأنهار مع طلبة العلم والفقراء المترددين إليه وعمر كثيرا حتى بلغ رتبة الثمانين وحظى في زمانه بشرف صحبة أئمة كبار جالسهم وعاشرهم وأخذ العلم عن أساطين عالية المقادير وساح كثيرا في البلاد حتى انتهت سياحته إلى استقرار بدمشق وبها توفى وكانت وفاته في سنة أربع وثلاثين وألف وكان مرضه الإسهال ودفن بمقبرة باب الصغير وقال أبو بكر العمري شيخ الأدب المقدم ذكره في تاريخ وفاته
مذ عالم عصره إمام التوحيد ... قد حل برمسه غريبا ووحيد
قالوا أشهادة له قد حصلت ... أرخت بلى حسين قد مات شهيد
الشيخ حسن بن عبد النبي بن عمر الحلبي الأصل الدمشقي المعروف بابن الشعال إمام السلطان العالم المشهور وكان أبوه عبد النبي خادم نبي الله يحيى بن زكرياء عليهما السلام وكبير الشعالين بجامع بني أمية ونشأ حسين هذا ولزم الاشتغال حتى برع في الفنون وخصوصا القراآت وكانت قراءته جيدة وصوته حسنا وكان رجل رومي ورد إلى دمشق فأحدث له بعض قضاة الشام إمامة بجامع بني أمية فكان يقرأ الفاتحة ويقول ولا الضالين بفتح اللام على صيغة التثنية وكان يقول أيضا غير المغضوب بفتح الضاد وسكون الواو فأنكر الناس عليه ففرغ لحسين هذا عن وظيفة الإمامة المذكورة وباشرها مدة وكان إذ ذاك مع حداثة سنة متصنعا في أسلوبه متعظما جدا وله دعوى عريضة ودخول في أبواب لم يحم حولها ومنها الشعر حتى نظم قصيدته المشهورة في مدح السيد الشريف محمد بن السيد برهان الدين قاضي القضاة بالشام وهي من أعجب ما سمع من القول وتعرف في هذه البلاد بالقصيدة القرمحشدية وأثبتها هنا لما اشتملت عليه من العجب العجاب وهي قوله
محمد قرم حشدمحدث نجل حبرمطهر حدث جزرمصدر الحكم مسبار
سطاع سعدك سلعسماك سمحك سرحسكال سرك سهمسماط سحلك مدرار
نجاف نجدك نجحنطاف نسلك نهرنجار نهجك نورنقاط نجلك مكثار
نقاب نعتك نشرنحاس نجرك نقعنبال مدحك نظمنفاس مدحك مدكار
شعاب شرك شقصشمال شهمك شرحشعار شجك شكدشقاب شهدك ممهار
صدار صمدك صوفصنار صبرك صدعصراط صدقك صنمصحاب صفقك مقدار
مطاع مردك محضمخاض معقك مخضملاك ملكك ملكملاع محرك مضمار
دنار دينك دنسدلاض دبرك دفحدعاف دبسك دبلدثار دبرك مسمار
مهار معرك نتكملاط مرحك ملحمعاس معدك مهدملاح مصرك معشار
دوام دولك درسديار دبرك دعضدوام درسك درددلاس دهنك معطار
جراد جزلك جزرجماع جلك جفلجيار حرسك حبلجراب حلبك مهدار(1/376)
وهذا آخرها والحمد لله على التمام وقد شرحها الأديب أبو بكر العمري المقدم ذكره شرحا مستوفيا لخرافات ابتدعها وقال في ديباجة الشرح الحمد لله الذي خلق العقل وأودعه من أحب من هذا الحيوان الناطق وجعله زينة للنوع الإنساني وميز به الصاهل والناهق إلى آخر ما قاله ثم أخذ في شرح الأبيات وبالجملة فهو شرح غريب الوضع واستمر صاحب الترجمة مقيما بدمشق إلى أن وقعت له مع جملة من فضلاء دمشق قصة جهات الحسن البوريني لما مات كما أسلفته في ترجمته فرحل بعدها إلى الروم وتوطنها وأراد أن يسلك طريق الموالي فلم يتيسر له فصار إماما ثانيا في جامع السلطان أحمد ثم صار خطيبا بالسليمانية واستمر مدة مديدة إلى أن توفى المولى يوسف بن أبي الفتح الدمشقي أما الحضرة السلطانية فصار مكانه إماما وكان ذلك في عهد السلطان إبراهيم وسما حظه ونما شأنه إلى أن صارت له رتبة قضاء العسكر بروم ايلي وكان أراب الدولة يجلونه ويعظمونه واشتغل عليه خلق كثير خصوصا من أهل الحرم السلطاني وكان مغرما بالكيميا وأنفق عليها أموالا جمة وكانت وفاته في ثالث جمادى الأولى سنة تسع وستين وألف رحمه الله تعالى الحسين بن علي الوادي اليمني من شعراء اليمن الفائقين وكان أديبا شاعر الطيف الطبع كثير الإحسان في شعره رأيت خبره في مجموع بخط الأخ الفاضل مصطفى بن فتح الله وقد أثنى على فضائله وذكر له من شعره هذه القصيدة ومطلعها
نسيم الصبا في سوحنا يتبختر ... لك الله ما هذا الأريج المعنبر
أأنت رسول يا نسيم الصباء عن ... حلول الحمى أم أنت عنهم مبشر
فهمت الذي أودعته غير أنني ... أحب حديثا منهم يتكرر
لما ألفته النفس منهم وعودت ... وإلا فعلم الغيب لا يتقدر
فكرر على سمعي أحاديث ذكرهم ... عسى تنطفي نار بأحشاى تسعر
هم استصحبوك السر بيني وبينهم ... لأنك أبدى بالجميل وأبدر
ومثلي هداك الله يا ساري الصبا ... يسرك والمعروف أجدى وأجدر
وابلج أما الخد منه فاحمر ... وأما قوام القد منه فأسمر
وأما ثنايا ثغره حين يجتلى ... فكاس جمان فيه خمر وكوثر
تغازل عن عيني مهاة وشادن ... يلاحظنا منها سهام وأبتر
هي البيض إلا أنها حندسية ... هي النبل إلا أن تتكسر
هي السحر إلا أن فيها خصائصا ... بها عالم السحر الصناعي يسحر
وفي خده خال يقولون إنه ... له في جامع الحسن منبر
بلى ذلك الخال الصريح إشارة ... عديمة مثل لا بلال وعنبر
شكوت له من فترة في جفونه ... لشدة ما ألقى بها حسين تفتر
وما أنا فيه من هوى وصبابة ... تبيت بها الأحشاء تطوى وتنشر
وأفصح عن لفظ توهمت أنه ... جمان من الثغر الجماني يبهر
وقال نعم هذا العيني مذهب ... وفتنة نفس المرء شيء مقدر
بروحي جوار اللحاظ وقده ... يحقق فينا عدله حين يخطر
ألا إن عدل القد أكبر شاهد ... عليك بجور الحكم والله أكبر
ورقة هذا الجسم منك بأنني ... رقيق هوى والمثل بالمثل ينظر
فلله أزمان تواصل يومها ... بليلتها والعمر كالعيش أخضر
وليل عهدناه وإن كان أسودا ... كشعر الصبا يشكو سوادا فيشكر
وأحباب قلب ليس إلا هم المنى ... صفاء ودادي فيهم لا يكدر
دلائل عشقي في هواهم صريحة ... ومعرفتي في حبهم ليس تنكر
ربحت هواهم في زمان شبيبتي ... وشبت فلن أرضى بأني أخسر
فلا تنكروا أن أرسل الجفن دمعه ... وقد جاء في رأسي من الشيب منذر
ويعقوب أحزاني ويوسف فتنتي ... وصالح أعمالي عساني أوجر
خليلي عهد الله إن جزتما الحمى ... وعاينتما قلبي ببيداه يجأر(1/377)
فدلا عليه جيرة الحي واذكرا ... لهم من حديث الصب ما يتيسر
ومن شعره قوله وهما آخر شعر قاله
وقد مات شيطاني ولكن نائبا ... عن الغي حتى الشعر فالله يرحمه
وخلفت دين الصادرين إليكما ... يكفر ذنبا للقريض ويختمه
وكانت وفاته في سنة ست وسبعين وألف بالجبى بفتح الجيم وكسر الباء الموحدة ثم ياء نسب اسم لحصن عظيم عال من بلاد ريحة وبينه وبين السيد محمد بن المطهر الجرموزي مراسلات لطيفة ستأتي إن شاء الله تعالى في ترجمته الأمير حسين بن فياض الحياري أمير العرب كان من أمره أنه لما مات أبوه ظن أنه ولى عهده في الإمارة فوضع يديه على خزائن والده واحتفت به العرب وإذا بابن عمه الكبير الأمير مدلج بن الأمير ظاهر قدم بجماعة من الأمراء وحولوا حسين عن الإمارة وعن خزائن والده وحاولوا قتله فهرب فانعقدت الإمارة لمدلج لكونه أكبر منه وأوجه وأقرب إلى سلسلة الإمارة ولكونه كان شريك والده في قتل الأمير شديد ابن عمهما الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وكان أميرا وكان الأمير فياض عاهده على أنه إذا مات تكون الإمارة من بعده له ثم نزل حسين على بعض الكبراء واستظل بظله حتى أصلح بينه وبين مدلج وجعل له جانبا من الولاية قليلا ثم وقع في بغداد ونواحيها ثلج عظيم وكان لم يعهد وقوع الثلج قبل ذلك ببغداد وحسين هناك ومدلج بعيد عنه فأمن مدلج بسبب ذلك فركب حسين في الثلج وذهب بعد أيام إلى منازل مدلج ونزل خفية حتى يدرك الليل ويدخل إلى نسائه وكانت زوجة مدلج بنت شديد تساهر النساء وكان مدلج يدخل ثملا من الخمر فلبس حسين لباس النساء ودخل بينهن وأطال الجلوس حتى يجد فرصة في قتل ابن عمه وكانت بنت شديد زوجة لوالد حسين فبالفراسة عرفته وتحيرت بين أن تسكت فيقتل زوجها وبين أن تتكلم فيقتل ابن زوجها وإن قالت له اهرب تخاف أن يسمع زوجها فقالت في مؤخر كلامها بمناسبة لا ينبغي المخاطرة في الأمور وينبغي الاحتفاظ على النفس من القتل فلما علم حسين أنها اطلعت عليه خرج من بين النساء هاربا ثم وقع في خاطرها أنه ربما يقتل زوجها خارج دارها فصبرت ساعة ثم بعثت لزوجها أنني رأيت بين النساء من يشبه الحسين وما تحققت هذا الأمر فاحتفظ على نفسك فعند ذلك بعث مدلج جماعته فوجد الحسين ركب فرسه وانهزم فأتبعه بالعساكر فما أدركوه ثم بعد ذلك كثر أتباع الحسين من العرب وواعده طائفة من العرب الذين عند مدلج أن يتابعوه ويشايعوه فأشار عليه قوم بأن يأخذ من مراد باشا حاكم حلب عرضا في الإمارة ليتقوى من جانب السلطنة بعدما قال له بعض العرب الأروام لا وفاء لهم بالعهود فلم يسمع وجاء إلى حلب وقدم الهدايا إلى الباشا وعده وكتب الوزير إلى مدلج يطلب منه خمسة وعشرين ألفا ليقتل له الحسين فوعده فغدر مراد باشا بحسين ووضعه في سجن القلعة حتى جاءه المال فخنقه ثم بعث عساكره لنهب أمواله وجماعته فقاتلوهم فانهزم أتباع مراد باشا وأخذ عرب حسين جميع ما كان بيد جماعة مراد باشا حتى نزعوا ثيابهم وأدخلوهم إلى بلاد أريحا عراة حفاة كأنهم وردوا الحساب ثم إن الله سلط الوزير الحافظ حتى قتل مراد باشا(1/378)
حسين بن قاسم بن أحمد بن محمد الملقب حسام الدين المغربي الجويزي المالكي العتيقي الدرعي ويقال الدروي الأديب الشاعر المفلق ذكره الشهاب الخفاجي في كتابيه في قسم المغاربة والنجم الغزى في ذيله وقال قدم دمشق في سنة خمس بعد الألف وكان قدومه إليها من بلاد الروم صحبة منلا محمد أمين العجمي السابقي دفترى دمشق بعد أن أقام بها مقدار نصف سنة وكان محمد أمين يعظمه ويصفه بالفضيلة وكان في نفس الأمر علامة يعرف بالعربية بأنواعها ويحيط كثيرا ويذكر أخبار علماء الغرب من أقرانه فمن قبلهم ويستحضر وقائعهم ووجدت بخط القاضي عبد الكريم الطبراني في بعض مجاميعه أنه اجتمع به وسأله عن مولده ونسبته ومشايخه فذكر أن مولده في أوائل صفر سنة ثمان وسبعين وتسعمائة بوادي درا ونسبته إلى العتيق الإمام أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأما مشايخه فمنهم الشيخ الإمام المعروف بالمنجوري والإمام الحميدي والزفوري والقدومي قال وأما شيخي الذي عليه قرأت عدة فنون وهي الفرائض والحساب والعروض والفقه فهو الإمام العالم العلامة وحيد تلك الديار الشيخ أبو العباس المشهور بابن القاضي طالما أرضعني أفاويق در الآداب وألقى إلي علوما أجلها الفرائض والحساب قال وسألته عن سبب تغربه فقال هو أمر قدرة الله وكان في نفسي مشاهدة أفاضل الديار الدمشقيه والتعبد بالجامع الأموي حتى بلغني الله الأمل وأملى كثيرا من شعر أهل المغرب وله من أبيات كتب بها إلى محمد بن علي الفشتالي كاتب الإنشاء الشريف بالحضرة المراكشية معاتبا
عليك أخاف يا مولى الكتابه ... ودادا بالصدود سددت بابه
وما ذنب المغرب معك حتى ... تضاع ذمامه بجفا أرابه
قال فكتب إلي جوابا وهو قوله
أعيذك من ظنون واسترابه ... بنيت قبابها فوق الضبابه
بروق تحت راعدة بصيف ... تثير سحابها ريح الكتابه
تهدد من أخيك برى عيب ... يفر إلى السرور من الكآبه
وعند الله مجمع كل حق ... وما كل الدعاء بذي استجابه
وذكره الفيومي في منتزهه وأنشد له قوله
ولي صاحب قد هذبته يد الصبا ... مودته في غيبة وعيان
ولكن هواه مع هواي تخالفا ... تخالف رؤيا السجن للفتيان
فيهوى بني نجد ولين خصورهم ... وأهوى بنات الغور طول زماني
تذكرني حالي وإياه قوله ... رفيقك قيسي وأنت يماني
قال النجم الغزي ثم خرج من دمشق حاجا وقطن بمدينة العلافي طريق المدينة من الشام وأحبه أهلها وأقبلوا عليه وجعلوه لهم إماما وخطيبا ومعلما لأطفالهم ومفتيا لهم على مذهب مالك لأنهم مالكيون ثم إنه خرجت عندهم عين ماء قريبة من البلدة فخرج إليها حسين فوجدها ممكنة الوصول إلى مدينة العلا فساعده أهلها حتى أجروها إلى أرض هناك وخصوه بها ورأوا أن ذلك من بركته قال ولما حججت في سنة سبع بعد الألف زارني وحدثني بحديث العين وسألته عنها فأخبرني أنها تبلغ مجرى من الماء بحيث تستقل وتغنى وإنه أحيا بها أراضي كثيرة قال وحدثني في تاسع عشر ذي القعدة أو عشريه بالمنزلة المذكورة قال حدثني الشيخ محمد بن العجيمي النجاري قاضي جبلة وزبيد باليمن قال سألت ولي الله محمد بن عجيل اليمني فقلت له قد تزايد ظلم الأروام وتجاوز فقال قلت للبرهمتوشي يعني الشيخ شهاب الدين أحمد البرهمتوشي الحنفي علامة مصر مثلما قلت لي فقال أنكرت ذلك فذهبت إلى الدفتردار فكتبت سائر المظالم وسافرت إلى السلطان سليمان خان فبينما أنا في حلب إذ سمعت هاتفا جالسا في الهواء على كرسي فقال لي
إذا نحن شئنا لا يدبر ملكنا ... سوانا ولم نحتج لشخص يدبر
فقل للذي قد رام ما لا نريده ... وحاول أمرا دونه يتعذر
لعمرك ما التدبير إلا لواحد ... ولو شاء لم يظهر بمكة منكر
قال فرجعت وسلمت الأمر إلى الله تعالى قال وأنشدني لنفسه
أرى غارة الأقدار للمرء لاحقه ... ولو فر منها راكبا متن شاهقه
وما خط في أم الكتاب تسوقه ... إليه المقادير التي هي سابقه
فلا ذاق من صاب التغرب من بكى ... على مغربي ضاع بين مشارقه(1/379)
فعاتبته على ذلك وقلت له ما ضعت بين المشارقة بل شاع ذكرك وضاع نشرك وسما قدرك فما أنصفت فبما قلت فاعترف بذلك من حيث لا يسعه الإنكار وقال إنها نفثة مصدور على وجه الاعتذار ثم أدمج القول بأنه وإن حصل في العلا تمام النعمة إلا أنه في بلدة صغيرة ليس بها عالم يعرف قدره ثم أنشدني مقالة العتابي يشير إلى ذلك
المرء في سوق الزمان سلعه ... يرخص أو يغلو وبقدر البقعه
وها أنا بوادي درعة رخيص ... وليس لي عما قضى الله محيص
يا من يلومني على سكنى درى ... فلا تقل لما جرى كيف جرى
وهذه الأبيات تدل على أنه يقال للمكان درعة بفتح الدال المهملة وسكون الراء وبعدها عين مهملة ودرى والراء مفتوحة إلا أنه سكنها ضرورة ولغة في درعة ومن هنا يقال في النسبة إليها درعي ودرى قال ثم اجتمعنا به في الرجعة في أواخر المحرم سنة ثمان فأنس بنا وأنسنا به ولما عدت إلى الحج في سنة عشرة رأيته قد سافر إلى الروم وعدت إلى الحج في سنة إحدى عشرة فلما كنا بمكة المشرفة في أواسط ذي الحجة بلغنا أنه غرق في بحر جدة في المركب المعروف بالخاصكية في الشهر الذي قبله لحقته غارة الأقدار وساقت غليه المقادير ما خط في أم الكتاب رحمه الله تعالى الحسين بن الإمام القاسم بن محمد بن علي قال القاضي الحسين المهلا في حقه إمام علوم محمد الذي اعترف أولو التحقيق بتحقيقه وأذعن أرباب التدقيق لتدقيقه واشتهر في جميع الأقطار اليمنيه بالعلوم السنيه أخذ عن والده الإمام المنصور القاسم ولازمه حتى برع وترعرع وأخذ عن الإمام العلامة لطف الله بن محمد بن الغياث المظفري وجدي المجتهد عبد الله المهلا ولقي كثيرا من شيوخ عصره وله التصانيف الشهيرة كغاية السول في علم الأصول وشرحه هداية العقول وكتاب في آداب العلماء والمتعلمين اختصره من كتاب جواهر العقدين للسيد السمهودي وكان له الخط الحسن الذي لا نظير له ومن شعره البديع قوله
مولاي جد بوصال صب مدنف ... وتلافه قبل التلاف بموقف
وارحم فديت قتيل سيف مرهف ... من مقلتيك طعين قد مرهف
فامنن بحقك يا حبيب بزورة ... يحيي بها القلب القريح فيشتفي
أعلمت أن الصد أتلف مهجتي ... والصد للعشاق أعظم متلف
عجبا لعطفك كيف رنح وانثنى ... متأودا وعلي لم يتعطف
أنا عبدك الملهوف فراث لذلتي ... وارفق فديتك بي لطول تلهفي
عرفتني بهواك ثم هجرتني ... يا ليتني بهواك لم أتعرف
حملتني ما لا أطيق من الهوى ... وأذقتني سم الفراق المدلف
يا مهجتي ذوبي ويا روحي اذهبي ... من صده عني ويا عيني اذرفي
هل من معين لي على طول البكا ... أو راحمي أو ناصري أو منصفي
وإليك عاذل عن ملامة مغرم ... لا يرعوى عما يروم ولا يفي
حاشاي أن أسلو وأنسى عهد من ... أحببته إني أنا الخل الوفي
قل ما تشاء فإنني يا عاذلي ... لا أنتهي لا أنثني عن متلفي
أنا عبده لا أكتفي عن مالكي ... والعبد عن ملاكه لا يكتفي
يا قلبه القاسي أما ترثي لمن ... قاسى هواك جوى وطول تأسف
اعطف على قلب سلبت فؤاده ... واستبق منه بالنبي الأشرف
وكانت وفاته يوم الخميس رابع عشري شهر ربيع الآخر سنة خمسين وألف بمدينة ذمار وبها دفن رحمه الله تعالى(1/380)
السيد حسين بن كمال الدين بن محمد بن حسين بن محمد بن حمزة بن أحمد بن علي بن محمد بن علي بن حمزة الحراني ابن محمد بن ناصر الدين بن علي بن الحسين المحترف ابن إسماعيل بن الحسين النتيف ابن أحمد بن إسماعيل الثاني ابن محمد بن إسماعيل الأعرج ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام السيد الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين هذا نسب بني حمزة نقباء الشام وكبرائها أبا عن جد وسيأتي في كتابنا هذا منهم أناس تشرف بهم هذا العصر والسيد حسين هذا وأخوه السيد محمد روح الله تعالى روحهما فرقد أسماء هذا البيت ونيرا فلكه وكل منهما بارع في الفنون كبير الشان وسيأتي السيد محمد كما ذكرنا وأما السيد حسين فإنه اشتغل وبرع وسما قدره إلى معالي الأمور فسافر إلى الروم وأقام بها زمانا طويلا وتقلبت به الأحوال إلى أن قدم إلى دمشق ورأس فيها وصار نائبا بالمحكمة الكبرى وقساما للعسكر ودرس بالمدرسة الفارسية برتبة الداخل وكان فاضلا كاملا وجيها حسن المصاحبة لطيف العشرة أديبا مطبوعا رأيت من آثاره كتابا جمعه وسما بالتذكرة الحسينية ذكر فيه شعراء متقدمين كالشريف الرضي ومن نحا نحوه وختمه بذكر بعض معاصريه من الشعراء ثم ذكر في آخره حصة وافية من نظمه فمن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها رؤساء الروم ومطلعها
خفض عليك أخا الظباء الغيد ... وارحم مدامع جفني المسهود
كم ذا أعلل بالأماني تارة ... قلبي وطورا بانتظار وعود
ولكم أبيت بليلة الملسوع في ... اذني سميع في التفتا رصيد
يا مسرفا في هجره لمتيم ... هجرت محاجره لذيذ هجود
أهون برغبتك القلى والجهد في ... تعذيب شلو فؤادي المفؤود
لم يبق هجرك في قلبا خافقا ... لسرور وغد أو لخوف وعيد
وغدوت من فعل السقام كأنني ... أوهام فكر في خيال بليد
أدنيتني حتى ملكت حشاشتي ... وتركتني وقفا على التنكيد
وقوله من أخرى
معاذ الهوى إن الصريع به يصحو ... ليعقل ما يملى على سمعه النصح
وكيف ترجى منه يوما إفاقة ... وزند الهوى في عقله عظم القدح
دع القلب يشقى في طريق ضلاله ... ففي رأيه أن الوصول بها نحج
تؤمل آمالا مدى العمر دونها ... كأن مطايا النائبات به جمح
يكتم أسرار الغرام فؤاده ... ويفضحه من مزن مقلته السح
لقد ألفت عيناه أن تنضح الدما ... وتلك دما لب به أحكم الجرح
يعاف الكرى منه المحاجر كارها ... تزول جراح جرحها شأنه الرشح
له في انتظار الطيف جفن مؤرق ... تفيئه من شدة الأرق القرح
ولم يدر أن الطيف يحذر أن يرى ... نزيل بيوت دأب أبوابها الفتح
غدا دهره بالهجر ليلا جميعه ... وحسبك دهر بالنوى كله جنح
كأن نجوم الأفق فيه تنصرت ... فليست لغير الشرق وجهتها تنحو
كأن الثريا والنسور تخاصما ... وظلا على جد يجانبه المزح
كأن به الشهب الثواقب تنبري ... مراسيل ذات البين يرجى بها الصلح
كأن به خيط المجرة جدول ... توارده الحبشان وازدحم الترح
كأن ظلام الليل في الجو عثير ... تغشى صفوف الجيش من جونه قبح
كأن به العيوق ملك مبجل ... كأن اخضرار الفجر في أفقه صرح
وقوله من أخرى
خفض عليك أخا الظباء الرتع ... أنت الشريك بما رميت به معى
أرسلت من أجفان لحظك أسهما ... مذ فوقت لم تخط قلب مروع
قد ظل موقعها الفؤاد وإنني ... لم ألق غيرك ثم في ذا الموضع
كلفت بحبات القلوب كأنما ... تبغي الوقوف على الضمير المودع
يا من غدا يسطو علي بهجره ... أو ما رحمت نحيب صب مولع
شيئان تنصدع الجوانح منهما ... تغريد ساجعة وأنه موجع(1/381)
كم رمت أخفى عن سواك صبابتي ... وبها ينم علي شاهد أدمعي
يهفو لغي فيك قلبي ثم لا ... يصغى لغش بالرشاد مقنع
قل للعذول عليك يترك غشه ... بالنصح لي فلذاك أذني لا تعي
لم تخف قط بشاشة لؤم الفتى ... فالطبع يفضح حالة المتطبع
إن الملام وحق وجهك في الهوى ... ما زاد غير تولهي وتولعي
قد زاد فيك تألفي بتألمي ... وتفكري فيك انتهى لتمتعي
قوله خفض إلى آخر الأبيات الثلاثة من المطلع هو مضمون قول مهيار في أبياته
أودع فؤادي حرقا أودع ... ذاتك تؤذي أنت في أضلعي
أمسك سهام اللحظ أو فارمها ... أنت بما ترمي مصاب معى
موقعها القلب وأنت الذي ... مسكنه في ذلك الموضع
ومن شعره قوله من قصيدة أخرى
أراني الزمان فعالا خسيسا ... وخطبا يبدل نعماه بوسا
منها
ومذ أسكرتني صروف الزمان ... نسيت بها الكاس والخندر يسا
وألزمت نفسي حال الخمول ... وعفت المنى وهجرت الجليسا
فقد يمكث السيف في غمده ... حصونا ويستوطن الليث خيسا
ومنها في المديح
بعزم تراه إذا ما بدا ... بمعضل أمر يفل الخميسا
ولا تملك القلب منه الرداح ... ولو أشبه الوجه منها الشموسا
ولو تك لو لم تمس ما اهتدت ... غصون الرياض إلى تميسا
وقوله مضمنا بيت الأرجاني مرتجلا
لست أنسى لياليا قد تقضت ... بوصال وطيب عيش بمغنى
كم قضينا بها لبانة أنس ... وظفرنا بكل ما نتمني
حيث غصن الشباب ريان من ما ... ء صباه مع الهوى يتثنى
قد أتت بغتة وولت سراعا ... كطروق الخيال مذ زار وهنا
أترى تعود لي بالتداني ... ومحال جمعي بها أو تثنى
غير أني أعلل النفس عنها ... بالأماني الكذاب وهما ووهنا
أتمنى تلك الأيام المنيرا ... ت وجهد المحب أن يتمنى
وهذا ما وقع اختياري عليه للإثبات هنا من شعره وله غير ذلك وكانت ولادته في سنة إحدى وثلاثين وألف وتوفى في أوائل شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين وألف ودفن بتربة الايجية في سفح قاسيون رحمه الله تعالى(1/382)
السيد حسين بن محمد البيمارستاني نقيب الأشراف بحلب وكان يكتب الحسيني تولى نقابة حلب بعد موت والده ونازعه الشمس الرامحمداني فإنه كان نقيبا قبل والد السيد حسين فتقرب السيد حسين إلى المولى يحيى بن سنان بالهدايا حتى قررها عليه وعرض له بها وكان صاحب أموال جزيلة حصلها من التجارات والمدانيات وأخذ أمرا بالتقاعد عن دفتردارية حلب وكان لا يأخذ من الأشراف مالا ولا يصادرهم بل كان يبذل لهم القرى ويقضي مهمات مصالحهم بخلاف غيره من النقباء ولما استولى خداوردي أحد أجناد الشام على حلب ونواحيها وامتدت يده زوج ابنته لابن خداوردي كما زوج الشيخ أبو الجود ابنته لخداوردي تقربا إلى جاهه ولما تولى الوزير نصوح كفالة حلب وفهم الشيخ أبو الجود أنه يريد الانتقام من خداوردي وبقية أجناد دمشق المستولين على حلب فر قبل وقوع الفتنة إلى دمشق والسيد حسين ثبت وكان يداري الباشا وهو في الباطن يبغضه وينوي له السوء والأمير درويش بن مطاف أحد متفرقة حلب مقبول الباشا كثير البغض للسيد حسين بواسطة أخيه السيد لطفي فإنه كان عدوا للسيد حسين مع كونه أخاه فكان السيد لطفي يثلب أخاه بحضور الأمير درويش والأمير درويش ينقل ذلك للباشا حتى وقع الحرب بين نصوح باشا وحسين باشا ابن جانبولاذ كما ذكرناه سابقا وانكسر نصوح باشا وعاد إلى حلب مقهورا فوشى السيد لطفي أن أخاه فرح بكسر عسكر الباشا وأنه قرأ مولدا في هذه الليلة للفرح فذهب الباشا ليلا إلى دار السيد حسين فسمع ضرب الدفوف وأصوات الغواني وأمارات السرور وكان سببه أن بنت السيد حسين ولدت ولدا ذكرا في تلك الأيام فاجتمعت النساء للفرح ففي اليوم الثاني طلب الباشا السيد حسين فأخذ معه شريفا من بيت ضعاف الحبس ورجلا يقال له منصور بن حلاوة فدخل الثلاثة إلى دار السعادة فأمر الباشا بخنقهم خفية فخنقوا وألقيت أجسادهم في الخندق بحيث لا يشعر بهم أحد وضبط الباشا أموال السيد حسين وهرب السيد لطفي لما قيل له الباشا يقتلك أيضا وليوهم الناس إنني ما سعيت في قتل أخي وقد كان السيد لطفي يحلف الايمانات العظيمة أن أخاه يشرب الخمر ويلبس لبوس النصارى ويذكر ذلك للباشا وكان قتله في سنة ثلاث عشرة بعد الألف وعمره نحو سبعين سنة رحمه الله تعالى الشيخ حسين بن محمد بن علي بن أحمد بن عبد الله بن محمد مولى عيديدا الحضرمي الشيخ المفتي العلم الكبير قال الشلى في ترجمته ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن وغيره واعتنى بكشف المشكلات وصحب العارفين الأساتذة وأخذ عن جماعة منهم شيخ الإسلام أحمد بن حسين بافقيه والشيخ زين العابدين بن عبد الله العيدروس والشيخ عبد الرحمن السقاف ابن محمد العيدروس واعتنى بالمذهب فأحكم أصوله وفروعه ثم سعى الشيخ زين العابدين في تقليده القضاء لواقعة وقعت بينه وبين أخيه شيخ بن عبد الله العيدروس سيأتي ذكرها في ترجمة زين العابدين فتقلد صاحب الترجمة القضاء فحمدت أحكامه لكمال عقله وعلو همته ولم تطل مدته ففصل عنه وأقام مكبا على دروسه وفتاويه وكان كثير العبادة معتنيا بالإصلاح كثير الخشوع والورع وكانت له عند الملوك المنزلة العليا قال الشلى رأيته في تريم وقد وقف على ثنية الوداع وهمت أركان حياته بالانصداع ولم يزل في عز محروس الدين والنفس إلى أن مات وكانت وفاته في سنة أربعين وألف بمدينة تريم رحمه الله تعالى المولى حسين بن محمد بن نور الله بن يوسف المعروف بأخي زاده مفتي دار السلطنة وأحد أفراد العالم في الفضل والذكاء والمعرفة وكان أعجوبة وقته في التبحر في الفنون ومعرفة العربية وشاع ذكره واشتهر فضله وله تحريرات ورسائل تدل على دقة نظره وتفوقه وأشعاره بالتركية كثيرة وكان يتخلص بهدايي وأما شعره العربي فلم أقف له إلا على هذين البيتين وهما قوله
أيها المبتلى عليك بخمر ... إنها للعليل خير علاج
ثم لا تشربن إلا بمزج ... أول الواجبات أمر المزاج(1/383)
مولده بقسطنطينية وبها نشأته ودأب في التحصيل حتى فاق أهل عصره وما زال يترقى في المناصب إلى أن ولى قضاء قسطنطينية في سنة سبع عشرة وألف ووليها ثانيا في سنة اثنتين وعشرين وألف بعد أن كان ولى قضاء العسكر باناطولى ثم ولى قضاء أناطولى مرة ثانية في سنة خمس وعشرين وولى بعد ذلك قضاء روم ايلي مرتين وعزل في المرة الأخير سنة سبع وثلاثين وكان قبل ذلك لما مات شيخ الإسلام المولى أسعد وحاول فتوى الممالك المولى محمد بن عبد الغني أرسل صاحب الترجمة يقول للسلطان كل من وقف على قدميه بحضوركم ورفعت إليه ثلثمائة مسئلة وكتب جواب المائتين من غير مراجعة فليعط الفتوى فلم يصغ إلى هذا ووجهت الفتوى للمولى يحيى بن زكريا فيقال إنه فرح بذلك لكونه أكبر منه وأقدم في المناصب وإنما غضب لو أخذها ابن عبد الغني وحين كان قاضيا بعساكر روم ايلي وكان الوزير الأعظم مره حسين باشا وكانت العساكر متغلبة على الدولة بسبب قتل السلطان عثمان ونسب القضاة والمدرسون إلى الوزير الأعظم أنه قال عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم أن من مات من ألف سنة كيف كلامه يعتبر وقد صار عظما رميما فسعى صاحب الترجمة في قتله وعزل عن الوزارة العظمى وقدم حسين باشا لضرب عنقه فضج العساكر في الديوان وقالوا لا تقتلوه إن شاء الله تعالى حتى نقتلكم فلم يبال صاحب الترجمة بل صعق بصوت هائل وقال للجلاد اضرب عنق هذا اللعين فضرب الجلاد عنقه في الحال ثم بعد ذلك سعى في الفتوى وعزل المولى يحيى والعسكر متغلبون والسلطان مراد ضعيف معهم فدخل عيد شهر رمضان فصنع العساكر الأراجيح وفرقوا الشمع على جميع أكابر الروم وكانوا يقولون فلان يعطى مائة قرش وقلان يعطى ألف قرش حتى فرقوا الشمع على جماعات من أهل السرايا وأعطوا الشمع للمفتي المذكور فرده ردا عنيفا وأحضر أخا لكبير أمراء السباهية وقال أنا أعرف أخاك حين كان أمر معشوقا لفلان واستطال عليه بالكلام فخضع له المذكور ثم إن صاحب الترجمة قوى جنان السلطان مراد حتى جمع السلطان جمعية على السباهية وزعزع أركان دولتهم وجلس السلطان على سرير جلالته القديمة وقتل الوزير الأعظم وهو رجب باشا الذي كان مستظلا بظل العساكر ثم أن السلطان مراد بعد ما قتل صناديد الأجناد أخذ يقتل بعض أعيان القضاة من الموالي وغير الموالي وكان من عادة بني عثمان لا يقتلون العلماء ففي أثناء ذلك توجه السلطان إلى بروسة فاجتمع جماعة من الموالي وشكوا فيما بينهم من السلطان وأنه خالف قانون أجداده في قتل العلماء ثم إن صاحب الترجمة كتب ورقة لحضرة والدة السلطان متضمنة أن قوانين السلاطين أن لا يقتلوا العلماء وإذا حصل منهم ظلم طردوهم إلى بلاد بعيدة ونحن من الداعين لابنك حضرة السلطان فنؤمل إذا قدم بالصحة من السفر تذكرين له ذلك بحسن عبارة ليترك هذا الأمر فلما وصلت الورقة إليها فكأنه وشى المفسدون أن المفتي والعلماء يريدون الاجتماع على خلع السلطان فكتبت إلى السلطان ورقة بذلك وبعثت بورقة المفتي فلما وصل الخبر إليه بادر بالمجيء من بروسة على أجنحة السرعة ودخل قسطنطينية وأحضر المفتي وخنقه في الحال وذلك في خارج قسطنطينية في قرية بساحل البحر ودفنه في مكان لا يعلم قبره وبعث بابنه إلى قبرس فاختل عقل ابنه ومات في غضون ذلك وولى الفتوى المولى يحيى بن زكريا وكان قتله في رجب سنة ثلاث وأربعين وألف رحمه الله تعالى(1/384)
الشيخ حسين بن محمد المعروف بابن فرفرة الدمشقي المجذوب الصالح المكاشف كان في مبدأ أمره من آحاد الجند الشامي وتعين مدة في باب قاضي القضاة بدمشق وكان يحضر من يطلب إحضاره للمخاصمة فاتفق أنع عينه بعض أرباب الحقوق إلى قرية عين ترما من قرى دمشق لإحضار رجل من أهاليها فسار إلى أن وصل إلى قرب القرية المذكورة فصادفته العناية الربانية فسلب في ذلك المكان وساح في تلك الدائرة مدة وظهرت له أحوال باهرة ثم سكن حاله واستقر في المنارة الغربية أحد المنارات الثلاث بجامع بني أمية واتخذها دلر مبيته وحفظ القرآن في مدة قليلة وكان يدارس به في السبع بين العشاءين بالجامع المذكور ويؤذن بالمنارة المذكورة للأوقات الخمسة وكان قواما بالليل يقضي ليله في تلاوة القرآن والذكر والتوحيد وإذا جاء وقت الثلث الأخير يصيح بصوت شجي ويقول لا إله إلا الله الملك الحق المبين محمد رسول الله الصادق الوعد الأمين ويكررها إلى أن يطلع المؤذنون إلى المنارة ويبدؤن بالتسبيح والتهليل ثم يؤذن معهم أذان الصبح ويذهب بعد طلوع الشمس إلى مزار بعض الصالحين تحت القلعة بالقرب من جامع يلبغا فيمكث وحده هناك ثم يعود إلى المنارة المذكورة وكان في بعض الأحايين يتركع بعد العشاء أو قبلها في محراب الحنابلة ركعات كثيرة غير معتدلة وكان له نزاهة وإعراض عن الدنيا وربما يعطيه بعض الناس شيئا فيأخذه منه ويعطيه على الفور لمن يستحقه وكان لطيف البداهة عذب المخاطبة وكلامه أكثره جواب وكانت تعتريه أحوال عجيبة وحركات غريبة وله مناقب مشهورة ومكاشفات مأثورة حدث بعض الثقات عن العلامة عبد الرحمن العمادي مفتي دمشق قال لما قدم الشيخ يوسف بن أبي الفتح إلى دمشق بعد وفاة السلطان عثمان ورأس في دمشق كان يبلغني عنه التعرض إلي ببعض المكروه فذكرت ذلك للسيد محمد بن علي المعروف بالمنير وكان من المعمرين الصالحين فقال لي الوقت لحسين بن فرفرة تذكر له ذلك فعرض ذلك عليه فجاء حسين بعد يومين إلى درس المذكور بالجامع الأموي والفتحي جالس يلقي الدرس في الشفا للقاضي عياض ومعه حرام وملأه أوخام من كناسة الجامع فدخل ونفض ما فيه على الدرس المذكور ثم خرج فبعد شهر جاء بريد يطلبه لإمامة السلطان مراد وكان إمامه المعروف بمنلا أوليا قد توفى في روان فذكر بعض خدمة السلطنة ابن أبي الفتح وأنه كان إمام الحضرة السلطانية فأخذ من دمشق بالإكرام التام ثم إن العمادي المذكور قال للسيد المنير ذهب الفتحي لكن ما ذهبت صولته فقال له إن المقصود كان ذهابه من هذه البلدة على أي حالة كانت وهذا الإبعاد عن الديار المقدسة إلى الأبد وهكذا وقع فإن الفتحي لم يعد بعدها إلى دمشق ومات بالروم واتفق لصاحب الترجمة من الكرامات ما اشتهر أنه أتى لدرس النجم الغزى مفتي الشافعية ومحدث الشام في عصره على الإطلاق وكان يقرئ صحيح البخاري تحت قبة النسر من جامع بني أمية فأخذ يورد كلاما خاليا عن الضبط ويسأل سؤالات خارجة عن المقصود فقال له النجم اسكت فقال له بل أنت اسكت وقام مغضبا من مجلس الدرس فاتفق أن النجم مرض بعد أيام واعتراه طرف من الفالج فأسكت وحضر الدرس نحو ستة أعوام وهو ساكت ثم تقرب إلى خاطر صاحب الترجمة فانطلق لسانه بعد ذلك وكان يقبل يد الحسين ويعتذر إليه بعدها ويرده وبالجملة فقد كان من أرباب القلوب والأحوال وما زال على حالته لا يتغير في طور من الأطوار إلى أن توجه إلى الحج فانتقل بالوفاة إلى رحمة الله تعالى في الطريق ودفن بمنزلة تبوك وقبره ظاهر يزوره الحجاج ويتبركون به وكانت وفاته في سنة سبع وستين وألف حسين بن محمد بن علي بن عمر بن محمد الحنفي الدمشقي المعروف بالقارى الفاضل الأديب الكامل نشأ في كنف أخيه أحمد واشتغل على شيخنا علامة العصر إبراهيم ابن منصور الفتال وعلى غيره وحصل فضيلة باهرة وكان يكتب الخط التعليق المعجب ودرس بالمدرسة الجهاركسية بصالحية دمشق واشتهرت نجابته وكان لطيف الشكل حسن الخطاب جميل المنظر طلق اللسان عالي الهمة على صغر سنة وطراوة عوده ونظم الشعر إلا أن شعره قليل وقل أن يوجد فيه نادرة أنشدني له بعض الإخلاء قوله مضمنا
بالله سل طرفي السهران هل هجعا ... وما به العشق والتبريح قد صنعا
قد حدث الناس عن مضنى الهوى دنفا ... وما أصابوا ولكن شنعوا شنعا(1/385)
يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما ... قد حدثوك فما راء كمن سمعا
وقوله في الرباعيات
إن جزت بحي منيتي حييه ... وأخبره عن المحب ما يرضيه
إن زار فقد حييت في زورته ... أو صد فإن مهجتي تفديه
وأنشدني قوله أيضا
أنادي إذا نام الهجيع تأسفا ... وقلبي من بين الضلوع كليم
هنيئا لطرف فيك لا يعرف الكرى ... وتبا لقلب ليس فيك يهيم
وقوله
أفديه ظبيا بالشراب مولعا ... يترشف الأقداح وهوا لا كيس
فكأنه البدر المنير إذا بدا ... من نور طلعته أضاء المجلس
وقوله
زار وهنا مرنح الأعطاف ... بعد أن كان مائلا للخلاف
من بأصداغه وراح لماه ... رحت نشوان سالف وسلاف
صد ظلما ولم يكن في ذنب ... غير دمعي أذاع ما هو خافي
أيها العاذل الجهول تأمل ... في محياه ثم قل بخلاف
وفي هذا القدر من أشعاره كفاية وكانت وفاته في سنة سبع وسبعين وألف عن سبع وعشرين سنة ودفن بمقبرة باب الصغير ومن نوادره أنه دخل عليه السيد محمد بن حمزة نقيب الأشراف بالشام في مرض موته يعوده وكان وصل إلى التلاف فقال للنقيب شرفتمونا تاريخ لعيادتكم هذه فحسب فوجد كما قال وهذا من كمال فطنته(1/386)
الشيخ الحسين بن محمد بن إبراهيم بن محمد الفقيه ابن أحمد الشهيد بن الشيخ المشهور الفقيه العلامة عبد الله بافضل بلحاج الحضرمي مؤلف المختصر الذي شرحه الشهاب ابن حجر ابن عبد الرحمن بن الفقيه أبي بكر ابن محمد بلحاج ابن عبد الرحمن بن الفقيه عبد الله بن يحيى بن القاضي أحمد بن محمد بن الفقيه فضل بن محمد ابن عبد الكريم بن محمد هذا ما وجد من نسب آل أبي فضل ولم يعلم إلى أين يرجعون وفي الظن أنهم يرجعون إلى قحطان لأن غالب عرب اليمن من قحطان ونقل الثقة عن الولي العارف بالله فضل بن عبد الله صاحب الشحر أنهم يتصلون بسعد العشيرة ونسب سعد العشيرة مذكور في سيرة ابن هشام وغيرها من كتب السير والتواريخ والنسب وفي طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب للملك الغساني سعد العشيرة هو ابن مذحج بالذال المعجمة ابن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشحب بن يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام ابن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام ابن ملك بن متوشلخ بن أخونخ بن أنوش بن شيث بن آدم عليهما السلام ومذحج هم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مذحج هامة العرب وغلصمتها وقيل إن آل أبي الفضل ينسبون إلى بني هلال انتهى والفقيه حسين المذكور ولد ببندر الشحر في سنة تسع عشرة وقرأ القرآن على عمه الفقيه أحمد بن إبراهيم وتفقه على جماعة منهم السيد شيخ بن الجفرى قاضي الشحر وقرأ النحو ثم رحل إلى اليمن ودخل عدنا وزبيدا ورحل إلى الحرمين وأخذ في هذه البلاد عن جماعة وبرع في التصوف وكان ربما تكلم بكلام انتقد عليه ثم عاد إلى الشحر وصحب الشيخ الجليل السيد أحمد بن ناصر والسيد حسن باعمر ورحل إلى الهند فأخذ عن السيد جعفر بن علي زين العابدين بن العيدروس وعن جماعة وعاد إلى مكة وحج وأخذ عن ابن عم أبيه الشيخ سالم بافضل وعن السيد سالم بن أحمد شيخان وصحب العارف بالله تعالى عبد الرحمن باوزير وكن يتردد بين المخا ومكة كل سنة يتجر في البن والقماش وزار النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عن الصفي القشاشي والشيخ زين بن عبد الله باحسن والسيد محمد بن علوي ورأى سنة ست وستين وألف في منامه كأن ملكا نزل من السماء فقطع رجليه قال فحصل لي بذلك القطع لذة عظيمة وتأولها الإقامة بمكة وكان كذلك وسافر إلى مكة فأقام بها من سنة ست وستين إلى أن مات وكان كثير المطالعة للفتوحات المكية ويحل مشكلاتها وكذلك غيرها من كتب ابن عربي والإنسان الكامل وكان لا يقول بعلم غير هذا العلم وكان معتقدا للصوفية مصدقا بجميع ما يتكلمون به وقد قال الجنيد التصديق بعلمنا هذا ولاية وقال إذا رأيتم الرجل معتقدا للصوفية فاطلبوا منه الدعاء فإنه مجاب الدعوة وكفى بأبي القسم شاهد حق وصدق وكان قائلا بوحدة الوجود التي عليها أكثر المحققين وكان يحضر درس الشمس البابلي والشيخ عيسى المغربي ثم تجرد للعبادة ولازم الكتب الشرعية حتى صار من أكابر العارفين المرشدين ولازم التلاوة والذكر وله نظم حسن وكان ذا ذوق وفهم وله تعلق بالأدب حفظ كثيرا من المقامات الحريرية وانتفع به جماعة كثيرون ولما حج السيد عبد الله بن علوي الحداد في سنة تسع وسبعين قام في خدمته وأكرمه إكراما عظيما وأنزله في داره وقام بنفقته ونفقة مريديه وزار معه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقبل وعاش بقدر ما وهبوه له ومن نظمه قوله
لمعت لنا أنوار ليلى واعتلت ... ثم انثنت تدنو إلينا واختفت
ومنه أيضا
بد لي سنا نجد فغابت نجومه ... فأفنى وجودي في شموس همومه
وأبقاني الوصف الشهودى فانيا ... وأحكام رسمي قد محته رسومه
إذا أنا لا أفنى ولم أك بالذي ... أحاط به المعنى فإني عديمه
معانيه في المجلى تعاظم قدرها ... ويحظى بها من كان حقا عظيمه
شهودا وعرفانا تراكم فيضه ... على من سقام الوجد كأسا يقيمه
شراب قديم ذو نعيم معجل ... وساقيه قد أسقى الندامى نعيمه
هو الذواق للمشروب فاعلمه يا فتى ... فمن ذاق ذاك الشرب فهو عليمه
بعلم قديم وهو في الخلق حادث ... ومن حضرة الأسماء كانت علومه(1/387)
علوم لها في كل روح سراية ... كنوز أضاءت في الدياجي نجومه
هو الشمس للأكوان والشمس بدره ... بل الروح للأرواح طاب شميمه
ونظم تائية حسنة على طريقة ابن الفارض مطلعها
بعثت غرامي حاديا للأحبة ... يحثهم شوقا لعزة عزة
ومنها قوله
مظاهر أعيان الكيان تصورت ... وجودا بلا عين على العدمية
ومن عجب أني أرى الكون ظاهرا ... وليس له عين سوى المظهرية
ففي طيه قد كان في العلم مجملا ... وفي نشره وافى بكل عجيبة
ومن عجب الأشياء علمي بأنه ... كصورة ماء في سراب بقيعة
فما غير شمس أشرقت في مغيبها ... ومغربها قد غاب في المشرقية
وهي طويلة وكتب على المشكلات فيها ثم مرض مرضا شديدا فأمر ببلها فبلوها فعوفي ومن فراسته أن معلم أولاده علي باحداد رأى في منامه أنه يمشي في عقبه وصاحب الترجمة يمشي خلفه ثم تقدم عليه فقال له صاحب الترجمة يدل ذلك على أن ميلادك قبل ميلادي وأنا أموت قبلك فبحث عن ذلك فوجد صاحب الترجمة ولد في سنة تسع عشرة والفقيه ولد سنة ثمان عشرة وتوفى والفقيه باق وكانت وفاته نهار الاثنين آخر ذي القعدة سنة سبع وثمانين وألف بمكة ودفن بمقبرة الشويكة بالقرب من قبر العارف بالله تعالى عبد الله بن محمد بافقيه رحمه الله تعالى القاضي حسين بن محمود بن محمد بن عيسى بن موسى العدوي الزوكاري الصالحي القاضي الفقيه الأديب الشافعي المذهب كان أمثل الفضلاء والأدباء جيد الفهم عجيب المطارحة رقيق الطبع اشتغل في مباديه بدمشق على والده وأخذ عن الشمس الميداني والنجم الغزي ورحل إلى القاهرة بعد الثلاثين وأخذ بها عن البرهان اللقاني وأبي العباس المقرى والشيخ علي الحلبي صاحب السيرة والشمس البابلي والعلا الاجهوري والشيخ محمد الحموي والشيخ عامر الشراوي وحج وأخذ بالمدينة عن الشيخ غرس الدين الخليلي نزيل المدينة المنورة وبمكة عن الشيخ محمد بن علان الصديقي واقرأ بدمشق وأفاد وضبط الكثير وولى قضاء الشافعية بمحكمة الميدان والمحكمة الكبرى سنين وأفتى على مذهبهم مدة وكان معاشر اللكبراء لحلاوة ومصاحبته وسكونه وله شعر كثير من جيده قوله
أرى كل إنسان يرى أن حينه ... من الخطب خال إن ذاك لمغرور
وكيف وأصل البنية الماء والثرى ... وسوف إلى ترب القبور تصير
فلا تعتبن خلا إذا جار أو جفا ... فأنت ورب العالمين كدور
فإن جنحت منك الظنون لحادث ... فميلك للتوحيد يا صاح مبرور
فإن بقاء العز في وحدة الفتى ... كما أن إكثار التردد محذور
وما مذهبي إني ملوم لرفقتي ... ولكن مسلوب الكفاءة معذور
أجل إن أبناء الزمان تفاوتت ... فمنهم خبير بالأمور ونحرير
وبالجملة التحقيق فالإنس موحش ... وعما سوى الخلاق شغلك مدحور
فيا رب جد بالعفو والصفح والرضا ... ففعلي مذموم وعلك مشكور
وقوله
وليل أدرنا فضل قاسيون بيننا ... فكادت قلوب السامعين تطير
فلم ندر إلا الفجر صار دليلنا ... إلى سفحه والسفح فيه نفير
وفينا هداة للطريق وقادة ... لهم كل فضل في الورى وصدور
فسرنا فلا والله لم ندر ما الذي ... قطعناه بعد المشي كيف يصير
فلما وصلنا المستغاث أغاثنا ... به الغيث حتى غوثنا لمطير
فزرنا وكل نال ما كان ناويا ... وفزنا بوقت حسنه لشهير
ومنه ركبنا الجو حتى كأننا ... نجوم سماء والسحاب ثبير
إلى أن هبطنا قبة الملك التي ... تسمى بنصر مذ أعان نصير
رأيتنا بها عقد الثريا معلقا ... وعين الدراري النيرات تشير
فلم نر برجا قبلها حل منزلا ... يسير إليه الناس وهو يسير
وأعجب شيء أن تراها مقيمة ... وتمشي كما يمشي الفتى ويفور(1/388)
وأعجب من هذا تراها عقيمة ... تربى بنات النعش وهي سرير
وفدنا فحيانا حيا فضل سحبها ... بريح له وقع الغمام صرير
إلى أن رمتنا بعد عالي مكاننا ... على مغرفيها المقام غرور
وجئنا حمانا مطمئنين أنفسا ... على أن مرقى المكرمات عسير
ودخل على شيخنا إبراهيم بن الخياري المدني حين دخل الشام زائرا بعد انقطاع فأنشده معتذرا
وما عاقني عن لثم أذيال فضلكم ... سوى أن عيني من فارقتكم رمدا
فعاتبتها حتى كأني حبيبها ... فأبدت كلاما كان قلبي له غمدا
وقالت لقد كحلت طرفي بظرفه ... فأفتحها سهوا وأغمضها عمدا
وهذا معنى مبتكر جيد إلى الغاية ثم راجعه الخياري عند بقوله
أيا فاضلا أبدى لنا في نظامه ... لطيف اعتذار سكن الشوق والوجدا
وأشفى بلقياه مريض بعاده ... وقد كان أشفى للبعاد وما أودى
فصان له العرش مقلته التي ... ترى كل معنى دق عن فهمنا جدا
لئن كحلت بالظرف قد أسكرت بما ... أدارته من مقلوب أحداقها شهدا
فإن ترني أشتاق خمرة قرقف ... فأطلبها سهوا وأتركها عمدا
وكنت في أيام الصبا تلقيت عنه بعض معلومات لاتصال شديد كان بينه وبين والدي رحمهما الله تعالى واستجزته فأجازني بمروياته وأخبرني أن ولادته كانت في سنة ثماني عشرة بعد الألف وتوفى نهار الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وألف ودفن بسفح قاسيون حسين بن مشيخ المعروف بالقاطر ومعناه البغل نزيل دمشق وكان فقيها عارفا بأمور الناس صاحب دربة وكان يعرف اللسان الفارسي والتركي والبوسنوي ولما ورد دمشق وتوطنها تعلم اللسان العربي وأقام بدمشق مدة عمره وتزوج بإحدى ابنتى أبي المعالي درويش محمد الطالوي مفتي دمشق وسكن في قاعته بمحلة التعديل هو وعديله على الشاطر وفيهما يقول الحسن البوريني يخاطب القاعة المذكورة
يا قاعة ليس لها من شبه ... يجلى بها الناطر والخاطر
فارقها من كان أهلا لها ... وحلها الشاطر والقاطر
وولى حسين النيابة بدمشق وحمدت سيرته وكانت وفاته في خامس عشرى ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وألف وخلف مالا كثيرا وولدين أحدهما زكريا والآخر درويش محمد وسيأتي كل منهما في محله(1/389)
حسين أفندي بن مصطفى بن حسن المعروف بابن قرنق الدمشقي مفرد وقته في محاسن الشيم وكرم الطبع والمهارة في العلوم الغربية مثل الطلسمات والنيرنجيات والأعمال العجيبة وأخذ هذه العلوم عن الشيخ المفنن سيف الدين الصباغ وكان سيف الدين المذكور أحد أعاجيب الدنيا في هذه العلوم وإليه النهاية فيها وحدثني بعض من لقيته عن حسين أنه كان يقول كان أستاذي يعني الشيخ سيف الدين المذكور أشار إلي بطلب الاستخدام وأمرني برياضة أربعين شهرا وخلوة أربعين يوما فلما أكملتها خرجت إلي حية عظيمة فابتلعتني وأنا أتلو الأسماء حتى وصلت في جوفها إلى عند فمي فعندها ضاق نفسي فتركت الأسماء فأخرجتني ثم ظهرت لي في صورة امرأة حسناء وشرعت في توبيخي على تركي الأسماء وحصل لي منها ضرر عظيم منعني النطق وأدى إلى اختلال وجهي وفمي فحضر عندي الأستاذ وأصلح مني ما كان اختل وكان يلومني بعد ذلك على تركي الأسماء وكان كثير الاعتناء بشيخه المذكور وبنقل عنه أحوالا غريبه ووقائع عجيبة ومما حدث به عنه في بعض محاضراته أن الشيخ سيف الدين قصد يوما التنزه فصحبه هو ورفيقان من طلبته حتى انتهوا إلى جامع يلبغا فتفقدوا بعض دراهم لأجل نفقة اليوم فلم يجدوا معهم شيئا فلما فطن الشيخ بهم قال لحسين أنا أعطيك نفقة اليوم ثم جاء إلى رامة في الجامع وخط عليها دائرة ثم قال له اسحب فسحب شريطا من ذهب حتى انتهى إلى مقدار ثم قطعه وقال له اذهب بعه وأتنا بثمنه قال فذهبت ووزنته فجاء وزنه تسعة مثاقيل فأنقدت ثمنه ثم أتيته فقال لي اصرف منه مقدارا كفايتنا والباقي دعه معك تنتفع به وحدث أن الشيخ سيف الدين كان مستخدما كما سلف قال وكنت يوما جالسا فجاءني منه رسول يناديني إليه فصحبته وأنا ذاهب في الطريق وكنت إذ ذاك مشتغلا بتلاوة الأسماء فشرعت في تلاوتها فرأيته يتباعد عني فناديته وتكررت التلاوة مني والتباعد منه فقلت له مالك تتباعد عني فقال لا أقدر على القرب منك وأنت تتلو هذه الأسماء ففطنت به قال ولما اجتمعت بالشيخ قلت أما كان عندك رسول من الإنس حتى أرسلت لي هذا فأجابني أو تعرف أن لي خدمة غير هؤلاء يعني الجن وبعد وفاة شيخه المذكور انفرد هو بدمشق بمعرفة هذا الفن وامتحن مرات وكان من جملة ذخائره في هذه الصناعة مرآة إذا أبهم عليه أمر يعطيها لأحد جلسائه ينظر فيها ويتلو هو اسما فيرى الناظر فيها المطلوب على كيفية تنتج معرفته حتى يبقى كأنه مشاهد فيخبره به الناظر فيشرع في تحصيله ومن أغرب ما سمعته عنه في هذا الباب أن أحد قضاة دمشق كان له أخ في الروم وكان بها أحد الصدور فغضب عليه السلطان وعزله عن منصبه ونفاه عن دار السلطنة فلما وصل خبر ذلك إلى أخيه قاضي دمشق ظن أنه قتل وحصل له من الألم ما منعه الهجوع فاستدعى صاحب الترجمة وطلب منه النظر في حال أخيه فظهر في المرآة مكانه وهيئته وذكر أنه مرسل إلى أخيه القاضي مكتوبا وبين عدد أسطره ويوم وصوله فطلب منه قرائته فكان الناظر في المرآة يملي عليه وهو يكتب إلى أن انتهى واتفق مجيء المكتوب في اليوم الذي عينه فقوبل على النسخة التي كتبت فلم يزد ولم ينقص وهذه الواقعة من أغرب ما سمعته وقد رزق من الحظ والإقبال في أموره نصيبا وافرا وتولى المناصب السامية وانعقدت عليه صدارة دمشق وتملك الأملاك الكثيرة وعمر الأماكن البهية من جملتها قصره وقاعته بالصالحية وهو أبهى مكان بها وقد قال فيه مفتي الشام العلامة أحمد بن محمد بن المهمندار مؤرخا عام بنائه بقوله
فقد شيد الشهم الحسين الذي له ... مآثر مجد لا يحيط بها عد
بناء إلى أعلا السماكين أرخوا ... هي القاعة الحسنا لطالعها السعد(1/390)
وذلك سنة سبع وسبعين وألف وولى بدمشق منصب المقابلة والمحاسبة وتولية الحرمين المصريين والسليمانية والسليمية والصابونية والجامع الأموي وكوجك أحمد باشا وبلغت سفراته إلى الروم العشرين وحج في سنة خمس وخمسين وفي سنة ست وسبعين وتوفى في تلك السنة أمير الحاج يوسف باشا في الطريق فاختاره أعيان الحجاج أن يكون أميرا فباشرها وسلك مسلكا حسنا وسافر إلى الروم بعد ذلك وأخذ مقاطعة بعلبك واقتنى من العبيد والجواري والأحفاد ما لا يحصر وبلغ من العز والرفعة مبلغا عظيما ثم تنزل في آخر أمره وفرغ عن جهاته وباع بعض عقاراته وابتلى بأمراض مهولة واستمر بها إلى أن توفى وكانت وفاته في المحرم سنة تسعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى المنلا حسين بن ناصر بن حسن بن محمد بن ناصر بن الشيخ القطب الرباني شهاب الدين الأشقر العقيلي الحنفي الحموي جد صاحبنا الفاضل مصطفى بن فتح الله لامه وكان عالما فهامة جامعا لأنواع الفنون ولد بحماه وبها نشأ وأخذ عن أكابر شيوخها كالسيد عمر بن عسكر والشيخ نجم الدين الحجازي وغيرهما من الأئمة الأعلام وأجازه شيوخه وتولى بحماة المدرسة الجلدكية واشتهر بالعلم والفضل ثم رحل بأهله إلى دمشق وتوطنها وأخذ لها عن أكابر الأعيان كالنجم الغزى وغيره ورحل إلى مصر وأخذ بها عن البرهان اللقاني وغيره وكان حسن الخلق والخلق جميل الذكر صافي القلب والفكر صالحا خيرا متواضعا عالما عاملا مشتغلا بالعلم والإفادة مكبا على المطالعة ملازما للطاعات وكتب بخطه كتبا كثيرة وجمع مجاميع لطيفة وله أشعار بديعة وكانت وفاته بدمشق في سنة اثنتين وأربعين وألف ودفن بمقبرة الفراديس بالقرب من قبر أبي شامة رحمه الله تعالى الأمير حسين بن يوسف بن سيفا الأمير بن الأمير ولى في حياة والده كفالة طرابلس الشام ثم عزل عنها ثم ولى كفالة الرها ثم تركها من غير عزل وقدم حلب وكافلها محمد باشا قره قاش فحضر الأمير حسين لديه مسلما عليه فأكرمه واحترمه ثم دعاه إلى وليمة فجاء مع جماعة قليلة فاحتاطت به جماعة قره قاش وأمرهم أستاذهم بالقبض عليه فمسكوه ورفعوه إلى القلعة مسجونا ووضع في مسجد المقام يحتاط به الحرسة فبعث قره قاش إلى السلطان يخبره بذلك وبلغ والده الخبر فبعث جماعته ووعد السلطان بمائة ألف قرش إن عفا عنه فلم يجبه إلى ذلك وبعث أمرا بقتله فجاء الجلاد فقال بقلب جرى وجنان قوي أيليق أن أكون من الباشوات ويقتلني الجلاد ثم إنه أشار إلى رجل معظم من أتباع قره قاش أن يقتله وقال له اصبر علي حتى أكتب مكتوبا إلى والدي وأوصيه بعض وصايا فكتب ورقة أوصاه بأولاده وعزاه في نفسه ثم صلى ركعتين واستغفر الله وقال رب إني ظلمت نفسي وعملت سوءا بجهالة فتب علي إنك أنت التواب الرحيم ووضع محرمة نفسه في عنقه وأمر ذلك الرجل بخنقه فخنقه وبكى عليه جماعة كثيرة لحسنه وكونه شابا وكان شجاعا بطلا إلا أنه كان يبالغ في ظلم العباد ثم أخرجت أمعاؤه ودفنت بتربة القلعيين وصبرت جثته وأرسلت إلى والده فاستقبلها النساء والرجال بالبكاء والصراخ والويل والثبور وصار يوم دخوله كيوم مقتل الحسين وقالت الغواني فيه المراثي يضربن وقت إنشاد أشعار مقتله بالدف بصوت حزين حكى قره قاش إني كنت في خدمة السلطان أحمد وقد خرج إلى الصيد فعرضوا عليه طيور الصيد ثم جاؤه يطير عظيم لا نظير له فتعجب منه وقال من بعث هذا قالوا عبدك حسين باشا ابن سيفا أمير الأمراء بطرابلس فقال السلطان آه آه آه من خيانة مماليكي الأمر لله إلى هذا الحين هذا الكافر بالحياة فأسرها قره قاش في نفسه وصاد بطيره وكان قتله في رابع عشرى شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين وألف وعمره قريب من الثلاثين رحمه الله تعالى(1/391)
حسين الكفوي أحد موالي الروم المشهورين بالفضل والبراعة ذكره ابن نوعي وأثنى عليه كثيرا ثم قال قدم إلى قسطنطينية ولزم داود زاده قاضي المدينة ولازم منه ودرس إلى أن وصل إلى المدرسة السليمانية ثم ولى منها قضاء القدس في شعبان سنة سبع بعد الألف ثم وجه إليه قضاء مكة في شوال سنة ثمان بعد الألف ثم عزل في صغر من سنة عشرة وكان صاحب لطائف وفضائل وهو أنبل أرباب المعارف في عصره لم تزل لطائفه متداولة وأشعاره وآثاره شائعة ومن تأليفاته الجليلة تعليقاته على البخاري ومسلم وشرح الكلستان بالتركية يتعرض فيه لشارحيه سروري وشمعي وله كتاب فال نامه يذكر فيه غرائب وقائع وقعت لمن تفاءل بالقرآن وديوان حافظ وغيرهما وهو أثر لطيف رأيته وطالعته ونقلت منه أشياء فمن ذلك ما حكاه عن قطب العارفين يعقوب الرخي أنه ذكر في بعض مصنفاته أن العناية الإلهية ساقته إلى خدمة الخوجه بهاء الدين نقشبند قال فرأيت من كرمه إليهم غاية الالتفات وظهر لي أنه من خواص الأولياء وأنه كامل مكمل فتفاءلت في شأنه من المصحف فورد قوله تعالى " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " وحكى أنه لما توفى المولى سنان محشى البيضاوي والهداية أخذ بعض أرباب القلوب المصحف وتفاءل فيه على حسب جال المولى سنان فورد قوله تعالى " ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين " وحكى عن نفسه قال كنت عزمت على الرحلة من بلدتي الكفة في سنة خمس وثمانين أنا ووالدتي لكن ترددت هل أذهب بحرا أو برا وتشعبت في المخيلة وساوس الخوف من الغرق أو كثرة التعب فتفاءلت من القرآن فورد قوله تعالى " قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " ثم أعقبت ذلك بتفاءل آخر فورد " ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره " فتيمنت بالفال وركبنا البحر فوصلنا سالمين بعون الله تعالى وحكى أن المولى معروف أحد الموالي العظام الأخيار قال رأيت ليلة رؤيا عظيمة سررت بها كثيرا فلما استيقظت أخذت أفكر فيها هل هي من قبل الرحمن أو من جانب الشيطان فتفاءلت في الجامع الصغير للسيوطي فورد قوله صلى الله عليه وسلم " رؤيا المؤمن الصالح بشرة من الله وهي جزء من خمسين جزءا من النبوة " انتهى وكان وقع بينه وبين نكسارى زاده محاورة ألف فيها رسالة وطعن عليه فيها وكان في علم الموسيقى نهاية وله أغان ربطها مقبولة متداولة وكانت وفاته في سنة عشرة بعد الألف رحمه الله تعالى السيد حسين الحسيني الخلخالي أحد مشاهير المحققين والعلماء العاملين أخذ عن العلامة حبيب الله الشهير بمرزاجان الشيرازي وكثير وعنه أخذ عبد الكريم بن سليمان بن عبد الوهاب الكوراني وله مؤلفات كثيرة منها إثبات الواجب وحاشية على حاشية العصام على البيضاوي توفى في سنة أربع عشرة بعد الألف من تحريرات الأستاذ الباهر إمام التحقيق الملا إبراهيم بن حسن الكردي نزيل المدينة المنورة رحمه الله تعالى(1/392)
المولى حسين الشهير بالجبخى قاضي العسكر في دولة السلطان إبراهيم ولد بمدينة بورلى الزعفران وكان أبوه من آحاد المشايخ بها فأخذ عنه بعض عزائم وأدعية ودخل قسطنطينية وتلمذ بها للمولى شيخ محمد المعروف حسن زاده وكان في ابتداء أمره تبدو منه بوادر بأنه سيصير صاحب مرتبة وجاه فيعجب منه من يسمعه بما سخروا منه واتفق أن السلطان إبراهيم طلب أن يرزق ولدا فكان يستدعي من مشايخ وقته وأطبائه أدعيتهم ومعالجاتهم ولهذا كان كل من عرف شخصا يتوسم فيه الصلاح أو معرفة الطلب أو العزائم يسوقه إلى طرف السلطنة وكانت والدة صاحب لترجمة تعرف رجلا من مقربي السلطان فذكرت له أنه يعرف بعض العزائم فلما بلغ خبره إلى السلطان استحضره فقرأ شيئا من عزائمه التي يعرفها فاعتدل مزاج السلطان وحملت بعض جواريه فأقبل على صاحب الترجمة وعين له جميع ما يحتاج إليه ووجه إليه مدرسة الخارج والداخل والصحن دفعة ثم وجه إليه في مدة قليلة قضاء الغلطة فتملك دارا بالقرب من جامع محمود باشا وبناها بناء عظيما وصدر الأمر السلطاني للمولى محمود بن قره لبى أن يزوجه ابنته فزوجه إياها وأقبلت عليه الدولة بخيلها ورجلها ثم ولى قضاء عسكر أناطولى وأطلق عليه معلم السلطان وحصل أموالا عظيمة وجاها بالغا وبنى في مواضع متعددة أبنية جليلة وخانا وحماما وحكى أنه دفن في جدران أبنيته أموالا كثيرة فلما خلع السلطان إبراهيم أخرج من دفائنه نحو ثلاثة آلاف كيس كلها نقد ثم حبس ثم بعث به إلى قصبة ميخاليج فقتل بها وكان قتله في أواخر سنة ثمان وخمسين وألف رحمه الله حسين باشا المعروف بدالى حسين نديم السلطان مراد وأحد الوزراء الكبار أصله من قصبة بيكشهر من ناحية قرمان رحل في مبدا أمره إلى قسطنطينية وخدم في حرم السلطنة وصار بها من طائفة البلطجية وقدم دمشق في سنة ثلاث وثلاثين وألف قاصدا الحج وعليه خدمة السقاية في طريق الحج ثم ترقى بعد ذلك إلى أن صار محافظ مصر وقدم دمشق في سنة خمس وأربعين وتوجه إليها وكانت أحكامه فيها معتدلة ثم عزل عنها وسار إلى دار السلطنة ولما اجتمع بالسلطان مراد أوصله دفترا بجميع ما حصله في مصر من مال وأسباب وأمتعة وقال له هذا جميع ما أملكه في دولة الملك فانعم عليه وقربه وجعله من أخصائه وندمائه وصحبه معه في سفر بغداد وبعد وفاة السلطان مراد ولى حكومة بغداد وهو ثالث حاكم بها بعد فتحها الأخير ثم ولى بودين وولى وزارة البحر ثم عين في زمن السلطان إبراهيم إلى جزيرة كريت فسار إليها وأقام بها سبعة عشر سنة في محاربة وفتح أكثر بلادها وقراها ولم يبق بها إلا قلعة قندية كما أسلفته في ترجمة السلطان إبراهيم ثم أرسل إليه ختم الوزارة العظمى وبقي لوصوله إليه مسافة أربع ساعات فاسترد وكانت الوزارة فوضت إلى غيره ثم طلب هو إلى تخت السلطنة ودخل إلى أدرنة بموكب حافل واجتمع بالسلطان محمد ابن إبراهيم فأقبل عليه ثم أرسله إلى قسطنطينية وأمر بوضعه في المكان المعروف بيدى قله وبعد أيام أمر بقتله فقتل ودفن في داخل المكان المذكور وقبره ظاهر ثمة ولقتله خبر مطول ملخصه إسناد بعض حسدته إليه التهاون في أمر قندية وأنه كان خامر مع الكفار في محاصرتها واستفتى مفتي الدولة في قتله فامتنع ذهابا منه إلى براءته من ذلك فعزل ذلك المفتي وولى مكانه رجل أفتى بقتله فقتل وكان قتله سنة اثنتين وسبعين وألف رحمه الله تعالى(1/393)
حسين باشا الوزير المعروف بصارى حسين أي الأصغر وهو أخو سياغوش باشا الوزير الأعظم كان من مشاهير الوزراء له الصولة الباهرة والهيبة العظيمة وكان فيه تلطف بالرعايا وانتقام من ذوي الكبر والمناصب ولى حلب مدة ثم نقل منها إلى نيابة الشام في سنة إحدى وثمانين وألف وعينه السلطان وهو نائبها لسفر قمنيجة من بلاد الليه فتوجه إليها وفي خدمته العساكر الشامية وتعين هو وبعض الوزراء للمحاربة فكسر هو ورفقاؤه وشاع أن الكسرة كانت بسوء تدبير منه فغضب عليه السلطان وعزله عن حكومة الشام ورفع منه رتبة الوزارة وأمره بالاعتزال في داره بقسطنطينية فأقام مدة منعزلا حتى لم يبق فيه رمق ثم عطفت عليه والدة السلطان وشفعت له بمنصب التفتيش بولاية أناطولى فوليه وظهر سعيه فيه لطرف السلطنة فجوزي على ذلك بحكومة الشام ثاني مرة فقدمها ومهد أمورها بعد اختلال كان أصابها من حكامها وساس الرعية سياسة عجيبة ولزم كل أحد حده في عهده وعمر القصر المعروف به الآن في طرف الشرف بالميدان الأخضر من دمشق وكان مكانه يعرف قديما بالخاتونية وتأنق في وضعه وغرس فيه بعض أنواع الأشجار من كل صنف وعز عليه بدمشق بعض أنواع الفاكهة فجلب من أماكن بعيدة والحاصل أنه أثر أثرا حسنا وفي أيامه وقع الجراد بدمشق ثلاث سنين متواليات فبعث رجلين من أهل دمشق إلى أنقره ليأتيا بماء السمرمر الذي يقال إنه إذا كان في بلدة يطرد الجراد عنها وكان وصولهما إلى دمشق في أواخر المحرم سنة ثلاث وتسعين وألف فأمر حسين باشا بخروج الصوفية بالأعلام وعامة الناس بالتهليل إلى لقائه فدخلوا به على سفح قاسيون من ناحية القابون حتى وضعوا منه حصة على رأس المنارة الغربية بالجامع الأموي وحصة على جامع المصلى قلت وماء السمرمر هذا قد ذكره غير واحد منهم ابن الوردي في جريدة العجائب في فصل عجائب العيون والآبار قال عين سرم وهي بين أصبهان وشيراز بها مياه مشهورة وهي من عجائب الدنيا وذلك أن الجراد إذا نزلت ووقعت بأرض يحمل إليها من تلك العين ماء في ظرف أو غيره فيتبع ذلك الماء طيور سود تسمى السمرمر ويقال لها السوادية بحيث أن حامل الماء لا يضعه الأرض ولا يلتفت وراءه فتبقى تلك الطيور على رأس حال ذلك الماء كالسحابة السوداء إلى أن يصل إلى الأرض التي بها الجراد فتصيح الطيور عليها وتقتلها فلا ترى من الجراد متحركا بل يموتون من أجل تلك الطيور انتهى وذكر ابن الحنبلي في تاريخه أن من شرطه أن يكون الوارد به من أهل الصلاح ولا يمر به تحت سقف وقال الصلاح الصفدي في الجزء الثاني والثلاثين من تذكرته قال الشيخ شمس الدين أبو الثنا محمود الأصبهاني أن بمدينة قشمير مسيرة ثلاثة أيام عن أصبهان عين ماء سارحة برزة يسمى ماؤها بماء الجراد له خاصية أن من حمل من مائها في إناء إلى الأرض التي أتاها الجراد فيعلق ذلك الإناء في تلك الأرض فيقصدها ما لا يحصر من طير يقال له سار يأكل ما فيها من الجراد حتى يفنى وشرط هذا الإناء أن لا يمس الأرض في طريقه ولا في مكان تعليقه انتهى ثم أمر حسين باشا بالسفر إلى محاصرة قلعة بتيج من بلاد الانكروس فسافر إليها ومعه عسكر الشام وكان الوزير الأعظم قره مصطفى باشا قد سبقهم إلى بلغراد وجعلها مجمع العساكر جميعها ولما تكامل جمع الجموع رحل بهم إليها ونازلوها وكاد أن يفتحوها عنوة قدر الله تعالى ما قدر من مجيء جيش كبير من الكفار وكسروا عسكر المسلمين وفرقوهم في تلك النواحي كما سنفصله في ترجمة الوزير مصطفى باشا المذكور ونسب الوزير هذه الكسرة إلى فشل بعض الوزراء ومنهم حسين باشا صاحب الترجمة فأراد قتله فكانت منينه أسبق فتوفى في غضون ذلك وكانت وفاته في شهر رمضان سنة أربع وتسعين وألف رحمه الله تعالى(1/394)
السيد حمزة بن محمد بن حسين بن محمد بن حمزة الحسيني الدمشقي المولد الحنفي السيد الأجل الأديب الفاضل كان رئيسا نبيه القدر وافر الحرمة جليل القدر ساكنا وقورا نشا وقرأ على علماء زمانه حتى حصل فضيلة مقبولة واشتهر بدماثة الأخلاق وطيب العشرة وكرم النفس وكان حسن الخط صحيح الإملا وكتب كثيرا من الكتب وخطه مرغوب فيه لضبطه وحسنه وسافر إلى الروم في سنة سبع وأربعين وألف ولازم من نقيب الدولة السيد محمد بن السيد برهان الدين المعروف بشيخي وولاه نقابة الشام عن أخيه الأكبر السيد كمال الدين وعاد إلى دمشق وأقام بمنزله في مهابة وانكفاف عن مخالطة الأمور وبعد مدة عزل عن النقابة وأعيدت إلى أخيه المذكور ثم وليها عنه مرة ثانية وصار نائبا بمحكمة الباب في زمن قاضي القضاة المولى مصطفى المعروف بابن مرطلوس واستمر نائبا مدته كلها وانتظم حاله بعد اختلال ثم عزل عن النقابة وأعيد إليها مرتين وكذلك للنيابة ودرس بالمدرسة الحافظية بصالحية دمشق وكانت ولادته في سنة تسع وألف وتوفى في ثالث ذي الحجة سنة سبع وستين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى الشيخ حنيف الدين بن عبد الرحمن بن عيسى بن مرشد العمري الحنفي المكي مفتي الحنفية بالديار الحجازية والمدينة وابن مفتيها العالم علم الفقيه الباهر كان عالما دينا عفيفا ملازما للعبادة وكان يصوم رجب وشعبان والأيام البيض وأخذ عن والده وعبد العزيز الزمزمي وأبي العباس المقرى والشيخ عبد الرحمن الخياري والشيخ خالد المالكي وغيرهم وولى بعد موت والده خطابة الجمعة بالمسجد الحرام والتدريس خلف مقام الحنفية وتدريس مدرسة محمد باشا وغير ذلك ثم ولى الإفتاء السلطاني بالديار الحجازية في سنة أربع وأربعين وألف وانتفع به خلق كثيرون منهم ولده عبد الرحمن والشيخ أحمد أوليا وأولاده عمه أحمد وهم عيسى ومرشد وإمام الدين ومصدر الدين وقاسم سنجق دار وأحمد المنلا وصنف عدة كتب منها شرح مناسك الوسيط للمنلا علي على مذهب الحنفي وشرح على المنسك الصغير للملا أيضا وكتاب سماه بغية السالك الناسك فيما يتعلق بآداب السفر وأدعية المناسك وشفاء الصدر ببيان ليلة القدر والقول المفيد ببيان فضل الجمعة اليوم المزيد والقول المحقق في بيان التدبير المطلق والمقيد والمعلق ورسالة في استبدال الوقف سماها السيف الشهير على من جوز استبدال الوقف بالدراهم والدنانير وله نظم مستعذب وترجمه ابن معصوم فقال في حقه فاضل نبيه قام مقام أبيه فتقلد منصب الفتيا بعده واجتلى في مطالع الإقبال سعده فجلى بسناه الظلم ومن يشابه أبه فما ظلم
شبيه أبيه خلقة وخليقة ... كما حذيت يوما على أختها النعل
وبلغني أنه كان ينكر على أبيه عشرة من فتاويه ثبت لديه بطلانها ولم ينص بصحتها برهانها وكان يقول لولا خطة أخافها لاشتهر عني خلافا وله في الأدب محل لا ينقض إبرامه ولا يحل ملك به زمام السجع والقريض وميز به بين الصحيح والمريض فمن نظمه ما كتبه إلى بعض الأعيان مراجعا عن لسان والده
تبدى لنا برق بأفق ربي نجد ... فأذكرني عهدا وناهيك من عهد
وهيمني شوقا وزاد بي الأسى ... وأضرم بي نار الصبابة والوجد
وجدد لي ذكر الليالي التي خلت ... وطيب زمان بالحمى طيب الورد
زمانا جلا ذو الحسن شمس جماله ... علينا فشاهدنا به الشمس في برد
وأبدت لنا ذات الجمال جبينها ... فأخجل بدر الأفق في طالع السعد
هي الروض تبدو وللأنام بوجهها ... فنقطف زهر الورد من خدها الوردي
وفاح لنا نشر الخزامى بروضة ... شدت ورقها شوقا عن الأغصن الملد
تغنت على غصن الأراك بمدح من ... علا قدره السامي على ذروة المجد
جمال أهالي العصر أو حدوقته ... مشيد ربع المجد بالسعد والجد
كمال قضاة المسلمين امامهم ... وموضح منهاج الرشاد لدى الرشد
عليه مد الأيام مني تحية ... تفوق فتيت المسك والعود والند
وقال في مثل هذا الغرض
غنت الورق في المسا والبكور ... ساجعات على غصون الزهور(1/395)
وتبدت من كلة الحسن خود ... تخجل الشمس مع سناء البدور
قد تحلت من الجمان بعقد ... جل في الحسن والبها عن نظير
فاقتطفنا من خدها زهر ورد ... فاق نشر النسرين والمنثور
وارتشفنا من ثغرها العذب شهدا ... فانتشونا لا نشوة المخمور
بردت بالوصال قلب كئيب ... كان فيه للهجر نار السعير
يا لها عذبة الثنايا يا رداحا ... قد تبدت في زي ظبي غرير
قد أتتنا من عالم العصر مولى ... قد تسامى على السهى والأثير
الإمام الهمام رب المعالي ... الفقيه البليغ في التقرير
ظل دوما بمصر مفتي البرايا ... أوحد العصر ذي المقام الخطير
قد أتاني مولاي منك كتب ذو نظام حكى عقود النحور
ففضضت الختام عن كنز علم ... حاز منه الغناء كل فقير
وتأملت في رياض حماه ... وتنسمت ما به من عبير
فبدا نظم طرسه مع نثر ... ذي بيان فسر منه ضميري
دمت يا أوحد الزمان فريدا ... في أمان بحفظ رب خبير
وصلاة الإله تترى دواما ... مع سلام على البشير النذير
ومن شعره على ما رأيته منسوبا إليه قوله
أمسى وأصبح من تدكاركم وصبا ... يرثي لي المشفقان الأهل والولد
قد خدد الدمع خدي من تذكركم ... واعتادني المضنيان الوجد والكمد
وغاب عن مقلتي نومي لغيبتكم ... وخانني المسعدان الصبر والجلد
لا غرو للدمع إن تجري غواربه ... وتحته المظلمان القلب والكبد
كأنما مهجتي شلو بمسبعة ... ينتابها الضاريان الذئب والأسد
لم يبق غير خفي الروح في جسدي ... فدى لك الباقيان الروح والجسد
وكانت ولادته بمكة وقت العشاء من ليلة الأحد منتصف صفر سنة أربع عشرة بعد الألف وتوفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة خلون من شعبان سنة سبع وستين وألف بالمدينة ودفن ببقيع الغرقد وقيل في تاريخ وفاته حنيف الدين في الجنات راقي المولى حيدر بن إبراهيم المنعوت بتاج الدين الصغير ابن عبد الله الحميدي الأصلي أحد موالي الروم وهو أخو المولى عبد الوهاب قاضي الشام الآتي ذكره إن شاء الله تعالى أصل والده من بلدة حميد قدم إلى قسطنطينية وتوطن بها وهو من علماء دولة السلطان سليمان وله حاشية على صدر الشريعة يرد فيها اعتراضات ابن الكمال على صدر الشريعة وولد ابنه حيدر هذا بقسطنطينية ونشأ ودأب بها حتى نميز بالفضل الباهر وله من الآثار تعليقات على الدرر والغرر ولازم من ابن جوى ودرس بمدرسة أون قباني ثم أعطى مدرسة برغوس ولما تمت مدرسة علي باشا القبودان بطوبخانة في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة أعطيها وهو أول مدرس بها ثم في سنة ألف نقل إلى مدرسة قلندرخانه ثم نقل إلى إحدى الثمان ثم إلى مدرسة الشهزاده ثم إلى السليمانية ثم ولى قضاء حلب فأسكدار ثم بروسة ثم القاهرة وتوجه إليها بحرا ففي معبر الإسكندرية غرق المركب الذب كان فيه وكانت وفاته في أواخر سنة اثنتى عشرة بعد الألف رحمه الله تعالى
حرف الخاء المعجمة(1/396)
الشيخ خالد بن أحمد بن محمد بن عبد الله المالكي الجعفري المغربي ثم المكي صدر المدرسين في عصره بالمسجد الحرام وناشر لواء سنة النبي عليه الصلاة والسلام والمرجع في التمييز بين الحلال والحرام والحاوي شرفي العلم والنسب والجامع بين طرفي الكمال الغريزي والمكتسب قرأ في الغرب على أجلاء شيوخ عارفين وأئمة محققين ورحل إلى مصر وأخذ بها الحديث عن الشمس الرملي والفقه والحديث والعربية عن العلامة سالم السنهوري المالكي وغيرهما ثم توجه إلى مكة وجاور بها وتصدر للإفادة وعنه أخذ جمع من العلماء وبه تخرجوا كالعلامة محمد علي بن علان والقاضي الفاضل تاج الدين المالكي وغيرهما ولم يزل قائما بأعباء العلم والعمل حتى دعاه الله تعالى إليه فمات ليلة الخميس ثامن عشر رجب سنة ثلاث وأربعين وألف ونقلت من تاريخ الإمام علي بن عبد القادر الطبري أنه اتفق في عام اثنتين وأربعين وألف أن وصلت تذكرة من وزير مصر إذ ذاك بإمامة المقام المالكي بالمسجد الحرام لعلي بن خالد يعني صاحب الترجمة فباشرها في موسم تلك السنة مع شركائه فألزمه المترجم بالمباشرة في نوبته في جميع السنة وألزم شركاءه بذلك فوافقوا واستمر الحال إلى أن توفى فترك المباشرة بعد والده في جميع السنة إلا في الصبح وأيام الموسم وصلاة التراويح على المعتاد خداوردي بن عبد الله الطاغية أحد كبراء جند الشام وكان متميزا فيهم بالبأس والجراءة والتوسع في الدنيا ونال حظا عظيما واشتهرت صولته واستتبع رعاعا وجهالا استخفهم فأطاعوه وولى سردارية حلب ففتك فيها ونهب وتعدى واستلب حتى ضجر منه أهاليها وحكامها حين قامت الحرب بينه وبين نصوح باشا وبينه وبين ابن جانبولاذ وكان هو وأحفاده قد عاثوا في البلاد وفتنوها ومنه كانت نشأة فساد العسكر الشامي وطغيانهم ومازال بينهم نافذ القول مقبول السمعة إلى أن مات وكانت وفاته في بضع عشرة وألف(1/397)
الشيخ خضر بن حسين المارديني سبط الهندي شارح الكافية ذكره أبو الوفاء العرضي في المعادن وقال كان حسن المطارحة لطيف المسامرة عذب البيان رطب اللسان تدرج في درجات الكمال وترقى في معارج المجد والإجلال كمن في أحناء العليا ومعاطف الارتقا وبطون فجاج الدوله حتى امتد بضبعيه على الجلالة والصوله فصار للحضرة النصوحية مثوى أسرارها وموطن مطالبها وأوطارها وسويداء أجفانها ونور إنسانها وروح جسمانها وحل أرقى محل فصار رابطة العقد والحل فحين زادت الرفعة على آمادها انعكست عليه الدوائر بأضدادها فافترسه ناب النوب ولفظه الدهر في هوة سوء المنقلب قدم حلب سنة ثلاث عشرة بعد الألف وكان يعرف الألسن الثلاث وله فيها إنشاء حسن ونظم وإطلاع على فضائل العلوم فسأل من الوالد يعني الشيخ عمر العرضي أن يقرئ أحد تلامذته شرح الكافية للرضى ليسمع فأمر الوالد الشيخ عبد الحي القوق سبط البيلوني فكان يسمع ويتقن تلك الدروس ويحتفل بها ويسمع لأخي شرح المفتاح للشريف وللفقير في شرح الطوالع للأصفهاني وتقرب للوزير نصوح حين تولى كفالة حلب حتى أحبه وولاه قائما بمقام الدفترى ولما تولى الوزير المذكور كفالة ديار بكر ثم مات الوزير الأعظم مراد باشا بها وجاءته الوزارة العظمى بعثه الوزير نصوح رسولا إلى بلاد العجم للصلح بين السلطان أحمد والشاه عباس وكان من جملة ما قال خضر للشاه أهل السنة يعترضون عليكم بكونكم تحرمون طعام اليهود والنصارى مع كونه مخالفا للنص قال تعالى " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " فأمر الشاه الشيخ بهاء الدين العاملي بالجواب فكتب رسالة صدرها باسم الشاه وقال عنه في أثناء المدح شاه عباس الصفوي الموسوي الحسيني أراد المنسوب إلى الشيخ صفي الدين وإلى موسى الكاظم وإلى الحسين أما نسبة الشاه إلى الشيخ صفي الدين فلا شك فيها وأما نسبته إلى الحسين فلن تعهد وذكر أن استحقاق الإمام المرتضى للخلافة وتقدمه على جميع الآل والأصحاب فمما لا يشك فيه أولو الألباب وأما الصلح من جانب الشاه وعقد الصلح ولما توجه الوزير نصوح إلى قسطنطينية وصار صاحب الحل والعقد عنده خضر المذكور قيل عنه أنه قال لبعض خدام السلطنة أنا بتدبيري عقدت الصلح ولو أسمع كلام الوزير وتدبيره ما صار الصلح فإنه لا معرفة له بالتدبير فأسرها في نفسه الوزير وولاه دفتردارية وان وأخرجه في الحال من قسطنطينية وبعث في الطريق وخنقه وبالجملة فإنه كان عالما كاملا عارفا ذا خط حسن وإنشاء مستحسن قال العرضي وقد أسمعني بعض أشعار له في الطريق على نمط تائية ابن الفارض وذكر لي أنه نظم الشافية لابن الحاجب في التصريف وكان قتله في سنة اثنتين وعشرين وألف رحمه الله تعالى الشيخ خضر بن عطاء الله الموصلي نزيل مكة العالم الأديب المشهور كان إماما في العربية واللغة ومعاني الأشعار حافظا الكثير منها كثير العناية بها حسن الضبط مشهورا بمعرفتها وإتقانها هاجر إلى مكة فقطن بها وانتظم في سلك علمائها وألف في سنة أربع وتسعين وتسعمائة باسم السيد حسن بن أبي نمى أمير مكة كتابه الإسعاف بشرح أبيات القاضي والكشاف وهو كتاب لم تكتحل عين الدهر له بنظير ولا احتوى على مثل أزهار ألفاظه وثمار معانيه روض نضير وأجازه عليه من المال ألف دينار وألف باسمه أيضا أرجوزة طويلة في فضل أهل البيت ووقائعهم ولم يزل مقيما في الحرم واردا مناهل الفضل والكرم حتى رماه عند الشريف وزيره ابن عتيق بأنه ينسب إليه المظالم ويكتب بذلك إلى الروم والعجم وهو مقبول القول عندهم فأذن له الشريف في إجلائه عن البلد الحرام وألزمه بالخروج للحال فخرج متوجها إلى مدينة الرسول وقد ترنق ورد حياته المغسول وما أبعد عن مكة مرحلتين حتى استولى الوزير على داره ونهب جميع ما فيها ونادى عليه في الأسواق كما ينادى على تركات الأموات فبلغه الخبر في أثناء الطريق فأصبح وهو في يم الهم غريق وفاجأه أجله قبل وصوله إلى المدينة وقد ذكره الخفاجي في كتابيه وأثنى عليه كثيرا وأنشد له من شعره قوله مضمنا في البرش
تبدل عن البرش المبلد بالطلا ... فعالم أهل البرش غمر وجاهل
فما البرش إن فتشت عن كنهه سوى ... دويهية تصفر منها الأنامل
قال ومما مدحته به في شبيبتي قبل نوم سيارة همتي وخمود نار شرتي(1/398)
وصبا من كؤس ذكرك سكرى ... لك حملتها أثناء وشكرا
ولوجدى رقت كطبعك لطفا ... واستعارت من طيب ذكرك نشرا
معك القلب حيثما سرت يسري ... فاسألنه عني فذلك أدرى
من أولى العزم لي فؤاد كليم ... في الهوى لا يزال يتبع خضرا
قلت ورأيت له من شعره هذه القصيدة مدح بها الشريف حسن المذكور ومطلعها
بدر الملوك أمير المؤمنين أبو ... علي الحسني السامي به ساموا
خليفة الله من دانت بنصرته ... وما يشاء من الأفلاك أجرام
في كل ناد له صيت يهيم به ... في كل واد عداه خشية هاموا
لو سابق الدهر لاستدراك فائتة ... لرد مما حواه الدهر أعوام
قل للخوارج موتوا في ضلالتكم ... فإنما الدين عند الله إسلام
هذا ابن بنت رسول الله طاعته ... فرض وفيه لأنف الدين إرغام
يطيعه من أطاع الله منقبا ... ومن عصاه عليه النص إلزام
وفي أولى الأمر قول الله حجتنا ... وهم أئمتنا بالحق قد قاموا
يا حجة الله والحبل المتين ومن ... في غير مرضاته الطاعات آثام
إن يمل نابغة الجن القريض فلي ... في نظم مدحك من جبريل إلهام
فهاكها درة بل بحر فائدة ... لدى العقول بذل الروح تستام
تبقى وتذهب أشعار ملفقة ... كغرة في جباه الدهر أوشام
واسلم ودم في سرور بل وفي دعة ... ما قام بالروح بل بالله أجسام
وكانت وفاته في سنة سبع بعد الألف خليفة بن أبي الفرج الزمزمي البيضاوي الأصل المكي المولد والمنشأ الشافعي كان فاضلا أديبا ذكيا أريبا باهرا في الأدب وفنونه قرأ على الإمام محمد بن عبد الله الطبري والإمام عبد القادر الطبري ومن عاصرهما من المكيين ومن مؤلفاته رونق الحسان في فضائل الحبشان ومن شعره قوله
زارت معذبتي ليلا وفي يدها ... كاس من الراح تستقيني وأسقيها
ريم بقد كمثل الغصن قامتها ... ما الظبي ما البدر لا شيء يحاكيها
والوصل منها عزيز قل نائله ... هيهات مطلبها عزت مراميها
دامت على الصد والهجران مذ نشأت ... ذل المحبة عز في مراقيها
خليل بن زين الدين بن خليل بن محمود بن برهان الدين المعروف بالأخنائي الدمشقي الفقيه الشافعي من ذوي البيوت القديمة بدمشق ويقال هم أقدم بيت بها لأنهم من نسل معاوية واتصلوا من عهده وتفرعوا وأجداده غالبهم قضاة القضاة وصدور الصدور ولهم بدمشق آثار كثيرة وأوقاف وتعلقات وخليل هذا ولد بدمشق ونشأ في جد واهتمام بتحصيل العلم وقرأ الكثير وضبط وقيد وأخذ عن النجم الغزى وغيره وكان فاضلا كاملا ساكنا وقورا وله مطارحة جيدة وربما نظم الشعر ولكن شعره ليس بالجيد وكتب بخطه كتبا كثيرة وهو في الضبط غاية وكانت وفاته في سنة ست وثمانين وألف رحمه الله تعالى خليل بن عبد الرحيم مفتي الشام الشهير بالسعسعاني لكون والده كان إماما بسعسع وأصله من بلدة علائية من بلاد قرمان وأظن أن صاحب الترجمة ولد بسعسع ونشأ بدمشق وقرأ وساد من حين شبيبته فسافر إلى الروم ولازم على قاعدتهم ولم يزل يسمو به حظه إلى أن ولى قضاء طرابلس الشام مرتين وولى قضاء قيصرية ثم بعد ذلك ولى إفتاء الشام وأعطى رتبة قضاء القدس وكان مهابا جليل القدر عالي الهمة نبيه الذكر وفيه مروءة وسخاء ومعروف ومتانة وتغلب وعزل عن الإفتاء فاستقل بمنصب بعلبك على طريق التأبيد ولم يزل في عز وجاه إلى أن توفى وكانت وفاته نهار الخميس تاسع جمادى الآخرة سنة إحدى وثمانين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى(1/399)
خليل باشا ابن عثمان المعروف بابن كيوان أمير الحاج الشامي وهو أخو إبراهيم المقدم ذكره في حرف الهمزة كان من صدور دمشق وأعيانها المشهود لهم بالرأي الصائب والدولة الباهرة وتخول في نعم ورفاهية عيش وتملك الأملاك الكثيرة وانقاد له الزمن وأحبه أركان الدولة وملأ صيته بر الشام حتى هابه عربانها وغيرهم وكانوا يراجعونه في مهماتهم وينقادون لأمره ولا يخالفونه في حال من الأحوال وقد أسلفنا في ترجمة أخيه إبراهيم أنه كان تفرغ من منصبه في العسكر لأخيه خليل هذا وكان ذلك ابتداء ظهوره وسافر إلى فتح ايوار في خدمة الوزير الأعظم أحمد باشا الفاضل سنة خمس وسبعين وألف واتصل به فأحبه وقربه وعاد إلى دمشق وقد رأس ثم فرغ عن منصبه لابن أخيه حسين وهو على الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وتقاعد هو بعلوفة في خزينة الشام مدة إلى أن حدث من الأمير حمد ابن رشيد أمير بادية الشام في حق الحجاج ما حدث من النهب والغارة وفعل في الأمير موسى بن تركمان حسن الآتي ذكره ما فعل من القتل واستمر في غيه وضلاله وأمر الحاج في اختلال مدة سنين ولم يتفق إصلاحه بحال حتى عرض ذلك على أركان الدولة فرأوا من الصواب تولية خليل باشا هذا أمر الحاج فولى الامرية وظهرت فيها كفايته وأطاعته جميع العربان واستمر ثلاث سنين والحجا في أيامه مطمئنون في بلهنية من العيش ورخاء وراحة إلى أن توفى وهو متوجه بهم في أول السنة الرابعة من توليته تمرض يوم طلعة المحمل ويقال أن نائب الشام سقاه سما فخرج مع المحمل وهو يجود بنفسه فأدركه أجله بالصنمين وحمل إلى المزيريب وكانت وفاته أواخر شوال سنة اثنتين وتسعين وألف وقبره بالمزيريب ظاهر وأظنه ما جاوز عمره الستين بكثير رحمه الله تعالى الشيخ خير الدين بن أحمد بن نور الدين علي بن زين الدين بن عبد الوهاب الأيوبي العليمي الفاروقي الرملي الإمام المفسر المحدث الفقيه اللغوي الصرفي النحوي البياني العروضي المعمر شيخ الحنفية في عصره وصاحب الفتاوى السائرة وله غيرها من التآليف النافعة في الفقه منها حواشيه على منح الغفار رد فيها غالب اعتراضاته على الكنز وحواشيه على شرح الكنز للعيني وعلى الأشباه والنظائر وله كتابات على البحر الرائق والزيلعي وجامع الفصولين وله رسالة سماها مسلك الانصاف في عدم الفرق بين مسئلتي السبكي والخصاف التي في الأشباه في القواعد ورسالة سماها الفوز والغنم في مسئلة الشرف من الأم ورسالة فيمن قال إن فعلت كذا فأنا كافر كان أرسل يسأله عنها شيخ الإسلام يحيى المنقاري مفتي السلطنة العلية وله ديوان شعر مرتب على حروف المعجم رأيته وانتخبت منه بعض مستحسنات من أشعاره فمن ذلك قوله في الزنبق الذي يوجد في سواحل البحر الشامي وهيئة نواره الأبيض قطعة واحدة وليس متفرقا كهيئة الزنبق المتعارف
وزنبقة قد أشبهت كاس فضة ... برأس قضيب من زمردة عجب
سداسي شكل كل زاوية به ... على رأسها الأعلى هلال من الذهب
وقوله وهو من بدائعه
من شارك الإنسان في اسمه ... فحقه قطعا عليه وجب
لذاك من سمى من خلقه ... محمدا فاز بهذا السبب
وقوله متغزلا في الخال وقد ذكره في مجموعته التي سماها بمطلب الأدب وغاية الأرب المشتملة على أحد عشر بابا
بالخد منه شقيق جل واضعه ... أعيا الورى فهم شامات بحمرته
أقول هذا ولا عي ولا عجب ... قلب الشقيق الذي في وسط وجنته
وسمع قول أبي العلاء المعري
إذا ما سمعنا آدما وفعاله ... وتزويجه ابنيه بنتيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاحر ... وأن جميع الناس من عنصر الزنا
وجواب بعضهم في رده بقوله
لعمرك أما القول فيك فصادق ... وتكذب في الباقين من شط أودنا
كذلك إقرار الفتى لازم له ... وفي غيره لغو كذا جاء شرعنا
فكتب عليه لا يخفى على الجدلي فساد كلام هذا الراد والذي يأخذ بخناقه ويقضي بسماحة أخلاقه قولي في الرد عليه
كذبت بإجماع الأنام جميعهم ... لا فكك فيما تدعيه من الخنا
وكيف وقد فاض الدليل بحله ... فأنى يكون الناس من عنصر الزنا
ومن شعره قوله في العذار(1/400)
عندما جد بالحبيب عذار ... أظهرت لامه لفتك البريه
قال الناس عند ذلك فيه ... قمر تلك لامه القمريه
وقوله متغزلا
مهفهف القد مذ كواني ... بحمرة الخد منه في الحي
فقلت بي أنت داوني ... قال آخر الطب عندنا الكي
وقول متغزلا
أمن ذكر جار بذات السلم ... أرقت دموعا جرت كالعنم
وأم هاجت الريح من جانب ... به شادن أهيف قد ألم
أتحسب أن الهوى مختف ... ودمعك منه جرى وانسجم
عجبت لخصر له ناحل ... على حمل رد فيه أنى التأم
إذا ما رنا باهتزاز فقد ... رنا عنده هيجان الألم
وإن لاح كالظبي لي نافرا ... فقد جر قلبي بواو القسم
فلا عجب إن نأى معرضا ... لأن الظبا لم تزل فيه لم
وأدعى فصيحا لدى عترتي ... وأدعى لديه بداء البكم
ترفق بقلب غدا في يدي ... ك رقيقا وفوق بتلك الشيم
وضاهيت خصرا له ناحلا ... ولازمني في هواه السقم
فذب يا فؤادي بنار الجوى ... فكم قد نهيتك عن ذا فلم
أما آن أن ينقضي ذا القلا ... وما آن منك أوان الكرم(1/401)
وله غير ذلك فنكتفي بهذا المقدار وأوقفني صاحبنا الفاضل الأديب إبراهيم بن سليمان الجينيني الحنفي نزيل دمشق على كراسة ترجم فيها شيخه صاحب الترجمة فما أذكره ملخص منها قال سلمه الله تعالى كان مولد شيخنا بالرملة وبها نشأ وقرأ القرآن ثم جوده على الشيخ القدوة موسى بن حسن الغبي الشافعي الرملي وقرأ عليه شيئا من أبي شجاع وفي فقه الشافعي ولازمه في صغره وانتفع به وشملته بركته ثم رحل إلى مصر صحبة أخيه الكبير عبد النبي في سنة سبع بعد الألف وكان أخوه العلامة شمس الدين تقدمه لمصر لطلب العلم وكان أسن منه وخير الدين أصغرهم قال وكان يحدثنا أنه في ليلة دخوله إلى مصر أحس بالاحتلام فلما أصبح طلب من أخيه عبد النبي أن يدخله الحمام فأدخله ثم جاء به إلى جامع الأزهر وكان بالجامع من الأولياء المشهورين الشيخ فايد وكان مقره دائما بباب الجامع وكان معتقد أهل مصر في وقته قال وعند دخول شيخنا الجامع أراد أن يقبل يد الشيخ فايد فقطب وجهه فيه وقال له رح عني ولم يمكنه من تقبيل يده فدخل وخاطره منكسر من ذلك ومكث أياما في الجامع ففي بعض الأيام كان مارا وإذا بالشيخ فايد يقول تعال يا شيخ الإسلام تعالى يا شيخ الإسلام بهذا اللفظ فلم عرفت لمن النداء وإذا به يشير إلي فجئت إليه وقبلت يده فهش لي وكان بعدها إذا جئت إليه استقبلني وأجلسني واستنشدني من كلام القوم حتى كنت إذا أردت القيام لا يمكنني إلا بعد الجهد وحصلت لي بركته وكان يحلق للناس لوجه الله تعالى وعلمني الحلاقة ووهبني موسين وحجر مسن وهم عندي ثم أراد الاشتغال بفقه الشافعي واشتغل به أياما فشق ذلك على أخيه وعليه لكونه كان خالي العذار ولم يرض أن يوافق أخاه في الانتقال لمذهب الحنفية ولم يرض أخوه أن يوافقه في الاشتغال بفقه الشافعي فشاورا في ذلك أكابر علماء الجامع قال فأشار لشيخنا بأن يكتب رقعة بواقعة الحال ويلقي الرقعة على قبر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وان يجلس هناك فكتب رقعة وتوجه بها فألقاها وجلس فأخذته سنة من النوم فرآى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وهو يقول كلنا على هدى فجاء وأخبر الذي أشار عليه بذلك فقال له هذه إجازة من الإمام بأن توافق أخاك في القراءة على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فوافق أخاه وجد واجتهد ودأب في تحصيل العلوم وأخذها عن أهلها وفاق أخاه ولازم الشيخ عبد الله بن محمد النحريري الحنفي عالم الأزهر في فقه الحنفية وقرأ عليه شرح الكنز للعيني مرة وأخرى لم تتم وغالب صدر الشريعة ومثله الأشباه والنظائر وجملة من شرح القطر للمصنف وجملة كبيرة من تبيين الحقائق والاختيار شرح المختار وابن ملك على المجمع والسراجية مع شرحها للسيد وشرح الرحبية للشنشوري وغيرها من الكتب وكان أخص مشايخه ولازمه مدة إقامته بمصر حتى أن النحريري كان له خلوة بالبرقوقية فأنزله هو وأخاه فيها وكان يأتي إليهما بها كثيرا وكان يجعل لهما درسا خاصا غير درسه العام الذي بجامع الأزهر وممن أخذ عنه من أجلاء العلماء الحنفية العلاة محمد بن محمد سراج الدين الحانوتي صاحب الفتاوى المشهورة قرأ عليه دروسا من كنز الدقائق وأجازه في أواسط المحرم سنة تسع بعد الألف وقرأ على الشيخ الإمام أحمد بن محمد أمين الدين بن عبد العال في تقسيم شرح الكنز للزيلعي وكتب له إجازة بخطه وهو يروي الحديث عنه وهو عن والده عن شيخ الإسلام زكريا عن الحافظ ابن حجر وقرأ الأصول على العلامة محمد ابن بنت محمد وقرأ على الشيخ محمد بن بنت الشلبي والحديث عن العالم الجليل أبي النجا سالم السنهوري محدث الأزهر والقراآت على مقرى زمانه الشيخ عبد الرحمن البهني وأخذ النحو عن نادرة زمانه أبي بكر الشنواني وعن الشيخ سليمان ابن عبد الدائم لبابلي وكان الشيخ إبراهيم اللقاني رفيقهم على الشنواني إذا فرغ من قراءته عليه عمل له درسا فيضجره أيضا وأقام بمصر بالجامع الأزهر في أخذ العلم ست سنين وحصل كتبا بخطه وكتب لغيره وأفتى وهو بجامع الأزهر وكتب له إجازة شيخه النحريري وشيخه ابن عبد العال عند توجهه في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وألف وقدم بلدة الرملة في ذي الحجة أواخر هذه السنة واجتمع في عوده بعلماء غزة وبحاكمها الأمير أحمد بن رضوان فأكرمه وحصل له منه إنعام واعتنى به وأقام ببلده ثم أخذ في الإقراء والتعليم والإفتاء والتدريس(1/402)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واشتهر علمه بعد صيته وشاعت فتاواه في الآفاق ووردت إليه الأسئلة من كل جانب حتى أنه كان لا يكاد يفرغ من الاشتغال بالفتوى لكثرة ما يرد عليه فيها لجودة كتابته عليها وأخذ في غرس الكروم ومباشرتها بيده حتى إنه غرس ألوفا من الأشجار المختلفة من الفواكه والتين والزيتون وحصل أملاكا وعقارات غالبها من بنائه وكان يأكل منها وكسبه من حل ولم يتعرض من الجهات والأوقاف لشيء وفي ذلك يقولوالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واشتهر علمه بعد صيته وشاعت فتاواه في الآفاق ووردت إليه الأسئلة من كل جانب حتى أنه كان لا يكاد يفرغ من الاشتغال بالفتوى لكثرة ما يرد عليه فيها لجودة كتابته عليها وأخذ في غرس الكروم ومباشرتها بيده حتى إنه غرس ألوفا من الأشجار المختلفة من الفواكه والتين والزيتون وحصل أملاكا وعقارات غالبها من بنائه وكان يأكل منها وكسبه من حل ولم يتعرض من الجهات والأوقاف لشيء وفي ذلك يقول
بورك لي في المر والمسحاة ... فما هو الملجئ للجهات
وهي إذا قام عليها صدقه ... وللذي فرط نار محرقه(1/403)
وكانت خبراته عامة على أهله وأتباعه وجيرانه بل على أهل بلده وانتفعوا به دينا ودنيا ورمم كثيرا من جوامعها ومساجدها ومدافن الأولياء وحصل من الكتب شيئا كثيرا ما ينوف عن ألف ومئتى مجلد غالبها من نفائس الكتب ومشاهيرها من كل علم وكان عنده منها نسخ مكررة وانتفع به خلق لا يحصون وكانت الوزراء والأمراء والموالي والعلماء والمشايخ يسعون إليه وعظمت بركته وعم نفعه وكثر أخذ الناس عنه وغالب من أخذ عنه أكابر الناس وأجلاؤهم منهم الموالي والعلماء الكبار والمفتون والمدرسون وأصحاب التآليف والمشاهير وقصده الناس من الأقطار الشاسعة للأخذ عنه وطلب الإجازة منه فممن أخذ عنه ولده العلامة محيي الدين الآتي ذكره ومات في حياة والده والسيد الجليل محمد الأشعري مفتي الشافعية بالقدس ومن أهل القدس العلامة السيد عبد الرحيم بن أبي اللطف مفتي الحنفية بها والعلامة محمد بن حافظ الدين السروري والفاضل يوسف بن الشيخ رضى الدين اللطفي خطيب المسجد الأقصى ومن أهل غزة العلامة عمر المشرقي مفتي الحنفية بها والشيخ علي مفتي الشافعية وأخذ عنه غالب علماء دمشق منهم من رحل إليه ومنهم من استدعاه منهم العالم الهمام السيد محمد بن السيد كمال الدين بن حمزة النقيب وأولاده الثلاثة السيد عبد الرحمن والسيد عبد الكريم والسيد إبراهيم رحم الله منهم ماضين أولين وأبقى آخرين آخرين والعلامة الفقيه محمد علاء الدين ابن علي الحصكفى مفتي الحنفية بدمشق والعلامة السيد محمد بن عجلان النقيب وغيرهم ومن أهل الحرمين العالم العمدة عيسى بن محمد الثعالبي المغربي نزيل مكة والعلامة المحقق الكبير محمد بن سليمان السوسي المغربي نزيل مكة وفارس حلبة البراعه إبراهيم بن عبد الرحمن الخياري المدني وغيرهم ومن أهل الروم الفاضل المشهور اللوذعى مصطفى باشا ابن المرحوم الوزير الأعظم محمد باشا الكوبري وطلب الإجازة منه لأخيه الصدر الأعظم أحمد باشا عند مروره بالرملة في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وألف ومنهم ابن عمه الفاضل المحقق حسين لبى ومن كان في صحبتهم من الفضلاء وقرأوا عليه دروسا في الحديث والفقه والأصول وأجاز الجميع وأخذ عنه من المغاربة الشيخ الإمام العمدة الرحلة المفسر المحدث النحوي صاحب التصانيف يحيى بن محمد بن عبد الله بن عيسى بن أبي البركات شارح خليل الجزائري الشاوي المغربي حال توجهه إلى الروم وهو آخر من أجازه ومنهم العالم العامل سيدي عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي والفاضل الكامل سيدي محمد بن عبد الله بن سيدي محمد العياشي الولي المشهور سلطان المغرب وغيرهم وانتفع بهم ناس فألحق الأصاغر بالأكابر والأحفاد بالأجداد وكان سمحا بالإجازة ما طلبها أحد منه ورده بل كل من طلبها منه يجيزه أما بالكتابة وأما باللسان حتى أنه أجاز أهل عصره وكان حريصا على إفادة الناس وجبر خواطرهم مكرم للعلماء وطلبة العلم غيورا عليهم ناصرا لهم دافعا عنهم ما استطاع وكان معتدل الطول شثن الأعضاء والأنامل أبيض بياضه مشرب بحمرة ذا شيبة حسنة وهيئة مستحسنة لم ير الناظر أبهى منه وجها من اجتمع به لا يكاد ينساه لكثرة تواضعه ولين جانبه وحسن مصاحبته وكثرة فوائده وفصاحة منطقه وإكرامه للوارد عليه ومجلسه محفوظ من الفحش والغيبة لا يخلى أوقاته من الكتابة أو الإفادة أو المراجعة للمسائل وتحريرها صادق اللهجة ذا فراسة إيمانية وحكمة لقمانية متين الدين عظيم الهيبة تهابه الحكام من القضاة وأهل السياسة وكانت الرملة في زمنه أعدل البلاد وللشرع بها ناموس عظيم وكذا في غالب البلاد القريبة منها فإنه كان إذا حكم على إنسان بغير وجه شرعي جاءه المحكوم عليه بصورة حجة القاضي فيفتيه ببطلانه فتنفذ فتواه وقل أن تقع واقعة مشكلة في دمشق أو في غيرها من المدن الكبار إلا ويستفتي فيها مع كثرة العلماء والمفتين وكان أعراب البوادي إذا وصلت إليهم فتواه لا يختلفون فيها مع أنهم لا يعملون بالشرع في غالب أمورهم والحاصل أنه خاتمة العلماء الكبار وما ذكر من أحواله بالنسبة إلى جلالة قدره وعلو شأنه قطرة من بحر وشذرة من عقد وكانت ولادته في أوائل شهر رمضان المعظم من شهور سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة وتوفى ليلة الأحد قريب الفجر السابع والعشرين من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وألف ودفن بمكان بمحلة الباشقردي قريبا من مدفن الشيخ(1/404)
ابن عبد الله محمد البطايحي رحمه الله تعالى من جهة القبلة بوصية كانت صدرت منه وبنى عليه ولده نجم الدين قبة والعليمي بضم العين المهملة وفتح اللام وسكون الياء وكسر الميم هذه النسبة إلى سيدي علي بن عليم المشهور والفاروقي نسبة إلى الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فإنه صح نسبة ابن عليم إليه والأيوبي نسبة إلى بعض أجداده دون ابن عليم رحمه الله تعالىابن عبد الله محمد البطايحي رحمه الله تعالى من جهة القبلة بوصية كانت صدرت منه وبنى عليه ولده نجم الدين قبة والعليمي بضم العين المهملة وفتح اللام وسكون الياء وكسر الميم هذه النسبة إلى سيدي علي بن عليم المشهور والفاروقي نسبة إلى الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فإنه صح نسبة ابن عليم إليه والأيوبي نسبة إلى بعض أجداده دون ابن عليم رحمه الله تعالى
حرف الدال المهملة
السيد داود بن سليمان بن علوان بن نور الدين بن عبد الله بن محمد بن محمد بن ولى بن عبد الوهاب بن علي بن الولي العارف السيد نفيس الرحماني ابن محمد بن حيدر بن علي بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن بن محمد الاشترا بن عبد الله الثالث ابن علي أبي الحسن الأكبر ابن عبد الله الأصغر الثاني ابن علي الصالح ابن عبد الله الأعرج ابن الحسين بن زين العابدين بن الحسين بن علي رضوان الله عليهم الرحماني الشافعي المصري السيد الفاضل العالم العامل كان من أجلاء المشايخ الملازمين لإقراء العلم والإفتاء والتدريس بالجامع الأزهر ومن المشهورين بالدين المتين والورع والعقل الرصين أخذ عن الشمس محمد الشوبري وعامر الشبراوي وسلطان المزاحي وعلي الشبراملسى ومحمد البابلي وغيرهم وبرع في سائر الفنون وأجازه شيوخه وألف كتبا عديدة منها حاشية على شرح الجلال المحلى وحاشية على شرح التحرير وحاشية على شرح أبي شجاع لابن قاسم الغزى وحاشية على شرح الشذور وحاشية على شرح القطر لابن هشام وحاشية على شرح السنوسية وله كتاب تحفة أولى الألباب والجواهر السنية في أصول طريقة الصوفية وتحفة السمع والبصر بصادق الخبر ومناسك وغير ذلك من الرسائل والكتب وكانت وفاته بمصر في سنة ثمان وسبعين وألف ودفن بتربة المجاورين والرحماني نسبة إلى محلة عبد الرحمن بالبحيرة من قرى مصر والله تعالى أعلم(1/405)
الحكيم داود بن عمر البصير أنطاكي نزيل القاهرة الحكيم الطبيب المشهور رأس الأطباء في زمانه وشيخ العلوم الحكمية وأعجوبة الدهر ذكره أبو المعالي الطالوى في سانحانه وأطال في توصيفه ثم قال وقد سألته عن مسقط رأسه ومشتعل نبراسه فأخبر أنه ولد بأنطاكية بهذا العارض ولم يكن له بعد الولادة بعارض قال ثم إني بلغت من السن عدد سيارة النجوم وأنا لا أقدر على أن أنهض ولا أقوم لعارض ريح تحكم في الأعصاب منع قوائمي من حركة الانتصاب وكان والدي رئيس قرية سيدي حبيب النجار له كرم وخيم وطيب نجار فاتخذ قرب مزار سيدي حبيب رباطا للواردين وبنى فيه حجرات للفقراء والمجاورين ورتب لها في كل صباح من الطعام ما يحمله إليها بعض الخدام وكنت أحمل في كل يوم إلى صحن الرباط فأقيم فيه سحابة يومى ويعاد بي إلى منزل والدي عند نومي وكنت إذ ذاك قد حفظت القرآن ولقنت مقدمات تثقيف اللسان وأنا لا أفتر في تلك الحال عن مناجاة قيم العالم في سرى ومبدع الكل فيما إليه تؤول عاقبة أمري فبينا أنا كذلك إذ برجل جاء من أقصى المدينة يسعى كأنه ينشد ضالة أو أضل المسعى فنزل من الرباط بساحته ونضى فيه أثواب سياحته فإذا هو من أفاضل العجم ذو قدر منيف يدعى بمحمد شريف فبعد أن ألقى فيه عصا التسيار وكان لا يألف منزلا كالقمر السيار استأذنه بعض المجاورين في القراءة عليه وابتدأ في بعض العلوم الإلهية فكنت أسابقه إليه فلما رأى ما رأى مني استخبر ممن هنالك عني فأجبته ولم يك غير الدمع سائلا ومجيبا فعند ذلك اصطنع لي دهنا مسدني به في حر الشمس ولفني بلفافة من فرقي إلى قدمي حتى كدت أفقد عن الحس وتكرر منه ذلك مرارا من غير فاصل فمشت الحرارة الغريزية في كالحميا في المفاصل فبعدها شد من وثاقي وفصدني من عضدي وساقي فقمت بقدرة الواحد الأحد بنفسي لا بمعونة أحد ودخلت المنزل على والدي فلم يتمالك سرورا وانقلب إلى أهله فرحا مسرورا فضمني إلى صدره وسألني عن حالي فحدثته بحقيقة ما جرى لي فمشى من وقته إلى الأستاذ ودخل حجرته وشكر سعيه وأجزل عطيته فقبل منه وشكره واستعفاه بره وقال إنما فعلت ذلك لما رأيت فيه من الهيئة الاستعداديه لقبول ما يلقى إليه من العلوم الحقيقية فابتدأت عليه بقراءة المنطق ثم أتبعته بالرياضي فلما تم شرعت في الطبيعي فلما أكملت اشرأبت نفسي لتعلم اللغة الفارسية فقال يا بني إنها سهلة لكل أحد ولكني أفيدك اللغة اليونانية فإني لا أعلم الآن على وجه الأرض من يعرفها أحدا غيري فأخذتها عنه وأنا بحمد الله الآن فيها كهو إذ ذاك ثم ما برح أن سار كالبدر يطوى المنازل لدياره وانقطعت عني بعد ذلك سيارة أخباره ثم جرت الأقدار بما جرت وخلت الديار من أهلها وأقفرت بتنكرها علي لانتقال والدي واعتقال ما أحرزته من طريفي وتالدى فكان ذلك داعية المهاجره لديار مصر والقاهره فخرجت عن الوطن في رفقة كرام نؤم بعض المدن من سواحل الشام حتى إذا صرت في بعض ثغورها المحميه دعتني همة علية أو علويه أن أصعد منه جبل عامله قصعدته منصوبا على المدح وكنت عامله وأخذت عم مشايخها ما أخذت وبحثت مع فضلائها فيما بحثت ثم ساقتني العناية الإلهية إلى أني دخلت حمى دمشق المحمية فاجتمعت ببعض علمائها من مشايخ الإسلام كأبي الفتح محمد بن محمد بن عبد السلام وكشمس علومها البدر الغزى العامري ذلك الإمام والشيخ علاء الدين العمادي ثم لم ألبث أن هبطت مصر هبوط آدم من الجنه لما وجدتها كما قال أبو الطيب ملاعب جنه فكأنها مغاني الشعب وأنا المعنى فيها بقوله
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
تنبو عن قبول الحكمة فيها طباع الرجال نبوقيناتهم الحسان لحى شيب القذال ترى نفرة أحدهم عن كمالهم السرمد نفرة الظلام رأى الظلام فجود ثم تمثل بقول القائل
ما مقامي بأرض نحلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمة تداركها الل ... ه غريب كصالح في ثمود(1/406)
هذا ما طارحني به في بعض مطارحاته وحدثني في جملة مسامراته وكان فيه دعابة يؤنس بها جليسه كيلا يعرف الوحشة أنيسه إلى حسن سجايا كالرياش بكتها الأمطار فضحكت ثغور أقاحها عن باسم الأنوار وكرم نجار وطيب وخيم تعرف في وجهه نضرة النعيم وأما فرقه من المعاد وخشيته من رب العباد فلم ير لغيره من أهل هذا الطريق وأصحاب أولئك الغريق وكثيرا ما يتمثل بهذين البيتين وهما لعبد الله طاهر بن الحسين
إلام تطيلي العتب في كل ساعة ... فلم لا تملين القطيعة والهجرا
رويدك إن الدهر فيه كفاية ... لتفريق ذات البين فانتظري الدهرا
وكان إذا سئل عن شيء من الفنون الحكمية والطبيعية والرياضية في ذلك ما يبلغ الكراسة والكراستين كما هو مشهور مثل ذلك عن الشيخ الرئيس أبي علي بن الحسين فمن ذلك ما شاهدته و هو بحجرته الظاهريه وقد سأله رجل عن حقيقة النفس الإنسانية فأملى على السائل رسالة عظيمة في ذلك وعرضها عليه وله من التآليف والرسائل والأشعار المزرية بروض الخمائل ما هو بأيدي الناس مألوف وعند أربابه من الفضلاء معروف فمن ذلك الكتاب الذي صنفه وسماه بتذكرة ألوي الألباب والجامع للعجب العجاب جمع فيها الطب والحكمة وهي بأيدي الناس شهيرة ثم اختصرها لقصور الهمم في مجلد وله كتاب البهجة في جلد والدرة المنتخبه فيما صح من الأدوية المجربه وله رسالة في الحمام ألفها باسم الأستاذ البكري وشرح قصيدة النفس المشهورة للشيخ الرئيس ابن سينا وهو شرح فصل فيه حقيقة النفس وجوهرها النفيس يرضي السائل وإن كان هو الشيخ الرئيس وله قطعة منظومة في هذا المعنى تشعر باعتراض فيها على الشيخ وهي
من بحر أنوار اليقين بحسنها ... فلو صل أو فصل تنوب كما ادعى
أو للكمال فهيكل لا ترضى ... للمطلق الثاني يصح لا ربع
هبه يصح فقدره من أوج ما ... قدست يكمل بالحضيض البلقع
تالله ما هبطت ولكن أهبطت ... فبقسر أو بالاختيار لمن يعي
وعليهما تتبدد الأحيان أو ... تفنى فتدخل في المحل المفقع
وكانت قصيدة الحكيم الفاضل والفيلسوف الكامل أبي علي الحسين ابن سطر البغدادي التي خاطب بها الفلك وتشتمل على مباحث الحكمة وأكثر مسائل الفلسفة وهي أبدع الشعر وأعذبه وأبلغ النظم ومستعذبه كثيرا ما يلهج بإيرادها ويعتني في غالب أوقاته بإنشادها وهي
بربك أيها الفلك المدار ... أقصد ذا المسير أم اضطرار
مسيرك قل لنا في أي شيء ... ففي أفهامنا منك انبهار
وفيك نرى الفضاء فهل فضاء ... سوى هذا الفضاء به تدار
وعندك ترتع الأرواح أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار
وموج ذا المجرة أم فرند ... على لجج الدروع له أوار
وفيك الشمس رافعة شعاعا ... بأجنحة قوادمها قصار
وطوق في النحور من الليالي ... هلال أم يد فيها سوار
وشهب ذي الخواطف أم ذبال ... عليها المرخ يقدح والعفار
وترصيع نجومك أم حباب ... تؤلف بينه اللجج الغزار
تمر بواديا ليلا وتطوى ... نهارا مثل ما طوي النهار
فكم بصفائها صدأ البرايا ... وما يصدا لها أبدا غرار
تبارى ثم تحسر راجعات ... وتكنس مثل ما كنس الصوار
فبينا الشرق يقذفها صعودا ... تلقاها من الغرب انحدار
على ذا ما مضى وعليه تمضي ... طوال مني وآجال قصار
وأيام تعرفنا مداها ... لها أنفاسنا أبدا شفار
ودهر ينثر الأعمار نثرا ... كما للغصن بالورق انتثار
ودنيا كلما وضعت جنينا ... عداه من نوائبها ظؤار
هي العشواء ما خبطت هشيم ... هي العجماء ما جرحت جبار
فمن يوم بلا أمس ليوم ... بغير غد إليه ما يسار
ومن نفسين في أخذ ورد ... لروح المرء في الجسم انتشار
وكان كثير التمثل بقول الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا(1/407)
عطارد قد والله طال ترددى ... مساء وصبحا كي أراك فأغنما
فها أنا فامدد لي قوى أدرك المنى ... بها والعلوم الغامضات تكرما
ووقني المحذور والشر كله ... بأمر مليك خالق الأرض والسما(1/408)
قلت وله في التذكرة فصل عقده لدعوة الكواكب وهو الذي فتح عليه باب الوقيعة حتى استهدفه كثير من الناس بسهام الذم بذكر مناجاة الكواكب والسجود لها فإن وقع في وهمك شيء من الإنكار فطالع ذلك الفصل من أوله تجده قد قال ومنهم من يتوصل إلى خطاب الأرواح بدعوات الكواكب ودخنها وفيه إخلال بنواميس شرعنا لا يملكها إلا من يخرقه وحاشا أن مثل هذا الأستاذ يرضى لنفسه خرق الشريعة وإنما ذكر مثل هذا في كتابه ليكون مشتملا على فنون شتى نعم قد رأيت مدين القوصوني قد ترجمه وجزم بأنه شيعي وعبارته في حقه هكذا وكان شيعيا مخالفا لعقيدة الأشعرية وهم الذين يثبتون لله صفات قديمة ويثبتون الإمامة بالاتفاق والنص وموافقا لعقيدة الشيعة وهم الذين بايعوا عليا وقالوا بإمامته نصا ووصية والحق أحق أن يتبع في بيان معتقد الإنسان وما هو عليه كان فقد قال الإمام السبكي في أول طبقاته وهذا شيخنا الذهبي من هذا القبيل له علم وديانة وعنده على أهل السنة تحمل مفرط فلا يجوز أن يعتمد عليه وهو شيخنا ومعلمنا غير أن الحق أحق أن يتبع وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يستحيا منه وأنا أخشى عليه يوم القيامة من غالب علماء المسلمين وأئمتهم الذين حملوا لنا الشريعة النبوية فإن غالبهم أشاعرة وهو إذا وقع بأشعري لا يبقى ولا يذر والذي أعتقده أنهم خصماؤه يوم القيامة فالله المسئول أن يخفف عنه وأن يشفعهم فيه انتهى وصاحب الترجمة من هذا القبيل فكم له من اعتقادات فاسدة وأقاويل كاذبة باطلة منها قوله في شرح منظومة الشيخ ابن سينا التي أولها " هبطت إليك من المحل الأرفع " فيما يتعلق بخرق الأفلاك ما نصه أن جواز الخرق محال لا يقال يلزم عليه تكذيب صاحب الشرع في دعوى المعراج لعدم جوازه بدون ذلك لأنا نقول هذا شيء تقول به سخفاء العقول من المتشرعين فإن المعراج إن لم يكن مشروطا بعدم جواز الخرق لم يكن إعجازا إذا المعجز الخارق للعادة والصعود إلى السماء يستلزم الخرق فلو كان جائزا لم يكن عليه السلام مزية على غيره وقد فرضناه منفردا عن بني آدم كافة بذلك هذا خلف انتهى قلت قال النسفي والمعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة بشخصه إلى السماء ثم إلى ما شاء الله تعالى من العلا حتى قال السعد التفتازاني أي ثابت بالخبر المشهور حتى أن منكره يكون مبتدعا وإنكاره وادعاء استحالته إنما ينبني على أصول الفلاسفة وإلا فالخرق والالتئام على السموات جائز والأجسام متماثلة يصح على كل ما يصح على الآخر والله تعالى قادر على الممكنات كلها انتهى هذا وما يقوله هذا الزاعم في قوله تعالى " وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه " في حق سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام وما يقول أيضا في الحديث الصحيح الذي أخرجه القاضي عياض في الشفا والإمام مسلم في صحيحه وغيرهما بالسند المتصل عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل من قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابنى الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا فعلم بما ذكر في النص من كتاب الله تعالى برفع سيدنا عيسى والنص من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وجدوه في السماء الثانية فقد قال الإمام النسفي ورد النصوص كفر ومنها قوله أيضا بعدما يطول ذكره ناقلا ما في التنزيل عن سيدنا موسى لأخيه هرون فقال اخلفني في قومي وأصلح وهذا قال يعني النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي أما ترضى أن تكون بمنزلة هارون بن موسى فالمشاورة المشرفة للتخيير على مقامات النبوة خلية عن الوحي الملكي لا للتخيير فنبي أمن من الخطأ يحرض على الإصلاح ووصى لم ير عصمته إلا الخواص يشاور على الرضى بأعمال الأنبياء هل هذا الأمر الأسر جلبته الخلافة وحققته الألوهية إذ كان الكفر خلافه انتهى فانظر إلى هذا الاعتقاد الظاهر الفاسد الذي أوجب له ما أوجبه لغيره المخالفين له وهم أهل السنة مع إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر وكيف وقد قال السعد التفتازاني بعد قول الإمام النسفي وخلافتهم ثابتة على هذا الترتيب يعني أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ثم لعمر ثم لعثمان ثم لعلي رضي الله عنهم أجمعين وذلك لأن الصحابة قد اجتمعوا يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني(1/409)
ساعدة واستقر رأيهم بعد المشاورة والمنازعة على الخلافة أبي بكر فأجمعوا على ذلك وبايعه علي على رؤس الأشهاد بعد توقف كان منه ولو لم تكن الخلافة حقا لما اتفق عليها الصحابة ولنازعه علي كما نازع معاوية ولاحتج عليهم لو كان في حقه نص كما زعمت الشيعة فكيف يتصور في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الاتفاق على الباطل أو ترك العمل بالنص الوارد انتهى كلام السعد هذا وقال صاحب الترجمة أيضا في الشرح المذكور لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي قام الحصر دليلا على القصر كان قصر قلب فصار كشف كرب إلا أنه نبي بعدي فقال اخلفني فلا خلاف في الخلافة إثباتا والنبوة محوا وقال لعمار إلى كم تأكل الخبز وتشرب الماء فقال أهو اليوم فقال والذي نفس محمد بيده فبرز فكان ما كان وكذلك خرج ليلة ابن ملجم في السحر ينظر إلى السماء تلذذا بما خصص به وطاعة وإجابة فأكثر من ذلك ثم نهى عن ردع الاوز وقال هي صوابح يتلوهن النوايح كيف يزداد يقينا من جمع المسئلة والجواب وأحاط بكل شيء علما فهو والله الكتاب وتعيها أذن واعية فآمن معه وصلى لا ثالث لهما فجاءت الخلافة عن ثلاث فكان هو الرابع أخرج الخطيب عن عبد بن حميد في التوريزيات يا علي من لم يقل إنك رابع الخلفاء فعليه لعنة الله لأن الله قال لآدم " إني جاعلك في الأرض خليفة " " يا داود إنا جعلناك خليفة " وقال موسى لأخيه هارون " اخلفني في قومي " ثم قال له يوم تبوك كن على ما أنا عليه حتى أرجع فقال أعلى الصبيان والنساء فقال أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الحديث وفيه طول انتهى وهذا بعض ما ذكره من الكلام في هذا المقام والله أعلم والسلام فتأمل ما فيه من الفساد والله لطيف بالعباد وله من المؤلفات الشرح المذكور سماه الكحل النفيس لجلاء عين الرئيس وله غاية المرام في تحرير المنطق والكلام وهذا الاسم للإمام الآمدي له كتاب سماه غاية المرام في علم الكلام وله نزهة الأذهان في إصلاح الأبدان وله زينة الطروس في أحكام العقول والنفوس وله ألفية في الطب وله نظم قانونجك وله شرح على النظم المذكور وله شرح على أبيات السهروردي التي أولهاعدة واستقر رأيهم بعد المشاورة والمنازعة على الخلافة أبي بكر فأجمعوا على ذلك وبايعه علي على رؤس الأشهاد بعد توقف كان منه ولو لم تكن الخلافة حقا لما اتفق عليها الصحابة ولنازعه علي كما نازع معاوية ولاحتج عليهم لو كان في حقه نص كما زعمت الشيعة فكيف يتصور في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الاتفاق على الباطل أو ترك العمل بالنص الوارد انتهى كلام السعد هذا وقال صاحب الترجمة أيضا في الشرح المذكور لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي قام الحصر دليلا على القصر كان قصر قلب فصار كشف كرب إلا أنه نبي بعدي فقال اخلفني فلا خلاف في الخلافة إثباتا والنبوة محوا وقال لعمار إلى كم تأكل الخبز وتشرب الماء فقال أهو اليوم فقال والذي نفس محمد بيده فبرز فكان ما كان وكذلك خرج ليلة ابن ملجم في السحر ينظر إلى السماء تلذذا بما خصص به وطاعة وإجابة فأكثر من ذلك ثم نهى عن ردع الاوز وقال هي صوابح يتلوهن النوايح كيف يزداد يقينا من جمع المسئلة والجواب وأحاط بكل شيء علما فهو والله الكتاب وتعيها أذن واعية فآمن معه وصلى لا ثالث لهما فجاءت الخلافة عن ثلاث فكان هو الرابع أخرج الخطيب عن عبد بن حميد في التوريزيات يا علي من لم يقل إنك رابع الخلفاء فعليه لعنة الله لأن الله قال لآدم " إني جاعلك في الأرض خليفة " " يا داود إنا جعلناك خليفة " وقال موسى لأخيه هارون " اخلفني في قومي " ثم قال له يوم تبوك كن على ما أنا عليه حتى أرجع فقال أعلى الصبيان والنساء فقال أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الحديث وفيه طول انتهى وهذا بعض ما ذكره من الكلام في هذا المقام والله أعلم والسلام فتأمل ما فيه من الفساد والله لطيف بالعباد وله من المؤلفات الشرح المذكور سماه الكحل النفيس لجلاء عين الرئيس وله غاية المرام في تحرير المنطق والكلام وهذا الاسم للإمام الآمدي له كتاب سماه غاية المرام في علم الكلام وله نزهة الأذهان في إصلاح الأبدان وله زينة الطروس في أحكام العقول والنفوس وله ألفية في الطب وله نظم قانونجك وله شرح على النظم المذكور وله شرح على أبيات السهروردي التي أولها(1/410)
خلعت هيا كلها بجرعاء الحمى ... وصبت لمغناها القديم تشوقا(1/411)
وله مختصر أسواق الأشواق للبقاعي سماه تزيين الأسواق وله رسالة في الهيئة وله كفاية المحتاج في علم العلاج قلت وهذه زيادة على تآليفه التي ذكرها الطالوي وقد ذكره البديعي في ذكرى حبيب فقال في وصفه ضرير ماله في العلوم الحكمية نظير وطبيب ماله في الأزمنة الغابرة ضريب حكيم صفت من قذى الخطأ موارد أنظاره وصحت عن غمام الأوهام آفاق أفكاره حل عقد المشكلات بما قيده وبيض وجه العلوم الرياضية بما سوده بآثار تقتضى إثبات محاسنه بالتخليد وتقييد مآثره للتأبيد وكان ملازما لكتاب إخوان الصفا وخلان الوفا للمجريطي ولكتابيه رتبة الحكيم وغاية الحكيم ومن كتب الشيخ القانون والشفا والنجاه والحكمة الشرقيه والتعليقات ورسالة الأجرام السماوية والإشارات مع شرحه لنصير الدين الطوسي وللإمام فخر الدين الرازي والمحاكمات بينهما لقطب الدين الرازي وحواشيه للسيد ومن كتب السهروردي المشارق والمطارحات وكتاب التلويحات وشرحه لهبة الله البغدادي وكان شريف مكة يلهج بتذكاره ويستهدى من الحجاج تفاريق أخباره وهزه الشوق على أن استقدمه عليه واستحضره إليه ليجعل السماع عيانا والخبر برهانا فلما مثل بساحته طامعا في تقبيل راحته أمر أن يعرض عليه أحد حاضري مجلس أنسه ليختبر بذلك قوة حدسه فمذ صافحت يده يد ذلك الجليس قال هذه يد دعي خسيس لا يضوع منها أرج النبوه ولا يستنشق عرف الفتوه ثم أمر بعرضه على القوم واحدا بعد واحد حتى وصل إلى الشريف فقبل يده تقبيل المحب الواجد وأعجب من ذلك ما أخبرني به من أثق به بالقاهرة المعزيه قال كان له حجرة بالمدرسة الظاهرية اتخذها لاجتماعه بالناس ومداواة أصحاب الباس فورد عليه في بعض الأيام رجل من الأجناد مجهرا بالسلام فمذ سمع سلامه عرف مرامه وقال اذهب فلا شفى الله لك عله ولا برد لك غله تشرب الخمر وتفعل ذلك الأمر حتى يحدثا لك هذا الداء وتأتي الضرير تروم منه الأدواء ثم استتابه وشفاه من دائه بعدما أشفاه وما فهم كنه علته إلا من تحرك شفته وعجائبه في هذا الباب لا تحصى وغرائبه لا تستقصى وقال الشلى في تاريخه العقد عندما ذكره أنه استدعاه الشريف حسن لبعض نسائه فلما دخل قادته جارية ولما خرجت به قال للشريف أن الجارية لما دخلت بي كانت بكرا ولما خرجت بي صارت ثيبا فسألها الشريف وأعطاها الأمان من المعاقبة فأخبرته أن فلانا استفضها قهرا فسأله فاعترف بذلك وحكى الشمس البابلي المصري أن الحكيم داود مر بعض الحارات التي يسكنها الضعفاء والفقراء فسمع صوت مولود حال ولادته فقال هذا صوت بكرى فتفحصوا عن ذلك فوجدوه كما قال وإن بعض البكريين تزوج ببنت فقير خفية ووافق مرور صاحب الترجمة حال ولادتها بالولد قلت ومما ينقل من غرائبه ولا ادعى صحته أنه ورد إلى مكة طبيب ومعه حب قايض فرغب الناس فيه واشتهر أمره فوصل خبره إلى داود فجاء إليه وسأله عن تركيب الحب المذكور فأجابه إن شهرتك في الحذق تنبو عن هذا السؤال وينبغي لمثلك أن يخبر بأجزائه إذا ذاقه فقال له إذا أخبرتك هل تصدقني ولا تخالف علي في شيء فأقسم له أنه لا يخالف عليه في شيء فقال له كم عدد أجزائه فقال ثلاثون فذاقه ثم أخذ يذكر الأجزاء واحدا بعد واحد والطبيب يصدقه على ما يقول إلى أن بقي جزء واحد فأظهر العجز عن معرفته فقال له الطبيب لا بد وأن تمعن النظر فيه وتظهره فذاق حبة وتوقف حصة ثم قال له إن كان ولا بد فهذا الجزء مما لا طعم له ولا رائحة وهو الكهربا وهي مبالغة بالغة إلى إفراط ولولا شهرتها عنه كثيرا في الألسنة ما ذكرتها نعم حكوا عنه ما هو ألطف موقعا من هذه وهي أن رجلا دخل عليه وقال له أي شيء يقوم مقام اللحم فقال البيض فغاب عنه سنة وجاءه فرآه منهمكا في تركيب يجمع أجزاءه فقال لي بأي شيء يقلى فقال بالسمن وهذه شبيهة بقصة أبي العلاء المعري مع المنازى لما أنشده بالشام أبياتا فقال أنت أشعر من بالشام ثم اتفق اجتماعهما بالعراق بعد سبع سنين فأنشد المنازي أبياتا أخر فقال له ومن بالعراق وقريب من هذه ما يحكى عن أبي العلاء أيضا أنه كان سافر مع رفيق له إلى جهة فمرا في طريقهما بشجرة فلما قربا منها قال له رفيقه إياك وشجرة أمامك فانحن حتى تجاوزها فلما رجع من ذلك الطريق أيضا انحنى أبو العلاء لما قرب من مكان الشجرة ورفيقه ينظر إليه وقد تجاوزنا الحد في الإطالة فلنرجع إلى تتمة الشيخ(1/412)
داود فنقول وله شعر كثير لكن لم يذكر له الذين ترجموه إلا أبياته المشهورة وهي فنقول وله شعر كثير لكن لم يذكر له الذين ترجموه إلا أبياته المشهورة وهي
من طول إبعاد ودهر جائر ... ومسيس حاجات وقلة منصف
ومغيب ألف لا اعتياض بغيره ... شط الزمان به فليس بمسعف
أواه لو حلت لي الصهباء كي ... أنشى فأذهل عن غرام متلف
وقد فحصت له عن غير هذه الأبيات العينية المتقدمة فلم أظفر بشيء وبالجملة فإنه من نوادر الزمان وأعاجيب الدوران وكانت إقامته بمكة دون السنة ومات بها في سنة ثمان بعد الألف هكذا ذكره الشلى وكان مرض موته الإسهال عن تناول عنب وبعضهم يزعم أنه سم والله أعلم ؟درويش محمد بن أحمد وقيل محمد أبو المعالي الطالوي الارتقي الدمشقي الحنفي أحد أفراد الدهر ومحاسن العصر وكان ماهرا في كل فن من الفنون مفرط الذكاء فصيح العبارة منشئا بليغا حسن التصرف في النظم والنثر وله كتاب سانحات دمى القصر جمع فيها أشعاره وترسلاته وهو كتاب حسن الوضع متداول في أيدي الناس ووالده رومي المحتد قدم إلى دمشق في صحبة السلطان سليم وكان خادما لبعض أتباعه فتزوج أم درويش محمد وهي عنقا بنت الأمير علي بن طالو وقطن معها بمحلة التعديل من دمشق ثم إنه انكسر عليه بعض مال من ضمان أمانة أقطاع كانت عليه فسار عن دمشق فنشأ ولده درويش محمد فريدا وأعطى من أقطاع والده حصة يسيرة وفرغ عنها لآخر ولزم صنعة السروج ولم يطل مكثه بها حتى جذبه الشهاب أحمد بن البدر الغزى إليه وكان توسم فيه قابلية العلم وحبب إليه الطلب ولما ذاق حلاوة العلم أشار إليه بترك زي الجند ولبس زي العلماء ثم صحب العلامة أبا الفتح محمد المالكي فقرأ عليه الأدب والرياضى والمنطق والحكمة والتصوف وغيرها ولزمه مدة مديدة وأخذ عن جماعة من فضلاء العجم الواردين إلى دمشق منهم المولى محمد بن حسن المغاني لما أنزله في مدرسة جده لأمه الأمير علي المذكور وقرأ عليه حاشية المطالع ومنلا زاده في الحكمة وغير ذلك وأخذ التصوف عن منلا غياث الدين الشهير بمير مخدوم اللألائي التبريزي قرأ عليه بدمشق مقدمات الفصوص للشيخ داود القصيري وشرح الرباعيات للمولى عبد الرحمن الجامي وأخذ عن الشيخ سراج الدين التبريزي نزيل مكة المشرفة وصحبه برهة لما قدم من مكة إلى دمشق في سنة اثنتين وسبعين وتسعمائة وأخذ خرقة التصوف عن الشيخ محمد الناشري نزيل المدينة المنورة وإمام مسجد قبا ثم قرأ الفقه بعد وفاة شيخه أبي الفتح على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على الشيخ نجم الدين محمد البهنسى خطيب دمشق ومفتيها والمعاني والبيان على العماد الحنفي وحضر مجالس التفسير على البدر الغزي في تفسيره بالتقوية والجامع الأموي مع ملازمة ولده الشهاب ثم ولى تدريس المدرسة الخاتونية داخل دمشق ثم اتصل بخدمة قاضي القضاة المولى محمد بن بستان حين كان قاضيا بدمشق فلازم خدمته وناب عنه وله فيه مدائح كثيرة ثم ارتحل معه إلى الروم وناب عنه بها حين ولى قضاءها ولما ولى قضاء العسكر بأناطولى بعثه إلى الشام قساما ثم رجع إلى الروم وولى بها عدة مدارس ثم عاد إلى دمشق في سنة سبع وتسعين وتسعمائة وصحب بها جماعة من أصحابه القدماء وكان يجري بينه وبينهم مطارحات وترسلات فمما دار بينه وبين الحسن البوريني أن الحسن نقل عن الشيخ الطيبي بيته المشهور وهو
ولا تضف شهر اللفظ شهر ... إلا الذي أوله را فادر
فمر بهم في المطالعة في حواشي الكشاف للسعد أن إضافة لفظ شهر إلى رجب ممتنع فقال الطالوي ينبغي أن يستثنى ذلك مما يقتضيه كلام الطيبي فقال له البوريني بادروا إلى ذلك فقال " إلا الأصم فهو فيه ممتنع " فقال الحسن مجيزا " لأنه فيما رووه ما سمع " وبهذا علل السعد المنع وكتب إليه البوريني عقب مقاطعة صدرت بينهما قوله
يا ناسيا من لم يزل ... في الناس يتلو مننك
يا حسنا أفعاله ... كيف تسوء حسنك
فراجعه بقوله
ما سؤب يوما حسني ... في الناس يتلو منني
وإن تسؤ أفعاله ... قابلتها بالحسن(1/413)
ووقع له في ذلك الأثناء وهو بدمشق أن ابن خالته الأمير إبراهيم الطالوي تولى الإمارة بولاية نابلس فتوجه معه وأعطاه الأمير خيلا ومالا وزوده وودعه فتوجه إلى القاهرة واستقر بها نحو سنة وأخذ بها عن العلامة علي بن غانم المقدسي الحنفي والشمس محمد النحراوي البصير الحنفي وشيخ الشافعية في عصره الشمس محمد الرملي وغيرهم ممن ذكره في كتابه السانحات وعاد من مصر إلى دمشق ثم سافر إلى الروم واتصل بالمولى سعد بن حسن جان معلم السلطان محمد فاكرم مثواه بناء على معرفة حقوق أبناء النعمة وأغنياء الأصالة خصوصا الجامعين إلى شرف النسب شرف الأدب وامتدحه وولديه محمدا وأسعد بقصائد كثيرة وولى بعنايته مدارس عديدة بالروم إلى أن وصل إلى مدرسة خير الدين باشا بخمسين عثمانيا ثم أعطى منها المدرسة السليمانية بدمشق والإفتاء بها فورد إلى دمشق واستقر بها إلى أن مات وكان على تماسك حاله شاكيا لدهره مستزيد القدره وكانت أخلاقه متفاوتة فما مدح أحدا إلا هجاه وله في ذلك أعاجيب كثيرة وهو في كل أسلوب من أساليب الشعر كثير الملح كأنما يصدر شعره عن طباع المفلقين من الشعراء وله القصيدة التي سارت في البلاد وطارت في الآفاق لحسن ديباجتها وكثرة رونقها وكان أرسلها من الروم إلى أصحابه العلماء والأمراء المقيمين بدمشق وأولها
أنسيمة الروض المطير ... بالعهد من زمن السرور
ولطولها وشهرتها لم أذكرها وعلى نمطها وقعت قصائد كثيرة جاهلية وإسلاما ومحدثة فمنها للشريف الرضي الموسوي
نطق اللسان عن الضمير ... والبشر عنوان الضمير
ولأبي بكر الخوارزمي
إن الالى خلف الخدور ... هم في الضمائر والصدور
ومن هذا العروض قصيدة المنحل لمعظم بن الحارث اليشكري كما في حماسة أبي تمام ومطلعها
إن كنت عاذلتي فسيرى ... نحو الحجاز ولا تجوري
ولإبراهيم بن المدبر قصيدة في مدح المتوكل على هذا المنوال منها
يوم أتانا بالسرور ... والحمد لله الكبير
أخلصت فيه شكره ... ووفيت فيه بالنذور
منها
البدر ينطق بيننا ... أم جعفر فوق السرير
فإذا تواردت العظا ... ئم كنت منقطع النظير
وللطالوى يستدعي بعض أصدقائه إلى منتزه في بعض الأيام
قد غازل النسرين لحظ النرجس ... في مجلس سقى الحيا من مجلس
يرنو إليه كما رنت من خشية الم ... رقباء غيد عن لحاظ نعس
والورد أخجله الحيا فكأنه ... خد تورد من لهيب تنفس
في فتية نشرت حدائق بردها ... فزهت على زهر الجواري الكنس
دارت سلاف الذكر منك عليهم ... فغدت تمايل كالغصون الميس
ترجو قدومك كي يتم سرورها ... وتقر عينا يا حياة الأنفس
لا زال وردك يانعا في روضة ... وشبابك الفتان زاهي الملبس
ما غردت ورق بأعلى أيكة ... في روضة كسيت مطارف سندس
وله من قصيدة قالها وهو بالروم يتشوق فيها لوطنه في قوله
على الشام مني كلما هبت الصبا ... سلام كنشر الروض طاب له نشر
بلاد كأنفاس الشمول شمالها ... وتربتها مسك وحصباؤها در
سقاها وحياها الإله معاهدا ... سحاب دنو العهد وافى به البشر
فيا حبها زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأحزان موعدك الحشر
وله من قصيدة تشتمل على وصف السرو والسفينة مطلعها
سرنا باسلامبول نبغي نزهة ... دعت الفؤاد إلى الفضاء المطلق
ثم امتطينا البحر في نوحية ... تجرى بنا في لج موج مطبق
نشرت قوادم طائر ومشت به ... فيه كنسر في السماء محلق
بارت عقاب الجو إذ طارت به ... بمثال قادمتي جناح العقعق
فكأنها باز ونحن بمتنها ... تهوى بنا طورا وطورا ترتقي
حتى رست في شاطئ ورمت بنا ... تلك المذانب وسط روض مونق
فإذا بأرض في الصفاء كعسجد ... والمندل الشحري في المتنشق(1/414)
حفت بسرو كالقيان تلفعت ... خضر الملا وكشفن عن ساق نقي
هذا ينظر إلى قول أحمد بن سليمان بن وهب
حفت بسرو كالقيان تلبست ... خضر الحرير على قوام معتدل
فكأنها والريح تخطر بينها ... تنوى التعانق ثم يمنعها الخجل
وقال الصنوبري من أبيات مطلعها
يا ريم قومي الآن ويحك فانظري ... ما للحدائق أظهرت إعجابها
والسرو شبه عرائس مجلوة ... قد شمرت عن سوقها أثوابها
وقال ابن طباطبا ونقل عن الصاحب أنه كان يعجب بهذين البيتين وينشدهما إذا دخل بستان داره
يا حسن بستان داري ... والورد يقطف طله
والسرو قد مد فيه ... على الرياحين ظله
وقال ابن المعتز
والسرو مثل قضب الزبرجد ... قد استمد الماء من ترب ندى
رجع إلى القصيدة منها
والغيم في وسط السماء كأنه ... قطع اللجين على بساط أزرق
أخذه من قول ابن المعتز
والبدر في أفق السماء كدرهم ... ملقى على ديباجة زرقاء
وكذره الخفاجي في كتبيه وأثنى عليه كثيرا وذكر قصيدته التي راسله بها ومطلعها
قبلت مصطحبا شفاه الاكؤس ... والصبح يبسم لي بثغر ألعس
وجواب الطالوي عنها بقوله
خد تورد من لهيب تنفس ... أم قد معسول المراشف ألعس
ثم قال في ترجمته ورأى نلوفرة صارت صد فاللآلي السحاب وحقه لدر الندى المذاب كأنها بوتقة أذاب فيها الجو نضاره أو كأس في يد مصطبح يداوي خماره أو مقلة صب كئيب فاجأه على الغفلة الرقيب بعدما امتلأت بدمع الجوى فتردد فيه الدمع من صرة النوى وقد طفا الماء الزلال فبلغ حافاتها وما سال بل تشبث بأهداب أوراقها خشية فراقها فقال
ونوفرة كعين الصب سكرى ... نجم الماء خشية أن يراقا
ذكرت بها النوى يوما ففاضت ... وصارت كلها للدمع ماقا
قلت ضمن فيه قول المتنبي
نظرت إليهم والعين سكرى ... فصارت كلها للدمع ماقا
ومن غريب ما وقع أنه لما توجه من دمشق إلى الروم اجتاز بثغر صيدا وحاكمها إذ ذاك الأمير فخر الدين المعنى وكان معه له مكتوب بالتوصية فيه من محافظ الديار الشامية الوزير شريف باشا فأوصله إياه مع قصيدة مدحه بها مطلعها
قل لمجرى الجياد قب البطون ... وأمير البلاد فخر الدين
وكان معه غلام كالبدر لولا أفوله والغصن لولا ذبوله لو رآه الفرزدق سلا نوار بأحداقه التي تستوقف الأبصار فاغتصبه منه فأسف على يوسفه أسف يعقوب وأمل النصرة على الدهر فأصبح المغلوب فكتب إلى الشريف الوزير يستعديه على ذلك الأمير قصيدة أولها
بالله يا نشر العبير ... سيري بروضات العرى
إلى أن قال
إن جئت ساحة الشام فاقصد ... ساحة الشرف العلى
أعنى الشريف ابن الشر ... يف الموسوي
متحملا مني السلام ... كمسك دارين الذكى
لجناب مولانا الوزي ... ر ولى مولانا على
ثم اشرحن من حال م ... ولاه المحب الطالوى
ماذا لقى في ثغر ص ... يدا من دروزي غوى
دين التناسخ دينه ... لا بل يدين بكل غي
ويرى الطبائع أنها ... فعالة في كل شي
وافي بمكتوب الشري ... ف إليه من بلد قصي
بوصيه فيه كأنما ... يوصيه في أخذ الصبي
فسقاه يوم فراقه ... لا كان بالكأس الروي
وغدا الحشا من بعده ... يبكي بدمع عند مي
في غربة لا يشتكى ... فيها إلى خل وفي
لا جار يحميه ولا ... يأوي إلى ركن قوي
إلا إلى ركن الشر ... يف الطاهر الشيم الزكي
حامي حمى الشام الشر ... يف بكل أبيض مخذمي
مولاي سمعا إن لي ... حقا لديك بغير لي(1/415)
بولاء حيدرة الوصى ... أخي النبي الهاشمي
لا تهملن في أخذ ثار ... ي من كفور بالنبي
وابعث إلي مقانبا ... فيها الكمى على الكمى
لو حاربت جند القضا ... ثنت سراه عن مضى
جرافة لم تبق في ... أطلاله غير النوى
وأشيعت ينعى الديا ... ر مع ابن دأية في النعي
قلت والدروزية تقدم الكلام في ترجمة حسن العيلبوني أننا سنتكلم عليها في ترجمة الأمير فخر الدين بن معن في حرف الفاء إن شاء الله تعالى والنؤي في قوله جرافة إلى آخر البيت هو الحفير حول الخيام وأشيعت مصغرا لوتد شج رأسه وابن داية الغراب وهو علم جنس له ممنوع من الصرف قيل سمي به لأن أثناه إذا طارت من بيضها حضنها الذكر فيكون كالداية للأنثى ومن عقود جمان الطالوي فصل من نثره شوقي إلى لقاء سيدي عمر الله بذكره رباع الفضل كما عمر طلاب العلوم نائله الجزل شوق الوامق لعذاره وعروة إلى عفراه فصل وها أنا مذ سرت عن حضرته الجليله ما نسيت أياديه الجميله وهل ينسى المدلج قمر ليله وساكن اليمن مطلع سهيله فصل وإن أفواه الحمائم أو بروق الغمائم لا تقدر أن تصف ما أجنه من الارتياح لقربه والانضمام إلى معشره وحزبه فقد شهدت أنها أبلغ من سحبان وأفصح من صعصعة بن صوحان فصل أما الشوق فقد اشتعل ضراما وكاد عذابه أن يكون غراما حتى قال فم الجفن بلسان الدمع يا نار كوني بردا وسلاما فإني ألقى إلي كتاب كريم فاح منه شميم عرار نجد وما بعد العشية من شميم فتمتعت بما هو أحلى من الوصل بعد الهجر ومن الأمن بعد الخوف ومن البرء بعد السقم ولم أدر أطيف منام أو زائر أحلام أم قرب نوى بعد البعاد أم حبيب يأتي بلا ميعاد ومن آخر أسأل الله وهاب الصور خلاق القوى والقدر فياض المعارف ذراف العوارف أن يهب اقترابا صافيا من الكدر مغنيا عن ورد المكاتبة والصدر انتهى وبالجملة فهو كما قال البديعي في وصفه مقضى الأرب من أدوات الأدب وكانت ولادته في سنة خمسين وتسعمائة وتوفي في نهار الأربعاء ختام شهر رمضان سنة أربع عشرة بعد الألف ودفن بمقبرة باب الصغير وذكر البوريني في ترجمته أنه كان قبل موته بأيام عمر في داخل بيته بمحلة التعديل بيتا صغيرا وكان يقول هذا البيت بيت الفتاوى وموضع الكتب ومن العجب أنه نقل كتبه إلى البيت المذكور فكان يصفها ويرتبها وينظر فيها ويقلبها وهو ينشد هذا البيت وأظنه من نظمه ونتائج فهمه وهو
أقلبها حفظا لها وصيانة ... فيا ليت شعري من يقلبها بعدي
فمات بعد ذلك بعشرين يوما رحمه الله تعالى درويش محمد بن حسين بن مسيح الدمشقي الحنفي المعروف بابن القاطر المقدم ذكر والده والموعود بذكره وهو سبط أبي المعالي الطالوي المذكور قبله وربما أطلق عليه الطالوى أيضا كان فاضلا كاملا جيد الخط منسوبه بلغ الشهرة التامة في قبول خطه والتنافس فيه وكتب الكثير وكان حسن المطارحة لطيف المذاكرة حلو الشكل طوالا وكان يعرف الموسيقى حدا لمعرفة وله شهرة بهذه المعرفة عند أرباب هذا الفن الحاذقين فيه فإذا حضروا معه مجلسا عظموه وتراخوا في العمل حتى يشير البهم وكان يعرف اللغة التركية وأظنه يعرف الفارسية أيضا وله في حل المعميات والأغاز اليد الطولى وكان فقيرا متقنعا باليسير من الرزق ولما توفى أخوه زكريا الآتي ذكره اتحصر إرثه فيه فأثرى واعتدل حاله إلا أنه لم تطل مدته فتوفى وكانت وفاته في سنة أربع وسبعين وألف رحمه الله تعالى(1/416)
درويش محمد بن رمضان سبط القاضي تاج الدين الدمشقي الحنفي كان من الفضلاء الأذكياء له لطف طبع ومنادمة مقبولة وكان عطاردي الطبع يحسن غالب الصناعات وكان يتقن اللغة الفارسية والتركية وله إنشاء بالتركية مستعذب ودراية في الأشعار واسعة قرأ بدمشق على الشرف الدمشقي والشيخ عبد اللطيف الجالقي والعلامة فضل الله بن عيسى البوسنوي نزيل دمشق وسافر مع أبيه إلى الروم ولازم من قاضي العسكر المولى محمد بن قره جلبى ورجع إلى دمشق وناب في بعض محاكمها ثم رحل إلى الروم في خدمة شقيق أستاذه المذكور المولى عبد العزيز وأراد سلوك طريق القضاء مثل والده فما تيسر له واتفق له أنه كان على أبيه دين لرجل من المتمولين فرغبه الدائن أن يعطيه مبلغا آخر ويضمه إلى المبلغ المستقر في ذمة والده فيكون المبلغان لازمين له فرغب في ذلك ولما أحضره لدى القاضي لأجل صك الإقرار واعترف بالمبلغ السابق ألزم به وحبس وبقي أياما في الحبس ثم أطلق فخلع عنه اللباس وأخذ طريق المولوية وساح في بلاد الروم حتى وصل إلى بلدة كليبولي وأقام بها مدة طويلة ثم قدم إلى دمشق وجاور مدة في تكية المولوية ثم انتقل إلى داره وتغيرت أطواره وولى تدريس البادرائية ونظارة وقف أجداده ولبس العمامة وكان يتردد إلى مجالس القضاة بدمشق وينادمهم وكان حلو الحديث عارفا بطريق المنادمة ثم بعد مدة عزم على الحج وجاور بالمدينة وبها توفى وكانت وفاته في سنة ثلاث وسبعين وألف وقرأت بخط والدي أن ولادته كانت في سنة أربع عشرة بعد الألف رحمه الله تعالى الشيخ درويش بن سليمان بن الشيخ الكبير الفقيه الثبت الرحلة محمد ابن القطب الكبير أحمد الدجاني الشافعي المقدسي الشيخ الصالح الزاهد في الدنيا العفيف كان يحفظ الكتاب العزيز ويدارس به وتفقه على الشيخ منصور بن علي المحلى نزيل القدس ثم دمشق المعروف في دمشق بالصابوني وسيأتي ذكره وعليه اشتغل بالتصوف ولازمه مدة إقامته بالقدس ثم بعد ارتحاله إلى دمشق أرسل له إجازة بالمشيخة على الفقراء لصلاحه وديانته وكانت وفاته في عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وألف رحمه الله تعالى الأمير درويش المعروف بدالى درويش الركسي الأصل نزيل دمشق الشجاع البطل المشهور قدم إلى دمشق في خدمة الوزير الخناق ولما عزل مخدومه عن نيابة دمشق أقام هو بها وتديرها وصار من أجنادها وسافر إلى روان ومروان وأسر ببلاد العجم وشاع خبر مقتله فضبطت أملاكه وأسبابه لطرف بيت المال ثم ظهر بعد مدة واستخلص ما كان ضبط من أمواله وسافر إلى بغداد عام فتحها وبعدما عاد كبرت دولته واشتهر صيته وولى حكومة تدمر وظهرت شجاعته وكان يغير على العربان وينهبهم ويأسر منهم ويدخل إلى دمشق بالمواكب الحافلة ثم ولى حكومة حمص وأقام بها مدة ثم عزل عنها وولى لواء عجلون وتوجه إليها فثار بينه وبين أهلها حروب كثيرة وكسروه وأخذوا غالب أسبابه وخيوله فعاد إلى دمشق واشتكى إلى السدة العلية فجاءه أوامر شريفة بركوب نائب الشام عليهم وأخذ ما ذهب له فلم يفده ذلك شيئا وأقام منزويا بداره ولم يزل على ذلك إلى أن توفى وكانت وفاته سنة ثلاث وستين وألف(1/417)
درويش محمد باشا الوزير الأعظم المشهور هو ركسي الأصل وكان أولا من خدمة المرحوم مصطفى أغا ضابط الحرم السلطاني في عهد السلطان أحمد ثم خدم الوزير الأعظم محمد باشا المعروف بمنبسط القدم وكان السلطان عثمان يحبه لفروسيته وشجاعته وسافر في خدمة الوزير المذكور إلى مصر لما صار محافظا بها وكان يقدمه على جميع حفدته وولاه الخدمات السامية حتى صيره كتخدا له ولما ولى الوزارة العظمى قتل في زمنه أحمد باشا المعروف بالكوك وكان نائب الشام فولاه نيابتها وكان ذلك في أواسط سنة خمس وأربعين وألف وقدمها وكان ظالما جبارا ففتك في أهلها وتجاوز في ظلمهم الحد وفي آخر أيامه اجتمع العامة على القاضي واشتكوا من الظلم وبالغوا في التوسل به فلما بلغه ركب وكان في الوادي الأخضر مخيما وأتى مغضبا وسفك في بعضهم وقتل رجلا صباغا من الصلحاء ثم عزل وصار أمير الأمراء بطرابلس الشام وبعد ذلك ولى حكومة بغداد وتنقل في النيابات حتى ولى في آخر أمره الوزارة العظمى في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وألف ومات وهو في الصدارة في شهر ربيع الأول سنة خمس وستين وألف ودفن بقسطنطينية بالقرب من مدرسة علي باشا الجديدة في طريق الديوان
حرف الذال المعجمة
ذهل بن علي بن أحمد بن عبد الله بن الذهل بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن عمر حشيبر العارف المشهور بالغيثي نسبة لسيدي أبي الغيث بن جميل لأنه كان تلميذه وقال له في بعض وقائعه أنه حشى بر فلذلك اشتهر بحشيبر الحشيبري العدناني وبنو حشيبر هؤلاء قوم يسكنون الزيدية علماء أخيار قل من يدانيهم في العلم والعمل والصلاح وذهل هذا رئيسهم وكان إمام أهل العرفان المشار إليه بالبنان ولد في سنة ست وثلاثين وألف بمدينة الزيدية وأخذ الفقه والحديث وغيرهما من فنون العلوم عن العلامة محمد بن أحمد صاحب الخال ولازم العلامة المحقق الملا محمد شريف الكوراني الصديقي حين قدم الزيدية في رحلته لليمن وبرع في جملة من العلوم وأجازه جل شيوخه وأمروه بالتدريس ونفع الناس فتصدر وفاق أقرانه وألف مؤلفات عديدة منها حاشية على المنهاج سماها إفادة المحتاج على المنهاج ومنظمة في العقائد سماها جواهر العلوم وأرجوزة في علم التصوف سماها هداية السالك إلى رضى المالك وشرحها إيضاح المسالك وله شعر كثير منه قوله يمدح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
حن قلبي شوقا إلى لقياكا ... وتذكرت طيبة وحماكا
وقباها ومنبرا وضريحا ... جمع النور والبها إذ حواكا
وخلعت العذار عن كل واش ... وتهتكت رغبة في هواكا
لست أصغي للائم وعذول ... فمناى وبغيتي رؤياكا
فعسى أن تجود بالوصل يوما ... ويزول البعاد منك عساكا
ومتى ألثم الضريح وأسعى ... بين تلك الرياض والشباكا
وأقول السلام يا سيد الرس ... ل جهارا بالصوت منى علاكا
يا رسول الإله أنت المرجى ... زادك الله رفعة وحباكا
يا رسول الإله هب لي نورا ... وسنا أستضيئه من سناكا
يا نبي الهدى أغثني سريعا ... وأقلني من عثرتي بدعاكا
كن نصيري على الخطوب جميعا ... وأجزني من جور دهر تشاكا
أنت سر الوجود لولاك ما ... كون الكون سيدي لولاكا
خصك الله بالبراق وبالأسر ... ا ورؤياه جهرة قد حباكا
بت ترقى في ليلة بفخار ... طاب فيها إلى العلى مسراكا
كان جبريل خادما وسفيرا ... ولسبع الطباق قد رقاكا
جزت حجبا وكم علوت بساطا ... ما علاه من الأنام سواكا
وصرير الأقلام من مستوى قد ... سمعته حقا كذا أذناكا
وأتاك الندا من مالك المل ... ك أذن مني وسل تقز بمتاكا
وتجلى الجبار جل علاه ... وتدلى إليك بل واصطفاكا
وتلذذت بالخطاب عيانا ... ولقاب للقوس قد أدناكا
وتلاشيت في الغيوب بلا أب ... ن فمن ثم لم تزل قدماكا
وتولاك إذ هداك ووال ... اك عطاء وبالجمال كساكا(1/418)
جمع الله فيك كل فخار ... بل وأعطاك كل ما أرضاكا
خاتم الرسل سيد الخلق طرا ... كلهم في المعاد تحت لواكا
فعليك الصلاة تترى دواما ... وعلى الآل والتابعين هداكا
وعلى الصحب من حموك وآووا ... بل وفي الله جاهدوا أعداكا
وعلى كل تابع وموال ... مقتف أثرهم يريد رضاكا
عد خلق الإله مني لترضى ... وليرضى الإله عني بذاكا
وقوله متغزلا
يا هند جودي بوصال ولو ... مقدار رد الطرف إذ يطرف
وروحي روحي برؤياك يا س ... ؤلي فما غيرك بي يلطف
فقد فنى صبري وطال المدى ... وحبذا وصل به تعطف
راقت ورقت ورقت في العلى ... ونورها كالبرق قد يخطف
وله غير ذلك وكانت وفاته في
حرف الراء
ربيع النباطي نزيل مكة كان من عظماء العلماء السالكين منهج الرشاد وهو من المشاهير في ذلك القطر بعلو القدر في العلم والعبادة ومدحه كبار الفضلاء وأثنوا عليه وأخذ عنه جماعة كثيرون وكان موصوفا بالسخاء والمكارم وكانت وفاته في سنة اثنتين بعد الألف ورثاه جماعة منهم الشهاب أحمد الخفاجي فإنه رثاه مؤرخا وفاته بقوله
صاح هل نافع وهل عاصم من ... نشر وجد أمسى بطى الضلوع
غير صبر قد مر إذ مر من كا ... ن ربيعا لكل غيث مريع
كامل وافر رمانا زمان ... فيه بالبعد بعد فقد سريع
هو بر وفي المكارم بحر ... من أصول تزهو بخلق بديع
قد فقدنا فيه اصطبار فأرخ ... كل صبر محرم في ربيع
ورثاه الشيخ حسن الشامي مؤرخا
صبري تناقص لازدياد دموعي ... مما حوته من الفراق ضلوعي
ذهب الذي كنا جمعا به ... وفراق جمعي قد أضر جميعي
يا قلب إن لم تستطع صبرا فنى ... رفقا بنا حل جسمي الموجوع
وإذا ذكرت ربيع أيام مضت ... أرخ بشوال فراق ربيع
رجب بن حجازي الحمصي الأصل الدمشقي المولد المعروف بالحريري الشاعر الزجال كان صحيح التخيل في الأشياء إلا أنه يغلب عليه جانب الهجو في تخيله والازراء حتى بنفسه جيد النقد في الشعر مع أنه لا يعرف العربية وزانا بالطبع وإن عرف شيئا من العروض وأميل ما كان في أقسام الشعر إلى الهجاء وله فيه نوادر عجيبة وله كثير من الأزجال والرباعيات والمواليا والموشحات والتواريخ والأحاجي وكل ذلك كان يقع له من غير تكلف روية بحيث أنه في ساعة واحدة ينظم مائة بيت ومثلها قطعة أو قطعتين من الزجل والموشح وقس على ذلك البواقي وكان قليل الحظ كثير السياحة لم يسعه مكان ولم يقر له قرار وكانت سياحته مقصورة على حلب ومصر ودائرة الشام وحج وجاور بالحرمين سنتين ولم يزل شاكيا من دهره باكيا على سوء بخته ورأيت له أشعارا كثيرة غالبها شكاية وهجو وأما غزله فقليل من أعذبه قوله من قصيدة مطلعها
فيض المدامع نار وجدي ما طفا ... بل زدت منه تلهبا وتلهقا
وجوى أذاب جوارحي وجوانحي ... وهوى على السلوان صال وألفا
ومن النوى بي لوعة لو بعضها ... في يذبل أمسى رغاما أو عسفا
زق الصبا لصبابتي وبكى على ... حالي الحمام ولان لي قلب الصفا
والسقم واصل مهجتي لفراق من ... أحببته لو عاد لي عاد الشفا
من راحمي من مسعفي من مسعدي ... أفديك مالك مهجتي زر مدنفا
يا من بطلعته وسحر جفونه ... بهر الغزالة والغزال الا وطفا
بشمايل فوق الشمول لطافة ... منها ثملت وما شربت القرقفا
وبورد خد فوق بانة قامة ... يحميه نرجس ناظر أن يقطفا
وبراحة بين العقيق ولؤلؤ ... اسمح ودعني كأسها أن أرشفا
أرفق بصب قد أذبت فؤاده ... ودع التجنب والتجني والجفا
ونباكر لروض الأريض فقد حكى ... طيب الجنان نضارة وتزخرفا
والمزن أضحكه ونضر وجهه ... وكساه بردا بالزهور مفوفا
وقوله من قصيدة أخرى مستهلها(1/419)
أبى القلب إلا غراما ووجدا ... وطرفي الإبكاء وسهدا
فلم يبرح الصب تبريحه ... ولا الدمع راق ولم يطف وقدا
فلولا النوى ما ألفت البكا ... ولا كان بالسقم جسمي تردى
ولا بت أرعى نجوم الدجى ... ولا كان عني منامي تعدى
فأواه صبري مضى لم يعد ... وأما اشتياقي فلم يحص عدا
وما لي مسعين سوى أدمعي ... وقلب لصد الهوى ما تصدا
فلو بالكواكب ما بي هوت ... وإلا على يذبل كان هدا
يذكرني ساجعات الرياض ... حبيبا وربعا ربيعا وودا
وما كنت أنسى ولكن تزيد ... ولوعى قربا وصبري بعدا
رعى الله ربعا نعمنا به ... وعهدا ألفناه حياه عهدا
فما راقني بعده منزل ول ... ا طاب عيشا ولا راق وردا
وله غير ذلك وكانت وفاته بحلب في صفر سنة إحدى وتسعين وألف رجب بن حسين بن علوان الحموي الأصل الدمشقي الميداني الشافعي الفرضي الفلكي أعجوبة الزمان في العلوم الغريبة وكان لديه منها فنون عديدة وأمهر ما كان في العلوم الرياضية كالهيئة والحساب والفلك والموسيقى ويعرف الفرائض حق المعرفة وأما في الموسيقى على اختلاف أنواعه فهو فيه أعرف من إدراكناه وسمعنا به وله فيه أغان صنعها على طريقة أساتذة هذا الفن لكنه كان ردي الصوت جريا على العادة في الغالب من أنه لا يجتمع حسن الصوت مع المهارة الكلية في فن الموسيقى كما امتحناه كثيرا في أرباب هذا الفن وكان رحل في أول أمره إلى القاهرة واستفاد هذه المعارف من أربابها المشهود لهم فيها بالتفوق وقدم دمشق وانتفع به خلق كثير من فضلاء دمشق في هذه الفنون من أجلهم الشيخ عبد الحي ابن العماد العكاري الصالحي الآتي ذكره وكان له ثروة ويتجر وله بعض إيثارات وكان حسن الذات خلوقا كامل الصفات ملازم العبادة منعزلا عن الناس ودودا متواضعا وبالجملة فإنه من الكملاء المعروفين والفضلاء الموصوفين وكانت وفاته في سنة سبع وثمانين وألف رجب بن عماد الدين المنلا العجمي الكاتب ذكره النجم في الذيل وقال في ترجمته دخل دمشق في حدود الألف وانتفع به خلق كثير في الكتابة عليه وكان حسن الخط جدا وله مشاركة في بعض العلوم وكان يدعى معرفة الموسيقى مه أنه لا صوت له ويزعم أنه أحسن الناس صوتا وكان يغلب على طبعه التغفل مع دعوى الفطانة وكانت وفاته في ليلة الأحد حادي عشر ذي القعدة سنة اثنتى عشرة بعد الألف(1/420)
رحمة الله بن عثمان قاضي القضاء الينكيشهرى المولد أحد فضلاء الزمان المتمكنين من المعارف والعلوم قدم من بلده إلى قسطنطينية واشتغل بها إلى أن برع ولازم من المولى عبد العزيز بن المولى سعد الدين ثم وصل إلى خدمة المولى حسين ابن أخي المقدم ذكره فصير نائبه وهو قاضي العسكر بروم ايلي ولما ولى الإفتاء وجه إليه أمانة الفتوى ودرس بمدارس الروم إلى أن وصل إلى المدرسة السليمانية وولى منها قضاء حلب ثم قضاء مصر ولم تطل مدته بها ونقل إلى قضاء الشام في غرة جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وألف ودخلها في ثالث عشر الشهر المذكور وكان في غاية من الاعتدال في حكومته متشرعا مراعيا لقانون السلف فقيها متضلعا حسن العبارة وكان يكتب إمضاء الصكوك بإنشاء عجيب مستحسن ولقد وقفت له من ذلك على إمضاآت كثيرة فمن ذلك قوله بذلت الوسع في إيضاح ما تكنه صدور سطور الرق ولم آل جهدا في تحقيق الحق وفحصا عن كل ما جل منه ودق حتى أسفر فجر الحقيقة على ما سطر فيه من النسق فحكمت بكون الحمام والمزرعة وقفا على المدرسة وقضيت بذلك حكما جزما وقضاء حتما لما ظهر الحق ظهور الشمس بالحجج القاطعة على ما نطق به الكتاب من الأحاديث الصحاح القاطعة ومن ذلك مطالبة هؤلاء بما رسم ظلم عظيم يجب على الحكام منعه ومنكر يجب على الولاة نهيه ورفعه يلزم على كل من كان نافذ الأمر جائز الحكم قصر الأيدي المتطاولة الجاذبه وقطع الأطماع الفاسدة الكاذبه فمنعته عن هذا ابتغاء لمرضاة الله وطلبا لثوابه وهربا من عقابه وأليم عذابه ومن ذلك ما كتبه على صك اعتاق جارية له ما نسب إلي في هذا الرق من اعتاق جاريتي فلانة حق وصدق أعتقتها ابتغاء لمرضاة الله تعالى وثوابه وهربا من عظيم عقابه وأليم عذابه عسى الله أن يبدلنا خيرا منها وجزانا ربنا خيرا لجزاء عنها انتهى قلت وهذا أسلوب لطيف جرى عليه كثير من قضاة الروم وتكلفه بعضهم ممن لا يعرف أساليب الإنشاء العربي فجاء سمجا مضحكا والعجب المعجب منه إمضاآت المولى محمد بن حسن الذي كان ولى قضاء حلب ودمشق وقد رأيت جدي القاضي رحمه الله تعالى جمع منها حصة وافرة في مجموع له وتعقبها بكلمات أظهرت زيفها فأردت إيراد نبذة منها ليعلم الفرق بين ما أوردته أولا وبينها فمن ذلك ما كتبه على صداق استقر الصداق بوكالة من أئمة الآفاق فقررت الصداق كتبه عبد الخلاق قال الجد سبحان الخلاق ومنه ما كتبه على صداق أيضا لامس هذا الأطلس كف العبد الأنجس ومنه ما كتبه على نظارة وقف قررت النظر وسألت الأبيض والأحمر فشهدوا بالمحضر رجال عدول منهم المفتي الأكبر قال الله أكبر ومنه ما كتبه على كتاب وقف الجامع الأموي هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ويوم نبعث من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ما عرج حول الكتاب مما يقوم في ذيل ذلك الباب من الإنشاد والاشهاد صادف محله وحاد مخه ثم أمله وأجله متشبثا بذيل ذوي الإحسان أولئك كتب في قلوبهم الإيمان محمد بن حسن القاضي بدمشق خير الأماكن في اللسان عفا عنهما رب الإحسان والله أعلم عودا على بدء ووقع لصاحب الترجمة وهو قاضي دمشق أن بعض أرباب فن الزايرجا استخرج له العود إلى قضاء مصر بهذا البيت وهو
ولا بد من عود إلى مصر ثانيا ... تنفذ أحكاما بأمر مبجلا
فاتفق له أنه وليها بعد ذلك في تاسع عشر شعبان سنة ثمان وخمسين وبعدها ولى قضاء قسطنطينية وتوفى بعد ذلك وكانت وفاته في حدود سنة ثلاث وستين وألف والينكيشري بفتح المثناة من تحت وسكون النون وكسر الكاف الفارسية وياء أخرى وفتح الشين وسكون الهاء والراء نسبة إلى بلدة في بلاد الروم بالقرب من سلانيك وهي بلدة كبيرة من مشاهير البلاد ومعنى ينكى شهر البلد الجديد والله أعلم(1/421)
مولاي رشيد بن علي الملك المؤيد الشريف الحسني ملك المغرب السلطان العظيم القدر السعيد الحركات المظفر الكامل كان من أمره أنه تسلطن أولا في بلاد تاقيلات ثم وثب على مولاي محمد الحاج ابن محمد بن أبي بكر سلطان فاس ومكناس والقصر وما والاهما من أرض الدلاوسلا وغيرها من أرض المغرب وكان له في الملك أربعون سنة فانتزعه منه وحبسه إلى أن مات مسجونا وخرب مدينتهم المعروفة بالزاوية سميت بذلك لأن والد الحاج وهو محمد بن أبي بكر بنى زاوية عظيمة وكانت مأوى لمن يفد يطعم بها الطعام للفقراء والمساكين ورحل شيعة الحاج خوفا منه إلى تلمسان وهي كما تقدم من بلاد العثامنة سلاطين بلادنا أعز الله تعالى نصرهم ثم قويت شوكة مولاي رشيد ورغب الناس في خدمته وكثر جمعه وعظمت دولته وساس الرعية سياسة لم يروها في عهد سلطان من سلاطينهم وما زال يتملك بلدا بعد بلد حتى دخل بلاد السودان وتملك منها جانبا عظيما ولم يبق بجميع أقطار المغرب من البحر المحيط إلى أطراف تلمسان إلا ما هو في طاعته وداخل ولايته إلى غير ذلك وتقدم في ترجمة مولاي أحمد المنصور أنه كان قسم الولايات بين بنيه وكان بقي الأمر على ذلك حتى ظهر مولاي رشيد فجعلها ملكا واحدا وكان ملكا معتدلا هاشميا محسنا محبا للعلماء واستقام في السلطنة سبع سنوات وتوفى في سنة ثمان وثمانين وألف وأخبرني بعض المغاربة في سبب موته أنه أصابه في ما يلي أذنه عود من شجرة في بستان له كان يركض جواده فيه قنفذ العود ووقع مولاي رشيد ميتا رحمه الله تعالى(1/422)
الأمير رضوان بن عبد الله الغفاري أمير الحاج المصري الكرجي الأصل كان في ابتداء أمره من مماليك ذي الفقار أحد أمراء مصر المشهورين بالشأن العظيم والدولة الباهرة اشتراه صغيرا واعتنى بتربيته ولما مات مولاه المذكور رق حاله ثم استغنى ونبه قدره وكان وقورا مهيبا وله سكون وديانة ورياسة واشتهر صيته وعظمت دائرته حتى صار أربعة من مماليكه مثله أصحاب لواء وعلم مع ما يتبعهم من الجند والكشاف والملتزمين وله الآثار الحسنة في طريق الحاج المصري والحرمين وكان حسن السيرة خصوصا في بر الحجاز فكان معتنيا بأهله يرسل صرهم من حين وصوله إلى ينبع إلى مكة ويقسمه عليهم قبل وصول الحاج وكل من له حاجة منهم بمصر قضاها له بأيسر حال ومكث نيفا وعشرين سنة أميرا على الحاج وفي أثناء ذلك وقع له محنة في زمن محمد باشا سبط رستم باشا الآتي ذكره وكان إذ ذاك محافظ مصر بسبب أمر افترى عليه فعرض فيه الوزير المذكور إلى باب السلطان فجاء الأمر الشريف بعزله عن إمارة الحاج فلما بلغه توجه للأعتاب العالية هاربا واجتمع بالسلطان مراد فحبسه وأمر ببيع جميع أملاكه وعقاراته فبقي محبوسا مدة وتكرر اجتماعه بالسلطان مراد فلم يأذن الله تعالى بانطلاقه إلا بعد موت السلطان المذكور وتولية أخيه السلطان إبراهيم السلطنة ثم أطلق فعاد إلى مصر وأخذ جميع ما ذهب له بعضه هبة وبعضه شراء وانعقدت عليه رياسة مصر ووقع له محنة أخرى في زمن أحمد باشا فإن الأمير رضوان سعى في نقض أمر الوزير المذكور وتغييره من محافظة مصر وفاوض جماعة من الأعيان في ذلك فلم يوافقه الجند على ذلك وتوجه الأمير رضوان إلى الحج والمنافرة واقعة فراسل الوزير الأمير علي حاكم جرجا وألقى بينه وبين الأمير رضوان العداوة ونصبه أمير الحاج مكانه ووجه جرجا لأحد مماليك الأمير علي وقدم الأمير علي من جرجا إلى مصر ولما قرب قدوم الحاج استشار الأمير على بعض أصحابه في استقبال الأمير رضوان فأشاروا عليه بأن يفعل إلا قليلا من الأخصاء فإنهم أنكروه فتبع رأي الأول وصمم على الاستقبال وخرج بجمعية عظيمة ولما اجتمع هو والأمير رضوان تسالما ولم يبد من أحدهما ما يغير خاطر الآخر وكان كل منهما يجل الآخر ويعرف حقه وأقاما يومهما والأمير رضوان مفكر في أمر الاجتماع بالوزير وفيما ينجر إليه حاله فقام من المجلس وبقي جميع الأمراء والأعيان وطلع إلى جانب ووضع مجنا تحت رأسه وأخذ يفكر فاتفق أنه جاء في ذلك الوقت خبر عزل الوزير عن مصر وأنه صار مكانه عبد الرحمن باشا الخصى ومر متسلمه على العادلية وسار إلى مصر فجاء رجلان إلى البركة محل نزول الحاج وهما في قصد الأمير رضوان ليبشراه فلما أخبرا بمكانه أسرعا إليه وأيقظاه وأخبراه بذلك فكان ذلك له من باب الفرج بعد الشدة فأتى المخيم والقوم كلهم جلوس ولما استقر به الجلوس التفت إلى الأمير مصطفى الدفتري بمصر وأخبره جهارا بالخبر فتعجب الجميع من ذلك وظنوا أنه رأى مناما ثم أخبرهم بحقيقة الأمر فصدقوا ودخل مصر فلم يتفق له اجتماع بالوزير واصطلح هو والأمير على صلحا لإفساد بعده وبالجملة فإن هذين الأميرين كانا من الأفراد وهما زينة ملك آل عثمان وكانت وفاة الأمير رضوان سنة ست وستين وألف(1/423)
رضي الدين بن عبد الرحمن بن الشهاب أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي بالمثناة الفوقية نسبة لمحلة أبي الهيتم من أقاليم مصر السعدي نسبة لبني سعد الموجودين بمصر وسبب شهرة جده بحجر أنه كان ملازما للصمت في جميع أحواله لا ينطق إلا لضرورة فسمي حجرا أحد أفاضل المكيين ووجوه الشافعية وكان فاضلا بارعا متقنا شديدا في الدين مشتغلا بما يعنيه أخذ عن والده وعن السيد عمر بن عبد الرحيم البصري وأحمد بن أبي الفتح الحكمي وعبد الملك العصامي وعبد العزيز الزمزمي وأجازه إجازة حافلة سماها له شيخه أحمد الحكمي فتح الرضا في نشر العلم والاهتدا قال فيها لازمني زاد الله في توفيقه وسلك به أقوم طريقه من عام ثمانية عشر وألف وحضر دروسي بالمسجد الحرام الذي هو أجل المساجد وأشرف وسمع علي كتاب الصوم والحج من تحفة المحتاج لشرح المنهاج لجدي وجده وغالب الربع الأول من مؤلفه فتح الجواد مع مطالعته للتحفة والإمداد والربع الأول من شرح الروض وغالب شرح المنهج لشيخ الإسلام زكريا وقطعة من شرح القطر لابن هشام وقرأ علي قراءة خاصة من أول كتاب البيع إلى كتاب الوقف من شرح المنهج مع مطالعة التحفة ولم يزل ملازما للقراءة والحضور ويبدى من الفوائد العجيبه والدقائق الغريبه والأبحاث الدقيقة في حقائق المنطوق والمفهوم والاشكالات الوثيقه المستنبط لها من مدارك العلوم ما يدل على غزارة فضله وإحكام علمه ونقله ولا غرو إذ هو فرع ذلك الأصل الزكي والعنصر الطيب الرضي ويحق أن ينشد لسان حاله ويبدى " فإن الماء ماء أبي وجدي " إلى آخر ما ذكره وأخذ عن سيدنا أحمد القشاقشي التفسير والحديث والفقه والتصوف وأجازه بمروياته ولقنه الذكر ولما قدم إلى مكة يوم السبت تاسع عشر ذي القعدة سنة أربعين وألف السيد الجليل العارف الراسخ محمد بن علوي بن عقيل قرأ عليه طرفا من الشفاء ثم طلب منه السيد عبد الرحيم السمهودي وأحمد ابن عراق أن يحضرا معه فأجابهما السيد لذلك ثم أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم حاضر حال قراءته وهذه منحة عظمى وألبسه الخرقة وأرخى له العذبة ولقنه الذكر وألبسه عمامته وألف صاحب الترجمة مؤلفات منها حاشية على التحفة لجده رد بها اعتراضات العلامة ابن قاسم العبادي واختصر أسنى المطالب في صلة الأقارب اختصارا عجيبا والفتح المبين في شرح الأربعين والقول المختصر في علامات المهدى المنتظر لجده أيضا وله رسالة في الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي سماها شذرة من ذهب من ترجمة سيد طي العرب وكانت وفاته بمكة سنة إحدى وأربعين وألف ودفن بالمعلاة بقرب تربة جده شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله تعالى(1/424)
رمضان بن عبد الحق المعروف بالعكاري الدمشقي الفقيه الحنفي كان عالما بالفقه والعربية متبحرا فيهما مقدما في معرفتهما وإتقانهما وكان الناس يجتمعون إليه ويقتبسون منه وكان غاية في جودة التعليم وحسن التفهيم وله إطلاع زائد على فروع المذهب مع إتقان أصوله وهو وإن اشتهر بهذين العلمين فشهرته فيهما شهرة تفرد وهو فيما عداهما من العلوم كامل الأدوات عديم القرين أخذ الحديث بدمشق عن المحدث الكبير محمد بن محمد بن داود المقدسي نزيل دمشق وعن الإمام الفقيه محمد بن علي المقدسي ثم الدمشقي المعروف بالعلمي شيخ الحنفية في وقته وقرأ المعقولات والعربية على المنلا أبي بكر السندي نزيل دمشق وعلى غيره وبرع وولى خطابة جامع سنان باشا خارج باب الجابية ودرس بالمدرسة الظاهرية الكبرى ورأس آخر أمره بدمشق فكان يفتي في حياة العمادي المفتي ولما مات العلامة محمد ابن قباد المعروف بالسكوتي وكان مفتي الشام أراد نائب الشام أن يعرض له بالفتوى فما قبل قاضي القضاة المولى داود بن بايزيد وعرض بها للشيخ عماد الدين ابن العمادي ووجهت له من طرف السلطنة أيضا وأقام صاحب الترجمة على وجاهته وتقيده بنشر المعارف والعلوم وكان يكتب الخط المنسوب الحسن ويعرف اللغة التركية معرفة تامة ولقد سمعت كثيرا ممن أدركه ترجيحه في الفضل على أهل عصره لما اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره وحدثني بعض العلماء ناقلا عنه أنه أخبره في مرضه الذي مات فيه أنه لما حج اجتمع برجل في الحرم المكي فقال له أنت إمام العصر قال ثم غاب عني في محله فتبين لي أنه الخضر وبالجملة فهو بين الفضل مشهور المعرفة وكان له همة عالية وإقدام في الأمور وله إنشاء بالعربية وشعر قليل لا يحضرني منه إلا ما قرأته بخط الإمام المتبحر محمد بن علي الحرفوشي الحريري شارح الفاكهي في مجموع له قال كتبت إلى الأخ العلامة رمضان العكاري محاجيا في اسمه ونحن بقصر القرماني بالجسر الأبيض من صالحية دمشق قولي
يا زاكيا نجاره ... ومن تسامي قدما
ماذا يساوي قول من ... حاجيته اقصد غنما
فأجاب بقوله
يا فاضلا ما مثله ... من ماجد تكرما
أحجية تضمنت ... شهر الصيام واسلما
وحج مرتين ثانيهما في سنة خمس وخمسين ورجع متوعك المزاج ومكث في داره يزار إلى ليلة الثلاثا خامس عشر شهر ربيع الثاني سنة ست وخمسين وألف فانتقل إلى رحمة الله تعالى ودفن بتربة باب الصغير وكانت ولادته في سنة أربع وثمانين وتسعمائة وذكر والدي المرحوم في ترجمته أنه أخبره الشيخ الفاضل تلميذه وسميه رمضان بن موسى بن عطيف الآتي ذكره بعده في منزله بدمشق أنه رأى صاحي الترجمة في المنام بعد وفاته جالسا بمحراب جامع السنانية فنظر إليه وأنشد بلفظ عريض
مضى عصر الصبا لا في انشراح ... ولا وصل يلذ مع الصباح
ولا في خدمة المولى تعالى ... ففيها كل أنواع الفلاح
وكنت أظن يصلحني مشيبي ... فشبت فأين آثار الصلاح
قلت وسألت شيخنا العطيفي عن هذه الأبيات هل يعرف أنها من نظمه أو من نظم غيره فتوقف ثم بعد ذلك لا زلت أفحص عنها حتى وجدتها منسوبة لبعض بني السبكي وأظنه الشيخ الإمام(1/425)
رمضان بن موسى بن محمد بن أحمد المعروف بابن عطيف الدمشقي الحنفي شيخنا الأجل صاحب الفنون والآداب الفقيه النحوي الفائق البارع أحد أجلاء المشايخ بدمشق في عصره كان لطيف الطبع حسن المعاشرة منطرحا وله منادمة تأخذ بمجامع القلوب يتصرف فيها تصرفا عجيبا وله رواية في الشعر وأيام العرب وأخبار الملوك والشعراء قل أن توجد في أحد من أبناء العصر قرأ بدمشق على الجلة من المشايخ منهم العكاري المذكور قبله والعمادي المفتي والشيخ مصطفى بن محب الدين وغيرهم وأخذ الحديث عن النجم الغزي والشيخ غرس الدين الخليلي المدني وله مشايخ كثيرون غيرهم وتصدر للإقراء مدة حياته في جامع السنانية والدرويشية وانتفع به خلق كثير وكتب الكثير بخطه وجمع نفائس الكتب من كل فن ورأيت له تعليقات ورسائل كثيرة وذكره شيخنا الخياري المدني في رحلته وقال في ترجمته كان بيني وبينه قبل اللقاء مكاتبات فائقة ومراسلات شائقه تدل على غزارة علمه وفضله وتقضى للظمآن بورود نهله فكنت أتعشقه على السماع ورؤيا الآثار وأرجو من الله حصول الاجتماع وتملى الأبصار حتى كان بالشام وكنت أتمناه بمدينة النبي عليه السلام فأنشدني من لفظه أول ما لقيني للسلام وأخبر أنه بديهة قاله في ذلك المقام
أود زمانا أن أراكم بمقلتي ... وأقضى فروضا قد تعلقن ذمتي
إلى أن قضى الله اجتماعا بوصلكم ... وقد كان هذا الوصل في يوم جمعة
قال فأجبته بعد أيام بقولي
أيا سيدا سر الفؤاد بأنه ... يلاحظ عبدا في حضور وغيبة
وقد علم المولى تأكد شوقنا ... فيسره بالشام أنزه بقعة
على أنها فاقت بما انفردت به ... من الحسن ماء معين وربوة
قال وكان كتب إلي المشار إليه من الشام وأنا بالمدينة يطلب مني ترجمة السيد محمد جمال الدين المشهور بكبريت المدني
يا خطيبا بأرض طيبة أضحى ... أفصح العرب عنده سكيتا
جد على العبد سيدي بمناه ... وهو ما ترجموا به كبريتا
فأجبته وقد رقمت له من ترجمته ما سمح به الخاطر
عين أهل الشآم يا واحد الع ... صر ومن حاز في المعالي صيتا
دمت فينا زناد فضلك وار ... لست تحتاج للذكا كبريتا
قال وكتب إلي
أشيخ الوقت إبراهيم يا من ... علوت على الورى هام الدراري
لأنت بطيبة من خير قوم ... خيار من خيار من خيار
ولما رأيت العطيفي تلاعب وتداعب باللقب أجبته بذلك مراعيا في القافية لقبه أيضا غائصا بحره فقلت
أيا مولى سماه شهر صوم ... يجل الوصف عن كم وكيف
عطفت بوصل أسباب التداني ... وذلك ليس بدعا من عطيف
انتهى ومما رأيته من آثار قلمه هذه القطعة من الإنشاء والأبيات كتب بها إلى بعض الفضلاء جوابا عن لغز إليه في قرنفل يا من زين سماء الدنيا بزهر النجوم وزين الأرض بزهرها المنثور والمنظوم نحمدك على ما أبدعت حكمتك في هذه الأعصار من زاهي الأزهار ونصلي ونسلم على نبيك المختار وآله الأخيار وما اختلف الليل والنهار عدد تنوع البهار أما بعد فإن رقيق الكلام ورشيق النظام مما يسحر الألباب وينسج ما بين الأحباب ولا بدع فقد قال سيد الأنام عليه أفضل الصلاة وأتم السلام إن من البيان سحرا وإن من الشعر حكمة هذا وقد أخذ رائق كلامكم وفائق نظامكم بهذا الصب أخذ الأحباب الأرواح ولعب به ولا كتلعاب الراح كيف لا وقد كسى حلل البها والجمال وانتظم ولا كانتظام اللآل رق فاسترق الأحرار وحلى فتحلى به أهل الشعار وراق معناه فأشرق مغناه وحسن اتساقه فحلا مذاقه وفاح أرج القرنفل من رياضه وهبت نسمات الجنان من غياضه فلله درك ودر ما ألغزت وما أحسن ما أبعدت وقربت فقد أبدعت فاعبدت وأغربت فأرغبت لغز كالغزل في نشر طيه حلل من طول في مدحه فقد قصر وما عسى أن يمدح البحر والجوهر ولكن نعتذر إليكم من هذه الشقشقات التي أوردناها على سبيل البديه وكل ينفق مما عنده ويبديه وحين ملت طربا من ميل تلك اللامات قلت هذه الأبيات
أتاني نظام منك يزرى بحسنه ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وأشممني منه أريجا كأنه ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل(1/426)
فيا واحد الدنيا وليس مدافع ... ويا من غدا مدحي له مع تغزل
بعثت لنا عقدا ثمينا فلو رأى ... جواهره النظام ولى بمعزل
ولو أن رآه امرؤ القيس لم يقل ... ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى
فمن يك نظاما فمثلك فليكن ... فصاحة ألفاظ بمعنى مكمل
رقيق لطيف رائق متحبب ... إلى كل نفس وهو في العين كالحلى
يفوح عبير المسك من طي نشره ... فكيف وقد ألغزته في القرنفل
فلا زلت تحبونا بكل فضيلة ... ولا زلت تحيينا بعلم مفضل
ولا زلت للدنيا إماما وسيدا ... وعلمك يروى كالحديث المسلسل
فيا من غدا جبرا لكل كسيرة ... ويا من غدا بحرا لكل مؤمل
بقيت بخير سالما وممتعا ... وقدرك في الدنيا يزيد ويعتلي
وله غير ذلك وكانت ولادته في شهر رمضان سنة تسع عشرة وألف كذا سمعته من لفظه وكتبته عنه وتوفي نهار الخميس عاشر جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير في مسجد النارنج رحمه الله روح الله بن محمد أمين بن صدر الدين الشرواني الأصل قاضي القضاة الفاضل البارع الأديب كان أحد أجلاء الموالي له جاه عريض وحشمة وافرة وتثبت في الأمور ودأب في الاشتغال حتى تنبل ولازم من شيخ الإسلام المولى أسعد ودرس بمدارس قسطنطينية إلى أن وصل إلى إحدى المدارس السليمانية وولى منها قضاء القدس ثم ولب وحلي ومصر وأدرنة وقسطنطينية وكان ينظم الشعر بالتركية ومخلصه على طريقتهم روحى وله التاريخ المشهور قاله لما تسلطن السلطان وهو قوله " خلد الله ملك إبراهيم " وكان بينه وبين المرحوم مودة ومراسلات كثيرة ويعجبني منها ما كتبه والدي إليه في صدر كتاب متمثلا وهو بالقدس
يا نسمة البان بل يا نسمة الريح ... إن رحت يوما إلى من عندهم روحي
خذي لهم من ثنائي عنبرا عبقا ... وأوقديه بنار من تباريحي
أقام الله دعائم الفضل وشرح صدر الدين بصدر الشريعة والعدل ببقاء روح القدس وموطن الأمن والأنس وحيد دهره وروح عصره ومن آخر كتبه إليه وهو قاض بحلب وعندي من الأشواق ما لا تحمله متون الأوراق ومن الغرام ما لا تشره ألسنة الأقلام فنسأله سبحانه أن يمن علينا منه بمنة الاقتراب ويحسن لشامنا بشريف ذلك الجناب لنرتع في روض دولته الوريفة ونتمتع بمشاهدة حضرته الشريفه وتكون أيامنا بجنابه أعياد الدهر وليالينا به كلها ليلة القدر ونعد ذلك منه تعالى نعمة وأي نعمه لنؤدي بعض ما يجب من أداء لوازم الخدمه وطالما طمعت الآمال بذلك مرارا ولو مرورا وربما خطرت ذلك في القلب فملأه ذلك الخاطر سرورا على أننا لم نيأس من روح الله أن يمن بلقائه وأن يكحل العين بإثمد بهائه انتهى وكان في آخر أمره ولع بعلم النجوم واستخراج بعض المغيبات المتعلقة بأمور السلطنة هو وبعض أخدان له كان يأنس بهم من جملتهم عبد الباقي بن مصطفى المتخلص بوجدي الشاعر المشهور في الروم فوصل خبرهم إلى الوزير الكوبري فسعى في قتلهم فقتلوا في رابع شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وألف والشرواني بكسر الشين وسكون الراء وفتح الواو ثم ألف ونون نسبة إلى بلدة بالعجم خرج منها علماء وفضلاء من أجلهم والد صاحب الترجمة وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى روحى الشاعر البغدادي المشهور كان من أعاجيب الدنيا في صنعة الشعر التركي له التخيلات اللطيفه والألفاظ الرشيقة وديوانه مشهور يوجد كثيرا بأيدي الناس وكان على أسلوب السياح وله في سياحته ماجريات ووقائع كثيرة واستقر آخر أمره بدمشق وكنت سمعت خبره قديما من المرحوم الدرويش عيسى العينتابي نزيل دمشق وكان كثيرا ما يلهج بإخباره ويورد ماجرياته وينشد أشعاره وأظنه لم يدركه الاسنا لا اجتماعا فروايته لإخباره عن سماع وذكر أن وفاته كانت سنة أربع عشرة بعد الألف بدمشق(1/427)
ريحان بن عبد الله الحبشي الأحمدي الشافعي العارف بالله تعالى كان مجاورا بالحجرة شمالي مسجد قباء ذكره النجم في ذيله وقال كان واضح الكشف مجلو المرآة ناقد البصيرة وكان للناس فيه اعتقاد عظيم وكان القاضي عبد الرحمن قاضي المدينة عمر له مسجدا قديما خارج باب المصري وعمر له في جانبه بيتا لطيفا فسكن به وتزوج قال زرته أنا وولدي بدر الدين واستأجزت له فأجازه وألبسه الخرقة الأحمدية بحضوري وصار بيننا مواخاة وكانت وفاته في سنة خمس عشرة بعد الألف رحمه الله
حرف الزاي
زكريا بن إبراهيم بن عبد العظيم بن أحمد أبو يحيى المعري المقدسي الحنفي الإمام القدوة المعتبر رحل إلى مصر وأخذ بها التفسير والحديث عن الشيخ منصور سبط الطبلاوي الشافعي وكان فقيها مفسرا له باع طويل في كثير من الفنون وولى إفتاء الحنفية بالقدس ودرس وأفادوا وانتفع به خلق كثير في الفقه وغيره وكانت وفاته في سنة خمس وثلاثين وألف زكريا بن بيرام مفتي الممالك الإسلامية علم العلماء المتبحرين في جميع العلوم وكان إليه النهاية في التحقيق وهو أمير أهل عصره في الفقه والأصول أصله من أنقرة وبها ولد ونشأ ثم وصل إلى خدمة معلول أمير فصحبه معه إلى القاهرة في سنة خمسين وألف وشارك العلامة على بن غانم المقدسي في القراءة عليه ولما وصل إلى قضاء أناطولى صيره حافظ التذاكر ولازم منه وأحاط بكثير من العلوم إحاطة تامة وألف تآليف شاهدة بدقة نظره وتمكنه منها حواشيه على أكمل الدين وعلى صدر الشريعة وغير ذلك وله نظم ونثر بالعربية مسبوكان في قالب الجودة فمن ذلك ما قرظ به طبقات القاضي تقي الدين التميمي المقدم ذكره
هذا كتاب فاق في أقرانه ... يسبى العقول بكشفه وبيانه
سفر جليل عبقري ماجد ... سحر حلال جاء من سحبانه
أوراقه أشجار روض زاهر ... قد تجتنى الثمرات من أفنانه
لله در مؤلف فاق الورى ... بفرائد فغدا فريد زمانه
فجزاه رب العالمين بلطفه ... طبقات عز في فسيح جنانه
لما تعمقت في لجج هذا البحر الزاخر صادفت أصداف الدرر الكامنة النوادر وألفيته روضة غناء زاهرة أزهارها وزهرة زهراء ناضرة أنوارها وجنات شقائقها محمره وجنات حدائقها مخضره تذكرة لعارف تقي وتبصرة لمتبصر عن الرذائل نقي جاوز الشعرى بشعره الفائق وفاق النثر بنثره الرائق قد استضاء بجواهره المضيئة تاج تراجم الأعيان فصار كأنه مرآة انعكس فيها صور سير الأسلاف وأشراف أفاضل الزمان اللهم اجمع بيننا وبينهم في غرف عدن وطبقات الجنان ومن شعره قوله
أخف علي من منن الرجال ... من الدنيا الدنية ارتحالي
لئن ساءت بسوء الجار حالي ... أحول بلدة أخرى رحالي
وقوله أيضا
إذا ما كنت مرضى السجايا ... وعاش الناس منك على أمان
فعش في الدهر ذا أمن ويمن ... ويوصلك الإله إلى الأماني
ومن غزلياته قوله
قد قتل العشاق من لحظه ... دماؤهم سالت على الأوديه
يا عجبا من قاتل انه ... ليس عليه قود أوديه(1/428)
وله غير ذلك وكان درس بمدارس قسطنطينية حتى وصل إلى السليمانية ولى منها قضاء حلب في سنة ثمانين وتسعمائة قال الشيخ عمر العرضي ولما قدمها ذهبنا إليه مسلمين عليه فإذا هو رجل فاضل له استحضار حسن في فقه أبي حنيفة وكم جرى بيننا وبينه من الأبحاث التي تدل على حسن استحضاره وسألني ذات يوم عن قول بعض كتب الحنيفة لو ادعى رجلان على امرأة أنها زوجة كل منهما أحدهما زيد والآخر عمرو فقالت في الجواب تزوجت زيدا بعد عمرو وحكم بأنها زوجة لزيد لكن لو قال لها القاضي زوجة من أنت فقالت تزوجت زيدا بعد عمرو وحكم بأنها زوجة عمرو فقال لي ما الفرق بينهما فبحثنا معه على قدر الإمكان ثم إنه أظهر جوابا حسنا من الخلاصة فأخذت الجواب وكتبت عليه رسالة لطيفة وقعت عنده في حيز القبول ثم إني كتبت له رسالة تشتمل على ثلاثين سؤالا من اثنين وعشرين علما أراد أن يلتزم الجواب عنها فأجاب عن بعض أسئلتها ثم اعتذر بكثرة اشتغاله بالحكومات وغيرها ثم ترقى في المناصب إلى أن صار قاضي العساكر بأناطولى ثم عزل ودخل دمشق بعد عزله في سنة أربع وتسعين وتسعمائة متوجها منها إلى الحج وصحبته ولداه المولى يحيى الذي صار آخرا مفتي الدولة والمولى لطف الله الآتي ذكرهما وبعدما أدوا فريضة الحج عادوا إلى الروم فولى صاحب الترجمة قضاء العسكر بروم ايلي ووقع بينه وبين سنان باشا الوزير الأعظم في شعبان سنة ثمان وتسعين وتسعمائة فعزل ثم ولى الإفتاء في رحب سنة إحدى بعد الألف وأنشد في توليته ابن نوعى صاحب ذيل الشقائق التركي بيتا بالتركية استحسنه جدا فعربته في هذين البيتين ومنهما يعلم معناه وهما قوله
في رأس كل مائة يجئ من ... يجدد الدين بحسن الوصف
ومثل ذا مجددا للدين لا ... يجئ إلا واحد في الألف
ولم تطل مدته فتوفى في شوال من هذه السنة وكانت وفاته فجأة دخل إلى حضرة السلطان مراد الثالث واجتمع به وألبسه خلعة سنية فحال خروجه سقط ميتا وروى عنه أنه قبل وفاته بليلة واحدة رأى في منامه كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له في غد تجتمع بالسلطان وتلبس خلعة وتكون عندنا فانتبه وهو متعجب وكان من أمره ما كان ودفن في أحد مدرستيه اللتين بناهما بقسطنطينية بقرب جامع السلطان سليم وحمامه رحمه الله تعالى زكرياء بن حسين بن مسبح البوسنوي الأصل الدمشقي المولد تقدم أبوه حسين وأخوه درويش محمد ونشأ هو في كنف أبيه على صون ونزاهة واشتغل بطلب العلم وكان في عنوان عمره جميلا غاية ولم يكن في عصره من يقاربه في الحسن وكان تولع فيه قوم من الأدباء والشعراء منهم الأمير منجك المنجكي وهو الذي يقول فيه
كلما رحت ذاكرا زكريا ... عاد قلبي من الغرام مليا
رشأ كالمهاة جيدا ولحظا ... وقضيب يقل بدرا سنيا
أترى هل أراه والليل داج ... طالعا بين بردني مضيا
أجتنى ما استطعت من ورد خد ... يه بأيدي اللحاظ وردا جنيا
وأبل الأوام من ريقه العذ ... ب وأسقى من فيه راحا شهيا
؟ثكلتني أم الصبابة إن كن - ت أرى ساليا له أو ناسيا وقال فيه وقد رآه لابسا عمامة وهو يقرأ في أحد دروس مشايخ دمشق
وقارئ يمعن في درسه ... نفس المحبين فدا نفسه
معمم يشبه بدر الدجى ... مكور الشمس على رأسه
غصن فؤادي صار روضا له ... قد أبدع الغارس في غرسه
وهذا الأمير مع ميله الزائد إلى الحسان كان نزيه النفس سليم الناحية رفيع الهمة وهو القائل وقد رأى إعراضا من معشوق له
قد أبت عبرتي بأن فؤادي ... يصطفى من بغير طرفي يشام
أنا لا أستطيع ما يحمل النا ... س وعندي بعض الكلام كلام
فإذا ما الحبيب أعرض عني ... فعلى الحب والحبيب السلام
عودا إلى ترجمة زكريا وبعدما طلع عذاره نسخت آية جماله وكسفت صورة هلاله وفيه يقول أحمد بن شاهين بيتيه المشهورين
ومذ بدا الشعر على وجهه ... بدلت الحمرة بالاصفرار
كأنما العارض لما بدا ... قد صار للحسن جناحا فطار(1/429)
ثم بعد ذلك ولى النيابات بمحاكم دمشق وسافر في خدمة المولى شعبان بن ولي الدين لما نقل من قضاء دمشق إلى قضاء مصر في سنة ثمان وأربعين وألف وصيره ثمة قساما ونائبا بالصالحية ثم عاد في خدمته إلى دمشق وسافر إلى الحج في سنة خمس وخمسين ولازم من المولى المذكور ولما ولى المذكور قضاء العسكر باناطولى وجه إليه القسمة العكسرية بدمشق وولى بقعة تدريس بجامع بني أمية ودرس بالمدرسة الظاهرية الكبرى وكان يحسن اللغة الفارسية والتركية والبوسنوية والعربية لسانه وكان يكتب الخط المليح وله فضيلة وحسن منادمة ومطارحة وله خلاعة ومجون وكان بينه وبين أبي مودة أكيدة وصحبة بالغة وبالجملة فإنه كان من تحف الدهر وكانت ولادته في سنة خمس وعشرين تقريبا وتوفى في سنة ثلاث وسبعين وألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى زكريا ابن خضر البقاعي العينتيتي الفقيه الشافعي ورد دمشق في حدود سنة خمس أو ست أو سبع وسبعين وتسعمائة وأقام مدة بجامع منجك خارج دمشق بمحلة مسجد الأقصاب وقرأ كثيرا وتفقه بالشهاب أحمد بن أحمد الطيبي الأوسط ثم لزم الحسن البوريني فقرأ عليه العربية والأصلين وشيئا من المنطق وتوجه إلى القاهرة وتفقه بها على النور الزيادي وأجازه بالفتوى والتدريس ثم رجع إلى دمشق وولى إعادة الناصرية الجوانية وتدريس المدرسة النحاسية قرب مرج الدحداح وكان فاضلا كاملا توفى ليلة الاثنين سادس عشر شهر رمضان سنة عشرين وألف والعينتيتي بعين مهملة مفتوحة وياء مثناة من أسفل ونون ساكنة وتاء مثناة من فوق مكسورة يعقبها ياء مثناة من أسفل ثم تاء مثناة من فوق نسبة إلى قرية من قرى شوف الحراذين من جبل لبنان(1/430)
الشريف زيد بن محسن بن حسين بن حسن بن أبي نمى شريف مكة الحسني وقد تقدم ذكر تتمة نسبه في ترجمة عم أبيه الشريف أبي طالب فليرجع إليه ثمة كان من أمر زيد أنه ولد بمكة في سنة أربع عشرة بعد الألف وتربى في حجر والده وسافر معه إلى اليمن ولما توفى أبوه بصنعاء رجع إلى الحجاز وكان قام بأمر الحجاز الشريف أحمد بن عبد المطلب المقدم ذكره فلما قتل ولى مكانه الشريف مسعود بن إدريس ابن حسن وولوه الإمارة وكان مريضا بمرض الدق فمات بعد سنة وشهرين وذلك في ثامن عشرى شهر ربيع الثاني سنة أربعين وألف فاجتمع الأشراف على الشريف عبد الله بن حسن وولوه الإمارة واستمر نحو سنة ثم خلع نفس وقلد الإمارة ولده محمدا وأشرك معه في الربع الشريف زيدا هذا فبقي أمرهم على هذا الاتفاق مدة قليلة فدخل القنفدة في سنة إحدى وأربعين وألف بعض عسكر اليمن الذين طردهم حاكمها قانصوه فأرسلوا إلى الشريف محمد المذكور أنا نريد مصر وقصدنا الإقامة بمكة أياما لنتهيأ للسفر فأبى خوفا من الفتنة والفساد فلما وصلهم الخبر أجمع رأيهم على دخول مكة قهرا واستعدوا وخرج إليهم الأشراف وحصل القتال بينهم إلى أن قتل الشريف محمد المذكور وقتل من الفريقين جمع وانهزم الأشراف ودخل أولئك القوم مكة وولوا الشريف نامى بن عبد المطلب وأشركوا معه الشريف عبد العزيز بن إدريس في الربع بلا شعار وأرسلوا إلى أمير جدة ليسلمها إليهم فأبى وقتل الرسل فتجهزوا وحاصروهم يومين ثم دخلوا جدة ونهبوها واستمر الشريف نامى يصادر أهل مكة ونهب عسكره البلاد واستباحوا المحرمات وكان الشريف زيد هرب إلى المدينة وكتب عروضا وأرسلها إلى صاحب مصر مع السيد علي بن هيزع حوالة مكة بمصر ولما وصل خبرهم لصاحب مصر أرسل إليهم سبعة من الأمراء وأرسل بخلع سلطانية للشريف زيد وبلغهم أن الشريف زيدا بالمدينة فدخلوا وخلعوا عليه بملك الحجاز في الحجرة الشريفة وتوجه إلى العسكر وأتوا جميعا إلى مكة ولما وصلت العساكر إلى مر الظهران خرجت الخوارج إلى جهة الشرق وحج بالناس الشريف زيد سنة إحدى وأربعين ولما فرغوا من المناسك توجهوا إلى مسك الخوارج فلما بلغهم قصد العسكر إليهم تحصنوا بحصن تربة فحاصرتهم العساكر السلطانية وكانت الخوارج فرقتين فرقة رئيسهم يقال له الأمير علي والثانية رئيسهم يقال له الأمير محمود فاستمسك الأمير على على نفسه من أمراء مصر أن يسلموه من القتل والتزم لهم بالأمير محمود فقبلوا ذلك ومسكوا الأمير محمود بحيلة دبروها وأتى به إلى مكة وطيف به على جمل معذبا بالنار ثم صلب حيا بالمعلاة إلى أن مات وأخذته العامة وأحرقته في شعبة العفاريت ورجعت وكانت الخوارج أقامت الشريف نامى كما تقدم وكان له اسم الأمر فقط فلما فرغوا من أمر الخوارج قبضوا على الشريف نامى وأخيه السيد وحبسوهما واستفتوا فيهما العلماء فأفتوا بقتلهما فقتلوهما وصلبوهما بجانبي رأس الردم المسمى الآن بالمدعى وتمت الولاية للشريف زيد وكان عادلا مشفقا على الرعية وأزال في زمانه كثيرا من المنكرات وأبطل ما خالف الكتاب والسنة وأمنت في أيامه الرعايا وعمر عمائر مستحسنة من جملتها سبيل وحنفية بمكة وفي تاريخه يقول القاضي تاج الدين المالكي
لله تأسيس نما خيره ... وفاز بالتطهير من أم له
به سبيل وحنيفية ... وسلسبيل فارتشف سلسله
له نبا في الفيض مهما روى ... حديثه أروى بما سلسله
سالت عطاياه لجينا فمن ... رام نداه نال ما أمله
وحيث لم يكتف سؤاله ... فلا يكف البذل أن أرسله
لأن من أسس بنيانه ... غيث الورى في السنة الممحله
من نفسه يوم عطاه ترى ... أن وهب الدنيا فقد قلله
توجه الله بتاج زها ... بجوهر المجد الذي كالمه
والله من وافر إحسانه ... أجرى له الأجر الذي أجزله
فإن تسل عن ضبط تاريخه ... فخذ جوابا يوضح المسئله
أسسه سلطان أم القرى ... زيد يدوم العز والسعد له(1/431)
وفي أيامه وقع بمكة سيل مرتين مرة في ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقين من شوال سنة خمس وخمسين وألف وخرب دورا وأبنية ودخل المسجد الحرام وعلا على عتبة باب الكعبة مقدار ذراع وأتلف ما في قبة الفراشين من المصاحف والرباع والكتب وامتلأ المسجد بالتراب والقمامات فتصدى الشريف زيد ونادى على العامة بتنظيف المسجد وحضر بنفسه وساعد شيخ الحرم الأمير مصطفى صاحب جدة وبذل من ماله مالا جزيلا واستمر العمل فيه إلى النصف من ذي القعدة فتم تنظيفه من سائر جهاته ومرة في يوم السبت بعد الظهر سابع شعبان سنة أربع وسبعين وكان حصل مطر شديد وسالت أودية مكة وأخذ السيل جملة من الأبنية والعشش والدور وزاد الماء في الرفعة والعلو وكلما مر على حيوان أو عشة حمله واقتلع ما مر عليه من خيمة أو مكان ولما وصل باب أجياد تمانع هو وسيل أجياد في السير فغلب سيل أجياد ودخل من سائر الأبواب فامتلأ صحن المسجد واستمر المطر نحو ثلاثين درجة وبلغ قفل الكعبة وأتلف ما في خلوة الفراشين وما في الخلاوي القريبة من المسجد من المصاحف والكتب وامتلأ المسجد من التراب والقمامات وأتلف أموالا كثيرة في البيوت القريبة من المجرى وخرب دورا كثيرة وغرق فيه ستة أنفس وتعطل المسجد عن الأذان والجماعة في خمسة أوقات من الظهر فتقيد الشريف زيد في تنظيف المسجد وحضر بنفسه ونادى على العامة وكذلك صاحب جدة الأمير سليمان وهو يومئذ شيخ الحرم المكي وعمل العلماء والمدرسون والخطباء والأشراف بأيديهم وبذل الشريف والأمير مالا جزيلا وأعملوا همتهم فتم تنظيفه في سبعة أيام وكان مسعودا في سائر حركاته ولم يقصده أركان الدولة بسوء إلا خيبهم الله تعالى واتفق في زمانه أن صاحب جدة الأمير مصطفى عظمت شوكته ونفذت كلمته وظهرت منه أطوار لا تليق بشأن الشريف زيد ولم يزل كذلك والشريف صابر عليه حتى كان أوائل سنة سبع وخمسين طلع الأمير المذكور إلى الطائف للزيارة وطلع معه بشير الحبشي غلام السلطان مراد وهذا في مجيئه الثاني متوليا مشيخة الحرم النبوي فأقام ما شاء الله أن يقيم فلما أن كان نازلا إلى مكة طالعا في المحل الذي يقال له النقب الأحمر وجه جبل كرا مما يلي الطائف وقد تفرقت عساكره خلفا وأماما ولم يبق معه سوى السايس وحامل كوز الماء اعترضه رجل عربي كان يتعهده بالإحسان يقال له الجعفري فضربه وهو متجرد للإحرام بجنبية أنفذها إلى أحشائه وذهب فلم يدر محله قيل إن السايس أراد ضرب القاتل فوقع السيف في مؤخر الحصان فقمص فسقط عنه الأمير فتلاحقت العساكر فلم يلبث إلا نحو ساعتين وتوفى وكان قتله يوم التاسع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة وأدخل إلى مكة في التخت قتيلا غرة رجب منها ودفن بالمعلاة أمام قبة السيدة خديجة وكان الشريف زيد في تلك السنة قد توجه إلى جهة الشرق فأبعد حتى وصل قريبا من الخرج وكان القائم مقامه لحفظ مكة السيد إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن حسن بن أبي نمى فاستدنى السيد إبراهيم غالب عسكر الأمير وأنزلهم في محل يسعهم بأجياد وأجرى عليهم العلوفات وأمر كتخدا العسكر دلاور بالنزول لجدة لحفظ البندر فامتنع ثم بعد ليال نزل دلاور بعد هزيع من الليل قاصدا جدة خلسة فشعر به السيد إبراهيم وأرصد له جماعة فمسكوه وأتوا به إليه فحبسه ثم اختلس بعض العسكر نفسه وذهب إلى بشير بالطائف وأخبره بما وقع فأتى بشير إلى مكة ونزل بمدرسة بهرام بالمسعى فتردد السيد إبراهيم في الذهاب إليه وعدمه لاختلاف المشير ثم جزم فتلقاه بما هو الواجب ثم قال له بعد استقرار المجلس لم حبست دلاور فقال حبسته خشية إضراره فإنا ألزمناه مرارا بالذهاب إلى جدة فامتنع فارتبنا بذهابه خفية فقال بشير أطلقه فقال لا أطلقه حتى يصل الشريف زيد ثم قام السيد إبراهيم فلما كان اليوم الثاني نزل بشير إلى القاضي واستدعى بالسيد إبراهيم فحكم عليه بإطلاقه فأطلقه ثم بعد يويمات عزم السيد إبراهيم والقائد رشيد حاكم مكة إلى نحو بركة ماجن للتنزه فاستجر بشير العسكر ووعدهم فحملوا أثقالهم وأدخلوها من باب المسجد وخرجوا بها من باب ابن عتيق ثم خرجوا بعد العصر حازبين مارين على دار السعادة ثم على السوق ثم على سويقة إلى أن وصلوا إلى بيت بشير وكان نازلا بالباسطية فوصل الخبر للسيد إبراهيم فجاء إلى البلد وقال لبشير ما هذا الفعل فقال بشير مجيبا له(1/432)
نعم عسكر السلطان لهم في التربية أعوام فتأخذهم في خمسة أيام وكان في عسكرهم شخص كثير الفساد فأمر السيد إبراهيم بقتله أينما وجد فوجد سكرانا على الخريق فتناوله عسكر الشريف فقطعوه فثارت الفتنة وترامت العسكران بالرصاص وقتل شخص من الناس خلف المقام المالكي وقتل كتخدا بشير ولم يزل مطروحا عند باب ابن عتيق من داخل المسجد إلى الليل حتى رفعه بعض الناس ثم سعى القاضي أحمد قره باش وغيره بالصلح وأن لا يصل أحد إلى أحد بسوء من الجانبين ولا تخرج جماعة بشير إلى السوق إلا ثلاثة أشخاص معينون لقضاء حوائجه من السوق وسكنت الفتنة حتى وصل الشريف زيد إلى مكة فاستحسن جميع ما فعله السيد إبراهيم ثم ظفر الله تعالى الشريف زيدا على الجميع ونصره عليهم ومما اتفق له أنه زار النبي صلى الله عليه وسلم عام تسع وخمسين وكان دخوله إلى المدينة ثامن شعبان فنزل بالقاضية خارج السور ثم في فجر اليوم العاشر من الشهر المذكور نزل القاضي زفر قاضي الدينة إذ ذاك راكبا ومعه ثلاثة من الخدام فلما كان عند الدفتردارية وثب عليه شخص فضربه بالحد على ظهره ضربة أنفذها من صدره فأكب على قربوس الفرس ولم تزل داخلة به إلى محراب سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وإمام الشافعية قائم يصلي الفجر فقام بعض الناس إليه وأنزلوه بآخر رمق وهو يقول يا رسول الله يا رسول الله ووضع أمام الوجه الشريف فبعد لحظة قضى عليه فحشدت عساكر المدينة واجتمعوا وأغلقوا أبواب المدينة وتفرقوا في نواحيها وأسوارها ووجهوا المدافع إلى جهة الشريف ونادوا اخرج عنا الآن وبدا منهم ما لا يليق فلم يزل الشريف بهم حتى أعمل الحيلة ودخل من باب هو وعسكره بعد أن نصب قاضيا واستدعى وجوههم لينظر في قتله القاضي ويبحث عنهم فأتوا إليه ثم لم يزل يقبضهم واحدا بعد واحد ففك بعضهم بشفاعة وذهب بالباقين مقيدين وأمر بإبقاء بعضهم في ينبع فاستمروا إلى مجئ الحاج فاستشفعوا بأميره فأتى بهم إلى مكة متشفعا فيهم فقبل الشريف شفاعته وعفا عنهم ثم لما نزل بعد سفر الحاج قيطاس أمير جدة من مكة إلى جدة مغاضبا للشريف زيد نزلوا معه وكتبوا أنفسهم من عسكره وسبب غضبه الناشئ عن الحرب الآتي ذكره في سنة ستين وألف أمور منها أنه ورد إلى مكة بعض تجار من الصعائدة وشخص عجمي يسمى أسد خان من جهة اليمن بتجارة ونزلوا من البحر إلى بندر القنفدة ووصلوا إلى مكة ولم يدخلوا بندر جدة وكان قيطاس بمكة قد وصل للحج فاحتال على الصعيدي وحبسه وكان الصعيدي ملتجئا إلى السيد هاشم بن عبد الله فألزم الشريف زيدا بإطلاقه فوعده ثم أخذته الحمية فركب إلى الشريف ثانيا ثم نزل من عنده قاصدا بيت قيطاس لفك الرجل من الحبس فنادى الشريف وهو قائم من روشنه وراء الرجل فلما أقبل على بيت قيطاس وجد المحبوس منطلقا فرجع به ومنها أنجاء أولئك النفر من عسكر المدينة ونسبتهم قتل القاضي إليه ومنها تردد السيد عبد العزيز بن إدريس إليه ومواطأته ووعده إسعافه بما يأبى الله إلا خلافه فقبل أن يسافر الحاج من مكة نزل قيطاس للسيد عبد العزيز إلى مكة ونودي له بالبلاد وأقام حاكما فيها ناصر ابن سعيد عتيق مصطفى السيوري وأجرى الأحكام العجرفية وظن أنها تكون أحمدية وأقبل قيطاس ومعه السيد المذكور بمن معه ومن اجتمع عليه من عسكر المدينة وخرج الشريف زيد وكان الموقف فوق التنعيم وكان السيد أحمد بن محمد الحرث متقدما في الميمنة بجماعته ومن يليه والشريف زيد بمن معه في القلب والعروج ملأت السهول والوعور وتراموا بالرصاص والمدافع وكلما هم الأشراف بالجملة يقول لهم الشريف زيد معكم معكم كناية عن التثبت والتأني وارتفع النهار وحميت الشمس فركض من الأشراف جماعة منهم السيد وبير بن محمد بن إبراهيم والسيد بشير بن سليمان والسيد أبو القاسم فأصيب السيد وبير بالبندق فسقط بين الجمعين وأصيب جماعة من الجانبين وحين اشتد الحال على السيد عبد العزيز ومن معه فر إلى جمع السيد مبارك ابن شبير داخلا عليه طالبا الأمان له ولقيطاس ومن معه من الشريف زيد فجاء به إلى الشريف زيد فآمنه ووقع الصلح ونصبت للشريف خيمة فنزل بها يستظل وسأل السيد عبد العزيز من الشريف زيد أن يوصل قيطاس إلى مأمنه لأنه أشفق من نهب العربان له فأصحبه الشريف خمسين رجلا من العسكر فذهب إلى جدة راجعا خائبا وجاء بعد أشهر عزله فذهب إلى(1/433)
ينبع وواجه الحاج بها ومكث بها إلى عود الحاج من مكة إليها فتوجه معهم إلى مصر وتوجه معه السيد عبد العزيز فاستمر قيطاس بمصر سنة إحدى وستين وجاء في موسمها أمير الحاج المصري فلما خرج الشريف زيد لملاقاته للخلعة السلطانية على العادة لم يكن بينهما مناكبة على المعتاد بل مد له الشريف يده فصافحها ومن عامئذ تركت مناكبة شريف مكة لأمراء الحجيج وبالغ الأمير في تعظيم الشريف ولم يظفر عليه في أمر ما وأقم السيد عبد العزيز بمصر نحو سنتين ثم جاء خبر وفاته في السنة الثالثة شهيدا بالطاعون انتهى وبالجملة فأحوال الشريف زيد طويلة وأخباره كثيرة ولو بسط القول في وقائعه وغزواته وسعوادته وموافقات الأقدار لمراداته لطال الكلام وقد مدح بالقصائد الطنانة النفيسة وقصدته الشعراء من البلاد البعيدة فممن وفد إليه منهم ومدحه بالقصيدة الفائقة في بابها السيد أحمد الأنسى اليمني ومستهل قصيدتهوواجه الحاج بها ومكث بها إلى عود الحاج من مكة إليها فتوجه معهم إلى مصر وتوجه معه السيد عبد العزيز فاستمر قيطاس بمصر سنة إحدى وستين وجاء في موسمها أمير الحاج المصري فلما خرج الشريف زيد لملاقاته للخلعة السلطانية على العادة لم يكن بينهما مناكبة على المعتاد بل مد له الشريف يده فصافحها ومن عامئذ تركت مناكبة شريف مكة لأمراء الحجيج وبالغ الأمير في تعظيم الشريف ولم يظفر عليه في أمر ما وأقم السيد عبد العزيز بمصر نحو سنتين ثم جاء خبر وفاته في السنة الثالثة شهيدا بالطاعون انتهى وبالجملة فأحوال الشريف زيد طويلة وأخباره كثيرة ولو بسط القول في وقائعه وغزواته وسعوادته وموافقات الأقدار لمراداته لطال الكلام وقد مدح بالقصائد الطنانة النفيسة وقصدته الشعراء من البلاد البعيدة فممن وفد إليه منهم ومدحه بالقصيدة الفائقة في بابها السيد أحمد الأنسى اليمني ومستهل قصيدته
سلوا آل نعم بعدنا أيها السفر ... أعندهم علم بما صنع الدهر
تصدى لشت الشمل بيني وبينها ... فمنزلها البطحا ومنزلي القصر
رآني ونعما لاهيين فغالنا ... فشلت يد الدهر الخؤن ولا عذر
فوالله ما مكر العدو كمكره ... ولكن مكرا صاغه فهو المكر
فقولا لأحداث الليالي تمهلي ... ويا أيهذا الدهر موعدك الحشر
سلام على ذاك الزمان وطيبه ... وعيش تقضى لي وما نبت الشعر
فتلك الرياض الباسمات كأنما ... عواتقها من سندس حلل خضر
تنضد فيها الأقحوان ونرجس ... كأعين نعم إذ يقابلها الثغر
كأن غصون الورد قضب زبرجد ... تخال من الياقوت أعلامها الحمر
إذا خطرت في الروض نعم عشية ... تفاوح من فضلات أردانها العطر
وإن سحبت أذيالها خلت حية ... إلى الماء تسعى ما لا خمصها أثر
كساها الجمال اليوسفي ملابسا ... فأهون ملبوس لها التيه والكبر
فكم تخجل الأغصان منها إذا انثنت ... وتغضى حياء من لواحظها البتر
لها طرة تكسو الظلام دياجيا ... على غرة إن أسفرت طلع الفجر
وجيد من البلور أبيض ناعم ... كعنق غزال قد تكنفها الذعر
ونحر يقول الدر إن به غنى ... عن الحلى لكن بي إلى مثله نقر
وحقان كالكافور ناف علاهما ... من الند مثقال فندبه الصبر
روديك يا كافور إن قلوبنا ... ضعاف وما كل البلاد هي المصر
بدا لقد غصنا باسقا متأودا ... على نقوى رمل يطوف به نهر
يكاد يدق الخصر من هيف به ... روادفها لولا الثقافة والخصر
لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
رأتني سقيمانا حلاوالها بها ... فأدنت لها عود أناملها العشير
وغنت ببيت يلبث الركب عنده ... حيارى بصوت عنده يرقص البر
إذا كنت مطبوبا فلا زلت هكذا ... وإن كنت مسحورا فلا برئ السحر(1/434)
فقلت لها والله يا ابنة مالك ... لما شفنى إلا القطيعة والهجر
رمتني العيون البابليات أسهما ... فأقصدني منها سهامكم الحمر
فقالت وألقت في الحشا من كلامها ... تأجج نار أنت من ملكنا حر
فوالله ما أنسى وقد بكرت لنا ... بإبريقها تسعى به القينة البكر
تدور بكاسات العقار كأنجم ... إذا طلعت من برجها أفل البدر
نداماى نعم والرباب وزينب ... ثلاث شخوص بيننا النظم والنثر
على الناي والعود الرخيم وقهوة ... يذكرها ذنبا لأقدامنا العصر
فتقتص من ألبابنا وعقولنا ... فلم ندر هل ذاك النعاس أم السكر
معتقة من عهد عاد وجرهم ... ومودعها الادنان لقمان والنسر
مشعشعة صفرا كأن حبابها ... على فرش من عسجد ينثر الدر
إذا أفرغت في الكاس نعم وأختها ... تشابه من ثغريهما الريق والخمر
خلا أن ريق الثغر أشفى لمهجتي ... إذا ذاقه قلبي الشجي برد الجمر
وأنفع درياق لمن قتل الهوى ... فهات ارتشاف الثغران سمح الثغر
بهذا عرفنا الفرق ما بين كأسها ... وبين مدام الظلم إن أشكل الأمر
فوالله ما أسلو هواها على النوى ... بلى إن سلا بذل الندى الملك القسر
أبو حسن زيد المعالي والتقى ... له دون أملاك الورى المجد والفخر
إذا ما مشى بين الصفوف تزلزلت ... لهيبته الأملاك والعسكر المجر
وترجف ذات الصدع خوفا لبأسه ... فتندك أطواد الممالك والقفر
فلو قال للبحر المحيط ائت طائعا ... أتاه بإذن الله في الساعة البحر
كريم متى تنزل بأعتاب داره ... تجد ملكا يزهو به النهي والأمر
تجد ملكا يغني الوفود وينجز الوع ... ود وأدنى بذله الدهم والشقر
على جوده من وجهه ولسانه ... دليلان للوفد البشاشة والبشر
فما أحنف حلما وما حاتم بذي ... وما عنتر يوم الحقيقة ما عمرو
هو الملك الضحاك يوم نزاله ... إذا ما الجبان الوجه قطبه الكر
لقد قر طرف الدهر منه لأنه ... لديه النوال الحلو القضب المر
حياة وموت للموالي وللعدا ... لقد جمعنا في كفه الجبر والكسر
أنخ عنده يا طالب الرزق فالذي ... حواه أنوشروان في عينه النزر
ولا تصغ للعذال أذنا وإن وفوا ... بأحسابهم منهم فما العبد والحر
وهل يستوي عذب الفرات مروق ... وملح أجاج لا ولا التبن والتبر
فلو سمعت أذن العداة لمجده ... مزاياه لاستحيت ولكن بها وقر
مليك إليه الانتهاء وقيصر ... يقصر عنه بل وكسرى به كسر
مليك له عند الإله مكانة ... تبوأها من قبله الياس والخضر
مليك له سر خفي كأنما ... يناجيه بالغيب ابن داود والحبر
فإن كذبوا أعداء زيد فحسبه ... من الشاهد المقبول قصته البكر
ليالي إذ جاء الخصى واكثروا ... أقاويل غي ضاق ذرعا بها الصدر
فأيقظه من نومه بعد هجعة ... من الليل بيت زاد فخرا به الشعر
كأن لم يكن أمر وإن كان كائن ... لكان به أمر نفا ذلك الأمر
وفي طي هذا عبرة لأولي النهي ... وذكرى لمن كانت له فطنة نفر
فيا زيد قل للحاسدين تحفظوا ... بغيظكم أن لا يطيعكم الصبر
فمجدي كما قد تعلمون مؤثل ... وكل حمام البر يقنصها الصقر
من القوم أرباب المكارم والعلى ... ميامين في أيديهم العسر واليسر
مساميح في الأولى مصابيح في الدجى ... تصالح في معناهم الخير والشر(1/435)
أسنتهم في كل شرق ومغرب ... إذا وردت زرق وإن صدرت حمر
مساعير حرب والقنا متشاجر ... ويوم الندى تبدو حجا حجة غر
وليدهم دان الملوك لأمره ... تقول لبدر التم ما أنصف الشهر
بني حسن لا أبعد الله داركم ... ولا زال منهلا بأرجائها القطر
ولا زال صدر الدست منشرحا بكم ... فعنكم ولاة البيت ينشرح الصدر
وصلى على المختار والآل ربنا ... وسلم ما لاح السما كان والنسر
قلت وهذه قصيدة معمورة وقد ذكرها ابن معصوم في ترجمة الانسى فقال أجازه الشريف زيد عليها جائزة سنية النيل قلت كانت الجائزة على ما سمعته ألف ذهب وعبدا وفرسا والذهب الواحد عندهم بمثابة ثلث القرش في بلادنا وقد تعقبها ابن معصوم وأنا قد ذكرت في النفحة أجوبة التعقبات التي تعقبها فارجع إليها ثمة وقوله الانسى فيها
كأن لم يكن أمر وإن كان كائن ... لكان أمر نفى ذلك الأمر
لهذا البيت قصة محلها هنا وهو أنه لما كان أثناء سنة تسع وأربعين وألف وصل بشير الحبشي الطواشي المار الذكر في قدمة أولى له إلى مكة ومعه أوامر سلطانية من السلطان مراد بأنه مطلق التصرف وكان في ظنه أن يعزل الشريف زيدا من منصبه ويولى غيره فورد الخبر بوفاة السلطان مراد فشاع الخبر بينبع ثم كتمه بشير ليتم له ما أراد وكان الشريف زيد هيأ لبشير عدة أماكن من الدارس والبيوت وأمر بفرشها وكان نيته مواجهته إلى مر وأرسل بعض خدامه لينبع ليرى من مع بشير من الخيل والرجال فلما وصل إليها سمع هذا الخبر وتحققه فرجع مسرعا مجدا إلى الشريف زيد فلما تحقق صحة الخبر أمر بتحويل الفرش التي فرشت في تلك الأماكن وغلق بعضها ثم لما قارب بشير مكة خرج إليه الشريف زيد ولاقاه في سبيل الجوخي محل ملاقاة أمير الحاج فلما قابله وفي ظن بشير أن الخبر لم يبلغه وأنه يتم له ما أراد فلما تقاربا ركض الشريف زيد بفرسه مقبلا على بشير قائلا له رحم الله مولانا السلطان مراد فأسقط في يد بشير وبقي كالأسير وكان الشريف زيد قد رأى في المنام كأن شخصا ينشده هذا البيت كان لم يكن إلى آخر البيت فانتبه وكتبه بالسواك على رمل في صحن نحاس خشية النسيان وكانت هذه الرؤيا في الليلة التي أسفر صباحها عن هذا الخبر فنظم السيد أحمد صاحب الترجمة هذه القصيدة وأدرج فيها هذا البيت انتهى وكانت وفاة الشريف زيد في يوم الثلاثا لثلاث خلون من محرم سنة سبع وسبعين وألف ودفن بالمعلاة في قبة عم والده الشريف أبي طالب وأسف الناس عليه وقام بعده أصغر أولاده الشريف سعد كما ذكرنا ذلك مفصلا في ترجمة الشريف بركات فلا حاجة إلى الإعادة وكانت مدة ولاية صاحب الترجمة خمسا وثلاثين سنة وشهرا وأياما وكان متخلقا بالأخلاق الحميدة متصفا بالصفات الجميلة كثير الحلم والصبر والشفقة ولم يضبط عليه أنه قتل شخصا بغير حق في هذه المدة وكانت الأقطار في زمنه آمنة مطمئنة وكان أهل مكة ينذرون له النذور ويأتون بها إليه خصوصا بعد وفاته فإن العقيدة فيه أكثر وظهر أمره في العالم وقد رآه بعض الصالحين الثقات في المنام بعد وفاته وهو قائم على بعض آبار مكة وبيده دلو عظيم يملؤه من تلك البئر ويصبه في الأرض فقال له يا سيدي ما هذا أنا أحق به منك فقال له ما تقدر على ذلك أما ترى إلى هذه النار وأنا أطفيها ورآه بعضهم أيضا في بستان كبير وهو جالس متكئ وأمامه من الجهة الأخرى بحر عظيم وهو في غاية الصحة فتقدم إليه وقبل يديه وقال له يا سيدي خاطرك مع أولادك ومع الرعية فقال له أما أولادي فالله ورسوله معهم وما كان من الرعية فهم راضون عنهم وكان له من الولد سبعة من الذكور أحمد وحسين وناصر ماتوا في حياته وورثه أربعة حسن ومحمد يحيى وأحمد وسعد مرتبتهم في السن كرتبتهم في الذكر ومن الإناث عدة وأرخ وفاته الشيخ أحمد بن أبي القاسم الحلى بقوله
مات كهف الورى مليك ملوك الأر ... ض من لم يزل مدى الدهر محسن
فالمعالي قالت لنا أرخوه ... قد ثوى في الجنان زيد بن محسن(1/436)
زين بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد المعروف بجمل الليل صاحب المدينة المنورة أحد المشاهير بالكرم والباع الطويل في المعرفة واليقين ولد بمدينة روغة ونشأ بها ورباه جده السيد الكبير عقيل بن محمد با حسن وألزمه أحسن الطريقة وصحب العلماء وغاص معهم ثم رحل إلى تريم وأخذ عن جماعة ثم ارتحل إلى الديار الهندية فدخل بندر سورت وأخذ به عن شمس الشموس محمد ابن عبد الله العيدروس ثم حج في سنة سبع عشرة بعد الألف وعاد إلى تلك الديار ثم لما مات شيخه العيدروس اجتمع هو بالوزير الأشهر الملك عنبر فقابله بالإكرام وحظى عنده كثيرا وأحبه بعض الوزراء ثم رجع إلى الحرمين وصحب بهما جماعة وأخذ عنه جماعة وطابت له طيبة فاستوطنها ودانت له أهاليها وكان حسن الأخلاق معرضا عن الاكتراث بمفاخر الدنيا حليما إلى الغاية أجمع أصحابه أنه لم يغضب ولا دعا على أحد وأن تكلم فيه بقدح أو سبه ومما يحكى عنه أنه كان عادته الاغتسال للصبح كل يوم من إبريق معد لذلك فاتفق أنه كثر في بعض الليالي مرق العشاء فطرحه غلامه في ذلك الإبريق فلما أصبح ناوله الإبريق فاغتسل به فسأله عن ذلك فقال الغلام أنا الذي طرحته في الإبريق فلم يغضب ولم يعاقب الغلام وكان كثير البذل والولائم وكان لا يتميز بشيء عن ضيفانه ويساوي نفسه بخدمه وكان كثيرون يحضرون وليمته ولا يعرفون صورته وإذا اجتمع الفقراء تحت داره قسم الطعام عليهم بيده ولا يمكن من ذلك أحدا من عبيده ومن تواضعه أن جماعة من مشايخه أذنوا له في التحكيم والإلباس فلم يفعل ذلك إلا نادرا وبالجملة فقد عمت بركته أهل عصره وكان مع كثرة ما ينفقه من الأموال لا يعرف له معلوم ولا جهة ظاهرة فكان ينفق من الغيب وكان يتستر بالسلف والدين ولما سمع ذلك بعض وزراء الهند من محبيه أرسل له مركبا مشحونا لقضاء الدين الذي عليه ووصل المركب بندر جدة فكان في يوم وصوله قد استوفى أجله فتوفى وكانت وفاته في سادس ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وألف ودفن بالبقيع بالقرب من قبة أهل البيت وقبره معروف يزار رحمه الله تعالى زين بن عمر بن عبد الرحمن بن علي بن عبد الله بن محمد بن عبد الله الحديلي بن محمد ابن حسن الطويل ابن محمد بن عبد الله بن الفقيه أحمد بن عبد الرحمن بن علوي بن محمد صاحب مرابط اليمني الإمام العالم العلم أحد فصحاء العلماء ولد بمدينة تريم سنة ثلاثين وألف وحفظ القرآن والجزرية والعقيدة الغزالية والأربعين النووية والإرشاد والقطر والملحة وغير ذلك وكان في الحفظ آية غريب الضبط للألفاظ قال الشلى في ترجمته وكان رفيقي في الطلب أخذ الفقه عن شيخنا عبد الله بن أبي بكر الخطيب وشيخنا عبد الله بن زين بافقيه وأخذ العربية عنهم وقرأ الحديث على شيخنا أبي بكر بن عبد الرحمن بن شهاب وشيخنا أحمد بن عمر البيتي ولكن غلب عليه الفقه وكان له عناية تامة بالإرشاد ثم ارتحل إلى الهند واجتمع فيها بخال كان له هناك فأكرمه ولما مات خاله تعب تعبا شديدا في الغربة فرجع قافلا إلى وطنه فلم يجد حظه فخرج من ديار حضرموت إلى اليمن وتدير بندر المخا وورد علينا بمكة سنة ثمان وثمانين وألف فوجدته محافظا على الصحبة ولم يزل سالكا سبيل النجاة حتى توفى بالمخا وكانت وفاته في سنة تسع وثمانين وألف رحمه الله تعالى زين بن محمد بن علي بن زين بن علي بن علوي خردا بن محمد حميدان ابن عبد الرحمن ابن محمد بن الشيخ الولي عبد الله باعلوي السيد الإمام الفاضل صاحب الشان الرفيع ذكره الشلى وقال في ترجمته ولد بتريم وحفظ القرآن وصحب أكابر القوم منهم السيد محمد بن عقيل مديحج والسيد الكبير أبو بكر بن علي معلم خرد والسيد الكبير عبد الرحمن بن عقيل السقاف قرأ من الفقه ربع العبادات واعتنى بعلم التصوف وأحكم علم الباطن والحقائق وله كلام في علم الحقائق وكان منقطع القرين في الزهد ومعاملات القلوب مجاب الدعاء كبير القدر كثير الذكر والفكر كامل العناية حسن السمت وافر العقل خيرا رقيق القلب سريع الدمعة ماشيا على طريقة السلف من خشونة العيش واللباس وترك التكلف سليم الصدر حليما صبورا وأخذ عنه جماعة كثيرة من العارفين وصحبه جمع قال وهو شيخي في زمن الشباب ولم يزل مواظبا على حسن طريقته إلى أن مات في سنة تسع وأربعين وألف ودفن بمقبرة زنبل رحمه الله تعالى(1/437)
زين بن محمد بن أحمد الوترية ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الله الديلي وتتمة النسب مذكورة في ترجمة زين بن عمر المذكور قبل الذي قبل هذا الشيخ الكامل الفائق الأوصاف ذكره الشلى أيضا وقال في ترجمته ولد بتريم وحفظ القرآن واشتغل حتى برع في علم النحو والتصريف وأخذ بوطنه عن خلق كثير من أجلهم الشيخ الكبير عبد الله بن أحمد العيدروس ولازمه حتى تخرج به وكان يحبه ويثني عليه وصحب والده محمد بن أحمد الشلى الكبير والشيخ عبد الرحمن السقاف ابن محمد العيدروس والشيخ عبد الرحمن بن محمد إمام السقاف ثم رحل إلى كثير من الأقطار ودخل بندر عدن وأخذ عن جماعة من العارفين ورحل إلى الوهط وأخذ عن العارف بالله عبد الله بن علي وحج وأخذ بمكة عن الزمزمي وعبد الله بن سعيد باقشير والشيخ محمد بن عبد المنعم الطائفي وأخذ الطريقة عن الشيخ عبد الهادي باليل وبالمدينة عن القشاشي ولبس منه الخرقة وأخذ عن الشيخ زين بن عبد الله باحسن والشيخ محمد بن علوي ولبس الخرقة منه أيضا ومن الشيخ عبد الله بن أحمد العيدروس ورحل إلى الهند فأخذ عن السيد جعفر الصادق وعن جماعة من الحفاظ واعتنى وتقدم بحسن ذكائه وذوقه ولحق درجة من هو فوقه وكان له اعتناء بعلم النحو واللغة وضبط الألفاظ وكان كريما حسن الأخلاق صبورا محتملا للأذى محكما أمر دينه ودنياه ذا رأي رصين وعقل وافر وانتفع به جماعة من أهل عصره ولم يشتهر أحد من أقرانه اشتهاره وكانت وفاته ببندر المحاسنة اثنتين وسبعين وألف زين الدي بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي الشافعي الحلبي المعروف بالاشعافي نزيل دمشق الفاضل الأديب العروضي السائر ذكره ولد بحلب ونشأ بها وأخذ عن جماعة ولما دخل البهاء الحارثي العاملي حلب أخذ عنه وبرع في عدة فنون وألف وصنف ومن جملة تأليفاته شرح على الشفا وله رسائل في العروض كثيرة منها بل الظيل في علم الخليل وعمدة النبيل ورسالة بين فيها عروض أبيات من شواهد النحو سها فيها العلامة العيني في مختصر شرح الشواهد سماها التنبيهات الزينية على الغفلات العينية قال في ديباجتها وكنت أولا أنسب ذلك إلى تحريف النساخ إلى أن وقفت على نسخة قرئت عليه وكتب خطه في مواضع منها وفي آخرها إجازة بخطه فتصفحتها فإذا هي مشتملة على ما في النسخ مما هو خلاف الصواب وولى نظر المدرسة الطرنطائية داخل باب الملك بحلب وتعرف الآن بالأويسية لسكن الطائفة الأويسية بها ثم خرج إلى الروم ومكث بها ثم دخل دمشق واستقر بها وانتفع به كثير من أهلها في العروض وغيره وذكره البديعي في ذكرى حبيب وقال في وصفه وكان له مذاكرة تأخذ بلب الصاحب ومحاضرات ترغب عن محاضرات الراغب ورقة طيع تملك زمام قياده لكل ريم وتهيمه لكل وليد يراه هيمانه بنسيم وله شعر نضير منه قوله
كتبت وأفكاري بحقك مزقت ... كما قد بدت في الحب كل ممزق
ولو حم لي التوفيق كنت تركته ... ولكنني أصبحت غير موفق
إذا قيل أشقى الناس من بات ذا هوى ... فلا تنكرن هذا المقال وصدق
وهذا كقول الآخر
سألتها عن فؤادي أين مسكنه ... فإنه ضل عني عند مسراها
قالت لدي قلوب جمة جمعت ... فأيها أنت تبغي قلت أشقاها
وكتب لبعض أصحابه يعزيه عن نعل له ضاعت
تعز أخي إن كنت ممن له عقل ... ولا تبد أحزانا إذا ذهبت نعل
ولا تعتب الدهر الخؤون فدأبه ... لعقد اجتماع الشمل دون الورى حل
لحى الله دهرا لا يزال مولعا ... بتكدير صفو العيش ممن له فضل
يفرق حتى شمل رجل ونعلها ... أشد فراق لا يرى بعده شمل
فما شئت فاصنع ما اللبيب بجازع ... ولا تارك صفوا ولو زلت النعل
بحقك قم نسعى إلى الراح سحرة ... نجدد أفراحا لكل صدا تجلو
إلى دار لذات وروض مسرة ... لرحب فناها من غصون المنى ظل(1/438)
وقد أورد له هذه الأبيات الخفاجي في ترجمته وذكر معارضات وقعت لها في هذا الخصوص وقد ترجمه الشهاب ترجمة لطيفة وكان في سنة خمس وثلاثين وألف موجودا في الحياة فإني قرأت بخطه في آخر رسالة التنبيهات أنه فرغ من كتابتها يوم الأحد ثاني عشرى صفر سنة خمس وثلاثين وألف ثم أخبرني بعض الحلبيين ممن يعرفه أنه توفى في حدود سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين بعد الألف والله أعلم زين الدين بن حسين بن الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بن الحاج بافضل التريمي قال الشلى في ترجمته شيخ مشايخنا الإمام المشهور ذو الأحوال الشهيرة ولد بمدينة تريم ونشأ بها وحفظ القرآن وغيره واشتغل في أنواع العلوم أخذ الفقه عن الشيخ محمد بن اسمعيل بافضل والسيد عبد الرحمن بن شهاب الدين وغيرهما وتصوف على والده حسين وسمع منه ولازمه حتى تخرج به وأخذ عن السيد الجليل عمر بن عبد الله العيدروس ولبس منه الخرقة وجد في الاشتغال حتى صار أوحد زمانه وانتصب للإقراء والتدريس وانتفاع الناس وبرع في العلوم وتميز وطار اسمه واشتهر ورحل الناس إليه للأخذ عنه وأثنى عليه فضلاء عصره طبقة بعد طبقة وممن انتفع به الإمام زين العابدين والسيد علوي بن عبد الله وشيخنا سقاف بن محمد العيدروسيون وسيدي الوالد وشيخنا أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين وغير هؤلاء وأكثر علماء تريم الذين أدركناهم بها من طلبته وكانت سيرته أحسن سيرة قويا من عنف لينا من ضعف لا تأخذه في الله لومة لائم مهابا أمره كله جد لا يكاد يرى ليلا أو نهارا في غير عمل صالح وهو لعمري جدير بكل نعت جميل وثناء حسن ومناقبه مشهورة وترجمه تلميذه السيد شيخ بن عبد الله العيدروس في السلسلة وقال كان متفننا في جميع العلوم مستشارا في المعضلات واحد عصره وأوانه وكان فيه خمس خلال مع خمس قل أن تجتمع في أحد تواضع مع شرف وهمة مع فقر ووفور عقل مع سلامة صدر وفقه مع تصوف ورقة طبع مع صلابة دين وكانت وفاته في سنة ست وعشرين وألف وعمره نحو السبعين زين الدين بن محمد بن حسن بن زين الدين الشهيد الشامي العاملي تقدم ذكر جده وزين الدين هذا أحد فضلاء الزمان ذكره صاحب السلافة وقال في ترجمته زين الأئمة وفاضل الأمه وملث غمام الفضل وكاشف الغمه شرح الله صدره للعلوم شرحا وبنى له من رفيع الذكر في الدارين صرحا إلى زهد أسس بنيانه على تقوى وصلاح آهل به ربعه فما أقوى وآداب تحمر خدود الورد من أنفاسها خجلا وشيم أوضح بها غوامض مكارم الأخلاق وجلا رأيته بمكة والفلاح يشرق من محياه وطيب الأعراق يفوح من نشر رياه وما طالت مجاورته بها حتى وافاه الأجل وانتقل من جوار حرم الله إلى جوار الله عز وجل وله شعر خلب به العقول وسحر وحسدت رقته أنفاس نسيم السحر ثم أنشد له قوله من قصيدة في المدح مطلعها
شام برقا لاح بالا برق وهنا ... فصبا شوقا إلى الجزع وحنا
وجرى ذكر أثيلات النقا ... فشكى من لاعج الوجد وأنا
دنف قد عاقه صرف الردى ... وخطوب الدهر عما يتمنى
شفه الشوق إلى بان اللوى ... فغدا منهمل الدمع معنى
أسلمته للردى أيدي الأسى ... عند ما أحسن بالأيام ظنا
طالما أمل المام الكرى ... طمعا في زورة الطيف وأنى
كلما جن الدجى حن إلى ... زمن الوصل فأبدى ما أجنا
وإذا هب نسيم من ربا ... حاجر أهدى له سقما وحزنا
يا عريبا بالحمى لولاكم ... ما صبا قلبي إلى ربع ومغنى
كان لي صبر فأوهاه النوى ... بعدكم يا جيرة الحي وأفنى
قاتل الله النوى كم قرحت ... كبدا من ألم الشوق وجفنا
كدرت مورد لذاتي وما ... تركت لي من جميل الصبر ركنا
قطعت أفلاذ قلبي والحشا ... وكستني من جليل السقم وهنا
فإلى كم أشتكي جور الهوى ... وأقاسي من هوى ليلى ولبنى
قد صحا قلبي من سكر الهوى ... بعد ما أزعجه السكر وعى
ونهاني عن هوى الغيد النهى ... وحباني الشيب إحسانا وحسنا
وتفرغت إلى مدح فتى ... سنة المعروف والافضال سنا(1/439)
وله من قصيدة أخرى مستهلها
سئمت لفرط تنقلي البيداء ... وشكت لعظم ترحلي الانضاء
ما إن أرى في الدهر غير مودع ... خلا وتوديع الخليل عناء
أبلى النوى جلدي وأوقد في الحشا ... نيران وجد ما لها إطفاء
فقدت لطول البين عيني ماءها ... فبكاؤها بدل الدموع دماء
فارقت أوطاني وأهل مودتي ... وحبائبا غيدا لهن وفاء
من كل مائسة القوام إذا بدت ... لجمال بهجتها تغار ذكاء
ما أسفرت والليل مرخ ستره ... إلا تهتك دونها الظلماء
ترمى القلوب بأسهم تصمى وما ... لجراحهن سوى الوصال دواء
شمس تغار لها الشموس مضيئة ... ولها قلوب العاشقين سماء
هيفاء تختلس العقول إذا رنت ... فكأنما لحظاتها الصهباء
ومعاشر ما شان صدق ولائهم ... نقض العهود ولا الوداد مراء
ما كنت أحسب قبل يوم فراقهم ... أن سوف يقضى بعد ذاك بقاء
فسقى ربي وادي دمشق وجادها ... من هاطل المزن الملث حياء
فيها أهيل مودتي وبتربها ... لجليل وجدي والسقام شفاء
ورعى ليالينا التي في ظلها ... سلفت ومقلة دهرنا عمياء
أترى الزمان يجود لي بابايها ... ويباح لي بعد البعاد لقاء
فإلى متى يا دهر تصدع بالنوى ... أعشار قلب ما لهن قواء
وتسومني فيك المقام بذلة ... ولهمتي عما تسوم إباء
فأجابني لولا التغرب ما ارتقى ... رتب المعالي قبلك الآباء
فاصبر على مر الخطوب فإنما ... من دون كل مسرة ضراء
واترك تذكرك الشآم فإنما ... دون الشآم وأهلها بيداء
وبالجملة فهو شاعر متفوق وشعره يدل على قوة طبعه وصمادة فكره وكانت وفاته في سنة اثنتين وستين وألف زين العابدين بن أبي الجود الحنفي الدمشقي كان في ابتداء أمره ممن جد واجتهد في التحصيل حتى برع وقرأ الكثير وضبط وأكثر تخرجه بالشيخ محمد بن علي الحرفوشي الحريري وكان يصاحبه ويطارحه كثيرا وجمع كتبا كثيرة وكان له رواية واسعة في أخبار السلف وماجرياتهم لكن ربما نسب في بعضها إلى الكذب وغلب عليه في آخر عمره الكيف حتى استغرق وربما كان يمر في طريق من الطرقات فيغلب عليه نعاس الكيف فينام وهو قائم على قدميه فلا يفيق إلا بعد زمان طويل وكان كثير من السراق يترقبون نعسته وهو في مكان منفرد فيأخذون شيئا من ملبسه وكان فيه تساهل في أمر الدين وسمعت من لفظه مرارا وقد ذكر له صديق كان يألفه وكان من أهل الأهواء ثم سئل عن سبب الاتحاد بينهما فقال لم يكن ثمة علة إلا الإلحاد وبالجملة فإنه كان ابن وقته يتصرف في مجلسه كيف شاء وعمر ونادم أعيان الفضلاء والكبراء وصلح حاله آخرا بعض الصلاح وكانت وفاته في أوائل سنة خمس وثمانين وألف عن اثنتين وسبعين سنة ودفن بمقبرة باب الفراديس زين العابدين بن زكريا بن محمد بن محمد بن عبد الله بن مفرج الغزى العامري الدمشقي الفقيه الفرضي الشافعي وقد تقدم تمام نسبه في ترجمة عمه أبي الطيب وكان زين العابدين هذا من فضلاء وقته وله التفوق في علمي الفرائض والحساب أخذ عن عمه النجم الغزى وعن غيره وكان عمه المذكور مع تبحره في العلوم ومكانته التي ظهرت فيها كثير المراجعة له فيما يتعلق بالفرائص ولما مات والده زكريا كان إماما بالجامع الأموي فوجهت إليه وهي الآن باقية في أولاده وكان للناس فيه اعتقاد وهو محله لما كان فيه من الصلاح واجتناب ما لا يعنيه واعتنائه بأمور الشريعة وبالجلة فهؤلاء بيت مبارك وكلهم صلحاء أتقياء وهذا من وجوههم وكانت ولادته في سنة ثمان عشرة بعد الألف وتوفى في خامس رجب سنة اثنتين وستين وألف ودفن بمقبرة أجداده بني الغزى في تربة الشيخ أرسلان رحمه الله تعالى(1/440)
زين العابدين بن عبد الرؤف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين بن يحيى ابن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن مخلوف بن عبد السلام الحدادي ثم المناوى القاهري الشافعي العارف بالله تعالى الأستاذ الكبير ولد الإمام الكبير المناوى شارح الجامع الصغير الأتي ذكره إن شاء الله تعالى وكان زين العابدين هذا عالما متعبدا ورعا خاشعا نشأ في حجر والده وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين وعدة متون وهو ابن عشر منها الزبد لابن أرسلان والتحفة الوردية في النحو وكتاب الإرشاد في النحو للسعد التفتازاني وغيرها وعرضها على مشايخ عصره كالشمس محمد الرملي ثم بعد وفاة الرملي انتقل إلى الشهاب أحمد الشربيني الخطيب والشيخ حراز الغمري واشتغل بعلم العربية على الشيخ عبد الكريم البولاقي وبالأصول على الشمس محمد الماموني وألتى برمق وعرب زاده قاضي مصر وأخذ التفسير والحديث والجفر والمواليد والحساب والهندسة عن العلامة علي بن غانم المقدسي والحديث عن الحافظين أبي النجا سالم السنهوري والشهاب أحمد المتبولي وعن القاضي بدر الدين القرافي المالكي وأجازه كل منهم بمروياته ثم سلك طريق التصوف فأخذ طريق الخلوتية عن جماعة منهم الشيخ صالح محمد تركي الخلوتي وشيخ الطريق أحمد العجمي والشيخ خطر الخواطري العجمي والشيخ عبد الله الرومي والشيخ محمد اليوناني والشيخ محرم الرومي وغيرهم ثم لازم الخلوة واشتغل حتى صار لا يرى إلا مصليا أو ذاكرا ويقوم الليل كله حتى ظهرت عليه خوارق وأحوال كثيرة وانتفع به على صغر سنه جماعة وكان من اللين وسعة الصدر والاحتمال على جانب عظيم وكان يرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ورده وكان في ابتداء أمره أرسله والده لمصلحة وهو مراهق فمر بابن العظمة الآتي ذكره وهو لا يعرفه فناداه يا زين العابدين فتقدم إليه فوضع في فيه قلب خس وقال اذهب فقد خصصناك وكانت الأرواح تألفه والأولياء تعرفه ويدخلون عليه ليلافي محله من خلال من خلال الشبابيك ويجلسون معه ويخبرونه بأمور لا تتخلف من جملتهم الشيخ شاه ولى العجمي كان يدخل كثيرا من الشباك ويتعشى معه واجتمع بالقطب مرارا وكان في ابتداء أمره يرى أنوارا ويسمع كلاما وأخبارا فتارة يرى كنور القمر وتارة كنور الشمس وتارة فتائل وقناديل ورؤس شمع موقودة به تسقط عليه ويرى منامات عالية المقدار ومن خوارقه أن الإمام الشافعي كان يخاطبه من قبره وكان في بعض الأحيان يخرج يده من القبر ويضع له في يده شيئا قال وما زرته يوما إلا ورأيت عند قبته نهرين على أحدهما حمامة بيضاء وعلى الآخر حمامة خضراء وكان يرى جده الشرف يحيى المناوى وهو جالس في قبره وعليه ثياب سود وهو يكلمه ويباسطه ويدعو له وحدث الحمصاني وهو أحد المشايخ قال رأيت طعيمة الصعيدي المصري وهو من كبار الأولياء في عالم الأرواح وأمامه إنسان كالنور أو نور كالإنسان قلت ما هذا قال زين العابدين المناوى قد وكل بأهل البرزخ وله تآليف كثيرة منها شرح على تائية ابن الفارض وشرح المشاهد لابن عربي وله حاشية على شرح المنهاج للجلال المحلى وشرح على الأزهرية وجمع فتاوى جده شيخ الإسلام يحيى المناوى وجرد حاشية جده المذكور على شرح البهجه للعراقي وحاشيته على الروض الأنف للسهيلي وله عدة رسائل منها ما كمل ومنها ما لم يكمل وأخباره وكراماته كثيرة وكانت وفاته صبيحة يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وألف ولم يمرض بل شكى بعد تناول الطعام ودخل فراشه إلى الفجر ثم توضأ وصلى فقضى عليه وصلى عليه جمع حافل بجامع الأزهر يوم الأربعاء ودفن بين الوليين العارفين الشيخ أحمد الزاهد والشيخ مدين الاشموني وقال الشيخ على العاملي أحد عدول محكمة باب الشعرية في تاريخ وفاته
مات الإمام العالم المتقي ... العابد الزاهد عين الزمان
من كان زين العابدين الذي ... حاز المعاني ببديع البيان
فرحمة الله على روحه ... وذاته ما أشرق النيران
ومذ توفى صح تاريخه ... أمسى المناوى خالدا بالجنان
وقال أيضا
لقد توفى الحبر بحر التقى ... اللوذعي العمدة الفاضل
لما توفى جاء تاريخه ... مات الولي العارف الكامل
والحدادي والمناوى سيأتي الكلام عليهما في ترجمة والده عبد الرؤف(1/441)
زين العابدين بن عبد القادر الطبري الحسيني المكي الشافعي إمام المقام الإبراهيمي الإمام ابن الإمام مولده بمكة ليلة ثامن عشر ذي الحجة سنة اثنتين بعد الألف كما وجد ذلك بخط والده ونشأ وحفظ القرآن وأخذ عن والده وعن أكابر شيوخ الحرمين منهم الشيخ عبد الواحد الحصاري المعمر الذي ولد في مستهل رجب سنة عشر وتسعمائة وأجاز صاحب الترجمة مشافهة بمكة ختام عام إحدى عشرة بعد الألف وأجازه جل شيوخه وعنه أخذ السيد محمد الشلى باعلوى وشيخنا الحسن ابن علي العجيمي المكي فسح الله في أجله وغيرهما من الأفاضل وله شعر لطيف منه قوله
غارت بدور التم من كاعب ... هام بها المفستون بين الأنام
رنت بطرف فاتر ناعس ... يرشق من ألحاظه بالسهام
بديعة الشكل ولكنها ... بعيدة الوصل على المستهام
يود لو زار حماها على ... رغم العدا مختفيا في الظلام
هذا ورؤياه إلى وجها ... غاية يحظى به والسلام
وله معمى في حسام
وساق كبدر التم في غسق الدجى ... يدور بأكواب ويرقص كالغصن
فأفديه من ساق يما في سما البها ... عليه إذا ما دار تاج من الحسن
وبينه وبين القاضي تاج الدين المالكي المقدم ذكره وغيره من أفاضل المكيين مطارحات يطول ذكرها وكانت وفاته بمكة بعد شروق يوم الاثنين رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وألف ودفن بعد صلاة العصر بالمعلاة في تربة آبائه ونسب بني الطبري وشرفهم وقد بيتهم سيأتي في ترجمة والد صاحب الترجمة الإمام عبد القادر إذ هو أشهر هذا البيت من أبنائه المذكورين في كتابنا هذا والشهرة تقتضي مزيد الاعتناء والأفكار تنساق لنحو المشهور كثيرا ولم يتقدم منهم معنا إلا زين العابدين هذا وهو ليس من الشهرة بمحل والده والله أعلم زين العابدين بن محمد بن علي البكري الصديقي الشافعي الأستاذ العارف بالله تعالى قام مقام أبيه من بعده ودرس وأفتى وأفاد وكان في مصر مالك أزمة الوجاهة وسالك رتبة البراعة واليراعة وألف التآليف الحسنة الوضع واشهر ماله من المؤلفات رسالة الأترج وكان أخوه أبو السرور المقدم ذكره من العلماء إلا أنه لم يبلغ درجة زين العابدين في التصوف والتكلم بلسان المعرفة وروى أن والدهما الأستاذ الأعظم لما حضرته الوفاة قال لخادمة له نادى لي زين العابدين فذهبت ونادت أبا السرور فقال لها بعد أن خرج نادى لي زين العابدين فإنك إذا ناديته ولم تنادى أحدا غيره فأنت حرة فذهبت ونادت زين العابدين قالت فلما دخل على والده قال له اجلس وأملى عليه شيئا ثم قال له فهمت فهمت قال نعم قال قم الآن فلما توفى والده ظهر بما ظهر به من المعارف والحقائق وذهب كثير من أهل مصر وغيرهم إلى أن بدايته كانت نهاية أبيه وقد أخذ العلم عن والده وغيره وشيخه المختص بتعليمه الشيخ بدر الدين البرديني وتأخرت وفاته عنه وانتهت إليه الرياسة بالاستحقاق الذاتي وكان عالما بارعا في العربية والتفسير وعلوم البلاغة وله شعر لطيف سائغ فمنه قوله
محب لحر الوجه في الترب مرغا ... وصب من الأجفان حقا تفرغا
أماط الهوى عنه نقاب سلوه ... وأرخى عليه ستر ليلا وأسبغا
فيا حاديا ركب الملاح ترفقا ... وقصانباه عند سعدى وبلغا
وقولا رأينا من تعد ضلوعه ... غراما ومن نال الضنى منه مبلغا
وقوله
ومجلس لذة أمسى وجيها ... يضئ كأنه بدر منير
تجمع فيه مشموم وراح ... وأوتار وولدان وحور
تجمعت الحواس الخمس فيه ... بخمس يستتم بها السرور
فكان الضم قسم اللمس فيه ... وقسم الذوق كاسات تدور
وللسمع الأغاني والغواني ... لأعيننا وللشم البخور
وقوله في القهوة
أن تشرب القهوة في حانها ... فاللطف قد حف بندمانها
حان حكى الجنة في بسطها ... برقة العيش وإخوانها
بمائها نغسل أكدارنا ... ونحرق الهم بنيرانها
لا هم يبقى لا ولا غم إذ ... قابلك الساقي بفنجانها(1/442)
يقول من أبصر كانونها ... أف على الخمر وأدنانها
شراب أهل الله فيها الشفا ... جواب من يسأل عن شانها
وقوله فيها أيضا
اسقنا قهوة غدافية اللو ... ن حلالا تفرج الهم عنا
وأدرها من خالص البن صرفا ... لا تشب حسنها بغير فتنا
واتبع قول أشرف الرسل حقا ... قال قولا من غشنا ليس منا
وذكره الخفاجي فقال في وصفه تعاطى حرفة الزهاده وفتح حانوت السجاده وادعى الكرامات وقص منامات لها الكرى مات ومما اتفق له أن الناس خرجوا للدعاء بالاستسقا وقد رعى القحط البلاد فلم يدع ثمرا ولا ورقا والجو بالغمام مطيق وجفن السحب بدمع القطر مغرق فلما دعا تجلى وعبس ونولى فقمت على ساق الارتجال وأنشدت أصحابي في الحال
وولى قطب لرب السماء ... أسرع الصحو إذ دعا بالماء
في صراخ وأدمع هو يغنى ... عن رعود منهلة الأنواء
فكأن السحاب كان مريضا ... مات لما دعا بالاستسقاء
انتهى قلت ذكره بهذا الأسلوب من الشهاب اسمج السمج والحامل له على ذلك الحسد لتصور ما كان عليه المترجم من الإقبال وإلا فالشهاب ليس من أقرانه بحسب الوجود أما في حياة المترجم فمعلوم ضرورة أن الخفاجي كان إذ ذاك في ابتداء طلوعه وغضارته وليس بالمشار إليه في أمر وأما بعد وفاته موته فإنه وإن ولى قضاء مصر لكنه لم يبلغ بعض ما بلغ ذاك من الحرمة والهيبة وأنى له ولو سلم هذا فما المقتضى لحسد رجل فات وولعت به أيدي الآفات وما ذكره وقع قريبا في بلدتنا دمشق ما يشبهه وذلك أنهم خرجوا يستسقون فلم يسقوا واتفق في ذلك اليوم مجيء مظلمة سلطانية فقال في ذلك شيخنا الشيخ عبد الغني النابلسي
خرجوا ليستسقوا الغداة فأمطروا ... سحب الجرائم من سما الحكام
ودعوا فحين تصعدت أنفاسهم ... ردت منكسة من الآثام
ولو استقاموا في الأمور تتابعت ... نعم الإله ومنة الإسلام
إن السهام إذا تعوج نصلها ... عادت فأثر عودها بالرامي
عودا وبلغ صاحب الترجمة في آخر أمره من الجلالة ونفوذ الكلمة مبلغا ليس لأحد وراءه مطمع حتى خشيه حكام مصر وكانوا يدارونه ويتوقعون رضاه إلى أن ولى قضاء مصر المولى عبد الوهاب الآتي ذكره فوقع بينهما في شيء فعرض فيه إلى الأبواب السلطانية فلما كان يوم الأحد ثالث شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وألف طلع إلى إبراهيم باشا بعد العصر على عادته فأحضر السماط ثم القهوة فلما أكلوا وشربوا خر زين العابدين مغشيا عليه وحمل إلى بيته فمات هذا هو المستفيض على ألسنة المؤرخين وروى بعضهم أن موته كان خنقا أو غيره وأنه طرح على باب قلعة الجبل واشتهر ذلك في دمشق فبنى عبد الحق بن محمد الحجازي الدمشقي قوله في رثائه عليه وأبياته هي هذه
لم يهدموا أركان مصر وإنما ... هدموا بقتلك قبة الإسلام
وتناوشتك يد الكلاب وطالما ... خضعت لعزك صولة الضرغام
فسقى ثراك سحابة قدسية ... تهمى عليك برحمة وسلام
ولم يبق إبراهيم باشا بعده إلا أياما قليلة حتى وقع بينه وبين عساكر مصر فقتلوه وحملوا رأسه على رمح وطوفوا به مصر كما تقدم في ترجمته وعوقب بذلك على الجراءة على قتله صاحب الترجمة والله أعلم(1/443)
زين العابدين بن محيي الدين بن ولي الدين بن جمال الدين يوسف بن زكريا أبي يحيى بن محمد الأنصاري السنيكي الشافعي الإمام الفاضل العالم العامل كان أحد عباد الله تعالى الصالحين والأجلاء المعتقدين المخصوصين بالأخلاق الرضية والشمايل البهية المرضية ولد بمصر ضحى يوم الخميس خامس شهر ربيع الأول سنة إحدى وألف وبها نشأ وحفظ القرآن وتلاه بالتجويد واعتنى به قراءة وفهما وكتابة ورسما واشتغل في عنفوان شبابه بالطلب وأخذ عن والده ولازم أكابر شيوخ عصره وشارك الشبراملسى في كثير من شيوخه ثم لازمه ملازمة الجفن للعين وكان الشبراملسى يحبه ويثنى عليه ويعظمه في جميع شؤونه حتى توفى في حياة الشبراملسى فجزع عليه وكاد أن يشق ثوبه عليه لكونه خدنه وصديقه وخليله ورفيقه وقد ألف مؤلفات كثيرة شهيرة منها حاشية على شرح الجزرية لجده شيخ الإسلام القاضي زكريا في نحو عشرين كراسة وشرح على رسالة جده المذكور المسماة بالفتوحات الإلهية سماه المنح الربانية وكانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة ثمان وستين وألف بمصر ودفن بالقرافة بالقرب من تربة الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه على أبيه وجده والسيكى بضم السين المهملة وفتح النون وإسكان الياء المثناة وآخر الحروف كاف نسبة لسنيكة بتاء التأنيث بليدة من شرقي مصر ولد بها جده القاضي زكريا رحمه الله تعالى زين العابدين الصفدي الفقيه الحنفي كان من فضلاء زمانه قدم دمشق في عنفوان عمره واشتغل بها على علماء ذلك العصر وحصل فضلا باهرا ثم رحل إلى بلدته صفد وأقام بها وولى إفتاء الحنفية مدة ودرس وأفاد واشتهر صيته وكان ذا همة عالية ومكارم أخلاق وأصله من قرية كفرمندا من ضواحي صفد وكانت وفاته في سنة أربعين وألف تقريبا
حرف السين المهملة
السيد سالم بن أبي بكر بن سالم بن أحمد بن شيخان بن علي بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله عبود بن علي بن محمد مولى الدويلة السيد الصفي الحسيني تقدم أبوه أبو بكر ويأتي جده بعد وهذا ولد بمكة وبها نشأ وحفظ القرآن واشتغل بفنون العلوم وأخذ عن والده شيئا كثيرا ولازم الشيخ علي ابن الجمال وعبد الله ابن سعيد باقشير والسيد الجليل محمد بن أبي بكر الشلى باعلوى والشيخ عبد الله ابن الظاهر العباسي وغيرهم وأجازه عامة شيوخه وأخذ عن الوافدين إلى مكة كالشمس البابلي ومنصور الطوخي وغيرهما وله أشعار كثيرة منها قوله من قصيدة عارض بها كافية البهاء الحارثي
فاح عرف الشميم من ناديك ... يا زعيما على الأنام مليك
كل يوم وفي القلوب لظى ... من تجنبك هل ترى يرضيك
يا رعى الله جمعنا وسقى ... منزل اللهو والخلاعة فيك
يو عيش الشباب لي نضر ... وزماني سمح فلا نشكيك
أي صبر يكون لي ولقد ... عيل صبري بمهجتي أفديك
فإلى الله أشتكي أبدا ... سحر عينيك انها الفتيك
وقواما كأنه غضن بان ... سالب عقل ناظر نسيك
وحديثا كأنه نثر زهر ... قد أتاني معطرا من فيك
صاح هات المدام إن لها ... بيقين على الهموم دليك
واسقنيها ممزوجة بلمى ... ثغر حب ولا تقل بكفيك
واسقنيها فإنني شغف ... باحتساها معاند ناهيك
وتعطف على الحبيب عسى ... يسمح الدهر باللقا لاخيك
وابق واسلم ما الصب ينشدنا ... فاح عرف الشميم من ناديك
وكانت وفاته في حياة والده وهو شاب ظهر يوم الجمعة خامس عشرى المحرم سنة أربع وثمانين وألف وصلى عليه بعد العصر والده إماما بالناس بالمسجد الحرام في مشهد عظيم ودفن بحويطتهم بالمعلاة(1/444)
السيد سالم بن أحمد بن شيخان جد الذي قبله والد والده الأستاذ الباهر الطريقة العالم الكامل نادرة الزمان أفرد له والده العارف بالله تعالى أبو بكر ترجمة في رسالة قال ولد في السابع والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة خمس وتسعين وتسعمائة وكان تاريخ ظهور فيض الجمال ونشأ في طلب واجتهاد حتى حصل وقرأ كتاب الاحياء ثلاث مرات على الشيخ سعيد بابقى العالم الولي الآتي ذكره وصحب الشيخ أحمد الشناوي وأخذ عنه علوما جمة والطريق المسلسل ونشر كثيرا من العلوم والمعارف وانتفع به كثير من أرباب الذوق وصنف في فنون العلم الكتب والرسائل فمنها في علم التحقيق بلغة المريد وبغية المستفيد وتمشية أهل اليقين على ذائقة التمكين وهي رسالة مفيدة للشيخ عبد الكريم الجيلي والإعراب التام المسدد الجامع لتوحد قيام محمد الشافع وشرح أبيات للعفيف التلمساني البيت الأول منها قوله
إذا كنت بعد الصحو في المحو سيدا ... إماما مبين النعت بالذات مفردا
وشرح الجوهر الرابع والخامس من كتاب الجواهر الخمسة للسيد محمد غوث الله ابن خطير الدين أتم به شرح شيخه الشيخ أحمد الشناوي فإنه شرح الأول والثاني والثالث فقط واتفق له أنه قرأ هذا الكتاب أعني الجواهر على شيخه المذكور سبع مرات ومن مصنفاته جوامع كلم العلوم في الصلاة على مداوي الكلوم ونشر الإفاده بذكر الشهاده والسفر المستور للدارية في الذكر المنشور للولاية والأخبار والأنباء بشعار ذوي القربى الألباء وجبر الكلمة القاصمة بذكر الكلمة العاصمة والمقاصد العنديه بمشاهد النقشبنديه وشق الجيب في معرفة أهل الشهادة والغيب ومن مصنفاته في غريب العلوم مصباح السر اللامع بمفتاح الجفر الجامع وغرر البيان عن عمر الزمان والمشروط الأسمى الأسنى في شروط الأسماء الحسنة والعقد المنظوم في بعض ما تحتوي عليه الحروف من الخواص والعلوم وإيوان المقعد الحرفي وديوان المشهد الوصفي يتضمن ما يتعلق بالوفق المثلث ومرهم العطف ودرهم الصرف وإسفار الحالك في العمل بوتر ابن مالك وموائد الفضل الجامعة لبابا في موارد الرمل النافعة أحبابا والماء السلسال الرحيق الأصفى في التعليق بالأسماء التي اقتضت ربوبيتها تخليق الموجودات الإمكانية وما لها منزلة وحرفا وجل المغنم في حل الطلسم والبرهان المعروف في موازين الحروف ومنتهى الطلب في قسمة حروف الرتب على الكواكب السبعة والرأس والذنب والجدول العذب الأهنى من مشرب الأسماء الحسنى وعقد الحكم في ورد الاسم وعقد اللآلى الفخام في ورد الليالي والأيام والتحصينات الموانع بالدعوات الجوامع والتحبير في التسخير وله غير ذلك من المؤلفات مما يطول ذكره قلت وقد تيسر لي بحمد الله تعالى رواية جميع ما له من تأليف وأثر ينقل عنه رواية عامة عن ولده سيدنا ومولانا الأستاذ الكبير العظيم الشان المعمر البركة رونق قطر الحجاز السيد عمر أجازني بذلك مشافهة أيام مجاورتي في أواسط سنة مائة وألف وللسيد سالم أشعار كثيرة منها قصيدته التي قالها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم مطلعها
لك ذات العلوم والأسماء ... يا نبيا نوا به الأنبياء
ومن مقاطيعه قوله
ترآى بديع الحسن في صنع خلقه ... جميلا فظن المظهر الناظر القذى
وما هو إلا الله بالصنع بارز ... على صيغ التخليق في الظاهر الذي
وقوله
رمى العبد سهم الوهم من قوس حكمه ... فأدمى خيالا في منصاته السبع
وليس إذا حققت رام سوى الذي ... أتاك بطى النشر في الطبع والوضع
وقوله
كن ممسكا بالصوم عن كل السوى ... واذكر بفطرك من أتى معروفه
وبفاطر عن رؤية الأغيار صم ... من صام عند الله طاب خلوفه
وله دار الصفا من بحر الشفا وهي الوترية في مدح خير البرية وله صلوات على النبي عليه السلام وله غير ذلك ومحصل الكلام أنه أكثر أهل عصره فائدة ونفعا وكانت وفاته ضحوة يوم الأحد تاسع ذي القعدة سنة ست وأربعين وألف ودفن في عشيته على أبيه وجده بالمعلاة ولما دفن تمثل الولي العارف الشريف العلوي الحبشي بيت من الشعر وهو
حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفر
وجاء تاريخ وفاته صار إلى رحمة الله(1/445)
سالم بن حسن الشبشيري نزيل مصر الشافعي الإمام الحجة شيخ وقته أعلم أهل عصره كان في الفقه بحر الايجارى وفي بقية العلوم قدره مشهور أخذ الفقه عن الشمس الرملي وغيره من أكابر عصره وتكمل بالنور الزيادي ولازمه سنين عديدة وكان من أجل طلبته وممن فني في محبته وكان يطالع لجماعة الزيادي درسه على عادة مشايخ الأزهر أن أفضل الطلبة يطالع لطلبة الشيخ درسه مطالعة بحث وتحقيق حتى يأتوا إلى الشيخ وهم متهيؤون لما يلقيه وكانت جماعة الزيادي مع ما هم عليه من العلم والفهم الثاقب ملازمين لدروسه الفرعية وممن لازمه منهم الشمس الشوبري والنور الحلبي والشهاب القليوبي وعامر الشبراوي وخضر الشوبري وعبد البر الاجهوري ومحمد البابلي والنور الشبراملسى والشيخ سلطان المزاحي وكان يسميه وتد درسه ويفضله على شيخه الزيادي ويقول ما رأيت أفقه منه وكان آية من آيات الله تعالى في استحضار مسائل الفقه وتصويرها ومعرفة الفرق والجمع بينهما والإطلاع على النقول والإحاطة بالفروع والأصول وكان مع كونه فقيها خالصا من أكابر الأولياء له كرامات خارقة وأحوال باهرة منها ما حكاه النور الشبراملسى في درسه أنه طالع كتاب الغرور من الاحياء للغزالي فلما رأى ما قاله الغزالي في علماء عصره وما هم فيه من الغرور مع ما كان عليه أهل ذلك العصر من الخير أضمر في نفسه أن يتخلى للعبادة والصوم وقراءة القرآن وأن يترك القراءة على الشيوخ والاجتهاد في الطلب لأنه قد حصل ما يكفيه في اقلمة دينه ودنياه وكان إذ ذاك يحضر درس صاحب الترجمة فجاء ذلك اليوم إلى الدرس بغير مطالعة واشتغل سرا بقراءة القرآن بحيث لا يسمع أحدا من الحاضرين ولم يخبرهم بما أضمره في نفسه وإنما جاء إلى الدرس مراعاة لخاطر الشيخ لئلا يفتقده فيسأل عنه أو يأتي إليه فقال له صاحب الترجمة شفاها يا علي مالك اليوم ساكت فقال له يا سيدي ما طالعت فقال له يا علي الغزالي ما ألف المستصفى ما ألف الوجيز ما ألف كذا ما ألف كذا وعد مؤلفاته فقال له نعم يا سيدي فقال له كأنك اغتربت بكتاب الغرور من الاحياء لأبقيت تفعل هذا واطلب العلم واتق الله ما استطعت عسى الله أن يجعلك من المخلصين قال الشبراملسى فلما كاشفني بذلك رجعت لما كنت عليه من طلب العلم والاشتغال به وصرف أوقاتي في المطالعة وتركت ما كنت أضمرته في نفسي وأنبأني الشيخ عنه حتى كان من أمر الله ما كان والحمد لله وحده ولم يزل صاحب الترجمة منهمكا على بث العلم ونشره حتى توفى وكانت وفاته بمصر يوم السبت سابع عشرى ذي الحجة سنة تسع عشرة وألف حكى البشبيشي عن شيخه الشيخ سلطان أنه توفى في سنة ثمان عشرة وألف وصلى عليه بجامع الأزهر وكان الإمام بالناس في الصلاة عليه شيخه النور الزيادي ولم يجزع علماء على أحد من العلماء ما جزعوا عليه رحمه الله سالم بن محمد عز الدين بن محمد ناصر الدين ابن عز الدين بن ناصر الدين بن عز العرب أبو النجا السنهوري المصري المالكي الإمام الكبير المحدث الحجة الثبت خاتمة الحفاظ وكان أجل أهل عصره من غير مدافع وهو مفتي المالكية ورئيسهم واليه الرحلة من الآفاق في وقته واجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع في غيره مولده بسنهور وقدم إلى مصر وعمره إحدى عشر سنة وأخذ عن الإمام المسند النجم محمد بن أحمد بن علي بن أبي بكر الغيطي الاسكندري ثم المصري صاحب المعراج وعن الإمام الكبير الحجة الشمس محمد البنوفري المالكي وأدرك الناصر اللقاني وأخذ عنه الجم الغفير الذين لا يحصون من أهل مصر والشام والحرمين منهم البرهان اللقاني والنور الاجهوري والخير الرملي والشمس البابلي والشيخ سليمان البابلي ومن لازمه وسمع منه الأمهات الست كملا الشيخ عامر الشبراوي وله مؤلفات كثيرة منها حاشية على مختصر الشيخ خليل في الفقه وهي عزيزة الوجود لقلة اشتهارها وانتشارها ورسالة في ليلة النصف من شعبان وغيرهما وكانت وفاته في يوم الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة سنة خمس عشرة بعد الألف ودفن بمقبرة المجاورين وبلغ من العمر نحو السبعين وأرخ بعضهم وفاته بقوله
مات شيخ الحديث بل كل علم ... سالم ذو الكمال أفضل حبر
قلت من غير غاية لبكاء ... أرخوه قد مات عالم مصر(1/446)
سرور بن الحسين بن سنين الحلبي الشاعر المشهور كان أحد أفراد الزمان في النظم وله شعر بديع الصنعة مليح الأسلوب مفرغ في قالب الحسن والجودة ولما فارق وطنه بحلب وسارع إلى طرابلس الشام لمدح أمرائها بني سيفا والأمير محمد بينهم إذ ذاك مقصد كل شاعر وممدوح كل ناطق أكرم مثواه وأحسن قراه فبغضه شعراء الأمير الموجودون عنده والمقربون إليه وذلك لإقبال الأمير عليه وركبوا كل صعب وذلول في سبه حتى خاطب الأمير حسن بن الجزري المقدم ذكره بقوله معرضا بسرور
وحقك ما تركتك عن ملال ... وبغض أيها المولى الأمير
ولكن مذ ألفت الحزن قدما ... انفت مواطنا فيها سرور
ولم يزل في تلك الغربة إلى أن قضى وما قضى وطره ومدائحه في بني سيفا غاية ومن جيدها قصيدته الرائية التي قالها في مدح الأمير محمد ومستهلها
خلا ربع أنسى بعدكم فهو مقفر ... وأعوزني حتى البكا والتصبر
وقد كنت عما يسهر العين غافلا ... فعلمني حبيكم كيف أسهر
ووالله ربي ما تغيرت بعدكم ... وإن رابكم جسماني المتغير
عدمت اختياري والحوادث جمة ... وهل بيد الإنسان ما يتخير
تذكرتكم والعين تهمى دموعها ... وأي دموع لم يهجها التذكر
وليست كما ظن الغبي مدامعا ... ولكنها نفس تذوب فتقطر
أخذ الأخير من قول بشار
وليس الذي يجري من العين ماؤها ... ولكنها روح تذوب فتقطر
وقد أخذه المتنبي فحسنه بقوله
أشاروا بتسليم فجدنا بأنفس ... تسيل من الآماق والسم أدمع
وقد تداول الشعراء هذا المعنى كثيرا ولو جمعت ما قيل فيه لناف على خمسمائة بيت تتمة الرائية
لعل ليال سامحتني بقربكم ... تعاد فتنهى في البعاد وتأمر
هناك أجزى الدهر عن حسن فعله ... واصفح عن ذنب الزمان وأغفر
بكم روضت داري وعزت وأشرقت ... فأنتم لها بحر وبدر وقسور
بحيث التصابي كان سهلا جنابه ... بكم وشبابي أبيض العيش أخضر
ومنها في المديح
أءكفر إحسان ابن سيفا محمد ... فذلك ذنب ليس عنه مكفر
متى وردت جدوى الأمير بنا المنى ... شربنا بحر صفوه لا يكدر
كثير سخاه الكف تحسب جنة ... تفجر فيها من عطاياه كوثر
ومن نعمة قد أودعت قلب حاسد ... تفوح كما يستودع العود مجمر
وإن جد أمضى في الأمور عزيمة ... يحيض دما منها الحسام الذكر
يدبر أمر الجيش منه ابن حرة ... بصير بتدبير الأمور مدبر
حسام له من حلية الفضل جوهر ... يروق كما راق الحسام المجوهر
وينتاش شلو المجد من نوب الردى ... وقد نشبت فيه نيوب وأظفر
وإن زارت الخيل السوابق خيله ... أتى الطير من قبل اللقاء يبشر
تفديه بالشهب الصوافن ضمر ... عليها أسود من بني الحرب ضمر
خلفت عليا يا ابنه في خلائق ... تساوى بها فرع زكي وعنصر
قلت هذا القدر هو المقصود مما نحن فيه وهذا الشعر هو السحر الحلال فلله دره ما أسلس قياده وأعذب ألفاظه وأحسن سبكه وألف مقاصده ومن مليحه قوله
نزلنا بحكم الراح عندك منزلا ... نهبنا به الأفراح في ظله نهبا
تدير علينا من حديثك خمرة ... وأخرى من الراح المعتقة الصهبا
فرحت فلا والله أعلم ما الذي ... تعاطيت راحا كان أم لفظك العذبا
كان إذا ما شعشعتها اكفنا ... نقلب من كاساتها أنجما شهبا
ومن غزلياته قوله
ولكم بكرت إلى الرياض للذة ... في فتية بيض الوجوه صباحها
تهتز في ورق الشباب قدودهم ... كغصونها وثغورهم كاقاحها
حتى إذا عادوا لوصلي عاودت ... أرواح لذاتي إلى أشباحها
ومن مطرباته التي استوفت أقسام الظرف قوله
بدا فكأنما قمر ... على أطواقه ظهرا
يعز إذا خضعت له ... وإن دانيته نفرا(1/447)
ولم أر قبل مبسمه ... ثمين الدر ما صغرا
يظل به على خطر ... فؤادي كلما خطرا
ومما ستجاد له قوله
صب جفا في فراقك الرفقا ... جار عليه الهوى وما رفقا
يكفيه من حالتيه أن له ... فما صموتا وناظر اقلقا
ودمع عين يبدو فاكتمه ... منحبسا تارة ومنطلقا
وقفت أستنطق الربوع له ... لو أن ربعا لسائل نطقا
عين ترى أن تراك لا سكبت ... للبين دمعا ولا اشتكت أرقا
هل فيك من رحمة تعين بها ... إنسان عين أحرقته غرقا
وغصن بان مشى فعلمني ... لما تثنى وشاحه القلقا
أحسن منه قول أبي تمام
وإذا مشت تركت بقلبك ضعف ما ... بحليها من كثرة الوسواس
رجع
أورق بالحسن نبت عارضه ... وأحسن الغصن ما اكتسى الورقا
يمد لي من عذاره شركا ... يطول فيه عذاب من علقا
ويحمل الصبح تحت ليل دجى ... فوق قضيب على كثيب نقا
أخذت بالمذهب الصحيح وقد ... تفرق الناس في الهوى فرقا
مقسمين الحظوظ بينهم ... في الحب قسمى سعادة وشقا
وله من قصيدة يذكر فيها منتزهات حلب
ألا ليت ما بيني وبينك من بعد ... على القرب ما بين القلوب من الود
غرامي غرامي والهوى ذلك الهوى ... قديما ووجدي في محبتكم وجدي
ووالله ما تغيرت بعدكم ... لبين فهل أنتم تغيرتم بعدي
تذكرت ايامي وعودي بمائه ... وعيشي بكم لو دام في جنة الخلد
وقلت تديموني على القرب دائما ... فخالفتموني واتفقتم على البعد
وليلة غاظ البدر فيها اجتماعنا ... فكنا نرى في وجهه أثر الحقد
وملتقطات من فؤادي تجتنى ... أحاديث أحلى مجتنى من جنى الشهد
ألذ من الماء القراح على الظما ... وأعذب من طيب الكرى عقب السهد
وبالبقعة الغناء من سفح جوشن ... فتلك الربى فالسفح من جوشن الفرد
كانا إلى شاطئ مجر قويقها ... وقد أشرف السعدي بكم أنجم السعد
تجد بنا أهواؤنا فحلومنا ... موفرة فيها على الهزل والجد
وكم بردت للتل عين قريره ... سرورا بنا والشمل منتظم العقد
لبسنا لها والليل يعثر بالصبا ... بقية قطع من دجى الليل مسود
منازه قطر لابس القطر نورها ... فألبسها مما ينيل وما يسدى
رياض حكى البرد اليماني وشيها ... وشاطى غدير مثل حاشية البرد
تحرى بها النوروز فصل اعتداله ... فعدل فيها قسمة الحر والبرد
ومن ورق للورد يصقله الندى ... فيجري يجاري الدمع من حمرة الخد
فيا نعمة أغفلتها فتصرمت ... مضت لم أقيدها بشكر ولا حمد
وقد تضمن أكثر شعره مدح الشهباء تبعا للمتقدمين كقول البحتري
أقام كل ملث الودق رجاس ... على ديار بعلو الشام ادراس
فيها لعلوة مصطاف ومرتبع ... من بانقوسا وبابلى وبطباس
منازل أنكرتها بعد معرفة ... وأوحشت من هوانا بعد إيناس
يا علو لو شئت أبدلت الصدود لنا ... وصلا ولان لصب قلبك القاسي
هل لي سبيل إلى الطهران من حلب ... ونشوة بين ذاك الورد والآسى
وكقول ابن الخفاجي
وحل عقود المزن في حجراته ... نسيم بأدواء القلوب خبير
فما ذكرته النفس إلا تبادرت ... مدامع لا يخفى لهن ضمير
وكقول أبي فراس
الشام لا بلد الجزيرة لذتي ... وقويق لا ماء الفرات منائي
وأبيت مرتهن الفؤاد بمنب ... ج الزوراء لا بالرقة البيضاء
وكقول المهذب عيسى الحلبي(1/448)
يا حبذا التلعات الخضر من حلب ... وحبذا طلل بالسفح من طلل
يا ساكني البلد الأقصى عن نفس ... من سفح جوشن يطفى لاعج الغلل
وكقول أبي بكر الصنوبري
قويق على الصفراء ركب متنه ... رباه بهذا شاهد وحدائقه
فإن جد جد الصيف غادر جسمه ... ضئيلا ولكن الشتاء يوافقه
وهذا الباب واسع جدا فلنقتصر منه على هذا المقدار ففيه غنية وجوشن اسم موضع بحلب وقويق بضم القاف على فعيل مصغرا نهر صغير بظاهر حلب يجري في الشتاء والربيع وينقطع في الصيف وقد ذكرته الشعراء في أشعارهم كثيرا وبطياس بفتح الباء الموحدة وسكون الطاء المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف سين مهملة وهي قرية كانت بظاهر حلب ودثرت ولم يبق منها اليوم أثر وبانقوسا وبابلى مكانان معروفان بحلب انتهى ووفاة سرور كانت في حدود العشرين بعد الألف بالتقريب كما يرشد إلى ذلك مدائحه في بني سيفا والله أعلم سعد الدين بن محمد بن حسين بن حسن وتقدم ذكر تتمة نسبه في ترجمة أخيه إبراهيم الشيخ الجواد المربي الدمشقي القبيباتي الجباوي الشافعي أحد مشايخ الصوفية بدمشق تولى مشيخة بيتهم بعد أخيه محمد وتصدى لتلقي الصوفية والزوار بزاويتهم المعروفة بهم بمحلة القبيبات وكان يقيم ميعاد الذكر يوم الجمعة بالجامع الأموي وعلت كلمته وعظمت حرمته وأنشأ أملاكا وعقارات كثيرة وحج في سنة ست وثلاثين وألف فتوفى بمنى وحمل إلى مكة ودفن بالمعلاة عند العرابي وكانت وفاته في خامس عشر ذي الحجة من هذه السنة سعودي بن محمد بن محمد بن محمد الغزي العامري الدمشقي الشافعي مفتي الشافعية بدمشق وابن مفتيها وابن ابن مفتيها رؤساء العلم بالشام وكبراؤه وشهرة بيتهم لا تحتاج إلى بيان وكان سعودي هذا فاضلا وجيها رقيق الطبع متساوي الأطراف أخذ الفقه والحديث عن جده لأمه الشهاب أحمد العيثاوي المقدم ذكره وعن والده النجم وسافر في خدمته إلى الحج في سنة أربع عشرة بعد الألف وإلى الروم في سنة ثلاث وثلاثين ولما حج والده في سنة سبع وأربعين أقامه مقامه في خدمة فتوى الشافعية فباشرها وظهرت كفايته وحمدت سيرته ثم مات أبوه في سنة ستين فاستقل بها وأعطى عنه المدرسة الشامية البرانية ودرس الحديث تحت قبة النسر من جامع بني أمية وابتدأ من محل انتهى إليه درس والده في صحيح البخاري وكان وقف في آخر درس قرأه على باب البكاء على الميت واستمر مدة يفتي ويدرس وله القبول التام والتقدم بين أبناء نوعه وكان حسن المطارحة والأدب وينسب إليه من الشعر شيء قليل فمن ذلك ما رأيته منسوبا إليه في بعض المجاميع ولا أتحققه وذلك قوله في صاحب له
لي صاحب في نقله ما حكى ... للكذب عن آبائه وارث
فكل ما ينقله مثل ما ... قال الحريري حكى الحارث
وكانت ولادته في سنة ثمان وتسعين وتسعمائة وتوفى في أواسط ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وألف ودفن بمقبرة آبائه بتربة الشيخ أرسلان قدس الله تعالى سره العزيز سعيد بن عبد الرحمن بابقي الحضرمي القيدوني بلدا الدوعني جهة الشيباني نسبا ثم المكي الشافعي الإمام الرباني والعارف الصمداني كان من العارفين بالله تعالى الواقفين مع الكتاب والسنة وكان يتكلم على طريق الصوفية بما يبهر الألباب ويحل مشكلات المحققين على الوجه الصواب مع كثرة العبادة والتلاوة للقرآن والتوجه إلى الله تعالى في سره وعلانيته ولد كما أخبر هو به بعض تلامذته يوم الجمعة عاشر المحرم سنة ست وثلاثين وتسعمائة وحفظ القرآن واشتغل بالعلم على كثيرين من الحضارمة واليمنيين وساح مدة مديدة في اليمن ودخل الهند وجال في بلاده ثم رجع إلى عدن ورحل منها إلى الحرمين وأقام بمكة وأخذ بها عن الأستاذ الشيخ أبي الحسن البكري واشتهر ذكره واعتقده الناس وخضعت له العلماء الأعلام وأخذ عن جمع من أكابر العلماء الأعيان كالسيد الجليل سالم بن أحمد شيخان وكراماته أشهر من أن تذكر وأعظم من أن تحصر وكانت وفاته في يوم الجمعة عاشر محرم سنة سبع عشرة وألف بمكة ودفن ببيته بجبل أبي قبيس وقبره درياق مجرب لقضاء الحوائج(1/449)
سقر بن عمر اليفاوي المصري الولي الصالح المجذوب ذكره الإمام عبد الرؤف المناوى في طبقات الأولياء وقال كان له القدم الراسخة في الولاية والكرامات الخارقة التي لا يشك فيها ومما ذكر عنه أطواره أنه كان إذا قرئ بحضرته القرآن خشع وإذا تلى عليه كلام القوم هام وخرج قال ووقع لي معه أمور غريبة وسمعته يقرأ القرآن بقراءة مرتلة عظيمة مع أنه لم يكن قاريا ولا ممن حضر حافظا وكانت وفاته في أواسط سنة ست وعشرين وألف غريقا بالخليج سقط بنفسه ودفن بالقرب من عبد القادر الدشطوطي بخط باب الشعرية قال ورأيته بعد موته حيا وهو يقول ستري يا فلان فيمن فعلوا بنا رحمه الله تعالى سلطان بن أحمد بن سلامة بن إسماعيل أبو العزائم المزاحي المصري الأزهري الشافعي إمام الأئمة وبحر العلوم وسيد الفقهاء وخاتمة الحفاظ والقراء فريد العصر وقدوة الأنام وعلامة الزمان الورع العابد الزاهد الناسك الصوام القوام قرأ بالروايات على الشيخ الإمام المقرى سيف الدين بن عطاء الله الفضالي بفتح الفاء البصير وأخذ العلوم الدينية عن النور الزيادي وسالم الشبشيري وأحمد بن خليل السبكي وحجازي الواعظ ومحمد القصري تلميذ الشمس محمد الشربيني الخطيب واشتغل بالعلوم العقلية على شيوخ كثيرين ينيفون على ثلاثين وأجيز بالإفتاء والتدريس سنة ثمان بعد الألف وتصدر بالأزهر للتدريس فكان يجلس في كل يوم مجلسا يقرى فيه الفقه إلى قبيل الظهر وبقية أوقاته موزعة لقراءة غيره من العلوم وانتفع الناس بمجلسه وبركة دعائه وطهارة أنفاسه وصدق نيته وصفاء ظاهره وباطنه وموافقة قوله لعمله وأخذ عنه جميع كثير من العلماء المحققين منهم الشمس البابلي والعلامة الشبراملسى وعبد القادر الصفوري ومحمد الخباز البطنيني الدمشقيان ومنصور الكرخي ومحمد البقري ومحمد بن خليفة الشوبري وإبراهيم المرحومي والسيد أحمد الحموي وعثمان النحراوي وشاهين الارمناوي ومحمد البهوتي الحنبلي وعبد الباقي الزرقاني المالكي ومنهم أحمد البشبيشي وغيرهم ممن لا يحصى كثرة وجميع فقهاء الشافعية بمصر في عصرنا لم يأخذوا الفقه إلا عنه وكان يقول من أراد أن يصير عالما فليحضر درسي لأنه كان في كل سنة يختم نحو عشرة كتب في علوم عديدة يقرؤها قراءة مفيدة وكان بيته بعيدا من الجامع الأزهر بقرب باب زويلة ومع ذلك يأتي إلى الأزهر من أول ثلث الليل الأخير فيستمر يصلي إلى طلوع الفجر ثم يصلي الصبح إماما بالناس ويجلس بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس لإقراء القرآن من طريق الشاطبية والطيبة والدرة ثم يذهب إلى فسقية الجامع فيتوضأ ويصلي ويجلس للتدريس إلى قرب الظهر هذا دأبه كل يوم ولم يره أحد يصلي قاعدا مع كبر سنه وضعفه وألف تآليف نافعة منها حاشيته على شرح المنهج للقاضي زكريا في فقه الشافعي كانت بقيت في نسخته فجردها تلميذه الشيخ مطاوع وله مؤلف في القراآت الأربع الزائدة على العشر من طريق القباقبي وذكره العلامة أحمد العجمي المقدم ذكره في مشايخه الذين أخذ عنهم وأطال في ترجمته وذكره الوالد رحمه الله تعالى في رحلته فقال في وصفه شيخ القراء بالقاهرة على الإطلاق ومرجع الفقهاء بالاتفاق رافع لواء مذهب الإمام محمد بن إدريس الهمام من حظه في العلوم موفور وسعيه فيها مشكور ومعول عليه في منقولها ومطلع على فروعها وأصولها منهج الطلاب وقدوة أرباب الفرائض والحساب لم يغادر من قواعد كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها ولم يدع من مسائله جليلة ولا حقيرة إلا استولى عليها وحواها قد رجع علماء العصر إلى مقاله وعالهم بموائد فوائده فأصبحوا في هذا الفن من عياله ولا غرو فإنه الآن لعلماء الأزهر سلطان وكانت ولادته في سنة خمس وثمانين وتسعمائة وتوفى ليلة الأربعاء سابع عشرى جمادى الآخرة سنة خمس وسبعين وألف وتقدم للصلاة عليه الشمس البابلي ودفن بتربة المجاورين وقيل في تاريخ وفاته
شافعي العصر ولى ... وله في مصر سلطان
في جمادى أرخوه ... في نعيم الخلد سلطان
والمزاحي بفتح الميم وتشديد الزاي وبعدها ألف وحاء مهملة نسبة إلى منية مزاج قرية بمصر(1/450)
سليمان بن أبي الهدى الداودي المقدسي كان قاضي الشافعية بمحكمة القدس وله علم ومعرفة وكان مأمون الغائلة ثم في آخره ترك المحكمة واختلى للعبادة في آخر النصف الأخير من الليل يخدم كتب العلم كتابة وإصلاحا وكانت وفاته في سنة ثلاث وسبعين وألف ودفن بمأمن الله رحمه الله تعالى السيد سليمان بن حسن بن عبد الله اشتهر جده عبد الله بباقيه وبالنساخ واشتهر هو بطير الله المشهور بالتواضع والمصافاة والموافقة والمراعاة ولد بتريم ونشأ بها وصحب جماعة من السادة العارفين وغيرهم من العلماء العاملين ثم حبب إليه الارتحال فسافر إلى كثير من البلدان ولقى جماعة من أكابر الرجال ولزم الطاعات وأكثر من العبادات وجانب المخالفات وكان متمسكا بالسب الأقوى من التقوى ملازما للأذكار إلى أن توفاه الله تعالى وكانت وفاته في سنة تسع بعد الألف رحمه الله تعالى سليمان بن علي اليساري أحد ظرفاء المصريين ولطفاء الفاضلين ولد بمصر ونشأ بها وتعلم الأدب ونظم الشعر وحج مرارا وجاور بمكة سنة ألف ومدح أشراف مكة وأجازوه بأحسن الجوائز وطارح الأدباء الذين بها قال الأديب أحمد بن محمد الشاهد اجتمعت به في مجاورته بمكة وجاءني يوما وهو في غاية القلق ونهاية التعب والأرق شاكيا من شيئين متعبين أحدهما أنه فارق من يحب والآخر أنه قدم قصيدة إلى بعض الأكابر فلم يجزه عليها بشيء وكنت أداعبه كثيرا فقلت له يا فلان كأن لسان حالك في فراق من هويت يتمثل بمحبوبك عنك حيث يقول
كفى حزنا أني كقيم ببلدة ... وأنت بأخرى ما إليك وصول
إذا لم يكن بيني وبينك مرسل ... فريح الصبا مني إليك رسول
وفي الثاني بقول الثاني
وإن ملوك الأرض لم يحظ عندهم ... من الناس إلا من يقود ويصفع
فاحمد الله تعالى لا أنت ولا أنت فتسلى ساعة وكان من الظرفاء قلت وهذا اليساري لم يتيسر لي من شعره شيء حتى أثبته له غير أنه من المعروفين في القاهرة بصنعة الشعر وكانت وفاته في سنة ثلاث بعد الألف كذا رأيته في بعض المجاميع رحمه الله تعالى سليمان البابلي المصري الفقيه الشافعي المشهور بكثرة الإحاطة والتضلع من الفقه وكان كبير الشأن عالي القدر كامل الأدوات مقبول الخصال تفقه بالشيخ عبد الرحمن بن الخطيب الشربيني والشيخ سالم الشبشيري المقدم ذكره وأخذ عن النور الزيادي ورأس في الفتيا بعد وفاة شيخه الزيادي فكان معول الناس عليه وانتفع به جماعة منهم ابن أخته الشمس محمد البابلي البصير وكانت وفاته في سنة ست وعشرين وألف بالقاهرة ووصل الخبر بموته إلى دمشق في عشرى جمادى الأولى منها سليمان باشا الوزير نائب الشام كان أميرا خور السلطان وولى منها نيابة الشام ثم جاءته الوزارة وهو بها دخل دمشق في أواسط شهر ربيع الثاني سنة تسع وعشرين وألف وكان يتكلم بالعربية فصيحا ويعظم العلماء ويحترمهم ووقع بينه وبين المولى عبد الله بن محمود العباسي حين كان قاضي القضاة بدمشق وكان له شدة وتهور حتى كتب له رقعة شتمه فيها فصبر عليه وعامله بالحلم وتعب الناس في الصلح بينهما ثم عزل القاضي وعزل هو بعده فولى كفالة ديار بكر ومات بها في سنة اثنتين وثلاثين وألف(1/451)
سليمان البوسنوي نزيل قسطنطينية المشهور بمذاقي أحد بلغاء شعراء الروم وأذكيائهم وكان نديم الوزير الأعظم أحمد باشا الفاضل ومن خواصه وجلسائه المتقدمين عنده ولم يزل مكينا لديه حظيا بالتفاته يفضى إليه بسره ويأمنه على أخباره وصار كاتب ديوانه ولم يزل عند أرباب الدولة في المكانة العلية لاستعداد ذاتي فيه يقضى بتبجيله ولقربه من الوزير وكان قبل اتصاله به جاب البلاد وساح الآفاق وهو على سمة الدراويش ولديه معارف وعنده فضائل ودخل آخر أمره مصر وحاكمها أيوب باشا فقربه وأدناه وعرف مكانته فجعله كاتب ديوانه وصاحب حله وعقده وكان شديد التولع بالكيميا لا يزال يفحص عنها من كل من يجتمع به وصرف عليها أموالا كثيرو وبسببها اجتمع بكثير من أرباب المعرفة والتقط من فوائدهم وحدثني بعض أصحابه عنه أنه اجتمع في مصر بكنعان الكرجي الذي اخترع الباد زهر العملي المعروف بالكنعاني وكان ينقل عنه أنه لما ابتدعه جربه لأمور كثيرة مرارا وصحت تجربته ومن أفضل خواصه دفع السموم والآن قد اشتهر أمر هذا الباد زهر ورغب الناس فيه وهم يتغالون في ثمنه وذكر لي هذا الناقل إن صاحب الترجمة كان يعرف كيفية عمله وكان لديه معارف كثيرة غيره وكنت وأنا بالروم أسمع خبره وحرصت على الاجتماع به فلم يقدر لي وتوفى بعد ذلك بقسطنطينية وكانت وفاته في سنة سبع وثمانين وألف سهل بن أحمد بن سهل بن أحمد بن عبد الله بن محمد المعروف بجمل الليل اليمني القاضي المفتي المدرس أحد مشاهير العلماء باليمن ولد بتريم وحفظ القرآن والإرشاد والملحة وتفقه بالشيخ عبد الرحمن بن علوي بافقيه وأخذ الأصول والفقه والعربية عن الشيخ أحمد بن عمر عيديد والتصوف عن الشيخ عبد الرحمن المعروف بسقاف العيدروس ولازمه حتى تخرج به ولبس منه الخرقة وكان يحبه ويثنى عليه وأذن له غير واحد بالإفتاء والتدريس وكان جيد الفهم حسن الحفظ وانتفع به كثيرون وأخذ عنه الجمال محمد بن أبي بكر الشلى باعلوى وطلب لقضاء تريم فامتنع حتى أشار عليه شيخه الشيخ عبد الرحمن سقاف بالقبول فقبل ولم يحفظ عنه هفوة في إفتاء أو قضاء وله كلام حسن الموقع وكان وسيع البال يميل إلى الخمول وبلغ من التواضع ما لا يوصف مع البشاشة والشفقة وكانت وفاته في سنة ست وسبعين وألف بمدينة تريم ودفن بمقبرة زنبل(1/452)
سنان باشا الوزير الأعظم صاحب الآثار العظيمة في البلاد من جملتها الجامع بدمشق خارج باب الجابية والحمام والسوق المتفق على حسن وضعهم ودقة صنعتهم وله مثل ذلك في كل من القطيفة وسعسع وعيون التجار وعكة مع خانات ينزلها المسافرون وله ببولاق جامع عظيم ومثله باليمن وقسطنطينية وغيرها من البلاد جوامع ومساجد ومدارس وخانات وحمامات تنوف على المائة وبالجملة فهو أكثر وزراء آل عثمان آثارا وأعظمهم نفعا للناس وكان وزيرا عالي القدر رفيع الهمة ولى الحكومة بمصر في زمن سلطنة السلطان سليم بن سليمان ومن غريب ما وقع له وهو حاكم بها أنه لما تعين الوزير لالا مصطفى باشا إلى فتح اليمن سار إلى مصر وتقاعس بها عن السير رجاء أن تضم له إمارة الأمراء بمصر إلى سردارية العساكر المعينة لليمن فاتفق مع بعض خواصه أن يضيف سنان باشا ويضع له السم في المشروب ثم دعاه فأجاب وكان الشيخ أدهم بن عبد الصمد العكاري المقدم طرف من أخباره في ترجمة ابن جلال من معتقدي سنان باشا وهو عنده بمنزلة مرشده ومربيه ولا يصدر في الأمور إلا عن رأيه فاستدعاه وقال له قم نذهب إلى الضيافة فقال له والله ما أنا بذاهب معك ولكن احترز أنت على نفسك فإني أخاف عليك والقوم عازمون على أن يضروك فلما قدموا إليه الإناء المسموم في ماء الشعير المحلى بالسكر لم يتناول منه شيئا ودعا بعض الأمراء الحاضرين إلى شربه فقال له من دعاه أما أنا فلا أشرب من هذا الإناء فازداد وهمه فقال رجل واقف للخدمة إلى متى تتوقفون في شربه وتناوله ليشربه فلما وضعه بين شفتيه تناثر لحم فمه في الحال ووقع مقدم أسنانه وسقط شعر لحيته فألقى الكاس من يده وعلم الحاضرون بالقصة فقام سنان باشا وهو يقرأ قوله تعالى " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " ونادى بفرسه فركبها وذهب ثم عينه السلطان إلى اليمن وكان السبب في ذلك أن أقليم اليمن من صنعاء إلى عدن كان داخلا في حوزة سلاطيننا العثمانيين في أيام السلطان سليمان وكان له نائب واحد واستمر زمانا إلى أن فوضت حكومته لاثنين وعين لكل منهما حد من البلاد فكان ذلك باعث الاختلاف والجدال وكان مطهر بن شرف الدين يحيى الزيدي لعب الشيطان بعقله وسولت له نفسه العصيان فصادف انقسام المملكة وصول خبر وفاة السلطان سليمان فقطع الطريق وحاصر تعز وصنعا وسلب كثيرا من أمراء فلما وصل الخبر إلى السلطة عينوا مصطفى باشا كما تقدم ثم عزلوه وعينوا مكانه سنان باشا سردارا على العساكر فتوجه وأصلح ما كان اختل واستنقذ ما كان مطهر أخذه بعد وقائع وأمور يطول شرحها وهي مذكورة في تاريخ القطب المكي وفي ذلك يقول بعضهم من أبيات
وما يمن إلا ممالك تبع ... وناهيك من ملك قديم ومن فخر
تملكها من آل عثمان إذ مضت ... بنو طاهر أهل الشآمة والذكر
فهل يطمع الزيدي في ملك تبع ... ويأخذه من آل عثمان بالمكر
أبى الله والإسلام والسيف والقنا ... وسر أمير المؤمنين أبي بكر(1/453)
ثم إنه بعد تمهيد هذا الأمر عاد فدخل مكة المشرفة وحج حجة الإسلام وصادف الحج فلم يفته وأنشأ بمكة آثارا حسنة منها تعميره حاشية المطاف دائرة حوله مفروشة بالحصى يدور بها دور حجارة منحوتة مبنية حول الحاشية كالافريز لها فأمر أن تفرش هذه الحاشية بالحجر الصوان المنحوت ففرشت به في أيام الموسم وصار محلا لطيفا دائرا بالمطاف من بعد أساطينه وصار ما بعد ذلك مفروشا بالحصى الصغار كسائر المسجد الحرام وهذا الأثر خاص به ومنها تعميره سبيل التنعيم أنشأه وأمر بإجراء الماء إليه من بئر بعيدة يجري الماء منها إلى السبيل في ساقية مبنية فيما بينهما بالحصى والنورة وعين لها خادما يستقى من البئر ويصب في الساقية فيصل الماء إلى السبيل ليشرب منه ويتوضأ المعتمرون وعين لمصارف ذلك من ريع أوقاف له بمصر ومنها آبار حفرها بقرب المدينة المنورة لقوافل الزوار في وادي مفرع وغيرها كثيرة النفع جدا ومنها قراءة ختمة شريفة في كل يوم يقرؤها ثلاثون نفرا بمكة وأخرى بالمدينة ثم بعد أن قدم إلى تخت السلطنة عينه السلطان سليم إلى فتح حلق الوادي بلاد تونس الغرب وكان النصارى استولوا عليها بسبب الاختلاف الواقع بين سلاطين الغرب من آل حفص فصار بعضهم يقوى على بعض بالفرنج وأطمعوهم في بلاد المسلمين فاستولوا عليها وتمكنوا منها حصنوا الحصون وأحكموا القلاع بحيث أيس المسلمون من فتحها وصاروا تحت حكم الفرنج وأخذوا مملكة تونس ووضعوا السيف في أهلها فقتلوا الرجال وسبوا النساء والأولاد فلما بلغ السلطان سليم ذلك أرسل مائتى غراب مشحونة بالأبطال والمدافع وآلة الحرب وعين معهم سنان باشا وقلج على باشا وكانت غزوة مشهورة من أعظم غزوات بني عثمان يحتاج تفصيلها لمؤلف فنقتصر منها على خلاصتها وهو أن المسلمين انتصروا على الكفار وقتلوا منهم نحو عشرة آلاف مع الحصار المديد والقتال ومن العجب أن الفرنج كانت بنت هناك حصارا حصينا وقلعة منيعة أقاموا في استحكامها وإتقان بنائها ثلاثا وأربعين سنة فافتتحها سنان باشا في ثلاث وأربعين يوما من أيام محاصرتها وذلك في سنة إحدى وثمانين وتسعمائة ثم خرب الوزير القلاع والحصون فلم يبق لها رسم ثم توجه سنان باشا إلى دار السلطنة فولى بعد مدة الوزارة العظمى وذلك في زمن السلطان مراد الثالث في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وتسعمائة ثم عزل عنها وولى بعدها نيابة الشام وشرع في عمارة الجامع المذكور أولا ثم ولى الوزارة العظمى بعد ذلك أربع مرات عزل من الثالثة في شهر ربيع الأول سنة أربع بعد الألف وصار مكانه لالا محمد باشا فبعد ثلاثة أيام توفى محمد باشا فأعيد إلى مكانه ولم تطل مدته فتوفى في شعبان من تلك السنة وكان في أحد تولياته الوزارة تعين لمحاربة الكفار المعروفين بالنمسه ووقفت على ترجمة له ترجمة بها منشى الديوان عبد الكريم بن سنان ذكر فيها غزوه مع الكفرة ومن زبدتها قوله ملأ بقتلاهم الهضب واليفاع وأخذ منهم القلاع والبقاع وجبر قلوب الإسلام بكسر الصلبان والأصنام ومن غريب فتوحاته تسخير الحصن الموسوم بيانق وهو على ما يقال لسماك السماء معانق أحكمت يد الدهر بنيانه وقد أزرى بالهرم في الحصانه وأهله يقطفون بأيديهم نرجس الكواكب ويثقبون بأسنتهم دراري الثواقب
يزر عليه الجو جيب غمامه ... ويلبسها من رونق الأنجم الزهر
وقد أحاطت به الأنهار إحاطة الهالات بالأقمار وكم ورد فيها لحياض المنية من ورد ولبس من حيكها المنسوج بيد الشمال زردا على زرد
فيالله من عجب دلاص ... يرد به الحمام غدت حماما
وتيسر فتحه في نحو سبعين يوما وجفون الغزاة لم تكتحل بغير نقع الهيجاء ولم تذق نوما وقد تثبتوا في الحرب تثبت الجبال علما بأنها بين الرجال سجال فهناك باحث أغماد السيوف بأسرارها فطارت غربان البنادق من أوكارها وكم قتيل غدا بألسنة الأسنة مكلما وأصبحت درعه تبكي عليه بألف عين دما والأعداء كأنما أجسادهم جرائر يحملها من الدماء السيل وكأنما رؤسهم أكر تلعب بها صوالج الأيدي والأرجل من الخيل شكر الله مساعيه الراضيه وأحله في قصور الجنان العاليه انتهى(1/454)
سنان باشا الوزير حاكم اليمن كان كتخدا حسن باشا صاحب اليمن المقدم ذكره ولما طالت مدة الوزير حسن باشا في اليمن وأرادوا عزله منه وخروجه على وجه مستحسن أنعم السلطان ببلاد اليمن لكتخدائه سنان باشا المذكورة فتوجه حسن باشا إلى الأبواب العلية في حادي عشرى صفر سنة ثلاث عشرة بعد الألف وكان سنان باشا المذكور على ما قال الشاعر
ملك سنان قناته وبنانه ... يتباريان دما وعرفا ساكبا
ولما استقر في بلاد اليمن وظهر من شيخ البد وعلي بن فلاح تعد وأخاف الطرقات وهم قبيلة واسعة بلادهم ما بين بلاد ذمار وسنحان مسيرة يوم واحد من صنعاء أرسل عليهم جيشا جرار فمزقهم كل ممزق فأطاعوا وسلموا رهاين فأنعم عليهم بالعفو وكان عقيب ذلك ظهور الإمام القاسم من بلاد الشرق من برض إلى بلاد وادعة إلى جهة الظاهر وقد دارت بينه وبين الأمير عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن المطهر حاكم بلاد حجه والشرق مكاتبات على اتحاد الحال بينهما بفتح الحرب على السلطنة ووثب الإمام على سائر القبائل بجاري عادته الأولى فأجابوه وقامت الحرب على ساقها فوجه الوزير سنان المحاط إلى جهة عبد الرحيم ولم يزل على الحرب حتى ضعفت أحوال الإمام القاسم عن مقابلة ما لديهم من العساكر وعطف بأكثر العساكر على عبد الرحيم وتكاثروا عليه ولحقه التعب وكاد يشرف على العطب فحين رأى الإمام اشتغال العسكر بعبد الرحيم نهض على حصن شهاره وسكن الإمام في شهاره والعساكر محدقون بعبد الرحيم فوصلت الأخبار أن السلطان أنهم ببلاد اليمن على الوزير جعفر باشا حاكم بلاد الحبشة المقدم ذكره فخرج الوزير سنان من صنعا متوجها إلى الأبواب العلية في رجب سنة ست عشرة بعد الألف فلما وصل إلى بندر المخا انتقل إلى رحمة الله تعالى ودفن إلى جنب قبر القطب الشيخ علي بن عمر الشاذلي القرشي نفع الله تعالى به وذلك في اليوم الخامس من شعبان من السنة المذكورة وكان يحب العلماء والفقراء والصلحاء وكان محسنا جوادا وكان مع ذلك سفاكا ومضت أيامه بالفتن وآثار خيراته أكثر من أن تذكر ومن العجب أن حسن باشا مات في رجب وسنان باشا في شعبان وكانا تمكنا من اليمن نحو ثمانية وعشرين سنة وكان أيامهما زهرة الأيام في اليمن ولما بلغ جعفر باشا وفاته أرسل لضبط خزائنه عمر كتخدا فوصل إلى المخا واستولى عليها(1/455)
سنان باشا المعروف بكوك سنان نائب الشام هو في الأصل من مماليك محمود باشا المقتول في مصر سنة خمس وسبعين وتسعمائة وتاريخ قتله ظلمه وكان من جملة خدمته أيضا مراد باشا الذي صار آخرا وزيرا أعظم في دولة السلطان محمد وكان هو وسنان باشا في وقت خدمتهما لمحمود باشا يتحابان وبينهما مودة أكيدة وافترقا فأقام سنان باشا في مصر وذهب مراد باشا إلى الروم وسما به حظه حتى ولى الوزارة العظمى فأرسل إلى سنان باشا في مصر وطلبه فورد إليه في حلب وهو مخيم هناك وكان معينا لقتال الخوارج فجعله بمجرد قدومه أمير الأمراء في بلاد قرمان وذكر الحسن البوريني في ترجمته أنه لما سافر يعني البوريني من دمشق إلى حلب ورد إلى الوزير في مخيمه خارج حلب فرأى سنان باشا ملازما له في غالب أوقاته قال و لما اجتمعت به تذاكرت معه السفر إلى جانب الأعداء فقلت له ما نيتكم بعد كسر البغاة فقال نيتي أن أسير إلى مصر لأن وطني بها وشرع يذكر ماله بمصر من العلائق والأموال والعقارات والدواب والخيول ويقول أنا لي بمصر ملاذ ونعيم لا يكون إلا للسلاطين فقلت له إنما تسير من هنا إلى دمشق حاكما بها فأخذ يبعد ذلك ويقول ما خطر لي هذا ولا ترقبت إليه همتي وأنا أحلف له أنه لا بد أن يرد إلي دمشق حاكما بها فعند ذلك سكت ومد يده إلي وقال عاهدني على الإخوة الكاملة الصادقة فمددت يدي إليه وعاهدته وكان داعية ما صممت عليه من القول أني قد رأيت في المنام وأنا بحلب أن باب دمشق قد أغلق وأن سنان باشا قد أخذ مفاتحه بيده وورد إلى الباب وفتحه ودخل راكبا إلى المدينة ومعه جماعة مستكثرة ثم فارقته وتوجه هو في خدمة الوزير إلى توقات فولاه نيابة دمشق ودخلها في يوم الخميس رابع عشرى شهر رمضان سنة سبع عشرة وألف ووقع في زمن توليته أن فرقة من عرب آل جبار المعروفين بأولاد أبي ريشة نفروا من العراق بعد موت أميرهم الأمير أحمد بن أبي ريشه فوصلوا إلى نواحي تدمر وانضم إليهم قوم من طائفة السكبانية الذين هربوا من وقعة الأمير علي بن جانبولاذ فعاثوا في تلك البلاد وقطعوا الطريق ولما ورد من حلب العسكر المصري الذي كان قد طلب لقتال كبير السكبانية محمد بن قلندر والأسود سعيد فوردوا إلى حلب ثم إلى بلاد السواد فكان الوزير مراد باشا رأس العساكر السلطانية فالتقى جيش السلطان مع جيش البغاة فغلب عسكر السلطان وهرب منهم جمه ومن جملة الهاربين الجماعة المذكورون وكانوا في العدد نحو أربعمائة سكباني فلما انضموا إلى العرب المذكورين كان السكبان يضربون بالبندق والعرب يضربون بالرماح والسيوف وأخذوا قلعة القسطل وقلعة القطيفة ونهبوا المعصرة وقتلوا بها من الرجال والنساء ما يزيد على عشرة أشخاص فلما بالغوا بالقتل والنهب والغارة والعدوان قصدهم سنان باشا ومعه العسكر الشامي وانضم إليهم عرب المفارجة وكبيرهم عمرو بن جبر فأدركوا العرب والسكبان في نواحي قلعة القطراني فقتلوا من السكبان نحو ثلثمائة رجل وأمسكوا منهم نحو خمسين رجلا ودخلوا بهم إلى دمشق راكبين للجمال وعلى كتف كل واحد منهم خشبة طويلة هي خازوق له وفي اليوم الثاني أتلفوهم وفرقوا أجسادهم على المحلات بدمشق وبالجملة فإن سنان باشا هذا أعطى من السعد في أموره ما لم يعط لأحد من الحكام وبعد عزله من دمشق أعطى كفالة حلب وتوفى بعد ذلك ولم يذكر البوريني في تاريخه وفاته والظاهر من فحوى كلامه أن وفاته لم تتجاوز العشرين من هذا القرن بكثير والله أعلم(1/456)
سنان باشا ابن محمود نزيل دمشق ومتولى الجامع الأموي بها أمير الأمراء وصدر أعيان الشام في وقته أصله من قرية دورلي بكسر الدال المهملة وبعدها واو مكسورة وراء ساكنة ولام مكسورة من ضواحي قرمان ورد إلى دمشق في خدمة الوزير مصطفى باشا الخناق نائب الشام في سنة ثلاث وثلاثين وألف وبعدما عزل مخدومه أقام هو بدمشق وصار من جندها وصار زعيم دمشق مرات وسردارا بخدمة المحكمة وصار محتسبا مدة طويلة وأحدث بها ثمان عشرة باقية إلى يومنا ثم ترقى حتى صار شاويش وحج سنتين وعمر دارا قبالة البيمارستان النوري تعرف قديما بدار الصابوني والصابوني هذا هو صاحب جامع الصابونية وبعد مدة صار كتخدا الجند وسلك سلوكا غريبا حتى فاق من قبله وأتعب من بعده وكان سخيا إلى الغاية وله بذل وعطايا وقرى ثم صار أمير الحاج وأعطى حكومة نابلس فحج بالناس سنتين وذلك سنة تسع وخمسين وسنة ستين ثم عزل ورق حاله ولم يتغير عن كرمه ثم سعى له بعض الأعيان وصيره أمير الأمراء بالقدس وبعدما عزل عنها عاد مديونا وتضعضع حاله وكثر عليه الدين حتى باع أملاكه وسافر إلى الروم فلم يحصل له منصب بل صارت له علوفة في خزينة دمشق على سبيل التقاعد وذلك في سنة تسع وستين ثم صار متولى أوقاف الجامع الأموي ولما قدم الوزير أحمد باشا الفاضل جعله كتخدا الدفتر بدمشق وهذه الخدمة تتعلق بأرباب التيمار وأهل الزعامات ومن يتولاها يكون ضابطا لهم فانتظم حاله وتنبه من رقدة الخمول قال والدي رحمه الله تعالى في ترجمته وبعدما ناهز الثمانين ابتلى بمحبة غلام كان عنده من الخدام ولم يكن عهد في طبعه الرقه ولا عرف للغرام حقه وبعدما تحكم عشقه فيه نفر عنه وقصد تجافيه وخدم عند الوزير قبلان نائب الشام وعسر عليه خلاصه من يده واجتهد في تحصيله غاية الاجتهاد فلم يظفر منه بمراد ولم يزل يعاني فيه الغصص ويتوقع مواقع الفرص إلى أن مات وما مات حسرته وخلفت أمنيته منيته وكانت وفاته نهار الاثنين ثاني شهر رمضان سنة ست وسبعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من مزار بلال الحبشي رضي الله تعالى عنه سيف الدين أبو الفتوح ابن عطاء الله الوفائي الفضالي المقرى الشافعي البصير شيخ القراء بمصر في عصره قال بعض الفضلاء في حقه فاضل جنى فواكه جنية من علوم القرآن وتقدم في علومه على الأقران قرأ بالروايات على الشيخين الإمامين شحادة اليمني وأحمد بن عبد الحق وبهما تخرج وأخذ عنه جمع من أكابر الشيوخ منهم الشيخ سلطان المزاحي ومحمد بن علاء الدين البابلي وله مؤلفات مفيدة نافعة منها شرح بديع على الجزرية في التجويد ورسائل كثيرة في القراآت وكانت وفاته بمصر يوم الاثنين ثامن عشر جمادى الأولى سنة عشرين وألف رحمه الله تعالى
حرف الشين المعجمة
شاهين بن منصور بن عامر الارمناوي الحنفي أفقه الحنفية في عصرنا الأخير بالقاهرة اشتهر صيته وسارت فتاواه في البلاد ولد ببلده وحفظ القرآن والكنز والألفية والشاطبية والرحبية وغيرها ورحل إلى الأزهر فقرأ بالروايات على الشيخ العلامة المقرى عبد الرحمن اليمني ولازم في الفقه الإمام الشهاب الشوبري وأحمد المنشاوي وأحمد الرفاعي وحسن الشرنبلالي وفي العلوم العقلية شيخ الإسلام محمد الأحمدي الشهير بسييويه تلميذ العلامة ابن قاسم العبادي ولازمه كثيرا وبشره بأشياء حصلت له وأخذ عن العلامة سرى الدين الدروري والنور الشبراملسى وسلطان المزاحي والشمس البابلي ويس الحمصي ومحمد المنزلاوي وعمر الدفري والشهاب القليوبي وعبد السلام اللقاني وإبراهيم المأموني وأجازه جل شيوخه وتصدر للإقراء في الأزهر في فنون عديدة كالفقه والفرائض والحساب والنحو وغيرها وعنه أخذ جمع من أعيان الأفاضل وكانت ولادته في سنة ثلاثين بعد الألف وتوفى بمصر في سنة مائة وألف رحمه الله تعالى(1/457)
شحادة بن إبراهيم الحلبي الشافعي نزيل القاهرة قال بعض الأفاضل في وصفه علامة المعقول والمنقول وشيخ أهل الفروع والأصول ووحيد عصره وعميد مصره وشيخ الجامع الأزهر ومشكاة مصباحه الأنور وليث العلم الذي لا يجارى وغيث الفضل الذي لا يبارى ولد بمصر وبها نشأ وجد في الاشتغال بالعلم حتى بلغ الغاية القصوى وشدت إليه الرحال وأخذ عنه أكابر الرجال وأدار عليه من أبحاثه بسلاف لفظه الرقيق ما يقوم مقام الرحيق ومن شيوخه خاتمة الفقهاء الشهاب أحمد الرملي وخاتمة المحدثين النجم محمد الغيطي وخاتمة المحققين الشهاب أحمد بن قاسم العبادي وغيرهم وعنه أخذ كثير كالشيخ العلامة إبراهيم المأموني والشهاب القليوبي والأديب الفاضل درويش محمد أبو المعالي الطالوي وذكره في سانحاته وأثنى عليه وقدره بين علماء القاهرة ممتاز مسلم ولم يشتهر له تأليف سوى رسالة لطيفة قرظ بها على رسالة في نسب بني طالو لتلميذه أبي المعالي وكانت وفاته يوم الاثنين حادي عشرى جمادى الآخرة سنة عشرة وألف بالقاهرة وقد جاوز الثمانين الأمير شديد بن أحمد الأمير حاكم العرب وهو من آل جبار حكام العرب أبا عن جد يقال إنهم من ذرية جعفر البرمكي ومقام هؤلاء في بلاد سلمية وعانا والحديثة ومن عادتهم أن من استولى منهم على خيمة المال والسلاح يكون حاكما على العرب جميعهم ذلك أن لهم خيمة من الشعر كبيرة جداولها نواطير وحرس بالنوبة في اليوم والليلة وكلها صناديق مقفلة بالأقفال الحديد المحكمة والصناديق مملوءة من الذهب والفضة والجوهر والسلاح وغير ذلك من نفائس الأشياء النفيسة وكان شديد استولى عليها بعد أبيه أحمد وكان ظالما جبارا عنيدا متكبرا خسيسا قبيح المنظر والفعل والوصف غير محسن في شيء من الأشياء ولم يزل حاكما إلى أن مات في سنة ثمان عشرة بعد الألف واتفق في هلكه عجيبة أنه كان في خيمة في بعض صحاري حلب وكان ابن عمه مدلج بن ظاهر معه في الخيمة وكان شديد يلعب بالشطرنج مع بعض أقاربه ولم يكن عنده من إخوته أحد فاختلس مدلج الفرصة في خلو الأمير فناداه وهو يلعب يا شديد يا شديد فقال نعم فما أتم قوله نعم إلا ومدلج قد ضربه بخنجر في بطنه خرج من ظهره ولم يحتج في إخراج روحه إلى ضربة أخرى ولقد أرسل الأمير فخر الدين بن معن مكتوبا يخبر فيه عن قتل شديد وقال في مكتوبه إن تاريخ قتله قد اتفق في هذه الكلمات وهي قوله " مدلج قتل شديد ولد أحمد " ومن العجب أن والد شديد أحمد كان قتل ظاهرا والد مدلج في بيته وهو ضيف عنده فقدر الله أن ولد المقتول قتل ولد القاتل قلت وهذا ظاهر هو ابن مدلج المترجم في الكواكب السائرة وهو ظاهر بن عساف بن عجل بن مظين بن قدموس كان أمير عرب الشام وله قوة وبطش بحيث يمسك الدرهم من الفضة بأصبعيه ويفركه فيذهب نقشه ويفتت الحنطة بين أصبعيه ومن عجيب أمره أنه دخل عليه ولده قرموش وهو مريض ليقتله فضربه بسيف فقتله وشرب شخص لبنا حليبا وكان بيد امرأة فشكته إليه فاستخبره فأنكر وحلف بحياته أنه لم يشربه فطعنه برمح كان بيده فإذا اللبن خارج من جوفه فأمر المرأة بأخذ بعير من بعرانه عوض لبنها ومات على فراشه وذلك في سنة خمس وأربعين وتسعمائة انتهى(1/458)
شرف الدين بن زيد العابدين بن محيي الدين بن ولي الدين بن جمال الدين بن القاضي زكريا محمد بن زكريا الأنصاري السنيكي المصري الشافعي وتقدم أبوه الإمام الجليل كان صدرا من صدور زمنه معظما عند العلماء مقبول الشفاعة متقشفا ورعا دينا أخذ الحديث والفقه وغيرهما عن جمع منهم والده وأخذ عن الشمس الشوبري والنور الشبراملسى وأجازه شيوخه وتصدر لإقراء وأفاد وانتفع به خلق كثير وألف مؤلفات عديدة منها الطبقات ذكر فيها شيوخه وعلماء عصره وكان له اعتناء تام بالأسانيد ومعرفة الشيوخ ومواليدهم ووفياتهم وكان الشبراملسى مع جلالته يعظمه كثيرا وأقعد في آخر عمره وانقطع في بيته فكانت الطلبة تأتيه وتأخذ عنه وكانت كتبه كثيرة بحيث أنه اجتمع عنده كتب جده شيخ الإسلام ومن بعده من أسلافه على كثرتها وأضاف إليها مثلها شراء واستكتابا فكان إذا أتاه أحد بكتاب أي كتاب للبيع لا يخرجه من بيته ولو بزيادة على ثمن مثله وكان حريصا على خطوط العلماء ضنينا بها ورأيت بخط صاحبنا الفاضل مصطفى ابن فتح الله أنه أخبره أن عنده من طبقات السبكي الكبرى ثمانية عشر نسخة وثمانية وعشرين شرحا على البخاري وأربعين تفسيرا إلى غير ذلك ولما مات تفرقت كتبه شذر ومذر وكانت تباع بالزنبيل بعد أن كان يشح بورقة منها قال واتفق أن شيخنا العلامة إبراهيم الكوراني المدني أراد تحصيل رسالة للحافظ ابن حجر العسقلاني فيما علق الشافعي القول به على الصحة وكانت موجودة عنده فعول علي لما توجهت إلى مصر في استعارتها منه كتابتها فلازمته لأجلها نحو شهرين وهو يعتذر إلي ولم يمكن تحصيلها منه وبالجملة فقد كان من العلماء النزهين وكانت ولادته في سنة ثلاثين وألف تقريبا وتوفى في رجب سنة اثنتين وتسعين وألف ودفن بالقرافة الكبرى بقرب تربة الإمام الشافعي عند قبر جده القاضي زكريا في قبة جدوده المعروفين(1/459)
شرف الدين بن عبد القادر بن بركات بن إبراهيم المعروف بابن حبيب الغزى الحنفي أحد العلماء الأجلاء من أهل التحرير والإتقان وكان فقيها متمكنا مفسرا نحويا كبير الشان عالي الهمة وله تآليف شائعة منها حاشيته المشهورة على الأشباه والنظائر لابن نجيم سماها تنوير البصائر ورأيت بخطه كثيرا من التحريرات على الدرر والغرر في الفقه وله كتاب محاسن الفضائل بجمع الرسائل وهو ثلاث رسائل ثنتان له وواحدة للحسن البوريني الدمشقي رأيتها وطالعتها جميعا وسبب جمعها أن الحسن كان أرسل إلى الأمير أحمد بن رضوان حاكم غزة رسالة وفي ضمنها سؤال عن عبارة للمولى أبي السعود وقعت في تفسيره في سورة الفرقان عند قوله تعالى " لهم فيها ما يشاؤن خالدين " حيث قال حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدا وقيل من فاعل يشاؤن انتهى وطلب البوريني الجواب من شرف الدين فألف رسالته الأولى وقال في ديباجتها بعد الحمدلة وسبب التأليف فاشتغلت بايتا رقوس البيان وشرعت في الجواب مستمدا العون من الملك الديان وكتبت في ذلك رسالة سميتها رواء الصادي في الجواب عن أبي السعود العمادي وأرسلتها إلى الفاضل الحسن البوريني ذي الأيادي فلما وصلت إليه وتأملها بفكره اعترف بصحة بعضها واعترض على آخر بنكره فكتبت له الجواب عن إيراده وأنه دافع لمراد فأحببت أن أجمع هذه الرسائل في كتاب مفرد وأجعله خدمة لسدة مولانا الأمير الأمجد إلى أن قال وسميت هذا الكتاب محاسن الفضائل بجمع الرسائل ورتبته على حسب الواقع في الزمان فقدمت رسالة إرواء الصادي وثنيت برسالة الحسن البوريني وثلثت برسالتنا الموسومة بأرج العبهرى والجادي في الدفع عن إرواء الصادي وحاصل ما أجاب به أم ما موصولة واقعة على فنون الملاذ والمشتهيات وأنواع النعيم ومن جملة المذكور الحور والولدان وغيرهما من بني آدم وبناته وما الموصولة يستوى فيها المذكر والمؤنث والمثنى والجمع والغالب استعمالها فيما لا يعلم وقد تستعمل فيهما ويجوز في ضميرها مراعاة اللفظ والمعنى فرجوع الضمير مجموعا باعتبار معنى ما وهذا جواب عن أحد الوجهين والجواب عن الثاني وهو جمعه جمع العقلاء إن هذا من باب التغليب فغلب من يعقل من الحور ونحوها على ما لا يعقل من أنواع النعيم لأن كلمة ما موضوعة للكل أو لإرادة الوصف كما قال في قوله تعالى " ويعبدون من دون الله " ما أريد ما يعم العقلاء وغيرهم إما لأن كلمة ما موضوعة للكل أو لأنه أراد الوصف لا الذات كأنه قيل ومعبودهم أو اعتبار الغلبة عبدتها فهي على هذا حال حقيقة أو ذلك باعتبار ملابسة بين النعيم المعبر عنه بما وبين أصحابه فصح كون خالدين حالا من الضمير في الخبر سببية أي خالدين أهله فيه ففاعل الوصف يرجع إلى المتقين كما في قولك مررت بالدار قائما سكانها كما صرح به النحويون ولا يرد عليه عدم بروز الضمير لأن هذا على مذهب الكوفي واختاره ابن مالك لوردوه كثيرا والأول أولى كما لا يخفى انتهى قلت وقد تجاوزت الحد المضروب للتاريخ ولكن ربما حسن هذا الاستطراد عند قوم وبالجملة فالمقصود الفائدة ولعل كتابنا هذا لا يخلو عنها وبالله التوفيق وكانت وفاة صاحب الترجمة شرف الدين المعروف بالدمشقي الشافعي أحد أفاضل الشام المشهورين بالفضل التام وكان متبحرا ذا فنون كثيرة قرأ الكثير وضبط وقيد وجلس مجلس التدريس ونفع كثيرا من الأفاضل أخذوا عنه وانتفعوا به وصار معيد درس الحديث تحت قبة النسر وشيخه إذ ذاك الشمس محمد الميداني وكان الشمس يجله كثيرا ويعظمه ومرض مرة سبعة أيام فترك الدرس لأجله وكان له حلقة تدريس بمسجد هشام في شوق جقمق يقرى به دروسا خاصة ومن غريب أمره أنه كان في علم العروض ثاني الخليل إلا أنه لم يتفق له نظم بيت وكان إذا قرأ الشعر قرأه على طريقة المجودين بمراعاة الإظهار والإدغام والإخفاء وغير ذلك فيقع سمجا باردا وكان شيخنا النجم الفرضي يثنى على تحقيقه وحسن تفهيمه وهو ممن أخذ عنه ونحا نحوه وبالجملة فإنه كان من كبار العلماء الذين طنت حصاة فضلهم في الآفاق وكانت وفاته بعد عصر الأربعاء ختام شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير(1/460)
؟؟شرف الدين العسيلي القدسي كان من الأدباء أهل النادرة وكان يعرف علم الرمل والزايرجا واتفق له أنه سافر إلى الروم والمولى عبد الرحيم بن محمد الذي صار آخر أمره مفتيا في الدولة العثمانية قاضي العساكر بأناطولى فاستخرج له أنه في شهر كذا يرسل الملك خلفه ويوليه الإفتاء وأخبرهم بذلك فلما وقع له ما قاله أحسن إليه وقربه وولاه قضاء شبشير من اقليم مصر فذهب إليها وعاد إلى الروم فأعطاه قضاء المنزلة فاختر منه المنية قبل ضبطها وكان له شعر رأيت له هذه القصيدة كتب بها إلى مفتي الحنفية بالقدس الشيخ هبة الله بن عبد الغفار العجمي ملغزا وهي قوله
سليل المعالي فرع أصل الفواضل ... وبدر العلى يا شمس أفق الأفاضل
ويا واحدا في الدهر ما بين أهله ... وإنسان عين الفضل روح لكامل
ويا هبة الله الجليل جماله ... وواسطة العقد الفريد المماثل
أفدني رفيع الشان يا واحد العلى ... منيع الذرى قطبا بصدر المحافل
فما اسم به شيء لطيف مصحف ... كذا فيه معنى القرب يبدو لواصل
تصرف بقلب ثم حرف مصحفا ... ترى صنعتي ضدا حوتها معاولي
وفيه بقلب اسم فاضل عصره ... وثانيه وردى من ثغور المناهل
نتيجة هذا الاسم روحي فداؤها ... هي الشمس أن تبدو وضحى في الأصائل
غرامي به نام وإن دام هاجري ... بصد وبعد فهو لا شك قاتلي
تصرف وبين يا بديع بدائعي ... وميز بحال منك نعت العوامل
فلا زلت كشافا لكل عويصة ... همام المعالي قرم صدر الجحافل
مدى الدهر ما صاغ العسيلي قلائدا ... من الدر يبديها كشكل المسائل
فأجابه بقوله
أروض حوى الأزهار رطب الخمائل ... أم الغادة الحسناء حلت منازلي
أم الأغيد الوسنان وفي بعهده ... وانعم لي بعد القلى بالتوصل
وما ذاك إلا نظم مفرد عصره ... هو الشرف المفضال رب الفضائل
بلاغته في النظم لا شيء فوقها ... فصاحته أزرت بسحبان وائل
فيافذ هذا الدهر قد جاء منكم ... إلى نحونا لغز رفيع المنازل
فسحبان نصف اللغز يا عين أهله ... وتاليه وردى من ثغور المناهل
نتيجته أني أعيذ محبه ... بيوسف والإخلاص من كل عاذل
فسامح ضعيف النظم مولاي إنه ... إذا رامه يلقاه صعب التناول
فلا زلت بالآداب تتحف صاحبا ... وتبدى اللآلى في نظام الرسائل(1/461)
شعبان بن ولي الدين البوسنوي النوسيلي نزيل قسطنطينية قاضي العساكر الصدر الكبير النبيه القدر كان فاضلا كاملا واسع الصدر مبسوط الراحة قدم إلى قسطنطينية في سنة خمس وعشرين وألف وهو رقيق الحال وكان إذا حدث بمبدأ حاله يذكر قصة وقعت له مع رمال كانت رآه واستخبره منه عن طالعه فنظر الرمال فيما خطه مرة بعد أخرى وقال له إن صدق هذا الرمل فصاحب هذا الطالع بصير صدرا وتكون له رفعة زائدة بحيث أنه يصير قاضي العسكر قال وكنت أعجب من ذلك ثم بعد مدة صار من طلبة المولى أبي سعيد بن أسعد المقدم ذكره وهو مدرس بالمدرسة السليمانية ثم لازم من المولى يحيى قاضي العسكر باناطولى ودرس وذكر والدي المرحوم في ترجمته قال أخبرني من لفظه على أغا الطويل لما ورد دمشق للحج في سنة ثمان وخمسين انه لما ولى المولى محمد البهائي قضاء سلانيك كان الصدر الكبير إبراهيم المعروف بالروزنامه جى شفيعه فترجى عنده النيابة لصاحب الترجمة فما أمكنه ذلك ثم صار المولى إبراهيم بن كمال الدين الطاشكبري بعده قاضيا فصيره نائبا له وأنعم عليه وسما حظه عند ذلك فصيره المولى حسين ابن أخي مفتي الدولة مدرسا بمدرسة جده العلامة سعدى المحشى فترك النيابة قبل العزل منها وقدم إلى قسطنطينية واختلط بأكابر الدولة واتفق بعد مدة طلوع الوزير الأعظم محمد باشا المنبسط القدم إلى سفر العجم وكان الروزنامه جى المقدم ذكره عنده في نهاية الحظوظ فقرب صاحب الترجمة إلى خاطر الوزير فصيره قاضيا ينظر الأحكام في العسكر المعين معه فسار بخدمة الوزير وصار له في الطريق رتبة الداخل ورتبة الصحن ثم أنعم عليه بقضاء آمد مع بقائه في الخدمة المذكورة ولما قدم السلطان مراد إلى أخذ روان وعزل المولى أحمد بن زين الدين المعروف بالمنطقي عن قضاء دمشق سعى له الوزير مصطفى باشا السلاحدار نديم السلطان وكان إذ ذاك نائب الشام فأنعم عليه السلطان بها وقدمها وأظهر عفة ومكارم أخلاق ونعما لم تعهد من قاض قبله وله في هذا الباب مناقب غريبة أورد منها والدي المرحوم أشياء ومدحه شعراء ذلك العصر بالقصائد الطنانة منهم أحمد بن شاهين فإنه قال فيه هذه القصيدة وكان صاحب الترجمة دعاه إلى مجلسه فتمارض وامتنع من المجيء وكتب إليه يعتذر بقوله
مولاي يا من له في كل جارحة ... مني لسان يؤدى شكر ما وجبا
ومن إذا ما ذكرنا حسن عشرته ... وطيب أخلاقه طرنا به طربا
ومن له في فؤادي من محبته ... منازل بلغت في أفقها الشهبا
منها
أنت الذي ما رأينا مثله أبدا ... فضلا وبذلا وخلقا منه متخبا
كأنه من معد في خلائقه ... وليس منه إذا ما قال لي نسبا
وليس فضل الفتى في فضل نسبته ... إن الفتى من يعد المجد والحسبا
أتى كتابك في أمر بذلك له ... وجها لأمرك فوق الترب منسحبا
موشحا كل أمر راق مسمعه ... كأنه الدر بكرا ليس منثقبا
وبت ألثمه حبا وتكرمة ... وبات يزعجني قلبا إليك صبا
لكن عذري بعد عن ذراك وذا ... باد وعذر متى للعبد قد وجبا
ولست والله إلا عبد تكرمة ... لا عبد مخمصة إن رحت منتسبا
فلا تظن على ما في من أنف ... أو انقباض بأن أدعى فاحتجبا
والله يعلم أن لم يبق لي زمن ... في أمر جمعية مع غيركم أربا
واعذر فديتك واصفح عن مؤاخذتي ... فمن لعبد إذا وافاك أو هربا
واسلم على كل حال أنت طالبها ... فلا يسر الفتى إلا بما طلبا
ومعهم الأمير المنجكي فإنه قال في مدحه قصيدته الفائية المشهورة ومطلعها
صبر الفؤاد على فعال الجافي ... نعم الكفيل لكل أمر كافي
فاحمل على النفس الصعاب مؤملا ... من فضل ربك واسع الألطاف
أولست من قوم إذا ذكر العلى ... كانوا له من أشراف الأخلاف
شادوا المساجد والقصور فهذه ... للعابدين وتلك للأضياف
إني وإن كنت القليل ثراؤه ... لست المقصر عن ندى أسلافي(1/462)
كان الزمان لهم مطيعا خاضعا ... وأراه منتصبا لفعل خلافي
لم تيق لي الأيام الأمن له ... أسعى بخير وهو في إتلافي
أو محرقا قلبي بهجر عتابه ... وعليه من نعماى ظل ضافي
أوليس من إحدى الأمور تخلفي ... عن مجلس المولى بغير خلاف
أقضى قضاة المسلمين وقامع الق ... وم البغاة بصارم الاصاف
كشاف أسرار البلاغة من غدا ... للناس من داء الجهالة شافي
بحر العلوم الزاخر الطود الذي ... أمنت دمشق به من الارجاف
من ليس تبلغ بعض أيسر وصفه ... إن أسهبت أو أطنبت أوصافي
مولاي شعبان المعظم قدره ... أنت الرجاء لكل راج عافي
عذرا لعبد ليس يبلغ بعض ما ... هو واجب من حق قدرك وافي
ويرى صفاتك في النظام قد اغتدت ... بين الورى كالدر في الأصداف
إن المقال لحال من هو موثق ... بعقال أرجاف الزمان منافي
لكنما الورقاء أصدح ما ترى ... عند افتقاد الروض والألاف
وأنا الذي لك ما حييت لسانه ... رطب بأنواع الثناء موافي
أبقاك ربك للعباد فلم تزل ... لتلافهم بيد الندى متلافي
واسلم على مر الدهور ملاحظا ... بالعون والإسعاد والإسعاف
وكتب إليه الأديب أبو بكر العمري هذه الأبيات ويخرج من البيت الأول اسم شعبان بطريق النعيمة وهي قوله
غرة الشام أصبحت شمس فضل ... لاح منها في الشام أي شعاع
هو قاضي القضاة عين المسمى ... في المعمى يدريه رب إطلاع
أيهذا العزيز بينه إني ... لك داع ولا كمثلي داعي
ولعمري أظهرت في الشام عدلا ... قد رواه توافق الإجماع
زادك الله رفعة وعلوما ... وعلوا ما طاف بالبيت ساعي
واتفق له أنه توجه إلى الحج وهو مولى بعد أن استأذن من طرف السلطنة بذلك وأن يكون جدي محب الله قائما مقامه فجاءه أمر شريف بالإذن ومعه حجر من الألماس محفوف بأحجار مختلفة مكفوفة بصفائح الفضة والذهب أرسله الوزير السلاحدار المذكور ليوضع تحت الحجرين المشهورين بالحجرة النبويه اللذين كان أرسلهما السلطان أحمد كما سلف في ترجمته فوضعه صاحب الترجمة في جدار الضريح فزاد به شعار الإسلام جمالا واكتسب هو بهذه الخدمة فضيلة وإجلالا وقد قال فيه السيد محمد جمال الدين المعروف بكبريت المدني الآتي ذكره مشيرا لذلك بهذه الأبيات
زار خير الأنام حبر همام ... قد تسمى شعبان وهو ربيع
عم جيران أحمد بنوال ... دون ذاك النوال خصب مريع
جاء بالجوهر الثمين لطه ... من وزير هو الجناب المنيع
مصطفى المجد والندى والمعالي ... وسلحدار نعمة لا تضيع
يا له جوهرا تسامى وسامى ... بمقام فيه الثناء يضوع
عند وجه النبي قد وضعوه ... فغدا وهو مشرق ولموع
كان هذا في عام سبع وألف ... وتمام النظام فيه بديع
وبالجملة فهذا الحجر الميمون مما زاد وزان وصار أثرا حسنا يبقى إن شاء الله تعالى على ممر الأزمان كما قيل
وإذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا
وتزيدين أطيب الطيب حسنا ... إن تمسيه أين مثلك أينا
وكما قال الآخر
أقول والدر على جيدها ... يزهو بما فيها من الزين
ما علق الجوهر في نحرها ... إلا لما يخشى من العين
وقال ابن حجر في الجوهر المنظم تجاه الوجه الشريف في الجدار مسمار من فضة مموه بالذهب في رخامة حمراء من استقبله كان مستقبل الوجه الشريف حتى كان في أيام السلطان أحمد خان فجعل عليه حجرين من الألماس مكفتين بالفضة والذهب فهما من آثاره وليس لهما قيمة بالنسبة لمن أرسلا إلى حجرته فلله در القائل حيث يقول
الكوكب الدري من شأنه ... يخفى لدى وجه السراج المنير(1/463)
فكثروا الجوهر أو قللوا ... فالجوهر الفرد عديم النظير
انتهى ولما عاد صاحب الترجمة من الحج أهدى الهدايا السنية لغالب أهالي دمشق ثم نقل بعد ذلك إلى قضاء مصر وأقام بها مدة ثم عزل فتوجه إلى قسطنطينية واقتنى دارا بالقرب من جامع السلطان محمد ثم صار قاضيا بأدرنه وبعدها صارت له رتبة قضاء قسطنطينية ثم صار قاضي العسكر باناطولى في سنة إحدى وستين ثم صار صدرا بروم ايلي في سنة ست وستين وعزل فصار له بعض القصبات على التأبيد وأقام في داره صدرا مبجلا موقرا إلى أن توفى وكانت وفاته في أواخر ذي القعدة سنة سبع وسبعين سنة والنوسيلي بفتح النون والواو وكسر السين وسكون الياء المثناة من تحت وبعدها لام بلدة بالقرب من بوسنه شعبان بن الدمرداشى المصري نزيل غزة هاشم المعروف بأبي القرون كان والده من أمراء الراكسة بمصر وصار أولا هو من جندها ثم أخذ طريق الأحمدية عن الشيخ أحمد الركسي خليفة سيدي أحمد البدوي وصار من الكمل في العلوم الظاهرة والباطنة ثم ساح فورد دمشق في حدود سنة خمس وأربعين وألف ونزل أولا بزاوية الأحمدية داخل باب النصر ثم انتقل إلى المدرسة الايدغمشية بخط تحت القلعة وأقام بها مدة وظهر له بعض مكاشفات وأحوال ثم قصد الحج وأخبر أنه في العود يؤمر بالذهاب إلى غزة هاشم لأن حاكمها الباطني يموت ويوجه مقامه إليه وكان يقول إن حكومة غزة الباطنية لها رتبة عالية عند أهل الباطن لكونها آخر البلاد المقدسة ولما عاد من الحج وقع له ما كان يقوله فتوجه إلى غزة وأقام بها مدة حياته وكان له أحوال عجيبة من جملتها تسخير بعض الهوام له وانقيادها إليه حدثني بعض من أعتمد عليه عن كثير ممن لقيهم أنه كان عنده حية عظيمة ألفته وكان سماها باسم فكان إذا ناداها بذلك الاسم جاءته مسرعة وقعدت على ركبته ثم إذا أراد ذهابها ناداها باسمها أن اذهبي فتذهب ومن غريب حاله أنه كان يميل إلى سماع الآلات ويطرب لها وذكر لي كثير من الناس أنه لما قربت وفاته أوصى بأن يغسل على السماع فنفذ مريدوه وصيته وكان له مريدون وحفدة وبالجملة فعامة من لقيناه معتقدون ولايته وصلاحه والله أعلم بحاله وكانت وفاته بذي الحجة سنة ست وسبعين وألف ودفن بغزة شعبان الفيومي الأزهري الشافعي الإمام العالم العامل الفقيه المتضلع من العوم الشرعية شيخ الأزهر نفع الله بعلمه فما قرأ عليه أحد إلا انتفع به وحصلت له بركته ولد بالغيوم في سنة خمس عشرة وألف تقريبا وحفظ القرآن ورحل إلى مصر وأخذ عن من بها من أكابر العلماء كالشهاب القليوبي وحضر الشمس الشوبري وكان ملازما لهما سنين عديدة وكان مستغرقا أوقاته في إقراء العلم والتدريس في العلوم النافعة وكان يقرأ عليه استقلالا كل يوم ما ينيف على مائة طالب وله في كل يوم ثلاثة دروس حافلة واحدا بعد الفجر إلى قريب طلوع الشمس والثاني بعد الظهر والثالث بعد العصر هذا دأبه دائما وكان يجتمع فيها من طلبة العلم خلق كثير وكان محافظا على الجلوس في الأزهر لا يخرج منه إلا لحاجة وكان يستحضر غالب كتب الفقه المتداولة بين المصريين وتخرج به كثير من العلماء منهم العلامة منصور الطوخي وإبراهيم البرماوي وعطية الشوبري وغيرهم وكان قليل الكلام كثير الاحتشام لا يتردد إلى أحد معظما عند العلماء مشهورا بالورع وكان إذا قرأ القرآن يكاد يغيب عن حواسه وكان كثير الدعاء لمن يقرأ عليه ولا يسمع منه كلام إلا في تقرير مسائل العم وكان إذا مر في السوق يمر مسرعا مطرق الرأس وله كرامات علية منها أن رجلا تسلط عليه فكان إذا مر مطرقا يحاكيه ويمثل به ويطرق رأسه مثله فأتى إليه ذات يوم وهو مطرق ففعل مثله وأطرق رأسه فلم يقدر على رفعه ولا تحركيه يمينا ولا شمالا ثم أتى إليه واعتذر وتاب من ذنبه فعفا عنه ودعا له فعافاه الله تعالى ببركته ومنها الاستقامة في جميع الأحوال التي هي أوفى كرامة وكانت وفاته بمصر في جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وألف ودفن بتربة المجاورين رحمه الله تعالى(1/464)
شهاب الدين بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد العمادي الدمشقي الحنفي وقد تقدم أخواه إبراهيم أحد الصدور الفضلاء وكان فاضلا نبيلا حسن الفهم أديبا شاعرا منشيا وله خط بديع وسرعة كتابة وضبط وكان واسطة عقد بيت العمادي وإليه يرجع حله وعقده وكان والده وشقيقاه منقادين إلى تدبيره لا يسعهم خلافه بحال وكان له شهامة ودراية بالأمور تربى في حجر والده واشتغل في مبدأ أمره على الحسن البوريني والعلامتين الشهابين أحمد العيثاوي وأحمد الوفائ وعلى والده وأخذ عن أبي العباس المقرى ولازم من المولى السيد محمد بن السيد محمود الحميدي المعروف بشريف قاضي العسكر ونقيب الممالك العثمانية ودرس وولى قضاء الركب الشامي وحج وفي صحبته والده ووالدته وعمته وأخواه وكان ذلك في سنة ثلاث وثلاثين وألف ودرس بعدة مدارس منها المدرسة النورية الكبرى والناصرية الجوانية برتية الداخل ولما انتقل والده بالوفاة سافر هو وأخوه إبراهيم إلى الروم وتطلب فتوى الشام فلم يتيسر له وعاد إلى دمشق ثم فرغ له أخوه عماد الدين الآتي ذكره عن المدرسة الشبلية وبعد ذلك ولى تدريس السليمية ولما مات أخوه عماد الدين المذكور كان مفتيا فوجهت إليه الفتيا بتقرير قاضي دمشق واختير من طرف السلطنة خليل السعسعاني المقدم ذكره ثم في سنة ثلاث وسبعين صار مفتيا بعد عبد الوهاب الفرفوري وأخذ الفتوى عنه قريبا العلاء الحصكفي وأقام هو بدارهم لا يخالط أحد ولم يزل منغص العيش شاكيا لدهره متلهفا على ماضي عزه ومنصبه ورأيت له ترسلات وأشعارا كثيرة يتظلم فيها من الزمان فمن ذلك قوله من رسالة إلى مفتي الدولة والعلم الشريف محيط بمظلوميتنا التي هي أبين من فلق الصبح وأوضح من الضح من عزلنا ظلما وغدرا عن خدمتنا الموروثة لنا عن الآباء من سالف الأعصار وتقديم غير الأهل بالأجبار من غير موجب يقتضيه العقوق بعد الحقوق إلا الجد والاجتهاد بالاضطرار في مداراة من تحار في مرضاته الأفكار وما هو إلا الدهر جار فخار برقه خلب وهو أشعب فلذلك اعضب واشعب وبالله المستعان وصنع الله أغلب
رفعت إلى رحماك مولاي قصتي ... بنفثة مصدور ولست ألام
فأنت الذي قد شاع في الدهر عدله ... وجود له كالجود وهو سجام
إذا لم تكن أنت المعين فليس لي ... سواك مغين يرتجى ويرام
فضع منك لي هذا الجميل تفضلا ... فليس سوى صنع الإله مرام
وشيد عمادي واغتنم دعوة الورى ... فهذا رجائي والدعاء ختام
فلا زلت في الفتوى ولا زلت ملجأ ... لأنك للدين القويم عصام
مدى الدهر ما حق أعيد لأهله ... وما ضاء نجم واستحال ظلام
ولما عزل في المرة الأخيرة نظم هذه الأبيات وهي
رب فتوى ضلت إلى غير أهل ... كان توجيهها بغير صواب
إن حقا أضاعه بعض قوم ... أسأل الله رده للشهاب
هو إرث عن والد وأخبه ... حق للسيف رده للقراب
ومما يستجاد له من الشعر قوله
أيا دير مروان سقاك غرام ... تروح وتغد وعينهن سلام
وحياك من دير وحيا معاهدا ... بمغناك ما ناح الزمان حمام
وقفت على ربع به راح دارسا ... وقد فاح من عرف الرياض خزام
فقلت ولي فيه رسيس صبابة ... وفي القلب مني لوعة وغرام
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم تهرق هناك مدام
وقوله في الغزل
بروحي فتانا بلحظيه فاتك ... يرينا المنايا الحمر بالأعين النجل
يميل بقد أخجل الغصن والقنا ... يجد على قتل المحبين بالهزل
عجبت لهذا الحب ترضى فعاله ... وإن هو بعد العز بدل بالذل
وكتب إلى والدي في صدر رسالة أرسلها إليه إلى الروم تضمن عتابا
أمولاي فضل الله دام لك الفضل ... ودمت به تزهو وأنت له أهل
يبعد مني القلب ما عج لغوه ... بجلق حتى مجه العقل والنقل
فلا تغضبن إن الشهاب لواثق ... بركن عماد شاده المجد والفضل(1/465)
وأنت لأدرى بي ودادا وخلة ... وأن ليس يلوى القلب عن حبكم عذل
فقلبي قلبي مثل ما قد عهدته ... وقلبك فيما أدعي شاهد عدل
ومن نثره المتحف قوله من تقريظ قرظ به رحلة والدي المرحوم الأولى إلى الروم حمدا لك يا من جعل لنا الأرض ذلولا لنمشي في مناكبها وسخر لما الفلك لتجري في البحر بأمره ولنمتطي كاهل مراكبها وأمرنا بالسعي ابتغاء فصله ولطف بنا في تيسير التسيير في بره وبحره وحزنه وسهله وصلاة وسلاما على سيدنا محمد خاتم الأنبياء الكرام وحاتم الكرم القائل سافروا تغنموا والمسافر من حرم إلى حرم وعلى آله وصحبه المهاجرين والأنصار التابعين لهم ما دار الفلك الدوار وبعد فقد وقفنا على هذه الرحلة التي تشد إليها الرحال وتعجز عن بكر فكر منشيها فحول الرجال وسرحنا طرف الطرف في روضها النضير وشرحنا الصدر بلذيذ أنباء الخبر المعرب عن ضمير مقتضى الحال ولا ينبئك مثل خبير وأمعنا النظر في مجاز حسن معانيها وإعجاز مبالغة تراكيب قصص مغانيها فلم نجد لها في الحقيقة من نظير وعرفنها بها عرف ذلك الفضل الموروث عن طيب الأصل فلم نعبر عنه بسوى العبير نجنى طورا من ذلك اليانع ثمار الأخبار عن كتب وآونة ترتع في روض أريض من الأدب لما أودع فيه محرره من لطائف النكات وأبدع فيه من ظرائف الأبيات الأبيات ما يطرب كل سامع ويعجب كل مطالع ويغرب بما يعرب عن بدور المنازل بحسب الطالع بحيث صار ذلك إنسا للحاضر المحاضر وزاد للحامل المسافر وقد حذا في ذلك حذو جده العلامة فنثر ونظم ومن يشابه أبه فما ظلم واقتفى أثره في سيره ففاته بمراحل من رحلته المشحونة بأدبه فكان المشبه أبلغ من المشبه به وجد بجده فورى بما روى قدح زنده ولا بدع فهو ليس بدعى فيما يدعى وقد تلمذ للمولى المرحوم شيخ الإسلام الوالد الماجد مده وفاز فيه بما أجازه وأمده وورث الفضل والأدب عن جد وأب فضلا عما منح به منى القبول فحسب
إذا قيل من أضحى بجلق مدهشا ... بتبريزه في الفضل والعلم مذ نشا
فقل واحد كالألف في كل مجمع ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا
هذا بعدما طالعنا رحلة جده شيخ الإسلام المرحوم المشتملة على مراحل مصر والروم واطلعنا على ما حفت به من أرقام الأقلام وخطوط الحظوظ المنسوبة إلى العلماء الأعلام فكان ممن انتظم في سمطها والتحف بمرطها وأجاد وجد المرحوم العلامة عماد الدين العمادي الجد فقد نثر في طرسها جواهر كلمه ووشى بما أنشا في طرازها من نقش قلمه فثار عند ذلك منا العماد ودعانا داعي الفضل في اقتفاء أثر الأجداد فلا جرم حينئذ أن تحذو الفروع حذو الأصول وإن لم يدرك الضالع شأوا والضليع في الفضل ففي الفضول مع الاعتراف بالبضاعة المزجاه مرنجين من فضله سبحانه حسن القبول وما خاب من رجاه فجزى الله المؤلف على هذا التأليف من أنواع الألطاف آلافا وضاعف جزاء هذا التصنيف من خير الجارين أضعافا وأدام بكتابه الانتفاع ولجنابه الارتفاع ولأحبابه الأتباع وما نفحت رياض الآداب فرنحت القلوب والألباب وما طريت شقة بين واغتراب وقفل غريب إلى وطنه وآب انتهى وقد رأيت من آثاره كتابا صغير الحج جمعه من بعض تعليقات له على مواطن من التفسير والفقه ورسائل من منشآته وتقريظات ورأيت له أيضا مجموعا جمع فيه مدائحه التي مدح بها وهي حصة وافرة وبالجملة فأخباره وآثاره شهية لطيفة الموقع وقد ترجمته في كتابي النفحة وذكرت له أشياء مستعذبة وكانت ولادته في سنة سبع بعد الألف وتوفى نهار الجمعة حادي عشرى رجب سنة ثمان وسبعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير تحت قدمي والديه شيخ بن عبد الله بن عبد الرحمن بن شيخ بن عبد الله بن عبد الرحمن السقاف الشهير والده بالضعيف الشيخ العظيم القدر أحد المشايخ العارفين الزهاد الورعين ذكره الشلى وقال في وصفه ولد بمدينة قسم وحفظ القرآن بالتجويد واشتغل واعتنى بعلوم الصوفية وشارك في الفقه والنحو وصحب جماعة من أكابر العارفين منهم العارف بالله تعالى أبو بكر بن سالم وولده عمر المحضار والمعلم عبد الرحمن بن إبراهيم قسم وغيرهم وانتفع به غير واحد وكان الغالب عليه شدة التواضع كأبيه وكان في معاشرته لطيفا يحب العلماء ويحترمهم ويرحم الضعفاء ولم يزل إلى أن مات بمدينة قسم في سنة ست عشرة بعد الألف رحمه الله(1/466)
شيخ بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس اليمني الأستاذ الكبير المحدث الصوفي الفقيه ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن وغيره واشتغل على والده أخذ عنه علوما كثيرة ولبس منه الخرقة وتفقه بالفقيه فضل بن عبد الرحمن بافضل والشيخ زين باحسين بافضل وأخذ عن القاضي عبد الرحمن بن شهاب الدين وغيرهم ورحل إلى الشحر واليمن والحرمين في سنة ست عشرة بعد الألف وأخذ عن الشيخ محمد الطيار وله معه مناظرات ومفاكهات وأخذ عن الشيخ العراقي صاحب أكمة سعيف وهي قرية قريب الجندر وحج في هذه السنة وأخذ بالحرمين عن جماعة وأخذ في رجوعه من الحجاز عن السيد العارف بالله عبد الله ابن علي صاحب الوهط والسيد الإمام أحمد بن عمر العيدروس بعدن والشيخ عبد المانع وألبسه خرقة التصوف أكثر مشايخه وأخذ باليمن عن كثيرين منهم الشيخ أحمد الحشيبري والسيد جعفر بن رفيع الدين والشيخ موسى بن جعفر الكشميري والسيد على الاهدل وسمع خلقا كثيرا ولازم الاشتغال والتقوى ثم رحل إلى الهند فدخلها في سنة خمس وعشرين وألف وأخذ عن عمه الشيخ عبد القادر بن شيخ وكان يحبه ويثني عليه وبشره ببشارات وألبسه الخرقة وحكمه وكتب له إجازة مطلقة في أحكام التحكيم ثم قصد اقليم الدكن واجتمع بالوزير الأعظم عنبر وبسلطانه برهان نطام شاه وحصل له عندهما جاه عظيم وأخذ عنه جماعة ثم سعى بعض المردة بالنميمة فأفسدوا أمر تلك الدائرة ففارقهم صاحب الترجمة وقصد السلطان إبراهيم عادل شاه فأجله وعظمه وتبجح السلطان بمجيئه إليه وعظم أمره في بلاده وكان لا يصدر إلا عن رأيه وسبب إقباله الزائد عليه أنه وقع له حال اجتماعه به كرامة وهي أن السلطان كانت إصابته في مقعدته جراحة منعته الراحة والجلوس وعجزت عن علاجه حذاق الأطباء وكان سببها أن السيد الجليل علي بن علوي دعا عليه بجرح لا يبرأ فلما أقبل صاحب الترجمة ورآه على حالته أمره أن يجلس مستويا فجلس من حينئذ وبرأ منها وكان السلطان إبراهيم رافضيا فلم يزل به حتى أدخله في عداد أهل السنة فلما رأى أهل تلك المملكة انقياد السلطان إليه أقبلوا عليه وهابوه وحصل كتبا نفيسة واجتمع له من الأموال ما لا يحصى كثرة وكان عزم أن يعمر في حضرموت عمارة عالية ويغرس حدائق وعين عدة أوقاف تصرف على الأشراف فلم يمكنه الزمان وغرق جميع ما أرسله من الدراهم في البحر وله مصنفات عديدة منها كتاب في الخرقة الشريفة سماه السلسلة وهو غريب الأسلوب ولم يزل مقيما عند السلطان إبراهيم عادل شاه حتى مات السلطان فرحل صاحب الترجمة إلى دولت آباد وكان بها الوزير الأعظم فتح خان ابن الملك عنبر فقربه وأدناه وأقام عنده في أخصب عيش وأرغده إلى أن مات في سنة إحدى وأربعين وألف ودفن بالروضة المعروفة بقرب دولت آباد وقبره ظاهر يزار وكانت ولادته في سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة رحمه الله تعالى شيخ بن علي بن محمد بن عبد الله بن علوي بن أبي بكر بن جعفر بن محمد بن علي بن محمد ابن أحمد بن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم عرف كسلفه بالجفرى بضم الجيم وسكون الفاء ثم بعدها راء المفضال الكامل الماجد القاضي الأجل المحترم كان من رؤساء العلم جليل المقدار ذائع الذكر مقبول السمعة وافر الحرمة ولد بقرية تريس بالسين المهملة وحفظ القرآن وأخذ عن جماعة من العارفين ثم دخل بلاد الهند والسواحل وأخذ عن أجلاء لقيهم من العلماء الأعلام وضبط وقيد ورحل إلى الحرمين وفاق في العلوم النقلية والعقلية ثم تجير بندر الشحر فاشتهر بها وعلا صيته وأقبل عليه أهلها وعظموه وأجلوه وولى بها مشيخة التدريس بالمدرسة السلطانية فدرس في العلوم الشرعية وأفادوا انتفع به خلق كثير وولى خطابة الجامع ثم ولى القضاء وجمع بين أطراف الرياسة والمراتب وبالجملة فقد كان من صدور العلماء الأعلام وكانت وفاته ببندر الشحر في صفر سنة ثلاث وستين وألف
حرف الصاد المهملة(1/467)
السيد صادق بن بن أحمد بن محمد مير باد شاه الحنفي مفتي مكة العالم العلامة كان من أجلاء فضلاء الدهر ذا فنون كثيرة أخذ بمكة عن علماء عصره وله إجازة من الإمام محمد بن عبد القادر النحويري الحنفي المصري وولى إفتاء الحنفية بمكة وذاع فضله وسما قدره وجده ميرباد شاه المذكور صاحب الحاشية على البيضاوي من كبار أهل التحقيق وكانت وفاة السيد صادق يوم الأحد سابع عشر شعبان سنة تسع وسبعين وألف وتوفى ذلك اليوم معه من الأعيان الشيخ المجذوب علان بن أحمد بن إبراهيم بن علا الصديقي الشافعي والسيد محمد بن هاشم بن علوي المهدلي صالح بن أحمد الشيخ الإمام المعروف بالبلقيني المصري شيخ المحيا بالقاهرة وابن شيخه الشهاب العارف بالله تعالى علامة المحققين كان من كبار العلماء والزهاد وله القدم الراسخة في التصوف وفقه الشافعي والمعقولات بأسرها أخذ عن أبيه وغيره وشاع أمره وقصده الناس للتلقي عنه وكان يقرئ شرح القطب وحواشيه من المنطق وهو في شكل عريان الرأس في غالب الأوقات ولم يزل في إفادة واجتهاد بالعبادة إلى أن توفى وكانت وفاته بمصر في إحدى الجماديين سنة خمس عشرة بعد الألف عن نحو ثمانين سنة والبلقيني بضم أوله نسبة لبلقينة من غربية مصر صالح بن إسحاق الشرواني الأصل القسطنطيني المعروف ظهورى وإسحاق زاده قاضي قضاة مصر واحد فضلاء العصر الذي اتفقت على فضله كلمة الكلمة وكانت من حسنات الروم وأدبائها لم يخرج منها في عصرنا هذا ما يعادله في الفضل ورقة الطبع وحلاوة المنطق ونزاهة النفس إلا القليل وكان من شفوف طبعه مغرما بمنادمة الأصحاب ومذاكرة الأدب ومناقلة الأخبار وكان عالما بأيام الناس والأنساب والتواريخ وكان يحفظ من الشعر والأخبار شيئا كثيرا وله مصنفات حسنة الأسلوب تدل على زيادة تبحره منها بعض تعليقات على تفسير البيضاوي وله رسائل كثيرة لم يبيض منها شيئا من سواد مسوداته وأشعار بالتركية ومنشآته سائرة مرغوبة وكان مغرما بالكيميا وعملها وله مهارة كلية في تحقيق علمها وألف فيها مؤلفات وأتلف عليها مالا كثيرا وكان أكثر اشتغاله في العلوم على المولى محمد الكردي الشهير بمنلا لبى قاضي القضاة بالشام الآتي ذكره إن شاء الله تعالى ولازم من المولى عبد الله بن عمر معلم السلطان عثمان أبوه الآتي ذكره أيضا وحج في صحبة والده لما ولى قضاء مكة في سنة خمسين وألف ثم عاد إلى الروم ودرس بمدارس قسطنطينية إلى أن ولى المولى شيخ الإسلام يحيى بن عمر المنقاري الفتيا وراجت في زمنه بضاعة الأفاضل وصدر منه الامتحان للمدرسين فكان صاحب الترجمة ممن ظهرت فضيلته وبانت مزيته وشهد له الفضل فصيره مجرسا بمدرسة أياصوفية ثم ولاه المدرسة السليمانية وأعطى رتبة دار الحديث ومنها صار قاضيا بينكى شهر برتبة قضاء الشام ثم ولى قضاء بروسه ثم مصر وبها توفى وهو قاض وكانت وفاته في سنة ثلاث وثمانين وألف عن اثنتين وخمسين سنة رحمه الله تعالى صالح بن عبد القادر الخلوتي الكبيني الدمشقي الشافعي ثم الحنفي كان فاضلا صالحا أخذ طريق الخلوتية عن الشيخ أحمد بن علي بن سالم المقدم ذكره ولزم العبادة والأوراد وحصل في التصوف معرفة ونظم الشعر لكن لم أقف من نظمه على شيء حتى أثبته له وكانت ولادته في أواخر ذي الحجة سنة سبع وأربعين وألف وتوفى يوم الجمعة ختام شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وألف ودفن بمقبرة الفراديس صالح بن علي الصفدي الحنفي مفتي الحنفية بصفد كان فقيها فاضلا حسن التحرير رحل في مبدأ أمره إلى القدس وأخذ بها عن الشيخ العارف بالله تعالى محمد العلمي ثم رحل إلى القاهرة تفقه بها على الحسن الشرنبلالي والشهاب الشوبري المقدم ذكرهما وأخذ الحديث وغيره عن الشيخ سلطان والشمس البابلي وغيرهما ورجع إلى وطنه فدرس وأفاد وألف وله من التآليف الشهيرة كتابه بغية المبتدى في اختصار متن الكنز ثم سكن عكة وكان يفتي بها إلى أن مات ابن عمه أبو الهدى في سنة خمس وخمسين وألف وكان مفتي الحنفية بصفد فوجهت الفتوى بها إليه وانتقل إليها وسكنها ولم يزل مفتيا بها إلى أن مات في سنة ثمان وسبعين وألف رحمه الله تعالى(1/468)
القاضي صالح بن عمر بن القاضي سعد الدين بن العلم أخو الشيخ محمد العلمي الصوفي المشهور الآتي ذكره كان قدم إلى دمشق وولى بها نيابة قضاء المالكية بمحكمة الميدان حين كان عمه القاضي فخر الدين عثمان بدمشق متخليا عن نيابة الحكم بمحكمة الباب وشرع في طريق الزعماء فسعى لابن أخيه المذكور في نيابة المالكية بمحكمة السويقة المذكورة وكان لهم تعلقات بالقدس فلم يقدر على الإقامة بدمشق فكان يتوطن بالقدس وكان يتردد إلى الشام لزيارة أخيه الشيخ محمد وخاله العلامة محمد بن علي مدرس الشبلية الآتي ذكرهما وكان بينه وبين الشيخ علي بن محمد القلعي القدسي نزاع بسب وقف سيدي أحمد الثوري فاتفق إن مات ذاك في شعبان غريبا في قرية من قرى سيدي علي بن عليل ومات هذا في رابع عشر شهر رمضان سنة اثنتين بعد الألف غريبا في الرملة صالح بن محمد بن عبد الله بن أحمد الخطيب ابن محمد الخطيب ابن محمد الخطيب ابن إبراهيم الخطيب التمرتاشي الغزي الحنفي ابن الإمام الكبير صاحب التنوير في الفقه الآتي ذكره الإمام ابن الإمام كان فاضلا متبحرا بحاثا وله إحاطة بفروع المذهب أخذ عن والده ورحل إلى مصر وأخذ عن علمائها وتصدر في ذلك القطر بعد وفاة أبيه ونفع الناس في الفتاوى وألف التآليف النافعة في الفقه وغيره منها حاشية على الأشباه والنظائر التي سماها زواهر الجواهر وله منظومة في الفقه وشرح تحفة الملوك وشرح ألفية ولده محمد الآتي ذكره في النحو التي أولها
قال محمد هو ابن صالح ... أحمد ربي الله خير فاتح
وله شرح النقايه سماه العنايه وشرح تاريخ شيخ الإسلام سعدى المحشى وله رسائل كثيرة منها رسالة في سيدنا محمد وأخيه هارون عليهما السلام ورسالة في علم الوضع وترسلاته وأشعاره وافرة مطبوعة وقفت له على هذه الأبيات كتب بها إلى الخير الرملي في صدر رسالة وقد استحسنتها فأثبتها له نهي قوله
إن جزت عن رملة لي ثم إنسان ... حبر همام له علم وإحسان
في العلم نعمانه في الجود حاتمه ... وماله فيهما ضد وأقران
والخير أوله والخير شيمته ... والدين قيد له في العلم إمكان
قالوا هو البحر قلت البحر ذو غرق ... قالوا هو البدر لا يعروه نقصان
قالوا هو الليث قلت ذو حمق ... قالوا هو الشمس قلت الشمس ميزان
قالوا هو السيف قلت السيف ذو كلل ... وريما جاء منه صاح عدوان
قالوا فما هو قل لي قلت قد جمعت ... فيه الخصال وزادت فيه عرفان
أخوه شمس به ضاءت منازله ... وصدره بعلوم الله ريان
ليثان حبران في آجام معرفة ... يروى بانداهما للعلم ظمآن
قد جاء للرملة البيضا وقد درست ... فيها العلوم وفيها لاح طغيان
فجدد العلم فيها واستنار به ... عرش العلوم وفيها زاد إيمان
وبالجملة فقد كان من أجلاء العلماء وكانت ولادته في سنة ثمانين وتسعمائة وتوفى في سنة خمس وخمسين بعد الألف صالح بن محمد بن صالح بن محمد بن أحمد بن علي بن يس الدجاني المقدسي كان من أهل الفضل والأدب وبيتهم بالقدس بيت علم وتصوف خرج منهم ناس كثير من المشاهير وجدهم أحمد بن علي أحد أصحاب سيدي علي بن ميمون وصاحب سيدي محمد بن عراق وكان من كبار الصوفية في زمنه وله ترجمة واسعة في الكواكب السائرة للنجم الغزى ذكر فيها أشياء من مناقبه وأحواله وصالح هذا ولد بالقدس ونشأ بها وقرأ على أبيه محمد الآتي ذكره في أنواع العلوم ونظم ونثر وكان مقبول الشيمة لطيف الطبع حسن العشرة خلوقا متوددا وكانت وفاته في سنة خمس وخمسين وألف(1/469)
صالح بن نصر الله ويعرف بابن سلوم بفتح السين المهملة وتشديد اللام الحلبي رئيس أطباء الدولة العثمانية ونديم السلطان محمد بن إبراهيم سيد الأطباء والحكماء وواحد الظرفاء والندماء أظهر في فنون الطب كل معنى غريب وركبها بمقدمات حسه كل تركيب عجيب فأنتج استخراج الأمراض من أوكارها وكان كل طبيب يعجز عن إظهارها كان للطفه إذا جس نبضا يعطيه روح الأرواح و يفعل لرقته في النفوس ما لا تفعله الراح وهذا التعريف لغيري احتجته ففي محله أدرجته ولد بحلب ونشأ بها وأخذ عن أكابر شيوخها واشتغل بالعلوم العقلية وجد في تحصيلها حتى برع وغلب عليه علم الطب وكان حسن الصوت عارفا بالموسيقى صارفا أوقاته في الملاذ ومسالمة أبناء الوقت ثم تولى مشيخة الأطباء بحلب ولم يزل على تلك الحالة حتى رحل إلى الروم واختلط بكبرائها واشتهر أمره بينهم ونما حظه حتى وصل خبره إلى السلطان فاستدعاه وأعجبه لطف طبعه فصيره رئيس الأطباء وأعطاه رتبة قضاء قسطنطينية وقربه وأدناه وبلغ من الإقبال ونفوذ الكلمة مبلغا رفيعا وكان في حد ذاته أعجب مت رؤى وسمع في لطف البداهة والنكتة والنادرة وله رواية في الشعر والأخبار واسعة وكان ينظم الشعر ولم أر له إلا هذا المقطوع وقد جاء فيه بمضمون لطيف وهو
سقاني من أهوى كلون خدوده ... مداما يرى سر القلوب مذاعا
ومذ شبب الإبريق في كأس حاننا ... أقمت دراويش الحباب سماعا
وألف في الطب تأليفا لطيفا سماه برء ساعه وسمت همته في اقتناص شوارد المكرمات حتى نفع بجاهه كثيرا من أهل دائرته ومدحه شعراء العصر وأحسن ما رأيت من مدائحه قصيدة مدحه بها صاحبنا المرحوم عبد الباقي بن أحمد السليمان الدمشقي
بذكرك بعد الله يستفتح الذكر ... فما لسواك الآن نهي ولا أمر
وباسمك يسترقى السقيم فيشتفى ... به ويسح الغيث أو يبطل السحر
ولو لقن الشيخ المريد حروفه ... تجلت له الأنوار وانكشف الستر
ولو رقموا في راية الجيش رسمه ... لجاء على آثارها الفتح والنصر
وما المجد إلا صورة أنت روحها ... كما أنت معنى لفظه الكون والدهر
وما الخير إلا منك أو فيك أو لدى ... جنابك أو من شئت واليمن واليسر
جنابك مسعود وبابك كعبة ... تطوف بها الآمال تسبيحها الشكر
تكاد ترى خلق الفعال حقيقة ... إذا عدت ذا سقم فعاد له العمر
إذا جدت بالدنيا جميعا لآمل ... تقول له عد ثانيا ولك العذر
إذا ما تلا أوصافك الغر مادح ... يقال أفيمن همه الحمد والأجر
وقد حزت مجدا يحسر الطرف دونه ... وتعنو له الأفلاك أو تسجد الزهر
وسعدا مكينا لو حوى البدر بعضه ... تنزه عن نقص ولم يكسف البدر
وأوتيت ما لم يؤت لقمان بعضه ... فأنت بجمع الفضل بين الورى وتر
وجودا يكاد البحر يشبه فيضه ... وهيهات أن يحكى مواهبك البحر
منها
أمولاي إقبالا لعبد توجهت ... إليك به الآمال وصلته الشكر
إذا ما جرى ذكراك في مجلس غدا ... يميل كما النشوان مالت به الخمر
ويبخل بالتصريح باسمك غيرة ... وحبا وإجلالا وإن علم الأمر
وهل تختفي الشمس المنيرة في الضحى ... ويكتم نور البدر أو يستر الفجر
وكانت وفاته بينكى شهر وهو في خدمة السلطان في سنة إحدى وثمانين وألف(1/470)
صالح الرومي المعروف بدرس عام القسطنطيني المحقق الشهير أحد من أدركته فرأيت الفضل مشتملا به وهو أحد نوادر الدهر في الفضل والإتقان وتحقيق العلوم ولفضلاء الروم تهافت بالغ على الوصول إليه والاقتباس مما لديه وهو في نفس الأمر عجيب الصنعة في تقريره وتفهيمه جار على طريقة محقق العجم والأكراد في مراعاة آداب البحث وكانت له في العلوم العقلية مهارة كلية بحيث لا يشق فيها غباره وقد ولد بقسطنطينية وبلغني أنه كان في ابتداء أمره مزينا ثم حبب إليه الطلب فجد واجتهد وصرف شطرا عظيما من عمره في الاشتغال حتى بهر ومهر وجلس مجلس التدريس فأكبت عليه الطلبة وما برحوا في زيادة واعتناء به ثم سلك طريق الموالي فدرس بعدة مدارس ولما قدمت قسطنطينية من أدرنة في سنة سبع وثمانين صادفته مدرسا بإحدى مدرستي زكريا برتبة موصلة الصحف وكان إذ ذاك يقرى كتاب مغنى اللبيب لابن هشام فيحضره جمع كثير من الأفاضل ثم انتقل إلى إحدى المدارس الثمان فدرس فيها شرح المواقف على مقتضى شرط واقفها وكان له في بيته دروس خاصة وتوفى وهو مدرس إحدى الثمان وكانت وفاته يوم الأربعاء رابع عشر رجب سنة اثنتين وتسعين وألف صالح باشا الموستاري نائب الشام كان في الأصل من خدمة الوزير مصطفى باشا المعروف بالفراري ورد في خدمته إلى دمشق وهو متوجه إلى مصر حاكما بها ثم بعد إن عزل مخدومه عن مصر صحبه إلى الروم وصار ضابط الجند الشامي وورد إلى دمشق في سنة تسع وستين وألف ولم يحصل له حظ تام لوجود صولة الجند في ذلك الوقت ثم بعد زوال بعضهم نفذت كلمته ولما ولى الوزير أحمد باشا الفاضل نيابة الشام جعله قائما مقامه إلى أن قدم إليها فصيره كتخداه ولما ولى الوزارة العظمى جعله أميراخور السلطان ثم جعله ضابط الجند بقسطنطينية وسافر في خدمة الوزير إلى سفر إيران فاتفق أنه استشهد نائب الشام الوزير مصطفى باشا القيللي فوجه إلي مكانه وأرسل متسلما من قبله وأقام هو في السفر السلطاني وأمر بعمارة خان حسية ووكل في العمارة والصرف جماعة من أهل دمشق فعمروه ووسعوه ثم أمر بعمارة خان السبك فعمروه عمارة لطيفة وقلدوا في بنيانه بنيان عمارة القطيفة من السوق والجامع والحمام والعمارة ووقع هذا الخان في موقعه واتفق له تواريخ عديدة بالعربية والتركية وأجودها التاريخ الذي صنعه الأمير المنجكي رحمه الله تعالى وذلك قوله
صالح للخير لما أن بنى ... مخلصا خانا بفعل متقن
وهو والي الشام من أضحى له ... حسن ذكر في جميع الألسن
قال داعي البر بشرى أرخوا ... في سبيل الله خان قد بنى
وكان ذلك في سنة خمس وسبعين وألف ثم عمروا له بأمره الحمام خارج باب الجابية بمحلة القماحين ورتب عشرة أجزاء بالجامع الأموي تجاه روضة سيدنا يحيى عليه السلام وشرط نظارة وقفه لمفتي دمشق وكان يحب العلماء ويجالس الصلحاء وكانت وفاته بمدينة صوفية في سنة ست وسبعين وألف والموستاري بضم الميم وسكون الواو والسين المهملة وبعدها تاء مثناة من فوق وألف وراء نسبة إلى بلدة مشهورة في دائرة بوسنة(1/471)
السيد صبغة الله بن روح الله بن جمال الله البروجي الشريف الحسيني النقشبندي نزيل المدينة المنورة الأستاذ الكبير العارف بالله تعالى كان أحد أفراد الزمان في المعارف الإلهية وله اليد الطولى في أنواع الفنون وله الحاشية المشهورة على تفسير البيضاوي وهي مشهورة في بلاد الروم وله مصنفات غيرها منها كتاب باب الوحدة ورسالة إراءة الدقائق في شرح مرآة الحقائق ورسالتان في الصنعة الجابرية ورسالة في الجفر وما لا يسع المريد تركه كل يوم من سنن القوم وتعريب جواهر الغوث ولد بمدينة بروج بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الواو ثم جيم مدينة بالهند وأصله من أصفهان انتقل جده منها إلى الهند وسكن بالمدينة المذكورة وأخذ في الهند عن العارف بالله تعالى وجيه الدين العلوي الهندي تلميذ الشيخ محمد الغوث البسطامي وتأدب به وأكمل عنده الطريق وأجازه للإرشاد فأقبل عليه الناس وبعد صيته وعظم أمره عند ملوك الهند إلى الغاية لما شاهدوه من غزير علمه وزهده وورعه مع عدم تردده إلى أحد من أعيانها وعدم قبوله العطاء من السلطان وغيره إلا نادرا ثم رحل إلى الحجاز وحج في سنة خمس بعد الألف وأقام بالمدينة يدرس للطلبة ويربي المريدين وانتفع به الجم الغفير أجلهم السيد الأمجد ميرزا توفى بالمدينة في سنة سبع وثلاثين وألف ودفن بالبقيع والسيد أسعد البلخي والشيخ أحمد الشناوي المقدم ذكرهما والشيخ إبراهيم الهندي توفى بالهند والشيخ محيي الدين المصري والملا شيخ بن إلياس الكردي نزيل المدينة والملا نظام الدين السندي نزيل دمشق وجماعة لا يمكن ضبطهم وكان مشتغلا بالتدريس والتحرير ويلازم الصلوات الخمس بالجماعة في المسجد النبوي عند الشباك الشرقي من الحجرة النبوية وكان له شهامة وسخاء مفرط فربما أرسل إليه من أقاصي البلاد وأدانيها في دور السنة مقدار مائة ألف قرش فلا يبقى منها شيئا ويصرفها على الفقراء وكان له أحوال وخوراق في باب الولاية العجيبة جدا حكى عنه تلميذه الملا نظام الدين المذكور قال لما كنت في خدمته تذكرت ليلة وطنى وأهلي فغلبني البكاء والنحيب ففطن بي الأستاذ فقال لي ما يبكيك فقلت قد طالت شقة النوى وزاد بي الشوق إلى الوطن والأهل وكان ذلك بعد صلاة العشاء بهنيئة فقال لي ادن مني قد نوت من السجادة التي يجلس عليها فرفعها فتراءت لي بلدتي وسكني ثم لم أشعر إلا وأناثمة والناس قد خرجوا من صلاة العشاء فسلمت ودخلت إلى داري واجتمعت بأهلي تلك الليلة وأقمت عندهم إلى أن صليت معهم الصبح ثم وجدت نفسي بين يدي الأستاذ انتهى ويروى عنه أحوال غير هذه وبالجملة فهو كبير الشان سامي القدر مشهور بالولاية وكانت وفاته في سادس عشرى جمادى الأولى سنة خمس عشرة بعد الألف ودفن ببقيع الغرقد وقبره ظاهر يزار ويتبرك به رحمه الله تعالى(1/472)
الملا صفي الدين بن محمد الكيلاني نزيل مكة المشرفة الشافعي الأديب الطبيب فريد عصره كان أعجوبة في الذكاء والفهم اشتغل بالطلب حتى أتقن العلوم العربية والمنطق ثم تعانى الطب حتى رأس فيه وأخذ بمكة عن عبد الرؤف المكي عدة علوم وروى عنه كثيرا وله مؤلفات عديدة في الطب وغيره وشرح القصيدة الخمرية لابن الفارض شرحا حسنا وجعله باسم الشريف حسن بن أبي نمى وأجازه عليه إجازة عظيمة وكان يحسن إليه وانتفع به جماعة في الطب وغيره ويحكى عنه في الطب غرائب منها أنه مر عليه بجنازة بعض الطرحاء الفقراء فدعابه وأخذ من دكان بعض العطارين شيئا نفخه في أنف الطريح فجلس وعاش مدة فتعجب الناس من ذلك وسأله بعض أصحابه عن ذلك فقال رأيت أقدامه واقفة فعملت أنه حي ومنها أن بعض التجار كان يطعن فيه ويتكلم عليه فلما بلغه أرسل بعض الفقراء بغصن من نبات له رائحة طيبة فلما شمه التاجر انتفخ بطنه وعجز الأطباء الموجودون عن علاجه فاضطر إلى صاحب الترجمة فأرسل إليه واستعطفه فأعطاه سفوفا من ذلك النبات فعوفي مما به ونظير ذلك ما وقع لابن البيطار المشهور أن بعض معاصريه امتحنه عند السلطان فجاء للسلطان بنيات وقال إذا طلع إليك ابن البيطار مره أن يشم من هذا المحل يتبين لك معرفته وجهله فلما طلع إليه أمره أن يشمه من امحل المعين فشمه منه فرعف لوقته رعافا شديدا فقلبه وشمه من الجانب الآخر فسكن رعافه لوقته ثم قال للسلطان مر الذي جاء به أن يشمه من الموضع الأول فإن عرف أن فيه الفائدة الأخرى فهو طبيب وإلا فهو متشيع بما لم يعط فلما طلع أمره بشمه من الموضع فرعف رعافا شديدا فقال له اقطعه فعجز وحار في أمره وكاد أن يهلك فأمره أن يقلبه ويشمه ففعل فانقطع رعافه فمن يومئذ زادت مكانة ابن البيطار عند السلطان ومنها أن بعض أولاد الشريف حسن أصابته علة فأمر صفي الدين أن يعمل له كوفية من العنبر ففعل له فزالت العلة وأصابت تلك العلة بعض الرعية ففعل له كوفية من ضفع البقر فعوفي فقيل له أليس على لرجلين واحدة فقال نعم ولكن ولد الشريف نشأ على الرائحة الطيبة فلو عملت له من الضفع لزادت علته والآخر بعكسه فداوينا كلا بما يناسبه وكان يأمر من مرض أن يخرج من مكة ولوالى المنحنى لأن هواء مكة في غاية الاعتدال لكن رائحة البالوعات تفسده ولهذا بنى بيتا بالمحصب يسكنه من به مرض وبالجملة فقد كان من أعاجيب الدنيا وكانت وفاته في سنة عشر بعد الألف السيد صلاح بن أحمد بن عز الدين بن الحسين بن عز الدين بن الإمام الحسن ابن الإمام عز الدين بن الحسن بن علي بن المؤيد بن جبريل بن المؤيد بن أحمد بن يحيى ابن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الناصر بن الحسن بن عبد الله بن محمد بن القاسم بن الناصر بن أحمد بن الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسمعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب قال ابن أبي الرجال نشأ هذا السيد على الأدب والبلاغة وكان صدرا في مجالس الكبراء مقدما حسن التعبير مولده في خامس شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وألف بدار الإمام شرف الدين بصنعاء اليمن المسمى بدار العلف عند مسجد محمود لأنه قد كام ملكه السادة من أخواله الأمراء آل المؤيد وله من الأشعار في كل معنى منها قوله يمدح السيد محمد بن الحسن بن الإمام القاسم
بنفسي ومالي خير ملك من الورى ... وأقومهم بالحق في كل موقف
رأى حزن يعقوب يساور مهجتي ... فأعطى له من حسنه حسن يوسف
فإن منحته شكر داود همتي ... فما منحت من واجب فعل منصف
فمن حلم إبراهيم حلم محمد ... ومن طبع إسمعيل علم أن يفي
صبور كأيوب خطيب كأنه ... شعيب أخو القول البهي المفوف
كريم كيحيى لم يهم تربية ... طبيب كعيسى كم به مدنف شفي
كادر بس صديق عزيز كصالح ... برهط كرام دافعي كل مسرف
فيا رب ذي الخلق العظيم محمد ... به وبهم نج المليك وشرف
وزد في بقاه عمر نوح وأوله ... كملك سليمان الجان ومعتفي
وصل على من قد ذكرناه إنهم ... هم خير هاد في البرايا ومقتفي(1/473)
ورأيت في بعض أخبار علماء اليمن أن لصاحب الترجمة مؤلفات مفيدة وأجوبة شهيرة منها شرح الفصول في علم الأصول للسيد العلامة صارم الدين إبراهيم بن الوزير وهو من أقاربه يعني أن صاحب الترجمة من أقاربه قال القاضي الحسين المهلا في وصفه أنه من أصدقاء والدي وأهل مودته وأرسل وهو بجبل رازح من أعمال صعدة كتابا إلى صاحب له بأبي عريش يسمى بصديق ابن محمد وافتتحه بقول أبي محمد بن سارة
يا من تعرض دونه شحط النوى ... فاستشرفت لحديثه أسماعي
لم تطوك الأيام عني إنما ... نقلتك من عيني إلى أضلاعي
فأجابه والدي الناصر نيابة عن صديق بقوله
وافى المشرف رائق الابداع ... من سيد ندب كريم مساعي
أضحى لأشتات الفضائل جامعا ... حتى اجتمعن لديه بالجماع
يجرى بميدان الطروس أعنة ال ... أقلام بالتكميل للإبداع
أيلم بي سقم الفراق وكتبه ... فيها نسيم البرء للأوجاع
وصديقه صديق ابن محمد ... يكبو إذا ما هم بالاسراع
ما ابن اللبون يصول صولة بازل ... فيه قصور عن طويل الباع
فانعم ودم متمكنا متملكا ... لشوارد الأشعار والأسجاع
من ذاك للود القديم وحفظه ... كصلاح الشهم الجليل يراعى
لا زلت في غرف العلى متبوئا ... منها على أماكن وبقاع
تهدى إلى الأبصار أزهر خطكم ... وجواهر الألفاظ للأسماع
فأجابه صاحب الترجمة بقوله
أسرعت في نيل الصواب ولم تزل ... مذ لاح شخصك فيه ذا إسراع
وسبقت أهل الشعر لما قمت في ... خصل السباق به طويل الباع
وبهرت أرباب القريض فصار كال ... تمتام من في النطق كالقعقاع
وكشفت من سر البلاغة أوجها ... كانت قبيل لقاك خلف قناع
وأجبت شعرا قلته متمثلا ... بجوابك الشافي لا الاقناعي
أودعته نكت البديع فحارت ال ... أفكار في الإبداع والإيداع
صدقت أرباب البلاغة إذ أتت ... وحفظت إذ نسيت وكنت الواعي
وجمعت يا صديق كل لطيفة ... حتى لطفت وفزت بالإجماع
ونزلت من أهل الفضائل كلهم ... بمنازل الأبصار والأسماع
هذا لديك الناصر الأواه وال ... هادي بن عثمان أبو الأسجاع
قد أرصدا من سحر شعرهما لمن ... يهواك كل براعة ويراع
فإذا حباك الدر بالوزن امرؤ ... كالوا له عن درهم بالصاع
وإذا دنا شبرا إليك مواصل ... منحوه من لقياك ألف ذراع
فضلا حباك به الإله ونعمة ... والله يحبو من يشا ويراعى
وإليكها عمن يوزع قلبه البر ... حا فخذوا سمع عن الأوزاعي
قد كنت عقت الشعر ثم أتيته ... وأجبته إذ كنت أنت الداعي
ليلوح عندك صدق قولي إنما ... نقلتك من عيني إلى أضلاعي
فأجابه الناصر المذكور عنها بقوله
انطق فعندك للقريض دواعي ... قد جاء من شعر الهمام دواعي
وسعى صلاح في صلاح قريحتي ... وجزى بعشر الصاع ألف صواع
قد كان بي ألم لنصف أسمى فمذ ... وافى أتى بالضد من أوجاعي
أعنى الكتاب مطرزا بجواهر ... يقضى على الأيام بالأقلاع
لا فض فو رجل جليل قالها ... لفتى قليل بضاعة ومتاع
ما كان من ثدي الفصاحة راضعا ... لكن تعاطاها بغير رضاع
فلذا يرى وقت السباق مقصرا ... فاعذر فتى فيها قصير الباع
قد شاع سابغ نعمة الله التي ... أسدى لكم في الآل والأشياع
ونظمت يا بحر العلوم فرائدا ... نظمت لكم سحبان في الاتباع
واستعبد الملك ابن حجر شعركم ... لو عاش لم يقدر على مصراع(1/474)
واقر كتاب الأنام بأنهم ... رق لرق رائق الأسجاع
من آل أحمد لم يزل يوليهم الخ ... يرات في جبل سما وبقاع
فلذاك عز الدين وانتشر الهدى ... إذ كان عز الدين أكرم ساعي
أبدى صلاحا لاح من أثوابه ... نور بدا في عارض هماع
أحيا به الأرباء والأدبا معا ... من كل دان أوب بعيد بقاع
لا سيما الهادي الأجل ومن له ... ود أكيد والمحب الداعي
فأبو عريش فاق بلدان الورى ... إذ صرت راقما اسمه برقاعي
شرفتموه إذ مدحتم أهله ... بمدائح عن خاطر مطواع
ونعتم صديقه بصديقكم ... عطفا وتأكيدا بغير نزاع
من لم يكن عن ودكم بدل له ... فلرفعه قد صار بالإجماع
يكفيه فخرا ما جرى من مدح من ... فاق الورى لطفا وحسن طباع
لا من إن أحببت آل محمد ... فهم الأمان لنا من الإفزاع
ومما قاله صاحب الترجمة يخاطب القاضي العلامة مطهر بن علي الضمدي وقد طلب عارية كتاب إيثار الحق على الخلق
آثرونا يا صاح بالإيثار ... كي يكون البلوغ للأوطار
عجلوا عجلوا جزيتم بخير ... فلهذا الكتاب طال انتظاري
وهي من أبيات وأجاب القاضي عنها بأبيات رائفة مطلعها
قسما بالعقول والأنظار ... وبما ضمنت من الأسرار
وله غير ذلك وكانت وفاته في أواخر سنة سبعين وألف القاضي صلاح الدين بن زيد العابدين القاضي الصالح الباعوني كان من الفضلاء المعروفين والكملاء الموصوفين وكان صاحب أخلاق حسنة وشمائل رائقة وكان مقيما بصالحية دمشق وولى نيابتها مدة مستطيلة وكان والده زين العابدين المذكور ترجمانا في المحكمة عنده وكان له حديقة بالصالحية يقيم فيها ويجتمع عنده شعراء ذلك العصر ويتذاكرون الأدب منهم إبراهيم بن محمد الأكرمي المقدم ذكره فإنه كان لا ينفك عنه وله فيه مدائح منها قوله وقد نظم هذه الأبيات في حديقته المذكورة وهي قوله
لم أنس مجمع إنسنا ... في روضة القاضي الصلاح
رب العوارف واللط ... ائف والمكارم والسماح
مولى طليق الوجه عند الع ... المين سموح راح
لله حسن مقامنا ... إذ نحن في البسط السراح
نتفاوض السحر الحلا ... ل ونعتفى جد المزاح
ونفوسنا سكرى التنع ... م والسرور بغير راح
في ظل روض عمه ... نفح الأزاهر والأقاح
حيث النسيم الرطب قد ... أرسى على الماء الفراح
والطير تشدو في الغصو ... ن بطيب ألحان صحاح
وفواكه الأغصان تنثر ... فيه من كل النواحي
حييت يا يوم الجنين ... ة كل غادية وراح
من يوم إنس لم يكد ... ر صفوه واش ولا حي
ما أنسى لا أنسى اجتماع ... ي فيك بالغر الصباح
تغدو علينا الطيبات م ... ن الغد وإلى الرواح
لا زال صاحبنا الصلا ... ح يؤم في حال الصلاح
وبقى مدى الأيام في ... حرز السلامة والنجاح
ما غردت ورق الحمائم ... في المساء وفي الصباح
وكانت وفاة القاضي صلاح الدين في ثالث عشر محرم سنة ست وثلاثين وألف ودفن بسفح قاسيون السيد صلاح الدين بن عبد الخالق بن يحيى بن المهدى بن إبراهيم ابن المهدى الحجاف القاسمي الحسني الحبوري الإمام العلامة الجليل الشان كان مفننا في علوم كثيرة وله تآليف مشهورة منها شرح تكملة الأحكام في علم الطريقة وأجوبة مسائل مشهورة ونظمه أسير من مثل في بلاد اليمن وله ديوان شعر مدون تلقيت خبره من مجموع الأخ الفاضل مصطفى بن فتح الله سلمه الله تعالى وأنشد له من شعره قوله يمدح الإمام المؤيد بالله محمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم ابن محمد بن علي(1/475)
بأفعاله يسمو الكريم ويشرف ... ويذكر ما بين الأنام ويعرف
وقد يسعد الله امرأ مع هذه ... بأسلاف صدق بالمكارم توصف
فيجتمع المجد التليد وطارف ... فلا الأصل مذموم ولا الفرع معرف
ألم تر أن القاسم بن محمد ... بني شرفا يحظى بنيه ويزلف
فلم يكتف المولى المؤيد بالذي بنى بل بنى مجدا يزيد ويضعف
أليس له أيام والده من المواق ... ف ما لم يحكها قط موقف
بهن استفاد الدين رونق وجهه ... وكان تبدى وجهه وهو أكلف
عشية جل الخطب والأرض أظلمت ... وأضحت قلوب الناس وهي ترجف
وخان الرجال الصادقين ثيابهم ... وقل امرؤ من وصمة الذل يأنف
وأرعشت الأيدي فلم يغن صارم ... ولم ينك قط السمهري المثقف
وقد شمل الناس البلاء فلاحق ... بأرض ومستدن لما يتخوف
ومدت إلى الله الأكف عواتق ... لطمن خدودا والمدامع ذرف
هناك رد الله في الدين روحه ... به وتلافاه وقد كاد يتلف
وأرسى به الدنيا وما فوق ظهرها ... وكانت بمن فيها تميد وترجف
إلى غير هذا من مواقفه التي ... بها الدين أضحى شمله يتألف
وقام بأمر المسلمين فأحسن الخلا ... فة إذ لا مثله قط يخلف
فبايعه مما يشار إليهم ... بحار إذا استنزفتها ليس تنزف
نحارير لو شاؤا وقد شاء بعضهم ... لقد ألفوا في كل فن وصنفوا
فما فاتنا من قاسم غير وجهه ... ولما يفتنا نائل وتعطف
ورفق وبر وانطلاق ورحمة ... وبشر وتقريب لنا وتلطف
وعلم وإنصاف وحلم على أذى ... ممض يخلى عنده الحلم أحنف
ثمال اليتامى والمساكين لم يزل ... أبا لهم يحنو عليهم ويرأف
لهم قطرت غلظ له من صنيعه ... إليهم وشعر في الرؤس مسرهف
مجالسه عاف يفاد وعالم ... يفيد وسيف في القراب ومصحف
ونهمته استنباط حكم دليله ... قضية عقل أو قياس مؤلف
أو السمع لا التقليد إذ ذاك منهو ... وكان بنيق بين قطريه نفنف
وما زال للعافي غياثا وملجأ ... ومنتجعا يؤوى إليه ويؤلف
أمولاي يا من وصفه فات قدرتي ... وقصر عنه ذا النظام المفوف
أهنيك بالعبد الأغر الذي له ... خصائص لا تحصى بها أنت أعرف
وفيت بما وفى الخليل بها لمن ... براك فأنت المخبت المتحنف
وأحييت معلومات شهرك بالذي ... يسن ومعدوداته لا تكلف
وصليت قربت النسائك خالصا ... لمولاك لا تزهى ولا تتغطرف
فشاركت إذ وفيت للمعيد حقه ... رجالا أهلوا محرمين وعرفوا
يباهى بهم رب السماء جماعة الملائ ... ك بعد العصر ساعة وقفوا
لهم دعوات لا ترد ورنة ... مذكرة بالنحل حين يرفرف
سألت العظيم الايد والملك الذي ... له قطعوا عرض الفلاة وأوجفوا
بمن فيهم من صالح وبما دعوا ... وما مسحوا الأركان تلك وطوفوا
يهنيك ما أولاك تنفك سالما ... إليك خطوب الدهر لا تتطرف
ويحيمك ما هب النسيم وغردت ... أصيلا حمامات على الأيك هتف
وإني وأصحابي معا بعد هذه ... سيجمعنا ذاك الجناب المشرف
نوافي إليه بعد لأي كأننا ... رذا يا عقيب الواردات تخلف
وننشدك البيتين لا ناظرين في ... عوامل علم النحو كيف تصرف(1/476)
ولكن لما قد جاء إخوة يوسف ... إليه فأنت اليوم لا شك يوسف
إليك أمير المؤمنين رمت بنا ... خطوب المنى والهرجل المتعسف
ومض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحة أو مخلف
وهاك نظاما زانه وصفك الذي ... يكرم شعرا حازه ويشرف
يميزه الذوق السليم وحسنه ... يدق على فهم الغبي ويلطف
فكم ناقد للشعر مبلغ علمه ... هو الوزن واللفظ الكثير المرصف
ولم يدر ما المعنى البليغ لجهله ... ولا المقصد الغث الركيك المزيف
وما السر إلا في معان مصونة ... عليهن ستر لم يزحزحه مغدف
ومثل أمير المؤمنين مميز ... مطل على تلك المقاصد مشرف
فيعرف للعلق النفيس فضيلة ... بها يزدرى القول اللطيف الملفلف
فدونك يا مولاي ما هو خالد ... وما دونه فإن من المال متلف
يسير مسير البدر والبدر قاصر ... وينقله بحر ورعن وصفصف
ويسطر بالأقلام في كل دفتر ... به يتحف السمار ليلا ويطرف
مقال امرئ ما قال في غير قاسم ... ونجليه مدحا والأمور تكشف
وما قلت في سلطان جور قصيدة ... أبى الله ينهاني التقى والتعفف
وقد صان وجهي الله عن قصد غيرهم ... إذا سأل السؤال يوما فألحفوا
وهذا آخرها وكانت وفاة السيد صاحب الترجمة في سنة سبع وأربعين وألف بحبور من أرض اليمن رحمه الله تعالى القاضي صلاح الدين المعروف بالكوراني الحلبي مولدا وتربة شيخ الأدب ومركز دائرته بقطر الشهباء وكان رئيس الكتاب بمحكمة قاضي قضاتها وله أخ اسمه تاج الدين كان يتولى النيابة بها والقاضي صلاح الدين هذا من مشاهير الأدباء له شعر مطبوع ونظم مصنوع مع مشاركة في فنون عديدة وخبرة بمفاهيم عجيبة وهو من المكثرين في الشعر فليس لأحد من أبناء عصره عشر ما له من الشعر وناهيك بمن لم يخل بياض يوم ولا سواد ليلة من تبييض وتسويد ولم يبق أحد يتوسم فيه النجابة إلا مدحه أو راسله أو طارحه إلى أن صعد درج الثمانين ورقى التسعين وذكره البديعي فقال في وصفه شاعر إن ذكر المجيدون فهو الواحد الكامل ونائران وصف المنتمون إلى الآداب فهو القاضي الفاضل ومن محاسن إنشائه ما كتبه إلى السيد أحمد بن النقيب الحلبي المقدم ذكره ملغزا في اسم عندليب وهو أيها الشريف الفاضل واللطيف الكامل قد تمسكت الأحباء بأرج أعتابك وتمسك الأباء بأهداب آدابك وخلصت المشكلات بالتلخيص ولخصت المعضلات بالتخليص وملكت الاستعارات فأعرت ما ملكت وسبكت الكنايات فأنكيت بما سبكت وانعقدت على عفتك الخناصر وقيل للخائن إلى الخناصر وكيف تنصرف عن سلامة الطبع والصفة وفيك اجتمع الوزن والمعرفة وقد ارتاح الصلاح إلى خفض الجناح لديك وعول عليك وطلب أن يعذر ويقال فيما أطال وقال ما اسم بالظرف موصوف على أنه بعض ا لأحيان مظروف وإن قلت ظرف مكان فهو في حيز الإمكان ويضاف إليه ظرف الزمان على أنه من وصف الآرام اللاتي هم المرام أو على أنه أنالك كما لي أن أعرف كمالك وتصحيف شطره الأول والثاني جيد لا غيد وإن قلت أسد فهو للإيضاح ليث أسد وإن شئت قلت موضع لبث القلائد من الصدور أو ما استرق من رمل الصخور وإن أردت المجاز فالخمر من صروفه وإن أردت الحقيقة فظرفه من مظروفه وكيف يخفى وأوله اسم سنام الانعام وثانيه حيوان في البحر العام وثالثه اسم امرأة ذات سمن ورابعه شجر ذو فنن وخامسه اسم ناحية من نواحي البقاع وسادسة اسم رجل كثير الوقاع على أن أوله والثالث والرابع ينبى عن قلب سقط الزند الواقع والثاني والثالث عن أطيب العرف نافت وهو نديم الملوك في القصور وخديم ربات الشنوف في الخدور حقير المقدار جليل الاعتبار وأقواله مؤثرة في مثل قلب عنتر مع أنه صغير ضعيف الجثمانية مفتر فهل يخفى بعد شرح هذه الأمور ولكن الخفاء في شدة الظهور فجد مجيبا مجيدا لا برحت مفيدا سعيدا فأجابه ملغزا له في بازى بقوله(1/477)
راسلتني لا برح عندليب الفصاحة صادحا على رياض مراسلتك وقمر البراعة لائحا من أفق أفلاك عبارتك وحمى الفضل محميا بسمهرى أقلامك وجيد الأدب محلى بدرر عقود نظامك وإن لي قريحة قريحة بصروف حوادث الزمن وفكرة جريحة من معاناة خطوب هذه المحن وأدرت على سمعي من سلاف ألفاظك ما هو عندي أرق من نسيم الصبا وأهديت إلى فكرتي من نفائس صنائعك ما ذكرتني به زمان اللهو والصبا وأتحفتني ببدائع ما احمر الورد إلا خجلا من بهجتها ولا اصفرت الصهباء إلا حسدا لما شاهدته من استيلائها على العقل وسطوتها لاغرو أنها صدرت من قس الفصاحة وقاضيها الفاضل وأتت من رئيس هذه الصناعة وإمامها المشار إليه بالأنامل فادخرتها تحفة للوارد والصادر ورقمتها بقلم الفكر على لوحة الخاطر فأماطت النقاب وأزالت الحجاب عن اسم مطرب ما زال يغرد في الرياض بين الأفنان ويحرك بصوته الشجي ما سكن في خاطر الولهان ويتعشق الورود لشبهها بخدود الملاح ويراقبها مراقبة المهجور في الاغتباق والاصطباح طالما جنى عليه لسانه فحبسوه وضيقوا عليه ومن عجب أمره أنه لم يحبس إلا لزيادة حبه وشدة الميل إليه صحف النصف الأول منه تجده عبدا عن الخدمة لا يحول وإذا شئت قلت عيد بالمسرة والهناء موصول وربما أظهر لك غيداء ممنعة الحجاب وأبدى لك بقلب بعضه عذب الرضاب واحذف ثلثا منه نجده عندي موجودا كما أن ذلك الثلث المحذوف ما زال مني في هوى الحسان مفقودا وإن صحفت ثلثه وقلبته قلب كل لأرتك لديعا بعقرب السالف أو قلبتها قلب بعض أبدت لك اسم شاعر من شعراء الزمن السالف وإن صحفت نصفه الأخير قلت ليته من هذا التصحيف خالص فإنه يظهر لك ليثا ترتعد منه الفرائص وربما ظهر لك بأوله ورابعه وخامسه أنه على المقام وبثانيه وثالثه وخامسه ندى عرف يحسن منه الختام فأجبر جابر هذه كسر هذا الجواب وألق عليه من اكسير قبولك ما يرفع به بنى الآداب ولقد عن لي أن أعول على جنابك وأسأل من شريف أعتابك عن اسم يعرف بالشجاعة تقر له أبناء جنسه بالطاعه تخدمه الملوك والأعيان وتتبعه في المهامه الفرسان موضوع وهو محمول وعزيز مع أنه مقيد مغلول طالما سطا على عدوه فأورده الحمام ونال من إراقة دمه المرام ومع ذلك فهو يؤثر بما لديه وهو جائع ويفعل ولا يقول وهذا من أشرف الطبائع رباعى مع أنه نصفه حرف من حروف الهجاء وإن صحف كان حرفا يستعمل عند الطلب والرجاء وإن حذفت أخيره وصحفت الباقي ظهر لك أنه أحد العناصر وبتصحيف آخر من غير حذف يبدو لك أحد أسماء القادر القاهر مظلوم مع أنه إن لوحظ نصفه الأخير كان في زي ظالم وربما اشعر بتصحيفه وحذف ثانيه أنه برئ من جميع المظالم فبالذي شيد بك دعائم الأدب والكمال وجلى بفكرك غيهب كل إشكال إلا ما أوضحت مشكله وبينت خفيه ومقفله لا برحت بنو الآداب ترد حياض آدابك الدافقه ويجنون من أزاهر رياض فضائلك الفائقه ما ترنم عندليب على فنن وحرك بشجوه من كل مغرم ما سكن انتهى قال السيد أحمد بن النقيب المذكور في ترجمة صاحب الترجمة وكان بالقرب من ضريح المرحوم يعني والده السيد محمد عدة أشجار من العناب فشاهدت يوما أغصانها المخضرة تزهو بثمارها المحمرة فأتبعت الحسرة بالحسره ولم أملك سوابق العبره وجادت الطبيعة بأبيات على البديهة وهي
وقائلة والدمع في صحن خدها ... يفيض كهطال من السحب قد همى
أرى شجر العناب في البقعة التي ... بها جدث ضم الشريف المعظما
له خضرة المرتاح حتى كأنه ... على فقده ما إن أحس تألما
وأغصانه فيها ثمار كأنها ... بحمرتها تبدى السرور تلوما
ولو أنصف كانت لعظم مصابه ... ذوت واكفهرت حيرة وتندما
فقلت لها ما كان ذاك تهاونا ... بما نالنا من رزئه وتهضما
ولكنها لما وضعنا بأصله ... غدير بأنواع الفضائل مفعما
بدت خضرة منه تروق وحزنه ... كمين فلا تستفظعيه توهما
وما احمرت الأثمار إلا لأننا ... سقيناه دمعا كان أكثره دما
فوقف الكوراني على ذلك فقال أبياتا منها
فيا شجر العناب مالك مثمر ... سرورا ولم تجزع على سيد الحمى(1/478)
على رمسه أورقت تهتز فرحة ... وتدلى إليه كل غصن تنمنما
أهذي أمارات المسرة قد بدت ... أم الحزن قد أبكاك من دونه دما
ومنها على لسان العناب
نعم فرحتي أني مجاور سيد ... نما حسبا في عصره وتكرما
وحضرته روض من الجنة التي ... زهت بضجيع كان بالعلم مغرما
أتعجب بي إذ كنت في جنب روضة ... وحقي فيها أن أقيم وألزما
كعادة أشجار الرياض فإنها ... تمكن فيها الأصل والفرع قد نما
وقد قيل في الأسماع إن كنت سامعا ... خذ الجار قبل الدار إذ كنت مسلما
أملسار من دار الفناء إلى البقا ... وأبقى ثناء بالجميل معظما
ومن كان بعد الموت يذكر بالعلى ... فبالذكر يحيا ثانيا حيث يمما
فقلت له يهنيك طيب جواره ... وحياك وسمى الغمام إذا همى
لتسقط أثمارا على جنب قبره ... ليلقطها من زاره وترحما
فواعجبا حتى النبات زها به ... فحق لنا عن فضله أن نترجما
فلا زالت الأنواء مغدقة على ... ثرى قبره ما ناح طير وزمزما
ومما اشتهر له قوله في دخان التبغ
لقد عنفونا بالدخان وشربه ... فقلت دعوا التعنيف فالأمر أحوجا
ألا إن صل الغم في غار صدرنا ... عصانا فدخنا عليه ليخرجا
الصل الحية السوداء ومن شأنها أنها إذا عصيت في وكرها دخن عليها التخرج وللصلاح أيضا فيه وهو معنى حسن
لو لم تكن أيدي الأكارم لجة ... ما كان في أطرافها الغليون
والغليون أطلق على سفينة معهودة بين العوام وعلى آلة يوضع فيها ورق التبغ ويشرب وكلاهما غير لغوي وهو في اللغة اسم للقدر وفيه يقول عبد البر الفيومي صاحب المنتزه مع احتمال الغليون للمعنى اللغوي
غليوننا لقد غلا ... ما فيه والماء يفور
في مهجتي ومقلتي ... دخانه أضحى يدور
وللصلاح معمى باسم أحمد وهو قوله
فؤادي محا عن لوح خاطره الهوى ... فأثبته صدغ له قد تسلسلا
وله باسم عمر
تساقط در من سحاب مسيره ... إلى تاج روض قل وما كان منقطع
وله باسم يوسف
إذا صح تقبيل على خال خده ... أحاول شيئا منه في داخل الشفه
ومن غرامياته قوله
أين فصل الربيع أين الشباب ... يئست من رجوعه الأحباب
غادرته مواقع أعدمته ... فشراب الربيع رغما سراب
خرس العندليب فيه وأضحى ... صاحب النطق في رباه الغراب
لو علمنا أن الزمان خؤون ... فيه تنأى عن اللقا الأصحاب
لشفينا من اللقاء قلوبا ... لم يرعها من الزمان انقلاب
لكن المرء لا يزال غفولا ... بين هذا وبين ذاك حجاب
وله غير ذلك وكانت وفاته بحلب في سنة تسع وأربعين وألف(1/479)
صنع الله بن جعفر شيخ الإسلام ومفتي التخت العثماني في عهد السلطان محمد وولده السلطان أحمد الإمام الكبير الفقيه الحجة الخير كان في وقته إليه النهاية في الفقه والإطلاع على مسائله وأصوله وفتاواه مدونه شهيرة خصوصا في بلاد الروم يعتمدون عليها ويراجعون مسائلها في الوقائع وكلهم متفقون على ديانته وتوثيقه واحترامه وقد درس بالمدارس العلية حتى انتهى أمره إلى أن صار قاضي قسطنطينية في رجب سنة ألف ونقل بعد أيام قليلة في الشهر المذكور إلى قضاء العكسر باناطولى وبقي فيه إلى شوال سنة إحدى وألف فنقل إلى قضاء روم ايلي في أثناء جلوس السلطان محمد تقاعد بوظيفته أمثاله وذلك في جمادى الأولى سنة ثلاث بعد الألف ثم ولى الإفتاء بعد وفاة المولى سعد الدين بن حسن جان في ربيع الأول سنة ثمان وألف وعزل في صفر سنة عشر وألف ثم أعيد ثانيا في ثاني عشرى رجب سنة إحدى عشرة وعزل بعد إحدى وثلاثين يوما ثم أعيد ثالثا في عاشر المحرم سنة ثلاث عشرة وعزل في ربيع الآخر سنة خمس عشرة ثم أعيد رابعا في رجب من هذه السنة وعزل في صفر سنة سبع عشرة واتفق له في إحدى هاتين الأخيرتين أن والدة السلطان كانت رجت من ابنها توجيه الفتيا للمولى محمد بن سعد الدين فأخذ القلم وكتب التوجيه ودفعه إليها فرأته كتب مكان الاسم صنع الله فراجعته ثلاث مرات وفي الجميع يجري القلم بصنع الله وهو يعتذر عن ذلك بأنه عن غير قصد ففي الثالثة قالت له اعتمد على ما كتبت وليكن الموجه إليه صنع الله فأرسل الخط الشريف إلى صاحب الترجمة وصيره مفتيا وهذه الاتفاقية غريبة جدا وحكى أنه مرة وجهت الفتوى إلى رجل أباه القوم فأشاروا إلى صاحب الترجمة بأن يطلبها لنفسه فقال كيف يكون ذلك فقالوا تبعث إلى السلطان تطلب منه ذلك فقال لا حاجة بنا إلى أن نرسل أحدا ونطلب ذلك بالواسطة ونطلب ونحن مستقرون في مكاننا فلم تمض هنيئة إلا وسلحدار السلطان جاءه بالتقليد ولما عزل في المرة الأخيرة أراد الحج فورد الشام يوم الأربعاء مستهل شهر رمضان سنة تسع عشرة وكان منزويا قل أن يجتمع بأحد وكان إمام المقصورة الشافعي يصلي العشاء في أول الوقت ويصلي بعده الإمام الحنفي فقال يصلي الحنفي أولا لأنه على مذهب السلطان وروجع في ذلك فلم يفعل فصلى إمام الحنفية أولا ثم إمام الشافعية في ليلة الجمعة ليلة عيد الفطر وكان قدم معه صهره زوج ابنته قاضي القضاة بالشام نوح بن أحمد الأنصاري فأبرم ذلك وبقي الأمر على ذلك مدة ثم بطل الشافعي المرتب من صلاة العشاء وبقي الحنفي وحده وأهل جيلنا لم يدركوا إلا الحنفي وحده وكان أحمد بن شاهين مدح صاحب الترجمة بقصيدة تقدم طرف من خبرها في ترجمة البوريني وذكرنا مطلعها وهو
حي المنازل بالنقا فزرود ... فالرقمتين فعهدنا المعهود
فعن لي أن أثبت منها هنا بعض أبياتها لحسنها وبعد المطلع
وانزل فإن ثرى معافرة الهوى ... ليجل عن وطء المهارى القود
واحبس مطيك دون منعرج اللوى ... سطرا صحيفته بياض البيد
وأفض فديتك في الحديث كأنه ... نظم العقود فأنت جيد عقيد
واستفت غادية الصبا هل صافحت ... حوذان أفنية المهاة الرود
وتحرشت بالأقحوان ينوب عن ... برد بفيها كالمحباب برود
وتلطفت حتى انبرت بخبائها ... وهنا تسر لبانة المعمود
وسرت بليل بين أتراب لها ... كالعين من سرب الظباء الغيد
فتناوشت طرزا وبثت عنبرا ... وتلاعبت بذوائب وقدود
من كل ساحرة العيون لحاظها ... يسبين كل متيم مجهود
أسفرت بين ذوائب أسبلنها ... كالزهر تشرق في الليالي السود
لم أنسها من بينهن وقد أتت ... سدراء في حلى لها وبرود
تختال من شرخ الشيبة والصبا ... زهوا كخود البانة الاملود
ونضت كما شاءت وشاء لي الهوى ... عن روضة من نرجس وورود
فنهضت مسلوب الحشاشة مقسما ... إلا وطئت محاجري وخدودي
بتنا وأثلثنا العفاف وبيننا ... عتب كمبسمها ونظم عقودي(1/480)
سامرتها والليل شاب عذاره ... كبياض خط شيب بالتسويد
تشكو صبابتها وأشكو صبوتي ... شكوى العميد من الهوى لعميد
حتى بدا فلق الصباح كأنه ... من وجه صنع الله بحر الجود
مفتي الأنام وسيد العلماء من ... ألقت إليه أزمة التقليد
المفرد العلم الذي أوصافه ... جلت عن التعريف والتحديد
باهت دمشق الروم منذ تشرفت ... بورود هذا الطالع المسعود
كل الموالي دعوة من خادم ... داع لعز علاك بالتخليد
أجريت في مسراك بحرا زاخرا ... غصت بفائضه عراص البيد
وحملت نوحا في سفينة شرعه ... حتى استوت بدمشق فوق الجودي
فجلا ظلام الظلم عنها واكتست ... أنوار صبح العدل والتوحيد
من جملتها
ماذا أقول وأنت صنع الله من ... قد خص في الآراء بالتسديد
إن الذي يرجو لفضلك غاية ... ليروم شيئا ليس بالموجود
ولئن مدحتك بالذي هو ممكن ... من طاقة المخلوق يا ذا الجود
فلقد رسفت بفكرة قدا وشكت ... تثنى عليك لشاعر معدود
واليكها عذراء ملء يد المنى ... تصف البراعة وهي بكر قصيد
منها
في كل بيت من بديع بيانها ... غرر لديك على الحسود شهود
إن يصدح البازي علة عذباتها ... فخرا فبي لا عن أبي وجدودي
هي جنة المأوى بمدحك سيدي ... تزدان لا بشقائق وورود
لا زلت قطب مدار أفلاك العلى ... في أنعم ومسرة وسعود
ما حبرت وشيا يراعة بارع ... وجنى ثمار المدح فكر مجيد
ثم حج ورجع من طريق الشام أيضا إلى الروم وأقام بها ولم يل منصبا إلى أن مات وكانت وفاته في حدود سنة إحدى وعشرين وألف بعلة البرسام رحمه الله تعالى(1/481)
صنع الله بن محب الله بن محمد محب الدين بن أبي بكر تقي الدين بن داود بن عبد الرحمن بن عبد الخالق بن عبد الرحمن المحيي الدمشقي الحنفي عمي شقيق والدي وكان لي مكان والدي فإن أبي سافر إلى بلاد الروم وعمري إحدى عشرة سنة فتقيد بي ورباني وأقدمني على الطلب وجعل أهم أمره أمري وكان جزاه الله تعالى عني خيرا برا بي شفوقا علي مريدا لي كل خير عاجل وآجل وما عاهدت منه لحظة ما إساءة أو مقتا بل كان رحمه الله تعالى يألم لما آلم منه وينشرح لما أنشرح له بل يغضب لغضبي ويرضى لرضائي وعلى كثير من مناهجه في التودد نهجت وعلى آدابه وحسن طويته درجت وكان بل الله ثراه بوابل الغفران لطيف الطبع حمولا فاضلا كاملا طارحا للتكلف حسن العشرة متوددا وكان أبوه في حياته يحبه كثيرا فربى عزيزا مكرما ولما مات أبوه كان عمره عشر سنين فرباه أبي وتقيد به وكان له إليه محبة لم أرها من أحد ولم أسمع بمثلها وكان هو كذلك وكثيرا ما كنت أسمعه يقول أرجو الله تعالى أن لا يريني يوم موت أخي وأكون أنا السابق عليه بالموت حتى قدر الله أنه ما رأى يوم موته لكن لا موته قبله بل لأنه كان مسافرا في بلاد الروم وقد اشتغل بالعلم كثيرا في مباديه فقرأ على الشيخ أحمد القلعي وعلى شيخنا النجم الفرضي وعلى غيرهما وناب في القضاء بمحاكم دمشق كالكبرى والقسمة والميدان والعونية وصار نائبا بالقدس في سنة اثنتين وسبعين وألف ثم إنه سافر إلى الروم وصار قاضيا بحمص ورجع إلى الشام وكان بالشام إذ ذاك شيخ الإسلام محمد بن عبد الحليم البروسوي وقد رجع من الحج فجاء قضاء القدس فتوجه معه وخدمه في نيابة غزة ثم قدم في خدمته إلى الشام بعد أن عزل وكان أمر بالتوجه إلى وطنه بروسه فصحبه إلى الروم وسافرت أنا معهم ودخلنا بروسه في خدمة المولى المذكور ثم فارقناه وتوجهنا بحرا إلى ناحية أدرنه والدولة إذ ذاك بها فوصلناها وأقمنا مدة ثم لما توجه السلطان محمد إلى قسطنطينية جئت أنا وإياه إليها فولى بها قضاء معرة المصريين وتوجه إليها وضبطها ورجع إلى الروم وأنا مقيم بها ثم أعطى قضاء معرة المصريين ثانيا وسافر إليها فصحبته في الطريق إلى أن وصلنا إلى أنطاكيه ثم افترقنا ولم يقدر الله تعالى بعد ذلك اجتماعا فإني قدمت إلى دمشق وألقيت بها عصا الترحال ووصل هو إلى قضائه وضبط المنصب وعزل عنه ثم سافر إلى الروم وولى قضاء سرمين ووصل إليها فتوفى بها وهو قاض وكانت وفاته في ثامن شهر رمضان سنة شبع وتسعين وألف عن ستين سنة رحمه الله
حرف الضاد المعجمة
حرف الطاء المهملة
المشالة طعيمة الصعيدي المصري الصوفي الكبير كان مؤدب الأطفال باشمون الصعيد نظر في العلوم وتكلم في الكلام واشتغل بمذهب الشافعي على جهابذة العلماء وطاف البلاد وغلب عليه الحال وعكف عن التصوف ولقى من القوم رجالا وأقبلت عليه الأعيان ونوه بذكره بعض علماء وقته وصار كالشيخ محمد بن الترجمان الآتي ذكره في طائفة من معتقديه ومتبعيه ومن كراماته ما ذكره بعضهم أنه كان يتهجد بالقرآن ويمكث الليالي والأيام يأكل ويشرب ولا يحتاج للتوجه للبراز ولم يزل على هذا الحال إلى أن توجه لزيارة القدس فقتله بعض أرباب الحال وكانت وفاته في سنة خمس بعد الألف قلت كثيرا ما يذكر المؤرخون أن فلانا قتل بالحال وشبهه وفيه سؤال مشهور في كتب الشافعية أنه هل يجوز القتل بالحال وهل فيه قصاص أم لا في التحفة لابن حجر تفصيله وأما علماؤنا الحنفية فلم أر لهم فيه شيئا والله أعلم(1/482)
طه بن صالح بن يحيى بن قاضي القضاة وشيخ الإسلام نجم الدين أبي البركات محمد المسكنى بأبي الرضا الديري المقدشي الحنفي أخذ العلم عن مشايخ عدة أجلهم الشيخ رضي الادين اللطفي مفسر القرآن وكان معيدا لدرسه التفسير بالباب القبلي في الصخرة وكانت له اليد الطولى في علم الأصول والنحو والتفسير وولى نيابة الحكم وكتابة الصكوك بالقدس من سنة اثنتين وعشرين وألف إلى سنة اثنتين وأربعين وحج وولى نيابة الحكم بمكة سنة أربع وأربعين وأخذ الحديث بمكة عن محمد بن علان البكري الصديقي الشافعي وكتب له إجازة مؤرخة بأواخر شهر رمضان سنة أربع وأربعين ثم عاد إلى القدس وانعكف بمحل سكنه المدرسة الفارسية بطرف المسجد الأقصى من الجهة الشمالية يفيد السائلين ويقرأ الدروس بالمدرسة الفارسية كالهداية وغيرها من كتب الفقه وأقرأ آخر أمره البخاري في كل يوم بالصخرة الشريفة بعد صلاة العصر نحوا من سبع سنين وكانت وفاته ليلة الأربعاء بعد صلاة العشاء حادي عشر شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وألف ودفن بتربة مأمن الله مقابلا لقبر الإمام الكمال بن أبي شريف وكان له مشهد حافل رحمه الله تعالى
حرف الظاء المعجمة
ظاهر الشافعي مفتي عانة والخرث من أرض العراق كانت فقيها مشاركا في عدة فنون ورد دمشق وحج منها ثم رجع إلى بلاده فتوفى بها وكانت وفاته في بضع عشرة بعد الألف ظهير الدين الحلبي القاضي الأديب الشاعر الفائق قال البديعي في وصفه أديب فضله ظهير وفاضل مورد أدبه نمير تردد مرارا إلى الروم ونثل كنائن المنثور والمنظوم واجتمع به الشهاب الخفاجي وهو بالروم وذكر أنه أنشده قوله من قصيدة نبوية
نسيم الصبا من لعلع ونواحيه ... سرت فأزالت صبرنا عن صياصيه
ومن بارق شام المتيم بارقا ... بدا فتداعى شوقه من أقاصيه
ومن ذكر أيام العذيب تكدرت ... مشارب صب قل عنه مناجيه
إذا قفل الحجاج زاد ولوعه ... وأرسل دمعا قانيا من مآقيه
وبي من غدا يحتال فيها بعجبه ... وطلعته سكران من خمرة التيه
وفي القرب أخشاه وفي البعد قاتلي ... فوا حربا من بعده وتدانيه
يفوق من جفنيه للحرب أسهما ... بأوهنها يرمى الكمى فيصميه
بذلت له روحي فأعرض معجبا ... وقال أملكى عاد ملكك تهديه
وبالشعب من وادي النقا خير جيرة ... غدت بغيتي والله من غير تمويه
إذا ذكروا يرتاح قلبي كأنما ... أتت نحوه تنقاد قسرا أمانيه
وأنشد له التقي الفارسكوري في كتابه المدائح قصيدة مدح بها شيخ الإسلام يحيى ابن زكريا ومطلعها
أيا عالما فضله كامل ... وإحسانه للورى شامل
ومن هو للعلم في ذروة ... يقصر عن نيلها الفاضل
أعيذك من أن يرى فاضل ... بدولتكم ذكره خامل
وكان قاضيا القصبات ببلاد اناطولى وولى مناصب عديدة ونسبته ومولده ووفاته لم أطلع عليها مع السؤال إلا أن هذه القصيدة الأخيرة تدل على أنه كان موجودا في سنة ثلاث عشرة بعد الألف فإنه ترجى فيها منصبا من ممدوحه المذكور وهو قاضي اناطولى في التاريخ المذكور
حرف العين المهملة(1/483)
عامر بن شرف الدين المعروف بالشبراوي الشافعي المصري الإمام الهمام العالم الكبير الرحلة كان في عصره من المشار إليهم بالفضل التام وله بين علماء الأزهر الموقع العظيم لا يزال محترما موقرا جليل الشأن وهو من جهة والده عريق في الفضل ومن جهة والدته أصيل في الولاية فإن والدته فاطمة بنت خديجة بنت الشيخ القطب محمد الشناوي أتت به وهو صغير إلى الأستاذ الكبير عبد الوهاب الشعراني وقالت له ادع له فدعا له وغسل له يديه بنفسه نفع الله تعالى به روى الفقه عن الشمس الرملي والنور الزيادي وسالم الشبشيري وأخذ الحديث عن أبي النجا سالم السنهوري وسمع عليه الكتب الستة كملا وكان يفتخر بذلك على أقرانه من مشايخ مصر ولازم في علوم العربية أبا بكر الشنواني نحو عشرين سنة وهو من أجل تلامذته وأجازه شيوخه وبرع في كثير من العلوم وصار أوحد وقته في الفتيا والمرجع في القضايا المشكلة وكان مشهور بالصلاح واستجابة الدعاء وكان كثير العبادة ملازما للسيرة النبوية مواظبا على الدروس والإفتاء وكان غاية في الحفظ والاستحضار والإتقان وروى عنه أنه قال احفظ أربعة عشر ألفية في فنون العلوم وكف بصره آخر عمره واستمر على بث العلم ونشره واجتمع به والدي في رحلته إلى مصر وترجمه بالشيخ الكامل والعالم الفاضل حائز العلوم والعرفان وفائز بالقدح المعلى من التحقيق والإتقان علم العلم والهدى ومنارة الفضل والتقى بيده عنان الفواضل فيمنح بها كل محتاج ومالك أزمة الفضائل فينشرها على كل لائذ وراج زبدة العلماء الراسخين الأخيار وعمدة الجهابذة المتورعين الأبرار وكانت وفاته في سنة إحدى وستين وألف ودفن بتربة المجاورين هكذا رأيته بخط بعض الأفاضل ثم رأيت بخط صاحبنا الفاضل إبراهيم الجينيني أن وفاته كانت في غرة المحرم سنة اثنتين وستين ثم تحرر عندي من تاريخ الشلى ووفيات الأخ الفاضل مصطفى بن فتح الله أنه توفى في يوم الجمعة ثاني المحرم سنة اثنتين وستين فاعتمدت عليه لكون من تحرر عنهما أمس الناس بأحوال وفيات علماء مصر والله أعلم(1/484)
عامر بن علي بن محمد بن علي بن الرشيد بن أحمد بن الأمير الحسين بن الأمير علي بن يحيى العالم البر بن محمد العالم التقي بن يوسف الأشل بن الداعي الإمام يوسف الأكبر ابن الإمام المنصور يحيى بن الإمام الناصر أحمد وبقية النسب مذكورة في ترجمة الإمام إسمعيل المتوكل صاحب اليمن ذكره القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال في تاريخه مطلع البدور ومجمع البحور فقال السيد الشهيد العالم الفريد الأمير الكبير كان فاضلا رئيسا سريا عالي الهمة عارفا نهض مع ابن أخيه الإمام القاسم بن محمد فنازل الملوك وطارح الكبار وفل الشوكة وعلا صيته وكانت له مشاهد عظيمة مع الأمراء أهل كوكبان وجنود الاروام وأفضى أمره إلى السعادة على نهج سلفه الكرام غير أنه زاد بالمثلة فإنه سلخ جلده وذر عليه الملح ولم يزل كل يوم يؤخذ منه شيء حتى انتهى وقبره بخمر وكان ما وصفناه من المثلة بحمومة من أعمال خمر ويقال إن رأسه بصنعاء وقد بنى عليه ولده عبد الله قبة وله ترجمة وضعها شيخنا العلامة أحمد بن سعد الدين وترجمه بعض أحفاده فذكر شيئا من جميل حاله وقال مولده سنة خمس وستين وتسعمائة ونشأ على السيادة والطهارة وطلب العلم وقرأ على القاضي العلامة عبد الرحمن بمحرفة هكذا قال عبد الرحمن ولم يكن مر بمسمعي فهذه فائدة أخرى وقرأ كتب النحو والأدب والكشاف على السيد الفاضل عثمان بن علي بن الإمام شرف الدين بشبام قبل دعوة الإمام القاسم وسكن بأهله هنالك يطلب العلم ولما دعا الإمام ببلاد قاره كتب إليه فوصل إلى شوذة شظب وتوجه بجنود فافتح من بلاد الأمراء آل شمس الدين كثيرا وكانوا أعضاد الوزير الحسن والكتخدا سنان فما زال كذلك من سنة ست وألف إلى سنة ثمان وألف ثم عاب فيه جماعة من أهل قاعة وكان قد تزوج امرأة هناك وتفرق عنه أصحابه ولم يبق إلا هو وقصده جماعة من الأتراك فأحاطوا به ثم أسروه وأدخلوا شبام فطافوا به في كوكبان وشبام وأمير كوكبان يومئذ علي بن شمس الدين ثم إن عليا بن شمس الدين أرسل به مع جماعة من الترك إلى حمومة من بني صويم إلى الكتخدا سنان فأمر أن يمثل به فسلخ جلده قال الإمام القاسم وصبر فلم يسمع له أنين ولا شكوى إلا قراءة قل هو الله أحد وكان سلخ جلده يوم الأحد الخامس عشر من رجب سنة ثمان بعد الألف ثم إن سنان ملأ جلده تبنا وأرسل به على جمل إلى صنعاء إلى الوزير حسن فشهر جلده على الدهابر على ميمنة باب اليمن مما يلي الشرق وسائر جده دفن بحمومة ثم نقل إلى خمر بأمر الإمام القاسم وقبره مشهور مزور له التعظيمات والنذور ثم احتال بعض الناس في الجلد فأسقطه إلى تحت الداير ودفنه على خفية وعليه ضريح وقبة على يسار الخارج من باب اليمن وقد ترجم له الإمام القاسم ترجمة بخطه في نسخة البحر التي للإمام وترجم له السيد العلامة صدر العلماء أحمد بن محمد الشرفي والقاضي العلامة أحمد بن سعد الدين ورثاه بقصيدة منها
أزائر هذا القبر حييت زائرا ... ونلت به سهما من الأجر قامرا
وأديت حق المصطفى ووصيه ... فهنيت لما زرت في الله عامرا
سليل الكرام الشم من آل أحمد ... ومن كان للدين الحنيفي عامرا
وعم الإمام القاسم بن محمد ... إمام الهدى من قام لله ناصرا
ومن شد أزرا منه حين دعا إلى ... رضى ربه أكرم بذلك آزرا
فقلده المنصور سيفا مهندا ... وكان له في وجه أعداه شاهرا
وكان له من موقف شهدت له ... أعاديه أن فاق الأوائل آخرا(1/485)
عامر بن محمد الصباحي نسبة إلى بيضا صباح قرية مشهورة في مشارف اليمن تقرب من قرن المنسوب إليها أو بس القرني على نحو مرحلتين ذكر ابن أبي الرجال أيضا في تاريخه المذكور فقال القاضي العلامة المذاكر شيخ الأئمة ولسان الفقه وإنسان عينه كان وحيد وقته فريد عصره إليه النهاية في تحقيق الفروغ ينقل عنه الناس ويقررون عنه قواعد المذهب رحل في مبادى أمره إلى ذمار ولقى شيوخها المحققين وحصل على قشف في العيش وشدة في الأمر يروى عنه أنه كان لا يملك غير فرو من جلود الضأن وكان إذا احتلم غسله للتطهير ثم يلبسه أخضر لأنه لا يجد غيره وكان مواظبا على العلم أشد المواظبة أيام هذه الشدة المذكورة وكان أبوه من أهل الثروة والمال لكنه حبس وأوذي في الله تعالى من قبل الأتراك لموالاته أهل البيت ثم رحل القاضي إلى صنعاء وأقام بها ودرس ورحل إلى شيخ الزيدية أما الفروع والأصول إبراهيم بن مسعود الحميري إلى الظهرين وكان إذ ذاك بقية العلماء وله بالتذكرة خصوصا فرط الفة فطلب القاضي عامر أن يقرئه فيها فأجابه ولم يستعد لتدريسه لظنه أنه من عامة الطلبة فلما اجتمعا للقراءة رأى في القاضي عامر حضارة وحافظية ومعرفة كاملة فقال له يا ولدي لست بصاحبك اليوم فاترك القراءة فتركها ثم استعد لها فاستخرج ببحثه من جواهر علم القاضي نفائس وذخائر وعلق به ثم إنه عاوده بالرحلة إليه للزيارة فأكرمه الفقيه صارم الدين وأمر الناس بإكرامه ورحل إليه من صنعاء لمسئلة واحدة أشكلت عليه غابت عني مع معرفتي لها لولا طول العهد روى أنها أشكلت عليه فلم يبت إلا في الطريق قاصدا إلى حجه ورحل القاضي إلى صعدة فقرأ الحديث على شيخه الوجيه عبد العزيز البصري المعروف ببهران ولقي الإمام الحسن وصحبه وما زال حلفا للصالحات مواظبا على الخيرات ولما دعا الإمام القاسم المنصور بالله وهو يومئذ بصنعاء فخرج إليه وصحبه وقرأ عليه الإمام كتاب الشفاء ثم ولى القضاء بولاية يعز نظيرها فإنه كان من الحلم والأناة والوفاء بمحل لا يلحق وكان وحيدا في العلم وصادقا في كل عزيمة قولية أو فعلية فزاده الله تعالى الجلالة والمهابة في المصدور إذا برز في الجامع خضع الناس شاخصين إليه مع كمال صورته وطول قامته وكان لذلك الجلال الرحماني لا يحتاج للأعوان بل يبرز للقضاء وإذا أراد حبس أحد من أجلاء الرجال وأعيان الدولة التفت إلى أقرب الناس إليه كائنا من كان فأمره بالمسير به إلى الحبس فلا يستطيع أحد الامتناع عن أمره وهو الذي قوى أعضاد الدولة المؤيدية وكان الصدر يومئذ غير مدافع واستقر بحضرة الإمام المؤيد بالله مدة ثم نهض إلى جهة خولان العالية فاستوطن وادي عاشر وابتنى بها دارا عظيمة من أحسن المنازل تولى بناءها ولده العلامة الأمير شرف الدين الحسن بن أمير المؤمنين أحمد بن عامر فهيأها للضيوف على قدر همته وكان مضيافا كريما ولما استقر القاضي بعاشر انتفع به العامة والخاصة ورحل إليه الفضلاء للقراءة كالقاضي المحقق محمد بن ناصر بن دعيش وكان أحد رواة أخباره قال وكان لا يترك الأشراف على التذكرة في الفقه كل يوم يطالع فيها ومن رواة أخباره تلميذه أمير المؤمنين المتوكل على الله إسمعيل بن الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد فإنه الذي تولى تهذيبه وكان مولعا به ويخصصه بمزايا حتى انه كان لا يقبل في مجلس القراءة أمورا يعتادها الطلبة إلا من الإمام فكان يقبلها منه لكثرة محبته إليه وتنويره وكان يتولى عظائم الأمور ورحل إلى صنعاء لعقد عقد بين الاروام والإمام واستنهض الإمام لحرب الاروام ولما كثرت كتب خولان العالية والحد أو من قابلهم من قبائل الزيدية إلى القاضي عامر يستنهضونه لاستنهاض الإمام للخروج على الترك وكان الإمام قد فعل لكنه احتاج إلى الكتم حتى من القاضي على جلالته فدخل يوما إليه وعنف الإمام فأخبره بأن إخوته قد خرجوا منهم من جاء من المغرب وهو الحسين ومنهم من جاء من المشرق وهو الحسن ومنهم المتوسط بينهما وهو أحمد قام القاضي على وقاره وكبر سنه فخجل كما فعل جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو أحد السنن المأثورة ولم يكن بين وفاته وبين وفاة ولده أحمد إلا أيام قليلة ومما ينبغي أن ينقل وإن كان بترجمة ولده أحمد أليق لكنه اقتضى الحال كتابته هنا وهو أن أحمد بن عامر لما تم له الحضور مع أبناء الإمام في(1/486)
حروب زبيد استأذن الحسن بن القاسم في زيارة والده فقال له ابن الإمام قد عزمنا على الطلوع جميعا فتأخر له يويمات فرأى القاضي أحمد في المنام رجلين يقول أحدهما للآخر اقبض روحه فيقول الآخر لا أقبض روحه فإن له أبا شيخا كبيرا قد سأل الله تعالى أن يريه إياه فلا أقبض روحه حتى يصل إليه فلما استقر هذا في ذهنه دخل إلى الحسن وألح عليه في الفسخ ولعله أسره بذلك فأذن له فطلع حتى وصل إلى ذمار وكان هنالك صفي الدين أحمد ابن الإمام فأكرمه وعظمه وعول عليه في الإقامة عنده أياما ليتصحح ويزول عنه وعثاء السفر وكثر عليه في ذلك فرأى القاضي الرجلين الأولين يقول أحدهما لصاحبه اقبض روحه فإنه أبطأ وتراخى ولم يبق له في الأجل سعة فأجابه الآخر بما أجابه له أولا فتيقظ القاضي لنفسه وعزم على المبادرة فلما وصل إلى هجرة شوكان وهي بالقرب من وادي عاشر مسكن والده فوصل إليه القبائل والشيوخ فإنه كان صدرا من الصدور فصدوه عن زيارة والده فرأى الرجلين فقال أحدهما ما قال أولا وذكر أن القاضي تراخى فأجابه الآخر بما أجاب ثم قال يكون له مهلة حتى يزور والده ويبقى خمسة أيام ثم نقبض روحه فتوجه القاضي مبادرا إلى حضرة والده فتلقاه وحصل به الأنس ثم أوصى وصية عظيمة وهو كامل الحواس ولما كان اليوم الخامس أشعر والده وودعه ثم قبض الله تعالى روحه فتولى والده أعماله ودفنه بقبة هناك وقام كالخطيب في الناس ووعظهم وذكرهم حتى بكى الحاضرون وكان القاضي عامر لا يترك كل يوم وليلة ثلاثة أجزاء من القرآن على الاستمرار ويدعو بدعاء الصحيفة ويقول أنا أستحي من الدعاء به لما فيه من التذلل وذكر البكاء والنحول ولسنا كذلك بتصاغر كما جرت عادة الفضلاء وروى عنه أنه كان له راتب لاسم من أسماء الله تعالى الحسنى فحضر عنده خادم الاسم فقال ما تريد مني فقال ما أريد منك شيئا فقال هذا العدد الذي صرت ترتبه من هذا الاسم يستدعي حضوري فإن كنت لا تريد إلا الذكر فزد على هذا العدد أو انقص وكانت وفاته في حادي عشر شهر رمضان سنة سبع وأربعين وألف وقبر في القبة التي قبر فيها عبد القادر التهامي وقبر فيها ولده أحمد بن عامر من أعمال عاشر من جهة خولان العالية زبيد استأذن الحسن بن القاسم في زيارة والده فقال له ابن الإمام قد عزمنا على الطلوع جميعا فتأخر له يويمات فرأى القاضي أحمد في المنام رجلين يقول أحدهما للآخر اقبض روحه فيقول الآخر لا أقبض روحه فإن له أبا شيخا كبيرا قد سأل الله تعالى أن يريه إياه فلا أقبض روحه حتى يصل إليه فلما استقر هذا في ذهنه دخل إلى الحسن وألح عليه في الفسخ ولعله أسره بذلك فأذن له فطلع حتى وصل إلى ذمار وكان هنالك صفي الدين أحمد ابن الإمام فأكرمه وعظمه وعول عليه في الإقامة عنده أياما ليتصحح ويزول عنه وعثاء السفر وكثر عليه في ذلك فرأى القاضي الرجلين الأولين يقول أحدهما لصاحبه اقبض روحه فإنه أبطأ وتراخى ولم يبق له في الأجل سعة فأجابه الآخر بما أجابه له أولا فتيقظ القاضي لنفسه وعزم على المبادرة فلما وصل إلى هجرة شوكان وهي بالقرب من وادي عاشر مسكن والده فوصل إليه القبائل والشيوخ فإنه كان صدرا من الصدور فصدوه عن زيارة والده فرأى الرجلين فقال أحدهما ما قال أولا وذكر أن القاضي تراخى فأجابه الآخر بما أجاب ثم قال يكون له مهلة حتى يزور والده ويبقى خمسة أيام ثم نقبض روحه فتوجه القاضي مبادرا إلى حضرة والده فتلقاه وحصل به الأنس ثم أوصى وصية عظيمة وهو كامل الحواس ولما كان اليوم الخامس أشعر والده وودعه ثم قبض الله تعالى روحه فتولى والده أعماله ودفنه بقبة هناك وقام كالخطيب في الناس ووعظهم وذكرهم حتى بكى الحاضرون وكان القاضي عامر لا يترك كل يوم وليلة ثلاثة أجزاء من القرآن على الاستمرار ويدعو بدعاء الصحيفة ويقول أنا أستحي من الدعاء به لما فيه من التذلل وذكر البكاء والنحول ولسنا كذلك بتصاغر كما جرت عادة الفضلاء وروى عنه أنه كان له راتب لاسم من أسماء الله تعالى الحسنى فحضر عنده خادم الاسم فقال ما تريد مني فقال ما أريد منك شيئا فقال هذا العدد الذي صرت ترتبه من هذا الاسم يستدعي حضوري فإن كنت لا تريد إلا الذكر فزد على هذا العدد أو انقص وكانت وفاته في حادي عشر شهر رمضان سنة سبع وأربعين وألف وقبر في القبة التي قبر فيها عبد القادر التهامي وقبر فيها ولده أحمد بن عامر من أعمال عاشر من جهة خولان العالية(1/487)
الشاه عباس بن سلطان محمد خدابنده ابن طهماسب بن شاه إسمعيل بن سلطان حيدر بن سلطان حيدر بن سلطان شيخ جنيد بن سلطان شيخ صدر الدين إبراهيم بن سلطان خواجه علي بن شيخ صدر الدين موسى بن سلطان شيخ صفي الدين أبو إسحق بن شيخ أمين الدين جبريل بن السيد صالح بن السيد قطب الدين أحمد بن السيد صلاح الدين رشيد بن السيد محمد الحافظ كلام الله بن السيد عوض الخواص بن السيد فيروز شاه درين كلاه بن محمد شرف شاه بن محمد بن أبي حسن بن محمد بن إبراهيم بن جعفر ابن محمد بن إسمعيل بن محمد بن أحمد العراقي بن محمد قاسم بن أبي القسم حمزة بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زيد العابدين بن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم هذا نسب سلاطين العجم الذين منهم صاحب الترجمة وأول من بالغ في التشيع وأظهره سلطان حيدر وكان ذلك في سنة ست وتسعمائة وقيل في تاريخه مذهبنا حق ويروى أن بعض أهل السنة سمع هذا التاريخ فقال مذهبنا حق على النفي فإننا في الفارسي أداة نفي ومن ذلك العهد هاجر كثير من أهل السنة الذين في بلادهم إلى كثير من البلاد وتغلبت سلاطين بلادنا العثامنة على ملوكهم من عهد السلطان سليم الأول فإنه ركب على شاه إسمعيل وأخذ منه بلادا وقهره وكذلك فعل السلطان سليم الثاني فإنه جهز عليهم جيشا فأخذوا منهم تبريز وشروان وكيلان وروان وكثيرا من القصبات والولايات واستمروا مغلوبين إلى أن ظهر شاه عباس صاحب الترجمة فولى السلطنة بخراسان في سنة خمس وتسعين وتسعمائة مكان والده في حياته وكان جلوسه بقزوين لكون والده كان أعمى وقد استولت في أيامه أمراء قزلباش على الدولة واتخذوها حصصا فسفك فيهم واستقل بالأمر وكان في ابتداء أمره يداري طرف آل عثمان ويرسل ابن أخيه حيدرا بالهدايا والتحف إلى أن مات ملك الاوزبك خان وولده عبد المؤمن في سنة عشر بعد الألف وكان ملوك الأوزبك أخذوا من خراسان بلادا فاستخلصها واحدة بعد واحدة ثم قصد جدال عثمان لما كان وقع من الاختلال بسبب الجلالية الذين ظهروا في زمن السلطان أحمد ونقض العهد الذي بينه وبينهم وحاصر مملكة تبريز وروان واستولى عليهما ثم أخذ قندهار من بلاد الهند واستولى على خوارزم وكيلان وسجستان ثلاثة وأربعين سنة وكان سلطانا صاحب جاش وقوة مكر غدارا محتالا فاسترد بعض البلاد وتقوى في العسكر والعدة فأخذ بغداد من يد آل عثمان وقد قدمنا سبب أخذه لها وأنه كان الفاعل لذلك بكر كبير عسكرها وأن الشاه دخلها بمخامرة منه ومن ابنه محمد وفعل ما فعل فيها وفي أهلها وكان أخذه لها في ثالث شهر ربيع الثاني سنة اثنتين وثلاثين وألف واستمرت في يده إلى سنة ثمان وأربعين فأخذها من يده السلطان مراد وسنذكر خبر أخذها إن شاء الله تعالى في ترجمة السلطان مراد المذكور ومن ذلك العهد لزم شاه عباس حدهم الأصلي الذي كان في زمن الشاه إسمعيل ولم يتجاوزه لا هو ولا أبناؤه إلى يومنا هذا وطال عمره في السلطنة وبلغ من العزة والحرمة نهاية أمانيه وخدمه أجلاء العلماء في مناصبه منهم الشيخ الأستاذ محمد بهاء الدين بن حسين الحارثي الهمذاني الشامي فإنه كان مفتيه ومشيد أركان دولته وباسمه ألف كثيرا من كتبه ورسائله ونوه به وقد رأيت في بعض كتبه غريبة حكاها في سياق ذكره قال إن سلطان زماننا خلد الله ملكه وأجرى في بحار التأبيد فلكه عرض له يوما في مصيده خنزير عظيم الجثة طويل السن الخارج فضربه بالسيف ضربة نصفه بها نصفين ثم أمر بقلع سنه والإتيان بها إليه فوجد مكتوبا عليها لفظ الجلالة بخط بين مثبت ناتئ منها فحصل له ولنا ولمن حضر المصيدة من العسكر المنصور نهابة العجب فإن ذلك من أغرب الغرائب ولما أرانيها أدام الله نصره وتأييده قال لي كيف يجتمع هذا مع نجاسة الخنزير فقلت له إن السيد المرتضى قائل بطهارة ما لا تحله الحياة من نجس العين ووجود هذا الخط على هذا السن ربما يؤيد كلامه طاب ثراه فإن السن مما لا تحله الحياة انتهى ومن المقربين إليه من الحذاق الحكيم شفائي وكان حكيمه وطبيبه ونديمه الخاص وكان شاعرا مطبوعا مليح التخيل وكان عند الشاه في المكانة المكينة ثم غضب عليه فحمى ميلا حديدا وكحله به فأعماه وأبعده عن مجلسه وأحواله وأموره غريبة جدا ومما يحكى عنه في باب اللطائف(1/488)
والنكات مما يستظرف وأبدعها ما كان يقع له مع الرسول المرسل إليه من طرف سلطاننا السلطان مراد المسمى بانجيلى جاويش وكان طلق اللسان حاضر الجواب نهاية في اللطائف والأعاجيب وكان الشاه يبتدره بمخترع من الفعل أو القول ويقصد بذلك الازراء بجانب سلطاننا فيجيبه عنه بأحسن جواب يدفع به ذلك الازراء وربما قلب عيانه فازرى بطرف الشاه وكان الشاه يعجب من تيقظه وينتقل معه انتقالات عجيبة خارجة عن هذا الازراء ومن جملتها أنه جلس الشاه يوما على حرف جبل في الصحراء والجاويش المذكور عنده فقال له الشاه أتحبني فقال له نعم فقال إن كنت تبني فارم بنفسك من هذا الجبل إلى تحت فقام ومشى مسافة بعيدة إلى ظهر الجبل ثم رجع وهو يركض حد الركض حتى انتهى إلى طرف الجبل ثم وقف فقال له الشاه مالك فقال محبتي له انتهت إلى هذا المحل وأراها لا تجاوزه وله من هذا القبيل أشياء أخر وللشاه عباس في سياسة الرعية والرعاية لجانبهم والذب عنهم وإكرام التجار الواردين إلى بلاده من أهل السنة أحوال مستفيضة شائعة وبالجملة فلم يجئ من سلسلتهم مثله وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وألف بدار ملكه مدينة أصفهان ودفن بأردبيل في تربة الشيخ صفي الدين وكان عمره ينيف عن السبعينات مما يستظرف وأبدعها ما كان يقع له مع الرسول المرسل إليه من طرف سلطاننا السلطان مراد المسمى بانجيلى جاويش وكان طلق اللسان حاضر الجواب نهاية في اللطائف والأعاجيب وكان الشاه يبتدره بمخترع من الفعل أو القول ويقصد بذلك الازراء بجانب سلطاننا فيجيبه عنه بأحسن جواب يدفع به ذلك الازراء وربما قلب عيانه فازرى بطرف الشاه وكان الشاه يعجب من تيقظه وينتقل معه انتقالات عجيبة خارجة عن هذا الازراء ومن جملتها أنه جلس الشاه يوما على حرف جبل في الصحراء والجاويش المذكور عنده فقال له الشاه أتحبني فقال له نعم فقال إن كنت تبني فارم بنفسك من هذا الجبل إلى تحت فقام ومشى مسافة بعيدة إلى ظهر الجبل ثم رجع وهو يركض حد الركض حتى انتهى إلى طرف الجبل ثم وقف فقال له الشاه مالك فقال محبتي له انتهت إلى هذا المحل وأراها لا تجاوزه وله من هذا القبيل أشياء أخر وللشاه عباس في سياسة الرعية والرعاية لجانبهم والذب عنهم وإكرام التجار الواردين إلى بلاده من أهل السنة أحوال مستفيضة شائعة وبالجملة فلم يجئ من سلسلتهم مثله وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وألف بدار ملكه مدينة أصفهان ودفن بأردبيل في تربة الشيخ صفي الدين وكان عمره ينيف عن السبعين عبد الأحد الشيخ البركة نزيل قسطنطينية هو رومي الأصل ولا أدري نسبته إلى أي بلدة وكان خلوتي الطريقة وهو والشيخ عبد المجيد السيواسي رفيقا عنان في الصلاح والزهد والمعرفة والإتقان وكان عبد الأحد من أفراد العباد معتقدا معظما مبجلا وكان له مريدون وأذكار ووعظ ونصيحة وبالجملة فهو من خيار الخيار وكانت وفاته في سنة إحدى وستين وألف بمدينة قسطنطينية عبد الباري بن محمد بن عمر بن عبد القادر بن أحمد بن حسن بن عمر محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن الشيخ علي الأهدل اليمني السيد الجليل الولي كان من الكملاء المشهورين جوادا مبذول النعمة وافر السخاء وله فضائل عديدة وأفعال حميدة وصيته ببلاد اليمن شائع ذائع بالفضل والكرم وكانت وفاته في حادي عشرى ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وألف بقرية المراوعة ودفن بها عند أجداده بني الأهدل وحصل عليه الأسف العظيم رحمه الله تعالى(1/489)
عبد الباقي بن أحمد بن محمد المعروف بابن السمان الدمشقي نزيل قسطنطينة صاحبنا الفاضل الأديب الألمعي البارع كان مفرط الذكاء قوي الحافظة وله الإطلاع التام على أشعار العرب الخلص وأيامهم وأمثالهم وكان يحفظ منها شيئا كثيرا وقد عاينته مرات وهو يسرد من أشعارهم ألف بيت أو أكثر من غير أن يزيغ عن نهجه أو يشرق بريقه وكانت فكرته جيدة في النقد والغوص على المعاني وحسن التأديب وله تصانيف كثيرة لم يكمل منها إلا شرح الأسماء الحسنى وشرح شواهد الجامي ومختصر التهذيب في المنطق وكان شرع في كتاب سماه سرقات الشعراء كتب منه حصة يسيرة ولو تم لجاء كتابا عجيبا وجمع سبعة مجاميع بخطه تحتوي على كل تحقيق وأدب وشرع قريب موته في الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم ومات ولم يكمله وبالجملة فقد كان في التآليف واقفا تحت قول المتنبي
وليس بأول ذي همة ... دعته لما ليس بالنائل
وكان في أول أمره قرأ النحو والفقه بدمشق على الفقيه المشهور أحمد القلعي ثم فارق دمشق وهو غض الحداثة مقتبل الشبيبة ودخل القاهرة في حدود سنة إحدى وسبعين وألف واشتغل بها على الشيخ عبد الباقي بن غانم المقدسي الآتي ذكره وعلى السيد أحمد بن محمد الحموي المصري وعليه تخرج في الأدب وبرع ثم خرج منها إلى الروم وتصرفت به أحوال كثيرة وأسفار عديدة ولم يبق بلدة من أمهات بلاد الروم حتى دخلها ووصل إلى جزيرة كريد والوزير الفاضل منازلها فمدحه بقصيدة ومطلعها
أخف النوى ما سهلته الرسائل ... وأحلى الهوى ما كررته العواذل
يقول فيها
يعيرني قوم بقومي ومحتدى ... كما عيب بالعضب الصقيل الحمائل
أجل حسدوني حيث فضلت دونهم ... وكم حسدت في الناس قبلي الأفاضل
وما الفخر بالأجسام والمال والعلى ... ولكن بأنواع الكمال النفاضل
ومن يك أعمى القلب يلزم بقوله ... كما يحذر الأعمى العصا إذ يقاتل
وما يصنع الإنسان يوما بنوره ... إذا عادلت فيه النجوم الجنادل
وفيم نضيع العمر من غير طائل ... إذا ما استوى في الناس قس وباقل
وأصعب ما حاولت تثقيف أعوج ... وأثقل شيء جاهل متعاقل
إذا جاء نقاد الرجال من الوغى ... تميز عن أهل الكمال الأراذل
عنيت الوزير بن الوزير الذي به ... تذل وتعنو للشعوب القبائل
ومدح أخاه الفاضل مصطفى بقصيدة أخرى مطلعها
بالنفس يسمح من أراد نفيسا ... والحب أول ما يكون رسيسا
وكلا القصيدتين قد ذكرتهما في ترجمته في كتابي النفحة فلا نطيل هنا الكلام بهما فإنا نذكر له غيرهما وكل جديد له لذة وأجيز على هاتين جائزة سنية ووصل من الجزيرة المذكورة إلا سلانيك ويكى شهر والسلطان محمد ثمة فكان خاتمة مطافه أن بلغ خبره السلطان فاتخذه نديما وفاز مدة بعطاياه الطائلة ولم يطل أمره في المنادمة فأعطى مدرسة بقسطنطينية وأبعد عن الدولة إليها فألقى رحله بها واتخذها دار قراره ومجمع أسبابه وأحبه كبراؤها ومالوا إليه خصوصا المرحوم الأستاذ عزتى قاضي العسكر فإنه أقبل عليه بكليته وكان يمده بعطايا وافرة ولما دخلت قسطنطينية في سنة سبع وثمانين وألف رأيته وهو مدرس الفتحية برتبة موصلة الصحن فاتحدت معه اتحادا لم يتفق لي مع أحد غيره لما كنت أشاهد منه من المحبة الصدق الذي لا مزيد عليه وأنا منذ توفى إلى الآن أذكر صنائعه من المعروف معي فلا أعرف نهايتها وأقصر عن أداء حقها بيد أني أرجو الله أن يجزيه عن حسن محبته لي أحسن جزاء وأعظمه واتفق لي معه محاورات ومخاطبات كثيرة فمن ذلك أني أنشدته يوما قولي
ومقر طق ترف الأديم تخاله ... كالغصن قد لعب النسيم بقده
ويكاد إن شرب المدامة أن يرى ... ما مر منها تحت أحمر خده
فأنشدني مرتجلا قوله
ومهفهف لولا جفون عيونه ... خلنا دم الوجنات من ألحاظه
وتكاد تقرأ من صفاء خدوده ... ما مر خلف الخد من ألفاظه
وسألته عن نكتة تخصيص المؤمن في قوله عليه السلام اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله فأجاب مرتجلا(1/490)
الجسم بيت وقنديل الفؤاد به ... والقبة الرأس فيها المقلة الجام
فإن غدا فيه نور الحق متقدا ... أضاء أركانه والجام نمام
فالعارفون بنور الله إذ نظروا ... صحت فراستهم والناس أقسام
وركبت معه البحر يوما في زورق وتوجهنا إلى المكان المعروف ببشكطاش فأنشدته بالمناسبة قول ابن ملطيه
وزورق أبصرته عائما ... وقد تمطى ظهر دأماء
كأنه في شكله طائر ... مد جناحيه على الماء
ثم انجرت المصاحبة إلى تعداد أنواع السفن وأسمائها حتى ذكر الغراب وهو المركب الطويل الذي يسير بالمجاذيف فأنشد فيه قول ابن الساعاتي
ولقد ركبت البحر وهو كحلبة ... والموت تحسبه جيادا تركض
كم من غراب للقطيعة أسود ... فيه يطير به جناح أبيض
ثم ذكر لي أن بعض الناس توهم أن تسمية هذا النوع من السفن بالغراب مترجم عن اسمه بالتركية لأن اسمها عندهم تادرغة فظنها قارغة وهو بالتركية الغراب قال وأقام المتوهم النكير على المترجم من كونه وهم لتقارب الألفاظ اتفاقا ولم يدر أن ما قاله هو الوهم بل وجه المناسبة في التسمية أنها شبهت بالغراب لسوادها وشبه المجاذيف بالأجنحة وهو حسن ثم رأيت هذا الكلام للشهاب الخفاجي في كتابه طراز المجالس فراجعه إن شئت وكتب إلي هذه الأبيات مداعبا في أيام برد العجوز
بغض بكر وبشرب العجوز ... يدفع بعض الناس برد العجوز
ونحن قوم ما لنا ثروة ... ولا نرى في الشرع ما لا يجوز
قهوتنا قهوة بن زكت ... تعيد أيام الصبا للعجوز
وعندنا كانون جمر لقد ... أعاد في كانون قيظا تموز
وصحبة طوع يد اللهو لا ... تفرقهم إن خلطوا بالعنوز
فانهض إلينا نغتنم صحبة ... فالزمن الجاني سريع النشوز
وأعرف الناس به عاقل ... بلذة قبل التقضى يفوز
لا يرتضي العاقل عن فرصة ... من فرص الدهر بملء الكنوز
لو لم يجن الدهر ما علقت ... عليه رأس الهلال الحزور
من غير مأمور ودم سالما ... لدفع خطب ولحل الرموز
فحضرت إليه وكان بمجلسه أحد أبناء الروم ممن يدعي الأدب فأخذ في بحث أيام العجوز ولم سميت بهذا الاسم حتى تحرر لنا وجه التسمية من كتاب لابن قاضي شهبة سماه تطريف المجالس بذكر الفوائد والنفائس وملخص ما قال فيه أنهم زعموا أن عجوزا دهرية كاهنة من العرب كانت تخبر قومها ببرد يقع في آخر الشتاء يسوء أثره على المواشي فلم يكترثوا بقولها وجزوا أغنامهم واثقين بإقبال الربيع فإذا هم ببرد شديد أهلك الزرع والضرع فقيل أيام العجوز وبرد العجوز وقيل هي عجوز كان لها سبع بنين وسألتهم أن يزوجوها وألحث فقالوا ابرزي للهواء سبع ليال حتى نزوجك ففعلت والزمان شتاء فماتت في السابعة فنسبت إليها الأيام وقيل هي الأيام السبعة التي أهلكت فيها عاد ولكن تلك ثمانية بنص الكتاب وقيل أيام العجز وهي آخر الشتاء والله أعلم وكتبت إليه بعد أيام أدعوه إلى منتزه في يوم النوروز وأشير إلى مضمون أبياته
أنقذتنا مواسم النوروز ... من عذاب الشتا وبرد العجوز
ألبس الأرض من غلائله ال ... خضر فجرت ذيولها في الخزوز
وإذا أشرقت ذكاء حسنا الأ ... رض أبدت ما تحتها من كنوز
فاتركاني من ضرب زيد لعمرو ... وبيان المقصور والمهموز
وقفا بي على الرياض قليلا ... لنرى قدرة الحكيم العزيز
فكأن الحباب والماء فيها ... فضة تحت لؤلؤ مغروز
أيها الفاضل الذي يفصل ال ... بحث ولو طال بالكلام الوجيز
لو جهلناه ما علمنا يقينا ... محكمات التحريم والتجويز
أو رآه الزهري وابن معين ... أسند العلم عنه كالمستجيز
جد بإنجاز ما وعدت فليس ال ... مطل عند الكرام كالتنجيز
فلدينا من يسحر اللب والع ... قل إذا ما شدا من النيريز(1/491)
فاتر الطرف لو رأته زليخا ... نسيت ذكر يوسف والعزيز
حسدت منزلي عليه بقاع الأ ... رض من جلق إلى تبريز
لا تكلف فكري بيانا فلا ... يمكن وصف الجمال بالارجوز
فتعجل فالوقت كالسيف والع ... اقل يدري ما تحت ذيل الرموز
ولما كنت بأدرنه ورد منه كتاب لبعض أخدانه وأمره بتبليغ السلام إلي باللسان واعتذر عن عدم إرسال كتاب مستقل إلي فكتبت إليه قصيدة طويلة منها
بنفسي من خدره المغرب ... هلال عن القلب لا يغرب
ومن أنا في حبه ثابت ... تباخل بالكتب أو يكتب
ومن لو وزنت بغشافه ... رجحتهم والهوى متعب
وقيدني الجود في وده ... فمالي عن حبه مذهب
أرجى لقاه رجاء الحيا ... ة والنجم من قربه أقرب
ويا من تعجب من رقتي ... حياة قتيل النوى أعجب
لقد ودعوني فسار السرور ... وما لذلي بعدهم مشرب
ولم أر من بعد أنوارهم ... نهارا ولو أقلع الغيهب
وما كنت أحسب صبري يخو ... ن ويخدعني برقه الخلب
ولو كنت أملك قلبي صنعت ... كما صنعوا والهوى أغلب
وأنشدني يوما قصيدة غزلية نظمها لم يعلق منها في خاطري إلا بيت المطلع وهو هذا
غصن رنحه سكر الدلال ... ينثنى ريان من ماء الجمال
واقترح علي أن أنظم على وزنها ورويها قصيدة فنظمت هذه القصيدة وعرضتها عليه وهي قولي
شاقني غصن نقا تحت هلال ... ينثنى نشوان من خمر الدلال
كل لحظ منه نهاب النهى ... يسحر الألباب بالسحر الحلال
ترتع الأحداق من طلعته ... في رياض بين حسن وجمال
خده كالورد غشاه الحيا ... عرقا كالدريزري بالغوالي
من عذيري من خليل غادر الج ... سم من سلوته رق الخلال
يعد الوصل ويقضيني الجفا ... ويمنيني ويرضى بالمحال
حمل القلب من الأعباء ما ... لو أقلت صدعت صم الجبال
يا بقومي قامة منه ويا ... خجلة الأغصان منها والعوالي
ومحيا يفتك النساك حس ... نا ويسنعبد ربات الحجال
ولحاظ دونها فتك الظبا ... تنهب الأعمار من غير قتال
وقسى تصدع اللب إذا ... فوقت انفذ من زرق النصال
ولمى يفتر عنه مبسم ... من عقيق فوق در كاللآلي
ترف الجسم يكاد القد ينق ... د أن رنحه سكر الدلال
وشجاني صادح في فنن ... كلما أشكو له الشوق شكا لي
يا لك الله كلانا واحد ... يشتكي بعد حبيب وطلال
كلنا يبكي على غصن له ... نازح الأحباب مثبت الحبال
يا خليلي وسلطان الهوى ... يقتضى حكم الموالي في الموالي
لا تلوماني على جهد البلا ... فالهوى ضرب من الداء العضال
يبعث العاقل للحسين القضا ... ويغص المرء بالماء الزلال
أي خلي القلب عني إنني ... لست بالمختار في هذا النكال
لو لم يكن في الحب رأى لم تجد ... أسد الغابة في أسر الغزال
خل ارشادي وذق طعم الهوى ... إنني قد بعث رشدي بالضلال
لا تلم من ذل في نيل المنى ... إن عز الحب في ذل السؤال
كم أداري مهجة ذابت أسى ... بين إطماع وعد ومطال
تلفت روحي وما من عجب ... تلف الأرواح من دون الوصال
ما الذي ضر جميل الوجه لو ... كان أفديه جميلا في الفعال
آثر الجور على العدل ولم ... يدر أن الجور من شر الخصال(1/492)
يا أحباي وفي آثاركم ... فرج القلب وحل من عقال
عللوا روحي بأرواح الصبا ... وابعثوا أخباركم لي في الشمال
واسعفوا المضنى بتنجيز المنى ... أن تنجيز المنى خير النوال
وإذا لم تنعموا لي باللقا ... فاحسنوا لي إذ أذنتم بالخيال
ليت شعري والهوى كم فيه من ... عجب والصب مغرى بالجدال
أقصير الليل يدري حالتي ... في ليالي هجره السود الطوال
يشتكى من قصر الليل إذا ... ما اشتكى الخالون من طول الليال
وأهدى إلي مرة شاشا فكتبت إليه
روحي فداء لاغر سما ... بسودد كالشامخ الراسي
ذو خلق يحكى شذا روضة ... قد أحدقت بالورد والآسي
فما الربيع الطلق وشى الربى ... بردا ما السلسل في الكماس
ألطف من نسمة أخلاقه ... عرفتها من طيب أنفاس
نزلت في دوحته معدما ... فلم يدع برئي وإيناسي
يا سيدا أنطقني فضله ... بشكره من بعد إخراسي
أراك رأس الناس لا مرية ... لذاك تهدى حلة الراس
وجمعني وإياه مجلس لأحد الكبار فلعب بالشطرنج وكان إذا لعب ظهر منه بعض الطيش والدعوى وكان بالمجلس بعض العلماء فأبدى التعجب من أطواره فأنشد بديها
لئن أمسيت أدنى القوم سنا ... فعد فضائلي لا يستطاع
كشطرنج ترى الألباب فيه ... حيارى وهو رقعته ذراع
قلت وكان مفردا في لعب الشطرنج وله فيه محنة زائدة وتفرغ أياما لحساب حبة القمح التي اقترحها واضع الشطرنج وهو صصه بن داهر الهندي على الملك الذي وضعه باسمه وهو شهرام وأراد أن يستخرج العدد وصنع جدولا عظيما وأظنه استخرجه وأنا قد رأيت بعض الحساب اعتنى بذلك وضبطه ضبطا قويا وجعله في مصراع من بيت وهو قوله
إن رمت تضعيف شطرنج فجملته ... ها واهه طعجزمدز ودوحا
وجملة ذلك ثمانية عشر ألف ألف ألف ألف ألف ألف ست مرات وأربعمائة وستة وأربعون ألف ألف ألف ألف ألف خمس مرات وسبعمائة وأربعون ألف ألف ألف ألف أربع مرات وثلاثة وسبعون ألف ألف ألف ثلاث مرات وسبعمائة وتسعة آلاف ألف ألف مرتين وخمسمائة واحد وخمسون ألف وستمائة وخمسة عشر وأقلع آخرا عن صبوته فترك محض أشعاره في الغزل وقص قوادمها وخوافيها بأشعار في الزهد والحكم وأبلغ ما أنشدني في ذلك المعرض هذه القصيدة الغراء عارض بها معلقة امرئ القيس وقصيدته تليق أن تعلق تميمة في جيد الزمان لما اشتملت عليه من الأمثال والحكم والسلاسة وقد أوردتها برمتها حرصا على كثرة فائدتها وتعرضت لبعض إيضاحاتها وهي
توكل على الرحمن حق التوكل ... فليس لما في علمه من مبدل
لعمرك ما يدري المنجم ما غدا ... يكون وعلم الحال عند المحول
وأنا فلا تعجب لفي غفلة بما ... يراد بنا في عاجل أو مؤجل
نسير ولا ندري كركب سفينة ... وعمر الفتى كالفئ جم التنقل
ويرشقنا قوس الخطوب بأسهم ... على أسهم كالطل يتبعه الولى
ونحن نبات والزمان حصادنا ... أليس بوافي كل شهر بمنجل
تشبيه الهلال بالمنجل مستعمل في أشعار العرب كثيرا ومن أحسن ما مر لي فيه قول الشهاب
رأيت هلال الشهر منجل حاصد ... لأعمارنا وهي الهشيم المحطم
وما سلخت تلك الشهور وإنما ... دياجي الأماني الجلد والشفق الدم
وآمالنا تزداد في كل ساعة ... ومن أضيع الأشياء عمر المؤمل
إلى الله نشكو ما بنا من جهالة ... ومن تتعبده المطامع يجهل
ومن لم يكن في أمره ذا بصيرة ... يكن هدفا للنائبات ويقتل
وهم الورى كل على قدر عقله ... وما فاز باللذات غير المغفل
ولا عجب إن فاوت الحظ بيننا ... فمن رامح نجم السماء وأعزل(1/493)
ألم تر أن الطير يرتع شرها ... ويحبس في أقفاصه كل بلبل
وإني من القوم الكرام أولى الوفا ... إذا بخلت مزن السما لم تبخل
وإن ندع عند الجدب نسمح بجهدنا ... وإن ندع يوم البأس لم نتعلل
ونرحل بعد الناس من كل منزل ... ونصدر قبل الناس من كل منهل
ويمنعنا فرط الحياء عن الخنا ... وإن كان فينا رقة المتغزل
ووهابة الأحزان نهابة النهى ... منعمة الأطراف عذب المقبل
رقيقة خصر لا ترق لمغرم ... قسية قلب لا تلين لمبتلى
يرى وجهه في وجهها من يضمها ... كمرآة هندي براحة صيقل
تخادع أرباب النهى عن عقولهم ... وتسحر لب الناسك المتبتل
إذا التفتت نحو الخلي بطرفها ... سرى حبها كالخمر في كل مفصل
تحوم رماح الخط حول خبائها ... كما حاطت الأهداب مقلة أكحل
فكم في حماها من سليم مسهد ... وحول خباها من صريع مجندل
صرفت الهوى عنهن لا خشية الردى ... وذو الرأي مهما يأمر القلب يفعل
ورع وقفت العيس فيه فلم أجد ... بأرجائه غير الغراب المكبل
عهدت به البيض الدمى فوجد به ... من الأهل كالجيد الأغر المعطل
وبات سميري فيه ضار غضنفر ... له منظر وعر وناي كمعول
وعينان كلما ويتين توقدا ... ظلاما فلم نحتج إلى ضوء مشعل
مساق شديد البطش عبل مفتل ... كحبل الجواري المنشآت المجدل
كأن عظام الوحش حول عرينه ... بقايا بناء ألقيت خول هيكل
أتاني فلم يبصر فؤادا مروعا ... فقام مقام السائل المتطفل
فقلت له عذرا أسامة إنني ... أرى جمل زادي قادحا في التوكل
أقم فلعل الله يرزقنا معا ... فإن لنا رزقا على المتوكل
فعن له سرب كأن نعاجه ... غوان تهادى في الحلى حول جدول
فثار فلما أبصرته تلاحقت ... كما انسل در من نظام مفصل
فناديته صبرا وللضيف حرمة ... فلا تتكلف هم قوت ومأكل
وقمت إليها طالبا فوق ضامر ... كما انقض صقر أجدل فوق أجدل
وفوقت سهما مصميا نحو بعضها ... ومن وعد الضيف القرى فليعجل
وقاسمته زادي وبات مقابلي ... كما قابل المقرور نارا ليصطلى
وأوسعني شكرا وما كان ناطقا ... ولكن لسان الحال أصدق مقول
وسرت وسر الصبح في خاطر الدجى ... ونجم السما يرنو بمقلة أحول
وإني مقيم للصديق على الوفا ... سريع إذا ساء الجوار ترحلي
وليس ارتحالي عن ملال وإنما ... رأيت مكان الذل أسوأ منزل
ومن كان ذا صبر على الجور والجفا ... فإني مجد في خلاف السمندل
ألا في سبيل الله ود صرفته ... لمن خان ميثاقي وأشمت عذلي
جزاء سنمار جزاني على الهوى ... وكان يمنيني وفاء السموأل
سنمار رجل رومي بنى الخورنق الذي بظهر الكوفة للنعمان بن امرئ القيس فلما فرغ منه ألقاه من أعلاه فخر ميتا وإنما فعل ذلك لئلا يبنى مثله لغيره فضربت العرب به المثل لمن يجزى بالإحسان الإساءة قال الشاعر
جزتنا بنو سعد بحسن فعالنا ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب(1/494)
ويقال هو الذي بنى أطما لأحيحة بن الجلاح فلما فرغ منه قال له أحيحة لقد أحكمته فقال إني لأعرف فيه حجرا لو نزع لتقوض من آخره فسأله عن الحجر فأراه موضعه فدفعه أحيحة من الأطم فخر ميتا والسموأل بفتح السين والميم وسكون الواو وبعدها همزة ثم لام ابن حيان بن عاديا اليهودي كان من وفائه أن امرأ القيس لما أراد الخروج إلى قيصر استودع السموأل دروعا وأحيحة بن الجلاح أيضا دروعا فلما مات امرؤ القيس غزاه ملك من ملوك الشام فتحرز منه السموأل فأخذ الملك ابنا له وكان خارجا من الحصن فصاح الملك بالسموأل فأشرف فقال هذا ابنك في يدي وقد علمت أن امرأ القيس ابن عمي ومن عشيرتي وأنا أحق بميراثه فإن دفعت إلي الدروع وإلا ذبحت ابنك فقال أجلني فأجله فجمع أهل بيته نساءه فشاورهم فكل أشار عليه أن يدفع الدروع ويستنقذ ابنه فلما أصبح أشرف عليه فقال ليس إلى دفع الدروع سبيل فاصنع ما أنت صانع فذبح الملك ابنه وهو مشرف ينظر إليه ثم انصرف الملك بالخيبة رجع
فمن مبلغ الإخوان عني رسالة ... علي يدير القول من خير مرسل
مقالة من يجزى على الفعل مثله ... ولا يظلم المجزى حبة خردل
مقالة من تخشى بوادره ومن ... تساوى لديه طعم شهد وحنظل
مقالة من لا يختشى ذم جارح ... ولا يرتجى في النصح حمد المعول
دعوا البغي إن البغي يصرع أهله ... ويوقع في داء من الخطب معضل
ولا تجحدوا حق المحق فإنه ... سيبدو ظهور النار من فوق يذبل
ولا تظهروا شيئا وفي النفس غيره ... بوجه ضحوك فوق قلب كمرجل
وهل يختفى عن حافظين وشاهد ... رقيب عليكم بالقلوب موكل
ومن كان ذا رأي سديد وفطنة ... رأى ما نأى عنه بأدنى تأمل
أسرة وجه المرء عند كلامه ... تفصل من أسراره كل مجمل
وأسرع شيء يضمحل وجوده ... تصنع كذاب وصولة مبطل
ولا تنقضوا الميثاق فالله سائل ... عن العهد في يوم الجزاء المؤجل
ولا تحقروا كيد الضعيف فربما ... يساعده الدهر الكثير التحول
وكم خادم أضحى لمولاه سيدا ... وأسدى إليه منة المتفضل
أحبتنا رفقا علينا ورقة ... فزينة لب المرء حسن الترسل
تحملت منكم ما يذوب به الصفا ... وقد يهلك الإنسان فرط النحمل
أفي كل يوم اختشى سبق جاهل ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
إذا قدموهم ثم أقبلت أخروا ... ويبطل نهر الله جدول معقل
نهر معقل بالبصرة وهو معقل بن يسار المزني الصحابي وينسب إليه التمر المعقلي وفي المثل إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل والمراد بنهر الله ما يقع عند المد فإنه يطم على الأنهار كلها
ومن قاسني بالحاسدين فضيلة ... كمن قاس في السبق المجلى بفسكل
الفسكل هو من خيل السباق العشرة وهو الذي في آخر الحلبة آخر الخيل ويقال له القاسور والسكيت أيضا هذا ما عليه الجوهري قال ابن الحنبلي في تاريخه بعد كلام ذكره ولم أجد للقاسور ذكرا فيما أنشده الصفدي في تاريخه لابن مالك النحوي جامعا لأسماء خيل السباق العشرة في قوله
خيل السباق مجل يقتفيه مص ... ل والمسلى وتال قبل مرتاح
وعاطف وخطى والمؤمل واللط ... يم والفسكل السكيت يا صاح
وكأنه تركه لأنه والفسكل والسكيت واحد كما عليه الجوهري
سأرتكب الخطب العظيم مخاطرا ... وأخلع عن عطفي برد التجمل
وأبذلها إما على النفس أولها ... ومن يطلب الغايات للنفس يبذل
فإن عشت أدركت الأماني وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأول
وأنبئت أن ابن اللئيمة سبني ... وليس على عهد الدمى من معول
وقال لمن أحواله وهو صادق ... ألسنا صدور الناس في كل محفل
ورثت العلى عن كابر بعد كابر ... وسودت بالمجد الرفيع المؤثل(1/495)
نعم ما بنوا من مجدهم قد هدمته ... وأصبحت فيهم واو عمرو المذيل
لئن نلت ما أملته من حكومة ... لتنتشر فيها شرع حاكم جبل
جبل بفتح الجيم وضم الباء المشددة بلد بشاطئ دجلة وقاضي جبل يضرب به المثل في الجهل فيقال أجهل من قاضي جبل يقال إنه قضى لخصم جاءه وحده ثم نقض حكمه لما جاء الخصم الآخر وفيه يقول محمد بن عبد الملك الزيات
قضى لمخاصم يوما فلما ... أتاه خصمه نقض القضاء
دنا منك العدو وغبت عنه ... فقال بحكمه ما كان شاء
ومن ظريف ما يحكى عنه أن المأمون لما خرج إلى الصلح للابتناء ببوران إذا جماعة على الشط وفيهم رجل ينادي بأعلى صوته يا أمير المؤمنين نعم القاضي قاضي جبل جزاه الله عنا أفضل ما جزى به أحدا من القضاة فهو العفيف النظيف الناصح الحبيب المأمون العيب وكان القاضي يحيى بن أكثم يعرف قاضي جبل وهو الذي ولاه وأشار به فقال يا أمير المؤمنين إن هذا الذي ينادي ويثنى على القاضي هو القاضي نفسه فاستضحك المأمون واستظرفه وأقره على القضاء وقد كان أهل جبل وقعوا عليه وذكروا أنه سفيه حديد يعض رؤس الخصوم
سيندم قوم حاربوني وإنهم ... ستطرقهم من جانبي أم قسطل
أم قسطل الداهية
وإن لساني مبضع أي مبضع ... وفي كل عضو منهم عرق أكحل
وأقسم لولا خشية الله والحيا ... نسخت به ذكرى جرير وجرول
بأسهم لفظ كالصواعق أرسلت ... وأنصل معنى كالقضاء المنزل
وقافية تزداد حسنا وجدة ... وتبقى الوحى في صم جندل
قلائد ما مرت بفكر مرقش ... ولا خطرت يوما ببال المهلهل
فكن حذرا فالحزم ينفع أهله ... وإن كنت ممن يجهل الأمر فاسأل
وقد أطلنا ترجمته حسبما اقتضاه الجال وحاصله أنه كان فريد زمانه ووحيد أوانه وما أدري بأي عبارة أصف محاسنة وأذكر صنائعه وكان قبل موته بأيام نهض حظه نهضة عجيبة وذلك لإقبال الوزير الأعظم مصطفى باشا المقتول عليه وأدر عليه إدرارات كثيرة وشفع له عند المفتي فولاه إحدى المدارس الثمان ثم بعد أشهر ولاه مدرسة زال باشا التي بأيوب وفرح فرحا شديدا واتفق أني كنت عنده فجاءه للتهنئة المولى رفقي المدرس بمدرسة إبراهيم باشا بمدينة الغلطة فهناه ثم ذكر له أن هذه المدرسة مشهورة باليمن ومن جملة يمنها أنه لم يقع لأحد من مدرسيها أنه مات وهي عليه فعجبت من هذا ووقع في وهمي أنه يكون مبدأ لموت بعض مدرسيها وانفصل المجلس ثم في ثاني يوم رأيت قرطاسا في وسط دواته فتأملت فيها فرأيته قد شرع في عمل قصيدة وكتب قوافيها ولم يكتب منها إلا المطلع وهو هذا
ألم تر أن الهم قد زال بزالا ... وأحسن آمالالنا ومآلا
فاستحكمت الطيرة في وهمى من لفظة زال وفارقته عشية النهار وهو في لب الصحة ففي الصباح جاءني خادم له يدعوني إليه وذكر لي الخادم بأنه طعن بالليل فأسرعت إليه فلما دخلت عليه رأيته قد انعقد لسانه وأشرف على الموت وبقي إلى الليلة القابلة فقضى نحبه وكانت وفاته ليلة الأربعاء لليلتين بقيتا من شوال سنة ثمان وثمانين وألف وكان عمره أربعا وثلاثين سنة فإن مولده على ما أخبرني به في سنة خمس وخمسين وألف ودفن خارج باب أدرنه على يمنة الطريق الآخذ إلى مدينة أيوب وقلت أرثيه بهذه الأبيات
كل حي على البسيطة فاني ... غير وجه المهيمن الرحمن
وشراب المنون في الناس يسري ... سريان الأرواح في الأبدان
عم حكم الفناء في الخلق حتى ... سوف يرقى الردى إلى كيوان
وفناء الأقران شاهد عدل ... ودليل على فنا الأقران
لو نجا من يد الردى ذو فخار ... خلد العدل صاحب الإيوان
إن في الموت عبرة للبي ... ب لم تعقه علائق الجثمان
والسفيه السفيه من صرف العم ... ر بشرب الطلا وقرب الغواني
والذي يشترى جهنم باللذ ... ات أولى التجار بالخسران
فاغتنم فرصة الحياة فما الت ... سويف إلا مطية الحرمان(1/496)
كل نفس تجزى بما قدمته ... وجزاء الإحسان بالإحسان
كيف نرجو من الزمان بقاء ... والمنايا تحول دون الأماني
والورى والثرى حباب وماء ... ينطفى واحد ويطفو الثاني
أين روح الزمان من كنت في ح ... ين وإياه كحلتي حلوان
كان فينا كالورد في وجنات الغي ... د والسحر في عيون الحسان
عاجل الدهر نير الفضل بالكس ... ف وبدر الكمال بالنقصان
رجع الجوهر النفيس إلى الأص ... ل وأضحى مقره في الجنان
ليث شعري وليس يجدى أمن عم ... د رمته الخطوب أم نسيان
كيف دكيت أيها الحتف رضوى ... ونقلت الهضاب من ثهلان
جادت السحب قبره من فقيه ... كان في الفقه وارث النعمان
وحكيم يكاد ينطق عن ... وحي نبي أو عن نبأ لقمان
وأدبب يغار من نثره الد ... ر ومن نظمه عقود الجمان
وجواد كأن في كفه عين ... ي محب أو ملتقى عمان
كان نفعا ولم يزل وأحق النا ... س بالحمد دائم الإحسان
هون الدهر بعده كل خطب ... فترانا من حربه في أمان
يا صديقي تركتني لخطوب ... ينقضى قبلها زمان الزمان
لست أرضى عليك حكم لبيد ... مذهبي في الوفاء حكم ابن هانى
عيل صبري وإنما تأسى ... بعموم المصاب في الأعيان
أسعد الصاحبين من مات قب ... ل وأبقى الصديق للأحزان
إنما هذه مراحل تطوى ... والبرايا تساق كالركبان
كنت أخشى الورى لربك خوفا ... ولمن خاف ربه جنتان
ولك السبق في جميع المعالي ... فتمتع بالروح والريحان
عبد الباقي بن الشيخ الولي الزين المزجاجي التحيتي بالتصغير نسبة إلى التحتية خارج زبيد الزبيدي الشيخ القطب الفرد الجامع الغوث الإلهي الصوفي العارف بالله والدال عليه الإمام المجمع على تحققه بالحقائق الغيبية ولد بالتحتية وبها نشأ وأخذ عن شيوخ كثيرين باليمن وأخذ طريق النقشبندية عن العارف بالله تعالى تاج الدين الهندي وبه تخرج وصار خليفته من بعده في طريق النقشبندية وأخذ عنه خلق لا يحصون منهم الشيخ أحمد البنا الدمياطي رحل إليه ولازمه مدة مديدة وبه تخرج ولم يزل ينفع الناس حتى نقله الله تعالى إلى دار كرامته وكانت وفاته في شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وألف ببلده التحتية وبها دفن وآل المزجاجي قوم صالحون لهم شهرة وسيادة باليمن والمزجاجي بكسر ثم معجمات نسبة إلى المزجاجية موضع يصنع فيه المزجاج بالقرب من زبيد عبد الباقي بن عبد الباقي بن عبد القادر بن عبد الباقي بن إبراهيم بن عمر بن محمد الحنبلي البعلي الأزهري الدمشقي المحدث المقرى الأثرى الشهير بابن البدر ثم بابن فقيه فصه وهي بفاء(1/497)
مكسورة ومهملة قرية ببعلبك من جهة دمشق نحو فرسخ وكان أحد أجداده يتوجه ويخطب فيها فلذلك اشتهر بها وأجداده كلهم حنابلة وقد ولد هو ببعلبك وقرأ أولا على والده القرآن العظيم ثم ارتحل إلى دمشق وأخذ بها الفقه عن القاضي محمود بن عبد الحميد الحنبلي خليفة الحكم العزيز بدمشق حفيد الشيخ موسى الحجاوي صاحب الاقناع وعن الشيخ العالم المحدث أحمد بن أبي الوفا المفلحي المقدم ذكره وأخذ طريق الصوفية عن ابن عمه الشيخ نور الدين البعلي خليفة الشيخ محمد العلمي القدسي ولقنه الذكر وأجازه الشيخ العلمي المذكور في القدس بالبداءة في الأوراد والأذكار والمحيا ورحل إلى مصر في سنة تسع وعشرين وألف وأخذ الفقه عن الشيخ منصور والشيخ مرعى البهوتيين والشيخ عبد القادر الدنوشري والشيخ يوسف الفتوحي سبط ابن النجار وأخذ القراآت عن الشيخ عبد الرحمن اليمني والحديث عن البرهان اللقاني وأبي العباس المقرى والفرائض عن الشيخ محمد الشمريسى والشيخ زين العابدين أبي درى المالكي والشيخ عبد الجواد الجنبلاطي والعروض عن الشيخ محمد الحموي وحصة من المنطق والعربية عن الشيخ محمد البابلي وحضر دروسه ثم عاد إلى دمشق وقرأ على العلامة عمر القارئ في النحو والمعاني والحديث والأصول وحج في سنة ست وثلاثين وألف وأجازه علماء مكة كالشيخ محمد علي بن علان الديقي والشيخ عبد الرحمن المرشدي الحنفي مفتي مكة وأخذ عن أهل المدينة كالشيخ عبد الرحمن الخياري وكذلك عن علماء بيت المقدس وأعلى سند له في الحديث مرويات الحافظ ابن حجر العسقلاني في جميع كتب الحديث عن الشيخ حجازي الواعظ عن ابن أركماس من أهل غيط العدة بمصر عن الحافظ ابن حجر وحضر دروس الحديث بالجامع الأموي عند الشمس الميداني والنجم الغزي ودروس التفسير عند العمادي المفتي وتصدر للإقراء بالجامع المذكور في سنة إحدى وأربعين وألف بكرة النهار وبين العشاءين فقرأ الجامع الصغير في الحديث مرتين وتفسير الجلالين مرتين وقرأ صحيح البخاري بتمامه ومسلم والشفا والمواهب والترغيب والترهيب والتذكرة للقرطبي وشرح البرءة والمنفرجة والشمايل والاحياء جميع ذلك نظر فيه ولازم ذلك ملازمة كلية بمحراب الحنابلة أولا ثم بمحراب الشافعية ولم ينفصل عن ذلك شتاء ولا صيفا ولا ليلة عيد حتى أنه لما زوج ولديه حضر تلك الليلة وكان فيه نفع عظيم وأخذ عنه خلق كثير أجلهم الأستاذ الكبير واحد الدنيا في المعارف إبراهيم الكوراني نزيل المدينة والسيد العالم محمد بن عبد الرسول البرزنجي ومنهم ولده العالم العلم الدين الخير أبو المواهب مفتي الحنابلة الآن أبقى الله وجوده ونفع به وشيخنا المرحوم عبد الحي العكري الآتي ذكره وغيرهم وله مؤلفات منها شرح على البخاري لم يكمله ودرس بالمدرسة العادلية الصغرى وصار خطيبا بجامع منجك الذي يعرف بمسجد الأقصاب خارج دمشق وكان شيخ القراء بدمشق ونظم الشعر إلا أن شعره شعر العلماء ولقد رأيت من شعره الكثير فلم أر فيه ما يصلح للإيراد وبالجملة ففي ذكر ما اشتمل عليه من العلوم والأوصاف الفائقة ما يغنى عن الشعر وأشباهه وكانت ولادته ليلة السبت ثامن شهر ربيع الثاني سنة خمس بعد الألف وتوفى ليلة الثلاثا سابع عشرى ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وألف ودفن بتربة الغربا من مقبرة الفراديس رحمه الله تعالى(1/498)
عبد الباقي بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن خليل بن محمد بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن غانم بن علي بن حسن بن إبراهيم بن عبد العزيز بن سعيد بن سعد ابن عبادة سيد الخزرج المقدسي الأصل المصري إمام الأشرفية بمصر هكذا رأيت نسب جده إمام المحققين الآتي ذكره وفي غالب اليقين أن فيه نقصا كان صاحب هذه الترجمة من مشاهير الأفاضل له انهماك على تحصيل العلوم وتقييد الفوائد الغريبة وكان يحفظ منها كثيرا وحصل بخطه كتبا كثيرة جدا في فنون وكان ملازما للعبادة والاستفادة مترفعا عن الدنيا وأهلها لا يتردد إلى أحد إلا في خير وكان نير الوجه جماليا سمح النفس حسن الصفات شريف الطباع مشهورا بقيام الليل وإحياء الليالي الفاضلة قرأ في الفقه على الشمس محمد المحبي ومحمد الشلبي والشهاب أحمد الشوبري وحسن الشرنبلالي الحنفيين وغيرهم وأخذ بقية العلوم عن كثيرين منهم الشمس الشوبري ويس الحمصي والنور الشبراملسى وسلطان المزاحي ومحمد البابلي وعبد الجواد الخوانكي وسرى الدين الدروري وأخذ عنه جماعة كثيرون منهم صاحبنا المرحوم عبد الباقي بن أحمد السمان وصاحبنا الفاضل مصطفى بن فتح الله وكان صاحبنا الأول يثني عليه ثناء بليغا ويفضله على جميع من عاصره من علماء الحنفية وحكى لي أنه كان مع ما اجتمع فيه من المهابة شديد البسط كثير الدعابة والغزل وطرح التسمت مليح الحديث لا يمل وإن طال وله تآليف كثيرة من أجلها شرحه على الكنز في الفقه سماه الرمز والسيوف الصقال في رقبة من ينكر كرامات الأولياء بعد الانتقال وله تذكرة في أربع مجلدات جمع فيها فأوعى وقفت عليها شكر الله سعيه وفد سماها روضة الآداب وفيها يقول ابن السمان المذكور مادحا لها ولمؤلفها
ما عروس بدت بغير حجاب ... وكؤوس جلت صدا الألباب
ورحيق مزاجه سلسبيل ... روقته السقاة في الأكواب
وربيب إذا رأت وجهه الش ... مس توارت من وقتها بالحجاب
ذو لحاظ ترمي سهام المنيا ... ت بها من كنائن الأهداب
تحت فرع كأنه ظلمة البعد ... وفرق كالوصل والاقتراب
فإذا ما شدا بصوت رخيم ... ذكر الناسكين عهد التصابي
كثمار من الفوائد في أغص ... ان علم بروضة الآداب
أبدعنها أيدي إمام الهدى والعص ... ر بحر الندا مبين الصعاب
عالم الوقت منبع الشرع والد ... ين يفضل النهى وفصل الخطاب
من بألفاظه لقد شرف المن ... بر وازداد رونق المحراب
هو كالبحر كل صاد تروى ... من نداه وغيره كالسراب
دام فردا في الفضل جامع علم ... ما صبا مغرم لعهد الشباب
وأخبرني أنه كان أنه كان هو وإياه في مجلس حافل فدخل عليهم رجل وأنشد قصيدة في مديح المقدسي منحطة الرتبة واعتذر فيها عن قصوره قال فأنشدت بديها هذه الأبيات في الوزن والقافية
قصرت في مدح الإمام المقدسي ... وحوادث الأيام عذر المفلس
علامة الأعلام والغصن الذي ... بالفضل يعرف فيه طيب المغرس
يعد الكمال وسيد العلماء من ... بوجوده نعفو عن الزمن المسى
حبر إذا اجتمع الصدور بمجلس ... يوم التفاخر فهو صدر المجلس
شدت بأوتاد النجوم خيامه ... مضروبة فوق الأثير الأطلس
أفكاره تجلو الخطوب عن الورى ... وضياؤه يجلو ظلام الحندس
قد مثل الله العلوم له كما ... لنبيه تمثيل بيت المقدس
فإذا مدحت أولى الفضائل والنهى ... فالبس عن الآداب أفخر ملبس
فالمدح بالشعر الضعيف لمثله ... كالهجو تكرهه كرام الأنفس(1/499)
وحكى لي الأخ الشيخ مصطفى أنه حضر دروسه في الجامع الصغير للسيوطي بالأشرفية قال واتفق أني دخلت عليه يوم عيد في بيته أعيده وأعوده وهو مريض مرض الموت وكان له ولد صغير فلما خرجت من عنده أعطيته شيئا من الدراهم فرجع إلي والده فأخبره فناداني وقال لي في الجنة باب يدخل منه مفرحو الأطفال أرجو الله تعالى أن تكون منهم قال ورأيت بخطه من شعره قوله
صادني خشف ربيب ... فاتن بالحسن يسمو
ظن عذالي سلوى ... إن بعض الظن إثم
وكانت وفاته بمصر في جمادى الآخرة سنة ثمان وسبعين وألف رحمه الله تعالى عبد الباقي بن يوسف بن أحمد شهاب الدين بن محمد بن علوان الزرقاني المالكي العلامة الإمام الحجة شرف العلماء ومرجع المالكية وكان عالما نبيلا فقيها متبحرا لطيف العبارة ولد بمصر في سنة عشرين وألف وبها نشأ ولزم النور الاجهوري سنين عديدة وشهد له بالفضل وأخذ علوم العربية عن العلامة يس الحمصي والنور الشبراملسى وحضر الشمس البابلي في دروسه الحديث وأجازه جل شيوخه وتصدر للإقراء بجامع الأزهر وألف مؤلفات كثيرة منها شرح على مختصر خليل تشد إليه الرحال وشرح على العزية وغير ذلك وكان رقيق الطبع حسن الخلق جميل المحاورة لطيف التأدية للكلام وكانت وفاته ضحى يوم الخميس رابع عشرى شهر رمضان سنة تسع وتسعين وألف بمصر ودفن بتربة المجاورين عبد الباقي شاعر الروم وحسانها الأديب الشاعر الفائق الشهير بباقي كان أوحد أهل عصره في الفضل والأدب وله الشهرة الطنانة في الشعر البليغ وأهل الروم يطلقون عليه سلطان الشعراء فيما بينهم وذكر مبدأه أنه كان يتعانى حرفة السروج ثم تركها وتشبث بأذيال العلوم واشتغل على كثير من علماء وقته ووصل آخرا إلى شيخ الإسلام أبي السعود العمادي فواظب على درسه وفاز منه بالملازمة العرفية وما زال صيته يسمو بحسن الشعر حتى وصل إلى مسامع السلطان سليمان فالتفت إليه وصيره مدرسا ولم يزل يترقى في المدارس إلى أن وصل إلى إحدى المدارس السليمانية ثم عزل عنها بلا موجب وأدركته حرفة الأدب ثم بعد مدة ولى المدرسة السليمية بدار السلطنة وولى منها قضاء مكة المشرفة ثم نقل إلى قضاء المدينة المنورة وعزل عنها فأقام معزولا عدة سنين ثم استقضى بدار السلطنة ونال بعد ذلك قضاء العسكرين مرة بعد مرة وقد ذكره المولى عبد الكريم بن سنان في تراجمه فقال في وصفه كان ذا بيان عذب ولسان عضب حل عقد الفصاحة بما قيده وبيض وجه البلاغة بما سوده نفث في عقود العقول بسحره وطار إلى الأقطار هزار شعره له منظوم أرق من الدمع ومنثور يقتطف ببنان السمع
بكل لفظ كأنه نفس ... غير ممل لطول ترديد
حلى جيد الزمان بفرائد قلائده وما الدهر إلا من رواة قصائده سارت بأشعاره الصبا والقبول وصادفت من الناس مواقع القبول كأنها نفس الريحان وأزهاره تمزجه صبا الأصائل من أنفاس نواره فكأن مداد دواته من غاليه إذ أصبحت أسعار أشعاره غاليه ألفاظ كما نورت الأشجار ومعان كما تنفست الأسحار إذا ألبس قلمه ثوب المداد عرى من الفصاحة قس إياد ولو جاراه الكميت في حلبة البلاغة لكان قصاراه التقصير ولو ناظره ابن برد لقيل له هل يستوي الأعمى والبصير فيا له من شعر سار مسير الأمثال وبلغ ما بلغ الصبا والشمال يكاد يخرج من حد الشعر إلى حد السحر شفت ظروف حروف مبانيه فنمت على سلافة لطافة معانيه كما نم الزجاج على الرحيق والنسيم على شذا الروض الأنيق وكان ذا نفس أبيه وهمة وحميه يجاهر في سب أعيان زمانه من أضرابه وأقرانه بل كان لا يسلم من عضب لسانه أحد ولا يدرك له غاية ولا حد فربما أصبح كذلك وهو بإحرام الحرمان مشتمل أشبعتهم سبا وفازوا بالإبل وكانت صحبته أحلى من قبلة الحبيب وغفلة الرقيب انتهى قلت وبالجملة فهو نادرة الزمان وواحد الروم في الشعر ومع كثرة شعره بالتركية والفارسية لم أظفر له من شعره العربي إلا بهذين البيتين التوأمين وهما قوله
لم يبق منا غير آثارنا ... وتنمحي من بعد أخلاق
وكلنا مرجعنا للفنا ... وإنما الله هو الباقي
ثم وقفت له على هذا البيت الفذ قاله في هجاء ابن بستان الرومي وهو قوله
وإذا أشرت إلى كذوب مفتر ... فالى ابن بستان بكذاب أشر(1/500)
وكان يجرى له مع أدباء عصره مطارحات ومنادمات يتداولها إلى الآن أدباء الروم في مجالسهم ويحدثون عنه بنكبات كانت تصدر عنه من ألطف ما يكون ومن أحسنها موقعا ما اشتهر عنه أنه كان نظم قطعة من الشعر في غلام مشهور بالجمال فلما سمع الغلام القطعة أعجبه ما فيها من التخيل وأقسم أنه يقبل رجله إذا رآه فاتفق أنه صادفه في بعض أسواق قسطنطينية وباقي راكب وجماعته في خدمته فدخل الغلام وأراد يقبل رجله فمنعه من ذلك وقال ما حملك على هذا ألك حاجة فقال لا وأخبره باليمين الذي حلفه فقال له أنا نظمت الشعر بفمي ولم أنظمه برجلي فخجل الغلام وتنصرف ووجدت في ديوان أبي بكر العمري ذكر هذه الواقعة وقد نظمها في أبيات ثلاثة وهي
قال لما وصفته ببديع الحس ... ن ظبي يجل عن وصف مثلي
مكن العبد أن يقبل رجلا ... لك كيما يجيز فضلا بفضل
قلت أنصف فدتك روحي فإني ... بفمي قد نظمته لا برجلي
وقريب من هذا قول الصاحب ابن عباد
وشادن جماله ... تقصر عنه صفتي
أهوى لتقبيل يدي ... فقلت لا بل شفتي
ولصاحب الترجمة من هذا النوع لطائف كثيرة والعنوان يدل على ما في الصحيفة وكانت وفاته نهار الجمعة الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة ثمان بعد الألف عبد الباقي المعروف بالإسحاقي المنوفي الأديب الشاعر الفائق كان قاضيا فاضلا عالما مؤرخا كثير النظم للشعر صحيح الفكرة وله تاريخ لطيف ورسائل كثيرة قرأ ببلده على شيوخ كثيرين وكان يتردد إلى مصر وأخذ بها عن أكابر علمائها ومن شعره الغض البهي قوله
تمشت لنا تخجل الكوكبا ... فناديتها مرحبا مرحبا
غزالة أنس لها طلعة ... إذا خالها الصب حقا صبا
أدارت بحضرتنا قهوة ... وطافت بكاس الطلا مذهبا
رنت ورمتني بألحاظها ... وقد أذكرتني عهد الصبا
فلو أن نظرتها كالظبا ... لهان ولكن كحد الظبا
وغنت لنا فطر بنا لها ... فيا حسن ذاك الذي أطربا
غزالية آنست صبها ... وأنست محبتها زينبا
فهمنا فهمنا غراما بها ... وعن حالتي حبها أعربا
وصبرت قلبا غدا هائما ... وقد كاد في الحب أن يذهبا
ففيها مديحي عذب يرى ... وفي غيرها المدح لن يعذبا
سأجعل في وصفها نبذة ... وأركب في حبها أشهبا
مدحت فقصر قلبي المديح ... وكان مرادي أستوعبا
وإني في وصلها سيدي ... ترانى بين الورى أشعبا
فبالله يا نسمة البان إن ... حففت على حي ذاك الربا
وجزت رياضا بها غادتي ... فهات لنا عن حلاها نبا
أيا عاذلي في هواها اتئد ... حديثك عندي مثل الهبا
سقى الله روضا به سادتي ... من الوبل غيثا به صيبا
لأني باق على عهدهم ... أرى حبهم مذهبا مذهبا
ومن مطرباته هذه الخمرية وهي قوله
أمل لي كاسا تماما ... واسقني جاما فجاما
واجعل الدرة كاسا ... وخذ النبر مداما
تمم الكاس فإن الكا ... س ما كان تماما
واتخذها سلما لله ... و يسمو أن يساما
وتوهم أنها الح ... ل وإن كانت حراما
ثم أزهى موضع في الر ... وض فاختره مقاما
وإذا ما شئت أن تسك ... ر فاستدع النداما
وليكن خمرك عاديا ... وساقيك علاما
يملأ الكاسات والا ... لحان برأ وسقاما
يملأ القلب سرورا ... وانبساطا وغراما
عابثا بالغصن أعطا ... فا وبالزهر ابتساما
ومحلى بالطلا جيد ... ا وبالعارض لاما
وترى منه القوام الغ ... صن والغصن القواما
وترى الأغصان إج ... لالا له هيبا قياما
وترى الشمس وبد ... ر التم نارا ثم راما(2/1)
فهو المطلوب للمجل ... س رأسا واماما
اسقني بالكوب وال ... كاس فرادى وتؤاما
ثم بالطاس إلى أن ... تتراآى الهام هاما
ثم بالجرة فالج ... رة حتى أترامي
اسقني حينئذ بال ... زق حتى لا كلاما
ثم بالدن فتلك الغ ... اية القصوى تماما
ثم خذ عني ما شئ ... ت ولا تخش أثاما
والتقط مني الجمان الفرد نثرا ونظاما
وإذا لم يكن الطاف ... ح بالكاس هماما
فاغدوا عذر وإذا ر ... ام خطابا قل سلاما
ويستحسن منه قوله
أذكرت أيتها الحمامة غيدا ... ومعاهدا سلفت لنا وعهودا
وصدحت فوق أراكة فتصدعت ... قلبا وحين صعدت ذا الا ملودا
أذكرت أشجانا لنا ومعاهدا ... وصفا تقضى طارفا وتليدا
هذا على أن الغرام إذا زكى ... ظل الشجي يتوقع التغريدا
لله أيام نعمت بها وقد ... عقد الغمام على الغصون نهودا
حيث الشجي طورا يخمس كاعبا ... ومن الجوى طورا يجمش رودا
حيث الشمال يحرك العذبات إذ ... يخطو ويخطر والرياض وبيدا
حيث المثاني والمثالث هذه ... ترنو وذي بشجي تحرك عودا
هذا ومع أنا ولو طفحت كؤو ... س الراح واشتعل المدام وقودا
ما حركت منا المدام سوى الر ... ؤس كذا الشمال تحرك إلا ملودا
أتؤوب هاتيك اللويلات التي ... فيها نظمت نظمت لآلئا وعقودا
ولرب خل حاز أنواع الذكا ... ولذا غدا في المكرمات فريدا
سامرته وجنوت من ألفاظه ... ما يخجل الصهباء والعنقودا
وجلا علي عرائسا من فكره ... حسنت طلا ومعاطفا وقدودا
وأفادني وأفدته والخل يحم ... د أن يفاد معانيا ويفيدا
فالعقل نام والعفاف بحاله ... ومجيد فكرتنا استمر مجيدا
يا عبد فابق على اصطباحك واغتبا ... قك واصحبن العهد والمعهودا
وقد ذكرته في كتابي النفحة وذكرت له من غزلياته قدرا زائدا على هذا والحق أن شعره ما عليه غبار وكانت وفاته في نيف وستين وألف بلدة منوف(2/2)
عبد البر بن عبد القادر بن محمد بن أحمد بن زين الفيومي العوفي الحنفي أحد أدباء الزمان المتفوقين وفضلائه البارعين كان كثير الفضل جم الفائدة شاعرا مطبوعا مقتدرا على الشعر قريب المأخذ سهل اللفظ حسن الإبداع للمعاني مخالطا لكبار العلماء والأدباء معدودا من جملتهم أخذ العلم بمصر عن الشيخ أحمد الوارثي الصديقي والأدب عن الشيخ محمد الحموي والقراآت عن الشيخ عبد الرحمن اليمني وفارق موطنه فحج أولا وأخذ بمكة عن ابن علان الصديقي وكتب له إجازة مؤرخة بأواخر ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين وألف ثم دخل دمشق وحلب في سنة ثمان وأربعين وأخذ بحلب عن النجم الحلفاوي الأنصاري ولزمه للقراءة عليه في شرح الدرر في الفقه مع حاشية الوافي وشرح ابن ملك على المنار مع حواشيه الثلاث عزمي زاده وقرا كمال والرضى بن الحنبلي الحلبي وشرح الجامي مع حاشيته لعبد الغفور ومختصر المعاني مع حاشيته للخطائي ثم خرج إلى الروم فورد مورد العلامة أبي السعود الشعراني وقرأ عنده جامع الأصول للربيع اليمني وهو في تحرير الأحاديث وشرح الهمزية لابن حجر بتمامه ونصف سيرة الخميس أو قريبا منه وجانبا من فتاوى قاضي خان وبعض فرائض السراجية وكثيرا من مباحث التفسير وأجازه ولزم الشهاب الخفاجي فقرأ عليه بعض شرح المفتاح للتفتازاني وبعض شرح نفسه على الشفا وكتب له خطه على هامش الكتابين ولما ولى قضاء مصر استصحبه معه إلى صلة رحمه واستنابه بين بابي الفتح والنصر وصيره معيدا لدروسه في حاشيته على تفسير البيضاوي وفي شرح صحيح مسلم للنووي وأخذ بالروم عن المولى يوسف بن أبي الفتح الدمشقي إمام السلطان وولى من المناصب إفتاء الشافعية بالقدس مع المدرسة الصالحية ودخل دمشق وأقام بها في حجرة بجامع المرادية نحو سنتين ولم يقدر على الدخول إلى القدس خوفا من الشيخ عمر بن أبي اللطف مفتي الشافعية قبله ثم لما مات الشيخ عمر ترحل إليها ومكث بها أياما ولما لم ينل حظه من أهلها ترك الفتوى والتدريس ورأى المصلحة في الرجوع إلى الروم فانتقل إليها وأقام بها مدة ثم انتظم في سلك الموالي فولى بعض مناصب ومات وهو معزول عن ساقز وله تآليف كثيرة حسنة الوضع أشهرها كتابه منتزه العيون والألباب في بعض المتأخرين من أهل الآداب جعله على طريقة الريحانة إلا أنه رتبه على حروف المعجم وجمع فيه بين شعراء الريحانة وشعراء المدائح الذي ألفه التقي الفارسكوري وزاد من عنده بعض متقدمين وبعض عصريين وهو مجموع لطيف وفيه يقول الأديب يوسف البديعي
كتاب ذي الفضل عبد البر منتزه ال ... عيون أحسن تأليف ومنتخب
حوى محاسن أقوام كلامهم ... في النظم والنثر يلفى زبدة الأدب
رأى البديعي ما فيه فحقق أن ... ما مثل رونقه في سائر الكتب
وله حاشية على شرح الهمزية لابن حجر صغيرة الحجم وكتاب بلوغ الأرب والسول بالتشرف بذكر نسب الرسول وكتاب اللطائف المنيفة في فضل الحرمين وما حولهما من الأماكن الشريفة وكتاب حسن الصنيع في علم البديع وله بديعية على حرف النون وشرحها ومطلعها
لما تذكرت سفح الخيف والبان ... أهل دمعي وروى روضة البان
وقد عارض فيه بديعية شيخه الحموي ومطلع قصيدته
هجري على ولي وصل بأحياني ... أماتني الهجر جاء الوصل أحياني
وله رسالة في التوشيع سماها إرشاد المطيع ورسالة سماها مشكاة الاستنارة في معنى حديث الاستخاره ورسالة في القلم وأخرى في السيف وبله شعر كثير غالبه مسبوك في قالب الإجادة وعليه رونق الانسجام والبلاغة فمن ذلك قوله
تبدى مليك الحسن في مجلس البسط ... بقد كغصن البان أو ألف الخط
وأبدى على شرط المحبة حجة ... مسلمة أحكامها قط ما تخطى
ومن شرطه في الخد قبلة عاشق ... فكان مداد الحسن في ذلك الشرط
اختلسه من قول ابن حجة في قصيدته التي قالها في مدح حماه
وقد جاء شرط البين أني أغيب عن ... حماها لقد أدمى فؤادي بالشرط
ومن تشبيهاته
رأيت يوما عجبا ... فيا له من عجب
النور مبيضا على ... حمر لون القضب
كخيمة من فضة ... على عمود ذهب
ومن ذلك قوله(2/3)
أنظر إلى الزهر النضير العسجدي ... يدعو إلى لهو كوجه الأغيد
فالورد في الروضات محمر على ... أغصانه الخضر الحسان الميد
ملاءة من ذهب منشورة ... من تحتها قوائم الزبرجد
وله في الدولاب
إنما الدولاب في دوره ... يهيم من شوق وأشجان
ينوح حزنا ويرى باكيا ... بأعين تهمى على البان
وقريب منه قول أحمد بن عبد السلام المصري
وروضة دولابها دائر ... موله من فرط أشجانه
فكله من وجده أعين ... تبكي على فرقة أغصانه
والأصل فيه قول ابن تميم
ودولاب روض كان من قبل أغصنا ... تميس فلما غيرتها يد الدهر
تذكر عهدا بالرياض فكله ... عيون على أيام عهد الصبا تجري
ولعبد البر في دولاب العيد الذي يدور بالأولاد
إنما الولدان في عيدهم ... من فوق دولاب بهم دارا
قد أدركوا العشق وأحواله ... فالعقل قد دارا وما دارا
وله فيه أيضا
دولاب عيد دار بالمنحنى ... لطلعة قامتها ناضرة
يروى لنا عن فلك دائر ... والشمس ما زالت به دائرة
قال ولما وردت بروسة ورأيت الحمام الخلقي الذي يقال له قبلجه وهو ماء حار يخرج من تحت جبل عال قلت
وماء له طبع الحرارة خلقة ... من الجبل الصلد العظيم لقد سلك
إلى كل حوض مستدير موسع ... تراه مدار الماء ملعبة السمك
تدور به الولدان طالعة وقد ... تغيب كشأن النيرين من الفلك
وقلت فيه أيضا وهو معنى حسن
وحوض كبير مستدير وماؤه ... حرارته بالطبع للبرد دافعه
أحاطت به الأقمار من كل جانب ... ومن أفقه شمس المحاسن طالعه
ومن لطائف شعره قوله في الغزل
لي حبيب قد سالماه ... عذبا وطرفاه سالماه
فيا خليلاي عذر صب ... جودا وإلا فسالماه
فالطرف هام من التجافي ... طول الليالي قد سال ماه
وساكن القلب ذم رآه ... يهيم بالوجد سال ماهو
الأول ساء بالهمز مقصور للشعر ولمى أي الريق فاعل وإساءته منعه لوارده والثاني ماض والألف للتثنية والثالث أمر لاثنين والرابع من الاسالة والماء قصر للضرورة والخامس من السؤال سهلت الهمزة ضرورة وما سؤال على سبيل تجاهل العارف وقد حذا في هذا حذو أحمد النسفي المعروف بقعود وزاد عليه بالتصريع وأبيات النسفي هي هذه
يا صاحبي اتركا معنى ... أو فاعذلاه وعارضاه
فما تطيقان رشد غاو ... بما يلاقي وعارضاه
سبى حشاه والعقل منه ... عينا غزال وعارضاه
يا جمع من صير التصابي ... في الحسن عارا بالعار ضاهوا
ومن شعر الفيومي قوله في الغزل
حبيب له جسمي وقلبي راغب ... ولي منه هجر وهو للوصل راهب
له من غرامي في فؤادي أعين ... واي من جفاه والتباعد حاجب
نزيل الحشا لم يرع مثوى به نشا ... وكيف انتشى والوجد للصب ناصب
ولم طبعه لم يكسب الخفض برهة ... من الجفن والولهان للكسر كاسب
له في عيوني من رقيبي حارس ... ومن خاطري خل وفي وصاحب
وله من فصل
في غضون شكاية من الزمن ... قد كان الفضل في المراقي من نصل
عيون الدهر هو الراقي والترقي في الأدب به التوقى من النصب والوصب وكل هذا ذهب وانحصر الدواء في الفضة والذهب فالمفلحون في خبايا النقود قعود والمفلسون في زوايا الخمول رقود فدع فضل العلم والحسب واسع أن يكون لك من المال خير نشب فقد كان الأدب وديعة واسترد وصار الدرهم مرهما ولبرء ساعة استعد ومن هذا القبيل قول زين الدين بن الجزري من مقامة له قد كان شراب الأصول يداوي العليل والآن ليس في غير الدينار شفاء للعليل ألم تسمع أن الدراهم لجروح العدم مراهم وقد استردت الأيام ودائع المكارم والكرام ويحسن في هذا المقام قول ابن أبي الفتح الإمام السلطاني(2/4)
أهل العوم ذهبوا ... وليس إلا الذهب
ولعبد البر وهو معنى مليح
فكري وعقلي عندكم وبكم ... قد صرت في شغل وفي سكر
فاعجب لمن كتبت أنامله ... خطا بلا عقل ولا فكر
وله
قال لي شخص رأيت العجبا ... صدر الجهال فوق الأدبا
قلت شأن الدهر لا يهوى فتى ... فاضلا حاز الهدى والأدبا
كيف حال الصب مع حجاجهم ... حيث أرضى عجمهم والعربا
وهذا المعنى مطروق من أشهره قول عبد الرحيم العباسي
أرى الدهر يمنح جهاله ... فاعظم قدرا به الجاهل
وانظر حظى به ناقصا ... أيحسبني أنني فاضل
ومن شعره قوله في جناس التصحيف
لعقرب صدغه عجيب ... أديرت في حراسة مسك خاله
ولكن أهملته للدغ قلب ... تقلب في لظى فاعجب لحاله
ألطف منه قول ابن الحنائي الرومي
أرى من صدغك المعوج دالا ... ولكن نقطت من مسك خالك
فأصبح داله بالنقط ذالا ... فها أنا هالك من أجل ذلك
ومن شعره قوله في الحكم
إذا ما رأيت لهم شدة ... لبست لدهري ثوب النمر
وإن هم من اللطف في حلة ... لبست لباس اللطيف السم
فراع الزمان وأحواله ... وحال اللطيف وحال الاشر
وقوله في مثال النعل الشريف
لمثال نعل المصطفى شرف ... وفوائد زادت على العد
فكأنما هو دارنا قمر ... يهدى الأنام ولو على بعد
قبلتها وجعلت صورتها ... فوق الجبين علامة السعد
لو كان يحسن أن أشركها ... جلدي جعلت شراكها خدي
والبيت الأخير مضمن من بيتين لأبي العتاهية وقد أهدى إلى الفضل بن الربيع نعلا وكتبهما معها وهما
نعل بعثت بها لتلبسها ... قدم بها تسعى إلى المجد
لو كان يحسن إلى آخر البيت وله مضمنا في النصيحة وحسن الصحبة
صديقك إن أخفى عيونا لنفسه ... وأظهر عيبا فيك وهو يصرح
فخذ غيره واترك مناهج وده ... فكل إناء بالذي فيه ينضح
أصله ما في تاريخ ابن خلكان قال الشيخ نصر الله بن مجلى وكان من ثقات أهل السنة رأيت في المنام علي بن أبي طالب فقلت له يا أمير المؤمنين تفتحون مكة فتقولون من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ثم يتم على ولدك الحسين يوم ألطف ما تم فقال لي أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا فقلت لا فقال اسمعها منه ثم استيقظت فبادرت إلى دار حيص بيص فخرج إلي فذكرت له الرؤيا فشهق وأجمش بالبكاء وحلف بالله إن كانت خرجت من فمي أو خطى إلى أحد وإن كنت نظمتها إلا في ليلتي هذه ثم أنشدني
ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم ابطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما ... غدونا عن الأسرى نعف ونصفح
وحسبكم هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه ينضح
ولعبد البر وهو معنى بديع
قد قيل إن المال عقل الفتى ... به له التصريف في النقل
فقلت لا تعجب فكم في الورى ... من عاقل أضحى بلا عقل
وله من مقصورة عارض بها مقصورة ابن دريد المشهورة ومطلع مقصورته
أيا مهاة قد رعت بالمنحنى ... حشاشة الراعي بأكناف اللوى
هل وقفة ولو قليل بعدما ... جرت على الصب تباريح الجوى
فتى كئيب والهوى أحكامه ... عجيبة إن كان سخطا أو رضى
محاه حب الغيد محوا فانبرى ... ولا يرى إلا المنايا في المنى
وله في بعض المحتجبين
أتيت باب كبير عند نائبة ... وجدته مغلقا قلت الفتى فطن
فقال لي صاحبي الرأي قلت له ... رأي ابن عبدوس رأي كامل حسن
ولابن الخصال مثله
جئناك للحاجة الممطول صاحبها ... وأنت تنعم والإخوان في بوس
وقد وقفنا طويلا عند بابكم ... ثم انصرفنا على رأي ابن عبدوس
ولمحمد بن بدر الدين القوصوني مثله من فصل الرأي الصواب في التواري بالحجاب رأي ابن عبدوس وما سواه رأي منحوس بل عذاب بوس ورأى ابن عبدوس قوله(2/5)
لنا قاض له خلق ... أقل ذميمة النزق
إذا جئناه يحجبنا ... فنلعنه ونفترق
وله في الخضوع
يا من له مهجتي رق ولي شرف ... بأنني عبده جهري وإسراري
عتقت قلبي من زيغ ومن زلل ... وعتق ذي سفه فيما بقى ساري
مننت باللطف في الأولى ولا عجب ... أن تعتق الجسم في الأخرى من النار
منه قول البدر القرافي
منك البداءة بالإحسان حاصلة ... ملكني الرق فضلا منك لي ساري
ألهمتني بعده عتقا لتكرمني ... فاختم بخير به عتقي من النار
وللحافظ ابن حجر
يا رب أعضاء السجود عتقتها ... من فضلك الوافي وأنت الواقي
والعتق يسري في الفتى يا ذا الغنى ... فامنن على الفاني بعتق الباقي
والأصل فيه قول ذي الرمة قال الشريشي هو آخر شعر قاله
يا رب قد أسرفت نفسي وقد علمت ... علما يقينا لقد أحصيت آثاري
يا مخرج الروح من نفسي إذا احتضرت ... وفارج الكرب زحزحني عن النار
وله قصيدة ميمية عار بها ميمية شيخ الإسلام أبي السعود العمادي التي مطلعها
أبعد سليمى مطلب ومرام ... وغير هواها لوعة وغرام
ومطلع قصيدته هو هذا
أهيل النقا هل بالديار مقام ... وهل حي سلمى مسكن ومقام
وهي طويلة تنوف على ثمانين بيتا وقد تضمنت حكما كثيرة ولولا طولها لذكرتها كلها وقد ختم كتابه المنتزه بها ولم يذكر بعدها إلا تاريخ ابتداء إنشائه لهذا الكتاب وهو يوم الخميس سادس عشر صفر سنة خمس وخمسين وتاريخ الفراغ من تبييضه كله وهو يوم الأحد حادي عشرى المحرم ستين وألف وكانت وفاته في سنة إحدى وسبعين وألف بقسطنطينية والفيومي نسبة إلى الفيوم وهي بلدة مشهورة في إقليم مصر وأبو عبد القادر سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى عبد البر الأجهوري الشافعي الإمام العلامة الفقيه الحجة الفهامة ذو التصانيف العديدة والفوائد الجزيلة قرأ الفقه على الإمام النور الزيادي ومهر فيه حتى صار فقيه عصره والمشار إليه في مصره وأخذ بقية العلوم عن شيوخ كثيرين من شيوخ جامع الأزهر وألف كتبا كثيرة منها حاشية على شرح المنهاج للمحلى وحاشية على شرح المنهج وحاشية على شرح التحرير وحاشية الغاية لابن قاسم وغير ذلك وكانت وفاته بمصر في سنة والاجهوري بضم الهمزة نسبة لاجهور الكبرى بساحل البحر من عمل القليوبيه عبد الجامع بن أبي بكر بارجاء الحضرمي الزاهد ذكره الشلى في تاريخه وقال في وصفه كان في غاية التقشف والورع والزهد وميلاده بسيوون ونشأ بها ولازم خاله عبد الرحمن با رجاء وأخذ عنه ورباه أحسن تربية ورحل إلى تريم وأخذ عن ساداتها ولقى بها الأكابر منهم السيد زين العابدين وأحمد بن عبد الله والسيد سقاف العيدروسيين والسيد أبو بكر بن شهاب الدين وأخوه الهادي وشهاب الدين أحمد بن حسين بلفقيه وغيرهم وأخذ عن السيد حسين بن الشيخ أبي بكر ابن سالم بعينات وحصل له مزيد عناية وعن أخيه الحسن وارتحل إلى مكة وأقام بها ولازم السيد أحمد بن الهادي في دروسه والسيد محمد باعلوى وألبسه الخرقة ولقنه الذكر جماعة وحصل له منهم مدد عظيم ولزم الشيخ عبد العزيز الزمزمي في درسه الفقهي والشيخ محمد الطائفي ودروس الشمس البابلي وأخذ عن الوافدين إلى مكة من أهل مصر واليمن وكان ملازما للعبادة وزار القبر الشريف مرارا وأخذ بالمدينة عن الشيخ عبد الرحمن الخياري وصحب السيد زين باحسن ولازم صحبة السيد عيدروس ابن حسين البار مدة مديدة وكان السيد عيدروس قائما بما يحتاجه من كسوة ونفقة وغير ذلك ولازمه في زياراته كلها وأخذ عن الشيخ عبد الله الجبرتي ولم يتزوج أبدا وكان معتقدا جدا لا سيما عند أهل الطائف وأهل الهند لهم فيه اعتقاد عظيم وكانت وفاته في سادس ذي القعدة سنة اثنتين وثمانين وألف بمكة ودفن بمقبرة الشبيكة تحت الظلة وحضر جنازته عالم كثير تركت الدروس ذلك اليوم ولم يخلف شيئا من الدنيا سوى ثيابه التي كان يلبسها وفراشه رحمه الله تعالى(2/6)
عبد الجليل بن محمد المعروف بالشامي الدمشقي المولد والمنشأ الحنفي كان من أهل الفضل والمعرفة والأدب مطبوع الخلال لطيف الذات جميل الشكل حسن الصوت وفيه حلم وأناة وله مطارحة نفيسة وذكاء دأب في التحصيل من طليعة عمره حتى برع واشتهر فضله بين فضلاء وقته وكان اشتغاله في الفنون على العمادي المفتي وعلى الإمام يوسف بن أبي الفتح ورمضان بن عبد الحق العكارى وعبد اللطيف بن حسن الجالقي المعروف بالقزديري ومحمد الحزرمي البصير وفرغ له والده عن إمامة الجامع الأموي وخطابة الجامع السلطاني السليمي بصالحية دمشق وباشرهما وهو خالي العذار واستكثر عليه ذلك وفي ذلك يقول عمر بن الصغير مؤرخا
عبد الجليل ذو الكمال والعلى ... العالم الأوحد والبحر العباب
أولاه مولاه الكريم رتبة ... أفضت بأعداه إلى حسر الثياب
مع العلوم الباهرات أرخوا ... زاد الجليل عبده فصل الخطاب
وكان ذلك في سنة أربعين بعد الألف وتصدر للتدريس والإفادة ولزمه جماعة من طلبة وقته وانتفعوا به في بعض الفنون ولما جاء السلطان مراد لحلب بنية السفر إلى بغداد سافر عبد الجليل من دمشق إلى حلب لأجل الاجتماع بشيخه الفتحي وكان في خدمة السلطان وترجى منه بعض أمان له فخاب ظنه فيه ورجع من حلب فاخترمته المنية في منزله القطيفة قبل أن يدخل إلى دمشق وأدخل إليها ميتا وكان ذلك في سنة ثمان وأربعين وألف ودفن بمقبرة الشيخ أرسلان قدس الله سره العزيز وكان عمره خمسا وعشرين سنة فإن ولادته في سنة أربع وعشرين وألف وخلف ولدا رضيعا اسمه محمد ووجهت له الإمامة بالجامع الأموي ثم بعد مدة استفرغ وصيه عنها للشيخ زين الدين بن محمد النابلسي خطيب السليمانية بدمشق وأخذ الوصي منه مبلغا من الدراهم في مقابلة الفراغ لأجل القاصر قلت وهذا القاصر الآن في الاحياء وهو من الفضلاء البارعين كثر الله تعالى من أمثاله عبد الجليل بن محمد بن أحمد بن محمد بن تقي الدين أبي بكر المعروف بابن عبد العادي العمري الدمشقي الشافعي الصوفي الفاضل المتفوق الذيق كان من نبلاء وقته ولطائفه مستعذب الخليقة حلو المفاكهة وله في أنواع الفنون خبرة تامة وقريحة متوقدة أخذ العقائد والتصوف عن والده الأستاذ بركة الشام وقرأ فنون الأدب والمنطق على شيخنا علامة الزمان إبراهيم الفتال وشيخنا المحقق ابن عمه عبد القادر بن بهاء الدين العمري وأخذ العلوم الرياضية عن الشيخ رجب بن حسين المقدم ذكره والحديث عن الشيخ الكبير محمد بن سليمان المغربي ورحل إلى القاهرة وأخذ بها عن النور الشبراملسى وتصدر للإقراء بجامع الأموي مدة وانتفع به جماعة وألف تآليف فائقة منها شرح الجزرية سماه الدرة السنية وشرح رسالة الشيخ أرسلان في التصوف وله الربع الجامع في الفلك في أعمال الليل والنهار ورسالة سماها الدر اللامع في العمل بالربع الجامع ورسالة في الربع المقنطر ورسالة في الهندسة ورسالة في الرمل سماها الممتنع السهل في علم الرمل ومن كلماته في الحقيقة لا تزال في ربقة الأماني ما دمت في ساحة المباني البقاء مرآة التحلي والفناء منهل التخلي والجمع منصة التحلي الركوب للغير قطيعة في السير الزهد في الظاهر رغبة في الظاهر إتقان الحواس وظيفة الإفلاس ورؤية الإيناس مظنة الوسواس حركة الشوق عصا السوق وله شعر متحلى منه قوله وفيه اقتباس واكتفاء وتورية
يا لقومي من غزال ... خنس الأعطاف ألمى
إذ تلا سورة حسن ... وجهه الحسن عما
سألوا عن محكم الأوص ... اف فيه قال عما
وقوله في العذار
نسج الفضل عليه ... حلة تنمو وقارا
في المجيا حين حلت ... رقم الحسن عذارا
وقوله في الخال
خال الحبيب بدا في الخد مبتهجا ... والقلب من شغف للخال قد جنحا
قد عمه الحسن يا من خاله حسن ... والعم في خدمة للخال ما برحا
وقوله
يا رب إن فؤاد الصب في قلق ... والخال من ذا المفدى زاد قلقا
يبدو على الجيد في صفحات منظره ... كحب مسك علاه الحسن فاتفقا
وقوله
يا خاله لما بدا ... في عرش خد واستوى
أوحى لصدغ آية ... تدعو كراما للهوى(2/7)
وله غير ذلك وكانت ولادته في يوم السبت السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وألف وتوفى يوم السبت الثاني عشر من المحرم سنة سبع وثمانين وألف بالمدينة المنورة ودفن بالبقيع عبد الجواد بن شعيب بن أحمد بن عباد بن شعيب القنائي الأصل الخوانكي المولد والمنشأ ثم المصري الشافعي الأنصاري القاضي الوفائي من علماء مصر وأدبائها صوفي المشرب إذا حدث أعجب وأبدع وأغرب وكان كثير الحفظ للأشعار ونوادر الأخبار ذا نظر في العلم دقيق وزيادة حذق وتحقيق وتقوى ظاهره ومظاهر باهره أخذ عن النور الزيادي ومن في طبقته وعنه أخذ جماعة وله مؤلفات كثيرة منها رسالة بديعة في الاستعارات سماها القهوة الدارة في تقسيم الاستعارة ونظم الورقات والنسيم العاطر في تقسيم الخاطر والعظة الوفية في يقظة الصوفية وكشف الريب عن ماء الغيب شرح الأبيات الثلاثة وهي
توضأ بماء الغيب إن كنت ذا سر ... وإلا تيمم بالصعيد وبالصخر
وقدم إماما كنت أنت إمامه ... وصل صلاة العصر في أول الفجر
فهذي صلاة العارفين بربهم ... فإن كنت منهم فامزج البر بالبحر
ومن شعره قوله في ضابط همز الوصل وهمز القطع
زد همزة لماض كاغتذى ... والأمر والمصر منه وإذا
أمرت من نحو اخش واغز وارم ... وفي ابنم وابن وفي است واسم
واثنين واثنتين وايم وامرئ ... وامرأة وهمز أل كالنبأ
وهمز اكرام ونحوه اقطع ... وفعل ذي تكلم كأدعي
وصفة قد شبهت وفي ندا ... جلالة حرره معتمدا
عبد الجواد بن شعيب فادع له ... كي يلهم الجواب عند المسئله
وله ضابط ما يجوز فيه عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة
في سنة أخر ضمير الفظا ... ورتبة واحرص عليها حفظا
الأمر والشان ورب والبدل ... نعم وبئس مع تنازع العمل
وله ضابط ما يعلق به العامل
يعلق فعل القلب ما ثم ولا وان ... لنفي ولام الابتداء مع القسم
كذلك الاستفهام بالحرف دائما ... أو الاسم فاعرف أيها المفرد العلم
ومن غزلياته قوله
ما اصطفى قلبي إلا مصطفى ... هو حسبي من حبيب وكفى
أسعد الله تعالى طالعا ... حل فيه وأراه الشرفا
ما عليه لو سقاني ريقه ... أنه الشهد وفي الشهد شفا
إن وفي الدهر به في ليلة ... فهو عندي دائما أهل الوفا
ومن مدائحه قوله
حسبي الذي لم يخب من احتسبه ... من المعالي إليه منتسبه
أكرم من أكرم العفاة ومن ... أسدى إلى مرتجيه مطلبه
أكمل من تجتنى فوائده ... أفئدة الوافدين والطلبه
أسمح من يمنح الجزيل وما ... يطلب شكرا جزاء ما وهبه
يبصر من خلف ستر هيكله ... كناظر والزجاج ما حجبه
ينقش في لوح سره صورا ... عن غيره في الوجود محتجبه
فيصدر الأمر عن حقيقته ... متسق الحسن باديا حببه
قدم مكة حاجا وجاور بها سنة ثلاث وستين وألف وأخذ عنه بها كثير من فضلائها ورجع إلى بلده واستمر بها إلى أن توفى وكانت وفاته في سنة ثلاث وسبعين وألف(2/8)
عبد الجواد بن محمد بن أحمد المنوفي المكي الشافعي الأديب اللوذعي كان فاضلا أديبا حسن المذاكرة أخذ بمكة عن علمائها وولى بها مدرسة ورزق بعض معلوم من الروم فتعصب عليه جماعة ومنعوه من ذلك فرحل إلى مصر وأقام بها وكان أبوه حيا وكان له في مبدأ أمره ثروة وغناء فتضايق ولم يقر له بمصر قرار دون أن سافر إلى الروم فصحبه ولده هذا ثم رجعا فمات والده بالشام فتكدر حاله ثم لحق بالحرم المكي فتقدم عند الشريف وبلغ رتبة عالية وقد ذكره السيد علي بن معصوم في السلافة فقال في وصفه جواد علم لا يكبو وحسام فضل لا ينبو سبق في ميدان الفضل أقرانه واجتلى من سعد جده ومجده قرانه وولى القضاء مرة بعد أخرى فكسى بمنصبه شرفا وفخرا ثم تقلد منصب الفتوى فبرز فيها إلى الغاية القصوى مع تحليه بالإمامة والخطابة والهمة التي ملأ بها من الثناء وطابه وكانت له عند شريف مكة المنزلة العليا والمكانة التي لا تنافسه فيها الدنيا إلى أن دعاه ربه فقضى نحبه قال وقد وقفت له على رسالة في شرح البيتين المشهورين وهما
من قصر الليل إذا زرتني ... أشكو وتشكين من الطول
عدو شانيك وشانيهما ... أصبح مشغولا بمشغول
أبدع فيها وأغرب ثم أورد له من شعره قوله
أتزعم أنك الخدن المفدى ... وأنت مصادق أعداي حقا
إلي إلي فاجعلني صديقا ... وصادق من أصادقه محقا
وجانب من أعاديه إذا ما ... أردت تكون لي خدنا وتبقى
وهو ينظر إلى قول الآخر
إذا صافي صديقك من تعادى ... فقد عاداك وانفصل الكلام
وبينه وبين أهل عصره من المكيين وغيرهم مطارحات ومراسلات كثيرة وله في الأشراف الحسنيين ملوك مكة مدائح خطيرة أعرضت عنها لطولها انتهى وذكر عبد البر الفيومي في المنتزه أن له تآليف منها شرح على الاجرومية وتحريراته ومنشآته كثيرة وله شعر فائق منه قوله من قصيدة مدح بها الأمير محمد بن فروخ أمير الحاج الشامي في سنة خمس وثلاثين وألف يتشكى من جور الزمان ويلتجي إليه مما نابه ومطلعها
لأي كمال منك مالك أذكر ... وأي جميل من جميلك أشكر
جمعت كمالا في سواك مفرقا ... وأنت به فرد وجمعك أكثر
ومنها وهو محل الشاهد
فيا أيها الشهم الهزبر الذي إذا ... دعاه امرؤ أغناه إذ هو مفقر
إلي فما لي غير سوحك منجد ... أمس بوجهي بابه وأعفر
وقد ضاقت الدنيا علي بأسرها ... وضقت بها ذرعا وقفري مقفر
وأنت لنا غيث إذا شح ما طمر ... وماسح يروى الممطرين ويمطر
وأنت الذي قد عم وكف أكفه ... بوزن نضار لا بمزن يدرر
وسائله نيلا وسائله ترى ... مقاصد عمن رامها ليس تقصر
إلى وفرج ما انطوى في جوانحي ... من الهم حتى بعد لا أتأمر
فكم لك في يوم الوغى من مفازج ... ومن فرج فرجتها حين تنصر
وكم لك في الحجاج آي جميلة ... يقصر عنها في منى الفضل قيصر
وكم لك فينا أهل مكة من يد ... ومن حسنات فضلها ليس يحصر
وماذا عسى أحصى صفاتك والورى ... بأجمعهم عن وصف فضلك تقصر
وكان بينه وبين عبد البر المذكور مودة وصداقة صحبه زمن إقامته بمصر وقد أثنى عليه كثيرا قال وقد سألني عن معنى بيتين للنواجى وهما
جثثت القوافي في طريق رضائه ... بتأسيس نظم ما نحاه خليل
فأطنب ردف في الخروج بوصله ... وأوجز خصر في الوفاء دخيل
وضمنها قصيدة له طويلة يسأل فيها عن معناهما مطلعها
شروح متون المدح فيك تطول ... فكيف مقالي والمقام طويل
وكيف اقتفائي في الثناء عروضكم ... وقفر القوا في ما إليه وصول
وكيف اقتطافي زهر روض مديحكم ... وجسم انتحالي في القريض نحيل
قال فأجبته بقصيدة تتضمن معناهما مطلعها
ترفق دليلي فالطريق طويل ... وحادي ركاب الظاعنين مطيل
عسى يقتفي من قد تخلف أثرهم ... ويهدى بهم من للرشاد يميل(2/9)
فطبع الموالي يكرمون نزيلهم ... ويولونه الإحسان وهو نزيل
وإني وإن كان الطريق مجندلا ... فلي بإتباع السابقين وصول
وذلك ضمن رسالة مشهورة سميتها الذكاء المسكي في جواب الفاضل المكي قال وأرسلت له مكتوبا وأنا بالروم إلى مكة مع بعض الحجاج عنونته بيتين وهما
لم أنس عهدي بكم والطير ساجعة ... والروض نداه وربع الحي مأنوس
وإن بعدتم فإن القلب عندكم ... والجسم بالروم دون العود مأيوس
وكانت وفاته خامس شوال سنة ثمان وستين وألف بالطائف ودفن بقرب تربة ابن عباس عبد الجواد بن نور الدين البرلسي المصري خطيب جامع الأزهر الإمام الجليل الذي فضله أعظم من أن يذكر وأشهر من أن يشهر أخذ عن والده وبه تخرج وبرع وتفنن في علوم كثيرة وانتفع به جمع وكان له وجاهة ونباهة ونظم الشعر الفائق واشتغل برهة بعلوم الرقائق وكان خطيبا مصقعا ومن لطيف شعره قوله من رسالة
أؤدى إلى أعتاب عزتك العليا ... سلاما سعى بالود نحوكم سعيا
وأنهى إلى ذاك الوجيه مدائحا ... وأدعية في أزهر العلم والمحيا
وأبدى له وجدي وفرط تشوقي ... رعى الله عهدا قد تقضى به رعيا
وأنشدكم بالله عطفا على فتى ... لبعدكم لم يلف صبرا ولا عيا
فأنت وجيه الدين غاية مقصدي ... لبعدك باشرت المتاعب والاعيا
بقيت لنفع الناس في خير موطن ... تعطر أرجاء الأباطح بالفتيا
ومن مدائحه قوله مهنئا بعض قضاة مصر بابلال من مرض
يا سيدا بفضله ... يرقى لهامات القمم
لا زلت في عافية ... والضد في كل وغم
في صحة دائمة ... يا ذا الكمال والهمم
برؤك يا كنز الهدى ... به السر ورقد ألم
تاريخه مع عجل ... برئت من كل سقم
وله غير ذلك وكانت وفاته خامس عشرى شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وألف بمصر والبرلسى بضم الموحدة والراء واللام مع تشديد نسبة إلى البرلس ثغر عظيم من سواحل مصر عبد الجواد المصري الشافعي الصالح المجذوب نزيل دمشق ذكره النجم الغزي في ذيله وقال في ترجمته كان يعلم الأطفال بالبقاع وغيره من أعمال دمشق ثم قطن دمشق وقرأ بها وحفظ بعض المسائل ثم غلب عليه الوسواس حتى وصل إلى أمور عجيبة وكان يغلب عليه الجذب وكان يكره التسمية بعبد الجواد ويقول ما أسمي نفسي إلا محمد المؤيد المنصور ويعتذر عن ذلك بأن العامة تشدد الواو فتكون تسميته سببا لتغيير اسم الله تعالى وكف بصره في آخر الأمر وكان السبب في ذلك كشف رأسه عند الوضوء وكثرة صب الماء عليه ثم مات بعلة الاستسقاء في أواخر المحرم سنة سبع عشرة بعد الألف(2/10)
عبد الحفيظ بن عبد الله المهلا الهدوى الشرفي قال حفيده الحسين حرسه الله من الغين في وصفه كان إماما في علوم الاجتهاد له فضائل أذعنت لها أرباب التحقيق في كل البلاد وكان يملى من التحقيق في جميع العلوم ما تنشرح له صدور الأمجاد ويحفظ في جميع العلوم مؤلفات عديدة مع شروحها بحيث كان لا يمر في طريق أو غيرها إلا وهو على من صحبه من فوائدها وينبه على مباحثها سهل الإملاء عظيم الإطلاع لطيف الشمائل وكان لا يمر في علم التفسير والفقه والحديث والنحو والصرف والمعاني والبيان والعروض وسائر العلوم راوالا وأملى أحواله وأخباره ونظمه ونثره وسيرته ووفاته وما يتعلق بذلك من جرح وتعديل وضبط وحفظ ولا ببيت شعر إلا وأملى ما بعده وما قبله وقائله وأخباره وسبب نظمه وكان من الملكة في الأصلين بأعلى المراتب ومن سائر العلوم بالمحل الذي لا يخفى على أحد أخذ عن والده وسمع عليه كتبا كثيرة من كتب الفروع منها الأزهار للإمام المهدي وشرحه لابن مفتاح والتذكرة للفقيه حسن والكواكب عليها والأحكام للهادي إلى الحق يحيى بن الحسين وشرح القاضي زيد إلا الربع الأخير والبيان لابن مظفر والتبيان له والبستان والبحر الزخار للإمام للهدى وشرحه للإمام عز الدين وابن مرسم والأثمار للإمام شرف الدين وشرح ابن بهران عليه وتخريج أحاديث البحر له وغير ذلك من كتب الفقه وسمع كثيرا من كتب أصول الفقه المعيار وشرحه المنهاج للإمام المهدى والفصول وحواشيه ومختصر المنتهى لابن الحاجب وشرحه للعضد مع حاشية التفتازاني عليه والرفو للنيسابوري والكافل لابن بهران ومن كتب النحو الكافية لابن الحاجب وشرحها للرضى وابن تياح والرصاص وحاشية السيد المفتي عليها والخبيصي والطاهرية وشروحها والفصل وشروحها المتداولة ومن التصريف الشافية وشرحها للرضى وركن الدين ومن المعاني التلخيص وشروحه المطول والمختصر ومفتاح السكاكي وشرحه للسيد ومن كتب اللغة كفاية المتحفظ وضياء الحلوم والقاموس المحيط وديوان الأدب ونظام الغريب والمقامات للحريري وشرحها للمسعودي وغيرها ومن كتب الفرائض المفتاح للغضنفري والشاطري عليها وشرح الخالدي إلا الضرب آخره والوسيط للقاضي أحمد بن نسر وشرح الأعرج على المفتاح ومن كتب التفسير الكشاف والثمرات للفقيه يوسف وتجريد الكشاف والإتقان للسيوطي وشرح الخمسمائة للنجرى وتهذيب الحاكم والبغوي والبيضاوي ومن كتب المنطق ايساغوجي وشرحه للكاتي والشمسية وشرحها للقطب والتهذيب للسعد وشرحه للشيرازي واليزدي ومن كتب العروض المختصر الشافي لابن بهران وغيره ومن كتب الطريقة تصفية الإمام يحيى والإرشاد للعبسي وكنز الرشاد للإمام عز الدين وكتاب البركة للحبيشي وغيرها وفي أصول الدين المعيار للنجري والمنهاج للقرشي وشرحه للإمام عز الدين وشرح الأصول الخمس للسيد مانكديم وشرح قواعد النسفي للتفنازاني وسمع عليه سيرة ابن هشام وبهجة العامري وشرحها لمحمد بن أبي الأشخر وتاريخ ابن خلكان وتاريخ الربيع والبائية وشرحها للرصيف ومن كتب الحديث أصول الأحكام للإمام أحمد بن سليمان وشفاء الأمير الحسين وتمته للسيد صلاح بن الحلال والبخاري ومسلم وتجريد الأصول لهبة الله البارزي وغيرها وأجاز له سائر مسموعاته على كثرتها وأما ما سمعه على غيره فكثير فسمع الأساس على مؤلفه الإمام القاسم بن محمد بن علي بداره بحصن شهاره وأجازه به وبمروياته وسمع طرفا من علوم أهل البيت على الإمام محمد المؤيد بن الإمام القاسم وسمع غاية السول على مؤلفه السيد الحسين بن القاسم مع إملاء ما تيسر من شرحه مع المعاونة بالنظر في المباحث وسمع المطول والمختصر للسعد على السيد أحمد بن محمد بن صلاح وعلى القاضي العلامة الحسن بن سعيد الفيرري وسمع ايساغوجى وشرحه على السيد الناصر بن محمد المعروف بابن بنت الناصر بصنعاء وأخذ العروض عن الفقيه الأديب محمد بن عبد الوهاب العروضي وسمع القرآن لنافع ورواييه على الفقيه المقرى المهدى البصير بصنعاء وعلى الفقيه صلاح الواسع كذلك في مسجد داود بصنعاء وعلى الفقيه محمد بن صالح الاصابي المكي وسمع بزبيد صحيح البخاري ومسلم والجامع الصغير وذيله للسيوطي وتمييز الطيب من الخبيث في علم الحديث للديبع والتيسير الجامع للأمهات الست البخاري ومسلم والموطأ وسنن أبي داود وجامع الترمذي وسنن النسائي على الإمام(2/11)
العلامة المحدث محمد بن الصديق الخاص السراج الحنفي سنة تسع وأربعين وبعضه في سنة خمسين وأجازه بمروياته بإجازة كتبها له سنة خمسين وألف وسمع أيضا صحيح البخاري على الفقيه العلامة علي بن أحمد الحشبيري وسمع على الفقيه العلامة أحمد بن عبد الرحمن مطير جمع الجوامع للسبكي وصحيح البخاري وتفسير البغوي في بيت الفقه الزيدية وفي مدينة زبيد وسمع صحيح البخاري أيضا على الفقه العلامة عبد الوهاب بن الصديق الخاص الزبيدي وسمع الجامع الصغير وصحيح مسلم على الفقيه العلامة محمد بن عمر حشبير الحافظ المحدث في بيت الفقيه الزيدية وكان يحضر في قراءة هذه الكتب ما يتعلق بها من المصنفات في علوم الحديث ورجاله وتفسير غريبه وأجازه مشايخه المذكورون بسائر مسموعاتهم ومجازاتهم وذكر له عدة أسانيد أعرضت عنها لطولها وبما ذكر تعرف جلالة قدره وطول باعه في جميع العلوم وله أجوبة على مسائل كثيرة وردت عليه من علماء ذلك الزمان ورسائل بليغة وخطب رائقة وأشعار فائقة ولما أنشد بعض من حضر مجلس سماعه في الحديث بزبيد المحروسة على شيخه محمد الخاص الحنفي بيتي ابن حزم الظاهري وهمامة المحدث محمد بن الصديق الخاص السراج الحنفي سنة تسع وأربعين وبعضه في سنة خمسين وأجازه بمروياته بإجازة كتبها له سنة خمسين وألف وسمع أيضا صحيح البخاري على الفقيه العلامة علي بن أحمد الحشبيري وسمع على الفقيه العلامة أحمد بن عبد الرحمن مطير جمع الجوامع للسبكي وصحيح البخاري وتفسير البغوي في بيت الفقه الزيدية وفي مدينة زبيد وسمع صحيح البخاري أيضا على الفقه العلامة عبد الوهاب بن الصديق الخاص الزبيدي وسمع الجامع الصغير وصحيح مسلم على الفقيه العلامة محمد بن عمر حشبير الحافظ المحدث في بيت الفقيه الزيدية وكان يحضر في قراءة هذه الكتب ما يتعلق بها من المصنفات في علوم الحديث ورجاله وتفسير غريبه وأجازه مشايخه المذكورون بسائر مسموعاتهم ومجازاتهم وذكر له عدة أسانيد أعرضت عنها لطولها وبما ذكر تعرف جلالة قدره وطول باعه في جميع العلوم وله أجوبة على مسائل كثيرة وردت عليه من علماء ذلك الزمان ورسائل بليغة وخطب رائقة وأشعار فائقة ولما أنشد بعض من حضر مجلس سماعه في الحديث بزبيد المحروسة على شيخه محمد الخاص الحنفي بيتي ابن حزم الظاهري وهما
إن كنت كاذبة التي حدثتني ... فعليك إثم ثم أبي حنيفة أو زفر
الواثبين على القياس تمردا ... والراغبين عن التمسك بالأثر
أخذ الشيخ في ذم ابن حزم لأجلهما فقال صاحب الترجمة بديهة
ما كان يحسن يا ابن الحزم ذم من ... حاز العلوم وفاق فضلا واشتهر
فأبو حنيفة فضله متواتر ... ونظيره في الفضل صاحبه زفر
إن لم تكن قد تبت من هذا ففي ... ظني بأنك لا تباعد عن سقر
ليس القياس مع وجود أدلة ... للحكم من نص الكتاب أو الخبر
لكن مع عدم تقاس أدلة ... وبذاك قد وصى معاذ إذ أمر
فأعجب الحاضرون بذلك وكتبوه عنه في الحال وحضر مجلس التدريس في بعض الأيام وهو في قميص أزرق اللون ووجهه يتلألأ كالقمر فأنشد ولده الناصر في الحال
أبدر بدا في لون زرقاء أخضر ... تضوع من طيبين مسك وعنبر
فقد انتعل الجوزاء مجدا ورفعة ... كما أنه للجود والحمد مشترى
بنى عرشه فوق السماك علومه ... سرى هديها في كل واع ومبصر
ويملى لنا من كل فن دقائقا ... يضن بها عن أن تباع بجوهر
فلله من قاموس علم وبحره ... محيط بأنباء صحاح لجوهري
وعلم حديث والأصولين انها ... لمن بعض ما يملى ويقرى وأيسر
حقيق بما قد قاله خير ناظر ... خبير بأرباب المكارم أشهر
فما خلقت إلا لطرس أكفه ... وأقدامه إلا لسرج ومنبر(2/12)
وله من الفضائل والفواضل والتحقيق في العلوم ولطائف النظم والنثر ما لا يأتى عليه الحصر وكانت وفاته ليلة الخميس سلخ شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين وألف وحضر للصلاة عليه عالم كثير من جميع الجهات وقبره بالاشغاف من عمل الشجعة مشهور ورثاه علماء العصر بمراث بليغة كثيرة منها قول السيد جمال الدين محمد بن صلاح بن الهادي الوشلى قصيدة منها
الله أكبر كل خطب هين ... إلا على عبد الحفيظ فيكبر
حبر الأنام وحجة الإسلام إن ... أمر عرى والعاقب المتبصر
أعطى الجهاد حقوقه وسمت به ... للاجتهاد عوارف لا تنكر
ومنهم العلامة علي بن محمد بن سلامة عالم صنعاء رثاه بقصيدة مطلعها
مادت جبال بالتهائم والشرف ... وذوت غصون للفضائل والشرف
وتضعضعت أركان مجد شامخ ... للفضل في العلم الشريف لمن عرف
ورثاه السيد يحيى بن أحمد الشرفي نظما ونثرا من ذلك قوله أول قصيدة
قضاء لا يرد ولا يعاب ... وحكم من مدبره صواب
ورثاه القاضي حفظ الله بن محمد سهيل بقوله
هل قد دجى البحر المحيط نضوبه ... أم ذي الجبال الراسيات تسير
أو آن منها كسفها أم دكت الأ ... رضون أم هذي السما تتفطر
أم مات ذو الفضل الشهير ومن له ... بين الخلائق مفخر لا ينكر
عبد الحفيظ العالم العلامة الن ... ذب الذكي العارف المتبحر
ذو الاجتهاد وذو الجهاد فمنهما ... يحمى العثار به ويحمى العثير
ورثاه حفيده القاضي حسين بن الناصر بمراث طويلة منها قصيدة أولها
الأرض ترجف والسحائب تمطر ... لوفاة بحر بالفضائل يزخر
منها
عضد لأرباب الأصول وغاية ... منها الشموس بدت لنا والأقمر
وبفكره الصافي تحصل للورى ... علم به تصديقه يتصور
وغدت قضاياها موجهة بما ... يدرى بغامض أمرها من يبصر
ومنها
فالمجد مرفوع بذاك ومرسل ... وكأنه يا حبذا ما يهمر
لم ينقطع عن فضله ذو فطنة ... فيقال متروك هناك ومنكر
لم يبق للموضوع في أيامه ... أصل يشاد ولا طريق يظهر
عبد الحق بن محمد بن محمد الحمصي الأصل الدمشقي الشافعي الملقب زين الدين الحجازي الفاضل الأديب المشهور ذكره كثير من المنشئين وأصحاب التواريخ والمجاميع وأثنوا عليه وكان معمور الأطراف كامل الأدوات أديبا متمكنا من فنون كثيرة جيد الفكرة لطيف المعاشرة وكان اشتغاله على والده وغلبت عليه العلوم العقلية مع إحاطة تامة بالعربية والأصول وصحب الشيخ محمد بن عمر بن فواز الآتي ذكره وكان يستفيد منه في صورة المذاكرة وأكثر انتفاعه به وله معه مطارحات مقبولة منها ما كتبه الحجازي إليه وقد انقطع عنه مجافيا
يا غائبا والذنب ذنبك ... متعتبا الله حسبك
لا تبعدن فإنما ... أملى من الأيام قربك
فلا صبرن وأرضين ... بما قضاه الله ربك
وكان خرج في شبيبته إلى حلب مغاضبا لوالده فبعث إليه من رده ورجع به واستمرت الشحناء بينهما مدة حياتهما وكان يجفو أباه ويهجره وهو يقابله بالمحبة ولم يزل على مجافاته حتى سافر إلى الروم في سنة أربع بعد الألف وأخذ عن أبيه المدرسة التقوية ودار الحديث الأشرفية وبقيتا عليه إلى أن مات ودرس ببقعة في الجامع الأموي وكان له حجرة بالجامع القلعي في سوق جقمق وكانت الطلبة يترددن إليه بها ويأخذون عنه وكان كثير الفائدة طويل الباع في النظم والنثر وله شعر كله نفيس حسن التخيل متين التركيب فمن ذلك قوله من قصيدة مطلعها
بين جنتي للتفرق نار ... وبخدي للبكا أنهار
وبقلبي لواعج من شجون ... هيجتها الأطلال والآثار
أربع كن للأوانس مرعى ... فهي الآن للكوانس دار
نهبتها أيدي الروامس نهبا ... مثلما تنهب العقول العقار
جللتها ثوب العفاء السواري ... ومحتها الرياح والأمطار(2/13)
طلل حله الأوابد لما ... نعبت فيه للنوى أطيار
كنت والدور بالدمى آهلات ... جزعا كيف أنت وهي قفار
أدلجوا للسرى وساروا سراعا ... وخلت أربع لهم وديار
أوحشوا ربعهم فليت العوادي ... ساعدتهم وليتهم ما ساروا
ونراموا بكل خرق مخوف ... صيخد لا يرى بها سغار
هو جل تترك العباهل صرعى ... وبها للردى يخاض غمار
وكأن الأعلام إذ تراآى ... شامخات الذرى غبار مثار
والفيافي كأنهن طروس ... وكأن الركائب الأسطار
ورياح الجداء فيهن تزجى ... سفن عبس لها السراب بحار
وكأن الأحداج أكمام طلع ... ولها البيض والدمى أزهار
قاصرات عين أو انس غيد ... عن هواهن ليس لي اقصار
بفروع كأنهن الدياجي ... ووجوه كأنها الأقمار
ولكم راعني لئيم بلؤم ... هو منه سفاهة واغترار
كيف أسلو عن منهل طاب ريا ... لي منه الإيراد والإصدار
وخيال ألم والركب ساه ... وكؤوس الكرى عليهم تدار
قلت لما طوى القفار ووافى ... وأضاءت لزورة الأقطار
بدر أفق أنار أم لمع برق ... يتلالى أم كوكب أم نار
أم سليمى إذ جنني الليل زارت ... فغدا وهو من سناها نهار
ساورتني الأحزان واقتسمتني ... في هواها الهموم والأكدار
مثل ما اجتازت الحوادث جاءت ... وسطت في لاكما أختار
وكذاك الأيام تسطو بذي الف ... ضل وللدهر غفوة واعتذار
هل مجير من حادثات الليالي ... ليس شخص على الخطوب يجار
مصلت صارمي عناد وبغى ... زمن ليس منه يدرك ثار
ألبستني له سوابغ بأس ... عزمات لم يثنها اضجار
وهي طويلة وما أوردناه منها كاف في الدلالة على حسن انسجامها ومتانة لفظها وله من قصيدة أخرى مطلعها
أعرت خدود الغيد من مهجتي جمرا ... وعلقن في الأجياد من مدمعي درا
ومعرك حرب في فؤادي أثاره ... من الشوق جيش لا يحيط به خبرا
على هدف الأحشاء وقع سهامه ... يفوقها للقلب فتاكة عذار
وقالوا تصبر قلت شيء جهلته ... وكيف يطيق الصبر من يجهل الصبرا
خليلي عوجا بارك الله فيكما ... وحثا المطايا واقصد الرند والسدرا
فلي فيه خود بالصدود تسربلت ... وقد تخذت سمر الرماح لها خدرا
ربيبية ألوت بعزم تجلدي ... وأذكت على الأحشاء من نأيها جمرا
أبى القلب إلا أن يكون بها مغرى ... ومذ أيقنت سوق العدا أخذت حذرا
وكم حذرتني في هواها عواذلي ... ولا أحسب التحذير إلا بها اغرا
إلا أيها القلب الذي لج في الهوى ... إلام الوفا والغيد أزمعت الغدرا
وهذي دواعي الشيب تدعو إلى الهدى ... وقد زجرتني عن دواعي الصبا زجرا
وقد شاب كبدي قبل رأسي ولمتى ... فحتام قلبي لا يفيق بهم سكرا
وما كان شيبي من تطاول أزمني ... ولكنني لاقيت من دهري النكرا
أخذ هذا من قول بعضهم
وما شاب رأسي من سنين تتابعت ... علي ولكن شبيبتي الوقائع
ومن جيد شعره قوله
وحق الهوى إن الهوى فيك لم يزل ... لنا قسما لا حنث فيه عظيما
لقد هجت بالألطاف لي منك لوعة ... وجددت وجدا في الفؤاد قديما
ومزقت صبرا كنت قد ما تخذته ... ظهيرا به أقلى الهوى ورحيما
فأصبحت فيك الآن لا أملك الجوى ... ولا أرتضى إلا هواك نديما(2/14)
وكان بينه وبين محمد الصالحي الملقب أمين الدين الآتي ذكره مودة أكيدة واجتماع كثير ثم انقطع أمين الدين عنه فسير إليه يعتبه لانقطاعه عنه قوله
طالت الأشواق وازداد العنا ... وتمادى البين فيما بيننا
فامنحوا القرب محبا مخلصا ... فلعل القرب يشفي ما بنا
ليس في هذا عليكم كلفة ... إنما نطلب شيئا هينا
فكتب إليه من نظمه
أنا في القرب وفي البعد أنا ... ليس في الحالين لي عنكم غنا
أفضل الأشياء عندي حبكم ... وهو في وسط فؤادي مكنا
لكن الأيام أشكوها لكم ... جورها قد أورث الجسم الضنا
فراجعه الحجازي بقوله
قد عناني من جفاكم ما عنا ... إذ جعلتم هجركم لي ديدنا
لا أطيق الصبر عنكم ساعة ... أنتم دون الورى عندي المنى
لا ولا يشفى غليلي قولكم ... أنا في القرب وفي البعد أنا
وجمعه مجلس صحبة أخدان له في بلهنية شبابه فقال هذه الأبيات يمدحهم بها
فديت معاشرا كالزهر أربت ... وجوههم على زهر النجوم
أحاسن من أكارم صيرتهم ... يد الإحسان كالدر النظيم
جلونا من محياهم حميا ... تجلى ظلمة الليل البهيم
جواهر زينت سلك المعالي ... وأعلت راية الحب الكريم
رياض بنفسج وهنا نفوس ... وكشف كرائب وجلا هموم
وألطاف إذا شملت شجيا ... جلت عن قلبه كرب الهموم
بهم نفس العلى والمجد طابت ... وقرت بالهنا عين العلوم
وأصبح العقد جيد الفضل يزهو ... بدر نظمته يد الفهوم
يعير الحسن اجياد الغواني ... ويهدى السحر للطرف السقيم
ألذ من الصبا لاخي التصابي ... وألطف من مطارحة النسيم
وكتب لبعض أحبابه في صدر رسالة
أحبتنا ماذا نؤدى رسالة ... وهل تحصر الأوراق بعض تباريحي
ولكنني أهدي إليكم تحية ... مع البارق النجدي لا نسمة الريح
فتلك سراها بالهوينا تعللا ... ولطفا لأني مرسل معها روحي
وذلك يهدى لي السلام بلمحة ... ففرج عن قلب من البين مجروح
وكان الحسن البوريني سافر إلى ترابلس الشام في أواخر سنة ثمان بعد الألف فلما رجع إلى دمشق حضر علماؤها للسلام عليه وتأخر صاحب الترجمة لمرض كان عرض له فكتب إليه هذين البيتين
أعدتم إلينا بهجة أدبية ... بها افتر ثغر الفضل والعود أحمد
وأحييتم وادي دمشق بعودة ... أضاء بها فيه مصلى ومسجد
ومن غرائب حكمياته قوله
نقل الطباع عن الإنسان ممتنع ... صعب إذا رامه من ليس من أربه
يريد شيئا وتأباه طبائعه ... والطبع أملك للإنسان من أدبه
وقوله
ألا رب من تحنو عليه ولو ترى ... طويته ساءتك تلك الضمائر
فلا تأمنن خلا ولا تغترر به ... إذا لم تطب منه لديك المخابر
وقوله
يزين البذل كل أخي كمال ... ويزرى البخل بالرجل البجال
ولو عقل البخيل البخل يوما ... لما علقت أنامله بمال
وذكره الشهاب الخفاجي في كتابه وقال في ترجمته رأيت له جوابا عن سؤال رفع إليه في الفرق بين هذين البيتين وأيهما أبدع وأبلغ وهما قول ابن نباتة السعدي في قصيدته التي أولها
رضينا وما ترضى السيوف القواضب ... نجاذبها عن هامكم وتجاذب
خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم ... عيونا لها وقع السيوف حواجب
و قول أبي إسحاق الغزي
خلقنا لهم في كل عين وحاجب ... بسمر القنا والبيض عينا وحاجبا(2/15)
فادعى أن بيت الغزى أبدع لما فيه من الصنائع كالطباق بين السمر والبيض ورد العجز على الصدر واللف والنشر ومراعاة النظير وادعى أنه يجوز أن يراد بالعين فيه الرئيس وبالحاجب من تبعه وحجابه والمعنى رماحنا وسيوفنا نالت الحاجب والمحجوب والرئيس والمرؤوس وهو مشتمل على التورية والاستعارة أيضا وهذا مما خلا عنه البيت الأول مع ما فيه من الافتخار بقتال أعدائهم الثابتين لا المنهزمين فإنه لا يفتخر بمثله ولذا يعاب البيت الأول وإن ذكر صاحب إيضاح المعاني أنه أبلغ لاشتماله على زيادة معنى وهو الإشارة إلى انهزامه وأطال وأسهب وبعد وقرب والحق ما ذهب إليه صاحب الإيضاح خطيب المعاني فإن بيت النباتي أحلى لما فيه من التشبيه البديع لجعل أثر الطعنة المستدير عينا وشطبة السيف فوقها حاجبا والأغراب بجعل الظهر محل العين والحاجب وأما انهزامهم فلا يدل على عدم شجاعتهم حتى يخل بالفخر فإن الشجاع ينهزم ممن هو أشجع منه ولذا قيل الفرار مما لا يطاق من سنن الأنبياء كما فر موسى حين هم به القبط وأما ما ذكره من معنى العين والحاجب فسخيف وتخيل ضعيف على أن جعل العين والحاجب بمعنى الرئيس والمرؤوس فمن العجائب وما ذكره من النقد عليه نقله ابن الشحنة في أماليه عن الشريف المرتضى وقال إنه عيب عليه قوله في ظهورهم وقال لو قال في صدورهم كان أمدح لأن الطعن والضرب في الصدر أدل على الإقدام والشجاعة للطاعن والضارب والمطعون والمضروب لأن الرجل إذا وصف قرينه بالإقدام مع ظهور عليه كان أمدح من وصفه بالانهزام فلذا قال أبو تمام
حرام على أرماحنا طعن مدبر ... وتندق في أعلا الصدور صدور
وقد عرفت جوابه مما تقدم فتذكر انتهى وأخبار عبد الحق وآثاره كثيرة وفي الذي أوردناه له كفاية وكانت ولادته في سنة اثنتين وستين وتسعمائة وأقعد بالفالج نحو سنتين ثم توفى في نهار الأحد خامس عشر شهر رمضان وقت الغداة من سنة عشرين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير عند قبر أبيه وضع على قبره تابوت من دون قبر أبيه وبينه وبين والده في الوفاة أحد وعشرون يوما وقال ولده القاضي إسماعيل المقدم ذكره يرثيه بهذه الأبيات وفيها تاريخ وفاته
طرف تقرح من دم متدفق ... وحشا تجرح من جوى وتحرق
وأسى تجمع لم يكن بمجمع ... لشتات شمل لم يكن بمفرق
خطب لقد صدع الجفا منه ومن ... بين أتى من غير وعد مطبق
ذهب الذي كانت سحائب فضله ... تهمى بروض بالعلوم معبق
مولى مكارمه إذا ما جمعت ... فاقت على سح السحاب المغدق
وإذا غدا ليل المباحث مظلما ... كالشمس صيره بفهم مخرق
وإذا تعقد مشكل لك حله ... بيدى إمام في العلوم محقق
قد حاز فضلا في ميادين العلى ... والعلم حتى أنه لم يسبق
جاد الزمان بع فعاد بجوده ... بخلا وكان كبارق متألق
هيهات أت يأتي الزمان بعالم ... يحكيه في حسن الصفات مدقق
ما حيلتي والدهر لم يك مسعفي ... وقضى علي بلوعة وتفرق
يا ليت يوما كان فيه ذهابه ... لا كان بل ليت النوى لم يخلق
بل ليت بدر الأفق لم يك طالعا ... وكذا الغزالة ليتها لم تشرق
كنا نصول به على كيد العدا ... ويكون ذخرا للشدائد لو بقى
لكنه حم القضا وتقطعت ... أيدي الرجا منا بين موبق
فيحق للعينين تبكي بعده ... بدم غزير لا بدمع مطلق
ويحق للقلب السليم بأنه ... يفنى عليه من الفراق المقلق
ويحق للدهر الخؤون بكاؤه ... ويحق للشبان شيب المفرق
قد كان غصنا بالتهاني مورقا ... فذوي وفات كأنه لم يورق
أعماله كالمسك قام عبيرها ... ختمت برضوان الإله المعبق
لما توفى بالرضى أرخته ... قد مات قطب عالم في جلق(2/16)
عبد الحق بن محمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن عمر بن إسمعيل بن أحمد الفرد في زمانه الشيخ محيي الدين بن سيف بن علم الدين سليمان بن عبد الرزاق بن قيس شاكر بن سويد بن عفيف الدين بن سعيد بن علي الهائم بن منصور الموله بن تاج الدين ثوبان بن الأمير الكبير إسحاق بن السلطان إبراهيم الأدهم الأدهمي الحنبلي الصوفي القادري المعروف بالمرزباني كان من مشاهير صوفية الشام له الوقار والهيبة وعنده إلمام بمعارف كثيرة وكان مع ذلك أديبا بارعا حسن المحاضرة وله إطلاع كثير على الأشعار والنوادر ورأيت بخطه مجموعا فيه كل معنى نادر وحكاية مستلذة وكان رحل إلى الروم في سنة ثمان وعشرين وألف ونال بعض جهات في الشام ثم قدم إلى دمشق وأقام بداره بالصالحية وكان مخالطا للأدباء وله كرم وإيثار لا يزال مجلسه غاصا بأهل الأدب والمعرفة وكان يجري بينه وبينهم محاورات وكان ينظم الشعر وشعره مستحسن فمن مشهور ما له قوله وكتب به إلى فتح الله بن النحاس الحلبي الشاعر المشهور يستدعيه إلى محله
إن أغلق الأعداء أبوابهم ... عني ولم يصغوا إلى نصحي
وزرتني يوما ولو ساعة ... في الدهر تبغي بينهم نجحي
علمت أن الحق من لطفه ... قد خصني بالنصر والفتح
لا زلت في عز مدى الدهر ما ... غردت الأطيار في الصبح
فراجعه بقوله
مولاي يا من خصه ربه ... بين الورى بالنصر والفتح
في الظهر والعصر إلى بابكم ... أسعى وفي المغرب والصبح
وكيف لا أسعى إلى باب من ... في وجهه داع إلى النجح
لا زلت من قدح العدا سالما ... ولا خلا زندك من قدح
وقرأت بخطه هذه الأبيات نسبها لنفسه وهي
ولقد ذكرتك حين قابلت العدا ... والسيف يحصد هامهم كالمنجل
والرمح مياس كقدك طاعن ... قلب الشجاع وكل قرن مقبل
والجو صار من العجاج كأنه ... ليل وذاك الليل ليس بمنجل
والأسد عابسة كأن قد راعها ... يوم الوغى والأمر ليس بمشكل
فترى الشجاع كأن رنة سيفه ... أشهى إليه من صفير البلبل
وكأنه في روضة قد فوفت ... بشقائق وشذاه عرف قرنفل
وترى الجبان كأنه من خوفه ... يلوى عنان جواده بتهرول
فهناك ناديت الأحبة ليتهم ... نظروا بعين برحم وتعقل
هل كان لي في القلب غير هواهم ... باق على طول المدى المسترسل
لا والذي خلق الخلائق كلهم ... وقضى بطول تسهدي وتململي
ما خنت يوما عهدهم بتغافل ... عنهم ولا بمقال زور العذل
وهذا الأسلوب قد أكثر فيه الشعراء قديما وحديثا ومن جيده قول ابن مطروح
ولقد ذكرتك والصوارم لمع ... من حولنا والسمهرية سطع
وعلى مكافحة العدو ففي الحشا ... شوق إليك تضيق عنه الأضلع
ومن الصبا وهلم جرا شيمتي ... حفظ الوداد فكيف عنه أرجع
وقول ابن رشيق
ولقد ذكرتك في السفينة والردى ... متوقع بتلاطم الأمواج
والجو يهطل والرياح عواصف ... والليل مسود الذوائب داج
وعلى السواحل للأعادي عسكر ... يتوقعون لغارة وهياج
وعلت لأصحاب السفينة ضجة ... وأنا وذكرك في ألذ تناجي
وقول أبي السنا محمود
ولقد ذكرتك والسيوف لوامع ... والموت يرقب تحت حصن المرقب
والحصن من شفق الدروع تخاله ... حسناء ترفل في رداء مذهب
سامي السماك تطاول نحوه ... للسمع مستمعا رماه بكوكب
والموت يلعب بالنفوس وخاطري ... يلهو بطيب ذكرك المستعذب
وقول الصفي الحلى
ولقد ذكرتك والعجاج كأنه ... مطل الغنى وسوء عيش المعسر
والشرس بين مجدل في جندل ... مناوبين معفر في مغفر
فظننت أني في صباح مسفر ... بضياء وجهك أو سماء مقمر
وتعطرت أرض الكفاح كأنما ... فتفت لنا أرض الجلاد بعنبر(2/17)
والفاتح لهذا الباب عنترة العبسي في قوله
ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسم
ولعبد الحق أشياء أخر غير ما أثبته له وفي الذي ذكر مقنع وقرأت بخطه إن ولادته كانت أول ساعة من نهار الخميس ثامن ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وتسعمائة وتوفى ليلة الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى سنة سبعين وألف وصلى عليه بالجامع المظفري ودفن بروضة السفح ونسبته إلى سلطان الأولياء إبراهيم بن أدهم مستفيضة مشهورة وقد وقفت على كتابات لعلماء دمشق على هذه النسبة كثيرة والمرزباني نسبة إلى أحد أجدادهم وهو الشيخ محيي الدين المزرباني سمي بذلك لانقياد السباع وإطاعتها له وأصله المرزبان وهو بالفارسية السلطان الملا عبد الحكيم بن شمس الدين الهندي السلكوتي علامة الهند وإمام العلوم وترجمان المظنون فيها والمعلوم كان من كبار العلماء وخيارهم مستقيم العقيدة صحيح الطريقة صادعا بالحق مجاهرا به الأمراء الأعيان وكان رئيس العلماء عند سلطان الهند خرم شاه جهان لا يصدر إلا عن رأيه ولم يبلغ أحد من علماء الهند في وقته ما بلغ من الشأن والرفعة و انتهى واحد منهم إلى ما انتهى إليه جمع الفضائل عن يد وحاز العلوم وانفرد وأفنى كهولته وشيخوخته في الانهماك على العلوم وحل دقائقها ومضى من جليها وغامضها على حقائقها وألف مؤلفات عديدة منها حاشية على تفسير البيضاوي على بعض سورة البقرة رأيتها وطالعت فيها أبحاثا دقيقة وله حاشية على مطول السعد ومختصره وحاشية على شرح العقائد النسفية للسعد وحاشية على شرح تصريف العزى للسعد أيضا وله غير ذلك وفضله أشهر من أن يزاد في وصفه وكانت وفاته في نيف وستين وألف رحمه الله تعالى عبد الحليم بن برهان الدين بن محمد البهنسي الدمشقي المعروف بابن شقلبها الفقيه الحنفي أنبل آل بيته في عصرنا كان من الفضلاء المتضلعين من فنون شتى لكن غلب اشتهاره بالفقه نشأ بدمشق وقرأ بها على مشايخ كثيرين وتقدم أن والده كان ذا ثروة عظيمة وجمع كتبا كثيرة فتمتع عبد الحليم بها ولما مات أبوه وضع يده على مخلفاته وأتلفها في مدة قليلة على أهواء متفرقة يرجع أكثرها إلى حب الرياسة وما نال من ذلك إلا الخسران وقلت ذات يده فانزوى مدة في بيته لا يدري عنه إلا بمحض الوجود ثم ظهر بعض الظهور أيام كان العلا الحصكفي مفتي الشام وأخذ يفتي في بعض وقائع فمنعه قاضي القضاة بدمشق عن الفتوى لما يتفرع على ذلك من كثرة اللغط ومخالفة أمر السلطان في أن المفتي الحنفي لا يكون إلا واحدا فلم يلبث أن رحل إلى مصر وكان قاضيها عامئذ المولى مصطفى ختن المنقاري المفتي فتقرب إليه وصار من جملة نوابه ثم لما عزل صحبه إلى الروم وأقام بها مدة وقد اجتمعت به فيها كثيرا وكان شرع في نظم مغنى اللبيب لابن هشام فنظم منه مقدارا وافرا وكتب على ألفية ابن مالك شرحا ومات ولم يكمله فبقي في مسوداته وكان على ما شاهدته من أطواره أحد عجائب المخلوقات لا يستقر في أمر المشرب على حال وكان ينظم الشعر إلا أن شعره في غاية القلاقة والتعقيد ولم أر له ما يحسن إيراده وكان ولاه مخدومه المذكور نيابة قضائه كليبولى فتوجه إليها ومات بها وكانت وفاته في حدود سنة تسعين وألف رحمه الله تعالى(2/18)
عبد الحليم بن محمد المعروف بأخي زاده القسطنطيني المولد والمنشا والوفاة أحد أفراد الدولة العثمانية وسراة علمائها كان نسيج وحده في ثقوب الذهن وصحة الإدراك والتضلع من الفنون بكنف والده مشارا إليه في التبريز بميدان الفضل وركوب السوابق في حلبة المعلومات وكان أبوه متقاعدا عن قضاء عسكر اناطولى وجده لأمه شيخ الإسلام سعدى المحشى قال ابن نوعي في ترجمته أخذ بأدرنة وأبوه قاض بها في سنة ثمان وسبعين وتسعمائة عن حسام الدين بن قره جلبى مدرس طاشلق وعن عبد الرؤف الشهير بعرب زاده مدرس او شرفلي ثم أخذ عن صالح الملا مدرس السلطان بايزيد وخواجكي زاده أفندي مدرس السلطان سليم بقسطنطينيه ثم وصل إلى خدمة فضيل الجمالي ولزمه ثم وصل إلى خدمة شيخ الإسلام أبي السعود العمادي ولازم منه في سنة إحدى وثمانين ثم درس في رجب سنة اثنتين وثمانين بمدرسة إبراهيم باشا الجديد ابتداء ولم يزل ينتقل من مدرسة إلى مدرسة حتى وصل إلى مدرسة الوالدة باسكدار في ذي القعدة سنة ثمان وتسعين وتسعمائة وولى منها قضاء بروسه في رمضان سنة ألف ونقل منها إلى أدرنه في رجب سنة إحدى وألف وعزل منها إلى صدارة اناطولى في ذي الحجة سنة خمس وعزل منها في صفر سنة سبع وتقاعد بوظيفة أمثاله ثم أعيد إليها في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتقاعد عنها في شهر رمضان سنة تسع ثم صار قاضي عسكر روم ايلى في صفر سنة عشر وألف وتقاعد في ذي الحجة وله تآليف كثيرة رائقة منها شرح على الهداية وتعليقات على شروح المفتاح وجامع الفصولين والدرر والغرر والأشباه والنظائر وله رسالة تفسيرية في امتحان كان صدر وأما ماله من الآثار غير ذلك فمما لا يعد ولا يحصى وعلى الخصوص فيما يتعلق بالصكوك والحجج والتمسكات وله ترجمة شواهد النبوة تركي وله شعر مرغوب بالتركية ومخلصه على دأبهم حليمي انتهى وذكره النجم الغزي في ذيله أثنى عليه ثناء بليغا قال وحدثني شيخنا القاضي محب الدين الحنفي على رأس الألف قال اتفق أهل الروم قاطبة على أن استانبول ليس من نشأ فيها الآن من أولاد العلماء وغيرهم أفضل من رجلين شابين أحدهما عبد الحليم هذا والثاني أسعد بن المولى سعد الدين ثم اختلفوا في أيهما أفضل قال وبلغني أن عبد الحليم كان أفقه وأسعد كان أعلم بالمعقولات وبالجملة فإن فضل عبد الحليم مسلم عند أهل الروم وليس فيهم من ينكره وذكره الطالوي في كتبه السانحات في مواضع منها وبالغ في وصفه وأورد قصائد قالها في مدحه ثم ذكر مجلسا ضمه هو وإياه في ناديه قال فأقبل علي بمؤانسته وقربني منه في مجالسته ولم يزل ينثر على سمعي لآلئ من فقره ويجلو علي من إبكار فكره ما يحار اللبيب في وصفه ويغار الأديب من نسقه ورصفه فمن جملة ما شنف به سمعي وجعلته سمير ضمير جمعي ما قرظ به كتاب بعض الكتاب من حسن سجع تغار منه ألحان السواجع ويود البادي لو كان فيها المراجع إلى زواهر فقر تخجل در الأسلاك وتزرى الأفلاك لو رآها صاحب اليتيمة اتخذها لكتابه تميمة أو العماد الكاتب تسلى عن خريدة الكاعب وهو نظرت في هذا الكتاب المنطوي على بدائع صنائع الكتاب المحتوى على لطائف الإيجاز والأطناب الخالي عن شوائب معايب الأخلال والأسهاب المسبوك في قالب بديع تميل إليه القلوب المنسوج على أحسن منوال وأبهى أسلوب فوجدته بحرا زاخرا متلاطم الأمواج ودرا زاهرا سلب الشمس عن رتبة الابتهاج فيا له من كاتب طوى منشور الخطباء بإيجازه وكوى صدور البلغاء بمحاسن حقيقيته ومجازه حقيق لأن تسير بذكره الركبان وخليق لأن يرسل هدية إلى فصحاء قحطان إذ وقف فرسان البلاغة عن الجري في مضماره واتفق شجعان البراعة على أنه لا يصطلى بناره تضمن درر عبارات ما استودعت أصداف الآذان إلى الآن أمثال تلك الآل في الأزمنة الخوال وما طلع في أفق سواد العين مذ أمدت بالنور مثل ذلك هلال واختوى جوهر ألفاظ أخلب للقلوب من غمزات الألحاظ وأسحر للعقول من فترات مراض الأجفان مع معان هي أحسن من أيام محسن معان وأبهج من نيل أمان في ظل صحة وأمان ولعمري إن هذا الكتاب أضحى لما فيه من الفضائل مصداق قول القائل
وخريدة برزت لنا من خدرها ... كالبدر يبدو من رقيق غمام
عرضت على كل الأنام جمالها ... كي تستميل قلوبهم بتمام(2/19)
تسبى من العرب العقول بأسرها ... وتطير لب الروم والاعجام
فلله در الأديب الأريب المتعاطى لهذا الجمع والترتيب الآتي بهذا الإنشاء والاختراع الذي لا يمكن الخروج من عهدة مدحه وإطرائه باللسان واليراع بلغه الله تعالى وطره وجزاه الحسنى وزيادة بما سطره حيث أذرج فيه لطائف تنجلي لخطابها كالعروس وأدمج نفائس تتبادر إليها الأرواح والنفوس وضع فيه مآرب تغدو إلى الروح وأشار إلى نكات سرية كالورد الطري تفوح فأتى بما لم تستطعه الأوائل وعجز عن الإتيان به سحبان وائل انتهى ونظم الطالوي فيه قصيدة طويلة قريب ذلك وأشار بها إلى حسن هذه القطعة بقوله
لله ما فقر في الطرس تحسبها ... وسط البياض سواد العين والبصر
أو كالرياض كستها السحب سارية ... مطارف الوشى أو موشية الحبر
مثل الكوكب ليلا قد طلعن على ... نهر المجرة أو كالروض ذي الزهر
تود حلت الجوزاء من شغف ... فيها النطاق ولو أمست على خطر
كأن در يواقيت الحسبان به ... قد رصعت في الحواشي موضع الفقر
وكانت ولادته في سنة ثلاث وستين وتسعمائة وتوفى في اليوم الرابع والعشرين من المحرم سنة ثلاث عشرة بعد الألف ودفن في تربيتهم قبالة دارهم المعروفة بقسطنطينية قرب مدرسة الوالدة(2/20)
عبد الحليم الباغي المعروف باليازجي أحد الطغاة الذين خرجوا على السلطنة في زمن السلطان محمد الثالث وقد تقدم طرف من خبره في ترجمة حسن باشا ابن الوزير محمد باشا وكان في مبدأ أمره من الطائفة السكبانية وكان نازل الرتبة حتى صحب الأمير درويش الرومي حاكم صفد فقربه وأدناه وصيره رأس جماعته ولما عزل الأمير درويش عن حكومة صفد ولى مكانه الأمير علي الجركسي فذهب ليتسلم الولاية فقال عبد الحليم للأمير درويش لا تسلم الولاية للأمير علي وأنا أمنعه عنك بالحرب والمقاتلة فمال إلى كلامه ولم يسلم ولما شاع اباؤه عن التسليم أرسل إليه نائب الشام خسر وباشا كتخداه مع طائفة من عسكر الشام إلى ولاية صفد ليخرجوا الأمير درويش عنها ويسلموها للأمير علي فلما وصلوا إلى نواحي صفد خرج إليهم الأمير درويش وفي صحبته عبد الحليم ومن معه فقابلوهم وقاتلوهم ومنعوهم من الدخول إلى صفد ودام القتال بينهم أياما إلى أن تجرد عسكر الشام للقتال وبروز الطعن والضرب ونزل عبد الحليم مع جماعته إلى السهل فقطعوا سرادق الأمير علي ونهبوا ما فيه ثم أدركته الخيمة فقاتل السكبان حتى قتل منهم عشرة أنفار وكسر نفوسهم ودخل عليهم الليل ثم بعد ذلك لم يزالوا في قتال ومحاربة إلى أن أشار العقلاء على الأمير درويش بالخروج مع من عنده من العسكر ويكف عن المبارزة فخرج من المدينة وخرج معه عبد الحليم مع أصحابه وساروا على طريق سيدا من جهة الشقيف فوردوا على الأمير فخر الدين بن معن فزودهم وسيرهم فسار الأمير درويش إلى الأبواب السلطان وذهبت وراءه المحاضر والشكايات من أهل بلاد صفد فعرض الوزير أمره على السلطان فأمر بصلبه فصلب بثيابه وكان عبد الحليم وأصحاب درويش ساروا على ساحل البحر إلى ترابلس الشام ثم إلى جانب حلب ثم دخلوا مدينة كلز بإشارة من أميرها الأمير حسين بن جانبولاذ ثم شرعوا في الفساد فتنبه لهم نائب حلب وأرسل إليهم جيشا لمحاربتهم فتقابلوا على باب كلز وكانت النصرة لعسكر حلب وقتلوا من أصحاب عبد الحليم مقتلة عظيمة وخرج عبد الحليم بمن بقي معه من أصحابه مكسورين وسار إلى حصن سميساط فقاتله صاحب الحصن وتواقعا ثم خرج منها إلى مدينة الرها واحتال على أن جاءته أحكام سلطانية بأن يكون محافظا بها وفي أثناء ذلك خرج عن ربقة الطاعة حسين باشا الذي كان أمير الأمراء بولاية الحبشة ووصل إلى مدينة أركله من بلاد قرمان فثار إليه أهلها ليردوه فسطا عليهم ونما خبره إلى السلطان فأرسل إليه عسكرا عظيما فخاف من هولهم وفر قاصدا أن يخرج إلى بلاد العرب فمنعه العبور جسر جيحان فعطف على جهة الشرق حتى وصل إلى الرها فالتقى بعبد الحليم وأوهمه أنه ناصره ولم تمض أيام قليلة إلا ومحمد باشا ابن المرحوم سنان باشا قصد البلد المذكور بجماهير من العساكر تسد الفضاء ومن جملتها عسكر الشام فنازلوا الرها ودام محاصرتهم لها والحرب بين الفريقين واقع إلى أن لاح لعبد الحليم أنه مأخوذ لأنه محصور فشرع في طلب الأمان من الوزير على شرط أن يسلم إليهم حسين باشا ويكون هو ناجيا منهم وكان حسين شجاعا بطلا باسلا لكنه كان عاطلا من الخديعة فوقع في شرك عبد الحليم فأنزل عبد الحليم أخاه حسنا بالأمان بعد أن استرهن عنده جماعة من العسكر السلطاني وترددت الرسائل بينهم وحسين يظن أن أصحابه معه وهم عليه فانعقد المقال وأخرج حسين من موضعه ولما تحقق المكيدة قال لعبد الحليم مخاطبا أهكذا تكون عهود الشجعان وتسلمه عسكر الشام وأعطوه للوزير وبات الوزير تلك الليلة وهو يؤلمه بالكلام الموجع وهو يعتذر بأعذار غير مقبولة ثم أرسله الوزير إلى باب السلطان فلما وصل أحضر إلى الديوان فنادى بشعار الشرع فأجابوه إلى ما أراد وحققوا عليه الفساد والطغيان فحكم القاضي بقتله وصلب في وقته وكان بعد تسليم عبد الحليم لحسين ارتحل عسكر الشام سريعا لهجوم الشتاء ولم يمكث الوزير بعدهم إلا أياما قليلة ورحل إلى جانب حلب واستمر عبد الحليم مدة الشتاء مقيما في الرها وثار في الربيع إلى عينتاب فغضب السلطان لبقائه في الحياة وأرسل لقتاله عسكرا وجعل المقدم على العساكر كلها حسن باشا ابن الوزير محمد باشا وأرسل من جانب بابه العالي أيضا الوزير إبراهيم باشا الذي كان نائبا بحلب مقدما على عشرة آلاف عسكري من جانب عسكر باب السلطان وعين نائب الشام محمد باشا(2/21)
الأصفهاني وفي خدمته عساكر الشام فمشى السردار الكبير من جانب بغداد إلى أن وصل إلى مدينة آمد وجمع العساكر هناك ورحل بمن معه من العساكر إلى أن وصلوا إلى مرحلة ألبستان فنزلوا بها وباتوا تلك الليلة وكان نزولهم في مقابلة جبل فيه مكان أهل الكهف على أصح الأقوال فبينما هم على الصباح إذا بعسكر عبد الحليم قد أقبل من جانب الشرق وتصادم الفريقان ساعة وإذا بعسكر عبد الحليم قد عبر على عسكر السلطان فالتقوا به وصدموه صدمة أزالته عن منزله فولى هاربا فتبعوه ووضعوا السيف في أصحابه فقتلوا منهم في ذلك اليوم ما يزيد على أربعة آلاف رجل وهرب عبد الحليم واستمر هاربا إلى أن دخل إلى ساميسون على ساحل البحر ودخل الشتاء فشتى حسن باشا في مدينة قوقات ومات عبد الحليم في أثناء ذلك وكانت وفاته في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان سنة عشر بعد الألف وافترقت أصحابه فرقتين واحدة طلبت الأمان من السردار المذكور وأخرى ذهبت مع أخي عبد الحليم حسن إلى رستم العاصي المقيم بملطيه وبقية خبر حسن مذكورة في ترجمة حسن باشا المذكور في حرف الحاء فارجع إليه ثمة والله سبحانه وتعالى أعلم والسبكانية طائفة معروفة ونسبتهم إلى سكبان فارسي مركب من سك وهو الكلب وبان وهو الحامي فمعناه حامي الكلب وأصل موضوعهم لقود الكلاب أمام الكبراء والأمراء حين يسيرون إلى الصيد وسميساط بضم السين المهملة وفتح الميم وسكون المثناة من تحت وسين ثانية مهملة وألف وطاء مهملة مشالة في الآخر بلدة بالفرات بالقرب من حصن منصور وأركله بفتح الهمزة والراء وسكون الكاف الفارسية وفتح اللام ثم هاء قصبة من أعمال قرمان على طريق قسطنطينية حسنة التربة لطيفة الهواء وهي وقف على الحرمين الشريفين وفيها من الأعاجيب في محل قريب منها فوار ماء يخرج منه الماء سيالا فإذا وصل إلى الأرض جمد وصار كالرخام الأبيض لا يتكسر إلا بالحديد دون غيره ولا ينماع وإن حمى على النار وللحجر المذكور صلابة زائدة وساميسون بلدة مشهورة في بلاد الترك بالقرب من طرابزون والعامة تقول صاميصون بالصاداني وفي خدمته عساكر الشام فمشى السردار الكبير من جانب بغداد إلى أن وصل إلى مدينة آمد وجمع العساكر هناك ورحل بمن معه من العساكر إلى أن وصلوا إلى مرحلة ألبستان فنزلوا بها وباتوا تلك الليلة وكان نزولهم في مقابلة جبل فيه مكان أهل الكهف على أصح الأقوال فبينما هم على الصباح إذا بعسكر عبد الحليم قد أقبل من جانب الشرق وتصادم الفريقان ساعة وإذا بعسكر عبد الحليم قد عبر على عسكر السلطان فالتقوا به وصدموه صدمة أزالته عن منزله فولى هاربا فتبعوه ووضعوا السيف في أصحابه فقتلوا منهم في ذلك اليوم ما يزيد على أربعة آلاف رجل وهرب عبد الحليم واستمر هاربا إلى أن دخل إلى ساميسون على ساحل البحر ودخل الشتاء فشتى حسن باشا في مدينة قوقات ومات عبد الحليم في أثناء ذلك وكانت وفاته في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان سنة عشر بعد الألف وافترقت أصحابه فرقتين واحدة طلبت الأمان من السردار المذكور وأخرى ذهبت مع أخي عبد الحليم حسن إلى رستم العاصي المقيم بملطيه وبقية خبر حسن مذكورة في ترجمة حسن باشا المذكور في حرف الحاء فارجع إليه ثمة والله سبحانه وتعالى أعلم والسبكانية طائفة معروفة ونسبتهم إلى سكبان فارسي مركب من سك وهو الكلب وبان وهو الحامي فمعناه حامي الكلب وأصل موضوعهم لقود الكلاب أمام الكبراء والأمراء حين يسيرون إلى الصيد وسميساط بضم السين المهملة وفتح الميم وسكون المثناة من تحت وسين ثانية مهملة وألف وطاء مهملة مشالة في الآخر بلدة بالفرات بالقرب من حصن منصور وأركله بفتح الهمزة والراء وسكون الكاف الفارسية وفتح اللام ثم هاء قصبة من أعمال قرمان على طريق قسطنطينية حسنة التربة لطيفة الهواء وهي وقف على الحرمين الشريفين وفيها من الأعاجيب في محل قريب منها فوار ماء يخرج منه الماء سيالا فإذا وصل إلى الأرض جمد وصار كالرخام الأبيض لا يتكسر إلا بالحديد دون غيره ولا ينماع وإن حمى على النار وللحجر المذكور صلابة زائدة وساميسون بلدة مشهورة في بلاد الترك بالقرب من طرابزون والعامة تقول صاميصون بالصاد(2/22)
عبد الحليم المتخلص بحليمي أحد شعراء الروم وشهرته بعجم زاده كان من حفدة المولى السيد محمد بن معلول وكان مشاركا في فنون عديدة ورد إلى الشام وهو في خدمة مخدومه ابن معلول المذكور ثم رجع إلى الروم ومكث سنين ثم دخل دمشق قبل الألف وسكن بها في المدرسة البلخية جوار المدرسة الصادرية وعين له من الجوالي ما يكفيه وولى تدريس الجقمقية بعد الشيخ شرف الدين رئيس الأطباء بدمشق وكان يتردد إلى قضاء القضاة والأكابر فيكرمونه لعلو سنه واتصاله بالمتقدمين من أكابر العلماء بالروم وكان له مطارحة جيدة ويحفظ وقائع كثيرة وما زال بدمشق إلى أن توفى وكانت وفاته نهار السبت عاشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وألف عن نحو مائة سنة ودفن بمقبرة الفراديس عبد الحميد بن أحمد بن يحيى بن عمرو بن المعافى اليمني ذكره ابن أبي الرجال في تاريخه فقال كان من عيون الزمان وافراد الوقت بليغا منطيقا ناظما ناثرا من بيت معمور بالفضل والكمال من بني عبد المدان كما صرح به النسابون وصرح به ابن عقبة وذكر هذا العلامة في منظومة له وفيهم العلم والرياسة واستمرت له الإمارة وعلو الكلمة مع الأئمة فكانوا علماء أمراء تنفذ أحكامهم بجهتهم ولم يزالوا كذلك حتى تولى منهم الأمير عبد الله بن المعافى للاروام وزاد في عتوه وبالغ فيما لا يليق بمنصبه فكان أمير الأمراء مع الترك ولى أكثر ذلك الاقليم إلى نواحي الاهنوم ووداعة وعذرين وغير ذلك فمالت به شهواته حتى غازى الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد فكان ما كان وختام ذلك قتله بغارب أيكة ولما جاؤا برأسه إلى الإمام قالوا لو جئتم به أسيرا ولوح إلى أنه كان يريد مكافأته على سابقة له مع الإمام وهي أنه وصل بعض الطغاة وبيده خطى فهزه من خلف الإمام وهم بطعنه من خلفه غدرا والأمير عبد الله مقابل له فأمسك على لحيته يشير إلى أن الغدر غير لائق وكيف يقتله وهو في أمن من قبله فكف عنه وبعض خاصة الإمام المحبين له يشاهد ذلك فذكره للإمام فأراد مكافأته على ذلك ثم أن الأمير ذكر للإمام أن الأتراك قد أحاطوا بالبلاد وأشار بالتقدم عن تلك البلاد التي قد أحاطوا بها وبعث معه من الرجال من يركن إليه حتى انفصل عن بلاد السودة ثم كان من أمره ما كان وختام ذلك قتله بغارب ايكة في الحرب المشهور هنالك فتضاءل منصب القضاة المذكورين على جلالتهم وفيهم بقية صالحة وأحيا مآثرهم صاحب الترجمة فإنه كان أحد العلماء سيما في العربية شرح الملحة وكتب حواشي وأجوبة مفيدة في النحو وشرح الهداية في الفقه ولا أعرف هل تيسر له الإتمام أولا وشرح الازهار بشرح اعتنى فيه بموافقة إعراب الازهار فإن شرح ابن مفتاح قد لا يتناسب فيه إعراب المتن مع الشرح إلا بتحويل للمتن من رفع إلى نصب ونحو ذلك وله شعر حسن وخط جيد وكان يتأنى في الكتابة فيجيد في الإنشاء كثيرا وله تخميس قصيدة الصفي الحلى فيروزج الصبح أم ياقوتة الشفق ومن شعره في راية للإمام المؤيد بالله ابن القاسم
أيا راية أصبحت في الحسن آية ... وفاق على الأعلام حسنك عن يد
قرنت بنصر الله حين صنعت للإ ... مام أمير المؤمنين المؤيد
إمام حلى جيد الكمال بجوده ... محمد بن القاسم بن محمد
ومما اتفق له أنه لما مات السيد العلامة إبراهيم ابن الإمام المتوكل على الله إسماعيل وكان من حسنات الأيام حفظه قد ألم بكل غريبة من علوم القراآت والنحو وأشعار الحكمة والأدعية وبالجملة فكان من أوعية العلم مع كونه أكمه وكان من أصلح الناس على صغر سنه وكان من جملة من اتصل به الفقيه العلامة صلاح الذنوبي وغذاه بالفوائد فإنه كان وحيدا فلما مات عظم الخطب فكتبت أنا إلى الإمام أبيات الإمام شرف الدين التي أولها
حمدت الله ربي يا بنيا ... على علم نعيت به اليا
نغصت حشاشتي والروح لما ... نفضت تراب قبرك من يديا
ولما إن ختمت الذكر غيبا ... قدمت به على الباري صبيا
وكنا في زفاف الختم نسعى ... وقال الرب زفته اليا
لإحدى عشرة مع نصف عام ... وطئت بهمة هام الثريا
وكنت قد امتلأت من المعالي ... ولم تترك من الإحسان شيا
ومنها(2/23)
يقول الصبر للزفرات مهلا ... وقال اللاعج الأسفي هيا
ولما لم أجد لي عنه بدا ... صبرت تكلفا بعد اللتيا
ومالتيا بتصغير لها من ... رزية هالك أحرى لتيا
ومهما رام قلبي الصبر كيما ... أناب كواه عند الوجد كيا
فكيف يلام ذي حزن على من ... يميز في الصبا رشدا وغيا
وكم يوم ملأت بما أرى من ... مخايل فيك صالحة يديا
فلا زالت ركاب الشكر تطوى ال ... قضا لله ذي الملكوت طيا
وأولها يحط لديه وقرا ... وآحرها نحمل من لديا
ثم لم أشعر إلا بكتاب إلى الإمام من عبد الحميد المترجم بالأبيات فعجبت من توارد الخاطر على التمثل ثم ذكرت قضيته لهذه الأبيات وهي أنه لما مات ابن الإمام شرف الدين المسمى بعبد القيوم وكان من سادات العترة ولم يبلغ عمره إلا إحدى عشرة سنة ونصفا وقد كان يجاري العلماء وقبره في القبة قبلي الحراف من أعمال صنعاء مشهور مزور ومما يروى أنه حضر في مسجد الحسحوش بالحراف والعلماء يخوضون في مسئلة البهائم إذا تم سؤالها وحسابها أين تصير فذكروا المقالات ولم يذكروا أشهرها وأحسنها وهو أن الله تعالى يخلق لهن رحبة في الجنة فلما كثر الخوض قال السيد عبد القيوم وما يشكل عليكم من أمرهن لعل الله يخلق لهن رحبة يتنعمن فيها فأعجب الحاضرون بذلك وكتبوه عنه ولما مات عبد القيوم المذكور أنشد والده هذه القصيدة وأكثرها من شعر الأمير صلاح الدين الأربلي وفيها بيت مشهور متقدم على الأمير صلاح الدين وهو
حمدت الله ربي يا بنيا فإن أصله حمدت الله ربي يا عليا
مما قاله بعض الناس في أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه وهذه الألف في قوله يا عليا ألف الندبة فلما أخرج الإمام القصيدة أخرج السيد العلامة عبد الله بن القاسم العلوي القصيدة أيضا فاتفقت خواطرهما وذلك من العجائب انتهى كلامه ولم يذكر وفاة عبد الحميد بل ذكر أنه مدفون بالسودة عند بابها القبلي لكن سياق كلامه يقتضى إن وفاته تأخرت إلى ما بعد الخمسين وألف عبد الحميد بن عبد الله بن إبراهيم السندي الفاروقي الحنفي نزيل مكة المكرمة الشيخ الجليل الحميد الخصال الجميل الفعال كان صاحب معارف وفنون أصله من أرض السند الاقليم الشهير ونشأ فيه على فضل عظيم ورحل إلى الحرمين وصحب كثيرا من العلماء الأفاضل وأخذ عن جمع منهم الشيخ عبد الرحمن أبو الفضل زين الدين تلميذ الحافظ ابن حجر العسقلاني ومنهم أخوه وكان وافر الصلاح وحصل له بمكة جاه واسع وصيت شاسع وكان صوفي الأخلاق كثير الخوف خشن العيش حسن العشرة ولم يزل بمكة إلى أن توفى وكانت وفاته سنة تسع بعد الألف وعمره نحو تسعين سنة ودفن بالمعلاة بجنب قبر أخيه ومدة إقامته بمكة تسع سنين عبد الحي بن أبي بكر المعروف بطرز الريحان البعلي الأصل الدمشقي المولد الحنفي الأديب الشاعر الجيد الطريقة كان في عصرنا هذا الأخير من أرق من عرفناه طبعا وألطفهم شعرا وله قريحة سيالة وفكرة نقادة وكان عاشقا ولوعا بالجمال يتفانى صبابة وعشقا وتأخذه حيرة الغرام فيسكر وجدا وشغفا وكان سهل الألفاظ في شعره رشيق التأدية قرأ على أبيه وعلى قريبهم الشيخ محمد السليمي وأخذ عن عبد الباقي الحنبلي وأحمد القلعي وتأدب بأبي بكر القطان المشهور بغصين البان وكتب الكثير بخطه وكان حسن الخط صحيح الضبط وكان يحفظ بعض مقامات الحريري وبها تقوى على ضبط اللغة وكان يعرف اللغة معرفة جيدة وحفظ من الأشعار شيئا كثيرا وتجرد مدة عن هيئته ودخل في هيئة الدراويش السواح فطاف البلاد ودخل الروم ومصر وحلب واستقر بدمشق آخرا وتزوج بها ثم انعزل في خلوة بالمدرسة العزيزية وقد عاشرته مدة فرأيته من أكمل الناس يمشي في العشرة على قدم واحدة ويتودد ويحسن المجاملة وكان مع خلاعته وتولعه بالحب عف الازار دينا مثابرا على الطاعة وله تهجدات وأوراد وخشية من الله تعالى وحج آخر عمره فرجع متنسكا تاركا للدنيا متقشفا وبالجملة فقد كان رحمه الله تعالى من خلص الأقوام وقد جمع لنفسه ديوانا رأيته بخطه وانتقيت منه أطايبه فمنذ لك قصيدته التي عارض بها قصيدة أبي فراس الحمداني التي أولها(2/24)
يا حسرة ما أكاد أحملها ... آخرها مزعج وأولها
ومستهل قصيدته هذا
نفس أمانيها تعللها ... تعلها تارة وتنهلها
ولوعة في الضلوع أصعب ما ... يذيب صلد الحجار أسهلها
غداة بانوا فلا وربك ما ... ظننتني في الركاب أثقلها
رفقا بها حادي المطي ففي ... خلب فؤادي تدوس أرجلها
وفي سبيل الغرام لي كبد ... تبيت أيدي النوى تململها
تعلة للمنون قائدة ... آخرها كاذب وأولها
أساور النجم أبتغي قصرا ... لليلتي والجوى يطولها
وليت ساجي اللحاظير حم من ... يبيت من أجلها يدملها
الله في ذمة أضعت وفي ... حشاشة من لها معللها
أما وجفنيك والفتور ما ... أورث جسمي ضنا مذبلها
وأسهم قد أراشها حور ... تقصد حب القلوب أنصلها
لمهجتي في هواك تكبر أن ... يصدها ما يقول عذلها
إلام تقصى وفي الحشا حرق ... لا تستطيع الجبال تحملها
صبابة إن أردت أجملها ... لديك ذل الهوى يفصلها
أو جسم تالله مذ أراك فقد ... أعجز عن كلمة أحصلها
ومنطقي فيك عن فصاحته ... يعود سحبان وهو باقلها
وهذه حالة الكئيب ولو ... جحدتها ما أظن تجهلها
تركتني واستعضت عني من ... أخف ألفاظه أثاقلها
أعد مني الله في الهوى فئة ... ثناك عن وصلتي تقولها
هم أشربوا طبعك القساوة هل ... نراك يوما للعطف تبدلها
أما عرفت العفاف من دنف ... مداخل السوء ليس يدخلها
يأنف بالطبع كل فاحشة ... مذاهب الشرع ليس تقبلها
غذى لبان الهوى على صغر ... فهو لأهل الشجون موئلها
إن راح يحكى صبابة خضعت ... له القوافي ودان مشكلها
يعلم النوح كل ساجعة ... فهو صدا دوحها وبلبلها
ويح قلوب المتيمين إذا ... تصرمت في الهوى حبائلها
أفديك يا قاتلي بلا سب ... قتلة مضناك من يحللها
أصبحت شيخ الغرام فيك وما ... رواية أدمعي تسلسها
وفيك حلو الشباب مر ولم ... أفز بأمنية أؤملها
تلك لعمر الهوى رضاك فإن ... عز فيا خيبة أنازلها
تالله لو شاهدت عيونك ما ... ألقاه سحت وجاد وابلها
عساك تحنو لمن مطامعه ... عليك دون الورى معولها
وكم ليال سهرتهن ولى ... رامحها سامر وأعزلها
ومفرشي وسط كل مسبعة ... قتادها والوساد قنقلها
وليس إلا هواك يؤنسني ... بصورة منك لي يمثلها
أما كفى يا ظلوم ما فعلت ... غزاة جفنيك بي وغزلها
ولست أشكو بل يلذ لمن ... تولهت نفسه تذللها
فأنت عندي ولو هدرت دمي ... خير ولاة الورى وأعدلها
وإن توارت شموس حسنك عن ... نواظري فالفؤاد عاقلها
وإن تناءت ركائبي ودنت ... رسائلي فالرياح تنقلها
فاسلم ولا تكترث بحرفة ذي ... نفس أمانيها تعللها
ومن رائق نظمه قصيدته الدالية المشهورة التي مطلعها
لحظات لا تحامى القودا ... قد تناهبن الحشا والكبد
بلحاظ تستلذ فتكها ... لا عدمنا لحظك المجردا
دونك الصبرا حطمي جنوده ... واجعلي شمل السلو بددا
وامنعي وردا ووردا للحيا ... والحياة من جنى أو وردا
يا مهز الغصن من عطفيه مل ... واعتدل لم تلق من قال اعتدى(2/25)
يا مناط القرطمن نغنغه ... قد تركت الظبي يجري في الكدا
كيف للظبي بفرع فاحم ... زان بالتصفيف جيدا أجيدا
مذ غدا المحراب من حاجبه ... قبلة خرت جفوني سجدا
هكذا الحب يعز شأنه ... صبغة الله تعالى موجدا
مالكى بالحسن والحس احتكم ... حق أن تضحى لمثلي سيدا
إن من كنت له مولى فقد ... عاش يا مولاي عيش السعدا
صبح الله بكل الخير من ... كان مرآك لعينيه ابتدا
أنت روحي فإذا ما غبت عن ... ناظري فارق روحي الجسدا
وله من قصيدته المشهورة التي مدح بها الأستاذ محمد البكري بالقاهرة ومطلعها
بعثت له الذكرى شجن ... فصبا وحن إلى الوطن
دنف إذا ابتسم الخ ... لى غشاه تعبيس الحزن
قلق الركائب ما استق ... ر به السرى الظعن
والبين أصعب ما يرا ... ه أخو الشدائد والمحن
من مبلغ تلك المر ... ابع والمراتع والدمن
أشواقي اللاتي زحم ... ن الروح في مثوى البدن
في ذمة الله الذي ... ن هم فروضي والسنن
بى منهم الرشأ الغضي ... ض الطرف نهاب الوسن
متناسق الأعضا ... ء أياما لحظت به فتن
ملح تعلم عاشقي ... ه به التغزل و الفنن
فكأنها من روض م ... دح بني أبي بكر فنن
الضاربين على الفخا ... ر سرادقا من كل فن
السادة البيض المآ ... ثر في العلى غرر الزمن
ومقلدي أعناق ه ... ذا الدهر أطواق المنن
بوراثة نبوية ... مهلا أتته على سنن
حتى استقل بها الإ ... مام ابن الإمام المؤتمن
قطب العلوم محمد ... ذو الخلق والخلق الحسن
منها
يا سيدي ولئن قبل ... ت تعبدي فلأفخرن
عطفا على قلبي الكسير ... بنظرة فلأجبرن
إني أنخت مطيتي ... بمصيف مجدك فاقبلن
مولاي دعوة موثق ... بيد القطيعة مرتهن
متصبر والصبر أول ... ى ما تداوى الممتحن
لكن يعاير بالجرا ... ح مفرط ألقى المجن
ومديح علياكم بني الصدي ... ق جنة ذي الشجن
وبحبكم تشفى القلو ... ب وتنجلي ظلم الشحن
هذا هو الفخر العل ... ي وما سواه فممتهن
من جاء يفخر عندكم ... قولوا له أنت ابن من
ومن غزلياته
مل فإني لميلك المستميل ... متلق على مراح القبول
وعجيب ميل الغصون إلى نح ... و مهب الهوى بغير مميل
لكن الميل بانجذاب هوى النف ... س أبى الزوال والتحويل
حبذا ميلة خلست بها القل ... ب اختلاس الشمول حر العقول
معطف عاطف وجيد مجاد ... والتفات يسبى بطرف كحيل
وطلا واضح ولفظ خلوب ... ينفث السحر في خلال المقول
وبروحي إذا تغاضبت والم ... بسم يفتر عن رضى في نكول
لعب في تأدب وتجن ... ضمن عطف ومنعة في حصول
هكذا هكذا تبارك من ... أودع ذا الجمال كل جميل
قال ومن الواقعات في بعض الروعات
بروحي الذي أشقى العيون ارتقابه ... وأخرج عن حد التعادل أحوالي
تمثله الأشواق لي فإذا أرى ... مليحا على بعد تظناه بلبالى
فأقصده قصد العطاش توهمت ... سرابا فلما جان إذ هي بالآل
فصرت بحال لو آراه حقيقة ... نكرت على عيني وكذبت آمالي
وقال مجيبا لمن عاب عليه كتمان الحب وآثر الشهرة وقال بأن كتم الحب من الجبن
ليس حبنا أني أموه في الح ... ب وأخفى وأستشين البيانا(2/26)
غير أني أجل مالك رقى ... إن مثلي يشدو به إعلانا
فإذا ما فخرت أفخر بالص ... بر وألفى لسره صوانا
وإذا ما شكوت فلتك شكوا ... ي إليه عساه أن يتدانا
فشجاع الهوى الصبور على ج ... رح مباريه صارما وسنانا
لا الذي أن تشكه بادرة الطر ... ف تراه يقرع الأسنانا
أنا من قسم الفؤاد فأعطى ... منه كلاكما يليق مكانا
ومراح الغزال فيه مصان ... عن سواه وحقه أن يصانا
وقال
ما الذي أوجب صدك ... ولما أخلفت وعدك
ألشغل دنيوي ... أم عذابي كان قصدك
أم دلال أم تجن ... أم قرين السوء صدك
وعلى أية حال ... أسعد الغفران جدك
بالذي ولاك رقى ... سيدي لا تنس عبدك
أنا في قرب وبعد ... حافظ تالله عهدك
وفؤادي حيثما كن ... ت وايم الله عندك
لطفك المعهود خلا ... ني أسيرا لك وحدك
هل من الإنصاف إقصا ... د الذي ينظم قصدك
حاش ألطافك من أن ... تمنع الظمآن وردك
أنا من شاد كما شاء ... التقى والصون ودك
كم خلونا والمروءا ... ت وشت بردى وبردك
وعفاف الذيل قد طو ... ق جيد الصب زندك
هكذا نحن فظن الخي ... ير يا سائل جهدك
أنا من يتبع غي الح ... ب فاتبع أنت رشدك
وقال مودعا بعض إخوانه
حياك عهد الحبيب عهد ... أوطف جفن السحاب ورد
بعدك ما جف من جفوني ... دمع ولم يجفهن سهد
كأنما كان لليالي ... ديون بين وحان وعد
يا ليت مذ فرضت بعادا ... سنت وداعا غداة شدوا
أستودع الله من جفاني ... ضرورة وهولى بود
سار بقلبي حماه ربي ... ولم يقل كيف بعد تغدو
حداه أني انتحى فلاح ... وقاده للنجاح رشد
وما عليه بذاك عتب ... إرادة الله لا ترد
وقال أيضا
خلياني ولوعتي ونحيبي ... ليس إلا صاب بدمع صبيب
وأبكياني فإن من جرح اللح ... ظ قتيل وما له من طبيب
أي صب سمعتما علقته ... أعين الغيد فهو غير سليب
بأبي معرضا ألوف نفار ... ذا اختلاق تعنتا للذنوب
فعله كله حبائل فتك ... قد أعدت لصيد كل القلوب
تتحرى مقاتل الصب عين ... اه برشق النبال في التصويب
ذو وقار أهابه أن أحيي ... ه إذا ما بدا بلفظ حبيبي
فهو لم أدر جاهل خبر حالي ... أم يريني تجاهلا كمريب
أبدادأ به ودأبي هذا ... وكلانا في الحال غير مصيب
ليته لو أقر قلبي على الح ... ب بلا ريبة ووجه قطوب
وإذا شاء بعد ذاك تجني ... لذة الحب غصة التعذيب
ما يبالي من استهل عليه ... من سماء الغرام غيث اللغوب
جاب كل البلاد يحسب أن الح ... ظ شيء يعطى لكل غريب
وقال
أطالت وقالت من تصبر يظفر ... فديتك لكن مدة العمر تقصر
ففي كل قطر غربة وتشتت ... وفي كل عصر حرقة وتحسر
يخيل لي في كل قفراء انما ... بها الآل أشراك الهوان فأنفر
أهجر منها حيث تستعر الحصى ... وتصخب حرباء الهجير وتزفر
وحتى إذا شمس الأصيل تقنعت ... حدادا على فقد النهار أشمر
فأختبط الظلماء أحسب أنها ... مسافة خط بالخطا تقصر
ولو أن لي منك التفات مودة ... لما كنت أطوي في البلاد وأنشر
وقال مضمنا بيت المنجكي في ثقيل
عجبت من طالع المحب ومن ... سرعة إكذاب يأسه الأملا(2/27)
إن زاره من يحب عن غلط ... أتاه كابوس يقظة عجلا
كأنه طارق المنون فلا ... حيلة في دفعه إذا نزلا
أو الغريم الملح في زمن العس ... ر أول الداء صادف الأجلا
ثقيل روح يزور في زمن ... لو زار فيه الحبيب ما قبلا
يقول ايه وقد وجمت ومن ... ينطق أو من يطيق محتملا
يسأل ما تشتكي فقلت له ... داء عراني فقال لا وصلا
فقلت آمين يا مجيب أزل ... ما نشتكيه فإن يدم قتلا
يا ليت لو أنه استجيب لنا ... دعوتنا تلك والمكان خلا
لم يحل بل ضاع وقتنا هدرا ... ومل منا الحبيب وارتحلا
وكنا يهوى غلاما فاتفق أنه مر عليه والغلام يلعب بالنرد في أحد بيوت القهوة فلم يكترث به وتشاغل باللعب فنظم فيه هذه الأبيات وهي من محاسنه
أنكرتني ذا السوار الصموت ... عجبا ما لعرفتي من ثبوت
لا بل الغانيات يعددن من أ ... مسك من وصلهن حيا كميت
ومريده من الغواني وفاء ... متدل بشعرة العنكبوت
لا رعى الله م؟هجة علقته ... ن ولا أسعفت بفضل القوت
حقرت هند ذمتي واستعاضت ... عن صدوح الرياض بالعفريت
لست أنسى يومي بمجتمع الله ... و وفكري يجيد فيها نعوتي
إذ بدت في غلالة التيه والعج ... ب وبرد الجلال والجبروت
تتهادى في السرب حتى إذا ما ... وصلت حوزتي أرني موتي
بتغاض مع التفات إلى الدو ... ن ومقت ولست بالممقوت
ويحها لم تحينى بين جمعي ... لو تحي قلنا لها حييت
وتلاهت بالنرد في ذلك المج ... لس خوف اتهامها بالسكوت
ثم ولت وخلفتني أعض الك ... ف مستدرك القضا بعد فوت
هند قلى من التجني فلسنا ... من يرضيه فضلة من فتيت
لست لاثنين أو ثلاث فنأسى ... أن تخصي بعضا وبعضا تفوتي
أنت وقف على العباد ومن ي ... طمع في الوقف واجب التبكيت
أتظنين أن لي بك شغلا ... لي قلبي إن شئت ذا أو أبيتي
إنني عفت بيت حسنك مأهو ... لا فإني وما به غير بيت
ليس عندي بعد احتقارك قدري ... لك كفؤ غير الطلاق البتوت
لا أسوفا على جمالك إن بد ... ل قبحا ومر طعم الشتيت
غير أني أسفت أن ضاع شعري ... فيك لكن ما باختياري حبيتي
إذ بلائي بمبتلاك دعا الفك ... ر لأن شاد فيك بعض بيوت
آه من صحبة العباد وواها ... لزمان يمر في تشتيت
صدق القائل السلامة في الصم ... ت كذا الخير في لزوم البيوت
طالما ما قد جررت ذيل التصابي ... وتناسيت غصة التفويت
لا يظنن عاقل بي ميلا ... لمليح من آنس أو مقوت
رفضت نفسي الهوى خيفة الذ ... ل وأن تبتلى برق فليت
وهجرت المدام مما يؤد ... ى لافتضاح القؤول والسكيت
واختلاط بغير مرضى عقل ... وانطراح مع كل ذي تنكيت
فإذا ما ذكرت أيام لهوى ... قلت أيام ذلتي لا سقيت
لذة الحر في اكتساب المعالي ... لا افتراش الدمى وحسو الكميت
وأخبرني أنه رأى ما ذكره ابن خلكان في ترجمة أبي العتاهية أنه ترك قول الشعر حبسه المهدى في حبس الجرائم فلما دخله رأى كهلا حسن البزة والوجه عليه سيما الخير فقصده وجلس من غير سلام عليه لما هو فيه من الجزع والحيرة والفكر فمكث كذلك فإذا الرجل ينشد
تعودت مس الضر حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
وصيرني يأسى من الناس واثقا ... بحسن صنيع الله من حيث لا أدري(2/28)
فاستحسن أبو العتاهية البيتين وتبرك بهما قال وثاب عقلي إلي فقلت له تفضل بإعادتهما فقال ما أسوأ أدبك دخلت فلم تسلم ثم لما سمعت مني بيتين من الشعر الذي لم يجعل الله فيك خيرا ولا أدبا ولا معاشا غيره طفقت تستنشدني مبتديا كأن بيننا أنسا وسالف مودة توجب بسط القبض فقلت اعذرني فقال وفيم أنت تركت الشعر الذي هو جاهك عندهم وسببك إليهم ولا بد أن تقوله فتطلق وأنا يدعى بي فأطلب بعيسى بن زيد بن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن دللت عليه لقيت الله تعالى بدمه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمي فيه وإلا قتلت فأنا أولى بالحيرة منك وها أنت ترى صبري واحتسابي ثم أعاد لي البيتين حتى حفظهما ثم دعى بي وبه فقلت له من أنت فقال أنا حاضر صاحب عيسى بن زيد فأدخلني على المهدى فقال للرجل أين عيسى فقال وما يدريني تطلبته فهرب منك في البلاد وحبستني فمن أين أقف على خبره قال له متى كان متواريا وأين آخر عهدك به وعند من لقيته قال ما لقيته منذ توارى ولا عرفت له خبرا قال والله لتدلن عليه أو لأضربن عنقك الساعة فقال اصنع ما بدا لك فوالله لا أدلك على ابن رسول الله وألقى الله ورسوله بدمه ولو كان بين ثوبي وجلدي ما كشفت لك عنه قال اضربوا عنقه فأمر به فضربت عنقه ثم دعا بي وقال أتقول الشعر أو ألحقك به قلت بل أقول قال أطلقوه فأطلقت وقدروي أبو علي التنوخي في البيتين زيادة بيت ثالث وهو
إذا أنا لم أقنع من الدهر بالذي ... تكرهت منه طال عتبي على الدهر
انتهى قال المترجم فاستحسنت هذه الأبيات وذيلت عليها بقولي
وفي صرفه شغل عن العتب صارف ... كشغل غريق البحر عن درر البحر
وما الدهر والأيام والوقت والورى ... سوى الفاعل المختار جل عن الحصر
وعن حكمة بجرى مقادير عالم ... لموقع نفع العبد من موقع الضر
وأنت إذا حققت إن كنت عارفا ... شغلت مكان العتب بالحمد والشكر
فعتبك للأيام غير مصادف ... محلا إذ الأيام أنت ولا تدري
فكن ذا سكوت في مجاري القضاء أو ... تأسف فإن الكل في قبضة الأمر
وما الطيش مغن عنك في حل عقلة الوثا ... ق سوى التشديد في عقد الأسر
ومن نوادر أسماره ومحاسن أخباره أنه كان في غضون الصبا يهوى حبيبا كأنما تكون من رقة الصبا وكان يذوق من تقلباته ما يحار فيه الوهم ويعجز عن حمل بعضه الطود الأشم على أن ما قاساه من البلايا والمحن لم يكن بمستحقها ولكن يرى حسنا ما ليس بالحسن فجلس يوما لإقراء تلميذ له وكان ممن تسجد لطلعته الأقمار ويلعب بالعقول لعب العقار بالأفكار فحدثته نفسه بأن يتخلص من ذلك الشرك وينقل الروح من أشر ذلك المارد إلى هذا الملك فعرض له طائف من عالم الخيال وهبت عليه نفحة من برزخ المثال فرأى شكل حبيبه الذي شب به ضرام الجوى ينظر إليه شررا وهو مار في الهوى وهو يومى إليه كالمعاتب ويلومه بلسان الحال كما يلام القادر الكاذب فحصل له من الحياء والحجاب ما أوقعه في أعظم مصاب وعطف على القلب اللجوج وقد أطرق إطراق المحجوج فبينما هو لا يدير لحظا ولا يحير لفظا إذا برجل أعظم ما يكون ما يكون مديده إلى فؤاده واختطفه بسرعة عزمه وقوة سداده وألقاه إلى ذلك المثال فأخذه وولى من حيث جاء في عالم الخيال فاستيقظ وقد أضل قلبه وضيع صبره ولبه وعقد التوبة عما جنى في شرع الهوى من الذنوب وفي كل عين منه أجفان يعقوب ومن أناشيده لنفسه ما تلقيته عنه من فيه في أحد مجالسي معه قوله
سقتك الغر يا عهد الشبيبه ... ترنح منك أغصانا عسيبه
وإلا فالنواقع من جفوني ... وإن تك لإرواء ولا عذوبه
فكم لي في ظلالك من مقيل ... حسوت به الهوى كأسا وكوبه
بكل ندى جسم كنت أظمى الن ... واظر عنه خشية أن تذيبه
كأن بكل عضو منه بدرا ... منيرا أو مدبجة خصيبه
وكل مرنح الأعطاف يخطو ... فيكتسب الصبا منه هبوبه
إذا ما رام يعبث بي دلالا ... يقطب والرضى يمحو قطوبه(2/29)
فمن لك بالسلامة إن تثنى ... وهز قناة عطفيه الرطيبه
وأبلج مستدير الشكل أبدت ... به الأصداغ أشكالا عجيبه
تريك بسيمياء الحسن روضا ... حذارا منه أن تصلي لهيبه
وفاحم طرة شكرا لأيدي ال ... رعونة كم لها أمست لعوبه
تبددها كذوب المسك طورا ... على غصن تجسد من رطوبه
وطورا يظهر الشربوش منها ... كأطراف البنان غدت خضيبه
وآونة يرى منها زبانا ... يموج وكم به كبد لسيبه
فإني يطرق السلوان قلبا ... حمته جيوش خضراء الكتيبه
ولا كنواعس أرشقن قلبي ... صوائب غادرته أخا مصيبه
شهرن ظبا وقلن ألا صيود ... فكانت مهجتي أولى مجيبه
لحاها الله أي عنا تلقت ... تقمص منه جثماني شحوبه
ولم أك ألحها إلا اضطرارا ... فلم تك بالذي فعلت معيبه
هي الأحداق ما مستك إلا ... وفزت من الشهادة بالمثوبه
جرى قلم القضاء لنا بهذا ... ولا يعدو امرؤ أبدا نصيبه
ومما نقلته من خطه قوله
تولى زماني بالتلاعب وانقضى ... وحبل شبابي بالمشيب تنقضا
أراقب لمحا من سهيل مطالبي ... وأرصد برقا من أماني أومضا
يخيل لي أن الدجا وجه باخل ... وكف الثريا للسؤال تعرضا
فآنف من نيل الغنى بمذلة ... وألوى عنان القصد عنه مفوضا
وأعيا طلابي من زماني صاحبا ... يكون لحالي بالوفاء منهضا
فأيقنت أن الخل أفقد ثالث ... مع الغول والعنقاء في قول من مضى
وقد صح عندي انما الخل خلة ... أروم لها سد الكفاف مع الرضا
إذا قطع الإنسان أطماع نفسه ... من الناس كان اليأس أهنى معوضا
هناك يكون المرء بالله مقبلا ... على شأنه ما إن يكل له مضا
فذاك الذي بالعقل صح اتصافه ... ومن لا فلا والله بالغ ما قضى
ونقلت أيضا من خطه قوله
لا ترك الجد في جمع الكمال لأن ... بارت تجارة سوق الفضل في الزمن
لا بد أن ترغم الجهال حاجتهم ... إلي كمالك أن يرضوك في الثمن
وحسبك الله إن لم تلق مشتريا ... عن الغبي بعرف العرف أنت غني
ومن مقطوعاته قوله
إذا كان فقر المرء يزرى كماله ... فتنفر منه الأصدقاء بلا عذر
فيا ضيعة الحسنى ويا خيبة الرجا ... ويا موت زر إن الحياة على خسر
وقوله
رأيت التواني أنكح العجز بنته ... وساق إليها حين زفت له مهرا
فراشا وطيا ثم قال لها اتكى ... فلا بد للزوجين أن يلدا فقرا
وهذان البيتان قديمان وإن أثبتهما في ديوانه ومن مقاطيعه قوله
عني إليكم بنى هذا الزمان فقد ... عاهدت قلبي أن لا رام ودكم
أباحكم بيت ود كان تصدية ... صلاتكم عنده فالآن صدكم
وقوله
إياك يا ابن أبي عني نصحية من ... يد التجارب قامت عنه بالاود
إياك صحبة غير الجنس ما بشر ... يقوى لأن يجمع الضدين في جسد
وقوله
نفسي لتؤثر أن تفنى بمحنتهم ... لأنها لسوى الأحباب لم تكن
المرء يرجى لضر أو لمنفعة ... وما خلقت لغير الحب والشجن
وقوله
ألأهم الأهم إن كان لا بد ف ... إن الزمان فينا قصير
لا تضع فرصة الحياة فما للعم ... ر حيث انتهى مداه معير
واتفق لي معه يوم من أطيب الأيام في روضة غشيت بنسيج يد الغمام لبست خضر المطارف وتزينت بأنواع الزخارف وصحبتنا من السادة الأفاضل زمره قد تألفت طباعهم بالفرح والمسرة فأخذني من النشاط ما بعثني على مدحهم بأبيات فقلت وأنا معترف في وصفهم بضيق المجال في العبارات والأبيات هي هذه
فديت خلا بصدق عشرته ... هذب نفسي إذ جاء يرشدها(2/30)
عرفني ما جهلته زمنا ... من شهاب للخلق توجدها
حتى إذا ما أنكرت فعلهم ... وتوبتي تم فيه موعدها
فاوضني في هواي مختبرا ... وكله حكمة يزودها
فقال أي الذوات تعشقها ... قلت كريم الأمجاد سيدها
فقال أي الأوتار تؤثره ... قلت صرير اليراع أجودها
فقال كيف الرياض قلت له ... عند طباع الكرام أجحدها
فقال والطيب قلت عرف ثنا ... خلائق لا أزال أحمدها
فقال والنقل كيف قلت وهل ... ذاك سوى الأشعار ننشدها
فقال أي الندمان أنت له ... تبذل نفسا تضيق حسدها
فقلت لي سادة بهم عذبت ... مناهلي حيث طاب موردها
فكل وقت يمر لي بهم ... أشرف كل الأوقات أسعدها
داموا ودامت لنا فضائلهم ... نأخذ عنها وليس نفقدها
وقد أطلنا حسب المقتضى ولولا خوف الخروج عن الاعتدال لذكرت من أشعار المترجم شيئا كثيرا ولكن في هذا القدر كفاية وكانت وفاته في أوائل ذي الحجة سنة تسع وتسعين وألف عن خمسة وستين سنة ودفن بمقبرة الفراديس والسليمي نسبة لبني سليم من العرب العاربة وشهرته بطرز الريحان لموشح قاله في أيام صبوته مطلعه طرز الريحان حلة الورد فاشتهر به عبد الحي بن أحمد بن محمد المعروف بابن العماد أبو الفلاح العكري الصالحي الحنبلي شيخنا العالم الهمام المصنف الأديب المفنن الطرفة الاخباري العجيب الشأن في التحول في المذاكرة وداخلة الأعيان والتمتع بالخزائن العلمية وتقييد الشوارد من كل فن وكان من آدب الناس وأعرفهم بالفنون المتكاثرة وأغزرهم إحاطة بالآثار وأجودهم مساجلة وأقدرهم على الكتابة والتحرير وله من التصانيف شرحه على متن المنتهى في فقه الحنابلة حرره تحريرا أنيقا وله التاريخ الذي صنفه وسماه شذرات الذهب في أخبرا من ذهب وله غير ذلك من رسائل وتحريرات وكان أخذ عن الأعلام الأشياخ بدمشق من أجلهم الأستاذ الشيخ أيوب والشيخ عبد الباقي الحنبلي والشيخ محمد بن بدر الدين البلباني الصالحي وأجازوه ثم رحل إلى القاهرة وأقام بها مدة طويلة للأخذ عن علمائها وأخذ بها عن الشيخ سلطان المزاحي والنور الشبراملسى والشمس البابلي والشهاب القليوبي وغيرهم ثم رجع إلى دمشق ولزم الإفادة والتدريس وانتفع به كثير من أهل العصر وكان لا يمل ولا يفتر عن المذاكرة والاشتغال وكتب الكثير بخطه وكان خطه حسنا بين الضبط حلو الأسلوب وكان مع كثرة امتزاجه بالأدب وأربابه مائل الطبع إلى نظم الشعر إلا أنه لم يتفق له نظم شيء فيما علمته منه ثم أخبرني بعض الإخوان أنه ذكر له أنه رأى في المنام كأنه ينشد هذين البيتين قال وأظن أنهما له وهما
كنت في لجة المعاصي غريقا ... لم تصلني يد تروم خلاصي
أنقذتني يد العناية منها ... بعد ظني أن لات حين مناص
ثم وقفت له على أبيات بناها على لغز في طريق وهي
ما اسم رباعي الحروف تخاله ... لمناط أمر المنزلين سبيلا
وتراه متضحا جليا ظاهرا ... ولطالما حاولت فيه دليلا
وله صفات تباين وتناقض ... فيرى قصيرا تارة وطويلا
ومقوما ومعوجا ومسهلا ... ومصعدا ومحزنا وسهولا
والخير والشر القبيح كلاهما ... لا تلق عنه فيهما تحويلا
سعدت به أهل التصوف إذ به امتاز ... وا فلا يبغوا به تبديلا
تصحيفه وصف لطيف إن به ... جملت أوصافا تنال قبولا
وإذا تصحف بعد حذف الريع من ... ه تجده حرفا فابغه تأويلا
أو ظرفا أو فعلا لشخص قد غدا ... في وجهه باب لرجا مقفولا
وبقلبه وزيادة في قلبه ... لبيان قدر النقص صار كفيلا
وبحذف ثالثه وقلب حروفه ... كم راقت الحسنا به تجميلا
فأبن معماه بقيت معظما ... تزداد بين أولى الحجى تكميلا(2/31)
وكنت في عنفوان عمري تلمذت له وأخذت عنه وكنت أرى لقيته فائدة اكتسبها وجملة فخر لا أتعداها فلزمته حتى قرأت عليه الصرف والحساب وكان يتحفني بفوائد جليلة ويلقيها علي وحباني الدهر مدة بمجالسته فلم يزل يتردد إلي تردد الآسى إلى المريض حتى قدر الله تعالى لي الرحلة عن وطني إلى ديار الروم وطالت مدة غيبتي وأنا أشوق إليه من كل شيق حتى ورد علي خبر موته وأنا بها فتجددت لوعتي أسفا على ماضي عهوده وحزنا على فقد فضائله وآدابه وكان قد حج فمات بمكة وكانت وفاته سادس عشر ذي الحجة سنة تسع وثمانين وألف ودفن بالمعلاة وكان عمره ثماني وخمسين سنة فإني قرأت بخط بعض الأصحاب أن ولادته كانت نهار الأربعاء ثامن رجب سنة اثنتين وثلاثين وألف عبد الحي بن عبد الباقي بن محمد محب الدين بن أبي بكر تقي الدين بن داود المحبي الحنفي الدمشقي ابن عم أبي الفاضل الكامل كان من لطف الطبع وسلامة الناحية على جانب عظيم وكان مقبول العشرة حسن الخلق والخلق سخيا متودد نشأ في دولة لأبيه الباهرة وكان أبوه ذا ثروة عظيمة فإنه حصل أموالا وافرة وتملك أملاكا جليلة ورزق ولدين عبد الحي هذا ومحمدا وسيأتي ذكره وهو أخو جدي لأبيه وأم عبد الحي أخته لأمه وهي بنت الشيخ الإمام عبد الصمد بن إبراهيم بن عبد الصمد العكاري المتوفى سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وجده عبد الصمد مفتي الحنفية بدمشق ورئيس علمائها كان وكان اسمها بديعة الزمان وكانت من العلم والمعرفة ونظم الشعر في محل سام اشتغلت الكثير على جدي القاضي محب الدين وأخذت عنه الفقه والعربية وقرأ عليها ابنها عبد الحي هذا وأخوه ثم لزم عبد الحي الاشتغال فقرأ على علماء عصره منهم العماد المفتي والشيخ عبد اللطيف الجالقي ونبل ثم مات أبوه في سنة سبع وعشرين وألف فيما أحسب ونفدت أمواله في مدة يسيرة فضمه وأخاه جدي محب الله إليه وأمدهما بإمداداته الدارة وميزهما على أقرانهما فبلغا رفعة وشأنا عظيما واستبد عبد الحي بتولية نيابات المحاكم بدمشق فولى الميدان والعونية ودرس بمدرسة دار الحديث الأشرفية بدمشق ثم ورد إلى دمشق قاض للحاج فاتحد به وألفه وفوض إليه أمر نيابته في الطريق فصحبه فمات في الطريق بمنزلة عسفان وكان ذلك في سنة ثلاث وسبعين وألف عبد الحي بن فيض الله بن أحمد المعروف بابن القاف القسطنطيني المولد والمنشأ المتخلص بفائضي شاعر الروم وظريفها كان فريد دهره أدبا وفضلا وكرما ومجدا وبلاغة وبراعة ولطافة وظرافة وديوان شعره مشهور سائر بين الحسن والجودة والجزالة والعذوبة ومعه رواء الطبع وشيمة الظرف وهو من بيت بالروم لهم الصدارة والتقدم وأبوه فيض الله سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ونشأ هو ودأب في التحصيل حتى برع وسما قدره من حين شبيبته وكان كبار العلماء والأدباء يميزونه ويأنسون به وكان بينه وبين نفعي الشاعر المشهور وقائع وحروب كثيرة وهجاه نفعي بأهاج مفرطة في المذمة مذكورة في كتابه سهام القضاء وقد درس بمدارس متعددة وولى قضاء سلانيك في سنة ست وعشرين وألف ووافق تاريخ توليته له نفسه قضاء عبد الحي وعزل عنها فأقام معزولا إلى أن مات ولم ينل غيرها وكانت وفاته في حدود سنة اثنتين وثلاثين وألف بقسطنطينية(2/32)
عبد الحي بن محمود الحلبي الأصل الحمصي المولد الدمشقي الدار الحنفي الصوفي كان من أجلاء الفضلاء طويل الباع في المعارف وانتفع به خلق بالقراءة عليه ذكره النجم الغزي وقال في ترجمته كان في مبدأ أمره من فقراء الشيخ أبي الوفاء بن الشيخ علوان وكان كثيرا ما يخرج من حمص إلى حماة لزيارته فخطر له خاطر في طلب العلم فاستشار أباه فقال له أبوه اذهب إلى شيخك سيدي أبي الوفاء وانظر إلى ما يشير به عليك وأي مدينة يأمرك بالسفر إليها وطلب العلم بها فسافر إلى الشيخ وقص له قصته وما قال له أبوه فقال له الشيخ أبو الوفاء اذهب موقف حماة فهناك مجذوب قف أمامه وقل له إن وفاء بن علون يقرئك السلام ولا تزد على ذلك وانظر ماذا يجيبك به قال فمضيت إليه ووقفت أمامه فلما أحس بي رفع إلي رأسه فقلت له إن الشيخ وفاء ابن الشيخ علوان يقرئك السلام فقال حياه الله عليك وعليه السلام ثم انتصب قائما وصفق بيديه ونادى بأعلى صوته حيا الله بلاد الشام فيها الخوخ والرمان فيها زقزق العصفور فيها شيخ بلاطرطور وكرر ذلك مرتين أو ثلاثا قال فرجعت وأخبرت الشيخ فقال لي يا عبد الحي اذهب إلى دمشق يحصل لك العلم والدنيا وكان الأمر كما قال فقبل إشارة شيخه وسافر إلى دمشق وقرأ بها على العلامة العلا بن عماد الدين والشهاب أحمد الطيبي ثم لزم أبا الفداء إسماعيل النابلسي ورفيقه العماد الحنفي حتى برع ودرس بالعربية والتركية وكان يعرف اللغة التركية معرفة متقنة وكان يحب الصالحين ويتردد إليهم وسافر إلى الروم وكان ممن أخذ عنه المولى يحيى ابن زكرياء ولما ولى قضاء الشام أحله واتفق له أنه كان مدرسا بالمدرسة الظاهرية فأخذ توليتها القاضي محمد بن الكيال وكان بالروم انتمى إلى المولى يحيى المذكور وعاد في خدمته إلى دمشق فوقع بينه وبين صاحب الترجمة بسبب التولية وتشاتما ثم ترافعا إلى القاضي وكل منهما يعتمد ماله عليه من النظر فلم ينصف عبد الحي وأشار عليهما بالصلح فلما قام من المجلس دخل على شيخنا القاضي محب الدين فاحتشم له وغضب من أجله ثم التمس شيخنا الشهاب العيثاوي وبقية أهل العلم وتشاوروا في ذلك فاقتضى الرأي أن يجتمعوا في اليوم الثاني ويذهبوا إلى القاضي ويطلبوا منه الخروج من حق ابن الكيال بالتعزير فلما كان اليوم الثاني اجتمعنا فلما حضر الشيخ عبد الحي تشكر من الحاضرين وقص علينا رؤيا أنه رأى الشيخ عبد القادر ابن حبيب الصفدي في المنام وهو في بستان عظيم قال فدخلت عليه فشكوت إليه فقال لي يا عبد الحي أما قرأت تائيتي فقلت نعم فقال أما قرأت قولي فيها
إن لم تجد منصفا للحق كله إلى ... مولى البرايا وخلاق السموات
قال فاستيقظت وخاطري متبلج واستخرت الله على الانتصار فجزاكم الله تعالى عنا خيرا وشكر سعيكم ثم صرف القوم قال وكانت وفاته يوم الأحد سادس شهر رمضان سنة عشر بعد الألف ودفن بمقبرة الفراديس ورأيت بخط محمد المرزناتي الصالحي أن وفاته كانت ليلة الخميس بين الأذانين بعد أن تسحر ثالث عشر شهر رمضان من السنة المذكورة عبد الحي بن يوسف الكردي نزيل دمشق أحد أعيان العلماء كان له باع طائل في المعقولات اتصل أولا بخدمة أويس باشا ولما ولى مصر كان معه وجعله قاضي الحضرة وحصل بها مالا كثيرا ثم رجع إلى دمشق فلزم بيته لا يخرج لجمعة ولا جماعة إلا نادرا وكان في الأصل شافعيا ثم صار حنفيا وولى تدريس المدرسة المعينية وكان له مرتب في جوالي بيت المال وكان يتردد إلى القضاة والولاة وصحب أحمد باشا الحافظ لما كان محافظ الديار الشامية وعلت كلمته عنده ولم يعهد منه ضرر لأحد من الناس ولما مات الحسن البوريني وجه إليه قاضي دمشق عنه المدرسة الشامية البرانية فبقيت في يده أشهرا ثم وجهت من طرف السلطنة إلى الشهاب العيثاوي وبقي عبد الحي على عزلته وانزوائه إلى أن توفى وكانت وفاته في جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وألف(2/33)
عبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد الرحمن العلم ابن إبراهيم بن عمر بن عبد الله وطب بن محمد المنضر بن عبد الله بن محمد بن الشيخ عبد الله باعلوى المعروف كسلفه بالعلم أوحد الزمان وباقعة الدهر إمام العارفين وقدوة الصوفية ولد بمدينة قسم ونشأ بها وحفظ القرآن واشتغل بالعلوم والمعارف وأكثر الأخذ عن علماء عصره وصحب أكابر العارفين وانتفع وأخذ ببلده عن الإمام العارف الأديب حسن بن إبراهيم با شعيب وعن أولاد الشيخ أبي بكر بن سالم ودخل مدينة تريم وأخذ عن الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس وولده تاج العارفين علي زين العابدين وحفيد عبد الرحمن السقاف بن محمد والقاضي عبد الرحمن بن شهاب الدين وأولاده المشهورين ورحل إلى الواديين المشهورين وادي دوعن ووادي عمد وأخذ بهما عن أجلاء أكابر منهم الشيخ العارف أحمد بن عبد القادر الشهير بباعشن وجماعة من العموديين ثم رحل إلى الحرمين وأخذ عن السيد عمر بن عبد الرحيم والشيخ أحمد بن علان والشيخ عبد الرحمن الخياري والصفي القشاشي والشيخ أحمد الشناوي وغيرهم وتفنن في فنون كثيرة لكن غلب عليه علم التصوف والحقائق وازدهت به بلده واتفقوا على تقديمه وإمامته وكان أول أمر يعلم القرآن ولما رحل قام أخوه مقامه ولما عاد نصب نفسه لتدريس العلوم وكان له غوص على دقائق السلوك وله في لبس خرقة التصوف طرق متبوعة وأجيز بالإرشاد والإلباس والتربية وبلغ الغاية القصوى وعد من الفحول ووصل بصحبته كثيرون إلى المراتب العلية فظهرت لهم منه آيات عالية قال الشلى وصحبته مدة مديدة وحضرت له مجالس وكان يحنو علي حنو الوالد وأتحفني بفوائد كثيرة وله في التصوف رسائل مفيدة وأشياء لطيفة وكان له حسن خلق وسمت كثير الوقار لم تسمع منه كلمة مجون متواضعا متقشفا محبوبا عند الناس معتقدا عندهم مقبول القول لديهم زاهد فيما بأيديهم مغتنما لوقته مشتغلا بنفسه وكانت وفاته في سنة سبع وخمسين وألف بقرية قسم ودفن بتربتها المشهورة بالمصف وقبره مشهور يزار عبد الرحمن بن إبراهيم الكردي الصهري الشافعي نزيل ديار بكر العلامة المحقق أخذ عن ملا لبى الجزري الكردي وبه تخرج ومن مؤلفاته رسالة في سورة يس وحاشية على حاشية عصام على الجزء الأخير من القرآن وله ما ينيف على أربعين رسالة وله رباعي فارسئ ذكر فيه ابتداء تحصيله للعلوم وهو قوله شد هزار وبيست ينج ازهجرت خير الأنام كشت از ان بس بنده مراستاج صرفى را غلام شهر ثانى از شهور ار ول بعد از هزار دروى آمد شكر لله صدر تدر يسم مقام وكانت تأتيه الناس من العجم وما وراء النهر للأخذ عنه وكانت وفاته في سنة أربع أو خمس وستين وألف بمدينة ديار بكر والصهري بضم الصاد وسكون الهاء نسبة إلى صهران عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بابن المزور الدمشقي الحنفي نزيل قسطنطينيه وخاطب جامع السلطان أحمد بها وكان إمامه أيضا وكان من خيار العلماء مشاركا في علوم شتى وكان صالحا حسن السمت له تواضع ومسكنة وكان عالما بالقراآت وانتفع به خلق كثير من أهالي الروم وذكره شيخنا الخياري في رحلته وأثنى عليه قال وحج مرارا وجاور بالمدينة أشهرا واتفق له أمر لم يتفق لغيره من أهل الأقطار وذلك أنه لما وصل المدينة الشريفة كان شيخ الحرم إذ ذاك بها من قبل السلطان المرحوم عبد الكريم أغا وكان تلميذا لعبد الرحمن فطلب له من خطباء ذلك المقام المباشرة في نوبته نيابة عنه طلبا للتشرف فوافقه على ذلك فباشر خطبة بذلك المنبر الشريف وكان كثير الافتخار بذلك على سائر خطباء الأمصار ووجهه أنه لم يعهد إليه مباشرة الخطبة بالمنبر الشريف لمن ليس له نوبة من خطبائه وكان وهو بالروم اخترع أداء مولدا بين وضع الترك والعرب وقد عمر كثيرا حتى قارب المائة وكانت وفاته في سنة ست وثمانين وألف بقسطنطينية(2/34)
عبد الرحمن بن أبي الفضل بن بركات الموصلي الميداني الشافعي كان شيخ زاوية الموصليين بمحلة ميدان الحصى ولما استخلفه والده في حياته ذكر أنهم كان لهم حلقة يوم الجمعة في الجامع الأموي قد تركت من زمان قديم فأذن لولده المذكور فعملت لهم حلقة غربي باب السنجق داخل الجامع في حدود الألف وكان عبد الرحمن أسن إخوته وكان صار في المشرب لين العريكة وكانت وفاته أول وقت الظهر يوم الاثنين ثاني شهر ربيع الثاني سنة سبع عشرة بعد الألف ودفن لصيق والده في تربتهم الملاصقة لمسجد النارنج ومسجد المصلى وجلس مكانه بعده أخوه الشيخ بدر الدين في يوم الثلاثاء سادس عشر شهر ربيه الثاني بإجازة عمه الشيخ الصالح تقي الدين السيد عبد الرحمن بن أحمد البيض بن عبد الرحمن بن حسين بن علي بن محمد بن أحمد بن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم الملقب وجيه السيد الهمام العلي القدر والهمة أحد أشراف بني علوي المشهورين ولد ببندرا الشحر وحفظ القرآن واشتغل بتحصيل العلم حتى حصل طرفا صالحا منه ثم رحل إلى تريم وأخذ بها عن جماعة من العارفين ثم قصد عينات لزيارة الشيخ الكبير أبي بكر بن سالم فلازمه ملازمة تامة حتى تخرج به وألبسه خرقة التصوف وحكمه واعتنى بعلم التصوف والحديث والأدب وله نظم حسن ومدح شيخه الشيخ أبا بكر المذكور وغيره بقصائد كثيرة ونظمه متداول وكان ظاهر الفضل باهر العقل مع الذكاء العجيب والفهم الغريب والمكارم العلية والأخلاق اللطيفة واقتنى كتبا كثيرة وكانت وفاته لست خلون من جمادى الأولى سنة إحدى وألف ودفن بمقبرة بندر الشحر وقبره معروف يزار السيد عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الإدريسي المكناسي الحسني المغربي نزيل مكة السيد العارف بالله تعالى قطب زمانه كان من كبار الأولياء له الكشف الصريح والأحوال الباهرة وهو الذي يقول فيه الأديب محمد بن الدرا الدمشقي في أيام مجاورته بمكة المشرفة
في ظل حمى السيد عبد الرحمنخيم لتفوز بالرضى والغفران
واحفظ نجواك عنده والإعلان ... كي تنشق عرف عرفات الإحسان(2/35)
ولد بمكناسة الزيتون من أرض المغرب الأقصى في سنة ثلاث وعشرين وألف ورحل في ابتدائه من المغرب فدخل مصر والشام وبلاد الروم واجتمع بالسلطان مراد ووقع له كرامات خارقة وحج سنة ثلاث وأربعين وألف وجاور بمكة ثم رحل إلى اليمن لزيارة من بها من الأولياء فاجتمع بكثير من أكابر المشايخ منهم السيد عبد الرحمن ابن عقيل صاحب المخا ثم رجع إلى مكة وتدبرها وصار مرجعا لأهلها والواردين إليها وكان في الكرم غاية لا تدرك وكان يعمل الولائم العظيمة للخاص والعام وكانت النذور تأتيه من المغرب والهند والشام ومصر ويصرفها للفقراء وكان مقبول الكلمة عند جميع الناس وإذا جاء المدين المفلس ليشفع له عند دائنه فبمجرد أنه يكلمه في ذلك يمتثل أمره بطيب نفس وربما أبرأه من دينه وإذا جار أحد من السادة على عبد أو أمة ودخل عليه اشتراه منه بأغلى ثمن وأعتقه حتى أعتق أرقاء كثيرا وقف عليهم دورا وكان حسن العشرة إذا اجتمع به أحد لم يرد مفارقته وكان كثير الشفاعات وكان يحب العلماء ويكرمهم ويحسن للفقراء ويتفقدهم بالنفقة والكسوة العظيمة وكان يدعو إلى الله تعالى بحاله ومقاله وكان لا يلبس إلا ثوبا واحدا صيفا وشتاء وقلنسوة على رأسه ويلبس سروالا وكان يحث من يجتمع به على ملازمة ما يناسبه من صنوف الخير من تلاوة قرآن وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكثرة استغفار وأوراد حسان ويحض من رأى فيه علامة خير على اعتقاد الصوفية والتصديق بكلامهم وعلومهم وأحوالهم وخصوصا الشيخ الأكبر فإنه كان يعظمه كثيرا ويأمر بتعظيمه حكى لي الأخ الفاضل الكامل الشيخ مصطفى بن فتح الله قال دخلت عليه في بيته بمكة مع الشيخ العارف حسين بن محمد بافضل وكنت لم أدخل عليه قبل ذلك وكان لا يخطر ببالي ذكر الصوفية ولا أحوالهم فحين اجتماعي به قال لي ما تقول في الصوفية فسكت لعدم معرفتي بشيء من ذلك فذكر الإمام الغزالي وما وقع للقاضي عياض بسب إنكاره عليه وحرقه كتاب الاحياء في قصة طويلة عجيبة ثم ذكر الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي وأحواله ومؤلفاته وأطال في وصفه وأنه الختم الإلهي وأمرني أمرا جازما باعتقاد الصوفية ومطالعة كتبهم والتسليم لهم والتصديق بعلومهم وأحوالهم قال فكأنما طبع الله كلامه في قلبي فمن ذلك الوقت ولله الحمد ملئت اعتقادا ومحبة فيهم وإن لم أكن على سننهم وأرجو من الله سبحانه أن يحشرني معهم وفي حزبهم ولقننى رضي الله عنه الذكر لا إله إلا الله محمد رسول الله وألبسني الخرقة الشريفة وكان يدعو لي كثيرا وكان له الكرامات العظيمة منها ما حكاه السيد الجليل عمر بن سالم شيخان باعلوى أنه سافر معه إلى اليمن وكان معهما الشيخ الفاضل عبد الله بن محمد الطاهر العباسي المكي فهاج عليهم البحر وكادوا يشرفون على الهلاك فقالوا له يا سيدي انظر إلى ما نحن فيه من الحال ادع الله لنا أن يفرج عنا فقال للبحر اسكن بإذن الله فسكن من حينه ووقف الريح فقال للريس سر على بركة الله تعالى فقال يا سيدي كيف أسافر بلا ريح فقال له سر يأتي الله بالريح فسار فأتهم ريح طيبة وصلوا فيها إلى مقصودهم وزال عنهم ما كانوا يجدونه من الخوف ببركته ومنها أيضا ما أخبر به السيد المذكور أنه لما ذهب نفع الله تعالى به إلى زيارة سيدي الشيخ أحمد بن علوان بمدينة يغرس أتى الشيخ خادمه في المنام قبل وصول السيد بليلة وقال له في غد يصبح عليك رجل صفته كذا وكذا فافعل له ضيافة عظيمة وبالغ في تعظيمه وأكرم نزله ومثواه فإنه من أكابر أهل الله فامتثل الخادم أمر الشيخ وعل ما أمره به وانتظره في الوقت الذي ذكره له فلم يجده فذهب خارج البلد لعله يجده فلم ير له أثرا ولا خبرا فرجع وقد أيس من وصوله ودخل مقام الشيخ فوجده فيه بصفته وكانت الأبواب مصكوكة ففتحت له ومفاتيحها بيد الخادم فعرفه وقبل يديه وذكر له ما أمره به الشيخ وذهب به إلى مكان الضيافة وبالغ في إكرامه ومنها ما حكاه السيد المذكور أنه كان ببندر المخا وكان رجلان من أصحابه متوجهين إلى الهند فأتيا إليه يودعانه ويطلبان منه الدعاء فقال لأحدهما يحصل لك مشقة كبيرة في البحر ولكن عاقبتها سليمة فكان كما قال وقال للآخر إذا رأيتني في الهند فلا تكلمني فلما وصل إلى الهند توجه إلى دهلى جهان آباد سرير السلطان فجلس يوما على باب داره فإذا بالسيد مقبل وعليه سلهامة سوداء فعرفه وقال(2/36)
لبعض أصحابه هذا السيد عبد الرحمن وركض ليقبل يديه فشزره بعينيه فتذكر كلامه فرجع وأغشى عليه وحصل له حال عظيم فلما أفاق لم يره نفع الله به وبالجملة فهو خاتمة الأولياء في عصره وقد تقدم ذكر ولادته وأما وفاته فقد كانت نهار الأربعاء سابع عشر ذي القعدة سنة خمس وثمانين وألف ودفن بزاوية السيد سالم شيخان اشتراها من أولاده وأوصى أن فن فيها رحمه الله تعالىبعض أصحابه هذا السيد عبد الرحمن وركض ليقبل يديه فشزره بعينيه فتذكر كلامه فرجع وأغشى عليه وحصل له حال عظيم فلما أفاق لم يره نفع الله به وبالجملة فهو خاتمة الأولياء في عصره وقد تقدم ذكر ولادته وأما وفاته فقد كانت نهار الأربعاء سابع عشر ذي القعدة سنة خمس وثمانين وألف ودفن بزاوية السيد سالم شيخان اشتراها من أولاده وأوصى أن فن فيها رحمه الله تعالى عبد الرحمن بن إسماعيل الخلي اليمني الأنصاري الشافعي القحطاني وجيه الدين وأحد القضاة العدل باليمن الميمون ولد ببلده الحديدة في سنة ثمان عشرة بعد الألف وبها نشأ وأخذ عن أكابر الشيوخ باليمن وأجيز بالإفتاء والتدريس وهو ابن ثماني عشرة سنة وولى القضاء الأكبر بلده وسار فيه أحسن سيرة ونفذت كلمته وأحكامه حتى أن أئمة الدين لا تنقض حكمه إذا قضى في مسئلة ولو كانت مخالفة لما هم عليه وبالغ الناس في الثناء عليه بالتقوى والدين وزيادة العلم والتمكين حتى قال بعضهم ليس في تهامة اليمن الآن مثله وله من شعر العلماء ما يقبل فمن ذلك ما كتبه إلى ابن عمه الفاضل أحمد الخلى في صدر رسالة
سلام على الولد الفاضل ... سليل الكرام الولي الكامل
ومن حبه صار في مهجتي ... مقيما بها ليس بالراحل
على العلم الفرد دعا لي الذرى ... ومن مجده ليس بالزائل
هو العلم الماجد المرتضى ... حليف التقى ذو المقام العلى
على أحمد خير مولى لقد ... تسامى بفضل وفخر جلى
فتى أحمد خير أقرانه ... هو ابن محمد أبوه علي
فتى عمر الخير خليهم ... ومن فضله قط لم يجهل
إمام تسلسل من سادة ... حووا العلم في الزمن الأول
وأنصار دين اله الورى ... ومن يجهل القدر فليسأل
وشهرتهم تغنى عن وصفهم ... وذا غير خاف على الفاضل
وذا أحمد نجلهم قد غدا ... كشمس الضحى فاعتمد مقولي
وبعد وصلني الكتاب الذي ... له يشرح الصدر للمجتلى
قرأت له بعد تقبيله ... ووضع على الرأس والكاهل
تضمن لفظا عزيزا غدا ... كدر بجيد لذات الحلى
وحسنا لها رتبة في الملا ... بقد قويم ووجه جلى
هو السؤل يا سيدي والمنى ... أدام صفاه إلى الموئل
وإعرابه عن صفا حالكم ... به حصل القصد للآمل
ولا زلتم في الصفا والوفا ... بحق رسول الإله الولى
وشوقي لكم قد غدا زائدا ... ووجدي بكم سيدي مذهلي
سألت إلهي اللقا عاجلا ... بكم قبل سيري للمنزل
بحق الرسول النبي المجتبى ... محمد خير الورى الأفضل
وبالآل والصحب أهل التقى ... نجوم الهدى السادة الكمل
فراجعه بقوله
أما آن للموعد الماطل ... يجود بوصل على السائل
جرى ما كفى بل كفى ما جرى ... من المدمع الفائض السائل
بروحي من علمتني الهوى ... محاسن وجه له كامل
وقد كنت من قبله فارغا ... فأصبحت في شغل شاغل
إلى الله أشكو غرامي به ... ووجدي الذي ليس بالزائل
وتقريح جفن طما ماؤه ... فأغنى عن العارض الهاطل
وشرخ الشباب الذي لم يزل ... يمر ويمضي بلا طائل(2/37)
وطول اشتغالي بما لم يفد ... وكثرة ممشاي في الباطل
فيا نفس لا تطلبي عاجلا ... يزول قريبا عن الآجل
وخل الدنا وخيالاتها ... فليست تخيل على عاقل
أليس قصارى مقيم بها ... رحيل فيما الشغل بالراحل
فهيئ لقد طال نومك في الب ... طالة من حظك الخامل
فإن البطالة قتالة ... وما نام فيها سوى جاهل
فقومي بجد وجدي السرى ... فمن جد يلحق بالواصل
ولا تتراخي إلى قابل ... فكم قد مضى لك من قابل
عسى نفحة من جناب الوج ... يه خلينا العالم العامل
تفك عن العبد أغلاله ... وتكشف عن قلبه الغافل
وتغسل أدرانه قبل أن ... يموت ويعرض للغاسل
فيا غيث بريعم الورى ... وبحر علوم بلا ساحل
أتاني كتابك من بعد أن ... تمادى المطال على الآمل
وكدت أقطع حبل الرجا ... وأرضى وأقنع بالحاصل
فلما فضضت ختام الكتاب ... سكرت بريحانه الذابل
ونزهت طرفي في حسنه ... وأدهشت من سحره البابلي
وأيقنت بالفتح من ساعتي ... وقلت قد انفتح الباب لي
فشكرا لما خولتني يداك ... فما ذاك منك ابتدا نائل
كم منك لاحت عقود الثنا ... قديما على جيدي العاطل
وألبستني من فنون المديح ... برودا بها الزهو قد طاب لي
وحملتني مننا جمة ... وحقك قد أثقلت كاهلي
فلا زلت يا نجم بادي السنا ... تلوح لنا لست بالآفل
وللمترجم غير ما أوردته له من الآثار وقد اكتفيت عنها بهذه القطعة المثبتة لشرف القائل وكانت وفاته في عاشر المحرم سنة خمس وتسعين وألف والخلى بفتح الخاء المعجمة واللام المشددة نسبة إلى الخل المعروف نسب إلى لكرامة صدرت من بعض أسلافه بقلب الماء خلا وكثير من الناس يكسر الخاء ويهم في ذلك وما ذكرته في سبب النسبة هو المتلقي عنهم فلا عدول عنه إلى أن تكون النسبة إلى الخل موضع بين مكة والمدينة قرب مرحح ولا إلى الخل منزل في طريق واسط إلى مكة قرب لينة ولا إلى خلة بزيادة الهاء قرية باليمن قرب عدن وبنو الخلى قوم صالحون يتوارثون العلم وموطنهم من اليمن بيت مرجل فيه جماعة منهم ومسكن صاحب الترجمة الحديدة وهي بساحل البحر بالقرب من بيت الفقيه أحمد بن عجيل عبد الرحمن بن أويس الكردي الأصل الشافعي المذهب نزيل دمشق الفاضل الورع الخير قدم إلى دمشق وصار معلما لأولاد الوزير حسن باشا بن سنان باشا واستوطن دمشق وسكن بالمدرسة الناصرية ولما مات الحسن البوريني كان مدرسا بها فوجهت إليه وبقيت في يده مدة ثم أخذت عنه وبعد ذلك شطرت بينه وبين شهاب الدين العمادي المقدم ذكره وحج صاحب الترجمة وسافر إلى مصر مرارا وحفظ في آخر عمره القرآن ولازم على تلاوته واشتهر بالعلم والصلاح ولم يزل بدمشق إلى أن مات في سنة ثلاث وستين وألف ودفن بمقبرة الفراديس(2/38)
عبد الرحمن بن حسام الدين المعروف بحسام زاده الرومي مفتي الدولة العثمانية وواحد الدهر الذي باهت بفضله الأيام وتاهت بمعارفه الأزمان وكان عالما متبحرا كثير الإحاطة بمواد التفسير والعربية جم الفائدة ممدحا كبير الشأن وكل من رأيته من الفضلاء يغلو في تقديمه وحفظ محاسنه ويقول أنه لم تخرج الروم مثله في الجمع بين أفانين المعلومات العجيبة والألفاظ المزخرفة وبالجملة فهو أشهر المتأخرين من علماء الروم في ديار العرب وأكبرهم شأنا وسب شهرته الزائدة طول تردده إلى هذه البلاد وكثرة مدح شعرائها له والمغالاة في وصفه وشيوع خبره بالكرم والعطايا الجزيلة وكان حسن الخط إلى الغاية والناس يضربون بجودة خطه المثل لمتانته وحسن أسلوبه وكان حسن النادرة كثير اللطائف ومن لطائفه أنه سئل عن الحديث الصدقة تدفع البلاء ما المراد بالبلاء فأجاب بما قيل فيه ثم قال ويحتمل أن يكون البلاء هو السائل نفسه فالصدقة تدفعه بمعنى تدفع ثقل وقد نشأ على التحصيل حتى فاق ولازم من المولى محمد بن سعد الدين ثم درس بمدارس قسطنطينية وسافر مع أبيه من البحر على طريق مصر إلى القدس في سنة ثمان عشرة وألف وأخذ بها الحديث عن الشيخ محمد بن أحمد الدجاني وتلقن كلمة التوحيد في ضريح سيدنا داود عليه السلام ثم عزل والده عن القدس وعوض عنها بالمدينة المنورة ثم عاد في خدمة والده إلى وطنه فولى تفتيش الأوقاف وباشره أحسن مباشرة فاشتهر بالعفة حتى نما خبره إلى السلطان مراد واتصل بجانبه وبلغني أن العلة في تقربه إليه إتقانه للرمي بالسهام ومنه تعلمه السلطان المذكور وأتقنه ولم يزل مشمولا بعنايته وهو يترقى في المدارس إلى أن وصل إلى المدرسة السليمانية وولى منها قضاء حلب فقدم إليها وسيرته بها مذكورة مشهورة ولأدبائها فيه مدائح كثيرة وكان الأديب يوسف البديعي الدمشقي نزيل حلب إذ ذاك من خواصه وندماء مجلسه وباسمه ألف كتابيه ذكرى حبيب والصبح المنبى عن حيثية المتنبي وترجمه بترجمة مستقلة وذكر أنه كان بينه وبين النجم الحلفاوي مودة أكيدة ولم يتفق له نظم شيء من الشعر إلا هذين البيتين قالهما في حق النجم المذكور وهما
عليك بنجم الدين فالزمه إنه ... سيهدي إلى جنس العلوم بلا فصل
بنور اسمه السامي هدى كل عارف ... ألا إنه شمس المعارف والفضل
قال ولما أنشدهما قلت بديهة مخاطبا شيخنا الحلفاوي بقولي
كفاك افتخار أيها النجم إن ذا الم ... آثر بدر المجد شمس ضحى العدل
حليف العلى نجل الحسام المهذب ... الذي عزمه ما زال أمضى من النصل
ومن أشرقت شهباؤنا بعلومه ... وزحزح عنها ظلمة الظلم والجهل
حباك بيتي سودد بدرتي ... فخار على أهل المآثر والفضل
ثم نقل من قضاء حلب إلى قضاء الشام وقدمها في منتصف شعبان سنة إحدى وخمسين وألف وله فيها مآثر ما زالت تتداولها الشفاه وتتناقلها الرواه ولما وردها صحبه البديعي المذكور فصيره نائبا بالمحكمة العونية وكان في خدمته أيضا الأديب الفائق المشهور مصطفى بن عثمان المعروف بالبابي وهو القائل فيه من قصيدة مستهلها
هو الشوق حتى يستوي القرب والبعد ... وصدق الوفا حتى كأن القلى ود
يقول من جملتها في مدحه
همام تناجينا مخايل عزمه ... بأن إليه يرجع الحل والعقد
وإن على أعقابه تقصر العلى ... وإن إلى آرائه ينتهى الجد
همت راحتاه للعدا وعفاته ... فمن هذه سم ومن هذه شهد
من القوم قد صانوا حمى حوزة العلى ... طريفا وصانتهم معاليهم التلد
هنالك ألقى رحله البأس والندى ... وألقى عصا التسيار واستوطن المجد
حديقة فضل لا يصوح نبتها ... ونهر عطاء ما لسائله رد
ورقة أخلاق يسير بها الصبا ... وبأس له ترمى فرائسها الأسد
قطفنا جنى جدواه حينا ولم يزل ... علينا له ظل من السير ممتد
وغاب وعندي من أياديه شاهد ... وواعجبا من أين لي بعدها عند(2/39)
وآب فلا ورد البشاشة ناضب ... لديه ولا باب المكارم منسد
فيا أوبة ذابت لها كبد النوى ... لأنت برغم البعد في كبدي برد
وفاء بلا وعد من الدهر حيث لم ... يكن قبل قسطنطينية باللقا وعد
أروض اللقا والله يبقيك أخضرا ... أبن لي هل آس نباتك أم ورد
هنيئا لقسطنطينة الروم قد قضت ... لبانتها واسترجع المنضل الغمد
أرانيه فيه الله والدهر لائذ ... بأعتابه ما الوفد يزحمه الوفد
وهي قصيدة لطيفة المسلك وستأتي تتمة غزلها في ترجمة البابي إن شاء الله تعالى وكانت أيام ابن الحسام بالشأم شامة في وجه الدهر هي مواسم الأدباء وأعياد الفضلاء وما اتفق في زمنه من نفاق سوق الأدب ورواق سعر الشعر لم يتفق في زمن غيره من القضاة وكان أدباء ذلك الحين كالشاهيني والأمير المنجكي لا ينفكون عن مجلسه إلا نادرا ويقع بينهم محاورات ومطارحات ولهم فيه مدائح لو أفردت بالتدوين لجاءت في مجلدة فمن ذلك ما قاله الشاهيني فيه
يا سيدا فوق ما قالوا وما كتبوا ... وفوق ما وصفوا دهرا وما نسبوا
ويا وحيدا رأى الشام الشريف به ... أضعاف ما قد رأت من عدله حلب
ويا مجيدا وصفنا بعض سودده ... وفاتنا منه مقدار الذي يجب
ويا كريما رأينا من بدائعه ... ما قصرت دونه الأخبار والكتب
سعيت نحوك شوقا طالبا أدبا ... يا من لديه يصاب العلم والأدب
فصدني عنك حظي والحجاب به ... وليس نور ذكاء تمنع الحجب
فعاد عنك بطرف مطرق رمد ... وقد تذكر بيتا صوغه عجب
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إن السماء ترجى حين تحتجب
واعلم بأني محب لا لشائبة ... وليس من ريبة تخشى فتجتنب
وإنني بك راض في معاملتي ... لأنت يا سيدي قاض ومحتسب
واسلم فإن داء بت أرسله ... إليك حقا نظير الغيث ينسكب
وللأمير المنجكي فيه من جملة مدائح مذكورة في دويانه
آلى الزمان عليه أن يواليكا ... يثنى عليك ولا يأتي بشانيكا
فإن سطا فبأحكام تنفذها ... وإن سخا فبفضل من مساعيكا
ليهن ذا العيد حظ منك حين غدت ... علاه ثم حلاه من أياديكا
مجملا بأياد منك فائقة ... معطرا بغوال من غواليكا
وافى يهنى بك الدنيا ونحن به ... يا بهجة الدين والدنيا نهنيكا
من ذا يضاهيك فيما حزت من شرف ... ومن يدانيك في حكم ويحكيكا
فالشمس مهما ترقت فهي قاصرة ... عن بعض أيسر شيء من مراقيكا
والبدر طود تسامى فهو محتقر ... إذا بديت وهذي من دراريكا
وكل مجد فمن علياك مكتسب ... وكل فخر نراه من حواشيكا
وما حكى السلف الماضي وحدثنا ... من السجايا به إحدى التي فيكا
تعنو لرفعتك الزهاد مذعنة ... ويحسد الفلك الأعلى مغانيكا
يا ابن الحسام الذي للدين نصرته ... أنت المفدى فكل الناس تفديكا
أعيانا كلها يوم نراك به ... وليلة القدر وقت من لياليكا
وله أيضا في يوم نوروز
الناس كلهم شراء عطائه ... والعيد والنور وزمن آلائه
يختال ذا بالحلى من عليائه ... شرفا وذا بالوشى من نعمائه
قرت به عين الغزالة واغتدت ... مكحولة في الإقها بضيائه
ما أنبت الأدواح بعد ذبولها ... إلا سقوط الطل من أنوائه
سلسالها ونسيمها من لطفه ... وعبيرها من بعض طيب ثنائه
مولى أقل هباته الدنيا فقل ... ما شئت في معروفه وسخائه
عدل له ما زال يورق عوده ... حتى استظل الناس في أفيائه(2/40)
غيث أغاث به المهيمن خلقه ... متفضلا وقضى لهم بقضائه
نجل لذي الأفضال من أكفائه ... وحسام دين الله من أسمائه
السعد من خدامه والعز من ... أتباعه والمجد من ندمائه
تسعى المواسم كلها لرحابه ... إذ لا بهاء لها بغير بهائه
وله أيضا فيه هذه القطعة
فضح الشمس بالضياء بهاؤه ... بدر عدل أفق السداد سماؤه
من له المكرمات والجود والفض ... ل صفات تسمو بها أسماؤه
الولي الولي من غادر الده ... ر رياضا تغيثها أنداؤه
استمالت قلوبنا واسترقت ... لذراه رقابنا آلاؤه
لو سها عن ثنا علاه لسان ... لرأى مج حمله أعضاؤه
من يراه ولو بلمحة طرف ... فسعيد صباحه ومساؤه
وأهدى إليه النجكي طرفا وكتب معه هذه الأبيات
يا من إذا وهب الدنيا فيحسبها ... بخلا وحاشا علاه فهو مفضال
أهديك طرفا ومن نعماك كم أخذت ... مثلي ومثل الذي أهديت سؤال
لكن عبدك يخشى أن يقال له ... لا خيل عندك تهديها ولا مال
قبولك المنة العظمى علي ولى ... بها من الدهر إكرام وإجلال
ثم عزل عن قضاء دمشق وأنشده النجم الغزي ارتجالا يوم وصول خبر عزله قوله
عزلك يا ابن الحسام ما تم ... ومن يجى بعدكم فما تم
وسافر إلى الروم وأقام بها مدة معزولا ثم صار قاضي دار السلطنة وكان ذلك في حياة والده وكان والده معزولا عن قضائها فساواه في الرتبة وهذا من أغرب ما وقع بين موالي الروم وقد اتفق له أيضا أنه لما انتقل والده بالوفاة في صفر سنة أربع وخمسين وألف وجه إليه ما بيده من وظيفة وقضاء تأبيدا ثم بعد مدة صار قاضيا بعسكر اناطولى وذلك في سنة تسع وخمسين فقال ابن عم والدي الأديب محمد بن عبد الباقي المحبي القاضي في تاريخ توليته وكان إذ ذاك بقسطنطينية
لما تولى العالم ابن الحسام ... قاضي العساكر أوحد الأعلام
صدر الموالي الحبر والكنز الذي ... كأبي حنيفة ماهد الأحكام
فهو الذي افتخر الزمان بعدله ... وبحكمه بالروم غب الشام
فلذاك عام السعد قال مؤرخا ... بشرى الورى بالعادل ابن حسام
ثم صار قاضيا بولاية الروم في ثاني شهر رمضان سنة اثنتين وستين وألف ولما وقعت فتنة الوزير الأعظم البشير عزل المفتي أبو سعيد بن أسعد فصير ابن الحسام صاحب الترجمة مفتيا مكانه وذلك في رجب سنة خمس وستين ثم عزل في عاشر جمادى الأولى سنة ست وستين وأعطى قضاء القدس وصار مفتيا مكانه المولى مصطفى المعروف بممك زاده نصف ليلة وفي ثاني يوم قام العسكر في الصباح وعزلوه وأرسلوه إلى حلب ومات بها ورحل ابن الحسام من الروم فورد دمشق وأقام بها مدة وبدل عن قضاء القدس بقضاء طرابلس الشام وأرسل إليها نائبا واستقر هو بدمشق وفي أيام استقراره هذا أشار إلى والدي رحمه الله تعالى بجمع ديوان الأمير النجكي فجمع أكثر شعره وعنونه باسم ابن الحسام وهو المتداول الآن في أيدي الناس وكان لصاحب الترجمة ولد اسمه أسعد بقي في الروم وكان من مدرسي إحدى المدارس الثمان فورد عليه خبر موته وهو بدمشق فحزن لموته حزنا عظيما وكان ولده هذا من الفضلاء المشهورين والأدباء المذكورين وحكى لي والدي روح الله تعالى روحه قال بلغني أنه لما مات رثاه الفاضل مصطفى البابي بقصيدة فائية قال وأنشدتها فلم يعلق في فكري منها شيء فبعد إتمامها بأيام رآه البابي في المنام فقال له ما فعل الله بك فأجابه بهذا البيت وهو من بحر القصيدة ورويها
لقد لطف المولى بنا فأراحنا ... وأغلب ظني أنه بك يلطف(2/41)
ثم بعد ذلك عزل المترجم عن قضاء طرابلس وأمر بالتوجه إلى مصر وأعطى قضاء الجيزة فرحل من دمشق إلى مصر وأقام بها مدة حياته معظما مبجلا وكان كبراء مصر وعلماؤها يهرعون إليه ويعظمون حضرته التعظيم البليغ ويقبلون شفاعته وكان يدرس في بيته التفسير فيحضره الفضلاء المشهورون من فضلاء مصر وكان كثير الاعتناء بالكشاف دائم المطالعة فيه ويحفظ أكثر أبحاثه عن ظهر قلب وبالجملة ففضائله وأحواله مما يطرز بها كم المجد وكانت ولادته في سنة ثلاث بعد الألف وتوفى بمصر في أواسط جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وألف عبد الرحمن بن حسن بن شيخ بن حسن بن شيخ بن علي بن شيخ بن علي بن محمد مولى الدويلة الشيخ الجليل الكبير أحد علماء اليمن وكبرائها ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن واشتغل بطلب العلم واجتهد في التصوف وأخذ عن علماء كثيرين وصحب جماعة وواظب على مصاحبة أهل الخير والصلاح ولزم الطريقة الحميدة ورحل إلى اليمن وأخذ بها عن جماعة وأقام في بندر المخا وحصل له به قبول تام وانتشر ذكره واستمر هناك إلى أن توفى وكانت وفاته في سنة سبع عشرة بعد الألف عبد الرحمن بن زين العابدين بن محمد بن أبي الحسن البكري الصديقي سبط آل الحسن القاهري الأستاذ الشهير السامي القد الجم الفضائل كان من كبار العلماء وأرباب الأحوال وهو الأوسط من أولاد الأستاذ الأعظم زين العابدين وهم أحمد وقد تقدم ذكره وعبد الرحمن هذا والأستاذ محمد وسيأتي إن شاء الله تعالى وقد رأيت لعبد الرحمن هذا ترجمة بخط الأخ الفاضل مصطفى بن فتح الله قال فيها هو شيخ المشايخ السادة الجلة العظما ورئيس رؤساء القادة الفخام يم الفضل الذي يفيد ويفيض وجم الفضل الذي لا ينضب ولا يغيض المحقق الذي لا يراع له يراع والمدقق الذي راق فضله وراع المفنن في جميع الفنون والمفتخر به الآباء والبنون قرأ على أخيه أحمد وبه تخرج وبرع وتفوق وأخذ عن العلامة جودة الضرير المالكي علوم العربية وقام بعد أخيه المذكور مقامه في التدريس فنشر للفضل حللا مطرزة الأكمام وماط عن مباسم أزهار العلوم لثام الاختتام وكان ينظم الشعر ومن شعره قوله
بالله أي فتى مثلي بكم فتنا ... يبكى فيبكي حماما في الدجى شبحنا
أنفاسه كلهيب البرق وامضة ... وقلبه برعود الشوق ما سكنا
كأنما جفنه سحب الشتاء إذا ... كانونها بهمير الدمع قد هتنا
قد صار من شغف فيكم ومن أسف ... حليف وجد وأشجان بكم وضنى
وإن ينادى مناد كل ناحية ... من عذب الحب والهجران قلت أنا
والله ما ملت عنكم بعدكم أبدا ... ولا مللت سهادا أحرم الوسنا
وإنني عابد الرحمن منتسب ... إلى صديق نبي أوضح السننا
أبى هو القطب زين العابدين ومن ... في سبل أهل المعالي اقتفى السننا
وكانت وفاته بمصر يوم الخميس خامس شهر رمضان سنة ثلاث وستين وألف من غير مرض ودفن يوم الجمعة بالقرافة الكبرى بتربة أسلافه(2/42)
عبد الرحمن بن شحاذة المعروف باليمنى الشافعي شيخ القراء وإمام المجودين في زمانه وفقيه عصره وشهرته تغنى عن الاطناب في وصفه ولد بمصر وبها نشأ وقرأ بالروايات السبع على والده من أول القرآن إلى قوله تعالى " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد " إلى آخر الآية ثم توفى والده فاستأنف القراءة جمعا للسبعة ثم للعشرة على تلميذ والده الشهاب أحمد بن عبد الحق السنباطي وحضر دروس الشمس الرملي في الفقه مدة ولازم بعده النور الزيادي وبه تخرج وأخذ علوم الأدب عن كثيرين حتى بلغ الغاية في العلوم وانتهت إليه رياسة علم القراآت وكان شيخا مهابا عظيم الهيئة حسن الوجه والحلية جليل المقدار عند عامة الناس وخاصتهم وكان يقرأ في كل سنة كتابا من كتب الفقه المعتبرة وكان النزر الشبراملسى من ملازمي دروسه الفقهية وغيرها وكان لا يفتر عن الثناء عليه في مجالسه وكان هو شديد المحبة للشبراملسى واتفق للشبراملسى أنه حضر بعض معاصريه في شرح التخليص للسعد فبلغه ذلك فقال له لما أتى إلى الدرس بلغني أنك تحضر فلانا وإنك والله أفضل منه وحلف عليه بالطلاق الثلاث أن لا يحضر دروسه فيما بعد فامتثل أمره وكان يتعاطى التجارة وله أموال كثيرة زائدة الوصف وكان كثير البر لطلبة العلم والفقراء وبالجملة فإنه كان من أهل الخير والدين وأكابر أولياء الله تعالى العارفين وممن قرأ عليه بالروايات الشبراملسى المذكور والشيخ عبد السلام بن إبراهيم اللقاني والشيخ عبد الباقي الحنبلي الدمشقي ومحمد البقري وشاهين الارمناوي وغالب قراء جهات الحجاز والشام ومصر أخذوا عنه هذا العلم وانتفعوا به وعم نفعهم ببركته وكانت ولادته في سنة خمس وسبعين وتسعمائة وتوفى فجاءة ليلة الاثنين خامس عشرى شوال سنة خمسين وألف عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن بن الشيخ علي بن أبي بكر بن السقاف الحضرمي مفتي الشافعية بديار حضرموت الشيخ العالم العلم قاضي القضاة ذكره الشلى وأثنى عليه وقال ولد بمدينة تريم في سنة خمس وأربعين وتسعمائة وحفظ القرآن والإرشاد والقطر والملحة وغيرها واشتغل بالتحصيل وأخذ العلوم الشهيرة عن مشايخ كثيرين من أجلهم المحدث محمد بن علي خردو القاضي محمد بن حسن بن الشيخ علي والشيخ حسين بن عبد الله بافضل وارتحل إلى الحرمين وأخذ بهما عن جماعة من المجاورين وبرع في التفسير والحديث والفقه والعربية وأجازه جماعة من مشايخه بالإفتاء والتدريس ولبس الخرقة من مشايخه المذكورين وحكمه غير واحد وأذنوا له في الإلباس والتحكيم وجلس للدروس وأقبل عليه الطلاب وانتفع به خلق كثير وتخرج به جماعة منهم أولاده والشلى الكبير والد المؤرخ وعبد الله بن عمر بن سالم بافضل ومحمد الخطيب القطب ثم ولى القضاء بتريم فسلك أحسن السلوك ولم يشغله القضاء عن التدريس والإفتاء وكان حسن العبارة وله فتاوى مفيدة قال الشلى وهو شيخ مشايخنا الذين عادت علينا بركات أنفاسهم واستضأنا من ضياء نبراسهم وكان محفوظ الأوقات مواظبا على قيام الليل والذكر والتلاوة وجمع من الكتب النفيسة ما لم يجمعه أحد من أهل عصره ووقفها على طلبة العلم الشريف بمدينة تريم وقال الشلى في تاريخه المرتب على السنين ترجمه تلميذه شيخ عبد الله في السلسلة قال وكان ذا سخاء ومروءة وعلم وفتوة ثم قرب انتقاله حصلت له جذبة من جذبات الحق اندهش بها عقله وأخذ عن نفسه فكان يقوم إلى الصلاة بطريق العادة وهو مأخوذ عن نفسه وربما صلى إلى غير القبلة وذلك لما استولى عليه من سلطان الحقيقة فتلاشت عنديته ونودى بفناء الفناء من عالم البقاء ورفعت عنه الجهات لما تحقق بحقيقة الأبصار وأشرق فيه نور حضرة البهاء وشاهد سره المعظم الأعلى حكم سر قوله تعالى " فأينما تولوا فثم وجه الله " وصارت له جميع الجهات مصلى ومكث كذلك أشهرا إلى أن مات قال الشلى وكانت وفاته نهار الاثنين رابع عشر شهر رمضان سنة أربع عشرة وألف بمدينة تريم ودفن بمقبرة زنبل وحضر الصلاة عليه جم غفير وصلى عليه إماما بالناس الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس بوصية منه بقوله السيد عبد الله أولى بي حيا وميتا(2/43)
عبد الرحمن بن عبد الله بن داود بن إبراهيم بن أحمد بن سليمان بن محمد بن عبد الله ابن علي بن سليمان بن محمد بن عبد الله بن دعيش بن عيثان بن محمد الشعبي ثم الخولاني ثم الحرازي ذكره ابن أبي الرجال في تاريخه وقال في حقه العلامة المحدث المجتهد العابد السائح المتأله شيخ الشيوخ وإمام الرسوخ صاحب العبادة والزهادة والسياحة والأمر بالمعروف وكان لا يلحق في علم الكلام إماما في العربية مفسرا للقرآن صنف تفسيرا وكتبه في مصحف جمع فيه صناعات المصاحف وصيره إماما يقتدى به واستقصى على ما في المصحف العثماني وجمع فيه ما لا يوجد بغيره واصطنع الكاغد بيده ليكون طاهرا بالإجماع والحبر وخدمه خدمة فائقة وهو مرجع قد كتب عليه بعض العلماء مصحفا وأمر الإمام بكتابة مصحف أيضا يجمع ما فيه ولم أتيقن تمام ذلك وصار هذا المصحف بيد السيد صفي الدين أحمد بن الإمام القاسم استهداه من ابنة العلامة المذكور فإنها عاشت مدة مواظبة على العبادة وكان صاحب الترجمة يسيح في البلاد ويمضي في مواقف العلماء والهجر ويصحح النسخ ويحشى عليها إذا مر بخزانة كتب في بعض الهجر أقام حتى يمر عليها ويصحح ما فيها من إطلاعه فكل كتاب قد مر عليه فهو إمام غير محتاج إلى أستاذ وكان يلبس الخشن ويحمل معه آلة النجارة ويصلح بها أبواب المساجد ونحوها ولعله يسترزق منها وكان في الحديث إمام جليلا وكان شيخنا الوجيه عبد الرحمن بن محمد يثني عليه إلا أنه زعم أنه حفظ المتون حفظا عظيما ولم يطلع على شروح الحديث وله كتب نافعة من مشهورها رسالة في نظر الأجنبية وتضعيف الرواية عن الفقهاء الشافعية والحنفية بجواز ذلك واستظهر بالأدلة وبأقوال الفريقين وأحسن ما شاء ولا جرم أن تلك الرواية غلط منهم وقد حرر الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم سؤالا إلى شيخ الشافعية محمد بن الخالص بن عنقاء فأجابه بجواب بسيط حاصله ما ذكرناه وان لم أطلع عليه لكنه أفادنيه شيخي شمس الدين وصاحب الترجمة شيخ الإمام القاسم وشيخ العلامة عبد الهادي الحسوسة وكانت وفاته في ثالث عشر شوال سنة ثلاث بعد الألف وقبره بحدبة الروض وهو يلتبس برجلين من الحيمة أحدهما القاضي العلامة عبد الرحمن بن عبد الله الآتي ذكره والعلامة الكبير عبد الرحمن بن محمد شيخ المعقول والمنقول وكان حافظا وإن لم يكن له قوة إدراك في النقد والاستنباط وتعلق بكتب الأشاعرة وحفظ منها كثيرا قرأنا عليه فهو أحد شيوخنا في المنتهى والعضد إلى المقاصد وفي كتاب شرح الكافية لنجم الأئمة إلى التوابع والمغنى إلى اللام والألفية للحافظ العراقي والألفية للسيوطي وكان والده محمد فيما حكاه سيدنا سعد الدين والد القاضي أحمد من صالحي العلماء ومن أهل المودة لعترة رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عليه سيدنا سعد الدين في الفرائض عبد الرحمن بن عبد الله بن عتيق الحضرمي الأصل المكي المولد والمنشأ وزير الشريف حسن بن أبي نمى صاحب مكة تزوج والده بنت الشيخ محمد جار الله بن أمين الظهيري فجاءت منه بصاحب الترجمة وأخيه أبي بكر فخدم الشريف حسن ابن أبي نمى سنة ثلاث بعد الألف وأفهمه النصح في الخدمة وسحره إلى أن تمكن منه غاية التمكن وبقي حاله معه كما قال الشاعر
أمرك مردود إلى أمره ... وأمره ليس له رد(2/44)
فتسلط على جميع المملكة وتصرف فيها كيف شاء وبقي كل من يموت من أهل البلد أو من الحجاج يستأصل ماله بحيث لا يترك لوارثه شيئا فإذا تكلم الوارث أظهر له حجة أن مورثه كان قد اقترض منه في الزمن الفلاني كذا كذا ألف دينار ويقول هذا الذي أخذته دون حقي وبقي لي كذا وكذا وطريق كتابته لهذه الحجة وأمثالها ان كتبة المحكمة تحت أمره وقهره فيأمرهم بكتابة الحجة فيكتبونها وعنده أكثر من مائة مهر للقضاء والنواب السابقين فيمهرها ويأمر عبد الرحمن المحالبي أن يكتب إمضاء القاضي الذي قد مهر الحجة بمهره ويكتب خاله الشيخ علي ابن جار الله وعبد القادر بن محمد بن جار الله شهادتهما ويكتب الشيخ علي أيضا عليها ما نصه تأملت هذه الحجة فوجدتها مسددة وشهد بذلك محمد بن عبد المعطي الظهيري وابن عمه صلاح الدين بن أبي السعادات الظهيري وأحمد بن عبد الله الحنبلي الظهيري وغيرهم ثم أنه يظهر الحجة ويقرؤها بين الناس وجميعهم يعرف أنها زور ولا أصل لها ولا يقدرون أن يتكلموا بكلمة واحدة خوفا من شره وقوة قهره واستولى بهذا الأسلوب على ما أراد كما أراد وإذا شكى إلى الشريف حسن يقول هذه حجة شرعية وشهودها مثل هؤلاء الجماعة الأجلاء فنفرت قلوب الناس من ابن عتيق وضجوا وضجروا وكل من أمكنه السفر سافر وما تأخر إلا العاجز وكان الشريف أبو طالب بن حسن كلما سمع شيئا من هذه الأمور تألم غاية التألم فأول ما استقل بالشرافة أرسل من المبعوث قبل وصوله إلى مكة رسله بمسك ابن عتيق فمسك يوم الجمعة بعد العصر واستمر في الحبس يوم السبت والأحد فلما وصل الشريف أبو طالب إلى مكة وتولى أمر والده الشريف حسن ودفنه استدعى ابن عتيق وسأله عن أحواله فقال قد فعلت جميع ذلك ثم رده إلى الحبس ففي ليلة الاثنين أخذ ابن عتيق جنبية العبد الوصيف المرسم عليه وهو نائم فاستيقظ العبد وخلصها منه فأخبر سيده الشريف أبا طالب بذلك فأعطاه جنبية وقال له خذ هذه وقل له لا تسرق الجنبية بالليل وأسرع بإرسالها إلى جهنم وبئس المصير فأخبره الوصيف بما قاله الشريف فأخذها منه وأدخل منها في بطنه نحو إصبع ثم أخرجها ثم أعادها وأدخل منها ضعف الأول ثم أدخلها جميعها ثم أخرجها وقال وا مالي واستمر ذلك اليوم إلى ظهر يوم الثلاثاء ثاني جمادى الآخرة سنة عشر وألف فمات وكان يتجج ويقول الشرع ما نريده وأبطل في أيامه عدة من المسائل الشرعية كالوصايا والعتق والتدبير وباع أمهات الأولاد بأولادهن ورمى به في درب جدة في حفرة صغيرة بلا غسل ولا صلاة ولا كفن ورمت عليه العامة الحجارة وعملت الفضلاء فيه تواريخ فمنها قول بعضهم
أشقى النفوس الباغيه ... ابن عتيق الطاغيه
نار الجحيم استعوذت ... منه وقالت ماليه
لما أتى تاريخه ... أجب لظى والهاويه
ذكر ذلك عبد الكليم بن محب الدين القطبي في تاريخه الذي ذكر فيه بعض وقائع مكة عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن محمد كريشه بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد الرحمن الشقاف اشتهر جده الأعلى بكريشه أحد العلماء الأجلاء الزاهد العابد الورع ولد بمكة في سنة أربع عشرة وألف ونشأ بها وحفظ القرآن واشتغل على خاله عمر بن عبد الرحيم وتأدب به وصحبه من صغره ولازمه في دروسه واقتدى به في أحواله وكان يحبه ويثني عليه وأجازه بمروياته وأذن له في الإفتاء والتدريس وأراد أن ينزل له عن وظيفة التدريس فأبى وقال أنا رجل مشغول بالتجارة وانتفع به جماعة من أصحابه وكان له نفع عام ونظر دقيق حريصا على سلوك مسالك أهل السنة والجماعة مواظبا على الخير مع أدب باهر ومات وهو في حد الاكتهال وكانت وفاته في سنة أربع وخمسين وألف وعمره يومئذ أربعون سنة ودفن بالمعلاة بمقبرة بني علوي وقبره معروف يزار(2/45)
عبد الرحمن بن عبد الله بن صلاح بن سليمان بن محمد بن داود بن إبراهيم بن أحمد ابن علي القاضي العلامة المفيد كان فقيها عارفا ولى القضاء بجهة الحيمة من اليمن للإمام المؤيد وأخيه الإمام المتوكل وكان نبيلا فاضلا حسن التلاوة للقرآن العظيم مؤديا له تأدية حسنة ويلتقى نسبه ونسب عبد الرحمن بن عبد الله شيخ الإمام القاسم في داود بن إبراهيم المذكور وجدهما سليمان المذكور يجمع نسبهم ونسب فقهاء حصيان وفقهاء العيانة ومشايخ سماة بني النجار وفقهاء الرجم هكذا قاله المترجم قال بعض اليمنيين وبنو النوار فيما أحسب ينسبون أنفسهم إلى غير هذا النسب والله أعلم وكانت وفاته في نيف وستين وألف واختلط في آخر عمره عبد الرحمن بن عبد الله بن علي بن هرون بن حسن بن علي بن الشيخ محمد جمل الليل الإمام العالم الفصيح الزاهد الناصر للشريعة المجاهد ذكره الشلى ووصفه وصفا بليغا من جنس هذا الوصف ثم قال ولد بتريم ونشأ بها وحفظ القرآن ثم اشتغل بتحصيل العلوم الشرعية وفنون الأدب فتفقه على القاضي أحمد بن حسين والشيخ أحمد بن عمر عيديد والشيخ عبد الرحمن بن علوي بافقيه وأخذ عن الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس وولده زين العابدين والشيخ عبد الرحمن الشقاف العيدروس وأخذ عن السيد الجليل محمد الهادي بن شهاب وأخيه الشيخ أبي بكر ابن شهاب وغيرهم وحفظ عدة متون وعرضها على مشايخة ثم دخل الهند واجتمع بجماعة من علمائها وأحبه بعض أمرائها الكبار ثم حج وعاد إلى تريم وأخذ عمن بها ودرس وأخذ عنه جمع طريق القوم ثم عاد إلى الهند ودرس بها وأخذ عنه جمع كثير ودرس في الحديث قال الشلى واجتمعت به هناك ولازمته مدة يسيرة واستفدت منه فوائد غزيرة وكان مقيما عند بعض الوزراء ونال منه كثيرا من الأمتعة ثم ورد إلى وطنه وأقام بها مجتهدا في الطاعة وطلب للقضاء فأبى فعاودوه حتى قبله ومشى على طريق القضاة قبله فحمدت أفعاله ولم يشغله القضاء عن الإفادة والاجتهاد في العبادة وتوفى في سنة سبعين وألف وقد أناف على الستين ودفن بمقبرة زنبل عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن أحمد بن علي بن أحمد بن محمد بن زوقا بن موسى بن أحمد السلطان بمدينة تونس في عصر الشيخ أبي مدين بن السلطان سعيد بن السلطان فاشين ابن السلطان يحيى ابن السلطان زوقا الشعراوي ويقال الشعراني أيضا المصري الأستاذ العالم الصالح ابن الإمام الكبير العابد الزاهد صاحب التآليف الكثيرة السائرة وينتهي نسبهم إلى الإمام محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه وكان عبد الرحمن هذا لطيف الذات حسن الخلال ولما مات والده في سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة قام بعده بزاويته المعروفة به بين السورين فقام عليه أولاد عمه ومقدمهم الشيخ عبد اللطيف وسلك سبيل عمه والد صاحب الترجمة في الكرم والبذل والإيثار حتى بملبوسه فضلا عن طعامه وكان عبد الرحمن يرمى بالإمساك فمال فقراء الزاوية عليه مع عبد اللطيف فترافعوا للحكام غير مرة وكاد أمرهم يتم فلم يلبث عبد اللطيف أن مات واستقر الأمر لصاحب الترجمة فصار معظما عند الحكام وانتظم أمر الزاوية لكنه أقبل على جمع المال ثم ترك المدرسة وتحول بعياله فسكن على بركة الفيل وصار لا يأتي إلى الزاوية إلا يوم الجمعة غالبا فتلاشت أحوالها جدا حتى صار مجلس ليلة الجمعة يجلس فيه نحو اثنين أو ثلاثة أول الليل فيحصل من إيقاظ النيام والاشتغال بالذكر والتهجد والقيام والأنس التام ما يثلج الصدور ويحث على فعل الحبور وبالجملة فبيتهم مبارك لا يزال متصل المدد وفيه الخير والبركة وكانت وفاة صاحب الترجمة في أواخر سنة إحدى عشرة بعد الألف ودفن بزاوية والده بباب الشعرية والشعراوي تقدم الكلام عليها في ترجمة قريبه أبي السعود بن عبد الرحيم الشعراني القاضي(2/46)
عبد الرحمن بن عقيل بن محمد بن عبد الرحمن بن عقيل بن أحمد بن الشيخ علي اليمني شيخ مشايخ الطريقة المربي الكامل ملحق الأصاغر بالأكابر قال الشلى في ترجمته ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن وطلب العلم خصوصا التصوف التصوف وأكثر من قراءة الاحياء والعوارف وصحب أكابر العارفين ولبس الخرقة فمن مشايخه بتريم السيد عبد الله بن شيخ العيدروس وولده زين العابدين والشيخ عبد الرحمن بن شهاب الدين والفقيه الإمام السيد عبد الرحمن بن عقيل ومحمد بن إسماعيل بافضل ثم فارق ديار حضرموت ورحل إلى اليمن وأخذ عن العارف بالله الولي عبد الله بن علي والسيد حاتم المهدلي وحج حجة الإسلام واجتمع في الحرمين بجماعة ثم دخل بلاد الهند وأخذ بها عن غير واحد وقام بخدمته بعض الوزراء ثم عاد إلى اليمن ودخل بندر عدن وساح وأخذ عن جماعة ثم دخل بندر المخا واستقر به واجتمع بالشيخ صندل المجذوب وانتفع بصحبته وشاع ذكره ثمة واجتهد في العبادة ونشر العلم وكان آية في الفهم والحفظ وغلب عليه التصوف وله فيه كلام مقبول قال الشلى وفي ثمان وخمسين وألف قدمت عليه وأخذت عنه وكان من الطائفة الذين يخفون أكثر محاسنهم ويبالغون في نفي رؤية المخلوقين وكان له غيرة على الدين مصمما في الحق صادعا بالشرع وكان له جاه عظيم تأتيه النذور من كل مكان واجتمع عنده مال جسيم وكان لا يدري ممن تلك الانذار بل كانت ترمى في ناحية من داره وربما أكل الصوف العث والأرضة ولم يزل مراقبا لله في سره ونجواه إلى أن انقضت مدة حياته فتوفى ببندر المخا ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وألف ودفن بجنب قبر السيد محمد بن بركات كريشه وقبره معروف يزار عبد الرحمن بن علوي بن أحمد بن علوي بن محمد مولى عيديد يعرف كسلفه ببافقيه المحدث الصوفي الفقيه الإمام قال الشلى كان مقيما بمدينة حضرموت ومولده تريم ونشأ بها وحفظ القرآن وأكثر المنهاج واعتنى بالفقه وأكثر انتفاعه بالشيخ محمد بن إسمعيل والقاضي عبد الرحمن بن شهاب وأخذ التصوف عنهما وعن السيد سالم بن أبي بكر الكاف والسيد الفقيه محمد بن الفقيه علي بن عبد الرحمن وغيرهم واجتهد في الفروع الفقهية وشارك في الأصلين ولبس الخرقة من جماعة وأجازه غير واحد بالإفتاء والتدريس وكان منعزلا عن الناس زاهدا في الدنيا مواظبا على الجماعة وأنواع الخير وانتفع به كثير ونشر العلم بعد اندراسه ولزمته الطلبة وكان متين المناظرة حسن العبارة لطيف الإشارة قوي الحافظة إذا قال في المسئلة لا أحفظ فيها شيئا لا تكاد توجد في كتب الأصحاب وكان لا يتوسع في العبارة بل يقتصر على مسئلة الكتاب ومن تكلم عليها وكان مبارك التدريس يحكى عن جماعة ممن قرؤا عليه أنهم قالوا ما وجدنا عند أحد ممن قرأنا عليه ما وجدنا عنده وغالب علماء العصر أخذوا عنه قال الشلى وهو شيخي الذي أخذت عنه في البداية واشتغلت عليه في علوم الدراية والرواية وقرأت عليه كتبا كثيرة وسمعت منه بقراءة غيري الكثير منها التفسير الكبير وإحياء علوم الدين بقراءة شيخنا عمر الهندوان وكان لا يقول بالمحاباة فيزيف كلام الغير إذا لم يرضه ولو كان أباه وإذا خاض في علوم الصوفية أنكر وكان شديد الإنكار على الناس فيما يخالف الشرع لا سيما ما أجمع على حظره أو ترجح الإنكار في نظره لا يقنع في أمر الحق بغير إظهاره مطبوعا على الالتذاذ به متحملا للأذى من الناس بسببه يدافع ذلك بيده ولسانه بحسب وسعه وإذا لم يستطع الدفع تأثر به شديدا وربما أصابته الحمى وقد ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال يأتي على الناس زمان يذوب قلب المؤمن كما يذوب الملح قيل يا رسول الله مم ذلك قال مما يرى من المنكر لا يستطيع تغييره وكان لصدقه وحسن نيته تهابه أرباب الفسق ويهربون منه وربما إذا أحس به الصبيان تركوا اللعب هيبة منه وكان في جميع أحواله ملازما للأدب زاهدا في الدنيا وعرض عليه قضاء بلدة تريم فلم يقبل وكان ملازما للتلاوة والاعتكاف وبالجملة فهو من محاسن عصره وتحائف دهره وكانت وفاته في سنة سبع وأربعين وألف ودفن بمقبرة زنبل من جنان بشار رحمه الله(2/47)
عبد الرحمن بن علي بن عبد الله بن محمد بن عبد الله الحديلي بن محمد بن حسن الطويل بن محمد بن عبد الله بن الفقيه أحمد بن عبد الرحمن بن علوي بن محمد صاحب مرباط عرف كسلفه بباحسن الحديلي صاحب القاره أحد فضلاء اليمن المشهورين قال الشلى ولد بمدينة تريم وتفقه بها وأخذ التصوف عن جماعة وغلبت عليه فنون الأدب فكان لا يشار بها إلا إليه وكان جيد البديهة حلو النادرة سريع الجواب وهو في ذلك من العجائب وكان يسأل عن المسائل المعمية فيكتب الجواب باللفظ الفصيح والسجع اللطيف قال وكنت وقفت على بعض أجوبته في الصغر ولم أظفر الآن بشيء منها ولا أحفظ الآن من تلك الأجوبة إلا قوله لجعفر الصادق لما قال نصف اسمي في ثلاثة أرباعه رجع وله رسائل فائقة وأشعار مستعذبة وانتفع به كثير وكان له اعتناء بنظم العارف بالله تعالى الشيخ عمر بن عبد بامخرمة فجمع منه مجلدات وكان يوضح مشكلاته ويبين ما دق منه وكان هو وإمام العلوم السيد عبد الله بن محمد بروم في ذلك الزمان فرسى رهان فكانا عينى ذلك العصر وأقام بالقرية المسماة بالقاره وصدقاته دارة على الفقراء وكان كثير الإحسان جم النوال وكانت وفاته في سنة سبع وثلاثين وألف ودفن بقرية القاره رحمه الله تعالى عبد الرحمن بن علي بن موسى بن خضر الخياري الشافعي نزيل المدينة المنورة وخطيبها ومحدثها الإمام الكبير الجليل الشأن المشهور في الآفاق أخذ بمصر عن الجلة من المشايخ وشيوخه كثيرون منهم النور الزيادي وهو أجلهم ومنهم أبو بكر الشنواني وأحمد الغنيمي والشيخ محمد الخفاجي ومن في طبقتهم من علماء ذلك العصر وأجازوه وشهدوا له بالفضل وتصدر للإقراء بجامع الأزهر ولازمه جمع من أكابر الشيوخ وأخذوا عنه العلم منهم النور الشبراملسى وكان يثني عليه كثيرا ويطرز درسه بذكره ويشير إلى جلالة قدره وكان هو والشيخ علي الحلبي صاحب السيرة كفرسى رهان وفارسي ميدان وكانا إذا مرا في الأزهر يقال أقبل السعد والسيد ثم هاجر إلى المدينة المنور وسكنها بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم وحكى ذلك الشهاب البشبيشي وكان وصوله إليها في أواسط المحرم سنة تسع وعشرين وألف وانتفع به أهلها للأخذ عنه والتلقي منه وكان لد يد طولى في جميع الفنون مع السكينة والوقار ويقال أنه كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيانا واتفق له أنه ختم كتابا في الحديث وشرع في الدعاء ثم وقف منتصبا رافعا يديه كالمؤمن على الدعاء فقام أهل الدرس من طلبة وغيرهم ثم طال وقوفه بحيث أن بعضهم تعب من الوقوف وذهب وبقي الواقفون متعجبون منه وهو مطرق وكأنه في غير شعوره فبعد ختمه الدعاء قال له بعض أخصائه من تلامذته ما هذا الوقوف يا سيدي فإنه لم يعهد لك مثله فقال والله ما وقفت إلا وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا يدعو لنا فاستمريت منتظرا حتى فرغ من دعائه وهذه من كراماته وذكره الخفاجي في كتبه الخبايا فقال في وصفه دوحة الزمان بسام طليق وعوده بستان وريق فاضل جمع الفضل فهو منتهى الجموع وكامل كماله كثمار الجنة غير مقطوع ولا ممنوع شقيق روحي وصديقها وريحان مسرتي وشقيقها
ونفس بأعقاب الأمور بصيرة ... لها من طباع الغيب حاد وقائد
يلوح من بشره نور الفلاح ومن سكينته وقار الصلاح كأن الله جمع له المناقب فاختار منها وانتقى ورأى أن أحسنها وأكرمها التقي له في الفنون يد بيضاء وفي الأدب سجية سمحة خضراء ولما علم أن الله أوصى بالجار رحل لطيبة الطيبة وسكن في جوار النبي المختار فدخل روضة من رياض الجنة في جناته وإذا أنعم الله بنعمة على عبده في حياته لا يسلبها بعد مماته فكتبت له متشوقا للقائه وملتمسا لصالح دعائه
يا نسيما من نحو طيبة ساري ... مهديا عطر رندها والعرار
من ربا نشره بعنبر شحر ... في حشا جونة الفتى العطار
خذ فؤادي فذاك مجمر شوق ... وغرامي بمضمر الوجد داري
موقد فيه عنبر من مديحي ... لحبيب المهيمن المختار
لمقام بمقتضاه بليغ ... لا يوفى بلاغة الأسرار
ولمن في ذراه من كل جار ... حاز خفضا لعيشه بالجوار
فهم خزرجي وأوسي وإن لم ... يسعف الدهر بالمنى أنصاري(2/48)
سيما صنوى الشقيق وروحي ... وهو عبد الرحمن حامي الذمار
قد تملى بروضة حاز فيها ... مثمر السعد مظهر الأنوار
باع دنيا دنت بأخرى تسامت ... فغدا في بيعه بالخيار
فعساه يمن لي بدعاء ... مستجاب في ليله والنهار
ليحوز الشهاب أعظم سؤل ... وأمان من مطلع الأنوار
وصلاة الإله في كل حين ... لك تهدى يا سيد الأبرار
فأجاب بقوله
بعد اهدا أسنى السلام الساري ... من ربا طيبة مقام الخيار
فائقا طيبه شذا كل مسك ... فاتقا نوره دجى الأسحار
لحبيب في الله خل وفي ... طيب الأصل ذي الثناء الساري
أحمد الفعل والشهاب المرجى ... كاشف المشكلات كنز الفخار
دام في نعمة وعز ولطف ... من إله الورى الكريم الباري
محييا سنة الالى سبقوه ... بإتباع الالى وحسن الوقار
وصلاة مع السلام دواما ... للنبي الممجد المختار
ولآل وصحبه ما اضمحلت ... ظلم الظلم لاجتلا الأنوار
وبالجملة فهو من خيار الخيار وكانت وفاته في اليوم الثاني والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة ست وخمسين وألف ودفن ببقيع الغرقد وقال ولده شيخنا الإمام العالم إبراهيم في تاريخ موته
إذا ما قيل لي في أي عام ... وفاة الحبر والدك الخياري
أقول وقد تدرعت اصطبارا ... نؤرخه أحل بخير دار(2/49)
عبد الرحمن بن عيسى بن مرشد أبو الوجاهة العمري المعروف بالمرشدي الحنفي مفتي الحرم المكي وعالم قطر الحجاز وأوحد أهله في الفضل والمعرفة والأدب وهو من بيت العلم والفضل والديانة ذكر السخاوي في الضوء اللامع والتقى التميمي في طبقات الحنفية جماعة من آل بيته وكان هو من كبار العلماء الأجلاء انعقدت عليه صدارة الحجاز نشأ بمكة وحفظ القرآن وصلى به التراويح إماما في المسجد الحرام وحفظ الألفية والأربعين للنووي وكنز الدقائق إلا القليل منه والجزرية وغيرها وشرع في الاشتغال من سنة تسع وثمانين وتسعمائة فلازم الشيخ عبد الرحيم بن حسان وأخذ عن الشيخ علي بن جار الله بن ظهيرة والمنلا عبد الله الكردي والسيد غضنفر والشيخ عبد السلام وزير السلار والشيخ محمد بن علي الركروك الجزائري وروى الحديث عن الشمس الرملي وعن الشيخ المعمر المنلا حميد السندي والشيخ أحمد الشربيني والشمس النحراوي وأخذ القراآت عن الملا على القارى الهروي وولى تدريس مدرسة المرحوم محمد باشا في حدود سنة تسع وتسعين وتسعمائة فدرس بها صحيح البخاري وأملى عليه شرحا بلغ فيه إلى باب رفع العلم وظهور الجهل فعزل عنها ووليها مدرسها الأول ونظم منظومة في علم التصريف عدتها خمسمائة بيت من بحر الرجز سماها ترصيف التصريف وشرحها شرحا نفيسا سماه فتح اللطيف وشرح كتاب الكافي في علمي العروض وألقوا في سماه الوافي في شرح الكافي وألف رسالة بديعة سماها براعة الاستهلال فيما يتعلق بالشهر والهلال ونظم رسالة متعلقة بمنازل القمر موسومة بمناهل السمر وشرحها شرحا لطيفا وألف رسالة تتعلق بتفسير آية الكرسي معنونة بالفتح القدسي وكتب قطعة على الخزرجية في علم العروض وولى التدريس بالمسجد الحرام في سنة خمس وألف وشرع في كتابة شرح الكنز في سنة ثمان وسئل عن عبارة وقعت في تفسير آخر سورة المائدة وتعاطى الفتوى على مذهب أبي حنيفة عام وفاة شيخه القاضي علي بن جار الله وهو سنة اثنتى عشرة وألف وباشر ذلك وشيخه في قيد الحياة استفتى في مسئلة في الوقف فأفتى فيها بما هو المختار للفتوى فيه وهو قول أبي يوسف من أن الوقف يتم بمجرد التلفظ به كغيره من العقود من غير حاجة إلى حكم حاكم أو تسليم إلى متول وبدخول أولاد البنات في الوقف على الذرية فحالفه في ذلك بعض القضاة فألف رسالة في ذلك سماها وقف الهمام المنصف عند قول الإمام أبي يوسف وأرسلها إلى مصر فأيده علماؤها وكتبوا على جوابه وصوبوه وخطؤا قول المخالف له في ذلك وكان ذلك في سنة ثمان عشرة وألف وشرح عقود الجمان في المعاني للاسيوطي شرحا حافلا مزج فيه عبارة النظم في الشرح فاق على شرح مؤلفها بكثير وجرى في مجلس قاضي مكة ذكر المسئلة التي ذكرها قاضي خان في فتاويه وهي ما لو قال قائل إن كان الله يعذب المشركين فأمر لأتى طالق قالوا أنها لا تطلق فألف فيها رسالة سماها الجواب المكين عن مسئلة إن كان يعذب المشركين وولى إمامة المسجد الحرام وخطابته والإفتاء السلطاني في سنة عشرين وألف فباشر جميع ذلك وكانت مباشرته للإمامة في يوم الاثنين سادس المحرم من السمة المذكورة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان أول صلاة صلاها بعد الافتراض هي الظهر وباشر الخطابة في السابع عشر من الشهر المذكور ومشى الأعيان بين يديه ذهابا وإيابا وأفاض عليه سلطان مكة حينئذ وهو الشريف إدريس تشريفا سلطانيا بعد فراغه من الخطبة والصلاة ووردت إليه في آخر سنة ثلاث وعشرين وألف الخلعة السلطانية المحمولة لمفتي مكة في كل عام صحبة أمير الركب المصري فلبسها من المحل المعتاد الذي يلبس منه شريف مكة وكان ذلك بعد انقطاعها نحوا من خمس سنين بموجب حكم سلطاني ورد إلى صاحب مصر يتضمن الأمر بتجهيزها على الأسلوب السابق وإفاضتها عليه وكان ذلك يوم الأربعاء السابع من ذي الحجة من السنة المذكورة ثم تولى تدريس المدرسة السليمانية الحنفية التي أنشأها المرحوم السلطان سليمان جوار المسجد الحرام برسم علماء المذاهب الأربعة وكانت هذه المدرسة أسست برسم الحنفية وكان أول من وليها منهم ودرس بها مفتي مكة القطب المكي النهرواني الحنفي ثم وليها بعد وفاته خير الدين الرومي الحنفي ثم قررها بعده شريف مكة الشريف حسن للقاضي علي بن جار الله الحنفي ثم ورد فيها مصلح الدين الرومي الحنفي ثم بعد وفاته في أواخر سنة(2/50)
ثلاث عشرة وألف تقرر فيها القاضي يحيى بن أبي السعادات ابن ظهيرة خطيب مكة وغفل عن كونها مشروطة للحنفية فعند وفاته في خامس رجب سنة سبع وعشرين وألف أعادها الله لأصلها فقررها شريف مكة الشريف إدريس لصاحب الترجمة وذلك في سابع عشر رجب من السنة المذكورة وباشر الدرس فيها سادس شعبان منها وافتتح الدرس في تفسير البيضاوي من قوله تعالى " يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " وحضر مجلسه فيها يومئذ جميع العلماء والأعيان وكان يوما مشهودا وورد إليه في غرة ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وألف تفويض النظر في قضاء مكة وأعمالها من لدن قاضيها يومئذ المولى رضوان بن عثمان المنفصل عن قضاء مصر لتخلفه عن الوصول إلى مكة ففوض إلى صاحب الترجمة النظر في ذلك فباشره وأقام أخاه القاضي أحمد نائبا بمكة ووقف بالحجيج تلك السنة ووافق يوم عرفة يوم الجمعة وكان هو خطيب التروية أيضا في تلك السنة وخطيب الجمعة في شهر ذي الحجة وكان اتفق له نظير ذلك في سنة عشرين وألف حين تولى قضاء مكة المولى صالح بن المولى سعد الدين إلا أنه لم يتفق له في ذلك العام الوقوف بالحجيج لانفصاله عن النظر في القضاء بالمولى أحمد الاياشي ومما اتفق له في هذه الولاية الثانية أنه ورد من ابن سلطان الهند خرم شاه بن سليم شاه بن جلال الدين الأكبر صدقة إلى فقراء مكة والمدينة فأنيط توزيعها بنظره فوزعها بين الأعيان والفقراء ذكورا وإناثا واستوعبهم استيعابا شاملا وخطب بمسجد نمرة بعرفة والحاصل أنه لقي من سمو الشأن وعلو الرتبة ما لم يلقه أحد من معاصريه بالحجاز وقد ذكره جماعة من المؤرخين والمنشئين فممن ذكره الحسن البوريني وأثنى عليه ثناء عظيما قال واجتمعت به في مكة واختبرته فرأيت عربيته متينة وحركته في فهم العبارات جيدة وبالجملة فهو الآن عين مكة وعالمها وإليه يرجع عاميها وحاكمها انتهى ورأيت في بعض المجاميع منقولا من خط أبي العباس المقرى قال ذكر الشيخ أبو المواهب البكري أنه تمثل للشيخ عبد الرحمن المرشدي المذكور بهذين البيتين في أثناء مكالمة وهماث عشرة وألف تقرر فيها القاضي يحيى بن أبي السعادات ابن ظهيرة خطيب مكة وغفل عن كونها مشروطة للحنفية فعند وفاته في خامس رجب سنة سبع وعشرين وألف أعادها الله لأصلها فقررها شريف مكة الشريف إدريس لصاحب الترجمة وذلك في سابع عشر رجب من السنة المذكورة وباشر الدرس فيها سادس شعبان منها وافتتح الدرس في تفسير البيضاوي من قوله تعالى " يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " وحضر مجلسه فيها يومئذ جميع العلماء والأعيان وكان يوما مشهودا وورد إليه في غرة ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وألف تفويض النظر في قضاء مكة وأعمالها من لدن قاضيها يومئذ المولى رضوان بن عثمان المنفصل عن قضاء مصر لتخلفه عن الوصول إلى مكة ففوض إلى صاحب الترجمة النظر في ذلك فباشره وأقام أخاه القاضي أحمد نائبا بمكة ووقف بالحجيج تلك السنة ووافق يوم عرفة يوم الجمعة وكان هو خطيب التروية أيضا في تلك السنة وخطيب الجمعة في شهر ذي الحجة وكان اتفق له نظير ذلك في سنة عشرين وألف حين تولى قضاء مكة المولى صالح بن المولى سعد الدين إلا أنه لم يتفق له في ذلك العام الوقوف بالحجيج لانفصاله عن النظر في القضاء بالمولى أحمد الاياشي ومما اتفق له في هذه الولاية الثانية أنه ورد من ابن سلطان الهند خرم شاه بن سليم شاه بن جلال الدين الأكبر صدقة إلى فقراء مكة والمدينة فأنيط توزيعها بنظره فوزعها بين الأعيان والفقراء ذكورا وإناثا واستوعبهم استيعابا شاملا وخطب بمسجد نمرة بعرفة والحاصل أنه لقي من سمو الشأن وعلو الرتبة ما لم يلقه أحد من معاصريه بالحجاز وقد ذكره جماعة من المؤرخين والمنشئين فممن ذكره الحسن البوريني وأثنى عليه ثناء عظيما قال واجتمعت به في مكة واختبرته فرأيت عربيته متينة وحركته في فهم العبارات جيدة وبالجملة فهو الآن عين مكة وعالمها وإليه يرجع عاميها وحاكمها انتهى ورأيت في بعض المجاميع منقولا من خط أبي العباس المقرى قال ذكر الشيخ أبو المواهب البكري أنه تمثل للشيخ عبد الرحمن المرشدي المذكور بهذين البيتين في أثناء مكالمة وهما
عرضنا أنفسا عزت علينا ... عليكم فاستخف بها الهوان(2/51)
ولو أنا حفظناها لعزت ... ولكن كل معروض يهان
قال فأجابني
نفوسكم وحقكم لدينا ... نفيسات تعز ولا تهان
وتلك جواهر فلأجل هذا ... غدت معروضة بقيت تصان
وقد وقفت له على قصيدة عجيبة في بابها مدح بها الشريف حسن وابنه أبا طالب مهنئا لهما بظفر الثاني منهما بأهل شمر وهو جبل بنجد وهي
تقع العجاج لدى هياج العثير ... أذكى لدينا من دخان العنبر
وصليل تجريد الحسام ووقعه ... في الهام أشدى نغمة من جؤذر
وسنا الأسنة لا معافى قسطل ... أسنى وأسمى من محيا مسفر
وتسربل في سابغات مزرد ... أبهى علينا من قباء عبقري
وتتوج بقوانس مصقولة ... أزهى علينا من سدوس أخضر
وكذاك صهوة سابح ومطهم ... أشهى إلينا من أريكة أحور
ولقا الكمى مدرعا في مغفر ... كلقا الغرير بمقنع وبمخمر
ألفت أسنتنا الورود بمنهل ... علقت به علق النجيع الأحمر
وسيوفنا هجرت جوار عمودها ... شوقا لهامة كل أصيد أصعر
فتخالها لما تجرد عندما ... هام القتام بوارقا بكنهور
وصهيل جرد الخيل خيل كأنه ... رعد يزمجر في الجدى المثعنجر
ودم العدى متقاطرا متدفقا ... كالوبل كالسيل الجراف الجور
ورؤسهم تجري به كجنادل ... قذفت به موج السيول الهمر
غشيتهم في العام منا فرقة ... تركت فريقهم كسبسب مقفر
أودتهم قتلا وأجلتهم إلى ... أن حطم الهندي ظهر المدبر
تركت صحاراهم موائد ضمنت ... أشلاء كل مسود وغضنفر
ودعت ضيوف الوحش تقريها بما ... أفنى المهند والوشيج السمهري
فأجابها من كل غيل زمرة ... تحد ومنار عملس أو قسور
وأظلها ظلل نشاص سحابها المرك ... وم أجنحة البزاة الأنسر
فبراثن الآساد تضنب في الكلى ... ومخالب العقبان تنشب في المرى
شكرت صنيع المشرفية والقنا ... إذ لم تضفها الهبر غير مهبر
فغدت قبورهم بطون الوحش من ... ها يبعثون إذا دعوا للمحشر
وخلت ديارهم وأقوى ربعهم ... وسرى السرى مشمرا عن شمر
أنفت من استقصاء قتل شريدهم ... كيما يخبر قائلا من مخبري
فثنت أعنة خيلنا أجيادها ... عن قتل كل مزند وخرور
حتى إذا حان القطاف ليانع ... من أرؤس تركت ولما تؤبر
عصفت بها ريب المنون فألقحت ... وتحركت بزعازع من صرصر
فدعت سراة كماتنا لقطافها ... بأنامل القصب الأصم الأسمر
فتجهزت لحصادها في فيلق ... لو يسبحون بزاخر لم يزخر
ملأ تتوق إلى الكفاح نفوسهم ... توقانها للقا الرداح المعصر
يغشون أبطال الوطيس بواسما ... كالليث إن يلق الفريسة يكشر
وتخالهم فوق الجياد لوابسا ... سدا يموج من الحرير الأخضر
فإذا هم ازدحموا بجزع وانثنوا ... أورى زناد دروعهم نارا ترى
جيش طلائعه الأوابد إن تصخ ... لو جيبه من قيد شهر تنفر
يقتاده الملك المشيح كأنه ... بين العوالي ضيغم في مزأر
ملك تدرع بالبسالة فاغتنى ... يوم الوغى عن سابغ وسنور
ملك تتوج بالمهابة فاكتفى ... عند الطعان لقرنه عن مغفر
ملك تذكرنا مواقع حده ... في الهام وقعة جده في خيبر
ملك إذا ما جال يوم كريهة ... لم تلق غير مجدل ومعفر(2/52)
ملك يجهز من جحافل رأيه ... قبل الوقيعة جحفلا لم ينظر
ملك تسنم ذروة المجد التي ... من دونها المريخ بل والمشتري
ملك نداه البحر إلا أنه ... عذب أهذا البحر نهر الكوثر
ملك إذا ما جاد حدث مسندا ... عن جوده جود الغمام الممطر
الأشرف الشهم الذي خضعت له ... شم الأنوف وكل جحجاح سرى
الأفضل السند الذي أوصافه ... أنست سما الوضاح وابن المنذر
الأكرم المفضال من إحسانه ... أربى على كسرى الملوك وقيصر
ذو الهمة العليا الذي قد نال ما ... عنه تقصر همة الإسكندر
شرفا تقاعست الكواكب دونه ... لو لم تمد بنوره لم تزهر
هبا بمنطقة البروج مقرها ... أمنا هز هذا بنوة حيدر
كلا فكيف بمن حواها جامعا ... نسبا سما بأبوة المدثر
أعظم بها من نسبة نبوية ... علوية تنمى لأصل أطهر
قد شرفت بدأ بأشرف مرسل ... ونهاية بالسيد الحسن السرى
فخر الخلائق درة التاج الذي ... بسواه هام ذوي العلى لم يفخر
بشر ولكن في صفات ملائك ... جليت لنا أخلاقه فاستبصر
لم تلقه يومي وغى وعطا سوى ... طلق المحيا في حلى المستبشر
يلقى العفاة وقد تلألأ وجهه ... بسنا السرور وذاك أنضر منظر
يعفو عن الذنب العظم مجازيا ... جازيه بالحسنى كأن لم يؤزر
يا سيد السادات دونك مدحة ... نفحت بعرف من ثناك معطر
قد فصلت بلآلئ المدح التي ... يقف ابن أوس دونها والبحتري
وافتك ترفل في برود بلاغة ... وبراعة ببرود صنعا تزدرى
صاغت حلاها فكرة قد صانها ... شمم الإباء عن امتداح مقصر
ما شانها نظم القريض تكسبا ... لولا مقامك ذو العلى لم تشعر
فوردت منهلها الروي فلم أجد ... أحدا فنلت صنفاه غير مكدر
فنهلت منه وعلني بنميره ... وطفقت وارده ولما أصدر
وطفقت فيع غائصا للآلئ ... في غير نظم مديحكم لم تنثر
لا تدعني العليا رضيع لبانها ... إن كنت في تلك المقالة مفترى
خذها عقيلة كسر خدر فصاحة ... سفرت نقابا عن محيا مسفر
جمعت بلاغة منطق الإعراب مع ... حسن البيان ورقة المستحضر
لو سامها قس لما سمعت به ... بعكاط يوما خطبة في منبر
شرفت على من عارضته بمدح من ... أضحى القريض به كعقد جوهري
فاستجلها وافت تهنى بالذي ... نفحت بشائره بمسك أذفر
نصر تهز بنوده ريح الصبا ... خفقت على هام الأشم الحزمر
هو نجلك المنصور دام مؤيدا ... بك أينما يلق الغريمة يظفر
لا زلتما في ظل ملك باذخ ... وجنود ملككم ملوك الأعصر
مستمسكين بهدى جدكم الذي ... بالرعب ينصر من مسافة أشهر
أهدى الإله صلاته وسلامه ... لجنابه في طي نشر العهر
ولآله وصحابه والتا ... بعين لهم بإحسان ليوم المحشر
ما استنشق الأبطال في يوم الوغى ... نقع العجاج لدى هياج العثير(2/53)
قلت تبارك الله على هذه الطبيعة المطيعة ومن مثل هذه القصيدة يعرف متانة الشعر وقوة الطبع على النظم وله منشآت كثيرة أغلبها مجموع في سفر ولأهل مكة على إنشائه تهافت وبالجملة فكل آثاره مستحسنة وذكره السيد علي في السلافة فقال في وصفه علامة القطر الحجازي ومفتيه ومولى معروف المعارف ومؤتيه وبحر العلم الذي لا يدرك ساحله وبره الذي لا تطوى مراحله أشرقت في سماء الفضل ذكاء ذكائه وخرس به ناطق الجهل بعد تصديته ومكائه فأصبح وهو للعمل والجهل مثبت وماحق وسبق إلى غايات الفضل وما للوجه لاحق حتى طار صيته في الآفاق وانعقد على فضله الوفاق وانتهت إليه رياسة العلم بالبلد الأمين فتصدر وهو منتجع الوافدين والآمين منه تقتبس أنوار أنواع الفنون وعنه تؤخذ أحكام المفروض والمسنون تشد الرحال إلى لقائه ويستنشق أرج الفضل من تلقائه وتصانيفه في أقسام العلم صنوف وتآليفه في مسامع الدهر أقراط وشنوف ان نثر فما أزاهر الرايض غب المزن الهاطل أو نظم فما جواهر العقود تحلت به الغيد العواطل وها أنا أقص عليك من خبره ما يزذهيك وشى حبره وأتلو عليك من تفصيل حاله ما يروقك خصبه وتأسف على امحاله ثم أثبت من منظومه بعد منثوره ما يطرب الأسماع بحسن مأثوره ولم يزل ممتطيا صهوة العز المكين راقيا ذروة طود الجاه الركين لا يقاس به قرين ولا تطأ آساد الشرى له عرين إلى أن تولى الشريف أحمد بن عبد المطلب مكة المشرفة ورفل في حلل ولايتها المفوفه وكان في نفسه من الشيخ المشار إليه ضغن حل بصميم مهجته وما طعن فأمر أولا بنهب داره وخفض محله ومقداره ثم قبض عليه قبض المعتمد على ابن عمار وجزاه الدهر على يديه جزاء سنمار إلا أن المعتمد أغص ابن عمار بالحسام الأبيض وهذا طوقه هلالا بزغ من أنامل عبد أسود فجرعه كأس الموت الأحمر وكان قد أبقاه في حبسه إلى ليلة عرفه ثم خشى أن يسعى في خلاصه من أكابر الروم من عرفه فوجه إليه بزنجى أشوه خلق الله خلقا وتقدم إليه بقتله في تلك الليلة خنقا فامتثل أمره فيه وجلله من برد الهلاك بضافيه فأقفرت لموته المدارس وأصبحت ربوع الفضل وهي دوارس وذلك في عام سبع وثلاثين وألف ومن الاتفاق أن الشريف المذكور قتل هذه القتلة بعينها حين تقاضت منه الليالي ما أسلفت من دينها وفي الأثر كما تدين تدان وهذا حال الدهر مع كل قاص ودان انتهى قلت وقد قدمت خبر مقتله في ترجمة الشريف أحمد بن عبد المطلب في حرف الهمزة فارجع إليه هناك وكانت ولادة المرشدي بمكة ليلة الجمعة خامس جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وتسعمائة ولقب شرف الدين وقتل ليلة الجمعة لإحدى عشرة خلون من ذي الحجة سنة سبع وثلاثين وألف وفي المشهور أن سبب قتله توليته ديوان الإنشاء في ولاية الشريف محسن وولى مكانه الشريف أحمد بن عبد المطلب قبض على المرشدي في أواخر رمضان من سنة سبع وثلاثين وسجنه ونهب داره وكتبه وطلبه يوما إلى مجلسه وهو غاص بأهله وعاتبه أشد عتاب فأجابه بأحسن جواب ثم أعاده إلى السجن وقال للحاضرين والله إني أعلم وأعتقد أنه من أفضل علماء زمانه وأتقى أهل عصره واستمر في السجن إلى يوم النحر فأمر بخنقه وغسل وصلى عليه ودفن بالشبيكة بالقرب من ضريح سيدنا المساوى وقبره بها معروف يزار ووجدت في رسالة بخط العالم عبد الرحمن العمادي مفتي الشام كتب بها إلى أبي العباس المقرى يذكر فيها قتلة المرشدي ويعزيه من جملتها وأما مصيبة من كان وليى وسميى ومنجدي الشهيد السعيد الشيخ عبد الرحمن المرشدي فإنها وإن أصابت منا ومنكم الأخوين فقد عمت الحرمين بل طمعت الثقلين ولقد عد مصابه في الإسلام ثلمه وفقد منه في حرم الله من كان يدعى للملمه ولم يبق بعده من يدعى إذا يحاس الحيس ويستحق أن ينشد في حقه وإن لم يقس به قيس
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
وهؤلاء الأربعة كل منهم تسمى عبد الرحمن وهم عبد الرحمن اليمني بمصر وعبد الرحمن الخياري بالمدينة وعبد الرحمن المرشدي بمكة وقد تقدموا ثلاثتهم على هذا الترتيب وعبد الرحمن العمادي بالشام وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى أربعتهم عمد الدين وقد جمعهم عصر واحد فتشرف بهم وأنا أحمد الله تعالى على تشرف كتابي بذكرهم(2/54)
عبد الرحمن بن محمد الحميدي المصري شيخ أهل الوراقة بمصر الأديب الشاعر الفائق ذكره الشهاب الخفاجي في كتابيه وقال في وصفه كان أديبا تفتحت بصبا اللطف أنوار شمائله ورقت على دوح أدبه خطباء بلابله إذا صدحت بلابل معانيه وتبرجت حدائق معاليه جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري نظم في جيد الدهر جمانه وسلم إلى يد الشرف عنانه خاطرا في رداء مجد ذي حواش وبطانه ناشرا فرائد بيان ينثرها اللسان فتودع حقاق الآذان وله في الطب يد مسيحية تحيي ميت الأمراض وتبدل جواهر الجواهر بالأعراض
مبارك الطلغة ميمونها ... لكن على الحفار والغاسل
وديوان شعره شائع وذائع إلا أني استودعته النسيان ولا بد أن ترد الودائع ولما نظم البديعية معارضا لابن حجة وشرحها نظرت فيها في أوان الصبا فرأيت منها مواضع لا تخلو من الخطا فنهبته لذلك فأطال لسانه لانحرافه وزعم أنه هجاني بعض أوصافه فكتبت إليه متهكما ما صورته مولاي أسرفت في الامتنان وأسأت لنا قبل الإحسان وعاقبت من غير جناية سابقه وحرمت من ليس له فيك آمال رائقه فكانت حالي معك كما قيل انه هبت ريح شديدة فصاح الناس القيامة القيامة فقال بعض المجان ما هذه القيامة على الريق أين الدجال والمهدى واشراطها وفي ذلك أقول
أسرفت في الصد فخف خالقا ... لا يرتضى إسراف مخلوق
يا هاجرا من لم يذق وصله ... جرعته الصبر على الريق
انتهى وكانت وفاة الحميدي سابع عشر المحرم خمس بعد الألف عبد الرحمن بن محمد بن علي بن أبي الحسن البكري الصديقي القاهري أحد أولاد الأستاذ محمد البكري كان من أرباب الأحوال له الكشف الصريح والانابة وكان للناس فيه اعتقاد عظيم ذكره النجم الغزي في الذيل وأثنى عليه ثم قال وكانت وفاته بمكة المشرفة في حادي أو ثاني عشرى ذي الحجة سنة سبع بعد الألف وصلينا عليه في الحرم المكي في وجه الكعبة المنورة قال وأخبرني صاحبنا العلامة ولي الله سيدي محمد التكروري أنه أشار إليه بقرب الأجل وأنه لا يخرج من مكة ومات بعد أن كان تلك الليلة بالطواف فشكى من قبله ثم حمل إلى منزلهم عند باب إبراهيم فمات رحمه الله تعالى عبد الرحمن بن محمد بن علي بن عقيل بن أحمد بن الشيخ علي الحضرمي المعروف بالسقاف أحد أركان الطريقة السيد المفضال كان حسن الصفات عالي الهمة ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن وغيره من المتون واشتغل بالعلوم وصحب أكابر العارفين واعتنى بعلم التصوف والكتب الغزالية وجد فيها حتى طال باعه وأخذ عن الإمام العالم السيد أبي بكر سالم ومن مشايخه السيد محمد بن علي بن عبد الرحمن والإمام السيد محمد بن عقيل والشيخ محمد بن إسماعيل وأذن له غير واحد في التدريس ولبس الخرقة من كثيرين وأدنوا له في الإلباس والتحكيم وأخذ عنه جماعة من الفضلاء وتخرجوا عليه منهم ولده السيد عقيل والشيخ أبو بكر الشلى والد الجمال المؤرخ والشيخ عبد الرحمن السقاف العيدروس وأخذ عنه السيد أبو بكر بن علي معلم وهو أخذ عنه أيضا وكان آية في الفهم عاملا بعلمه كثير السخاء وكانت له هيبة في القلوب وكانت ولادته في سنة ثمان وأربعين وتسعمائة وتوقى سنة إحدى عشرة وألف ودفن بجنان بشار عبد الرحمن بن محمد المنعوت زين الدين بن شمس الدين الخطيب الشربيني الفقيه الشافعي المصري الإمام العمدة ابن الإمام العمدة كان من أهل العلم والبراعة في فنون كثيرة حسن الأخلاق كثير التواضع أخذ عن والده وغيره وكان كثيرا ما يحج ويجاور بمكة واجتمع به النجم الغزي بالمدينة في أواسط المحرم سنة اثنتين بعد الألف قال فسألته كم حججتم فقال أربعا وعشرين مرة فقلت له أنتم يا مولانا معاشر علماء مصر يحج الواحد منكم مرات وأما أهل الشام فلا يكاد الواحد منهم يحج الإمرة فأنتم أرغب في الخير منا فقال لي يا مولانا الواحد منا يستأجر بعيرا بعشرة ذهبا ويحمل تحته القريقشات ويحج وأنتم إذ حج أحدكم يتكلف كلفة زائدة تكفي عدة منا وطريقكم أشد من طريقنا والأجر يكون على قدر النصب والنفقة كما في الحديث فحجة الواحد منكم تعدل حجات والواحد منا وهذا دليل على إنصافه وحسن نظره قال ووصل خبر موته إلى دمشق في أوائل جمادى الآخرة سنة أربع عشرة بعد الألف وحججت في تلك السنة وحررت وفاته عن بعض فضلاء مكة أنها كانت في صفر سنة أربع عشرة المذكورة(2/55)
عبد الرحمن أبو العز بن محمد القصري الفاسي كان إماما عمدة في العلم والعمل الظاهر والباطن قرأ على أخيه أبي المحاسن يوسف الفاسي وعلى الفقيه المفتي الخطيب أبي زكريا يحيى بن محمد السراج والقاضي الفقيه الخطيب بن محمد عبد الواحد بن أحمد الحميدي والإمام المفنن الأستاذ أبي العباس أحمد بن علي المنجور والإمام الأستاذ النحوي أبي العباس أحمد بن قاسم العزرمي والإمام المحقق النظار أبي عبد الله محمد بن قاسم القيسي القصار والإمام المقرى المنجور أبي محمد الحسن ابن محمد الدراوي وعنه خلق لا يحصون منهم وارثه الأول المكمل أبو النصائح محمد ابن محمد بن عبد الله معن ووارثه الثاني وابن ابن أخيه العلامة عبد القادر الفاسي وقد أفرد ترجمته وترجمة شيوخه الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي في مجلد حافل وله مؤلفات منها حاشية على البخار وحاشية على شرح الصغري للسنوسي وكراماته كثيرة شهيرة وكان بعض الناس في عصره يلازم تنبيه الأنام كثيرا فذكر ذلك له فقال انظروا هل أنتج له شيء من كثرة صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فاعلموا أن باطنه مشوب فدل كلامه على أن الطاعات ولا سيما الصلاة على الوسيلة العظمى صلى الله عليه وسلم الذي هو أصل كل خير إذا صادفت محلا طاهرا أشرقت فيه أنوارها ولاحت عليه أسرارها وإنما يدفعها عدم القابلية كالثوب الكدر لا يشتعل وكان نفع الله تعالى به يقول إنما يصحب الناس المشايخ ليعرفوهم أنهم عبيد الله فيرضوا بما يصدر لا ليدافعوا ما يصدر منهم وكانت ولادته في المحرم سنة اثنتين وسبعين وتسعمائة وتوفى ليلة الأربعاء سابع عشر شهر ربيع الأول من شهور سنة ست وثلاثين وألف رحمه الله تعالى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن محمد بن عبد الرحمن السقاف السيد الإمام الحافظ المحدث الجامع بين الرواية والدراية قال الشلى في ترجمته ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن وأخذ العلوم عن الكمل من العلماء وصحب الأئمة ولازم الشيخ أبا بكر بن عبد الرحمن بن شهاب وأخذ عنه التفسير والحديث والأصلين والتصوف والعربية واشتهر وتفوق وكان في الفهم آية باهرة وفي الحفظ نهاية وجلس للتدريس في الفنون وكان شديد الانقباض عن الناس حافظا للسانه وقف نفسه على العلوم مع عقل وأدب وخفة روح وتخرج به جماعة من الطلاب وظهرت بركاته قال الشلى وهو من أعظم مشايخي الذين أخذت عنهم وانتفعت بهم لازمت حضرته واغتنمت بركته واقتبست من فوائده واستمتعت بفرائده فقرأت عليه البداية والتبيان قراءة تحقيق وبيان وسمعت الأحياء بقراءة غيري وانتفع به جمع من الخلائق وصاروا به من أهل الحقائق وكان من سادات الصوفية الزهاد ورؤس الأولياء العباد حريصا على فعل الخير لا يخوض فيما لا يعنيه وكان عارفا بمذاهب العلماء نير القلب صافي السريرة فاق أقرانه ولم ير الراؤن في زمانه مثله وكان قليل الكلام جدا من غير إعياء ولا خلل وكان له خط حسن مرغوب فيه وكان أضبط يكتب بكلتا يديه وبالجملة فهو من الكمل في زمانه وكانت وفاته في سنة ثمان وأربعين وألف ودفن بمقبرة زنبل من جنان بشار السيد عبد الرحمن بن محمد بن شرف الدين الحجافي اليمني العالم البارع كان علامة يضرب به المثل في الذكاء وكان يشبه بجده من قبل الأمهات السيد عبد الرحمن وكان محققا في الأصول والمنطق واشتغل في التفسير في آخر أمره وله شرح على غاية السول للسيد الحسين بن القاسم أجاد فيه كل الإجادة وكان متوليا لأعمال حفاش ثم استقر بصنعاء وكان لا يطمع في شيء من زينة الدنيا ولا هم له بغير العلم توفى بالحشيشة من مخارف صنعاء في نيف وخمسين بعد الألف رحمه الله تعالى(2/56)
عبد الرحمن بن محمد بن عماد الدين بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عماد الدين العمادي الحنفي الدمشقي أحد أفراد الدهر وأعيان العلم وأعلام الفضل وهو المفتي بالشام بعد أن كان أبوه بها حينا مرجع الناس للفتوى حتى استغرق عمله واستحق مكانته وكان في عصره ممن يباهي بالتردد إليه والاكتساب من معلوماته وحوى من الصفات الحسنة والأخلاق الرائقة ما انفرد به دون منازع واختص به من غير مشارك وكان كثير الفضل جم الفائدة وله محاضرة تستفز الحلوم وفطنة تسحر العقول وألف حاشية على بعض تفسير الكشاف بقيت في مسوداته وله المنسك المشهور الذي سماه بالمستطاع من الزاد وكتاب الهدية في عبادات الفقه والروضة الريا فيمن دفن بداريا وله رسائل كثيرة في سائر الفنون ومنشآت وأشعار أكثرها لطيف المسلك حسن الموقع ونشأ في مطلع عمره يتيما فإن والده مات وله من العمر سبع سنين وكان كثيرا ما ينشد في ذلك " كنت ابن سبع حين مات أبي " واجتهد في لتحصيل أولا على الحسن البوريني وعلى ابن خالته الشيخ محمد بن محب الدين الحنفي ثم لزم جدي القاضي محب الدين وأخذ عنه معظم الفنون وأخذ عن الشمس ابن المنقار والمنى محمد بن عبد الملك البغدادي وبرع البراعة التامة وتفوق وحج في سنة أربع عشرة بعد الألف وأخذ بالمدينة عن السيد صبغة الله بن روح الله المقدم ذكره طريق النقشبندية وكان الجد القاضي المذكور في تلك السنة قاضيا بالركب وجرى للعمادي أنه لما أراد الدخول إلى البيت المشرف وقع فانصدعت رجله من شدة الزحام وعالجها فبرأت ولكن بقي أثر الانصداع فكان يعرج شيئا ما منها ومن المعجب ما كتبه الجد في شأنه هذا إلى تلميذه الأديب الذيق الألمعي أبي الطيب الغزي المقدم ذكره وكان أرسل إليه كتابا مع نجاب الشام وكتب إليه في حاشيته ما نصه وأما أخوكم العلامة ولدنا العمادي فإنه في الصحة والسلامة والنعمة والكرامة وهو يسلم عليكم ويعرض وافر شوقه إليكم فانتقد أبو الطيب من تعبيره بلفظ العلامة المستفيض إطلاقه على الزمخشري ما جنح إليه وحكم عليه بقوة حدسه وبعدما رجع إلى دمشق تخلص للإقراء والإفادة وولى تدريس المدرسة الشبلية في سنة سبع عشرة وألف ثم ولى بعدها المدرسة السليمية في سنة ثلاث وعشرين ولما ورد دمشق المولى أسعد بن سعد الدين قاصدا الحج راجت لديه فضائله وظهرت له مزيته فأقبل عليه بكليته ولما عاد إلى الروم وولى الإفتاء صيره ملازما على قاعدتهم وكان قبل ذلك بمدة أخذ عنه المولى أحمد بن زين الدين المنطقي المقدم ذكره المدرسة السليمية فصنع العمادي قصيدة في مدح المولى أسعد المذكور يتطلب فيها إعادة المدرسة إليه ويتظلم من الدهر ومطلعها
بك أسعد الروم ابن سعد الدين ... يسمو عماد العلم ثم الدين
ومن جملتها وهو محل الغرض
لك أشتكي مولاي أفظع وصمة ... كادت لشدة قهرها تصميني
يا ضيعة الأعمار في طلب العلى ... بالعلم والنسب الذي بالشين
أمن المروءة وهي أسمى رتبة ... أني أعادل بابن زين الدين
لا بل يرجح ثم يغصب منصبي ... وأعود منه بصفقة المغبون
لو كنت مع كفو قرنت لهان لي ... لكنه بئس القرين قريني
أو كان ثم تعادل لهضمته ... فانظر إلى دهري بمن يبلوني
فقرر عليه المدرسة وله فيه قصيدة بديعة يشكر صنيعه فيها ومطلعها
ألا هكذا فليسعد العبد سيد ... فلا زلت في سعد ومولاي أسعد
وهي طويلة ثم ولى بعد ذلك المدرسة السليمانية والإفتاء بالشام في سنة إحدى وثلاثين وألف وتوجه إلى الحج وهو مفت في سنة ثلاث وثلاثين وكبر صيته بعد ذلك واشتهر وسلم له علماء عصره ومما يروى أنه رفع منه لشيخ الإسلام يحيى بن زكريا فتوى وعليها جوابه فكتب ابن زكريا عليها إلى جانبه الجواب كما به أخونا العلامة أجاب وهذه غاية في المدحة وعلو الرتبة وقد مدحه أكثر شعراء عصره من الأدباء بالقصائد السائرة وخلدوا مدائحه في صفحات آثارهم وبالجملة فأخباره وفضائله ملأت كل محفل ووقفت له على تحريرات أدبية كثيرة ومن ألطفها جوابه عن سؤال رفع إليه بعض الأدباء في الأغاليط التي ذكرها صاحب القاموس عندما ذكر البيتين المشهورين وهما(2/57)
لا در در أناس خاب سعيهم ... يستمطرون لدى الأزمان بالعشر
أجاعل أنت ببقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر(2/58)
فإنه قال في البيت الثاني تسعة أغلاط فأجاب بما نصه أقول قد لاح لي في هذه الألفاظ تسعة وجوه خطرت بالبال والله أعلم بحقيقة الحال الأول إدخال الهمزة على غير محل الإنكار وهو جاعل والواجب إدخالها على المسلعة لأنها محل الإنكار الثاني تقديم المسند الذي هو خلاف الأصل فلا يرتكب إلا لسبب فكان الواجب تقديم المسلعة وإدخال الهمزة عليها بأن يقال أمسلعة أنت تجعل ذريعة الثالث أن ترتيب هذا البيت على ما قبله يقتضي أنه قصد الالتفات من الغيبة إلى الخطاب قطعا وأنه بعد أن حكى عنهم حالتهم الشنيعة التفت إلى خطابهم بالإنكار ومواجهتهم بالتوبيخ حتى كأنهم حاضرون يستمعون وحينئذ ففيه أنه أخطأ في إيراد أحد اللفظين بالجمع والآخر بالإفراد ولا شك أن شرط الالتفات الاتحاد الرابع أن الجاعلين هم العرب في الجاهلية الذين حكى عنهم في البيت الأول فلا وجه لتخصيص الواحد منهم بالإنكار عليه دون البقية لا يقال هذا الوجه داخل في الذي قبله لأنا نقول هذا وأزد بقطع النظر عن كون الكلام التفاتا أو غير التفات من حيث أنه نسب أمرا إلى جماعة ثم خصص واحدا بالإنكار من غير التفات إلى الالتفات أصلا الخامس تنكير المسند إذ لا وجه له مع تقدم العهد حيث علم أن مراده بالجاعل هم الأناس المذكورون في البيت الأول فكيف ينكر المعهود فكان حق الكلام أن يقال أمسلعة أنتم الجاعلون السادس البيقور اسم جمع كما في القاموس واسم الجمع وإن كان يذكر ويؤنث لكن قال الرضي في بحث العدد ما محصله أن اسم الجمع وإن كان مختصا بجمع المذكر كالرهط والنفر والقوم فإنها بمعنى الرجال فيعطى حكم المذكر في التذكير فيقال تسعة رهط ولا يقال تسع رهط كما تقول تسعة رجال ولا تقول تسع رجال وإن كان مختصا بالمؤنث فيعطى حكم جمع الإناث نحو ثلاث من المخاض لأنها بمعنى حوامل النوق وإن احتملهما كالخيل والإبل والغنم لأنها تقع على الذكور والإناث فإن نصت على أحد المحتملين فإن الاعتبار بذلك النص انتهى فقد صرح بأنها إن استعملت مراد بها الذكور تعطى حكم الذكور وقد نص صاحب القاموس وغيره على أنهم كانوا يعلقون السلع على الثيران كما تقدم فبهذا الاعتبار ولا يسوغ وصف السقور بالمسلعة السابع إيراد المسلعة صفة جارية على موصوف مذكور والذي يظهر من عبارة صاحب الصحاح أنها اسم للبقر التي يعلق عليها السلع للاستمطار لا صفة محضة حيث قال ومنه المسلعة إلى آخره ولم يقل ومنه البقر المسلعة وقال السيوطي في شرح شواهد المغنى نقلا عن أئمة اللغة أن المسلعة ثيران وحش علق فيها السلع وحينئذ فلا تجرى على موصوف كما أن لفظ الركب اسم لركبان الإبل مشتق من الركوب ولم يستعمل جاريا على موصوف فلا يقال جاء رجال ركب بل جاء ركب الثامن أن المنصوص عليه في كتب اللغة أن الذريعة بمعنى الوسيلة لا غيرون الوسيلة مستعملة في التعدية بالى فاستعمال الذريعة هنا بدون إلى مع لفظة بين مخالف لوضعها واستعمالها المنصوص عليه وأما اللام في لك فإنها للاختصاص فلا دخل لها في التعدية كما يقال اجعل هذا الكتاب تحفة لك التاسع قوله بين الله والمطر لا معنى له والصواب بينك وبين الله لأجل المطر وذلك لأنهم كانوا يشعلون النيران في السلع والعشر المعلقة على الثيران ليرحمها الله تعالى وينزل المطر لإطفاء النار عنها كما تقدم والله أعلم أقول لا يخفى أن ما استخرجه لا يسمى أغلبه أغاليط فأجل فكرك فيما هنالك تصب المحز والسلع بفتحتين والعشر بضمة ففتحة ضربان من الشجر كانت العرب إذا أرادوا الاستسقاء في سنة الجدب عقدوها في أذناب البقر وبين عراقيبها وأطلقوا فيها النار وصعدوا بها الجبال ورفعوا أصواتهم بالدعاء وهذه النار أحد نيران العرب وهي أربعة عشر نار المزدلفة توقد حتى يراها من دفع من عرفة وأول من أوقدها قصي بن كلاب وهذه ونار التحالف لا يعقدون الحلف إلا عليها يطرحون فيها الملح والكبريت فإذا استشاطت قالوا هذه النار قد تهددتك ونار الغدر كانوا إذا غدر الرجل بجاره أوقدوا له نارا بمنى أيام الحج ثم صاحوا هذه غدرة فلان فيفتضح الغادر دنيا وأخرى فينصب له لواء يوم المحشر وينادى عليه على رؤس الأشهاد هذه غدرة فلان بن فلان ثم يلقى في النار ونار السلامة توقد للقادم من سفره غانما ونار الزائر والمسافرون ذلك أنهم إذا لم يحبوا الزائر ولا المسافر أن يرجعا أوقدوا(2/59)
خلفه نارا وقالوا أبعده الله وأسحقه ونار الحرب وتسمى نار الأهبة يوقدونها على يفاع أعلاما لمن بعد منهم ونار الصيد يوقدونها للظباء لتعشى أبصارهم ونار الأسد يوقدونها إذا خافوه لأنه إذا رآها حدق إليها وتأملها ونار السليم توقد للملدوغ إذا سهر والمجروح إذا نزف ومن الكلب الكلب يوقدونها حتى لا يناموا ونار الفداء كانت ملوكهم إذا سبوا قبيلة وطلب منها الفداء كرهوا أن يعرضوا النساء نهارا لئلا يفتضحن ونار الوسم التي يسمون بها الإبل لتعرف إبل الملوك فترد الماء أولا ونار القرى وهي أعظم النيران ونار الحرمز وهي النار التي أطفأها الله لخالد بن سنان العبسي احتفروا له بئرا ثم أدخل فيها والناس يرونه ثم اقتحمها وخرج منها انتهى عودا إلى ما نحن بصدده وللعمادي من لطائف الأشعار ما رق وراق فمن ذلك قوله في الغزل نارا وقالوا أبعده الله وأسحقه ونار الحرب وتسمى نار الأهبة يوقدونها على يفاع أعلاما لمن بعد منهم ونار الصيد يوقدونها للظباء لتعشى أبصارهم ونار الأسد يوقدونها إذا خافوه لأنه إذا رآها حدق إليها وتأملها ونار السليم توقد للملدوغ إذا سهر والمجروح إذا نزف ومن الكلب الكلب يوقدونها حتى لا يناموا ونار الفداء كانت ملوكهم إذا سبوا قبيلة وطلب منها الفداء كرهوا أن يعرضوا النساء نهارا لئلا يفتضحن ونار الوسم التي يسمون بها الإبل لتعرف إبل الملوك فترد الماء أولا ونار القرى وهي أعظم النيران ونار الحرمز وهي النار التي أطفأها الله لخالد بن سنان العبسي احتفروا له بئرا ثم أدخل فيها والناس يرونه ثم اقتحمها وخرج منها انتهى عودا إلى ما نحن بصدده وللعمادي من لطائف الأشعار ما رق وراق فمن ذلك قوله في الغزل
أكفكف دمع العين خوفا وأكتم ... عن الناس والمخفى في القلب أعظم
وهبني كتمت الدمع عنهم تجلدا ... على حر نار في الحشا تتضرم
أيخفى نحول الجسم عن عين ناظر ... وهل ذلة النفس العزيزة تكتم
لقد شهد العدلان فيما كتمته ... وهيهات أن يخفى المحب المتيم
كلفت ببدر ما تجلى بوجهه ... لبدر الدجى إلا انجلى وهو مظلم
ويسترفى أوراقه الغصن خجلة ... إذا ما بدا منه قوام مقوم
وكم من وشاة نازعوا في جماله ... فلما تبدى يخجل الشمس سلموا
إذا لام يوما عاذلي فيه إنني ... أصم وسمع اللوم عندي محرم
وقد كنت أهوى الحسن في كل صورة ... فقنعني هذا الحبيب المعمم
قوله فقنعني من القناعة وفيها إيهام المقابلة بين المقنع وهو المستور ويختص بالنساء والمعمم ويقال على الذكران من الحسان ومن التعبيرات قولهم فلان على طريقة ابن أكثم من الأعراض عن الحبيب المقنع والميل إلى المعمم ويحسن في هذا المحل قول أبي العلا المعري
أفق إنما البدر المقنع رأسه ... ضلال وبغى مثل بدر المقنع
ووقع في شعر ابن سناء الملك
رويدا فما بدر المقنع طالعا ... بأفتك من ألحاظ يدرى المعمم(2/60)
وكلاهما إشارة إلى بدر أظهره رجل سحار في بلاد الشرق واسمه عطاء الخراساني وجعله دليلا على ربوبيته وإنما قيل له المقنع لأنه كان يقنع رأسه لأنه كان قبيح الوجه جدا وكان من خبره أنه كان أول أمره قصارا من أهل مرو وكان يعرف شيئا من السحر والنيرنجيات فادعى الربوبية من طريق المناسخة وقال لأشياعه إن الله تعالى تحول إلى صورة آدم فلذلك قال للملائكة اسجدوا له فسجدوا إلا إبليس فاستحق بذلك السخط ثم تحول من صورة آدم إلى صورة نوح وهكذا إلى صور الأنبياء والحكماء حتى حصل في صورة أبي مسلم الخراساني ثم زعم أنه انتقل إليه فقبل قوم دعواه وعبدوه وقاتلوا دونه ما عاينوا من عظيم إدعائه وقبح صورته لأنه كان مشوه الخلق أعور لكن إنما غلب على عقولهم بالتمويهات التي أظهرها لهم بالسحر والنيرنجيات وكان في جملة ما أظهر لهم صورة بدر يطلع فيراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب فعظم اعتقادهم فيه ولما اشتهر أمره ثار عليه الناس وقصدوه في قلعته التي كان قد اعتصم بها وحصروه فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وسقاهن سما فمتن منه ثم تناول شربة من ذلك السم فمات ودخل المسلمون فقتلوا من فيها من أشياعه وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة انتهى وللعمادي
صب تحكم في حشاه وجسده ... إن جار متلفه عليه فعبده
يا من جفا جفني لذيذ منامه ... لما تصدى لي جفاه وصده
أستعذ التعذيب فيك وكل ما ... ترضاه لي ولو أن روحي ضده
أحببت تسهيدي فرحت أحبه ... وأردت إتلافي فلست أرده
وجفوتني فجفوت نفسي راضيا ... لا ينبغي من لا تود أوده
وهذه الأبيات أجراها على أسلوب أبيات أبي الشيص المشهورة وهي
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا ... ما من يهون عليك ممن يكرم
ومن مقطوعاته قوله مضمنا قول أبي تمام
واوات أصداغه للعطف بالأرب ... وسيف الحاظه ينبى عن العطب
والنفس بينهما حارت فقلت لها ... السيف أصدق أنباء من الكتب
ومن لطائفه قوله في مدح آل البيت وبيت الصديق
صح عندي في بيت آل حبيبي ... ثم آل الصديق قول حبيب
كل شعب حلوابه حيث كانوا ... فهو شعبي وشعب كل أديب
إن قلبي لهم لكالكبد الحر ... ا وقلبي لغيرهم كالقلوب
والبيتان الأخيران لأبي تمام في مدح سليمان وأخيه الحسن ابنى وهب لكن تصرف فيهما بعض تصرف والذي حمله على تضمينهما ما قاله ابن خلكان عن بعض الأفاضل أنه لما سمع هذين البيتين قال لو كانا في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أليق فما يستحق ذلك القول الاهم وله في الغزل وهو حسن
أضحى هلالا مذ تعذر بدرنا ... ثم التحى فمحا الهلال محاق
عهدي بلام الخد خطافا فانثنت ... ولها بجملة وجهه استغراق
وله
لا تعذلوني في غرامي به ... وفي سقامي من تجافيه
فإنني من منذ أبصرته ... علمت أني ميت فيه
وكتب إليه الأديب محمد بن محيي الدين الحادي الصيداوي قصيدة من نظمه أراد مراجعته بها فوصلته وهو مريض فكتب إلي
قد أتاني منك القريض وفكري ... من مدى السقم في الطويل العريض
وأردت الجواب بالنظم في الحا ... ل فحال الجريض دون القريض
الجريض الغصة من الجرض وهو الريق يغص به والقريض الشعر وحال الجريض مثل قاله شوشن الكلابي حين منعه أبوه من الشعر فمرض حزنا حتى أشرف على الهلاك فأذن له أبوه في قول الشعر فقال هذا القول وكتب إلى البوريني وكان أعاره مجموعا
مولاي مجموعاي عندك دائما ... فاحفظهما ولك البقاء السرمد
فاقر الذي لا يستطيع تجلدا ... بتعطف واقرا الذي يتجلد
فكتب إليه
القلب مني لا مزيد عليه في ... أبوابكم ملقى وربي يشهد(2/61)
مجموعكم مولاي عندي لم يزل ... وسط الفؤاد بعين قلبي يشهد
وله غير ذلك وذكره البوريني في تاريخه ولم يوفه حقه وذكره والدي فأطال في ترجمته وأطاب كيف وهو أحد مشايخه الذين افتخر بهم وتميز بالانتماء إليهم وقد تمثل في حقه بقول بعض الأدباء
أصبحت من بيت العمادي بجلق ... أروي روايات الثنا المشهور
فلقاه فيها نافع وحماه فيه ... ا عاصم ونواله ابن كثير
هذان من المؤرخين وأما أرباب الإنشاء فقد ذكره منهم الخفاجي في كتابيه وأثنى عليه كثيرا وما أحسن ما تمثل في حقه بقول الشهاب المنصوري
أرأيتم في الناس ذات لطيف ... تشرح الصدر مثل ذات العماد
حسبها من لطافة أنها لم ... يخلق الله مثلها في البلاد
وذكره عبد البر الفيومي في المنتزه والبديعي في ذكرى حبيب وعبارته في حقه هذه مفتي الديار الشامية وصاحب الإفادة بالمدرسة السليمانية سيد استعبد المجد والناس من ذلك أحرار وظهرت في الخافقين فضائله كما ظهر النهار جبلت راحته على الانعام كما جبل اللسان على الكلام وقد أنفق عمره على اجتلاء فرائد التفسير إلى أن لحق بجوار ربه اللطيف الخبير وقد أورث مجده أبناءه الذين إذا دجت الخطوب فأراعم كالنجوم العوائم
ثلاثة أركان وما انهد سودد ... إذا ثبتت فيه ثلاث دعائم
ثم أورد بعض أشعار ومنشآت له من جملتها أبياته المشهورة التي مستهلها
سأطمس آثارا هواي أثارها ... وأنفض من ذيل الفؤاد غبارها
لقد آن صحوي من سلاف صبابى ... فقد طالما خامرت جهلا خمارها
هجرت الهوى والزهر حتى اشتياقه ... وطيب ليال اللهو حتى ادكارها
وعفيت سبل الهزل بالجد مقلعا ... وعفت مسرات جنيت ثمارها
أثام كفيت اليوم بالترك شرها ... لعلى غدا في الحشر أكفى شرارها
قطفت أزاهير الصبابة في الصبا ... وقد صار عارا أن أشم عرارها
فلو صائدات القلب أقبلن كالمها ... وقبلن رأسي ما قبلت مزارها
وقد كنت أودعت الحجا فاسترده ... إلى النفس شيب قد أعاد وقارها
وكان شبابي شب نار صبابتي ... فمذ لاح نور الشيب أخمد نارها
ترى شيبتي ما عذرها لشبيبتي ... وقد سبقت قبل الكمال عذارها
تبسم ثغر الشعر فيها تعجبا ... لها إذ رأى ليل السبال نهارها
فما زار وكر الشعر فيها غرابه ... ولا دار حتى استوطن الباز دراها
عسى الآن عما قد عثرت إنابة ... يقيل بها للنفس ربي عثارها
عسى رحمة أو نظرة أو عناية ... يتم سعودي في صعودي منارها
عسى نفحة من نور نور معارف ... تهب فتختار الفؤاد قرارها
ويشرح صدري نور علم مقدس ... يريني أسرار العلوم جهارها
وأمنح ألطافا من الانس أبتغي ... خفاها ويأبى الوجد إلا اشتهارها
ويكشف عن عيني البصيرة حجبها ... بأنوار عرفان تزيح استتارها
فيظهر لي سر الحقيقة مشرقا ... على ظلم الكون التي قد أنارها
فأحظى بحالات من القرب أبتغي ... بدنيا وأخرى فضلها وفخارها
ولطف إلهي قطب دائرة المنى ... فإن عليه في العطاء مدارها
ولما طعن في السن ورقي درج السبعين نظم هذه الأبيات وهي متداولة في أيدي الناس وهي
قد شاب فودي حين ثاب فؤادي ... فكأنما كانا على ميعاد
حسن الخواتم أرتجى من محسن ... قد من لي قدما بحسن ميادي
وعمادي التوحيد فهو وسيلتي ... في نيل ما أرجوه عندي معادي
إن قيل أي سفينة تجري بلا ... ماء وليس لأهلها من زاد
قل رحمة الرحمن من أنا عبده ... تسع العباد فمن هو ابن عماد(2/62)
وأشعاره كثيرة جدا وشهرتها كافية عن الاطناب بذكرها وكانت ولادته ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وتوفى ليلة الأحد سابع عشر جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وألف ودفن إلى جانب والده بمقبرة باب الصغير وأخبرني بعض من أثق به أنه ليلة وفاته كان مارا على داره فرأى يقظة كوكبا من السماء كبيرا انقض من الأفق وهوى إلى سطح دار العمادي فلم يمض إلا والصياح قد قام وشاع موته ورؤيت له منامات صالحة بعد موته واتفق له أنه وقف في آخر درس من دروسه التفسيرية في المدرسة السليمانية على قوله تعالى " كتب على نفسه الرحمة وكان اتفق له وهو يقرأ على الشمس بن المنقار في تفسير الكشاف أنه وقف على قوله تعالى " إن رحمة الله قريب من المحسنين " ورثاه جماعة من كبراء شعراء عصره منهم أحمد بن شاهين ومطلع مرثيته
خلت الديار فلا أنيس داني ... وتضعضعت بتضعضع الأركان
ووهى عماد علومها وحلومها ... وهوى بنا أركانها لهوان
وغدت دمشق وليدة مسنامة ... للمفلسين بأبخس الأثمان
وتبدلت منها المحاسن فاغتدت ... ثكلى تعط الحبيب للأدران
أثرت حقا يا زمان بجلق ... وسلبتها إحسان ذي إحسان
ومحوت انس سرورها فتدلت ... جهرا بظلمة وحشة الأحزان
يا موحشا أهل الحياة فقده ... آنست في الموتى حمى رضوان
يا راقدا ثقل الرقاد بجفنه ... أنعم علي بيقظة الوسنان
يا مفتيا طال السؤال لقبره ... وجوابه متعذر الإمكان
هلا أجبت سؤالنا ولطالما ... كنت المجيب لنا عن القرآن
أواه والهفا لأعظم طارق ... وافى فأدهشنا من الحدثان
فلك هوى ما كان أحراه بأن ... يبقى وتهوى قبتا كيوان
شمس بنور العلم ضاءت برهة ... فكست نجوم الأرض باللمعان
منها
كيف استوى البحر الخضم بحفرة ... أم كيف حل الكنز في هميان
يا عبد رحمن السموات العلى ... أبشر برحمة ربك الرحمن
وهي طويلة وفيما أوردناه منها غنية(2/63)
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس الشهير بسقاف الإمام الجليل قطب المحققين قال الشلى في ترجمته ولد سنة ثمان وثمانين وتسعمائة بمدينة تريم ونشأ بها وحفظ القرآن على الشيخ الأديب المعلم عمر بن عبد الله الخطيب وجوده وأخذ علم القراآت العشر إفرادا وجمعا على المقرى الكبير الشيخ محمد بن حكم باقشير وأخذ عن القاضي عبد الرحمن بن شهاب الدين وجده شيخ الإسلام عبد الله بن شيخ العيدروس وعمه إمام العارفين على زين العابدين ومحمد بن إسمعيل بافضل وغيرهم واعتنى بفروع الفقه وأصوله وبرع في مفهومه ومنقوله وحفظ الإرشاد ولاحظته العناية بالإسعاد والإمداد وبرع في العلوم شرعيها وعقليها وعربيها وخاض في بحار علوم الصوفية قيل كان يعلم علما متقنا أربعة عشر فنا وأذن له غير واحد من مشايخه في التدريس فدرس وتخرج به كثيرون ولما توفى عمه إمام العارفين الشيخ علي زين العابدين قام بمنصبهم أتم قيام وسلك مسلك آبائه الكرام ثم جلس مجلس عمه للتجريس العام واستقر في ذروة المنصب حيث امتطى السنام وكان يجلس كل يوم من أول النهار إلى آخر الضحى الأعلى والناس يغدون عليه ويردون من فضله العل والنهل وحضر هذا الدرس علماء أعلام ومشايخ إسلام قال الشلى وحضرته مرات ودعا لي بدعوات وكانت عباداته أكثر قلبية وكان ملازما لقيام الثلث الأخير من الليل هو والإمام الشيخ محمد بتعيشه يقرآن القرآن كل ختمة لشيخ من القراء السبعة ويستعمل السنة في مدخله ومخرجه بل في جميع أموره وألبسه الله رداء جميلا وكان من رآه انتفع برؤيته قبل كلام يتكلم به وإذا تكلم كان البهاء والنور على ألفاظه قال بعض علماء وقته لقد طفت كثيرا من البلاد ورأيت الأئمة والزهاد فما رأيت أكمل منه نعتا ولا أحسن وصفا وبالجملة فأقواله مفيدة وأفعاله حميدة وإذا كان أعيان زمانه قصيدة فهو بيتها وإن انتظموا عقدا كان هو واسطته ومع تبحره في العلوم العديدة لم نسمع أنه ألف رسالة ولا نظم شعرا ولا قصيدة ولم يزل يترقى في المقامات والأحوال حتى نال غاية الآمال ودعاه داعي الانتقال وكان انتقاله في سنة ثلاث وخمسين وألف وفيها مات جماعة من أهل الأحوال فلذا أرخها بعضهم بقوله " غاب الوجود " ودفن بقبة جده وقبره مشهور عند الناس ومن استجار به أمن من كل باس رحمه الله تعالى السيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد كمال الدين بن محمد بن الحسين الحسيني الدمشقي المعروف بابن النقيب وقد تقدم تتمة نسبه في ترجمة عمه السيد حسين وكان السيد المذكور نادرة وقته في الفضل والأدب والذكاء وجودة القريحة وحسن التخيل وكان مطلعا على اللغة والشعر وأنواعه الإطلاع التام وفضله أشهر من أن ينوه به أو ينبه عليه تخرج بوالده وغيره من فضلاء العصر حتى برع وأتقن فنونا ثم تعانى الإنشاء ونظم الشعر في طليعة عمره فأحسن فيهما كل الإحسان وضرب فيهما القدح المعلى وكان يتخيل التخيلات البعيدة البديعة في التشابيه العجيبة والنكات المتقنة والمعميات العويصة وكلامه كما تراه يجمع بين الجزالة وحسن التركيب في لطائف الصنعة وتملك رق الإتقان والإبداع ويعرب عما وراءه من أدب كثير وحفظ غزير وقريحة غير قريحة وطبع غير طبع وقد وقفت له على أشياء يحسد الأول الأخير عليها فمن ذلك رقعة بخطه كتبها إلى صاحبنا المرحوم زين الدين بن أحمد البصراوي يستدعيه ويطلب منه ريحانة الشهاب يقول فيها
يا أديبا يبدى من الأدب الغ ... ض رياضا موشية الديباج
قد نمتها سحب الحيا وسقاها الط ... ل قبل الصباح عذب المزاج
إن فصل الربيع وافى بورد ... منذ أضحت نفوسنا في ابتهاج
ولغض الريحان مع يانع الو ... رد ازدواج في قوة الامتزاج
فتفضل مع الرسول إذا شئ ... ت بريحانة الشهاب الخفاجي
هذا والمقصود منها تعليق ما يقع عليه الاختيار مما يصلح لحاجتي من بدائع الأشعار والكف عن التطويل بما ليس من هذا القبيل وقد اتفق لي بالصالحية من يويمات ربيعية من باب تجريب الخاطر وهي
بكر الروض بالنسيم الواني ... وتجلى الربيع في ألوان
وأملت حمائم الدوح ألحا ... نا أمالت معاطف الأغصان(2/64)
وبدا الورد في خدود دوام ... للعذارى من القطوف الدواني
وانجلى الصبح عن مواليد مزن ... أودعتها ضمائر الأفنان
ما ألذ الربيع في زمن الور ... د وأحلى الشباب في العنفوان
وقلت في أيام الربيع
حبانا لذيذ العيش آذار واغتدت ... أزاهره تهدى لنا الطيب والعرفا
ووافت بواكير الربيع بجدة ... تزف عروس الروض من خدرها زفا
وهب النسيم اللدن من جانب الربى ... يلين لها عطفا ويسألها عطفا
إذا ضمها عرف الكمائم ضمخت ... صباه وسامته معاطفها اللطفا
محبان في وسط الرياض تألفا ... أجنت له سر الغرام بما أخفى
وجمشها حتى زها شمس نورها ... فعبس وجه النهر واختطف الشنفا
وأحدث الخاطر معمى في اسم محمد وهو
رب ظبي مقر طق قد تبدى ... خلت بدرا من فوقه قد تلالا
لاح في الثغر جوهر من ثناي ... اه فأبدى في الخد خالا بلالا
وقلت بعده في هانئ
حين بان الخليط وازداد وجدي ... قلت والدمع في الخدود يسيل
يا رسولي إليه روحي خذها ... منجدا أثره بها يا رسول
وقلت بعده في سليمان
لقد سقاني الحبيب كأسا ... لم أرومنها ورمت أخرى
فقال خذ ما بقى بكاسي ... سؤرا وأحسن بذاك سؤرا
فعند ما جاد لي بما في ... أواخر الكاس متسكرا
هذا ما قرأته بخطه ومن معمياته العويصة قوله في سليم وعلى مع اختلاف الأعمال
ورقاء قلبي قد أضحت مرفرفة ... على قوامك يا من طرفه عجمي
وإنها هبطت منه على غصن ... فغض طرفك وأرسله إلى القدم
أرادها من أنها بعمل التحليل وهي بستة وبالعجمية شش فإذا هبطت صارت سينا والغصن الألف وهي يك ولها اللام بالعدد الحسابي من أبجد وغض مرادفه كف وهي بمائة فإذا هبطت لها الياء والميم من الغاية وأما طريقة استخراج على فإنه أراد(2/65)
قلت وقد أكثر في أشعاره من المعميات وكان شديد الاعتناء بهذا النوع جدا وهذا من الأنواع اللطيفة المسلك وقد أدرجه بعض المتأخرين في فنون البديع وعده من المحسنات واعترض بأن ملاحظة المحسن إنما هي بعد رعاية الفصاحة والبلاغة والبلاغة مشروطة بعدم التعقيد لفظا ومعنا وكلاهما موجود في المعمى فهو خارج عنه وقد يجاب بأن محققي هذا الفن شرطوا لصحته وجود المعنى الشعري فيه وإذا لم يكن موجودا فليس بمعتد به فعليه يكون داخلا في المحسنات قطعا وإن كان بعض متقدمي علمائه لم يشترط ذلك لصحته وهو مما لا اعتداد به ومن غريب ما وقع لي مع بعض أدباء الروم وقد ذكر المعمى فقال أبناء العرب لا يعرفون المعمى فأوردت له أشياء منه بالعربية فاعترف بأن المتأخرين مشوا على نهج الأعاجم والاورام فيه لكثرة اختلاطهم بهم وأما المتقدمون فلا يعرفونه فأخرجت له دفترا من جمعياتي نقلت فيه عن ابن قتيبة اللغوي قال إن هذه الأنواع الثلاثة وهي الأحاجي واللغز والمعميات من خصائص العرب وكل من نظم فيها من أبناء فارس وأبناء الروم إنما أخذ ذلك عنهم وتطفل على موائدهم وانظر إلى تسمية هذه الأمور الثلاثة هل هي عربية أو فارسية فالمعمى من للتعمية وهي التغطية والأحجية من الحجا وهو العقل كأنه يختبر فيها العقل واللغز الإخفاء انتهى ما قاله ولكن مع هذا فالحق أحق أن يتبع إن تطفل الفرس والروم على العرب في هذه الأمور وإن كان واقعا لكنهم لجودة أفكارهم تصرفوا فيه تصرف الملاك فاستحقوا أن يوصفوا بالتفرد به ولقد وقفت في الروم على رسالة للسيد الشريف في المعمى ذكر فيها أنه صنع بيتا واحدا يخرج منه ألف اسم بطريق التعمية مع التزام تعدد الإيهام في كل اسم وهذه الأنواع وإن انفرد كل واحد منها بأسلوب يخصه إلا أنها ترجع إلى أصل واحد هو إبراز الكلام على خلاف مقتضى العبارة فالأحيجة إن يؤتى بلفظ مركب ويطلب معناه من تحليل لفظ مفرد كقولك هد هداي ارجع ارجع وأما المعمى فهو قول يستخرج منه كلمة فأكثر بطريق الرمز والإيماء بحيث يقبله الذوق السليم واللغز مثله إلا أنه يجئ على طريقة السؤال والفرق بينه وبين المعمى أن الكلام إذا دل على ذات شيء من الأشياء بذكر صفات له تميزه عما عداه كان ذلك لغزا وإذا دل على اسم خاص بملاحظة كونه لفظا بدلالة مرموزه سمى ذلك معمى فالكلام الدال على بعض الأسماء يكون معمى من حيث أن مدلوله ذات من الذوات لا بملاحظة أوصافها فعلى هذا يكون قول القائل في اسم كمون
يا أيها العطار أعرب لنا ... عن اسم شيء قل في سومك
تنظره بالعين في يقظة ... كما ترى بالقلب في نومك
صالحا لأن يكون في اصطلاحهم معمى باعتبار دلالته على اسم بطريق الرمز ومثل ذلك كثير في أشعار العرب فلا حاجة إلى تكثير الأمثلة واعلم أن أرباب المعمى لم يشترطوا في استخراج الكلمة بطريق التعمية حصولها بحركاتها وسكناتها بل يكفي حصول حروف الكلمة من غير ملاحظة هيئتها الخاصة فإن وقع التعرض للحركات والسكنات أيضا كان ذلك من المحسنات ويسمون هذا عملا تذييليا وقد خرجنا عن الصدد الذي نحن فيه فلعلك لا تسأم وقرأت بخط بعض الأدباء ناقلا عن خط السيد صاحب الترجمة قال أنشد العلامة نسيج وحده المرحوم الشيخ أحمد المقرى المغربي في كتابه أزهار الرياض في أخبار عياض في جملة ما أورده من شعر ابن زمرك الأندلسي من كتاب ذكر أنه من تآليف بعض سلاطين تلمسان بني الأحمر وهو حفيد ابن الأحمر المخلوع سلطان الأندلس الذي كتب إليه ابن زمرك بعد ابن الخطيب قال وهو سفر ضخم سماه بالبقية والمدرك من شعر ابن زمرك ليس فيه الأنظمة فقط فقال ومن وصفه في زهر القرنفل الصعب الاجتناء بجبل الفتح وقد وقع له مولانا المستعين بالله بذلك فارتجل قطعا منها
أتوني بنوار يروق نضاره ... كخد الذي أهوى وطيب تنفسه
وجاؤا به من شاهق متمنع ... تمنع ذاك الظبي في ظل مكنسه
رعى الله منه عاشقا متقنعا ... بزهر حكى في الحسن خد مؤنسه
وإن هب خفاق النسيم بنفحة ... حكت عرفه طيبا يفي بتأنسه(2/66)
قال وكنت من اعمال الفكر في عدة تماثيل أصفه بها تكون من هذا الزهر على حالة تحشر لها النفس بتحريك نازع الاقتدار وتصرف عنها الخاطر إكبارا لأن أكون فاتح هذا الباب من غير وطأة ثابتة في اسمه ومنتهاه حتى رأيت في ذكر معزاه ما ترى فقلت فيه عدة مقاطيع منها
وجنى من القرنفل يبدى ... لك عرفا من نشره بابتسام
فوق سوق كأنها من أبار ... يق الحميا مساكب للمدام
وسدت فوقها السقاة خدودا ... داميات منها مكان الفدام
ومنها
قم بنا يا نديم فالطير غرد ... لمدام كؤوسه تتوقد
فلدينا قرنفل قد نماه ... جبل الفتح نشره قد تصعد
بين سوق عوج الرقاب لطاف ... شعرات من لينها تتجعد
ومنها
أهدى لنا الروض من قرنفله ... عبير مسك لديه مفتوت
كأنما سوقه وما حملت ... من حسن زهر بالطيب منعوت
صوالج من زبرجد خرطت ... لها الغوادي كرات ياقوت
ومنها
أرى زهر القرنفل قد جلته ... قدود ترجحن به قيام
أخال لو أنها أعناق طير ... نهضن به لقلت هي النعام
توقد زهره جمرا لدينا ... وتلك لها من الجمر التقام
ومنها في الأبيض منه من أبيات
ما ترى ناصع القرنفل وافى ... بتحايا الشميم بين الزهور
قضب من زبرجد حاملات ... قطعا فككت من الكافور
هذا ما وجدته منقولا عنه ورأيت في شعر من تقدمه تشبيه المستعمل فممن استعمله من المدركين أبو مفلح البيلوني الحلبي في مقصورة له مقدمة التاريخ حيث قال
قرنقل الروض شفاه ضمها ... لعسالكي يلثم ناشقا دنا
واستعمله قبله الكمال محمد بن أبي اللطف المقدسي المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وألف في قوله
حكى القرنفل محمرا على قضب ... خضر لها صار بالتفضيل منعوتا
كفا على معصم نقش به خضر ... غدا له كافر العذال مبهوتا
أبدته خود وقد ضمت أناملها ... كأسا تشعر لطفا صيغ ياقوتا
والذي حاز في تشبيهه قصب السبق فيما أعلم الشهاب أحمد بن خلوف الأندلسي أحد المشاهير المجيدين حيث قال من قصيدة
وللقرنفل راحات مخضبة ... على معاصم خضر فتنة الرائي
كأنجم من عقيق في ذرى فلك ... من الزجاج أرت أشطان لألاء
وكان السيد صاحب الترجمة لما أنشأ هذه المقاطيع التي تقدمت اشتهر أمرها فحذا حذوها في بابها جماعة من أدباء الشام ونظموا فيه تشابيه متنوعة فمهم الأمير المنجكي حيث قال
قرنفلنا العطري لونا كأنه ... رؤس العذارى ضمخت بعبير
مداهن ياقوت بأعلا زبرجد ... لقد أحكمت صنعا بأمر قدير
ومنهم شيخنا المولى أحمد المهمنداري مفتي الشام أبقى الله وجوده حلية للفضائل والآداب حيث قال
قرنفل في الرياض هيئته ... تحكي وقد مد للسحاب يدا
فوارة من زبرجد فتقت ... ففار منها العقيق وانجمدا
وقال أيضا
هذا القرنفل قد بدا ... في لوته القاني يحمد
فكأن مرآه الأني ... ق لدى الرياض إذا تنهد
قطع العقيق تناثرت ... فتخطفته يد الزبرجد
ومنهم شيخنا الأستاذ الباهر الطريقة عبد الغني بن إسمعيل النابلسي في قوله
كأن قرنفلا في الروض يسبى ... شذا رياه منتشق الأنوف
سواعد من زبرجد قائمات ... بلا بدن مخضبة الكفوف
وقال أيضا
قم يا نديمي لداعي اللهو منشرحا ... فقد ترنمت الورقاء في الورق
وانظر إلى حسن باقات القرنفل ما ... بين الربى نفحت كالمندل العبق
أطفا النسيم لهيبا من مشاعلها ... في ظلة الروض حتى جمرهن بقي
وقال
بين الحدائق أعطاف القرنفل في ... زهو بريح الصبا الزاكي وتمييل
مثل العرائس في خضر الملابس قد ... لاشت على وجهها حمر المناديل
وقال في القرنفل الأبيض
هيا بنا فالطير صادح مغردا ... ما إن يقاس لدى الورى بمغرد(2/67)
والروض مدمن القرنفل للندى ... كاسات در في زنود زبرجد
وقال في القرنفل المشرب بحمرة
وزهر قرنفل في الروض يحكي ... قصور دم على صفحات ماء
رأى وجنات من أهوى فأغضى ... فبان بوجهه أثر الحياء
وقد تطفلت على هؤلاء السادة بهذا المقطوع فقلت
وافى القرنفل معجبا ... فينا بمنظره الأنيق
يبدى زنود زبرجد ... حملت تروسا من عقيق
وهذا ما وصل إلي من التشابيه التي قيلت في القرنفل وإن ظفرت بشيء زائد يصلح للإلحاق ألحقته في الهامش بمشيئة الله تعالى وإذنه وقرأت بخط السيد أنه كان أصابه رمد فنظم فيه قوله
مذ رأى عيني وقد رمدت ... لون خديه من الألم
رام يبكيها ورق لها ... فاتقته من دم بدم
قلت لقد أبدع في النقل من قول المأمون لما طلب الدخول على بوران بنت الحسن ابن سهل فدافعوه لعذر بها فلم يندفع فلما زفت إليه وجدها حائضا فتركها فلما قعد الناس من الغد دخل عليه أحمد بن يوسف الكاتب وقال يا أمير المؤمنين هناك الله بما أخذت من الأمر باليمن والبركة وشدة الحركة والظفر بالمعركة فأنشد المأمون
فارس ماض بحربته ... صادق بالطعن في الظلم
رام أن يدمى فريسته ... فاتقته من دم بدم
وهو من لطيف الكنايات ونقله ألطف واتفق لصاحب الترجمة أنه رأى نفسه في عالم الخيال هو وبعض أدباء دمشق في روض فاقترح عليه نظم بيتين من الغزل فنظم هذين البيتين وانتبه وهو ينشدهما وهما
جاء الحبيب بطيبه ... ونأى الرقيب بكل واشي
المتن لا تهوى سوا ... ه ودع معاناة الحواشي
وأوقفني شقيقه في الفضل والأدب سيد السادات بالشام السيد عبد الكريم النقيب حرس الله وجوده من الغير وجعل سيرته أحسن السير على قطعة نظمها يذكر فيها الندماء وأرباب الغنا من المشاهير فذكرتها مشيرا لتعريف من ذكره في أثناء النظم على طريق الاختصار وأنا جازم إن شاء الله تعالى بعد توفيتي هذا الكتاب على أن أشرحها شرحا مفصلا لما فيها من الفائدة فإنها وحدها عبارة عن طبقات هؤلاء والحاجة عند اللطفاء ماسة إلى معرفتهم والإطلاع عليهم والقطعة هي هذه
كلما جدد الشجي إدكاره ... أزعج الشوق قلبه واستطاره
ليت شعري أين استقل عن الل ... هو بنوه وكيف أخلوا مزاره
بعدما راوحتهم صفوة العي ... ش ونالوا وفق الهوى أوطاره
وجروا في مطارد الأنس طلقا ... واجتلوا من زمانهم أبكاره
بين كاس وروضة وغدير ... وسماع ولذة وغضاره
أين حلو فمعشب ومقيل ... أو أناخوا فوردة وبهاره
من مليك زفت بحضرته الكا ... س قيان يعزفن خلف الستاره
ووزير قد بات يسترق اللذا ... ت وهنا والليل مرخ إزاره
وأمير ممنطق بنداما ... ه وكاس الطلا لديهم مداره
كم فتى من بني أمية أمسى ... وخيول الهوى به مستطاره
كيزيد وشأنه مع أبي قي ... س وما قد عراه في عماره
أبو قيس قرد يزيد كان ينادمه فكان إذا رآه قال شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمسخه الله تعالى فصار قردا وله معه أخبار وله يقول
نديمي أبو قيس أخف مؤنة ... وأحلم أما غاب حلم المنادم
وعمارة أخت الغريض وكانت من أحسن الناس وجها وغناء أخذت الغناء عن أخيها وعن ابن سربج وابن محرز وليزيد فيها خبر طويل وفيها يقول بعض فتيان المدينة
لو تمنين ما اشتهيت لكانت ... غاية النفس في الهوى عماره
بأبي وجهها الجميل الذي يزد ... اد حسنا وبهجة ونضاره
ونداماه كابن جعدة والأخط ... ل إذا عاقراه صفوا عقاره
ابن جعدة هو قدامة بن جعدة بن هبيرة الخزرجي من ندمائه والأخطل هو الشاعر المشهور النصراني
وقضى ليله مع ابن زياد ... وقتيب بن مسلم ونهاره
ابن زياد هو مسلم بن زياد وكان نديما ليزيد وقتيب بن مسلم هو قتيبة الباهلي وكان نديما له وكان أبوه مسلم كبير القدر عند يزيد(2/68)
وكمروان وابنه حين واسى ... بلذاذات عيسه سماره
مروان هو مروان بن الحكم وكان غليظا وابنه هو عبد الملك بن مروان
نادمته أبناء يالية اللائ ... ي قضى في ربوعهم أسحاره
أبناء يالية هم أبناء يالية بن هرم بن رواحة وكان يغشى منازلهم ليلا وينادمهم وفيهم يقول من شعر
يا خبرا دار بني ياليه ... إني أرى ليلتهم لاهيه
وكمثل الوليد ذي القصف إذ كا ... ن يغب اصطاحبه وابتكاره
ولديه الغريض وابن سريج ... أظهرا كل صنعة مختاره
من غناء ألذ من نشوة الكا ... س وأشهى من صبوة مستثاره
الغريض أحد المغنين اسمه عبد الملك وكنيته أبو زيد وقيل أبو مروان ذكر صاحب الأغاني أنه كان يضرب باليد وينقر بالدف ويوقع بالقضيب أخذ الغناء في أول أمره عن ابن سريج وهو أبو يحيى عبد الله بن سريج أحد المغنين ذكر صاحب الأغاني أنه كان أحسن الناس غناء وكان يغني مرتجلا ويوقع بالقضيب
وسليمان ذي العتو لنحو ... الذلفاء يبدى حنينه وافتراره
سليمان بن عبد الملك والدلفاء جارية كانت لأخيه شراؤها عليه ألف درهم ثم صارت إلى سليمان وهي التي يقول فيها الشاعر
إنما الدلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان
ويزيد بن خالد وأبو زي ... د يجيدان في الندام سراره
إذ بمغنى سنان كان يغالى ... ويجلى بشدوه أكداره
يزيد هو ابن خالد التيمي وكان سليمان يخصه وينادمه سرا قبل أن يباشر الشراب وأبو زيد هو أبو زيد الأسدي وكان خاصا به جالسا وينادمه وسنان مغن له كان يأنس به ويسكن إليه ويكثر الخلوة معه ويستمتع بحديثه وغنائه
وابن عبد العزيز إذ راوح ال ... كاس ووالاه في زمان الإماره
ويزيد المعمود إذ خامرته ... نشوة الراح ليله ونهاره
وسبت لبه حبابة واستهوت ... ه حتى أباح فيها اشتهاره
حبابة جارية كانت لابن سينا تسمى العالية أخذت عن ابن سريج وكانت مدينة
واستمالت به سلامة حتى ... أقلق الوجد فكره وأثاره
سلامة جارية شريت ليزيد من المدينة بعشرة آلاف دينار وكانت حسنة الوجه والغناء
إذ يناجيه لحن معبد بالشج ... و كما شاء معملا أوتاره
ولكم ألف الغناء لديه ... ضرب عواده على زماره
معبد هو معبد بن وهب أحد المغنين المشهورين وخبره في الأغاني
وهشام إذا استبد اختيارا ... بالرساطون واستلذ اختباره
من شراب ظلت افاوية الع ... طر به ذات نفحة سياره
الرساطون شراب كان يصنع له يعني لهشام تسمية أهل الشام الرساطون يطبخ بأفاويه كثيرة فيجيء طيب الرائحة قويا صلبا وفي جامع التقرير الرساطون شراب يتخذ من الخمر والعسل أعجمية لأن فعالون من أبنية كلامهم
والوليد المليك إذ واصل ال ... كاسات واللهو جهده واقتداره
واغتدى في تهتك ومجون ... كان يجني قطوفه وثماره
ومناه ذكرى سليمى لوجد ... ظل يذكى لهيبه واستعاره
إذ يغنيه مالك بن أبي السم ... ح وعمر والوافي فينتفى وقاره
سليمى هي سليمى بنت سعيد بن خالد أخت أم عبد الملك التي كانت تحته وله فيها خبر طويل ومالك هو مالك بن أبي السمح الطائي قال صاحب العقد أخذ الغناء عن معبد وكان لا يضرب بعود إنما يغني مرتجلا
ولكم خفف ابن عائشة اللحن ... له فاستحقه واستطاره
ابن عائشة هو محمد بن عائشة ويكنى أبا جعفر أخذ عن معبد ومالك وابتداؤه بالغناء كان يضرب به المثل
وابن ميادة بن أبرد والق ... اسم كانا يحثحثان عقاره
بندام ألذ من زورة الحب ... وأبهى من روضة في قراره
ابن ميادة اسمه الرماح ابن أبرد من بني غطفان كان ينادمه ويحدثه حديث الأعراب والقاسم هو القاسم الطويل العبادي وكان أقرب ندمائه إليه وأخصهم به
وبذيح أتى بأمر عجاب ... إذ تولى على القرود الإماره
بذيح هو مولى عبد الله بن جعفر ملهيه(2/69)
ويزيد المليك إذ كان يهوى ... صوت حد الحداة في كل تاره
وتغنى الركبان إذ كنا منشا ... ه البوادي حتى اعترته الحضاره
وكمروان ذي الفتوة إذ كا ... ن يوالى في غبطة أسفاره
مروان ذي الفتوة كان منشأه بالبادية في كلب ففصح لسانه
فيرى اللهو والسماع مناه ... ويرى الحرب قطبه ومداره
وكآل العباس إذ كان عب ... د الله يقضى طوع المنى أوطاره
كم غدا ليلة الثلاثاء والس ... بت يوالى الغبوق بالقرقاره
وابن صفوان في الندامى يعاطي ... ه كؤوس الحديث خلف الستاره
ولديهم أبو دلامة طورا ... يصطفيه ويجتلى أشعاره
ابن صفوان هو خالد بن صفوان كان من أقرب الناس منزلة عند أبي العباس ينادمه ويسامره لطول لسانه وبلاغته وكثرة روايته وأبو دلامة اسمه زيد بن الحارث وكان مولى لبني أسد ظريفا فصيحا كثير النوادر باحثا خليعا مدمنا للشراب راوية للأخبار والأشعار
وتحيى منصورهم من ورا النس ... ك راحا والى عليها استتاره
حل منه ابن جعفر في نداما ... ه محلا إذ كان يبلو اعتشاره
فيراه فيهم ظريفا أديبا ... لسنا حاذقا لطيف الإشاره
ابن جعفر هو محمد بن جعفر بن عبد الله بن العباس وكان يأنس به ويلتذ به وبمحادثته ويأنس به خاليا وكان كما يذكر
ثم كان المهدى يجلس للأنس ... فيصفى لشربه أوطاره
وفليح بن العورا يشد ولديه ... فيسنى حنينه وادكاره
ولديه ترب الغناء أبو إسحا ... ق يشدو بصنعة ومهاره
قال إسحاق كان المهدى في أول أمره يساتر بالشراب حتى قدم عليه فليح ابن العوراء المغني فكان يغنيه فيما مدح به من الشعر وأبو إسحاق هو إبراهيم الموصلي المشهور بالغناء
ثم كان الهادي إذا حاول الشر ... ب وغنى ابن جامع يختاره
يتولى الندام عيسى بن داب ... عنده والطلا لديه مداره
وكذاك ابن مصعب والعزيز ... ي اناخايدانيان اختياره
ابن جامع من المغنين المشهورين وكان أحلاهم نعمة وعيسى بن داب كان أديبا وأحلاهم ألفاظا وابن مصعب هو عبد الله بن مصعب الزبيدي يختص بمنادمة الهادي
وتحسى الرشيد في دير مرا ... ن على كل تلعة وقراره
من مدام حكت رهابنة ا ... لدير بها في بهارة جلناره
وعلى ضرب زلزل كان بر ... صوما لديه مواصلا مزماره
قال أبو الفرج الأصبهاني دير مران هو بناحية من دمشق على ثلة من قرى ومزارع وغدران ورياض وزلزل كان يضرب فقط واسمه منصور وكان في الطبقة الأولى وبرصوما كان زامرا في الطبقة الثانية فطرب منه الرشيد يوما فرفعه إلى الطبقة الأولى
ثم كان الأمير يمرح في اللذ ... ات ما شاء ساحبا أوزاره
وترامى بحب كوثر حتى ... سكن الحب قلبه واستخاره
ولديه مخارق في المغنين ... وبذل الكبيرة المهتاره
والحسين الخليع كان يعاطيه ... مداما كالعقد تنوى انتشاره
ثم يجلو أبو نواس على السم ... ع كؤسا من الهوى مستعاره
كوثر خادمه وكان يهواه حتى قال فيه من شعر
كوثر ديني دنيا ... ي وسقمي وطبيبي
ومخارق كان مملوكا لامرأة من أهل الكوفة فاشتراه منها إسحاق بن إبراهيم فأخذه الرشيد منه وبذل الكبيرة جارية كانت لجعفر بن موسى الهادي والحسين الخليع صريع الغواني وأبو نواس الحسن بن هانئ الشاعر المشهور
وأدر المأمون للراح كاسا ... شعشع البيت نورها واستناره
حيث علوية المغنى وإسحاق ... يزفان في الدجى أقماره
حيث يحيى بن أكثم يتولى ... بسطه وابن طاهر أسماره
وعريب مع القيان تغنيه ... بصوت تخيرت أشعاره
علوية من المغنين للرشيد وهو من الطبقة الثانية وإسحاق اشتهر به وحظى عنده وعريب جارية عبد الله بن إسماعيل صاحب المراكب كانت أحسن الناس وجها وأظرفهم طبعا وأحسنهم غناء(2/70)
وابن هرون كان يألف إبرا ... هيم شوقا ويستلذ اعتشاره
إبراهيم هو ابن المهدي الخليفة المذكور
واغتدى الواثق المقدم في الشعر ... على الكاس معملا أدوار
إذ تولى بأمره مهج الخادم ... عند اصطباحة وابتكاره
واغتدى أحمد النذيم على شرط ... بنى اللهو ناشرا أخباره
وانثنى الفتح ينتحي من أحاديث ... الهوى ممتعاته وقصاره
فتنته فريدة وعلى قدر ... الهوى يخلع المحب وقاره
مهج خادمه الذي كان يأنس به ويهواه وله فيه أشعار كثيرة حسنة والفتح هو الفتح ابن خاقان وفريدة هي جارية كان أهداها له عمرو بن بانة فحظيت عنده وكانت من الموصوفات بالجمال الفائق والغناء الرائق
وأبو الفضل كان يغدو إلى الرا ... ح مبيد الجينه ونضاره
حيث كان الكشحي يأخذ عر ... ض القول فيما أحبه واختاره
وزنام بالدف يعزف طورا ... وبنان بالعود يضرب تاره
ويغنى عمرو بن بانة والطب ... ل عليه سلمان يبدى اقتداره
الكشحي أبو بحر كان من أطيب الناس وأكثرهم نوادر وكان المتوكل لا يكاد يصبر عنه ولا يكون له مجلس إلا به وعمرو بن بانة من المغنين وسلمان طبال ماهر
وأبو جعفر أزاح اغتناما ... مع يزيد المهلبي استشاره
يزيد بن محمد المهلبي مدحه ونادمه حتى اشتهر به
وغدا المستعين يحرق للندم ... ان بالمن نده وصواره
ثم هام المعتز بابن بغاء ... عندما شام وجهه وعذاره
ابن بغاء هو يونس غلامه وكان يفرط في الشغف به وهو مذكور في شعر البحتري
وانثنى ابن القصار طورا يغ ... نيه بطنبوره فيوقد ناره
ابن القصار طنبوري كان من المهرة في زمانه
وبدا المهتدي فكان اصطناع الع ... رف والجود سمته وشعاره
وأناخ ابن جعفر في مدار العز ... ف والقصف نافيا أكداره
ومناه في الشد وشد وعريب ... كلما اعتاده الهوى واستثاره
عريب هي عريب المأمونية وكان معجبا بغنائها
واحتسى درة الكروم أبو العب ... اس والدجن يستدر قطاره
أبو العباس هو أبو العباس المعتمد
نادمته أبناء حمدون واسته ... واه بدر حين اجتلى إبداره
بدر هو بدر الجلنار غلامه
ورذاذ موقع بغناء ... ليس يخلو من صنعة مختاره
واغتدى المكتفي يمرح وال ... صولي يروى محاضرا أشعاره
وأبو الفضل كان يرتع من ر ... وق صباه في جدة ونضاره
حرق الند والكبا الرطب و ... العنبر متمتعا به وأثاره
وأقام الراضي يفرق ما بي ... ن الندامى في كل وقت نثاره
رب كاس من له بقية نش ... وان وفي حجرة الرخام أداره
ونعيم والاه في حجرة الأ ... ترج والماء قد أنار بخاره
ليت شعري أين استقل بنو بر ... مك من بعد ما تولوا الوزاره
حين كانت أيامهم غرر ال ... عيش وكانت أكفهم مدراره
والوزير المهلبي وما نو ... ل وابن العميد ترب الصداره
وكذا الصاحب بن عباد حي ... اه وحيا نظامه ونثاره
بل وأين السراة من آل حمد ... ان وما قد تخولوا في الإماره
أين من بات رافعا لبنى الل ... هو الملمين بالتحايا عماره
أين من راح والمجاسد تزد ... ان عليه بأعين النظاره
طوقته المخانق البرمكياات ... فكانت بين الظراف شعاره
وتردت من العواتق بالمن ... ديل مذ راح عاقد إزناره
وعلى رأسه أكاليل آس ... كللت أدمع الندى أقطاره
وعلى الأذن منه ريحانة من ... أذريون كمن يروم سراره
أين من كان جانب الزهر ميناس ... ا لديه والعيش يندى غضاره(2/71)
ينتحى منتحى المرواث طلقا ... في لذا ذاته ويبدى افتراره
ونرى عنده مزملة الما ... ء وخيش النسيم يعلو جداره
وسحاب البخور يهطل منه ... ماء ورد يزجى النسيم قطاره
أين من كان في فضاء من الغو ... طة يجلى من قبلنا أبصاره
أين من بات ناعما في مغاني ... شعب بوان ناشقا أزهاره
أين من أطلق النواظر في صغ ... د سمرقند واجتلى أنواره
أين من حل بالابلة قدما ... وجلى في رياضها أفكاره
أين من بات بالسماوة في مين ... اف روض يبثه أسراره
بنسيم يحل في غلس الأسح ... ار عن جيب نور أزراره
حيث تندى مباسم الزهر فيه ... وتحيى أنفاسه زوراه
فسقت عهد من مضى أدمع المز ... ن وجادت بصوبها آثاره
ما سرت نسمة الصباح بروض ... كحلاهم فهيجت أطياره
وهذا آخرها وله آثار كثيرة غيرها أوردت له كثيرا منها في كتابي النفحة وكانت ولادته في ثامن عشرى شهر ربيع سنة ثمان وأربعين وألف وتوفى مطعونا نهار الاثنين ثامن شهر ربيع الثاني سنة إحدى وثمانين وألف ودفن بمقبرة الفراديس عبد الرحمن بن يحيى بن محمد الملاح الحنفي المصري الناظم الناثر الكاتب الشاعر أوحد أهل زمانه والمتميز بالفضل على أقرانه كان أديبا فاضلا شاعرا مجيدا زاحم بمنكبه صدور الأماجد ونظم مع بلغاء عصره ذوي المحامد له نظم أرق من النسيم ونثر أحلى من التسنيم وكان له حظوة تامة عند الأستاذ الشيخ زين العابدين بن محمد البكري ثم لازم بعده أخاه أبا المواهب ثم لازم الشيخ أحمد بن زين العابدين وكان كاتب يد الجميع إلى أن اخترمته المنية ومن شعره قوله من قصيدة
ما لحاوي الجمال في الحسن ثاني ... وفؤادي ما مال عنه لثاني
ذي جمال بطلعة كهلال ... حار في حسنه البديع لساني
رشأ راشق فؤادي بقد ... إن تثنى يا خجلة الأغصان
ناسخ حقق المحبة عندي ... بعذار وسالف ريحاني
ماس غصنا رنا غزالا وظبيا ... لاح بدرا علا على غصن بان
بخدود لبهجة الورد تروى ... ونهود روت عن الرمان
يا بديع الجمال يا نور عيسى ... أنت والله فاضح الغزلان
لا تعذب قلبي بصدو بين ... وبعاد يا ساحر الأجفان
لا تطع يا مليح كل عذول ... عذله والملام قد أذياني
واتق الله في حشاشة قلبي ... لا تذقها حرارة الهجران
يا كحيل العيون يكفي بعاد ... بتثنى قوامك الفتان
أنت قصدي من الملاح وحسبي ... لك داعي الغرام قد ألواني
لا تذقني صدا وبعدا وسهدا ... وتغير يا منيتي ألواني
يا عذولي على غرام مليح ... كامل الظرف من حسان الجنان
هل حبيبي شمس والاهلال ... أم من الحور أم من الولدان
هو لا شك مفرد الحسن حقا ... وأراه قد فر من رضوان
قسما يا مليح مالك ثاني ... لا ولا مثل فضل عثمان ثاني
وكانت وفاته في يوم الثلاثاء ثامن عشر شعبان سنة أربع وأربعين وألف بمصر وصلى عليه بجامع الأزهر في مشهد عظيم لم ير مثله حضره أكابر العلماء رحمه الله تعالى(2/72)
عبد الرحمن بن يوسف بن علي الملقب زين الدين بن القاضي جمال الدين بن الشيخ نور الدين البهوتي الحنبلي المصري خاتمة المعمرين البركة العمدة ولد بمصر وبها نشأ وقرأ الكتب الستة وغيرها من كتب الحديث وروى المسلسل بالأولية عن الجمال يوسف بن القاضي زكريا وعلوم الحديث عن الشمس الشامي صاحب السيرة تلميذ السيوطي ومن مشايخه في فقه مذهبه والده وجده والتقي الفتوحي الحنبلي صاحب منتهى الإرادات وأخوه عبد الرحمن ابنا شيخ الإسلام الشهاب أحمد بن النجار الفتوحي والشيخ شهاب الدين البهوتي الحنبلي وغيرهم وفي فقه الإمام مالك الشيخ زين الجيزي والشيخ محمد الفيشي والشيخ أبو الفتح الدميري شارح المختصر والشيخ محمد الحطاب المالكيون وفي فقه أبي حنيفة الشيخ شمس الدين البرهمتوشي وأبو الفيض السلمي وأمين الدين بن عبد العال وعلي بن غانم المقدسي الحنفيون وفي فقه الشافعي الشمس الخطيب الشربيني والشمس العلقمي شارح الجامع الصغير والشيخ ولي الدين الضرير شارح التنبيه في أربع مجلدات وعنه أخذ جمع منهم منصور بن يونس البهوتي وعبد الباقي الحنبلي الدمشقي وكان في سنة أربعين وألف موجودا في الاحياء عبد الرحمن المحلى الشافعي نزيل دمياط الشيخ المحقق النحرير محرر العبارات الفهامة الدقيق النظر القوي الترجيح والفكرة كان غاية في لطافة الأخلاق وحسن العشرة والمحاورة
يكاد من رقة الألفاظ يحمله ... روح النسيم وبرق السمع يخطفه
قد رق حتى إذ الوحل من أدب ... في طرف ذي رمد ما كان يطرفه
مولده المحلة الكبرى وهي قصبة الغربية من مصر وقدم القاهرة واشتغل بالعلم وجد فيه وأخذ عن الزين عبد الرحمن اليمني ومحيي الدين بن شيخ الإسلام زكرياء والنور على الحلبي والشمس محمد الشوبري وصحب النور الشبراملسى واقتصر عليه من بين شيوخه ولازمه وصار الشبراملسى واقتصر عليه من بين شيوخه ولازمه وصار الشبراملسى لا يصدر إلا عن رأيه ومن غريب ما اتفق له معه أن الشبراملسى كان يحضر دروس الشمس الشوبري لكونه أسن منه وكان الشمس المذكور يعتقد زيادة فضل الشبراملسى ويكثر المطالعة لأجله ويمعن النظر في تحرير المسائل الفقهية وكان من مزيد جلالته إذا توقف في أثناء مطالعته في شيء ولم يظهر الجواب عنه يكتب عليه ويعرضه على الشبراملسى فيجيبه عنه وكان الشبراملسى من دقة النظر بمكان فلما رأى المحلى ذلك منع الشبراملسى من حضور درس الشوبري وحلف عليه بالله سبحانه أنه لا يحضره فحاول أن يخلصه من اليمين فلم يقدر ولم تطب نفسه أن يتكدر منه خاطره لما تقدم من شدة انقياده إليه فترك حضور الدرس وبلغ ذلك الشوبري فتألم غاية التألم وظهر منه التغير الشديد على المحلى ودعا عليه بدعوات منها أن الله سبحانه يقطعه عن جامع الأزهر كما قطع الشبراملسى عن حضور درسه فاستجاب الله سبحانه دعاءه وهاجر من الجامع الأزهر بغير سبب ولم يطب له المكث في مصر وتوجه إلى دمياط وأقام بها ولم يرزق فيها حظا في دروسه مع أنه أفضل من فيها من علمائها وله مؤلفات ورسائل كثيرة منها حاشية على تفسير البيضاوي وكانت وفاته بدمياط في شهر رمضان سنة ثمان وتسعين وألف كذا رأيته بخط الأخ الفاضل مصطفى بن فتح الله(2/73)
عبد الرحيم بن أبي بكر بن حسان المكي الحنفي الإمام العالم الفقيه المفنن كان محدثا فقيها نحويا مشاركا في علوم كثيرة ورعا تقيا مثابرا على الاشتغال بالعلم محبا لأهله طاهر النفس سريع التأثير في طبائع التلامذة قريب الإنتاج لهم بحيث أن علمه يلقح الطلع وكانت نفع الله تعالى به لا يحضر المحافل ولا يفتي وعنده انجماع عن الناس وعدم معرفة بأمور الدنيا بمعزل عن طلب الرياسة والدخول في المناصب مقبلا على الاشتغال بالعلم ونفع الناس ولد بمكة وبها نشأ وحفظ القرآن وأخذ عن شيوخ الحرمين منهم سيبويه زمانه عبد الله الفاكهي والعلامة أحمد بن حجر الهيثمي والشيخ تقي الدين بن فهد وغيرهم وعنه الإمام عبد القادر الطبري وعبد الرحمن المرشدي وغيرهما ومن فوائده أنه سئل عن إعراب قوله تعالى " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " إن ما موصول اسمي وما بعده صلة ولا عائد يربطها بالموصول لا لفظا وهو ظاهر ولا تقديرا لأن ذلك العائد إما أن يقدر ضميرا متصلا أو منفصلا ولا سبيل إلى الأول لمرجوحية اتصال ضميري النصب إذا اتحدا رتبة واختلفا لفظا كقوله " إنالهماه قفوا كرم والد " ولا إلى الثاني لأن العائد المنصوب لا يحذف إذا كان ضميرا منفصلا فأجاب بقوله العائد إلى ما الموصولة ضمير محذوف يقدر منفصلا مؤخرا عن عامله أي بالذي آتاهم الله إياه وقول السائل لأن العائد المنصوب لا يحذف إذا كان ضميرا منفصلا ليس على إطلاقه انتهى وكانت وفاته بمكة في ذي الحجة سنة أربع عشرة بعد الألف رحمه الله تعالى عبد الرحيم بن إسكندر أحد الموالي الرومية كان عالما حسن الأخلاق ورد الشام قديما مع بعض قضاتها وأخذ بها عن البدر الغزي وحضر دروسه ثم ولى قضاء الشام في سنة تسع بعد الألف وقدم إليها وكان دينا عفيفا جميل السيرة وفيه تعطف ومحبة للعلماء والصلحاء ولم يقم بدمشق إلا شهرا واحدا ثم انفصل عنها وسافر في شهر بيع الأول وتوفى في شهر ربيع الثاني وهو ذاهب في الطريق بمدينة أركله رحمه الله تعالى عبد الرحيم بن تاج الدين بن أحمد بن محاسن الدمشقي الحنفي تقدم أبوه في حرف التاء وعبد الرحيم هذا ولد بدمشق ونشأ بها ودأب في التحصيل حتى تفوق في عنفوان عمره وكان فاضلا أديبا ذكيا قوي الحافظة يحتوي على فنون وكان في الحسن إليه النهاية ورحل به أبوه إلى القاهرة فأخذ بها الفقه عن الشيخ عبد القادر الطوري مفتي الحنفية والشيخ محمد المحبي الحنفي حكى له أخوه الشيخ الإمام إسمعيل الخطيب بجامع دمشق قال كان إذا جاء إلى حلقة المحبي يأمره أن يجلس خلفه ويدير ظهره إلى ظهره ويقول المحبي إنما أفعل ذلك صيانه لوجهه عن أن يراه أحد قلت ومثل هذا يروى عن الإمام أبي حنيفة مع الإمام محمد وحكى لي أيضا أنه كان يحفظ كتبا عدة من جملتها تاريخ ابن خلكان وامتحن فيه مرات فظهر أنه متقن حفظه وكان يكتب الخط الحسن ويرمي بالسهام رميا جيدا ويعوم ولع معرفة باللغة الفارسية وبلغ ما بلغ من هذه الغايات وسنه لم يبلغ العشرين وحكى لي أخوه المذكور قال كان إذا فرغ من دروسه جاء إلى المنزل وأخذ يلعب لعب الصبيان المعروف فكان عمه أبو الصفا يقول له أيجمل بك هذا وأنت في هذه المثابة من الاشتغال فكان يقول أنا قصدي أن أوفي الصباوة حقها قلت مثل هذا يحكى عن الرئيس أبي علي بن سيناء ورأيت بخط عبد الرحيم المترجم مجموعا مشتملا على قصائد ومقطعات من بواكير طبعه فاخترت منها اللائق بكتابي هذا فمن ذلك قوله في الغزل
ملت العذال من عذل وما ... مل جفناك من الفتك بقلبي
لو رآك الناس بالعين التي ... أنا رائيك بها ما ازداد كربي
واستراح القلب من عذلهم ... إن طول العذل داء للمحب
بل ولو كان بهم مثل الذي ... بفؤادي لم يمت شخص بنحب
وقوله
لي فؤاد على المودة باقي ... لم يزغ عن تذكر الميثاق
غير أن البعاد جار عليه ... فبراه ولم يدع منه باقي
وجفون جفت لذيذ كراها ... واستغاضت بمدمع غيداق
كلما طال عهدها طال منها ... مدمع يرتقى وليس براقي
إن درا أودعتموه بأذني ... در مذ بنتم من الآماق
معنى البيت الأخير مطروق ومما استحسنته من شعره قوله(2/74)
تطاولت الخمر اختبار العقلنا ... فقالت لنا إني كجفنيه أكسر
فبادرها الإنكار منا لقولها ... على أننا بالحق والله ننكر
فرقت لنعفو واستحت فلأجل ذا ... نرى وجهها يبدو لنا وهو أحمر
وعلى ذكر استحياء الخمر تذكرت لطيفة وهي أن بعض الظرفاء كان يستعمل الشراب سرا وكان عليه حجر من والده فما زال والده يتبعه إلى أن لقيه يوما ومعه قنينة خمر فقال له ما هذا قال لبن قال ويحك اللبن أبيض وهذا أحمر قال صدقت لما رآك خجل واستحى واحمر وقبح الله من لا يستحي فخجل ونصرف وخلاه ومن مقاطيعه قوله
أسير وقلبي عندكم لست عالما ... بما فيه هاتيك اللواحظ تصنع
وما زلت مشتاقا لطيف خيالكم ... وإني من الدنيا بذاك أقنع
وقوله على أسلوب أبيات الحريري يا خاطب الدنيا الدنية وفيه التصريع
يا من نأى متجبرا يا جاني ... صيرتني متحيرا في شاني
هلا وقد أبعدتني وقليتني ... أرسلت طيفك في الكرى يلقاني
أمطرت مني عبرة هي عبرة ... فضحت هوى متسترا بجناني
ومما يستجاد له قوله
قال العذول دع الذي في حبه ... عيناك قد سمحت بدمع هامع
فأجبته إن كنت لست بناظر ... هذا الغزال فلست منك بسامع
ونقلت من خطه قال رأيت في آخر الكلستان للشيخ سعدى ما معناه سئل بعضهم عن اليد اليمنى ما بالها مع فضلها الجزيل وكراماتها المعلومة لم يوضع فيها الخاتم ووضع في الشمال قال فنظمت هذا المعنى في بيتين
إن الفتى العالم عم علمه ... تراه محروما وما من العالم
مثل اليد اليمنى لفضل بها ... قد منعت من زينة الخاتم
ثم ناقضته بقولي
تالله ما ذاك مخل بها ... بل شرفت من واحد راحم
وإنما الفضل لها زينة ... به اغتنت عن زينة الخاتم
قلت والتختم باليسرى إنما حدث في وقعة صفين حين خطب عمرو بن العاص فقال ألا إني خلعت الخلافة من على كخلع خاتمي هذا من يميني وجعلتها في معاوية كما جعلت هذا في يساري فبقيت سنة عمرو بين العامة إلى يومنا هذا وأما النبي صلى الله عليه وسلم وكذا الخلفاء الراشدين بعده فكانوا يتختمون باليمين وقد ذكر فقهاؤنا منهم البرجندي في الرهن من كشف البزدوي أنه يتختم باليسرى وقيل باليمنى إلا أنه شعار الروافض فيجب التحرز عنه قال شيخنا العلا الحصكفي في شرح الملتقى ولا شعور لنا بهذا الشعار في هذه الأمصار فنتبع أمر المختار يعني في الحديث افعلها في يمينك إذ ثبت الخيار كما جزم به بعض الأخيار والذي رأيته في الكلستان أن أول من وضع الخاتم في اليد جمشيد الملك فقيل له لم وضعته في الشمال ولم تضعه في اليمين فقال أما اليمين فزينتها كونها يمينا فقيل لأي شيء وضعته في الخنصر فقال جبرا لها لأن ما عداها كبرها زينة لها وقيل لبعضهم لماذا حرمت اليمين من الخاتم فقال أهل الفضل محرومون وما أحسن قول الشيخ أبي عامر الفضل التميممي الجرجاني
تختم في اليسار فلست تلقى ... طرازا لكم إلا في اليسار
وما نقصوا اليمين به ولكن ... لباس الزين أولى بالصغار
لذاك ترى الأباهم عاطلات ... وهن على الأكف من الكبار
وقد عرفت الحديث فكل هذا غفلة عنه وكانت ولادة عبد الرحيم هذا بدمشق في سنة عشر بعد الألف وتوفى بالقاهرة مطعونا في سنة سبع وعشرين وألف رحمه الله تعالى عبد الرحيم بن عبد المحسن بن عبد الرحمن بن علي الشعراني المصري نزيل قسطنطينيه وهو والد قاضي القضاة أبي السعود المقدم ذكره وكان من أجلاء علماء عصره ولد بمصر وقرأ وحصل بها وأجل أشياخه قريبه القطب الرباني الشيخ عبد الوهاب الشعراني صاحب العهود وغيرها وصحب الأستاذ محمد البكري وكان كثير الملازمة له شديد الاتصال به وكان يقع له معه أحوال ومكاشفات حدث بكثير منها ثم رحل إلى الروم وتوطنها وولى قضاء الحرمين ثم تقاعد بمدرسة السلطان أحمد وكان يحفظ القرآن وله حافظة قوية في أنواع الفنون وله تآليف منها رسالته التي سماها إيقاظ الوسنان من سنته في بيان أل الموصول وصلته نحو ثلاثة كراريس وله شعر قليل منه قوله(2/75)
يا سيد الرسل ومن جوده ... لكل خلق الله مسترسل
أنت الذي خصك ربي بما ... لم يحصر المزبر والمقول
وإنني عبدك من رجمه ... لفكر ذي اللب الذكي يذهل
قد جئت أبغي توبة ينمحى ... عني بها الوزر الذي يثقل
والستر في ديني وأهلي ومن ... يحويه بيتي أو به ينزل
فأنت باب الله أي امرئ ... أتاه من غيرك لا يدخل
وقد ضمن البيت الأخير من قصيدة الأستاذ البكري المذكور التي أولها
ما أرسل الرحمن أو يرسل ... من رحمة تصعد أو تنزل
ورأيت بخط السيد محمد بن علي القدسي الدمشقي قال أنشدني العلامة عبد الرحيم الشعراني هذه الأبيات ولست أدري أهي له أم لغيره وهي
كاتب في السابق كسرى قيصر ... بما استقام ملككم والظفر
فقال قد دام لنا الولاء ... بخمسة طاب بها الهناء
إن استشرنا فذوي العقول ... وإن نولى فذوي الأصول
وليس في وعد ولا وعيد ... نخالف القول على التأبيد
وإن نعاقب فعلى قدر السبب ... من الذنوب لا على قدر الغضب
ولا نقدم الشباب مطلقا ... على الشيوخ في ولاء أطلقا
وكانت وفاته في الثلث الأول من الليل بعد فراغه من صلاة العشاء بعد أن قرأ سورة الملك في ليلة الأحد حادي عشرى رجب سنة ثمان وأربعين وألف بقسطنطينية الروم(2/76)
عبد الرحيم بن محمد مفتي الدولة العثمانية المحقق الشهير أحد أعيان علماء الزمان الذين ابتهجت بهم الأوقات وتزينت بحلى مآثرهم الأيام رحل في مبدأ أمره من بلده ادنه إلى بلاد الأكراد وقرأ بها العلوم الحكمية والرياضية والطبيعية والإلهية على المولى أحمد المنجلي والمولى حسين الخلخالي والمولى محمد أمين بن صدر الدين الشرواني وفاق في المعرفة والإتقان ثم اعتنى بتتميم المادة حتى اجتمع فيه من الفنون ما لم يجتمع فيما سواه ممن عاصره وكان في جميع أحواله مثابرا على التحصيل لا يمل ولا يفتر وحكى لي بعض من لقيته من علماء الروم قال كان كثيرا ما ينقل أمرا عجيبا وقع له إبان طلبه ويعجب منه وذلك أن أحد أساتذته امتحنه بعبارة وأظنه قال إنها في التفسير وقال لي اذهب هذه الليلة إلى حجرتك ودقق النظر في هذا المحل وفي غد أتكلم معك فيه قال فذهبت إلى حجرتي وكان رجل من سكان المدرسة التي كان مسكني فيها يتردد إلي ويخدمني فوضعت الكاغد قدامي وجلست أنظر فيه وكان ذلك الرجل يأتيني بالمأكل والمشرب فأستعمل منه وحررت على ذلك المحل رسالة من أنفس ما يكون ثم جاءني الرجل وقال لي حسبك من هذا النظر فسألته عن الوقت فقال لي اليوم كذا وأنت لك الآن عشرة أيام على هذه الحالة قال فقمت وأنا متعجب في ذلك وفكرت فيما قاله فرأيت حقا ومثل هذا لا يستبعد عن مثله وبعدما برع رحل إلى الروم وحكى والدي رحمه الله تعالى في ترجمته قال لما وردها لم يجد بها من يعرفه فاضطرب ثم ذهب إلى جامع السلطان محمد فرأى رجلا من سكان المدارس الثمان فأنس به ثم دعاه الرجل إلى حجرته وبات عنده تلك الليلة وانجر معه في أثناء المكالمة إلى ذكر ما وقع له من الوحشة وشكى إليه رقة حاله فسلاه ثم قال له إني كنت اليوم عند المولى عبد العزيز بن المولى سعد الدين فذكر أن ولده محمد البهائي قد تهيأ للمذاكرة واستعد للقراءة وطلب مني أستاذا فلعلك تكون ذلك فانجلى عن صاحب الترجمة ما كان يجده من الغم ولما أصبحا توجه الرجل إلى المولى المذكور وأصحب صاحب الترجمة معه وعرف بحاله ونوه به فصيره المولى عبد العزيز معلما لولده المذكور فاهتم بتعليمه الفنون حتى نبل وساد ثم بعد مدة لازم على قاعدتهم من المولى المشار إليه وحج في خدمته سنة خمس وعشرين وألف ودرس بعد ذلك بمدارس الطريق وأخذ عنه الجم الغفير منهم المحقق الكبير المولى مصطفى البولوي والعلامة المتقن يحيى المنقاري المفتيان ونما به حظه فوصل إلى المدرسة السليمانية وولى منها قضاء ينكى شهر ثم تقاعد بعد ذلك عن القضاء واختار التدريس فوجهت إليه مدرسة السلطان أحمد برتبة قضاء قسطنطينية ثم ولى قضاءها استقلالا ونقل منها إلى قضاء العسكر باناطولى في سنة خمسين وألف ولما عزل عنها أمر بالتوجه إلى بلده ادنه بالأمر السلطاني ثم عاد منها بطلب من جانب السلطنة وولى قضاء العسكر بروم ايلى في شوال سنة خمس وخمسين ثم صار مفتي الدولة في سنة سبع وخمسين وتمكنت قواعد جاده في الفتيا واستقل بأمر الدولة حتى كان برأيه قتل السلطان إبراهيم وقد قام بذلك الأمر أتم القيام وأفتى بقتله بناء على أنه انتهك بعض الحرمات وانجر أمره في ذلك إلى إلى غصب بعض نساء ذوات أزواج ونقم عليه أمور غير ذلك كلها خارجة عن جادة الشريعة فخلعه صاحب الترجمة من السلطنة وأفتى بقتله فقتل كما ذكرناه في ترجمته وعلت حرمة المترجم بعد ذلك وهابه الخلق ثم عزل عن الفتيا وأمر بالتوجه إلى الحج فسار من البحر إلى مصر وذلك في سنة تسع وخمسين ثم بعد ما حج عاد من الطريق الشامي ونزل بالمدرسة السليمانية ووجه إليه قضاء القدس فتوجه إليها وأزال منها بعض أمور منكرة ثم وجه إليه قضاء بلغراد وافتاؤها فسافر إليها وأقام بها إلى أن توفى وكانت وفاته في حدود سنة اثنتين وستين وألف رحمه الله(2/77)
عبد الرؤف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الملقب زين الدين الحدادي ثم المناوى القاهري الشافعي وقد تقدم ذكر تتمة نسبه في ترجمة ابنه زين العابدين الإمام الكبير الحجة الثبت القدوة صاحب التصانيف السائرة وأجل أهل عصره من غير ارتياب وكان إماما فاضلا زاهدا عابدا قانتا لله خاشعا له كثير النفع وكان متقربا بحسن العمل مثابرا على التسبيح والأذكار صابرا صادقا وكان يقتصر يومه وليلته على أكلة واحدة من الطعام وقد جمع من العلوم والمعارف على اختلاف أنواعها وتباين أقسامها ما لم يجتمع في أحد ممن عاصره نشأ في حجر والده وحفظ القرآن قبل بلوغه ثم حفظ البهجة وغيرها من متون الشافعية وألفية ابن مالك وألفية سيرة العراقي وألفية الحديث له أيضا وعرض ذلك على مشايخ عصره في حياة والده ثم أقبل على الاشتغال فقرأ على والده علوم العربية وتفقه بالشمس الرملي وأخذ التفسير والحديث والأدب عن النور علي بن غانم المقدسي وحضر دروس الأستاذ محمد البكري في التفسير والتصوف وأخذ الحديث عن النجم الغيطي والشيخ قاسم والشيخ حمدان الفقيه والشيخ الطبلاوي لكن كان أكثر اختصاصه بالشمس الرملي وبه برع وأخذ التصوف عن جمع وتلقن الكر من قطب زمانه الشيخ عبد الوهاب الشعراوي ثم أخذ طريق الخلويتة عن الشيخ محمد المناخلي أخي عبد الله وأخلاه مرارا ثم عن الشيخ محرم الرومي حين قدم مصر بقصد الحج وطريق البيرامية عن الشيخ حسين الرومي المنتشوي وطريق الشاذلية عن الشيخ منصور الغيطي وطريق النقشبندية عن السيد الحسيب النسيب مسعود الطاشكندي وغيرهم من مشايخ عصره وتقلد النيابة الشافعية ببعض المجالس فسلك فيها الطريقة الحميدة وكان لا يتناول منها شيئا ثم رفع نفسه عنها وانقطع عن مخالطة الناس وانعزل في منزله وأقبل على التأليف فصنف في غالب العلوم ثم ولى تدريس المدرسة الصالحية فحسده أهل عصره وكانوا لا يعرفون مزية علمه لانزوائه عنهم ولما حضر الدرس فيها ورد عليه من كل مذهب فضلاؤه منتقدين عليه وشرع في إقراء مختصر المزني ونصب الجدل في المذاهب وأتى في تقريره بما لم يسمع من غيره فأذعنوا لفضله وصار أجلاء العلماء يبادرون لحضوره وأخذ عنه منهم خلق كثير منهم الشيخ البابلي والسيد إبراهيم الطاشكندي والشيخ علي الاجهوري والولي المعتقد أحمد الكلبي وولده الشيخ محمد وغيرهم وكان مع ذلك لم يخل من طاعن وحاسد حتى دس عليه السم فتوالى عليه بسبب ذلك نقص في أطرافه وبدنه من كثرة التداوي ولما عجز صار ولده تاج الدين يستملي منه التآليف ويسطرها وتآليفه كثيرة منها تفسيره على سورة الفاتحة وبعض سورة البقرة وشرح على العقائد للسعد التفتازاني سماه غاية الأماني لم يكمل وشرح على نظم العقائد لابن أبي شريف وشرح على الفن الأول من كتاب النقاية للجلال السيوطي وكتاب سماه أعلام الأعلام بأصول فني المنطق والكلام وشرح على متن النخبة كبير سماه نتيجة الفكر وآخر صغير وشرح على شرح النخبة سماه اليواقيت والدرر وشرح على الجامع الصغير ثم اختصره في أقل من ثلث حجمه وسماه التيسير وشرح قطعة من زوائد الجامع الصغير وسماه مفتاح السعادة بشرح الزيادة وله كتاب جمع فيه ثلاثين ألف حديث وبين ما فيه من الزيادة على الجامع الكبير وعقب كل حديث ببيان رتبته وسماه الجامع الأزهر من حديث النبي الأنور وكتاب آخر في الأحاديث القصار عقب كل حديث ببيان رتبته سماه المجموع الفائق من حديث خاتمة رسل الخلائق وكتاب انتقاه من لسان الميزان وبين فيه الموضوع والمنكر والمتروك والضعيف ورتبه كالجامع الصغير وكتاب في الأحاديث القصار جمع فيه عشرة آلاف حديث في عشر كراريس كل كراسة ألف حديث كل حديث في نصف سطر يقرا طردا وعكسا سماه كنز الحقائق في حديث خير الخلائق وشرح على نبذة شيخ الإسلام البكري في فضل ليلة النصف من شعبان وكتاب في فضل ليلة القدر سماه أسفار البدر عن ليلة القدر وشرح على الأربعين النووية ورتب كتاب الشهاب القضاعي وشرحه وسماه إمعان الطلاب بشرح ترتيب الشهاب وله كتاب في الأحاديث القدسية وشرح الكتاب المذكور وشرح الباب الأول من الشفا وشرح الشمايل للترمذي شرحين أحدهما مزج والآخر قولات لكنه لم يكمل وشرح ألفية السيرة لجده العراقي شرحين أحدهما قولات والآخر مزج سماه الفتوحات السبحانية في شرح نظم الدرر السنية في السيرة(2/78)
الزكية وشرح الخصائص الصغرى للجلال السيوطي شرحين صغير سماه فتح الرؤف المجيب بشرح خصائص الحبيب وشرح كبير سماه توضيح فتح الرؤف المجيب واختصر شمائل الترمذي وزاد عليه أكثر من النصف وسماه الروض الباسم في شمايل المصطفى أبي القاسم وخرج أحاديث القاضي البيضاوي وكتاب الأدعية المأثورة بالأحاديث المأثورة وكتاب آخر سماه بالمطالب العليه في الأدعية الزهيه وكتاب في اصطلاح الحديث سماه بغية الطالبين لمعرفة اصطلاح المحدثين وشرح على ورقات إمام الحرمين وآخر على ورقات شيخ الإسلام أبي شريف واختصر التمهيد للاسنوي لكنه لم يكمله وله كتاب في الأوقاف سماه تيسير الوقوف على غوامض أحكام الوقوف وهو كتاب لم يسبق إلى مثله وشرح زبد ابن أرسلان التي نظم فيها أربعة علوم أصول الدين وأصول الفقه والفقه والتصوف وسماه فتح الرؤف الصمد بشرح صفوة الزبد وشرح التحرير لشيخ الإسلام زكريا سماه إحسان التقرير بشرح التحرير ثم شرح نظمه للعمريطي بالتماس بعض الأولياء وسماه فتح الرؤف الخبير بشرح كتاب التيسير نظم التحرير وصل فيه إلى كتاب الفرائض وكمله ابنه تاج الدين محمد وشرح على عماد الرضي في آداب القضاء سماه فتح الرؤف القادر لعبده هذا العاجز القاصر وشرح على العباب سماه إتحاف الطلاب بشرح كتاب العباب انتهى فيه إلى كتاب النكاح وحاشية عليه لكنه لم يكملها وشرح على المنهج انتهى فيه إلى الضمان وحاشية على شرح المنهج لم تكمل وكتاب في أحكام المساجد سماه تهذيب التسهيل وكتاب في مناسك الحج على المذاهب الأربعة سماه إتحاف الناس بأحكام المناسك وشلاح على البهجة الوردية سماه الفتح السماوي بشرح بهجة الطحاوي ثم اختصره في نحو ثلث حجمه وكلاهما لم يكمل وكتاب في أحكام الحمام الشرعية والطبية سماه النزهة الزهية في أحكام الحمام الشرعية والطبية وشرح على هدية الناصح للشيخ أحمد الزاهد لكنه لم يكمل وشرح على تصحيح المنهاج سماه الدر المصون في تصحيح القاضي ابن عجلون لكنه لم يكمل وشرح على مختصر المزنى لم يكمل واختصر العباب وسماه جمع الجوامع ولم يكمل وكتاب في الألغاز والحيل سماه بلوغ الأمل بمعرفة الألغاز والحيل وكتاب في الفرائض وشرح على الشمعة المضية في علم العربية للسيوطي سماه المحاضر الوضيه في الشمعة المضية وكتاب جمع فيه عشرة علوم أصول الدين وأصول الفقه والفرائض والنحو والتشريح والطب والهيئة وأحكام النجوم والتصوف وكتاب في فضل العلم وأهله وكتاب اختصر فيه الجزء الأول من المباح في علم المنهاج للجلدكي وشرح على القاموس انتهى فيه إلى حرف الذال واختصر الأساس ورتبه كالقاموس وسماه أحكام الأساس وكتاب الأمثال وكتاب سماه عماد البلاغة وكتاب في أسماء البلدان وكتاب في التعاريف سماه التوقيف على مهمات التعاريف وكتاب في أسماء الحيوان سماه الإحسان ببيان أحكام الحيوان وكتاب في الأشجار سماه غاية الإرشاد إلى معرفة أحكام الحيوان والنبات والجماد وكتاب في التفصيل بين الملك والإنسان وكتاب الأنبياء سماه فردوس الجنان في مناقب الأنبياء المذكورين في القرآن وكتاب الطبقات الكبرى سماه الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية وكتاب الصفوة بمناقب بيت آل النبوة وأفرد السيدة فاطمة بترجمة والإمام الشافعي بترجمة وكذا الشيخ على الخواص شيخ الشيخ عبد الوهاب الشعراني وله شرح على منازل السائرين وحكم ابن عطاء الله وترتيب الحكم للشيخ علي التقي سماه فتح الحكم بشرح ترتيب الحكم لكنه لم يكمل وشرح على رسالة ابن سينا في التصوف سماه إرسال أهل التعريف وشرح قصيدته العينية وله شرح على المواقف التقوية لم يكمل وشرح على رسالة الشيخ ابن علوان في التصوف وكتاب منحة الطالبين لمعرفة أسرار الطواعين وكتاب في التشريح والروح وما به صلاح الإنسان وفساده وكتاب في دلائل خلق الإنسان وشرح على ألفية ابن الوردي في المنامات وشرح على منظومة ابن العماد في آداب الأكل سماه فتح الرؤف الجواد وهو أول كتاب شرحه في الآداب وكتاب في آداب الملوك سماه الجواهر المضية في بيان الآداب السلطانية وكتاب في الطب سماه بغية المحتاج إلى معرفة أصول الطب والعلاج وكتاب سماه الدر المنضود في ذم البخل ومدح الجود وكتاب في تاريخ الخلفاء وتذكرة فيها رسائل عظيمة النفع ينبغي أن يفرد كل منها بالتأليف وله مؤلفات أخر غير هذه وبالجملة فهو(2/79)
أعظم علماء هذا التاريخ آثارا ومؤلفاته غالبها متداولة كثيرة النفع وللناس عليها تهافت زائد ويتغالون في أثمانها وأشهرها شرحاه على الجامع الصغير وشرح السيرة المنظومة للعراقي وكانت ولادته في سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة وتوفى صبيحة يوم الخميس الثالث والعشرين من صفر سنة إحدى وثلاثين وألف وصلى عليه بجامع الأزهر يوم الجمعة ودفن بجانب زاويته التي أنشأها بخط المقسم المبارك فيما بين زاويتي سيدي الشيخ أحمد الزاهد والشيخ مدين الشموني وقيل في تاريخ موته مات شافعي الزمان رحمه الله تعالى علماء هذا التاريخ آثارا ومؤلفاته غالبها متداولة كثيرة النفع وللناس عليها تهافت زائد ويتغالون في أثمانها وأشهرها شرحاه على الجامع الصغير وشرح السيرة المنظومة للعراقي وكانت ولادته في سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة وتوفى صبيحة يوم الخميس الثالث والعشرين من صفر سنة إحدى وثلاثين وألف وصلى عليه بجامع الأزهر يوم الجمعة ودفن بجانب زاويته التي أنشأها بخط المقسم المبارك فيما بين زاويتي سيدي الشيخ أحمد الزاهد والشيخ مدين الشموني وقيل في تاريخ موته مات شافعي الزمان رحمه الله تعالى عبد السلام بن إبراهيم بن إبراهيم اللقاني المصري المالكي الحافظ المتقن الفهامة شيخ المالكية في وقته بالقاهرة كان في مبدأ أمره على ما حكى من أهل الأهواء المارقين ولم يتفق أنه رؤي بمصر في مكان إلا في درس والده البرهان وكان إذا انتهى الدرس ينفقد فلا يوجد ويمضي لما كان عليه حتى مات أبوه فتصدر في مكانه بجامع الأزهر للتدريس ونزع عما كان عليه في أيام شبابه وظهر منه ما لا يخمن فيه من العلم والتحقيق ولزمه غالب الجماعة الذين كانوا يحضرون درس والده وانتفع به خلق كثير وكان إماما كبيرا محدثا باهرا أصوليا إليه النهاية وله تآليف حسنة الوضع منها شرح المنظومة الجزائرية في العقائد وله ثلاثة شروح على عقيدة والده الجوهرة وكان ذا شهامة ونفسانية كثير الحط على علماء عصره وكانت له شدة وهيبة ولا سيما في دروسه فكان لا يقدر أحد من الحاضرين أن يسأله أو يرد عليه هيبة له وكان كبار المشايخ من أهل وقته يحترمون ساحته وينقادون لرأيه وسمعت بعض الأشياخ المصريين يقول أنه لو كان على وتيرة والده من الأكباب على الإفادة لفاته بمراحل على أنه كان في طبقته فضلا ومهابة وكانت ولادته في سنة إحدى وسبعين وتسعمائة وتوفى نهار الجمعة خامس عشرى شوال سنة ثمان وسبعين وألف وحكى شيخنا الإمام العلامة يحيى الشاوي المغربي روح الله تعالى روحه أنه رآه بعد موته في المنام فأنشده
حدثني ذا المصطفى ... من لفظه ألف حديث
وقصده بحفظها ... سيري إليه بالحثيث
عبد السلام بن عبد النبي المرعشي المولد نزيل دمشق وأحد أعيان الجند بالشام كان والده في الأصل من البوابين بالأبواب السلطانية قدم إلى دمشق وصار بها رئيس المحاضر وتديرها ولما مات خلف أولادا كثيرة وكان عبد السلام أكبرهم فانحاز إلى خدمة الأمير فروخ أمير الحاج الشامي وصار كاتبا عنده واستمر في خدمته إلى أن توفى الأمير المذكور بمكة فأقيم مكانه أميرا وقدم بالركب إلى دمشق ثم قطنها وصار من الجند واقتنى دارا بدرب الوزير وكان في بعض الأحايين يتردد إلى نابلس لعلاقة كانت له بها ثم سافر إلى مصر في خدمة حاكمها دالى حسين باشا وتقرب إليه فأحبه وأدناه ولما عزل أصحبه معه إلى الروم وسافر معه إلى روان وبغداد وعاد إلى دمشق متوليا على أوقاف السلطان سليم وصار بعد ذلك باش اويش وتوجه بهذه الخدمة إلى الحج عدة سنين ثم صار كتخدا الجند وتنقل في مناصبهم كثيرا حتى استقر آخرا يياباشيا وكبرت دولته وعلا صيته وانعقد على صدارته الإجماع ولم يكن أحد تعين تعينه فإنه انحصرت فيه أمور الشام بأجمعها وتصرف تصرفا عجيبا عاما بحيث لم يخالف في رأي يقترحه وأنشد في بعض الأدباء هذين البيتين مغيرا لهما على أصلهما وهما
يا سائلي عن جلق ... ومن بها من الأنام
هاك الجواب عاجلا ... عبد السلام والسلام(2/80)
والبيتان أصلهما للشيخ أحمد المقرى قالهما في بني الفصين كبراء غزة وسيأتي خبرهما في ترجمة الرئيس محمد بن الغصين وكان عبد السلام لما وجهت نيابة الشام لمرتضى باشا الكرجي ثانيا في سنة سبع وستين وألف وتصرف بها متسلمه اضطرب لذلك اضطرابا شديدا لما كان وقع له معه من المعاداة في توليته الأولى فأخذ يدبر أشياء لمدافعته ثم أداه اجتهاده إلى أن جمع جمعا عظيما بالجامع الأموي وأحضر أكثر أهل البلدة وذكر لهم ظلمه وأشار عليهم بأن لا يرضوه حاكما عليها وكان نائب الشام السابق المعروف بالسلاحدار لم يخرج بعد من دمشق وكان مقيما بالميدان الأخضر فذهب القوم إليه وأبرموا عليه بأن يبقى نائبا وكتبوا في هذا الشأن عروضا ومحاضر وأرسلوها إلى الأبواب السلطانية وخرج متسلم مرتضى باشا هاربا ولما وصل إليه وهو في الطريق أرسل إلى الباب السلطاني يعلمهم بما وقع فقرر في نيابة الشام بخط شريف فلم يمكنوه وأظهروا الممانعة وجمعوا جمعا عظيما من أوباش الشام وعزموا على محاربته وطلعوا إلى قرية دوما وهم في جيش عرمرم وكان مرتضى باشا وصل إلى القطيفة فلما بلغه خبرهم ولى راجعا وسار إلى أن وصل إلى ادنه وعاد الجمع في صبيحة توجههم إلى دمشق ثم بعد مدة وجهت نيابة الشم إلى أحمد باشا ابن الطيار وأعطى مرتضى باشا كفالة ديار بكر مكانه وتعين ابن الطيار إلى السفر السلطاني وأمر العسكر الشامي بالسفر معه وكان عبد السلام أحد من تعين للسفر فأرسل بدلا عنه ولم يسافر بنفسه خوفا من إيقاع المكيدة به وانحاز ابن الطيار إلى حسن باشا الخارج على الدولة المقدم ذكره فعزل عن نيابة الشام وولى مكانه عبد القادر باشا وقدم إلى دمشق وكان عبد السلام وأحزابه في قلق عظيم من طرف السلطنة لما فعلوه فأرسلوا من جانبهم جماعة لاستعطاف خاطر الدولة عليهم وكان الأمر تشدد عليهم كثيرا فبرز أمر السلطان بقتل عبد السلام ورفيقه عبد الباقي بن إسماعيل كاتب الجند وجماعة كثيرة من أحزابهما وورد الأمر إلى عبد القادر باشا فقتلهم وضبط جميع أملاكهم وأموالهم وكان الذي ضبط شيئا كثيرا وخمدت نار الفتنة بقتلهم وكان مقتلهم في صبيحة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة تسع وستين وألف ودفن عبد السلام وعبد الباقي بمقبرة باب الصغير وألحقوا بعد مدة أيام بجماعة أخر قتلوا والله أعلم عبد الصمد بن عبد الله با كثير اليمني خاتمة مفلقي الشعراء باليمن ونابغة العصر وباقعة الزمن ينتهي نسبه إلى كنده وهو نسب تقف الفصاحة قديما وحديثا عنده وكان كاتب الإنشاء للسلطان عمر بن بدر ملك الشحر وشاعره الذي تنفث في مدائحه سحر البيان وبيان السحر وله ترسل وإنشاء تصرف في إعجازهما كيف شاه وديوان شعره مشهور تتلو محاسنه ألسن الأيام والشهور ولم يزل كاتبا للسلطان المذكور في عهده ثم لولده عبد الله بن عمر من بعده حتى انقضى أجله وعمره وهوى من أفق الحياة قمره فمن شعره قوله من قصيدة
رعيا لأيام تقضت بالحمى ... فزنا بها و وشاتنا غفلاء
جاد الزمان بها و أسعفنا بمن ... نهوى و لم تشعر بنا الرقباء
ومنا دمى بدر على غصن على ... حقف له قلبي العميد خباء
عذب المقبل عاطر الأنفاس در ... ياق النفوس شفاهه اللعساء
متبسم عن أشنب شنب له ... مهما تبسم في الدجى لألاء
ما مسك دارين بأطيب نكهة ... منه وقد ضاعت له رياء
عبر النسيم يجر فضل ردائه ... فحبته من كافورها الأنداء
فتعطرت من طيب فائح نشره ... أرواحنا وسرت له السراء
فسقى الإله مراتع الغزلان من ... وادي النقا وهمت بها الأنواء
وتهللت برياضها سحب الحيا ... وسرت عليها ديمة وطفاء
حتى يراها الطرف أبهج روضة ... فيروقه الإصباح والإمساء
والطير عاكفة بكل حديقة ... فكأنها بلحونها قراء
والروض مبتهج الحيا فكأنما ... واراه من غمر الندى دأماء
وقوله في أخرى
هذي المرابع والكثيب الأوعس ... وظبا الخيام الآنسات الكنس
قف بي عليها ساعة فلعل إن ... يبدو لي الخشف الأغن الألعس(2/81)
فلطالما عفت الكرى عن ناظري ... شوقا إليه ومدمعي يتبجس
ينهل سحا مثل منهمر الحيا ... فوق المحاجر مطلقا لا يحبس
واغن ناعس طرفه سلب الكرى ... عني فطرفي ساهر لا ينعس
أشتاقه ما لاح صبح مسفر ... في أفقه أو جن ليل حندس
منها
يا عاذلي دعني وشأني إن لي ... قلبا بغير الحب لا يستأنس
لك قدرة أن لا تلوم وليس لي ... صبر به دون الورى أتلبس
كيف السلو عن الأحبة بعدما ... دارت علي من الصبابة أكؤس
نقل الصبا نشر الحبيب وحبذا ... نشر به ريح الصبا تنفس
آها ولا يجدي التأوه والأسى ... فالصبر أجمل والتحمل أكيس
وقوله أيضا
جاد الغمام مراتع الغزلان ... ومرابع الرشأ الأغن الغاني
وسرى عليها كل أستحم هاطل ... غدق يسح بوابل هتان
يحيى ربوعا طالما لعبت بها ال ... غيد الحسان نواعس الأجفان
من كل فاتنة اللحاظ إذا رنت ... سلبت بسحر اللحظ كل جنان
فكأنها الأقمار تطلع في دجى ... ليل من المترسل الغيثان
وكأنما تلك القدود إذا انثنت ... قضب تمايل في ربى الكثبان
وبمهجتي خشف أغن مهفهف ... أصمى فؤادي إذ رنا فرماني
ظبي من الاعراب في وجناته ... قوت القلوب وسلوة الأحزان
بالله ما طالعت طلعة وجهه ... إلا ورحت براحة النشوان
ماء الشبيبة فوق ورد خدوده ... يجري على متلهب النيران
ذابت عليه حشاشتي وجدابه ... وصبابة وجفا الكرى أجفاني
لم أنس أيام التواصل واللقا ... والشمل مجتمع بوادي البان
ومنادمي من قد هويت وبيننا ال ... صرف الكميت تدار في الادنان
شمس مطالعها سعود كؤسها ... بين الندامى في بروج تهاني
في روضة مفروشة أرجاؤها ... بالورد والمنثور والريحان
يتراقص الندماء من طرب بها ... بتراجع النغمات والعيدان
لم لا يواصلنا السرور ونحن في ال ... فردوس بين الحور والولدان
وقوله من قصيدة أخرى مطلعها
أشتاق من ساكني ذاك الحمى خيما ... لأجلها زاد شوقي في الحشا ونما
ولاعج الشوق والتبريح من كمد ... أجرى من العين معا يخجل الديما
ما جن ليلي إلا بت من كلف ... أرعى النجوم طرف يستهل دما
لولا هوى شادن في القلب مرتعه ... ما اشتقت وادي النقا واليان والعلما
نفسي الفداء لظبي وجهه قمر ... وبرجه في سما قلبي العميد سما
يصمي فؤادي بنبل من لواحظه ... عن قوس حاجبه مهما رنا ورمى
في ثغره الدر منظوما فيا لك من ... ثغر شنيب يريك الدر منتظما
جل الذي صاغه بدرا على غصن ... على كثيب فأبداه لنا صنما
لم يكسه الحسن ثوبا من مطارفه ... إلا كسا جسدي من عشقه سقما
وقوله من أخرى مستهلها
عاذلي في الغرام مهلا فقلبي ... حملته الأحباب ما لا يطيق
كيف يصغي إلا اللوائم صب ... في حشاه من الفراق حريق
سلبته اللواحظ البابليا ... ت وأردى به القوام الرشيق
وسباه أغن أحوى رداح ... ينشد العشق حسنه المعشوق
قد كفاه عن المهند لحظ ... وعن الرمح قده الممشوق
روض خديه جنة لاح فيها ... جلنار وسوسن وشقيق
وله مبسم يضئ سناه ... عن شنيب حكاه درنيق
وكانت وفاته بالشحر في سنة خمس وعشرين وألف وقد عمر طويلا(2/82)
عبد الصمد بن محمد بن عمر بن محمد وتقدم تمام نسبه في ترجمة ابن عمه أحمد بن صالح العلمي القدسي ابن العارف بالله تعالى محمد العلمي الأستاذ الشهير كان مع والده بدمشق لما كان قاطنا بها واستخلفه أبوه بعد الألف وكان يجلس في حلقة الذكر وحده أو مع أبيه وهو غض الحداثة بارع الحسن وعليه وقار الأشياخ ولما حج والده في سنة إحدى عشرة بعد الألف حج معه وجاور أبوه ورجع هو ثم رجع أبوه في السنة الثانية ولم يلبثا بدمشق بل رحلا إلى بيت المقدس وتوطنا بها وتوفى عبد الصمد في حياة والده وكانت وفاته في سنة اثنتين وثلاثين وألف رحمه الله تعالى عبد العزيز بن حسام الدين المعروف بقره لبى زاده الرومي أحد مفتي التخت العثماني وهو من بيت كبير في الروم أسلافه كلهم صدور أجلاء وكان هو من كبار العلماء حسن الأرومة طيب العرق عذب الشمايل عالي القدر كثير التنعم والترفه وكان مثريا جدا وله خيرات ومبرات كثيرة خصوصا بمدينة بروسه وكان معتنيا بالتآليف وله من الآثار المرغوبة كتاب الألغاز في فقه الحنفية وألف تاريخا مختصرا وآخر مطولا في الدولة العثمانية كلاهما بالتركية يحتويان على ضروب من حسن الإنشاء والترصيع وجعلهما برسم خزانة السلطان مراد وكان ينظم الشعر التركي وله إنشاء مستعذب وبالجملة فهو من مشاهير علماء الروم ونشأ في كف أبيه ولازم من شيخ الإسلام صنع الله بن جعفر المفتي ثم درس إلى أن وصل إلى المدرسة السليمانية وولى منها قضاء ينكى شهر في سنة ثلاث وثلاثين وألف ثم ولى قضاء مكة المشرفة في سنة ست وثلاثين وقدم إلى دمشق وبعدما عزل وردها قافلا وأقام بها مدة وتوجه إلى القدس لزيارة معاهدها فاعترضه قطاع الطريق قريب المنية وأخذوا له بعض أسباب فعاد إلى دمشق ولم يحصل على الزيارة وكان مدة إقامته بدمشق مختلطا بأدبائها مقبلا عليهم وله لديهم منائح ولهم فيه مدائح فمنهم الشاهيني فإنه مدحه بقصيدة حسنة في أسلوبها ومستهلها
اقتضينا المديح وهو عزيز ... حيث معنى النسيب ليس يجوز
ونظمنا من الكلام عقودا ... در معناه في النهي مكنوز
ونسجنا من القريض برودا ... طرزها لا يزينه التطريز
ورغبنا عن كل مدح مشوب ... بنسيب فمدحنا إبريز
واجتبينا من بين كل الموالي ... أوحدا يملك العلى ويحوز
عالما كل ما يجوز لديه ... هو شرع وغيره لا يجوز
حاز ضدين في الكلام فمعنى ... مسهب واسع ولفظ وجيز
قد أذل الصعاب من كل معنى ... فلذاك اسمه الكريم العزيز
لم يعزز بثالث في نداه ... بعزيز لحاتم تعزيز
ليلة القدر ليلة في حماه ... قد تقضت ويومه نوروز
هجر المنع في الكلام فمهما ... رام نطقا فمنعه تنجيز
كل أوصافك الحسان العوالي ... عوذ تحفظ العلى وحروز
أي نفس غدت من الخير صغرا ... تلك نفس بطوعكم لا تفوز
فإليك التي تحاول كفؤا ... ولها عن حمى سواك نشوز
كل معنى يجرى بأبلغ وجه ... فهو عقد لمدحكم محروز
قد نماها من ابن شاهين باز ... علمته صيد القوافي بؤز
ومنهم محمد بن يوسف الكريمي فإنه قال فيه قصيدة جيدة أوردتها برمتها اللطافة نسيجها وسلاسة تغزلها ومطلعها
من لقلب ما بين سمر وبيض ... من قوام لدن وطرف مريض
من لمن صادم الهوى من نصير ... فإليه إذا سطا تفويضي
زارني في الدجى فكان كبد ... ر التم قد لاح في الليالي البيض
شادن لو يقابل الشمس وال ... بدر لكانا في رتبة المستفيض
سلب العقل والفؤاد وخلا ... ني لهجرانه الطويل العريض
فنهاري نهار منتظر في ... ه وليلي لا ذقت ليل المريض
عاقني عن شكايتي ما ألاقي ... عن سوى مدحك امتناع القريض
سنن للنسيب كنا نراها ... سقطت لاشتغالنا بالفروض
هو مولى سما السماكين فضلا ... وعداه من الثرى في حضيض(2/83)
وانجلت عنه فضله مشكلات ... للمعاني فما لها من غموض
قوله في العلوم يروى صحيحا ... وسواه بصيغة التمريض
جمعت ذاته المكارم حتى ... ما لها غير كفه من مفيض
واستحق العليا فإن أصف ... الغير بعليا يكن به تعريضي
قعدت حاسدوه عن شاو علياه ... قصورا فما لها من نهوض
وابتنى في ذرى العلى غرف ال ... مجد وماذا البناء بالمنقوض
جاد طبعا فعنده اللوم في الج ... ود كحث عليه أو تحريض
رام لو شاطر العميد لذيذ ال ... نوم لو كان ممكن التبعيض
ما عزيز بمصر عندك يلقى ... بعزيز بل إنه كالنقيض
فالعزيز الذي يعز به الغي ... ر كمولاي منه عز قريضي
؟غرر فاقت الثريا نظاما فهي تزرى بكل روض أريض
وقواف كأنها الشهب لاحت ... في سما المدح من بروج العروض
هي لي بنت ليلة وهي ترضى ... من قبول بمهرها المقبوض
ما لها غير أن تبقى رجاء ... هل لصافي الحياة من تعويض
خاطري أوجز المديح ولولا ... ك لما جاء برقه بالوميض
لك عندي مدى الزمان ثناء ... وثناء عددته من فروضي
ثم سافر إلى الروم وأقام بها مدة ثم ولى قضاء قسطنطينية في سنة ثلاث وأربعين وكان السلطان مراد سافر في أيام قضائه إلى أدرنه فأشيع عنه في قضائه بعض أمور ونما خبرها إلى السلطان فعزله ونفاه إلى جزيرة قبرس وبقي بها مدة منطرحا وذكر والدي رحمه الله تعالى أنه وقف له على قصيدة بالتركية يتظلم فيها لولاة الأمر من الزمان ويطلب عوده إلى موطنه وضمنها المثل المشهور وهو قولهم ارحموا عزيز قوم ذل فشفع فيه أحد أركان الدولة فأعيد وبعد مدة صار له رتبة قضاء العسكرين ولما وقع مقتل السلطان إبراهيم أظهر نفسه في ذلك الغضون وسعى فصار قاضي العسكر بروم ايلي وأعطى رتبة الفتوى ولم يسمع أنها صارت لأحد قبله ثم صار مفتيا في عاشر جمادى الأولى سنة إحدى وستين وبقي مفتيا أربعة أشهر ثم عزل في ثاني عشر رمضان ونفي إلى بروسه وأعطى قضاء جزيرة ساقز فأقام ببروسه إلى أن توفى وكانت وفاته سنة سبعين وألف تقريبا عبد العزيز بن محمد بن يحيى بهران التميممي البصري ثم الصعدي ذكره ابن أبي الرجال في تاريخه وقال في حقه القاضي العلامة كان متضلعا من كل العلوم قال شيخنا العلامة أحمد بن يحيى حابس أنه كان يعرف جميع علوم الاجتهاد علم إتقان لكنه لا يستنبط الأحكام وهو شيخ الشيوخ في الحديث والتفسير ومن كراماته أنه كان في آخر عمره لا يستضيء إلا العلم حكى تلميذه السيد داود بن الهادي أنه كان يقرأ عليه في الزبد بصعدة فكان يومئذ ينظر في حواشي في الكتاب لا يميزها إلا حاد البصر وأدرك ذلك ثم خرجا فأصاب جملا يحمل لحما أو حطبا فقال له في ذلك فقال له مقسما ما ميزته وله في الفقه قدم راسخة وهو الذي أجرى القوانين في آبار صعدة في المساقي وقدر الأحباب المعروفة من الماء وجعل المغارم تابعة للعروض أيضا وذلك أنه عرف جميع الصنائع تحقيقا وذرع الماء على الطين ثم إنه كتب شيئا من الحجج فمدحه ابن عمر الضمدي بقوله
لله درك يا عبد العزيز لقد ... وضعت هذا الدوافي موضع الوجع
بعد أن كان ابن عمر منعه من المناظرة ومما يروى عنه أنه تشارع إليه بعض العتاة أهل السطوة فلما أراد الحكم على ذلك الطاغي أشار إليه أنه سيعيد إليه عنبه إذا حكم قال القاضي أخروا الحكم ثم طلب بعض الناس وباع منه العنب جميعه وطلب الخصم وحكم عليه وقال له العنب قد بعناه من فلان لا تغلظ وكانت وفاته يوم الأربعاء ثامن رجب سنة ست عشرة وألف بمدينة صعدة(2/84)
عبد العزيز بن محمد سعد الدين بن حسن جان التبريزي الأصل القسطنطيني أحد صدور الروم وعلمائها وهو والد محمد البهائي المفتي المشهور الآتي ذكره إن شاء الله تعالى كان من كبار رؤساء العلماء له الصدارة والتقدم والشهامة التامة ولى قضاء قسطنطينية في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة بعد الألف ثم ولى قضاء العسكر باناطولى في سنة خمس عشرة ثم قضاء الروم مرتين وعزل عن الأخيرة في شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وكان في صدر الدولة العثمانية كل من دعى أمير الأمراء يتقدم في الجلوس على قضاة العساكر إلى أن ولى المولى أحمد بن محمود الشهير بقاضي زاده والمولى محمد بن شيخ محمد بن إلياس الشهير بوى زاده قضاء العسكرين فكانا سببا في تقديم قضاء العساكر على أمراء الأمراء في الجلوس فوقهم ما عدا أمير الأمراء بروم ايلى وأناطولى إلى أن ولى صاحب الترجمة قضاء روم ايلي كان من أسافل الناس يسمى ماريول حسين باشا فاستنكف صاحب الترجمة من الجلوس دونه فعرض ذلك إلى السلطان أحمد فخرج خط شريف بتقديم قضاة العساكر على مطلق أمراء الأمراء وكان ذلك في سنة سبع عشرة وألف وحج صاحب الترجمة في سنة خمس وعشرين ثم رجع ولم يتول بعد ذلك منصبا إلى أن توفى وكانت وفاته في سنة سبع وعشرين وألف عبد العزيز بن محمد أبو فارس المغربي المعروف بالفشتالي كاتب الملك المنصور مولاي أحمد صاحب المغرب الذي يقول فيه أن الفشتالي نفتخر به على الملوك ونباري به لسان الدين بن الخطيب كما ذكره أبو العباس المقرى في كتابه نفح الطيب وناهيك بمثل هذا القول من مثل هذا الملك وهو شاهد بكمال فضل المقول فيه وأنه في نفس الأمر كما قيل فيه وقد ذكره الخفاجي فقال في وصفه أديب عذب البيان ماضي شبا اللسان إلى أن قال جر عليه الدهر ذيول إقباله وفوقه في الدولة الأحمدية على أقرانه وأمثاله فمما ارتشفه فم السمع من مورده العذب البيان وتشنف من لآلئه التي أصدافها القلوب والآذان قوله
حين أزمعت عند خوف البعاد ... وعدتني من الفراق العوادي
قال صحبي وقد أطلت التفاتي ... أي شيء تركت قلت فؤادي
وذكر له عبد البر الفيومي في المنتزه هذه الأبيات وقال كتب بها لأستاذنا المقرى
يا نسمة عطست بها أنف الصبا ... فتضمخت بعبيرها فنن الربا
هبى على عرصات أحمد واشرحي ... شوقي إلى رؤياه شرحا مطنبا
وصفي لي بالمنحنى من أضلعي ... قلبا على جمر الغضا متلقبا
بان الأحبة عنه حب قد توى ... عنه وآخر قد نأى وتغيبا
فعساك تسعد يا زمان بقربهم ... فأقول أهلا باللقاء ومرحبا
ثم قال متعرضا للخفاجي في اعتراضه على المطلع أن استعارة العطاس للنسيم ليست بحسنة مقبولة والمعروف عطس الصبح والفجر إلى آخر ما قاله حيث أريد التشبيه مع التشميت فإن المعاني متساوية بين الأنام لا خصوصية لها بعصر دون عصر كما قال الزمخشري وقول المرزوقي في شرح الفصيح وعطس الصبح انفجر على التشبيه كقول أبي إسحق الغزي
كم من بكور إلى إحراز منقبة ... جعلته لعطاس الفجر تشميتا
ليس فيه منع لاستعماله على وجه التشبيه في غير الصبح بل هو أتم في الريح منه في الفجر لقول المذكور يقال عطس إذا فاجأته صيحة من غير إرادة وهبوب الريح فجأة كذلك بخلاف الفجر فإنه يلوح شيئا فشيئا انتهى ومن شعر صاحب الترجمة على ما أنشده له ابن معصوم في السلافة قوله في بعض المباني المنصورية
معاني الحسن تظهر في المغاني ... ظهور السحر في حدق الحسان
مشابه في صفات الحسن أضحت ... تمت بها المغاني للغواني
بكل عمود صبح من لجين ... تكون في استقامة خوط بان
مفصلة القدود ممثلات ... مواصلة العناق من التداني
تردت سابري الحسن يزرى ... بحسن السابري الخسرواني
وتعطو الخيزرانة من دماها ... بسالفة القطيع البرهماني
لمجدك تنتمي لكن نماها ... إلى صنعاء ما صنع اليدان
يدين لك ابن ذي يزن ويعتو ... لها غمدان في الأصل اليماني
غدت حرما ولكن حل منها ... لوفدكم الأمان مع الأماني(2/85)
مبان بالخلافة آهلات ... بها يتلو الهدى السبع المثاني
هي الدنيا وساكنها إمام ... لأهل الأرض من قاص ودان
قصور ما لها في الأرض شبه ... وما في الأرض للمنصور ثان
قال المقرى في كتابه نفح الطبب وقد بلغني وفاته وأنا بمصر عام ثلاثين وألف وذكر الشلى أن وفاته كانت في سنة إحدى وثلاثين ولم أدر عمن حرره والله أعلم عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز بن علي بن عبد العزيز بن عبد السلام بن موسى بن أبي بكر بن أكبر علي بن أحمد بن علي بن محمد بن داود البيضاوي الشيرازي الأصل ثم المكي الزمزمي نسبة لبئر زمزم لأن جده علي بن محمد قدم مكة في سنة ثلاثين وسبعمائة عام قدمها الفيل من العراق في قصة ذكرها المؤرخون فباشر عن الشيخ سالم بن ياقوت المؤدن في خدمة بئر زمزم فلما ظهر له خيره نزل له عنها وزوجه بابنته فولد منها ولده أحمد المذكور وغيره من إخوته وصار لهم أمر البئر وكان معه أيضا سقاية العباس رضي الله تعالى عنه وما زالوا يتوالدون إلى أن ولد عبد العزيز صاحب الترجمة وهو عريق في المجد من الطرفين فإن جده لأمه الشهاب أحمد بن حجر المكي وكان شافعي المذهب كأسلافه كلهم وكان إماما كبير الشأن عالما رئيسا نبيها نشأ بمكة وأخذ عن أساطين علمائها وجد وبرع في العلوم سيما الفقه وطار صيته وانتفع به الناس طبقة بعد طبقة وانتهت إليه رياسة الشافعية على الإطلاق وسارت فتاويه وعمر حتى صار العلم الفرد وألف ومن جملة تأليفاته كتابات على التحفة تأليف جده ابن حجر المذكور وهي تدل على سعة إطلاعه وأخذ عنه الشلى وذكره في تاريخه عقد الجواهر وأثنى عليه كثيرا قال وكانت ولادته بمكة المشرفة في سنة سبع وتسعين وتسعمائة بعد وفاة جده ابن حجر بثلاث سنين كما أخبرني بذلك مشافهة وتوفى ليلة الأحد لثمان بقين من جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين وألف قلت وأبوه محمد كان رئيس مكة في عصره أخذ عن والده عبد العزيز وعن ابن حجر وأخذ عنه النجم الغزي الدمشقي وتوفى سنة تسع وألف وإنما ذكرته هنا لأنه لم يصلني من خبره إلا ما ذكرته وجده عبد العزيز له ترجمة مستقلة في الكواكب السائرة ذكر الغزي ابنه محمدا في ضمنها فأدرجته أنا في الضمن أيضا اقتداء بالنجم وأيما كان فقد حصلت على ذكره وإذا جاء محل ذكره ذكرت اسمه وأشرت إلى ذكره في هذا الموضع عبد علي بن ناصر بن رحمة الحويزي الأديب الشاعر المشهور كان أوحد زمانه في الأدب الغض والشعر البديع وقد ذكره ابن معصوم فقال في حقه فاضل قال من الفضل بظل وريف وكامل حل من الكمال بين خصب وريف فالاسماع من زهرات أدبه في ربيع ومن ثمرات فضله في خريف أن أنشأ ينشئ أبدى من فنون السجع ضرائب أو طفق ينظم أهدى الشنوف والعقود للترائب ومؤلفاته في الأدب أحلى من رشف الضرب بل أجل من نيل الأرب ومتى جاراه قوم في كلام العرب كان النبع وكانوا الغرب واتصل بحكام البصرة وولاتها فوصلته بأسنى إفضالها وأهنى صلاتها وهبت عليه من قبلهم رخاء الإقبال وعاش في كنفهم بين نضرة العيش ورخاء البال ولم يزل بها حتى انصرمت من الحياة أيامه وقوضت من هذه الدار الفانية خيامه ومن مؤلفاته المعول في شرح شواهد المطول وقطر الغمام في شرح كلام الملوك ملوك الكلام وغير ذلك وله ديوان شعر بالعربية وانتخب منه نبذة سماه بحلى الأفاضل وله أشعار بالتركية والفارسية ثم أنشد له هذه القصيدة يمدح بها علي باشا ابن افراسياب حاكم البصرة ويستأذنه في الحج وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم ومطلعها
لمع البرق في أكف السقاة ... وبدا الصبح في سنا الكاسات
فالبدار البدار حي على الرا ... ح وهبوا لأكمل اللذات
نار موسى بدت فأين كليم الذا ... ت يمحو بها حجاب الصفات
صاح ديك الصباح يا صاح بالر ... اح فوات الأفراح قبل الفوات
واصطبحنا اصطباح من راح لا ... يفرق بين الشموس والذرات
تلق فيها العقول منتقشات ... كانتقاش الأشخاص في المرآة
فهي الشربة التي عثر الخض ... ر عليها في عين ماء الحياة
وتقصى الإسكندر البحث عنها ... فعداها وتاه في الظلمات(2/86)
سكنت من حضائر القدس حانا ... جل عن أن يقاس بالحانات
نور حق بنفسه قام ما اح ... تاج إلى كوة ولا مشكاة
قبس أشعلته أيدي التجلي ... فأضاءت به جميع الجهات
حجبت بالزجاج وهي عيان ... كاحتجاب البذور بالهالات
يا نديمي أجل لي عرائس سر ... بغواشي الكؤس محتجبات
هات راحي وناد خذها فإني ... لست أنسى يوم اللقا خذ وهات
فلقد هد ركن نحسي لما ... سعدت بالحبيب كل جهاتي
هي شهد الشهود بل راحة الأر ... واح بل حسن طلعة الحسنات
يا سقاتي لا تصرفوا الصرف عني ... فحياتي في رشفها با سقاتي
غير بدع ممن حساها إذا ارتا ... ح وقال الوجود بعض هباتي
قام زين العباد من شربها قطب ... ا عليه دارت رحى البينات
فتلاشى بشعلة فتح الع ... ينين منها إلى عيون الذات
وخطت بالجنيد لجة بحر ... غرقت فيه أكثر الكائنات
ورمت بالحسين حتى ترقى ... بأنا الحق أرفع الدرجات
واستمعنا من شيخ بسطام ما ... أعظم ذاتي بالنفي والإثبات
وقصارى خلع العذار بها ني ... ل مقام يقاوم المعجزات
رب وفرمنها يصيب فتى الم ... جد علي العلى سري السراة
فهو في سره المنزه سرى ... أنه لم يهم بجوز الفلاة
حاد عن مذهب التقشف وان ... حاز إلى مذهب الحماة الكماة
وتردى برد البواطن والأص ... ل خلوص الأعمال بالنيات
فهو في السر خادم الفقر عاف ... وهو في الجهر ضيغم الملك عاتي
وله في مراتب الفضل ذهن ... هو مفتاح مقفل المشكلات
كتمته أولى الدهور وأبدت ... ه على فترة من المكرمات
فأفادت بمجده البصرة الفيح ... اء حلى المعاهد العاطلات
حل من حفظ نفسه للمساكي ... ن سنام المراتب العاليات
أسد في ملاحم الحرب غيث ... في الندى خضرم بعلم اللغات
كفه مقلة العدو فلا ينف ... ك كل عن شيمة المرسلات
وكذا في خيله وأفئدة الأعداء ... سيان في رحا العاديات
وكذا ماله وأرواح من عاداه ... في كونهن في النازعات
إن يضع وقت من سواي فإني ... لي بعلياه أشرف الأوقات
شملتني منه العناية حتى ... قد سمت همتي عن النيرات
يا إمام الكرام يا صادق الوع ... د إذا لم يف الورى بالعدات
وهما ما تعود الحلم والج ... ود وهاتان أكرم العادات
نلت من جودك العميم نوالا ... وجبت فيه حجتي وزكاتي
عرف الناس في حماك وقوفي ... فأجزني الوقوف في عرفات
ومرادي لك الثواب ولل ... رق قضاء المناسك الواجبات
طوف بيت الله الحرام وتقب ... يل ثرى قبر سيد الكائنات
لم أفارق حمى العلى لبيت ... غير بيت العلى ذي الدرجات
وابق واسلم على الرجاء مليكا ... طوع ما يشتهي الزمان المواتي
قلت أخبرني بعض المكيين أنه حج وفي ذكرى أنه قال لي جاور واتفق له مع أدباء مكة مطارحات ومدائح فمن قصيدته التي مدح بها الشريف راشد ومستهلها
الام انتظاري للوصال ولا وصل ... وحتام لا تدنو إلي ولا أسلو
وبين ضلوعي زفرة لو تبوأت ... فؤادك ما أيقنت أن الهوى سهل
جميلا بصب زاده النأي صبوة ... ورفقا بقلب مسه بعدك الخبل
إذا أطرفت منك العيون بنظرة ... فأيسر شيء عند عاشقك القتل(2/87)
أمنعمة بالزورة الظبية التي ... بخلخالها حلم وفي قرطها جهل
ومن كلما جردتها من ثيابها ... كساها ثيابا غيرها الفاحم الجثل
سقى المزن أقواما بوعساء رامة ... لقد قطعت بيني وبينهم السبل
وحيا زمانا كلما جئت طارقا ... سليمى أجابتني إلى وصلها جمل
تود ولا أصبو وتوفى ولا أفى ... وأنأى ولا تنأى وأسلو ولا تسلو
إذ الغصن غض والشباب بمائه ... وجيد الرضا من كل نائبة عطل
ومن خشية النار التي فوق وجنتي ... تقاصر أن يدنو بعارضي النمل
بروحي من ودعتها ومدامعي ... كسقط جمان جذ من سمطه الحبل
كأن قلاص المالكية نوخت ... على مدمعي فارفض مذ سارت الإبل
وما ضربت تلك الخيام بعالج ... لقصد سوى أن لا يصاحبني العقل
وحب كأن العيس فيه إذا خطت ... تسابق ظلا أو يسابقها الظل
سئمن بنا الانضاء حتى كأننا ... حيارى دجى أو أرضنا معنا قفل
إذا عرضت لي من بلاد مذلة ... فأيسر شيء عندي الوخد والرحل
وليس اعتساف البيد عن مربع الأذى ... بذل ولكن المقام هو الذل
ولا أنا ممن إن جهلت خلاله ... أقامت به القامات والأعين النجل
فكل رياض جئتها إلى مرتع ... وكل أناس أكرموني هم الأهل
ولى باعتماد الابلج الوجه راشد ... عن الشغل في آثار هذا الورى شغل
همام رست للمجد في جنب عزمه ... جبال جبال الأرض في جنبها سهل
وليث هياج ما عرين جفونه ... من الكحل إلا والعجاج لها كحل
يقوم مقام الجيش إن غاب جيشه ... ويخلف حدا النصل إن غمد النصل
زكت شرفا أعراقه وفروعه ... وطابت لنا منه الفضائل والفعل
إذا لم يكن فعل الكريم كأصله ... كريما فما تغنى المناسب والأصل
من النفر الغر الذين تحالفوا ... مدى الدهر أن يأتي ديارهم البخل
كرام إذا راموا فطام وليدهم ... عن الثدي حطوا البخل فانفطم النجل
ليوث إذا صالوا غيوث إذا هموا ... بحور إذا جادوا سيوف إذا سلوا
وإن خطبوا مجدا فإن سيوفهم ... مهور وأطراف القناة لهم رسل
إذا قفلوا تنأى العلا حيثما نأوا ... وإن نزلوا حل الندى أينما حلوا
توالت على كسب الثناء طباعهم ... فأعراضهم حرم وأموالهم حل
أمولاي إن يمضوا ففيك سما العلا ... وقامت قناة الدين وانتشر العقل
وإن يك قد أفضى الزمان بسالم ... فإنك روض الوبل إن ذهب الوبل
إليك ارتمت فينا قلوص كأنها ... قسي بأسفار كأنهم نبل
وما زجرا الانضاء سوطي وإنما ... إليك بلا سوق تسابقت الإبل
يمينك لا أقصى الزمان بها حيا ... وكهفك لا أودى الزمان به ظل
وكل لحاظ لست إنسانها قذى ... وكل بلاد لست صيبها محل
ومن مبدعاته خمريته التي تخلص فيها إلى مدح الشريف المذكور وأولها
أقرقف في الزجاج أم ذهب ... ولؤلؤ ما عليه أم حبب
شمس علا فوق قرصها شهب ... والعجب الشمس فوقها الحبب
حمراء قد عتقت فلو نطقت ... حكت بخلق السماء ما السب
إن لهبوها السقاة في غسق ... يمزق الليل ذلك اللهب
وإن حساها النديم مصطحبا ... ألم في الجيش همه الطرب
لم أدر من قبل ذوب عسجدها ... أن بها التبر أصله العنب
لله أيامنا بذي سلم ... سقتك أيام وصلنا السحب(2/88)
والروض بالمزن يا نع أنق ... والغصن بالريح هزه الطرب
والنهر يحتاكه الصبا زردا ... إذا نضت من بوارق قضب
فخاننا الدهر بالفراق وقد ... رثت جلابيب وصلنا القشي
عجبت للدهر في تصرفه ... وكل أفعال دهرنا عجب
يعاند الدهر كل ذي أدب ... كأنما ناك أمه الأدب
يا عربا باللوى وكاظمة ... لي في مقاصير حيكم أرب
بأهيف كالقضيب قامته ... تسقيه دوما جفوني السكب
كالشمس أنواره وغرته ... فما له بالظلام ينتسب
تسفح من سفح مقلتي سحب ... إذ لاح من فيه بارق شنب
كأنما فيضها ووابلها ... أعاره الفيض راشد الندب
وكان في فن الموسيقى من الافراد وله أغان متداولة ومقبولة جارية على الصنعة البارعة وأكثر أغانيه من نظمه المطرب فمن ذلك ما ابتدعه في نغمة السيكاه من الثقيل
أما والهوى لولا العذار المنمنم ... لما اهتاج وجدي ساجع يترنم
ولا اهتجعت عيناي من فيض أدمعي ... قضى جريها أن لا يفارقها الدم
هو الحب ما أحلى مقاساة خطبه ... وأعذبه ولو كانت العين تكتم
وله من نغمة الحجاز والضرب مخمس
لا تطلعي في قمر أنني ... أخاف أن تغلط أهل السفر
أو طلعت شمس فلا تطلعي ... أخاف أن تعمى عيون البشر
وله من هذه النغمة والضرب دارج
لمن العيس عشيا تترامى ... تركتها شقق البين سهاما
كلما برقعها نشر الصبا ... لبست من أحمر الدمع لثاما
شفها جذب براها للحمى ... فهي تصمي لربي نجد زمانا
في هواكم آل نجد زاد وجدي ... وغدا القلب ولوعا مستهاما
وله من الألحان الفارسية المشهورة مسرت آباد في نغمة العراق وضربه ثقيل وجام جم في نغمة الحسيني وضربه خفيف وغير ذلك وأشهر ماله من الشعر قوله في راقص
وراقص كقضيب البان قامته ... تكاد تذهب روحي في تنقله
لا تستقر له في رقصة قدم ... كأنما نار قلبي تحت أرجله
وكثير من أهل الأدب يظنون أنه مخترع هذا المعنى ولم يعلموا أنه اختلسه من قول السرى الرفاء في وصف جواد
لا يستقر كأن أربعه ... فرش الثرى من تحتها جمرا
وأشعاره وأخباره كثيرة وكان يسمى نفسه كلب على ويروى له في هذا المعرض بيت هو قوله
فتية الكهف نجا كلبهم ... كيف لا ينجو غدا كلب على
وبالجملة فهو أديب بحقه وكانت وفاته في سنة ثلاث وخمسين وألف بالبصرة عبد الغفار بن يوسف جمال الدين بن محمد شمس الدين بن محمد ظهير الدين القدسي الحنفي المعروف بالعجمي من أعيان علماء عصره وكان عالما وجيها متواضعا متلطفا قرأ ببلده على أبيه والشمس الخريشي الحنبلي وأخذ الحديث عن السراج عمر اللطفي والشيخ محمود البيلوني الحلبي قدم عليهم القدس وأخذ طريق النقشبندية عن المولى محمد صادق النقشبندي لما قدم لزيارة البيت المقدس وطريق العلوانيه عن الشيخ محمد الدجاني وله رحلتان إلى القاهرة أولاهما في سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة أخذ بها الحديث عن الأستاذ محمد البكري والفقه عن النور علي بن غانم المقدسي والشمس النحريري والسراج الحانوتي والشيخ عمر بن نجيم والشيخ عبد الرحمن الذئب والفرائض عن الشيخ عبد الله الشنشوري والأصول عن الشيخ حسن الطناني والقراآت عن الشهاب أحمد بن عبد الحق والثانية في سنة اثنتين وعشرين وألف راجعا بحرا من الروم وأخذ عن الشهاب عبد الرؤف المناوي وأخذ بدمشق عن الشهاب العيثاوي وبحلب عن الشيخ عمر العرضي وسافر إلى الروم مرتين وولى إفتاء الحنفية بالقدس وتدريس المدرسة العثمانية وتصدر وأخذ عنه جماعة منهم ولده هبة الله مفتي القدس والشمس محمد بن علي المكتبي الدمشقي وغيرهما وكانت ولادته في سنة ثلاث أو أربع وسبعين وتسعمائة وتوفى نهار الخميس غرة ذي القعدة سنة سبع وخمسين بعد الألف رحمه الله تعالى(2/89)
عبد الغني بن إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم الملقب زين الدين النابلسي الدمشقي الشافعي وهو والد إسماعيل النابلسي المقدم ذكره وخال جدي والد والدي محب الله كان من الفضلاء الأعزاء نشأ في كنف أبيه شيخ مشايخ الشام وكبيرها وعالمها ومرجعها ولما مات والده توجهت إليه جهاته ومعاليمه منها تدريس الشافعية بجامع المرحوم درويش باشا المشروط له ولذريته وآل إليه من ميراث والده أشياء كثيرة من كتب وأثاث فاختص وتنعم مدة عمره واشتغل بالتحصيل على الشهاب أحمد الوفائي الحنبلي ولكنه لم يبلغ في العلم درجة ينوه بها كما بلغ والده وولده إلا أنه كان متأدبا سخيا حسن المعاشرة وله مذاكرة حلوة ولطف شمايل وكانت وفاته في أواسط رجب سنة اثنتين وثلاثين وألف ودفن مع والده في قبره في المدفن المعد لنا ولهم بالصف المقابل لجامع جراح خارج باب الشاغور رحمه الله عبد الغني بن صلاح الدين المعروف بالخاني الحنبلي الحنفي الأديب الأريب نزيل المدينة المنورة كان فاضلا أديبا جميل المنظر وافر الحرمة ولد بحلب وقرأ بها واشتغل ورحل لكثير من البلدان للتجارة فدخل الشام ومصر والروم واليمن والعراق وتكرر دخوله للحرمين للحج ثم ترك الأسفار واشتغل على أخيه ومربيه الشيخ قاسم الخاني بحلب وبه تخرج وقرأ عليه كثيرا من مؤلفاته واتفق له أنه أمره بمطالعة بعض رسائله ألف مرة فامتثل أمره ثم جاور بالحرمين مدة مديدة إلى أن توطن طيبة الطيبة وأقام فيها وأكب على تحصيل العلم وانهمك ولازم شيخ العصر إبراهيم الكردي الكوراني وأخذ عنه الطريق ولحظه باكسير نظره حتى ألف الرسائل اللطيفة وتولى بالمدينة المناصب العلية واشتهر أمره وكان ينظم الشعر وله ترسلات رائقة وقد تلقيت خبره من صاحبنا الفاضل مصطفى بن فتح الله فأثنى عليه كثيرا وذكر لي أن بينه وبينه مراسلات كثيرة لكنها فقدت منه والحاصل أنه أديب فاضل وكانت ولادته في سنة ثمان وأربعين وألف وتوفى بالمدينة في ثاني عشر صفر سنة خمس وتسعين وألف ودفن بالبقيع عبد الغني بن محمد بن منصور بن محمد بن خليل العنبوسي الدمشقي الفاضل الفقيه المتكلم الحنفي المذهب أخذ بدمشق عن الشيخ محمد الحجازي وولده عبد الحق والقاضي أكمل بن مفلح وأخذ الفقه عن الشيخ يحيى بن محمد البهنسي الخطيب والقراآت عن العلاء الطرابلسي ثم لزم العلامة فضل الله بن عيسى البوسنوي نزيل دمشق وانتفع به في كثير من الفنون وأخذ التصوف والكلام عن الشيخ العارف بالله محمد الاتراوي المغربي نزيل دمشق الآتي ذكره وبرع في الفنون خصوصا الكلام فإنه كان ماهرا فيه وأخذ عنه جماعة وتولى الكتابة بالمحكمة العونية مدة وكان أبوه بها قاضيا شافعيا ثم فرغ من الكتابة وصار خطيبا بجامع يلبغا ومتوليا على أوقافه وحج في سنة تسع وخمسين وكان يعرف اللسان التركي وكان له معرفة تامة بأحوال الناس وكانت ولادته في سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وتوفى نهار الثلاثاء عشرى جمادى الآخرة سنة سبع وستين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من قبر أوس بن أوس العنبوسي بفتح العين المهملة والنون من غير تشديد ثم بعدها موحدة وواو وسين مهملة نسبة إلى قرية من قرى نابلس خرج منها جماعة من الفضلاء منهم أبو إسحق إبراهيم بن أبي الفداء المكتبي الشاعر من أجود شعره قوله
أنا المقل وحبي ... أذاب قلبي ولوعه
أبكى عليه بجهدي ... حسب المقل دموعه
عبد القادر بن أحمد بن محمد بن فرج الشافعي خطيب جدة وعالمها والمقدم فيها بالعلوم الشافعية والأخلاق النبوية ولد بجدة وبها نشأ وأخذ بمكة عن شيخ الإسلام الشهاب أحمد بن حجر الهيتمي وغيره من علماء عصره وأخذ عنه جماعة من العلماء منهم الشيخ العلامة أحمد بن محمد الخلي وله مؤلفات منها السلاح والعدة في فضل ثغر جده وكانت وفاته في يوم السبت سابع شهر رمضان سنة عشر بعد الألف بجدة وبها دفن رحمه الله تعالى(2/90)
عبد القادر بن أحمد بن سليمان الدمشقي الحنفي الصوفي القادري صدر أشياخ الشام وصاحب القدم الراسخة في المعارف والكمالات وكان كبير القدر سامي الرتبة جم المناقب حسن الخلق طليق الوجه مفرط السخاء والتودد نشأ في حجر والده إلى أن بلغ من العمر اثنتى عشرة سنة فمات أبوه وجلس مكانه على سجادة المشيخة في يوم موته وكن لأبيه خليفة وهو الشيخ محمد المرزتاني الصالحي فطلب الخلافة لنفسه وتعصب معه قوم منهم الشمس بن المنقار وكان جدي القاضي محب الدين ممن قام مع عبد القادر واهتم بأمره ووقع بسب ذلك أمور ومحاربات كثيرة ومن جملتها في المحاورات الخطابية ما أنشده الشمس المذكور في مجمع حافل بزاويتهم القلجية وأراد بذلك الازراء بالجد وعبد القادر وذلك البيت المشهور
شيآن عجيبان هما أبرد من يخ ... شيخ يتصابى وصبي يتمشيخ
فأجابه الجد وكان أصغر منه سنا وأكبر مرتبة بقوله تعالى " وآتيناه الحكم صبيا " وأنشد معرضا به وبالمرزتاني المذكور
لو كان كبر السن محمودة ... فضل إبليس على آدم
واستمرت هذه الشحنة بين الجد والشمس أياما حتى اجتمعنا يوما في مجلس دعاء للسلطان بالجامع الأموي وكانا قبل ذلك اليوم إذا حضرا مجلسا مثل هذا يجلس قاضي البلد ويجلس واحد منهما عن اليمين والآخر عن الشمال ففي ذلك اليوم جاء الجد إلى الطرف الذي فيه الشمس وجلس بينه وبين القاضي فلما تم الدعاء قام الشمس مغضبا ونادى بأعلى صوته أتجلس فوقي وأنا نفتي البلدة من منذ كذا فأجابه الجد كل هؤلاء يعلمون أن المفتي بالأمر السلطاني أنا وأما أنت فلك أسوة بمن يفتى مثلك من غير إذن فرتبة الرجحان لي فكل من حضر صدق قوله وكان الجميع يغضون من الشمس ويكرهونه لسوء أخلاقه فيقال أنه ذهب من ذلك المجلس محموما وبقي أياما ومات " عودا على بدء واستقام الأمر لعبد القادر صاحب الترجمة في الخلافة فسلك منهج والده في إقامة الذكر بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة عند باب الخطابة وبزاويتهم يوم الاثنين بعد العصر وما زال يسمو ويرتفع حتى بلغت شهرته الآفاق وكان حكام الشام كبراؤها يقبلون عليه ويترددون إليه ويطلبون مدده وتوجه إلى القدس على عادة صوفية الشام بحشمة وافرة وحج في سنة خمس عشرة وألف وسافر إلى قسطنطينية أربع مرات وانحصرت آخرا فيه رياسة المشايخ بدمشق وكان أكثرهم حالا وقالا وبلغ من نفوذ الكلمة وشهرة الاعتناء مرتبة علية وبالجملة فهو خاتمة ألوى النباهة من الرؤساء وكانت ولادته في سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة وتوفى نهار الخميس سادس جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وألف ودفن بزاويتهم إلى جانب والده ورثاه جماعة منهم العلامة إسماعيل ابن عبد الغني المقدم ذكره وهذه أبياته
شيخ شيوخ الشام يا مرشد ... من جنة الخلد لك المرقد
من للمريدين ومن يلتجي ... إليه في المشكل أو ينجد
من لمهمات إذا أعضلت ... وللمساكين إذا أجهدوا
من لعيال والد ماجد ... مع أمهم في ساعة يفقد
أواه من عظم مصاب بهم ... ومثل هذا الخطب ما يعهد
يا حاتمي الطبع والمنتمي ... جودك بالموجود لا يجحد
وحلمك المعروف ما مثله ... قد كان في الدهر ولا يوجد
من عام خمس كنت شيخا له ... سجادة ديدنه يرشد
طلق المحيا هاضما نفسه ... وتارة يركع أو يسجد
يا شامة الشام ويا قطبها ... قد طاب منك السر والمشهد
أودعك الأسرار كهف الورى ... والدك السامي الذرى أحمد
وأنت أودعت الذي حزته ... للخلف الصالح كي تسعد
بهم تسلينا ومن بعده ... مثلهم يوجد لا يفقد
أشياخنا السادات أهل النقى ... وذو الكرامات التي تورد
لا سيما من كنت أجلسته ... وهو الكبير الصالح المرشد
ميزته بالسن إذ كلهم ... أعلام إرشاد لمن يسعد
لا زال هذا البيت ملجا له ... سكانه ذخر لنا منجد(2/91)
ولم تزل رحمة ربي على ... ضريحك الروضة تستخلد
عبد القادر بن أحمد بن يحيى بن محمد بن إسمعيل بن شعبان المعروف بابن الغصين الغزي الشافعي العالم العامل الولي الصالح رحل إلى مصر وأخذ بها عن الشيخ علي الحلبي وأبي العباس المقرى والبرهان اللقاني والشيخ عبد الرحمن واليمني والشيخ حجازي الواعظ والمنياوي والنور الشبراملسى والشمس البابلي وأخذ طريق الرفاعية عن الأستاذ الكبير محمد العلمي القدسي وبرع في علمي الظاهر والباطن وحفظ عليه القرآن جماعات لا يحصون وأخذ عنه الحديث وغيره كثير منهم صاحبنا الفاضل الكامل المكمل إبراهيم الجينيني وأخبرني أنه كان صاحب كرامات وأحوال باهرة قال وذكر لنا أنه من منذ عرف نفسه لم يصل صلاة إلا بجماعة ولم يفته إلا صلاة واحدة وهي صلاة الصبح وكان مسافرا في طريق مكة فغلبه النوم ولم يفق إلا بعد طلوع الشمس وأخبرنا صاحبنا المذكور أن مولده في ذي الحجة سنة ثلاث عشرة وألف وأنه رحل إلى مصر لطلب العلم سنة ثلاث وثلاثين وألف وقدم غزة في المحرم سنة سبع وثلاثين وأن وفاته كانت في نهار الاثنين سابع عشرى ذي القعدة سنة سبع وثمانين وألف ولم يخلف بعده في غزة مثله علما وعملا عبد القادر بن بهاء الدين بن نبهان بن جلال الدين بن تقي الدين أبي بكر المعروف بابن عبد الهادي العمري الدمشقي الشافعي شيخنا الجهبذ المحقق المدقق الفطن الذيق كان من الغواصين على المباحث وحل غوامضها وتبيين مبهماتها وله فكرة تتوقد ذكاء وتتلهب فطنة وكان أغلب معلوماته أصول الدين والفقه وبهما تقوى وضبط التحقيقات مع الإتقان للعوم الطبيعية والرياضية وقرأ الكثير وقيد وضبط واستفاد وأفاد ومن مشايخه الذين أخذ عنهم المنلا محمود الكردي والمنلا محمود أمين اللاري وشيخنا إبراهيم الفتال وحضر دروس السيد محمد نقيب الشام المعروف بابن حمزة في التفسير وغيره وجل انتفاعه به وتصدر للإقراء فاشتغل عليه جمع كثير منهم ابن عمه عبد الجليل ورفيقي في الطلب محمد بن محمد القاضي المالكي بالمحكمة الكبرى والفقير وقرأت أنا وإياه عليه طرفا من شرح العضد على مختصر المنتهى لابن الحاجب في الأصول وشرح الرسالة الوضعية للعصام وكنا نطالع شرحه الذي وضعه على المختصر المذكور وحقق فيه التحقيق الذي ما وراءه غاية وألف كتبا كثيرة منها شرحه هذا وشرح على عقيدة المقرى المسماة بإضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة واختصر الهمع للسيوطي في النحو وشرحه شرحا نفيسا وله منظومات في علوم متفرقة ومسائل متنوعة وله شعر كثير وكان سافر إلى الروم صحبة الأستاذ العالم الكبير محمد بن سليمان المغربي السوسي نزيل مكة وتقرب إليه وأخذ عنه فنونا كثيرة وبسببه عرف فضله عند الوزير الأعظم الفاضل وأخيه مصطفى باشا وابن عمهما حسين لبى وكان وهو بالروم مات الشيخ الإمام عبد القادر الصفوري الآتي ذكره قريبا إن شاء الله تعالى وكان مدرس دار الحديث الأشرفية فوجهت لصاحب الترجمة فقدم دمشق وأقام بها على الاشتغال والتحصيل والإفادة والتصنيف وكان ابتلى بمرض المراقيا وعالجه مدة فلم يفد علاجه ثم استحكم فيه فكان سب وفاته فتوفى في نهار الخميس ثاني صفر سنة مائة وألف ودفن بمقبرة الفراديس مما يلي عمه الأستاذ محمد ووضع عليهما تابوت من الخشب(2/92)
عبد القادر بن حاجي المؤيدي مفتي الروم وصدر الدولة المعروف بشيخي وهو ابن أخي المولى عبد الرحمن المؤيدي كبير العلماء بالروم في عهد السلطان بايزيد وولده السلطان سليم الفاتح ذكره ابن نوعي في ذيل الشقائق وقال في ترجمته ولد في حدود سنة عشرين وتسعمائة وجد واجتهد ثم وصل إلى مجلس شيخ الإسلام أبي السعود العمادي فقرأ عليه ولازم منه وتولى التدريس إلى أن وصل إلى المدرسة السليمانية فولى منها قضاء الشام في جمادى الآخرة سنة أربع وسبعين وتسعمائة بعد المولى علي بن أمر الله المعروف بابن الحنائي وفي ذي الحجة من هذه السنة وجه إليه قضاء القاهرة عن ابن الحنائي المذكور ثم تولى قضاء قسطنطينية في رجب سنة سبع وسبعين وفي جمادى الآخرة من سنة ثمان وسبعين ولى قضاء العسكر بأناطولى وفي المحرم سنة تسع وسبعين ولى قضاء روم ايلي وفي المحرم سنة إحدى وثمانين تقاعد بوظيفة أمثاله ثم ذي الحجة سنة إحدى وتسعين ضمت إليه دار الحديث وفي جمادى الأولى سنة خمس وتسعين صار مفتيا وكان صدرا جليلا صاحب قدر عال جبلا شامخا من الفضل والتقوى معروفا بالنباهة موصوفا بالنزاهة شيخ فن الفضل والأدب وجملة ملك الحسب والنسب ثم عزل عن الفتوى في سنة سبع وتسعين وتقاعد بخميس عثمانيا واستمر مشتغلا بعبادة الله وتقواه حتى توفى وكانت وفاته في أواخر شوال سنة اثنتين بعد الألف ودفن بجنب والده في جوار أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه عبد القادر بن حسن المنعوت محيي الدين بن بدر الدين البكري الصديقي الدمشقي الشافعي الإمام الفقيه الزاهد العابد الورع كان من أجلاء العلماء الكبار أصحاب الديانة والصلف وله الفضل الباهر والمشاركة التامة في فنون كثيرة أجلها الفقه والعربية وكان منقطعا عن الناس قليل الاختلاط بهم ملازما للاشتغال والعبادة موصوفا بحسن الأخلاق وجلال المقدار وهو من بيت عريق مجمع على صحة انتسابه للأسرة الديقية ولا يشك في نسبهم إلا جاهل أو معاند وناهيك بنسبة لم يبق من علماء دمشق الكبار المشهورين في هذه المائة والتي قبلها أحدا إلا وشهد بحقيتها ومنهم أمس الناس بهذه النسبة السادات البكرية بمصر ولهذه النسبة العظيمة كان صاحب الترجمة معظما محترما وانضاف إليه الفضل التام فزاد احترامه وقد قرأت بخط الأديب عبد الكريم الكريمي الطاراني الدمشقي قال سألت عنه صاحبنا الإمام العلامة زين الدين عمر بن محمد القاري الشافعي فقال كان ماهرا في علوم شتى منها الفرائض والحساب والكلام والعروض وأما الفقه والعربية فكان فيهما الغاية القصوى لا أرى له ضريبا في الفنون المذكورة فإنه تلقاها عن مشايخ عظام ودأب في تحصيل الكمال وذكره النجم في الذيل وقال في ترجمته حضر دروس شيخ الإسلام والدي وقرأ على أخي الشهاب شرح المحلى مصاحبا لرفيقه التاج الفرعوني مع مطالعة حاشية الوالد الصغرى عليه ومع إمساك الشهاب شرح والده الصغير على المنهاج ولازمه في غير ذلك ولازم النور النسفي المصري نزيل دمشق ولعله أول من قرأ عليه فإنه تزوج بأم الشيخ محيي الدين وسكن عندهم بمحلة باب توما وقرأ أيضا على الشيخ إسماعيل النابلسي مرافقا للشيخ عمر القاري واصطحبا مدة ثم تقاطعا وكانت وفاة صاحب الترجمة في الثلث الأخير من ليلة الأحد لليلتين بقيتا من صفر سنة ثلاث بعد الألف ودفن بمقبرة الشيخ أرسلان رحمه الله تعالى(2/93)
عبد القادر بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس الملقب محيي الدين الشيخ الإمام أبو بكر اليمني الحضرموتي الهندي أحد أكابر علماء الحضارمة ذكره الشلى في تاريخه وقال في ترجمته قد ترجم نفسه هو في تاريخه النور السافر عن أخبار القرن العاشر فقال ولدت في عشية يوم الخميس لعشرين خلت من شهر ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وتسعمائة بمدينة أحمد اباد من بلاد الهند وكان والدي رأى في المنام قبل ولادتي بنحو نصف شهر جماعة من أولياء الله تعالى منهم الشيخ عبد القادر الكيلاني والشيخ أبو بكر العيدروس وكان الشيخ عبد القادر يريد حاجة من الوالد فذلك هو الذي حمله على تسميتي بهذا الاسم وكناني أيضا أبا بكر ولقبني محيي الدين وتقرر عنده أنه سيكون لي شأن وكان قل أن يسلم له ولد بأرض الهند فما عاش له منهم غيري وكان يحبني جدا وقال لي مرة إذا وقع زمانك افعل ما شئت وحكى بعض الثقات قال جاء بعض الوزراء الكبار إلى والدك يطلب منه الدعاء في أمر من الأمور وكنت إذ ذاك صغيرا جدا وكنت جالسا بين يديه فقرأت في الحال هذه الآية " وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب " فقال الشيخ يكفيكم هذا المقال هذا مثل الوحي قال ثم قضيت تلك الحاجة وكانت أمي أم ولد هندية وهبتها بعض النساء من بيت الملك المشهورة بالصدقات لأبي وأعطتها جميع ما تحتاج إليه من أثاث وأخدمتها جملة من الجواري وكانت تنظرها مثل ابنتها وتزورها في الشهر مرات وكانت هي إذ ذاك بكرا ولم تلد له من الأولاد غيري وكانت من الصالحات وقرأت القرآن حتى ختمته على يد بعض أولياء الله في حياة الوالد ثم اشتغلت بالتحصيل وقرأت عدة متون على جماعة من العلماء وتصديت لنشر العلم وشاركت في كثير من الفنون وتفرغت لتحصيل العلوم النافعة وأعملت الهمة في اقتناء الكتب المفيدة وبالغت في طلبها من أقطار البلاد مع ما صار إلي من كتب الوالد فاجتمع عندي جملة ولما بلغني أن سيدي الشيخ عبد الله العيدروس قال من حصل كتاب إحياء علوم الدين وجعله في أربعين جلدا ضمنت له على الله بالجنة فحصلته كذلك بهذه النية ووفقت لاستماع الأحاديث واشغال الأوقات بها وطالعت كثيرا من الكتب ووقفت على أشياء غريبة مع ما تلقيته عن المشايخ فلم تفتني بحمد الله إشارة صوفية أو مسئلة علمية ونكتة أدبية ولكني مع ذلك أظهر التجاهل في ذلك لأن الكلام على إشارات التصوف ومقامات الصوفية لا ينبغي للشخص أن يقدم عليها إلا إن كان متحققا بها ومع ذلك فلا يجوز له أن يخوض فيها مع غير أهلها لأنها مبنية على المواجيد والأذواق لا يطلع على بيان حقيقتها بالألسنة والأوراق ثم من الله علي بما لا كان لي قط في حساب حتى سارت بمصنفاتي الرفاق وقال بفضلي علماء الآفاق ورزقت محبة أرباب القلوب من أولياء الله تعالى وحظيت بدعواتهم الصالحة وعظمني العلماء شرقا وغربا وخضع لي الرؤساء طوعا وكرها وكاتبني ملوك الأطراف وأرفدوني بصلاتهم الجميلة ووصلت إلى المدائح من الآفاق كمصر وأقصى اليمن وغيرهما وأخذ عني غير واحد من الأعلام ولبس مني خرقة التصوف جم غفير من الأعيان وألفت جملة من الكتب المقبولة التي لم أسبق إلى مثلها ككتاب الفتوحات القدوسية في الخرقة العيدروسية وهو كتاب نفيس لم يؤلف قبله أجمع منه وهو مجلد ضخم وقرظه جماعة من العلماء الأعلام حتى بلغت تقاريظه كراريس ومن غريب الاتفاق أن تاريخه جاء مطابقا لموضوعه وهو لبس خرقة وكتاب الحدائق الخضرة في سيرة النبي عليه السلام وأصحابه العشرة وهو أول كتاب ألفته وسني إذ ذاك دون العشرين وكتاب اتحاف الحضرة العزيزة بعيون السيرة الوجيزه وهو على نمط الحدائق إلا أنه أصغر وكتاب المنتخب المصطفى في أخبار مولد المصطفى وكتاب المنهاج إلى معرفة المعراج وكتاب الانموذج اللطيف في أهل بدر الشريف وكتاب أسباب النجاة والنجاح في أذكار المساء والصباح وكتاب الدر الثمين في بيان المهم من الدين وكتاب الحواشي الرشيقه على العروة الوثيقه وكتاب منح الباري بختم البخاري وكتاب تعريف الاحياء بفضائل الاحياء وباعثه أن سيدي الشيخ عبد الله العيدروس قال غفر الله لمن يكتب كلامي في الغزالي فرجوت أن يتناولني دعاؤه وأردت إسعاف والدي بتحقيق رجاه فإني سمعته يقول إن أمهل الزمان جمعت كلام الشيخ عبد الله في الغزالي في كتاب وأسميه الجوهر المتلالى في كلام(2/94)
الشيخ عبد الله في الغزالي وكتاب عقد اللآل بفضائل الآل وكتاب خدمة السادة بني علوي باختصار العقد النبوي وأرجو أن يوفقني الله لإتمامه وكتاب بغية المستفيد بشرح تحفة المريد وهو مختصر جدا وكتاب النفحة العنبرية في شرح البيتين العدنيه وكتاب غاية القرب في شرح نهاية الطلب اعتنى به الناس كثيرا وحصلوا منه نسخا عديدة نحو الأربعين فيما علمت وشرح على قصيدة الشيخ أبي بكر العيدروس صاحب عدن النونية وكتاب إتحاف إخوان الصفاء بشرح تحفة الظرفاء بأسماء الخلفاء وكتاب صدق الوفاء بحق الإخاء وكتاب النور المسافر عن أخبار القرن العاشر وتقريظ على شرح قصيدة البوصيري التي عارض بها بانت سعاد لشيخنا شيخ الإسلام عبد الملك بن عبد السلام دعسين الأموي اليمني الشافعي وآخر على رسالة صاحبنا الشيخ العلامة أحمد بن محمد بن علي البكري في تنزيه الإمام مالك عن تلك المقالة الشنيعة التي نسبها إليه من لا خلاق له وإجازة للفقيه الصالح أحمد بن الفقيه محمد باجابر وديوان شعر اسمه الروض الأريض والفيض المستفيض انتهى كلامه في حق نفسه قال الشلى ومن مؤلفاته التي لم يذكرها الزهر الباسم من روض الأستاذ حاتم وهو شرح رسالة من السيد حاتم إليه وهو مطول نحو مجلدين وكتاب قرة العين في مناقب الولي عمر بن محمد با حسين قال في الزهر الباسم وشيخنا وإمامنا في هذا الشأن شيخ الإسلام العالم الرباني المربي شيخ بن عبد الله العيدروس فإنه رباني بنظره وغذاني بسره وصدرني في مكانه وشيخنا الثاني الشيخ الذي هو الأخ وابن العم الإنسان الكامل والجزء الذي هو الكل شامل أبو الأرواح وشيخ الأشياخ حاتم بن أحمد الأهدل وهو الذي أسرع بأسرارنا حتى لحقت وفتق ألسنتنا حتى نطقت وشيخنا الثالث قطب الوجود وإمام أهل الشهود وشمس الشموس الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس صنوى ووالدي فإنه حكمني وألبسني الخرقة ونصبني شيخا وذكر صورة إجازته له وتحكيمه وشيخنا الرابع درويش حسين الكشميري وشيخنا الخامس موسى بن جعفر الكشميري وذكر ترجمة هذين وإجازة الثاني له وشيخنا السادس الولي الكبير القدوة الشهير محمد بن الشيخ حسن جشني انتهى ولم يزل في أحمد اباد مستمرا على نفع العباد إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى وكانت وفاته في سنة ثمان وثلاثين وألف بمدينة أحمد اباد وعمره ستون سنة وقبره بها مشهور معروف يزار ويتبرك بهخ عبد الله في الغزالي وكتاب عقد اللآل بفضائل الآل وكتاب خدمة السادة بني علوي باختصار العقد النبوي وأرجو أن يوفقني الله لإتمامه وكتاب بغية المستفيد بشرح تحفة المريد وهو مختصر جدا وكتاب النفحة العنبرية في شرح البيتين العدنيه وكتاب غاية القرب في شرح نهاية الطلب اعتنى به الناس كثيرا وحصلوا منه نسخا عديدة نحو الأربعين فيما علمت وشرح على قصيدة الشيخ أبي بكر العيدروس صاحب عدن النونية وكتاب إتحاف إخوان الصفاء بشرح تحفة الظرفاء بأسماء الخلفاء وكتاب صدق الوفاء بحق الإخاء وكتاب النور المسافر عن أخبار القرن العاشر وتقريظ على شرح قصيدة البوصيري التي عارض بها بانت سعاد لشيخنا شيخ الإسلام عبد الملك بن عبد السلام دعسين الأموي اليمني الشافعي وآخر على رسالة صاحبنا الشيخ العلامة أحمد بن محمد بن علي البكري في تنزيه الإمام مالك عن تلك المقالة الشنيعة التي نسبها إليه من لا خلاق له وإجازة للفقيه الصالح أحمد بن الفقيه محمد باجابر وديوان شعر اسمه الروض الأريض والفيض المستفيض انتهى كلامه في حق نفسه قال الشلى ومن مؤلفاته التي لم يذكرها الزهر الباسم من روض الأستاذ حاتم وهو شرح رسالة من السيد حاتم إليه وهو مطول نحو مجلدين وكتاب قرة العين في مناقب الولي عمر بن محمد با حسين قال في الزهر الباسم وشيخنا وإمامنا في هذا الشأن شيخ الإسلام العالم الرباني المربي شيخ بن عبد الله العيدروس فإنه رباني بنظره وغذاني بسره وصدرني في مكانه وشيخنا الثاني الشيخ الذي هو الأخ وابن العم الإنسان الكامل والجزء الذي هو الكل شامل أبو الأرواح وشيخ الأشياخ حاتم بن أحمد الأهدل وهو الذي أسرع بأسرارنا حتى لحقت وفتق ألسنتنا حتى نطقت وشيخنا الثالث قطب الوجود وإمام أهل الشهود وشمس الشموس الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس صنوى ووالدي فإنه حكمني وألبسني الخرقة ونصبني شيخا وذكر صورة إجازته له وتحكيمه وشيخنا الرابع درويش حسين الكشميري وشيخنا الخامس موسى بن جعفر الكشميري وذكر ترجمة هذين وإجازة الثاني له وشيخنا السادس الولي الكبير القدوة الشهير محمد بن الشيخ حسن جشني انتهى ولم يزل في أحمد اباد مستمرا على نفع العباد إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى وكانت وفاته في سنة ثمان وثلاثين وألف بمدينة أحمد اباد وعمره ستون سنة وقبره بها مشهور معروف يزار ويتبرك به(2/95)
عبد القادر بن عثمان القاهري الحنفي الشهير بالطوري مفتي الحنفية بمصر من بيت أئمة الحنفية ذوي حسب وكان عالما فاضلا فقيها أديبا وله وجاهة ونباهة في أنواع العلوم وكان ملازما على الإفتاء والتدريس بجامع الأزهر وله تصانيف منها شرح على الكنز في الفقه وتكملة البحر الرائق وله كتاب في الأدب جمعه من نظمه ونثره سماه الفواكه الطورية وفي هذه التسمية لطف لأن بلدته الطور أكثر تلك الدائرة فاكهة ويعجبني ما كتبه إليه بعض الأدباء في طلب كتابه هذا وكان وعده بإرساله إليه وذلك
يا إماما لقد حوى دررا ... بكل نظم وكل منثور
غرست بالفضل روضة بسقت ... ثمارها من طلائع النور
يشتاق طرفي لأن يشاهدها ... فتلك عندي أجل منظور
وفؤادي العليل من قدم ... يتمنى فواكه الطور
وذكره الشهاب في الخبايا فقال في ترجمته والطور وكتاب مسطور لهو صديق لي تجر يه المودة حلل الحبور روض مجد ناضر وبحر أدب وافر لكن طبعه أم الصقر مقلات نزور ولم يورق حتى احتضر ومضى بأمر عزيز مقتدر ثم أنشد له قوله
تنور منيتي بلطيف صنع ... معانى حسنه أضحت غزيره
له قد رشيق ثم جسم ... عليه حين لاح رأيت نوره
ثم تعقبه بما في تحرير التحريف للصفدي يقولون تنور الرجل من النورة والصواب انتور وانتار ولا يقال تنور إلا إذا أبصر المنار ثم قال وما منعه صرح به غيره من أهل اللغة لكن المشهور هذا قلت ويشهد للأول ما في حماسة الطائي قال إعرابي لابنيه وقد دخلا الحمام فأحرقتهما النورة
نهيتهما عن نورة أحرقتهما ... وحمام سوء ماؤه يتسعر
أجد كما لم تعلما أن جارنا ... أبا الحسل في الصحراء لا يتنور
على أن تنور في كلام الطوري لا يتعين حمله على تعاطي النورة لاحتمال جعل له نورا وقول الشهاب في حقه لكن طبعه أم الصقور إلى آخره إشارة إلى أنه كان قليل الإفادة والآثار وهو حل لقول النفيه الحماسي
بغا اث لطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلات نزور
والمقلات بالفتح ناقة تضع واحدا ثم لا تحمل والنزور الناقة مات ولدها وتروم ولدالها وقوله ويشهد للأول إلى آخره هذه عبارة الطائي وقال الشريشي في شرح المقامات روى ابن عبيد بن قرط الأسدي دخل مع صاحبين له بلدا فيه حمام فأحب صاحباه دخوله فنهاهما عبيد فأبيا إلا دخوله فلما دخلا رأيا فيه رجلا يتنور رأى يستعمل النورة فسألا عنها فأخبرا بإذهابها الشعر فاستعملا فلم يحسنا فأحرقتهما وأضرت بهما فقال عبيد
لعمري لقد حذرت قرطا وجاره ... ولا ينفع التحذير من ليس يحذر
نهيتهما عن نورة أحرقتهما ... وحمام سوء ناره تتسعر
فما منهما إلا أتاني موقعا ... به أثر من مسها يتقسر
أجد كما لم تعلما أن جارنا ... أبا الحسل بالبيداء لا يتنور
ولم تعلما حمامنا في بلادنا ... إذا جعل الحرباء في الحدل يحضر
والنورة قيل إنها ليست عربية في الأصل واشتقاقها يشابه اشتقاق العربي فزعم قوم أنها سميت بذلك لأن أول من علمها امرأة يقال لها نورة وقد استعملتها العرب في الشعر القديم قال الراجز
يا رب إن كان بنو عميره ... رهط الثلب هؤلاء مقصوره
قد أجمعوا الخلعة مشهوره ... واجتمعوا كأنهم قاروره
فابعث عليهم سنة قاشوره ... نحتلق المال احتلاق النوره
انتهى وقد تفحصت عن وفاة الطوري كثيرا فلم أظفر بها سوى أني رأيت في مجموع بخط بعض الأفاضل الأدباء وكان ممن قرأ على الطوري أنه كان موجودا في سنة ست وعشرين وألف(2/96)
عبد القادر بن علي بن يوسف بن محمد أبو السعود بن أبي الحسن بن أبي المحاسن المغربي الفاسي المالكي الإمام العلامة المحدث المفسر الصوفي البارع في جميع العلوم جميع من انتسب إلى المغرب متفقون على جلالته وتوحده وأنه عديم النظير وأوحد المشايخ والعلماء وشيخ الشيوخ وسلطان علماء الزمان وقد كان جامعا بين العلم الظاهر والباطن اشتهر ذكره من حال صغره وكثر الثناء عليه وبعد صيته في مشارق الأرض ومغاربها وكثر أخذ الناس عنه بحيث أن تلامذته لا يحصون ولم يحرم أحد منهم من العلم لسرفيه وفي آبائه وبركته مشهورة بحيث أن الطلبة تقصده من البلاد النائية لذلك وقد جرب ذلك واشته عند أهل المغرب وكان عظيم الحفظ عجيب الإملاء إذا قرأ كتابا استوفى ما فيه فإن وجد فيه مسئلة ناقصة تممها أو شيئا مستغلقا شرحه أو طويلا اختصره دون أن يخل بشيء من معانيه أو مسائل مختلطة رتبها أو وجد فيه خطأ بينه بغاية الأدب بحيث لا ينتقص مصنفه وكان من الحلم والبذل والصبر بحيث فاق أقرانه في ذلك خوصا مع ندرة ذلك في أهل المغرب وكان من الهيبة بحيث تخافه الملوك وتخشى سطوته الأمراء وكانت العلماء والعامة منقادين لأمره فيما يرومه مع وقوفه عند حده في سائر شؤونه وأدب نفسه ولسانه إلى ما هو عليه من حسن اللقاء وجميل المعاملة والإكرام لجليسه وكان لجماله وبداعة وجهه وحسن صورته لا يملأ الناس منهم نظرهم وقد أفرد ولده عبد الرحمن لترجمته مجلدا حافلا سماه تحفة الأكابر بمناقب الشيخ عبد القادر ذكر فيه بعض أخلاقه وعلومه اللدنية والمكتسبة ومنازلاته وكراماته وأسراره ومعاملاته مع ربه سبحانه وإشاراته مما ذكره بلسانه أو كتبه أو قرره في آية من كتاب الله عز وجل من عند نفسه أو من حاصل ما حفظ ونقل وما تكلم به في بعض الأحاديث النبوية أو في بعض الحقائق المنقولة عن أحد الصوفية وبعض كلامه في الحكم والحقائق وما قاله من الشعر أو قيل فيه مما يتضمن ذكر الطريق وأهله إلى غير ذلك مما يتعرف منه مبنى طريقه وتبريزه في المعرفة والعلم وتحقيقه فقال ولد بالقصر الكبير عند زوال يوم الاثنين ثاني شهر رمضان سنة سبع بعد الألف وتسمى هذه السنة بالمغرب سنة الفيل وسبب ذلك أن في هذه السنة في شهر رمضان منها بعث السلطان أبو العباس المنصور لولده المأمون هدية من مراكش إلى فاس اشتملت على تحف وبعث معها فيلة خرج أهل فاس كلهم للقائها بمائة ألف أو يزيدون فعظم وقعها وكثر التعجب منها ونشأ في حجر والده مصونا عم عبث الصبيان ملازما لدار جده وبها ولدروبي محفوفا بالتدريج الرحماني فقرأ على والده وتعلم القرآن وحفظه على معلمه غانم السفياني ثم لازم القراءة على أخيه أبي العباس أحمد وقرأ أيضا على الفقيه محمد الزيات ومحمد الرفاس وعبد القوي كلهم من فقهاء القصر ثم رحل إلى فاس بقصد القراء في أوائل رجب سنة خمس وعشرين وألف فنزل بالمدرسة المصباحية واكب على الاجتهاد فكان كثيرا ما يجد نفسه في الطريق سائرا لتعلق قلبه بمجالس العلم وحنينه إلى أماكن القراءة في وقتها وفي غير وقتها فانتفع في أقرب مدة وقرأ على جماعة من الأشياخ منهم عم أبيه العارف بالله أبو محمد عبد الرحمن بن محمد ثم قرأ على غيره من علماء فاس كالشيخ أبي القاسم بن أبي النعيم الغسان والإمام الحافظ أبي العباس أحمد بن محمد المقرى التلمساني وأبي عبد الله محمد بن أحمد الجنان الغرناطي وأبي محمد عبد الواحد بن أحمد بن عاشر وأبي الحسن بن الزبير السلجماسي وقرأ في خلال ذلك وبعده على عمه العلامة أبي حامد محمد العربي ولازم في أول أمره بفاس أبا الحسن علي بن أبي القاسم بن القاضي في كثير من الأمهات النحوية والرسمية والعروضية والحسابية وقرأ أيضا في المنطق وغيره على أبي الحسن علي بن محمد المزني الشريف التلمساني وجود بفاس القرآن على الأستاذ المقرى أبي عبد الله محمد الخروبي وأخذ العشر لنافع عن الفقيه أبي مهدي عيسى الشرفي وعن الأستاذ أبي عبد الله محمد بن أحمد السوسي وعن الفقيه الأستاذ أبي زيد عبد الرحمن بن أبي القاسم القاضي وأخذ الشاطبية بمضمنها سماعا عن ابن عاشر المذكور فأما شيخه أبو محمد عبد الرحمن فمولده في المحرم سنة اثنتين وسبعين وتسعمائة وتوفى ليلة الأربعاء سابع عشرى شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وألف وقرأ على أخيه أبي المحاسن وعلى الفقيه(2/97)
المفتي الخطيب أبي زكريا يحيى بن محمد السراج والفقيه القاضي الخطيب أبي محمد عبد الواحد بن أحمد الحميدي والإمام المتفنن الأستاذ أبي العباس أحمد بن علي المنجور والإمام الأستاذ النحوي أبي العباس أحمد بن قاسم العزومي والإمام المحقق النظار أبي عبد الله محمد بن قاسم القيسي القصار والإمام المقرى المجود أبي محمد الحسن بن محمد الدراوي وغيرهم وقد استوفينا مشايخه في ترجمته وأما والده فعن والده والسراج والحميدي والمنجور والعزومي وزاد عن الفقيه النوازلي أبي راشد يعقوب بن يحيى البدوي ومولده سنة ثمان وتسعمائة وتوفى سنة تسع وتسعين وتسعمائة وأخذ عن أبي الحسن علي ابن هرون وأبي محمد عبد الرحمن سفيان وهما عن ابن غازي وغيره وزاد أيضا عن أبي عبد الله بن مجير المساري وأبي عبد الله الترغي المساري وأبي النعيم رضوان ابن عبد الله الجنوي وأبي النجد مبارك بن علي المصمودي وغيرهم ومولد ابن مجير في أول العاشرة وتوفى في سنة خمس وثمانين وتسعمائة وأخذ عن ابن غازي وغيره وتوفى الترعي سنة تسع بعد الألف وأخذ عن أبي عبد الله الخروبي الطرابلسي عن سيدي زروق وغيره وعن أبي القاسم بن محمد إبراهيم ومولده سنة ست وتسعين وثمانمائة وتوفى سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وأخذ عن ابن غازي وأبي العباس أحمد بن محمد بن يوسف الدقون وتوفى في مستهل شعبان سنة إحدى وعشرين وتسعمائة عن أبي عبد الله المواق وتوفى في شعبان سنة سبع وتسعين وثمانمائة عن المنتوري بأسانيده التي في فهرسته ولد والد شيخنا في نصف رمضان سنة ستين وتسعمائة وتوفى عصر الجمعة السادس عشر من جمادى الأولى سنة ثلاثين وألف وله ترجمة على حدة استوفينا فيها أحواله ومشايخه وأما عمه الشيخ أبو حامد فمولده سادس شوال سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وتوفي رابع عشر شهر ربيع الثاني سنة اثنتين وخمسين وألف وأخذ عن والده الشيخ أبي المحاسن ومولده سنة سبع وثلاثين وتسعمائة وتوفي ليلة الأحد الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وألف وعن الإمام القصار ومولده سنة تسع وثلاثين وتسعمائة وتوفى سنة اثنتى عشرة وألف وعن الإمام أبي القاسم بن محمد بن القاضي ومولده سنة تسع وخمسين وتسعمائة وتوفى سنة اثنتين وعشرين وألف وعن المفتي الخطيب أبي عبد الله محمد بن أحمد المربي التلمساني ومولده بعد الخمسين وتسعمائة وتوفى آخر شعبان سنة ثمان عشرة وألف وعن الفقيه المشارك أبي الحسن علي بن محمد بن أبي العرب السفياني وتوفى سنة ثمان عشرة وعن الأديب الفقيه أبي عبد الله محمد ابن علي القنطري القصري وتوفى في التاريخ أيضا وعن القاضي أبي محمد عبد العزيز بن محمد المركني المغراوي وتوفى سنة أربع عشرة وألف وعن عمه الإمام أبي محمد عبد الرحمن المتقدم وعن شقيقه الحافظ أبي العباس أحمد بن يوسف ومولده في ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وتسعمائة وتوفى في الحادي والعشرين من ربيع الثاني سنة إحدى وعشرين وألف وعن الإمام أبي الطيب الحسن بن يوسف الزناتي ومولده سنة ستين من العاشرة وتوفى سنة ثلاث وعشرين وألف وأخذ والده عن البستيني وابن جلال وأبي زيد بن إبراهيم وعبد الوهاب الرقاق والخباز وخروف وابن مجير والمصمودي وأسانيدهم في ترجمته وترجمة أخيه أبي محمد عبد الرحمن وأخذ القصار عنهم ما عدا الخباز والمصمودي وزاد عن أبي شامة بن إبراهيم وأبي الحسن الراشدي وأبي عبد الله بن هبة وأبي النعيم رضوان وأبي العباس التسولي وبالإجازة عن أبي الطيب الغزي والبدر القرافي وأبي زكريا الحطاب وزين العابدين البكري وأبي القاسم بن عبد الجبار القيجيجي وأبي العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم وأسانيدهم مذكورة في غير هذا وأخذ ابن القاضي عن ابن مجير وأبي القاسم بن إبراهيم والقدومي والسراج والحميدي والبدري وغيرهم.تي الخطيب أبي زكريا يحيى بن محمد السراج والفقيه القاضي الخطيب أبي محمد عبد الواحد بن أحمد الحميدي والإمام المتفنن الأستاذ أبي العباس أحمد بن علي المنجور والإمام الأستاذ النحوي أبي العباس أحمد بن قاسم العزومي والإمام المحقق النظار أبي عبد الله محمد بن قاسم القيسي القصار والإمام المقرى المجود أبي محمد الحسن بن محمد الدراوي وغيرهم وقد استوفينا مشايخه في ترجمته وأما والده فعن والده والسراج والحميدي والمنجور والعزومي وزاد عن الفقيه النوازلي أبي راشد يعقوب بن يحيى البدوي ومولده سنة ثمان وتسعمائة وتوفى سنة تسع وتسعين وتسعمائة وأخذ عن أبي الحسن علي ابن هرون وأبي محمد عبد الرحمن سفيان وهما عن ابن غازي وغيره وزاد أيضا عن أبي عبد الله بن مجير المساري وأبي عبد الله الترغي المساري وأبي النعيم رضوان ابن عبد الله الجنوي وأبي النجد مبارك بن علي المصمودي وغيرهم ومولد ابن مجير في أول العاشرة وتوفى في سنة خمس وثمانين وتسعمائة وأخذ عن ابن غازي وغيره وتوفى الترعي سنة تسع بعد الألف وأخذ عن أبي عبد الله الخروبي الطرابلسي عن سيدي زروق وغيره وعن أبي القاسم بن محمد إبراهيم ومولده سنة ست وتسعين وثمانمائة وتوفى سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وأخذ عن ابن غازي وأبي العباس أحمد بن محمد بن يوسف الدقون وتوفى في مستهل شعبان سنة إحدى وعشرين وتسعمائة عن أبي عبد الله المواق وتوفى في شعبان سنة سبع وتسعين وثمانمائة عن المنتوري بأسانيده التي في فهرسته ولد والد شيخنا في نصف رمضان سنة ستين وتسعمائة وتوفى عصر الجمعة السادس عشر من جمادى الأولى سنة ثلاثين وألف وله ترجمة على حدة استوفينا فيها أحواله ومشايخه وأما عمه الشيخ أبو حامد فمولده سادس شوال سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وتوفي رابع عشر شهر ربيع الثاني سنة اثنتين وخمسين وألف وأخذ عن والده الشيخ أبي المحاسن ومولده سنة سبع وثلاثين وتسعمائة وتوفي ليلة الأحد الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وألف وعن الإمام القصار ومولده سنة تسع وثلاثين وتسعمائة وتوفى سنة اثنتى عشرة وألف وعن الإمام أبي القاسم بن محمد بن القاضي ومولده سنة تسع وخمسين وتسعمائة وتوفى سنة اثنتين وعشرين وألف وعن المفتي الخطيب أبي عبد الله محمد بن أحمد المربي التلمساني ومولده بعد الخمسين وتسعمائة وتوفى آخر شعبان سنة ثمان عشرة وألف وعن الفقيه المشارك أبي الحسن علي بن محمد بن أبي العرب السفياني وتوفى سنة ثمان عشرة وعن الأديب الفقيه أبي عبد الله محمد ابن علي القنطري القصري وتوفى في التاريخ أيضا وعن القاضي أبي محمد عبد العزيز بن محمد المركني المغراوي وتوفى سنة أربع عشرة وألف وعن عمه الإمام أبي محمد عبد الرحمن المتقدم وعن شقيقه الحافظ أبي العباس أحمد بن يوسف ومولده في ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وتسعمائة وتوفى في الحادي والعشرين من ربيع الثاني سنة إحدى وعشرين وألف وعن الإمام أبي الطيب الحسن بن يوسف الزناتي ومولده سنة ستين من العاشرة وتوفى سنة ثلاث وعشرين وألف وأخذ والده عن البستيني وابن جلال وأبي زيد بن إبراهيم وعبد الوهاب الرقاق والخباز وخروف وابن مجير والمصمودي وأسانيدهم في ترجمته وترجمة أخيه أبي محمد عبد الرحمن وأخذ القصار عنهم ما عدا الخباز والمصمودي وزاد عن أبي شامة بن إبراهيم وأبي الحسن الراشدي وأبي عبد الله بن هبة وأبي النعيم رضوان وأبي العباس التسولي وبالإجازة عن أبي الطيب الغزي والبدر القرافي وأبي زكريا الحطاب وزين العابدين البكري وأبي القاسم بن عبد الجبار القيجيجي وأبي العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم وأسانيدهم مذكورة في غير هذا وأخذ ابن القاضي عن ابن مجير وأبي القاسم بن إبراهيم والقدومي والسراج والحميدي والبدري وغيرهم.(2/98)
وأخذ المرى عن المنجور وشيخه أبي القاسم بن إبراهيم وأخذ ابن أبي العرب عن المنجور والقصار وأخذ القنطري عن أبي المحاسن الفاسي وأبي النعيم رضوان والمنجور وأخذ المركني عن ابن مجبر والمجبور والسراج والحميدي والقدومي وأبي القاسم بن عبد الجبار وأبي القاسم بن سوده وأما ابن أبي النعيم فمولده في رمضان سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة وتوفى في خامس ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وألف وأخذ عن ابن مجبر وعن السراج والحميدي والمنجور والقدومي وقد تقدموا وعن الفقيه المحدث أبي العباس أحمد بابا ابن أحمد بن أحمد ابن عمر بن اقيت السوداني وتوفى في سابع شعبان سنة ست وثلاثين وألف وأخذ عن والده عن جماعة مشارقة ومغاربة وتوفى والده في سابع عشر شعبان سنة إحدى وتسعين وتسعمائة ومولده في المحرم سنة تسع وعشرين وتسعمائة وأما المقرى فتوفي بمصر في منتصف رجب أو شعبان سنة إحدى وأربعين وألف وروى عن القصار وقبله عن عمه المفتي أبي عثمان سعيد بن أحمد عن الزقاق والونشريشي وابن جلال وسفيان وابن هارون وخروف وسعيد المانوى وغيرهم وأما الجنان فمولده سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وتوفى في آخر ذي الحجة سنة خمسين وألف وأخذ عن ابن مجير والقدومي والبدري والسراج والحميدي والمنجور وقد تقدموا وعن أبي عبد الله الحضري وتوفى سنة خمس عشرة وألف وهو عن الخروبي وقد تقدم وأما ابن عاشر فعن القصار وابن أبي النعيم وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عزيز التجيبي وأبي العباس أحمد بن محمد ابن شقرون بن القاضي وأبي عبد الله محمد الهراوي وبالمشرق عن سالم السنهوري وعبد الله الدنوشي وبركات الحطاب والصفي العزي وغيرهم وتوفى ابن عاشر ثالث الحجة سنة أربعين وألف وابن عزيز سنة ثلاث وعشرين ومولده سنة أربع وخمسين وتسعمائة وهو يروى عن القدومي والمنجور والحميدي والسراج وأبي إسحاق ابن عبد الجبار الفحبي ومحمد بن علي الشامي فالأول عن ابن غازي والثاني عن ابن سفيان وأما ابن الزبير فعن الشيخ الورع الصالح النحوي أبي يزيد عبد الرحمن بن قاسم بن محمد بن عبد الله اعراب المكناسي وولد سنة ثلاث وستين وتسعمائة وتوفى بعد الألف وتوفى ابن الزبير سنة خمس وثلاثين وألف وأما أبو الحسن بن القاضي فتوفى سنة ست وثلاثين وألف عن خمس وأربعين سنة وأخذ عن أبيه وعن ابن عمه أبي العباس بن شقرون وقد تقدما وعن عمه أبي محمد عبد العزيز بن محمد بن القاضي وتوفى سنة ست وألف ومولده بعد الخمسين وتسعمائة وأخذ أبوه وعمه وابن عمه جميعا عن جدنا أبي المحاسن يوسف بن محمد وأخذ أبو الحسن أيضا عن أبي العباس أحمد حبيب عن الشيخ أبي المحاسن أيضا وأخذ أبو الحسن أيضا عن الفقيه المحدث أبي الحسن عن الشريشي وتوفى تاسع عشر ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وألف عن أبي النعيم رضوان بن عبد الله وتوفى سنة إحدى وتسعين من العاشرة ومولده سنة اثنتى عشرة منها وأخذ عن سفيان وغيره وأخذ أبو الحسن المري عن أبيه المفتي أبي عبد الله محمد وعن الحميدي والسراج وابن أبي النعيم والمقرى وقد تقدموا وعن القاضي أبي الحسن علي بن عبد الرحمن بن عمران وتوفى سنة ثمان عشرة وألف وأخذ عن الأستاذ الفقيه أبي العباس أحمد بن محمد الزموري وتوفى سنة إحدى وألف عن الونشريشي والزقاق وأبي القسم بن إبراهيم وغيرهم ولم يكن بسط أسانيدهم وقد بسطناها في غير هذا ولما أكمل القراءة شيخنا اقتصر على شيخه أبي محمد عبد الرحمن عم أبيه بقصد التربية مظهرا بالحقائق الربانية ولم ينتسب إلا إليه إلى أن ربطه بعده بالشيخ سيدي محمد بن عبد الله وكان لقي قبله رجالا من أهل الله منهم الشيخ سيدي أبو القاسم ابن الزبير المصباحي وكثيرا ما تردد إليه بالقصر قبل رحلته إلى فاس وكان جليل القدر محافظا على رسوم الشريعة مع تغفل في دنياه وغيبة لا ينكر فيها من أحواله شيء وله منازلات ومكاشفات توفى في مستهل المحرم سنة ثمان عشرة وألف وأخذ عن الشيخ أبي محمد الحسن بن عيسى المصباحي من أكابر أصحاب الغزواني وعن والده أبي محمد عيسى بن الحسن عن والده وعن أبي عبد الله الطالب وارث الغزواني وأخذ والده أيضا عن أبي عسرية المصباحي ومنهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن موسى الشريعي الفجاج وكان جليل القدر كثير المكاشفات وتوفي سنة اثنتين وعشرين وألف وأخذ عن أبي عبد الله الصباغ القصري عن أبي الحسن فندرير عن(2/99)
أبي العباس الحساني عن أبي الحسن علي صالح عن التباع وأخذ أيضا عن سيدي أبي شتاغي عن سيدي الغزواني ومنهم الشيخ أبو الحسن علي بن أحمد الصرصري وتوفى سنة سبع وعشرين وألف وأخذ عن أبي مهدي عيسى بن الحسن وعن أبيه المذكورين ومنهم الشيخ أبو الحسن علي بن أحمد بن أيوب الخلطي وأخذ عنهما أيضا فيما أظن ومنهم الشيخ أبو عبد الله محمد القجيري القصري وكان صاحب حال عظيم توفى سنة أربع وأربعين وألف وأخذ عن الشيخ الفقيه الصالح أبي محمد عبد الله ابن حسون السلاتي دفن بسلا وتوفى سنة ثلاث عشرة وألف وهو عن سيدي عبد الله الهيطي وتوفى سنة ثلاث وستين وألف عن سيدي الغزواني وتوفى سنة خمس وثلاثين عن التباع وتوفى سنة أربع عشرة كلهم من العاشرة ومنهم الشيخ أبو الحسن علي المصمدي وتوفى في سنة خمس وثلاثين وألف وأخذ عن أبي الحسن الجعيدي وتوفى سنة ثلاث وعشرين وألف عن الشيخ أبي الحجاج يوسف التليدي أحد وارثي الغزواني وتوفى سنة ثمان وأربعين وتسعمائة واختص بعده بتلميذه سيدي منصور بن عبد المنعم ومنهم الشيخ سيدي عبد الرحمن الشريف وغيرهم ونشأ منذ صباه مستقيم النفس على التزكية بالطاعات فيسر الله له التعلم حتى كان يحفظ دون كثير قراءة فحدثنا من كان يقرأ معه في الصغر أنه كان ينظر في اللوح ويحرك شفتيه من غير أن يسمع له صوت ثم يعرض لوحه كما ينبغي ودخل في طريق القوم وكان يحضر حزب أخيه أبي عسرية وغيره ثم دخل فاس فلازم عم أبيه قراءة وطلب منه الدخول في حزب أصحابه مع جماعة ممن يقرأ معه فأشار بالقبول ولكن شرط عليهم حلق الشعر وكان للشيخ شنتوف إذ ذاك فبادر إلى حلقه وأغفل غيره احتقارا للشرط فلما أكمل القراءة طولب بالرجوع إلى وطنه بعد كتبه الإجازة عن شيخه أبي النعيم وأستاذه عم أبيه وذلك في جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وألف فقال له الشيخ لو كنت وحدك ما أطلقتك ولكن سر فلما وصل بعث إليه بالعوذ ليأتيه فاختص به وكان يطالعه سائر يومه وربما خرج ليلا بحسب ما يحدث له من حال يبثه أو علم ينشره ولم يزل يلازمه إلى وفاته مع ما كان ينوه به ويثنى عليه ويشير إليه بالخصوصية ثم ظهر بعده الشيخ العارف الشيخ محمد بن محمد بن عبد الله معان الأندلسي بإخراج الجماعة فاستخرجوه جمعا لأمرهم وضبطا لحالهم فصادفوا الأذن له في ذلك فأظهر ما كان خفى ولاحت أنواره ونزل له صاحب الترجمة فخدمه إلى وفاته جمعا للآراء ولم يزل الشيخ محمد المزبور يتيمن بعلم المترجم ويشير إلى توقيفه واختصاصه من بين أهله بما هو أقوى من التصريح بتقديمه بعده فهمه وعرفه من سلم من شين الحسد وأخذ غيره بعموقات لا تفيد شيئا لقوله الوقت غال وليس هذا وقت فقر إنما نطلب أن نموت مسلمين وما علم أن هذا قاله الشيخ المجذوب قبله وقاله من المتقدمين كثير بل والشيخ وأشياخنا كانوا ينفون المشيخة عنهم وعن أهل وقتهم ثم قال وكان أعلم أهل زمانه وأثبتهم وأضبطهم وأكثرهم تحريرا وكان يحفظ ما يسمع لا يعتريه نسيان منذ زمن قراءته وكان لا يدع مشكلا في علم يسأل عنه ولا يتكلم معه في نازلة إلا ويفكها ولا يتكلم معه في علم إلا ويفيد ثمرته عن روية لا بتكلف مطالعة ولا تردد بعبارة سهلة لا يتكلف لها تأنقا ولا يلتزم لها خروجا عن لسان الوقت بل كان تدريسه على ذلك تارة بعبارة الوقت وتارة بالعربية المحضة فإذا كتب ظهرت الفصاحة والبلاغة على الوجه الذي يبلغ من استحسانه كل مبلغ وما رأينا تحصيلا أتم من تحصيله مع التبحر في العلوم والجمع لأدوات الاجتهاد وكان يميل إليه إلا أنه يوفق بين رأيه ورأى أهل المذاهب حتى يصيره قولا جاريا على مشهور المذاهب ولا يقع في أجوبته بما يراه بنظره بل يستخرجه من النصوص ويرده إلى مفهومها وكان له التمكين العظيم مع قوة التضلع في التفسير والحديث ومعاني الكتاب والسنة وله في التصوف اليد البيضاء وأما العربية فهو أبو عذرها حتى كان يقول تلميذه الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن جلال كل من يحسن النحو بفاس ويزعم أنه أخذه عن غير سيدي عبد القادر فهو كذاب وأما الأصول والمنطق والبيان فكان يقول تلميذه المذكور مارسنا العلماء فكان إذا أشكل علينا في المحلى أو السعد أو غيرهما شيء أتينا شيخنا أبا العباس أحمد بن عمران وهو المشار إليه معه في ذلك فسألناه فيأخذ الكتب من أيدينا فيتأملها ثم يجيبنا وإذا أتينا سيدي(2/100)
عبد القادر وسألناه أجابنا على البديهة دون تأمل كتاب وقد نفقت بضاعة سائر العلوم في عصره ببركته فتضلع بها تلامذته وتلامذة تلامذته حتى صاروا يلقون من يأتي بشيء منها مسارعين وبالجملة فهو أكمل أهل زمانه وكانت وفاته في سنة إحدى وتسعين وألفبد القادر وسألناه أجابنا على البديهة دون تأمل كتاب وقد نفقت بضاعة سائر العلوم في عصره ببركته فتضلع بها تلامذته وتلامذة تلامذته حتى صاروا يلقون من يأتي بشيء منها مسارعين وبالجملة فهو أكمل أهل زمانه وكانت وفاته في سنة إحدى وتسعين وألف عبد القادر بن عمر البغدادي نزيل القاهرة الأديب المصنف الرحال الباهر الطريقة في الإحاطة بالمعارف والتضلع من الذخائر العلمية وكان فاضلا بارعا مطلعا على أقسام كلام العرب النظم والنثر راويا لوقائعها وحروبها وأيامها وكان يحفظ مقامات الحريري وكثيرا من دواوين العرب على اختلاف طبقاتهم وهو أحسن المتأخرين معرفة باللغة والأشعار والحكايات البديعية مع الثبت في النقل وزيادة الفضل والانتقاد الحسن ومناسبة إيراد كل شيء منها في موضعه مع اللطافة وقوة المذاكرة وحسن المنادمة وحفظ اللغة الفارسية والتركية واتقانهما كل الإتقان ومعرفة الأشعار الحسنة منهما وأخبار الفرس خرج من بغداد وهو متقن لهذه اللغات الثلاث وورد دمشق وقرأ بها على العلامة السيد محمد بن كمال الدين نقيب الشام وعلى شيخنا النجم محمد بن يحيى الفرضي في العربية وأقام بدمشق في مسجد قبالة دار النقيب المذكور مقدار سنة ثم رحل إلى مصر فدخلها في سنة خمسين وألف بعد فتح بغداد بعامين وأخذ العلوم الشرعية وآلاتها النقلية والعقلية عن جمع من مشايخ الأزهر أجلهم الشهاب الخفاجي والسرى الدروري والبرهان المأموني والنور الشبراملسي والشيخ يس الحمصي وغيرهم وأكثر لزومه كان للخفاجي قرأ عليه كثيرا من التفسير والحديث والآداب وأجازه بذلك وبمؤلفاته وكان الخفاجي مع جلالته وعظمته يراجعه في المسائل الغريبة لمعرفته مظانها وسعة إطلاعه وطول باعه حكى صاحبنا الفاضل مصطفى بن فتح الله قال قلت له لما رأيته من سعة حفظه واستحضاره ما أظن هذا العصر سمح برجل مثلك فقال لي جميع ما حفظته قطرة من غدير الشهاب وما استفدت هذه العلوم الأدبية إلا منه ولما مات الشهاب تملك أكثر كتبه وجمع كتبا كثيرة غيرها وأخبرني عنه بعض من لقيته أنه كان عنده ألف ديوان من دواوين العرب العاربة وألف المؤلفات الفائقة منها شرح شواهد شرح الكافية للرضى الاسترابادي في ثمان مجلدات جمع فيه علوم الأدب واللغة ومتعلقاتها بأسرها إلا القليل ملكته بالروم وانتفعت به ونقلت منه في مجاميع لي نفائس أبحاث يعز وجودها في غيره وله أيضا شرح شواهد شرح الشافعية للرضي أيضا والحاشية على شرح بانت سعاد لابن هشام وقد رأيتها وانتقيت منها مباحث ونوادر كثيرة من جملتها الناسب يجوز له أن يذكر ما تقدم وإن يفرغ مجهوده فيما يدل على الصبابة وإفراط الوجد واللوعة والانحلال وعدم الصبر وما أشبه ذلك من التذلل والتوله ويجب أن يجتنب ما يدل على الإباء والعزة والتخشن والجلادة كقول إسحق الأعرج
فلما بدا إلى ما رابني ... نزعت نزوع الأبي الكريم
فإنه وصف نفسه بالجلد والإقناع والتسلي وهذا نقض للغرض وقسد عاب عليه بعضهم فقال قبحه الله ما أحبها ساعة قط وكقول عبد الرحمن
إن تنأ دارك لا أمل تذكرا ... وعليك مني رحمة وسلام
فهذا وإن كان معنى صحيحا لكنه أثقل من رضوى ليس فيه لطف ولا عذوبة وهو بالرثاء أشبه منه بالنشيب ثم إن مثله إنما يطلب به الأماثل من الرجال وليس ينبغي أن يخاطب به النسوان وربات الحجال إذ ليس فيه من الصبوة والخلاعة ما يجلب به مودتهن ومن المخاشنة قول طرفة
وإذا تلسنني ألسنها ... إنني لست بموهون فقر
ومن النهاية في المخاشنة قول الآخر
سلام ليت لسانا تنطقين به ... قبل الذي نالني من صوته قطعا
فهذا قول عدو مكاشر لا محب كاسر وأقبح من هذا قول عبد بني الحسحاس في الدعاء على محبوبته
وراهن ربي مثل ما قد ورينني ... وأحمى على أكبادهن المكاويا
ومثله قول جنازة
من حبها أتمنى أن يلاقيني ... من نحو بلدتها ناع فينعاها(2/101)
لكي يكون فراق لا لقاء له ... وتضمر النفس يأسا ثم تسلاها
انتهى وله من التآليف أيضا شرح الشاهدي الجامع بين الفارسي والتركي وغير ذلك مما لم يصل إلي خبره وكل تآليفه مفيدة نافعة وكان مع تبحره في الآداب ومعرفة الشعر لم يتفق له نظم حتى طلبت من بعض المختصين به شيئا من شعره لأثبته في ترجمته فذكر لي فيما زعم أنه لم يتفوه بشيء منه ترفعا عنه ثم رأيت الشلى ذكر له في ترجمته هذه الأبيات في هجاء طبيب يهودي يعرف بابن جميع
يا ابن جميع أصبحت تمتحن الن ... حو ودعواك فيه منحوله
أمك ما بالها فقد ذهبت ... مرفوعة الساق وهي مفعوله
فاعلها الاير وهو منتصب ... مسائل قد أتتك مجهوله
والعين عطل وعين عصعصها ... بنقطة الخصيتين مشكوله
ودخل دمشق في سنة خمس وثمانين وألف وكان في صحبة الوزير إبراهيم باشا المعروف بكتخدا الوزير منصرفا من حكومة مصر وسافر معه إلى أدرنه راجيا أن يحل من الزمان محل الفريدة من العقد فدخل إلى مجلس الوزير الأعظم أحمد باشا الفاضل واستمكن منه واختص به ولما حللت أدرنه في ذلك العصر زرته مرة في معهده وكان بينه وبين والدي حقوق ومودة قديمة فرحب بي وأقبل علي وكان إذ ذاك في غاية من إقبال الكبراء عليه فلم يلبث حتى هجمت عليه علة قاسى منها آلاما شديدة ولم يبق طبيب حتى باشر معالجته وكان أمره في نيل أمانيه مأخوذا على التراخي فعاجله الملال والسآمة وضاق به الأمر فذهب إلى معرة مصر وعادة مرة ثانية وأنا بالروم فابتلى برمد في عينيه حتى قارب أن يكف فسافر من طريق البحر إلى مصر فوصلها ولم تطل مدته بها حتى توفي وكانت ولادته بغداد في سنة ثلاثين وألف وتوفي في أحد الربيعين من سنة ثلاث وتسعين وألف رحمه الله تعالى عبد القادر بن محمد المعروف بابن سوار الدمشقي العاتكي شيخ المحيا بالشام واحد الكبراء الصلحاء أصحاب الشان كان في مبدأ أمره يسافر إلى القاهرة للتجارة فحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وشيخه إذ ذاك الشيخ شهاب الدين البلقيني فوقع عمله في خاطره ثم رجع إلى دمشق فابتدأ بعمل المحيا في ليلة الجمعة بجامع البزوري بمحلة قبر عاتكة في رجب سنة سبعين وتسعمائه وكان يحضر معه رجلان أو ثلاثة من جيرانه لا يزيدون فحضرهم ذات ليلة الشهاب بن البدر الغزي فاستحسن فعلهم وكان يعاودهم كثيرا واعتنى بهم جدا ومن لطائفه ما قاله في مدح المحيا
أمانة نفسي في مطالعة الأحيا ... وإحياء روحي في مشاهدة المحيا
فيا رب هذا دأب عبدك دائما ... وديدينه ما دام في هذه الدنيا(2/102)
ولما طال تردده إليهم ذكر ذلك لوالده البدر فاستحسنه وأمره أن يأتي بالشيخ عبد القادر إليه فلما جاء إليه أشار له بعمل المحيا في الجامع الأموي بالمشهد المعروف بزين العابدين فامتثل أمره وقوي قلبه وابتدأه في المحرم سنة إحدى وسبعين لرؤيا رآها هو ورجل يقال له بركات العقرباني موافقين لإشارة البدر وحدث الشيخ عبد القادر أنه في أوائل عمل المحيا دخل عليه الشيخ صالح خير الدين المصري الحنفي فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الشيخ علي الشوني وهو أول من عمل مجلس الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصر والشيخ شهاب الدين البلقيني وهو خليفته في المجلس فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرف الشيخ عبد القادر إمام الجامع البزوري فقلت له نعم فقال اذهب إليه وقل له يعمل المحيا على طريقة الشيخين وأشار إلى الشوني والبلقيني ثم رأى الشيخ عبد القادر نفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له استعن على مجلسي بأصحابك ثم التمس بعد مدة من الرؤيا من أصحابه مساعدته فلم يطعه منهم أحذ وقالوا لا قدرة لنا على سهر الليل فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ثانية فقال له أما قلت لك استعن على المجلس بأصحابك قال فقلت له ما أطاعني أحد فقال له أرسل إليك جماعة يعاونونك قال فبعد أن رأيت ذلك يسر الله لي جماعة وكان يرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام كثيرا ويحدث عن رؤياه فربما وقع بعض الناس الضعفاء فيه حتى اتفق للشيخ الفاضل البدر حسن بن عبد القادر محيي الدين البكري الصديقي وكان ممن ينكر ذلك عليه فرأى في منامه أن الجامع الأموي ملآن من الناس وهم ينتظرون قال فقلت ما تنتظرون قالوا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعد ذلك دخل النبي صلى الله عليه وسلم فأقبلوا عليه يقبلون يديه وكنت ممن قبل يده وقلت له من أنت يا سيدي قال أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول الشيخ عبد القادر ابن سوار كثيرا أنه يراني في منامه وقد جئت لحضور مجلسه فلما استيقظ تاب عن الإنكار وصار يلازم مجلس ابن سوار ويعتقده ويقبل يده وكان للشيخ عبد القادر فضيلة وكان يقرأ القرآن مجودا وكان من أحسن الناس قراءة وله رواية عن البدر الغزي والشيخ أبي الحسن البكري والشهاب أحمد الطيبي الكبير قال النجم ورأيت في تاريخ ابن طولون بخطه هذه الأبيات منسوبة للشيخ عبد القادر بن سوار وهي هذه
لولا ثلاث لم أرد عيشة ... أعيش فيها مدة العمر
محيا رسول الله ذخر الورى ... من نوره أسنى من البدر
وصحبة الإخوان لي دائما ... بالصدق والإخلاص والذكر
وتوبة تمحو الذي قد مضى ... في الزمن الماضي من الوزر
فأسأل الرحمن تيسيرها ... فهو إلهي مالك الأمر
وكنت استبعد أن تكون له فقلت له رأيت بخط ابن طولون هذه الأبيات منسوبة لكم فهل أنتم قلتموها فقال لي وإنما هي لأخيك الشيخ شهاب الدين وكنت أتفرس ذلك حتى أخبرني الشيخ عبد القادر أنه كان يتمثل بها فظن الشيخ شمس الدين بن طولون أنها نظمه ونقلها الناس من خط ابن طولون منسوبة إلى الشيخ عبد القادر حتى رأيتها بخط الداودي وغيره وكانت ولادة ابن سوار ليلة دخول السلطان سليم إلى دمشق وهي ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة وتوفي في سحر ليلة الأحد ثامن عشر جمادى الأولى سنة أربع عشرة بعد الألف عن أحد وتسعين سنة وستة أشهر وعشرين يوما وصلى عليه في التوريزيه ودفن بمقبرة الدقاقين شرقيها من جهة القبلة بمحلة قبر عاتكة وقيل في تاريخ موته
قالوا قضى قطب الورى نحبه ... وذاك عبد القادر المرتضى
فهل قضى الله له بالرضا ... فقلت في تاريخه قد قضى(2/103)
عبد القادر بن محمد بن أحمد بن زين الفيومي المصري الشافعي الإمام الكبير المعروف وهو والد عبد البر صاحب المنتزه المقدم ذكره لزم الشمس الرملي مدة سنين وتفقه به وأخذ عن الشهاب أحمد بن أحمد بن عبد الحق السنباطي وعن شيخ القراء الشيخ شحاذه اليمني وأبي النجا سالم السنهوري والشمس محمد البنوفري والشيخ صالح البلقيني ومن مشايخه أيضا النور الزيادي وتلقى الرياضيات عن السيد الشريف الطحان وفاق في الفنون فجمع بين المعقول والمنقول وكان فقيها محدثا فرضيا صوفيا ويعرف الحساب والهيئة والميقات والموسيقى وغيرها وتصدر للإفتاء والتدريس وانتفع به كثير من الطلبة واشتهر فضله وألف تآليف كثيرة منها شرحه الكبير لمنهاج النووي جمع فيه بين شرحي شيخه الرملي وشرحي الخطيب وابن حجر وهو عمدة في مذهبهم وله شرح عليه مختصر من هذا سماه الروض المهذب في تحرير ما لخصته من فروع المذهب وكتب على شرح المنهج وشرح البهجة وشرح النزهة في الحساب ومتن اللمع وشرح متن المقنع في الجبر والمقابلة وشرح المنظومة الشهيرة بالرحبية في الفرائض وله نظم يتعلق بالتصوف والعقائد ومن شعره ما رثى به شيخه الشمس الرملي المذكور
واحر قلبي على حبر قضى ومضى ... لو كان يفدى فدته العين بالبصر
فالعين تدمع والقلب الحزين غدا ... بجمرة أوقدت باللهب والشرر
لفقد شمس لدين الله سيدنا ... ومن هدى الناس من بدو ومن حضر
محمد العالم المفضال من سطعت ... به الفضائل في العلياء كالقمر
وكان له رتبة علية بين الأولياء وكان يصدر عنه كرامات وأحوال باهرة منها أنه مرض له ولد فزار الإمام الشافعي فاجتمع بزين العابدين المناوي فقال له مصلحتك عند ذاك الرجل وأشار به إلى رجل جالس في طاق من بيت فذهب إليه فوجده بعض أصحابه من العلماء فذكر له فدعا لولده فعوفي ومنها أنه رأى مناما عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام في طريق مطهرة الجامع الأزهر فسأله الدعاء فقال له بقي من عمرك ثلاثة أيام فذهب إلى العارف بالله تعالى محمد البنوفري فقص عليه المنام فقال له من عمرك الذي مع المشقة والكدر فكان كذلك فعاش بعد ذلك ما ينوف على ثلاثين سنة وسئل العارف بالله تعالى صالح البلقيني عن القطب فقال من أراد أن يرى القطب فلينظر إلى عبد القادر إلى غير ذلك من كراماته المشهورة بين علماء جامع الأزهر وكانت وفاته سنة اثنتين وعشرين وألف وكان هيأ قبره قبل موته بمدة جوار العارف بالله تعالى محمد بن الترجمان المشهور تجاه مقام السلطان قايتباي بصحراء مصر(2/104)
عبد القادر بن محمد بن يحيى بن مكرم بن محب الدين بن رضي الدين بن محب الدين ابن شهاب الدين بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن علي بن فارس بن يوسف بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الواحد بن موسى ابن إبراهيم بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الحسيني الطبري المكي الشافعي إمام أئمة الحجاز قد ترجم نفسه في بعض كتبه فقال بعد أن ذكر نسبه هكذا سرد نسبه هذا أئمة التاريخ والعلماء الأكابر وهو متلق له كابرا عن كابر فإن الحافظ العمدة سراج الدين عمر بن فهد مؤرخ مكة ترجم أبا بكر بن محمد الطبري ونسبه في كتاب التبيين في تراجم الطبريين بهذا النسب ووجد ذلك بخط الحافظ العمدة المحدث أبي عبد الله محمد بن أحمد بن الوادي آشى وبخط الشيخ تقي الدين بن فهد وذكر انه وجده بخط الإمام رضي الدين بن المحب الطبري وسرده كذلك السراج الفهدي في معجمه وذيله على تاريخ الفاسي المسمى بالدر الكمين بذيل العقد الثمين عند ترجمة الإمام محب الدين الطبري وذكره في ترجمة المذكور أيضا الشيخ العلامة عز الدين بن فهد في معجمه وفي كتابه المسمى نزهة ذوي الأحلام بأخبار الخطباء والأئمة وقضاء بلد الله الحرام وساقه أيضا الشيخ الرحلة جار الله بن فهد في معجمه المسمى نوافج النفح المسكي بمعجم جار الله بن فهد المكي عند ترجمة شيخه الإمام محيي الدين الطبري وفي كتابه المسمى القول المؤتلف في الخمسة البيوت المنسوبين للشرف وصاحب هذه الترجمة ولد ونشأ بمكة وترعرع في حجر أبويه وأكمل حفظ القرآن وهو ابن اثنتى عشرة سنة وصلى به التراويح في مقام إبراهيم عليه السلام وهو في هذا السن وحفظ عدة متون منها الأربعين النووية في الحديث والإشارات عليها والعقائد النسفية وألفية ابن مالك في النحو وثلث المنهج لشيخ الإسلام زكريا في الفقه وعرض جملتها على عدة مشايخ في سنة إحدى وتسعين وتسعمائة منهم شافعي عصره الشمس محمد الرملي المصري الشافعي والعلامة المفنن شمس الدين محمد النحراوي الحنفي والقدوة المفيد عبد الرحمن الشربيني الخطيب والشيخ الإمام العمدة علي بن جار الله بن ظهيرة الحنفي والشيخ الصالح العالم يحيى بن محمد الحطاب المالكي وجماعة كثيرون وأجازوه بمحفوظاته إجازة رواية وكتبوا له ما يكتب مثله في العادة من الإجازة وشرع من هذا العام في الاشتغال وحل المتون على المشايخ فلازم دروس الرملي في مجاورته تلك السنة بمكة تبركا وشرع في حل المنهج على الشربيني وانتهى فيه إلى شروط الصلاة ولازم دروس الشيخ الجليل المتقن المفنن عبد الرحيم بن أبي بكر ابن حسان الحنفي وأخذ عنه النحو والصرف وأخذ النحو والعروض عن الأديب الألمعي جمال الدين بن إسماعيل العصامي والمنطق عن أخي المذكور على العصامي وحضر عنده قراءة شرح آداب البحث لمنلا حنفي وقطعة من أوائل المغنى لابن هشام وقطعة من شرح الجامي على الكافية وحضر قراءة جانب من شرح المنهج على الشيخ القدوة أبي البقاء الغمري وحضر عنده أيضا قراءة شرح الورقات للمحلى وقرأ قطعة من أوائل شرح المنهج على الشيخ الصالح نصر الله بن محمد وجانبا منه أيضا على الشيخ المفيد محمد بن عبد العزيز الزمزمي وقرأ جانبا من متن المنهاج على الشيخ الجامع المطلع البهنسي وقرأ جانبا من متن الشاطبية بعد حفظ نصفها على الشيخ المفنن على الهروي وجمع عليه للقراء السبعة سورة البقرة بكمالها وقرأ جانبا من تهذيب المنطق للقاضي زكريا على الشيخ علي بن ظهيرة ولازم ودأب وأعانه فهمه الثاقب فتصرف في النظم والإنشاء وإنشاء الرسائل البديعية واطلع على العلوم العربية الأديبة فانقادت له طائعة ثم ترقى إلى ما هو أصعب مسلك فاهتم بقراءة جانب من شرح الجغميني في الهيئة وقطعة من أوائل شرح التجريد للمنلا علي القوشجي على العلامة الجليل نصير الدين بن محمد غياث الدين منصور وقرأ عليه قطعة من رسالة الاسطرلاب وقرأ جانبا من كليات شرح الموجز في الطب للنفيسي على الفاضل الكامل يوسف الكيلاني وقرأ جانبا من شرح هداية الحكمة لمير قاضي حسين على السيد الجليل غضنفر ثم صنف وأجاد كتبا عديدة منها مقامة سماها درة الأصداف السنية في ذروة الأوصاف الحسنية وكتاب مشتمل على زبدة أربعين علما سماه عيون المسائل من أعيان الرسائل(2/105)
وشرح على الدريديه سماه عيون المسائل من أعيان الرسائل وشرح على الدريديه سماه الآيات المقصورة على الأبيات المقصورة وشرح على سيرته التي نظمها سماه حسن السريرة في حسن السيرة وشرحه على قطعة من ديوان المتنبي سماه الكلم الطيب على كلام أبي الطيب وعلو الحجة بتأخير أبي بكر بن حجه وله رسائل علمية منها قطعة على أوائل صحيح البخاري سماه إفحام المجاري في افهام البخاري ورسالة سل السيف على حل كيف ورسالة فسر بها قوله تعالى " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " سماها عرائس الابكار وغرائس الأفكار ومنها شرح على كتاب الكافي في علمي العروض والقوافي سماه كشف الخافي من كتاب الكافي ولم يزل منهمكا على العلم مباحثا فيه معروفا به وله الأشعار الرائقة الحلوة فمنذ لك قوله يمدح الشريف حسن بن أبي نمى على الدريديه سماه عيون المسائل من أعيان الرسائل وشرح على الدريديه سماه الآيات المقصورة على الأبيات المقصورة وشرح على سيرته التي نظمها سماه حسن السريرة في حسن السيرة وشرحه على قطعة من ديوان المتنبي سماه الكلم الطيب على كلام أبي الطيب وعلو الحجة بتأخير أبي بكر بن حجه وله رسائل علمية منها قطعة على أوائل صحيح البخاري سماه إفحام المجاري في افهام البخاري ورسالة سل السيف على حل كيف ورسالة فسر بها قوله تعالى " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " سماها عرائس الابكار وغرائس الأفكار ومنها شرح على كتاب الكافي في علمي العروض والقوافي سماه كشف الخافي من كتاب الكافي ولم يزل منهمكا على العلم مباحثا فيه معروفا به وله الأشعار الرائقة الحلوة فمنذ لك قوله يمدح الشريف حسن بن أبي نمى
بدت تجر ذيوله التيه والخيلا ... في روضة العجب حتى قلت حي على
خود تجرد بيضا من لواحظها ... فتترك الأسد في ساحاتها قتلى
وتنثنى بقوام زانه هيف ... فتخجل الغصن تعديلا كذا ميلا
ما أطلعت لي هلالا من مبرقعها ... إلا وعاينته بدرا فلا أفلا
ولا رنت لي بلحظ فترة كسلا ... إلا وقد بعثت جوف الحشا رسلا
يا حسنها من فتاة حل مبسمها ... ظلم يفوق على لذاته العسلا
ورصعته لآل حول منبتها ... زمرد الوشم يا لله من فعلا
ناديتها ورماح الحي معلنة ... يا ظبية الحي هل ما يبلغ الأملا
لواله عبثت أيدي الغرام به ... أما ترى شأنه أن يبدع الغزلا
قالت صدقت ولكن ذاك توطئة ... لمدح أفضل من في الأرض قد عدلا
السيد الحسن الملك الهمام ومن ... تراه بالحق للجوزاء منتعلا
سلطان مكة حامي البيت من شهدت ... بعدله الأرض لما مهد السبلا
مؤيد الدين بالفهم الذي اقترنت ... به السعادات في حالاته جملا
ليث الكتيبة مروى المشرفية من ... دم العدا منهلا إذ أرعف الاسلا
صاد الصناديد يوم الحرب ما بطل ... رأى عجائبه إلا وقد بطلا
كم ذا أبانت عن العلياء همته ... وكم أبادت معالي عزمه رجلا
وكم محا سيفه أهل الفساد وأرب ... اب العناد فجارى سيفه الأجلا
فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ... بلاقعا قد كساها الذل ثوب بلى
وليس بدعا فهذا شأن والده ... علي المرتضى السامي بفضل ولا
فسل حنينا وسل بدرا وسل أحدا ... والنهروان وسل صفين والجملا
فيا ابن طه علوت الناس مرتبة ... وجل قدرك أن تحكى له مثلا
هل أنت ملك عظيم الخلق أم ملك ... أبن فأمرك هذا حير العقلا
جمعت كل صفات الحسن أعظمها ... جبر الخواطر للعاني ومن وصلا
لا سيما من عبيد غرس نعمتكم ... أبا وجدا فمن ذا أصبحوا أصلا
لذا حثثت مطايا العزم مسرعة ... إلى فنائك كيما أبلغ الأملا
منها
فما ينفذ حكم الشرع دام سوى ... ذات الشريف وما عنه نرى حولا(2/106)
أدامه الله في سعد يسر به ... وذا دعاء لكل الخلق قد شملا
ثم الصلاة على المختار من مضر ... والآل والصحب ما مدح الشريف حلا
ولما وقف على قول البدر الدماميني
يا ساكني مكة لا زلتم ... أنسا لنا إني لم أنسكم
ما فيكم عيب سوى قولكم ... عند اللقا أوحشنا إنسكم
قال مجيبا
ما عيبنا هذا ولكنه ... من سوء فهم جاء من حدسكم
لم نعن بالايحاش عند اللقا ... بل ما مضى فابكوا على نفسكم
وحذا حذوة ولده زين العابدين المقدم ذكره فقال
يا مظهر العيب على قولنا ... عند اللقا أوحشنا إنسكم
ما قصدنا ما قد جنحتم له ... من خطأ قد جاء في فهمكم
فقولنا المذكور جار على ... حذف مضاف غاب عن حدسكم
والقصد فقد الأنس فيما مضى ... لا ضده الواقع في وهمكم
فالأنس لم يوحش بلى فقده ... هو الذي يوحش من مثلكم
وبعد إن بان لكم فاجزموا ... بنسبة العيب إلى نفسكم
وحين وقف على ما قاله العلامة أحمد بن عبد الرؤف قال مجيبا ومعتذرا عن الدماميني
صونا موالي الفضل بين الورى ... للبدر إن تدركه شمسكم
وجللوه بعباء الأخا ... فإنه الأنسب من قد سبكم
فإنه الكنز وبنيانه ... مؤسس قدما على أسكم
كأنه أضمر أن شانكم ... صناعة الإيهام في لفظكم
فاستعمل النوع الذي أنتم ... أدرى به كي يجتنى غرسكم
ولم يسعه كونه منكرا ... لمثل هذا الحذق من مثلكم
فإن هذا سائغ شائع ... برهانه أوحشنا انسكم(2/107)
وكانت ولادة صاحب الترجمة آخر نهار السابع والعشرين من صفر سنة ست وسبعين وتسعمائة بمكة وتوفى في سنة ثلاث وثلاثين وألف وتوفى والده الإمام محمد ابن يحيى سنة ثمان عشرة وألف وسبب موت صاحب الترجمة أنه لما كان ليلة الأربعاء سلخ شهر رمضان أمر حيدر باشا متولى اليمن أن لا يخطب العيد في هذا العام إلا خطيب حنفي وكانت النوبة لصاحب الترجمة وكان قد تهيأ للخطبة وأخذ جميع ما يحتاجه من السماط والحلوى على عادة خطيب العيد بمكة فراجع حيدر باشا في ذلك فلم يفعل وشدد في منعه مباشرة خطبة العيد فتعب لذلك تعبا شديدا فمات فجأة وصلى عليه بعد صلاة العيد من يومه والطبريون بيت وعلم وشرف مشهورون في مشارق الأرض ومغاربها وهم أقدم ذوي البيوت بمكة فإن الشيخ نجم الدين عمر بن فهد ذكر ذلك في كتابه التبيين بتراجم الطبريين وقال إن أول من قدم مكة منهم الشيخ رضي الدين أبو بكر محمد بن أبي بكر بن علي بن فارس الحسيني الطبري قيل سنة سبعين وخمسمائة أو في التي بعدها وانقطع بها وزار النبي صلى الله عليه وسلم وسأل الله تعالى عنده أولادا علماء هداة مرضيين فولد له سبعة أولاد وهم محمد وأحمد وعلي وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وكانوا كلهم فقهاء علماء مدرسين وكان دخول القضاء وإمامة مقام إبراهيم في بيتهم سنة ثلاث وسبعين وستمائة كما ذكره النجم بن فهد في تاريخه إتحاف الورى بأخبار أم القرى وذكره الفاسي في تاريخه العقد الثمين في تاريخ بلد الله الأمين ولم تزل إمامة المقام المذكور مخصوصة لهم لا مدخل معهم في ذلك لأجنبي وكل من كمل منهم للمباشرة يباشر ولا يحتاج إلى إذن جديد لوقع الإذن المطلق لهم من زمن السلاطين السابقين والأشراف المتقدمين واتفق في عام إحدى وأربعين وألف أن إنسانا رام الدخول معهم في ذلك ووقع كلام طويل في ذلك ثم منعه الشريف عبد الله بن الحسن ثم ورد أمر من وزير مصر حينئذ محمد باشا بمنع المذكور أيضا واستمر ذلك إلى الآن وما زالت المناصب العلية في أيديهم يتلقونها كابرا عن كابر ويعقدون عليها في مقام الافتخار بالخناصر من القضاء والفتوى والتدريس والإمامة والخطابة ببلد الله النفيس وكان منصب الخطابة قديما ينتقل بمكة في ثلاثة بيوت الطبريين والطهيريين والنويريين وبيت الطبري أقدمهم في ذلك كما يعلم من كتب التواريخ القديمة ومن خطباء الطبريين المحب الطبري والبهاء الطبري ثم أنه في حدود الثلاثين وألف جدد خطيب مالكي ثم حنبلي ثم آخر حنبلي في عام ثلاث وأربعين وكان منصب الخطابة محفوظا عن أحداث الناس فلا يقلده إلا العظيم علما أو نسبا واتفق في عام إحدى وأربعين أن باشر الخطابة الشيخ محمد المنوفي فورد أمر من وزير مصر مخاطبا به صاحب مكة وقاضيها وشيخ حرمها بمنعه من ذلك فلما جاءت نوبته امتنع قاضي مكة إذ ذاك شكر الله أفندي من الصلاة خلفه فأرسل إلى الشريف زيد وكان بمصلاه بالمسجد الحرام وقد صعد المنبر وخطب فأرسل إليه الشريف ومنعه من الصلاة وأشار إلى غيره فصلى بالناس ثم الخطباء في زماننا بغاية الكثرة بحيث أنه لم يصل الواحد منهم إلى نوبته إلا بعد مضي سنة ولنبي الطبري مزيد التقوى والورع والصلاح وتوفر أسباب الخير والفلاح وزيادة الألفة بينهم وبين ولاة مكة المشرفة والتراسل بينهم بالأشعار الحسنة اللطيفة مما هو مذكور في التواريخ المذكورة وغيرها حتى أن تلك الألفة بينهم اقتضت المواصلة بالمصاهرة وأكملت ما هو من أسباب المفاخرة فقد نقل الفاسي أن زينب بنت قاضي مكة الشهاب أحمد بن قاضيها أيضا الجمال محمد الطبري كانت زوجة للشريف عجلان صاحب مكة سنة سبعين وسبعمائة ثم اختلعت منه لتسريه عليها ومن طالع العقد الثمين علم ما لهم من المناقب وما اشتملوا عليه من المناصب وناهيك بالمقامة التي أنشأها الحافظ جلال الدين السيوطي مهنئا المحب الطبري المتأخر لما عزل أبا السعادات وأبا البركات ابنى ظهيرة عن خطة القضاء وولى ذلك بمفرده مع ما أضيف إليه من المناصب بسعاية الشريف أبي القاسم بن حسن بن عجلان صاحب مكة ومن جملة المقامة
إن القضاء بمكة لثلاثة ... طبقا لما قد جاء في الأخبار
شيخ المقام وقد مضى في جنة ... والقاضيان كلاهما في النار(2/108)
وذكر الحافظ نجم الدين عمر بن فهد في تذكرته المسماة نور العيون بما تفرق من الفنون قال لما كنت بالقاهرة المحروسة سنة ست وثلاثين وثمانمائة ورد إليها القاضي أبو البركات بن علي بن ظهيرة ساعيا لأخيه أبي السعادات في عوده لمنصبه قضاء الشافعية وصحبته سؤالان معناهما أن رجلين من طلبة العلم الشريف بها تنازعا في مسئلة فرضية فقصد أحدهما بالسؤال عنها أخاه أبا السعادات وامتنع الآخر فحلف الأول بالطلاق الثلاث أنه ليس بمكة وأعمالها أحد أعلم منه فهل يقع على الحالف حنث أم لا وهل بالبلد من يساوي المشار إليه في العلم أو يفوقه فأجاب شيخ الإسلام الحافظ الشهاب أحمد بن حجر العسقلاني الكناني والإمام السنباطي بعدم الحنث وأطلق الأول بانفراده في وقته وعدم مساواته فضلا عن أن يفوقه أحد في بلده وقيد الثاني بأنه إذا سئل في الفقه أجاب في الحال من الرافعي والروضة أو في الأصول فمن ابن الحاجب والبيضاوي وكذا الحديث والتفسير كما شاهده منه في مجاورته ببلده فلما اطلع على السؤالين وجوابهما الإمام أبو المعالي المحب الطبري كتب في سنة سبع وثلاثين وثمانمائة قصيدة لأمية من نظمه إلى الحافظ ابن حجر مضمونها الإنكار عليه وعلى السنباطي في الفتيا وهي هذه
يقبل الأرض عبد قد أحبكم ... طفلا وفي كبر في الحب ما عدلا
ويسأل الله أن يحظى برؤيتكم ... على الصفا فعسى أن يبلغ الأملا
يا واحد العصر خذ منا مراسلة ... تشكو لما قد حكى عنكم وما حصلا
من مكة صدرت تشكو لخالقها ... أيضا وتروى لكم عن ألسن الفضلا
ما بال سيدنا ولت أنامله ... والله تلك لعمري زلة العقلا
جاءت لمكة فتيا قد جزمت بها ... بأن أفضلها هذا الذي خذلا
وقلت هذا طلاق لم يقع ولقد ... قال المحق طلاق الأحمق اتصلا
إن كان أعلمها من قد ذكرت فقد ... صارت بلا عالم والعلم قد هزلا
رام التراقي إلى العليا فأنزله ... ذا الدهر من طيشه لا زال مستغلا
قد أوقع الحبر فيما ليس شيمته ... كان الإمام عن التحريف منعزلا
ارجع هداك الذي أعطاك منزلة ... عن ذي المقالة والأمر الذي نقلا
ما يحمد الله في الدين الهوى ولقد ... دم الذي بالهوى قد كان مشتغلا
هلا كتبتم أدام الله دولتكم ... مثل السباطي إذ من أكلة وحلا
خذ زادك الله حرصا ذكر سيرته ... عن واحد لم يزد فيها ولا جهلا
أبو السعادات هذا من شبيبته ... وفي كهولته ما حاز قط علا
لم يأخذ العلم عن شيخ يعرفه ... وجه الصواب ولا أصغى ولا قبلا
يفتى من الكتب إن أخطا فعادته ... وإن أصاب فوجه الذم ما جهلا
والنحو لم يدر فيه قط مسئلة ... مثل الحمار إذا ما فيه قد سئلا
كذا الأصول إذا ما قلت مبحثه ... ينشى الرياسة إذ كانت له شغلا
علم الفرائض لم يحسن لمسئلة ... منه ولا لحساب الأصل قد عملا
قد ضيع العمر حسد اللملا وله ... عجب وكبر وحقد بئسما فعلا
أضحى بمكة يؤذى الخلق من حمق ... وليس في الناس شخص من أذاه خلا
له مثالب أخرى غير ما ذكرت ... أني عقلت لساني عنه فانعقلا
جميع جيران بيت الله يعقلها ... إن اتهمت فسل عن ذاك من عقلا
فكيف ينسب من هذا له صفة ... بأنه عالم والحال ما نقلا
فكن رعاك الإله اليوم معتذرا ... عما جنيت وقل والله قد جهلا
الله يبقى لنا هذا المليك لقد ... أراح مكة من أحكام من عزلا
كانت ولايته للحكم نازلة ... والحمد لله عنا زال ما نزلا
أستغفر الله في تقصيرها فلقد ... جاءت بذب لما بالناس قد حصلا
وصل رب على المختار من مضر ... وآله وأجب يا خير من سئلا(2/109)
كذلك الصحب والأتباع ما طلعت ... شمس ولاح ضياء الأفق أو أفلا
وقد أطلقنا عنان القلم في ميدان المداد وإن كان ليس من شرطنا المراد إذ الحديث شجون والكلام يجر بعضه بعضا هذا وقد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني المذكور في بعض كتبه أن قول الأقران بعضهم في بعض غير مقبول قال وما علمت عصرا سلم أهله من ذلك غير عصر الصحابة والتابعين انتهى كلامه قلت وفي قوله غير هصر الصحابة والتابعين تأمل إذ لم يسلموا أيضا من ذلك كما يعرفه من طالع سيرهم فالظاهر العموم ولعل كلامه مبنى على الأكثر والغالب لقلته فيهم بالنسبة لمن بعدهم والله تعالى أعلم عبد القادر بن محمد بن أبي الفيض السيد الأفضل أبو محمد المعروف بابن قضيب البان يتصل نسبه بأبي عبد الله الحسين قضيب البان الموصلي من أولاد موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن أمير المؤمنين على ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين والحسين قضيب البان المذكور صاحب الكرامات المشهورة ذكره كثير من النسابة والمؤرخين وهو الذي كان صحب الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وزوج الشيخ عبد القادر ابنته المسماة بخديجة السمينة لأبي المحاسن على ولد الشيخ قضيب البان المذكور وكانت قبل تحت ولد الشيخ عبد الرحمن الطنشونجي فمات عنها جده وتزوجها بعده أبو المحاسن على المذكور واستولدها ذكر ذلك عبد الله بن سعد اليافعي وشيخ الشرف في كتابيهما فيكون نسب السيد عبد القادر صاحب الترجمة متصلا بحضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني من ابنته خديجة السمينة وبحضرة الشيخ قضيب البان من ولده أبي المحاسن على المسطور وهذا السيد هو أكبر أهل وقته وفريد أقرانه ولد بحماه وهاجر به أبوه إلى حلب وتوطن بها إلى سنة ألف وفيها حج إلى بيت الله الحرام وجاور بمكة إلى حدود سنة اثنتى عشرة بعد الألف ومنها توجه إلى القاهرة بإشارة القطب وكان شيخ الإسلام يحيى بن زكريا قاضيا بمصر فزاره وكان معتقدا على المشايخ والأولياء فبشره بمشيخة الإسلام وبايعه على الطرق الثلاثة النقشبندية والقادرية والخلوتية ثم أقره على طريق النقشبندية وأمره بالاشتغال بالذكر القلبي وله معه كرامات ومكاشفات ولما ولى الإفتاء وجه إليه نقابة حلب وديار بكر وما والاهما مع قضاء حماه بطريق التأبيد برتبة مكة المكرمة فلم يقبل القضاء والرتبة واعتذر عن عدم قبوله وقبل النقابة لكونها خدمة آل الرسول صلى الله عليه وسلم واستمر نقيبا بحلب إلى أن مات وكان له كرامات شهيرة وأحوال باهرة وألف التآليف الحسنة الوضع الدالة على رسوخ قدمه في التصوف والمعارف الإلهية من جملتها الفتوحات المدنية ألفها على وتيرة الفتوحات المكية والمدنية للشيخ الأكبر ابن عربي وفيها يقول شيخ الإسلام ابن زكريا المذكور مقرظا عليها بقوله
فتوحات شيخي غادة مدنية ... كستها نفيسات العلوم ملابسا
فلا عجب لو تشتهيها نفوسنا ... وأبحاثها أبدت إلينا نفائسا
فلله در الشيخ أكبر عصره ... بأنفاسه لا زال يحيي المجالسا
وله كتاب نهج السعادة في التصوف وناقوس الطباع في أسرار السماع وسرح أسماء الله الحسنى ورسالة في أسرارا الحروف وكتاب مقاصد القصائد ونفحة البان وحديقة اللآل في وصف الآل وكتاب المواقف الإلهية وعقيدة أرباب الخواص وغير ذلك ما ينوف على أربعين تأليفا وله ديوان شعر كله في لسان القوم وله تائية عارض بها تائية ابن الفارض وقد شرحها العلامة إبراهيم بن المنلا المقدم ذكره شرحا لطيفا ومن لطائف شعره قوله
أرى للقلب نحوكم انجذابا ... لأسمع من جنابكم خطابا
فكم ليل بقربكم تقضى ... إلى سحر سجودا واقترابا
وكم من نشوة وردت نهارا ... فلا خطأ وعيت ولا صوابا
وكم سحت علينا من نداكم ... غيوث لا تفارقنا انسكابا
وكم نفحات أنس أسكرتنا ... بها حضر الصفا والقبض غابا
توافقت القلوب على التداني ... فلم نشهد به منكم حجابا
لقد حاز الولى بكل حال ... من الرحمن فيضا مستطابا
تراه بين أهل الأرض أضحى ... لداعي الحب أسرعهم جوابا(2/110)
وغير الله ليس له مراد ... وغير حماه لا يرجو انتسابا
ومن رقيقه قوله
سقاني الحب من خمر العيان ... فتهت بسكرتي بين الدنان
وقلت لرفقتي رفقا بقلبي ... وخاطبت الحبيب بلا لسان
شربت لحبه خمرا سقاني ... كصحبي فانتشى منها جناني
شطحت بشربها بين الندامى ... ورشدي ضاع مما قد دهاني
فأكرمني وتوجني بتاج ... يقوم بسره قطب الزمان
وأمرني على الأقطاب حتى ... سرى أمري بهم في كل شان
وأطلعني على سر خفي ... وقال الستر من سر المعاني
فهام أولو النهي من بعد سكرى ... وغابوا في الشهود عن المكان
مريدي لا تخف واشطح بسرى ... فقد أذن الحبيب بما حباني
وقوله
نظرت إليك بعين الطلب ... ومنك اذن طلبي والسبب
رأيتك في كل شيء بدا ... وليس سواك لعيني حجب
فأنت هو الظاهر المرتجى ... وأنت هو الباطن المرتقب
وأنت الوجود لأهل الشهود ... وأنت الذي كل شيء وهب
وعيني بعينك قد أبصرت ... لعينك في كل تلك النسب
ومن مقاطيعه قوله
ولقد شكوتك في الضمير إلى الهوى ... وعتبت من حنق عليك تجننا
منيت نفسي في هواك فلم أجد ... إلا المنية عند ما هجم المنا
وقوله
إذا امتد كف للأنام بحاجة ... فقوتها من عادة الهمة السفلى
ومن يك يستغنى عن الخلق جملة ... فيغنيه رب الخلق من فضله الأعلى
وقوله
إذا أسأت فأحسن ... واستغفر الله تنجو
وتب على الفور وارجع ... ورحمة الله فارجو
وله غير ذلك من لطائف القول وكانت ولادته بحماه في سنة إحدى وسبعين وتسعمائة وتوفى في حدود أربعين وألف بحلب عبد القادر بن محمد بن عمر العلمي المقدسي بن العارف بالله تعالى الشيخ محمد العلمي وقد تقدم ذكر تممة نسبه كان عبد القادر هذا من الصلحاء الأجلاء وكان من محاسن وقته ونوادره في لطف الطبع والتواضع والمعرفة وكان مشهورا بالصلاح وإليه كتب الإمام خير الدين الرملي في صدر كتاب قوله
لحضرة القطب وابن القطب سيدنا ... مختارنا العلمي دامت فضائله
مني سلاما كعد القطر أخصره ... وذاك نزر إذا نصت شمائله
وكانت وفاته نهار الأحد ودفن نهار الاثنين ثاني جمادى الأولى سنة تسع وسبعين وألف بمدينة لد بضم اللام وتشديد الدال وهي القرية المشهورة قرب مدينة الرملة من نواحي البيت المقدس فيها يقتل الدجال فيما يزعمون(2/111)
عبد القادر بن مصطفى الصفوري الأصل الدمشقي الشافعي المحقق الكبير كان من أساطين أفاضل عصره مشهور الذكر بعيد الصيت اتفق أهل عصرنا على جلالته وعظم شأنه ودينه وورعه وصيانته وأمانته وكان فقيها مفسرا محدثا أصوليا نحويا وعنده فنون كثيرة غيرها وكان منقطعا عن الناس كثير البلوى والأمراض أخذ بدمشق عن الشمس الميداني وغيره ثم رحل في صباه إلى مصر وأخذ بها عن البرهان اللقاني وأبي العباس المقرى والشيخ محمد بن النقيب البيروتي نزيل دمياط وجمع لنفسه مشيخة رأيتها وعليها خطه وأكثر الرواية فيها عن ابن النقيب المذكور ثم رجع إلى الشام ودرس بها وأفاد وانتفع به جماعة ثم سافر إلى الروم ومكث بها زمانا ولم يحصل على أمانيه فورد دمشق وأعطى بعد ذلك المدرسة البلخية ودار الحديث الأشرفية فسكنهما ودرس بهما مدة حياته وكان يدرس بالجامع الأموي فيحضره أعيان الطلبة الشافعية وأجل من انتفع به وحصل ودأب مولانا الشيخ العالم الصالح الورع تقي الدين بن شمس الدين السيد الحصني نفع الله به فإنه لازمه ستين وممن أخذ عنه صاحبنا الفاضل أحمد بن محمد الصفدي إمام الدرويشية المقدم ذكره وصاحبنا الأديب الفاضل زين الدين بن أحمد البصراوي وغيرهم وله تحريرات ورسائل كثيرة ووقفت له على تحرير علقه على عبارة الغزالي المشهورة فذكرتها هنا لما فيها من الفائدة والعبارة هي قوله ليس في الإمكان أبدع مما كان وكان بعض الطلبة سأله عنها فأجاب بما نصه اعلم أيها الأخ أن المحال على قسمين أحدهما محال لذاته والثاني محال لغيره فإن الممكن قد يصير محالا لغيره أو واجبا لغيره مثاله بعث الموتى من قبورهم ممكن في حد ذاته لأنه إذا خلى العقل ونفسه حكم بجوازه لكن لما أخبر سبحانه صار واجب الوقوع بالنظر إلى خير الله تعالى لا يتخلف عدمه وصار محالا لغيره بهذا الاعتبار إذا تقرر لك هذا علمت أن ما قاله حجة الإسلام حق وإيضاحه إنما هو بعد أن تعلم أن علم الله تعالى قديم وأنه تعلق في الأزل بأن الممكن الذي وجد يوجد في أي زمان وفي أي مكان وعلى أي صفة وحينئذ فوقوعه على خلاف ما تعلق به العلم محال لغيره لأنه لو وقع على خلاف ذلك لزم انقلاب العلم جهلا وإنه محال في حق الحكيم الخبير العليم القديم والإرادة والقدرة تعلقهما بالممكن إنما يكون على وفق تعلق العلم القديم به وحينئذ تعلم أن عدم إمكان أبدع مما كان ليس فيه نسبة الجهل ولا نسبة العجز إلى الملك الديان وكيف يظن ذلك بحجة الإسلام التي ملأت معلوماته الدنيا بل عدم إمكانه إنما هو لعدم تعلق الإرادة والقدرة به لما يلزم عليه من المحال فتدبر ذلك يندفع عنك خيال أوهام من لم يعلموا مواقع الكلام ولم يذوقوا دقائق العلوم بل مطمح أنظارهم اعتراض أكابر العلماء والطعن على ورثة الأنبياء كأنهم صاروا لهم ضدا فصرف الله تعالى أذهانهم عن الوصول إلى غوامض المعاني وتمسكوا بظواهر المباني ومن أجاب بأن ما موصولة لم يصادف محلا لأن المنقول عن الإمام أنه قال ليس في الإمكان إلى آخره وجواب هذا المجيب مبني على أن كلام الحجة ما في الإمكان إلى آخره وليس هو إلا ليس كما نقله عنه بعض المتأخرين وتكلم عليه بكلام طويل أيضا وقفت عليه بعد كتابتي ما تقدم ورأيته نقل كلام الحجة ومن جملة ما نقله أن البذر الزركشي تكلم على هذه الكلمة في تذكرته ونقل كلام بعض من تقدمه فيها هذا آخر ما حرره بفكره وله ذيل نقله عن الإمام الغزالي وإنما ذكرت هذا التحرير لكثرة تداول الناس هذه العبارة وبالله التوفيق وكانت ولادة الصفوري في سنة عشرة بعد الألف وتوفى في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير(2/112)
عبد القادر بن المعروف بن عبد القادر بن محمد بن عبد القادر بن الحسين بن أحمد بن موسى المشرع بن علي بن أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد أخي سيدي الفقيه أحمد بن موسى بن موسى المشرع الصوفي العجيل أحد الصوفية السالكين طريقة الأسلاف المتمكنين في المعرفة الملازمين للعبادة وكان ممن كمله الله في خلقه وخلقه وكرم طبعه وحسن طريقته وكانت له مهابة في القلوب مع خلق جميل وأدب وبراعة وإحسان وكان المنكرون عليه إذا سقطت عينهم عليه يفرون منه فرار الوحوش من الأسد ولا يسلك معهم إذا بلغه ذلك إلا الفعل الاسد وله ثبات على ظهور المقربات ويد طولى في علي المقامات وتواترت منه الكرامات التي اشتهرت ووضحت وكان متواضعا حسن المعاملة للمسلمين ولا ينزل نفسه منزلتها وله عناية بكتب الصوفية وميل لعلوم الشريعة وكان قائما بخدمة منصب آبائه وله في بيت جده الفقيه أحمد بن موسى العجيل ظهور تام ومنزلة علية ونفوذ كلمة عند الأمراء والحكام وكان من الكرم في ذروته العالية وتلتمس بركته من الأقطار وكان من الملازمين للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في خلواته وجلواته على طرقة جده فإن له فيها طريقا راسخة وكانت وفاته نفع الله تعالى به في نيف وستين وألف ببلده بيت الفقيه ابن عجيل ودفن في قبة آبائه وخلفه في منصبه الشيخ عبد الرزاق العجيل عبد القادر بن ميمي البصري الحنفي الأديب الفاضل الشاعر عرفني به المرحوم السيد عبد الله بن حجازي الحلبي روح الله تعالى روحه وكنت رأيت ترجمته الذي ترجمه بها في التأليف الذي أراد أن يذيل به على الريحانة وقد أثنى عليه ووصفه بالأدب والفضل ورأيت خبره في تعاليق الأخ الفاضل مصطفى بن فتح الله فقال في حقه كان إماما عالما فاضلا أخذ عن علماء بلده وقرأ على المنلا إبراهيم بن حسن الكردي نزيل المدينة المنورة وله تآليف منها رسالة في المنطق وأخرى في العروض وأخرى في التصريف وحاشية على تلويح السعد وكانت وفاته بالبصرة في سنة خمس وثمانين وألف رحمه الله السيد عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين ابن الإمام يحيى شرف الدين صاحب كوكبان أحد أفراد الزمان المجمع على جلالته مولده كوكبان وبها نشا وقرأ القرآن وأخذ بها عن أكابر العلماء الأعيان ولم يزل يكتسب الفضائل ويجد في تحصيل دقيق المسائل حتى نال ما ناله ثم تولى بعد واله ملك كوكبان وما والاها من البلاد وعلا شأنه وقصد وحطت عنده رحال أهل الآمال وكانت حضرته مجمع الأدباء وحلبة الشعراء وهمته مقصورة على مجد يشيده وإنعام يجدده وفضل يصطنعه وخامل وضعه الدهر فيصنعه وبالجملة فإنه فاق في عصره باليمن على الأقران وساد الأعيان فلا يدانيه مدان مع ما يضاف إلى ذلك من منظر وسيم ومخبر كريم وخلائق رقت وراقت وطرائق علت وفاقت وفضائل ضفت مدارعها وشمائل صيفت مشارعها وسودد تثنى به عقود الخناصر ويثنى عليه طيب العناصر وللفقيه العارف صالح ابن الصديق النمازي الخزرجي أرجوزة سرد فيها نسب جد صاحب الترجمة الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين بن شمس الدين وأضاف القاضي الفاضل العلامة أبو الفضل عماد الدين يحيى بن الحسن الحيمي نسب صاحب الترجمة إلى الإمام شرف الدين فلنذكر أولا أبيات الحيمي ثم نعقبها بأبيات النمازي فمطلع الأولى هو قوله
أقول بعد الحمد في مقالي ... والشكر للخالق ذي الجلال
وبعد أن أهدى الصلاة سرمدا ... ثم السلام قاصدا محمدا
إلى أن يقول
معطى الجزيل ذي النوال الغامر ... مولاي عبد القادر بن الناصر
سليل عبد البر ذي المكارم ... نجل علي صفوة الأكارم
سليل شمس الدين ذي الكمال ... رافع بيت المجد والمعالي
ابن الإمام الحبر ذي العلوم ... كهف اللهيف كافل اليتيم
يحيى بن شمس الدين من ساد الورى ... ومن حديث مجده لن يفترى
هيهات إن تحصي له مكارم ... أو أن تكون مثله الأكارم
دعا إلى الله بعزم صادق ... وقام بالفرض وحق الخالق
ومهد الأقطار والبلادا ... وأصلح الله به العبادا(2/113)
أحيا من العلم بدرس ما درس ... واتبع الناس هدى ذاك القبس
وهاك ما أوردت في إيجازي ... متمما ما نظم النمازي
في نظمه سلسلة الإبريز ... وسردها في النسب العزيز
الحمد لله العلي الأحد ... القدر الفرد العزيز الصمد
ذي الطول والإجلال والإكرام ... والفضل والإحسان والإنعام
أحمده على توالي النعم ... وأستمده صنوف الحكم
وبعده فأفضل السلام ... على النبي سيد الأنام
محمد وآله الكرام ... سفن النجاة أنجم الظلام
وهذه أرجوزة شريفه ... نظمت فيها نسب الخليفه
الجوهر المفرد في الكمال ... لما حوى من أكمل الخصال
في ذاته العظمى وفي الأصول ... وفي حواشيه وفي الفصول
فما له في الناس من نظير ... شهادة من عراف خبير
ألبسه الله حلى الخلافه ... فصانها بالعدل والعفافه
كعبة أهل الفضل والعلوم ... وحجة الله على العموم
أحيا به الله أمورا جمه ... من درجات الآل والأئمه
وكم له من آية وحجه ... دعا بها الناس إلى المحجه
ليهتدوا فمن أجاب الداعي ... فهو على الحق بلا دفاع
وفقه الرحمن للإجابه ... ولقبول الحق والإنابه
ومن عصاه في شقاء سرمدي ... في هذه الدنيا وفي يوم غد
ما بين مقتول ومستهان ... وبين مطرود مدى الزمان
وهذه من أعظم الآيات ... عند جميع العلما الإثبات
في كل حين منه يستفاد ... علم به يتضح الرشاد
راياته محفوفة بالسعد ... يحيى بن شمس الدين نجل المهدي
أحمد أعنى نجل يحيى الحجه ... نجل الإمام المرتضى المحجه
ابن الجواد أحمد بن المرتضى ... ابن مفضل بن منصور الرضا
ابن مفضل بن حجاج العلى ... لله من قوم أولى فضل جلى
ابن علي نجل يحيى الكامل ... وذاك نجل القاسم حلا حل
نجل الإمام يوسف الداعي إلى ... هدى الإله نجل يحيى ذي العلى
ابن الإمام الناصر بن الهادي ... يحيى إمام الحق والرشاد
ابن الحسين بن الإمام القاسم ... سليل إبراهيم ذي المكارم
سليل إسمعيل ذي الذكر الحسن ... سليل إبراهيم أعني بن الحسن
هو المثنى نجل سبط المصطفى ... ابن أمير المؤمنين المقتفى
أعني سليل الدرة البتول ... بنت النبي المصطفى الرسول
محمد خير الأنام طرا ... أكرم به من نسب أغرا
وسمته سلسلة الإبريز ... والجوهر المرتفع العزيز
ورقية لكل داء معضل ... في الدين والدنيا فخدذها تعتلى
وقد سألت الله بالجميع ... وبالنبي المصطفى الشفيع
سؤال من يستيقن الإجابه ... ويرتجى في ذلك الإثابه
العفو والقبول والإنابه ... والفهم والتوفيق والإصابه
وجملا مضمرة في النفس ... مقدورة قطعا بغير لبس
والله ذو الجلال والإكرام ... يعلمها ويعلم اعتصامي
بهؤلاء السادة الأعلام ... أولى البها والنيل والأحلام
حاشا جلال الله أن يردا ... يداي صفرا بعد أن تمدا(2/114)
وشرح هذه الأرجوزة شرحا وجيزا لطيفا السيد العلامة أحمد بن عبد الله بن أحمد ابن إبراهيم الوزير جمع فيه سير المذكورين فيها وبعض فضائلهم وقد استوفى أخبار الإمام شرف الدين السيد عيسى بن لطف الله بن المطهر بن الإمام شرف الدين في تاريخ لطيف سماه روح الروح وذكر وقائعه مع الترك وما جرياته رجع إلى ذكر المترجم ومن شعره قوله
قد طار قلبي إلا من لا أسميه ... وإن تناسى الوفا فالله يحميه
مهفهف ما دمن تيه ومن جذل ... فكاد قد قضيب البان يحكيه
بدر تكاد بدور التم تشبهه ... والظبي حاكاه لكن ما يساويه
ذو مقلة يعرف السحر الحلال بها ... قلبي بها يتقلى في تلظيه
كم أكتم الحب في قلب وأضمره ... لكن مدامع عيني ليس تخفيه
أبيت أرعى نجوم الليل منزعجا ... ألتاع شوقا وفي قلبي الذي فيه
لي نار وجد وأشواق أكابدها ... لله قلبي فيه كم يقاسيه
البرق يذهله والريح تدهشه ... والشوق ينشره حينا ويطويه
وكانت وفاته في المحرم سنة سبع وتسعين وألف بكوكبان وكان مرضه ثلاثة أيام السيد عبد القادر القيصري نقيب الأشراف بالممالك العثمانية من بيت معروف بصحة النسب في مدينة قيصرية دخل دار السلطنة في ابتداء أمره وجد واشتغل ثم لازم من المولى بهاء الدين زاده وسلك طريق القضاء فولى قضاء بلدته قيصرية وما انعزل عنها بقريب حتى طلب من طرف السلطنة وأعطى نقابة الأشراف بالممالك وكان النقيب إذ ذاك السيد يحيى قد مات وكان ذلك في شهر ربيع الآخر سنة ثمان بعد الألف فاستمر نقيبا إلى أن مات وكان فاضلا أديبا شاعرا ومخلصه على قاعدتهم قدرى ذكره ابن نوعي في ذيله وقال كانت وفاته في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وألف وولى النقابة بعده السيد ياوز المعروف بياوز أمير عبد القادر قاضي العسكر الشهير بقدري وهو صاحب الفتاوى المشهورة بفتاوى قدري ويطلق عليها لفظ المجموعة وهي الآن عمدة الحكام في أحكامهم والمفتين في فتاويهم وبالجملة فإنها مجموعة نفيسة أكثر مسائلها وقائع كانت تقع أيام المفتي يحيى بن زكريا وكان هو في خدمة المفتي المشار إليه موزع الفتوى وموزع الفتوى عندهم عبارة عن رجل يجمع الفتاوى التي كتبت أجوبتها ويدعها إلى يوم الثلاثاء من كل أسبوع فهذا يوم التوزيع فيقف في مكان من دار المفتي المعين وينادى بأسماء أصحاب الفتاوى وأسماؤهم مكتوبة على ظهر قرطاس الفتوى فهذه خدمة الموزع وأمين الفتوى هو الذي يراجع المسائل من محالها وينزل عليها الوقائع واستمر عند ابن زكريا بهذه الخدمة زمانا طويلا وكان من ذلك العهد موصوفا بالتقى والإقبال على أمر الآخرة وفيه صلاح وإنابة ومن هنا يحكى أن المفتي المذكور كان أعرف أهل زمانه واجتمع عنده من الحفدة أرباب المعرفة ما لم يجتمع عند غيره فكان إذا أراد المفاوضة مع أحد في أمر الدنيا والدولة وأحوال الناس قدم المولى محمد بن عبد الحليم البورسوي الذي صار آخرا مفتيا الآتي ذكره وكان عنده أمين الفتوى وأقرب المقربين فيتفاوض معه في هذه الأمور لكمال فطنته ودربته ومعرفته بأحوال الناس وإذا أراد المذاكرة في مشكلات الفقه والمسائل اختار المولى أوزون حسن أي الطويل وكان من خواصه وإذا أراد المباحثة في أنواع الفنون العقلية رجح المولى مصطفى البولوي الذي صار آخرا مفتيا وكان من حواشيه وإذا أراد المناقشة في الأدب والشعر ميز المولى محمد بن فضل الله الشهير بعصمتي الذي صار آخرا قاضي العساكر وكان من ندمائه وإذا أراد المفاكرة في أمر الآخرة وأحوال المعاد والجنة والنار استدعى صاحب الترجمة وعلى كل حال فهو من خيار الموالي العظام ولى قضاء قسطنطينية وقضاء العسكرين مرات وكان عالما فاضلا وقورا عليه مهابة العلم والصلاح وكانت وفاته في سنة ثلاث وثمانين وألف بقطسنطينية ودفن خارج باب أدرنه(2/115)
عبد الكريم بن العالم الولي أبي بكر المشهور بالمصنف ابن السيد هداية الله الحسيني الكوراني الشاهوي الشيخ الإمام العلامة المفيد أخذ عن والده ثم رحل إلى الفاضل المنلا أحمد الكردي المجلى بضم الميم ثم جيم مفتوحة على وزن صرد قبيلة من الأكراد قاله بعضهم وقال آخر إنه نسبة إلى مجلان قرية تلميذ المنلا حبيب الله الشهير بميرزاجان الشيرازي تلميذ جمال الدين محمود الشيرازي تلميذ جلال الدين محمد الدواني فقرأ عليه إثبات الواجب وشرح حكمة العين وشرح مختصر ابن الحاجب للقاضي عضد الدين ثم عاد وأبوه موجود وأقام على بث العلم ونشره وله من التصانيف تفسير القرآن وصل فيه إلى سورة النحل في ثلاث مجلدات وكتاب في المواعظ وعنه أخذ علامة الوجود الإمام الكبير المنلا إبراهيم بن حسن الكردي الكوراني نزيل المدينة المنورة وكانت وفاته في سنة خمسين بعد الألف عبد الكريم بن أكمل الدين بن عبد الكريم بن محب الدين بن أبي عيسى علاء الدين أحمد بن محمد بن قاضيخان وهذا قاضيخان غير صاحب الفتاوى بن بهاء الدين يعقوب بن إسماعيل بن علي بن القاسم ابن الفقيه محمد بن إبراهيم بن إسماعيل العدني ثم البيجابوري ثم النهرواني الحنفي المعروف بالقطبي وسيأتي جده عبد الكريم قريبا كان هذا من أعيان الفضلاء بمكة ومن أجلاء الصوفية المجللين ولد بمكة وأخذ عن والده وغيره وأخذ الطريق عن الشهاب أحمد الشناوي ولازم بعده تلميذه السيد الجليل سالم بن أحمد شيخان وفتح الله تعالى عليه بفتوحات وتحقق بمعرفة الوحدة الوجودية وله شرح على فصوص القونوي واعتراه في آخر أمره جذب كان يغيب فيه أحيانا عن وجوده مع حفظ المراتب الشرعية وكانت وفاته ليلة الأربعاء بين العشاءين عاشر شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وألف بمكة ودفن صبيحة يومه بالمعلاة المنلا عبد الكريم بن المنلا سليمان بن مصطفى بن حسن القاضي بديورنه وسننده ابن عبد الوهاب الكردي الشامي الخالدي الشافعي نزيل دمشق العالم الكبير الزاهد العابد كان من أمره أنه قرأ ببلاده واجتهد وأخذ عن كبار المحققين ومشايخه كثيرون فممن أخذ عنه الحديث عمه محمد عن ميرزا محمد الكوراني وهو عن أبيه عبد اللطيف عن المنلا إلياس من كلاط من كوران صاحب التسهيل على العوامل وهو أخذ عن الحافظ ابن حجر العسقلاني بأسانيده المشهورة وأخذ الفقه عن المنلا أحمد العمر ابادي وهو أخذ عن المنلا إلياس الثاني البروزي وهو أخذ عن المنلا إلياس المتقدم بسنده المتقدم والتفسير عن المنلا يوسف الكوراني عن الشيخ عبد الكريم الشهرزوري الكركدري عن المنلا إلياس المذكور بسنده وأخذ تفسير البيضاوي عن المنلا محسن بن المنلا سليمان الدشاني قراءة لبعضه وسماعا لباقيه في الروضة الشريفة وهو أخذه عن السيد ميرزا إبراهيم الهمذاني وعن المنلا أحمد المنجلي تلميذ ميرزا جان وأخذ الفرائض عن القاضي شكر الله الشقري عن الشيخ بدر الدين الطائي عن المولى إلياس المذكور بهذا السند والنحو عن المنلا عبد الصمد الموحشي نسبة إلى قرية موجش من قرى كوران وله روايات غير هذه وتمكن في العلوم والمعارف كل التمكن وورد دمشق وأقام بها وأخذ عنه بها غالب فضلائها الذين بهروا واشتهروا منهم العلامة السيد محمد بن كمال الدين النقيب والشيخ محمد العيثي وشيخنا إبراهيم الفتال والسيد العالم شمس الدين محمد الحصني وكان صاحب قدم راسخة في الولاية وصدرت عنه كرامات ومكاشفات كثيرة منها أنه صار يوما إلى ربوة دمشق ومعه تلامذته المذكورون وكان الشمس العيثي احتلم في ليلته تلك وغفل عن الاغتسال فلما قاموا لصلاة الظهر توضأ وأراد الشروع في الصلاة فجذبه المنلا عبد الكريم من كتفه وقال له امض اغتسل ثم صل فذهب واغتسل ثم عاد وصلى وله من هذا القبيل أشياء وكانت وفاته رحمه الله تعالى.
//الجزء الثالث(2/116)
عبد الكريم بن سنان أحد موالي الروم ومنشي الدوران وأحسن أهل الروم لهجة في النثر العجيب المدهش وأوفرهم اطلاعاً على فنون الأدب وأعرفهم باللغة العربية قرأ على المولى علي بن سنان المحشي ثم رحل إلى القاهرة في حدود التسعين وتسعمائة وقرأ بها على النور علي بن غانم المقدسي الحنفي وصحب مدة إقامته بها القاضي بدر الدين القرافي المالكي وبينهما مفاوضات وأناشيد كثيرة ثم رجع إلى الروم وسلك طريق الموالي فدرّس ثم صار قاضي حلب في سنة ثمان وعشرين وله مع أدبائها مكالمات ومخاطبات ثم عزل عنها وولي قضاء القاهرة وذلك يوم السبت رابع عشرى جمادى الأولى سنة ثلاثين وألف وكانت مدة قضائه بها خمسة أشهر وأربعة وعشرين يوماً وله مع أبي العباس المقري صحبة ومودّة وكان المقري عرض عليه كتابه فتح المتعال في وصف النعال وطلب منه أن يقرظ له عليه فكتب تقريظاُ لم يسبق إلى مثله لكن فيه طول ومن جملته قوله في وصف المؤلف صاحب الذهن المتوقد في فهم المشكلات وحل رموزها وصائب الفكر المتوهج في فك طلاسمها وفتح كنوزها.
يحل رموز لا يرى من يحلها ... وما شذ فهماً من كلام الأوائل
طرز حلل العلوم بوشي أرقامه ورمى أغراض الفنون بسهام أقلامه.
سهام إذا ما راشها ببنانه ... أصيب بها قلب البلاغة والنحر
صفت عن قذى الخطأ مناهل أنظاره وصحت من غمام الأوهام آفاق أفكاره وشرح ببراعة يراعته صدور المهارق وأتى من معجزات البلاغة بالخوارق إن نظم أزرى بعقد الثريا أو نثر أخجل زهر الروض الباسم المحيا إذا نطق يطلع ثور الفضل من أفق بيانه أو كتب يجري زلال الأدب من ميزاب قلمه ببنانه.
قلم أقام ولفظه متداول ... ما بين مشرق شمسها والمغرب
إلى أن قال ألقى عليه الشرف رداءه والمجد سرباله فاستسعد بخدمة نعل النبي عليه سلام الله ما هبت الصبا فطوبى له وناهيك بنعلين لو أن الفرقدين حازا أملاً لهما أن يكونا منهما بدلاً يا له من مجموع جميع أنواعاً وأجناساً من المحاسن وجرى ماء البلاغة في جداول سطوره غير آسن نفث في عقد العقول بسحره وسبى أفئدة البلغاء بنظمه ونثره شفت ظروف حروف مبانيه فنمت على سلافة لطافة معانيه كما نم الزجاج على الرحيق والنسيم على شذى الروض الأنيق.
إني لأقسم لو تجسم لفظه ... أنفت نحور الغانيات الجوهرا
فكأن البلاغة قالت لا أعصي لك أمراً وبحور الشعر أطاعته فاستخرج منها جوهراً ودراً فرشحات تلك الأقلام نافثات المسك ندّها.
والعنبر الرطب غدا قائلاً ... لا تدعني الأبيا عبدها
ولما استكشف وجوه عرائس معانيه المخبأة تحت براقع أسجاعه وقوافيه لمحت ربات جمال قد حسرت لثامها عن منظر متهلل باسم فتمسكت بشعر الأديب الناثر الناظم أبي الفتح كشاجم
شخص الأنام إلى صليعك فاستعذ ... من شر أعينهم بعين الواحد
فتيقنت أن إرادة التقريظ بإجالة جواد القلم في ذلك المجال ليس إلا للاستعاذة من شرعين الكمال فما أحقني بقول من قال:
جعلت تقريظي له عوذة ... تقيه من شر أذى العين
انتهى ومن بدائعه الفائقة تراجم أنشأها وترجم بها بعض الوزراء ومشايخ الإسلام وبعض الموالي والكتاب والعلماء وكلها لا تنوف على العشرين ترجمة بكثير وهي مجموعة عندي في دفتر من أماكن متفرقة وقد ذكرت منها في محالها بعضاً وسأذكر البعض الآخران شاء الله تعالى فإنها من نفائس القول وأعجبها الترجمة الوهابية ترجم بها أحوال القاضي عبد الوهاب قاضي القضاة بالشام كان وقد ذكر الخفاجي قطعة منها عندما ترجمه في كتابه الريحانة وهذه هي برمتها بعد ذكر اسم المترجم ضاعت أوقاته وغلبت على حسناته سيئاته تمحض للفحص عن أحوال الناس وأخبارهم وتفرغ لنبش خباياهم وأسرارهم يسأل من يدخل عليه عن الوقائع والحوادث ويشرع في البحث عن الناس وفيه مباحث شعر
ولو نظر العياب في عيب نفسه ... لكان له شغل عن الناس شاغل
لعله لم يعلم أن من غربل الناس نخلوه وأن من أظهر لهم الصعوبة ذللوه فيا لهفي على إضاعة بضاعة أوقاته بين حديث غث وكلام رث تمجه نفس السامع وتتلوث به المسامع وبين تدبير الأكل والشرب والحالة أنه يكفي الإنسان لقمة تقيم الصلب
أظنك من بقية قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام(2/117)
ولقد رأيته وهو يكرر ابتلاع الجوارش ولاء وذلك لدفع التخمة احتياطاً وإن استحال أن تحسن تلك المعدة امتلاء لعمري لو أكل لقمات العادي ذلك القدر منه لقضى نحبه من التخم ولألقى رحله إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم وليت شعري ما يلزمه عنيف أكل حتى تشبث في هضمه بأذيال الجوارشات وكان قد وجب عليه حيث أنه مغرم بالأكل أن يتحاشى إكثاره لأن العامة تقول رب أكلة تمنع أكلات
وليس الأكل بالقنطار لكن ... على مقدار ما تسع البطون
ولو رأيته إذا حضر عنده الطعام لرأيته حوتي الالتقام خطافي الاختطاف ثعباني الجذبات غضنفري الوثبات وكأن الحياة على زعمه ليست مخلوقة إلا للشرب والأكل وإن الإنسانية في اعتقاده ما هي إلا عبارة عن الهيئة والشكل وإن ساعات الليل واليوم ما وضعت إلا لسنة والنوم فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللاً من زاره زار شيخنا ملآن الحشا متتابع التمطي والجشا وارحمتاه لمجالسيه من الروائح التي تهب من فيه وكان يواظب على مجلسه في خوانه أتراك بلده وما يليها من أخدانه وإخوانه.
وأنس القرين إلى شكله ... كأنس الخنافس بالعقرب
من كل من إذا وقع الخطاب العام لا يصلح للخطاب ومن بأكاذيبه تنعطف القلوب على مسيلمة الكذاب فيتخذون تلك الدار دار الندوة ويعدّون للصوارم نبوة وللجياد كبوة يتجاذبون لحوم أصحاب الأعراض فلا بدع فإنهم كلاب بل ذئاب على أجسادها ثياب ومن ذلك الحزب الخاسر لئيمهم يلقب ببحثي جحود الحشر والبعث قد بلغني عنه لا بلغه الله الأمل ولا زال في الندم المقيم المقعد من مجازاة سوء العمل
جزى ربه عني عدي بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
أنه يروم تفضيل نفسه بتنقيص الأفاضل ويؤمل بهذا السبب تنويه ذكره وهو في الناس خامل وهيهات وأين الثريا من يد المتناول فتصاممت وقلت الجاني حمار وجرح العجماء جبار من ذا يعض الكلب إن عضا وحسبت مقاله طنين الذباب أو صرير الباب أذن الكرم عن الفحشاء صماء وقد ما قيل لا يضر السحاب نباح الكلاب وتمثلت بقول أبي إسحاق الصابي
لا تؤمل أني أقول لك اخسأ ... لست أسخو بها لكل الكلاب
ولا عتب عليه فإن المسعود محسود وهل تلام الثعالب بحسد الأسود ونزهت نفسي عن مجاراة مثله متى كانت الآساد مثل الثعالب وبعد هذا فض الله تعالى فاه ولا زالت ترد وفود الصفع على فقاه لم يزل يدير عليّ كاسات الأذى مترعة بالقذى
قد أصبحت أم الشرور تدعي ... عليّ ذنباً كله لم أصنع
حتى كأنه اتخذ ثلبي ورداً يتقرب إلى الشيطان به وإلى الآن لم أقف على سببه كم تحملت منه الأذى وهو البادي وكم شربت على القذى وأنا الصادي ولما طال تماديه في الباطل بتجانبه عن الحق وإعراضه لا غرو حركنا أظفار الأقلام في تخديش صفحات أعراضه فو الله لأنت الظالم لنفسك في هذا الأمر والجاني عليها في نفخ هذا الجمر ولست إلا كالكلب يكسب له نباحه الضرب وما مثلك الأمثل كلب غدا فعله ظلوماً إذ جنى على إسته بأكل العظام كلوماً فإني قد كنت طويت الطرف عن أحوالهم فلم أر لهم محاسناً ومساوياً فلا رحمك الله ذكرتني الطعن وكنت ناسياً عمري لقد زاحمت البحر الخضم وتلاعبت بأنياب الأسود والأرقم وما أنت إلا أذل من النقد كمبتغي الصيد في عريسة الأسد أو ما خشيت من اليراعة التي لعاب الأفاعي القاتلات لعابها أو ما خفت من البراعة التي لا ينفق سوق الأدب إلا بها أو ما قلت أن أمامي مالاً أسامي أتتحكك بأنياب الأسود وبراثن الأسد أو تراجم جندلاً أو تهادي أجدلاً لقد سخنت عينك وحان حينك وقد قيل إذا جاء أجل البعير حام حول البير
يا سالكاً بين الأسنة و القنا ... إني أشم عليك رائحة الدم
ولعلك تمسكت بقول الهمداني من إنقادت لعذوبة بيانه المعاني
يا خائف الهجو على نفسه ... كن في أمان الله من مسه
أنت بهذا العرض بين الورى ... مثل الخرا يمنع عن نفسه
نعم الأمر كذلك لكن العبرة بقول أبي الطيب رقرق على تربة من سجال الغفران الصيب وفي عنق الحسناء يستحسن العقد ولقد أحسن هذا المعنى الأديب ابن الرقاق الأندلسي من بأدبه فضل المتقدم قد نسي
زادت على كحل العيون تكحلاً ... ويسم نصل السيف وهو قتول(2/118)
إلام تجسس المعايب وتطعن في الناس أكليب خذها من يدي جساس يا أقذر من آلة الاحتقان متى فست بك فقحة الزمان يا أنتن من مبال الطواشي ويا أنجس من شعير روث المواشي يا ضماد الجرح وقد مضت عليه عدة ليال يا قطعة البلغم في رئة المسلول ولم يخرجها السعال يا تنفس من به ضيق النفس ويا إراقة بول قد احتبس يا طول شعر العانة ويا قر مرة مقروح المثانة يا لعاب فم المجذوم ويا جشاء من أكل الثوم يا محيض النساء ويا فساء الخنفساء يا أنجس من سور الكلب ويا أقذر من سراويل من به الجرب الرطب يا منديل المسلول وقد لزقت به قطعات البلغم يا ريح فم المخمور المتقيئ قبل أن يغسل الفم يا من أغنت عن المسهلات طلعته يا من تكفل عمل المغيبات رؤيته يا من يكرمه الناس في المجالس والمجامع إكرام الكلب المبتل إذا دخل الجامع يا من تحار في فهم كلماته العارية عن المعنى والتناسب عقول الأفاضل وتذكر في تلك الجمل قول صاحب التحقيق تمثيلاً درجات الحمل ثلاثون وفي عين الذباب جحوظ وجالينوس ماهر في الطب والقرد شبيه بالآدمي وكم الأمير في غاية الطول يا من أربى على أبي جهل في الضلالة يا من أتعب بترّهاته الجمال الثقالة يا كلف وجه الأيام يا قرحة عين الإسلام يا إفلاس العاشق يا تعفف الفاسق يا صباح المخمور يا ليل الغريب يا سقوط نبض المريض ويا يأس الطبيب يا خيبة من رجع راضياً من الغنيمة بالإياب وندامة رستم بعد قتل ابنه سهراب يا من نتج عنده من الخبث وتلاده ويا من تصلح معايبه مثالاً لكلي لا تتناهى أفراده يا من جمع من القبائح أنواعاً وأجناساً في قالب واحد ويا من عناه ابن الرومي بقوله
ولو لم تكن في صلب آدم نطفة ... لخر له إبليس أو ساجد
يا أكره من حديث معاد ويا أعبس من وجه التاجر في أيام الكساد يا خجل العروس عند أهلها قد فض ختمها غير بعلها يا قذارة من يستنجي بالماء القليل ويا عقدة تكة أبت الحل والبول يكاد يحرق الإحليل يا مسبار الحجام يا بيت حلاقة العانة في الحمام يا سجادة الزانية ويا منديل مسح اللائط بعد أن يرتكب الحرام يا شعر رأس القلم حين شروع الكاتب في الرقم يا قطعة البلغم في حلق المغني عند بدء النغم يا واسع المذهب ويا ضيق الصدر يا وسخ العرض يا نظيف القدر يا من ألزم كاتب اليسار كل حين كتابه ويا من لا يأثم عند الله من اغتابه يا من أدمى أنامل حساب قبائحه ومعايبه يا من أحفى أقلام كتاب مساويه ومثالبه
مسا ولو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق
فاليكها وتفكه قبل أن يقدم لك الطعام بهذا الحنظل فإني سوف ألقمك الخرا بالخردل ولم أزل أذيقك من هذه الفصول الموجعة للقلب سياطاً إلى أن لا تتمالك إستك الواسع ضراطاً فترد عن نفسك إذ ذاك وتطفي في قلبك هذا الجمر كما ردها يوماً بسوأته عمرو وما أنت إلا كالحباري ليس سلاحها في مدافعة السقر إلا سلاحها لعمري لقد أدخلتك هذه الأسجاع في جحر ضب خرب أو في إست كلب جرب فأبشر بقية عمرك القذر تمضي في ذلك المنزل الرحب العذب ماؤه الطيب هواؤه وكان وجب على ذمة الحمية الأبية مجازاتك فأدينا إليك الكيل صاعاً بصاع وأحرقناك بشواظ من النار التي هي عبارة عن هذه الأسجاع كلا وشتان بينهما فإن هذه لا تقاس بدواجن كلماتك الهي كما تعرفها لا تخرج من دارك ولا يتعهدها من بجوارك وأما تلك الفصول فستسير مسرى الصبا والقبول وتصادف من الناس مواقع القبول فلا غرو أوجبنا عليك إن نشافهك بما اتصفت به من المعايب والمثالب ولا عتب علينا لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ووالله إن تلك الألفاظ لتأنف منك وإني أستغفره تعالى في تعذيبها بك وإيذائها بخطابك كيف لا وإنك لعذرة ملء إهابك ومما بلغني عنك أن لسان الدهر لما أسمعك بعض أسجاعنا الذي تخضع له رقاب القوافي ويميس من حلل البلاغة في البرود الضوافي بادرت إلى مطالعة فقر المقامات لعلك تجدها فيها أو في كتاب آخر يضاهيها وتفضل علينا بتصحيح صلاتها وجعلها أنموذج فضلك الغزير فهاتها ونسأل الله السلامة من الوصمة والإمداد بالتوفيق والعصمة والإرشاد إلى سلوك سبيل التقوى والتمسك في كل حال بسببها الأقوى انتهى وكانت وفاة صاحب الترجمة في عشر الأربعين والله أعلم.(2/119)
عبد الكريم بن محب الدين بن أبي عيسى علاء الدين وتقدم تمام النسب في ترجمة حفيده القطبي الحنفي مفتي مكة المشرفة الإمام العلامة المقلب بهاء الدين كان إماماً فاضلاً له اشتغال تام بالعلم وخط حسن ونسخ بخطه كتباً وله حفظ جيد ومذاكرة قوية وكان عارفاً بالفقه خبيراً بأحكامه وقواعده مطلعاً على نصوصه مع طلاقة الوجه وكثرة السكون وأما الأدب فكان فيه فريداً يفهم نكته ويكشف غوامضه ويستحضر من الأخبار والوقائع وأحوال العلماء جملة كثيرة وكان من أذكياء العالم ذا إنصاف في البحث لازم عمه وأستاذه العلامة قطب الدين الحنفي مفتي مكة وبه تفقه وعليه تخرج وأخذ عن الشيخ عبد الله السندي والعلامة الشهاب أحمد بن حجر الهيتمي روى عنه صحيح البخاري وممن أخذ عن المترجم السيد عمر بن عبد الرحيم البصري وتولى إفتاء مكة سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة وولي أيضاً المدرسة السلطانية المرادية بمكة وألف مؤلفات لطيفة منها شرح على البخاري ممزوج لم يكمله سماه النهر الجاري على البخاري وتاريخ سماه أعلام العلماء الأعلام ببناء المسجد الحرام وهو مختصر تاريخ عمه المذكور زاد فيه أشياء حسنة مهمة مما يحتاج إليه وما حدث بعد تأليفه منها عليه وحكى الإمام علي الطبري أن صاحب الترجمة شارك في حدود التسعين وتسعمائة أئمة المقام في إمامته وهم السادة البخاريون فإنهم أقدمهم ثم بيت الشيخ أبي سلمة وكانوا لا يزيدون على أربعة أنفار غالباً فكان حافظاً للمقام وصائناً له عن تطرق مشارك في الإمامة بحيث أنه ورد سنة ثلاث عشرة وألف وظيفة إمامة مستجدة للملا مكي بن فروخ فنعه صاحب الترجمة بما بيده من الأحكام السلطانية لأنه كان قد استخرج خطوطاً سلطانية بعرض صاحب مكة أن لا تتجدد وظيفة بالمقام المذكور فتشفع فروخ والد مكي ببعض أكابر الأروام فبلغ صاحب الترجمة ذلك فبين الحال للمتشفع فامتنع من الرجاء في ذلك حينئذ فلما توفي صاحب الترجمة قام بهذا الشأن ولده أكمل الدين وحفظ النظام ثم جرى عليه القضاء والقدر فمات شهيداً في سنة عشرين وألف بعد قصة طويلة فحينئذ تفتح الباب في الإمامة فلم يزل التزايد إلى أن بلغوا في زماننا أربعة عشر إماماً انتهى كلامه قلت وقد بلغوا الآن نحو أربعين وصاحب الترجمة هو الذي سعى في أحداث معلوم من بندر جده يكون في مقابلة خدمة إفتاء الحنفية بمكة وأجيب إلى ذلك وجعلت له خلعة تحمل مع الركب المصري يلبسها في يوم العرضة ثم أحدث له في مقابلة ذلك أيضاً صوفان من الديار الرومية وفي ضمنهما مائة دينار واستمر ذلك لمفتي مكة إلى الآن وكانت ولادته ضحى يوم الاثنين تاسع عشر شوال سنة إحدى وستين وتسعمائة بأحمد آباد من بلاد الهند وكني بأبي الفضائل وهو تاريخ ولادته وقدم مكة مع والده وبها نشأ وتوفي بها قبل غروب شمس يوم الأربعاء خامس عشر ذي الحجة سنة أربع عشرة بعد الألف ودفن بالمعلاة رحمه الله تعالى.(2/120)
عبد الكريم بن محمد بن محمد المعروف بالعبادي الدمشقي الحنفي الأديب الفاضل الذكي كان له مشاركة تامة في الفنون وخبرة في نقد الشعر وله في المعميات وحلها اليد الطولى قرأ بدمشق على الشيخ عمر القاري وعبد الرحمن العمادي والشرف الدمشقي وعبد اللطيف الجالقي وغيرهم وأخذ طريق الرفاعية عن الشيخ محمد العلمي القدسي وحج في بعض الستين وينقل لحجه سبب عجيب وهو أنه كان له بعض إخوان ممن اختلط بهم وامتزج فتوجهوا قاصدين الحج فسار لوداعهم وكان الفصل فصل الصيف وعليه الصوف وعلى رأسه العمامة الكبيرة فلما وصلوا إلى باب الله أبرموا عليه أن يسير معهم إلى الكسوة وما برحوا يلحون عليه إلحاحاً بعد إلحاح إلى أن أخذوه معهم بنية المسير إلى المزيريب وفي ليلة المسير أبرموا عليه بأن يتوجه معهم إلى الحج فلم يخالفهم وتوجه معهم وكل منهم أعطاه ما يحتاج إليه فحج حجة ما زال مدة عمره يذكر ما وقع له فيها من الإكرام والانبساط ثم عاد إلى دمشق ولازم بعد مدة من المولى عبد العزيز بن قره حلبي المقدم ذكره وناب في القضاء بمحكمة الميدان ثم سافر إلى الروم في سنة إحدى وخمسين وألف وسلك طريق القضاء فولي قضاء بيروت ثم سافر إلى الروم مرة ثانية وانتقل إلى إقليم مصر فصار قاضي أبيار ثم أتى إلى دمشق وصار بها متولياً على أوقاف الجامع الأموي مدة وعزل لاختلال وقع في الوقف وولي قسمة العسكر ثم سافر إلى الروم مرة ثالثة وصار قاضي بني سويف وتوجه إليها فمات بها وكان في أوائل عمره مائلاً لجانب الصلاح ثم اختلف وكان مفرط السخاء حسن المعاشرة والمحاورة وكان بينه وبين محمد وأخيه أكمل الكريميين مودة وصحبة وجرى بينهم مفاكهات ومطارحات كثيرة فمن ذلك ما اتفق لهم وقد ضمهم مجلس فابتدر محمد على طريق المساجلة فقال
هواي عذري ولا أعذر ... هذا على أهل النهي ينكر
يعذلني اللوام في صبوتي ... جهلاً ومجنون الهوى يعذر
وجدي بمن تخجل شمس الضحى ... إذا تبدى وجهها الأنور
قد سل من أجفانها أبيض ... وهز من أعطافها أسمر
وقال أخوه أكمل
يريك أن ماس قنا قدها ... غصناً بنوار إليها يثمر
ظبية أنس كم سبت جؤذراً ... وأن سباريم الفلا الجؤذر
تريش من أجفانها أسهماً ... يرمي بها حاجبها الموتر
لم يقنى من حربها جوشن ... كلا ولا درع ولا مغفر
ينهاني اللائم في حبها ... هل أنتهي والحسن لي يأمر
وقال عبد الكريم صاحب الترجمة
غادة دل أختشى غدرها ... يا من رأى الغادة لا تغدر
رحت عليها في الجفا صابراً ... لكن عنها قط لا أصبر
ورد الجيا يقطف من خدها ... وماؤه من وجهها يقطر
وقال أكمل أيضاً
دموع عيني في الهوى ترسل ... عما يعانيه الحشا تخبر
نمام دمع الصب عاداته ... لكل ما يطوي الحشا ينشر
وكانت ولادته في سنة ثمان وتسعين وتسعمائة وتوفي في سنة سبعين وألف وبنو العبادي فيما يزعمون ينتسبون إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج الصحابي الجليل فعليه يكون العبادي بضم العين والعامة تكسرها فهو غلط مشهور.(2/121)
عبد الكريم بن محمود بن أحمد المعروف بالطاراني الميقاتي البعلي الأصل الدمشقي المولد والدار والوفاة الكاتب الشاعر المؤرخ الملقب كريم الدين أحد كتاب محكمة القسام بدمشق كان من أفراد الزمان ومحاسن الأيام انتهت إليه المعرفة بأمور الكتابة والتوريق والإنشاء والحساب مع مشاركة تامة في فنون الأدب وغيرها وله النظم الجيد جالس جدي القاضي محب الدين وقرأ عليه كثيراً وعلى غيره كالحسن البوريني وتأدب بالشمس محمد الصالحي الهلالي الشاعر المشهور وكان مليح العبارة في إنشاء الوثائق جيد الفكرة لطيف المحاورة وكتب الكثير وكان كثير المحفوظات عجيب الإيراد وله تشيع وكتب الناس عنه كثيراً من نظمه ونثره وقرأت في بعض مجاميعه بخطه قال جرى لي يوماً في بعض الأندية أنه ذكر أشج بني مروان عمر بن عبد العزيز وما فعله وهو خليفة من أمره بالكف عن لعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه على المنابر مدة تزيد على سبعين عاماً كما هو مشهور وتلاوة قوله تعالى أن الله يأمر بالعدل والإحسان إلى آخر الآية عقيب انتهاء خطبة يوم الجمعة وصار هذا دأب الخطباء في جميع الأمصار وانجر الكلام من بعض من حضر إلى ما نظمه الشريف الرضي الموسوي في هذا المعنى بقوله من أبيات يخاطب بها عمر بن عبد العزيز
يا ابن عبد العزيز لو بكت العين فتى من أمية لبكيتك
إلى آخر الأبيات فنظمت هذه الأبيات وهي من أحسن الشعر وأجوده
أشج بني مروان لله دره ... لقد كف عن سب الإمام المفضل
خليفة خير الناس والأول الذي ... دعاه رسول الله في كل معضل
علي أمير المؤمنين وصنوه ... وناصره في يوم زحف ومحفل
لقد خصه في فتح مكة بالأخا ... وبالراية العظمى وناهيك من علي
غداة دعاه مرحب يوم خيبر ... فجلله بالسيف والحرب تصطلي
وفي يوم أحزاب أتى بفضيلة ... بقتل ابن ود العامري المضلل
وفي الحرب يوم النهر وأن لقد شفى ... غليلاً وحرقوص يجول بمفصل
فألقاه مطروحاً صريعاً مجدلاً ... كأصحابه النائين عن نهج مرسل
أتاهم فلاقاهم رجالاً خوارجاً ... فأرداهم طراً بغير تمهل
ولم ينج من صمصامه غير سبعة ... وكلهم باؤا بإثم معجل
كأشقى مراد نال خزياً وذلة ... بقتل إمام عارف متبتل
عليه من الله المهيمن لعنة ... مدى الدهر ما هبت نسيمات شمأل
فلم تبك شخصاً من أمية أعين ... بكت منهم عين الأشج بمسيل
عظيم بني مروان خير خليفة ... وخير ذويه من أكول وأحول
لقد نزه الماضين عن لعن سيد ... يكنى أبا السبطين في كل منزل
وعوض أن الله يأمر فافتهم ... لما جاء في نصر الكتاب المنزل
فروى ضريحاً ضمه صوب رحمة ... وجازاه ربي بالثواب المعجل
وإني لراج أن أنال بحبه ... من الله في الفردوس كل مؤمل
فيا رب بوئني بحقك جنة ... وأحسن إلهي في القيامة مؤئلي(2/122)
قلت والمراد من أشج بني مروان عمر بن عبد العزيز بن مروان وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب وكان ابن الخطاب رضي الله عنه يقول أن من ولدي رجلاً بوجهه أثر يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ولما نفحه حمار برجله فأصاب جبهته وأثر بها قال أخوه إصبع الله أكبر هذا أشج بني أمية يملك ويملأ الأرض عدلاً انتهى ولا يرد عليه عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فإنه وإن كان أشج أيضاً وهو من أولاد عمر إلا أنه لم يل حكماً وبشجته ضرب المثل لمستهجن يزيد به صاحبه حسناً فإنه كان من أجمل أهل زمانه وأصابته شجة فزادته حسناً قاله في ربيع الأبرار وكان لصاحب الترجمة أخ اسمه محمد وكان أحد المشهورين بجودة الخط إلى الغاية وكان يكتب أنواع الخطوط بأجمعها ويقلد أقسامها على اختلاف أجناسها وربما قلد العلامة السلطانية وكان سافر إلى مصر فاتفق أنه حصلت له كائنة أدت إلى وصول خبره إلى حاكم مصر بتقليده الطغرا فاستحضره وألح عليه بالاعتراف بذلك فاعترف فقطعت يمينه وكان بعد ذلك أيضاً يلف على يده خرقة ويمسك بها القلم ويكتب وقد وقفت لأخيه عبد الكريم على أبيات أرسلها إليه بعد حصول هذه الكائنة له وذكر في أولها ما هذا نصه من مراسلات كاتب الحروف إلى أخيه شقيقه وهو بالديار المصرية مشيراً إلى حادثته التي أبكت العيون وأورثت القلوب الشجون ومتشوقاً إليه
سلام كنشر الروض باكره القطر ... على ساكني قلبي ومنزلهم مصر
سلام عليهم من كئيب متيم ... توالى على خديه مدمعه الغمر
وإن لاح برق حن شوقاً إليهم ... حنين أخي الأشجان قد خانه الصبر
وبعد فإني يا أخي لما جرى ... أخو عبرة تنهل إذ فدح الأمر
ولم ينقطع ذكري لأيامنا التي ... تقضت بأرض الشأم وهي بكم غر
وكيف وقد كنا جميعاً بألفة ... وحاسدنا من غمه شفه القهر
وإخواننا في خفض عيش وكلنا ... لفرط ائتلاف لا يروعنا الذعر
ولكن قضى هذا الزمان بصدعنا ... وتشتيتنا صبراً على ما قضى الدهر
فلله منا الحمد والشكر دائماً ... على المنن اللاتي يجل لها الحصر
ولا زلت ترقى ذروة العز ما شدا ... حمام على غصن وما اكتمل البدر
وحن إلى الأوطان كل مغرب ... مشوقاً إلى أهليه وانسكب القطر
وقرأت بخطه مما نظمته ارتجالاً وقد جلس إلى جانبي مليح من ملاح الشأم في مكان مرتفع وكان القمر في تلك الليلة في حالة الإبدار وهو مطل علينا فقال لي انظر البدر أمامك فقلت له البدر أمامي على أي حالة فجعل فقلت منشداً
وذي قوام رشيق ... دنا البدر التمام
فقال والثغر منه ... حال بحسن ابتسام
غدا أمامك بدر ... فقلت بدري أمامي
وأشعاره وأخباره كثيرة وكانت وفاته في ثامن شعبان سنة إحدى وأربعين وألف ودفن بمقابر الشيعة في باب الصغير والطاراني نسبة إلى طارية وهي قرية من قرى بعلبك قدم منها والده إلى دمشق ورأيته في بعض مجاميعه ينتسب بالطيراني بالياء ولعلها نسبة على خلاف قياس والله سبحانه وتعالى أعلم.
عبد الكريم الوارداري مفتي الحنفية بالشأم ومدرس السليمانية بها كان من أهل العلم والدين قدم إلى دمشق صحبة نائبها الوزير سنان باشا حين وليها بعد انفصاله عن الوزارة العظمى فرفع مرتبته حتى صيره مفتياً فأقام بدمشق سنين وتزوج بنت الشيخ برهان الدين بن أدهم بن عبد الصمد وكان معلماً لسنان باشا المومى إليه وكان كثير الصمت حسن السمت عليه مهابة العلم وسكينة الفضل ووقع بينه وبين الشمس بن المنقار بسبب مسئلة تحالفا فيها وكان ابن المنقار يتحجج بهذه القصة وينشد
أنا صخرة الوادي إذا هي زوحمت ... وإذا نطقت فإنني الجوزاء(2/123)
فكتب له عبد الكريم رسالة لطيفة قال فيها بلغنا أنكم حينئذ تفخرون وتنشدون أنا صخرة الوادي وفي الحديث المؤمن هين لين وحج من دمشق ثم عاد إليها وترك شعر رأسه بعد حلق النسك فلم يحلقه ثم صار يضفره وكان مقبولاً ثم عزل عن فتوى الشأم ورحل إلى قسطنطينية وكان سنان باشا بنى دار الحديث عند تربته المعروفة بقسطنطينية فشرط تدريسها الصاحب الترجمة فصار يدرس بها وأقام سنوات إلى أن توفي وكانت وفاته بها في صفر سنة ثلاث بعد الألف كذا قرأته بخط الشمس الداودي المقدسي نزيل دمشق.
عبد اللطيف بن أحمد بن أبي الوفا المفلحي الأنصاري الحنبلي الدمشقي تقدم أبوه أحمد وكان عبد اللطيف هذا فقيهاً مشتغلاً مشهور السمعة جريئاً في فصل الأمور رحل إلى مصر في سنة خمس عشرة بعد الألف وأخذ بها الحديث عن النور الزيادي وتفقه بالشيخ يحيى بن موسى الحجاوي والشيخ عبد الرحمن بن يوسف البهوتي وأجازاه بالفتوى والتدريس وذكر له الحجاوي في إجازته أنه أفتى بالجامع الأزهر مراراً وأفاد واستفاد ثم رجع في سنة سبع عشرة وولي قضاء الحنابلة بالمحكمة الكبرى أولاً ثم صار قاضي قضاة الحنابلة بمحكمة الباب وكانت وفاته في سادس عشر شعبان سنة ست وثلاثين وألف.
عبد اللطيف بن بهاء الدين بن عبد الباقي البعلي الحنفي المعروف بالبهائي القاضي الأجل الأفضل كان بارعاً في كثير من الفنون فارساً في البحث نظاراً مفرط الذكاء قوي الحافظة كثير الاشتغال حسن العقيدة قرأ ببلده بعلبك على جده لأمه العلامة محمد البهائي ثم قدم إلى دمشق وعمره ست وعشرون سنة ولزم بها الشرف الدمشقي والإمام يوسف الفتحي وأخذ عنهما وبرع ثم سافر إلى الروم وسلك طريق القضاء إلى أن ولي أكبر المناصب ببلاد الروم ثم انحاز إلى المفتي العلامة يحيى بن عمر المنقاري فقر به وأدناه ونقله من طريق القضاء إلى طريق الموالي فأعطاه قضاء ترابلس الشأم ثم بلغراد ثم فلبه ونما حظه واشتهر فضله وألف تآليف حسنة تدل على قوة باعه في العلوم منها شرحه على فصوص ابن عربي ونظم متن المنار في الأصول في تسعمائة وثلاثة أبيات وسماه قرة عين الطالب وهو عدد أبياته ثم شرحه شرحاً لطيفاً وعنونه باسم الوزير أحمد باشا الفاضل وله شرح على ديوان أبي فراس أبدع فيه كل الإبداع ونظمه ونثره كثيران مستوفيان شرائط الحسن والمتانة فمن ذلك قوله في المدح
إليك دون الورى انتهى الكرم ... ومن أياديك تكسب النعم
لن يبلغ المدح فيك غايته ... بل دون معناك تنفذ الكلم
أنت الذي ترتجى مكارمه ... وكم أناس وجودهم عدم
أنت الذي الدهر دون همته ... وفوق هام السهى له قدم
طور وقار بالحلم مشتمل ... بحر نوال بالجود ملتطم
يخجل صوب الغمام نائله ... بل دون هتان كفه الديم
أعتابه مأمن لداخلها ... من كل هول كأنها حرم
وقال يمدح شيخ الإسلام المنقاري بقوله
معاذ الوفا أن يصبح العبد خاليا ... عن الشكر للمولى الذي قد وفا ليا
وأنعم حتى لم يدع لي مطلباً ... وأنكى بما أسدى إلي الأعاديا
وكل الذي أملته من نواله ... حظيت به بل فوق ما كنت راجيا
وفرغ عن قلبي سوى حبه الذي ... تمكن من قلبي وأنعم باليا
فغاية سؤلي في الزمان رضاؤه ... وأقصى المنى إن كان عني راضيا
ولي نفس حر قد أبت غير حبه ... وحاشا لمثلي أن يرى عنه ساليا
وقلب إذا ما البرق أومض موهناً ... قدحت به زنداً من الشوق واريا
تحكم فيه حبه واشتياقه ... له الحكم فليقض الذي كان قاضيا
فلله عيش مر لي بظلاله ... أجربه ذيل المآرب ضافيا
أروح فأفضال وأغدو بأنعم ... ويمنحني ورد المحبة صافيا
وفزت بعلم منه عز اكتسابه ... وأصبحت من حلي الفضائل حاليا
إذا ما دجى بحث وأظلم مشكل ... أضاء بنور الفكر منه الدياجيا(2/124)
يجول على نجب الذكاء بفكرة ... أبت في الذي تبديه إلا التناهيا
يفوق على البخر الخضم بعلمه ... وبر حج في الحلم الجبال الرواسيا
يسابق أجناد الرياح إلى الندى ... وينضح جدوى راحتيه الغواديا
نظمت له عقد المديح منضداً ... جعلت مكان الدر فيه القوافيا
وكتب إليه يمدحه أيضاً
بأي لسان يحصر العبد مدح من ... دمى من أياديه ولحمي وأعظمي
ومن عشت دهراً تحت أكناف ظله ... أروح بأفضال وأغدو بأنعم
وفزت بعلم منه عز اكتسابه ... وذاك لعمري حسرة المتعلم
ينزهني في ظاهري وسرائري ... بإرشاده عن كل ريب ومأثم
ويمنحني محض النصيحة جاهداً ... يعلمني طرق العلا والتكرم
ولولاه من عبد اللطيف ومن له ... ومن يخدم الأشراف يشرف ويكرم
وحسبي من شكري اعترافي بفضله ... وتصديق قلبي والجوارح والفم
ومن شعره قوله
لا توينسن عدواً ... من الوداد وداجي
تسرى إليه بليل ... من المكيدة داجي
عقد فيه حكمة وهي لا تويسن عدوك من ودادك تسرى إليه بليل من المكيدة وهو لا يدري ومن لطائفه قوله
إن الشجاعة والندى ... سيان في الخلق الجميل
ثقة الكريم بربه ... ثقة المجاهد في السبيل
وله غير ذلك مما يطول ولا تنتهي محاسنه وكانت وفاته في سنة اثنتين وثمانين وألف بفلبه وهو قاض بها.
عبد اللطيف بن حسن الجالقي المعروف بالقزديري الدمشقي الحنفي العالم الكبير المفيد المتورع الزاهد البارع كان من كبار علماء زمانه لم يزل مكباً على الإفادة والتدريس زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة منقطعاً عن الناس غني النفس فقيراً صابراً أخذ عن جدي القاضي محب الدين وعن الشيخ محمد بن هلال والشيخ محمد بن علي العلمي المقدسي نزيل دمشق وتفقه بهم ولازمهم كثيراً حتى تمهر وتجرد لنفع الناس فلزمه الجم الغفير من الفضلاء وقرأوا عليه وغالب الأفاضل الذين نبلوا قريب عهده تلامذته وكان صاحب نفس مبارك فأقرأ عليه أحد إلا انتفع به وكان شديد الحرص على تأديب جماعة درسه لا يبرح يخلقهم بالأخلاق الحسنة ودرس بالمدرسة العادلية الكبرى وسكنها إلى أن مات وله من التآليف منظومة في عباددات الفقه يتداولها الطلبة وهي مشهورة بالبركة واليمن وله شعر كثير إلا أنه من شعر العلماء وأجود ما رأيت له قوله من قصيدة
شغفنها ذات حسن مع سيادتها ... ولم ترق لرق صار يرقيها
لا عيب فيها سوى بخل على دنف ... بالوصل يوماً وما رقت حواشيها
ولست كفؤاً لها شعراً ولا أدباً ... وليس صفر ولا بيض فأهديها
وذاك من زمن قد راب ذا محن ... من غير ما منحته للنفس تجديها
ولقد رأيت جماعة من الآخذين عنه وكل واحد منهم يتغالى في مدحه مغالاة زائدة وقالوا فيه مع فضيلته غفلة وصورة بله في الظاهر من حاله حتى قالوا أنه كان يوماً في مجلس أحد قضاة دمشق فدخل الفاضل الأديب عبد اللطيف بن يحيى المنقاري الآتي ذكره قريباً إن شاء الله تعالى وجلس في الجانب المقابل له فقال لهما القاضي في أثناء المخاطبة الحمد لله حصل لنا اللطف من كلا الجانبين فأنشد الجالقي
وفي الحيوان يشترك اضطراراً ... أرسطاليس والكلب العقور
فقال المنقاري الشق الأول لنا والثاني لكم فخجل وأخذ يعتذر عن هفوته وله من هذا القبيل أشياء أخر ومع ذلك فالقول فيه أنه بركة من بركات الزمان وكانت ولادته في سنة ست وثمانين وتسعمائة وتوفي يوم الثلاثاء ثاني عشر المحرم سنة ثلاث وأربعين وألف بعلة الإسهال وأوصى عند الاحتضار أن يقال عند الصلاة عليه الصلاة على العبد الفقير الحقير خادم العلم الشريف عبد اللطيف ونفذت وصيته ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى.(2/125)
عبد اللطيف بن عبد المنعم بن زين الدين بن يونس بن محمد العجلوني الأصل الدمشقي المولد المعروف بابن الجابي الفقيه القاضي الشافعي كان أبوه تاجراً في المصوغات بصاغة دمشق ونشأ هو وقرأ ودأب وأخذ عن البدر الغزي والعلاء بن عماد الدين والشهاب الفلوحي والشهاب أحمد بن أحمد بن أحمد الطيبي وتلقى عنه القراآت والعربية والفقه حتى فضل وكان للطيبي فيه علاقة وسعى له في وظيفة الوعظ يوم الثلاثاء بالجامع الأموي وكان فصيح اللسان في الوعظ وفرغ له عن خطابة التورزية وغضب عليه آخر فسعى في أخذها عنه وولي عبد اللطيف نيابة القضاء بمحكمة الكبرى ثم نقل إلى الباب بعد موت القاضي تقي الدين الزهيري وسافر إلى الروم ورجع ومعه براءة بتدريس الشامية البرانية عن عم أبي القاضي عبد اللطيف وقضاء الشافعية بالباب بعد أن كان وجه للقاضي محمود العدوي الزوكاري فسلمت إليه النيابة ولم تسلم له المدرسة ثم وجهت إليه المدرسة بعد مدة من جانب ابن عزمي ولم تبق معه إلا قليلاً حتى جاءت عنه للحسن البوريني وبقي ابن الجابي نائباً إلى أن مات وكان سيئ السيرة متهاوناً في أمور الشرع وكان يأكل البرش وكان ثقيلاً جداً حتى لقب بشباط وفيه يقول النجم الغزي
ما زال أشباط بكيفية ... مختلة في حال أخباط
يهذي على الناس كما يشتهي ... والناس كانون بأشباط
وكانون في البيت بفتح النون جمع كان قال في الصحاح رجل كان وقوم كانون وهو من كنيت عن الشيء إذا أخبرت عنه ولم تصرح باسمه ومما قيل في التعريض به بيتا الشاهيني وهما
حركات حاكمنا وقد بلغت ... في البرد أقصى غاية الأمد
حركات غيم شباط حين بدا ... ملآن من ثلج ومن برد
وكان ينظم الشعر ولقد رأيت له أشعاراً كثيرة في مجموع كبير بخطه ولم أستحسن له إلا هذه القطعة من قصيدة مدح بها ابن عزمي والحق أنها من سائغ المقول ومطلعها
ما كان يخطر قط في أوهامي ... أن الأسود مصايد الآرام
قف حيث فوقت اللحاظ سهامها ... وانظر لمرمي هناك ورامي
وسل الأمن فكم خلى فارغ ... أمسى قتيل محبة وغرام
لله ما بالقلب والأحشاء من ... حرق وما بالجسم من أسقام
ومدامع تهمى فيحرق لدغها ... خدي ومن يقوى للدغ هوام
وبمهجتي البدر الذي وجناته ... وعذاره كالورد والنمام
القاتل الآلاف من عشاقه ... عمداً بلا جرح ولا آثام
إن لم يكن بمثقل ومحدد ... فبسحر ألحاظ وسحر كلام
باللحظ منه غنيت عن زهر وعن ... خمر فنه نرجسي ومدامي
في خده لام تجر إلى الهوى ... فالقلب مجرور بتلك اللام
ظبي من الأتراك مرعاه الحشا ... والمورد الدمع الغزير الهامي
عرف المراد من الدموع فلم يزل ... يرنو لعاشقه بطرف ظامي
وقرأت بخطه هذه الأبيات خاطب بها بعض من تصدر من غير أهل التصدر
أراك تلوم الناس بالنقص منهم ... وأنت لعمري أنقص الناس في الذكر
فإن أنت في جمع حضرت وبينهم ... أفاضل لم تنطق بشيء سوى الحصر
فأنت كنون الجمع حال إضافة ... وإن شئت بل مثل القلامة من ظفر
ونقلت من خطه أعجوبة ذكر أنه رآها بجزيرة ساقز وهو راجع من الروم بحراً وهي شجر يحمل بطيخاً أصفر يعني الخربز والقاوون أشبه ما يكون بشجر التوت وعلى هامشه وأعجب منه ما رأيت في جزيرة مرمرة وهي جزيرة بين مدينة كليبولي وبغاز حصاري يخرج من قاع البحر عين زيت طيب ويعلو إلى وجه البحر لا ينقطع مدى الدهر أبداً رأيتها بعيني مرتين من غير شك في طعمه ورائحته انتهى وكانت وفاته نهار السبت ثاني شعبان سنة ست وعشرين وألف.(2/126)
عبد اللطيف بن محمد محب الدين ابن أبي بكر تقي الدين عم أبي القاضي عبد اللطيف ابن القاضي محب الدين أحد فضلاء الزمان البارعين كان فيما أعلم من أحواله دراية وخبراً من أنبل أهل عصره معرفة وإتقاناً وجمعية للفنون وكتب الكثير بخطه وضبط ورأيت من متملكاته التي وقف أكثرها آخر أمره ما يقارب مائة وخمسين كتاباً وغالبها بخطه فما وجدت كتاباً منها خالياً من تصحيح وتحرير له وألف تآليف تدل على تمكنه وإحاطته منها تفسير على سورة الفتح وكتاب جمعه في خمسة علوم التفسير والحديث والفقه والتصوف والأدب وفيه أشياء جيدة إلى الغاية طالعته كثيراً وانتفعت به وبالجملة فمن رأى كتابه هذا عرف مقداره من الفضل وأكثر قراءته على والده ولما قدم الشام مع أبيه حضر عند البدر الغزي وأخذ عنه وله مشايخ كثيرة وسافر إلى الروم وأقام بها مدة ونال في صر مكة ديناراً ذهباً كل يوم غير ما ناله من القمح المجهز إلى الحرمين من مصر وسافر في أواخر الألف إلى مكة بنية المجاورة وجاور سنة أو سنتين وصحب بمكة السلطان مسعود بن الشريف حسن بن أبي نمى وصار له حظوة عندهم ومدحهم بعدة قصائد وتزوج ثمة ثم اقتضى رأيه أنه تفرغ عن الصر المذكور وعاد إلى دمشق ثم سافر منها إلى الروم وولي قضاء حماة وحصل منها مالاً طائلاً ثم بعد عزله منها قدم دمشق وتديرها وعمر داره المعروفة به بسوق العنبرانيين عند باب الجامع الأموي وكان محل البيت خاناً يعرف بخان الخرفان وقف بعض المكاتب فاشترى أقلاده من الشهاب أحمد الوفائي متولي المكتب واحتكر أرضه بأجرة ثم هدمه وعمره بيتاً واقتنى طاحوناً وبيت قهوة خارج باب السلامة وبساتين في بيت لهيا ووقفها على قراء ومدرس ومرتزقة يعطون علوفات عينها لهم وشرط أن يكون المدرس الشيخ أحمد الوفائي المذكور وولي نيابة الباب فيما بين مرات وقضاء القسمة العسكرية وكان له عفة ونزاهة ولما مات والده وجه إليه المولى إبراهيم بن علي الأزنيقي قاضي قضاة الشام المدرسة الشامية البرانية عنه وكان بيده قبل ذلك تدريس الظاهرية فجمع له بينهما ثم تفرغ عن الظاهرية وبقيت الشامية في يده وأخذها عنه القاضي عبد اللطيف بن الجابي المقدم ذكره فلم تسلم إليه ثم بعد مدة وجهت عنه إلى الشيخ محمد بن أحمد الحتاتي المصري الآتي ذكره واستفرغه عنها ابن الجابي ثم وجهت للحسن البوريني وبقي صاحب الترجمة بلا مدرسة مدة حتى أعيدت إليه واستمرت عليه إلى أن مات وكان مبتلى بعلة الكبد ولازم الحمية مدة مديدة وكان أول ما عرض له هذا الداء أشار إليه بعض الحكماء أن يكف عن شيئين كل منهما يقتل صاحب هذا الداء وهما التخمة والجماع فكان حذراً من ذلك حتى كان لا يأكل من الخبز إلا قليلاً جداً فاتفق له أنه ذهب يوماً إلى بستان له واستدعى بعض أخدانه وعمل لهم وليمة فيه فأكل من الفاكهة والنفائس أكثر من عادته ثم عاد إلى بيته فمات في ليلته وكانت وفاته ليلة الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر سنة ثلاث وعشرين بعد الألف ويقال أنه جامع في تلك الليلة فمات فجأة ودفن في بيت صغير عمره بالخشابين خارج باب الشاغور وعمر عنده مكتباً لطيفاً وهو على طريق مقبرة باب الصغير قريب منها وقرأت بخط والده أن ولادته كانت في أواخر شعبان سنة ست وستين وتسعمائة عبد اللطيف بن يحيى بن محمد بن القاسم المعروف بلطفي بن المنقار الدمشقي الحنفي أحد مشاهير الفضلاء النبلاء وكان مع تمكنه في الفقه وإحاطته التامة بفروعه أديباً إليه النهاية في المحاضرات وحسن البديهة والشعر المرقص أخذ العربية عن الحسن البوريني وتفقه بعبد الرحمن العمادي وأحمد بن محمد بن قولا قسز المقدم ذكره وعليه تخرج في كتابة الأسئلة المتعلقة بالفتوى وفاق في جميع أدوات الإتقان وولي تدريس الماردانية وكتب للعمادي الأسئلة واشتهر أمره وسافر إلى حلب مرات وإلى ديار بكر في عنفوان عمره لعارض عشق عرض له ولم ير له خلاصاً إلا السفر والتشاغل بطي المراحل وكنت وقفت على قصيدة لابن شاهين الدمشقي أرسلها إليه إلى حلب وسبب إرسالها أن أحمد بن زين الدين المنطقي ولي قضاءها وقدم إليها وصير أخاه محمد نائباً بمحكمة الباب ووزع بقية الخدمات على أقربائه الأعاجم فأرسل إليه القصيدة المذكورة يرجو منه القدوم إلى الشأم وصدرها بقوله(2/127)
طلعت عليك طليعة الأعجام ... فانهض إلينا قادماً بسلام
وهي قصيدة عجيبة نحا بها منحى قصيدة السرى الرفا التي أولها
طلعت عليك طليعة الأعراق ... فاحفظ ثيابك يا أبا الخطاب
وقد ذهبت مني نسخة القصيدة وتطلبتها فلم أجد من يأتيني عنها بخبر ولو وجدتها أوردتها هنا لبداعة أسلوبها ولصاحب الترجمة مع أدباء حلب اختلاط تام ومراسلات كثيرة وذكره منهم السيد أحمد بن النقيب في مجموعه فقال في وصفه من فضلاء الزمان الذي يشار إليهم بالبنان وأفراده الذين قلدوا جيده بفرائدهم عقوداً وأفاضوا على أعطافه من فوائدهم بروداً وله مذاكرة كلها جارية على نهج الاستحسان ومحاورة تحسد عليها العيون الآذان وأشعار قد سرقت نسمة الأسحار من لطفها لطفاً وجرى طرف فصاحتها في ميادين البلاغة فلم يترك أمامه طرفاً ومن شعره قوله من قصيدة مستلهماً
بين خبايا ضلوعي اللهب ... ومن جفوني استهلت السحب
وفي فؤادي غليل منتزح ... يعاف أن الديار تقترب
يا بأبي اليوم شادن غنج ... يعبث بالقلب وهو يلتهب
يسنح لكن بصفحتي رشأ ... والقد إن ماد دونه القضب
صفر وشاح يزينه هيف ... ليس كخود يزينه القلب
إن لاح في الحي بدر طلعته ... فالشمس في الأفق منه تحتجب
أشنب لم تحك برق مبسمه ... يا برق إلا وفاتك الشنب
يطفو على الثغر في مقبله ... حباب ظلم وحبذا الحبب
كأنه لؤلؤ تبدده ... أيدي غذارى أفضى بها اللعب
ما مر في الحلى وهو مؤتلق ... إلا ازدهى الحلي ثغره الشنب
يعطو بجيد كقرطه قلق ... والقلب ما جال منه يضطرب
وسانحات نفثن في عقداً ... لألباب سحراً ودونه العطب
به اختلسن الفؤاد من كثب ... واقتاد جسمي السقام والوصب
تجرح منهن مهجتي مقل ... يفعلن ما ليس تفعل القضب
ظعن والقلب في ركائبهم ... يخفق والجسم للضنى نهب
من فوق خلبي وضعت صاح يدي ... فلم أجده وصدها لهب
هذا أدق من قول المتنبي
ظلت بها تنطوي على كبد ... نضيجة فوق خلبها يدها
لما تيقنت أن روحتهم ... ليس لها ما حييت منقلب
أبليت صبراً لم يبله أحد ... واقتسمتني مآرب شعب
منهن ذات دملج سلبت ... عقلي وعادت تقول ما السبب
أخذ هذا من قول مهيار
قتلتني وانثنت تسأل بي ... أيها الناس لمن هذا القتيل
يصبو جنوناً ويدعي سفهاً ... إني له دون ذا الورى طلب
وليس عندي علم بصبوته ... ولا تعهدت أنه وصب
لو كان فيما يقوله شغفاً ... صدق عراه لعشقنا النصب
فقلت لو شئت يا مناي لما ... سألت عني وأنت لي أرب
إن نحولي وعبرتي معاً ... بعد أنيني لشاهد عجب
وقوله من قصيدة أرسلها من بلاد ديار بكر يتشوق بها إلى دمشق ويذكر منتزهاتها ومطلعها
سقى دار سعدي من دمشق غمام ... وحيي بقاع الغوطتين سلام
وجاد هضاب الصالحية صيب ... له في رياض النيربين ركام
ذكرت الحمى والدار ذكر طريدة ... تذاد كظمآن سلاه أوام
فتحت على تلك الربوع تشوقاً ... كما ناح من فقد الحميم حمام
أيا صاحبي نجواي يوم ترحلوا ... وحزن الفلا ما بيننا وأكام
نشدتكما بالود هل جاد بعدنا ... دمشق كأجفاني القراح غمام
وهل عذبات البان فيها موائس ... وزهر الربى هل أبرزته كمام
وهل أعشب الروض الدمشقي غبنا ... وهل فاح في الوادي السعيد بشام
وهل ربوة الأنس التي شاع ذكرها ... تجول بها الأنهار وهي حمام(2/128)
وهل شرف الأعلى مطل وقصره ... على المرجة الخضراء فيه كرام
وهل ظل ذاك الدوح ضاف وغصنه ... وريق وبدر الحي فيه يقام
وهل ظبيات في ضمير سوانح ... وعين المها هل قادهن زمام
وهل أمول العلم والدين جامع ... شعائره والذكر ليه يقام
وهل قاسيون قلبه متفطر ... وفيه الرجال الأربعون صيام
ألا ليت شعري هل أعود لجلق ... وهل لي بوادي النيربين مقام
وهل أردن ماء الجزيرة رائعاً ... بمقصفها والحظ فيه مدام
سلام على تلك المغاني وأهلها ... وإن ريش لي من نأيهن سهام
لقد جمعت فيها محاسن أصبحت ... لدرج فخار الشام وهي ختام
بلاد بها الحصباء در وتربها ... عبير وأنفاس الشمال مدام
وغرتها أضحت بجبهة روضها ... تضيء فخلخال الغدير لزام
تناءت عنها فالفؤاد مشتت ... ووعر الفيافي بيننا ورغام
لقد كدت أقضي من بعادي تشوقاً ... إليها وجسمي قد عراه سقام
ويتجادله قوله
لهفي على زمن قضيته جذلاً ... مسربلاً ببرود العز والنعم
مضى كأن لم يكن ذاك الزمان أتى ... حتى كأني به في غفلة الحلم
ما أثمرت لي لياليه التي سلفت ... بلذة العيش إلا زهرة الندم
وقوله:
لله معترك يجول مهفهف ... فيه ولم يثن القوام عقار
وبكفه قصب الدخان كأنها ال ... صعدات لكن للنديم نثار
والوجه عند الشرب منه كأنه ... حلى المجن وقد أثير غبار
وذكره الخفاجي في كتابه الريحانة فقال ولما ارتحلت عن مصر فارقت أترابي ولذاتي وما بها من ذخائر مالي وكنز حياتي
وظئر بلاد أرضعتني بمائها ... وأنفاس نسمات ومهد ديار
مررت على دمشق الشأم فرأيت بها من الكرام فكان من نعمت بلقياه ووقفت على هضباب علاه هذا الأديب الحسيب والروض الأريض والربيع الخصيب فحباني بأنفاس من أنفاس الخزامة أندى وهبت منه نفحات أنس كنفحات روض قبيل الصبح يلتها الأندا فعطر بفضائله المجامع وفكه بثمرات أدبه المسامع وأهدى إلي في مشرفة قصيدة حباني بها وهي قوله بأفق دمشق قد طلع الشهاب ثم أوردها بتمامها فلا حاجة بإيرادها هنا فالحاصل أن فضائله وآدابه مشهورة مسلمة وكانت وفاته في سنة سبع وخمسين وألف رحمه الله.
عبد اللطيف المعروف بأنسي أحد موالي الروم ودرة قلادة الأدب وواحد الزمان في الكمال والمعرفة أصله من بلدة كوتاهية وبها ولد ثم دخل دار الخلافة في حداثة سنة فخدم قاضي القضاة محمد بن يوسف الشهير بنهالي وورد معه إلى دمشق لما ولي قضاءها في سنة اثنتي عشرة وألف واعتنى به مخدومه هذا فأقرأه وأدبه حتى مهر وتفوق وصيره ملازماً منه وكان من أوائل أمره ظريف النادرة وكان ربما قصد مخدومه بنكاته فيستحسنها ويزيد في الإقبال عليه ومما يستحسن من مضامينه معه أن مخدومه تبجح يوماً بأنه لم يل مدة عمره مدرسة ولا منصباً مرتين فقال أحمد الله على أنه لم يقع لي حركة مثلية وكان السلطان قبل ذلك نفاه إلى جزيرة قبرس لأمر جرى له فقال له أنسى في الجواب استثنوا تلك الحركة المثلبة إلى قبرس ثم بعد موت مخدومه تلاعبت به الأسفار والأحوال إلى أن استقر بمصر وولي قضاء الركب المصري ومحاسبة أوقاف مصر وذلك في سنة ثمان وعشرين وألف ثم عاد إلى الروم وولي بها مدرسة ثم صار قاضياً بطرابلس الشأم في سنة ثمان وأربعين وألف ووقع بينه وبين الشيخ عبد الرحمن العمادي إذ ذاك مراسلات فمن ذلك ما كتبه إليه العمادي
مولاي أنسى الذي طابت طرابلس ... به وأصبح فيها الوحش في أنس
ومن غدا فضله في العصر مشتهراً ... كالشمس في شفق والصبح في غلس
أنت الذي فخر العصر العصور به ... وقصرت كل مصر عن طرابلس
أوصيكم بالحكيم الشيخ مخلصكم ... محمد بن غدا يعزى لأندلس
حملته بث شوقي كرتين لكم ... لعله بثه أو كان قبل نسي(2/129)
قد كان لي حر أشواق فضاعفه ... قرب الديار كثب النار بالقبس
لكن رجونا لقاء منك يطفئه ... يا رب فاجعل رجائي غير منعكس
فراجعه بقوله
هذا كتابك أم ذي نفحة القدس ... يا طيب الله ذاكي عرف ذا النفس
قد حلا كلما كررته بفمي ... كأنه أشنب قد جاد باللعس
كأنما كل سطر مفعم أدباً ... غصن توقره الأثمار لم يمس
كأنهن المهاري وقرها درر ... وفي سوى القلب والأسماع لم تطس
تعلم بديع جناس الالتفات حلا ... منه فبالله هذا ظبية الأنس
مخايل السحر تبدو من دقائه ... كاللحظ أجفانه مالت إلى النعس
لنا به كل وقت عن سواه غنى ... في طلعة الشمس ما يغني عن القبس
تكسو المسامع أشنافا مضاعفة ... وتكتسي صنع صنعاء وأندلس
فبينما نحن نجني من أزاهرها ... إذ أشرقت وهي مثل الزهر في الغلس
وبينما هي تجلي في طرابلس ... والشأم طلت على مصر ونابلس
أذكرتني منه ما لم أنسه أبداً ... ولم يزل مؤنسي في مجلس الأنس
يا من تنزه عن أحصا فضائله ... هل في حسابك أنسى للعهود نسي
وإنني لحفيظ للوداد ولو ... أعياك رسم وداد غير مندرس
لا زلت عمدة أهل الفصل في صعد ... إلى العلى يا عمادي غير منتكس
ما لي سوى نسمات الشعر أبعثها ... تحية لدمشق من طرابلس
فكتب إليه العمادي وغير الوزن والقافية
عقدت لنفسي عهد ودك يا أنسي ... وقلبي حفيظ قط للعهد ما أنسي
وحسبك إذ أضحى ثناؤك ديدني ... فيورد في وردي ويسرد في درسي
رفعت عمادي في بيوت بنيتها ... من المجد والفضل البليغ على أس
لقد سحبت سحبان للعي مفحماً ... وجرت جرير اللفهاهة مع قس
أتت تتهادى في الطروس كأنها العروس إذا ما تجلى ليلة العرس
ولما تجلى في دجى النفس بدرها ... تلوت عليها عوذة آية الكرسي
إذا مسها كف الحسود لحسنها ... تخبطه الشيطان غيظاً من المس
وتعقل عقل الساحرين بسحرها ... فأحسن بها فتانة الجن والأنس
جنينا ثمار الفضل من روض غرسها ... وناهيك روضاً يانعاً طيب الغرس
فيأيها المولى الذي شاع فضله ... لأسماعنا حتى شهدناه بالحس
قصيدتك الفصحى كستنا بفصلها ... ملابس فخر لبسها أنفس اللبس
وشاع لها ما ين جلة جلق ... سنا بهجة قد لقبت ضرة الشمس
فما كل من صاغ العاني صائغاً ... وكم بين دينار نضار إلى فلس
فدم لتنال الشام فوزاً بكم كما ... طرابلس فازت ومصر مع القدس
ولا زالت في ثوب السعادة رافلاً ... وتصبح في عز وفي نعمة تمسي
خدين العلا ما الشمس حمراء أشرقت ... وما غربت في الأفق صفراء كالورس(2/130)
ثم ولي قضاء بلده كوتاهية ومرعش مرات وأعطي قضاء الجيزة بمصر على وجه التأييد فرحل إلى مصر وأقام بها مدة ثم ولي قضاء طرابلس ثانياً وعزل عنها ثم صار قاضياً بمكة المكرمة ثم بغداد ثم طرابلس ثالث مرة ولما أنشأ الوزير محمد باشا كوبريلي وقفه كلف إلى إنشاء وقفية فصنعها على أسلوب عجيب من الإنشاء التركي البديع وصدرها بديباجة من إنشائه العربي فقال سبحانك اللهم ما أصح حجتك وما أوضح محجتك تبارك اسمك يا مالك الملك والملكوت وتعالى جدك يا ذا الجلال والجبروت لك الحمد على آلائك المسلسل غيثها ونعمائك المحتبس على سبيل الإطلاق غوثها حمداً تدوم موجباته وتقوم على قائمة الأبد مثوباته تتباهى به الأخيار لم لا وأنت به المحمود ولا يتناهى من بركاته الأدرار كيف وهو بدار الخلود ولك الشكر على هدايتك لشراء جواهر الأجور الباقية بالإعراض السيالة الفانية وبيع زواهر الأمور الدنيوية الدنية بأزاهر الرياض الأخروية الرضية السنية شكراً يليق بما أوليت من توالي رواتب نعمك ويذيق الواقفين نفائس أنفاسهم على استعمال ذكرك لذة القبول بكرمك أنت مبدئ النشأة الأولى فضلاً بلا استحقاق تباركت عن الوجوب عليك ومعيد النشأة الأخرى لإنجاز وعد الجزاء فسبحانك لا شيء إلا منك وإليك لا إله غيرك ولا مر جوالاً خيرك صل وسلم على مدينة العلم نبيك الأمي وخزينة الحلم رسولك العربي سيدنا وسندنا محمد معلم الناس الخير ومتمم النعم عليهم فقريب القربات إليهم ليجلبوا النفع ويدفعوا الضير وعلى آله أكارم الخلق في مكارم الأخلاق وصحبه الصارفين في ارتزاق المحسنين بأنفاس الهداية نفائس الأرزاق ما دعا إلى تشمير ساق البرد داعي الدواعي وسعى لتعشير خطي الخير ساعي المساعي. فلما رآها الوزير أعجبه حسن رونقها فأقبل عليه وصيره قاضياص بإزمير فضبطها مدة سنتين وحصل منها مالاً كثيراً فكانت سبب انتظام حاله وعن مدتها عني في قوله وقد سئل عن عمره فقال سنتان يومي إلى قولهم عمر الفتى زمان الراحة ومن هذا الباب قول محمد الحتاتي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى
عمر الفتى قالوا زمان الرضا ... بصفوة الأحباب في اليسر
صدقت ما قالوه كي يقبلوا ... فينظروا شيخاً بلا عمر
ومنه قول الشاهيني من قصيدة
عددت أويقاتي ولاحظت طيبها ... فأجودها ما مر في الحلم من دهري
إذا رحت أحصيها لأعلم يسرها ... عدمت حياتي والمصير إلى عسر
متى ما اعتبرت العمر ما كان صافياً ... تجد رجلاً قد عاش عمراً بلا عمر
وكلاهما أخذ من قول الأمير أسامة بن منقذ
قالوا نهاه الأربعون عن الصبا ... وأخو المشيب بحوز ثمة يهتدى
كم حار في ليل الشباب فدله ... صبح المشيب على الطريق الأقصد
وإذا عددت سني ثم نقصتها ... زمن الهموم فتلك ساعة مولدي(2/131)
ويروى عن بعض المجان أنه قال صرفت من عمري كذا في بلدة كذا وكذا في كذا وكذا في بعلبك فما كان في غيرها عددته من عمري ولا خسران وما كان فيها فعلي الطلاق لا أعده من عمري فإنه محض خسارة وصاحب الترجمة كما رأيت ممن أوتي حسن الإنشاء العربي وقد وقفت له على رسالة كتب بها إلى المولى عبد الله بن عمر معلم السلطان عثمان والده وهو قاضي العسكر يتشكى فيها من معاناة بعض الخطوب وهذه الرسالة أنا شغف بها جداً وكثيراً ما يختلج في صدري أن أشرحها شرحاً أبين فيه ما تضمنت من الأمثال والنوادر وقد عن لي الآن أن أذكرها وأوضح بعض مغلقاتها وهذه هي. طالما شمت بروقك مستمطراً للأماني فكانت خلباً وتعرضت لعوارضك مستبشراً بالتهاني فانحسرت قلباً ولم يصب ربي مآربي من هاطل سحائب زخارفك وابل ولا طل ولا حصلت سوائم مطالبي من غدران طرائفك على نهل ولا عل ورصفت صروفك لي سافاً على ساف فأسفت حتى ما أشتكي السواف السواف ذهاب المال وإذا أتت على أم اللهيم لا رئمت لخل توضيم أتت عليه أم اللهيم أي أهلكته الداهية ويقال المنية والبوجلد الحوار المحشو نبتاً وأصله أن الناقة إذا ألقت سقطها فحيف انقطاع لبنها أخذوا جلد حوارها فيحشى نبتاً ويلطخ بشيء من سلاها فترأمه وتدر عليه يقال ناقة رؤم إذا رئمت بوها أو ولدها فإن رئمته ولم تدر عليه فتلك العلوق يضرب المثل لمن ألف الضيم ورضي بالخسف طلباً لرضى غيره بل لما دلكت بوح فلا ترى ورأيت الكواكب مظهراً قلت الظمأ الفادح خير من الري الفاضح ظمأ قامح إلى آخره قال الخليل القامح والمقامح من الإبل ما اشتد عطشه حتى فتر لذلك فتوراً شديداً فوصف به الظمأ وهو في المعنى لصاحبه يضرب في وجوب صون العرض وإن احتملت فيه المشاق وتجنب القريحة وإن قرن بها العيش البارد ويقال القامح الذي يرد الحوض ولا يشرب يضرب في القناعة وكتمان الفاقة ويروي ظمأ فادح خير من ري فاضح الفادح المثقل يقال فدحه الدين أي أثقله فأوهى لصروفك سقائي ولا هريق لحدثانك بالفلاة مائي أصل المثل خل سبيل من وهي سقاؤه ومن هريق بالفلاة ماؤه أي إذا كره الخليل صحبتك ولم يستقم لك فاز هدفيه كزهده فيك وهراقة الماء مثل لخلو القلب عن المودة يضرب لمن كره صحبتك وزهد فيك ولم أقل لشدائدك الوصام ما وراءك يا عصام ما وراءك يا عصام مثل يروى بكسر الكاف وخرج على ما قال المفضل أول من قال ذلك الحارث بن عمرو ملك كندة وذلك أنه لما بلغه جمال ابنة عوف بن محلم وكمالها وقوة عقلها دعا امرأة من كندة يقال لها عصام ذات عقل ولسان وأدب وقال لها اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف فضت حتى انتهت إلى أمها وهي أمامة بنت الحارث فأعلمتها ما قدمت له فأرسلت إلى ابنتها وقالت أي بنية هذه خالتك أتتك لتنظر إليك فلا تستري عنها شيئاً إن أرادت النظر إلى وجه ولا خلق وناطقيها إن استنطقتك فدخلت إليها فنظرت إلى ما لم تر مثله قط فخرجت من عندها وهي تقول ترك الخداع من كشف القناع فأرسلتها مثلاً ثم انطلقت إلى الحارث فلما رآها مقبلة قال ما وراءك يا عصام قالت صرح المحض عن الزبد ثم ذكرت محاسنها وحملت إليه فعظم موقعها منه وولدت له الملوك السبعة الذين ملكوا بعده اليمن وروى أبو عبيد ما وراءك على التذكير وقال يقال أن المتكلم به النابغة الذبياني قاله لعصام بن شهبر حاجب النعمان وكان النعمان مريضاً فسأله النابغة عن حال النعمان فقال له ما وراءك ومعناه ما خلفت من أمر العليل أو ما أمامك من حاله ووراء من الأضداد قال الميداني قلت يجوز أن يكون أصل المثل ما ذكر ثم اتفق الاسمان فخوطب كل بما استحق من التذكير والتأنيث هذا وإن صرت الحوالب وأردت بالكلاب الثعالب فإني لم يصلد قدحي ولم أجهل وسم قدحي بل لزمت لكل حال مقاماً ونفس عصام سودت عصاماً وإن يك قد بدر من صروفك ما بدر فأسلمت الجلة فالنيب هدر الجلة جمع جليل يعني العظام من الإبل والنيب جمع ناب وهي الناقة المسنة يعني إذا سلم ما ينتفع به هان ما لا ينتفع به لقد زهدت في الضنائن وقبل الرماء تملأ السكائن قبل الرماء تملأ الكنائن أي تؤخذ الأهبة قب لوقوع الأمر
وإني لأخفي باطني وهو موجع ... فينظر مني ظاهري وهو ضاحك
وأسئل عن حالي وبي كل فاقة ... فأوهم أني للعراقين مالك(2/132)
يا طالما زممت نفسي عن شربة بالوشل وكل شيء أخطأ الأنف جلل وإني وإن كسرت على الأرعاظ وأزمعت على أن ترمين من نار صر وفك بشواظ وقشرت إلى العصا وركبت على أصوص صوصاً قشرت له العصا يضرب في خلوص الود أي أظهرت له ما كان في نفسي ويقال أقشر له العصا أي كاشفه وأظهر له العداوة والثاني هو المراد هنا وركبت على أصوص صوصا الأصوص الناقة الحائل السمينة والصوص اللئيم كراكب على جناحي نعامة وإني لأجمل أخلاقاً من ذي العمامة ركب على جناحي نعامة يضرب لمن جد في أمراً ما الانهزام وأما غير ذلك وأجمل من ذي العمامة مثل من أمثال أهل مكة وذو العمامة سعيد بن العاص بن أمية وكان في الجاهلية إذا لبس عمامة لا يلبس قرشي عمامة على لونها وإذا خرج لم تبق امرأة إلا خرجت لتنظر إليه من جماله وزعم بعض أصحاب المعاني أن هذا اللقب إنما لزم سعيد بن العاص كناية عن السيادة قال وذلك لأن العرب تقول فلان معمم يريدون أن كل جناية يجنيها الجاني بتلك القبيلة أو العشيرة فهي معصوبة برأسه فإلى مثل هذا المعنى ذهبوا في تسميتهم سعيداً ذا العصابة وذا العمامة
تزيدني شدة الأيام طيب ثنا ... كأنني المسك بين الفهر والحجر
بيد أني أعتبك في أخرىوألومك على الأحرى. حيث أقصيتني من معاذ المعتفين وعياذ المقتدين والمقتفين قائد كتائب سباق المعالي في مضمار المجد والممدوح بذكر محامده المحمودة في كل غور ونجد مالك نواصي مصالح الجمهور ماضي حسام الأمر في مستقبلات الأمور جرثومة الفضائل والمحامد أرومة قطيبة الأفاضل والأماجد أفلاطون الأوان أرسطاليس الزمان مربي السلطنة السنية العثمانية معلم الحضرة العلية السلطانية من يقول لسان الحال في شأنه وعلو قدر مخدومه وسلطانه
من مخبر الأقوام أنى بعدهم ... لاقيت رسطاليس والإسكندرا
ورأيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدماً ... وأتى فذالك إذ أتيت مؤخرا
وكيف لا وهو الذي يتزين بمثله ألقابه ويتشرف بالانتساب إليه أنسابه
من شاد سيرته المرضى منهجها ... بالعدل والحق ما قد شاده عمر
وهو المسمى به لا زال يتبعه ... في فعله ما أضاء الشمس والقمر
لعمري لقد حوى كل فضل ومكرمه وإذا تولى عقد شيء أحكمه مركز دائرة السماحة والحماسة قطب رحى السياسة والرياسة
تود عيون الناس عند ثنائه ... لو انقلبت أحداقها بالمسامع
فإني لما توجهت تلقاء مدين وجوده وجدت على ماء كرمه وجوده أمة من الناس يسقون ويستقون وبعلى هممه وعميم نعمه إلى مدارج معارج المعالي يرقون ويرتقون
فما ألبس الله أمر أبين خلقه ... من المجد إلا بعض ما هو لابسه
ولما صار أيها الدهر الغدار أثر الصرار دون الذئار أصله أثر الصرار يأتي دون الذئار الصرار خيط يشد فوق الخلف والتودية لئلا يرضع الفصيل والذئار بعر رطب يلطخ به أطباء الناقة لئلا يرتضع الفصيل أيضاً فإذا جعل الذئار على الخلف ثم شد عليه الصرار فربما قطع الخلف يضرب هذا في موضع قولهم بلغ الحزام الطبيبين يعني تجاوز الأمر حدة وقلت إذ نبذتني بالعرا أسوأة عروس ترى فما ساءتك لحوادثك شرواي ولا شغلت شعابي جدواي
تنكرت لي دهري ولم تدر أنني ... أعزو أهوال الزمان تهون
فبت تريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبت أريك الصبر كيف يكون
وإن يك عدا قارصك فحزر وأخلف مدك فجزر القارص اللبن يحذى اللسان والحارز الحامض جداً عدا القارص فحزر مثل يضرب في الأمر يتفاقم ويروى بنصب القارص أي عدا القارص أي حد القارص ومن رفع جعل المفعول محذوفاً أي جاوز القارص حدة فحزر فأنا الذي لا تعصب سلماته وأخبرت عن مجهولاته مرآته لم أبع الكبة بالهبة وشتى تؤوب الحلبة شتى تؤوب الحلبة كانوا يوردون إبلهم وهم مجتمعون فإذا صدروا تفرقوا واشتغل كل واحد بحلب ناقته ثم يؤوب الأول فالأول وشتى في موضع الحال أي تؤوب الحلبة متفرقين يضرب في اختلاف الناس وتفرقهم في الأخلاق
لله در النائبات فإنها ... صدأ اللئام وصيقل الأحرار(2/133)
ولئن أظهر هلالي ثراؤك وهاجت زبراؤك وانكشف بلمعك اللامع واتسع الخرق على الراقع وقال لسان حالك لولا الوئام لهلك الأنام لولا الوئام هلك الأنام الوئام الموافقة يقال واءمته مواءمة ووئاماً وهي أن تفعل كما يفعل أي لولا موافقة الناس بعضهم بعضاً في الصحبة والمعاشرة لكانت الهلكة هذا قول أبي عبيد وغيره من العلماء وأما أبو عبيدة فإنه يروي لولا الوئام لهلك اللئام وقال الوئام المباهاة قال أن اللئام ليسوا يأتون الجميل من الأمور على أنها أخلاقهم وإنما يفعلونها مباهاة وتشبهاً بأهل الكرم ولولا ذلك هلكوا ويروى لولا اللئام لهلك الأنام من قولهم لأمت بينهما أصلحت من اللائم وهو الإصلاح ويروى اللوام بمعنى الملاومة من اللوم صبراً على مجامر الكرام قال قوم راود يسار الكواعب مولاته عن نفسها فنهته فلم ينته فواعدته فحذل فذكر ذلك لصاحب له فقال ويلك يا يسار كل من لحم الحوار واشرب من لبن العشار وإياك وبنات الأحرار فأبى إلا هواها فأتاها فقالت له إني مبخرتك ببخور فإن صبرت عليه طاوعتك ثم أتته بمجمرة فلام جعلتها تحته قبضت على مذاكيره فقطعتها فقالت صبراً على مجامر الكرام يضرب في احتمال الشدائد عند صحبة الكبراء هيهات أيكون الوعر سهلاً والخمر تكنى بالطلا هي الخمر تكنى بالطلا يضرب للأمر ظاهره حسن وباطنه على خلاف ذلك إذ لام المعيدي ونفر واعتبر بأوله السفر وحجت السحائب السوق وشب عمر وعن الطوق فالبث قليلاً تلحق الحلائب أنه مع الخواطئ سهم صائب يضرب للذي يخطي مراراً ويصيب مرة والخواطئ التي تخطئ القرطاس وهي من خطئت أي أخطأت قال أبو الهيثم هي لغة ردية قال ومثل العامة في هذا رب رمية من غير رام قال أبو عبيد يضرب قوله مع الخواطي للبخيل يعطي أحياناً مع بخله.
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
إني قد شمرت ذيلاً وادرعت ليلاً وقدمت كتابي وتوجهت بوجه خطابي إلى حضرة مولى الموالي وقرة عين الموالي سيد صناديد الروم وسند السادة القروم أنهى إلى سدته السنية وعتبته العلية أن شوقي إلى تمريغ خد الملازمة في تراب بابه المشيد وبسط ذارعي العبودية بوصيده السعيد شوق الغريب إلى الوطن والنازح إلى السكن والمهجور إلى العناق والمخمور إلى الكاس الدهاق والصديان إلى الماء القراح والحيران إلى تبلج الصباح ولولا خشية الإملال بعد رعاية عدم الإخلال لأرخيت عنان أدهم القلم في ميادين الشكوى ونشرت دفين الألم الذي عليه أطوى لكني زحمت جماحه وكسرت جناحه رفقاً أن يألم مولاي وإشفاقاً أن يلتاح قلبه من جراي وأمرته أن يرد فناء سيدي مسروراً فرحاً وأن يسحب ذيله بساحاته مرحاً ويسفر طلاقة وسروراً وبشراً ويفتر بمبسم خريدة عذراً مقبلاً للأرض بين يديه قاضياً بعض ما يجب من الثناء عليه إذ ليس بممكن أداء الثناء ولا البلوغ إلى غايته وكنهه
هيهات أن تصل العناكب بالذي ... نسجت أناملها ذرى الأفلاك
ذلك أعز من بيض الأنوق وأبعد من العيوق والأبلق العقوق ولكن كفى المتن المفسر وما يوم حليمة بسر ثم أمرته أن ينادي في شريف حضرته بين قطيبته وأسرته
يا من يعز علي إلا عزة جاره ... ويذل من سطواته الجبار
لله قلبك لا يخاف من الردى ... وتخاف أن يدنو إليك العار(2/134)
أشكوك إذ قلب لي دهري ظهر المجن وأردف علي الخطوب والمحن وتركني في أقفر من أبرق الفراق وأهلك من ترهات البسابس والجراق يقال أقفر من برية الفراق ومن برية خساق وأهلك من ترهات البسابس قال أبو عبيدة أنه مثل من أمثال بني تميم وذلك أن لغتهم أن يقولوا هلكت الشيء بمعنى أهلكته وقال الأصمعي أن الترهات الطرق الصغار المتشعبة من الطريق الأعظم والبسابس جمع بسبس وهو الصحراء الواسعة التي لا شيء فيها فيقال لها بسبس وسبسب بمعنى واحد هذا أصل الكلمة ثم يقال لمن جاء بكلام محال أخذ في ترهات البسابس وجاء بالترهات ومعنى المثل أنه أخذ في غير القصد وسلك في الطريق الذي لا ينتفع به كقولهم ركب فلان بنيات الطريق وأخذ يتعلل بالأباطيل وقوله والجراق لم أره في الأمثال والظاهر أنه أراد الجراق بالضم والتشديد وهو السيل الذي يذهب بكل شيء وكان لي اخلف من خفي حنين وأشح من ذات النحيين وسلكني في طريق يحن فيه العود ومهمه يظمأ فيه الذود وأعطاني اللفا عن الوفا وجرعني حيث لا يضع الراقي أنفا رضي من الوفا باللفا الوفاء التوفية يقال وفيته حقه توفية ووفاء واللفا الشيء الحقير يقال لفه حقه إذا أبخسه فاللفا والوفا. صدران يقومان مقام التوفية واللفية يضرب لمن رضى بالتافه الذي لا قدر له دون التام الوافر وجدد لي في كل آن متربه وأراني في كل واد أثراً من ثعلبه بكل واد أثر من ثعلبه هذا من قول ثعلبي رأى من قومه ما يسوءه فانتقل إلى غيرهم فرأى أيضاً منهم مثل ذلك يضرب لمن يرى ما لا يريد أين توجه ومثله بكل واد بنو سعد فنفرت الذود عن الأعطان والتقت حلقتا لبطان ولا يدعى للجلى إلا أخوها وللعظيمة إلا أبوها وقد حداني فكري إلى ساحتك الكريمة حدواً وأعلقت بدلوي دلواً وقلت لنفسي أصبح ليلك ووفى كيلك لقد بلغت العرى وأصبت قرن الكلا وركبت على أتمك من سنام وألقيت مرامي مرامك بذي رمرام الرمرام حشيش الربيع والشاة ترم الحشيش بمرمتها فيأيها المولى الذي غز جاره ولا تصطلى ناره إليك قد أفضيت بشقوري وأخبرتك بعجري وبجوري الشقور بفتح الشين وضمها فعلى الأول هو في مذهب النعب والشقور الأمور المهمة الواحدة شقرة ويقال أيضاً شقور وفقور واحد الفقور فقر وقال ثعلب يقال لأمور الناس شقور وفقور وهماهم النفس وحوائجها يضرب لمن يفضى إليه بما يكتم عن غيره من السر فإنك ابن بجدة المكارم وعذيقها المرجب ومرمى نجدة الأكارم وبازها الأشهب
يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به فيما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ... ولا يهيضون عظماً أنت جابره
ومن توهمت أن البحر راحته ... جوداً وأن عطاياه جواهره
اللهم جداً لا كداً سمعاً لا بلغاً فإني لم أزل في خلال هذه الضراعة لابساً جميل حلل القناعة مرتدياً ببردة الصبر الجميل سالكاً في سلوك آدابي سواء السبيل
مدامي مدادي والكؤس محابري ... وندماي أقلامي وفاكهتي شعري
ومستمعي ورقاء ضنت بحسنها ... فأسدلت الأستار من ورق خضر
إلى أن آنست من جانب طورك نار القرى وعلمت أن الصيد في جوف الفرا فخلعت عند ذلك نعلي عزيمتي وحققت في المأمول منك صريمتي وأرعيت سمعي لمنادي جودك من جانب طور وجودك متى يقال لي أفرخ روعك وأخضل فرعك وبرأ جرحك وزال برحك
قصدي والراجون قصدي إليهم ... كثير ولكن ليس كالذنب الأنف
ولا الفضة البيضاء والتبر واحداً ... نفوعان للمكدي وبينهما صرف
حاشا سيدي أن يخلف مخيلة عبده أو يصده بعذر عن مأموله وقصده فأكون لا مائي أبقيت ولا درني أنقيت فإن الإسعاف شرف والمعذرة طرف
حاشا سجيتك الكريمة أن تحد ... عن منهج الإسعاف والإسعاد(2/135)
ودونك ما سردته من أمثال العرب السائرة السارية وأوردته عند إجالتي في تيارها جواري فكري الجارية فخذها ولو بقرطي مارية وإن كنت في ارتكاب هذه الخطة وطي هذه الشقة المشطة كمستبضع الثمر إلى هجر والفصاحة لأهل الوبر لكني أردت إزالة وهم المتوهم من كل منجد ومتهم أن مكابدة هذه الشدائد التي لا ينادى لها ولائد لم تمنعني من الاجتهاد والطلب للعلوم النافعة والأدب فإن الموت الفادح خير من العي الفاضح وأخصر عطب عدم الأدب وإلا فأنا وكل يعلم أن الفصيح لدى سيدي أبكم ومع ذلك فجل القصد وغاية المبذول من الجهد التوصل بالانتساب إلى رفيع أعتابك والانتماء إلى منيع جنابك إلى البراعة في سائر العلوم من كل منطوق ومفهوم وحراسات الأوقات بإدراك متوسط الأقوات وقد نثرت في وصف محامك الحميدة درها ومن ينكح الحسناء يعط مهرها هذا جناي وخياره فيه وكل جان يده إلى فيه والمرجو والمسؤل التلقي بالقبول والإسعاف بنيل المأمول فإن مولانا أكرم الناس شنشنه وأولى من ستر سيئة ونشر حسنه لا أصابتك عين الكمال ولا سلب الدهر بفقدك ثوب الجمال ولا برحت كعبة للجود وعصرة للمنجود ونوراً يلوح في أبناء الوجود ما حدى بالضمر القود إلى شفيع اليوم المشهود شعر
فيأيها المنصور بالجد سعيه ... ويأيها المنصور بالسعي جده
لئن نلت ما أملت منك لربما ... شربت بماء يعجز الطير ورده
فكن في اصطناعي محسناً كمجرب ... يبن لك تقريب الجياد وشده
إذا كنت في شك من السيف فابله ... فإما تنفيه وإما تعده
وما الصارم الهندي إلا كغيره ... إذا لم يفارقه النجاد وغمده
وإنك للمشكور في كل حالة ... ولو لم تكن إلا البشاشة رفده
وكل نوال كان أو هو كائن ... فلحظة طرف فاح عندي نده
وما رغبتي في مسجد أستفيده ... ولكنما في مفخر أستجده
يجود به من يفضح الجود جوده ... ويحمده من يفضح الحمد حمده
فإنك ما مر النحوس بكوكب ... وقابلته إلا ووجهك سعده
هذا ما رآه قريح القريحة الكابي جوادها وأرواه قدح قدح لأفكار الخابي زنادها
فقد يكبو الجواد لغير داء ... وقد يخبو الزناد وفيه نار
ولما عرضته على ذلك الجناب الرفيع الرحيب رحاب الجد وأحللته تلك الأبواب الموقفة على الأعتاب بالجد لحظة من الرضى بعيون ترى النجوم ظهراً وقابله بقبول يخلق لقلائد المدح من المكارم صدراً وإن كنت في ذلك كهدى نور نور البراعة لذكاء روض الذكا وجالب برود وشي الصنائع بين يدي صنائع بلاغته صنعاً فكالنجم يهتدى به وإن غطت على نوره الشمس وكالسحاب يستمطر اليوم وإن أمدته البحار أمس وعلمت أن حصباء ثرى الجد بها أثرى من دراري السماء سنا وأسنى من در البحار بها وكاد سقى الله ثراه ورقى إلى أعلى العليين ذرى مثواه أن ينتاشني بيد الإسعاف من بين أنياب أسد النوائب ويكتب على صحائف الزمان بنصري كتب كتائب المصائب ثم لم ألبث إلا وقد انفجر فجر ليلة الوصل عن ينابيع النوى وحالت غيوم سوء الحظ بين طرف المنى وشمس الضحى فظل سائر تلك الآمال في هجير الإغفال لا يجد ظلاً وروض هاتيك المواعيد لا يرى من الإنجاز وابلاً ولا طلاً وصار نسياً منسياً كأنه لم يك شيا
ويممته بحراً وقد حال دونه ... عواصف سوء الحظ لا بخل البحر
فبينا أنا في ليلة طال جنح سهادها وعبثت أيدي أطفال الأفكار بكاس رقادها أقلب في أسفاط الخمور أسفار الآداب الكاسدة وألحظ سائل سلسال المعارف بعيون الإفهام الجامدة إذ عثر ذيل نظري بخدر خود فكري فرأيت هذه الأوراق مخبوءة في زوايا خمولها مرتقبة في ليل آمالها طلوع صبح بلوغ مأمولها فبت إذ ذاك وتهللت فرحاً وقلت الوحا الوحا فقد جاء الإبان وآن الأوان وأقبل سعد الأوان وقامت سوق العرفان وطلعت الشمس إن غاب بدر وخلفت البحار إن أخلف قطر فما دولة سيدي خامس العبادلة سلمه الله تعالى إلا موسم الأحرار وربح متاجر مدائح الأخيار فالولد سر أبيه وفرع ذلك الأصل النبيه
بأبه اقتدى عدي في الكرم ... ومن يشابه أبه فما ظلم(2/136)
وعلمت أنه أحرز رقى بالولا لما ورث عن أبيه العلا وأنه بذلك أحرى وجواد جوده أجرى وإني وإن عرضتها على جناب حضرته وتعرضت بها لنفحات أريحيته فقد أعطيت القوس باريها ووافيت حومة السبق بمجليها وإن مواطر تلك لرعود تنبت الآن زهر الظفر وأزهارها سرورها يجني عنها من الإنجاز الثمر
خلائق دلتنا على طيب أصلها ... ومن طيب أصل المرء طيب فعاله
كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السما تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها فها أنا قد مثلتها بين يديه لتقبيل ذيوله وأكف دعائها مبسوطة تلقاء مدين سماء قبوله فالله يبقيه ما لمع بارق وأنجز وعد صادق. وهذا آخرها والإنصاف أنها من أمتن الإنشاء وأجوده وله أخرى لا تقصر عنها أوردتها في كتابي النفحة وأشعاره منشآته بالعربية والتركية كثيرة وكلها جيدة مرغوبة وكان لما سافر الوزير أحمد باشا الفاضل إلى سفر إيوار جعله قاضياً ينظر الأحكام في العساكر فتوجه معه وأعطي قضاء سيروز على وجه التأييد ثم بعد فتح إيوار وجه إليه قضاء الشام فدخلها نهار الثلاثاء ثاني عشر جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وألف وقيل في تاريخ توليته أزال الله وحشتنا بأنسي وكان قدومه عند أهل الأدب موسماً عظيماً وتباشر الفضلاء بذلك وسروا وشرع الشعراء يردون عليه بالمدائح العظيمة ومن مدحه الأمير المنجكي بقصيدته المشهورة التي مطلعها
غريب وإني في العشيرة من أهلي ... أرى الخصب ممنوع الجوانب من محل
ثم في ثالث يوم من وصوله مرض واستمر مريضاً ستة أيام ثم توفي عصر نهار الثلاثاء تاسع عشر الشهر المذكور وصلي عليه ثاني يوم من وفاته في الجامع الأموي في مشهد حافل ودفن في الحديقة قبالة جامع السنانية وكثر الأسف عليه.
عبد الله بن أبي بكر صائم الدهر اليمني السيد الولي العارف بالله تعالى كان على قدم كامل من العبادة والصيام والقيام وسلامة الصدر ولين الجانب توفي في شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وألف ودفن بتربة أبيه بالمرتفع من أعمال بيت الفقيه ابن حشيبر وكانت وفاة أبيه سنة ألف ووفاة أخيه الولي الشهير أبي القاسم بن أبي بكر سنة سبع عشرة وألف وكان ذا صيام وقيام وعلم وعمل وأخلاق رضية وتصرفات في الولاية ظاهرة وبالجملة فشهرتهم كلهم تغني عن التصريح بحالهم.
عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن أبي القاسم بن أحمد بن أبي القاسم بن يحيى بن إبراهيم بن محمد بن عمر بن علي بن أبي بكر بن علي الأهدل كان سيداً كامل المعرفة بالعلوم من الفقه والحديث والتفسير والنحو والمنطق وله الحكم العجيبة فتحاً من الله تعالى والقدم الراسخ في العبادة ذكره السيد أبو بكر بن أبي القاسم في نفحة المندل فقال فقيه أديب فطن لبيب حسن المحاضرة جيد المذاكرة وله همة علية في تحصيل فنون العلم وخطة في نهاية الحسن وكذا تجليده الكتب ويحسن غير ذلك من الصناعات كالصياغة لجودة فهمه وحدة ذكائه وله نقد صائب في الشعر بحيث يعرف جيده من رديه وشعره جيد وكان مسكنه المنيرة وكانت وفاته في عشر الأربعين وألف.(2/137)
عبد الله بن أحمد بن حسين بن الشيخ عبد الله العيدروس ذكره الشلي وقال في وصفه صاحب الكرامات الظاهرة والكشف الجلي له قدس اللاهوت وعالم الملكوت صحب جماعة من أعيان الصوفية منهم والده أحمد والشيخ أحمد بن علوي باجحدب والفقيه علي بن أحمد السياح ابن عبد الله الصافي بافرج وغيرهم وسافر إلى مكة المشرفة مصاحباً لأخيه محمد فحجا حجة الإسلام وسبب سفرهما محنة لحقتهما وكانت سبباً للحج وسئلوا الإقامة باليمن فلم يجيبوا ولما عاد إلى تريم ظهرت عنه عجائب وغرائب وانتفع به الناس وصحبه خلق كثير وكان من أخص الناس بصحبته أحمد ابن أخيه محمد وكانت ترد عليه أحوال عظيمة تخرجه عن شعوره فيصيح بأعلى صوته وربما حصل له شطح ويأمر بالسماع بضرب الدفوف ويدور بأهل السماع في الأزقة بالليل إلى الفجر وكان ذا كلف بالنساء فتزوج عدة زوجات وتوسع في أفخاذهن وخلط في جنوسهن فانتهى في ذلك إلى أمد لم يبلغه أحد من نظرائه وولد له أولاد كثيرون وأما الذي صح عنه من الكرامات وصحة الفراسات واستجابة الدعوات فأمر مشهور متداول بين الناس وله مكاشفات كفلق الصبح من جملتها أنه ما جاءه طالب إلا رجع بمطلوبه وما ضاع لأحد شيء وأتى إليه إلا طفر به وما أضمر أحد شيئاً إلا أخبره بضميره وما استغاث به أحد من أهل المشرق والمغرب إلا أغاثه الله ببركاته وبشر غير واحد بالجنة فكف بصرهم وتاب جماعة من الفساق بدعائه لهم وله في ذلك حكايات يطول شرحها بل ما من أحد من أهل العصر من أهل تلك الجهة إلا ويحفظ له عدة حكايات وترجمه تلميذه الشيخ شيخ بن عبد الله العيدروس في السلسلة قال وكان فرد أهل زمانه ممن وهبه الله الاطلاع على أسرار الأولياء وله القدم الراسخ في منازلات العارفين وكان ذا هيبة وسطوة قل أن يرقد من الليل إلا القليل وكان يحب السماع وربما أخذ الدف وضربه بيده وله قبول عند الخاص والعام وكانت وفاته نهار الأربعاء لثمان خلون من المحرم سنة خمس وعشرين وألف.
عبد الله بن أحمد بن حسين بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس الإمام الكبير أحد كبراء العلماء بإقليم حضرموت وكان شاعراً ناثراً ظريفاً له لطف طبع قال الشلي في ترجمته ولد بمدينة تريم في سنة اثنتين بعد الألف وتربى في حجر الولاية وحفظ القرآن والإرشاد والملحة وطلب من صباه واعتنى اعتناء لم يشاكله فيه مثله وأخذ أولاً عن والده ولبس منه الخرقة ولازمه إلى أن مات وتفقه على الفقيه فضل بن عبد الله بن فضل بن سالم والقاضي أحمد بن خبل وأخذ عن شيخ الزمان أبي بكر بن عبد الرحمن علم الحديث والتفسير والعربية والمعاني والبيان وألقت إليه أقرانه مقاليد التسليم وأخذ علم الطريقة والتصوف عن الجلة منهم الشيخ زين العابدين وكان يحبه ويثني عليه وزوجه بابنته ومن مشايخه شهاب الدين القاضي أحمد بن حسين وشيخ السادة الشيخ عبد الرحمن السقاف وارتحل لزيارة الجد الأعلى أحمد بن عيسى وأخذ عن السيد الكبير أحمد بن محمد الحبشي ومشايخه كثير وانتفع به خلق قال الشلي وصحبته زماناً طويلاً واستفدت منه وكان بينه وبين الوالد مودة شديدة وكان هو وشيخنا عمر بن حسين رفيقين في الطلب وكانا فرسي رهان إلا أن صاحب الترجمة يفوق في الحفظ والإتقان وكان يخرج بأصحابه النجباء إلى محله الشهير بالشبير بضم الشين مصغراً ويجري فيما بينهم مفاكهات وكان ممن جمع له الحفظ والفهم وكان حسن الشعر والنثر إماماً في العلوم الشرعية عالماً بالعربية وفنون الأدب وكان من أعرف الناس بعلم الأنساب والحساب والفرائض حافظ للسير والأمثال يستشهد بها في محاضراته وكان يتبع أحوال كل إقليم ويسأل عن مراتبهم وأحوالهم كثير الفحص عن فضائلهم وله اعتناء بمطالعة الكتب وإبراز خفياتها وهو مع ذلك سالك طريق القوم متمسك بالسبب الأقوى من الزهد والعبادة وشاع ذكره وقصدته الناس واتفق أهل عصره على أنه لم يغضب على مخلوق ولم يتكلم على أحد بما يكره وأنه ما سئل شيئاً فقال لا وبالجملة فقد شهد له أهل زمانه بأنه لم ير مثله وكانت وفاته في سنة ثلاث وخمسين وألف وعمره إحدى وخمسون سنة.(2/138)
الشريف عبد الله بن الحسن بن أبي نمي صاحب مكة كان سيداً جليلاً عظيماً صالحاً ولي مكة بعد ابن أخيه الشريف مسعود وهو أكبر آل أبي نمي بالاتفاق من الأشراف وأمراء السلطان وكان قد تخلف عن الجنازة لذلك بعد أن امتنع من القبول فألزموه بذلك حقناً لدماء العالم وما زالوا به حتى رضي وحصل بولايته الأمن والأمان وكان الاجتماع لذلك في السبيل المنسوب لمحمد بن مزهر كاتب السر الكائن في جهة الصفا المعروف علوه في زماننا بسكن الشيخ علي الأيوبي واستمر إلى أن حج بالناس سنة أربعين وألف ثم في المحرم سنة إحدى وأربعين خلع نفسه من الولاية وولى ولده محمد وأشرك معه زيد بن محسن كما أسلفناه وتوجه إلى عبادة ربه إلى أن توفي ليلة الجمعة عاشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة فكانت مدة ولايته تسعة أشهر وثلاثة أيام.
عبد الله بن حسين بن محمد بن علي بن أحمد بن عبد الله بن محمد الشهير بمولى عيديد يعرف كسلفه ببا فقيه صاحب مدينة كنور أحد علماء الإسلام الكبار ذكره الشلي وقال ولد بتريم وحفظ القرآن على الفقيه المعلم محمد باعائشة وحفظ الجزرية وقرأها عليه وحفظ بعد الإرشاد والملحة والقطر وعرضها على مشايخه وتفقه بوالده حسين وأخذ عدة علوم عن الشيخ أبي بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين منها الحديث والعربية وأكثر العلوم الأدبية وأخذ الفقه عن الشيخ عبد الرحمن بن علوي بافقيه ومن مشايخه عبد الرحمن السقاف ابن محمد العيدروس والقاضي أحمد بن حسين والقاضي أحمد بن عمر عيديد والشيخ أحمد بن عمر البيتي والشلي الكبير وأخذ التصوف عن أكثر مشايخه المذكورين ولبس الخرقة من غير واحد وجد في الطلب واعتنى بعلوم الأدب حتى اشتهر أمره وبعد صيته ثم دخل الهند واجتمع في رحلته هذه بكثير من أرباب الفضل والحال ثم قصد مدينة كنور وأخذ بها عن السيد الكبير ابن محمد بن عمر بافقيه وغيره وحصل له قبول تام عند صاحبها الوزير عبد الوهاب وكان صاحب الترجمة إذ ذاك شاباً فرغب في صهارته وزوجه بابنته وأعطاه دست الوزارة فنصب نفسه للتدريس والإقراء ونفع العالمين فشاع ذكره شرقاً وغرباً وكان لا يقاوم في المناظرة وألف تآليف عديدة منها شرح الأجرومية وشرح الملحة ومختصرها وشرح مختصره وله رسائل بديعة وكان في صناعة النظم والنثر حاز قصب السباق وله قصائد غريبة قال الشلي ورأيت له رسائل وأنا صغير أتى فيها بما لم يسبق إلى مثله كان أرسلها إلى سيدي الوالد ولم يتفق لي إلى الآن الوقوف على شيء من مؤلفاته ولا قصائده ولم يقدر لي الله الاجتماع به في رحلتي إلى الهند وكان من علو همته لا يسمع بشيء إلا أحب أن يقف على أصله ومادته ويتطلب أربابه من سائر الآفاق حتى أحكم على الرمل والهيئة والأسماء والأوفاق واجتهد في علم الكيميا غاية الاجتهاد ويقال أنه ناله وكان مع ذلك كله ذا قدم راسخة في الصلاح والتقوى والدين مقبلاً على الطاعة وله خلق حسن وعذوبة كلام ولين جانب لا يزال مسروراً وكان آية في الكرم كثير الإحسان وكان ينفق نفقة السلطان ويسكن العظيم من الدور ويركب الخيل الجياد وهو قائم بنفع العباد عاكف على طلبة العلم ولم تطل لياليه حتى مات وهو في الوزارة.
عبد الله بن الحسين اليزدي صاحب التحقيقات علامة زمانه بغير دفاع وخاتمة محققي العجم من غير نزاع لم يدانه أحد في عصره منهم في جلالة القدر وعلو المنزلة وكثرة الورع وكان منهمكاً على المطالعة والاشتغال بالعلم ومنحه لمستحقيه وكان مبارك التدريس ما اشتغل عليه أحد إلا انتفع به وكان عظيم الهيئة نير الصورة شديد الخوف والخشية ذا سكينة وإنصاف في البحث وأخذ عنه خلق لا يحصون منهم بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي والميرزا إبراهيم الهمداني وولده حسن علي وله مؤلفات مفيدة سهلة العبارة مع الوجازة منها شرح القواعد في الفقه وشرح العجالة وحاشية على الشرح المختصر على التلخيص للسعد وحاشية على حاشية العلامة الخطائي على الشرح المذكور وشرح على تهذيب المنطق للسعد وكلها مرغوبة ممتعة قد رزقه الله تعالى فيها القبول وكانت وفاته في سنة خمس عشرة بعد الألف بمدينة أصبهان.(2/139)
عبد الله بن زين بن محمد بن عبد الرحمن بن زين بن محمد مولى عيديد الفقيه الأجل الإمام النظار قال الشلي ولد بتريم وحفظ القرآن ثم طلب العلم وحفظ الجزرية والعقيدة الغزالية والأربعين النواوية والملحة والقطر والإرشاد وعرض محفوظاته على العلماء الأجلاء وتفقه على القاضي أحمد بن حسين ولازمه إلى أن تخرج به وبرع وجمع من الفوائد شيئاً كثيراً وأخذ عدة علوم منها الحديث والتفسير والعربية عن الشيخ أبي بكر بن عبد الرحمن وأخذ عن أخيه محمد الهادي التصوف والحديث ومن مشايخه الشيخ عبد الرحمن بن محمد العيدروس والشيخ عبد الرحمن بن علوي بافقيه وغيرهم وكان في الحفظ منقطع القرين لا تغيب عن حفظه شاردة وكان أجمع أقرانه للفقه وأبرعهم فيه وأذن له غير واحد من مشايخه بالإفتاء والتدريس فدرس وأفتى وانتفع به جماعة قال الشلي وحضرت دروسه وقرأت عليه بعض الإرشاد وحضرت بقراءة غيري فتح الجواد وكان آية في الفروع والأصول محققاً وما شهدت الطلبة أسرع من نقله وكان علمه أوسع من عقله ولما حفظ الإرشاد جميعه حصل له خلل في سمعه واشتهر عند العوام أن من حفظ الإرشاد كله ابتلي بعلة ولذا كان كثير ممن حفظه يترك بعضه وكان حسن المناظرة قال ووقع بينه وبين شيخنا القاضي عبد الله بن أبي بكر الخطيب مناظرات في مسائل مشكلات وربما تناظرا أكثر الليل وكان صاحب جد في الدين وكان ذا هدى ورشاد وصلاح معرضاً عن الرين حسين الصيت نير الوجه والسريرة بصير القلب والبصر متقللاً من الدنيا وارتحل من بلده تريم ودخل الهند وأخذ عن السيد الجليل عمر بن عبد الله باشيبان علوم الصوفية والأدب وأخذ السيد عمر عنه العلوم الشرعية وطلب منه السيد عمر أن يقيم عنده والتزم بما يحتاجه فقال حتى اجتمع بمن في الهند من المحققين فقصد مدينة بيجافور واجتمع فيها بالشيخ أبي بكر بن حسين بافقيه أخي شيخه القاضي بافقيه وأخذ عن هذين علوم التصوف والحقيقة وجلس يدرس أياماً ثم مات بمدينة بيجافور ودفن عند قبور بني عمه من السادة رضوان الله عليهم.
عبد الله بن سالم بن محمد بن سهل بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوي بن محمد مولى الدويله اشتهر جده عبد الرحمن بصاحب خيله الشيخ الصوفي الكبير أحد أركان حضرموت ذكره الشلي وقال في حقه ولد بتريم وأخذ عن الأئمة الكبار وصحب العلماء العارفين وحفظ القرآن وأخذ عن السيد الجليل محمد بن عقيل وطب والشيخ عبد الله بن شيخ والقاضي عبد الرحمن بن شهاب الدين والسيد سالم بن أبي بكر الكاف وغيرهم ولازم الأخير ملازمة تامة وبرع في التصوف والحقائق ولبس الخرقة من جماعة من مشايخه واعتنى بعلم الحديث وسلك منهاج الصالحين من السلف من الزهد والتقوى والتقشف مع الورع الزائد ورحل إلى اليمن وأخذ بها عن جماعة ثم رحل إلى الحرمين وجاور بمكة سنين وأخذ بها عن جماعة من العارفين منهم الشيخ الكبير إبراهيم البنا تلميذ العارف بالله عبد الله بن محمد بافقيه والشيخ أحمد بن علان والسيد عمر بن عبد الرحيم البصري والشيخ سعيد بابفي وغيرهم ثم عاد إلى تريم ولما قدمها قال الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس قدم تريم صاحبها وأقام بها مدة يسيرة ثم توجه إلى الحرمين وأقام بهما سبع سنين وصحب جماعة من العارفين وأخذ عن غير واحد من المستوطنين والواردين منهم الشيخ الكبير العلم الشهير تاج العارفين سيدي محمد بن محمد البكري وحضر درس الشيخ الإمام الشمس محمد الرملي ولما دخل على تاج العارفين قرأ له قوله تعالى أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه وهذه عادته رضي الله عنه يقرأ لمن دخل عليه من العارفين آية مناسبة لحاله ومقامه وتجرد صاحب الترجمة للقيام بوظائف العبادة والإمعان في الرياضات ولما رجع إلى تريم نصب نفسه للإرشاد وحصل به نفع عام وتخرج به خلق كثير منهم ولده سالم والشيخ عبد الرحمن إمام السقاف والشيخ محمد بن عبد الله الغصن وكان هو والسيد الجليل أحمد بن محمد الحبشي رفيقين في الطلب من الصغر لا يفترقان ومن أوصاف صاحب الترجمة أنه كان حابساً نفسه عن أرباب الدنيا لا يقبل منهم هدية بل كان غنياً بما رزقه الله تعالى وكان قوته كفافاً ولما قال له بعض أهل الأهل الدنياأهل(2/140)
أهل الدنيا أريد أشتري لك نخلاً ينتفع به أولادك ولا يكونون كلاً بعدك فقال قد تكفل برزق الأولاد خالق العباد وله كرامات يظهرها عند الحاجة منها أن بعض بنات الدنيا عيرت بعض بناته بالفقر فأخبرته بذلك فقال لها سيفتح الله عليكم بما يغنيكم ويحتاج غيركم إليكم فكان الأمر كما قال فتح الله على بناته حتى احتاجت تلك البنت التي عيرتهن إلى أن تستعير منهن الحلي في مهماتها ولم يزل على طريقته المحمودة حتى توفي وكانت وفاته في سنة ثمان وأربعين وألف ودفن بمقبرة زنبل.
عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن أبي بكر باقشير المكي أستاذ الأستاذين وكبير علماء قطر الحجاز في عصره وكان أديباً باهراً وشاعراً ماهراً ذكره السيد علي في السلافة فقال في وصفه خاتمة أئمة العربية وقائد صعابها الأبية ومن له فيها المزية العظمى والمحل الرفيع الأسمى مع تعلق بسائر الفنون وتحقق صدق به الظنون ورتبة في الأدب معروفة وهمة إلى تأثيل الفضل مصروفة رأيته غير مرة بالمسجد الحرام في حلقة درسه وهو يجني الأسماع من روض فضله ثمار غرسه وقد أصغت الإسماع إليه وجثت الطلبة على الركب بين يديه وذكره الشلي في تاريخه المرتب على السنين وبالغ في وصفه جداً ثم قال ولد بمكة في سنة ثلاث بعد الألف وحفظ القرآن والشاطبية وجوده وأحكم علم التجويد والقراآت وجد في الاشتغال حتى وصل إلى مرتبة لم ينلها أحد غيره من أهل عصره وكان على اختصاصه بحل الفنون أديباً إليه النهاية متميزاً في المعارف والآداب أخذ عن أئمة عديدة من أهل مكة منهم السيد عمر بن عبد الرحيم البصري والإمام عبد القادر الطبري وعبد الملك العصامي والشيخ أحمد بن علان وأحمد الحكمي ومن الواردين عن البرهان اللقاني وكان قوي الذكاء والفهم طلق اللسان خاشع القلب صادعاً بالحق ندى القلم وجلس للتدريس فلزمته الطلبة وأنجب تلاميذ أفاضل واتفق له أنه أقرأ التحفة لابن حجر درسا عاماً بالمسجد الحرام إلى أن ختمها ثم أعاد قراءتها إلى أن وصل فيها إلى باب الإجازة فتوفي ففيه إشارة إلى ثبوت الأجر له إن شاء الله تعالى فكمل ولده العلامة سعيد على قراءة والده حتى وصل إلى باب الجعالة ثم توفي إلى رحمة الله تعالى وثبت له الجعل من الله تعالى إذ لم يكن لهما معلوم على تدريسهما وهذا من لطيف الاتفاق ذكر ذلك بعض تلامذتهما وكان من عجائب الدهر كتب الكثير وحشى الحواشي وعلق التعاليق النفيسة والفتاوى العجيبة وكان كثير المحفوظ لطيف الأخلاق منور الشيبة كثير الوقار قليل الكلام طارحاً للتكلف جميل العشرة كثير التودد للناس قوي الهمة في الاشتغال مع الطلب بأدب وحفظ السان وحسن تصرف في الكلام وإحسان واعتراف وإخلاص طوية لا يقصد إلا وجه الله تعالى وانتفع به خلق كثير من أهل مكة واليمن والشأم والعراق وصنف التصانيف المقبولة منها مختصر الفتح شرح الإرشاد والتزم فيه ذكر خلاف التحفة والنهاية والمغني لكنه لم يتم واختصر نظم عقيدة اللقاني وشرح نظمه واختصر تصريف الزنجاني نظماً وشرحه شرحاص مفيداً ونظم الحكم وشرحه ونظم آداب الأكل وشرحه ومن شعره قوله
جاذبتها طرق الحديث مفاكهاً ... فأبت سوى التهديد والتعنيف
ورجوت منها الوصل لمحة ناظر ... لأفوز بالتكريم والتشريف
فكأنها التنوين رام إضافة ... للصرف أو لإزالة التعريف
وقوله:
يا رب ما أمرضت من مسلم ... فنجه من ثقل العائد
فإنه أعظم مما به ... ولم يقد رمرمن الجامد
وقوله:
مناصب العز بأيدي الرعاع ... من ذكرها ينقصم الظهر
يا زمناً نكس أعلامه ... ملاذ من تمتحن الصبر
وحذا حذوه صنوه محمد بن سعيد فقال
مناصب العز لمن لا يرى ... إلا فتى جلبابه الصبر
فإن عن الكونين باق به ... تغبطه العزة والفقر
يعمل شكراً وكثير الورى ... يبعثه للعمل الشكر
وكانت وفاته يوم الاثنين لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين وألف وتوفي قريباً منه أخوه ووالده ودفنوا كلهم بالمعلاة رحمهم الله تعالى(2/141)
السيد عبد الله بن سيف الله السيد الشريف المعروف بابن سعدي القسطنطيني أحد الموالي الأجلاء الأديب المنشئ الشاعر المتخلص على دأب شعراء الروم بفائزي كان فاضلاً أديباً جسيماً وسيماً حسن النظم والنثر في الألسنة الثلاثة عارفاً بنقد الشعر وأساليبه وله الشهرة التامة بالمعرفة والتفنن لقي كثيراً من الفضلاء وأخذ عنهم ولازم من شيخ الإسلام يحيى بن زكريا ورد دمشق في خدمة أبيه لما صار قاضياً بالقدس مدرستين وهما التنكزية والمأمونية ورجع من المرة الثانية في سنة إحدى وثمانين وألف ودخل دمشق وأخذ عنه جماعة من أهلها ثم رحل إلى ثم بعد عوده إلى الروم درس بمدارس دار الخلافة إلى أن وصل إلى مدرسة موصلة السليمانية فجرى بينه وبين عمر بن سعدي القرماني المدرس امتحان في مجلس المفتي الأعظم وكان القرماني المذكور قليل البضاعة جداً لكن ساعده القدر بسبب انفعال السيد عبد الله من اقترانه به فتلاشى في البحث وظهر القرماني عليه فقدم عليه إلى المدرسة السليمانية وكان كثيراً ما يتمثل بعد هذه الواقعة بالبيتين المشهورين وهما
إن أصلي وذكائي ... من مرادي حرّماني
ليتني كنت من التر ... ك جهولاً قرماني
ثم بعد مدة وصل إلى السليمانية ودار الحديث وولي منها قضاء سلانيك في سنة اثنتين وسبعين وألف وتعصب عليه طائفة من أهلها فاشتكوا منه إلى السلطان ونقموا عليه أشياء فعزل في مدة جزئية وخرج خط شريف فيه بأن لا يلي القضاء بعدها فبقي مدة وقد ضربت العزلة عليه حجابها وانقطع عن الناس وضاق حاله من تكدر عيشه وتشتت حواسه حتى ولي شيخ الإسلام يحيى المنقاري منصب الفتا فأنقذه من ذلك الحال وشفع له عند السلطان بتوليته قضاء بروسه ثم نقله في مدة جزئية إلى إزمير فقوى رياشه وحسن معاشه ثم بعد مدة ولاه قضاء مكة المشرفة فورد دمشق في منتصف شعبان في سنة ثمان وسبعين وألف ورأيته بها فرأيت أديباً كامل الأوصاف قوي البداهة والحافظة إلا أن طبعه خارج عن الطباع لما فيه من شدة الحرارة فقد شاهدته في بحبوحة الشتاء واستحكام برد الشأم يجلس كاشفاً رأسه وكأنما بخار الحرارة الصاعد من رأسه دخان مدخنة حمام ولا يستقر لحظة إلا ويتطلب ثلجاً فيأكله بنهمة وكان بينه وبين والدي المرحوم مودة سالفة وصحبة قديمة فتقيد برعاية جانبه وسمعت والدي بقول وقد سئل عنه كأنما البلاغة تؤخذ عن لفظه والآداب ترنو عن لحظه وكان جرى بينهما مطارحات ومراسلات كثيرة من جملتها قصيدة كان والدي كتب إليه بها ومطلعها
يا ساكناً بشغافي ... وعن عيوني خافي
طولت مدة بيني ... وبعضها كان كافي
كدرت بالبعد عيشي ... من بعد ما كان صافي
لهفي لطيب ليال ... مرت لنا بالتصافي
حيث الشباب قشيب ... والدهر فيه موافي
وسالف من زمان ... تدار فيه سلافي
من كف ريم كغصن ... يميل بالأعطاف
يزهو بوردي خد ... يزري بورد القطاف
زمان لهو تولى ... بروضة ميناف
تسقى من السحب وبلاً ... بعارض وكاف
يا دهر رفقاً بصب ... حتى متى ذا التجافي
وعدتني بالأماني ... فكن بوعدك وافي
واسمح برؤية مولى ... سليل عبد مناف
ذاك الهمام المفدى ... وسيد الأشراف
كم حل مشكل بحث ... بلفظه الكشاف
مولاي يا بحر فضل ... طام من الجود طافي
وفائزاً بقواف ... قد أعجزت ابن قاف
يا مفرد الروم حقاً ... وجامع الألطاف
أنت الغني بمدحي ... عن كثرة الأوصاف
فلا تظن بأني ... لسابق الود جافي
لو كنت أعلم صبري ... لكن أمري خافي
لكان سعيي إليكم ... وفي حماكم طوافي
فربع غيرك عندي ... مولاي كالأعراف
إن رمت تفصيل حالي ... من الزمان المجافي
ما إن تمنيت شيئاً ... إلا أتى بالخلاف(2/142)
من جوره ضاق صدري ... فسحت في الأرياف
صحبت بالرغم مني ... قوماً من الأجلاف
حتى حللت بمصر ... من بعد قطع الفيافي
فلم أجد لي فيها ... غير الثلاث الأثافي
فلا صديق صدوق ... ولا حبيب يوافي
هذا زمان عجيب ... ما فيه خل مصافي
والفضل قد صار ذنباً ... وللرواج منافي
عسى الإله قريباً ... يمن بالإسعاف
بجاه خسير البرايا ... والآل أهل العفاف
واعذر بفضلك فضلى ... ضاقت علي القوافي
ودم بسعدك ترقى ... لمنهل لك صافي
ما غرد الورق شجوا ... على غصون الخلاف
مفكراً عهد صب ... نأى عن الأحلاف
فراجعه عنها بهذه القصيدة ومطلعها
يا خير خل مصافي ... لا زال وردك صافي
أين الزمان الذي قد ... كانه في التصافي
ما بيننا غير ود ... ما بيننا من خلاف
طوراً نرى من رياض العلوم في الاقتطاف
وتارة من بحار القريض في الاغتراف
كنا كمثل الثريا ... بصحبة وائتلاف
فصيرتنا بنات النعش الليالي الجوافي
بيتاً نروض بروض ... يوماً مع الأحلاف
وطيره في وفاق ... ولحنه في خلاف
إذ صاح منها غداف ... تعساً لذاك الغداف
فبان كل عن الألف وهي ذات آلاف
قد انصرفنا بصرف الزمان أي انصراف
كل امرئ صار في جانب من الأكناف
ألقى الزمان المعادي الأ ... حباب في الأطراف
أرجو لما فات من ذ ... لك التلاف التلافي
عساي نحو دمشق ... عما قليل أوافي
عسى ليال تقضت ... يعدن بالإسعاف
آه عليها فآه ... قد أسرعت في التجافي
مضت سريعاً وولت ... كمثل دهم خفاف
مرت كخاطف برق ... وطرن كالخطاف
تبعتها لو أعانت ... قوادمي والخوافي
قد كن شام زماني ... كالشأم في الأرياف
دمشق أعني ودامت ... مخضرة الأكناف
قد خصها الله بين البلاد بالألطاف
شوقي لها كل يوم ... يزداد بالإضعاف
أصبو إلى بداها ... بلوعة والتهاف
ولو قدرت إليها ... أسرعت رجلان حافي
نسيمها وهو ذو علة لدائي شافي
أنهارها لجيو ... ش الهموم كالأسياف
يزيد دمعي إذا ما ... ذكرت تلك الصوافي
بها حدائق فاقت ... في أحسن الأوصاف
تلك الحدائق تحكي ... صفات خلي المصافي
أخو وفاء يراعي ... إخوانه ويصافي
كل له مثبت الفضل ما له من نافي
مليك نظم ونثر ... ملاك أمر القوافي
الحل والعقد في كفه بغير خلاف
بجلق ذات فضل ... الله ذي الألطاف
يا من له كابن برد ... برد من الفضل ضافي
يا ظافراً بقواف ... أعيت عويف القوافي
أتحفتنا بقريض ... أحين بذا الإتحاف
أقرضت قرضاً وأسلفت أحسن الأسلاف
فائية ما رأينا ... مثلاً لها في القوافي
ما من سناد خليلي ... بها ومن إصراف
تزففت بكراً عروباً ... إلي خير زفاف
بختمها بلغتني ... مصونة في السجاف
صداقها صدق ودي ... حفظته في شغافي
أحببتها منذ دهر ... وأولعت بخلافي
علقتها ذات ظلم ... عديمة الإنصاف
عشقتها فغدت في ... هجري وفي إحصافي
قد أدنفتني زماناً ... وما لدائي شافي(2/143)
والآن رقت فوافت ... أعزز بطب موافي
عادت فعادت لتبري ... مريضها وتعافي
قد عاملت بعد حيف ... بالفضل والإلطاف
زارتني من غير وعد ... بعد اجتياب الفيافي
قد كنت أرقبها قائلاً عسى أن توافي
يا صاح يا من حكى طبعه الزلال الصافي
عتبت ودك في ترك الكتب والعتب شافي
لا تعذلني فهذا ... حوب الزمان المجافي
وإن يكن ذاك ذنبي ... فاصفح ومثل عافي
ما أجمل الصفح عن ذنب مجرم ذي اعتراف
والله ربي الذي لا ... تخفى عليه الخوافي
حبيسك في كل حين ... يكون في استحصاف
رأس كقاف وإن كان ... بيننا بعد قاف
لا زلت ترفل عزاً ... وثوب قدرك ضافي
قابلت جيدة قد ... أهديت بالسفساف
فاعذر وثن بأخرى ... يا واحد الآلاف
هذا ما وقفت عليه من شعره العربي وأما شعره التركي ومنشآته وآثاره فكثيرة ورحل مع الحج وحج تلك السنة وأقام بمكة فتوفي في أوائل سنة تسع وسبعين وألف عن خمسين سنة فإن ولادته في سنة ثلاثين وألف كما حررها والدي.(2/144)
عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن الشيخ عبد الله العيدروس المكنى بأبي محمد الإمام الكبير أستاذ الأساتذة وخاتمة العلماء بقطر اليمن قال الشلي في ترجمته ولد بمدينة تريم في سنة خمس وأربعين وتسعمائة ونشأ بها وحفظ القرآن واعتنى بالطلب أتم الاعتناء ولزم والده وأخذ عنه كثيراً من الفنون وهو شاب وأخذ الفقه عن الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن والشيخ حسين بن عبد الله بن عبد الرحمن بلحاج والشيخ الولي أحمد بن عبد الله بن عبد القوي ثم ارتحل لوالده بأحمد آباد في سنة ست وستين وتسعمائة وأخذ عنه علوماً شتى وأول كتاب قرأه عليه كتاب الشفاء وحج وأخذ بالحرمين عن جميع كثير ثم عاد إلى بلده تريم ونصب نفسه للنفع والإقراء وقصده الناس من أقصى البلاد وصار شيخ البلاد الحضرمية وألحق الأحفاد بالأجداد وكان عالماً متضلعاً تفسيراً وحديثاً وأصولاً وأخذ عنه خلق لا يحصون أكثرهم ممن بلغ فضله حد التواتر منهم أولاده الثلاثة محمد وشيخ وزين العابدين وحفيده الشيخ عبد الرحمن السقاف بن محمد والشيخ أبو بكر الشلي والإمام عبد الله بن محمد بروم والشيخ حسين بن عبد الله الغصن وشيخ الإسلام أبو بكر بن عبد الرحمن وشهاب الدين والقاضي أحمد بن حسين بلفقيه والشيخ عبد الرحمن بن عقيل والسيد أبو بكر بن علي خرد والشيخ نزين وحسين بأفضل وغيرهم ممن لا يحصى وكان يجلس من أول الضحى إلى منتصف النهار ومد الله تعالى له في عمره حتى انتفع به العلماء الكبار من كل قطر وكان كريماً إلى الغاية صاحب جاه وشأن واتفق أهل عصره على إمامته وتقدمه وكان له في القلوب هيبة عظيمة مع حسن الخلقة وقبول الصورة ونور الطاعة وجلالة العبادة وحسن الخلق وكان كثير الإنصات دائم العبادة وكان لا يخرج من بيته إلا لحضور جمعة أو جماعة أو لإجابة وليمة وإذا خرج من بيته يزدحم الناس على تقبيل يده ويلتمسون بركته وله كرامات كثيرة من أعظمها أن بعض أتباعه سرق بعض متاعه فتعب لذلك تعباً شديداً فلما رأى شدة تعبه قال: له اذهب إلى محل كذا واجلس فيه وأول من يمر بك أمسكه وطالبه بما سرق لك فإن أعطاك وإلا فأت به إلي ففعل ذلك فأعطاه متاعه كما هو ولم يذهب منه شيء ورأى بعض العارفين في المنام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في محراب مسجد مديحج والشيخ عبد الله صاحب الترجمة يصلي خلفه مقتدياً به والشيخ عبد الله بن أحمد بن حسين العيدروس يصلي خلف صاحب الترجمة والأولان في الرواق المسقف والأخير في الصحن والمطر نازل عليه فلما أصبح قصها على بعض العارفين فقال هذه الرؤيا تدل على كمال اتباع الشيخ عبد الله بن شيخ للنبي صلى الله عليه وسلم لكونه أقرب إليه وعلى صفته والمطر هو الكرامات لأن عبد الله بن أحمد كثير الكرامات واتفق له كثير مما يدل على رعاية الأحوال الباطنية ومحاسبة النفس ومن شرح أحواله وحكاياته من جماعته لم يعلم الوقوف على كثير من كشفه وكراماته وله مآثر كثيرة بتريم منها المسجدان المشهورإن أحدهما في طريق تريم الشمالي ويسمى مسجد الأبرار والآخر في طرفها الجنوبي ويسمى مسجد النور وبنى بقرب مسجد النور سبيلاً يملأ دائماً وغير ذلك وغرس نخيلاً كثيراً ينتفع به كثيرون من الفقراء وأبناء السبيل ومدحه كثير من الفضلاء بقصائد طنانة وبالجملة فهو عالم ذلك القطر وإمامه وكانت وفاته يوم الخميس خامس عشر ذي القعدة سنة تسع عشرة وألف وهو ساجد في صلاة العصر بعد توعك قليل وارتجت لموته البلاد وحضر لتشييعه خلائق لا يحصون وصلوا عليه عشية يوم الجمعة صلى عليه إماماً ولده الشيخ زين العابدين وحضر السلطان وأتباعه للصلاة عليه ودفن بمحل بطرف مقبرة زنبل اشتراه وهو بين المقبرة ومسجد النور وعمل عليه قبة.(2/145)
عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن عبد الرحمن بن شيخ بن عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن السقاف اشتهر جده بالضعيف تصغير ضعيف الشيخ العالي القدر العالم الرباني ولد بمدينة قسم وصحب أباه وأخذ عمن بها من الأعيان ثم رحل إلى تريم وأخذ عن جماعة من علمائها منهم الشيخ عبد الله بن شيخ وولده زين العابدين وعبد الرحمن السقاف العيدروسيين وأخذ عن الشيخ أبي بكر الشلي ثم رحل إلى الحرمين وأخذ بمكة عن السيد عمر بن عبد الرحيم البصري والشيخ العارف أحمد بن علان والشيخ تاج الهندي وأخذ بالمدينة عن كثيرين من السادة السمهوديين وعن الشيخ عبد الرحمن الخياري وغيرهم من علماء الحرم الوافدين عليه وكان كثير الطاعة والعبادة حريصاً على طلب الفائدة وأكثر اشتغاله بعلم التصوف وكان مبسوط الكف متواضعاً وللناس فيه اعتقاد عظيم وكان وفاته في سنة خمس وأربعين وألف ودفن بالبقيع.
عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ حفيد الشيخ عبد الله المذكور قبل هذا الذي اتصل ذكره الشيخ الكبير العلم الصوفي ولد بتريم سنة سبع وعشرين وألف ورباه عمه زين العابدين واشتغل بتحصيل العلوم فأخذ عن ابن عمه الشيخ عبد الله السقاف بن محمد العيدروس ولازمه في دروسه وأخذ عن الشيخ أبي بكر بن عبد الرحمن بن شهاب والعارف بالله عبد الرحمن بن محمد إمام السقاف ولبس الخرقة من كثيرين منهم والده وعمه زين العابدين والشيخ عبد الرحمن السقاف والشيخ عبد الله بن أحمد العيدروس وغير هؤلاء ورحل إلى بندر الشحر وأخذ عن جماعة من العارفين وحج وأخذ عن جماعة ثم عاد إلى بلده ودخلها في موكب عظيم وخرج شيخه عبد الرحمن السقاف بأهل السماع بالدفوف واليراع واشتهر صيته وبلغ على صغر سنه ما لم تبلغه المشايخ الكبار وبرع في كثير من الفنون ولما مات شيخه الشيخ الإمام عبد الرحمن السقاف قام بمنصب آبائه أتم قيام من إطعام الطعام وبذل الشفاعة وفي سنة ستين رحل إلى الحرمين وأخذ عن جماعة منهم الشيخ عبد العزيز الزمزمي والشيخ عبد الله بن سعيد باقشير واجتمع بالشيخ العارف محمد بن علوي وأخذ عنه ولبس منه الخرقة وجمع كتباً كثيرة من كل فن وأخذ عنه جماعة علم التصوف قال الشلي واجتمعت به بمكة واستفدت منه فوائد ثم رحل إلى المدينة وأخذ عن الصفي القشاشي ودخل معه الخلوة سبعة أيام ثم رحل إلى الهند فدخل بندر سورت وأخذ عن ابن عمه الإمام جعفر الصادق ولازمه برهة ثم سار إلى تلميذ والده الوزير العظيم حبشخان فعرف له حقه وأحله محل مهجته وزوجه بابنته ثم رحل إلى مدينة بيجاقور واجتمع بسلطانها محمود شاه ابن إبراهيم شاه فأكرمه ثم حصل من بعض الحسدة في حقه بعض كلام ففارقها ورجع إلى بلده تريم وانعقدت عليه صدارتها وقصده الناس وكان الغالب عليه الانزواء وصرف الأوقات في العبادة ثم رحل إلى بندر الشحر وصار به مقصد القاصدين وله كرامات كثيرة وما زال مقيماً ببندر الشحر حتى مات وكانت وفاته ليلة السبت خامس عشرى ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وألف.
عبد الله بن طورسون الموصوف بفيض الله طورسون زاده أحد موالي الروم المشهورين بالفضل الباهي الباهر أخذ عن كبار الأساتذة ثم وصل إلى خدمة السيد محمد معلول زاده المفتي والنقيب ولازم منه ودرس أولاً بمدرسة محمد باشا النيشاني لماتمت في جمادى الأولى سنة إحدى وألف وهو أول مدرس بها برتبة الخارج ثم ترقى في المدارس إلى أن وصل إلى مدرسة والدة السلطان بأسكدار فولي منها قضاء القدس سنة عشرة وألف ثم ولي بغداد في شهر رمضان سنة إحدى عشرة ثم قضاء أيوب في ذي الحجة سنة أربع عشرة ثم قضاء إسكدار في شوال سنة ثمان عشرة وكان عالماً فاضلاً مشهوراً بالفضل التام ماهراً في أسلوب التحرير بالألسنة الثلاثة وله شعر وإنشاء مقبولان وكان حسن الخط إلى الغاية وله تآليف سائغة دقيقة منها حاشية على شرح الجامي وصل فيها إلى بحث المرفوعات وله على التفسير تعليقات وكذلك على شروح الهداية والمفتاح ونظم الفرائض بالتركية ثم شرحه شرحاً لطيفاً وله في معجزات الأنبياء رسالة بالتركي وكان في فن الصكوك والحجج ماهراً جداً وجمع فيها صور وقفيات وتمكات وهي دستور العمل عند أهل الروم وله رسالة قلمية وكان في فن المعميات في معادلة مير وشهاب عند الفرس وقد صنع بيتاً يخرج منه مائة اسم وهو هذا(2/146)
درديمه درمان ولوردي أوله كراي سر وقد ... درده غايت درده غايت درده غايت درده حد
وكانت وفاته وهو قاض بأسكدار في جمادى الأولى سنة تسع عشرة وألف.
اليمني السيد عبد الله بن عامر بن علي الميني ذكره ابن أبي الرجال في تاريخه وقال في ترجمته هو ابن عم الإمام القاسم بن محمد بن علي كان عالماً متيقظاً ذكياً فصيحاً مجيداً في الشعر على منهاج العرب الأولى وكان شيخنا شمس الدين أحمد بن سعد الدين يثني على شعره ويقول السيد مجيد وهو كذلك ولم يظهر شعره إلا في آخر أيامه بعد موت ولده أبي تراب علي بن عبد الله فإنه أكثر فيه المراثي وناح عليه بشعر كثير ولعله كان يكره شعره في مبادي أمره وكان فيه ثلاث خصال استأثر بها منها جودة خطه فإنه فائق عجيب ومنها جودة الرماية بالبندق فإنه كان أستاذاً بارعاً في صنعة الرماية لم يسبق إليه ويعالج البنادق ومنها ركوب الخيل وكان وحيداً في ذلك وأخبرني أنه لم يترك في تعلم الكتابة والرماية مجهوداً حتى أنه بلغه أن في مشهد الإمام أحمد بن الحسين رجلين أحدهما يجيد الكتابة والآخر يجيد الرمي فبالغ في وصوله إلى ذيبين لامتحان الرجلين فوجدهما كما وصف لكنه فاق عليهما ووقف بذيبين أياماً عن رأي الإمام القاسم أرسله إلى القاضي العلامة الهادي بن عبد الله بن أبي الرجال فاستقر عنده مدة وكان لا يزال يحدث عن القاضي بعجائب من السعادة ومطاوعة حسي حاشد وبكيل له وهو كذلك فإنه ما اتفق له وكان والدنا القاضي العلامة علي بن أحمد صديق السيد المذكور لأنه تولى وادعه والقاضي علي كان يلي أمر القضاء وكان بينهما من التحيات والتواصل أمر عجيب واعتنى المترجم بالجمع بين المنتخب والأحكام في بالي أنه أراد التصرف بالاختصار لأحد الكتابين وسمي الكتاب المذكور بالتصريح بالمذهب الصحيح والاختصار الذي في ذهني تحققته فوجدته في أسانيد المنتخب تركها ولم يستحسن ذلك الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم وأشعاره كثيرة وكانت وفاته بحوت لأنه استوطنها واستوطن هجرة الحموس ببلاد غدد في سنة إحدى وستين وألف أحسبه في رجب منها والله أعلم.
عبد الله بن عبد الرحمن بن علي بن محمد الدنوشري الشافعي خليفة الحكم بمصر أحد فضلاء الزمان الذين بلغوا الغاية في التحقيق والإجادة وضربوا في الفنون بالقدح المعلى وكان لغوياً نحوياً حسن التقرير باهر التحرير ولد بمصر وبها نشأ وأخذ عن الشمس الرملي والشهاب بن قاسم العبادي والشمس محمد العلقمي وغيرهم وتصدر بجامع الأزهر وأقرأ العربية وغيرها من العلوم وانتفع به جماعة أجلاء منهم الشمس البابلي والنور الشبراملسي وغيرهما وألف تآليف كثيرة في النحو منها حاشية على شرح التوضيح للشيخ خالد وله رسائل وتعليقات ورحل إلى الروم وأقام بها مدة ثم عاد إلى القاهرة ورأس بها وبلغت شهرته حد التواتر وكان بنظم الشعر وأكثر شعره مقصور على نظم مسائل نحوية فمن ذلك جوابه عن هذين البيتين
أفدني يا نحوي ما اسم غدت به ... موانع صرف خمسة قد تجمعت
فإن زال منها واحد فاصرفنه ... أجبني جواباً يا أخي نقله ثبت
وجوابه هو هذا
نظمت نظاماً مبدعاً في اتساقه ... سؤالاً عظيماً كاللآلي تنظمت
وقد غصت في بحر من النحو زاخر ... فصغت جواباً ناره قط ما خبت
وذا أذربيجان اسم قرية أعجم ... حوى عجمة تركيبه ثم قد حوت
زيادته تعريفه كون لفظه ... مؤنثاً أعرفه سلمت من العنت(2/147)
قلت ما مشى عليه هذا السائل هو ما ذهب إليه ابن جني وفرع الموانع الخمسة فيه على كون أذربيجان معرب آذربايكان مركب وأذربيجان إقليم من بلاد العجم يقال فيه نهر يجري ماؤه ويستحجر فيصير صفايح صخر يستعملونه في البناء الأذربي نسبة إلى أذربيجان قاله المبرد والقياس أذري بلا باء كرامى في رامهرمز ابن الأثير هذا مطرد في النسب إلى الأسماء المركبة وضبط أذربيجان النووي في تهذيب الأسماء واللغات بهمز مفتوحة غير ممدودة ثم ذال معجمة ساكنة ثم راء مفتوحة ثم باء موحدة مكسورة ثم ياء مثناة من تحت ثم جيم ثم ألف ثم نون هذا هو الأشهر والأكثر في ضبطها قال صاحب المطالع هذا هو المشهور قال ومد الأصيلي والمهلب الهمزة يعني مع فتح الذال وإسكان الراء قال والأفصح القصر وإسكان الذال ورأيت من آثار الدنوشري ما نصه قال ابن مالك لك في ياء الذي وجهان الإثبات والحذف فعلى الإثبات تكون إما خفيفة فتكون ساكنة وإما شديدة فتكون إما مكسورة أو جارية بوجوه الإعراب وعلى الحذف فيكون الحرف الذي قبلها إما مكسوراً كما كان قبل الحذف وإما ساكناً ولك في ياء التي من اللغات الخمس مالك في ياء الذي وقد نظمت هذا فقلت
وفي الذي وفى التي لغات ... خمس رواها السادة الإثبات
إسكان ياء ثم تشديد أتى ... بكسر ياء مطلقاً فأثبتا
ومعه جازت أوجه الإعراب ... أيضاً وهذا جاء في الصواب
وجاء حذف الياء والتسكين ... والكسر أيضاً هكذا التبيين
فهذه الخمس أتت محرره ... واضحة مبينة مقرره
وورد عليه سؤال وهو هذا
يأيها العارف في فنه ... ومدعي الفهم وعلم البيان
ما قولكم في أحرف خمسة ... إذا مضى حرف تبقى ثمان
تراه بالعين ولكنه ... يحتاج في القلع إلى ترجمان
فأجاب عنه بجواب ضمنه لغزاً في لفظة باب وهو قوله
قد جاءني لفظ بديع علا ... يحكيه في نظم عقود الجمان
دل على فضل وعلم زكا ... يشعر باللفظ العلي المكان
ترض عن عثمان يا سيدي ... وعن جميع الصحب أهل الجنان
هذا وما اسم طرده عكسه ... يحجب بين الناس رأي العيان
وجوفه اعتل وتلقاه في ... أبواب فقه يا فصيح الزمان
وله لغزاً فيه أربع ياآت متوالية وهو
ألا يا عالماً بالصرف يا من ... لنحو علومه صرف إلا عنه
ابن لي أربع الياآت في اسم ... توالت وهي فيه مستكنة
وذكره الخفاجي في كتابيه فقال في وصفه جامع التقرير والتحرير الراقي إلى ربوة المجد الخطير تآليفه أصبح الدهر من خطابها وآثار أقلامه يتلمظ أفواه السامعين إلى ثمار آدابها وله عقائل طالما جلاها علي وأهدى باكورتها إلي إلا أنه كان يعد الشعر سهلاً ويمزج بالجد هزلاً فهو في سماء الفضل والعلوم تحمد علاه الكواكب والنجوم
وهي تخفى عند الصباح وهذا ... ظاهر في صباحه المساء
فهو جوهر نفيس في صناديق القبول وسر مكتوم في ضمائر الخمول فما كتبه إلي وله أرسلها إلي إلى القسطنطينية.
نوالك يا شهاب الدين زائد ... وبحر نداك يا مولاي زابد
تركت العبد لم تنظر إليه ... وقد عودته أسنى العوائد
متى يأتيه منك جواب كتب ... وتأتيه الصلات مع العوائد
ويكحل جفنه ميل التلاقي ... ويغمد سيف هجرك عنه غامد
وأنشد له التقي الفارسكوري في كتابه المدائح قصائد عديدة من أجودها قصيدة مطلعها
غنى الهزار فأغناني عن العود ... في روض أنس أنيق مورد العود
وطاف بالقهوة السمرا به رشأ ... مذ أطل قالطرف عوملنا بتقييد
كالبدر لكن أضلتنا غدائره ... بغدرها غادرتنا كالجلاميد
لقد رمتنا قسى من حواجبه ... وليس غير الحشا منا بمقصود
حللت فيه عذارى مذ عقدت له ... حباً فصرت بمحلول ومعقود
يميل بي حسنه نحو الهوى وأنا ... ما حلت عنه لذي عذل وتفنيد(2/148)
أشكو له فرط وجدي عل يرحمني ... يا ليته لو صغى يوماً لمكمود
أعرضت عنه لمدح الحبر سيدنا ... قاضي القضاة الذي قد فاق بالجود
وأنشد له غيره قوله
أرى في مصراً قواماً لئاما ... وهم ما بين ذي جهل ونذل
شجاعتهم بألسنة حداد ... وعيشهم بجبن وهو مقلي
وقوله في قاضي مصر وكان اسمه موسى
لقد كان في مصر الأمينة حاكم ... تسمى بفرعون وكان لنا موسى
وفي عصرنا هذا لقلة قسمنا ... لنا ألف فرعون وليس لنا موسى
قلت والقاضي المذكور هو الذي يقول فيه الشيخ عبد الرحمن العمادي مفتي الشام مؤرخاً
أهل مصر بشراكم بسعود ... لا تذوقون بعده قط بوسا
سنة الخير والهنا أرخوها ... منها فرعون أقبل موسى
وركب بعض شهود المحاكم بمصر ثوراً تشهيراً فكتب الدنوشري إليه
إن ركبوك الثور في مصر إذ ... جرست بالظلم وبالجور
فاصبر ولا تحزن لما قد جرى ... فالناس ودنيا على ثور
وكتب لتلميذه محمد بن أبي اللطف الشامي وقد ترك حضور درسه
يا سيدي يا ابن أبي اللطف ... يا صاحب الإحسان والعطف
وعدتنا وعداً وأخلفته ... وما درينا سبب الخلف
الوعد يدر نوره بالوفا ... والخلف في الميعاد كالكشف
هل كان عرقوب عديم الوفا ... أوصاك بالتسويف في العرف
ومر يوماً علىصاحبه درويش المحلي وفي يده دينار فسقط من يده فقال بديهاً
يا فائقاً بالجود بين الورى ... ومشبهاً للمزن في وكفه
مذ سقط الدينار من كفكم ... وعاد مثل البرق في خطفه
كذبت من قد قال في حقكم ... لا يسقط الخردل من كفه
وله غير ذلك وكانت وفاته بمصر يوم الأحد غرة شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وألف.
عبد الله بن الفقيه عبد الرحمن بن سراج بإجمال الحضرمي الغرفي ذكره الشلي وقال في ترجمته ذكره تلميذ الشيخ أحمد بن محمد بإجمال مؤذن الشهير بالأصبحي في كتابه مطالع الأنوار في بروج الجمال ببيان الشجرة والمناقب لآل بإجمال فقال أحد الفقهاء المحققين والعلماء العاملين أخذ الفقه عن والده ببلده الغرفة ثم ارتحل إلى الشحر فأخذ عن شيخ والده الشيخ علي بن علي بايزيد وولي إمامة مسجد الغرفة مدة ثم ولي تدريس الجامع بالشحر ثم ولي القضاء فيه فحمدت أحكامه واستمر بالشحر نحو ثماني عشرة سنة ثم عاد إلى وطنه الغرفة وولي قضاءها ودرس وانتفع به جماعة وله مؤلفات منها شرح القصيدة البستية نظم الشيخ أبي الفتح البستي التي أولها
زيادة المرء في دنياه نقصان ... وربحه غير محض الخير خسران
جمع فيه آداباً كثيرة وله تنبيه الثقات على كثير من حقوق الأحياء والأموات وله نظم حسن ونثر بديع وله فتاوى غير مجموعة وكان ذا يد طولى في استخراج الغوامض وعبارته في أجوبته حسنة جداً وكانت وفاته في شعبان سنة ثلاث وثلاثين وألف ودفن في تربة الغرفة غربي داره في الجانب الجنوبي وهو أول من دفن هناك وكان يشير إلى ذلك في حياته لأن تربة باجمال الشمالية ضاقت عن الدفن ولما مات رثاه تلميذه الأصبحي المذكور بقصيدة طويلة مطلعها
أرقت وليلي طال ما آن ينجلي ... وبان سلوى يا رفيقي بمعزل(2/149)
عبد الله بن عبد الله بن المهلا بن سعيد بن علي النيسائي ثم الشرفي الأنصاري الخزرجي قال ابن أبي الرجال في تاريخه هو العلامة المحقق المدقق الحافظ لعلوم المعقول والمنقول شيخ شيوخ زمانه وإمام الاجتهاد في أوانه رحل إليه الطلبة وانتفعوا بعلومه واستقر بباب الأهجر زماناً ووفد إليه الطلبة وكان نظيراً للسعد التفتازاني في علوم العربية والتفسير وله أجوبة مسائل تدل على علم واسع ومن تلامذته الإمام القاسم وأكثر الفضلاء في زمانه عيال عليه وتشوق إليه الوزير جعفر عند إقامته بصنعا فلم يتيسر له لقاؤه حتى نكب بنكبة من الولاة بمطالبته أو مطالبة شركائه في المال بخراج فتمتع ورحل إلى الوزير فعدها الوزير من سعادا الأيام فأجله وأعظم محله وساق إليه من النفقات ما يجل خطره واستمر على ذل كورسم له بإعفاء شركائه من المطلوب منهم وكان يعده الوزير عين أهل الحضرة مع كثرة العلماء فيهم واتفق أن الوزير أراد امتحان أهل حضرته بحديث اختلقه من عند نفسه نمق ألفاظه فلما أملاه ابتدر الحاضرون من الفقهاء لكتابته وأثنوا على الوزير بروايته وقالوا نتشرف بعلو أستاذه فلم يتحرك صاحب الترجمة لشيء من ذلك فسأله لم لم تكتب كالأصحاب فقال أنتم قد أفدتم والجماعة كتبوا ونحن حفظنا فقال هذا والله هو العالم وأثنى عليه وذكر لهم أن الحديث لا أصل له وإنما المراد به الاختبار وكان له أولاد علماء نبلاء وله أحفاد فيهم الفضيلة ولاعلم ما منهم إلا عالم شهير مصنف مرجوع إليه في التحقيق وحل المشكلات وقال سيدنا أحمد بن يحيى بن حنش سألت الفقيه العلامة بدر الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله بن المهلا عن أحوال والده ومشايخه ووفاته فأجاب بأنه ولد في صفر سنة خمسين وتسعمائة في بلد الدعلية نم الشرف الأعلى وطلب العلم في حداثته وأخذ عن والده وعن جماعة من العلماء الأكابر وأدرك السيد عبد الله بن قاسم العلوي ولم يتأت له الأخذ عنه وارتحل للعلم إلى الأقطار صحبة والده وأخذ فنون العربية عن عبد الله وأخيه إبراهيم ابني الراغب وعن السيد هادي الوشلي ثم ارتحل إلى الشرف وارتحل لقراءة الفقه إلى غرفة عفار وقرأ على القاضي علي بن عطف الله ثم ارتحل إلى الظفر وقرأ البحر على السيد أحمد بن المنتصر الغربابي ثم تزامل هو والإمام الحسن بن علي في قراءة العضد والكشاف على السيد الهادي الوشلي وكانت قراءتهما عليه في الدعلية ثم ارتحل لطلب الحديث فقرأ كتباً على والده وعلى القاضي علي بن عطف الله وسافر إلى جبل تنس وقرأ البخاري ومسلماً وتجريد الأصول وغيرها على لافقيه عبد الرحمن النزيلي وأجازه ثم رجع إلى الشرف وأخذ عنه الإمام القسم والسيد أمير الدين أصول الفقه وطلع إلى صنعا عام خمس وتسعين وتسعمائة وأقام فيها أياماً وأخذ عنه جماعة ثم انتقل بأولاده إلى الأهجر من بلاد كوكبان وأقام فيه تسع سنين وارتحل إليه الطلبة من صنعا والأهثوم وبلاد أنس والخمية والشرف وبشام وكوكبان واستفاد منه خلق كثيرون في خلال ذلك قرأ الرسالة الشمسية على الشيخ نجمك الدين البصري الواصل إلى اليمن سنة ألف ثم رجع إلى وطنه وأقام بقية عمره يقرى وله كرامات كثيرة منها أن بعض علماء سادة تهامة اليمن رآه في النوم بصفته الحسنة وهيئته الجميلة ثم رأى بعد ذلك قائلاً يأمره بزيارة العلامة عبد الله المهلا فقال لا أعرفه فقال هو الرجل الذي رأيته في المنام وبلده الشجعة من الشرف وبيته بالقرب من باب البلد وهو أول من تراه إذا بلغت إليها فارتحل الرجل حتى بلغ أطراف الشرف وسأل عن بلد تسمى الشجعة فقيل له بلد العالم الشهير عبد الله المهلا فسر واستبشر وعلم صدق رؤياه التي أمر فيها بزيارته واغتنامها لقرب أجله وكان أول من رآه عند دخولها بالصفة التي رآه عليها في منامه فأكب عليه يقبل أقدامه ويبكي ويسأله الدعاء ثم أسر برؤياه طنه وأقام بقية عمره يقرى وله كرامات كثيرة منها أن بعض علماء سادة تهامة اليمن رآه في النوم بصفته الحسنة وهيئته الجميلة ثم رأى بعد ذلك قائلاً يأمره بزيارة العلامة عبد الله المهلا فقال لا أعرفه فقال هو الرجل الذي رأيته في المنام وبلده الشجعة من الشرف وبيته بالقرب من باب البلد وهو أول من تراه إذا بلغت إليها فارتحل الرجل حتى بلغ أطراف الشرف وسأل عن بلد تسمى الشجعة فقيل له بلد العالم الشهير عبد الله المهلا(2/150)
فسر واستبشر وعلم صدق رؤياه التي أمر فيها بزيارته واغتنامها لقرب أجله وكان أول من رآه عند دخولها بالصفة التي رآه عليها في منامه فأكب عليه يقبل أقدامه ويبكي ويسأله الدعاء ثم أسر برؤياه إلى بعض أولاده أظنه عبد الحفيظ وأقام مدة سمع فيها شيئاً من العلوم وحضر مجالس العلماء وأظنه شهد دفنه والصلاة عليه ومنها ما ذكره حفيده العلامة الناصر بن عبد الحفيظ من قائل يقول في المنام لم يبق من عمر جدك عبد الله غير تسع وعشرين ليلة وكان كما قال ومنها ما رآه بعض السادة قبل موته نم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده ذاهباً به نحو الموضع الذي فيه ضريحه بالإشغاف ثم إلى المدينة وإلى هذا أشار ولده القاضي عبد الحفيظ بقوله ورأى تقي البيت ومنها الكرامة الشهيرة من بلوغه إلى قريب مكة على مرحلة أو مرحلتين وكان يتخلف عن القافلة للصلاة ويلحق بها على حمار موصوف بسرعة المشي فأبطأ في بعض الأيام عن اللحوق بالقافلة ركوناً منه على ما جرت عادته به فركب حماره فلم يقدر على المشي البتة فلما علم تعذر مشيه وفوت القافلة وعدم معرفته بالطريق تحير وصلى ركعتين ودعا الله تعالى وأقبل على التلاوة فإذا برجل أخضر اللون حسن القامة ينحط عن جبل قريب منه ويسرع المشي نحوه فحياه باسمه وقال أبطأت عن القافلة فاقف أثري وحمل ما معه من أشياء يستصحبها فوقع في نفسه انقطاعه عن الناس وأن هذا رجل لا يدري من هو فالتفت إليه متبسماً وأخبره بما وقع في نفسه فاطمأن وما زال يحدثه حتى بلغ به بركة ما جن في مكة وأخذ له ماء اغتسل به وأعلمه بالحرم الشريف والطريق إليه بعد أن أحرم من الميقات وقال إن لقيتني بعد ذلك وإلا فأنا أستودع الله تعالى دينك وأمانتك وخواتيم عملك وودعه ومضى ولم يره بعد ذلك وكان من العجائب مصادفة الحمار على أحسن أحواله بعد مدة في موضع الانقطاع انتهى وكانت ترد إليه كتب العلماء في عصره لاستيضاح المشكلات في كل فن من جميع الجهات وبينه وبين العلامة محمد بن أحمد الرومي الحنفي والعلامة سعد الدين وأخيه علي ابني الحسين المسوري مكاتبات ومحاورات طويلة ذكرها ابن أبي الرجال في تاريخه وكانت وفاته في ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وألف بالشجعة وقبره بالإشعاف بها وكان عمره ثمانية وسبعين سنة ورثاه بعد موته جماعة عظام وكان من جملتهم ولده القاضي عبد الحفيظ فقال يرثيه بقصيدة مطلعها واستبشر وعلم صدق رؤياه التي أمر فيها بزيارته واغتنامها لقرب أجله وكان أول من رآه عند دخولها بالصفة التي رآه عليها في منامه فأكب عليه يقبل أقدامه ويبكي ويسأله الدعاء ثم أسر برؤياه إلى بعض أولاده أظنه عبد الحفيظ وأقام مدة سمع فيها شيئاً من العلوم وحضر مجالس العلماء وأظنه شهد دفنه والصلاة عليه ومنها ما ذكره حفيده العلامة الناصر بن عبد الحفيظ من قائل يقول في المنام لم يبق من عمر جدك عبد الله غير تسع وعشرين ليلة وكان كما قال ومنها ما رآه بعض السادة قبل موته نم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده ذاهباً به نحو الموضع الذي فيه ضريحه بالإشغاف ثم إلى المدينة وإلى هذا أشار ولده القاضي عبد الحفيظ بقوله ورأى تقي البيت ومنها الكرامة الشهيرة من بلوغه إلى قريب مكة على مرحلة أو مرحلتين وكان يتخلف عن القافلة للصلاة ويلحق بها على حمار موصوف بسرعة المشي فأبطأ في بعض الأيام عن اللحوق بالقافلة ركوناً منه على ما جرت عادته به فركب حماره فلم يقدر على المشي البتة فلما علم تعذر مشيه وفوت القافلة وعدم معرفته بالطريق تحير وصلى ركعتين ودعا الله تعالى وأقبل على التلاوة فإذا برجل أخضر اللون حسن القامة ينحط عن جبل قريب منه ويسرع المشي نحوه فحياه باسمه وقال أبطأت عن القافلة فاقف أثري وحمل ما معه من أشياء يستصحبها فوقع في نفسه انقطاعه عن الناس وأن هذا رجل لا يدري من هو فالتفت إليه متبسماً وأخبره بما وقع في نفسه فاطمأن وما زال يحدثه حتى بلغ به بركة ما جن في مكة وأخذ له ماء اغتسل به وأعلمه بالحرم الشريف والطريق إليه بعد أن أحرم من الميقات وقال إن لقيتني بعد ذلك وإلا فأنا أستودع الله تعالى دينك وأمانتك وخواتيم عملك وودعه ومضى ولم يره بعد ذلك وكان من العجائب مصادفة الحمار على أحسن أحواله بعد مدة في موضع الانقطاع انتهى وكانت ترد إليه كتب العلماء في عصره لاستيضاح المشكلات في كل فن من جميع الجهات وبينه وبين العلامة محمد بن أحمد الرومي الحنفي والعلامة سعد الدين وأخيه علي ابني الحسين المسوري مكاتبات ومحاورات طويلة ذكرها ابن أبي الرجال في تاريخه وكانت وفاته في ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وألف بالشجعة وقبره بالإشعاف بها وكان عمره ثمانية وسبعين سنة ورثاه بعد موته جماعة عظام وكان من جملتهم ولده القاضي عبد الحفيظ فقال يرثيه بقصيدة مطلعها(2/151)
يا غيث يا وكاف يا سحاح جد ... متعطفاً متردداً بهناء
قبراً على الإشعاف جل ضريحه ... مستوطناً علامة العلماء
بالسفخ من جبل العروس ومربع الشرف التي فاقت على الأنحاء
بدر منير للأنام إذا هم ... في ليلة من جهلهم ظلماء
أقلامه مثل الأسنة في الوغى ... والحبر أفضل من دم الشهداء
إن الذي دفنوه بين ظهورهم ... متبركين به من السعداء
كان الزمان إذا بدا بقبيحه ... وبدا له ولي على استحياء
إن مشكل في أي فن قد بدا ... أبدى ظهوراً فيه بعد خفاء
سبعين فناً حازها في صدره ... لله ذلك سيد الكملاء
يا تبره وافقت بحراً زاخراً ... هذا لعمري أعجب الأشياء
ورأيت من ملأ البلاد بعلمه ... من مكة الغرا إلى صنعاء
لكن وسعت العلم إذ هو ميت ... لو كان حياً ضاق كل فضاء
ووفاته ثلم لدين محمد ... ومعاشر الأشراف والرؤساء
ما كل سال بعد موت نظيره ... إلا شبيه بهيمة عمياء
وإذا بدا مني سلو فهو من ... حمدي على السراء والضراء
يأيها الرجل الذي بهر الورى ... علماً وحلماً فائق النظراء
أبقيت ذكراً للمهلا طيباً ... يا طيب الآباء والأبناء
وتركت علماً نافعاً فينا وفي ... أهل الزمان زماننا الأحياء
فجزاك ربك ما جزى أحبابه الأخبار عنا أفضل الأجزاء
ومن العجائب أن رأيت محمداً ... في عامك الماضي أتى بوفاء
ورآك في ثوبي منامك هاجعاً ... فوقاك عن برد بخير وقاء
ورأى فتى للشافعي أنه ... أضحى النبي الهادي من الرفقاء
ورأى تقي فاطمي أنه ... صلى عليه الله كل مساء
ماض بك السهل الرحيب بنفسه ... نحو المدينة طيبة الفيحاء
فسررت ثم خشيت فرقتك التي ... هي عندنا من أعظم البلواء
لله درك يا حمام الأيك كم ... أحسنت حفظاً عهدة الآباء
إني نظيرك في وفائي بعده ... أيضاً وفي حزني وبعض بكائي
لكن تسلينا بموت محمد ... صلى عليه طيب الأسماء
والآل ما طلعت شموس علومه ... تنصب في الآفاق والأنحاء
السيد عبد الله بن علوي باذنجان علوي أحد أولياء حضرموت ذكره الشلي وقال في ترجمته ولد بظفار في أوائل سنة تسع وتسعين وتسعمائة ونشأ بها وكان أمياً لا يقرأ وله سيرة حميدة مرضية صحب شيخنا السيد عقيل باعمر وانتفع به وفاضت عليه بركات أنفاسه ورأى بعض السادة الأخيار في المنام كأنه جالس وعنده بعض الصالحين فقال ذلك الصالح من أراد أن ينظر إلي ولي فلينظر إلى هذا وأشار إلى صاحب الترجمة ومن كراماته أنه كان إذا أذاه أحد أصيب إما في حال أو مآل وقال مرة في رجل وقد أذاه يقتل فقتل بعد مدة يسيرة فلما قتل قال ما أحد يستوفي به قصاصاً ولا دية فكان الأمر كما قال ومنها أن امرأة أتت إلى زرع له وأخذت منه حمولة قصب على رأسها وبقيت قائمة فكأنها لا تستطيع المشي ثم بعد ساعة جاء صاحب الترجمة وهي لا تعرفه فقال لها اذهبي لئلا يراك صاحب الزرع يعني نفسه وكانت وفاته في سنة اثنتين وستين وألف.(2/152)
عبد الله بن علي بن حسن بن الشيخ علي أحد سادات اليمن المتفق على ولايتهم وجلالتهم قال الشلي في ترجمته ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن وأخذ عن مشايخ عصره منهم الشيخ زين بن حسين بافضل والسيد الجليل عبد الله بن سالم خيله والشيخ شهاب الدين ثم رحل إلى بندر الشحر وتفقه بها على الفقيه المحقق نور الدين علي بن علي بايزيد ولازمه فيه حتى برع وكذلك أخذ عن هؤلاء التصوف والعربية ودخل إقليم السواحل واجتمع بعلمائها وأخذ عنهم وأخذ عنه بعضهم ورحل إلى الديار الهندية وقصد أحمد أباد وأخذ عن شيخ الإسلام شيخ بن عبد الله العيدروس وقرأ عليه بعض مؤلفاته وألبسه الخرقة الشريفة ولازمه مدة مديدة ثم أمره بالرحلة إلى السيد الكبير عمر بن عبد الله العيدروس ببندر عدن فرحل إليه وقرأ عليه عدة فنون وحكمه وألبسه الخرقة ولازمه حتى صار علماً من الأعلام وصادف باليمن قبولاً عظيماً وكان له مجاهدات ورياضات وظهر له إبليس في صورة عبد أسود كاشفاً ركبتيه على عادة بادية تلك الجهة وقال له ما عبد أحد مثل عبادتك فطرده ثم توطن قرية الوهط وقصده الناس وانتهت إليه تربية المريدين واجتمع عنده خلق من المنقطعين وتخرج به جماعة من الأولياء والصلحاء منهم الشيخ العارف بالله شيخ بن عبد الله بن شيخ العيدروس صاحب دولة أباد والسيد الولي محمد بن علوي نزيل الحرمين والإمام الجليل عبد الرحمن بن عقيل نزيل المخا والسيد الكبير أبو الغيث بن أحمد صاحب الحج والسيد العظيم عبد الله المساوي صاحب أب والسيد عقيل بن عمران صاحب ظفار وغيرهم وكان ينفق نفقة الملوك وربما أعطى المال الجزيل لفقير واحد وكان له قبول تام عند الوزراء والأمراء وشفاعته لا ترد مهما كانت وله إنشاء بليغ ونظم مستحسن جمعه في ديوان مشهور بين الناس وله كرامات وخوارق منها أنه لما دخل السواحل طلبوا منه العشور والمكس فامتنع من إعطائه لكونه حراماً فقال الوالي لا بد من أخذ ذلك فتناول السيد الحمل وكان لا يحمله إلا أربعة رجال بيده ورفعه بيده كأنه كرة ورمى به فتنحى عنه فخاف الوالي وطلب العفو منه واعتذر إليه ومنها أنه دعا لجماعة من الفقراء بالغنى فأغناهم الله وطلب بعضهم منه الدعاء بأن ييسر الله له الحج فدعا له فحج وكان يكره إظهار الكرامات ويأمر أصحابه المخصوصين بعدم إظهارها ويقول عليكم بالاستقامة فإنها أعظم كرامة ويقول صاح متعين الأولياء بأخذ العهد عليهم أن يستردوا ما عندهم بعد الأربعين وألف ولم يزل على حالته إلى أن توفي وكانت وفاته في سنة سبع وثلاثين وألف في قرية الوهط وقبره بها ظاهر مقصود بالزيارة وقضاء الحاجات ومن استجار به نجا من جميع المخاوف وعمل محمد باشا حاكم اليمن على قبره قبة عظيمة والوهط قرية قريبة من لحج عدن بإقليم اليمن وهي غير الوهط المشهورة بإقليم الحجاز قريبة من الطائف وهي المذكورة في كتب اللغة قال صاحب معجم البلدان الوهط بفتح أوله وسكون ثانيه وطاء مهملة المكان المطمئن المستوي ينبت العضاه والسمر والطلح وبه سمي الوهط وهو مال كان لعمرو بن العاص بالطائف وهو كرم كان على ألف ألف خشبة شراء كل خشبة بدرهم انتهى ولما رآه سليمان بن عبد الملك قال هذا أكرم مال وأحسنه لولا هذه الحرة في وسطه فقالوا هذه زبيبة جمع في وسطه وهو الآن قرية وبساتين.(2/153)
السيد عبد الله بن علي بلفقيه بن عبد الله العيدروس صاحب الشبيكة بمكة المشرفة قال الشلي في وصفه كان من عباد الله الصالحين أهل الولاية وله كرامات خارقة منها أن بعض أصحابه الفقراء جاء ليلة عيد الفطر وهو ذو بنات وثيابهن عند الصباغ لم يقدر على أجرته وشكا حاله إليه فقال اذهب إلى المسفلة لنا هناك نذر خذه فخرج فإذا هو برجل بدوي يسأل عن بيت السيد فقال له أنا خادمه فقال هذه ناقة نذر له فأخذها وباعها وأعطى الصباغ أجرته وعيد بالباقي ومنها أن رجلاً من أصحاب السيد هاشم الحبشي أمر بقتله مع آخرين الشريف إدريس وهو بالطائف فلما مروا به في سوق المعلاة رآه أخوه مكتوفاً فجاء إلى السيد هاشم وبكى وقال له ذهبوا بأخي للقتل فقال ليس هذا من وظيفتي فذهب به السيد هاشم إلى صاحب الترجمة فدعا الله تعالى وقال يسلم من القتل إن شاء الله تعالى فلما أصبحوا خرجوا بهم من الحبس إلى محل القتل فتعب أخو الرجل وأتى للسيد وهو يبكي فقال هل لا بأس على أخيك فبينما هم إذ جاء رسول من عند الشريف إدريس بفك الرجل المذكور وسببه أن الشريف كان يصلي المغرب فدخل عليه صاحب الترجمة ومعه الرجل فقال له فك هذا الرجل فلما فرغ من الصلاة قال للحاجب اطلب السيد عبد الله فقال الحاجب ما دخل علي أحد فأرسل إلى هذا الفريق أن السيد عبد الله ضيفنا أرسلوه لنا فسألوا عنه في الفريق فلم يوجد فأرسل في الحال قاصداً يفك الرجل فأتى وقد قتل أصحابه فلما هموا بقتله إذا هم بالرسول فأطلقوه وكانت وفاته في سنة خمسين وألف ودفن بقبة أبيه وجده بالشبيكة.
عبد الله بن عمر بن عبد الله بن أحمد باجمال الحضرمي ذكره الشلي وقال في وصفه ذو المقامات الفاخرة والأحوال الظاهرة أخذ العلم عن الشيخ الفقيه عبد الرحمن بن سراج وغيره وجد في الطلب واجتهد في العبادات واستغرق بها حتى فتح الله تعالى عليه بالمقامات العلية ثم تصدى للإرشاد وشاع ذكره فقصده الناس وكان شفوقاً على الناس حسن التودد إليهم وكانت كتب الرقائق والسلوك وصفات رجال الطريق كأهل الرسالة نصب عينيه واتفق أهل بلده على أنه أكملهم علماً وعملاً وزهداً وكرامً وورعاً وتواضعاً ومروءة وصبراً وحلماً وله كرامات خارقة وكان لا يرد سائلاً كائناً ما كان ويتصدق بغالب أمواله البر وكانت صدقاته كثيرة وحصل كتباً كثيرة ووقفها وله مؤلفات نافعة في مهمات الدين واختصر الزواجر لابن حجر وكان إذا جاءه صاحب الدنيا استحى من حاله ويزهد في الدنيا وإذا جاءه الفقير استقوى قلبه وزادت رغبته في الآخرة ولم يتزوج لاستغراقه في مقام الإحسان وكانت له أحوال عجيبة فتارة يبرز للناس ويدرس في العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه وكتب الرقائق وتارة يحتجب عن الناس أشهراً وأياماً ولما قربت وفاته وردت عليه حالة عظيمة واعتراه من الهيبة والأنوار ما يدهش العقول فأرسل إليه بعض المريدين الصادقين الأولياء وهو في ذلك الحال ليحمل عنه بعض ما نزل به من الأحوال فقال للرسول قل له لو وقعت عليك ذرة لقتلتك وتوفي من غير مرض وانخسف القمر ليلة وفاته ووقعت الهيبة في قلوب الحاضرين فسكتوا ولم ينطقوا بكلمة ولم تأت امرأة إلى البيت الذي توفي فيه وحضر الناس من البلاد التي وصل إليها خبر وفاته وازدحم على ماء غسله وكانت ولادته في يوم الجمعة لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وتوفي صبح يوم الثلاثاء ثالث عشر شوال سنة ثمان عشرة وألف.(2/154)
عبد الله بن عمر الشهير بخواجه زاده قاضي العسكر القسطنطيني المولد الصدر الكبير الألمعي الأديب الفاضل كان من الأذكياء المشهورين له التفوق في الأدب والتبريز في الشهامة وكان يحفظ كثيراً من أشعار العرب وأمثالهم ووقائعهم ويحاضر بها وسما حظه في طليعة عمره لتعين والده بين علماء الدولة وقربه من السلطنة لكونه كان معلم السلطان عثمان وملتفته ومرغوبه ونشأ ولده هذا واشتغل على علماء عصره حتى ساد واشتهر بالفضل والأدب ولازم من المولى شيخ الإسلام يحيى بن زكريا ثم درس بالمدارس العلية وتوصل في مدة قليلة إلى المدرسة السليمانية وصار قاضياً بأدرنة بلا واسطة واتفق له أنه اجتمع بشيخ الإسلام المولى أسعد فأشعره بأنه استكثر ذلك عليه فقال له ليست بأول قارورة كسرت في الإسلام يشير بذلك إلى ما وقع للمولى المذكور من صيرورته ابتداء قاضياً بأدرنة وذلك لمكانة والده عند السلطان محمد لكونه كان معلماً له ثم بعد ذلك صار قاضي دار السلطنة وعزل عنها في مقتل السلطان عثمان وطالت مدة عزله حتى قاربت عشر سنوات ثم صار قاضي العسكر بأناطولي وقبل عليه السلطان مراد فرقاه إلى قضاء عسكر روم إيلي وسافر في خدمة السلطان المشار إليه إلى روان ثم طلب وهو في الصدارة قضاء القاهر فوجه إليه وورد دمشق في ثالث جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وألف وتوجه إلى القاهرة فابتلى عند دخوله إليها بالإسهال ولم تطل مدته حتى توفي في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.
عبد الله بن محمد بن عبد الله المصري الشيخ العابد الزاهد المعروف بابن الصبان لأن والده كان بيبع الصابون في باب زويلة من أبواب القاهرة ذكره المناوي في طبقات الأولياء وقال في ترجمته نشأ وقرأ القرآن عند ابن المناديلي بباب الخرق ثم غلب عليه الحال وهو في سن الاحتلام فكان يهيم ويصعق أحياناً ثم حبب إليه لزوم مجلس الشيخ محمد بن أحمد بن محمد الملقب كريم الدين الخلوتي فأخذ عنه واختص به وأرشده كريم الدين إلى سكنى زاوية الشيخ دمرداش فناب عن بعض أولاد الشيخ في عدة وظائف وأقرأ بها الأطفال وهو في خلال ذلك يلازم مجلس شيخه ويعرض عليه وقائعه ويقص عليه رؤياه وهو يرقيه في المراتب ويخليه وتكرر له ذلك فاستأذن الشيخ يوماً أن يترك أكل الحيوان وما خرج منه فمنعه ثم أذن فمكث كذلك مدة فرق حجابه وقويت روحانيته وتمثلت له الأرواح وخاطب وخوطب ثم حصل له لمحة من التجلي البرقي فهام وغاب عن حواسه فوكل به الشيخ من لازمه ليضبط حاله وصار يأكل كل يوم عدة من رؤس الغنم ويشكو الجوع والنار ثم انحل ذلك وأجازه الشيخ بالتربية والإرشاد ولام مات الشيخ شرع يلقن ويخلي فتشوش جماعة الشيخ وقالوا ولد ابنته سيدي محمد أحق بإرث المشيخة وتوجه جمع منهم إلى زاوية دمرداش فضربوا صاحب الترجمة وجماعته وأخرجوهم من الخلوة فشكاهم إلى شيخ الحنفية علي بن غانم المقدسي وشيخ الشافعية الشمس الرملي فأرسلا يقولان إن لم يحصل الكف عن هذا الرجل وإلا أخبرنا الحاكم بما نعلمه من أحوال الفريقين فكفوا وبني الأمر على السكون ولم يزل أمر الشيخ عبد الله في ازدياد حتى اشتهر بالمكاشفات وشوهد له كرامات شتى من جملتها أنه دخل بيته ليلاً في الظلمة فأضاء هيكله وصار كالشمعة ثم تحول م نزاوية الشيخ دمرداش وسكن بمدرسة ابن حجر بخط حارة بهاء الدين فأقبل الناس عليه أكثر واشتهر ذكره وبعد صيته ولم يزل يسوح في رياض الأذكار إلى أن توفي وكانت وفاته في سنة إحدى بعد الألف وهو في عشر التسعين ودفن تجاه المدرسة وله عدة رسائل في الطريق واستخلف أخاه الشيخ محمد رحمه الله تعالى.(2/155)
عبد الله بن محمد المصري الحنفي إمام مدرسة شادي بك خارج دمشق بمحلة القنوات كان فاضلاً وله معرفة بعدة فنون أجلها العربية وفروع الفقه مع مشاركة في أصول الفقه إلى غير ذلك وكان حسن الأخلاق ضاحك السن عادم الكلفة سمح الكف مع ضيق يده قرأت بخط عبد الكريم بن محمود الطاراني في مجموع ترجم فيه بعض من أدركهم من العلماء ومنهم صاحب الترجمة قال في ترجمته ورد إلى دمشق من مصر في سنة أربع وسبعين وتسعمائة واختار الإقامة بها فتديرها ولازم علماء دمشق مدة واستمر بها زماناً إلى أن اشتهر وصار خطيباً بجامع العداس بمحلة القنوات وإماماً بمدرسة شادي بك ودرس بالجامع الأموي أياماً قال وأخبرني أنه قرأ العلم زماناً بمصر ومن جملة أشياخه الذين أخذ عنهم وأجازوه بالإقراء الشيخ الإمام علي بن غانم المقدسي وشيخ الأدب محمد الحنبلي المعروف بالفارضي صاحب المقصورة في مديح مفتي الروم علامة الوجود المولى أبي السعود وكان مدة إقامته يظهر كمال الشوق إلى زيارة البيت الحرام والتثام ثرى القبر الشريف قال الحسن البوريني وسمعته يلهخ بهذه الكلمات
أرى نفسي بأشواق رهينه ... لقبر قد ثوى وسط المدينة
وللبيت الحرام وما حواه ... من الدرر المعظمة الثمينة
فاتفق أنه في سنة أربع بعد الألف ولي إمامة الركب الشامي وحج فلما رجع مع الحاج إلى منزلة الجديدة بين الحرمين الشريفين وأراد الرحلة منها قدمت له ناقة من جمال السلطنة فلما أراد ركوبها وقصته فمات شهيداً عن نحو ثمانين سنة ودفن ثمة رحمه الله تعالى.
عبد الله بن محمد بن محيي الدين عبد القادر بن زين الدين بن ناصر الدين النحراوي الحنفي أوحد الفضلاء الفقهاء وأجل أصحاب التخاريج في مذهب النعمان الذين تكحلت بحبرهم عيون الفتوى في عصره ارتفع إلى ذرى الفضائل وسابق في حلبة العلوم فحاز قصب الفواضل أخذ عن والده فسرى في ليل المجد فباكره الفلاح وحط رحله في شأو العلم فما ترك من أبيه مغدى ولا مراح وأفتى ودرس ونزل في ساحة الفضل وعرس وأخذ عنه الخلق الكثير وانتفع به الجم الغفير وكانت وفاته بمصر في أحد الربيعين سنة ست وعشرين وألف عن نحو خمسين سنة.
السيد عبد الله بن محمد بن عبد الله الحسيني المغربي الأصل ثم القاهري الشافعي المعروف بالطبلاوي لنزوله بمصر عند الشيخ العلامة ناصر الدين الطبلاوي الشافعي وكان أعظم شيوخه الشيخ المذكور أخذ عنه عدة علوم منها علم القراآت وساد فيها سيادة عظيمة بحيث أنه كتب فيها حواشي على شرح الشاطبية للجعبري بخطه جردها تلميذه الشيخ سليمان اليساري المقري وانفرد بعلم اللغة في زمنه على جميع أقرانه بحيث أنه كتب نسخاً متعددة من القاموس واختصر لسان العرب وسماه رشف الضرب من لسان العرب لم يكمل وكان عارفاً بارعاً بعلم العروض وله شرح على تأنيس المروض في علم العروض وله شرح على عقود الجمان في المعاني والبيان تأليف الجلال السيوطي وله حاشية على حاشية العلامة البدر الدماميني على مغني اللبيب لابن هشام وسئل عن معنى بيت النهرواني وهو
فيك خلاف لخلاف الذي ... فيه خلاف لخلاف الجميل
فأجاب بقوله من أبيات
إن كلام النهرواني الذي ... ذكرتموه فيه مدح جليل
تراه من لفظ خلاف حوى ... أربعة منها خلاف الجميل
يعني قبيحاً قبله ثالث ... خلافه وهو جميل نبيل
خلافه الثاني قبيح ففي ... خلافه الأول مدح جميل
ورأيت له ترجمة بخط صاحبنا الفاضل اللبيب مصطفى بن فتح الله قال فيها فرع نما من أفخر نسب جامع بين فضيلتي العلم والحسب
ألا إن مخزوماً لها الشرف الذي ... غدا وهو ما بين البرية واضح
لها من رسول الله أقرب نسبة ... فيالك عزا نحوه الطرف طامح(2/156)
كان من المشتغلين بالعلم فقهاً وأصولاً ومن أعيان الأدباء نثراً ونظماً وكان خطه يضرب به المثل في الحسن والصحة وكتب بخطه من القاموس نسخاً هي الآن مرجع الصريين لتحريه في تحريرها وكان كريم النفس حسن الخلق والخلق من بيت علم ودين وله شيوخ كثيرون منهم العلامة أبو النصر الطبلاوي والشمس الرملي والشهاب أحمد بن قاسم العبادي وغيرهم من أكابر المحققين واستمر حسن السيرة جميل الطريقة إلى أن نقل من مجاز دار الدنيا إلى الحقيقة وشعره مشهور ونثره منثور ولواء حمده على كاهل الدهر منشور وله قصيدة مدح بها أستاذه الطبلاوي المذكور والتزم في قوافيها تجنيس الخال وهي مشهورة ومطلعها يا سلسلة الصدغ من لواك على الخال وذكرهالخفاجي وأخاه السيد محمداً وأثنى عليهما كثيراً وكانت وفاة السيد عبد الله في صبح يوم الاثنين مستهل ذي الحجة سنة سبع وعشرين وألف وصلي عليه بالأزهر ودفن بالقرب من العارف بالله تعالى سيدي عمر بن العارف وقد ناهز السبعين وكان مولده بقرية يقال لها أبو الريش بالقرب من دمنهور الوحش بالبحيرة.
عبد الله بن محمد بن أحمد بن حسن بروم ابن محمد بن علوي الشيبه ابن عبد الله بن علي بن الشيخ عبد الله باعلوي المسند الأخباري العلم الصوفي ولد بتريم وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين وقرأ القراآت وأخذها عن جميع ثم اشتغل بعلوم الدين فأخذ عن الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس ولازمه في جميع دروسه وتفقه على قاضي تريم وفقثهها القاضي عبد الرحمن بن شهاب وعلى الشيخ الإمام محمد بن إسماعيل بافضل وسمع من كثيرين وصحب جماعة من الأكابر واشتغل بعلوم الصوفية ثم ارتحل إلى اليمن والحجاز وجاور بالحرمين سنين وأخذ بهما عن جماعة وكان كثير الاعتمار والصلاة والطواف وتلاوة القرآن قليل الاجتماع بالناس ثم رجع إلى وطنه تريم وأخذ عنه خلق كثير لا سيما الحديث والتفسير وكانت تعتريه حدة عند المذاكرة وكان يحضر درس الشيخ علي زين العابدين ويتكلم بحضرته في المسائل المشكلة فينصت لما يقوله وكان زين العابدين يحبه ويثني عليه وكذلك كان والده عبد الله بن شيخ يعظمه ويكرمه وكان قليل الغلال كثيراً لعائلة وكان لا يخاف لومة لائم في أمر الدين ولا يقبل من أرباب الدولة هدية وكان سعى في تولية أمر أوقاف آل عبد الله باعلوي فولاه السلطان أمرها وأنفق على الفقراء منهم ومن غيرهم واستمر على ذلك مدة يسيرة ثم سعى كل واحد في رد ما كان تحت يده من الوقف ورجع على ما كان عليه أولاً وجرت في ذلك أمور ثم سعى له الشيخ زين العابدين في إمامة المسجد الجامع ورتب له ما يكفيه واستمر على حاله حتى مات في سنة تسع وثلاثين وألف وقد أناف على السبعين ودفن بمقبرة زنبل.
عبد الله بن محمد قاضي القضاة بأم الشام المعروف بالطويل الفقيه المتشرع الدين الخير المتقي ولي قضاء حلب ثم دمشق وورد إليها في سنة ست وسبعين وألف واجتهد في إجراء الأحكام والتصلب في أمر الشرع وكان يغلب عليه السكون وهو في العفة والاستقامة أعظم من رأيناه وسمعنا به وكان مثابراً على العبادة كثير التردد إلى المسجد الجامع مواظباً على فعل الخير وكل أحواله تدل على صلاح حاله ثم عزل عن دمشق وتوجه إلى الروم فلم تطل مدته حتى توفي وكانت وفاته في حدود سنة ثمان وسبعين وألف رحمه الله تعالى.(2/157)
السيد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد قسم ابن علوي بن عبد الله بن علي بن الشيخ عبد الله باعلوي إمام أهل زمانه في الزهد والورع ولد بمدينة قسم ونشأ بها وحفظ القرآن وصحب علماء زمانه وأخذ عن جميع منهم الشيخ عبد الرحمن المعلم وجماعة من آل باقشي وآل باشعيب ورحل إلى تريم فأخذ عن الشيخ أبي بكر الشلي وعن لاشيخ عبد الرحمن السقاف العيدروس والشيخ الجليل العارف بالله تعالى السيد حسين بن عبد الرحمن الحبشي ولزمه وحذا حذوه في العزلة وقراءة كتب الصوفية لاسيما كتب الشاذلية والكتب الغزالية وغيرهم ثم رحل إلى الحرمين وأخذ بمكة عن غير واحد ثم رحل إلى المدينة وتوطنها واشتهر بها شأنه وكان كثير المطالعة لكتب الأولين لاسيما كتاب الأحياء فإنه كان ملازماً لقراءته وروى أنه التزم النذر كل يوم قراءة بعضه إلا لعذر من سفره ومرضه وأخذ عنه جماعة كثيرون منهم الجمال الشلي المؤرخ وكان عارفاً بكلام القوم واصطلاحاتهم وإذا تكلم في مسئلة أفاد وأجاد متقللاً من الدنيا قانعاً منها بالكفاف سائراً على طريقة سلفه ومما يدل على زيادة فضله ورفعة قدره أنه لما طاح بعض قناديل الحجرة الشريفة على القبر الشريف فتحير أهل المدينة في ذلك وأرسلوا إلى الخليفة السلطان محمد بن إبراهيم يخبرونه بذلك فاستشار أعيان أصحابه في ذلك فاتفقوا على أن لا يتعاطى إخراجه إلا أفضل أهل المدينة فأرسل إليهم يأمرهم بذلك فأجمعوا على أن المستحق لهذا الوصف صاحب الترجمة فأخبروه بأمر السلطان فامتثل الأمر ورفعوه في لوح وأنزلوه على القبر الشريف فرفع القنديل ثم أرسلوا به إلى السلطان فوضعه في خزائنه وبالجملة فهو من أكابر عصره وكانت ولادته في سنة خمس عشرة وألف وتوفي بالمدينة نهار الأربعاء أول شعبان سنة خمس وثمانين وألف ودفن بالبقيع وقبره معروف يزار.
عبد الله بن محمد بن قاسم المعروف بقاسم زاده الحلبي الأصل القسطنطيني المولد والمنشأ والوفاة قاضي القضاة الفاضل اللوذعي الحذق الباهر الطريقة نشأ وقرأ على والده العلامة الشهير محمد بن قاسم المترجم في الريحانة الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وبرع وتفوق ثم درس بمدارس الروم وولي قضاء القدس ثم قضاء إزمير ثم قضاء الشأم في سنة ثمان وثمانين وألف وكان أحد أعاجيب الزمان في فصل الأحكام واستحضار الفروع الفقهية فلا يشذ عن فكره إلا القليل وكان مع كونه متكيفاً مستغرقاً في الكيف حاضر الذهن جداً وإذا عرض عليه أطول حجة أو صك انساق فكره إلى مناط الحكم بسرعة وأصاب فيها المحزو بالجملة فلم ير مثله في هذا الباب ثم عزل عن قضاء الشأم وورد الروم وأقرأ دروساً خاصة في أنواع الفنون ولم تطل مدته بعد ذلك حتى توفي إلى رحمة الله تعالى وكانت وفاته في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وألف.(2/158)
عبد الله بن محمد طاهر بن محمد صفا التاشكندي الأصل المكي الشهير بعباسي لكونه ولد في الطائف المعروف عند بعض الناس بوادي العباس أحد صدور الشافعية بالديار المكية وممن برع في فنون العربية كان ذا همة عالية وأخلاق لطيفة قطع ريعان عمره وشيخوخته بالاشتغال بالعلم والانهماك عليه وكان ذكي الفهم حسن العبارة لطيف المحاضرة ويغلب عليه حدة المزاج مع سلامة الصدر ولد بمكة في سنة ثلاث وعشرين وألف تقريباً وأخذ عن لاسيد عمر بن عبد الرحيم البصري وهو آخر تلامذته موتاً وصحب العارف بالله تعالى سالم بن أحمد شيخان وأخذ عنه الطريق وتلقن منه الذكر ولبس الخرقة وأجازه بمروياته ولازم خدمته سنين كثيرة ومات وهو عنه راض وكان يقول كل ما أنا فيه من الخير والبركة فهو من سيدي سالم ولذلك كان كثير الأدب مع أولاده ملازماً لهم في سائر أحواله وأخذ الفقه وغيره عن العلامة على بن الجمال وعبد الله بن سعيد باقشير ومحمد بن عبد المنعم الطائفي ولما قدم الشمس محمد البابلي إلى مكة لازمه كثيراً وأخذ عنه واختص به وكان يطالع له دروسه وأخذ عن العلامة عيسى المغربي ومحمد بن سليمان وحكى أنه لما حج النجم الغزي محدث الشأم ذهب مع شيخه البابلي وأخذ عنه وأجازه بمروياته وصحب السيد العارف بالله تعالى عبد الرحمن الإدريسي وتوجه صحبته إلى اليمن ودخل زبيد والمخا وموزع وغالب تهامة وأخذ عمن بها من أكابر العلماء وأجازه عامة شيوخه وتصدر للتدريس بالمسجد الحرام بأمر من شيوخه وأخذ عنه فضلاء فخام منهم السيد أحمد بن أبي بكر سيخان وأخوه سالم وابن عمهما السيد محمد بن عمر وعبد الله بن سالم البصري والإمام علي بن فضل الطبري وأحمد بن أبي القسم الخلي ومحمد بن أحمد الأسدي وحضر دروسه الأخ الفاضل مصطفى بن فتح الله وأجازه بمروياته وكانت وفاته في ثاني عشر شوال سنة خمس وتسعين وألف بمكة ودفن بحوطة السادة آل شيخان قدس الله تعالى أسرارهم بالمعلاة رحمه الله تعالى.
السيد عبد الله بن محمد حجازي بن عبد القادر بن محمد أبي الفيض الشهير بابن قضيب البان الحلبي الحنفي الفاضل الأديب الشاعر المنشي البليغ كان واحد الزمن وغرة جبهة الدهر وله في الفضل شهرة طنانة وحديث لا يمل وكان مع علو قدره وسمو شأنه لين قشرة العشرة ممتع المؤانسة حلو المذاكرة جامعاً آداب المنادمه عارفاً بشروط المعاقرة وكان أحد المبرزين بحسن الحظ مع أخذه من البلاغة بأوفر الحظ وله تآليف سائغة منها نظمه للأشياء الفقهية وكتاب حل العقال وذيل على كتاب الريحانة ولم يكمله وشعره وأنشاؤه في الألسنة الثلاثة حلو مطبوع وكان دأب في طليعة عمره وحصل وأخذ عن جملة من العلماء منهم العلامة محمد بن حسن الكواكبي مفتي حلب والمنلا محمد أمين اللاري قدم عليهم حلب والسيد محمد التقوى الحكيم والشيخ مصطفى الزيباري وتفوق وتصدر للتدريس في المدرسة الحلاوية ولوي نقابة الأشراف وأعطي رتبة قضاء ديار بكر ثم استدعاء الوزير الفاضل لما بلغه فضله فانحاز إليه واشتد اختصاصه به وحل منه محل الواسطة من العقد فسير فيه قصائد فائقة أنشدني منها جلها فلم يعلق في خاطري منها إلا قوله من قصيدة حسنة التركيب وذلك محل التخلص منها
ولرب يوم قد تلفعت الضحى ... منه بثوبي قسط وغمام
حسرت قناع النقع عنه عصبة ... غبر الوجوه مضيئة الأحلام
لا يأنسون بغير أطراف القنا ... كالأسد تألف مربض الآجام
يسري بهم نجمان في ليل الوغى ... رأي الوزير وراية الإسلام(2/159)
ثم ترقى عنده في المنزلة حتى استدعاءه إليه وصيره نديم مجلسه الخاص فحسده حواشي الوزير ودخل إليه أحدهم في زي ناصح يقول له أن حال الدولة في تقلباتها ليس بالخفي وقد أمكنت الفرصة فإذا طلبت قضاء نلت ما طلبته على الفور فانساغ لهذا القول ووقعت منه هفوة الطلب والإلحاح فانحرف الوزير عليه وظن أ،ه سئم من مجلسه فوجه إليه قضاء ديار بكر استقلالاً فتوجه إليه وكان مع خبرته وتجربته للأمور سيئ التدبير فانزوى عن الاجتماع بأحد وفوض أمر القضاء لرجل من أتباعه فتجاوز الحد في أخذ مال الناس والرشوة ولم يمكنهم عرض ذلك على السيد صاحب الترجمة فشكوا أمرهم إلى جانب السلطنة فعزلوه وانخفض قدره وأقام مدة طامعاً في أن يحصل على غرض من أغراضه فما قدر له واستمر بالروم نحو خمسة أعوام منزوياً واجتمعت به في أيام انزوائه بقسطنطينية ومدحته بقصيدة طويلة مطلعها
بدا فأراك الغصن والشادن الخشفا ... بديع جمال جاوز النعت والوصفا
أغن يكاد الظبي يحكي التفاته ... وتختلس الصهباء من جسمه لطفا
إذا طرفت منه العيون بلمحة ... فأيسر شيء منه ما ينهب الطرفا
تروح به اللباب نهب هجيره ... وما عفرت خداً ولا انتشقت عرفا
سقى عهده بالسفح حلة هاطل ... من المزن لم يطو الزمان لها سجفا
أوان توافينا نشاوى من الصبا ... ولم يبق منا الوجد إلا هوى يخفى
تحجبنا الظلماء حتى كأننا ... رعينا لها من كل مكرمة صنفا
وبات يحيين يبممزوجة الطلا ... فإني قد آليت لاذقتها صرفا
إلى أن تولى الليل قائد جيشه ... وراح سهيل الأفق يقدمه طرفا
وقفنا وأدمينا المحاجر برهة ... فسالت نفوس في مهارقنا ذرفا
وسار مسير البدر يطوي منازلاً ... على أنه لا محق فيه ولا خسفا
فأودعني منه تعلة وامق ... وزفرة وجد لم تكد أبداً تطفا
أسر بتجديد الهوى ذكر عهده ... وإن كنت لا أقوى لأعبائه ضعفا
عدمت فؤاداً لم تبت فيه لوعة ... من العشق تذكيه لواعجها الهفا
أبيت ولي قلب يقلب في الجوى ... فللشوق ما أبدى وللوجد ما أخفى
ويذكرني عهد التصابي مغرد ... من الشجو يتلو في أغاريده صحفا
ككلانا غريب يشتكي فقد ألفه ... فيبكي وحق الإلف أن يبكي الإلفا
تعللنا الآمال وهي كواذب ... ومن دونها وعد نرى دونها خلفا
فليت الهوى فينا رخاء صنيعه ... ولم يبق رحماً من لدينا ولا عطفا
فنفرغ عن كل الأماني لمدح من ... به صح جسم الفضل من بعد ما أشقى
هو ابن الحجازي الرفيع جنابه ... أعز الورى جاهاً وأعلاهم كهفا
فتى طابت الدنيا بحسن خصاله ... ولم يبق فيها الدهر خطباً ولا صرفا
تثقفت الآراء منه بأروع ... يخيف الضواري حيث ما اقتحمت حرفا
ويفتر عن لألاء بشر كأنه ... مقبل شاد لا تمل به الرشفا
فما روضة قد فاح نشر عبيرها ... بأطيب يوماً من خلائقه عرفا
تحلت به الأعناق عقد مواهب ... إذا ما هطلن استحيت المزنة الوطفا
فما تنطق الأفواه إلا بمدحه ... ولا ترفع الآمال إلا له كفا
فديتك يا من لو صرفت لمدحه ... جميع وجودي رحت أحسبه قذفا
وأحقر فيه المدح حتى لو أنه ... تجاوز ضعف الضعف بل مثله ضعفا
فيأيها المولى الذي عم جوده ... ومن عشت دهراً لم أفارق له عطفا
لرحماك أشكو من زماني حوادثاً ... أبادت بقايا الصبر من جلدي عنفا
فما كنت إلا الشمس في فلك العلى ... تعدى عليها البين فانمحقت كسفا(2/160)
حنانك فالحظني بنظرة مشفق ... تنبه مني الحظ من بعد ما أغفى
ودونكها ورقاء في روض محتد ... تقلد أذن الدهر من درها شنفا
تود نجوم الأفق لو كن منطقاً ... لها وكلا البدرين يشطرها وحفا
نثرت عليها من مديحك لؤلؤ ... فأهوت أياد المجد ترصفه رصفا
تمتع بها واستر بعفوك هفوها ... فمن دونها الحساد ترمقها طرفا
ودم في عرين العز صدر ليوثه ... وكل البرايا منك قد نكبت خلفا
مدى الدهر ما جادت قريحة شاعر ... ببيت فحاز الفخر دنياه واستكفى
فلما أنشدتها بين يديه نشط لها وتبجج بها وتحفظ أغلبها وأجزل صلتي عليها ومن عهدها لزمته لزوماً لا انفكاك معه ووقع لي معه محاورات عجيبة من جملتها أني دخلت عليه يوماً في وقت الصبوح فرأيته نائماً فكتبت هذه الأبيات بديهة ووضعتها على وسادته وهي
أيها الراقد طاب العيش ... فاستحكم فلا حك
قم بنا كرهاً شمولاً ... تبعث اليوم انشراحك
واصطبح كأس الحميا ... أسعد الله صباحك
فلما استيقظ دعاني إليه وجلسنا نتفاوض المطارحة والمساجلة ثم استغرق بنا الوقت ثلاثة أيام فكان يقول لي كل بيت بيوم ودخلت عليه يوماً فوجدته منقبضاً والفكرة واستوعبه وكان إذا ذاك في غاية الانحطاط فأنشدته
ولو كان عقل النفس في المرء كاملاً ... لما أضمرت فيما يلم بها هما
فأنشدني على الفور
وما ذنب الضراغم حيث كانت ... وصير زادها فيما يذم
ووقع حريق في داره فاحترق له شيء من الملبوس والكتب فكتبت إليه مسلياً
فدى لك ما على الدنيا جميعا ... فعش في صحة وابل الربوعا
لئن جزع الأنام لفقد شيء ... فلست لفقدك الدنيا جزوعا
تعلمنا الأناءة منك حتى ... توطنا بها الشرف الرفيعا
أفاض الله جودك في البرايا ... وأنبت من أياديك الربيعا
وصورك المهيمن من كمال ... لتعلم صنع خالقك البديعا
فرواحكم بما تختار فينا ... تجد كلاً كما تهوى مطيعا
فلو كلفت يوم الأمس عوداً ... لخاض الليل واختار الرجوعا
ولو ناديت سهماً في هواء ... لعاد القهقرى وأتى سريعا
يضم البرد منك أخا فحار ... يبيت الليل لا يدري الهجوعا
وإني من بجودك قد ترقى ... وحل من العلى حصناً منيعا
خلقت على الوفاء لكم مقيماً ... وأوفى الناس من حفظ الصنيعا
ومما طارحني به في جملة مطارحاته أنه لما كان مر بدمشق قاصداً الحج شغف بأحد أبناء سراتها وكان من الأشراف قال ثم فارقته وتباكينا عند التوديع فكتبت إليه من الطريق مضمناً بيت البحتري فقلت
يا آل بيت المصطفى هل رحمة ... لفؤاد مشبوب الجوانح ثائر
ضلت نواظره الرقاد وما اهتدت ... ببياض دمع من سواد ضمائر
دمع تعلق بالشؤون فساقه ... زفرات برح من جوى متخامر
لو تنظرون إلى الشتيت وسربه ... يقفو سروب زواخر وزوافر
لعذرتموه وماله من عاذل ... وعذلتموه وماله من عاذر
واهاً لأيام نقضت خلسة ... في ظل دوح بالسيادة ناضر
دوح عليه من النبي محمد ... وضح الصباح ونفح روض باكر
لم أنسه يوم الوداع وطرفه ... يرنو إلى شعث النجيب الضامر
وفعاله تبدي نفاسة عرفه ... في فضل وجه بالسماحة زاهر
حتى إذا جدّت بنا ذلل النوى ... والعين تسفح بالنجيع المائر
سرنا وعاود كالمقيم وربما ... كان المقيم علاقة للسائر(2/161)
وما زال مدة إقامته يعمل حيلة ويصطنع خدعة ليحصل على أرب فما نهض به حظ واستمر إلى أن سافر السلطان محمد إلى جهة أدرنه في سنة تسع وثمانين وألف وتبعه الوزير فلحقهم واستمر معهم مدة خمس وعشرين يوماً ثم قدم إلى إستانبول وأشاع أنه أعطى فضاء القدس والتفتيش على الأشراف ببلاد العرب وأقام أياماً قليلة ثم سافر والتزم التفتيش من حين دخوله إلى بلده حلب إلى أن دخل القاهرة من طريق الساحل وأراد أن يفعل ذلك في القاهرة فلم يمكنوه وربما أرادوا إيقاع مكروه به فخرج حاجاً ثم بعد أن حج رجع من طريق الشام وتوجه إلى حلب وأقام بها في رفعة وصولة والناس يعظمونه ويحترمون ساحته واشتغل مدة بالإقراء فأقرأ التلويح وانكف عن أمور محذورة كان يرتكبها وكنت إذا ذاك قدمت الشام فبلغني حسن معاملته للناس وانقياده للزمن فكتبت إليه قصيدة أولها
أرى الندب من صافي الزمان المحاربا ... وأغبى الورى من بات للدهر عاتبا
أتعتب من لا يعقل العتب والوفا ... ولا همه شيء فيخشى العواقبا
وإن ضن لم يسمح بمثقال ذرة ... ولم يبق موهوباً ولم يبق واهبا
ولا جنة تغنيك إن كان مانعاً ... ولا منزل يؤويك إن كان طالبا
أحاول شكواه فألقى نوائباً ... تهون عندي منه تلك النوائبا
ولن يسبق الأقدار من كان سابقاً ... ولا يغلب الأيام من كان غالبا
ومن صحب الدنيا ولو عمر ساعة ... رأى من صروف الدهر فيها عجائبا
وقفر كيوم الحشر أو شقة النوى ... يضل القطا أعملت فيه النجائبا
وليل كقلب السامري قطعته ... إلى أن حكى بالفجر أسود شائبا
وما كنت أرضى بالنوى غير أنني ... جدير بأن لا أرتضي الذل صاحبا
فنظمت من در المعاني قلائداً ... جعلت قوافيها النجوم الثواقبا
ويممت أقصى الأرض في طلب العلى ... ولم أصطحب إلا القنا والقواضبا
فلاقيت في الأسفار كل غريبة ... ومن يغترب يلق الأمور الغرائبا
وخلفت من يرجو من الأهل أوبتي ... كما انتظر القوم العطاش السحائبا
وكم قائل لأقرب الله داره ... ونم يتمنى لو بلغت المطالبا
فعدت على زعم الفريقين سالماً ... ولم أقض من حق الفضائل واجبا
وحسبي وجود ابن الحجازي نائلاً ... به لم أزل ألقى المنا والمآربا
فتى قد جهلت العسر منذ علمته ... ولانت لي الأيام عطفاً وجانبا
وأصبح يلقاني العدو مسالماً ... وقد كان يلقاني الصديق محاربا
تخيم فوق الفرقدين مقامه ... ومد على أفق السماء مضاربا
بعزم يرد الخطب والخطب مقبل ... ورأي وتدبير يرد الكتائبا
وحزم يميز الحق من غير ريبة ... وحكم يديب الشامخات الرواسبا
فراسته تغنيك عن ألف شاهد ... تريه من الأشياء ما كان غائبا
لقد نسخت أنواره كل ظلمة ... كما نسخت شمس النهار الغياهبا
وقور كأن الطير فوق جليسه ... ترى الدهر منه خائف الدهر راهبا
أخاف سباع الطير من سوط رأيه ... فكادت لفرط الخوف تلقي المخالبا
ولو أدرك المجنون أيام حكمه ... لأعرض عن ليلى وأصبح تائبا
جواد بما يحويه في كل حالة ... إذا مل قوم لم يمل المواهبا
تقي عن الفعل القبيح منزه ... كلا حافظيه يكتبان الرغائبا
خبير بتحقيق العلوم مدقق ... إذا جال في بحث أراك العجائبا
وإن نثرت يمناه في الطرس لؤلؤاً ... ككتبنا على تلك اللآلي مطالبا
فتى لا يحب الهزل والهزل باطل ... وما خلق الله السموات لاعبا(2/162)
يبيت بحب المكرمات متيماً ... إذا عشق الناس الحسان الكواعيا
إذا رمت أن تحصى فضائله ولم ... تدع قلماً في الأرض لم تقض واجبا
فإني رأيت المدح دون مقامه ... فلا أيتم الرحمن منه المراتبا
وذيلتها برسالة هي أقسم بمن جلت عظمته وعلت كلمته وسخر القلوب للمودة المؤبدة وجعل الأرواح جنوداً مجندة أنني أشوق إلى لثم يد مولاي من الروض إلى الغمام ومن الساري إلى بلج القمر في الظلام وقد كانت حالتي هذه وأنا جاره فكيف الآن وقد بعدت عني داره وليست غيبته عني إلا غيبة الروح عن الجسد الباقي المطروح ولا العيشة بعد فراقه الجاني إلا كما قال البديع الهمداني عيشة الحوت في البر والثلج في الحر وليس الشوق إليه بشوق وإنما هو العظم الكير والنزع العسير والسم يسري ويسير والنار تشوي وتطير ولا الصبر عنه بصبر وإنما هو الصلب والمصاب والكبد في يد القصاب والنفس رهينة الأوصاب والحين الحائن وأين يصاب وقد كتبت إلى مولاي هذه القصيدة وأنا لا أحسبها من الإحسان بعيدة وهذا الكتاب وقد أنفقت عليه مدة من العمر وصرفت على تحريره حيناً من الدهر وحررته وأنا مشغوف بذكرك مشغول بحمدك وشكرك وعيني تود لو كانت مكانه وأمكنت من قطع المسافة إمكانه كل ذلك لتذكري عهدك ومقامي عندك في أوقات ألذ من شفاه الغيد وأنهى من قبل الخدود ذات الوريد حيثما العيش آخذ في طلقه واستوفى من الأماني حقه وأنت تقظ سمعي بفرائدك وتملأ صدفة أذني بلآلي فوائدك من أدب أغزر مادة من الديم وأنشط للقلب من بوادر النعم ولقد يعز علي أن ألقى بعيداً عنك متروك الذكر منك ولكن هو الدهر وعلاجه الصبر.
فصبراً على الأزمان في كل حالة ... فكم في ضمير الغيب سر محجب
وربما تخالج في صدري لرعونة أوجبها طلب ازدياد قدري أن يشرفني بمكاتبه ويؤهلني إلى مخاطبه جرياً على معروفه المعروف وطمعاً في اغتنام كرمه الموصوف حتى أباهي بكلمه الزمان وأجعلها حرز الأماني و الأمان وأظنه يفعل ذلك متفضلاً لا برح لكل إحسان مؤملاً فكتب إلي في الجواب
نحن عفنا الشهباء شوقاً إليكم ... هل لديكم بالشام شوقاً إلينا
قد عجزتم عن أن ترونا لديكم ... وعجزنا عن أنراكم لدينا
حفظ الله عهد من حفظ العهد ووفى به كما وفينا
اللهم جامع المحبين بعد البين ومعين القوى على ألم النوى وما جعل الله لرجل من قلبين أسألك بما أودعته في سرائر المخلصين من أسرار المحبة وأنبت في رياض صدورهم من المودة التي هي كحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبه فارع فرع الشجرة المحببة وأصلها وأفض عليها فواضلك التي كانوا أحق بها وأهلها واحفظ اللهم هاتيك الذات الزكية التي رؤيتها أجل الأماني ونور تلك الصفات التي إذا تليت تلقتها الأسماع كما تتلقى آيات المثاني هذا وما الصب إلى الحبيب والمريض إلى الطبيب بأشوق مني إلى تلقي خبره واستماع ما يفتخر به الركبان من حسن أثره وما غرضي من عرض الأشواق التي ضاقت عنها صدور الأوراق إلا تأكيد لما يحيط به علمه المحترم وتشنيف لما مع اليراع بذكر صفاته التي تطرب فيترنم بألطف نغم ولقد كنت أتوقع زيارته لما قدم من البلدة النجرا فثنى عنان الإعراض وأجرى جواد الأمير
وما هكذا كنا لقد كان بيننا ... معاملة عن غير هذا الجفا تنبي
هذا وضمير الأخ أنور من أن يستضيء بمصباح الاعتذار وأعلم بصدق المحبة في حالتي القرب والبعد والإعلان و الإسرار وليس يندمل الجرح منا إلا بمرهم لقائه ولا يشفي غليله إلا بري روائه فالرجاء أن يتلافى ما فرط بل أفرط من الإعراض ويسمح بما نتوقعه منه بلا إغماض.
هي الغاية القصوى فإن فات نيلها ... فكل من الدنيا علي حرام
ومن شعره الذي اشتهر قصيدته التي أرسلها إلى الأمير المنجكي وهي قصيدة طويلة اختصرت منها هذا المقدار وهو زبدتها وأولها
سقى جلقاً صوب السحاب المزرد ... وباكر من أفنائها كل معهد
وقلد أجياد الربى في عراسها ... يد الغيث عقدي لؤلؤ وزبرجد
ولا زال خفاق النعامى منبهاً ... عيون الخزامى بالحفيف المجسد(2/163)
وغنت بها الأطيار من كل نغمة ... تهجن ألحان النديم ومعبد
لقد هتفت منها بوجدي سواجع ... تلفع أظلال الغصون وترتدي
تنوح وتشجينا فتزداد عيمة ... ستعلم إن متنا صدى أينا الصدى
أنسيم بروقاً بالشآم مثيرة ... عقابيل شوق بالفؤاد المشرد
وأستاف نشراً كلما هب ضائعاً ... يحدث أنفاس الحبيب المبعد
فيهتز من رياه قلبي وينثني ... ولولا اهتزاز الغصن لم يتأود
فواحرقتي إن لم أبلغ نعيمها ... ووافرقتي إن بت والبين مقعدي
ويوم بلألاء الكؤس مفضض ... كسته الصهباء حلة عسجد
قضيت به حق الهوى غير أنني ... متى أدن منه اليوم ينأى ويبعد
رعى الله أيام الوصال فإنها ... ألذ من التهويم في جفن أرمد
تقضت وضن الدهر منها بنهلة ... تبل غليل الشائق المتزود
عسى تقذف البيداء نضوى برحلة ... تنفس عن أسر المشوق المقيد
إلى بعقة زينت بباقعة الحجي ... سليل المعالي المنجكي محمد
عريق بلاد الشام درة تاجها ... غياث بني الآداب مأوى المطرد
أخا منجك يا أكمل الناس فطنة ... وأشرهم بيتاً بغير ترد
صبغت العلى بالمكرمات فلم تحل ... وينكر في الإعراض غير التجدد
أمولاي يا بدر المعالي وشمسها ... ويا رحلة الآمال من غير موعد
لقد ذلقت في وصف مجدك ألسن ... وعجت به الركبان في كل مشهد
وأهدت لناس من بحر طبعك لؤلؤأً ... على الطرس حتى كاد يلقط باليد
فأسلفتك الأعظام والود موفياً ... حقوق معاليك التي لم تعدد
وقدمت من فكري إليك ألوكة ... حبتك بمغبوط من المدح سرمد
تخبر عما في القلوب من الجوى ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فأوجب لها حقاً وأنعم بمثلها ... وعفني بنظم من عقودك يحمد
أروى بها من لاعج الشوق والنوى ... غليل فؤاد بالصبابة مكمد
وآخرها فأنت لجفن الدهر سيف وناظر ... ولولاك لم يبصر ولم يتقلد
ثم أعقبها بقطعة نثر وهي حامل لواء النظم والنثر وحامي بيضته عن الصدع والكسر محل استواء شموس الكرم العاصر بمجده عنقود الثريا تحت القدم واسطة قلادة الفضائ لوعقد نظامها وبيت قصيدة الآداب ورونق كلامها جناب الأمير ابن الأمير والعطر بين العبير لا برحت ظلال معاليه ممتدة على مفارق الأيام وظل حساده أقلص من جفون العاشق عن طيب المنام هذا ولو أوتي الداعي له ركن إياس واستضاء من محاضرة أبي الفرج بنبراس وملك براعة ابن العميد وأحرز خطب ابن نباتة وبداهة عبد الحميد وأعطى بلاغة الصاحب ونوادر أبي القندين ونال مقامات البديع ومفاوضات الخالديين وحاز محاورات الأحنف وفصاحة سحبان وحوى منشآت القاضي الفاضل ومدائح حسان ورام أن يزخرف كلاماً يناسب مقتضى المقام والحال لغل حد القلم وضاق ذرع المجال وإن أحجم بقيت في النفس حاجه وعصف على القلب ريح حسرة فهاجه فلذلك أقدم على الثانية سجياً وأبدى لتلك الحضرة العالية هدياً فإن أكرم الأمير مثواها فنظم من فرائد عوائده فحلاها وأجاب بما يروي غليل الفؤاد ويخصب مراد المراد فذلك من مساعي فطرته المننجكية ودواعي شيمته البرمكية فوصلته القصيدة والرسالة وهو متوعك المزاج فراجعه بهذه الأبيات
أمولاي من دون الأنام وسيدي ... بمدحك قد بلغتني كل سودد
بعثت بأبيات كان عقودها ... منضة من لؤلؤ وزبرجد
أمتع طرفي في طروس كأنها ... مبادي عذار فوق خد مورد
سطور إذا ما رمت قتل حواسدي ... أجرد منها كل غضب مهند(2/164)
تكلفني رد الجواب وإنني ... أبيت بفكر في الزمان مشرد
وليس يجيد الشعر منطق عاجز ... ضئيل على فرش السهاد موسد
يمر به العمر الطويل مضيعاً ... عل ىالكره منه بين واش وحسد
فعذر أخا العلياء قلت غزائمي ... وقد كنت كالسيف الصقيل المجرد
فإنك أهل العفو والصفح والرضا ... وإنك من نسل النبي محمد
أعز بني الدنيا وأشرف من سما ... إلى الرتبة العليا بغير تردد
صغير إذا عدت سني زمانه ... كبير به أشياخنا الغر تقتدي
تملك رق الحمد والشكر والثنا ... بكف على فعل الجميل معود
فلا زال عنا للزمان وأهله ... يجرر ذي الفخر في كل مشهد
وبلغني في أخريات أمره أنه تغيرت أطواره وانقلب إلى طبعه الأول وتجرأ على الناس بالأذية وسوء المعاملة وما زال حتى اجتمع عليه أهل بلده وقتلوه وكان قتله نهار الأربعاء سابع عشرى جمادى الأولى سنة ست وتسعين وألف ويروى خبر قتله على أنحاء شتى والذي اعتمدته أنه كان سعر القمح بحلب قد نهض ولم يزل يترقى حتى بيع الأردب بخمسة وعشرين قرشاً وشاع الخبر أن السيد عبد الله ارتشى هو وقاضي حلب من المحتكرين بألف قرش ليبيعوه بهذا الثمن فبلغ ذلك حاكم العرف فنادى بأن يباع الأردب بخمسة عشر قرشاً وتقيد بنفسه في إخراج المحتكر من الحب واعتنى بذلك اعتناء بليغاً فأسر له ابن الحجازي المكيدة واتفق في ذلك الغضون أن بعض أعيان حلب دعا المتسلم وبعض أعيان البلدة ومنهم الحجازي فلما تفرقوا صحب ابن الحجازي المتسلم ودعاه إلى داره فيقال أنه في أثناء المجلس أتاه بمشروب مسموم فلما تناوله أحس بالسم وتمت عليه المكيدة فخرج واستمر ثمانية أيام يعالج نفسه فلم يفد ثم أنه مات في اليوم الثامن وأخرجوا جنازته وخرج ابن الحجازي في جملة من خرج إلى الجنازة وكان الناس قد كرهوه وسئموا من أحواله وهم يترقبون لقتله فرصة فلما دفنوا المتسلم ركب فرسه وأراد الانصراف فنادت امرأة هذا قاتل المتسلم فتبعها رجل من العوام واتصل ذلك بالرجال والصبيان والنساء فضربه رجل بحجر فأصاب رأسه وعثرت به الفرس فانكب على وجهه فهجم الناس عليه وقتلوه ولم يبقوا فيه عضواً صحيحاً وذهب دمه هدراً ومضى هو وأولاده وأتباع في أقل الأزمنة.
عبد الله بن محمود العباسي المعروف بمحمود زاده قاضي القضاة الفاضل التقي المشهور كان مهاباً وقوراً له فصاحة منطق وصوت حسن وهو في العفة الغاية التي لا تدرك وكان كريماً مفرط السخاء إلا أنه مفتون بعقله لازم من شيخ الإسلام زكريا بن بيرام ث مدرس وولي قضاء حلب ثم نقل إلى قضاء القدس ثم إلى قضاء الشأم وذلك في غرة رجب سنة ثلاثين وألف وشكرت فيها سيرته وجدد من ماله بها تعمير ثلاث قباب لزوجتي النبي صلى الله عليه وسلم المدفونتين بمقبرة باب الصغير وهما أم سلمة وميمونة على قول قلت وذلك قول شاذ مخالف لما أطبق عليه المؤرخون من أن زوجاته لم يمت أحد منهن خارج أرض الحجاز وأما ميمونة فقد ذكر الحافظ الباجي أنها ماتت بسرف وهو ماء معروف على أميال من مكة ودفنت ثمة بالاتفاق وكان صلى الله عليه وسلم بنى بها هناك أيضاً بعد عمرة القضاء وبنى على قبر أبي بن كعب رضي الله عنه خارج باب شرقي قبتين ويليهما مسجد وصرف على ذلك من خالص ماله ألف دينار وكان يحسن إلى المحتاجين من الفقراء والأيتام والأرامل والمساكين والحاصل أنه التزم أن يصرف جميع ما حصله في أيام قضائه بدمشق على جهات الخير وفعل وخرج منها مديوناً وكان وقع بينه وبين محافظ الشأم سليمان باش كما تقدم في ترجمته منافرة كلبة أدت إلى أنه عرض فيه إلى الأبواب السلطانية فعزل عن دمشق ورحل عنها فبينا هو في أثناء الطريق جاءه أمر قضاء مصر فعاد إلى دمشق وتوجه إليها وباشر قضاءها ثم عزل وأعيد إليها ثانياً وكتب إليه الأديب محمد بن يوسف الكريمي الدمشقي قصيدة يهنيه بها وذكر فيها تاريخ توليته ومطلعها
تبسم للزمان اليوم ثغر ... وأشرق للمعالي فيه بدر
وأخصبت الأماني بعد جدب ... فوافى في ربى الآمال زهر
وطاب لمغرم الحب التصابي ... ولد سوى عن المعشوق صبر(2/165)
وأضحى أوقر العذال صباً ... خليعاً عذله واللوم عذر
وقد عدم العواذل كل صب ... عدمتهم فذكرهم مضر
فلا أجد الغرام بلا وشاة ... كأنهم لليل الوصل فجر
علقت بناعس الألحاظ ريم ... صحيح هواه في جفنيه كسر
رمى خلدي بسهم اللحظ حتى ... أتى نحوي بطرف فيه سحر
فيالله من ظبي نفور ... على حكم الهوى لا يستقر
ورحت وللغرام علي حكم ... وفي أذني عن التعنيف وقر
كذا من قاده وله ووجد ... وأضحى للغرام عليه أمر
غرام قد تحمله فؤادي ... يضيق له لو أن الكون صدر
غزال من هواه حشاي جمر ... وكفى من نوال لقاء صفر
لنا من ثغره المعول شهد ... ومن ألحاظه راح وخمر
وليس لمغرم يهواه إلا ... صدود دائم وجفا وهجر
إذا ذكر اسمه أهتز وجداً ... ويعرو القلب من ذكراه ذعر
كما يهتز من ذعر ظلوم ... متى يتلى لعبد الله ذكر
أمام عادل حكم همام ... له في ذروة العليا مقر
يضاهي وجهه للجود بشر ... وفي كفيه للإحسان بحر
وصارم عدله المشهور أضحى ... له بين الأنام سطا ونصر
لقد حاز المعالي حيث لاحت ... نجوم من سنا علياه زهر
فبشرى أهل مصر لقد أتاها ... بفضل الله بعد العسر يسر
ووافي نيلها إذ قد تسامت ... بعبد الله بعد الكسر جبر
ونيلك أن وفى في العام يوماً ... فعبد الله بحر مستمر
له في المكرمات بحار جود ... فلا يلفى لبحر نداه بر
قد حلت ركائبه بمصر ... وزال بعدله ظلم وقهر
تبسم ثغرها جذلاً وبشراً ... وبان لسعدها وجه أغر
ونادى هاتف بالبشر أرخ ... لقد زهيت بعبد الله مصر
قال مدين القوصوني دخل إلى مصر متولياً قضاءها في يوم الخميس العشرين من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وألف وكان فاضلاً متواضعاً متعففاً أديباً ومن نظمه ومن خطه نقلت
درر أضاءت في لجين صحائف ... كالكوكب الدري في أضوائه
فكأنها منشورة بطروسها ... نجم تضيء سماؤه بسنائه
وكأنما هي في يدي غواصها ... نور اليد البيضا وحسن ثنائه
لله غواص أتى بفرائد ... يستوجب الأعلا على نظرائه
ومن نظمه أيضاً قوله
لبحر نداكم قد وردت على ظما ... ومن ورد البحر استقل السواقيا
عسى قطرة من بحر قيض نوالكم ... أكون بها ريان مذ كنت صاديا
وتوفي بها ليلة السبت سابع عشر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وألف بمنزل نقيب الأشراف المطل على بركة الفيل بالقرب من باب جامع قوصون ودفن بالقرب من القاضي بكار عن ثمان وخمسين سنة كذا قال أخبرنا بذلك وهو مريض رحمه الله تعالى.(2/166)
عبد الله بن المهدي بن إبراهيم بن محمد بن مسعود الحوالي قال ابن أبي الرجال في ترجمته سيبويه زمانه وخليل العلوم في أوانه إمام الأدب الفاضل المحقق الحافظ المدقق كان علماً في العلوم أديباً لبيباً مطلعاً على أفراد اللغة وعلم تراكيبها حافظاً لأيام العرب في الجاهلية والإسلام واشتهر باللغة وكان برز فيها واستدرك على المحققين من أهلها كصاحب الصحاح والقاموس وأضرابهما وكان بعض مشايخنا يسميه بالبحر ورأيت أستداراكات منه على أئمة اللغة فقلت كم ترك الأول للآخر وكان من لين العريكة وسهولة الناحي ةوعذوبة الحاشية بمحل يكاد تسيل لديه طباعه سيلاناً ويتواجد للإلهيات ويهتز للأدبيات ولم تطمح نفسه مع أهليته إلى شيء من المراتب ولقيته بوطنه الظهرين بحجة فرأيت فوق ما سمعت وعلمت أن اللهتعالى لم يعطل الزمان وكان له شعر في الذروة العليا وله القصيدة الطنانة التي طارت في الآفاق يمدح بها الإمام المؤيد بالله وإخوته الثلاثة الحسنيين وأحمد أيام الجهاد وأجاد ما شاء وكان يقول أنها ليست من جيد شعري وهي طويلة مطلعها
عن سعاد وحاجر حدثاني ... ودعاني عن الملام دعاني
واذكرا برهة من الدهر مرت ... كنت أدعى بها صريع الغواني
أنا لا أكتفي بنأي زنام ... والربوع الرحاب من نعمان
فلسقتني بكاسها من مدام ... هيم القلب لونها الأرجواني
عتقت في الدنان من عهد كسرى ... فهي تنمى إلى أنوشروان
بهرت في الصفات صفراء حمراء سرور القلوب والأيدان
وصفا وقتها فلم يلع الهم بساحاتها مع الأحزان
يا عذولي ولست للعذل أصغي ... غير قلبي يهيم بالسلوان
ولو أني رزقت حظاً لما صرت أعاني من الهوى ما أعاني
ولما ثرت حاجة في فؤادي ... صنتها عن فلانة وفلان
وسأقضي لبانتي عن قريب ... بنجيب شمردل غير وان
منها في المديح
صال هذا المصال يبغي رضى الله ونلنا به المنى والأماني
وانقضت دولة العلوج ونالت ... ساسة الملك من بني عثمان
وتولى ديارهم عبقري ... ليس يقوى قويه الثقلان
قسماً بالإمام غوث البرايا ... وهو عندي من أعظم الأيمان
لد اقتاد عنوة كل صعب ... ولقد غم صولة كل جاني
أيها الناس قد علمتم بذا الفتح وذا الفتك في قديم الزمان
يا لفخر سما له الحسنان ... نسخ الظن بعده بالعيان
نهضا للعلى أدارا رحى لاحر ... ب وقاما ببكرها والعوان
فسقوا من دم الأعادي صبوحاً ... كل عضب مهند وسنان
أقحموا خيلهم غمار المنايا ... وأبادوا الجيوش بالهند واني
ولقد حاق بالعدى يوم روع ... وسقوا أحمراً من الدمع قاني
يا لها صولة شفت علة القلب ... وأهدت من المنى ما كفاني
حسين شدت لريمة ابن حميد ... كل جرداً مطرة وحصان
طال فيه النزال ولاطعن ولاضرب وإعمال عامل ويماني
واذكر السيد الهزبر المحامي ... من أدار الرحى على عمران
أحمد بن الإمام غيظ الأعادي ... ناصر الدين قاهر الأقران
أعجز المفسدين أن يطمعوا فيهوأخنى على ذوي الشنآن
يا بني القاسم الإمام حماكم ... ربنا بالزبور والفرقان
فبأقدامكم حيا ميت المجد وقمتم بنصرة الأديان
إلى أن قال
فكفى الله كل ضير وهول ... بإمام الهدى كمال الزمان
فكراماته غدت خارقات ... وهو لا غرو مظهر البرهان
فيلفز بالنجاة قوم تولوه وقاموا بطاعة الرحمن
قال ولولا اشتهارها لذكرناها بطولها وله مقاطيع وكل معنى حسن وله دو بيت
يا جود حيا على الجناب الغربي ... قد أنعمه بواكفات السحب
أحييت الأرض في رباه فتى ... يحيا بالوصل من حبيبي قلبي
وكانت وفاته بوصه في أفراد سنة إحدى وستين وألف.(2/167)
عبد الله الكردي البغدادي ثم الدمشقي اشتقل بالعلوم أولاً وفاق أقرانه ثم غلب عليه الحال ورمى كتبه في الماء وسلك الطريقة نال الرتبة العلية ونزل دمشق وسكن بالكلاسة ويقال أنه كان من الأبدال السبعة وله كرامات شهيرة قيل كان تارة لا يأكل ولا يشرب أسبوعاً وتارة يأكل أكل سبعة رجال وكان شخص من أعيان دمشق يقال له رجب محباً له فزاره مرة وكان محموماً فقال له الشيخ أخذت حماك فبرأ من الحمى مدة عمره وقيل لما دخل الشيخ بستان الواعظ إلى دمشق ولقي الشيخ فقال له يا مولانا أعطيناك الوظيفة أشرفياً فيعد أيام جعلوا له وظيفة بذلك القدر وكان خليل باشا نائب الشأم يزوره كثيراً فلما عزل أشار بوصوله إلى المنصب الأعلى وقال له أودعناك الله تعالى ثلاث مرات فلما وصل إلى دار السلطنة صار وزيراً كبيراً وصهر للسلطان فظهر ما أشار به الشيخ صاحب الترجمة وكانت وفاته بدمشق في سنة ثلاث بعد الألف تقريباً ودفن بمقبرة الفراديس.
عبد الله الكردي الشافعي العلواني الإمام العلامة ذكره النجم الغزي وقال في ترجمته حج من بلاده مراراً فدخل بلاد الشأم غير مرة وأخذ بها عن البدر الغزي وغيره وأخذ الطريق عن سيدي أبي الوفا ابن الشيخ علوان الحموي ولما أجازه كتب له الإجازة الصغر فقال له يا سيدي اكتب لي الإجازة الكبرى فقال وما الإجازة الكبرى فقال له هي في كتاب صفته كذا وكذا ولون جلده كذا وهو تحت الكتب كلها وكان الأمر كذلك فقال الشيخ أبو الوفا من أخبرك بهذا فقال يا سيدي أخبرني به الشيخ الكبير سيدي علوان البارحة في منامي وقال لي قل لأبي الوفا يعطيك الإجازة الكبرى وأشار إلى ما ذكرت لكم فأجازه الشيخ أبو الوفا الإجازة الكبرى بإشارة والده قال النجم حدثني بذلك الشيخ أبو الجود البتروني الحنفي مفتي حلب في يوم الثلاثاء خامس جمادى الأولى سنة ثنتي عشرة بعد الألف وكان وفاة صاحب الترجمة ببلاده بعد أن جاور بدمشق مدة مديدة في حدود سنة ست بعد الألف.
عبد الله البخاري الحنفي مفتي الحنفية بدمشق ومدرس السليمانية بها كان عالماً صالحاً متواضعاً صوفي المشرب توفي بدمشق نهار السبت سابع ذي الحجة سنة عشرة وألف بسءو القنية ودفن بمقبرة باب الصغير.
عبد الله الرومي البوسنوي العارف بالله تعالى واحد علماء الروم وعظمائهم الأمجاد المشهور الذكر المتحقق بحق اليقين كان عالماً عاملاً عارفاً بالدقائق والحقائق متبحراً في العلوم النقلية والعقلية إلى جاه عظيم وقدر جسيم ومنظر بهي ووجه نوراني ولد بالروم وبها نشأ وأخذ عن أكابر العارفين ولبس الخرقة وتلقن الذكر من كثيرين وبرع في جميع العلوم حتى صار منقطع القرين وزار النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست وأربعين وألف وكان يتمنى رؤية السيد العارف بالله سالم بن أحمد شيخان باعلوي الحسيني فلم تتيسر له تلك الأمنية وانتقل السيد قبل وصوله إلى مكة بأيام قليلة ورحل إلى مصر والشأم واجتمع بمن بهما من العلماء واشتهر في سائر البقاع الإسلامية وحظي عند أكابر الدولة وأخذ عنه شيوخ كرام عظام منهم الشيخ غرس الدين الخليلي والشيخ محمد ميرز الدمشقي الصوفي والشيخ محمد مكي المدني والسيد محمد بن أبي بكر القعود وألف مؤلفات كثيرة منها وهو أجلها شرح على الفصوص وعلى التائية للشيخ الأكبر محيي الدين وشرح على نظم مراتب الوجود للجيلي للشيخ غرس الدين المذكور ورسالة في تفضيل البشر على الملك ومما اتفق له مع العارف بالله تعالى السيد عبد الرحمن بن أحمد المغربي نزيل مكة أنه لما دخل القسطنطينية استأذن منه صاحب الترجمة في الدخول إليه للسلام عليه فلم يأذن له وتكرر منه ذلك مرات عديدة فركب يوماً وما أراد الدخول عليه بلا إذن فلما وصل إلى بيت السيد ونزل عن دابته فبمجرد نزوله سقط على رجله فانكسرت فتحقق حينئذ أنها كرامة من السيد نفع الله به ورجع إلى بيته ومكث شهوراً وهو لا يستطيع الخروج حتى سافر السيد من الروم ولم يقدر له الاجتماع به وكانت وفاته عقب رجوعه من الحج سنة أربع وخمسين وألف بمدنية قونيه ودفن بالقرب من قبة العارف بالله تعالى صدر الدين القونوي وبنى عليه قبة وكتب على قبره هذا قبر غريب الله في أرضه واسمه عبد الله.(2/168)
الشريف عبد المطلب بن حسن بن أبي نمي الشريف الحسني كان على غاية من الكمال ومن مشاهير الأبطال ومن أكمل أهل زمانه عقلاً وأكرمهم إحساناً وفضلاً ذا مروءة تامة وفتوة عامة وكان يلبس الخلعة الثانية في حياة أبيه وكان والده يعتمد عليه في الأمور ويفتخر به واستمر إلى أن توفي وكانت وفاته في سنة عشرة بعد الألف بمكة بعد أبيه الشريف حسن بقليل.
عبد الملك بن جمال العصامي بن صدر الدين بن عصام الدين الأسفرايني المشهور بالملا عصام صاحب الحاشية على الشرح الجديد على الكافية والأطول الذي عارض به المطول وغيرهما من التصانيف المفيدة والتآليف السديدة وعبد الملك هذا إمام العلوم العربية وعلامها والمنشورة به في الخافقين أعلامها والسالك أوضح مسالكها والمالك لازمتها وابن مالكها ورد عذب الفضل نهلاً وعلاً وفاز من سهامه بالقدح المعلى فجدد مغنى العلم الدريس ونصب نفسه للإقراء والتدريس واشتغل بالتصنيف والتأليف وتخلى عن كل أنيس وأليف حتى بلغت مؤلفاته الستين من شرح مفيد ومتن متين فلقب بخاتمة المحققين وعد من أرباب الفضل واليقين إلى زهد وصلاح وتقوى أشرق نورها في أسرة وجهه ولاح وإلمام بالأدب وافر في أفق الإحسان بدره السافر إلا أنه قل ما أعار ذهنه وفكره غير مسائل العلم التي خلدت في صحائف الأيام ذكره ولد بمكة في سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وجاء تاريخه نعم المولود ذا ونشأ وأخذ عن والده وعن عمه القاضي علي بن صدر الدين الشهير بالحفيد وعبد الكريم بن محب الدين القطبي والسيد العلامة محمد الشهير بميربادشاه والشيخ عبد الرؤوف المكي وعنه الإمام محمد علي بن علان والقاضي تاج الدين المالكي وعبد الله بن سعيد باقشير وعلي بن الجمال والخطيب أحمد البري المدني وغيرهم ولازم الإقراء والتدريس حتى فاق واشتهر وبلغ في التحقيق مبلغاً عالياً وانعقد عليه الإجماع وتفرد بصنوف الفضل فبهر النواظر والأسماع فما من قول إلا وله فيه القدح المعلى والمورد العذب المحلى أن قال لم يدع قولاً لقائل أو طال لم يأت غيره بطائل حتى قال فيه بعض علماء عصره
لم ترعيني عالماً ... تحت أديم الفلك
مثل إمام الحرمين ... الشيخ عبد الملك
وله تآليف كثيرة منها شرح شرح الشذور لابن هشام وشرح الإرشاد في النحو أيضاً وحاشية على شرح القطر للمصنف وحاشية على شرح القواعد للشيخ خالد وشرح على الخزرجية وشرح على منظومة الشمني في أصول الحديث ومنظومة في الألغاز النحوية وشرحها وبلوغ الإرب من كلام العرب وشرحان على رسالة الاستعارات للسمرقندي كبير وصغير وشرح إيشاغوجي والكافي في العروض والقوافي والتسهيل في العروض وكتب إليه القاضي تاج الدين المالكي مائلاً
ماذا يقول إمام العصر عالمه ... ونم لديه يرى التحقيق طالبه
في الدار هل جائز تذكير عائدها ... في قولنا مثلاً في الدار صاحبه
ومن إبانة همز ابن أراد فهل ... يكون موصوفه اسماً تطالبه
أم كونه علماً كاف ولو لقباً ... أو كنية أن أراد الحذف كاتبه
أفد فما إن رأينا الحق منخفضاً ... إلا وأنت على التحقيق ناصبه
فأجابه بقوله
يا فاضلاً لم يزل يهدي الفرائد من ... علومه وتروّينا سحائبه
تأنيثك الدار حتم لا سبيل إلى التذكير فامنع إذا في الدار صاحبه
والاسم موصوفه عمم فإن لقباً ... أو كنية فارتكاب الحذف واجبه
هذا جوابي فاعذر أن تجد خللاً ... فصدر العجز والتقصير كاتبه
لا زلت تاجاً لها مات العلى علماً ... في العلم يحوي بك التحقيق طالبه
ومن نظمه قوله:
أهدى لمجلسه الكر ... يم فرائداً تهدى إليه
كالبحر يمطره السحاب ... ماله فضل عليه
وهو من قول البديع هبة الله الأسطرلابي
أهدى لمجلسه الكريم وإنما ... أهدى له ما خرت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وماله ... فضل عليه لأنه من مائه
وتناول الأمير أبو بكر بن جلالاً الحلبي وأفرغه في قوله
أيا بحراً غدونا من نداه ... تقدم بعض أنعمه لديه(2/169)
كذاك البحر ينشأ منه غيث ... وبعض سحابه يهدي إليه
وكانت وفاة صاحب الترجمة بالمدينة المشرقة في سنة سبع وثلاثين وألف ودفن ببقيع الغرقد.
عبد الملك بن عبد السلام بن عبد الحفيظ بن عبد الله بن دعسين بفتح السين ابن عبد الله بن أبي بكر بن أحمد بن علي بن عبد الله بن الفقيه محمد دعسين ابن هبيني بن ربيعة بن علي بن أحمد بن شكر بن رزام بن يحيى بن عبد الله بن زكريا ابن خالد ابن عبد العزيز بن عبد الله ابن الصحابي خالد بن أسيد بن العيص بن أمية الأكبر ابن عبد شمس بن عبد مناف ابن قصي الأموي القرشي اليمني الإمام الكبير كان أعجوبة من أعاجيب الزمان ذكره العارف بالله تعالى حاتم بن أحمد الأهدل وقال في حقه إمام المصنفين وعلامة المؤلفين وفيه يقول بعض الشعراء
لم ترعيني في أديم الفلك ... مثل الإمام الندب عبد الملك
وتصانيفه إليها النهاية في التنقيح وكانت له يد طولى في جميع العلوم كالحديث والتفسير والفقه والتصوف والأصلين والفرائض والحساب والنحو والصرف واللغة والمعاني والبيان والهيئة والفلك والشعر والتاريخ والأنساب والعروض وصنف في كثير من هذه العلوم ومن مصنفاته منحة الملك الوهاب بشرح ملحة الأعراب وشرح معارضة بانت سعاد المسمى إعداد الزاد بشرح ذخر المعاد في معارضة بانت سعاد وشرح قصيدة ابن ناصر الدين ابن بنت الميلق من ذاق طعم شراب القوم يدريه شرحاً بديعاً سماه جواهر السلوك المتحلي بها جيد السلوك إلى ملك الملوك وهو شرح نفيس في غاية الحسن وهو أول من شرحها شرحاً حافلاً وكتب عليها قبله العارف بالله تعالى الولي عبد القادر بن الجنيد المشرع الزبيدي شرحاً كالتعليق مختصراً في أوراق قليلة نحو الكراس إلا أنه نحا فيه منحى الصوفية وكان عالماً بالكتاب والسنة عاملاً بهما حافظاً لكتاب الله تعالى مواظباً على تلاوته ناصراً لشرع الله مثابراً على نشره قائماً بما جرى عليه سلفه الصالح من الأوراد والأذكار وإكرام الوافدين وبذل الجاه وكان حسن الأخلاق عظيم التواضع سخي النفس وبالجملة فهو خير كله من فرقه إلى قدمه وكان ينظم الشعر ومن شعره قوله ملغزاً
ما ذو بناء حوى جمعاً من البشر ... نصيفه اسم لواد أخضر نضر
إن أنت ضعفت هذا النصف جاءك في ... تضعيف تركيبه نوع من الحجر
وما بقي أن تضعفه أتاك بتضعيف له جبل يدريه ذو الفكر
معكوسه إن تصحفه رأيت به ... طيراً يغرد بالآصال والبكر
وإن تزل من جميع الاسم أوله ... بدا بباقيه قوم طالبو سفر
مقلوبهم أن تحقق منه جملته ... يكن معيناً على الإدلاج في السحر
وإن تزل آخراً للاسم تلق بعكس ما يبقى اسم ذي طعم من البشر
يأتيك في صفة كان لازمها ... فهو المعظم بين البدو والحضر
أجاب الشمس محمد العجمي بقوله
ركبت من لغزك الجاري على خطر ... وغصت من حله في لجة الفكر
ومرى نصفه لما عبرت على ... روض هناك مريع رائق نضر
صقلت فكرتي الدنيا بمرمره ... حتى رأت كبكب العالي على النظر
وغرد الصب من وجد به طرباً ... كبلبل صاح بالألحان في السحر
أشجى بنغمته أهل الغرام فكم ... من سابح في الهوى يجري على غرر
قد شد بكر هواه والهاً غزلاً ... ونال غاية ما يرجو من الوطر
وحاز من ساكني وادي النقا كرماً ... وعاد في مركب الإقبال بالظفر
ومن مناقبه أن بعض الأخيار رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام كسا عبد الملك هذا قميصاً بعد أن عرض عليه كراساً من تصنيفه وكانت وفاته لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة ست بعد الألف وعمره أربع وخمسون سنة ودفن بمقبرة بندر المخا وبنود عسين قبيلة مشهورة باليمن اشتهر منهم جماعة بالولاية والعلم حتى أن صاحب الترجمة أفردهم بتأليف سماه قرة العين بمعرفة بني دعسين.
عبد المنعم الماطي المصري الشاعر الماهر ذكره الخفاجي وقال في حقه أديب أسكرنا بلفظه العذب الانسجام وجلا علينا من مدام فكره في نادي الأنس جام وقد كان في شرخ الشباب وطليعة إقباله العجاب.(2/170)
زماني به كالورد طيباً وبهجة ... فيا ليت ذاك الورد كان نصيبي
ونشر أفكاره داري ومن بحر كرمه لناري وإن توقد ذكائه لناري وله أخلاق ذات حواش رقاق فمن شعره الذي أنشده لي قوله
إذا رام محفوظ يريني للشرا ... من الدفن قطراً لا نظير لحسنه
فقولا له إني وحق حياته ... مرادي أرى تعليقه قبل دفنه
وقوله:
وعن كبش الذبيح سألت يوماً ... خبيراً بالعلوم أتى إليا
أيحيا الكبش يوم البعث أيضاً ... فأخبرني بأن الكبش يحيى
انتهى وكانت وفاته بمصر سنة خمس بعد الألف.
عبد النافع بن عمر الحموي نزيل طرابلس الشأم الحنفي الفاضل الأديب المشهور كان في غاية من الذكاء والفطنة والتضلع من أنواع الفنون وكان في أول أمره ساقط الرتبة فخدم القاضي محمد بن الأعوج بإقراء أولاده القرآن فجعله كاتباً بمحكمة حماة ثم إنه ترقى إلى أن أفتى وانفرد بالفتوى من حمص إلى معرة النعمان وألف ومن تآليفه منظومة في العقائد سماها الرسالة الهادية إلى اعتقاد الفرقة الناجية وتفسير سورة الإخلاص في مجلد وشاع ذكره في البلاد الشامية وكان على شهامته بذيء اللسان مغرى بالهجا وكانت بينه وبين الحسن البوريني ما جرت العادة بمثله بين الفضلاء من التنافر والتنافس وكل منهما له في حق الآخر أهاج سنيعة أعرضت عن ذكرها لبذاءتها ولم أختر منها إلا هذه الأحجية بعث بها عبد النافع للعلامة أبي المعالي درويش محمد الطالوي في بوريني وهي هذا
على الأخلاء الأجلاء في ... دمشق سلم غير ذاك السمح
وقل لهم حاجاكم ذو الحجى ... ما مثل قولي سمك ما نضج
وكان بينه وبين قاض بحماة مشاحنة وتعاضد القاضي مع أمير حماة حسن بن الأعوج عليه فكتب إلى ابن الأعوج قوله
تخذت ولياً ظالماً ذا مذلة ... وقد كنت لا ترضى ولياً من الذل
ومن يتخذ نسج العناكب درعه ... فسهم معاديه غني عن النصل
ثم هجا بني الأعوج وأطلق فيهم لسانه فضاق عليه حمى حماة فأقلع إلى طرابلس الشأم وسكنها وكان حاكمها إذ ذاك الأمير يوسف بن سيفا فمدحه وتقرب إليه وكان بطرابلس رجل متصوف من أهالي حمص يدعى بعبد النافع أيضاً وكان الأمير يوسف يوده فاتفق أن الأمير أرسل لعبد النافع الحموي مالاً من مرتبه على صدقات السلطنة بطرابلس فأخذها رسوله إلى بعد النافع الحمصي لاشتراك الاسم فلما وصل الخبر إلى الحموي قصد الأمير وقال له أن اشتراك الاسم قد يضر وهذه دراهمي ذهبت إلى عبد النافع الحمصي فلا بد من تمييز يكون سبب رفع الاشتباه فقال له انظر وصفاً مميزاً فقال له أنا أكون عبد النافع الشاعر يشير إلى أن يكون ذاك عبد النافع المشعور لأنه حمصي والمشهور أن أهل حمص مشعورون في العقل لنقصانهم فيه فضحك الأمير وأرسل إليه بالمال الذي ذهب إلى الحمصي ثم إنه أطلق لسانه في الأمير ابن سيفا واتفق في ذلك الأثناء نهوض الأمير علي بن جانبولاذ إلى نواحي طرابلس لمحاربته فهرب ابن سيفا منه إلى نواحي حيفا كما سنفصله في ترجمته ابن جانبولاذ إلى طرابلس ناهباً لأموالها وكان عبد النافع دليله فلما آل الأمر إلى الصلح ورجع ابن سيفا إلى طرابلس صمم على قتل عبد النافع فهرب منه إلى حلب وكان يتردد منها إلى البلدان التي بقربها ومنها إدلب الصغرى وقد وقفت له على أشعار لطيفة المسلك من جملتها هذان البيتان وقد أحسن في معناهما كل الإحسان وهما
كأن الدجى ظرف على الصبح موكأ ... ولكن لطول الامتلا والبلى انفلق
فسال فغطى أنجماً ما تعلمت ... لقصر المدى سبحاً فأدركها الغرق
ومن ذلك قوله في هجاء قاض
من شر بيت شر قاض أتى ... حماته يا قبح ما استحسنت
أبوه محتال دنيء وكم ... في رأسه من دوحة أغصنت
وأمه مريم كأنها ... وعيشكم ليس التي أحصنت
وذكره الخفاجي وقال في ترجمته فاضل تود العين قربه ويعتقد أن وده أعظم قربه وأديب بديع زمانه وتاج رؤس أقرانه يستعير السحر رقته من طبعه الرفيع ولا تنكر الاستعارة من صاحب البيان البديع إلا أنه اقتدى في شعره بابن حجاج كقوله في هجاء من لقب بالتاج(2/171)
أقبح خلق الله في خلقه ... وخلقه وهو خسيس وضيع
لقب بالتاج ولكنه ... تاج الخصا وهو مجال وسيع
وسئل عن قول أبي تمام
رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه ... بكفيك ما ماريت في أنه برد
كيف وصف الحلم بالرقة فأجاب بما لا يشفي الغلي لمما رأيت تركه خيراً من ذكره وأنا أقول قال القطر بلى والآمدي أنه مما يضحك منه لأنه لم يصف الحلم بالخفة وإنما وصف بالرزانة فحفته ورقته ذم وقوله بكفيك في غاية السخافة وقال ابن السيد ما لاقاه لا يلزمه لأنه لم يطلق الرقة على حلمه أجمع وإنما أراد أنه ترك الجدالي الهزل في بعض الأوقات والوقار إلى الانبساط ولذا تحفظ بأن جعل الرقة للحواشي خاصة وإذا لم تكن الرقة إلا لحواشيه فعظمه كثيف وقد كرر هذا في قوله
لا طايش يهفو خلائقه ولا ... خشن الوقار كأنه في محفل
وقوله:
الجد شيمته وفيه فكاهة ... سمح ولا جد لمن لا يلعب
ثم أقول ومما يوضح خطأه أنه لم يخترع هذه الاستعارة وقد أنشد صاحب زهر الآداب في قصة وقعت مع الرشيد لبعض الأعراب من شعر أورده له
رقيق حواشي الحلم حين تثوره ... يريك الهوينا والأمور تطير
فاستحسنه وأجازه جائزة سنية فإذا عرفت أنه مسموع لمن قبله من العرب من غير إنكار عليه اتضح خطاؤه وأنه ليس المراد ما ذكره المجيب بل المراد أنه محيط بأفعاله وأقواله إحاطة الرداء ثم وصفه بالرقة إشارة إلى لطفه وحيث وصف بالرزانة فباعتبار عدم تغيره لا باعتبار ثقله ألا تراك لو قلت ثقيل الحلم لم يحسن منك ذلك فاعرفه انتهى وكانت وفاة صاحب الترجمة بإدلب الصغرى في إحدى الجماديين سنة ست عشرة والف واتفق له قبل موته بأيام أنه نظم هذه الأبيات وهي قوله
فؤادي مما لا أسميه مكلوم ... وذنبي غليه عند مولاي معلوم
فلا عجب أن ضاع حقي لديه بل ... عجبت لأني عند مولاي محروم
فقد مسني الضر الذي ليس فوقه ... فليس كمثلي في التواريخ مظلوم
فكان لفظ مظلوم تاريخاً لوفاته مع مظلوميته فقصد هو الثانية وأجرى الله الأولى على لسان الفاضل الأديب إبراهيم بن أبي اليمن البتروني الحلبي وكان إذ ذاك قاضياً بحماه فقال
قد مات عبد النافع الحبر الذي ... ماتت به في العالمين علوم
في إدلب الصغرى غريباً نائباً ... عن أهله تاريخه مظلوم
عبد الهادي بن أحمد بن صلاح بن محمد بن الحسن الثلاثي المعروف بالحسوسه ذكره ابن أبي الرجال في تاريخه وقال في وصفه كان منقطع القرين في علومه يملي من صدره ما لا تسعه الأوراق قال سيدنا أحمد بن سعد الدين كان هذا القاضي يحفظ مجموعات القاسم والهادي وغيرهما من الأئمة ويمليها عن ظهر قلبه غيباً بما يبهر العقول مع علوم سائر أهل الكلام فهو أحق من يمثل له بما قيل في أبي الهذيل
أطل أبو الهذيل على الكلام ... كإطلال الغمام على الأنام(2/172)
وكان يحفظ أحوال الناس ولقي العلماء الفضلاء وقرأ عليهم ومن جملة شيوخه عبد الرحيم الخيمي وعيسى دعفان فيما أظنه وعلي بن الحجاج وتحمل القاضي عبد الهادي من جليل الكلام ودقيقه ما لا يشبهه فيه أحد حتى أن الإمام القسم بن محمد لما اجتمع به في ذيبين ببيت الفقيه الفاضل محمد بن يوسف الشرعي وراجعه وكان معه ابنه أحمد الهادي وكان فاضلاً فلما افترقوا قال الإمام ظني أن عبد الهادي أوسع علماً من أبي الهذيل لأنه اطلع على ما حصله أبو الهذيل وغيره وكان مطلعاً على قواعد البهشمية لا يند عنه منها شيء ولا يخفى عليه شيء من أحوال أهل العلم الكلامي يحفظ قواعد أهله وأخبارهم ومع ذلك فهو في علم آل محمد الخريت الماهر عن سماع ورواية روى أن شيخنا العلامة أحمد بن سعيد بن صلاح الهبل لما بلغه أن عبد الهادي درس في مجموع القسم الرسي قال هذا الكتاب ليس من كتب المعتزلة كالمعترض بعبد الهادي أنه لا يعرف علم الأئمة فبلغه ذلك فضجر وقال والله إني لأعرف آل محمد وأبوه القاضي سعيد في بديده غير متعلق بالعلم أو كما قال وقد كان يظن بعض الناس لكثرة حفظه لقواعد المعتزلة أنه يميل عن مذهب العنزة وهو ترجمان ذلك وحافظه روى أنه ذكر بعض تلامذته شيئاً من أحواله فنسب إليه الميل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه كما يميل المعتزلة فاتفق أن القاضي أملى في فضائل علي ما لا يعرفه إلا هو وأطال وأتى بكل عجيب وغريب وكان في التلامذة الفقيه علي الشارح وكان شيعياً كما يقال جلداً فقام وحجل على رجليه أو نحو ذلك فرحاً بما سمع فسألهم القاضي عن سبب ذلك فأخبروه بما حصل من التلميذ في اعتقاده في أمير المؤمنين وأنه نسب إليه ما ينسب إلى غيره فبكى من ذلك وتجرم من القائل وهو شيخ الشيوخ انقطع إليه العلماء وقرأ عليه كالقاضي إبراهيم بن يحيى والقاضي أحمد بن صالح العنسي وآل الحربي وغيرهم وسيدنا أحمد بن سعد الدين المسوري وكان يعطر المجالس بفكره ويملي عنه غرائب وولي القضاء بصنعا فتم بسعيه أمور عظيمة للإسلام بحذاقة وبهارة وصناعة خارقة وله في السياسة ما لا يبلغه أحد وقصصه في ذلك مشهورة وله أولاد نجباء منهم علامة الزمان المهدي وهو على منوال والده في التحقيق والحذاقة ومنهم علي وهو من العلماء الكملة والحسين من فضلاء الوقت وانتقل من صنعاء إلى ثلا فى أوائل مرض موته ثم توفي بثلا وكانت وفاته نصف ليلة الجمعة الثاني عشر من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وألف.
القاضي عبد الهادي بن المقبول بن عبد الأول بن أبي بكر بن عبد الأول عيسى بن عبد الغفار بن عبد الأول بن الأستاذ محمد بن عيسى بن الشيخ العارف بالله تعالى أحمد بن عمر الزيلعي صاحب اللحية وأمه مريم بنت عيسى بن يوسف بن أبي بكر صاحب الحال الأكبر ابن محمد بن عيسى بن أحمد بن عمر الزيلعي أحد العلماء الزهاد جميع بين العلم والعمل والأدب الغزير مع اطلاع وافر وذكاء وفطنة وسؤال عما أشكل في مواضع الإفادة بحيث لا يمر على المشكل إلا بعد أن ينحل عقده ويتضح معناه ويظهر دليله وله مسابقة إلى التماس الفوائد وله في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة راسخة ولذا حصلت له الجلالة والاحترام عند الأئمة بني القسم وبينه وبينهم مكاتبات ومودة ولد بجازان سنة ثلاثين وألف وبها نشأ وقرأ القرآن وجوده على الفقيه مقبول القرشي وقرأ بالحجرين وهي قرية غربي صبيا مختصر أبي شجاع وشرحه لابن قاسم الغزي على الفقيه محمد بن صديق الديباجي وبصبيا شرح المنهاج للمحلي على الفقيه أحمد بن علم الدين شافع وعلى الفقيه إسماعيل بن محمد المحلوي شرح الأجرومية لخالد الأزهري وشرح الرحبية لأبي محزمة ثم رحل إلى الحرمين وقرأ بجدة على عبد القادر بن أحمد الخلي وأخذ بمكة عن شيوخ كثيرين منهم المحدث الكبير محمد على بن علان والشمس البابلي وعبد الله بن سعيد باقشير وصحب العارف بالله تعالى مهنا بن عوض بامزروع الحضرمي وأخذ عنه الطريق وتلقن الذكر ولبس منه الخرقة ثم رجع إلى اليمن وقدم اللحية وأخذ بها عن الجمال محمد صاحب الحال وصحب عارف زمانه ولي الله تعالى الفقيه مقبول بن أحمد المحجب وكان يجله ويعظمه ويميزه على ولده أحمد ويقول له من خلف مثلك ما مات ويتمثل له بقول بعضهم
لولا بك النفع ما أخرجت من بلد ... إلى التي خصصت في سابق القدم(2/173)
ورجع إلى بلدة جازان وصحب بها الشيخ سعيد باد همج زمن إقامته بها معتكفاً بمسجد بني عبد الأول وكان له عنده مقام رفيع ويشير إليه فيما يخطر له من الخواطر الرحمانية ويقول له أنت معان ولا تقوم في أمر إلا أعانك الله تعالى عليه وشيوخه بالسماع والإجازة كثيرون منهم عالم اليمن القاضي حسين المهلا وأحمد بن أبي بكر بن مجنة الكناني الشافعي والفقيه أحمد بن صديق الحشيبري وبينه وبين العلامة السيد يحيى بن أحمد الشرفي وغيره من الأكابر مكاتبات ومراسلات وله أشعار حسان منها قوله يرثي السيد يحيى المذكور
أفل البدر من سماه السعود ... واختفى النور عن سناه السعيد
وغدا الدهر لابساً ثوب حزن ... أسفاً منذ غاب عين الوجود
لا رعى الله لليالي ذماماً ... إذ دهتنا بكل حتف سديد
حين وافت عين الخطوب بخطب ... ومصاب مشيب للوليد
ومنها
وعلى الدهر والليالي سلام ... بعد فقد الحبيب زاكي الجدود
صفوة الآل والمكارم يحيى ... معدن الفضل والوفا بالعهود
ومنها:
كل صعب سوى مصابك سهل ... ليس فيما أقول من ترديد
غير أن المراد لله فيما ... شاء في الخلق من جميع العبيد
وكانت وفاته سلخ ذي القعدة سنة ثمان وتسعين وألف بجازان رحمه الله.
عبد الواحد بن أبي بكر الأنصاري الشافعي قاضي القنفدة الإمام الفاضل كان بمكان مكين من العلم غاية في الذكاء والفهم حسن التقرير والتحرير روى الفقه والحديث وغيرهما عن العلامة الشيخ علي بن الجمال وعبد الله بن سعيد باقشير وعيسى بن محمد الجعفري وله فيه مدائح كثيرة ومرثيات كثيرة وجاور بالحرمين سنين وأجازه شيوخه وكان رئيس القنفدة وما والاها من أرض الحجاز لا تصدر حقيقة أمورها إلا عن رأيه ولم يزل كذلك حتى سعى به بعض الوشاة بسبب سعيه في صلح بين الأشراف بني عبد الله إلى الشريف سعيد بن زيد ورماه بأمور أوجبت أن أمر بالقبض عليه ونهب داره وجميع أثاثه ودثاره ثم قيد بالقيود وأتى به إليه وأراد قتله بعد الذي جرى عليه من حلق ذقنه ولحيته فشفع فيه بعض الأعيان فعفا عنه واختار الإقامة بعد ذلك بنجد الحجاز ولم تسمح نفسه بسكنى بلده القنفدة بل كان يتردد إليها أحياناً لزيارة من بها من أحبابه وتوطن محلة موطف وله مؤلفات كثيرة منها نظم المنهج وشرح على الرحبية في الفرائض ومنظومة في أصول الدين وشرح عقيدة الإمام إسماعيل بن القسم ملك اليمن وبين فيها أدلة أهل السنة ورد على الزيدية وله رسائل كثيرة نمها رسالة سماها الجواب الأبي في صحة الطلاق مع الكلام القليل وإن كان بالأجنبي وغير ذلك من المنثور والمنظوم والشعر الفائق وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وألف.(2/174)
عبد الواحد بن أحمد بن علي بن عاشر الأنصاري نسباً الأندلسي أصلاً الفاسي منشأ وداراً ذكره تلميذه العلامة محمد بن أحمد بن محمد الشهير بميارة في شرحه على منظومة المترجم المسمى بالدر الثمين والمورد المعين في شرح المرشد المعين على الضروري من علوم الدين فقال كان إماماً عالماً ورعا عابداً متفنناً في علوم شتى قرأ القرآن على الإمام الشهير الأستاذ المحقق أبي العباس أحمد بن الفقيه والأستاذ عثمان اللمطي وعلى غيرهما وأخذ قراءة الأئمة السبعة عن الأستاذ المحقق أبي العباس أحمد بن الكفيف ثم عن العارف الشهير مفتي فاس وخطيب حضرتها أبي عبد الله محمد الشريف المري وغيرهما ولا شك أنه فاق أشياخه في التفنن في التوجيهات والتعليلات وأخذ النحو وغيره من العلوم عن جماعة من الأئمة كالإمام العالم المتفنن مفتي فاس وخطيب حضرتها أبي عبد الله محمد بن قاسم القصار القيسي وكالإمام النحوي الأستاذ أبي الفضل قاسم بن أبي العافية الشهير بابن القاضي وكشيخنا الفقيه المحدث المسند الرواية الأديب الحاج الإبر أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي العافية الشهير بابن القاضي ابن عم الفضل المذكور قبله وكالإمام العالم المحقق قاضي الجماعة بفاس أبي الحسن علي بن عمران وكالإمام العالم مفتي فاس وخطيب حضرتها أبي عبد الله الهواري وكالشيخ العالم العامل الورع الزاهد أبي عبد الله محمد بن أحمد التحيبي شهر بابن عزيز بفتح العين المهملة وكسر الزاي وكان الناظم رحمه الله تعالى يذكر لنا عنه كرامات نفعنا الله تعالى به وكشيخنا الإمام العالم المتفنن المفسر المسن قاضي الجماعة بفاس وخطيب حضرتها ومفتيها أبي الفضل قاسم بن محمد أبي النعيم الغساني وغيرهم من الأئمة وأخذ الحديث عن بعض من تقدم من الشيوخ الفاسيين كابن عزيز والقصار وشيخنا ابن القاضي وعن غيرهم من المشارقة لما حج وذلك سنة ثمان وألف ودخل مصر فمنهم الإمام المحدث المعمر صفي الدين أبو عبد الله محمد بن يحيى العزي بكسر العين المهملة وكسر الزاي المشددة الشافعي وقرأ موطأ مالك بن أنس على الفقيه العالم الحسن أبي عبد الله محمد الجنان وشمايل الترمذي على شيخنا الإمام العالم المحدث أبي الحسن علي البطوي وكان ذا معرفة بالقراآت وتوجيهها وبالنحو والتفسير والإعراب والرسم والضبط وعلم الكلام يحفظ نظم ابن ذكرى عن ظهر قلب ويعلم الأصول والفقه والتوقيت والتعديل والحساب والفرائض والمنطق والبيان والعروض والطب وغير ذلك وحج وجاهد واعتكف وكان يقوم من الليل ما شاء الله وألف تآليف عديدة منها هذه المنظومة العديمة المثال في الاختصار وكثرة الفوائد والتحقيق وموافقة المشهور ومحاذاة مختصر الشيخ خليل والجمع بين أصول الدين وفروعه بحيث أن من قرأها وفهم مسائلها خرج قطعاً عن ربقة التقليد المختلف في إيمان صاحبه وأدى ما أوجب الله عليه تعلمه من العلم الواجب على الأعيان ولذا قال فيها الفقيه الأديب النحوي اللغوي أبو محمد عبد الله بن الشيخ الأجل الولي الصالح المجاهد المرابط الثغورذي الفتوحات العديدة والمآثر الحميدة أبي عبد الله محمد بن أحمد العياشي أبقى الله وجوده كهفاً للإسلام وجلاء لغياهب الظلام ما نصه
عليك إذا رمت الهدى وطريقه ... وبالدين للمولى الكريم تدين
بحفظ لنظم كالجمان فصوله ... وما هو الأمر شد ومعين
كأن المعاني تحت ألفاظه وقد ... بدت سلسبيل بالرياض معين
وكيف وقد أبداه فكر ابن عاشر ... إمام هدى للمشكلات يبين
تضلع من كل العلوم فما له ... شبيه ولا في المعلوات قرين
وأبرز ربات الجمال بفهمه ... فها هي أبكار لديه وعون
وأعمل فكراً سالماً في جميعها ... فذل له صعب ولان خرون
وأنهى إلى قطب الوجود تحية ... علينا بها كل الأمور تهون(2/175)
ومنها شرحه العجيب على مورد الظمآن في علم رسم القرآن فقد أجاد فيه ما شاء وليس الخبر كالعيان وأدرج فيه تأليفاً آخر سماه الإعلان بتكميل مورد الظمآن في كيفية رسم القرآن لغير نافع من بقية السبعة في نحو خمسين بيتاً وشرحه وابتدأ شرحاً على مختصر الشيخ خليل ملتزماً فيه نقل لفظ ابن الحاجب ثم لفظ التوضيح وأضاف إلى ذلك فوائد عجيبة ونسكاً غريبة كتب منه من قوله في النكاح والكفاءة الدين والحال إلى باب السلم والله أعلم وله طرر عجيبة مفيدة على المختصر المذكور بعضها يتعلق بلفظ المختصر وبعضها بلفظ شارحه الإمام التتائي في شرحه الصغير وله رسالة عجيبة في عمل الربع المجيب في نحو مائة وثلاثين بيتاً من الرجز وله تقاييد على العقيدة الكبرى للإمام السنوسي وله طرر عجيبة على شرح الإمام أبي عبد الله محمد التنسي لذيل مورد الظمآن في الضبط وله المقطعات في جمع نظائر رسالة مهمة من الفقه والنحو وغيرهما ومن نظمه وكان يكثر من ذكره عندما تكثر عنده الأسئلة الفقهية ومن إملائه نقلت
يزهدني في الفقه أني لا أرى ... يسائل عنه غير صنفين في الورى
فزوجان راما رجعة بعد بتة ... وذئبان راما جيفة فتسعرا
أصيب بالداء الذي يسمى على لسان العامة بالنقطة ضحى يوم الخميس ثالث ذي الحجة سنة أربعين وألف ومات عند الاصفرار من ذلك اليوم وإلى سنة وفاته أشرت بالشين والميم بحساب الجمل من قولي في جملة أبيات في تواريخ وفيات جملة من شيوخنا والإشارة إلى بعض صفاتهم
وعاشر المبرور غزواً وحجة ... إمام التقى والعلم شم قرنفل
عبد الواحد الرشيدي البرجي الشافعي ترجمة الخفاجي وقال في نعته حسنة بها ذنب الزمان غفر وأصبح به عصره على سائر الأزمان يفتخر فهو ريحانة الدهر النض روالذائع ذكره حتى كأنما سعى به الخضر له محاورات تطرز بها حلل الوشائع وسقيط حديث كأنه جني النحل ممزوجاً بماء الوقائع ثم قال فمن لؤلؤه الرطب ورشح قلمه العذب قوله فينائب غير رشيد تفلج به ثغر رشيد
قلت للنائب الذي ... قد رأينا معائبه
لست عندي بنائب ... إنما أنت نائبه
ومثله قول الآخر
وقاض لنا حكمه باطل ... وأحكام زوجته ماضيه
فيا ليته لم يكن قاضياً ... ويا ليتها كانت القاضية
وللأرجاني:
ومن النوائب أنني ... في مثل هذا الأمر نائب
وله:
لا تحسبن أن هجوي فيك مكرمة ... شعري بهجو لئيم قط ما سمحا
لكن أجرب طبعي فيك فهو كما ... جربت في الكلب سيفاً عندما نبحا
ومنه قول الآخر
هجوتك لا لأنك أهل هجو ... ولكني أجرب فيك سبي
وليس يضر شفرة حد سيف ... إذا ما جربت في جلد كلب
وله وقد سمع بموت بعض قضاة مصر
قالوا قضى القاضي فواحسرتا ... إن لم يكن قد مات من جمعة
مصيبة لا غفر الله لي ... إن كنت أجريت لها دمعتي
وقال الشيخ مدين القوصوني في ترجمته شيخنا الشيخ الفاضل والإمام الكامل الورع الزاهد كان عارفاً بعلوم شتى وكان يستحضر أشياء كثيرة من النوادر قال ورأيت له من المؤلفات كتاب نزهة السامرة في أخبار مصر والقاهرة ذكر فيه الوزراء الذين تولوا مصر إلى الوزير الأعظم كان محمد باشا وأنشد له من شعره قوله
يقولون لي قهوة البن هل ... تحل وتؤمن آفاتها
فقلت نعم هي مأمونة ... وما الصعب إلا مضافاتها
قال وسألته عن مضافاتها فأجابني هي ما يستعمل معها من المكيفات ومن إملائه بثغر رشيد في سنة تسع بعد الألف
لعمرك ما أهديت للحب خاتماً ... ولا قلماً يبرى ولا بست عينه
ولا آلة للقطع تقطع بيننا ... فما سبب التفريق بيني وبينه
وقال غيره في توصيفه عبد الواحد الرشيدي إمام برج مغيزل الشيخ الإمام العلامة كان من مشاهير الفضلاء قرأ عليه كثير منهم السيد محمد الجمازي ثم أنشد له قوله
لا تصحبن ناقصاً فتضحى ... قليل حظ كثير ذنب
وانظر إلى الرفع من أيومن ... والخفض في القبر بعد حرب(2/176)
وكانت وفاته بمصر في شوال سنة ثلاث وعشرين وألف ودفن بتربة الجلال السيوطي وبلغ من العمر مائة فأكثر قاله الشيخ مدين والبرجي تبين أنها نسبة لبرج مغيزل.
عبد الوهاب بن أحمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن محمود بن عبد الله بن محمود الفرفوري الدمشقي الحنفي مفتي الشأم وأحد الفضلاء المبرزين كان فقيهاً وجيهاً جليل القدر سامي الرتبة قوي الحافظة طويل الباع وله أدب بارع ومحاضرة جيدة اشتغل في مباديه على الشيخ عبد اللطيف الجالقي والشرف الدمشقي وأخذ الحديث عن الشيخ عمر القارئ ثم لزم العمادي المفتي ومال إليه العمادي بكليته فصيره معيد درسه في صحيح البخاري وتخرج في كتابة الأسئلة المعلقة بالفتيا على الشهاب أحمد بن قولا قسز وعبد اللطيف المنقاري ثم لازم ودرس على قاعدة الروم وفرغ له أحمد بن شاهين عن تدريس الجقمقية قبل وفاته ثم درس وأفاد وانتفع به جماعة وتولى النيابة الكبرى مرات متعددة ونال رتبة الداخل المتعارفة الآن في بلادنا ولما قدم الوزير أحمد باشا الفاضل إلى دمشق أقبل عليه كثيراً لما رأى من فضله فلما ولي الوزارة العظمى صيره مفتياً بالشأم ووقعت منه وموقعها وكتب إليه الأمير المنجكي قوله
شكت إلى الروم أحباؤنا ... من فتية تفتى على جهلها
فأرسل الفتوى مليك الورى ... لنجل فرفور على رسلها
وأصبح الفضل لنا قائلاً ... أدوا الأمانات إلى أهلها
وأرخ توليته شيخنا الشيخ عبد الغني النابلسي فقال
قد جاءت الفتوى إلى بابكم ... مسرعة تولي معاليها
لما بكم لاقت ولقتم بها ... والدهر أعطى القوس باريها
والله ما جارت بكم أرخوا ... بل آلت الفتوى لأهليها
وقد تمكنت قواعده في الفتيا واشتهر أمره وكان مع عراقته الطائلة وتفوقه في الفضل والأدب متواضعاً دمث الأخلاق ودوداً حسن العشرة طارحاً للتكلف فلهذا مالت إليه القلوب وانبعثت إليه الأهواء وكان في الاطلاع على فروع الفقه والأخذ بمحال الأحكام في الذروة العالية ومن غريب أمره أنه مع فضله الباهر لم يرو له أثر من تحرير أو تقرير وكان ينظر الشعر ومن جيد شعره قوله
لله بدر قد حكى بخدوده ... ورد الربى وشقائق النعمان
وبثغره زهر الأقاح منضد ... وبقده المياس غصن البان
وبطيبه طيب الرياض ونشرها ... وبصدغه للآس والريحان
وإذا محاسنه بدت لعيوننا ... تجلى فلا نحتاج للبستان
وقوله:
إن غبت عن ناظري يا من كلفت به ... فما أراك عقيب الآن في عمري
لأن عيني تجري بعد فرقتكم ... ماً ويتبعه ما طل من بصري
وقوله:
دع الحب إن الحب للعقل سالب ... وعش خالياُ فالحب فيه النوائب
فل يصلحن إلا لمثلي فإنني ... فتى دون نعليه السهى والكواكب
فمن كان مثلي كان بالحب لائقاً ... وإلا فصب بالصبابة لاع
وكتب إلى جدي محب الله في غرض
يا من أياديه سحاب ممطر ... ولديه حاتم في السخا لا يذكر
وعليه من سيما الكرام دلالة ... وشواهد تبدو عليه وتظهر
طوقتني من راحتيك بمنة ... أضحت على طول الليالي تنشر
لم أقض حق ثنائها لو أن لي ... في كل جارحة لساناً يشكر
ولم تطل مدته فتوفي وكانت ولادته في سنة اثنتي عشرة وألف وتوفي في خامس عشر المحرم سنة ثلاث وسبعين وألف ودفن بمقبرة أجداده بني الفرفوري لصيق مزار الشيخ أرسلان قدس الله تعالى سره العزيز وقال الأمير المنجكي يرثيه
ريحانة الأفضال عاجلها الردي ... ولفقدها مس الأنام زكام
ما كانت الأيام إلا مقلة ... ولها ابن فرفور رضياً ومنام
حيته أرواح الرضا من ربه ... وهمى عليه من الهباب غمام(2/177)
عبد الوهاب بن رجب المنعوت تاج الدين الحموي الشافعي نزيل دمشق الأديب النحوي المشهور ورد دمشق مع عمه حسن واشتغل بها على جدي أبي الفدا النابلسي والقاضي محب الدين وعلي العمادي الحنفي والشمس المنقاري وغيرهم لكنه بجدي القاضي أكثر اختصاصاً وكان معيد دروسه وبرع في الفنون إلا أنه غلب عليه علم العربية حتى صار فيه من الراسخين ولعله كان أنحى أهل عصره ودرس ببقعة في الجامع الأموي وانتفع به كثير من الفضلاء وكان من خيار الناس وهو من بيت كبير بحماة نم جملة أقاربهم أولاد الأعوج أمراء حماة وكان التاج صاحب الترجمة مشتغلاً بخويصة نفسه لا يشتغل غالباً إلا بما ينفعه يأتي كل يوم إلى الجامع ويصلي الظهر ويجلي للإقراء إلى أن يفرغ ويذهب إلى بيته في جوار المدرسة الصابونية خارج باب النصر وهو ممتحن بأمرين غريبين الأول أنه إذا أتلف الحكام من المجرمين أحداً وأشهروه فإنه يتبع ذلك الرجل ولا يزال تابعاً له إلى المكان الذي يقتل فيه فيقف في أقرب مكان منه إلى أن يشاهد صورة قتله ويستمر واقفاً إلى انتهاء الأمر وهذه عادته دائماً وسئل عن سبب هذا الأمر فقال أقصد بذلك تأديب نفسي به وزجرها بمشاهدة ذلك الثاني أنه كان متهالكاً على لعب الشطرنج في دكاكين باب الجابية يجلس في بعض الدكاكين ويلعب من أراد ويكشف رأسه ويضع العمامة إلى جانبه ولا يزال يلعب إلى أن تغرب الشمس في غالب الأوقات وبالجملة فإنه كان من محاسن الأيام وكان وفاته في سنة خمس عشرة وألف.
عبد الوهاب بن سعيد بن عبد الله بن مسعود الحميري الحوالي ذكره ابن أبي الرجاء في تاريخه وقال في وصفه كان عالماً مجتهداً من بيت شهير بالعلم معمور بالفضل نسبهم إلى ذي حوال فهم وآل يعفر والفقهاء آل الأكوع في نسب واحد وكان من فضلاء وقته ويسمى الصنعاني نسبة إلى أمه وكان متعلقاً بالسياخة دمث الأخلاق كريم السجايا وله مكارم وآداب وكان يأتي إلى ذيبين للتنزه أيام الخريف فيجتمع به الفضلاء ويتم لهم به الأنس وكان جميل الثياب حسن الهيئة ويقال أنه يعرف السيميا ولما اعتقل بكوكبان ظهر هذا منه فإنه كان يخرج من السجن ويضع ثيابه عند أهل السجن ويغيب اليوم واليومين ثم يرجع ويفارقهم من محل وعر لا يمكن النفوذ منه وله صناعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يدل على ذلك ما اشتهر عنه أنه طلع إلى بعض جبال ذيبين فوجد في بعض الكهوف امرأة تبكي وعندها رجل رقيب عليها فسألها عن شأنها وما سبب بكائها فأخبرته أنها امرأة محتشمة ليست من ذوات الريب وأنه اتفق بها نحو ثمانية من العتاة العصاة فاغتصبوها نفسها وأمروا ذلك الرجل رقيباً بحفظها وعزموا ليأتوا بما يليق بمعصيتهم من لحم يسرقونه ونحو ذلك فلما أطال معها الحديث جاء ذلك الرقيب واستنكر الخطاب فقال القاضي المذكور له يا مكين ترضى لنفسك بهذه الحال الدنية والحال العلية تمكنك قال وما هي قال أزوجك هذه المرأة وتكون لك خاصة قال الرجل وهذا يتم قال نعم فقعد له بغير شهود فلما وصل أصحاب ذلك الرجل لقيهم وقال لهم هذه صارت زوجتي بحكم القاضي فلا يقربها أحد فمنعهم ونزل القاضي وعقد له عقداً جديداً وكان يزورها كل سنة وكان مع هذا الحلم الكثير بينه وبين العلامة إبراهيم بن مسعود وحشة وذلك من العجائب وقد روي أنه صلح أمرهما وتراضيا وتوفي بالظهرين هجرتهم المعروفة بحجة في تاسع عشرى رجب سنة ثمان عشرة وألف وقبره إلى جنب السيد الفاضل شرف الدين بن محمد الحميري من جهة القبلة ورثاه السيد العلامة علي بن صلاح العبالي فقال
عين جودي بدمعك الهتان ... واندبي ما جدا عظيم الشان
فاضل اطلق الدنا وتخلى ... عالم عامل بكل مكان
لم يدع بغية من الفضل إلا ... نالها بالسباق طلق العنان
يا له من مبرز في علوم ... ما حواها سواه من إنسان
فلفقدانه ثوت بفؤادي ... لوعة دونها لظى النيران
آه أضحى الأنام عميا عليه ... لا يرون الضيا من الضبعان
رحم الله تربة ابن سعيد ... وسقى من لديه بالهتان
وتغشى ضريحه بصلاة ... أنه كان طيب الأردان(2/178)
عبد الوهاب بن عبد الرحمن الدمشقي الحنفي القاضي تاج الدين المعروف بالتاجي أحد كبراء دمشق وكان له في وقته شهامة وحرمة وسخاء ورزق وسعة طائلة ونعمة وافرة تفقه بالنجم البهنسي الخطيب وأخذ عن البدر الغزي وكان جيد المشاركة في الفقه وسافر إلى الروم وولي قضاء بعض القصبات إلى أن وصل إلى قضاء حماة وتقاعد بعدها بدمش قوتولى قضاء الركب الشامي في سنة سبع بعد الألف وكان يرمي بأنه سامري الأصل واتفق له أنه ادعى الشرف من جهة أمه لكونها شريفة وهي بنت السيد القطبي ووضع العلامة الخضراء في عمامته فقال فيه أبو المعالي درويش محمد الطالوي مضمناً بيت المتنبي
طافت يهودية بالبيت قلت لها ... حويت كفراً واسلاً ما نرى عجبا
فاستضحكت ثم قالت كالذبيح يرى ... مشرفاً وهو من عجل إذا انتسبا
ولما تعين الوزير نصوح باشا سرداراً على العساكر لمحاربة شاه العجم رحل إليه القاضي تاج الدين فلقيه بديار بكر وطلب أن يعطيه تقاعداً عن دفتر دارية الشام حتى يجلس فوق الأقوام فمات بديار بكر وصح خبر موته بدمشق في منتصف شعبان سنة عشرين بعد الألف.
عثمان بن إبراهيم أبي سيفين بن عمر بن أحمد بن أبي موسى بن أبي بكر صاحب الخال الأكبر بن محمد بن عيسى بن الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي صاحب اللحية كني والده بأبي سيفين بكنية الفقيه إبراهيم بن محمد بن عيسى لأنه كان له سيفان في صغره فكني بهما واتفق لوالد صاحب الترجمة أنه كان له سيف فضاع منه فقيل له أنت أبو سيفين فأين الثاني فأخرج سيفاً من فمه بدله كان صاحب الترجمة عمار زمانه وسلمان أوانه صبيح الوجه حسن الخلق رقيق الخلق ما رآه أحد إلا ذكر الله أفنى كهولته وشيخوخته في طاعة خالقه وكان إمام الشريعة والطريقة وحيد وقته وفريد عصره وكان صدراً من الصدور تفزع إليه الناس ويجلون محله ويعظمونه لمكانته في العلم والولاية وكان سمحاً في المأكل والمشرب والملبس ورعا تقياً محافظاً على الطاعات ملازماً للجماعات ولد بجزيرة عيسى من أعمال اللحية وبها نشأ وحفظ القرآن ورباه والده أحسن تربة حتى فاق جماعته وإخوته وكان كثير الإحسان وصولاً لما أمر الله به أن يوصل وكان الله سبحانه يجري له ألطافه في أفعاله فقد حكي عنه أن ابن عمه العارف بالله أحمد السطيحة عمل وليمة ختان أو عرس لخاصته من أهله وجماعته فلم يشعر إلا ووجوه الناس وقبائل العرب أتت إليه لتتبرك بحضور الوليمة ولم يكن متهيئاً لهم وليس عنده ما يكفيهم من المأكل فبقي متحيراً كيف يفعل فذكر لبعض خاصته ذلك فقال له عليك بالفقيه عثمان فأتى إليه فقال له يا عم أتيتك في مهم وذكر له القصة فقال ما هناك خلاف وأتى معه إلى منزله وأمر النساء أن يخلوا المكان المعد للطبخ ليتعاطى الأمر بنفسه فأخلوه فأمرهم بتقديم المائدة للنساء أولاً وأتوا بأواني الأكل إليه ليغرف لهم بيده فصار لحيرك القدور ويغرف لهم منها حتى قدم لهم ما كفاهم وفضل منه شيء كثير ثم فعل بالرجال كذلك حتى شبع الجميع وغرف للجيران والفقراء وجميع من كان حاضراً في ذلك المهم وبقي الذي في القدور على حاله لم ينقص منه شيء وله وقائع كثيرة وكرامات شهيرة وكانت وفاته في نيف وثلاثين وألف بجزيرة عيسى بن أحمد وبها دفن وأعقب ذرية صالحة رضي الله عنه.(2/179)
السلطان عثمان بن السلطان أحمد بن السلطان محمد بن السلطان مراد بن السلطان سليم الثاني ابن سليمان بن سليم السلطان الأعظم أحد ملوك آل عثمان رحم الله الماضين منهم وأبقى الباقين كان السلطان المذكور أحسن هؤلاء الملوك خلقاً وخلقاً وأجملهم شيماً وطباعا ًله أدب وحياء وعرفان وفيه شجاعة وفروسية وكان ينظم الشعر التركي ومخلصه على طريقة شعراء الروم فارسي ولي الخلافة عن عمه السلطان مصطفى لما خلع في سادس ساعة من ليلة الأربعاء ثامن شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين وألف وسافر على القزق وقبل ذهابه قتل أخاه السلطان محمداً خوفاً من الفتنة بعده ولما أرادوا قتله أحضره إلى محل جلوسه وكان جالساً على صفة وبيده كتاب يقرأ فيه فلما حضر بين يديه قال له بالله عليك لا تدخل في دمي ولا تجعلني خصمك يوم القيامة وأنا أقنع منك برغيف فما كان من جوابه إلا الأمر بخنقه فخنق بالوتر بين يديه ففار من منخريه الدم إلى وصل إلى عمامة السلطان ويقال أن آخر كلام قاله في خطاب أخيه سلط الله عليك من لا يرحمك ولا يخشاك وكان قتله في جمادى الآخرة في نحو ستمائة ألف مقاتل وجعل القنطرة التي على البحر الحاجز بينه وبين الطائفة المذكورة وأتقنها وهذه القنطرة هي التي أحدثها هو من حين حلول ركابه ببلاد القزق وأخذ الجزية منهم عن ثلاث سنين وانتصر عليهم مع أخذ قلاع متعددة وغنائم وعاد إلى مقر خلافته في أواخر السنة المذكورة وأنعم على العساكر إنعامات عظيمة فهابته ملوك الآفاق وقويت شوكته واستعت في أيامه دائرة الملك واتصل بعقيلة شيخ الإسلام المولى المولى أسعد ولم يتفق التزوج بنكاح لأحد من آل بيته إلا لجده الأعلى وسميه السلطان عثمان فإنه تزوج بابنة المولى أده بالي كما هو مذكور في الشقائق النعمانية وكان فيه صلاح وتعطف وخشوع وأمر في أيامه بتعطيل حانات الخمر ودار عليها بنفسه وقفل أبوابها وطرد أصحابها وفي أيامه في سنة ثلاثين جمد البحر الحاجز بين قسطنطينية وأسكدار والغلطة جلد من شدة البرد ومر على الجليد أناس من إسكدار إلى قسطنطينية وهذا لم يتفق في زمن من الأزمنة وقد مدح بالقصائد النفيسة من جملتها قصيدة إمامه وملتفته الشيخ الإمام يوسف بن أبي الفتح لادمشقي ومطلعها
تذكر من أكناف رامة مربعاً ... ومغنى به غصن الشبيبة أينعا
فبات على جمر الغضي يستفزه ... غرام فيذري الدمع أربع أربعا
كئيباً لليلات الغميم متيماً ... معنى بأيام الحجون مولعا
يخالف بين الراحتين على الحشا ... ويلوي على القلب الضلوع توجعا
فمن صبوات تستفز فؤاده ... ومن زفرات أضرمت منه أضلعا
إلا في سبيل الحب مهجة عاشق ... تولع فيه الحب حتى تولعا
وعين أبت بعد الأحبة سحبها ... وفاء بحق الربع أن تتقشعا
سقى الله من دارين لي كل ليلة ... هي العمر كانت والشباب المودعا
ويا جاد أياماً بها قد تصرمت ... ثلاثاً ومن لي أن أراهن أربعا
وحيا مقامي بالمقام وأربعاً ... لدى عزمات يا سقاهن أربعا
فلله ما أبهى بمكة معشراً ... ولله ما أحلى لزمزم مشرعا
ألا ورعى دهراً تقضى بجلق ... ولولا الهوى ما قلت يوماً لها رعا
ويا عاقب الله الغرام بمثله ... لكي يعذر المشتاق فيمن تولعا
خليلي ما لي كلما لاح بارق ... تكاد حصاة القلب أن تتصدعا
وإن نسمت من قاسيون رويحة ... أجد أدمعاً مني تساجل أدمعا
وحتام قلبي يستطير إذا شدا ... حمام اللوى بالرقتين ورجعا
وكم ذا أقاسي سورة البين والأسى ... ولا يرحم العذل مني توجعا
ألا هكذا فعل الغرام بأهله ... ومن مات من صنع الهوى ما تصنعا
عذيري من هذا الزمان وأهله ... ومن لي بمن يصغي لشكواي مسمعا(2/180)
يخوفني منه العدو قطيعة ... ويظهر لي منه الصديق توجعا
ولم يدلا أني للقضاء مفوض ... وما كان قلبي للقضاء ليجزعا
وكيف أخاف الدهر يوماً وقد غدا ... نصيري مولاي الهمام السميدعا
مليك الورى ركن العلى كعبة التقى ... حليف العلا نجم الهدى المتورعا
خليفة رب العالمين وظله ... على خلقه والمعقل المتمتعا
وقطباً يدور الأمر وفق إرادة ... عليه كما في العلم كان موقعا
ومن قلبه بين إصبعين لربه ... يصرفه وفق المشيئة طيعا
متى فلك التقدير دار لحكمة ... بشيء تجده نحوه صار مسرعا
بنى فوق هام النيربين مكانة ... لها النسر أغضى والسماك تضعضعا
مليك له كل الملوك توابع ... فدع ذكرهم إسكندراً ثم تبعا
رأى كوكب الإقبال فوق جبينه ... فقال لقد صادفت للعز مطلعاً
وأبصر مأوى سعده فلك العلى ... فألفاه أرقى من علاه وأرفعا
بصير بأعقاب الأمور إذا رأى ... رحيم بأحوال الرعية إن رعا
جزاه له العرش خيراً عن الورى ... فكم أحكم الأحكام فيهم ووقعا
وحيا على رغم الكواكب غرة ... تعلم منها البدر أن يتشعشعا
عليها من النور الإلهي مسحة ... تردى محياه بها وتلفعا
لقد جئت قسطنطينة طوع أمره ... ووافيت بحراً بالمكارم مترعا
وشمت محيا بالحياء مبرقعاً ... وأبصرت روضاً بالمعارف ممرعا
وأبصرت قلباً فيه خشية ربه ... وما كان قلب الخاشعين ليخشعا
إذا سمع القرآن يوماً بأذنه ... ترى القلب منه خاشعاً متصدعاً
وإن ذكروا فضل الجهاد رأيته ... يمد جيوشاً ناوياً كونه معا
كما كان ذو النورين وهو سميه ... يجهز جيش العسرتين توسعا
إلهي بحق الواردين لزمزم ... ومن طاف بالبيت العتيق ومن سعا
أطل عمره واشرح لطفك صدره ... وعامله بالألطاف يا واسع الدعا
وأيده بالنصر العزيز وكن له ... ممداً وبالفتح المبين ممتعا
مدى الدهر ما سار الحجيج لمكة ... وما زمزم الحادي لطيبة مسرعا(2/181)
وقصد السفر إلى الشام بنية الحج وأخرج خيامه وسرادقه إلى أسكدار وذلك في يوم الأربعاء سابع رجب سنة إحدى وثلاثين وصمم على هذا الأمر فحصل اللغط من العسكر في ذلك اليوم وقامت الفتنة واجتمعت العساكر واتفقوا على عدم السفر معه ثم تجمعوا في المكان المعروف بآت ميداني واتفقوا على قتل الوزير الأعظم دولار باشا وضابط الحرم السلطاني والدفتردار ومعلم السلطان المولى عمر بدعوى أنهم كانوا السبب لتحرك السلطان على السفر إلى الحج وهجموا في ذلك اليوم بعد الظهر على بيت معلم الملك ونهبوا أمواله وأرادوا قتله فما وجدوه ثم في وقت العصر اجتمع كبار العلماء بالسلطان وسألوه أن يسلم الوزير الأعظم وضابط الحرم أو يقتلهما هو حتى تسكن الفتنة وأبرموا عليه بالسؤال فامتنع ثم تفرق العسكر وفي ثاني يوم وهو يوم الخميس اجتمعوا أيضاً والعسكر كلهم بالأسلحة وآلة الحرب وذهبوا إلى الموالي وجمعوهم بالجامع الجديد الذي عمره السلطان أحمد وأرسلوا قاضي العسكر وقاضي دار السلطنة وبعض الموالي إلى السلطان بطلب الجماعة الذين اتفقوا على قتلهم المذكورين أولاً فامتنع من تسليمهم واستمروا في مراجعته إلى وقت الظهر ومل العسكر من الانتظار فهجموا على دار الخلافة فوجدوا السلطان مصطفى بين الأبواب فأخرجوه وأجلسوه ولما رأى السلطان ما حل به تحير في أمره فأخذ معه الوزير الأعظم السابق حسين باشا وذهب إلى بيت ضابط الجند ليدبر أمره وقال له السلطان تذهب وتأخذ خاطر العسكر وتجعل لكل إنسان منهم خمسين شريفياً وخمسة أذرع من الجوخ وألزمه بذلك فذهب إلى العسكر وكلمهم في ذلك فما كان من جوابهم إلا قتله وذهبوا من وقتهم إلى بيته وقتلوا حسين باشا وقبضوا على السلطان بايزيد وقعت البيعة العامة للسلطان مصطفى فجعل زوج أخته داود باشا وزير أعظم وبعد العصر من هذا اليوم ذهب داود باشا إلى يدي قلة من غير علم السلطان مصطفى وخنق السلطان عثمان وغسله وكفته وصلى عليه ودفنه عند أبيه السلطان أحمد وكان ذلك في اليوم الثامن من رجب وجرت أمور هائلة ونهبت دور كثيرة من دور أركان الدولة وقد استخرج بعض المعتنين بالجفر قتله في تلك السنة من جفر الشيخ الأكبر ابن عربي برموز ظاهرة وفي ذيلها العجب كل العجب بين جمادى ورجب وقيل في تاريخ قتله
مات سلطان البرايا ... فهو في الأخرى سعيد
قال لي الهاتف أرخ ... إن عثمان شهيد
وكانت ولادته في سنة ثلاث عشرة وألف ومدة خلافته أربع سنوات وشهراً واحداً وقتل وله من العمر سبع عشرة سنة.
عثمان بن أحمد بن القاضي العلامة تقي الدين محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي بن إبراهيم بن رشد بضم الراء الفتوحي القاهري الحنبلي الشهير بابن النجار أحد أجلاء علماء الحنابلة بمصر كان قاضياً بالمحكمة الكبرى بمصر فاضلاً مجللاً ذا وجاهة ومهابة عند عامة الناس وخاصيتهم حسن السمت والسيرة والخلق قليل الكلام له في الفقه مهارة كلية وإحاطة بالعلوم العقلية ولد بمصر وبها نشأ وأخذ الفقه عن والده وعن محمد المرداوي الشامي وعبد الرحمن البهوتي الحنبليين وأخذ العلوم العقلية عن كثير كإبراهيم اللقاني ومن عاصره وعن ولده القاضي محمد والقاضي محمد الحواوشي وعبد الله بن أحمد المقدسي وكثير ومن مؤلفاته حاشية على المنتهى في الفقه وكانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وألف ودفن بتربة المجاورين بتربة أبيه وجده قريباً من شيخ الحنفية السراج الهندي.
عثمان بن علي بن محمد بن محمد الغزي المالكي أحد أجلاء شيوخ العربية وصدر أنديتها الندية وممن تصدر بالديار المصرية للتدريس في كل علم نفيس واستفاد طلبة العلم من فوائده وأجازه بصلاته وعوائده وأتى العلوم من أبوابها وجرد مرهفات السنة من قرابها والد بمصر وبها نشأ وأخذ عن شيوخ كثيرين وعنه جمع من أكابر العلماء منهم الشهاب أحمد الخفاجي وألف مؤلفات مفيدة وكانت وفاته بمصر يوم السبت سابع عشر المحرم سنة تسع بعد الألف وهو في عشر السبعين ورثاه الشيخ صالح النوسي بقوله
إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعاً ولم يجب الصبر
فإن ينقطع منك الرجاء فعشر المحرم سنة تسع بعد الألف وهو في عشر السبعين ورثاه الشيخ صالح النوسي بقوله(2/182)
إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعاً ولم يجب الصبر
فإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقي عليك الحزن ما بقي الدهر
السيد عثمان البيراقي كان عالماً صالحاً سكن عند الشيخ غضنفر البيراقي وأجازه بالإرشاد وسكن ببلده قاسم باشا تجاه قسطنطينية بزاوية وله كشف وكرامات قال حسن بيك ابن جاشنكير كان النقشي المنجم منكراً عليه فاتفق أنه جاء يوماً إلى قاسم باشا وقر عند زاوية الشيخ فرأى الجماعة قد قاموا الصلاة الظهر فدخل الزاوية وقام جنب الشيخ في الصف الأول وكان بين يدي الشيخ جلد ظبي مفروشاً طولاً لأجل السجادة فخطر للنقشي ليته لو كان الجلد قريباً منه حتى يقوم عليه مع الشيخ فانقلب الجلد في الحال عرضاً بحيث كان هو والشيخ يسجدان عليه فلما تمت الصلاة قبل النقشي يد الشيخ وتاب وصار مريداً ومعتقداً له وكانت وفاته بعد سنة ثلاث وألف ودفن بزاويته بالمحل المعروف بإينجيل.
عرفة بن أحمد الدجاني القدسي الشيخ الإمام القدوة رأيت ترجمته بخط الشمس محمد بن محمد الداودي القدسي نزيل دمشق الآتي ذكره إن شاء الله تعالى قال في حقه كان عبداً صالحاً خيراً عالماً عاملاً فاضلاً منقطعاً في منزله يدير صهيون بجوار ضريح نبي الله داود عليه السلام رحل في حياة والده هو وأخواه محمد ومحمود إلى مصر وقرؤا بالجامع الأزهر واشتغل كل منهم بمذهب إمام فاشتغل هو بمذهب الإمام مالك ومحمد بمذهب الشافعي ومحمود بمذهب أبي حنيفة وحصلوا وفضلوا وعادوا إلى القدس ملازمين الاشتغال والإشغال فأما محمود فلم تطل مدته بل قتل شهيداً أصيب بسهم ليلاً من قطاع الطريق بين نابلس والقدس قبل سنة ثمان وتسعين وتسعمائة وأما محمد وعرفة فبقيا إلى أن حج الشيخ عرفة في سنة ثلاث بعد الألف فمات بمكة عقب فراغه من الحج.
السيد عز الدين بن دريب بن المطهر بن دريب بن عيسى بن دريب بن أحمد بن محمد بن مهنا بن سرور بن دهاس بن سلطان بن منيف بن يحيى بن إدريس بن يحيى بن علي بن بركات بن فليته بن حسين العابدا بن يوسف بن نعمة بن علي بن داود المحمود ابن سليمان الشيخ الكريم ابن عبد الله البر الملقب بالشيخ الصالح ابن موسى الجون ابن عبد الله الكامل شيبة الحمد ابن الحسن المحض ابن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ذكره ابن أبي الرجال وقال في ترجمته كان سيداً سرياً فاضلاً عارفاً بالفقه مشرفاً على غيره ممتلئاً من الوقار والحشمة والجلال قرأ على القاضي الناصر بن عبد الحفيظ المهلا الفصول في أصول الفقه مدة إقامته بشهارة أيام الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم في ليال قليلة وكان يستغرق أكثر الليل في درسه مع تلاوته للقرآن النافع بوجهه وبحضرة كثير من الفضلاء وهو من بلد الجمالة خارج صبياً وكان مسعود أميمونا رحل إلى صعدة وتم له بها فضل وعرف بالمعلم ثم لازم السيد الإمام أحمد بن محمد بن لقمان واختص به وانتفع به وذلك سبب سكون السيد عز الدين في الطويلة فإنه سكنها وولي أمورها وتمول وكان هو المرجع لأهل الإقليم في القضاء والفتيا وفيما يعوز وفيما يعوز من أمور السياسة والولاة يجتمعون عنده لكل مهم وهو فيهم نافذ الكلمة رحب الفناء وله أموال هنالك ودور ومقام عظيم ابتنى بالطويلة جامعاً عظيماً ووقف عليه أوقافاً وكان من أسعد الناس باعتبارات كثيرة من ذلك خزانة كتب المخالفين والمؤلفين وله معرفة بأنساب أهل البيت وسماع في الحديث وله كتاب في الأصول يجري مجرى الشرح للثلاثين مسئلة ويتعرض فيها لفوائد كثيرة وله على الأنساب اطلاع ولما توجهت العساكر المتوكلية إلى حضرموت صحبة سيف الإسلام أحمد بن الحسن بن القاسم كان هذا الشريف أحد الأعضاء ونزل هنالك وعاد مسعوداً وكانت وفاته في نيف وستين وألف ودفن بقرب الجامع الذي بناه في الطويلة.(2/183)
السيد عز الدين بن علي بن الحسن بن محمد بن الحسن بن عبد الرحم نبن يحيى بن محمد بن عيسى وتتمة نسبه مذكورة في ترجمة السيد الحسن النعمي الحسني السيد العلامة العارف بجميع العلوم والكارع من مشارب الفهوم ولد سنة اثنتين وثلاثين وألف بعتود ونشأ بالدهناء وعكف في محاريب الفنون كلها لا سيما الأديبة وحاز من تلك المزايا أسنى المفاخر وسار في الآفاق صيت فضله وكان قاضي الحج اليماني من قبل الإمام المتوكل على الله إسماعي لبن القاسم ارتحل في أول طلبه إلى صعدة وأخذ الفقه عمن بها ثم إلى صنعاء وأخذ عن العلامة القاضي أحمد بن أبي الرجال فنوناً عديدة وعن العلامة محمد بن إبراهيم السحوتي وأخذ عن السادة آل جحاف بحبور واستمر قاضي الحج من سنة سبع وستين وألف إلى سنة اثنتين وثمانين فعرض له عمي فعزل وكان له على ذلك جائزة عظيمة فكتب إلى الإمام يستعطفه ويطلب منه أن يجري عليه ما كان له قصيدة مطلعها
إليك يداً ذا العرش من متظلم ... رمته قسي البين من غير ظالم
يمد يداً منه ويبط أنملاً ... يبيح بشكوى من أسى وجرائم
ومن عقد أنت اللطيف بحلها ... وما نفثت فيها ذوات التمائم
تبصرت الأيام مني خلسة ... فصالت على جسمي برمح وصارم
وأشلت على صرمي بنيها تعمداً ... فعفت بديوان الصلات معالمي
محت منه آمالي ومالي وما رعت ... خلافة مهيد تسمى بقاسم
خلافة مهدي علت بركاته ... على النجم حمال الثقل المغارم
وما جاز في دين الخلائف أنهم ... يعودون فيما عودوا من مكارم
وما أشرفت منهم على حين غفلة ... عيون العدى إلا رموا برواجم
يرد مشيراً لسوء عن مقعد الندى ... ذميماً ومن يسعى بقطع الغلاصم
فعطفاً أمير المؤمنين ومنة ... على العبد من تغيير وصل ملازم
فإني أرى العادات منك كريمة ... وأكرمها عادات أهل المواسم
لهم كل عام منك سبب إلى منى ... بمحكم ديوان جزيل المغانم
وقد كان لي فبه عطاء مخلد ... برسم كريم رازق غير حارم
فإن يكن الأمر الذي أصبحت به ... عيوني في قلبي محا اسمي وخاتمي
وألقى عن الظهر النحيف علائقاً ... لفصل القضا والرسم مفروض حاكم
فهبه فهلا كان في سعة الندى ... لفاقد عينيه إقالة راحم
وإجراء مالي من نوال مدفتر ... تخب به نحوي حداة الرواسم
وما راش ذو سهم سهام ابن حرة ... بريش أخيه من حديث وقادم
قوله فإن يكن الأمر البيت يشير إلى قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن يأخذ الله من عيني نورهما وكتب إلى السيد الحسن بن الإمام إسماعيل المتوكل شاكياً من السيد سالم بن مهنا وهو إذ ذاك والي تبش والشريف أبي طالب بن محمد بن حسين الخواجي صاحب صبيا لما أرسلوا عسكراً عمت بليتهم ذا الجرم ومن لا جرم له على لسان أهل المخلاف بقوله
أمثلك يا ابن بجسدتها ينام ... على حال يضام به الأنام
يسامون التي فيها هوان ... وذلك لا يقاس به أثام
ويؤخذ سالم منها بجان ... ويترك من به منهم سقام
أليس لذا الورى منكم ذمام ... وليس وراء ذمتكم ذمام
فكلهم لدى حرم أمين ... وأنت لخوفهم بلد حرام
وقد وصلوا بعروتكم حبالاً ... متاناً لعروتها انفصام
فلا ترضوا بمال من دعي ... يصادر إنكم قوم كرام
نقيبان ببلدتنا أناخا ... مناخاً لا يسد به انثلام
رأوا ما لا يرى حسناً ومالوا ... إلى غير الذي شرع الإمام
وهل إلا بكم تحمى الرعايا ... ويأمن منهم يمن وشام
بمثل علاك يعتصمون يوماً ... يكون لبأسه فيه ضرام
وأنت البدر يهدي من ضلال ... ويستجلي بطلعته الظلام(2/184)
وسيف للإمام أبي المعالي ... ومهدي الزمان فلا يضام
وفيك يقال ليس له نظير ... وفيك يناظر البحر اللهام
فكفوا سنة الأجناد عنهم ... فإن الجند أشرار طغام
وما المهدي إلا خير هاد ... وسيرته على الناس الغمام
تعيش به البرية فاستغيثوا ... لهم بالعدل منه والسلام
وكتب إليه وهو بمدينة حبور وكان إذا ذاك بحضرته بها
بقيت أبا يحيى على النجم واطياً ... وبالنصر مخدوماً وللدين حاميا
وبدر الهالات المعارف ساطعاً ... وبحر الطلاب العوارف طاميا
دعانا إلى علياك فضل أرى له ... روائح في هذا الورى وغواديا
فأيقظت آمالي وما كن غفلاً ... وكلفتها طوداً تناجي الدراريا
أقول لنفسي وهي تركب روعها ... وقد بلغت مما تلاقي التراقيا
وقد قصرت عن قلة النيق بغلتي ... وأعوزني حالي إلى المشي راقيا
مديحن لا ينجيك منه تميمة ... ولا ذو رقي أن تطلبي لك راقيا
مديحن اسم لعقبة ينفذها الطريق السالك إلى مدينة حبور
وما كنت أخشى أن تعاطى ركوبه ... ولا أن تلاقي منه تلك الملاقيا
فقالت إذا كانت مراقيه تنتهي ... إلى حسن أحسن بهن مراقيا
إلى ملك يستسهل الصعب والسرى ... إليه ويرمي بالنفوس المراميا
ويمتاح للآمال من عتباته ... رغائب ينقعن القلوب الصواديا
عزيز المعزلي المكنى بأبي عزي زنزيل مصر ذكره المناوي في الطبقات وقال في ترجمته كان مقيماً بمصر في الجامع الأزهر وهو من أرباب المجاهدة والذكر والفكر وكان يغلب عليه الجذب والاستغراق وكان يحفظ القرآن ويكثر من تلاوته ومن كراماته الخارقة أنه كان إذا غلب عليه الحال أكل رطل كبريت مدقوقاً وربما زاد على ذلك ويأخذ صحن الجامع في وثبة واحدة وربما أقام صارخاً أو شاخصاً اليوم أو الليلة قال واجتمعت في جامع طولون من غير قصد مني فإني بينما أنا جالس به إذ هو قد أتاني ووضع يده في يدي فوجدتها من كثرة المجاهدة وغلبة الحال جلداً بلا لحم قال وكانت وفاته في سنة عشرة بعد الألف وتوفي بالصحراء.
السيد عطاء الله بن محمود المعروف بالصادقي الحلبي القاضي كان من أدباء العصر الفائقين وله منادمة مبهجة وشعر بديع الصيغة والصنعة رقيق النادرة ولي القضاء في عدة بلاد إلى أن وصل إلى قضاء الموصل وفيها نظم أبياته المشهورة اللطيفة الموقع يشير فيها إلى بيتين للأمير شرف الدولة أبي الفضل بن منقذ وأبياته هي قوله
ومعذر حلوا للمى قبلته ... نظراً إلى ذاك الجمال الأول
وطلبت منه وصله فأجابني ... ولى زمان تعطفي وتدللي
نضبت مياه الحسن من خدي وقد ... ذهب الروى من غصن قدي الأعدل
قلت الحديقة ليس يحسن وصفها ... إلا إذا جفت بنبت مبقل
دعك اتبع قول ابن منقذ طائعاً ... واعلم بأني صرت قاضي موصل
وبيتا ابن منقذ هما قوله
كتب العذار على صحيفة خده ... سطراً يحيرنا ناظر المتأمل
بالغت في استخراجه فوجدته ... لا رأي إلا رأي أهل الموصل
وأصل هذا ما شاع عن أهل الموصل أنهم لا يهوون إلا المعذر وربما بالغ بعضهم فقال نحن قوم إذا سمحنا في طريق المحبة بنوال لا نسمح إلا لمن ينفق على عياله وهذا مذهب جرى عليه الحلبيون أيضاً وسؤال العلامة العماد الحنفي الدمشقي للأستاذ أحمد بن المنلا الحلبي في قصيدة له عن ترك الميل إلى المرد والميل إلى المعذرين وجواب ابن المنلا بما لا يشفي الغليل في قصيدة أخرى كلاهما مثبتان في ريحانة الشهاب وكانت وفاة الصادقي المترجم في سنة إحدى وتسعين وألف.(2/185)
عقيل بن عبد الله بن عقيل بن شيخ بن علي بن عبد الله وطب بن محمد منقذ ابن عبد لله بن محمد بن الشيخ عبد الله باعلوي الحضرمي الإمام العالم العلم ذكره الشلي وقال في ترجمته ولد بمدينة تريم ونشأ بها وحفظ القرآن واشتغل بالعلم والأدب وتفقه بالسيد الجليل محمد بن الفقيه علي بن عبد الرحمن وصحب الإمام العارف بالله تعالى عمه السيد محمد بن عقيل ولازمه حتى تخرج به ثم رحل إلى المسجد الحرام وحج ثم رحل إلى الديار الهندية وحصل به بها جاه عظيم وكان له اعتناء تام بجمع الكتب النفيسة فجمع منها حصة عظيمة ثم عاد إلى الحرمين وأخذ بهما عن جماعة ثم رجع إلى وطنه تريم وألقى بها عصاه إلى أن توفي وكانت وفاته سنة اثنتين وعشرين بعد الألف ودفن بمقبرة السادة الشهية بزنبل.
عقيل بن عمر اشتهر بعمران بن عبد الله بن علي بن عمر بن سالم بن محمد بن عمر بن علي بن أحمد بن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم أبي المواهب أحد العباد المشهورين ولد بقرية المرباط م نقرى ظفار الحبوطي وحفظ القرآن وصحب العارفين والمشايخ فأول سماعه وهو ابن عشر سنين من السيد الجليل شهاب الدين أحمد بن محمد الهادي ابن شهاب الدين بظفار أخذ عنه وعن غيره وكان له في ابتدائه سياحات واجتهادات فكان ينعزل عند قبر جده إلا على محمد بن علي بمرباط المدة المديدة وكذا عند قبر العارف بالله صاحب حاسك وربما تعبد في بعض الجبال قريب البلاد ثم رحل إلى الديار الحضرمية فلقي جماعة من السادة العلوية وأخذ بتريم عن تاج العارفين الشيخ زين العابدين العيدروس وأخيه الشيخ شيخ وابن أخيه الشيخ عبد الرحمن السقاف العيدروس وأخذ عن السيد الجليل محمد الهادي ابن عبد الرحمن ولازمه ملازمة تامة وأخذ عنه عدة علوم ولبس الخرقة من هؤلاء وتفقه على القاضي السيد أحمد بن حسين بلفقيه وأخذ التصوف والحقائق عن السيد الجليل أبي بكر الجنيد وعن السري بن عمر بن عبد الله باهرون بروغة وصحب السيد بن الحسين والحسن ابني أبي بكر بن سالم بعينات وغيرهما من أولاده وأخذ عن الشيخ حسن باشعيب بالواسطة ثم رحل إلى اليمن للسيد العارف عبد الله بن علي بن حسن ثم رحل إلى الحرمين في سنة ثلاث وثلاثين وألف وحضر دروس السيد عمر بن عبد الرحيم البصري الفقهية وغيرها وأخذ عن الشيخ الكبير أحمد بن علان والسيد الجليل علي باهرون والعارف بالله سعيد بابقي وغيرهم ثم رحل لطيبة وأخذ بها عن جماعة ثم عاد إلى شيخه العارف عبد الله بن علي الوهط ولازمه ملازمة تامة وأخذ عنه علوماً جمة وألبسه الخرقة ولما ألبسه قال فيه
لبست تلك الخرقة الأنيقة ... وخرت أسراراً لها دقيقة
فهمت ما قد لاح أو تلالا ... من نور تلك البرقة المشيقة
وأنت مخطوب لسر معنى ... أهل الطريق صرت والحقيقة(2/186)
ثم عاد إلى مدينة تريم وأخذ عنه جماعة ثم عاد لوطنه ظفار وألقى بها عصا السفر ونصب نفسه لنفع الأنام وأخذ عنه جماعة منهم السيد الصالح الولي ابن عمه عمر بن علي وولده السيد علي بن عمر بن علي الشهير بإقليم ظفار ومنهم أولاده السادة أحمد وطه وزين العابدين وقاضي ظفار الشيخ عمر بن عبد الرحيم بأرجا الشهير بالخطيب والشيخ الكبير محمد بلعفيف وأخره الشيخ أبو بكر صاحب طابقة والشيخ أحمد حاسكي ابن الشيخ سعد وغيرهم قال الشيخ الشلي واجتمعت به في ظفار سنة إحدى وخمسين وألف وقرأت عليه كتاب التنوير لابن عطاء الله الإسكندري وبعض إحياء علوم الدين وقرأت عليه تأليفه المسمى فتح الكريم الغافر في شرح حلية المسافر وسمعت بقراءة غيري كتباً كثيرة وألبسني الخرقة وأجازني في جميع مروياته وأذن لي في الإلباس وله مؤلفات مفيدة منها العقيدة وهي منظومة وشرحها الشيخ أحمد بن محمد المدني الشهير بالقشاشي شرحاً عظيماً وله شرح على قصيدة العارف بالله سعيد بن عمر بلحاق التي مطلعها لما بدت لي حلية المسافر سماه فتح الكريم الغافر لم يسبقه غيره إلى نسج مثله ورتبه على ترتيب السلوك إلى ملك الملوك مع زيادة أمثلة في معنى السفر الحسي والمعنوي وله نظم بديع الأسلوب وأكثره على طريقة الصوفية وكان يحب السماع وكان له جاه واسع وأخلاق شريفة وكان ملجأ للوافدين يكرم الضيفان ويكسو العريان وكان ملازم الاستقامة وظهرت منه كرامات وكان يقول شفعت في أهل وقتي من قاف إلى قاف إشارة إلى أنه أعطي الولاية الكبرى ولم يزل في ظفار إلى أن توفي وكانت وفاته ليلة الأربعاء لليلتين بقيتا من المحرم سنة اثنتين وستين وألف وشيعه خلائق لا يحصون ودفن بقرية المرباط وقبره بها معروف باستجابة الدعاء عنده ورثاه السيد علي بن عمر بقصيدة أولها
سلام على من حل في لب خاطري ... وإن غاب عن عيني شهود النواظر
محب ومحبوب وداع إلى الهوى ... وفتاق سر السر من قرب قادر
ثم قال في أثنائها
لئن قال معروف وبشر وحاتم ... وسهل مقامات جنيد البواهر
وغزال تصنيف ومحضار سطوة ... وجيلان بغداد سما عند عاقر
وبسطام أحوال وشبلي وشاذلي ... أبو الغيث جذبات حظي بالبشائر
ففيه انطوت أحوالهم وتجمعت ... فصار إماماً جل عن كل ماهر
وهي طويلة ورثاه غيره.
السيد علوي بن إسماعيل البحراني الأديب الشاعر ذكره السيد علي بن معصوم وقال في وصفه شاعر هجر ومنطيقها الذي واصل المنطق الفصل وما هجر يفسح للبيان مجالاً ويوضح منه غراراً وأحجالاً ويطلع في آفاقه بدوراً وشموساً ويروض من صعابه جموحاً وشموساً ويشتار من جناه علاً ويهز من قناه أسلاً ومعظم شعره فائق مستجاد فنه قوله في النسيب وأجاد
بنفسي أفدي وقل الفدا ... غزالاً بوادي النقا أغيدا
مليحاً إذا نض عن وجهه ... نقاب الحيا خلت بدراً بدا
سقيم اللواحظ مكحولها ... ولم يعرف الميل والأثمدا
رشيق القوام إذا هزه ... رأيت الغصون له سجداً
له ريقة طعمها سكر ... يجلي الصدا ويروي الصدا
ولحظ كعضب ولكنه ... يشق القلوب وما جردا
تفرد بالحسن دون الملا ... فسبحان مولى له أفردا
نأى بعد فهو لغيري ولي ... قريب المزار بعيد الملا
رعى الله ليلاتنا الماضيات ... وعيش ألفنا به أرغدا
وصب على ترب تسلك الربوع مثعنجراً مبرقاً مرعدا
إلى حيث أخنت صروف الزمان ... وشمل الوصال بها بددا
وأضحت قفاراً وليس بهن من ذلك الجمع إلا الصدا
إذا قلت أين حبيبتي غداً ... يجيب بأين حبيبتي غدا
وكانت وفاته في سنة تسع وسبعين وألف بالبحرين ودفن بمسجد أبي عنبرة.(2/187)
علوي بن حسين بن محمد بن أحمد بن حسين بن عبد الله العيدروس الناقد المحقق البارع النجيب كان فرد وقته في اقتناء المفاخر والعلم الجم ولد بتريم في سنة ألف وحفظ القرآن وأداه بالتجويد واشتغل حتى بلغ ما لم يبلغه المشايخ الكبار مع تقدس نفس ومكارم أخلاق وأخذ الفقه عن الشيخ عبد الرحمن بن علوي بافقيه ولازمه ملازمة تامة وكان جل انتفاعه عليه وأخذ عن الشيخ أحمد بن عمر عبد يد عدة علوم ثم حج ودخل المدينة وعاد إلى مكة وتديرها واشتغل على السيد عمر بن عبد الرحيم ولازمه في دروسه وأخذ عن السيد الجليل محمد بن عمر الحبشي وصاهره بابنته وكان ملازماً للشريعة والطريقة كثير التحري في الدين وانتفع به جمع وكان كلامه مشتملاً على العبارات الفصيحة والنكت البديعة وكان مجتهداً في العبادة ونشر العلم يصدع بالحق ويسطو على الفسقة وكان متورعاً عن صحبة الملوك متجرداً عن الدنيا قانعاً منها بالكفاف لا يشتغل بشيء من أمور الدنيا وكان الناس يعتقدونه ويأتون إليه بالنذور ولا يأخذ إلا عن تثبت وما دخل عليه أنفقه على من عنده من الفقراء ملازماً لأخيه الشيخ أبي بكر متبعاً لأمره ولم يزل على ذلك حتى توفي وكانت وفاته بمكة المكرمة في سنة خمس وخمسين وألف ودفن في مقبرة المعلاة رحمه الله تعالى.
علوي بن عبد الله بن أحمد بن حسين بن الشيخ عبد الله العيدروس إمام الأولياء الأخيار وقدوة العارفين الكبار قال الشلي في ترجمته ولد بتريم وحفظ القرآن ثم اشتغل فصحب السيد العارف بالله تعالى علوي بن محمد بافرج والسيد العالم العارف عبد الله بن سالم وبدر الدين الشيخ زين بن حسين أخذ عن هؤلاء الثلاثة عدة علوم من علوم الشريعة والحقيقة وألبسوه خرقة التصوف وصحب والده واجتهد في العبادات ولازم السنن النبوية وجمع بين العلم والعمل وجمع الله تعالى له بين تمام الفضل وكمال العقل وحببه إلى جميع الأنام وكان يحب العزلة والانقطاع وله مكاشفات شتى وخرج عن تريم إلى محله المعروف بوادي بتي وخلا بنفسه وقصده الناس في محله وتصدر للانتفاع فسار ذكره وانتفع به خلائق لا يحصون وتخرج به كثيرون منهم الشيخ العالم العامل أحمد بن عمر بن فلاح وولده الشيخ عمر وسالم بن زين بافضل وعبد الله بافضل وأخوه حسين قال الشلي وقد حضرت عنده مراراً بمجلسه وانتفعت بصحبته واستفدت من درسه وكان حسن العبارة عالماً متضلعاً في علم التصوف والحديث والفقه صادعاً بالحق كثير الشفاعات يجهر بالحق على السلطان فمن دونه ولا يعبأ بالجهال وله في ذلك وقائع كثيرة ولم يزل في ذلك الوادي حتى توفي في سنة خمس وخمسين وألف ودفن بمقبرة زنبل من جنان بشار.(2/188)
السيد علوي بن علي بن أحمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن السقاف نزيل مكة الأستاذ الكبير الولي صاحب الكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة قال الشلي ولد بتريم في سنة ثمان وخمسين وتسعمائة ونشأ بها وكان أميالاً يقرأ ولا يكتب وارتحل إلى اليمن والحرمين وكان يتردد إليهما ويتعاطى أول أمره أسباب التجارة وصحب جماعة من أكابر العارفين وانتفع بصحبتهم ورأى ليلة القدر ودعا بدعوات منها أن يبارك الله في رزقه وعمره ودعا بدعاء القنوت اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره وكان أكثر أعماله قلبية ثم أقام بمكة واستوطنها وترك التجارة وتزوج بها وولد له أولاد نجباء وأقبل عليه الناس بالاعتقاد واختلفت إليه أكابر مكة وأعيانها لالتماس بركته ودعائه وكان يكره تردد الناس إليه ويهضم نفسه على الدوام لا يصف نفسه بحال ولا مقام له آداب نبوية ومكارم حاتمية مقبول الشفاعة عند الملوك فمن دونهم وكان شريف مكة يحترمه غاية الاحترام وانتفع الناس بصحبته إلا أن صحبته كانت صعبة غالب الناس لا يقدر عليها وله كرامات كثيرة منها أنه كان كثير العطب لمن تعرض له بالأذى فكل من أذاه أو أنكر عليه لا بد أن يحصل له نكد إما مرض أو موت أو سرقة مال أو موت من يحبه أو خروج من وطن أو نحو ذلك وقد جمع كراماته فقراؤه في جزء لطيف وهذه نبذة منها ملخصة من هذا الجزء منها أن شريف مكة وكان إذ ذاك الشريف محسن بن حسين كان وزيره أخذ بعض حبوب الجراية التي ترد لمكة من مصر فأرسل إليه السيد علوي يشفع في رده لأهله فلم يقبل شفاعته فأرسل إليه ثانياً يقول له إن أخذت حبوب الفقراء تكن هذه السنة آخر سنة لك ولسيدك فلم يلتفت إليه فكان الأمر كما قال فما حال عليهما الحول حتى استلبوا دولتهم وعذب ذلك الوزير بعذاب عظيم ومنها أن الوجيه عبد الرحمن بن عتيق الحضرمي وكان وزيراً بمكة تعرض لبعض آل باعلوي بالأذى فجاؤا إلى السيد علوي وأخبروه بذلك وطلبوا منه أن يدعو عليه فقال لهم كفيتم شره فلما أمسى الليل انهدمت دار ابن عتيق عليه وكان جديداً وخاف على نفسه الهلاك ثم عاهد الله تعالى في سره أن لا يتعرض لأحد منهم أبداً ومنها أن بعض المتعجرفين أساء الأدب بحضرة السيد علوي فزجره بعض أقاربه فلم ينزجر وقال إن كان السيد كذا فليدع الله علي بالموت فدعا السيد علوي عليه بالموت فمات في ذلك اليوم ومنها أنه جاءه جوخ فطلب صاحب المكس مكس ذلك الجوخ فقال السيد ما علي مكس ولا أعطي شيئاً في ذلك فأرسل المكاس يقول لئن لم تعط طوعاً وإلا أرسلنا لك عشرة عبيد يأخذون منك ذلك كرهاً فقال السيد للرسول قل له إن أصبحت على وجه الأرض فأرسل مائة وصيف فمات تلك الليلة ومنها أنه أتاه عبيد فطلب مكاس بندر جدة رسم تلك العبيد فامتنع السيد من الإعطاء وقال ما علي رسم فلازمه في ذلك فأعطاه ثلاثة أحرف وقال هذه ثلاثة بثلاث سنين ما يأتيكم موسم الهند فوقع الأمر كما قال ومنها أن زبدية ملآنة قهوة في الروشن فجاءت يده عليها على غفلة فطاحت إلى الزقاق فأمر عبده أن يأتي بها فخرج وفي ظنه أن الزبدية صارت رضاضاً لكونها طاحت من علو وهي ملآنة فوجدها سالمة والقهوة فيها فبهت عند ذلك ومنها أن أولاده أرادوا أن يحلقوا رؤسهم فشرعوا في الحلق وقد جاء وقت ذهابهم إلى الكتاب فخافوا من الفقيه أن يضربهم لتأخرهم فقال لهم نحن نمسك الشمس لكم حتى تحلقوا رؤسكم وقال اللهم بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أن توف الشمس حتى يحلق الأولاد رؤسهم فوقفت الشمس حتى حلقوا رؤسهم كلهم وشاهد ذلك من حضر ومنها أن بعض الفقراء أتى إليه وقال له ليس عنده نفقة هذا اليوم وكان عنده عما ليفرشون طناً فقال له السيد اعمل معهم لعلك تجد ما تنفقه فعمل معهم فإذا بدينار ذهباً ومنها أن بعض الفقراء ألح عليه في الطلب وكانت له بقرة عندهم فأمرها أن تنطحه فتبعته وهو شارد منها حتى حال الناس بينه وبينها ومنها أن بعض آل باعلوي طلب أن يدعو الله تعالى أن يوسع عليه في الدنيا فدعا له بذلك وقال له اذهب واعمل أكياساً للدراهم ففعل فأتته الدنيا وهي راغمة حتى امتلأت تلك الأكياس ومنها أنه أتى من سفر فلما وصل بندر القنفدة طلب منه بعض المسافرين أن يتقدم إلى أهله ليخبرهم بوصوله وطلب منه سبحة علامة فأبى فأخذ السبحة على حين غفلة من السيد وسافر بها فتعرضت له حية عظيمة على طريقه فمنعته السفر(2/189)
إلى مكة حتى رجع إلى السيد واعتذر إليه ومناقبه كثيرة وكان زاهداً في الدنيا ورياستها ومن زهده فيها أنه طلب ورثته من حضرموت وقسم بينهم جميع ما عنده من المال على حسب إرثهم وتجرد عن الدنيا وتكفل بخدمته ونفقته تلميذه ابن ابن ابن أخيه أبو بكر بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن علي بن عقيل لكونه كان يحبه جداً ولم تطل حياته بعد ذلك وكان سبب موته أنه سئم من الحياة وطلب من الله تعالى أن يقبضه إليه فظهر في بدنه بثرة ولم تزل تزداد كل يوم واشتد به الألم وعرض على كثير من الأطباء والذين يعانون الجراحات فلم يوجد عندهم طب ولم يعرفوا لها دواء واستمر مرضه نحو اثني عش يوماً ومات في يوم الأربعاء وقت الضحى لخمس مضين من المحرم سنة ثمان وأربعين وألف وحزن الناس لفقده واجتمع الخلائق للصلاة عليه في المسجد الحرام وحضر الصلاة عليه شريف مكة الشريف زيد بن محسن ودفن بالمعلاة في حوطة آل باعلوي وقبره بها معروف يزار رحمه الله تعالى. مكة حتى رجع إلى السيد واعتذر إليه ومناقبه كثيرة وكان زاهداً في الدنيا ورياستها ومن زهده فيها أنه طلب ورثته من حضرموت وقسم بينهم جميع ما عنده من المال على حسب إرثهم وتجرد عن الدنيا وتكفل بخدمته ونفقته تلميذه ابن ابن ابن أخيه أبو بكر بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن علي بن عقيل لكونه كان يحبه جداً ولم تطل حياته بعد ذلك وكان سبب موته أنه سئم من الحياة وطلب من الله تعالى أن يقبضه إليه فظهر في بدنه بثرة ولم تزل تزداد كل يوم واشتد به الألم وعرض على كثير من الأطباء والذين يعانون الجراحات فلم يوجد عندهم طب ولم يعرفوا لها دواء واستمر مرضه نحو اثني عش يوماً ومات في يوم الأربعاء وقت الضحى لخمس مضين من المحرم سنة ثمان وأربعين وألف وحزن الناس لفقده واجتمع الخلائق للصلاة عليه في المسجد الحرام وحضر الصلاة عليه شريف مكة الشريف زيد بن محسن ودفن بالمعلاة في حوطة آل باعلوي وقبره بها معروف يزار رحمه الله تعالى.
علوي بن عمر بن عقيل بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن الشيخ محمد جمل الليل الإمام الجامع بين المعقول والمنقول قال الشلي في ترجمته ولد بقرية روعة وحفظ القرآن بالتجويد ثم اشتغل بالعلم وتفقه في الدين على جماعة واعتنى بسائر العلوم وجمع بين الحقيقة والشريعة ثم دخل الهند فقابله بعض وزراء السلطان المسمى ملك ريحان بالإكرام وأقام عنده برهة يدرس ويفيد ثم عاد إلى وطنه ومشى على طريقة آبائه من النفع والقرى فظهر شأنه ودخل الهند مرة ثانية ونال عند الملك ريحان مرتبة علية قال وبلغني أنه حد وأنه أخذ عن جماعة من العارفين بالحرمين ولم تكن له كثرة قراءة وإنما كان مجداً في الطلب له جلد على مطالعة الكتب وربما سهر أكثر الليل في ذلك وله خط حسن كتب بخطه عدة كتب أكثرها في العربية والأدب وله رسائل مشتملة على عبارات فصيحة ونكت بديعة وكان عذب اللسان حلو المنطق جواداً سخياً كثير الورع تام المروءة كامل الفتوة حافظاً لسيرة السلف ولم يزل في التحصيل حتى توفي إلى رحمة الله تعالى وكانت وفاته في سنة أربع وخمسين وألف رحمه الله.(2/190)
السيد علوي بن محمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوي بن أبي بكر الجفري بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم ويعرف كسلفه بالجفري أحد العباد المشهورين ذكره الشلي وقال في ترجمته ولد بمدينة قسم ونشأ بها ثم اشتغل بالتجارة وبورك له فيها وجاب البلاد وسار إلى الجبال وأقام بالمستفاض أرض المهرة مدة وعظمه سلطانها ورحل إلى السواحل وبجله ملوكها وارتحل إلى الهند واليمن ومصر وغيرها وكان كثير الأسفار إلى الحج وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم وصحب جماعة من أكابر الصوفية وانتفع بصحبتهم وكان غاية في الجود والكرم وصلة الرحم وحب الفقراء والإحسان إليهم ومحبة العلم والعلماء والصلحاء والأولياء وكان ديناً صدوقاً وقوراً مشهوراً بالعفاف وكرم النفس كثير الورع وكان على قدم كامل من الصلاح والعبادة وكثرة الصدقة والصلة ثم أقام بتريم وترك السفر وتخلى للعبادة وكان من عادته حين يستهل شهر رمضان لا يخرج من بيته حتى ينسلخ إلا لصلاة الجمعة أو صلاة التراويح وكان وجيهاً عند الناس مقبول الشفاعة والقول مسموع الكلمة صبوراً على السعي في قضاء حوائج المسلمين وكان عاقلاً مختشماً ذا رأي صواب وكان بينه وبين سيدي محمد بن عمر البيتي صحبة ومودة عظيمة قال الشلي وكان الوالد يعني والده أبا بكر يقول لم أر مثلها بين اثنين قط ولزم صحبة الشيخ عبد الرحمن السقاف بن محمد العيدروس في آخر عمره ملازمة تامة وكان يمشي على نهجه ويتبع طريقه ويقتدي بصنيعه وكان كثير الاعتناء به وكان بينهما من الصحبة والألفة ما هو مشهور فلا حاجة إلى الإطالة فيه وكان من طريقته أن تفريق الصدقة على جماعته أحب إليه من أن يعطيها رجلاً واحداً وهذه مسئلة ذكرها الشافعية واختلفوا في أنه لو سد جوعة مسكين عشرة أيام هل أجره كأجر من سد جوعة عشرة مساكين فالذي قاله ابن عبد السلام وتبعه كثيرون لا يكون كأجره فقد يكون في الجمع ولي وقد حث الله تعالى على الإحسان للصالحين وهذا لا يتحقق في واحد ولأنه يرجى من دعاء الجمع ما لا يرجى من دعاء الواحد ومن ثم أوجب الشافعي رحمه الله تعالى دفع الزكاة إلى جميع الأصناف انتهى وكان صاحب الترجمة صافي الفؤاد حسن الاعتقاد لا يعرف الغل والخداع وعاش في النعمة معززاً مكرماً وحج آخر عمره وكان الوقوف يوم الجمعة وعاد إلى وطنه تريم فتوفي بها وكانت وفاته في سنة إحدى وستين ألف.(2/191)
علي بن إبراهيم بن أحمد بن علي بن عمر الملقب نور الدين بن برهان الدين الحلبي القاهري الشافعي صاحب السيرة النبوية الإمام الكبير أجل أعلام المشايخ وعلامة الزمان كان جبلاً من جبال العلم وبحراً لا ساحل له واسع الحلم علامة جليل المقدار جامعاً لأشتات العلى صارفاً نقد عمره في بث العلم النافع ونشره وحظي فيه حظوة لم يحظها أحد مثله فكان درسه مجمع الفضلاء ومحط رحال النبلاء وكان غاية في التحقيق حاد الفهم قوي الفكرة متحرياً في الفتاوى جامعاً بين العلم والعمل صاحب جد واجتهاد عم نفعه الناس فكانوا يأتونه لأخذ العلم عنه من البلاد مهاباً عند خاصة الناس وعامتهم حسن الخلق والخلق ذا دعابة لطيفة في درسه مع جلالته وكان الشيوخ يثنون عليه بما هو أهله من الفضل التام ومزيد الجلالة والاحترام وكان إذا مر على الشيخ سلطان المزاحي وهو في درسه مع جلالته يقوم له ويقبل يديه ويأخذ سر مودته بيده ويضعها في خزانة الشيخ علي ويفرش له سجادته التي يجلس عليها في التدريس ثم يرجع إلى درسه ووقف جميع كتبه على الشيخ المذكور ولد بمصر سنة خمس وسبعين وتسعمائة وروى عن الشمس الرملي ولازمه سنين عديدة وعن الأستاذ محمد البكري والنور الزيادي والشهاب ابن قاسم وإبراهيم العلقمي وصالح البلقيني وأبي النصر الطبلاوي وعبد الله الشنشوري وسعد الدين المرحومي وسالم الشبشيري وعبد الكريم البولاقي ومحمد الخفاجي وأبي بكر الشنواني ومنصور الخوانكي ومحمد الميموني الشافعيين وعن الإمام علي بن غانم المقدسي الحنفي ومحمد النحريري الحنفي وسالم السنهوري المالكي ومحمد بن الترجمان الحنفي ومحمد الزفزاف وعبد المجيد خليفة سيدي أحمد البدوي وانتفع به خلق لا يحصون كثرة منهم النور الشبراملسي والشمس محمد الوسيمي والشمس محمد النحريري وغيرهم وألف المؤلفات البديعة منها السيرة النبوية التي سماها إنسان العيون في سيرة النبي المأمون في ثلاث مجلدات اختصرها من سيرة الشيخ محمد الشامي وزاد أشياء لطيفة الموقع وقد اشتهرت اشتهاراً كثيراً وتلقتها أفاضل العصر بالقبول حررها تحريراً إما مع الشيخ سلطان وله حاشية على منهج القاضي زكريا وحاشية على شرح المنهاج للجلال المحلي وحاشية على شرح الورقات للجلال المذكور وحاشية على لابن إمام الكاملية وحاشية على شرح التصريف للسعد وشرح على الأربعين النووية وشرح على الشمائل النبوية لم يتم سماه الوفا لشرح شمائل المصطفى رد فيه كثيراً على عصريه عبد الرؤف المناوي وحسن التبيين لما وقع في معراج الشيخ نجم الدين والفجر المنير بمولد البشير النذير وشرح ليلة النصف من شعبان وشرح على البردة وشرح على المنفرجة وزهر المزهر وهو مختصر المزهر للسيوطي في اللغة وشرح على شرح القطر للفاكهي ومطالع البدور في الجمع بين القطر والشذور والفوائد العلوية بشرح شرح الأزهرية والتحفة السنية شرح الأجرومية وغاية الإحسان بوصف من لقبه من أبناء الزمان وحسن الوصول إلى الطائف حكم الفصول والمحاسن السنية من الرسالة القشيرية والجامع الأزهر لما تفرق من ملح الشيخ الأكبر والنفحة العلوية من الأجوبة الحلبية والنصيحة العلوية في بيان حسن الطريقة الأحمدية والمختار من حسن الثنا في العفو عمن جنا وللطائف من عوارف المعارف وتحرير المقال في بيان وحدة من نحو لا إله إلا الله وحده من أي أنواع الحال والطراز المنقوش في أوصاف الحبوش وصبابة الصبابة مختصر ديوان الصبابة وإنقاذ المهج بمختصر الفرج ومتن في التصريف وحسنات الوجنات النواضر من الوجوه والنظائر وإعلام الناسك بأحكام المناسك وقطعة لطيفة على الجامع الصغير وشرح على شرح البسملة للقاضي زكريا سماه خير الكلام على البسملة والحمدلة لشيخ الإسلام وله قطعة علقها على أوائل تفسير البيضاوي وله رسالة لطيفة في التصوف ودهان التبغ وغير ذلك وكان أحد مشايخ المدرسة الصلاحية التي هي تاج المدارس الكائنة بجوار الإمام الشافعي وأعطاه الله القبول التام في تأليفه وكانت وفاته يوم السبت آخر يوم من شعبان سنة أربع وأربعين وألف ودفن بمقبرة المجاورين رحمه الله.(2/192)
علي بن إبراهيم بن علي المنعوت بعلاء الدين أبو الحسن المعروف بالقبردي الدمشقي الصالحي الشافعي العالم المشهور أوحد أهل عصره في الجمع بين الفنون والأخذ بدقها وجلها إلى التحقيق الباهر الذي يعجب منه العجب وقوة الحافظة وحسن الأداء والتفهيم وبالجملة فكل من عاصره معترف له بالتفوق ومقر له بالتقدم قرأ العقليات على المنلا أبي بكر والمنلا نظام الدين السنديين وأخذ الشرعيات عن أجلاء كثيرين منهم البرهان إبراهيم بن الأحدب المقدم ذكره وأعاد درس الحديث تحت قبة النسر وشيخه الشمس الميداني وكان الميداني مع كونه شيخه وقد تلقى منه فنوناً عديدة يعرف حقه وإذا أبدى سؤالاً تلقاه بالقبول ويقدمه على غيره ويشهد له بالفضل التام ولما حج أقامه مقامه في بقعة التدريس التي كانت له في الجامع الأموي واشتهر بعد ذلك كل الاشتهار وصار يومأ إليه بالإتقان والإحاطة التامة وأقام بالصالحية في حجرة من حجرات المدرسة العمرية لا يتردد إلى أحد وهو راض بخشونة العيش ورقة الحال ولزمه جماعة للأخذ عنه فانتفعوا به ونبلوا وأجلهم السيد محمد بن كمال الدين بن حمزة نقيب الشام وشيخنا عبد الحي بن أحمد بن العماد العكري وكانت الطلبة تقصده حيث كان حتى أنهم يسارعون إليه من المدينة في زمن الشتاء ولا يمنعهم المطر والثلج حرصاً على فوائده ومن فوائده المنقولة عنه على ما رأيته بخط بعض الفضلا أن الشيخ يصغر على شيخ ولا يجوز تصغيره على شويخ لأن أصله الياء وله جموع سبعة وقد نظمها بعضهم فقال
إذا رمت جمع الشيخ وهو مجرد ... يصير مزيداً عنه ما ضمه الجمع
شيوخ وأشياخ وشيخان شيخة ... مشايخ مشيوخاء مشيخة سبع
واعتراه مرض بركبتيه فانقطع مدة ولما ولي المولى أحمد بن المنلا زين الدين المنطقي قضاء الشام وجه إليه المدرسة المرشدية بصالحية دمشق وكان يجله كثيراً وعلى كل حال فهو من عظام العلماء المحققين وكانت ولادته في سنة أربع وثمانين وتسعمائة وعمي قبل موته بمقدار سنتين ثم توفي في ثالث عشرى ذي القعدة سنة ستين وألف ودفن بسفح قاسيون.(2/193)
السيد علي بن إبراهيم بن علي بن المهدي بن صلاح بن علي بن أحمد بن الإمام محمد بن جعفر القاسمي المعروف بالعالم الشرفي ومحمد بن جعفر المذكور في نسبه هو المقبور في جبل حرام من الشرف مشهور مزور عليه قبة عظيمة ابن الحسين بن فليته بن علي بن الحسين بن أبي البركات بن يحيى بن علي بن القاسم بن محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال ابن أبي الرجال في تاريخه هو أحد السادة المعروفين بالفضل الموسومين بالخير وكان السيد العالم صاحب الترجمة والسيد العابد الآتي ذكره فرسى رهان في الفضائل وذكرهما ملأ الآفاق وكان السيد العابد قد رأى في النوم أنه نزل بالمسلمين خطب عينه في الرؤيا لم يحضرني ما هو فهرب الناس ونجا هو بنفسه معهم وأما السيد العالم فاشتغل باطلاع الناس من مواضع الهلكة إلى النجوة فعرض الرؤيا عليه فقال الأمر كذلك أنت مشغول بنفسك وأنا بالمسلمين وصاحب الترجمة أحد شيوخ الإمام القاسم مولده في يوم الخميس ثالث عشر صفر سنة ثلاثين وتسعمائة ونشأ ببلده هجرة الجاهلي من الشاهل ورباه عمه السيد صلاح الدين بن علي بن المهدي وكان السيد صلاح هذا من أعيان أعوان الإمام شرف الدين وتولى القضاء بجهات الشرف والأوقاف للإمام ثم ارتحل السيد علي بن إبراهيم إلى صنعاء لطلب العلم وأقام مدة حتى فتح الله تعالى عليه بمعرفة تامة في القواعد الفقهية ثم رجع إلى بلده وقد كادت تضعف دولة الإمام شرف الدين فحصل على كثير من علماء صعدة ما أوجب الهجرة من أوطانهم من تغلب أهل الجور فوفد إلى السيد علي بن إبراهيم جماعة من أعيان أهل التقوى والعلم من بعض أهل علاف وبعض بني عقبة فأفادوا السيد المذكور علماً إلى علمه وكان مورد للطالبين وكعبة للمسترشدين وتخرج على يديه جماعة من أهل الفضل والعلم والعمل منهم السيد العلامة الهادي بن الحسن من هجرة بني أسد ومنهم السيد رأس العباد وعين الزهاد وخاتمة أهل التقوى واليقين شمس الدين صلاح بن يونس صاحب هجرة أسلم ناشر من أولاد الإمام المتوكل على الله المطهر بن الإمام يحيى شرف الدين ومنهم السيد العلامة أحمد بن الحسين بن علي صاحب هجرة الخواقع من حبل الشاهل تولى القضاء للإمام القاسم بن محمد وغيرهم من الفقهاء من أهل هجر الشرف وغيرها ودرس في شرح ابن مفتاح على الأزهار والتذكرة والبيان مدة مديدة ولما مات السيد الأجل المجاهد المطهر بن الإمام شرف الدين ظهر بجهة الشرف من أنواع المنكرات ما لا يقدر قدره وذلك سنة ثمانين وتسعمائة فوصل قبائل تلك الجهات إلى السيدين العالم والعابد الآتي ذكرهما يستغيثون بهما في دفع ما حصل من الظلم والجور فلم يجد عذراً عند الله تعالى في الترك ومن أعظم الأسباب في قيامهما مرجان متولي تلك الجهة من أعمال غوث الدين بن المطهر بن شرف الدين تظاهر بفعل المنكرات وعسف وأفرط في ظلمه فاجتمع من قبائل الشرف إلى السيدين قدر خمسمائة مقاتل فقصد إلى المحابشة بمن اجتمع إليهما إلى موضع يقال له جبل الغابش وطلع مقدماتهم إلى حصن القاهرة من المحابشة فلقيهم مرجان بمحطة من الجند فناوشوهم القتال فقتل من القبائل خمسة رجال ثم انهزم القبائل ولم يثبت منهم أحد وغدر أهل المحابشة بما قد تعاهدوا عليه من القيام بالأمر بالمعروف ومعاونه السيدين ثم قصد مرجان المذكور قبيلة الأمرور فقتل منهم عشرين رجلاً فهاجر السيد علي بن إبراهيم العابد إلى غفار للقراءة والإقراء وأما السيد علي بن إبراهيم العالم فلم يزل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدرس العلوم بهجرته ثم هاجر بأهله وأولاده إلى حجور الإسلام ووصل إلى السيد غوث الدين بن المطهر إلى قفل مدوم فوضع له موضوعاً في الاستمرار على حالته من التدريس واحترام جانبه ومن يلوذ به حتى دعا الإمام الناصر لدين الله الحسن بن علي بن داود فقام بها في تلك الجهة الشرفية ولما أسر الإمام الحسن أخذ السيد علي في معاونة الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد على القيام بالإمامة وجمع له من أموال فضلات الأوقاف والزكوات ونذوراً كثيرة وحشد له من بلده أهل السلاح قدر ستين رجلاً واكن الإمام القاسم المذكور ممن أخذ عنه العلم من صغره وكان كثير تلاوة القرآن والعبادة وله كرامات مشهورة في حياته وبعد وفاته مات في شهر ربيع الآخر سنة(2/194)
ست بعد الألف واستجاب الله تعالى دعاءه أن لا يميته إلا بعد ظهور قائم من أهل البيت وقبر بهجرة الجاهلي وعلي مشهد مزور وخلف ولدين السيد العلامة الأوحد بدر الدين محمد بن علي وكان عالماً نبيلاً مدرساً للفقه والفرائض وهو شيخ السيد الحسين بن القاسم في الفرائض وتولى القضاء للإمام القاسم في الجهات الشرفية وأرسله إلى عبد الرحيم بن عيد الرحمن بن المطهر في الصلح الأول وتم على يديه واستمر على حاله من الاشتغال بأمور المسلمين وتدريس العلم إلى أن اختار الله تعالى له ما عنده من الانتقال إلى دار القرار سنة اثنتين وثلاثين وألف تقريباً وعقبه في هجرة الجاهلي من الشاهل وقت رقم هذه سنة إحدى وثمانين نحو ثمانين رجلاً منهم العلماء العاملون كالسيد العلامة أحمد بن صلاح بن محمد بن علي بن إبراهيم أخذ العلم عن السيد محمد بن عز الدين المفتي بمدينة صنعاء ثم رجع إلى بلده الهجرة بعد أن أقام بصنعاء سبع سنين فأخذ عنه جماعة من الطلبة علم الفقه بتحقيق قواعده واستمر على ذلك إلى وقتنا هذا وتولى القضاء بجهة الشرف الأسفل مع مكارم أخلاق وإكرام للوافدين والولد الآخر من ولدي السيد علي بن إبراهيم هو السيد صارم الدين إبراهيم بن علي مات مهاجراً بمدينة حوت سنة اثنتي عشرة وألف وله العقب الأطيب الأكثر خلف ستة أولاد منهم السيد العلامة شرف الدين بن إبراهيم وهو أكبر أولاده وكان من أعيان أهل البيت علماً وعملاً وسعة صدر وتولى القضاء للإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم بعد وفاة عمه محمد بن علي واستمر عليه إلى أن مات سنة أربع وسبعين وألف وعمره ست وثمانون وخلف أربعة عشر ولداً ومنهم السيد العلامة المحقق في الأصول والفروع شمس الدين بن إبراهيم بن علي العالم كان من العباد الجامعين بين فضيلة العلم والجهاد ولم يتول شيئاً من الأعمال إلى أن مات سنة أربع وخمسين وألف وعمره خمس وستون سنة وللسيد إبراهيم أربعة أولاد غير هذين وهم السيد محمد بن إبراهيم والسيد العابد أحمد بن إبراهيم والسيد صلاح بن إبراهيم والسيد الحسين بن إبراهيم وكل منهم خلف جماعة من الأولاد ذكورهم في تاريخ راقم هذه الأحرف خمسة وسبعون ما بين كهل وشاب وصغير ولم يخل الله تعالى أولادهم من التمسك بالعلم وسلوك طريق سلفهم الطاهرين هكذا نقله ولد ولد ولده السيد أحمد بن الحسين بن إبراهيم بن علي العالم رحمهم الله. بعد الألف واستجاب الله تعالى دعاءه أن لا يميته إلا بعد ظهور قائم من أهل البيت وقبر بهجرة الجاهلي وعلي مشهد مزور وخلف ولدين السيد العلامة الأوحد بدر الدين محمد بن علي وكان عالماً نبيلاً مدرساً للفقه والفرائض وهو شيخ السيد الحسين بن القاسم في الفرائض وتولى القضاء للإمام القاسم في الجهات الشرفية وأرسله إلى عبد الرحيم بن عيد الرحمن بن المطهر في الصلح الأول وتم على يديه واستمر على حاله من الاشتغال بأمور المسلمين وتدريس العلم إلى أن اختار الله تعالى له ما عنده من الانتقال إلى دار القرار سنة اثنتين وثلاثين وألف تقريباً وعقبه في هجرة الجاهلي من الشاهل وقت رقم هذه سنة إحدى وثمانين نحو ثمانين رجلاً منهم العلماء العاملون كالسيد العلامة أحمد بن صلاح بن محمد بن علي بن إبراهيم أخذ العلم عن السيد محمد بن عز الدين المفتي بمدينة صنعاء ثم رجع إلى بلده الهجرة بعد أن أقام بصنعاء سبع سنين فأخذ عنه جماعة من الطلبة علم الفقه بتحقيق قواعده واستمر على ذلك إلى وقتنا هذا وتولى القضاء بجهة الشرف الأسفل مع مكارم أخلاق وإكرام للوافدين والولد الآخر من ولدي السيد علي بن إبراهيم هو السيد صارم الدين إبراهيم بن علي مات مهاجراً بمدينة حوت سنة اثنتي عشرة وألف وله العقب الأطيب الأكثر خلف ستة أولاد منهم السيد العلامة شرف الدين بن إبراهيم وهو أكبر أولاده وكان من أعيان أهل البيت علماً وعملاً وسعة صدر وتولى القضاء للإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم بعد وفاة عمه محمد بن علي واستمر عليه إلى أن مات سنة أربع وسبعين وألف وعمره ست وثمانون وخلف أربعة عشر ولداً ومنهم السيد العلامة المحقق في الأصول والفروع شمس الدين بن إبراهيم بن علي العالم كان من العباد الجامعين بين فضيلة العلم والجهاد ولم يتول شيئاً من الأعمال إلى أن مات سنة أربع وخمسين وألف وعمره خمس وستون سنة وللسيد إبراهيم أربعة أولاد غير هذين وهم السيد محمد بن إبراهيم والسيد العابد أحمد بن إبراهيم والسيد صلاح بن إبراهيم والسيد الحسين بن إبراهيم وكل منهم خلف جماعة من الأولاد ذكورهم في تاريخ راقم هذه الأحرف خمسة وسبعون ما بين كهل وشاب وصغير ولم يخل الله تعالى أولادهم من التمسك بالعلم وسلوك طريق سلفهم الطاهرين هكذا نقله ولد ولد ولده السيد أحمد بن الحسين بن إبراهيم بن علي العالم رحمهم الله.(2/195)
علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن المهدي بن أحمد بن يحيى بن القاسم بن يحيى بن عليان ومن هنا تتمة النسب قد ذكرتها في ترجمة السيد إسماعيل الجحاف السيد الجليل الصالح الولي رأس الفضلاء وتاج الكبراء كان سيداً مباركاً عادلاً عارفاً له أخلاق رضية وشمائل مرضية تولى الجعفر وما والاها من أرض اليمن نحو ثلاث وثلاثين سنة وهو على حالة واحدة مستقيمة وكان من الإحسان إلى السادة والفقراء بمكان لا يساويه فيه غيره وخلالته عند الأئمة أشهر من أن تذكر ولم يذكر عند أحد من أهل الدين والصلاح إلا أثنى عليه ودعا له وكفى بذلك منقبة وهو والد السيد النجيب فخر أهل الزمان زيد بن علي صاحب المخا ذكرته في كتابي النفخة وذكره صاحب الترجمة السيد الجليل محمد بن الطاهر البحر في تاريخه وأثنى عليه قال وما رأيت فيمن رأيت من الولاة في عصرنا أتقى ولا أكرم منه وكانت وفاته في كسمة في رجب سنة إحدى وسبعين وألف عن نحو ثمانين عاماً ودفن هنالك في جانب مسجده الذي أسسه.
علي بن إبراهيم الخياط الرشيدي الشافعي الشيخ الإمام الحجة الولي المفتن في العلوم والجامع لها والمقدم في المعارف كلها والمتكلم في أنواعها والناقد في جميعها والحريص على أدائها مع ذهن ثاقب وآداب أخلاق وحسن معاشرة ولين جانب وكثرة احتمال وكرم نفس وحسن عهد وثبات ود وملازمة طاعة وكثرة ذكر ولد في العشر الأول من هذه المائة برشيد وبها نشأ وحفظ القرآن وجوده وأخذ عمن بها من علماء عصره ثم قدم مصر وقرأ بالروايات على مقري مصر عبد الرحمن اليمني وأخذ الفقه والعلوم الشرعية والعقلية عن شيوخ كثيرين منهم النور علي الحلبي والبرهان اللقاني والشمس الشوبري والشيخ سلطان المزاحي والنور الشبراملسي والشمس البابلي وجد واجتهد إلى أن بلغ الغاية القصوى ورجع إلى بلده وحمدت سيرته فيها وأقبل عليه جميع أهلها واعتقده عامة ذلك الإقليم وظهرت له كرامات كثيرة وتصدر للتدريس وأخذ عنه خلق كثيرون منهم العلامة أحمد بن عبد الرزاق الرشيدي واقبل على قراءة القرآن قبل موته بسنة فصار لا يتركها صباحاً ومساء وكل وقت حتى ترك التدريس إلى أن توفي في أوائل رجب سنة أربع وتسعين وألف برشيد وبها دفن وأخبر ولده أنه لما احتضر قرأ بعض الحاضرين سورة يس والرعد فلما بلغ إلى قوله تعالى سلام عليكم طبتم الآية خرجت روحه وكان أخبره بعض الأولياء أنه يموت في رجب فكان كلما أتى رجب يقبل على العبادة إلى أن توفي رحمه الله تعالى.(2/196)
علي بن أبي بكر بن علي نور الدين بن أبي بكر بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد المعروف بالجمال المصري بن أبي بكر بن علي بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن ضرغام بن طعان بن حميد الأنصاري الخزرجي المكي الشافعي الإمام الحجة المؤلف المصنف كان صدراً عالي القدر واسع المحفوظ محققاً تشد إليه الرحال للأخذ عنه ذكره الشلي وساق نسبه كما ذكرته ثم قال ولد بمكة سنة اثنتين بعد الألف ونشأ بها وحفظ القرآن ومات أبوه سنة ست بعد الألف كما تقدم في ترجمته فنشأ يتيماً فقيض الله تعالى له الشيخ الولي أبا الفرج المزين فاحتفل بتربيته واشتغل أولاً بالقراآت على الشيخ عبد الرحمن أبي الحسن بن ناصر الأشعري فقرأ عليه إلى أن مات في سنة إحدى وثلاثين وألف فأكمل القراءة على تلميذه الشيخ أحمد الحكمي وقرأ على الشيخ محمد تقي الدين الزبيري وسند الزبيري وسند الشيخ أبي الحسن من طريق أهل المدينة واحد فإنهما قرآ جميعاً على المقري الشيخ محمد بن أبي الحرم المدني وهو عن جماعة أجلاء من أعلاهم سند الشيخ الإمام الشمس محمد بن إبراهيم السمديسي المصري الحنفي وهو عن شيخ القراء أحمد بن راشد الأسيوطي وهو عن إمام القراء أبي الخبير محمد بن محمد بن محمد الجزري وسنده مذكور في النشر وغيره ولم يأخذ الشيخ محمد تقي إلا عن شيخه المذكور وأما الشيخ أبو الحسن فله سنداً آخر من طريق أهل مكة فهو عن الإمام عمر الشعراني وهو عن أجلاء معتبرين من أهل اليمن منهم الشيخ عبد الله بن رعيل الحضرمي الضرير والشيخ علي الرمي القرشي وله أسانيد أخر وأخذ صاحب الترجمة النحو والأصول والعروض عن الشيخ عبد الملك العصامي والكلام عن البرهان اللقاني وأخذ عن السيد عمر بن عبد الرحيم البصري الفقه والأصول والعربية والحديث وأصوله والتفسير والمعاني والبيان وأجازه باللفظ في سنة أربع وثلاثين وألف وأخذ عن العارف بالله تعالى أحمد بن إبراهيم علان العقائد والحديث وعن الشهاب الخفاجي الحديث وعن العارف بالله تعالى عبد الرحمن باوزير التصوف وتصدر للإقراء والتدريس في المسجد الحرام وانتفع به جماعة من الأعلام منهم الشيخ عبد الله بن محمد طاهر عباسي والشيخ أحمد باقشير قلت وشيخنا الحسن العجيمي وشيخنا أحمد النخلي فسح الله تعالى في أجلهما قال وقرأت عليه الفقه والفرائض والحساب والأصلين والحديث وأصوله وكان له قوة إقدام على تفريق كتابة المشكلات وله مؤلفات عديدة منها المجموع الوضاح على مناسك الإيضاح وشرحان على أبيات ابن المقري كبير وصغير وله كافي المحتاج لفرائض المنهاج وفتح الفياض بعلم القراض وقرة عين الرائض في فنى الحساب والفرائض وله المذلل في الفرائض والنفحة المكية بشرح التحفة القدسية لابن الهائم والنقول الواضحة الصريحة في عدم كون العمرة قبل النفر صحيحة ورسالة في التقليد وشرح أبيات الجلال السيوطي التي أولها يتبع الفرع في انتساب أباه وفتح الوهاب بشرح نزهة الأحباب والتحفة الحجازية في الأعمال الحسابية وتحرير المقال في قول ابن المجدي في الشريك أشكال والدر النضيد في مأخذ القراآت من القصيد ولمواهب السنية في علم الجبر والمقابلة وشرح الياسمينية في الجبر والمقابلة ورسالةفي أحكام النون الساكنة والتنوين ووصلة المبتدى بشرح نظم در المهتدى وهو في الفرائض على مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وله أبيات مسوغات الابتداء وشرحها وله مؤلف سماه الانتصار النفيس لجناب محمد بن إدريس رداً على بعض الحنفية في زمانه زعم أن حديث لا تسبواقر يشافان عالمها يملأ الأرض علماً منزل علي ابن عباس وزعم أن ما ورد في فضل قريش مخصوص بالقاطنين بأم القرى وله غير ذلك من تآليف وأشعار وآثار وانفرد في فقههم بمسائل لم يوافقه عليها أحد من فقهاء الشافعية منها أن المصلى في داخل المسجد بقبة مثلاً مبنية فيه إذا صك عليه بأبها مع علمه بانتقالات الإمام ولم يمكنه الوصول منها إليه كمقام إبراهيم عليه السلام بالمسجد الحرام فإن قدوته غير صحيحة وصلاته باطلة ومنها في الحج أن من وصل إلى جمرة العقبة يوم النفر الأول ناوياً النفر ورماها فهو عند وصوله إليها خارج مني فيجيب عليه بعد رميها الرجوع إلى حد مني ثم ينفر عقبه لأن الأول كان قبل استكمال الرمي وإن ما عليه عمل الناس اليوم من سيرهم من منى وإفاضتهم عقب رمي جمرة العقبة سيما النساء غير(2/197)
صحيح قال كما تقتضيه عباراتهم سيما عبارة التحفة هذا ما ظهر فإن ظهر نقل بخلافه فالمعول عليه وكانت وفاته يوم الاثنين لثمان بقين من شهر ربيع الثاني سنة اثنتين وسبعين وألف ودفن بمقبرة المعلاة.يح قال كما تقتضيه عباراتهم سيما عبارة التحفة هذا ما ظهر فإن ظهر نقل بخلافه فالمعول عليه وكانت وفاته يوم الاثنين لثمان بقين من شهر ربيع الثاني سنة اثنتين وسبعين وألف ودفن بمقبرة المعلاة.
علي بن أبي بكر بن المقبول صاحب الحال الزيلعي العقيلي وتقدم رفع نسبه في ترجمة أبيه كان من أكابر بني الزيلعي ووجوههم ومن خيار عباد الله الصالحين المتمسكين بالسنة وكان حسن الخلق والخلق لطيف الطباع حسن الشمائل متواضعاً خيراً كريماً ملازماً لطاعة الله وذكره الشلي وقال ولد باللحية في سنة أربع وعشرين وألف وبها نشأ وأخذ عن أبيه وعن الفقيه مقبول بن أحمد المحجب واجتمع بكثير من الأولياء وأخذ عنهم وأجازوه واشتهر ذكره ببلده ورحل إلى الحرمين ثم إلى صعيد مصر ومكث ثمة نحو ثلاثين سنة وكان مسموع الكلمة عند أمرائها مقبول الشفاعة مجللاً معظماً وله كرامات كثيرة منها أن بعض الأصحاب كان مسافراً في سفينة المترجم من القصير إلى الينبع فهاج البحر وتعب أهل السفينة كثيراً وأيقنوا بالهلاك فقال في نفسه سبحان الله الناس يقولون أن صاحب هذه السفينة من أولياء الله ولا يلاحظ سفينته وتحكم ذلك في خاطره فأخذته سنة من النوم فرآه وهو ماسك مقدمها بيده يقودها والتفت إليه وقال له يا فلان لا تخف فنحن لا نغفل عن سواعينا قم من النوم ولكم السلامة فأفاق من نومه فوجد الأمر هان والسفينة استقرت وسلموا وبلغوا الينبع ورآه فيها على صورته التي رآه عليها في النوم ومنها أن الأمير محمد أمير الصعيد كان يعتقده كثيراً وكان له مركب فقال يا شيخ علي اشتر هذا المركب وأعط حقه على حسب التيسير فأخذه منه بألفي قرش فبعد مدة حصل على الأمير ما حصل من قيام وزير مصر وعسكرها عليه حتى جهزوا عليه عسكراً جراراً وقتلوه وضبطوا مخلفاته فوجدوا المبلغ مكتوباً في الدفاتر على الشيخ علي المبلغ المذكور فذكر لهم أنه أخذه من الأمير علي التدريج ولا يقدر على دفع شيء في هذه الحال من ثمنه أو يأخذوه بعينه فأبى الرسول ذلك فاقتضى نظر أمير الصعيد الأمير أحمد أن يسافر إلى مصر ويرد الأمر إلى الوزير فذهب إلى مصر ومعه جماعة مطلوبون أيضاً في ديون مع رسول الوزير فأهانهم وأجلسهم مجلساً غير مناسب في السفينة المتوجهة بهم إلى مصر وصار يمنع الناس عن الاجتماع بهم فنصحه الشيخ وقال له مالك حاجة بنا فلم يفده فخرج له في دبره شيء منعه من الجلوس والطعام والشراب واشتد به ذلك فأرسل إليه وقال له يا سيدي تبت إلى الله فقرأ عليه شيئاً من القرآن فعوفي لوقته وصار يتعاطى خدمته بنفسه إلى مصر فلما وصلا إلى مصر قال له يا سيدي انزل عندي في بيتي وأقضي لك جميع أمورك فأبى ونزل عند بعض أصحابه ثمة من أهل اليمن ثم ذهب إلى الأمير قيطاس وأخبره بذلك وكان في ذلك الوقت رئيس مصر فذهب به إلى الوزير فبمجرد أن وقع بصر الوزير عليه قام له إجلالاً وبقي بين يديه كالطفل الصغير وهو في غاية التأدب فأخبره بذلك فقال نحط عنكم من المبلغ كذا والباقي منه نحاسبكم به من أجرة حبوب الحرمين التي نضعها في السفينة ونادى الكتاب في ذلك الوقت فحسبوا ذلك وفضل له من الأجرة شيء كثير فدفعوه له في الحال وزاده الوزير من عنده شيئاً وكساه ثياباً فاخرة وبالغ في إكرامه وقال له الحبوب نزلوا منها في الساعية التي تريدوها والباقي يكون في سفرة أخرى وأمر أمير السعيد أن يدفع له من الحبوب شيئاً كثيراً ورجع الشيخ إلى الصعيد منصوراً مظفراً وتشفع به بقية المطلوبين بما عليهم من الدين فقبل شفاعته وسامحهم الوزير بذلك وكان حافظاً للمراتب الشرعية ومن القائلين بالوحدة وكان ملآناً من معرفة الله تعالى ولم يزل كذلك حتى رجع إلى الحرمين ومكث مدة ثم توجه إلى اليمن في سنة أربع وتسعين وألف ورجع من عامة فتوفى بمكة يوم الاثنين حادي عشرى ذي القعدة الشريفة سنة خمس وتسعين وألف ودفن بالشبيكة رحمه الله تعالى.(2/198)
السيد علي بن أبي الحسن الملقب نور الدين الحسيني الشامي العاملي الإمام الهمام العالم المنطيق الجم الفائدة المشهور ذكره السيد علي بن معصوم في السلافة فقال في تعريفه طود العلم المنيف وعضد الدين الحنيف ومالك أزمة التأليف والتصنيف الباهر بالرواية والدراية والرافع لخميس المكارم أعظم راية فضل يعثر في مداه مقتفيه ومحل يتمنى البدر لو أشرف فيه وكرم يخجل المزن الهاطل وشيم يتحلى بها جيد الزمان العاطل وصيت حل من حسن السمعة بين السحر والنحر
فسار مسير الشمس في كل بلدة ... وهب مهب الريح في البر والبحر
حتى كان رائد المجد لم ينتجع سوى جنابه وبريد الفضل لم يقعقع سوى حلقة بابه وكان له في مبدأ أمره بالشام مجال لا يكذبه بارق العز إذا شام بين أعزاز وتمكين ومكان في جانب صاحبها مكين ثم انثنى عاطفاً عنانه وثانيه فقطن بمكة شرفها الله تعالى وهو كعبتها الثانية تستلم أركانه كما تستلم أركان البيت العتيق وتستنسم أخلاقه كما يستنسم المسك الفتيق ولقد رأيته بها وقد أناف على التسعين والناس تستعين به ولا يستعين والنور يسطع من أسارير جبهته والعز يرتع في ميادين جلهته ولم يزل بها إلى أن دعي فأجاب وكأنه الغمام أمرع البلاد فانجاب وله شعر يدل على علو محله وإبلاغه هدى القول إلى محله فمنه قوله متغزلاً
يا من مضوا بفؤادي عندما رحلوا ... من بعد ما في سويدا القلب قد نزلوا
جاروا على مهجتي ظلماً بلا سبب ... فليت شعري إلى من في الهوى عدلوا
وأطلقوا عبرتي من بعد بعدهم ... والعين أجفانها بالسهد قد كحلوا
يا من تعذب نم تسويفهم كبدي ... ما آن يوماً لقطع الحبل أن تصلوا
جادوا على غيرنا بالوصل متصلاً ... وفي الزمان علينا مرة بخلوا
كيف السبيل إلى من في هواه مضى ... عمري وما صدني عن ذكره شغل
واحيرتي ضاع ما أوليت من زمن ... إذ خاب في وصل من أهواهم الأمل
في أي شرع دماء العاشقين غدت ... هدرى وليس لهم ثار إذا قتلوا
يا للرجال من البيض الرشاق أما ... كفاهم ما الذي بالناس قد فعلوا
من منصفي من غزال ما له شغل ... عني ولا عاقني عن حبه عمل
نصبت أشراك صيدي في مراتعه ... والصيد فني ولي في طرقه حيل
فصاح بي صائح خفض عليك فقد ... صيد الغزال الذي تبغيه يا رجل
فصرت كالواله الساهي وفارقني ... عقلي وضاقت علي الأرض والسبل
وقلت بالله قل لي أين سار به ... من صاده علهم في السير ما عجلوا
فقال لي كيف تلقاهم وقد رحلوا ... من وقتهم واستجدت سيرها الإبل
وقوله من قصيدة طويلة في المدح أولها
لك الفخر بالعليا لك السعد راتب ... لك العز والإقبال والنصر غالب
منها:
سموت على قب السراحين صائلاً ... فكلت بكفيك القنا والقواضب
وحزت رهان السبق في حلبة العلى ... فأنت لها دون البرية صاحب
وجلت بحومات الوغى جول باسل ... فردت على أعقابهن الكتائب
فلا الدارعات المقتمات تكنها ... ملابسها لما تحق المضارب
ولا كثرة الأعداء تغني جموعها ... إذا لمعت منك النجوم الثواقب
خض الحتف لا تخشى الردى واقهر العدى ... فليس سوى الإقدام في الرأي صائب
وشمر ذيول الحزم عن ساق عزمها ... فما ازدحمت إلا عليك المراتب
إذا صدقت للناظرين دلائل ... فدع عنك ما تبدي الظنون الكواذب
ببيض المواضي يدرك المرء شأوه ... وبالسمران ضاقت تهون المصاعب
لأسلافك الغر الكرام قواعد ... على مثلها تبنى العلى والمناصب
زكوت وخرت المجد فرعاً ومحتداً ... فآباؤك الصيد الكرام الأطائب(2/199)
ومن يزك أصلاً في المعالي سمت به ... ذرى المجد وانقادت إليه الرغائب
بنو عمكم لما أضاءت مشارق ... بكم أشرقت منهم علينا مغارب
وفيكم لنا بدر من الغرب طالع ... فلا غروان كانت لديه العجائب
هو الفخر مد الله في الأرض ظله ... ولازال تجلى من سناه الغياهب
إلى حلب الشهباء مني بشارة ... تعطر حتى تستطيب الجوانب
إذا ما مضى من بعد عشر ثلاثة ... من الدور فيها تستتم المآرب
لقد حدثت عنها أولو العلم مثلما ... جرى وانقضت تلك السنون الجوادب
بدا سعدها لما علي بدا بها ... ويا طالما قد أنحست وهو غارب
وفوز علي بالعلى فوزها به ... لكل إلى كل مضاف مناسب
كأني بسيف الدولة الآن وارداً ... إليها يلاقي ما جنته الثعالب
لقد جادها صوب الحيا بعد محلها ... وشرفها من أحكمته التجارب
كريم إذا ما أمحل الغيث أمطرت ... أياديه جوداً منه تصفو المشارب
أديب أريب لو تجسم لفظه ... أصابته عقد النحور الكواعب
فيا أيها المنصور بشراك رتبة ... بها السعد حقاً والسرور مواظب
مدحتكم والمدح فيكم تجارة ... بها تثمر النعمى وتغلو المكاسب
إلى باب علياً كم شددت رواحلي ... ويا طالما شدت إليها الركائب
بها الفضل منشور بها الجود وافر ... بها الفتح من سدت عليه المذاهب
وماذا عسى أن يبلغ الوصف فيكم ... إلى غاية هل ينقص البحر شارب
فلا زلتم في أكمل السعد والهنا ... مدى الدهر ما مالت وماست ذوائب
وله غير ذلك وفضله أشهر من أن يذكر وكانت وفته بمكة المشرفة لثلاث عشرة بقين من ذي الحجة الحرام سنة ثمان وستين وألف وابنه السيد جمال الدين تقدم في حرف الجيم.
علي بن أحمد بن حصن المشهور بحشيش الولي المشهور المصري ذكره المناوي في الطبقات وقال أصله من هلبا سويد من ناحية الحاجر من أعمال بلبيس نشأ على طريق المطاوعةوأخذ بالريف وغيره عن جميع من المشايخ منهم والده والشيخ أبو بكر قعود ومحمد بن الحصين والكاشف غنيم والحماقي ومجاع ومرجان وعليم المدفون بالحشيبة وعلي الجمل والفتى وعمر السلموني والخضيري والبحيري وغيرهم ثم دخل مصر فصار يبيع الحمص المجوهر بدروبه في الأسواق ثم جلس يبيعه بالقرب من سوق تحت الربع وله أحوال باهرة وكرامات ظاهرة لكنه مستور عن أكثر الناس لا يعرفون إلا أنه رج لمبارك ومن كراماته أنه إذا زار أحد من الأولياء ظهرت له وحانيته فتخاطبه وقع له ذلك مع الشافعي وغيره وأنه مشى في الهواء وعلى الماء وذكر أنه رأى جبل قاف أرضاً تتحرك بنفسها وإنها تسعى الرجراج ليس بها ساكن وأنه اطلع على بحر الظلمات وبه بلد لا يبصر أهلها إلا في الظلمة وأنه رأى أرم ذات العماد واجتمع بأصحاب الكهف قال ولا بد لسالك الطريق من رؤيتهم ورأى روح الله عيسى عليه السلام واجتمع بالخضر عليه السلام فوجده يظهر في صور مختلفة وبالقطب فوجده يلبس كل يوم لباساً لونه غير لون الآخر ولم يذكر وفاته وقد رأيتها بخط الأخ مصطفى بن فتح الله حرس الله وجوده من الطوارق وأنها كانت بمصر في سنة إحدى بعد الألف ودفن بسويقة الصباغين.(2/200)
علي بن أحمد الملقب علاء الدين الحموي الأصل الطرابلسي الحنفي المعروف بابن القباني نزيل دمشق كان فقيهاً نبيلاً ورد إلى دمشق في صحبة والده وسكن بمحلهة قبر عاتكة وأبوه هو المعروف بالقباني ثم سكن الصالحية وأخذ القراآت والعربية عن شيخ القراء الشهاب الطيبي والحديث عن البدر الغزي والشرف يونس العيناوي وتفقه بالنجم البهنسي خطيب دمشق وكان فاضلاً لطيف المحاورة ظريف النادرة وله حسن صوت وقراءة جيدة وولي إمامة السليمية وخطابة جامع يلبغا عن الداودي وناب في خطابة الجامع الأموي عن شيخه البهنسي قديماً وعن ولده الشيخ يحيى حين سافر إلى الروم وكان حسن الحظ لطيف التأدية وله شعر متوسط لم أر فيه ما هو ومن شرط كتابي وكانت وفاته بصالحية دمشق ليلة الأربعاء ثامن عشر شهر ربيع الثاني سنة سبع بعد الألف وقد تجاوز السبعين وحمل إلى محلة قبر عاتكة فدفن بمقبرة الدقاقين.(2/201)
الأمير علي بن أحمد بن جانبولاذ بن قاسم الكردي القصيري قد أكثر أهل التاريخ والمجاميع ممن لحقوا واقعته من ذكره وذكر ما فعله بدمشق وما جرى لحكام الشام وأهلها معه من الوقائع وقد اخترت من ذلك ما أودعته في هذه الأوراق من مبدأ أمره إلى منتهاه وأما ذكر أصله ومنزعه فجده جانبولاذ هذا كان يعرف بابن عربوا وكان أمير لواء الأكراد بحلب ولي حكومة المعرة وكلس وعزاز وكان له صيت شائع وهمة علية ومبدأ الأمير علي هذا أنه كان في طليعة عمره ولي حكومة العزيزي وقد تقدم في ترجمة عمه حسين باشا أنه لما قتله الوزير ابن جغال لتراخيه في أمر السفر الذي كان عين له خرج الأمير علي عن طاعة السلطنة وجمع جمعاً عظيماً من السكبانية حتى صار عنده منهم ما يزيد على عشرة آلاف ومنع المال المرتب عليه وقتل ونهب في تلك الأطراف ودبر علي قتل نائب حلب حسين باشا وكان ولاه السلطان نيابتها ووصل إلى أذنة وكان بأذنة حاكم يعرف بجمشيد فكتب إليه ابن جانبولاذ أن يصنع له ضيافة ويقتله ففعل ونما خبره إلى الأقطار واستمر في حلب يظهر الشقاق إلى أن أرسل الأمير يوسف بن سيفا صاحب عكار إلى باب السلطنة رسالة يطلب فيها أن يكون أميراً على عساكر الشام والتزم بإزالة الأمير علي عن حلب فجاءه الأمر على ما التزم وأرسل إلى عسكر دمشق وأمراء ضواحيها يطلبهم إلى مجتمع العساكر وهو مدينة حماه فتجمعوا هناك من كل ناحية وجاء ابن جانبولاذ إلى حماه وتلاقيا وتصادما فما هو إلا إن كان اجتماعهم بمقدار نحر خرور فانكسر ابن سيفا وأتباعه ورجع بأربعة أنفار واستولى ابن جانبولاذ على مخيمه ومخيم عسكر الشام ثم أنه راسل الأمير فخر الدين بن معن أمير الشرف وبلاد صيدا وأظهر له أنه قريبه مع بعد النسبة فحضر إليه واجتمعا عند منبع العاصي وتشاورا على أن يقصد طرابلس الشام لأجل الانتقام من ابن سيفا فسار ابن سيفا في البحر وأخلى لهم طرابلس وعكار وأرسل أولاده وعياله إلى دمشق وأجلس مملوكه يوسف في قلعة طرابلس فتحصن بها وبعث ابن جانبولاذ الأمير درويش بن حبيب بن جانبولاذ إلى طرابلس فضبطها واستولى على غالب أموال من وجد هناك واستخرج دفائن كثيرة لأهلها ولم يستطع أن يملك قلعتها وسار الأمير علي ومعه ابن معن إلى ناحية البقاع العزيزي من نواحي دمشق ومرا على بعلبك وخربا ما أمكن تخريبه منها واستقرا في البقاع وأظهرا أنهما يريدان مقاتلة عسكر الشام ولم تزل العساكر الشامية ترد إلى دمشق حتى استقر في وادي دمشق الغربي ما يزيد على عشرة آلاف وتزاحف العسكران حتى استقر ابن جانبولاذ وابن معن في نواحي العراد وزحف العسكر الدمشقي إلى مقابلتهما وكان ابن سيفا وصل إلى دمشق وأظهر التمارض ولم يرحل مع العسكر الشامي واستمرت الرسل مترددة بين الفريقين ليصطلحا فلم يقدر لهم الاصطلاح وتزاحف الجيشان فتوهم ابن جانبولاذ من صدمة العسكر الشامي فشرع في تفخيذ أكابر العسكر عن الاتفاق وأوقع بينهم ثم أنه أرسل إلى طائفة من أكابرهم فوردوا عليه في مخيمه ليلاً وألبسهم الخلع وتوافقوا معه على أنهم ينكسرون عند المقابلة وكان في جانب ابن جانبولاذ ابن معن وابن الشهاب أمير وادي التيم ويونس بن الحرفوش فطابت نفسهم لملاقاة الشاميين وتقابل الفريقان في يوم السبت من أواسط جمادى الآخرة سنة خمس عشرة بعد الألف ولم يقع قتال فاصل بين الفريقين ثم في صبيحة نهار الأحد وقف العسكر الشامي في المقابلة واقتتلا فأمر مقدار جلسة خطيب إلا وقد انفل العسكر الشامي حتى قال ابن جانبولاذ حتى نزل بقرية المزة وكان نزوله في الخيام وأما ابن معن فإنه كان ضعيف الجسد في هاتيك اليام وكان نزوله في جامع المزة وأصبحت أبواب البلدة يوم الاثنين مقفلة وقد خرج منها ابن سيفا وجماعته ليلاً بعد أن اجتمع به قاضي القضاة بالشام المولى إبراهيم بن علي الأزنيقي وحسن باشا الدفتري المقدم ذكرهما ولم يمكناه من الخروج حتى دفع إليهما مائة ألف قرش ليفتدوا بها الشام من ابن جانبولاذ خروجه غضب وقال أهل دمشق لو أرادوا السلامة مني ما مكثوا ابن سيفا من الخروج وهم يعرفون أنني ما وردت بلادهم إلا لأجله ونادى عند ذلك بالكبانية أن يذهبوا مع الدروز جماعة ابن معن لنهب دمشق فوردت السكبانية والدروز أفواجاً إلى خارج دمشق وشرعوا في نهب المحلات الخارجة فلما اشتد الكرب والحرب على المحلات(2/202)
وتلاحم القتال خاف العقلاء في دمشق فخرج جماعة إلى ابن جانبولاذ وقالوا له أن ابن سيفا قد وضع لك عند قاضي الشام مائة ألف قرش وتداركوا له خمسة وعشرين ألف قرش أخرى كما وقع عليه معه الاتفاق من مال بعض الأيتام التي كانت على طريق الأمانة في قلعة دمشق وبعد ذلك أداها أيضاً ابن سيفا كالمائة ألف فلما تكلم الناس في الصلح طلب ابن جانبولاذ المال الذي وقع عليه الصلح على يد الدفتري وقال أن جاءني المال في هذا الوقت رحلت فحملوا له مائة ألف قرش وخمسة وعشرين ونادى بالرحيل عن المزة في اليوم الرابع من نزوله واستمر النهب في أطراف دمشق ثلاثة أيام متوالية وكانوا يأخذون الأموال والأولاد الذكور ولم يتعرضوا للنساء ولما رحل ابن جانبولاذ ارتفع النهب عن المدينة وفتحت أبواب المدينة في اليوم الرابع فازدحم الناس على الخروج أفواجاً أفواجاً ودخل إليها من نهبت أسبابه من المحلات الخارجة فكانوا لا يعرفون لتغير أسبابهم ووجوههم وابتدأت العساكر الهاربة تتراجع إلى دمشق ولم ينالوا بما صدر منهم من الفضيحة ولما فارق ابن كانبولاذ دمشق سار على طريق البقاع وفارق ابن معن هناك ورحل إلى أن وصل إلى مقابلة حصن الكراد وأقام هناك وأرسل ابن سيفا يطلب منع الصلح والمصاهرة فأجابه وأعطاه ما يقرب من ثلاث كرات من القروش وزوجه ابنته وتزوج منه أخته لابنه الأمير حسين ورحل ابن جانبولاذ من هناك إلى جانب حلب وجاءته الرسل من جانب السلطنة تقج عليه ما فعل بالشام فكان تارة ينكر فعلته وتارة يحيل الأمر على عسكر الشام وشرع يسد الطرقات ويقتل من يعرف أن سائر إلى طرف السلطنة لإبلاغ ما صدر منه حتى أخاف الخلق ونفذ حكمه من أدنه إلى نواحي غزة وكان ابن سيفا ممتثلاً لأمره غير تارك مداراة السلطنة واتفق معه على أن تكون حمص تحت حكم ابن سيفا وكانت حماة وما وراءها من الجانب الشمالي إلى أدنه في تعلق ابن جانبولاذ وانقطعت الطرقات إلى أن ولي الوزارة العظمى مراد باشا وكان سافر في ابتداء وزارته إلى الروم وأصلح ما بين السلطان وما بين سلاطين المجر فلما قدم عنه السلطان لدفع ابن جانبولاذ وبقية الخوارج مثل العبد سعيد ومحمد الطويل الخارج في نواحي سيواس فقدم الوزير المذكور ومعه من العساكر الرومية ما يزيد على ثلثمائة ألف ما بين فارس وراجل وكان كلما مر يقوم من السكبانية الخارجين يقتلهم حتى أزال السكبانية الخارجين ولم يبق سوى العبد سعيد والطويل محمد فإنهما حادا عن طريقه ولم يستطع لحاقهما ووصل إلى أدنه فخلصها من يد جمشيد الخارجي ولما انفصل عن جسر المصيصة إلى هذا الجانب تيقن اب نجانبولاذ أنه قاصده فجمع جموعه المتفرقة في البلاد حتى اجتمع عنده أربعون ألفاً وخرج من حلب والوزير في بلاد مرعش وجزم بمقابلته وكان الوزير في أثناء ذلك يراسله بالكلمات الطيبة طمعاً في إصلاح أمره فلم يزدد إلا عتواً ولما تلاقى الفريقان برز عسكر ابن جانبولاذ إلى المقاتلة يومين ولم يظهر لأحد الفئتين غلبة على الأخرى ففي اليوم الثالث التحم القتال حتى كاد أن يكون عسكر البغاة غالباً وكان من أعاجيب الأمر أن وزيراً يقال له حسن باشا الترياقي وكان من جملة العسكر السلطاني رتب عسكر السلطان وقال قاتلوا البغاة إلى وقت الظهر فإذا حكم وقت الظهر فافترقوا فرقتين فرقة منكم تذهب لجانب اليمين وأخرى تذهب لجهة الشمال واجعلوا عرصة القتال خالية للأعداء وحدهم وقد أخفى المدافع الكبيرة في مقابلة العدو وملأها بالبارود فلما افترق عسكر السلطان ظن حزب ابن جانبولاذ أنهم كسروا فبالغوا في اتباع عسكر السلطان إلى أن كادوا يخالطونهم فلما قربوا وخلت لهم عرصة القتال أطلقوا عليهم المدافع ولحقوهمبالسيوف إلى أن أزاحوهم عن خيامهم وكسروهم كسرة شنيعة وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وهرب ابن جانبولاذ إلى حلب ولم يقر بها إلا ليلة واحدة فوضع أهله وعياله وذخائره في قلعتها وخرج منها إلى أن ألجأه الهرب إلى ملطيه وبقي الوزير يتبع أعوان ابن جانبولاذ فأبادهم قتلاً بالسيف وجاء إلى حلب بالجنود فرأى قلعتها في أيدي بعض أعوان البغاة فرام محاصرتها فتحقق من فيها أن كل محصور مأخوذ فطلبوا الأمان من الوزير فأنزلهم بأمانه وكانوا نحو ألف رجل وكان معهم نساء وكان أ:ابر الجماعة أربعة من رؤس السكبانية فلما نزلوا بادروا إلى تقبيل ذيل الوزير فأشار إلى(2/203)
النساء بالسكن في مكان العلوم وفرق الرجال على أرباب المناصب وطلع إلى القلعة ورأى ما بها من أموال ابن جانبولاذ وتحفه العزيزة فضبط ذلك كله لبيت المال ثم شرع يتجسر في حلب على الأشقياء وأتباعهم فقتل جملة من الأتباع وهجم الشتاء ففرق العساكر في الأطراف وشتى هو في حلب وأما ابن جانبولاذ فإنه خرج من ملطيه وسار إلى الطويل العاصي في بلاد أناطولي وأراد أن يتحد معه فأرسل إليه الطويل يقول له أنت بالغت في العصيان وأنا وإن كنت مسمى باسم عاص لكني ما وصلت في العصيان إلى رتبتك فرحل عنه بعد ثلاثة أيام وسارا إلى العاصي المعروف بقرا سعيد ومعه ابن قلندر ولما وصل إلى جمعية هؤلاء العصاة تلقوه وعظموه وحسنوا فعلته مع العساكر السلطانية وأرادوا أن يجعلوه عليهم رئيساً فشرط عليهم شروطاً فما قبلوها فاطمأن تلك الليلة إلى أن هجم الليل وأخذ عمه حيدر وابن عمه مصطفى وابن عمه محمداً وخرج ولم يزل سائراً حتى دخل بروسة مع الليل وتوجه إلى حاكمها وأخبره بنفسه فتحير منه ولما تحقق ذلك قال له ما سبب وقوعك فقال ضجرت من العصيان وها أنا ذاهب إلى الملك فأرسلني إليه في البحر فأرسله من طريق البحر فلما دخل دار السلطنة أعلم به السلطان فقال أحضروه فلما حضر إليه قال له ما سبب عصيانك فقال له ما أنا عاص وإنما اجتمعت علي فرق الأشقياء وما خلصت منهم إلا بأن ألقيتهم في فم جنودك وفررت إليك فرار المذنبين فإن عفوت فأنت لذلك أهل وإن أخذت فحكمك الأقوى فعفا عنه وأعطاه حكومة طمشوار في داخل بلاد الروم ونجا بذلك ولم يزل على حكومتها إلى أن عرض له أمر أوجب قتاله لرعايا تلك الديار ولزم أنه انحصر في بعض القلاع في بلاد الروم فعرض أمره إلى باب السلطنة الأحمدية فبرز الأمر بقتله وعدم إخراجه من تلك القلعة فقتل وأرسل رأسه إلى باب السلطنة وكان ذلك في حدود العشرين وألف والله أعلم.نساء بالسكن في مكان العلوم وفرق الرجال على أرباب المناصب وطلع إلى القلعة ورأى ما بها من أموال ابن جانبولاذ وتحفه العزيزة فضبط ذلك كله لبيت المال ثم شرع يتجسر في حلب على الأشقياء وأتباعهم فقتل جملة من الأتباع وهجم الشتاء ففرق العساكر في الأطراف وشتى هو في حلب وأما ابن جانبولاذ فإنه خرج من ملطيه وسار إلى الطويل العاصي في بلاد أناطولي وأراد أن يتحد معه فأرسل إليه الطويل يقول له أنت بالغت في العصيان وأنا وإن كنت مسمى باسم عاص لكني ما وصلت في العصيان إلى رتبتك فرحل عنه بعد ثلاثة أيام وسارا إلى العاصي المعروف بقرا سعيد ومعه ابن قلندر ولما وصل إلى جمعية هؤلاء العصاة تلقوه وعظموه وحسنوا فعلته مع العساكر السلطانية وأرادوا أن يجعلوه عليهم رئيساً فشرط عليهم شروطاً فما قبلوها فاطمأن تلك الليلة إلى أن هجم الليل وأخذ عمه حيدر وابن عمه مصطفى وابن عمه محمداً وخرج ولم يزل سائراً حتى دخل بروسة مع الليل وتوجه إلى حاكمها وأخبره بنفسه فتحير منه ولما تحقق ذلك قال له ما سبب وقوعك فقال ضجرت من العصيان وها أنا ذاهب إلى الملك فأرسلني إليه في البحر فأرسله من طريق البحر فلما دخل دار السلطنة أعلم به السلطان فقال أحضروه فلما حضر إليه قال له ما سبب عصيانك فقال له ما أنا عاص وإنما اجتمعت علي فرق الأشقياء وما خلصت منهم إلا بأن ألقيتهم في فم جنودك وفررت إليك فرار المذنبين فإن عفوت فأنت لذلك أهل وإن أخذت فحكمك الأقوى فعفا عنه وأعطاه حكومة طمشوار في داخل بلاد الروم ونجا بذلك ولم يزل على حكومتها إلى أن عرض له أمر أوجب قتاله لرعايا تلك الديار ولزم أنه انحصر في بعض القلاع في بلاد الروم فعرض أمره إلى باب السلطنة الأحمدية فبرز الأمر بقتله وعدم إخراجه من تلك القلعة فقتل وأرسل رأسه إلى باب السلطنة وكان ذلك في حدود العشرين وألف والله أعلم.(2/204)
علي باشا بن أحمد باشا المعروف بكوزلجه هو من بلدة أستانكوي وجده لأمه قيا باشا فهو سيد صحيح النسب قال ابن نوعي في ترجمته كان أبوه أمير الأمراء بتونس من بلاد الغرب فلما خرج بتلك الدائرة الخارجي المعروف بيحيى وادعى أنه مهدي الزمان حاربه أحمد باشا فقتل أحمد باشا في تلك الوقعة بعد حروب كثيرة وكان ذلك في سنة ثمان وتسعين وتسعمائة وكان سن علي باشا إذ ذاك تسع سنين فبعد مدة من قتل أبيه تسلط بعض عبيدهم على يحيى ووجد فرصة فقتله ثم قدم علي باشا الروم فولي حكومة دمياط فضبطها خمسة عشر سنة ثم قدم إلى طرف الدولة وكان السلطان أحمد عازماً على التوجه إلى بروسه فأخذه في سفينته المعينة له وذلك في سنة أربع عشرة وألف وفي تلك الأثناء أعطي ولاية اليمن فلم يقبلها ثم عرضت عليه حكومة ماغوسة قبرس فلم يقبلها أيضاً ثم أعطي ولاية تونس فتصرف بها سنتين وعمر بها جامعاً ثم أعطي حكومة موره وبعد ثلاث سنين نقل إلى حكومة قبرس ثم أعطي تونس برتبة الوزارة ثم صار حاكم البحر في المحرم سنة ست وعشرين وألف واتفق له في سفرته الثالثة أنه أخذ ستة غلايين من غلايين الكفار وجاء بها إلى دار الخلافة وأتى بغنائم كثيرة لا تعد ولا تحصى وأهدى إلى السلطان هدية لا يمكن وصفها فكانت جائزته من السلطان مصطفى أن ميزه على سائر الوزراء بزنجير ذهب يضعه يجواده إذا ركب ثم صار صدر الوزراء في المحرم سنة تسع وعشرين وألف وأثر آثاراً حسنة منها جامع في جزيرة ساقزو وآخر في ينكى كوى قرب حصار روم إيلي من ضواحي قسطنطينية وساق الماء لزاوية عمرها للشيخ أمير بقصبة قاسم باشا قبالة قسطنطينية وكانت وفاته في خامس عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاثين وألف ودفن ببشكطاش في تربة مخصوصة وكان عمره لما مات إحدى وأربعين سنة رحمه الله تعالى.
علي بن أحمد أبو الحسن الفاسي الشهير بالشامي نسبة إلى الشام لأن جده قدم من الشام إلى فاس فشهر بنوه بالنسبة إلى الشام أديب له في الأدب مذهب طرازه بحسن البلاغة مذهب وشعره ألطف من دل الحبيب وأسحر من مقلة الشادن الربيب يتصرف فيه ولا يتكلف ويتقدم به ولا يتخلف وهو إذا تغزل أهدى نفحات نجد وإذا تشوق أورى لفحات شوق ووجد على أن عليه من الجزالة ديباجة تفوق عبقري الوشي وديباجة لا يشينه من الكلام حوشيه ولا يلم بساحة أنسه وحشية فمن تفثات قلمه السحار ونسمات كلمه الفائقة نسائم الأسحار قوله مخاطباً للشيخ المقري بمحروسة فاس عام سبع وعشرين وألف وأشار فيها إلى كتابه أزهار الرياض
دعوا شفة المشتاق من سقمها تشفى ... وترشف من آثار ترب الهدى رشفا
وتلثم تمثالاً لنعل كريمة ... بها الدهر يستسقي الغمام ويستشفي
ولا تصرفوها عن هواها وسؤلها ... بعذلكم فالعدل يمنعها الصرفا
ولا تعتبوها فالعتاب يزيدها ... هياماً ويسقيها مدام الهوى صرفا
جفتها بكتم الدمع بخلاً جفونها ... فمن لامها في اللثم فهو لها أجفى
لئن حجبت بالبعد عنهم فهذه ... مكارمهم لم تبق ستراً ولا سخفا
وإن كان ذاك الخيف ملفى وصالهم ... فها نفحة الأفضال قربت الملفى
فحركت الأشواق منا لروضة ... أباح لنا الإسعاد من زهرها قطفا
زماناً به موصولنا نال عائداً ... وأكد نحو الوصل من نحوهم عطنا
تولى كمثل الطيف إذ زار في الكرى ... وإلا كمثل البرق إذا سارع الخطفا
منها:
كانا وما كنا نجوب منازلاً ... يود بها المشتاق لو وافق الحتفا
ولم تبصر الأبصار منها محاسنا ... ولم تسمع الآذان من ذكرها هتفا
كذاك الليالي لم تحل عن طباعها ... متى واصلت يوماً تصل قطعها ألفا
فلا عيش لي أرجوه من بعد بعدهم ... وهيهات يرجو العيش من فارق الإلفا
منها:
أيا من نأت عنه ديار أحبة ... فمن بعدهم مثلي على الهلك قد أشفى
لئن فاتنا وصل بمنزل خيفهم ... فما نفحة من عيشهم للحشا أشفى
وهاتيك أزهار الرياض تنفست ... بأنفاسهم فاستشفين بها تشفى(2/205)
وقل للالي هاموا اشتياقاً ببانهم ... هلموا العرف البان نستنشق العرفا
فصفحة هذا الطرس أبدت نعالهم ... وصارت لها ظرفاً فيا حسنه ظرفا
تعالوا نغالي في مديح علائها ... فرب غلو لم يعب ربه عرفا
ولله قوم في هواها تنافسوا ... وقد غرفوا من بحر أمداحها غرفا
وإنا وإن كنا على الكل لم نطق ... نحاول بعض البعض من بعض ما يلفى
لئن قبلوا ألفاً نزد نحن بعدهم ... على الألف ما يستغرق العدو الألفا
وإن وصفوا واستغرقوا الوصف حسبنا ... نجيل بروض الحسن من وصفهم طرفا
ونقبس من آثارهم قدر وسعنا ... ونركض في مضمار آثارهم طرفا
ومن مديحها في النبي صلى الله عليه وسلم
أناديك يا خير البرية كلها ... نداء عبيد يرتجي العطف واللطفا
وإني محق في هوى حبك الذي ... يفك جيوش الهم إن أقبلت زحفا
وما أنا فيه بالذي قال هازلاً ... أليلتنا إذ أرسلت وارداً وجفا
أشار بهذا البيت إلى قصيدة ابن هانئ الأندلسي التي أولها أليلتنا إذ أرسلت وارداً وجفا وكانت وفاته بفاس بعد الثلاثين وألف.(2/206)
القاضي علي بن أحمد بن إبراهيم بن أبي الرجال قال القاضي العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال في ترجمته كان فقيهاً عالماً بالفروع الفقهية حقق فيها وبرز ويقال أنه حفظ شرح الأزهار عيباً وكنا نسمعه عليه ومما شاع في ألسن الفقهاء أنه لولا الجهاد لكان القاضي علي بن أحمد بمنزلة الفقيه علي بن يحيى الوشلي صاحب الزهرة ولقد تعجب منه كثير من المحققين في مسائل وتحصيلات أملاها في الغضوب والرهن ومع ذلك فقط أقرأ في الفنون الأخرى قرأ مستصفى الإمام الغزالي في الأصول على السيد العلامة علي بن صلاح العيالي وهما في صف الحرب كان إذا سكن عنهم العدو قرأو وإذا كر عليهم العدو أقبلوا عليه ولما أمر الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم السيد علي بن إبراهيم الحيداني الماضي ذكره بولاية بلاد حاشد وبكيل أمر القاضي أن يقرأ عليه البحر فكانت من أعجب القراآت كانوا يلبثون في البحث من عقيب صلاة الفجر إلى ظهيرة النهار واتفق أنه وفد إلى حضرة الإمام شهارة بعض العلماء الكبار من أهل الشام فأعطاه الإمام مما يستحقه من التعظيم لقوة حرص الإمام على إنزال الناس منازلهم وبادر بإرسال السيد العلامة صلاح بن عبد الخالق الحجاف وصاحب الترجمة إلى ذلك العالم ليعرفوا فضيلته فوجدوه لما يستقر وخدمه في أثناء التنظيف للمحل فحيوه ثم رحبوا به وتعرفا له قال القاضي لذلك الرجل هذا السيد صلاح من كبار العلماء ونسب الإمام ونحو هذا ثم قال السيد وهذا القاضي علي قاضي الإمام أحد العلماء الأحلاء ووصف بما ينبغي فأجاب إنكما لستما ممن يعرف الأدب ولا يستحق هذه الصفات كيف تكون منزلتكما هذه المنزلة وتفدان علي وأنا مدهوش لم أستقر في رحلي ولا تتم لي مجاراتكم بالأنس فاستحيا إليه ثم عزم القاضي إلى ذيبين وأخذوا في قراءة البحر هذه المذكورة وفيهم البقية من شيعة الطاهر يومئذ كالقاضي العلامة محمد بن صالح بن حنش والقاضي الحسن بن محمد ابن سلامة وغيرهم فوفد إلى المسجد الجامع وهم يخوضون بحار التحقيق ويأتي كل منهم بالأشكال ويحله الآخر وذلك العالم يتفكر فيهم فلما أتموا القراءة أنزله السيد منزلاً يليق به فإنه عظيم الشأن وآنسه القاضي لسابق تلك المعرفة فقال ذلك العالم يا قاضي أنتم معاشر اليمانيين لا تنزلون العلم منزلته فقال له ما استنكرت من طريقتنا قال رأيت اليوم مجلسكم للقراءة فرأيت ما لم أره من الاطلاع على الفقه والتحقيق بحيث أن كل إنسان من الحاضرين لو برز بإقليم لعلا صيته وقل نظيره ومع هذا فأنتم لا تعتمون إلا بعمائم سود ولا تلبسون الجيد من الثياب فلم يبد له القاضي حقيقة العذر في ذلك وكان المقتضي لمرور هذا العالم ذيبين أن السودة كانت يومئذ في أيدي الأتراك وصنعاء فمر ذيبين مجتازاً إلى صنعاء وكان عنده من ضريبة الإمام دراهم جعلها في ذيبين سبائك وكانت قراءة صاحب الترجمة على عبد القادر التهامي البيهي رحل إليه إلى عاشر وقرأ على الكامدي الكبير بذمار وأحسن الكامدي رعايته وحين أراد الانصراف خرج ولده العلامة الشهيد لتجهيز القاضي وأعطاه زاداً ثم قرأ على العلامة علي بن قاسم السخاني ومن جملة ما قرأه مقامات الحريري وفي بالي أنه قرأ مفتاح السكاكي عن أمر شيخه السخاني على بعض الآفاقيين ولم يكن له في العربية ذوق وقد كان اشتغل بشرح الأزهار بلغ فيه إلى التتميم حتى مر عليه السيد أحمد بن محمد الشرفي إلى السرات من بلاد الصيد فأعلمه بعنايته بشرح مع كمال أهلية السيد فأضرب عن ذلك وكانت له عدة كبيرة من الكتب من خزانة السلف وكانت له همة في الجهاد وشجاعة مع قوة في بدنه وهو أول من سارع إلى الجهاد قبل ابن عمه القاضي الشهيد الهادي بن عبد الله فإنه نهض في سنة ست وهي سنة الدعوى بحارف وأعيان قبائل بلبل نحو ألف رجل ودخل هزم وانضاف إليه الأعيان لا على جهة الاستقلال منهم بل على جهة العادة كالسيد الأغضب من حوث استدرجه القاضي حتى أدخله هزم وأما الحاج أحمد بن عوض فوصل مغيراً م ننهم ووقف خارج البلاد على رأس الأكمة المشرفة على القرية وغير هؤلاء من الرؤساء وكانت الحروب المشهورة نحو أربعة أشهر والقاضي أبو عذرها واتفق في هذه النهضة قضية تعد في كرامات الإمام الشهيد أحمد بن الحسين وذلك أن القاضي وصل إلى ناعط من بلاد حاشد وخطاط الناس ففقدوا رجلاً يسمى الهامي من أهل ظفار وكان له خبير(2/207)
يعرف بحوال فبحثوا عنه فل يجدوا له أثراً فاتفق عند مجيء الناس من الخطاطان بعض الناس سمع صوتاً في شعب فبحثوا عنه فلم يجدوا له أثراً فأخبر القاضي بقضيته وهوانه خرج من مسجد ناعط فأحس بحال غير معتادة فلم يفقد نفسه إلا في عالم آخر وفيهم رئيس كبير بين يديه خلق قيام فاشتكى رجل من أولئك أن هذا التهامي رجمه فأنكر التهامي فقال له بلى أنت رجمت خشبة حطت في القنة بالقاف والنون وهو جبل هنالك وعندك من عبيد المشهد فلان بن فلان قال التهمي نعم هذا اتفق لكني غير عارف بمحلك فقال ذلك الرئيس يا معاشر الجن نزهوا أنفسكم هؤلاء المساكين لا يرونكم ثم التفت إلى التهامي فقال من أين أنت فقال مسكني ذيبين والأصل من ظفار إلا أني مقيم بمشهد الإمام قال فلأي شيء وصلت إلى ناعط قال صحبة القاضي علي بن أحمد مغيرين على الإمام فقال ذلك الرجل الكبير قد التزمت بما لزم هذا من الأرش رعاية لحق الإمام الشهيد أحمد بن الحسين وأبلغ عني القاضي علياً السلام الكثير وهذه قضية مشهورة تناقلها الفقهاء وسمعتها عن غير واحد من الفضلاء منهم من شهد المقام والله أعلم وللقاضي في مقامات الجهاد مساع مشهورة تولى بلاد حاشد وبلبل وتولى بلاد خولان الطبال وافتتح حصن جبل اللوز وغنم منه غنيمة وكان العلامة السيد أحمد بن علي الشامي شريكه في حصار الحصن غير أن أصحاب القاضي بنو جبير وأصحاب السيد غيرهم فكانت اليد للقاضي وكان الإمام القاسم بن محمد يفضله في الشجاعة على غيره بل نقل السيد عبد الله بن عامر بن علي أنه سمع الإمام يحكي أن القاضي أشجع من رآه الإمام وحكى له قصة واجتمعت بالقاضي في منزل السيد عبد الله بن عامر بالجراف من مخارف صنعاء فسأله السيد عن القضية فأخبره وأنا أسمع قال توجهت العساكر من جهة الترك على السيد المجاهد محمد بن عامر إلى محل بجهة وادعة سماه فاتني اسمه فأغار الإمام وأغرنا معه فوجدنا في الطريق قصبة معمورة على رأسها كالصفيف قد دخلها نحو سبعة نفر رماة الذي في ذهني من الرواية أنهم سبعة وذكر سيدنا المتوكل على الله إسماعيل أن القاضي ذكر أنهما رجلان فقط لكنهما قد قتلا نحو سبعة نفر فلعل الذي في ذهني ذكر السبعة فمنعوا جيش الإمام من الغارة فتخوف الإمام على السيد محمد بن عامر الاستئصال فقال من يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حمل على هؤلاء فسمع القاضي وأعلنها في الناس لعل راغباً يرغب فلم ينهض أحد فوضع شملة سوداء على عمامته وحمل منفرداً ولحق رجل من ظفار فرموه من القصبة فسلمه الله تعالى ثم نفذ إلى تحت القصبة وقال لصاحب ظفار أعطني ظهرك أصعد عليه فارتقى على ظهره ووضع على عمامته تحت الصفيف ونطحه حتى انتثر البناء وهو من البناء المعروف بجهة البادية فألقى الله الرعب في قلوب أولئك فانهزموا منه ووثب إلى داخل القصبة ثم دعا بأصحاب الإمام فأقبلوا وظفروا ببعض أولئك وقتل بعضهم صبراً بين يدي الإمام القاسم واتفق له أن بعض المفسدين عاث في الحجاج وأذاهم ونهب من نهب فتجرد له القاضي وارتبطه ارتباطاً وفي آخر أمره تولى القضاء بجهة وصاب بعد أن شهد المشاهد الإمامية جميعها وتوفي بالدن وقبر بالروضة هنالك في شهر ربيع سنة إحدى وخمسين وألف ورثاه المقري الفاضل صلاح بن محمد السودي الصعدي بقصيدة مطلعهارف بحوال فبحثوا عنه فل يجدوا له أثراً فاتفق عند مجيء الناس من الخطاطان بعض الناس سمع صوتاً في شعب فبحثوا عنه فلم يجدوا له أثراً فأخبر القاضي بقضيته وهوانه خرج من مسجد ناعط فأحس بحال غير معتادة فلم يفقد نفسه إلا في عالم آخر وفيهم رئيس كبير بين يديه خلق قيام فاشتكى رجل من أولئك أن هذا التهامي رجمه فأنكر التهامي فقال له بلى أنت رجمت خشبة حطت في القنة بالقاف والنون وهو جبل هنالك وعندك من عبيد المشهد فلان بن فلان قال التهمي نعم هذا اتفق لكني غير عارف بمحلك فقال ذلك الرئيس يا معاشر الجن نزهوا أنفسكم هؤلاء المساكين لا يرونكم ثم التفت إلى التهامي فقال من أين أنت فقال مسكني ذيبين والأصل من ظفار إلا أني مقيم بمشهد الإمام قال فلأي شيء وصلت إلى ناعط قال صحبة القاضي علي بن أحمد مغيرين على الإمام فقال ذلك الرجل الكبير قد التزمت بما لزم هذا من الأرش رعاية لحق الإمام الشهيد أحمد بن الحسين وأبلغ عني القاضي علياً السلام الكثير وهذه قضية مشهورة تناقلها الفقهاء وسمعتها عن غير واحد من الفضلاء منهم من شهد المقام والله أعلم وللقاضي في مقامات الجهاد مساع مشهورة تولى بلاد حاشد وبلبل وتولى بلاد خولان الطبال وافتتح حصن جبل اللوز وغنم منه غنيمة وكان العلامة السيد أحمد بن علي الشامي شريكه في حصار الحصن غير أن أصحاب القاضي بنو جبير وأصحاب السيد غيرهم فكانت اليد للقاضي وكان الإمام القاسم بن محمد يفضله في الشجاعة على غيره بل نقل السيد عبد الله بن عامر بن علي أنه سمع الإمام يحكي أن القاضي أشجع من رآه الإمام وحكى له قصة واجتمعت بالقاضي في منزل السيد عبد الله بن عامر بالجراف من مخارف صنعاء فسأله السيد عن القضية فأخبره وأنا أسمع قال توجهت العساكر من جهة الترك على السيد المجاهد محمد بن عامر إلى محل بجهة وادعة سماه فاتني اسمه فأغار الإمام وأغرنا معه فوجدنا في الطريق قصبة معمورة على رأسها كالصفيف قد دخلها نحو سبعة نفر رماة الذي في ذهني من الرواية أنهم سبعة وذكر سيدنا المتوكل على الله إسماعيل أن القاضي ذكر أنهما رجلان فقط لكنهما قد قتلا نحو سبعة نفر فلعل الذي في ذهني ذكر السبعة فمنعوا جيش الإمام من الغارة فتخوف الإمام على السيد محمد بن عامر الاستئصال فقال من يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حمل على هؤلاء فسمع القاضي وأعلنها في الناس لعل راغباً يرغب فلم ينهض أحد فوضع شملة سوداء على عمامته وحمل منفرداً ولحق رجل من ظفار فرموه من القصبة فسلمه الله تعالى ثم نفذ إلى تحت القصبة وقال لصاحب ظفار أعطني ظهرك أصعد عليه فارتقى على ظهره ووضع على عمامته تحت الصفيف ونطحه حتى انتثر البناء وهو من البناء المعروف بجهة البادية فألقى الله الرعب في قلوب أولئك فانهزموا منه ووثب إلى داخل القصبة ثم دعا بأصحاب الإمام فأقبلوا وظفروا ببعض أولئك وقتل بعضهم صبراً بين يدي الإمام القاسم واتفق له أن بعض المفسدين عاث في الحجاج وأذاهم ونهب من نهب فتجرد له القاضي وارتبطه ارتباطاً وفي آخر أمره تولى القضاء بجهة وصاب بعد أن شهد المشاهد الإمامية جميعها وتوفي بالدن وقبر بالروضة هنالك في شهر ربيع سنة إحدى وخمسين وألف ورثاه المقري الفاضل صلاح بن محمد السودي الصعدي بقصيدة مطلعها(2/208)
هو الدهر ما كافاه ملجا ولا كهف ... إذا لم تطق منعاً وقد وقع الصرف
ألم به عند الملمات واحتسب ... به لامة من دونها البيض والزعف
أخي ألق أعباء الأسى لا مجهلاً ... وخذ في الأسى نهجاً فمثلك لا يهفو
فما جزع يغني فتيلاً لجازع ... ولا عبرى تجدي ولو جادها الوكف
وأما الفتى الماضي لوجه سبيله ... فما رزؤه في الدين إلا البلا الصرف
لئن غاب نور الدين وانهد طوده ... فهذا الخسوف الحق عمرك والخسف
وما الموت إلا للأكارم واصل ... ولكنه عن وصل غيرهم يجفو
فالله ما أحلى الثرى من صفاته ... صفات علا فوق الثريا لها وصف
فتى قد نمته من عدي غطارف ... ضراغم فلابون شم الذرى أنف
مفاخرهم كالشمس نوراً ورفعة ... وفيهم بحسن الذكر أنعمت الصحف
فتى إن دجا في العلم والمحل مثكل ... فمن عنده في الحالتين لها كشف
فينحل معقود ويرتاح منكد ... وينهل مطر ود ومنهله يصفو
منها:
ويبكي له الملهوف للعلم والندى ... يحق له فيها التأسف واللهف
وتبكيه بيض الهند ولاسند والثرى ... ويرتاح منه الطرف إن سخن الطرف
وما الموت إلا كل حي يذوقه ... وآخر هذا الحي أوله يعفو
لئن شيب الأبكار عظم مصابه ... ففيه جميع الوصف بالحق ملتف
عليه سلام الله ما فاه عارف ... بأوصافه الحسنى وفاح لها عرف
علي بن أحمد المدني الحشيبري الشافعي كان حافظاً للمذهب والأحاديث النبوية مع التفاسير يملي من حفظه على الدرسة بنقل صحيح غير متكلف وكان على جانب عظيم من الورع في الفتوى وغيرها وفي التدريس أخذ عنه كثير منهم السيد الطاهر بن البحر وولده محمد وكانت وفاته في سابع عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وألف ببيت الفقيه الأيمن ودفن عند أجداده وللسيد محمد بن الظاهر فيه مرثيات عديدة منها قوله
أخلاي ضاع الدين من بعد شيخنا ... إمام الهدى شمس المعالي ابن أحمد
أفاض على الطلاب من فيض علمه ... وأوسعهم من بحره المتزيد
إمام صبور صادق متورع ... أحاط بعلم الشافعي محمد
وحقق منهاج النواوي محققاً ... وإرشادنا المشهور في كل مشهد
وهي طويلة فبهذا القدر منها كفاية.
علي بن أحمد بن محمد المعروف بابن بجع البعلي الأصل الدمشقي الشافعي الأديب البارع كان حسن المعرفة بفنون كثيرة كثير الاشتغال والمثابرة حسن العقيدة جيد المحاضرة قرأ بدمشق على جماعة ورحل إلى الرملة وأخذ عن شيخ الحنفية الخير الرملي وحج وأخذ بالمدينة عن الإمام الكبير الحجة الصفي أحمد القشاشي وعن المنلا إبراهيم بن حسن الكوراني ثم رحل إلى مصر في سنة أربع وسبعين وألف وأخذ بها عن الشيخ عبد السلام اللقاني وغيره وكان شديد الاعتناء بجمع الفوائد ووقفت له على مجموع بخطه فيه كل ذهيرة من نفائس الأدب ومحاسنه ورأيت فيه من آثاره هذا الجواب عن اللغز المشهور وهو
يا أيها المولى الذي ... علم العروض به امتزج
بين لنا دائرة ... فيها بسيط وهزج
قال سألني عنه بعض الأخوان فأجبته بديهاً بأن المراد بالدائرة الدولاب وأراد بالبسيط فيه الماء وأراد بالهزج صوت الدولاب فيكون المعنى بين لنا دائرة جمعت بين البسيط والهزج لا المذكورين في علم العروض وإن ساعده قوله علم العروض به امتزج لما بينهما من البعد إذا لبسيط ثماني الأجزاء والهزج سداسيها وهما لا يجتمعان قلت والمعروف أن بعض العلماء سئل عن هذين البيتين ففكر ساعة ثم أجاب فقال له السائل أجبت الجواب الحق ولكن درت في الدولاب كثيراً وقرأت بخطه قال كان عندي مجموع عارية للعلامة الشيخ حسن الصفدي العيلبوني طلبه فأرسلته إليه وكتبت معه
جاءت من المولى الأجل بطاقة ... ترجو مراماً ليس بالممنوع(2/209)
فالقلب عندك رهن ود صادق ... والآن قد أرسلت بالمجموع
فجرت على هذي البطاقة أحرفاً ... مجموعها يومي بسلب جميعي
فكتبت إليه
لا تبك عينك واتئد فلربما ... أودعته والله غير مضيع
وارحم أسير هوى طليق مدامع ... لم يقض في شرع الهوى برجوع
وله غير ذلك وكانت ولادته في سنة سبع وثلاثين وألف وتوفي في نهار السبت ثاني عشر المحرم سنة أربع وثمانين وألف ودفن بمقبرة الفراديس.
القاضي علي بن إسماعيل صدر الدين بن العلامة إبراهيم بن محمد بن عربشاه الشهير بعصام الدين الأسفرايني الشافعي المكي المشتهر بالعصامي ذكره الشهاب في كتابيه وقال في وصفه وهذا الحفيد عقد المناقب به نضيد لم يفتخر بآبائه ولم يبتهج بنضارة أصله ولا مائه لما اعتصم بعروة الفضل الوثقى وصعد إلى ربوة المجد وترقى وقال أنا عصامي لا عظامي وإن كنت لذمام مآثري حامي فألف وصنف ونوع قرى الأسماع وأتحف وأفاد الطلاب وحل بأسنان قلمه عقد المشكلات الصعاب قاوذكر مرة قول الرئيس ابن سينا في بعض كتبه حديث أن الحكمة لتنزل من السماء فلا تدخل قلباً فيه هم الغد فقلت له أنه لم يسنده وهو بكلام النبوة أشبه وقد نظمته في قولي
من ترك الدنيا يسد أهلها ... ويقتطف زهرتها باليد
لا تسكن التقوى ولا حكمة ... تنزل قلباً فيه هم الغد
وللإمام الشافعي قريب منه
كم ضاحك والمنايا فوق هامته ... لو كان يعلم غيباً مات من كمد
من كان لم يؤت علماً في بقاء غد ... ماذا تفكره في رزق بعد غد
وذكره الإمام علي بن عبد القادر الطبري في تاريخه أن ميرزا مخدوم أقام صاحب الترجمة قاضياً شافعياً ليتعاطى الأحكام على مذهب الشافعي بمكة واستمر من ذلك الحين إقامة أربعة قضاة إلى سنة خمس وثلاثين وألف ثم ترك ذلك وصار القاضي واحداً حنفياً من الروم وينبغي إقامة القضاة على المذاهب خصوصاً مذهب الشافعي فإن غالب أهل القطر الحجازي شافعيون والأئمة جميعاً على هدى وذكر أيضاً أنه أول من سعى في جعل معلوم لمفتي الشافعية فإنه توجه إلى الديار الرومية وجعل له خمسين عثمانياً من جدة في مقابل إفتاء الشافعية ومن مؤلفاته حاشية على شرح الاستعارات لجده العصام أتى فيها بالعجب العجاب من فوائد البيان وتلقاها الفضلاء بالقبول ولم يزل بجوار بيت الله حتى توفي إلى رحمة الله وكانت وفاته في سنة سبع بعد الألف بمكة ودفن بالمعلاة.
السيد علي بن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن محمد بن علي السيد الإمام العلي المقام قرأ واشتغل وحج سنة سبعين وألف ومعه جملة من الأعيان ولازم حضرة والده التي كانت محط الرحال وأخذ عن جمع من الشيوخ ورغب في الأدب فبلغ الغاية القصوى فيه ولما تفرس فيه والده النجابة قلده أعمال بلاد ضوران وما حولها من البلاد وكان والده إذا ذاك مقيماً بحصن شهارة ولم يزل مقيماً على عمله حتى توفي ابن عمه السيد الجليل محمد بن الحسن بن القاسم وكانت اليمن منوطة بنظره فاستخلفه والده على أعماله وقلده ولاية ذلك الإقليم واستقر فيه إلى أن توفي والده وتولى الإمامة من بعده الإمام أحمد المهتدي بن الحسن فأقره على ما كان في حياة والده عليه وفوض جميع الأعمال اليمنية إليه وكان غالب إقامته بتعز وخيله ولم يزل محط رحال الأدباء والفضلاء وله من الشعر ما حسن لفظه ومعناه ودل بفحواه على مغزاه فمنه قوله
صب بكاد يذوب من حر الجوى ... لولا انهمال جفونه بالأدمع
وإذا تنفست الصبا ذكر الصبا ... وليالياً مرت بوادي الأجرع
آه على ذاك الزمان وطيبه ... حيث الغضا سكنى ومن أهوى معي
وليالياً مرت فيا لله ما ... أحلى وأملحها فهل من مرجع
إلى أن ختمها ببيتي الذهبي على جهة التضمين
أحمامة الوادي بشرقي الغضا ... إن كنت مسعدة الكئيب فرجعي
إنا تقاسمنا الغضا فغصونه ... في راحتيك وجمره في أضلعي
ومنه قوله يمدح أخاه الحسن
أكذا المشتاق يؤرِّقه ... تغريد الورق ويقلقه
وإذا ما لاح على أضم ... برق أشجاه تألقه(2/210)
يخفي الأشواق فيظهرها ... دمع في الخد يرقرقه
آها يا برق أما خبر ... عن أهل الغور تحققه
فيزيل جوى لأسير هوى ... مضنى قد طال تشوقه
ريم الهيجاء وربربها ... خمري الثغر معتقه
ممشوق القد له كفل ... يتشكى الضعف ممنطقه
مغرى بالعذل لعاشقه ... وبدرع الصبر يمزقه
يا ريم السفح علام ترى ... ترضى الواشي وتصدقه
رفقاً بالصب فإن له ... قلباً بهواك تعلقه
فعسى بالوصل تجود ولو ... في الليل خيالك يطرقه
أو ما ترثى لشج قد زاد ... بطول الليل تحرقه
وأراه الصد سيخرجه ... من أسر الحب ويطلقه
فله نفس تأبى كرماً ... يأتيه النقص ويلحقه
ولذاك سلت بتذكرها ... لأخ بالمجد تخلقه
شرف الإسلام وبهجته ... وختام الجود ومغدقه
وعماد الملك ومفخره ... وسنام الدين ومفرقه
من دون علاه لرائمه ... برج الجوزاء ومشرقه
حلم كالطود لنائله ... جود كالبحر تدفقه
اسمع مولاي نظام أخ ... قد زاد بمدحك رونقه
ود قد صار يكلفه ... لمقال الشعر وينطقه
فاحفظ ودي لا تصغ لما ... يملي الواشي وينمقه
وله غير ذلك وكان ولادته في سنة خمسين وألف وتوفي يوم الجمعة ثالث شهر رمضان سنة ست وتسعين وألف بتعز وبها دفن.
القاضي علي بن جار الله بن محمد بن أبي اليمن بن أبي بكر بن علي بن أبي البركات محمد بن أبي السعود محمد بن حسين بن علي بن أحمد بن عطية بن ظهيرة بن مرزوق بن محمد بن عليان بن هاشم بن حرام بن علي بن راجح بن سليمان بن عبد الرحمن بن حارث بن إدريس بن سالم بن جعفر بن هاشم بن الوليد بن جندب بن عبد الله بن الحارث بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي الظهيري الحنفي مفتي مكة الشهير بابن ظهيرة ونسبهم هذا مصحح مسلم لا غبار عليه وبيتهم بيت علم وفضل بالحجاز قال السخاوي في الضوء اللامع وأول من تحنف من بني ظهيرة أبو اليمن وصاحب الترجمة هو المفتي والخطيب بالحرم المكي في عصره وله الشهرة الطنانة والفخر الأتم وقد ذكره الخفاجي في كتابيه وقال في حقه خطيب مصقع وبليغ لفظه موشى موشع إذا انحدر في أودية الكلام ماء بلاغته وسال في بطاحها سلسال فصاحته شهد الناس بفضله من فاجر وم نبر وكاد أن يخضر أعواد كل منبر
فتهتز أعواد المنابر باسمه ... فهل ذكرت أيامها وهي أغصان
وله آثار يتحلى بعذوبتها فم اللسن وعقود سجع نظمتها يد فضله في لبات الزمن رأيته وقد طعن في السن وليس له إلا العصا فتى ورقى شرف التسعين وهي آخر سلم الفنا وقال الشلي في ترجمته اعتنى بالعلم فاشتغل به على جماعة من الكبار وحظي منه بأوفر نصيب وانتفع به جماعة من الكبار منهم الشيخ عبد الرحمن المرشدي وأخوه قاضي القضاة شهاب الدين أحمد والإمام عبد القادر الطبري وغيرهم وله تصانيف مفيدة ومآثر حميدة منها حاشية على شرح التوضيح وحاشية على شرح إيساغوجي للقاضي زكريا وتذكرة مفيدة وله فتاوى مشهورة لكنها غير مجموعة وله ديوان شعر ومن نظمه قوله
قلت لشهر الصوم لما وفى ... مودعاً مني وداع الصديق
سلم على الموسم بالله لي ... وقل له أقبل فهذا الطريق
وكف بصره في آخر عمره وتوفي سنة عشر بعد الألف وقد جاوز التسعين.
علي بن جار الله بن أبي بكر بن محمد وتقدم تمام النسب في ترجمة أبيه جار الله ويعرف بيتهم بالقدس ببني اللطف وعلى هذا نشأ على سمت والده ومذهبه وكان حنفياً كما تقدم ومهر في فنون عديدة وكان فاضلاً إلى الغاية محققاً قوى الحافظة أديباً سمحاً جواداً ممدحاً فرداً في وقته سافر إلى الروم ومراراً وولي إفتاء الحنفية بالقدس وخطابة المسجد الأقصى وكان كثير المجون متهتكاً في التعشق والصبابة وله شعر يدل على رقة طبعه فمنه قوله من قصيدة(2/211)
من دياجي البعد هل للقرب ومض ... أم بمضمار التهاني ثم ركض
لا أمني النفس ما لي والمنى ... عاقني من أدهم الأيام ركض
كان تسآ لي مخلاً بالعطا ... يوم لا نأي دنا بالعيش غض
يوم كان الشرب سمعاً وأناً ... بلبل ثم سما والكل أرض
صاح عاطيني ولا تسأل لما ... جفن كاسي وجفوني لا تغض
إن تقل جرح زماني كاتم ... منهم في القلب جرح لا يمض
علق القلب بحلظ إن رنا ... قاتل أو كف ظن الكف غمض
من مجيري من هوى من ليثه ... في عرين القلب فرات وربض
كنت لا أعرف تمزيق الكرى ... فأراني كيف عصب الجفن ينضو
ورأى طغيان قلبي فرنا ... ليريه شهب الطاغي تقض
فتأسيت بلمع برقة ... مذ بدا لي منه بسط ثم قبض
قال لي والصحو ما خامره ... واستملى قده طول وعرض
هل تخمرت بنور طرتي ... أم جفون الشعر داناهن غمض
قلب شيبي من سعير مهجتي ... أبرزته زفرات القلب ومض
أو سنان طاعن قلب الصفا ... أو شهاب أو لختم العيش فض
ودموعي ماء قلبي ناره ... أخرجتها من قروح الجفن بض
قال لي والغصن يثنيه الهوى ... قد أتى من سائر الأجفان عرض
فارجع الدمع لتطفي ناره ... حيث لي في منزل الأشواق عرض
حلية العاشق قرب وقلى ... أي وجد لفؤاد لا يرض
وقوله في ذم الزمان
خليلي هذا لدهر دانت عجائبه ... فطمن فؤاداً إن نشبن مخالبه
ولا تعتبنه إن تأخر ذوي حجا ... فذا الدهر لم يحرز سباقاً معاتبه
سكرت بهذا الدهر لا من عقاره ... ولكن لما أبدته عندي عجائبه
فما محرم الإنسان إلا علومه ... وما ذائقوه السم إلا أقاربه
قوله وما ذائقوه إلى آخره فيه إيماء إلى قول ابن العميد
آخ الرجال من الأباعد والأقارب لا تقارب
إن الأقارب كالعقارب بل أضر من العقارب
وفي المثل ظلم الأقارب أشد مضضاً من وقع السيف وقيل إنما أخشى سيل تلعتي والتلعة سيل الوادي من النجد إلى بطن الوادي ومعنى المثل أنما أخاف شر أقاربي ومن شعر ابن جار الله قوله
اشرب الكاسات صرفا ... واغتنم رشف الثغور
واعتقد في الله خيرا ... إن ربي لغفور
وله غير ذلك وكانت وفاته بغزة هاشم في سنة سبعين وألف قتله حاكمها الأمير حسين بن حسن المقدم ذكره قيل عدواناً وقيل ورد فيه أمر شريف بقتله وذلك لأمور منكرة كانت صدرت منه يرجع أكثرها إلى حب الدنيا والرياسة.
علي بن الحسن بن محمد بن الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن محمد بن عيسى وتقدم تمام النسب في ترجمة السيد الحسن الملقب ضياء الدين النعمي الشريف الحسني اليمني أحد فضلاء اليمن وأجلائه وأكابر سراته وكان عالماً فاضلاً شاعراً ولي القضاء بجهة صبيا وفاق أقرانه بالتحقيق وألف المؤلفات العديدة والرسائل الشهيرة ورزق الحظوة التامة في البنين حتى أعقب اثني عشر ولداً ذكراً كلهم علماء أدباء شعراء وكان يهتز للأدب والعلم ويحفظ الأخبار والآثار ويطلع على القصص المتقدمة والمتأخرة وكان يأتي على أكثر الكشاف غيباً وانتفع به أهل الإقليم ومسكنه جهة سلفه الدهناء من أعمال وادي بيشر والمحلة واتخذ بيتاً بعنود وكان عليه مدار المخلاف وكان واسع الصدر مهيباً جليلاً أحنفي الحلم حيدري البأس والعلم ولي القضاء عن أمر إمام زمانه المؤيد بالله محمد بن القاسم ثم أخيه المتوكل على الله إسماعيل إلى أن مات وذلك بمدينة صبيا وأعمالها وله نظم ونثر جيدان فمن نظمه قوله في مدح شرح الأزهار
درسة الشرح نزهة للنفوس ... وبها مرهم لداء وبوس
وهي أشهى لألفها من سلاف ... قد أديرت على ندامى الكؤس(2/212)
ولها صورة بمنظر قلبي ... هي أبهى من صورة الطاوس
فاستمروا في درسها فالمعالي ... تتهادى في حالكات الدروس
والمعاني مهورهن مغان ... واردات عن صفوة القدوس
وجليس مذاكر في رشاد ... خير خل وصاحب وجليس
فإذا لم يكن فصحبة سفر ... هي عند اللبيب خير أنيس
واستمدوا فضلاً من الله يأتي ... فيه بنور يفوق ضوء الشموس
واستعينوا بالصبر كيما تفوزوا ... بخلال عظيمة الناموس
فسلام عليكم مستمر ... ما همى عارض الغمام الرجيس
وقوله أيضاً يخاطب العلامة السيد شرف الدين الحسن بن عقيل
قل للأديب سليل كل خليل ... خدن العفاف مقر كل جميل
نجل الميامين السراة ومن لهم ... أصناف مجد في الأنام أثيل
يمم هديت مدارج السلف الألى ... نشأوا على التفريغ والتأصيل
واسلك سبيلهم فإنك فرع من ... ساس الورى بدلائل التنزيل
طه عليه الله صلى ما سرى ... برق وما أجرى معين النيل
وله من رسالة كتبها إلى الفقيه أبي القاسم بن محمد أني هم في مسئلة حصل بينهما فيها نزاع وقد كان الأولى رفع النفس عن مجاراتك في جهلك والالتفاف إلى فرطات عقلك وكف اليد عن جوابك وقطع المد عن أعتابك غير أني أعلم أنك لم تعدني بالإعراض متكرماً ولا بالأزورار عنكمستحكماً بل تقدر مع ذلك أنك قد أصبت معظم الصواب من هذا البحث وأنك قد أخذت بمقالك الأقبح الأرفث وأيضاً فإن محكم كلام الجليل ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ومن قول حكم الشعر
إذا أتت الإساءة من وضيع ... ولم ألم المسيء فمن ألوم
وبعد هذا فاعرف موضع قدمك قبل المسير وتبصر في الأمور أيها الجاهل الغرير وقف عند انتهاء قدرك وانظر في إصلاح أمرك فالأولى لك أن تكون متعلماً لا معلماً وليس لك فيما سلكت جمل ولا ناقة ولا مقدمة ولا ساقة وله غير ذلك وكانت ولادته في سنة أربع وثمانين وتسعمائة وتوفي في ذي الحجة سنة سبع وستين وألف والنعمى تقدم الكلام عليها في ترجمة ابن عمه السيد حسن بن علي بن عبد الرحمن في حرف الحاء وتقدم أن هؤلاء الأشراف فرقتان آل محمد بن عيسى وآل أحمد بن عيسى فصاحب الترجمة من آل محمد والسيد حسن من آل أحمد ولآل أحمد علي غير هذا وهو ابن حسن بن عقيل تولى هو وأبوه القضاء بصبيا ببلدة تسمى العثيرة أسفل وادي وساع مات في أوائل المحرم سنة خمس وسبعين وألف في طريق الحج وهو آيب من مكة في حمصة محط الحاج اليماني بالقرب من وادي عتود وكان والده في الحياة فلما أخبر بموته انفطر قلبه حزناً عليه لأنه لم يكن له من الأولاد سواه فتوفي بعده بعشرين يوماً بالدهناء ودفن بالهجرة من العثيرة ورثاهما السيد محمد المذكور في ترجمة أخيه السيد حسن في حرف الحاء بقصيدة طويلة مطلعها
صدم الدهر طود مجد أثيل ... ووهى الدين بالمصاب الجليل
ونجوم الهدى هوت وأغيضت ... أحبر الجود بعد نجلي عقيل
فسرى أفقها وطودى علاها ... وعمودي نوالها المأمول
جبلي أمنها إذا ناب خطب ... وجمال الورى لحمل الثقيل
ومنها:
وسلام على ضريحين ضما ... نخوة الملتجي وكهف النزيل(2/213)
وأما أولاده الاثنا عشر فهم محمد وحسن وأحمد وعبد الرحمن ويحيى ومحسن وحسين وعز الدين وإبراهيم وشبير وإسماعيل وشمس الدين فأما محمد فتوفي في سنة سبع وثمانين وألف وأعقب أولاداً أمجاداً ذوي معرفة وأما حسن فكان له مشاركة في العلوم ونظم بديع وتوفي في غرة المحرم سنة ثلاث وستين وألف بمكة المشرفة ودفن بالشبيكة بقرب تربة العيدروس وأما أحمد فكان إماماً علامة مات بمكة في سنة سبع وسبعين وألف ودفن بجانب قبر أخيه ومات عن ولدين موجودين وأما عبد الرحمن فكان على طريقة الصالحين من المواظبة على الطاعات وله أولاد على صفته وأما حسين فموجود وليس له عقب وأما عز الدين فذو معرفة تامة في جميع العلوم ولد سنة اثنتين وثلاثين وألف وكان قاضي حاج اليمن وقد تقدم ذكره وأما إبراهيم فكان علامة وقد توفي وخلف أولاداً أكبرهم طالب علم وأما شبير فشارك في العلوم وإسماعيل درج وليس له عقب وأما شمس الدين فذو فضل باهر وهو الآن خطيب صبيا.
القاضي علي بن الحسين بن محمد بن علي بن محمد بن غانم بن يوسف بن عبد الهادي بن علي بن عبد العزيز بن عبد الواحد بن عبد الحميد الأصغر بن عبد الحميد الأكبر قال ابن أبي الرجال في تاريخه هكذا رقم نسبه القاضي أحمد بن سعد الدين إلى عبد الحميد ولم يزد عليه ونسب عبد الحميد مشهور مذكور من بني المنشا سلاطين مسور ولهم عقب هنالك مشهور منهم من سكن وادي عبال علي ببلاد مسور وسكن هؤلاء القضاة وادي صارة فهم بيت شهير لهم نمط متجدد لا يختلفون فيه وخاتمة بيت العلم عقب القاضي الحسين بن محمد فأما عقب سعد الدين فقد انقطع بموت القاضي أحمد بن سعد الدين وأما عقب علي المذكور فبقي منهم طفل صغير بثغر العدنية ابن لمحمد بن علي بن الحسين ثم درج وكان محمد هذا أديباً لبيباً يجيد الترسل ويحسن الشعر على نهج أهله وتعلق بالطب وهو الذي لمح إليه في قصيدته البائية التي أنشدها بالقدوم واستقر صاحب الترجمة مدة بجهة الوعلية من الشرف الأعلى ورحل إلى صنعاء وقرأ بها وحقق في جميع العلوم سيما في المعقولات وكان مع ذلك كثير العبادة حسن السمت محبوباً عند كل أحد ومما شاع في الألسن على العموم لو أن الأرض ملائكة يمشون كان القاضي علي بن الحسين منهم ورويت هذه اللفظة عن الإمام القاسم بن محمد قال وهو شيخ شيخنا العلامة شمس الدين في كثير من العلوم كان يأتيه القاضي صفي الدين من هجر ابن المكروم إلى القدوم أيام سكونه فيه كل يوم فيقرأ عليه جميع نهاره ثم يعود إلى الهجر وأخبرني القاضي صفي الدين أنه كان يشاهد من يصحبه من الجن في أثناء الطريق ويسير بسيره قال القاضي صفي الدين في مشيخته عند ذكر والده وعمه المذكور أما عمي ووالدي علي بن الحسين بن محمد المسوري وسعد الدين بن الحسين المسوري فإنهما بعد الله ورسوله قائمة الهدى أصل هدايتي وعنوان رحمة الله تعالى بما رزقني من تأديبهما وتهذيبهما وتعليمهما وإرشادهما وتلقينهما إياي فوائد العلم وغرائب الحكم وتغذيتهما إياي بحب الله عز وجل وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب أهل بيته الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وكان صاحب الترجمة بحر العلوم الطامي وجبل الحلوم السامي صاحب عبادة وزهادة وخلوص طوية حليف القرآن رطب اللسان به لا يزال موجهاً للقبلة وكان له في الشعر قدم راسخة ومن مخترعاته قوله في كرسي التسبيح
صبرت على شقي بنشروان لي ... بيحيى نبي الله أسوة عارف
فجوزي جنات النعيم بصبره ... وجوزيت عن شقي بحمل المصاحف
وصرت جليس الأتقياء ولم أزل ... على حالة يرضى بها كل عارف
وله قصيدة بحث بها الإمام القاسم على شرح الأساس وكانت وفاته بمدينة صبيا من المخلاف السليماني في ثاني عشرى ذي القعدة سنة أربع وثلاثين وألف وهو متوجه لفريضة حج بيت الله الحرام وقبر عند المسجد المعروف بمسجد عقيل.(2/214)
علي بن حسين المعروف بابن الأرنؤد أحد كبراء جند الشام كان والده قدم إلى دمشق وتزوج بها وصار من جندها ثم صار رئيس الجاو يشبه وسافر إلى الحج بهذه الخدمة سنين ومات بمكة في سنة خمس وثلاثين وألف وخلف ولدين هما علي وخداوردي فأما خداوردي فقد أدركته وكان من أعيان الجند أرباب المروءة والسخاء وقد توفي بجرش من بلاد حوران في سنة ثلاث وثمانين وألف وأما على صاحب الترجمة فصار أولاً من آحاد الجند وتنقل في مراتبهم ولما توفي أبوه وجه إليه منصبه المذكور وسافر مرات إلى الحج بكمال الوسعة واشتهر بالمال وسعة الدائرة ثم صار كتخدا الجند وتعين في هذا المنصب وتطلب إمارة الحاج وجاءه الخبر بحصولها ثم وقع بينه وبين نائب الشام الوزير أحمد باشا المعروف بالسرجي وكان مغفلاً فلم يعتبره وكان يقصده بالهزل والملاعبة فبلغه ذلك فغضب وجمع ديواناً حافلاً وأمر أتباعه بحمل السلاح واستحقر العسكر الشامي وكان علي في حديقته خارج باب الفراديس فأرسل إليه مرسالاً خاصاً وأحضره إلى الديوان ثم أهانه وأمر بقتله فقتل في ذلك الوقت وألقي خارج باب السعادة ثم غسله بجامع الصابونية ودفن بمقبرة باب الصغير وكان مقتله في المحرم سنة اثنتين وخمسين وألف واتفق أن الشيخ محمد المتبولي المصري صاحب التقاويم تعرض لذكره في تقويم تلك السنة بقوله يا سلام سلم من قول باعلي كلم وضبطت أمواله ومتعلقاته لجهة السلطنة وكان شيئاً كثيراً وذهب دمه هدراً.
علي بن حسين بن عمر بن حسين بن عمر بن الشيخ علي الشيخ العالم اليمني المكي ولد بلحج من أرض اليمن ونشأ به وحفظ القرآن وصحب جماعة منهم السيد الجليل عبد الله بن علي صاحب الوهط والسيد أبو الغيث ثم رحل إلى مكة فحج وجاور بها وصحب كثيرين منهم الشيخ أحمد بن إبراهيم علان وابن أخيه الشيخ محمد علي والسيد الجليل عمر بن عبد الرحيم البصري والسيد محمد الحبشي الشهير بالغزالي وشهاب الدين أحمد بن محمد الهادي بن شهاب والشيخ محمد بن علاء الدين البابلي المصري والشيخ محمد مكي بن فروخ الحنفي وغيرهم ورحل إلى المدينة وأخذ بها عن الشيخ أحمد بن محمد القشاشي والسيد محمد بن علي ثم قطن بمكة وتجرد للعبادة مواظباً على الجماعة في المسجد الحرام وما فاتته تكبيرة الإحرام وكان لا ينفك عن صلاة أو مطالعة وكان عاملاً بعلمه قليل المخالطة لا يجتمع بأحد إلا في المسجد قليل الكلام وكان الناس يعتقدونه اعتقاداً عظيماً لزهده وورعه وكان قانعاً متقشفاً في الملبس والمطعم متواضعاً ولم يتزوج قط ولا ملك جارية ولا عبداً وجمع كتباً عظيمة ووقفها على طلبة العلم وكانت وفاته قافلاً من المدينة بالقرب من بندر جدة سنة تسع وستين وألف وحمل إلى البندر ودفن بها وقبره بها مشهور يزار.(2/215)
علي بن زين العابدين محمد بن أبي محمد زين الدين عبد الرحمن بن علي أبو الإرشاد نور الدين الأجهوري بضم الهمزة وسكون الجيم وضم الهاء نسبة إلى أجهور الورد قرية بريف مصر المالكي شيخ المالكية في عصره بالقاهرة وإمام الأئمة وعلم الإرشاد وعلامة العصر وبركة الزمان كان محدثاً فقيهاً رحلة كبير الشأن وقد جمع الله تعالى له بين العلم والعمل وطار صيته في الخافقين وعم نفعه وعظمت بركته وقد جسد فبرع في الفنون فقهاً وعربية وأصلين وبلاغة ومنطقاً ودرس وأفتى وصنف وألف وعمر كثيراً ورحل الناس إليه في الآفاق للأخذ عنه فألحق الأحفاد بالأجداد أخذ عن مشايخ كثيرين سرد منهم الشهاب العجمي في مشيخته نحو ثلاثين رجلاً وأعلاهم قدر الشمس محمد الرملي والبدر حسن الكرخي والسراج عمر بن الجاي والحافظ نور الدين علي بن أبي بكر القرافي الشافعي وإمام المالكية في عصره الشمس محمد بن سلامة البنوفري وقاضي المالكية البدر ابن يحيى القرافي وأملى الكثير من الحديث والتفسير والفقه وأخذ عنه الشمس البابلي والنور الشبراملسي والشهاب العجمي وغيرهم ممن لا يحصى كثرة وألف التآليف الكثيرة منها شروحه الثلاثة على مختصر خليل في فقه المالكية كبير في اثني عشر مجلداً لم يخرج عن المودة وسيط في خمسة وصغير في مجلدين وحاشية على شرح التتائي للرسالة وشرح عقيدة الرسالة وشرح ألفية السيرة للزين العراقي ومجلد لطيف في المعراج ومجلد في الأحاديث التي اختصرها ابن أبي جمرة من البخاري وشرح ألفية ابن مالك لم يخرج عن المسودة وشرح التهذيب للتفتازاني في المنطق وحاشية على شرح النخبة للحافظ ابن حجر ومنسك صغير وجزء في مسئلة الدهان وكتابة على الشمايل لم تخرج من المسودة وعقيدة منظومة وشرحها شرحاً نفيساً وشرح على رسالة ابن أبي زيد القيرواني في الفقه في مجلدات وغير ذلك ورزق في كتبه الحظ والقبول وأصيب آخر في بصره بسبب غريب وهو أن بعض الطلبة ممن أراد الله به شراً كان يحضر مجلس الأجهوري وكان في ظاهر حاله صالحاً فاتفق أن تزوج ووقع بينه وبين زوجته مشاجرة فطلقها ثلاثاً ثم أدركه تعب فاستفتى الأجهوري فأفتاه بأنها لا تحل له إلا بعد زوج آخر فتوعده بأنه يقتله أن لم يردها فلم يكترث الأجهوري بكلامه فترك الأجهوري يوماً حتى جلس للتدريس على عادته فجاء وتحت صوفه سيف فاستله وضرب الأجهوري على رأسه فقام عليه أهل الحلقة ومن حضرهم من أهل الجامع فتناولوه يميناً وشمالاً بالنعال والحصر حتى حالوا بينه وبين الأجهوري وقد شجه في رأسه وما زالوا به حتى قتلوه دوساً بالأرجل وضرباً بالأيدي والنعال والعصي ورفع الأجهوري إلى داره فأثرت تلك الشجة في بصره وللأجهوري فوائد وآثار كثيرة معجبة منها ما نقلته عن معراجه التتمة الرابعة ورد أن الحور العين يتغنين بما يقوله شعراء الإسلام كما ذكر بعضهم فقال اخرج الديلمي عن ابن مسعود مرفوعاً أن الشعراء الذين يموتون في الإسلام يأمرهم الله تعالى أن يقولوا ما تتغنى به الحور العين لآزواجهن في الجنة والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور وقد نظم ذلك بعضهم فقال
الديلمي عن ابن مسعود روى ... في آية الشعرا حديثاً مسندا
من مات في الإسلام منهم في غد ... بالشعر يأمره الإله فينشدا
ونشيده من كل حوراء إلى ... زوج لها تلفى على طول المدى
والمشركون دعاؤهم في نارهم ... ويل ثبور كل وقت سرمدا(2/216)
ومن فوائده المأثورة عنه أن من قرأ عند النوم قوله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم أن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون أمن من الاحتلام تلك الليلة ومن قرأ في آخر جمعة من رجب والخطيب على المنبر أحمد رسول الله محمد رسول الله خمساً وثلاثين مرة لا تنقطع الدراهم من يده تلك السنة وأفاد لقضاء الحوائج أن تقول وأنت متوجه إلى حاجتك عشر مرات اللهم أنت لها ولكل حاجة فاقضها بفضل بسم الله الرحمن الرحيم ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ولبكاء الأطفال يكتب في ورقة ويعلق على رأس الصغير بسم الله الرحمن الرحيم قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء سليمان وتنزع الملك ممن تشاء بلقيس وتعز من تشاء إدريس وتذل من تشاء إبليس عيسى ولدليلة السبت ولا ريح ينفح ولا كلب ينبح أرقد أيها الطفل حتى تصبح أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ومن فوائده جيم جماجم طهطبل جبال راسيات سندية هندية قدسية من قرأها إذا أوى إلى فراشه ثلاث مرات لم تقربه وفراشه حية ولا عقرب ومن نظمه لفوائد جليلة الموقع هذه الأبيات في قاعدة النكرة إذا أعيدت نكرة أو معرفة وبالعكس
وإن يعد منكر منكراً ... فالثاني غير أول بلا مرا
وفي سوى ذا الثاني عين الأول ... إلى ثلاثة فذو الأصل جلى
قلت وفي مغني اللبيب حكماً ... بأن هذا كله ما سلما
إذ قوله فوق العذاب أبطله ... والصلح خير قد أبان خلله
وذا لان الصلح عم الأولا ... والشيء فوق نفسه لن يعقلا
وقوله عليهم كتاباً ... يرده فاستمع الخطابا
وقوله والنفس بالنفس وما ... شاكلها يخالف اللذ رسما
وقوله أيضاً وفي الأرض إله ... لأن ربي واحد بلا استثناء
إلا إذا قيل بأن ذلك ... إن لم تكن قرينة هنالك
فإن تكن ثم فلا يعول ... إلا عليها فالمراد يسهل
وله في تقديم بعض الفاكهة على الطعام وتأخيرها عنه ومعية بعضها.
قدم على الطعام توتاً خوخاً ... ومشمشاً والتين والبطيخا
وبعده الأجاص كمثرى عنب ... كذاك تفاح ومثله الرطب
ومعه الخيار والجميز ... قثا ورمان كذاك الجوز
وبالجملة فإنه جم الفائدة منشور العائدة وكانت ولادته في سنة سبع وستين وتسعمائة بمصر وتوفي بها ليلة الأحد مستهل جمادى الأولى سنة ست وستين وألف وصلي عليه صبيحتها بجامع الأزهر ودفن بتربة سلفة بجوار المشهد المعروف بأخوة سيدنا يوسف عليه السلام وكان أخبره بعض الأولياء أنه يعيش مائة سنة فلما مرض وعرف أنه مرض الموت وكان قد بلغ تسعاً وتسعين سنة تعجب وقال كلام الأولياء لا يتخلف قال الشيخ أحمد البشبيشي فلعله اشتبه عليه مولده انتهى أو يقال ما قارب الشيء أعطى حكمه.
علي بن سعد الدين بن علوان المكتبي المعروف بالأسود الفقيه الشافعي الدمشقي كان من العلماء الصلحاء كثير التصلب في دينه منعزلاً عن الناس مشتغلاً بالإفادة أخذ عن الشهاب العيثاوي والشيخ النجار وأبي القاسم المغربي مفتي المالكية بدمشق وخطب بجامع المصلى وكان يقرئ الأطفال في مكتب المرادية فإذا صرفهم عقد حلقة تدريس بحجرة له في جامع المرادية يقرئ بها الطلبة الفقه والنحو والتجويد وانتفع به جماعة منهم ولده الشيخ الإمام محمد الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وكان يأكل من كسب يمينه وكتب كتباً كثيرة بخطه منها الجامع الصغير للسيوطي كتب منه إحدى وعشرين نسخة واشتهر فيها وسبب ذلك أنه كان اشترى نسخة من بعض الأفاضل وقابلها وصححها وكتب على ألفاظها المشكلة مقالات شراحه واعتنى بها ولزمها حتى حفظ الكتاب عن ظهر قلب ومحصل القول فيه أنه كان بركة من بركات عصره وكان ولادته في سنة إحدى وتسعين وتسعمائة وتمرض مقعداً ثلاث سنين ثم توفي في سلخ شوال سنة أربع وسبعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير.(2/217)
علي بن سعودي بن محمد بن محمد بن محمد الغزي العامري الشافعي مفتي الشافعية بدمشق وأحد رؤساء العلم بها وشرف بيته ومكانتهم تقدم ذكره مراراً وسيأتي جده النجم محدث الشام وكان علي هذا فقيهاً فاضلاً جيد المحاضرة لطيف النكتة والنادرة سخياً جواداً طليق اللسان صاحب نخوة وفتوة أخذ عن جده ودرس بالشامية البرانية وأفتى مدة طويلة بعد أبيه وفتاواه كلها مسددة وكانت ولادته في سنة أربع وعشرين وألف وتوفي في سنة ثلاث وثمانين وألف ودفن بمقبرة الشيخ أرسلان.
علي بن عبد القادر النبتيتي موقت الجامع الأزهر أحد المتبحرين في علم الميقات والحساب من العلماء العالمين الفائقين في فن الزايرجة والأوفاق والمنفردين بعلم الدعوى والأسماء بإجماع أهل الخلاف والوفاق وكان مع ذلك مفنناً في علم الأدب قائماً بوظائف العبودية مجداً بالاشتغال له كفاف وقناعة أخذ الحديث عن شيوخ منهم أبو النجا سالم السنهوري والفقه عن جمع منهم الشمس محمد المحبي والعربية عن أبي بكر الشنواني وعنه عبد المنعم النبتيتي ومحمد بن حسين المنلا الدمشقي وكثيرون وله مؤلفات كثيرة شهيرة نافعة منها شرح على معراج النجم الغيطي وشرح على شرح الأزهرية للشيخ خالد وشرح على شرح الآجرومية له أيضاً وشرح على الرحبية في الفرائض وكتاب حافل في الأوفاق سماه مطالع السعادة الأبدية في وضع الأوفاق والخواص الحرفية والعددية وله رسائل كثيرة في فنون شتى وكانت وفاته بمصر في نيف وستين وألف ودفن بتربة المجاورين والنبتيتي تقدم الكلام عليها في ترجمة إبراهيم النبتيتي فليرجع إليها ثمة.
علي بن عبد القادر الطبري الحسيني الشافعي الإمام بن الإمام تقدم ذكر نسبهم فلا حاجة إلى إعادته وعلي هذا ولد بمكة وبها نشأ وحفظ القرآن وجوده ولازم والده في الفنون العلمية وأخذ عمن عاصره من أكابر العلماء حتى رقي المراتب العلية وجد في التحصيل واشتغل بالعلوم على الأنماط الحسنة وسلك في الطلب الطريق الأقوم وبدأ بما هو الأقدم فشرع في العلوم الشرعية ثم صرف الهمة للقيام بخدمتي التدريس والإفتاء والانتصاب لجواب من سأل واستفتى وفي غضون هذه المدة صنف كتباً عديدة منها التاريخ الذي جمع فأوعى وأقربه الناظر عيناً وشنف سمعاً المتضمن أخبار البلد الأمين المسمى بالأرج المسكي والتاريخ المكي وهو تاريخ حافل متضمن لأخبار الحرم والكعبة المشرفة والبيت الحرام وما فيه من منابر وقباب وأساطين وغير ذلك مما يتعلق بمكة وتراجم الخلفاء والملوك من زمن الصديق رضي الله تعالى عنه إلى زمنه ومنه الجواهر المنظمة بفضيلة الكعبة المعظمة وله رسالة في بيان العمارة الواقعة بعد سقوطها سنة تسع وثلاثين وألف ثم ما وقع من إصلاح سقفها وتغيير بابها سنة خمس وأربعين وألف وله منظومة سماها شرح الصدور وتنوير القلوب في الأعمال المكفرة للمتأخر والمتقدم من الذنوب وشرحها ومن شعره قوله
غانية تخجل بدر التمام ... غاية سؤلي من جميع الأنام
رقيقة الخصر حوى لفظها ... رقى فأصبحت لها كالغلام
بين ثناياها وذاك اللما ... برق تلألأ في دياجي الظلام
يحسدها المسك على لونها ... يا للهوى والريق يحكي المدام
همت بها حباً وكم في الهوى ... هام بها في العشق قبلي هيام
وقوله في مليحة تسمى غربية
ولي جهة غربية أشرقت بها ... لعيني شمس الأفق من غير ما حجب
ولاح بها بدر التمام لناظري ... ومن عجب شمس وبدر من الغرب
وقوله فيها:
إن الأهلة مذ بدت غربية ... فالغرب منه ضيا المسرة يشرق
فالشرق دعه فليس منه سوى ذكا ... تحتر في وسط النهار وتحرق(2/218)
وذكره السيد علي بن معصوم فقال في حقه سابق فرسان الإحسان وعين أعيان البيان المشار إليه في المحافل الحالب ضرع الأدب الحافل والباهر الألباب والعقول بفوائد المعقول والمنقول غاص في بحار الأدب فاستخرج درره وسما إلى مطالعه فاستجلى غرره فنظم اللآلي والدراري ونثر وجدد ما درس من مغاني المعاني ودثر فمن نثره ما كتبه إلى القاضي تاج الدين المالكي مسائلاً سيدنا المقتدى بآثاره المهتدى بأنواره إمام محراب العلوم البديعة وخطيب منبر البلاغة التي أضحت مذعنة له ومطيعة قمر سماء المجد الأثيل فلك شمس فخر كل ذي مقام جليل المميطة يد بياته حواجز الأشكال عن وجوه المعاني المعترف بمنطقه الفصيح القاصي من هذه الأمة والداني عمدة المحققين قديماً وحديثاً ملاذ المدققين تفسيراً وتحديثاً الصاعد معارج العليا بكماله المنشد في مقام الافتخار لسان حاله
لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... ولو تسلت أسلناها على الأسل
لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل
والقائل عند المجادلة في مقام المباهلة
نحن الذين غدت رحى أحسابهم ... ولها على قطب الفخار مدار
الملوك يقبل الأرض التي ينال بها القاصد ما يؤمله ويرتجيه وينهى أنه نظم بعض الجهابذة الأعيان بيتين في التشبيه والسبب الداعي لهما والمعنى المقتضى لنظمهما أنه أبصرت العين ظبياً يرتع في رياضه ويمنع بسيوف جماله عن ورود حياضه يرى العاشق سيآته حسنات جاد بها وأحسن ويعترف له بالحسن كل حسن في الأنام وابن أحسن بدا وهو الجوهر السالم من العرض وظهر وعليه أثر من آثار المرض فأراد المشبه تشبيهه في هذه الحالة فشبهه بغصن ذابل قائلاً لا محالة ونظم ذلك المعنى فشدا بما قاله صادح الفصاحة وغنى وهو
بدار عليه أثر من سقام ... كمكحول من الآرام ساهي
فخيل لي كبدر فوق غصن ... ذوى للبعد من قرب المياه(2/219)
فاعترض معترض عالم بالإصدر والإيراد قائلاً أن البيت الثاني لا يؤدي المعنى المراد إذا القصد تشبيهه بالغصن الموصوف وليس المراد تشبيهه بالبدر فالبدر لا يوصف إلا بالخسوف فطالت بين المعترض والمعترض عليه المنازعة ولم يسلم كل واحد منهما للثاني ما جادل فيه ونازعه فاختارا القاضي الفاضل حكماً ورضيا سيدنا حاكماً ومحكماً فليحكم بما هو شأنه وشيمته من الحق وليتأمل ما عسى أن يكون قد خفي عن نظرهما ودق والإقدام مقبله وصلى الله على سيدنا محمد ما هبت المرسله فأجابه القاضي بما هو صورته سيدنا الإمام الهمام الذي أضحى علم الأئمة الأعلام الإمام المقتدى به وإنما جعل إمام الحبر الذي قصرت عن استيفاء فضائله الأرقام ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام وإرث الجلالة عن آبائه الذين زهت بذكرهم الأخبار والسير المقيم من نفسه العصامية على ذلك أوضح دلالة يصدق فيها الخبر الخبر الحري بما استشهد به في شأن المملوك السالك من الكمال طريقة عز على غيره فيها لعزته السلوك يقبل المملوك الأرض بين يديه ويؤدي بذلك ما هو الواجب عليه وينهى وصول المثال العالي الفائقة جواهر كلماته على فرائد اللآلي يتضمن السؤال عن بيتي ذلك الجهبذ في الشأن الذي قضى حسنه أن تسلب الأرواح وتؤخذ ومنع حبه الكلام الألسن وكان الدليل على ذلك اعتراف ابن أحسن فإنه ذو النظر العالي المدرك حقيقة الكنه فإذا تنور من أذرعات أدنى ما تنوره إلى قيد شبر منه فتأمل المملوك ما وقع من تلك المعارضة التي أفضت إلى التحكيم والمفاوضة فإذا المتعارضان قد مزجا في حلو فكاهتهما شدة البأس في البحث برقة الغزل وأخرجا الكلام لبلاغتهما على مقتضى حال من جد وهزل وجريا إلى غاية حققا عند كل سابق أنه المسبوق وأريا غبارهما لمن أراد اللحوق وكان الأحرى بالمملوك ستر عوار نفسه وحبس عنان قلمه أن يجري في ميدان طرسه لكن لما كان ترك الجواب من الأمر المحظور لم يلتفت إلى ما يترتب على الواجب من المحذور فقال حيث كان الأمر على ما أسنده مولانا عن الناطم وروى من أنه قصد التشبيه في حال بقايا أثر السقام بغصن ذوى فعدل إلى سبكه في قالب صياغته وسلكه في سلك بلاغته فلا شك أنه أتى بما لا يدل على المراد دلالة أولية ظاهرة وكان كمن شبه الأغصان أمام البدر ببنت مليك خلف شباكها ناظره وحينئذ فإطلاق القول بأن البيت الثاني لا يدل على ما أريد ربما تمسك الخصم في عدم ثبوت الحكم عليه بأنه إطلاق في محل التقييد كما أن للمعترض أن يتمسك في ذلك بإشفاء الدلالة الأولوية فيكون المحكوم به هو المتعارض في القضية وهذا أجدى ما رآه المملوك في فصل الخطاب وأحرى ما تحرى لفيه أنه الصواب مع اتهامه نفسه في مطابقة الواقع في الفهم لعلمه بدقة نظر مولانا إذا قرطس أغراض المعاني من فهمه بسهم وتجويزه على نفسه العجز عن الوصول إلى مأخذ مولانا ومدركه واعترافه بأنه لا يجارى في نقد الشعر لأنه فارس معركة انتهى قوله في أثناء الجواب كان كمن شبه الأغصان أمام البدر ببنت مليك خلف شباكها ناظره يشير به إلى الصلاح الصفدي حيث قال
كأنما الأغصان لما انثنت ... أمام بدر التم في غيهبه
بنت مليك خلف شباكها ... تفرجت منه على موكبه
وقال في ذلك أيضاً:
كأنما الأغصان في روضها ... والبدر في أثنائها مسفر
بنت مليك سار في موكب ... قامت إلى شباكها تنظر
قال النواجي لا يخفى ما في هذين المقطوعين من ضعف التركيب وكثرة الحشو وقلب المعنى وذلك أنه جعل الأغصان مبتدأ وأخبر عنه ببنت المليك وهو فاسد وإن كان قصده تشبيه المجموع بالمجموع إلا أن الإعراب لم يساعده على أنه لم يخترع هذا المعنى بل سبقه إليه القاضي محيي الدين بن قرناص فقال
وحديقة غناء ينتظم الندى ... بفروعها كالدر في الأسلام
والبدر من خلل الغصون كأنه ... وجه المليحة طل من شباك
فانظر إلى حشمة هذا التركيب وانسجامه وعدم التكلف والحشو واستيفاء المعنى في البيت الثاني فحسب والصفدي لم يستوف إلا في بيتين على ما فيهما فلو قال في المقطوع الأول
كأن بدر التم لما بدا ... من خلل الأغصان في عيهبه
بنت مليك خلف شباكها ... تفرجت منه على موكبه
وفي المقطوع الثاني(2/220)
كأن بدر التم في روضة ... من خلل الأغصان إذ يسفر
بنت مليك سار في موكب ... قامت إلى شباكها تنظر
ومن شعر الإمام المذكور قوله
هذي رياض الحسن أغصانها ... غرد بالدوحة منه الهزار
يهتز فيها قد ذات الرنى ... رقيقة الخصر على الاختصار
بت ونار الشوق قد أضرمت ... بمهجة قد أحرقها الاستعار
رام عذولي هدركن الهوى ... يا كعبة الحسن بك الاستجار
غضيت ذاك الطرف عن ناظر ... هيجه الوجد عفيف الإزار
وقوله مشجراً
غزال كبدر التم لاح بوجهه ... هلال رأته العين من أفق الشمس
رنا طرفه الفتان يوماً لناظر ... يهيم به من حيث يصبح أو يمسي
بدا لي في خضر الرياض بأسمر ... به سودها تيبك الحدائق في لبس
يعلل بالتسويف قلبي فليته ... رأى دنفاً ما زال يقنع باللمس
هلكت جوى منه فمن لمتيم ... غريب عن الأوطان يد تومن الرمس
وقوله في الفتاة المار ذكرها وهي غربية
هيفاء كالشمس ولكنها ... غربية يا قوم عند الشروق
يفتر منها الثغر عن لؤلؤ ... رطب ويبدو منه لمع البروق
بالله يا عاذل عني فذا ... بارده السلسل فيه يروق
رفقاً فما في العذل لي طاقة ... يمكن منها لعذولي الطروق
غبت عن العاذل فيها فما ... هزل وجد لذوات الفروق
وقوله في صدر كتاب
على الحضرة العلياء دام مقامها ... علياً سلام طيب النشر والعرف
إلى نحوها حملته نسمة الصبا ... لتكسب وصفا من شذا ذلك الوصف
وله غير ذلك وكانت وفاته في سنة سبعين وألف بمكة ودفن بالمعلاة بتربتهم المعروفة.
السيد علي بن عبد الله بلفقيه الشيخ الشهير صاحب الشبيكة بمكة المشرفة الصوفي ذكره الشلي وقال في ترجمته ولد بتريم وارتحل مع أبيه وهو صغير إلى مكة واستوطنها وكان شيخاً معتقداً عند الخاص والعام مقبول الشفاعة وقام بمنصب والده بعده أتم قيام وظهرت منه كرامات كثيرة وحج مع والده وأخذ عنه ولازمه ملازمة تامة حتى تخرج به وكان والده يثني عليه وحضر الشيخ ابن حجر وأظنه أخذ عنه مؤلفاته وغيرها وأخذ عنه التصوف والخرقة الشريفة خلق وترجمه تلميذه الشيخ شيخ بن عبد الله العيدروس في السلسلة وقال كان من المشايخ العارفين له قدم راسخة في الحقيقة وكان الغالب عليه الصمت وحكى أنه لما زار النبي صلى الله عليه وسلم آخر زياراته نهى الناس عن الدخول معه في الحجرة وتبعه خادم له فلما دخل الحجرة ورأى الأنوار صاح الخادم فدعا عليه بأخذ عينيه فلما أصبحوا أتى سيل عظيم ونهى السيد خادمه عن الذهاب إلى السيل فذهب ودخل السيد يغتسل فأخذه السيل ورماه بمسحل بعيد ميتاً وأكلت الطيور عينيه وله أحوال ومقامات مأثورة وكرامات كثيرة وكانت وفاته في سنة إحدى وعشرين وألف وعمره أكثر من سبعين سنة وازدحم الناس على جنازته وصلي عليه بالحرم الشريف ودفن بقبة والده عبد الله إلى جهة القبلة.(2/221)