بسم الله الرحمن الرحيم
يا من أحصى بلطفه الخلائق عددا وجعلهم بمشيئته طرائق قددا كل يعمل على شاكلته في عاجلته لآجلته صلى على صفوتك من أنبيائك الواقف على سر حقيقة أنبائك سيدنا محمد خاتم رسالة الرساله المنتخب من أكرم عنصر واطيب سلاله وعلى آله الجامعين لمكارم الأخلاق وصحبه الحائزين من الفضل مرتبة الاستحقاق ما تزيبت الطروس بسطو ورمدائح ذوى المفاخر وتعطرت حدائق الأوراق بنشر أزاهر المآثر وبعد فانى من منذ عرفت اليمين من الشمال وميزت بين الرشد والضلال لم أزل ولوعا بمطالعة كتب الأخبار مغرى بالبحث عن أحوال الكمل الأخيار وكنت شديد الحرص على خبر أسمعه أو على شعر تفرق شمله فأجمعه خصوصا لمتأخرى أهل الزمن المالكين لازمة الفصاحة واللسن من كل ملك تتلى سورة فخرة بفم كل زمان وأمير لم تبرح صورة ذكرة تجلى على ناظر كل مكان وأمام لم تنجب أم الليالي بمثاله وأديب تهتز معاطف البلاغة عند سماع فضله وكماله حتى اجتمع عندى ما طاب وراق وزين بمحاسن لطائفه الأقلام والأوراق فاقتصرت منه على أخبار أهل المائة التي أنافيها وطرحت ما يخالفها من أخيار من تقدمها وينافيها حرصا على جميع ما لم يجمع وتقييد شئ ما قيل إلا ليسمع ووقع اختيارى على إضافة على أثرا لي ترجمة من أسند إليه حسبما يعول من له مساس في باب التاريخ عليه فصار تاريخ من أسند إليه حسبما يعول من له مساس في باب التاريخ عليه فصار تاريخ رجال وأي رجال يضيق عند سرد مآثرهم من الدفاتر المجال وقد وجد عندي مما أحتاج إليه من المعونة والآثار المتعلقة بهذه المؤونة ذيل النجم الغزى وطبقات الصوفية للمناوى وتاريخ الحسن البورينى وذيله لوالدي المرحوم وخبايا الزوايا والريحانة للخفاجى وذكرى حبيب للبديعى ومنتزه العيون والألباب لعبد البر الفيومي هذا ما عدا المجاميع والتلقيات من الأفواه والمكاتبات وكان بقى على بعض أخبار اليمن والبحرين والحجاز وقد تعسر علي في طريق تطلب حقيقتها المجاز فلما من الله على وله المنه والمنحة التي لا يشوبها كدر المحنة بالمجاورة في بيته المعظم والألتقاط من بحار أهليه الدر المنظم تلقيت من الأفواه تراجم لأناس يسيره كانت في التحصيل علي عسيره وهم وان كانوا قليلين في العدد فانهم كثيرون بسبب انهم ذريعة للمدد في كل المدد وقد يقال ان أعداد الكبار الشم الأنوف ربما عدلت عشراتها بالمئين ومئوها بالالوف ثم وقفت في أثناء السنة على ذيل الجمالي محمد الشبلي المكي الذي ذيل به على النور السافر في أخبار القرن العاشر للشيخ عبد القادر ابن الشيخ العيدروس والمشرع الروى في اخبار آل باعلوى له أيضا وعلى تراجم منقولة من تاريخ ألفه الصفي بن أبي الرجال اليمني في أهل اليمن فأجلت فكرى في مجالها وألحقتها بحسب ترتيبها في محالها وكان وصلني خبر الكتاب الذي أنشأه السيد علي بن معصوم ذيلا على الريحانه ووسمه بسلافة العصر في شعراء أهل العصر فلم أزل حتى حصلته وقطعت به أمر الطلب ووصلته وأتحفني بعض الأفاضل بذيل الشقائق الذي ألفه ابن نوعى بالتركيه وضمنه معظم أهل الدولة العثمانية ووصلني بعض الأخوان بقطعة من تاريخ أنشأه والشيخ مدين القوصوني المصري ذكر فيه تراجم كبراء العلماء من أهل القاهره وزين طروس سطوره بمآثرهم الباهره فكانتا عندي فاكهتين باكورتين وتحفتين بلسان البراعة مشكورتين فجمعت الجميع على نية الترتيب مستعينا في خصوصه بالفياض المجيب وأضفت إلى تلك الأخبار المواليد والوفيات حسما حررته من التعاليق التي هي بهذا الغرض وافيات وما أقدمني على هذا الشان الا تخلف أبناء الزمان عن احراز خصل الفضل في هذا الميدان شعر
لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعى الهشيم(1/1)
فأنا ذلك الهشيم الذي سد مسد الكريم كيف وقد نجم نجم الجهل وصوح نبت بيت الفضل وصدئت القلوب وضعف الطالب والمطلوب وربما يظن أن ما تخالج في صدري وهجس لرعونة أوجبها الفراغ والهوس كلابل ذلك لامر يستحسنه اللبيب ويحسن موقعه لدى كل أريب لما فيه من بقاء ذكر أناس شنقت مآثرهم الأسماع وجمع أشتات فضائل حكم الدهر عليها بالضياع وليس غرضي الأداء حقهم المفترض وأبرأ إلى الله من تهمة الغرض واني وان قصرت فما قصرت وان طولت فما تطولت وغاية البليغ في هذا المضمار الخطير أن يعترف بالقصور ويلتزم بالتقصير فان المرءولو بلغ جهده فالاحاطة في هذا الشان لله وحده وقصدي أن أسمه بخلاصة الاثر في أعيان القرن الحادي عشر وإلى الله أتضرع في سدخللي وسترزللي ودفن عيبي ورتق فتق جيبي انه الجواد الكريم ومنه الهداية إلى الصراط المستقيم واعلم أن مصطلحى في هذا الكتاب اتى رتبته على حروف المعجم ليسهل لمطالعه ما غم عليه واستعجم وأقدم أولا الاسم الذي أوله همزة ممدودة ثم ما كان أوله ألف وأقدم من ذلك ما شاركه أبوه في اسمه فاذا تعدد ذلك قدمت الاسبق وفاة ثم أرجع فأذكر من بعد حرف الهمزة الحروف المعجمة من أولها إلى آخرها وأذكر في كل حرف ما فيه من الأسماء مقدما ما كان فيه ثاني الاسم من الحروف المقدمة وهكذا أفعل في أسماء الآباء فاذا انتهى من وصلني اسم أبيه ذكرت من لم أعرف اسم أبيه مراعيا سبق الوفاة وأكتفى بذكر الكنية أو اللقب اذا اشتهر صاحب الترجمة بأحدهما ولم يروله اسم وأذكر ذلك في ضمن الأسماء وأبتدىء منها بالاسم ثم باللقب أن ان اتفق ثم بالكنية وأذكر بعد ذلك في ضمن الاسماء وأبتدىء منها بالاسم ثم باللقب أن اتفق ثم بالكنية وأذكر بعد ذلك النسبة إلى البلد ثم الاصل ثم المذهب غالبا ولا أوردة من أحوال الرجل الا ما تلقيته عن هذه التواريخ أو سمعته من ثقة أو ضبطته عن عيان ومشاهدة ولا أثبت من الكرامات الا ما تحققته ولا أعتقد أني وفيت بالمقصود ولو أوتيت علم ذلك النجم المرصود بل كان ما آمل من هذا المرادنيل سعادة ثواب في المبد أو المعاد فقد ذكر الحافظ عبد العزيز بن عمر بن فهد المكي الهاشمي في تذكرته التي سماها نزهة الابصار لما تألف من الافكار ما نصه مما نقله الوالد من مجاميع الميور في سمعت ممن أثق بدينه وعمله بقول ان الاشتغال بنشر اخبار فضلاء العصر ولو بتواريخهم من علامات سعادة الدنيا والآخرة اذهم شهود الله تعالى في أرضه وهذا أوان الشروع فيما أردته والله مسددى فيما أوردته
حرف الهمزة والألف(1/2)
آدم الرومي الانطالي الحنفي الاستاذ الشهير أحد خلفاء طريقة العارف بالله تعالى جلال الدين الرومي المعروف بملا خدا وندكار وكان شيخ زوايتهم المعروفة بمدينة الغلطة وليها في سنة أحدى وأربعين وألف وكان له الخطوة التامة عند اركان دولة بنى عثمان سلاطين زماننا نصرهم الله تعالى لا يزال مجلسه غاصا بأعيانهم وهو من بيت كبير بانطاليه على وزن انطاكيه بلدة كبيرة بأراضي قرمان على ساحل البحر الرومي وطاؤها في نطق العوام تبدل ضادا ويحذفون نونها فيقولون اضاليه ولبيتهم فيها أملاك وتعلقات جمة وكان مائلاً إلى الترفه والإحتشام الزائد وكان إذا ركب مشى في ركابه ما يقارب المائة رجل من حفدته ومريديه وكان الناس عليه اقبال زائد ومع ذلك كان ملازما على العبادة والوعظ وكان يحل المثنوى حلا جيدا وكان في أوائل أمره مفرط السخاء لا تكاد عطيته تنقص عن مائة دينار وحكى بعض الافاضل ممن يعرفه انه كان في عهد السلطان مراد ظهر شخص يتقن ضرب الطنبور فشغف به السلطان وطلبه ليلة فوجد عند آدم هذا فأتواه به فقال له كم كانت جائزتك فقال ها هي بيدي وكانت مائة دينار وكان لمشايخ الغلطة في ذلك العهد ميقات في داخل حرم السلطنة في كل شهر ليلة يقيمون فيها السماع بحضرة السلطان ولهم تعايين فخضر آدم ليلة ومعه جماعته وأقاموا السماع فأمر السلطان بأن ينقص معلومهم بمسمع من آدم وقال لجماعته وأقاموا السماع فأمر السلطان بأن نيقص معلومهم بمسمع من آدم وقال لجماعته قولوا له العطايا مهما كثرت لا تبلغ عطيته فكف من ذلك العهد كفه عن الافراط واقتصر على ما هو متعارف عند الدولة وسافر آخر أمره إلى القاهرة من طريق البحر بنية الحج في جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وألف فرض بمصر مدة وتوفى بها وكانت وفاته في شهر رمضان سنة ثلاث وستين وألف رحمه الله تعالى(1/3)
الشيخ إبراهيم بن ابراهيم بن حسن بن علي بن علي بن علي بن عبد القدوس بن الولى الشهير محمد بن هارون المترجم في طبقات الشعراني وهو الذي كان يقوم لوالد سيدي ابراهيم الدسوقي إذا مر عليه ويقول في ظهره ولي يبلغ صيته المغرب والمشرق وهذا المذكور هو الامام أبو الامداد المقلب برهان الدين اللقاني المالكي أحد الاعلام المشار إليهم بسعة الأطلاع في علم الحديث والدراية والتبحر في الكلام وكان إليه المرجع في المشكلات والفتاوى في وقته بالقاهرة وكان قوى النفس عظيم الهيبة تخضع له الدولة ويقبلون شفاعته وهو منقطع عن التردد إلى واحد من الناس يصرف وقته في الدرس والأفادة وله نسبة هو وقبيلته إلى الشرف لكنه لا يظهره تواضعا منه وكان جامعا بين الشريعة والحقيقة له كرامات خارقة ومزايا باهرة حكى الشهاب البشبيشي قال ومما اتفق أن الشيخ العلامة حجازي الواعظ وقف يوما على درسه فقال له صاحب الترجمة تذهبون أو تجلسون فقال له اصبر ساعة ثم قال والله يا ابراهيم ما وقفت على درسك إلا وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا عليه وهو يسمعك حتى ذهب صلى الله عليه وسلم وألف التآليف النافعة ورغب الناس في استكثابها وقراءتها وأنفع تأليف له منظومته في علم العقائد التي سماها بجوهرة التوحيد أنشأها في ليلة باشارة شيخه في التربية والتصوف صاحب المكاشفات وخوارق العادات الشيخ الشرنوبي ثم أنه بعد فراغه منها عرضها على شيخه المذكور فحمده ودعاله ولمن يشتغل بها بمر يد النفع وأوصاه شيخه المذكور أن لا يعتذر لاحد عن ذنب أو عيب بلغه عنه بل يعترف له به ويظهر له التصديق على سبيل التورية تركالتزكية النفس فما خالفه بعد ذلك أبدا وحكى أنه كان شرع في اقراء المنظومة المذكورة فكتب منها في يوم واحد خمسمائة نسخة وألف عليها ثلاثة شروح والأوسط منها لم يحرره فلم يظهر وله توضيح الفاظ الا جروميه وقضاء الوطر من نزهة النظر في توضيح نخبة الاثر للحافظ ابن حجر واجمال الوسائل وبهجة المحافل بالتعريف برواة الشمايل ومنار أصول الفتوى وقواعد الافتاء بالاقوى وعقد الجمان في مسائل الضمان ونصيحة الاخوان باجتناب شرب الدخان وقد عارضها معاصره الشيخ علي بن محمد الأجهوري المالكي برسالة أولى وثانية أثبت فيهما القول بحل شر به ما لم يضر وله حاشية على مختصر خليل وكتاب تحفة درية على ابهلول بأسانيد جوامع أحاديث الرسول هذه مؤلفاته التي كملت وأما التي لم تكمل فمنها تعليق الفوائد على شرح العقائد للسعد وشرح تصريف العزى للسعد أيضا سماه خلاصة التعريف بدقائق شرح التصريف وحاشية على جمع الجوامع سماها بالبدور اللوامع من خدور جمع الجوامع وجمع جزءا في مشيخته سماه نثر المآثر فيمن أدرك من القرن العاشر ذكر فيه كثيرا من مشايخه من أجلهم علامة الاسلام شمس الملة والدين محمد البكري الصديقي والشيخ الامام محمد الرملي شارح المنهاج والعلامة أحمد بن قاسم صاحب الآيات البينات وغيرهم من الشافغية وشيخ الاسلام علي بن غانم المقدسي والشمس محمد النحريري والشيخ عمر بن نجيم من الحنفية والشيخ محمد السنهوري والشيخ طه والشيخ أحمد المنياوي وعبد الكريم البرموني مؤلف الحاشية على مختصر خليل وغيرهم من المالكية ومن مشايخه في الطريق الشيخ أحمد البلقيني الوزيري والشيخ محمد بن الترجمان وجماعة كثيرة غيرهم وذكرانه لم يكثر عن أحد منهم مثل ما أكثر عن الأمام الهمام أبي النجا سالم السنهوري ويليه الشيخ محمد البهنسي لأنه كان يختم في كل ثلاث سنين كتابا من أمهات الحديث في رجب وشعبان ورمضان ليلا ونهارا ويليه الشيخ يحيى القرافي المالكي أمام الناس في الحديث تحريرا واتقانا شيخ رواق ابن معمر بجامع الأزهر هكذا ذكر الشيخ الأمام أحمد بن أحمد العجمي المصري الآتي ذكره في ترجمة اللقاني من مشيخته لكن أطال في تعداد مشايخه أكثر مما ذكرته وبالجملة فهو متفق على جلالته وعلو شأنه وأخذ عنه كثير من الأجلاء منهم ولده عبد السلام والشمس البابلي والعلاء الشبراملسى ويوسف الفيشي ويس الحمصي وحسين النماوي وحسين الخفاجي وأحمد العجمي ومحمد الخرشي المالكي وغيرهم ممن لا يحصي كثرة ولم يكن أحد من علماء عصره أكثر تلامذة منه وكان كثير الفوائد وينقل عنه منها أشياء كثيرة منها أن من قرأ على المولود ويد القارىء على رأس المولود ليلة(1/4)
ولادته سورة القدر لم يزن في عمره أبدا وبخطه أيضا المنجيات على طريقةه سورة القدر لم يزن في عمره أبدا وبخطه أيضا المنجيات على طريقة
يس تنجي من دخان الواقعة ... والملك والأنسان نعم الشافعه
ثم البروج لها انشراح هذه ... سبع وهن المنجيات النافعه
وعلى طريقة أخرى
جرز ويس التي قد فصلت ... تنجي الموحد من دخان الواقعه
وتمام سبع المنجيات بحشرها ... والملك فاحفظها فنعم الشافعه
والمنقذات السبع سورة كوثر ... متتاليات ثم ست تابعه
والمهلكات السبع قل مزمل ... ثم البروج وطارق هي قاطعه
ثم الضحى والشرح مع قدر لئيلاف لاهلاك العدو مسارعه
ونقل في شرحه على الجوهرة قال ليس للشدائد والغموم مما جر به المعتنون مثل التوسل به صلى الله عليه وسلم ومما جرب في ذلك قصيدتي الملقبة بكشف الكروب بملاحات الحبيب والتوسل بالمحبوب التي أنشأتها باشارة وردت على لسان الخاطر الرحماني عند نزول بعض الملمات فانكشفت باذن خالق الارض والسموات وكاشف المهمات لا أله غيره ولا خير الاخيره وهي
يا أكرم الخلق قد ضاقت بي السبل ... ودق عظمي وغابت عني الحيل
ولم أجد من عزيز أستجير به ... سوى رحيم به تستشفع الرسل
مشمر الساق يحمى من يلوذ به ... يوم البلاء إذا ما لم يكن بلل
غوث المحاويج أن محل ألم بهم ... كهف الضعاف اذا ما عمها الوجل
مؤمل البائس المتروك نصرته ... مكرم حين يعلو سره الخجل
كنز الفقير وعز الجود من خضعت ... له الملوك ومن تحيابه المحل
من لليتامى بمال يوم أزمتهم ... وللارامل ستر سابغ خضل
ليث الكتائب يوم الحرب ان حميت ... وطيسها واستحد البيض والاسل
من ترتجى في مقام الهول نصرته ... ومن به تكشف الغماء والغلل
محمد ابن عبد الله ملجاؤنا ... يوم التنادى إذا ما عمنا الوهل
الفاتح الخاتم الميمون طائره ... بحر العطاء وكنز نفعه شمل
الله أكبر جاء النصر وانكشفت ... عنا الغموم وولي الضيق والمحل
بعزمة من رسول الله صادقة ... وهمة يمتطها الحازم البطل
أغث أغث سيد الكونين قد نزلت ... بنا الرزايا وغاب الخل والاخل
ولاح شيبي وولى العمر منهزما ... بعسكر الذنب لايلوى به عجل
كن للمعنى مغيثا عند وحدته ... وكن شفيعاله ان زلت النعل
فجملة القول أني مذنب وجل ... وأنت غوث لمن ضاقت به السبل
صلى عليك الهى دائما أبدا ... ما ان تعاقبت الضحواء والاصل
وآلك الغر والصحب الكرام كذا ... مسلما والسلام الطيب الحفل
وكانت وفاته وهو راجع من الحج سنة احدى وأربعين وألف ودفن بالقرب من عقبة أيلة بطريق الركب المصري وفي هذه السنة توفي الحافظ الكبير أبو العباس أحمد المقري المالكي الآتي ذكره أن شاء الله تعالى وقال فيهما المصطفى ابن محب الدين الدمشقي يرثيهما شعر
مضى المقرى اثر اللقاني لاحقا ... أمامان ما للدهر بعدهما خلف
فبدر الدجى أجرى على الخدد معه ... فأثر ذاك الدمع ما فيه من كلف
واللقاني بفتح اللام ثم قاف وألف ونون نسبته إلى لقانة قرية من قرى مصر وأيلة بفتح الهمزة وسكون المثناة من تحت ولام وهاء وهي كانت مدينة صغيرة وكان بها زرع يسير وهي مدينة اليهود الذين جعل منهم القردة والخنازير وعلى ساحل بحر القلزم وهي في زماننا برج وبها وال من مصر وليس بها مزدرع وكان لها قلعة في البحر فأبطلت ونقل الوالي إلى البرج في الساحل كذا في تقويم البلدان للملك المؤيد اسماعيل صاحب حماه(1/5)
ابراهيم بن أبي بكر بن اسماعيل الدنابي العوفي نسبته إلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الدمشقي الصالحي الاصل المصري المولد والوفاة كان من أعيان الافاضل له اليد الطولي في الفرائض والحساب مع التبحر في الفقه وغيره من العلوم الدينية وهو خبلى المذهب نشأ بمصر وأخذ الفقه عن العلامة منصور البهوتي والحديث عن جمع من شيوخ الازهر وأجازه غالب شيوخه وألف مؤلفات منها شرح على منتهى الارادات في فقه مذهبه في مجلدات ومناسك الحج في مجلدين ورسائل كثيرة في الفرائض والحساب وكان لطيف المذاكرة حسن المحاضرة قوى الفكرة واسع العقل وكان فيه رياسة وحشمة موفورة ومروءة وكان من محاسن مصر في كمال أدواته وعلومه مع الكرم المفرط والاحسان إلى أهل العلم والمترددين إليه وكان حسن الخلق والأخلاق وكان يرجع إليه في المشكلات الدنيوية لكثرة تدبره في الأمور ومنازلته لها وبالجملة فإنه كان حسنة من حسنات الزمان وكانت ولادته بالقاهرة في سنة ثلاثين وألف وتوفي بها فجأة ظهر يوم الاثنين رابع عشر من ربيع الثاني سنة أربع وتسعين وألف وصلى عليه ضحى يوم الثلاثاء ودفن بتربة الطويل عند والده رحمهما الله تعالى ابراهيم بن أبي اليمن بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد السلام بن أحمد البتروني الأصل الحلبي المولد الحنفي الفاضل الأديب المشهور صدر قطر حلب بعد أبيه اشتغل في عنفران عمره وسلك طريق القضاء وتولى مناصب عديدة منها حماة ثم ترك وعكف على دفاتره وتشييد مفاخره وتفرغ له أبوه عما كان بيده من مدارس وجهات وبقيت في يده سوى افتاء الحنفية فإنها وجهت إلى غيره وكان حسن المحاضرة شاعرا مطبوعا وشعره كثير الملح والنكت حسن الديباجة أنشد له البديعي في ذكرى حبيب قوله في فتح الله بن النحاس الشاعر المشهور الآتي ذكره وكان يميل إليه قال وكان فتح الله مع تفرده بالحسن ولوعا بالتجني وسوء الظن بصيرا بأسباب العتب يبيت على سلم ويغدو على حرب كم من متيم في حبه رعى النجم فرقا من الهجر لورعاه نرهادة لادرك ليلة القدر بخيلا بنزر الكلام يضن حتى برد السلام شعر
مهلك العشاق مهلا ... فيك لي منك انتقام
بشعيرات كمسك ... هن للمسك ختام
وله فيه أيضا من أبيات
بيني وبينك مدة فإذا انقضت ... كنت الجديربان تعزى في الورى
رفقا بقلب أنت فيه ساكن ... ان الحياة إذا قضى لا تشتري
فاردد على طرفي المنام لعله ... يلقي خيالا منك في سنة الكرى
واسأل عيونا لا تمل من البكا ... عن حالتي ينبيك دمعي ما جرى
وقال فيه أيضا وقد عشق مليحا اسمه موسى فتجنى عليه
كل فرعون له موسى وذا ... في الهوى موساك يوليك النكد
فكما أكمدت من يهواك بالعدمت صدا وذق طعم الكمد
ومن شعره قوله من قصيدة في الأمير محمد بن سيفا مطلعها
أربي على شجو الحمام الغرد ... وشد افبرح بالحسان الحرد
شاد يشادبه السرور لمعشر ... عمروا مجالس أنسهم بالصرخد
في مجلس قام الصفاء به على ... ساق وشمر للمسرة عن يد
إلى أن يقول فيها
ولقد شكوت له الهوى ليرق لي ... فنأى عن المضني بقلب جلمد
وأبي سوى رقى فقلت له اتئد ... أني رفيق للأمير محمد
وله غير ذلك من محاسن الشعر وعيونه وكانت وفاته في سنة ثلاث وخمسين وألف عن نحو أربع وسبعين سنة ودفن بجانب والده بالصالحية والبتروني بفتح الباء الموحدة وسكون التاء المثناة ثم راء وواو ونون نسبة إلى البترون بليدة بالقرب من طرابلس الشام خرج منها جماعة من العلماء وأول من دخل حلب من بيت البتروني هؤلاء عبد الرحمن جد ابراهيم هذا دخلها في سنة أربع وستين وتسعمائة وتوطنها وسنذكر من هذا البيت عدة رجال أنجبت بهم الشهباء(1/6)
الشيخ ابراهيم بن أحمد بن علي بن أحمد بن يوسف بن حسين بن يوسف بن موسى الحصكفي الأصل الحلبي المولد العباسي الشافعي المعروف بابن المنلا وسيأتي والده أحمد شارح مغني اللبيب وأخوه محمد فقد أفرد في ظل أبيه وأخذ عنه العلوم وتخرج عليه في الأدب وأخذ عن البدر محمود البيلوني وعن الشيخ عمر العرضي وكتب إليه جدي القاضي محب الدين بالأجازة من دمشق في سنة خمس وتسعين وتسعمائة وحج بعد الألف ورجع إلى حلب وانعزل عن الناس ولزم المطالعة والكتابة والتلاوة للقرآن كثيرا وكان صافي السريرة لا تعهد له زلة ونظم الدرر والغرر في فقه الحنفية من بحر الرجزودل على ملكته الراسخة فان العادة فيما ينظم أن يكون مختصرا وبالجملة فإنه كان يغلب على طبعه الأدب وكان له حسن محاضرة وله شعر قليل منقح منه قوله
ولما انطوت بالقرب شقة بيننا ... وغابت وشاة دوننا وعيون
بسطت لها والوجد يعبث بالحشا ... شجون حديث والحديث شجون
الحديث شجون مثل من أمثال العرب وأصله ذو شجون أي ذو طرق والواحد شجن بسكون الجيم وقد نظم أبو بكر القهستاني هذا المثل ومثلا آخر في بيت واحد وأحسن ما شاء وهو قوله
تذكر نجدا والحديث شجون ... فجن اشتياقا والجنون فنون
ولابن المنلا من قصيدة قرظ بها شعرا ليوسف بن عمران الحلبي الشاعر المشهور
أطرسك هذا أم لجين مذهب ... ونظمك أم خمر لهمى مذهب
وتلك سطور أم عقود جواهر ... وزهر سماء أم هو الروض مخصب
وتلك معان أم غوان تروق لل ... عيون وباللحن المسامع تطرب
فياحبذا هذي القوافي التي بمن ... يعارضها ظفر المنية ينشب
لقد أحكمتها فكرة ألمعية ... فكدت لها من رقة النظم أشرب
فمن غزل كم هز ذا صبوة إلى ال ... تصابي فأضحى بالغزال يشبب
فيا بحر فضل فائض بلآلىء ... لها فكرك الوقاد مازال يثقب
ظننت بأني للخطوب مؤهل ... فأرسلته شعرا لنظمي يخطب
فعذر افان الفكر في مشتت ... وعقلي بأيدي حادث الدهر ينهب
فقوله فكدت لها من رقة النظم أشرب حسن والأحسن أن ينسب الشرب إلى السمع كما قال الآخر في وصف قصيدة تكاد من عذوبة الألفاظ تشربها مسامع الحفاظ وله غير ذلك وكانت وفاته بعد الثلاثين وألف بقليل والحصكفي بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين وفتح الكاف وفي آخرها الفاء هذه النسبة إلى حصن كيفا وهي من ديار بكر قال في المشترك وحصن كيفا على دجلة بين جزيرة ابن عمر وميافارقين وكان القياس أن ينسبوا إليه الحصنى وقد نسبوا إليه أيضا كذلك لكن إذا نسبوا إلى اسمين أضيف أحدهما إلى الآخر ركبوا من مجموع الأسمين اسما واحدا ونسبوا إليه كما فعلوا هنا وكذلك نسبوا إلى رأس عين رسعني وإلى عبد الله وعبد شمس وعبد الدار عبد لي وعبشمي وعبدري وكذلك كل ما هو نظير هذا والعباسي نسبة إلى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر أن جده كان منسوبا إليه واشتهر بيتهم في حلب ببيت المنلا لأن جد والد ابراهيم هذا كان يعرف بمنلا حاجي وكان قاضي قضاة تبريز وله شرح على المحرر في فقه الشافعي للرافعي وحاشية على شرح العقائد للتفتازاني سماها تحفة الفوائد لشرح العقائد وحشى شرح الطوالع وشرح الشاطبية وفصوص ابن عربي وكتب على الجغميني في الهيئة شيئا(1/7)
المولى ابراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد الكواكبي الحلبي قاضي مكة من أجلاء العلماء قرأ في مبادي عمره على الشيخ الأمام عمر العرضي وعلى والده في مقذمات العلوم حتى حصل ملكة ثم توجه إلى دار الخلافة وسلك طريق الموالي وقرأ على بعض أفاضل الروم حتى صارت له الملكة التامة ثم من الله عليه فتزوج بابنة المولى عبد الباقي بن طورسون واستصحبه معه لما ولي قضاء مصر إليها فحصل له مالا جزيلا ثم رجع في خدمته إلى قسطنطينية فمات ابن طورسون ثم ماتت الزوجة وتصرم المال وقصر في النهوض فأخذ بعد اللتيار والتي مدرسة أيا صوفية ثم لم يزل يطلب عزل نفسه عن المدرسة فلا يوافقونه حتى تركها شاغرة من غير أخذ معلوم ولا القاء درس أصلا وكان أيام الأنفصال الكبير ورد حلب ووالداه حيان فنزل عند والده فشكت أمه إليه من أبيه ما يصنع بها فتشا جرهو وأبوه وتقاضيا ورحل عن دار والده وصار كل يسب الآخر فاسترضى العرضى المذكور وجماعة من العلماء الابن ثم أخذوه إلى والده فقيل يده وتبار يا من الطرفين وآخر الأمر أعطى قضاء مكة فسافر من مصر بحرا ثم أراد أن ينقل ابنه من سفينة صغيرة إلى مركب مخافة عليه وحمله إلى المركب فسقط إلى البحر وغرق وتناول بعض الخدمة الولد فنجا وذلك حين توجهه عند جده في سنة تسع وثلاثين وألف وكان عمره نحو سبعين سنة وبنوا الكواكبي بحلب طائفة كبيرة سيأتي منهم في كتابنا هذا جماعة وكلهم علماء وصوفية وأول من اشتهر منهم محمد بن ابراهيم المتوفي سنة سبع وتسعين وثمانمائة ذكره ابن الحنبلي في تاريخه قال ودفن بجوار الجامع المعروف الآن بجامع الكواكبي عجلة الجلوم بمدينة حلب وعمرت عليه قبة من مال كافل حلب سيباى الجركسى وكانت طريقته أردبيلية وأنما قيل له الكواكبي لأنه كان في مبدأ أمره حدادا يعمل المسامير الكواكبيه ثم فتح الله عليه وحصلت له الشهرة الزائدة السلطان ابراهيم بن أحمد بن محمد بن مراد بن سليم بن سليمان بن سليم بن بايزيد ابن محمد بن مراد بن محمد بن يلد رم بايزيد بن مراد بن أورخان بن عثمان بن أرطغرل ابن سليمان شاه السلطان الأعظم أحد ملوك آل عثمان المطوق بعقد مفاخرهم جيد الزمان قد تقرر أن أصل بيتهم من التركمان النزالة الرحالة من طائفة التاتار وينتهي نسبهم إلى يافث بن نوح وهو الجد السادس والأربعون للسلطان ابراهيم ولما كانت أسماؤهم أعجمية أضربت عن ذكرها لطولها واستعجامها وربما يقع فيها التصحيف والتحريف ان لم يضبط شيء منها ولا حاجة إلى الأحاطة فيها بلا فائدة فانها مذكورة في التواريخ التركية وأما ذكر مبدأ ظهورهم فهو شائع مشهور وقد تكفل به غير واحد من المؤرخين فلا نطيل بذكره ونرجع إلى ما هو الغرض من ترجمة السلطان ابراهيم فنقول تولى السلطنة بعد موت أخيه السلطان مراد في تاسع شوال سنة تسع وأربعين وألف وقيل في تاريخه على لسانه استعنت بالله وكان ملكا معظما حسن المنظر سمح الكف وكان زمانه أنضر الأزمان وعصره أحسن العصور وأطاعته جميع الممالك وسكنت بيمن دولته الفتن واعتدل به الزمن وفيه يقول الأمير منجك بن محمد المنجكي الدمشقي قصيدته التي مدحه بها وهي من غرر القصائد ومطلعها
لو كنت أطمع بالمنام توهما ... لسألت طيفك أن يزور تكرما
حاشا صدودك أن تذم فإنها ... تحلو لدى وأن أسيغت علقما
فاهجر فهجرك لي التفات مودة ... ألقاه منك تحننا وترحما
عذاب فؤادي بالذي تختاره ... لو كنت منسيا تركت وإنما
لو لم تكن بغبار طرفك أكحلت ... عين الغزالة صدها وجه الدما
ومن جملتها وهو محل الشاهد
ملك من الإيمان جرد صارما ... بالحق حتى الكفر أصبح مسلما
لو شاهد المطرود سطوة بأسه ... في صلب آدم للسجود تقدما
العدل أخرس كان قبل زمانه ... أذنت له الأيام أن يتكلما
لم تخط آساد الفلا في عهده ... بين الشقائق خيفة أن تتهما
عقد المثار على العداة سحائبا ... لولا الحيا لسقي العدا منها دما
ودعت ظباه الطير حتى أنه ... قد كاد يسقط فرخه نسر السما(1/8)
وكان صاحب طالع سعيد ما جهز جيشا إلى ناحية إلا انتصر ولا قصد فتح بلدة الأظفر ومن الفتوحات التي وقعت في عهده فتح قلعة ازاق، وكان أهل دائرتها من الكفار أظهروا الشقاق فجهز إليهم جيشا فافتتحوها في سنة اثنتين وخمسين وألف ومنها فتح خانية أحد البلاد المشهورة بجزيرة اقريطش بفتح الألف وسكون القاف وكسر الراء المهملة وسكون المثناة من تحت وكسر الطاء المهملة وفي آخرها شين معجمة وتعرف الآن بجزيرة كريت وكانت لملوك الفرنج المعروفين بالبندقية وهذه الجزيرة من أعظم الجزائر وأكبرها تشتمل على بلاد ورساتيق كثيرة وذكر بعض من دخلها أن بها من القرى أربعا وعشرين ألف قرية وأن دورها ثلثمائة وخمسون ميلا وذكر في كتاب الفرس أن دورها مسيرة خمسة عشر يوما وهي ذات رياض نضرة وبها أنواع الفواكه والثمار وخيراتها وافرة وبالجملة فإنها من أحاسن الجزائر وكان السلطان ابراهيم أرسل إليها عساكره بالسفن الكثيرة وقدم عليهم حاكم البحر يوسف باشا الوزير فدخل الجزيرة وحاصر قلعة خانية وافتتحها وكان ذلك في عشري جمادى الآخرة سنة خمس وخمسين وألف ثم بعد ما قدم إلى القسطنطينية قتله السلطان لأمر نقمه عليه وأمر مكانه الوزير الكبير حسين باشا المعروف بدا لي حسين وجهز معه عدة من وزرائه وأمرائه إلى فتح الجزيرة بتمامها فوصل إليها ونازل قلعة رتمو واستعان عليها باللغم حتى أهلك خلقا كثيرا من الفرنج بسبب ذلك وفتحها واستولى على جميع قرى الجزيرة ولم يبق منها مما خرج عن ملك آل عثمان في تلك الجزيرة إلا قلعة قندية وطال أمرها مدة مديدة حتى فتحت في زمن سلطان زماننا السلطان محمد كما سنذكر تفصيل فتحها في ترجمة الوزير أحمد باشا الفاضل وبالجملة فإن السلطان ابراهيم المذكور كان ميمون النقيبة منصور الكتيبة وكانت ولادته في سنة أربع وعشرين وألف وخلع عن الملك في نهار الخميس سادس عشر رجب سنة ثمان وخمسين وألف وكانت مدة سلطنته ثمان سنين وتسعة أشهر وذكر سبب خلعه يحتاج إلى تفصيل ممل أعرضنا عنه لشهرته ومحصله أنه كان ارتكب بعض امور تتعلق بهوى النفس وأطال في تعاطيها حتى ملته أركان دولته ثم اجتمعوا وخلعوه من السلطنة وسلطنوا مكانه ولده السلطان محمد وفي ثالث يوم من خلعه قتلوه ودفن في مدفن عمه الصالح السلطان مصطفى إلى جانبه بجامع ايا صوفيا ومما اتفق له ولم يتفق لغيره من السلاطين فيما أعلم أنه رأى سلطنة أبيه وعمه وأخويه وولده وجدت في بعض المجاميع القديمة فائدة غريبة يناسب ايرادها هنا محصلها أنه استقرى من ولى السلطنة وكان اسمه ابراهيم فوجد والم يتم لاحدهم أمرها إلا قتل وقال الراغب في محاضراته قال أبو علي النطاح كان المهدي يحب ابنه ابراهيم فقالت له شكلة أم ابراهيم ألا تراه يلي الخلافة فقال لا ولا يليها من اسمه ابراهيم ان ابراهيم الخليل أول نبي عذب بالنار وأن ابراهيم بن النبي عليه السلام لم يعش وبويع ابراهيم بن المهدي فلم يتم له الأمر وأحكم ابراهيم الأمام أمر الملك فقتل وتم لغيره وطلب الخلافة ابراهيم بن عبد الله بن الحسين فما تمت له على جلالته وكثرة جيشه وقد بايع المتوكل لابنه ابراهيم المؤيد فلم يتم له وقتل وما ذكر من اللغم هو شيء غريب ينبغي التعرض للكلام عليه فإنه مستحدث وهو في الأصل من عمل الفرنج اصطنعوه في محاصرة بعض الحصون في أوائل القرن التاسع على عهد السلطان سليم الأكبر واشتهر عند ملوك الروم حتى فاقوا فيه على الفرنج وكيفية عمله على ما تلقيته من الأفواه ثم وجدته في بعض المجاميع بخط بعض الأدباء أنه إذا حوصرت قلعة أو حصن وتعسر تملكه لصعوبته يسوقون أمامه تلا عظيما من التراب ثم يحفرون من تحت ذلك التراب سردابا عظيما إلى أن يصلوا إلى الأساس ثم يجوفون قعر الأساس مقدار ما يريدون بحيث أنهم لم يخرجوا من تحت الجدار أبدا فإن خرجوا بطل جميع العمل وينقلون التراب من السرداب إلى خارج خفية ليخلو ما تحته ثم يملؤونه بالنفط والبارود طولا وعرضا ويضعون فتيلة ثخينة من القطن مقدار شبرين فيحرقون أطرافها بالنار في الخارج ويضعون فتيلة أخرى على قدرها ثم يأخذون بالساعة مقدار زمان احتراقها ليعلموا في أي وقت تصل نار الفتيلة إلى البارود تحت الأرض ثم أن العسكر يأخذون الأهبة للهجوم ويسدون باب اللغم سداً محكما خوفا من رجوع البارود إلى خلف وعند احتراق البارود(1/9)
ينقلب ما فوقه من جدار أو سورأ وغير ذلك فيهجم العسكر دفعة واحدة ويملكون القلعة بهذه الحيلة وهذا ما انتهى إلى من خبره على هذا التفصيل والله أعلم ما فوقه من جدار أو سورأ وغير ذلك فيهجم العسكر دفعة واحدة ويملكون القلعة بهذه الحيلة وهذا ما انتهى إلى من خبره على هذا التفصيل والله أعلم الشيخ ابراهيم بن اسماعيل الرملي الفقيه الحنفي المعروف بالتشبيلي كان أحد الفقهاء الأخبار عالما بالفرائض حق العلم وله مشاركة جيدة في فنون الأدب وغيرها وكان حسن الأخلاق لين العريكة وفيه تواضع وانعطاف ولد بالرملة ونشأبها ورحل إلى القاهرة وأخذ بها عن الأمام رئيس الحنفية في وقته أحمد بن أمين الدين ابن عبد العال والعلامة عبد الله البحراوي الحنفي ورجع إلى بلدة وأقام بها يدرس ويفيد إلى أن مات وممن أخذ عنه وانتفع به الشيخ محيى الدين بن شيخ الأسلام خير الدين الرملى والسيد محمد الأشعري مفتى الشافعية بالقدس وغيرهما وكانت وفاته بالرملة في سنة تسع وأربعين وألف رحمه الله تعالى الشيخ ابراهيم بن تيمور خان بن حمزة بن محمد الرومي الحنفي نزيل القاهرة المعروف بالقزاز الأستاذ الكبير شيخ الطائفة المعروفة بالبيرامية كان صاحب شأن عال وكلمات في التصوف مستعذبة وألف رسائل في علوم القوم منها رسالته التي سماها محرقة القلوب في الشوق لعلام الغيوب وغيرها وأصله من بوسنه ولد بها ونشأ متعبدا متزهد ثم طاف البلاد ولقى الأولياء الكبار وجد واجتهد وصار له في كل يلد اسم يعرف به فأسمه في ديار الروم علي وفي مكة حسن وفي المدينة محمد وفي مصر ابراهيم وأخذ الطريقة البيرامية الكيلانية عن الشيخ محمد الرومي عن السيد جعفر عن أمير سكين عن السلطان بيرام وأقام بالحرمين مدة ثم استقر بمصر فأقام بجامع الزاهد مدة ثم بجامع قوصون ثم بالبرقوقية ثم قطن بقلعة الجبل فسكن بمسكن قرب سارية وجلس بحانوت بالقلعة يعقد فيها الحرير وكان له أحوال عجيبة ووقائع غريبة وحبب إليه الأنجماع والأنفراد وكان في أكثر أوقاته يأوي إلى المقابر بظاهر القلعة وباب الوزير والقرافتين وإذا غلب عليه الحال جال كالأسد المتوحش وقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المرتضى بين يديه وهو يقول يا علي اكتب السلامة والصحة في العزلة وكرر ذلك فمن ثم حبب إليه ذلك وكان يخبر أنه ولد له ولد فلما أذن المؤذن بالعشاء نطق بالشهادتين وهو في المهد وكانت وفاته في سنة ست وعشرين بعد الألف ودفن عند أولاده بتربة باب الوزير تجاه النظامية هكذا ذكره الأمام عبد الرؤف المناوى في طبقاته الكواكب الدريه في تراجم السادة الصوفية وما حررته هنا منها مع بعض تلخيص وتغيير والقرافة بفتح القاف والراء المخففة وبعد الألف فاء فهاء قرافتان الكبرى منهما ظاهر مصر والصغرى ظاهر القاهرة وبها قبر الأمام الشافعي رضي الله عنه وبنوقرافة فخذ من المعافر بن يعفر نزلوا بهذين المكانين فنسبا إليهم ولهاتين ثالثة وهي محلة بالأسكندرية مسماة بالقبيلة قاله ياقوت رحمه الله تعالى في المشترك المولى ابراهيم بن حسام الدين الكرمياني المتخلص بسيد شريفي ذكره ابن نوعي في ذيل الشقائق وصفة بالتركية فوق الوصف وكان على ما يفهم منه في غاية من الفضل والكمال مشهورا بفنون شتى معدودا من أفراد العلماء قال وقد ولد في سنة ثمانين وتسعمائة وأخذ عن والده ثم قدم إلى القسطنطينيه فاتصل بخدمة المولى سعد الدين بن حسن جان معلم السلطان ولازم منه على عادة علماء الروم وهذه الملازمة ملازمة عرفية اعتبارية وهي المدخل عندهم لطريق التدريس والقضاء ثم درس بمدارس الروم إلى أن وصل إلى مدرسة محمد باشا المعروفة بالفتحية وتوفي وهو مدرس بها وله تآليف منها تكلمة تغيير المفتاح الذي ألفه ابن الكمال ونظم الفقه الأكبر والشافية وشرحهما وله من طرف والدته سيادة وكانت وفاته في ذي القعدة سنة ست عشرة بعد الألف بعلة الأستسقاء ودفن بحوطة مسجد شريفه خاتون بالقرب من جامع محمد أغا داخل سور قسطنطينيه الأمير ابراهيم بن حسن بن ابراهيم الدمشقي الطالوي الأرتقى الأمير الجليل فرد وقته في الكرم والعهد الثابت ووصل في الشجاعة إلى رتبة يقصر عنها ابناء زمانه وفيه يقول قريبه أبو المعالي درويش محمد الطالوي في قصيدته الرائية التي أرسلها من الروم يذكر فيها أعيان الشام(1/10)
منهم جناب الطالوى ... سليل ارتق ذي السرير
في السلم كالغيث المطير ... والحرب كالليث الهصور
محيى مكارم حاتم بين الأنام بلا نكير
ولد بدمشق بدارهم المعروفة بهم عجلة التعديل ونشأ في تربية أبيه ثم أنه خدم أحمد باشا المعروف بشمسى نائب الشأم وهو الذي بنى التكية بالقرب من سوق الأروام ولما عزل عن نيابة الشام صحبه إلى دار السلطنة واستمر في خدمته كلما ولى ولاية كان معه ثم صار أحد الحجاب بالباب العالي في زمن السلطان سليمان وأعطى قرى وأقطاعا كثيرة وسافر الأسفار السلطانية وترامت به الأحوال إلى أن رجع إلى دمشق في أيام منازلة جزيرة قبرس في عهد السلطان سليم بن سليمان وجمع ذخائر العساكر من بلاد الشام وأخذها في المراكب من جانب طرابلس إلى قبرس وكان رأس العساكر أذ ذاك الوزير مصطفى باشا صاحب الخان الكبير والحمام الذي في سوق السروجية بدمشق ولم يزل كذلك إلى أن تولى السلطان مراد بن سليم السلطنة فصير الأمير ابراهيم رأس العساكر بدمشق وسافر بهم إلى فتح ديار العجم مرات عديدة وكان في ذلك محمود السيرة وبعد ذلك تولى الأمارة في مدينة نابلس سنة سبع وتسعين وتسعمائة واستمر بها حاكما نحو سنتين وانفصل عنها ثم أعيدت إليه وفي هذه المرة عينه أمير الأمراء بالشام محمد باشا ابن الوزير الأعظم سنان باشا لأستقبال ركب الحاج على عادتهم فحرس الركب من تبوك إلى دمشق حراسة عظيمة ثم عزل عن حكومة نابلس وطرحه الدهر في زاوية الخمول حتى أنفد غالب ما كان يملك وتفرقت عنه حفدته وسافر إلى طرف السلطنة في سنة سبع بعد الألف واستمر زمانا طويلا ملازما وعاد ولم يحصل على طائل ولما قدم الوزير السيد محمد باشا الأصفهاني الأصل نائبا إلى الشام عرض حاله عليه فرق له وعين له من التزام السمسارية في كل سن أربعمائة دينار على سبيل التقاعد وأقام على تلك الحالة متقنعا بالكفاف إلى أن توفي وكانت وفاته في سنة أربع عشرة بعد الألف والأرتقى بضم الهمزة وسكون الراء وضم التاء المثناة من فوقها وبعد الألف والأرتقى بضم الهمزة وسكون الراء وضم التاء المثناة من فوقها وبعدها قاف نسبة إلى أرتق بن أكسب جد الملوك الأرتقية وله في تاريخ ابن خلكان ترجمة مختصرة مفيدة ونسبة بني طالو إليه مستفيضة على الألسنة الشيخ ابراهيم بن حسن الأحسائي الحنفي من أكابر العلماء الأئمة المنحلين بالقناعه المتخلين للطاعه كان فقيها نحويا متفننا في علوم كثيرة قرأ ببلاده على شيوخ كثيرة وأخذ بمكة عن مفتيها عبد الرحمن بن عيسى المرشدي وكتب له أجازة حافلة أشار فيها إلى تمكنه في العلوم وأخذ الطريق عن العارف بالله تعالى الشيخ تاج الدين الهندي حين قدم الأحساء وعنه الأمير يحيى بن علي باشا حاكم الأحساء وكان يثني عليه ويخبر عنه بأخبار عجيبة وله مؤلفات كثيرة في فنون عديدة منها شرح نظم الأجر ومية للعمر يطى ورسالة سماها دفع الأسى في أذكار الصبح والمسا وشرحها وله أشعار كثيرة منها قوله شعر
ولا تك في الدنيا مضافا وكن بها ... مضافا إليه أن قدرت عليه
فكل مضاف للعوامل عرضة ... وقد خص بالخفض المضاف إليه
وكانت وفاته في اليوم السابع من شوال سنة ثمان وأربعين وألف بمدينة الأحساء والأحساء جمع حسى وهو الماء ترشفه الأرض من الرمل فإذا صار إلى صلابة أمسكته فتحفر عنه العرب وتستخرجه وهو علم لستة مواضع من بلاد العرب الأول أحساء بني سعد بحذاء هجر بلد وهي دار القرامطة بالبحرين ومن أجل مدنها ونسبة ابراهيم هذا إلى الأحساء هذه وقيل أحساء بني سعد غير أحساء القرامطة الثاني أحساء حرشاف بالبيضاء من بلاد جديمة على سيف البحرين الثالث الأحساء ماءة لجديلة طي بأجأ الرابع أحساء بني وهب بني القرعاء وواقصة تسعة آباركبار على طريق الحاج الخامس الأحساء ماء لغنى السادس ماء باليمامة بالقرب من برقة الروحان(1/11)
الشيخ ابراهيم بن حسين بن أحمد بن محمد بن أحمد بن بيري مفتى مكة أحد أكابر فقهاء الحنفية وعلمائهم المشهورين ومن تبحر في العلوم وتحرى في نقل الأحكام وحرر المسائل وانفرد في الحرمين بعلم الفتوى وجدد من مآثر العلم ما دثر له الهمة العلية في الأنهماك على مطالعة الكتب الفقهيه وصرف الأوقات في الأشتغال ومعرفة الفرق والجمع بين المسائل سارت بذكره الركبان بحيث أن علماء كل أقليم يشيرون إلى جلالته أخذ عن عمه العلامة محمد بن بيري وشيخ الأسلام عبد الرحمن المرشدي وغيرهما وقرأ في العربية على علي بن الجمال وأخذ الحديث عن ابن علان وأجازه كثير من المشايخ وكتب له بالإجازة جمع من شيوخ الحنفية بمصر واجتهد حتى صار فريد عصره في الفقه وانتهت إليه فيه الرياسة وأجاز كثيرا من العلماء منهم شيخنا الحسن بن علي العجيمي وتاج الدين الدهان وسليمان حينو وكثيرا من الوافدين إلى مكة وولى افتاءها سنين ثم عزل عنها لما تولى شرافة مكة الشريف بركات لما كان بين المترجم وبين محمد بن سليمان المغربي من عدم الألفة وكانت أمور الحرمين في أول دولة الشريف بركات منوطة به والشريف بمنزلة الصفر الحافظ لمرتبة العدد وكان له ولد نجيب مات في حياته وانقطع بعد ذلك عن الناس ومع ذلك فهو مجد في الأشتغال بالمطالعة والتحرير وله مؤلفات ورسائل كثيرة تنيف على سبعين منها حاشية على الأشباه والنظائر سماها عمدة ذوى البصائر وشرح الموطأ رواية محمد بن الحسن في جلدين وشرح تصحيح القدورى للشيخ قاسم وشرح المنسك الصغير للملا رحمة الله وشرح منظومة ابن الشحنة في العقائد ورسالة في جواز العمرة في أشهر الحج والسيف المسلول في دفع الصدقة لآل الرسول ورسالة في المسك والزباد وأخرى في جمرة العقبة ورسالة في بيض الصيد إذا أدخل الحرم وأخرى في الأشارة في التشهد ورسالة جليلة في عدم جواز التلفيق ردفيها على عصريه مكى فروخ وقرظ له عليها جماعة من العلماء منهم شيخ الأسلام يحيى بن عمر المنقاري والشهاب أحمد الشوبري وله غير ذلك من التأليف والتحريرات وكانت ولادته في المدينة المنورة في نيف وعشرين وألف وتوفي يوم الأحد سادس عشر شوال سنة تسع وتسعين وألف وصلى عليه عصر يومه بالمسجد الحرام ودفن بالمعلاة بقرب تربة السيدة خديجة رضي الله عنها وكان قلقا من الموت فرأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بليلة في المنام وهو يقول له يا ابراهيم مت فإن لك بي أسوة حسنة فقال يا رسول الله على شرط أن يكتب لي ثواب الحج في كل سنة فقال صلى الله عليه وسلم لك ذلك أو كلاما معناه هذا الشيخ ابراهيم بن رمضان الدمشقي المعروف بالسقاء الواعظ الحنفي المذهب كان في ابتداء أمره يسقي الماء داخل قلعة دمشق ثم رحل إلى الروم وقرأ القرآن وجوده واشتغل في غيره من العلوم على المولى يوسف بن أبي الفتح أمام السلطان ولزمه حتى صار له ملكة في القراآت والوعظ وحفظ فروعا من العبادات كثيرة وأعطى أمامة مسجد في مدينة أبي أيوب وأقام بالروم مقدار أربعين سنة ثم أنه ترك الأمامة وأخذ المدرسة الجوزية بدمشق وقدم إليها وانقطع بقية عمره بالجامع الأموي وأضر في عينيه ويديه ورجليه وكان دائم الأفادة والنصيحة وقرأ عليه جماعة من أهل دمشق وكنت أنا في حالة صغرى جودت عليه حصة من القرآن وكان أهل الروم الذين يردون إلى دمشق يميلون إليه ويعتقدونه وكان يعظهم تارة على كرسي وتارة وهو جالس مكان تدريسه ويبالغ في التهديد والزجر وكان لا يخلو من تعصب وبالجملة فإنه كان له نفع متعد وكانت وفاته في سنة تسع وسبعين وألف رحمه الله تعالى(1/12)
ابراهيم بن المنلازين الدين الدمشقي المعروف بالجمل كان أبوه زين الدين من أهل نخجوان من بلاد العجم ورد دمشق وتديرها وولد له بها ثلاثة أولاد أحمد ومحمد وابراهيم هذا فأما أحمد ومحمد فستأتي ترجمتاهما خاصتين وأما ابراهيم هذا فإنه نشأ وقرأ في بعض العلوم واشتهر في معرفة الطب وتولى آخرا رياسة الأطباء وناب في محاكم دمشق وكان فيه دعابة ومزاح وكان يجري بينه وبين القاضي محمد بن حسين ابن عين الملك الصالحي المعروف بالقاق منافسات ووقائع كثيرة وكان القاق مغرى بهجائه وثلبه واتفق له إنه أوقع به مكيدة أراد فضيحته بها وفطن بها ابراهيم فتخاصم هو واياه وتشاتما وهجره ابراهيم بعد ذلك فقال فيهما الأديب ابراهيم بن محمد الأكرمي الآتي ذكره شعر
انظر إلى حال الزمان ... وما اعتراه من الخلل
القاق مد جناحه ... شركا ليصطاد الجمل
فجرى بذلك بينهم ... حرب ولا حرب الجمل
ولما ولى أخوه أحمد قضاء دمشق مات في زمنه المنلا على الكردي وكان مدرس التقويه فوجد تدريسها إليه فقال فيه الأكرمي المذكور شعر
يا أيها الجمل الذي ... غدت الربوع به دوارس
قد كنت ترجد في الحقول ... فصرت ترجد في المدارس
فابعر وكل واشرب وبل ... وأرتع فما للروض حارس
ثم بعد موت أخيه المذكور وجهت المدرسة عنه واختل بعد ذلك عقله وتكدر عيشه وكانت ولادته في سنة خمس بعد الألف وتوفي في سنة ثمان وخمسين وألف ودفن بمقبرة الفراديس بالقرب من قبر أبي شامة رحمه الله تعالى الشيخ ابراهيم بن عبد الله بن ابراهيم بن أبي القاسم بن اسحاق بن ابراهيم ابن أبي القاسم بن ابراهيم بن أبي القاسم بن جعمان بفتح الجيم وسكون العين المهملة ابن يحيى بن عمر بن محمد بن أحمد بن علي بن الشونيش بن علي بن وهب بن علي بن صريف بن ذوال بن سنوة بن ثوبان بن عيسى بن سحارة بن غالب بن عبد الله بن عك ابن عدنان العكي العدناني الصريفي الذوالي اليمني الزبيدي الشافعي الأمام العالم العامل كان جامعا للفنون خاشعا متواضعا متورعا محافظا على الذكر لا يخلى وقتا من الذكر والخير ملازما للمسجد ملاطفا أخذ الفقه والحديث وغيرهما عن شيوخ كثيرين منهم عمه العلامة محمد بن ابراهيم وتوطن بيت الفقيه ابن عجيل وانتهت إليه فيها الرياسة في علوم الدين وله فتاوى كثيرة متفرقة ورسالة منظومة في العروض سماها آية الحائر إلى الفك من أحرف الدوائر وأخذ عنه جماعة من العلماء منهم الشيخ الفاضل عبد الله بن عيسى الغزى وكان يحب الطلبة ويبالغ في ملاطفتهم والأحسان إليهم وأجاز كل من قرأ عليه وكان ينظم الشعر ومن شعره في الألهيات شعر
قصدي رضاك بكل وجه أمكنا ... فامنن علي بذاك من قبل الفنا
ولئن رضيت فذاك غاية مطلبي ... والقصد كل القصد بل كل المنى
لو أبذلن روحي فدى لرأيتها ... أمرا حقيرا في جنابك هنا
وبقيت من خجل كعبد قد جنى ... والكل ملككم فما مني أنا
ولقد تفضلتم بإيجادي كذا ... أنعمتم أيضا بكوني مؤمنا
لولا تطولكم علي وفضلكم ... ما كنت موجودا ولامني ثنا
من ذا الذي يسعى ويشكر فضلكم ... لو عمر الأبدين يشكر معلنا
وأنا المسيكين الذي قد جاءكم ... للعفو منكم طالبا ولقد جنى
فباسمكم وبعزكم وبجاهكم ... منوا علي وأذهبوا عني العنا
وكانت وفاته ببيت الفقيه ابن عجيل فجر يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وألف وبنو جعمان قبيلة من صرف بن ذوال بيت علم وصلاح وورع وفلاح قال الأمام الشرجي في طبقاته كل أهل بيت فيهم الغث والسمين الأبنى جعمان فإنهم كلهم سمين يعني صالحين وبالجملة فهم قوم أصفياء غالبهم أهل صلاح وتعقل وقل من يدانيهم في منصب العلم لكونهم عمدة أهل اليمن وسنذكر منهم ابراهيم جد ابراهيم هذا وابنه اسحاق عم هذا(1/13)
الشيخ ابراهيم بن عبد الرحمن بن أبي الفضل بن بركات بن أبي الوفاء بن عبد الله ابن محمد بن ناصر الدين الميداني الصوفي المعروف بالموصلي ينتهي نسبه إلى الشيخ العارف بالله تعالى أبي بكر الشيباني كان فقيها شافعي المذهب فرضيا حسن الخلق جم الطول مبذول النعم وله ثروة وافرة واملاك وعقارات وكان مبجلا بين الناس معظما وله حفدة ومريدون يرجعون إلى نعمته الدارة وخيراته القارة وهو والد مولانا الشيخ عبد الرحمن الموصلي الصوفي الأديب الذي بهر واشتهر وفاق على أهل عصره بالأدب كروض أطل على نهر وكانت وفاة ابراهيم هذا في المحرم سنة أربع وخمسين وألف بالمدينة المنورة عقب منصرفه من الحج ودفن ببقيع الغرقد وبلغ من العمر خمسا وسبعين سنة الشيخ ابراهيم بن عبد الرحمن بن محمد عماد الدين بن محمد بن محمد بن عماد الدين بن محب الدين بن كمال الدين بن ناصر الدين بن عماد الدين الدمشقي الحنفي العمادي أحد بلغاء الشام المذكورين وفضلائها المشهورين وكان لمحاسن الأدب وبدائع النثر ولطائف النظم كالروح للحياة والينبوع للماء ويجرى معها إلى طبع سليم وخلق دمث ومحاورة سارة وكان قوي البادرة كثير المحفوظات لذيذ العشرة مقبول الهيئة عظيم الهيبة نشأ في نعمة أبيه مشمولا بعنايته مكفولا برأفته وهو أصغر أولاده الثلاثة الذين رزقهم تيجانا للمعالي وحسنات للأيام والليالي وهم عماد الدين وشهاب الدين وابراهيم وكان ابراهيم أحبهم إليه وأقربهم لخاطره على أن كلامنهم نسيج وحده وطلاع ثنايا مجده وقد سئل والدي المرحوم عن التمييز بينهم فقال أكبرهم أحملهم وأوسطهم أكتبهم وأصغرهم أفضلهم وبالجملة فإن تفوق ابراهيم مستفيض مسلم لا مشاحة فيه بوجه من الوجوه وكان في ابتداء أمره اشتغل على والده وعلى الحسن بن محمد البوريني في أنواع العلوم وعليهما تخرج في الأدب وأخذ الحديث عن الشهب الثلاثة النيرة أحمد العيثاوي الشافعي وأحمد الوفائي الحنبلي وأحمد المقري المالكي وبرع حتى أعاد لوالده في تفسير الكشاف ولازم من المولى عبد الله بن محمود العباسي ودرس بالمدرسة النورية الكبرى برتبة الداخل المتعارفة بين أهالي الديار الشامية تبعا لبلاد الروم وحج مرتين ثانيتهما قاضيا بالركب الشامي وسافر إلى الروم عقيب موت والده هو وأخوه الأوسط وكان له في صناعة الشعر فضل لا يرد وأحسان لا يعد ومن جيد شعره قوله
أن يكن زاد في الحسان جمال ... أكد الحسن فيهم تأكيدا
فلقد أسس العذار بخدي ... منيتي رونقا ولطفا مزيدا
وهو عمري لا شك أشهى وأبهى ... حيثما قد أفاد معنى جديدا
وقوله مضمنا
ولقد وعدت زيارتنا سليمى ... وقد قل التصبر والقرار
فوافت بعد حين وهي سكرى ... يرنحها الشبيبة والوقار
فريعت من تبلج صبح شيبى ... وقالت لا أزور ولا أزار
فقلت لها وكم تعدين صبا ... كئيبا قد براه الأنتظار
فغضت طرفها عني وقالت ... كلام الليل يمحوه النهار
ومما أنشده لنفسه قوله
لا تخش من شدة ولا نصب ... وثق بفضل الأله وابتهج
وارج إذا اشتدهم نازلة ... فآخر الهم أول الفرج
وقوله وقد ركب في الروم زورقا في البحر
لما ركبنا ببحر ... وكاد من خاف يتلف
على الكريم اعتمدنا ... حاشاه أن يتخلف
وكتب إلى والدي وقد عزم على السفر من قسطنطينيه وبقي والدي بها قوله
إليك أخي نصيحة ذي اختبار ... له خرم وزند فيه وأرى
إذا جار الزمان وكل دهر ... على أحراره ما زال جاري
وأكسبك اغترابا وانتزاحا ... فكن متغربا في أسكدار
ترى فيها ظباء سارحات ... بألحاظ يصدن بها الضوارى
وطور تلتقي غصنار طيبا ... علاه حديقة من جلنار
فقض العمر فيها في سرور ... وصل ليل التواصل بالنهار
وخل الأهل عنك وقل سلام ... على الأوطان مني والديار
فأجابه بقوله
أتلك نصيحة من رب فضل ... أمام في الفضائل والفخار(1/14)
له في كل علم طيب مجنى ... وفعل زانه كرم النحار
ونظم يعجزا البلغاء لفظا ... ولفظ كاللآلى والدراري
يقول وقوله لاشك صدق ... عليك إذا اغتربت باسكدار
نعم هي جنة حفت بحور ... وولدان حكت شمس النهار
ولكن لم أجد فيها خليلا ... يعين أخا الغرام على اصطبار
يساعدني على كافي بريم ... يعذب عاشقيه بالنفار
له لحظ يصول به دلالا ... فيفتن رب نسك ذا وقار
وقد أن تثنى فهو غصن ... تحرك من هوى نائى الديار
فمالي والقرار بها وأنى ... يطيب لي القرار بلا قرار
قضاء من الهى ليس يجري ... على قدر الأرادة باختياري
وله غير ذلك من محاسن القول وأحاسنه وكانت ولادته في سنة اثنتي عشرة بعد الألف ولحقه الفالج في آخر عمره فاستقر مريضا به مدة سنة ونصف وتوفي نهار السبت عشري شهر ربيع الثاني سنة ثمان وسبعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير في قبر والده الذي دفن به رحمهما الله تعالى الشيخ ابراهيم بن عبد الرحمن بن علي بن موسى بن خضر الحياري المدني الشافعي أحد المشاهير بالبراعة في الحديث والمعارف وفنون الأدب والتاريخ وكان واسع المحفوظات حلو العبارة لطيف الطبع كأنما امتزج مع الصهباء وخلق من رقة الماء وله الأشعار الرائقه والرسائل الفائقه اشتغل على أبيه في الفنون وأخذ عنه ولزم السيد ميرماه البخاري المدني الحسني وانتفع به في كتب ابن عربي وغيره وأخذ عن المحدث الكبير محمد بن علاء الدين البابلي حين مجاورته بالمدينة وحضر دروس قاضي الحرمين العلامة محمد الرومي المعروف بالملغري في تفسير القاضي البيضاوي من أول جزء عم إلى ختام سورة الطارق مع مطالعة المواد وأجاز له وكان أكثر اشتغاله على الشيخ الأمام عيسى بن محمد بن محمد بن أحمد بن عامر المغربي الجعفري المدني ثم المكي لازمه كثيرا وأخذ عنه وكان الشيخ عيسى رحل إلى مصر في حدود سنة ست وستين وألف فاستجاز للخياري من كل من أخذ عنه من كبار العلماء الموجودين أذ ذاك بالقاهرة وسأذكرهم في ترجمته وكان الخياري كثير اللهج به دائم الثناء عليه وإنما برع بالتلقي عنه وخطب بالمسجد النبوي وألف وله من التآليف رسالة في عمل المولد الشريف سماها خلاصة الأبحاث والنقول في الكلام على قوله تعالى لقد جاءكم رسول ودرس ببعض المدارس بعد وفاة أبيه وسعى بعض المتغلبين من العلماء الواردين على المدينة فأخذها منه وكان ذلك سببا لمفارقته المدينة ودخوله الروم حتى قرر المدرسة عليه وألف في منصرفه رحلة سماها تحفة الأدباء وسلوة الغرباء تشتمل على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين من محاسن الأخبار ولطائف الآداب ودخل دمشق مع الركب الشامي في ثمان وعشرى صفر سنة ثمانين وألف فعظم بها قدره وانتشر ذكره وأقبل عليه أهلها وبدلوا في اكرامه الجهد ووقع بينه وبين أدبائها محاورات ومطارحات كثيرة ذكرها في رحلته ومنها ما أنشده له العلامة السيد محمد بن حمزة نقيب الشام عندما وصل وقد جاءه للسلام عليه قوله
وكنت أسائل الركبان عمن ... أقام بمهجتي ونأت ربوعه
فلما ذر شارقه منيرا ... بأفق الطرف عاوده هجومه
فأجابه بقوله
أيا رب الموالي والمعالي ... ومن بالرق لباه مطيعه
لقد كملت في خلق وخلق ... بأعظم ما تخيله سميعه
وشرفت الرقيق برفع ذكر ... علمت بأنني حقا وضيعه
فدمت ضياء أفق الشام حقا ... بلى أفق الوجود إذا جميعه
ومذ قرت بمرآكم عيوني ... جريح الطرف عاوده هجوعه
وكتب إليه السيد عبد الرحمن بن السيد محمد النقيب المذكور قوله
أيا سيد احاز المكارم واللطفا ... ومن شأوه في حلبة الفضل لا يخفى
لمثلك يعنوا لقول نظمت عقده ... وقرطت آذان الحسان به شنفا
وكم لك في طرق البلاغة من يد ... هصرت بها غصن الكمال مع الأكفا
لذلك قد أقررت بالفضل أعينا ... فشارف ذرى العلياء وامدد لها كفا(1/15)
ستحظى بها نعمي عليك مفاضة ... وترشف معسول الأماني بها رشفا
وهاك بها أنسان عين أولى النهى ... ألوكة أشواق من المخلص الأصفى
تهاديكم عرف الرياض تحية ... وتنشر من صفو الوداد لكم صحفا
فأجابه بقوله شعر
أيا سيدا ما زلت أسأله عطفا ... ويا ماجدا لم ألق حقا له أكفا
تفضلت لما أن بعثت برقعة ... هي الروضة الغناء والديمة الوطفا
تنزهت فيها واجتليت محاسنا ... وحليت سمعي من لآلئها شنفا
أشدت بها ذكرى وقد كان خاملا ... فهزت معاليها الحسان لي العطفا
ولكنها أومت لوحي اشارة ... فكنت إلى فهم لها الأسبق إلا وفي
لعمرك للعلياء أدركت يافعا ... وقد خطبتني ما مددت لها كفا
وأني لمن سباق حلبتها إذا ... تجاروا فكم خلفت من سابق خلفا
وكم فزت من غادات خدر مسجف ... بغيداء جيد قد أباحت لي الرشفا
وردت بها من مورد الفضل موردا ... حلالي فكان المورد الأعذب الأصفى
فهاك وحيد الدهر عين زمانه ... ألوكة صب نازح فاقد الألفا
وقابل حلاها بالقبول فأنها ... غريبة شكل فيك أغربت الوصفا
فإن يك غيري جاد بالفضل مبتدا ... فإنى ابراهيم وهو الذي وفى
وأقام بدمشق ثمان عشرة يوما وأخذ بها عن المحدث الكبير المعمر شيخنا محمد بن بدر الدين البلباني الصلحي الحنبلي والعلامة لمحقق عبد القادر بن مصطفى الصفوري وارتحل إلى الروم فدخلها وكان ملك الزمان السلطان محمد اذ ذاك ببلدة ينكى شهر فوصل إليها واجتمع بالمفتى الأعظم المحقق الكبير يحيى بن عمر المنقاري وقرأ عليه محلا من تفسير البيضاوي وأجاز له وقرر المدرسة عليه وناله من قائم مقام الوزير الأعظم مصطفى باشا الذي صار آخرا وزيرا أعظم نعمة طائلة ووجه إليه جرايتين وثلاثين عثمانيا من خزينة مصر في كل يوم وعاد إلى قسطنطينيه وأخذ بها عن قطب التحقيق أبي السعود بن عبد الرحيم الشعراني الآتي ذكره ثم قدم دمشق واعتنى به أهلها كأعتنائهم به في قدمته الأولى وأخذ عنه من أهلها خلق كثير واجتمعت أنابه مرارا وأسمعته من أوائل الجامع الصحيح للبخاري وسمعت منه وأجازني بجميع مروياته وكتب لي اجازة بخطه في اليوم الثاني من رجب سنة احدى وثمانين وألف ورحل إلى مصر ونزل الرملة وهو متوجه وأخذبها عن خاتمة العلماء خير الدين بن أحمد الرملي الحنفي ووصل إلى القدس والخليل وغزة وأخذبها عن الشيخ الأمام عبد القادر بن أحمد المعروف بابن الفصين ثم دخل القاهرة وأخذبها عن عالم الربع العامر العلاء الشبراملسي والشيخ الأمام محمد ابن عبد الله الخرشي المالكي والشيخ يحيى بن أبي السعود الشهاوي الحنفي والسيد العلامة أحمد بن السيد محمد الحنفي المعروف بالحموي وأقام بالقاهرة إلى اليوم الرابع والعشرين من شوال ثم رحل مع الركب المصري إلى المدينة فدخلها في اليوم الثامن والعشرين من ذي القعدة وعكف على التحرير والقاء الدروس ولم تطل مدته حتى مات وبالجملة فإنه كان من أفراد الدهر وكانت ولادته سحر ليلة الثلاثاء ثالث شهر شوال سنة سبع وثلاثين وألف وتوفي ليلة الأثنين ثاني رجب سنة ثلاث وثمانين وألف بالمدينة فجأة قيل سبب موته أن شيخ الحرم المدني ألزم أئمة الشافعية وخطباءهم أن يسروا في الصلوات بالبسملة كالحنفية فلم يمتثل الخياريوقال هذا الأمر ليس إليك فدس إليه من سقاه السم ودفن بالبقيع الشيخ ابراهيم بن عبد الرحمن الدمشقي الفقيه الحنفي المعروف بالسؤالاتي الأديب الشاعر الجيد الطريقة الحسن البديهة كان في ريعان عمره وعنفوان أمره يشتغل بصناعة النظم فيبدى كل معنى نادر ويخترع كل مثل سائر كقوله
تقمص ثوب اللاذ من فوق لؤلؤ ... ورصع بالدر الجمان بديدا
والبسنى مرط النحول مخلقا ... وأعدمني برد الشباب جديدا
غزال كناس لورأته من السما ... كواكبها خرت إليه سجودا
وقوله
أن الغزال الذي في طرفه حور ... في مرشفيه سلاف الراح والحبب(1/16)
حارت لرؤيته الأبصار حين بدا ... غصن الجمال حلاه اللطف والأدب
ما مال من هيف مياس قامته ... إلا عليه فؤاد الصب يضطرب
دارت إليه قلوب العالمين فما ... قلب لغير هواه اليوم ينقلب
وقوله
حتام يا ظبي النقا ... عني تحجب في كناسك
لاتنأ عن عيني وتهجرني ... قلي من دون ناسك
أنا عبد رقك أرتجيك ... وأختشى سطوات باسك
لا تبغ بالأعراض قتلي ... واسقني بحياة راسك
وقوله
بي أغيد تشخص الأبصار حين بدا ... في طلعة جل من بالحسن عدلها
كأنما الحسن لما زان صورته ... قد قال للحسن كن وجها فكان لها
وتلاعبت به الأقدار يمنة ويسرة وقاسى من ضنك العيش وسوء المنقلب أحوالا وأهوالا وصبر على ألم المحنة صبرا لم يعهد مثله وفي ذلك يقول
تصبر ففي اللأراء قد يحمد الصبر ... ولولا صروف الدهر لم يعرف الحر
وأن الذي أبلى هو العون فانتدب ... جميل الرضى يبقى لك الذكر والأجر
وثق بالذي أعطى ولاتك جازعا ... فليس بحزم أن يروعك الضر
فلا نعم تبقى ولا نقم ولا ... يدوم كلا الحالين عسر ولا يسر
تقلب هذا الأمر ليس بدائم ... لديه مع الأيام حلو ولا مر
وسافر آخرا إلى الروم وجرى له مع أدبائها محاورات مقبوله كان كثيرا ما يلهج بها وبعدما رجع إلى دمشق استبد بكتابة الأسئلة المتعلقة بالفتوى للمفتى الحنفي وبهر فيها حتى بلغ مرتبة لم يصل إليها أحد من أبناء العصر وكان له الأستحضار الغريب لفروع المذهب واستخراجها من محالها بسهولة مع التبحر في الفقه وكثرة الأطلاع وكان أحيانا يتعانى الشعر فيتكلف له لغلبة الفقه على طبعه وأجود ما وقفت له من شعره الذي نظمه أخرا قصيدته التي أرسلها للخياري المذكور قبله واستحسنت منها هذا القدر الذي كتبته ومطلعها
حيا الحيا بسابق الغوادي ... سكان ذاك الحي من فؤادي
وحاك فيهم وشيه منمنما ... ربيع قطر معلم الأبراد
ولاعدا الخصب منازلا بهم ... منازل الأقبال والأسعاد
ولا جفا صوب العهاد عهدهم ... ولا الندى خبت بذاك النادى
هم خيموا بين الضلوع والحشا ... مني محل الروح والسواد
فلست أخشى بعد ذاك عاديا ... من زمني المعتاب والمعادي
ولم أقل سقام جسمي عرض ... به يشان جوهر اعتقادي
وكان حريصا على جمع الكتب واقتني منها أشياء كثيرة في كل فن ووقفها آخرا على بنت له وكانت وفاته ليلة الأربعاء حادي عشرى شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين وألف وقد جاوز الستين ودفن بمقبرة الشيخ أرسلان وكان ابتلى بمرض عالجه مدة مديدة وأنفق عليه أموالا جمة ولم يخلص منه حتى استحكم فيه فمات رحمه الله تعالى(1/17)
ابراهيم باشا بن عبد المنان المعروف بالدفتردار نزيل دمشق واحد كبرائها صاحب شأن رفيع كان وقورا متواضعا ساكنا كثيرا لعبادة ملازما على أداء الصلوات في أوقاتها مع الجماعة في الجامع الأموي ويحضر مجالس الأوراد والأذكار ويحب العلماء والصلحاء ويذاكر في العلوم وجمع كتبا وكان له اطلاع على كثير من الأحاديث النبوية وروى الحديث والتفسير والمسلسل بالأولية عن الشيخ الأمام فتح الله بن محمود البيلوني الحلبي وقفت على اجازته له بخطه وتاريخ الأجازة في السادس من رجب سنة تسع وثلاثين وألف بالقدس والبيلوني المذكور يومئذ مفتى الشافعية بها وذكر والدي رحمه الله تعالى في تاريخه وقال في ترجمته هو برسوى المولد قدم إلى دمشق أولا في حدود سنة اثنتي عشرة بعد الألف وحج ثم عاد إليها ثانيا في سنة أحدى وعشرين كتخدا الدفتر بالشام وهذه الخدمة تتعلق بأرباب الرعامات والتيمار ثم عزل ثم وردها ثالثا دفتريا بها في سنة خمس وعشرين وتوطنها وانعقدت عليه رياستها وصار أمير الركب الشامي في سنة أحدى وأربعين ثم عزل بعد أن حج بالركب في تلك السنة وأقام دفتريا وبنى في داره قصرا مطلا على الجامع الأموي ولزم أنه نقب جدار الجامع لقبلي لأجل الباب فقال الأديب عمر بن الصغير في تاريخه بنى نقب القبلة ابراهيم وهدم القصر المذكور عقيب قتله وبنى حماما بالقرب من تربة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولصيق داره التي كان يسكنها ووقفه وجملة من املاكه على تدريس فقه وأجزاء رتبها في التربة المذكورة فقال شيخ الأدب أبو بكر العمري رحمه الله تعالى في تاريخه
بنى وأوقف ابراهيم دام له ... منجز الصلاح الدين حماما
قلت وهذا من التواريخ البديعة فإنه بين فيه المراد من غير حشو قال ولما قدم الوزير أحمد باشا المعروف بالكوحك حاكما بدمشق صدر بينه وبين صاحب الترجمة منافسة أدت إلى أنه عرض فيه إلى الأبواب السلطانية فجاءه الأمر بالتفتيش عليه فجمع أعيان دمشق وأحضره وأمر مراد باشا ابن الشريطي الآتي ذكره بمحاسبته وكان ابن الشريطي يبغض ابراهيم باشا فأطلع في ذمته أموالا كثيرة بسبب غرضه وكتب بذلك حجة وحبسه في قلعة دمشق مدة وقبض على جميع ما يملكه فباعه ثم أمر بقتله سراً فغمى بالماء وقيل عصرت مذاكيره وقيل وضع على رأسه الوسادة حتى مات وحكى بعض من شاهد قتله أنه كان يقول في تلك الحالة إذا اقتلتم فأحسنوا القتلة وفي ثاني يوم قتلته أشيع أنه مات فجأة وكتب بذلك حجة وكان قتله يوم الأحد خامس عشر صفر سنة ثلاث وأربعين وألف ودفن بتربة صلاح الدين توصية منه رحمه الله تعالى ابراهيم بن عثمان المعروف بابن كيوان أحد أعيان دمشق المشهورين بالرأي الصائب والنعمة الطائلة وكان له دراية في الأمور ومحبة للعلماء وكان له شأن عال عند أركان الدولة نافذ الكلمة في مهامه معظما عند الناس موقرا بينهم وله خيرات وصدقات دارة ورتب أجزاء في الجامع الأموي واشتهر بابن كيوان لأن والده كان ربيب كيوان الطاغية المشهور الآتي ذكره ونشأ في دولة أبيه وصار أولا من الجند ثم صار يياباشيا ولما رأى أحوال الجند آيلة إلى الشقاق وتفرق الكلمة تفرغ عما بيده لأخيه خليل الآتي ذكره واختارا قطاعا يعبر عنها بالزعامة ثم صار متفرقة بالباب العالي وأقام على صيانة املاكه وانعزل عن الناس وكانت ولادته في سنة أحدى وألف وتوفي في ثاني عشري جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى(1/18)
الشيخ ابراهيم بن عطاء بن علي بن محمد الشافعي المرحومي أمام الجامع الأزهر الشيخ الأمام العالم العامل العارف بالله تعالى الملازم لطاعته كان منهمكا على بث العلم سالكا سبيل السلامة والنجاة مراقبا لله عالما بما ينفعه في دنياه وآخرته مجتهدا في العبادة متمسكا بالأسباب القوية من التقوى قائما منها بما لا يطيقه سواه حتى أنه كان إذا مر في السوق يسد أذنيه حتى لا يسمع كلام من بجانبيه ويسرع في مشيته مطرقا من خوف الله وخشيته حذرا من تفويت وقته في غير عبادة وطاعة رحل من بلدة إلى الجامع الأزهر وأخذ عمن به من أكابر علماء عصره كالشيخ سلطان وغيره وأجازه جل شيوخه بالأفتاء والتدريس فتصدر للأقراء واشتهر بالبركة لمن يقرأ عليه وانهمك طلاب العلم عليه ففازوا منه بأوفر نصيب وألف حاشية على شرح الغاية للخطيب واستمر سالكا طريق الأستقامة حتى آن أوان حمامه وكانت ولادته في سنة ألف وتوفي بمصر في أوائل صفر سنة ثلاث وسبعين وألف ودفن بتربة المجاورين والمرحومي نسبة لمحلة المرحوم من منوفية مصر رحمه الله تعالى ابراهيم بن علي بن أحمد بن علي السعدي الشافعي الحموي المعروف بابن كاسوحة نزيل دمشق صاحب الورد الهمداني الذي يقرأ بعد صلاة الفجر عند المنارة الشرقية بجامع دمشق ويعرف هذا الورد الآن بالورد الداودي كان من المعمرين الصالحين عليه سيما العبادة والصلاح وكان يأكل من كسب يمينه ويتردد إلى القاهرة للتجارة ولقى بها الجلة من العلماء مثل النجم الغيطى صاحب المعراج والأستاذ محمد البكري والشمس الرملي والبنوفري وأخذ عنهم وحضر دروس البدر الغزى بدمشق وصحب ابنه الشهاب وتفقه بالشهاب العيثاوي وكانت وفاته نهار الأثنين رابع عشر شوال سنة أحدى عشرة وألف وقد قارب سنه الثمانين رحمه الله تعالى المولى ابراهيم بن علي الأزنيقي أحد موالي الروم قاضي قضاة الشام ولى قضاءها مرتين ودخلها في المرة الأخيرة في أواسط شهر ربيع الثاني سنة خمس عشرة بعد الألف وكان في قضائه حسن السيرة وله أكرام للعلماء واحترام لهم جدا وفي أيام قضائه كانت فتنة ابن جانبولا ذو محاصرته دمشق كما سأشرحه إن شاء الله تعالى في ترجمته وكان القاضي المذكور أحد من قام بأعباء الصلح بين ابن جانبولا ذو بين عساكر الشام وتلاقى الفتنة حتى رحل ابن جانبولا ذعن دمشق ودافع عن أهل الشام بعض ما كلفوا به من الوزير مراد باشا حين جاء إلى حلب لقتال ابن جانبولاذ وانفصل عن قضاء الشام في أواخر سنة سبع عشرة بعد الألف ورحل إلى بلدته ازنيق وأقام بها إلى أن توفي وكانت وفاته في سنة ثمان وعشرين وألف هكذا أذكره النجم الغزي في ذيله لطف الله به الشيخ ابراهيم بن عيسى بن ابراهيم بن محمد الفقيه الحنفي المكي المشهور بأبي سلمة كان أماما فقيها مطلعا على فروع المذهب صارفا وقته في بث العلم وكان متحريا في الفتوى دينا خيرا مولده مكة وبها نشأ وأخذ عن العلامة ابراهيم الدهان وبه تخرج وانتفع وحضر قبله دروس السيد عمر بن عبد الرحيم البصري والشيخ عبد الرحمن المرشدي والشيخ محمد بن أبي البقاء الأنصاري وأخذ الفرائض والحساب عن السيد صادق والحديث والتفسير عن الأمام الكبير محمد بن علان وعنه أخذ جماعة من أهل مكة من علمائها الموجودين الآن بها منهم صاحبنا الفاضل الفقيه الفرضي صالح بن يعقوب الزنجاني الحنفي ودرس كثيرا وانتفع واشتهر بتقوى الله تعالى والأنهماك في طاعته وكانت وفاته بمكة في الرابع عشر من شهر رمضان سنة ست وسبعين وألف ودفن بالمعلاة(1/19)
ابراهيم بن محمد بن محي الدين بن علاء الدين بن محمد بن أحمد بن علي بن سراج الدين بن صفي الدين بن عمر عبد الرحمن الدمشقي الحنفي المعروف بابن الطباخ أصل والده من بلدة الخليل وابراهيم هذا ولد بدمشق وبها نشأ واشتغل في بداية أمره ثم لحق بقاضي القضاة السيد محمد بن معلول ولازم منه وولى عنده بعض النيابات وسافر إلى قسطنطينية ثم عاد إلى دمشق في حدود سنة أربع وتسعين وتسعمائة وأخبر بأنه تقاعد عن درس بأربعين عثمانيا وأقام بدمشق وسعى في دولة سنان باشا الوزير بدمشق على شيء من علوفة العلماء بخزينة الشام فحصل له في كل يوم ما يقرب من ستين عثمانيا قطعة ودرس بالسليمية بصالحية دمشق وكان ملازما على العبادة بالجامع الأموي مدة طويلة لا يبرح منه وكان شديد التعصب دائم المخاصمة للعلماء ويظهر ذلك في صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاتفق أنه سمع النجم الغزي وهو يملى تفسير والده البدر المنظوم فأنكر عليه وكان ينادي في الجامع الأموي على رؤس الأشهاد بأعلى صوته يا معشر المسلمين متى سمعتم بأن كلام الله تعالى ينظم من بحر الرجز وكيف ينزه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الشعر ويأتي رجل من علماء أمته يدخل كلامه في الشعر فتصدى لمعارضته جدي المرحوم القاضي محب الدين وألف رسالة في الرد علي سماها السهم المعترض في قلب المعترض ولما وصلت إليه الرسالة شرع في تصنيف رسالة لرد ما رد به عليه ونسب فيها إلى الحمق ولقد وقفت عليها وطالعتها من أولها إلى آخرها فرأيتها من هذيان الكلام لأن غايته فيها أن ينقل قول المعترض ثم يقول تارة من عرف ما قلته لم يعتبر هذا القول وتارة من عرف مقالتي عامل بالأنصاف الذي هو شأنه وهكذا لما شاعت الرسالة ألف الجد رسالة ثانية وسماها بالرد على من فجر ونبح البدر بالقامه الحجر وأطال فيها وبين زيف رسالة ابراهيم بوجوه متنوعة وكان العلامة الشهاب أحمد العيثاوي ألف رسالة أخرى في الرد عليه والتصدي لنصره البدر وسماها بالصمصامة المتصديه لردا لطائفة المتعديه فشاعت الرسائل بين علماء الشام ونظم الأديب أبو بكر بن منصور العمري أرجوزة في معنى اعتراض ابراهيم على نظم البدر التفسير ومن جملة أبياتها يخاطب ابراهيم ويشير إلى أنه كان طباخا لشهرته بابن الطباخ قوله
فعد عن مباحث التفسير ... وعد كما كنت إلى القدور
واتفق أنه لم تطل مدته بعد ذلك حتى مات وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثاني شعبان سنة ست بعد الألف وكان أوصى أن يدفن في مقابر الصوفية وعين موضعا لدفنه فنفذ أخوه محمد وصيته ودفنه في المقابر المذكورة في طرف الطريق على جانب الشمال للذاهب إلى جهة المزة في مقابلة نهر بانياس عقى عنه(1/20)
الشيخ ابراهيم بن محمد بن حسين بن حسن بن محمد بن أبي بكر بن علي الأكحل بن محمد شمس الدين بن سعد الدين الجباوي الشافعي الدمشقي القبيباتي أحد بني سعد الدين كان من أصلح الناس وأكرمهم وكان له اخلاق حميده وانعامات عديده وكان نشأ في تربية أبيه وكان يختصه من بين أخوته بالألتفات التام والحب الشامل ولما حانت وفاة والده أوصى له بالذكر في حلقتهم بالجامع الأموي يوم الجمعة بعد الصلاة وأوصى لأبنه محمد بالجلوس على سجادة الطريق بزاويتهم المعروفة بهم بمحلة القبيبات واستمر الأخوان على ذلك مدة مديده إلى أن دخل بينهما الغرض فأداهما إلى المخاصمة والمحاكمه وطال ذلك بينهما حتى أوجب تفريقهما فرحل ابراهيم من محلة القبيبات إلى داخل دمشق إلى أن رحل الحجيج فسار بأهله وحفدته إلى مكة المكرمة وجاور بها وصرف في مجاورته مالاً كثيرا ثم رجع في العام الثاني مع الركب الشامي وسكن في بيته وترك التردد إلى الناس ثم تصالح هو وأخوه وبعد مدة مدة قليلة مات وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة ثمان بعد الألف وكان آخر كلامه شهادة الأخلاص وكانت جنازته حالفة جدا ودفن عند أسلافه في تربة القبيبات خارج باب الله وبنو سعد الدين طائفة بالشام معروفون بالصلاح وقد خرج منهم جماعة ومن المشهور من طريقهم أنهم يبرئون من الجنون بإذن الله تعالى بنشر يخطون فيه خطوطا كيف ما اتفق فيشفى بها العليل ويحتمى لشر بها عن كل ما فيه روح ثم يكتبون للمبتلى عند فراغه من شرب النشر حجابا وفي الغالب يحصل الشفاء على أيديهم وحكى النجم الغزى عن بعض الأصدقاء أنهم يقصدون بتلك الخطوط التي يكتبونها في نشرهم وحجبهم بسم الله الرحمن الرحيم وهو يتلفظون بها حال الكتابة وأصل هذه الخاصية التي لهم أن جدهم سعد الدين لما فتح الله تعالى عليه وكوشف بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعلي رضي الله عنهما وكان قبل ذلك من قطاع الطريق فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه أن يطعمه فأطعمه تمرات فأغمى على الشيخ سعد الدين أياما ثم لم يفق إلا وقد تاب الله عليه وفتح عليه ثم كشف له عن كبير الجن فأخذ عليه العهد بذلك ورأيت في بعض الأوراق أن الشيخ سعد الدين كان في زمن أبيه الشيخ يونس الشيباني وقد ند عن طاعته واشتغل بلهوه وبطالته وخرج إلى أرض حوران وأقام بها يقطع الطريق برهة من الزمان فسمع والده الشيخ يونس بفعل ولده فأهتم لذلك ودعا إلى الله تعالى في أمرين أما اصلاحه وأما أخذه في وقته فأستجاب الله دعاءه في أصلاحه فبينما هو على ما هو عليه أذرأى نفرا ثلاثة فصوب إليهم لأخذ ما عليهم فلما وصل إليهم التفت إليه أحدهم وقال مخاطبا له ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله فأخذه الوجد والهيام والبكاء والنحيب حتى سقط عن فرسه وعاد ملقى وما فيه غير نفسه فأتاه أحدهم وضرب بيده على صدره وقال له استغفر الله فأستغفر مما وقع من سالف أمره فلما أفاق من سكره وشرابه وهدأت نفسه من تحريكه واضطرابه قال أحدهم بعد أن أخذ تمرات من جيبه وأعطاها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمين غيبه وقال اسقه يا رسول الله فتفل عليها وناوله اياها فأخذها الشيخ وحظى بما لديها وقال له الرسول المعظم خذها لك ولذريتك فقبلها الشيخ وعظمها ورجع وقد عمر الله تعالى ظاهره وباطنه وانجذب إلى مولاه وفاز بما أعطاه وسلسلة طريقهم عن ابراهيم وأخيه محمد عن والدهما محمد عن سعد الدين عن والده القطب حسين عن والده حسن عن أبيه القطب محمد عن والده القطب أبي بكر عن والده القطب الأوحد على الأكحل عن والده القطب الغوث سيدي سعد الدين عن والده البحر المحيط الشيخ يونس عن شيخ الشيوخ أبي البركات عن شيخ الشيوخ أبي الفضل البغدادي عن الشيخ أحمد الغزالي عن الشيخ أبي البركات خير النساج عن الشيخ أبي القاسم الجرجاني عن الشيخ أبي عثمان المغربي عن الشيخ أبي علي الكاتب عن الشيخ على الروذبادي عن سيد الطائفة الجنيد عن أستاذه وخاله السري السقطي عن شيخه معروف الكرخي عن الأمام على بن موسى الرضا عن والده الأمام موسى الكاظم عن والده الأمام جعفر الصادق عن والده الأمام محمد الباقر عن والده الأمام على زين العابدين عن والده الحسين بن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن والده الأمام علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم(1/21)
الشيخ ابراهيم بن محمد العمادي الملقب برهان الدين ابن كسبائى الفقيه الحنفي الدمشقي المقري المجيد المحدث شيخ القراء بدمشق في وقته ولد بدمشق وأخذ القراآت العشر من طريق النشر وغيره عن شيخ الأسلام البدر الغزى وأخذ عنه غير ذلك من العلوم وقرأ على شيخ القراء بالشام أحمد بن بدر الطيبي للسبع والعشر وعلى الأمام الشهاب أحمد الفلوجي ختمة كاملة لعاصم والكسائي ومن أوله إلى المائدة لأبي عمرو وابن عامر وعلى العلامة السيد الشريف عماد الدين على بن عماد الدين محمود بن نجم الدين بن علي القارىء البحر ابادي أصلا الجرجاني منشأ ثم القزويني قرأ عليه بدمشق إلى قوله تعالى أولئك هم المفلحون للعشرة وقرأ على المقرىء المسند المعمر بدر الدين حسن بن محمد بن نصر الله الصلتي الشافعي للسبعة جمعا ثم للعشرة إلى قوله تعالى واذكروا الله في أيام معدودات في البقرة وعلى الأمام العلامة شرف الدين يحيى بن محمد بن حامد الصفدي إلى قوله تعالى وإذ قلتم يا موسى لن نصبر من طريق الشاطبية وقرأ النشر والشاطبية والدرة والمقدمة وغير ذلك على الطيبي ورحل إلى مصر وأخذ بها عن النجم الغيطي وغيره وكان يعرف العربية وغيرها وله شعر أكثره منحول من أشعار المتقدمين مع تغيير يسير ربما أخل بالوزن وكان له بقعة بالجامع الأموي وولي تدريس الأتابكية عن المحدث الكبير محمد بن داود المقدسي نزيل دمشق الآتي ذكره في حياته ثم أعيدت إلى الداودي ودرس بالعادلية الكبرى بطريق الفراغ من حسن البوريني لما درس بالمدرسة الناصرية الجوانية وخطب مدة طويلة بجامع سيبائي خارج دمشق بقرب باب الجابية وكان يعسر عليه تأدية الخطبة ويطيل فيها وكان فيه دعابة ومزاح ويغلب عليه التغفل قال النجم في ذيله قرأت بخطه نقلا عن خط والده أن مولده ليلة السبت خامس عشر شهر ربيع الثاني سنة أربع وخمسين وتسعمائة وتوفي يوم الأثنين ختام ذي القعدة سنة ثمان بعد الألف ودفن بمقبرة باب الصغير قباله المدرسة الصابونية الشيخ ابراهيم بن محمد المعروف بابن الأحدب الزبداني الأصل المحدث الفرضي الشافعي المذهب الرحلة المعمر نزيل صالحية دمشق قدم دمشق ونزل بصالحيتها وأخد الفرائض والحساب عن العلامة محمد بن إبراهيم النجدي الذي كان مقيما بالمدرسة العمرية بصالحية دمشق وكان يلحق بابن الهائم في هذين الفنين وأخذ الحديث عن البدر الغزي والشمس محمد بن طولون الحنفي أمام السليمية والشرف موسى الحجاوي الحنبلي والشهاب أحمد الطيبي والشيخ منصور بن ابراهيم بن محب الدين والبرهان النسيلي الشافعي والشهاب أحمد بن حجر المكي السعدي وصار معلما للأطفال في مكتب قبالة المدرسة العمرية ثم لازم آخر أمره السليمية يقرى الناس في الفنون وانتفع به خلق كثير من أجلهم العارف بالله تعالى أيوب بن أحمد الخلوتي الصالحي والعلامة علي بن ابراهيم المعروف بقبردي ورأيت في بعض المجاميع لبعض العصريين أنه كان ينظم الشعر وأنشد له هذين البيتين وهما
ياسادتي أهل الوفا ... من عزكم أرجو وفاه
أن غبت عنكم ساعة ... عدمت نفسي والحياه
وكانت وفاته سنة عشرة بعد الألف هكذا رأيته في تاريخ البوريني ثم راجعت ذيل النجم فرأيته ذكر أن وفاته كانت في سنة اثنتي عشرة بعد الألف وترجح عندي هذا أولا ثم رأيت بعض تراجم بخط الشيخ محمد المرزناتي الصالحي الأدهمي وهو من معاصري ابن الأحدب ذكر أن وفاته كانت نهار الأثنين ثالث عشر شهر رجب سنة عشرة بعد الألف وذكر يعني المترجم أن ولادته في سنة أحدى وعشرين وتسعمائة والزبداني بفتح الزاي والموحدة والدال المهملة ثم ألف بعدها نون وياء نسبة إلى ناحية من نواحي دمشق سميت باسم أحد قراها ومنها خرج صاحب الترجمة وكان أهله بها من مشاهير تلك الدائرة وهذه الناحية مشهورة بطيب الهواء والتربة ومنها يجلب التفاح الزبداني ومن أمثال المولدين من عاشر الزبداني فاحت عليه روائجه يعنون تفاحها أو أهلها والأضافة لأدنى ملابسة والله تعالى أعلم الأديب ابراهيم بن محمد بن مشعل العبدني السالمي الأديب الشاعر برهان الدين المكي كان شاعرا ماهر أحسن النظم لطيف الطبع رقيق الجلباب له القصائد الطويلة يمتدح بها الشريف حسن بن أبي نمى شريف مكة وغيره من الأشراف الحسنيين وغيرهم ورزق قبولا ومن شعره قوله في النسيب(1/22)
كم مهجة بالغرام منسبيه ... وما لمن يقتل الغرام ديه
فليحذر الحب كل محترش ... به ففيه الحتوف منطويه
وفي ربا شعب عامر رشأ ... له عيون بالسحر ممتليه
في حسنه والجمال منتهيا ... وعشقتي فيه غير منتهيه
كم شمس حسن عليه مشرقة ... منها بور الجمال مختفيه
إذا بدا مقبلا ولاح ليه ... جعلت منه الجبين قبلتيه
ما قلت فيه انتهت صبابتيه ... ألا وعادت إلى مبتديه
لي مهجة غرها بغرته ... آهاله من صياد غرتيه
وما هداني بصبح طلعته ... إلا بليل الشعور ضلنيه
فحبذا ذلك الضلال به ... لمهجة بالضلال مهتديه
أهم بالأنثناء عنه إلى ... أن تبدلي معطفاه ممنثنيه
فيرجع الوجد لي بأجمعه ... أضل في صبوتي وحيرتيه
وأغيد ذبت من محبته ... ونفسه بالجمال ملنهيه
محسن الخلق أحور ترف ... خلقته بالكمال مستويه
عيونه بالحلى مكحلة ... وذاته بالجمال مكتسيه
قد اغتنى بالبها وروحي عن ... وصاله الحلو غير مغتنيه
للحسن في وجنتيه كل حلا ... ماء ونار أحار فكرتيه
فلم أنل ماء ورد وجنته ... ومن لظاها حشاى ملتظيه
لا تعجبوا أن فنيت فيه هوى ... فسداته بالغرام مقتضيه
ووجنة بالبهاء زاهرة ... بنرجس المقلتين محتميه
ورب خدر طرقت بيضته ... والليل ظلماه غير منجليه
وحولها من حماتها أسد ... على اضطرام الحروب مجتريه
فأنتبهت من لذيذ نومتها ... تقول من ذا يحل حوزتيه
فقلت صب أذبت مهجته ... بالحسن يابغيتي ومنيتيه
قالت لقد رمت مطلبا خطرا ... من دونه الموت يا متيميه
أما رأيت الأسود رابضة ... أما رأيت السيوف منتصيه
فقلت أن المحب مهجته ... بالموت فيمن يحب مرتضيه
وحبذا يا ابنة الكرام إذا ... بلغت في منيتي منيتيه
فيا حياة النفوس أني من ... أعشق بالغانيات ميتتيه
فقالت أهلا ومرحبا بفتى ... يعشق للموت في محبتيه
وأرشفتني رحيق ريقتها ... والنفس مني لذاك مشتهيه
فرحت نشوان من مقبلها ... وريقها ما ألذ سكرتيه
وفي ثنايا نقى مبسمها ... شهد عليه النفوس مجتويه
وما اجتنى الشهد قط من برد ... غيري فيا ما ألذ جنيتيه
فعند ذا أنعمت وما بخلت ... بوصلها وهي غير مستحيه
وله هذه الأبيات وهي من أجود شعره
لا أرق الله من بالسقم أرقني ... ولا شفى سقم لحظ منه أسقمني
ولاطفا جمر خدمنه ملتهبا ... وأن يكن بالجفا والصد أحرقني
وزاد في ضيق خصر منه ضقت به ... ذرعا وأنحله إذ كان أنحلني
ولا عدا اللعس هاتيك الشفاه لمى ... وإن حمى رشفها عني وأعطشني
ولا أختفت من ثناياه بوارقها ... وأن بكيت لها بالعارض الهتن
وشد أقواس تلك الحاجبين وأن ... غدت بنبل العيون السود ترشقني
ولم تزل شمس ذاك الحسن مشرقة ... في وجهه لو بدمع العين شرقني
ودام أهيف ذاك القدفي ميد ... ولو أطار الحشا إذ صار كالغصن
وضاعف الله ذاك الحسن أجمعه ... ولو رماني بضعف الضر في بدني
أبقاه في دولة بالحسن زاهرة ... ولو جميل اصطباري عن لقاه فنى
وزاد ذاك المحيا مهجة وسنا ... وأن حمى عن جفوني لذة الوسن
يا من جميع معانيه فتنت بها ... لا أحمد الله ما تبدي من الفتن(1/23)
أحسن بوجهك فالأحسان أجمعه ... يليق لا غيره من وجهك الحسن
وله قوله
شمس الطلا بدرى غدا ... لم يصح من تعليلها
فالراح قتلة قاتلي ... وأنا قتيل قتيلها
ومثله قول محمد البوني المكي وسبكه في قالب آخر وأجاد
يا لقومي أني قتيل ببدر ... هو أضحى قتيل شمس العقار
علم الله أن قتلي حرام ... فأشغلنه بها لتأخذ ثارى
وله غير ذلك وكانت وفاته بالطائف في سنة أربع وعشرين وألف وقد جاوز السبعين رحمه الله تعالى الشيخ ابراهيم بن محمد بن أبي القاسم جعمان جد ابراهيم المقدم ذكره اليمنى مفتى زبيد على مذهب الشافعي كان على جانب عظيم من نشر العلم والتدريس وأكرام الدرسة والوافدين وكان حافظا للمذهب محدثا نقادا يكاد يتوقد ذكاء وكانت إليه رياسة مدينة زبيد وكان مسموع الكلمة مقبول الشفاعة عديم النظير في زمانه أخذ عن شيوخ كثيرين وعنه السيد أبو بكر بن أبي القاسم الأهدل وأخوه سليمان ومحمد بن عمر حشيبير والسيد محمد بن الطاهر بن بحر والفقيه محمد بن محمد الطوى وكم من نجباء انتفعوا به وكان هو العمدة في عصره في الفتوى بزبيد والمعول عليه في حل المشكلات وكانت وفاته في سنة أربع وثلاثين وألف ودفن بمقبرة باب سهام وبموته حصل النقص بمدينة زبيد وخرب أكثرها الأديب ابراهيم بن محمد الدمشقي الصالحي المعروف بالأكرمي الأديب الشاعر المشهور فرد وقته في رقة الكلام وجزالته وعذوبة اللفظ وسهولته ذكره البديعي في ذكرى حبيب وقال في وصفه فاضل كثير المزايا كريم الشيم والسجايا ريان من ماء الطلاقه نشوان من صهباء اللباقة له محاضرة تأخذ بمجامع القلوب كأنما اقتبس ألفاظها من ريق الجنوب وديوان شعره سماه مقام ابراهيم أكثره في وصف المدامة والنديم وخمرياته تجعل الزاهد عاصيا وغزلياته تصير العاطل من الوجد حاليا وقد أكثر فيه قوله آه فسئل عن السبب فقال أن ابراهيم لاواه قلت وهو ممن أخذ الأدب عن أبي المعالي الطالوي وعبد الحق الحجازي وعليهما تخرج وبهما برع وهو وآباؤه خدام باب الشيخ الأكبر رضي الله عنه وكل ما هو فيه من الرونق الذي على شعره مستمد من رونق ذلك الباب وغايته في الشعر قل من يضاهيه فيها وفيما أورده لك من كلامه كفاية عن الأطراء في وصفه فمن جيده قوله من الخمريات
اسقنيها قبل ارتفاع النهار ... أن طيب المدام في الأسحار
هي بكر فاشرب ويومك بكر ... لم تشبه الأنام بالأكدار
الصبوح الصبوح في جدة اليوم فإن الصبوح روح العقار
يا فدتك النفوس وهي قليل ... من نديم سهل الطباع مدارى
منها في وصف الرياض
ذات أرض توشمت بربيع ... ذهبت وشمها يد الأزهار
يستفيق المخموران مرفيها من هواء صاف وماء جاري
مأخوذ من قول الواو الدمشقي
سقى الله ليلا طاب إذ زار طيفه ... فأفنيته حتى الصباح عناقا
بطيب نسيم فيه يستجلب الكرى ... فلو رقد المخمور فيه أفاقا
في البيت الثاني ما يوهم التناقض والواو أخذه من الفتح بن خاقان في وصف جارية له وهو ما نقل ابن حمدون قال كان الفتح بن خاقان يأنس بي فقال لي مرة شعرت يا أبا عبد الله أني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة فلم أتمالك أن أقبلها فوجدت فيما بين شفتيها هواء لو رقد المخمور فيه لصحا ومنه قول شرف الدين القابوسي
قابلني ليلة قبلته ... ظبيا من البدر غدا أملحا
طيب نسيم بين أسنانه ... لو رقد المخمور فيه صحا
وللأكرمي من خمرية
ويوم فاختي الجور طب ... يكاد من الغضارة أن يسيلا
نعمت به وندماني أديب ... وقور في تعاطيه الشمولا
قطعنا صبحه والظهر شربا ... وجاوزنا العشية والأصيلا
لدى روض عميم النبت يزهى ... بأزهار زهت عرضا وطولا
يدور به سوار الروض طورا ... كما يتعانق الخل الخليلا
قوله ويوم فاختي الجو يظهر معناه قول ابن المعتز
يوم كان سماءه ... حجبت بأجنحة الغواخت(1/24)
وكان قطر نثاره ... در على الأغصان نابت
يوم يطيب به الصبو ... ح وقد نأت عنه الشوامت
فاربع به وبمثله ... لا تأسفن لفوت فائت
وله أبيات عارض بها ابن الحجاج وهي قوله
كم جلونا في ليلة الفطروالأضحى على قاسيون بنت الدنان
وشربنا في ليلة النصف من شعبان صرفا وفي دجى رمضان
ونهار الخميس عصرا وفي الجمعة قبل الصلاة بعد الأذان
وسقانا ظبي غير وغنى ... ظبي أنس يسبيك بالألحان
وسبحنا في غمرة اللهو والقصف على طاعة الهوى والأماني
ولعمري لقد سئمنا من الغي وعفنا من كثرة العصيان
لم ندع مدة الصبا والتصابي ... من طريق مهجورة أو مكان
قد قطعنا غي الشباب بجهل ... فاعف عنا يا واسع الغفران
وقصيدة ابن الحجاج مطلعها من دواعي الصبوح والمهرجان يقول فيها
اسقياني بين الدنان إلى أن ... ترياني كبعض تلك الدنان
اسقياني فقد رأيت بعيني ... في قرار الجحيم أين مكاني
وهي مشهورة وكلها على هذا النسق وكان الأكرمي كثير المراجعة لشعر ابن الحجاج هذا وفيه يقول وكتب بها على المجلدة الثالثة من ديوانه
قال لي ناظم هذا ... ولسان الحال مبدى
أنا في شعري سفيه ... وخبيث متعدي
كيف لا أخبث والحجاج حاوى الخبث جدي
قال وكنت أشك في هذا حتى رأيت في قافية الفاء منها قوله
هذا لأن الحجاج جدي ... أخبث من جاء من ثقيف
وله في الغزل قوله
مهلا لقد أسرعت في مقتلي ... أن كان لابد فلا تعجل
أنجزت اتلافي بلا علة ... الله في حمل دم المثقل
لم يبق لي فيك سوى مهجة ... بالله في استدراكها أجمل
أن كنت لابد جوى قاتلي ... فاستخر الله ولا تفعل
رفقا بما أبقيت من مدنف ... ليس له دونك من معقل
يكاد من رقته جسمه ... يسيل من دمعه المسبل
مالك في اتلافه طائل ... فارع له العهد ولا تهمل
كم من قتيل في سبيل الهوى ... مثلي بلا ذنب جنى فأبتلى
أول مقتول جوى لم أكن ... قاتله جار ولم يعدل
يا مانعي الصبر وطيب الكرى ... عن حالتي بعدك لا تسأل
قد صرت من أجلك حيران لا ... أعلم ماذا بي ولم أجهل
أغص من دمعي ادكار الما ... فارقته من ريقك السلسل
وله
سقى الله ليلاتي على السفح باللوى ... وعهد الصبا ما كان أحلاه من عهد
فواها له بل آه مما تصرمت ... ولو أن آهى بعدها أبد اتجدى
زمان لنا بالصالحية كله ... ربيع وأيام لنا فيه كالورد
وله غير ذلك
من كل معنى تكاد اليهم تفهمه ... حسنا ويعشقه القرطاس والقلم
وكان شعره جمع بين جزالة الألفاظ وعذوبة المعاني وفيما أعتقده أنه أحسن شعراء هذا التاريخ لطول باعه في فنون الشعر بأجمعها وحسن انسجام كلماته ورونقها وهذا ما ظهر لي بحسب رأيي السقيم وأرجو أن يوافقني عليه من عرف مقام ابراهيم وكانت وفاته في شعبان سنة سبع وأربعين وألف ودفن بسفح قاسيون الشيخ ابراهيم بن محمد بن محمد بن أبي الحرم بن أحمد الصبيبي المدني واحد المدينة المنورة في زمانه علما وبراعة وكان يعرف فنونا تفرد بها وكان سالكا طريق من سلف حسن الشكل لين الجانب كثير الأحسان للطلبة معلما ناصحا ومفيدا صالحا يقرب الضعيف من الأخوان ويحرص على ايصال الفائدة للبليد المستهان وكان ربما ذكر عنده المبتدى الفائدة المطروقة فيصغي إليها كأنه لم يسمعها جبر الخاطره وكان جماليا في سائر شؤنه يحب الجمال بالطبع وكان مثابرا على ايصال البر والخير لكل محتاج ولد بالمدينة وأخذ عن والده وعن شيوخ ولزم التدريس وأخذ عنه جمع وكان ينظم الشعر السهل اللطيف ومن شعره قوله فيمن لبس بياضا
لما بدا مبيضا ... والقلب مشتاق إليه
ناديت هذا قاتلي ... والراية البيضا عليه
وقوله(1/25)
صادفته يجلو فما حشوه ... شهد وورد وعتيق المدام
فقلت يا مولاي هل مشرب ... من ريقك العذب لحر الغرام
فقال جور منك أنت الذي ... تدعى بابراهيم طول الدوام
والنار بردا وسلاما غدت ... عليك ياذا الحر قلت السلام
وقوله
جاء يسعى إلى الصلاة مليح ... يخجل البدر في ليالي السعود
فتمنيت أن وجهي أرض ... حين أومي بوجهه للسجود
قلت تذكرت هنا ما يحكي عن بعض الظرفاء أنه مر بغلام جميل فعثرت فرس في طين أصاب وجه الغلام منه نزر فقال الظريف ياليتني كنت ترابا فقال بعض المارين للغلام ما يقول هذا فقال ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا وقد ذكره السيد علي بن معصوم في سلافته فقال في حقه فاضل ملء أهابه عارف بإيجاز الأدب واطنابه إلى وقار ورجاحه وصفاء سريرة اقتضى لآمله نجاحه وهو للفضل خليل ومحله في العلم جليل نص عرائس المحاسن وحلاها ولبس أثواب العمر حتى أبلاها وله نظم حسن أبان به عن بلاغة ولسن فمنه قوله في تاريخ المدينة للسمهودي المسمى بخلاصة الوفا
من رام يستقصى معالم طيبة ... ويشاهد المعدوم بالموجود
فعليه باستقصاء تاريخ الوفا ... تأليف عالم طيبة السمهودي
والسمهودي هذا علي نور الدين أبو الحسن بن عبد الله السمهودي كان عالم المدينة توفي آخر سنة إحدى عشرة بعد الألف وقال السيد محمد كبريت في نصر من الله وفتح قريب في معرض كلام جرت عادة الفعال لما يريد في خلقه أن كل بلدة في الغالب تكون عونا لغريبها حتى على ساكنها وعلى الخصوص المدينة المنورة وكان المرحوم العلامة الشيخ ابراهيم بن أبي الحرم يقول ليس من الرأى تعظيم الوارد إلى هذه الدار إلا بحسب ما يقتضيه الحال فإنه بتعظيمه يطأ غيره ثم يتمرد على معظمه فيطؤه كذلك وتكون اساءته عليه أكثر وعلى الخصوص من لفظته القرى وألف النوال والقرى وقد اتفق لي شيء من ذلك فكتب إلى بعض أصحابي من خصوص هذا المعنى
يا أهل طيبة لا زالت شمايلكم ... بلطفها في الورى مأمونة العتب
لكن رعايتكم للغرب تحملهم ... على تجاوزهم للحد في الأدب
فكان الجواب عن ذلك بلسان الحال
مولاي أن صروف الدهر قد حكمت ... وأعوزت أن يذل الرأس للذنب
كم من مقبل كف لو تمكن من ... قطع لها كان ممن فاز بالارب
وكانت وفاة ابن أبي الحرم رحمه الله تعالى يوم الجمعة ثالث عشر صفر سنة ست وخمسين وألف بالمدينة ودفن بالبقيع ابراهيم بن محمد السوسي الأنسي المالكي من أكابر الأفاضل جامع للفنون والعلوم الرياضية وله معرفة بعلم الأوفاق والزايرجا والرمل وله في فن الدعوة والأسماء براعة وقوة نظم رسالة المرجاني في الوفق الخماسي الخالي الوسط وشرحها شرحا عجيبا اشتغل ببلاد سوس من المغرب الأقصى ثم تنقل في بلاد الغرب فرحل إلى مراكش وأخذ عن مفتيها محمد بن سعيد وغيره من علمائها ودخل فاس وأخذ بها عن جمع وأقام بالزاوية من أرض الدلاء مدة مديدة وأخذ بها عن جماعة منهم سيدى محمد المرابط ومشايخه الذين أخذ عنهم لا يحصون جمع منهم من اسمه محمد فبلغوا نحو سبعين شيخا ودخل مصر في سنة خمس وسبعين وألف وأخذ بها عن جماعة ثم وصل إلى مكة وأقام بها إلى أن مات وله نظم ونثر في غاية الرقة والأنسجام فمن شعره قوله
يا من رماني بسهم اللحظ في مضي ... أوحشتني وحشوت القلب نار غضا
كسرت جفني بتكسير الجفون كما ... نصبت حالي لأسهام الجفا غرضا
فكم نصبت لك الأشراك في حلم ... لعل طيفك وهنا في الكرى عرضا
وأضرم النار بالذكرى على علم ... من مهجتي يهتدى للنار حيث أضا
أن قست قدك بالبدر المنير على ... غصن على كثب الجرعاء ذات أضا
لله ظبي حشا بالسحر مقلته ... فكم جليت به أستاره حرضا
في فيه عين وعين فيه جوهرة ... من الحياة وبرق للمنى ومضا(1/26)
وبينه وبين صاحبنا الفاضل الأديب مصطفى بن فتح الله الشامي نزيل مكة مودة أكيدة ومراسلات عديدة مدحه صاحبنا المذكور بأبيات فكتب له بها رسالة نحو كراسة سماها الرائحة الوطفا في راحية مصطفى مشتملة على قصيدة عجيبة ونثر حسن ومن شعره أيضا قوله
لاغر وأن كنت تجفو الأنس يا رشأ ... فمن خصال الظبا أن تنفر البشرا
يا ليتني كنت وحشيا أرددفي ... مفتون وجهك في سقط اللوى نظرا
وكتب إليه بعض الأدباء وهو بالزاوية من أرض الدلاء يقول
يا أبا إسحاق قل لي موجزا ... أي شيء مبرد حر النوى
قد أبت الأسهادا مقلتي ... وانسكاب الدمع شوقا للوى
فأجابه بقوله
زار في روض بهى سحرا ... جامع بين رواء وروى
تتهادى في الحشا نفحته ... طلبت مني دواداء النوى
قلت عن طب وما يعزى لمن ... جرب الأمر عليم بالدوا
عرق وصل ونبات الدر من ... ماء ثغر أشنب كل سوا
فاسحقنها في مهاريس اللوى ... واشربنها بكؤوس من هوى
فهو درياق لأمراض النوى ... مطفىء بين الحشا جمر الجوى
وكانت وفاته في سنة سبع وسبعين وألف ودفن بالمعلاة رحمه الله تعالى الشيخ ابراهيم بن محمد بن عيسى المصري الشافعي الملقب برهان الدين الميموني الأمام العلامة الفهامة المحقق المدقق خاتمة الأساتذة المتبحرين كان آية ظاهرة في علوم التفسير والعربية أعجوبة باهرة في العلوم العقلية والنقلية حافظا متفننا متضلعا من الفنون مشهورا خصوصا عند القضاة وأرباب الدولة وأبلغ ما كان مشهورا فيه علم المعاني والبيان حتى قل من يناظره فيهما وسئل بعض أهل التحقيق من قضاة مصر عنه فقال هو رجل لو سئل عن مسئلة في المعاني والبيان لأملى عذبها كراريس عديدة وكان مترفها في عيشه كريم النفس رقيق الطبع حسن الخلق فصيح اللسان وجها مجللا عند عامة الناس وخاصتهم مسموع الكلمة وإذا حضر مجلسا فيه علماء يكون هو المتكلم من بينهم والمشار إليه فيهم واجتمع فيه حسن التقرير وتحبير التأليف والتحرير لازم والده سنين وكان يحضر معه وهو صغير درس الشمس الرملي وأجازه بمروياته وأخذ عن أبي بكر الشنواني ومنصور الطبلاوي وأحمد الغنيمي وغيرهم من علماء عصره وأجازه جل شيوخه وعنه أخذ أحمد بن أحمد العجمي وعبد القادر البغدادي وشاهين الحنفي وكان له ولد برع بالتلقي عنه ومات قبل أبيه بنحو ثلاثة أشهر فحزن عليه حزنا شديدا ولما عزى به أنشد بيت المتنبي
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
واجتمع به والدي في منصرفه إلى القاهرة وذكره في رحلته وأطنب في وصفه جداً وذكر عراقته وتبحره في العلوم بأسرها وبالجملة فإنه مما اتفقت كلمة الكل على تفرده في عصره وتوحده في وقته وتصانيفه كثيرة منها حاشية على المختصر وحاشية على المواهب اللدنية وحاشية على تفسير البيضاوى وله معراج في مجلد ضخم وبعض تعليقات على شرح التلخيص للمولى عصام الدين المسمى بالأطول وتحريرات على حاشية الجامي له أيضا وكانت ولادته في سنة أحدى وتسعين وتسعمائة وتوفي يوم الثلاثاء ثاني عشر شهر رمضان سنة تسع وسبعين وألف وكان له مشهد عظيم ودفن بتربة المجاورين ذكر هذا أحمد العجمي المذكور في ثبته والميموني نسيه للميمون من الصعيد وسيأتي أبوه محمد بن عيسى(1/27)
القاضي ابراهيم بن محمد بن علي بن أبي بكر الصالحي المعروف بالغزال الأديب الشاعر ولد ونشأ بصالحية دمشق وقرأ ودأب وأخذ الحديث عن الشهاب أحمد الوفائي وتأدب بالشيخ أيوب الخلوتي قرأ عليه ديوان ابن الفارض وأخذ عن غيرهما وتعانى كتابة الصكوك في محكمة الصالحية ثم ترك الكتابة وناب في القضاء بمحكمة الصالحية والعونية والميدان وكان شاعرا حسن المطارحة لذيذ المصاحبة كثير المجون والمداعبة صاحب نوادر عجيبة وحكايات مطربة ولم يكن في عصره أكثر رواية منه للشعر ولا أحفظ منه للوقائع وقد وصفته فقلت في حقه فتى مداعبة ومجون طبعه بالخلاعة معجون إذا تكلم ببنت شفه فهي في حقه سفه لا يستفزه قيل وقال وكل عثرة منه تقال وله جامعية بنان وبيان هو فيها سفينة نوح أو جامع سفيان إلا أنه كان في شعره متكلفا وعن أهل طبقته متخلفا لأنه ينبو عن السهل القريب ولا يستعمل إلا المتنافر الغريب وربما ندرت له أبيات في مدام فكانت كرمية من غير رام أستغفر الله نعم هو في هجائه مجيد ولو بازدراء حجائه لعوب حتى بيأسه ورجائه يطلع هزله جدا ويرهف حديدته حدا فما استخرجته من حلوه وحامضه وألمعت فيه بأمر واضحه وغامضه قوله
أضحى التصبر حبله مقطوعا ... لما رأيت معذبي ممنوعا
وحديث وجدى مسندا ومعنعنا ... أضحى لديه معللا موضوعا
وفقدت قلبي عنده وأظنه ... لبليتي قد ساء فيه صنيعا
فغدوت أنشدو اللهيب بمهجتي ... والبين جرعني الأسى تجريعا
بالله يا أهل الهوى وبحقه ... لا زال قدركم به مرفوعا
قولوا لمن سلب الفؤاد مصحمعا ... يمنن علي برده مصدوعا
وقوله من الرباعيات
يا من ملكوا جوانحي مع لبي ... ما اعتدت شكاية فحالي ينبي
لازلت مشاهدا بحالي تلفا ... أن كان سواكم ثوى في قلبي
وقوله أيضا
القلب إلى سواكم ما مالا ... والدمع لغير بعدكم ما سالا
أن كان حسودنا أتاكم ووشى ... بالله بلطفكم دعوا ما قالا
ومن أهاجيه التي هي فروع أفاعيه قوله في اسماعيل بن الجرشى
بالله قل لغليظ الطبع مني ما ... أنكرته من فلان كي ترى عجبا
فلم تجد غير أني لم أنكه لما ... قد عفته منه قدما كان ذا سببا
ولو أجشمه ايرى وأمنحه ... اياه ما عدلي ذنبا وما رفبا
لكنني الآن أكوى قرح فقحته ... بنار ايري وأرقى عنده الرتبا
أكلف النفس تغيير المذهبها ... قبلي كثير لهذا الأمر قد ذهبا
لا سامح الله مأبونا يكلفني ... بغير طبعي ويبغي غاسقا وقبا
يا ايرقم وادرع وةادخل حشاشته ... غازوهات لنا أمعاءه سلبا
أوسعه رهزا وارجافا بباطنه ... وأن عجزت فعوض غيرك الخشبا
واحذر يفاجيك من جعص له بخر ... والطخه في وجهه أن دار وانقلبا
فعنه قد حدثونا أن عادته ... يخرى على الأير لا حيى ولا ندبا
وأنشد له بعض الأدباء قوله في اسماعيل هذا
يزعم أني بالهجو أذكره ... تعصبا منه ساعة الغضب
لكنني والطلاق يلزمني ... ما ملت فيه يوما إلى الكذب
نكت ابنه وأخته وخالته ... ونكت قدما أخاه وهو صبي
ناك أبي أمه وجدته ... وعمتيه لله در أبي
فنحن في بيته على دعة ... النيك ما بيننا إلى الركب
ثم ظفرت بهذه الأبيات في مجموع منسوبة لابن أبي الأصبع والظاهر أن الغزالي كان يتمثل بها فنسبوها إليه وقال يهيحو اسماعيل المذكور وكان مؤدنا
أن الجمال الجرشي ... مثل المغنى القرشي
يود من يسمعه ... لو ابتلى بالطرش
المغنى القرشي معروف يضرب به المثل في رداءة الصوت وفيه يقول المهلبي
إذا غناني القرشي ... دعوت الله بالطرش
وأن أبصرت طلعته ... فيا لهفي على العمش
ولابن العميد فيه
إذا غناني القرشي يوما ... وعناني برؤيته وضربه(1/28)
وددت لو أن أذني مثل عيني ... هناك وأن عيني مثل قلبه
وابعضهم في مؤذن اسمه قاسم قبيح الصوت وهو معنى جيد
إذا ما صاح قاسم في المنار ... بصوت منكر شبه الحمار
فكم سبابة في كل أذن ... وكم سبابة في كل دار
وكانت ولادة الغزالي في سنة ثمان بعد الألف وتوفي في ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وألف ودفن بالسفح الشيخ ابراهيم بن مسلم بن محمد بن محمد بن خليل بن علي بن عيسى بن أحمد بن صالح ابن خميس بن محمد بن عيسى بن داود بن مسلم القادري الشافعي المذهب المعروف بالصمادي السيد الأجل الحوراني الأصل الدمشقي بقية السلف البركة المعمر الولي المجاهد كان من سادات الصوفية بدمشق وكبرائهم جمع من كل فن من علم وعمل وزهد وورع وعبادة وكان حسن الأخلاق لطيف الذات والصفات وافر الأدب والعقل دائم البشر مخفوض الجناح كثير الحياء متمكا بآداب الشريعة وكان للناس فيه اعتقاد عظيم نشأ بدمشق واشتغل في مبدأ أمره بها على الشيخ الأمام الشهاب أحمد العيثاوي بفقه الشافعي فقرأ عليه المنهاج بتمامه وأجازه أبوه مسلم بطريقتهم ولما مات أخوه عيسى جلس مكانه على سجادة الذكر بزاويتهم المعروفة بهم داخل باب الشاغور أحد أبواب دمشق وبناها بعد مدة بناء حسنا وسافر إلى الروم مرات عديدة وناله من أعيان الدولة وعلمائها انعامات طائلة وحج في سنة ست وأربعين وألف ورزق قبولا عظيما واتفق الناس على تجليله واعتقاده وكان يدعو الله تعالى أن يرزقه أربعة أولاد ليكون كل واحد منهم على مذهب من المذاهب الأربعة فولد له أربعة أولادوهم مسلم وكان مالكيا وعبد الله وكان حنبليا وموسى وكان شافعيا ومحمد وكان حنفيا وكانت تصدر عنه كرامات وأحوال عجيبة وكانت ولادته في سنة ثمان وتسعين وتسعمائة وتوفي سنة ثلاث وسبعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير وقيل في تاريخ موته رحمه الله مات قطب العارفين الأمجد ولهذا السيد قريب معاصر له اسمه كاسمه(1/29)
ابراهيم ويعرف كما يعرف هو بالصمادي إلا أن اسم أبيه أحمد بن داود بن مسلم بن محمد ويتميز عن هذا باطلاق لفظ الواعظ عليه وإنما ذكرته هنا دفعا لهذا الأشتباه من أول وهلة ولأن الشهرة للمذكور هنا دون ذاك وكان أمام الجامع الأموي بالمقصورة على مذهب الشافعي وكان عالما فقيها واعظا ناصحا وكان وعظه مؤثرا في القلوب يخشع له السامع وكان في ابتداء أمره قرأ على الشمس الميداني وكان يلازم دروسه ولما مات الشمس لزم النجم الغزى وروى عنهما الحديث والفقه وأجازه النجم بالأفتاء فكان يفتى وقام في النفع مدة وأخذ عنه كثير ممن لحقه وكان صالحا جداً وله مناقب سامية منها ما حكاه الشيخ محمد الميداني نزيل الخانقاه السميساطية وهو قريب العهد وكان من أصلح خلق الله أنه كان يقرأ على الصمادي المذكور في المنهاج وكان غلام وسيم الوجه يقرأ عليه أيضا في الفقه وعلى الميداني في التجويد قال فرأيت الصمادي يوما في الجامع صادف الغلام فعبث بخده فأنكرت عليه وانقطعت عن درسه فرأيته في المنام قد أحاطت به جماعة من العلماء كثيرون وهو راكب فدنوت لا قبل يده فقال لي عد عن اعتراضك على أولياء الله تعالى ففي ثاني يوم توجهت إليه فأول ما قابلني بش في وجهي وقال لعلك تركت الأعتراض وبالجملة فقد كان من عباد الله الأخيار وكانت وفاته في سنة أربع وخمسين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير والصمادي بضم الصاد المهملة ثم ميم بعدها ألف ثم دال مهملة نسبة إلى صماد قرية من قرى حوران بها أجدادهم ولهم نسبة سيادة من جهة الأب أظهروها في سنة خمس وثمانين وتسعمائة وذكروا أنها كانت عند بعض بنات عمهم بمدينة نابلس وأنهم لم يطلعوا عليها إلا بعد وفاتها وأثبتوا نسبهم بدمشق على بعض قضاتها ووضعوا العلامة الخضراء على رؤسهم وبعضهم لبس العمائم الخضر وكان قريبا منهم أثبت نسبهم بنو الدسوقي في سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة ذكر ذلك الشمس الداودي المقدسي نزيل دمشق وشيخ محدثيها في أوراق ظفرت فيها بخطه ذكر فيها وقائع كثيرة وقعت بالشام وأما نسبة الصماديين من جهة الأم إلى سعيد بن جبير فمستفيضة ومنهم مسلم الكبير مذكور في نسبهم وهو صاحب الطبل المستقر عندهم من نحاس أصفر كان معه في فتح عكة يضربون به عند سماعهم ووجدهم وقد سئل كثير من العلماء عنه فأفتى البدر الغزى والشمس بن حامد والتقوى بن قاضي عجلون بابا حته في المسجد وغيره قياسا على طبول الجهاد والحجيج لأنها محركة للقلوب إلى الرغبة في سلوك الطريق وهي بعيدة الأسلوب عن طريقة أهل الفسق والشرب والصوفية معروفون وكثيرا ما كان يختلج في صدري السؤال عن لفظ الصوفي لماذا ينسب حتى رأيت رسالة للسنباطي الخطيب الشافعي المسعودي ذكر فيها نقلا عن ابن الجوزي في كتابه تفليس ابليس أن أول من انفرد بخدمة الله تعالى عند البيت الحرام رجل يقال له صوفة واسمه الغوث بن مر فنسبوا إليه لمشابهتهم إياه في الأنقطاع إلى الله تعالى وروى بسنده إلى أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ قال سألت وليد بن قاسم إلى أي شيء ينسب الصوفية فقال كان قوم في الجاهلية يقال لهم صوفة انقطعوا إلى الله تعالى وقطنوا عند الكعبة فمن تشبه بهم فهو الصوفي وقيل على الأول إنما سمي لغوث بن مر صوفة لأنه كان لا يعيش لأمه ولد فنذرت لئن عاش لتعلقته برأسه ولتجعلنه ربيطا بالكعبة ففعلت فقيل له صوفة ولولده من بعده ثم رأيت الشهاب الخفاجي قد تعرض للصوفية فزاد وجوها في النسبة استطردتها فنقلتها حيث قال والمتصوفة والصوفية واحدهم صوفي ويقال تصوف إذا انقطع لله تعالى كما يقال قيسى إذا انتسب إلى قيس وهذا لفظ مولد واصطلاح حدث بعد القرن الأول فقال بعضهم الصوفي هو المنقطع بهمته إلى ربه وهم مقتدون بأهل الصفة وهي سقيفة اتخذها ضعفاء الصحابة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكان قبل الأسلام حي يقال لهم صوفة يخدمون الكعبة فقيل الصوفي نسبة لهم وقيل أنهم تجمعوا كما يتجمع الصوف وقيل أنهم لخشوعهم كصوفة مطروحة على الأرض أوهم منسوبون للصوفة للينهم وسهولة أخلاقهم أو للبسهم الصوف لأختيارهم الفقر وهذا أظهر الوجوه لفظا ومعنى وقيل منسوبون للصفة وقيل الأصل صفي فأبدل أحد حرفي التضعيف لينا وقيل أنه من صفاء ففيه قلب وصحح هذا بعضهم لقول البستس(1/30)
تخالف الناس في الصوفي واختلفوا ... جهلا فظنوه مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذا الأسم غير فتى ... صافي فصوفي حتى سمى الصوفي
ولا شاهد فيه لأنه على مذهب الشعراء وقد بين المصنف معنى الصوفي انتهى الشيخ ابراهيم بن مصطفى الرومي شيخ زاده المعروف بلوح خوان أصله من بلدة برغمة وأبوه من خلفاء الشيخ بستان أشتغل في أوائله حتى فاق ودخل قسطنطينيه فصار معيدا لدرس المولى أبي الليث وهو مدرس أيا صوفية ثم لازم منه ودرس بعدة مدارس في قسطنطينيه وأدرنة ثم نقل آخرا إلى مدرسة السلطان مراد ببلدة مغنيسا وولى فيها قضاء بورسة في جلوس السلطان محمد الثالث في جمادى الأولى من سنة ثلاث بعد الألف ثم بعدها عزله منها وأعطى دار الحديث التي بناها سنان باشا فاستمر بها عشر سنين يدرس ويفيد إلى أن توفي وله من التآليف نظم الفرائد في سلك مجمع العقائد وهو متن في علم الكلام ثم شرحه شرحا جيدا وله على التفسير رسائل وتعليقات كثيرة تدل على تبحره وعلى الجملة فقد كان بحرا زاخر عالما بالتفسير والحديث والكلام وغيرها متورعا عابدا عفيفا نزها صلبا له صدق وصلاح وفيه فوز وفلاح وكانت وفاته في ذي الحجة سنة أربع عشرة بعد الألف الشيخ ابراهيم بن منصور المعروف بالفتال الدمشقي شيخنا العالم العلم الباهر الماهر المحقق المدقق هو كما قلته في وصفه أستاذ الأساتذة ومعترفهم وبحر العلماء ومغترفهم أما العلم فمنه وإليه ومعول أرباب الصنعة عليه وأما الأدب فنقطة من حوضه وزهرة من زهرات روضه وله المنطق الذي يقوم شاهدا بفضل لسان العرب ويفتح على البلغاء أبواب العجز ويسد عليهم صدور الخطب فإن أوجز أعجز وأن أطال كاثر الغيث الهطال مع مطارحة تذهب، والأستفادة مذهب الحكم وأخلاق تحدث عن لطف الزهر غب الديم وما أنا في ترنمي بذكره وتعطري بنشر حمده وشكره إلا النسيم نم بمسراه على الحدائق والصبح بشر بنور الشمس الشارق
ولي فيه ما لم يقل شاعر ... وما لم يس قمر حيث سارا
وهن إذا سرن من مقولي ... وبئن الجبال وخضن البحارا(1/31)
على أن ذلك دون استحقاقه بالنسبة لما منحني به من كرم أخلاقه فإنه الذي روج بضاعتي المزجاه وشملني بالحم والأناه ونوه بي وأشاع أدبي وكان لي مكان أبي ولم أترو من زلال المعرفة الأبر شحات أقلامه ولم أملا سمعي در الأصداف إلا بتقرطي ببدائع كلامه وكان يتحفني ببعض أقواله ويشنف سمعي بمجرباته وأحواله فيغنيني بحلاوة تقريره عن المشاهدة والعيان وتنتهي عندي منه دقائق المعاني والبيان وكان رحمه الله من الفضل في محل ذروته ومن الحلم في مرتبة سنامه وكان وقور أحسن الهيئة مطبوع العشرة لطيف النادرة وله حذق وفراسة يقضي منها بالعجب وكان في أول أمره فقيرا ثم أثرى ونشأ في جد واجتهاد وقرأ على علماء عصره منهم الملا محمود الكردى وأخذ عن عبد الوهاب الفرفوري وأحمد بن محمد القلعي وحضر دروس النجم الغزى وتصدر للأقراء في ابتداء أمره واشتهر بحسن التأدية والتفهم فأكبت عليه الطلبة ولزمته وانتفع به من الفضلاء مالا يحصى وجميع من نعرفه الآن بدمشق المتعينين بالفضل المشار إليهم من الجلة تلاميذه يباهون به ويشكرون صنيعه وما أظن أحد اتلمذله إلا أحبه محبة أب لأبنه وأمثل من أخذ عنه وتفوق وبرع مولانا أبو الصفاء وأخوه أبو الأسعادا بنا أيوب والمرحوم فضل الله العمادي وابن عمه سيدنا علي وأخوه محمد والمرحوم الشيخ عبد القادر بن عبد الهادي وشيخنا عثمان المعيد وشيخنا اسماعيل بن الحانك وشيخنا وقريبنا وبركتنا الشيخ عبد الغني النابلسي وأخوه الشيخ يوسف والشيخ أبو المواهب الحنبلي والشيخ درويش الحلواني والمرحوم الشيخ أبو السعود بن تاج الدين وغيرهم ممن يطول يردهم وأنا ممن تشرفت بالتلمذة له وقد لزمته من سنة ثلاث وسبعين وألف إلى أن انتقل إلى رجمة الله تعالى وغفرانه فقرأت عليه مواطن من التفسير وأخذت عنه الحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والمنطق والأصلين وشيئا من التصوف والأدب وأول ما أدركته يعقد حلقة التدريس بين المقصورة وباب الخطابة من الجامع الأموي ثم تحول إلى دار الحديث الأحمدية بالمشهد الشرقي وكان أيام الصيف يدرس في الرواق الشرقي مما يلي باب جيرون ثم لزم داره بالكلاسة غالبا ودرس من الدروس في مغنى اللبيب وتفسير البيضاوي والبخاري والهداية وشرح الأربعين لابن حجر وشرح الطوالع للأصبهاني ودرس بالمدرسة الأقبالية تدريس وظيفة وكان عليه وظائف قليلة جداً فلهذا كان يقتصر على بعض تجارة واشتهر في آخر أمره وطنت حصاة فضله وأقبلت عليه الناس وكان يحب العزلة إلا أنه لا يتمكن منها وله تعليقات تشهد بدقة نظره منها حاشية على شرح القطر للفاكهي وله تحريرات على مواطن من التفسير وكان ينظم الشعر فما رويت له قوله يتوسل بصاحب الشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ويمدحه
كلنا سيدي إليك نؤوب ... ما لنا لا نعي اللقا ونتوب
أن عمر الشباب ولي وأبقى ... ما جناه فيه وذاك ذنوب
فألى كم هذا التواني وقد جا ... ء نذير الحمام وهو المشيب
ندعي الحب فرية إنما الحب ... حرى بأن يطاع الحبيب
ليس هذا دأب المحبين لكن ... قد نحاه مشتت محجوب
أن أعداءنا توالت علينا ... نفسنا والهوى وعقل مريب
كيف يرجو الخلاص منهم معنى ... في عماه مكبل مجبوب
من يرجى لدفع داء عضال ... غير خير الورى وذاك الطبيب
سيد المرسلين خير نبي ... شافع الخلق يوم تتلى العيوب
مبدأ الكون ختم كل نبي ... قد حباه الحيا قريب مجيب
عله أن يقول في الحشر عني ... أن هذا لجاهنا منسوب
وله عندنا وداد قديم ... وعلينا يوم الندا محسوب
من لهذا الحقير غيري نصير ... أو شفيع دعاءه يستجيب
أنا عون له ويكفيه عونا ... من سواى ولى فناء رحيب
يا منى الهدى وغوث البرايا ... ووحيدا وليس في ذا عجيب
خصك الله بالمراحم جمعا ... ويعي ذاك عاقل ولبيب
كل فضل مصباحه أنت حقا ... أن هذا في المكرمات غريب(1/32)
كل من لم ير افتراض هواكم ... فهو في النار حقه التعذيب
ومن مقاطيعه قوله
ما نلت شيئا إذا كنت المقصر في ... تحصيل أسباب توفيقي وأسعادي
الأضياع نجاتي وهي نافعتي ... يا رب هل لي يوم الحشر انجادي
وله
أن كان ذنبي في الشدائد موقعي ... وبه لقد لاقيت ما أنا فيه
فالعفو منك يزيل ذاك تكرما ... كالشمس أن أنت الدجى تجليه
وله غير ذلك وكانت وفاته نهار السبت سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وتسعين وألف وقد ناهز السبعين ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى الأديب ابراهيم بن يوسف المعروف بالمهتار المكي الأديب الشاعر المشهور في الحجاز ذكره السيد علي بن معصوم في السلافة فقال في ترجمته شو يعر بذي اللسان كثير لا ساءة قليل الأحسان شعر وما شعر فهذر ولم يذر سمينه غث وجديده رث لا يلتقى من مختاره طرفاه ولا يسمع رويته سامع إلا قال فض الله فاه لم يزل يقذف الأعراض بهجوه وبلفظ فوه بمثل ما تلفظ وجفاؤه من نجوه حتى ألبسه الردى رداءه وطهر الله الوجود من تلك الخباثة والرداءه ولما هلك بقي يومين في بيته لا يعلم أحد بموته حتى دل عليه نتن ريحه وهو جيفة في ضريحه ولقد تصفحت ديوانه الذي جمعه وليت من واراه التراب واراه معه فلم أر فيه إلا ما تمجه الأسماع وتحقر ألفاظه ومعانيه عن السماع إلا كلمات كادت أن تصفو من الشوائب ومع الخواطىء سهم صائب فمنه قوله من قصيدة
قف بالمعاهد من يشاء ملحوب ... شرقي كاظمة فالجذع فاللوب
واستلمح البرق أن تخفي لوامعه ... على النقا أن سقى حي الأعاريب
يا حبذا اذبدا يفتر مبتسما ... أعلى الثنية من شم الشناخيب
والجو مضطرم الأحشاء تحسبه ... بردا أصيبت حواشيه بألهوب
يا بارقا لاح وهنا من ديارهم ... كأنه حين يلهو قلب مرعوب
أذكرتني معهدا كنا بجسيرته ... نستقصر الدهر من حسن ومن طيب
لم أنس بالتلعات الجون موقفنا ... والحي ما بين تقويض وتطنيب
وقد بدا العيون الصحب سرب ظبا ... حفت بظبي ببيض الهند محجوب
لم تبد تلك الدمى إلا لسفك دمي ... ولا العذاب اللمى إلا لتعذيبي
وقوله من أخرى
أذكى بقلبي لاعج الأشجان ... برق أضاء على ربي نعمان
أجرى مدامع مقلتي أورى زنا ... د صبابتي أشجى فؤادي العاني
ما شاقني إلا لكون وميضه ... بربي الهوى ومعاهد الخلان
يا برق جد بالدمع في أطلالهم ... عنى فسح الدمع قد أعياني
لم أسأل الأجفان سقي ربوعهم ... إلا وجادت لي بأحمر قاني
واها لأيام العذيب إذا للوى ... وطني وسكان الحمى جيراني
إذ كنت طوعا للهوى واللهو في ... ظل الشبيبة ساحب الأردان
تشجيني الورقاء أن صدحت على ... تلك الغصون بنغمة الألحان
ويشوقني بان النقا وحلول وا ... ديه وحسن الدار بالسكان
وخمرياته منها قوله
أرح فؤادي من العذاب ... بالراح والخرد العذاب
وعاطنيها عروس دن ... كالنار والعسجد المذاب
من كف لمياءان تبدت ... توارت الشمس بالحجاب
دعجاء بلجاء ذات حسن ... لكل أهل العقول سابي
على رياض مدبجات ... حاكت رداها يد السحاب
بها القماري مغردات ... على الأفانين والروابي
فبادر الأنس يا نديمي ... وقم إلى اللهو والتصابي
أعط رمان الشباب حظا ... فلذة العيش في الشباب
واجسر ولا تيأسن يوما ... من رحمة الله في الحساب
وقوله
قم إلى بنت الكروم ... واسقنيها يا نديمي
ما ترى الليل تولى ... وانطفى ضوء النجوم
وأضاء الصبح ما بين تصاريف الغيوم
وبدا الطل على الأغصان كالعقد النظيم
وشدت قمرية الأيك على الغصن القويم(1/33)
وسرت ريح الخزامى ... من ربي ظبي الصريم
فأدرها خمرة تنبي عن العصر القديم
واسقنيها لتزيل اليوم عن قلبي همومي
هاتها لي قهوة من ... عهد لقمان الحكيم
واملأ الكاسات أنى ... في الصبا غير ملوم
أيها النفس تصابي ... ثم في العصيان هيمي
وعن الذل تولى ... وعلى العز أقيمي
واكثري الذنب فربي ... غافر الذنب العظيم
وله موجها بأسماء الأنغام
سلام الله من صب مشوق ... جريح القلب باكي المقلتين
على من حل من قلبي السويدا ... لعزته وحل سواد عيني
نأى بالصبر لما بان عني ... وخلفني سمير الفرقدين
فليت الركب قد وقفوا قليلا ... على العشاق يوم نوى الحسين
وله من مقطوعاته قوله
طفل من العرب أحوى ... خدن الصبا والبطاله
بدابوجه كبدر ... في جيده الطوق هاله
وله مقتبسا في مليح فقير الحال
تصدوكم تصدي منك كف ... لمن لم يدر قدرك يا مفدى
وصدك عن أولى أدب وأما ... من استغنى فأنت له تصدى
وله قوله
أسأل الرحمن ذا الفضل اله العرش ربي
حسن نظم الأرجاني ... ثم حظ المتنبي
وقال مؤرخا أيام ولاية الشريف نامي بن عبد المطلب
تأمل لدنياك التي بصروفها ... أبادت على ملك توطد سامى
بدا فأضا ثم اعتدي الحق فأنقضى ... فمدة نامى مثل مدة نامي
قلت ونامي هذا ولي شرافة مكة بالتغلب ولم يقم إلا مقدار عدد حروف اسمه مائة يوم ويوم وشنق عصر يوم الجمعة الخامس من ذي الحجة سنة أحدى وأربعين وألف وستأتي ترجمته وواقعته مفصلة وله
ألا لا تصحبن لمن تعالى ... ولا تبد الوداد لمن جفاكا
ولا تر للرجال عليك حقا ... إذا هم لم يروا لك مثل ذاكا
وله
كم ذا أغمض عيني ثم أفتحها ... والدهر ما زال والدنيا بحالتها
فليت شعري ما معنى مقالتهم ... ما بين غمضة عين وانتباهتها
وله مضمنا
وظبي رماني عن قسي حواجب ... بأسهم لحظ جرحها في الهوى غنم
على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم
قلت وشعره كما رأيت إلى الأحسان أقرب فما أدرى أي شيء أبعده وليس الداعي إلى ما قاله ابن معصوم إلا التحامل والغرض ونحن ننظر إلى الجوهر ونترك العرض وبالجملة فإنه أكثر المكيين شعرا وكان مطلعا على أمثال وأخبار كثيرة ورأيت بخطه مجاميع كثيرة تدل على وفرة معلوماته وكان أدباء الحجاز دائما يداعبونه ويمازحونه وسبب خمول قدره فيما بينهم كون بينهم كون أبيه مملوكا ومما يستظرف في هذا المعرض ما حكى أنه كان في بعض المجالس فدخل بعض الشعراءالكبار فقال المهتار جاء امرؤ القيس بن حجر الكندي فقال ذلك الشاعر بديهة يلثم أيدي طرفة بن العبد ومما رأيته بخطه وقد نسبه إلى نفسه في تشبيه الحجر الأسود قوله
الحجر الأسود شبهته ... خالا بخد البيت زاد سناه
أو أنه بعض موالي بني العباس بواب لباب الأله
وله في قناديل المطاف
تراءت قناديل المطاف لناظري ... على البعد والظلماء ذات تناهى
كدائرة من خالص التبر وسطها ... فتيتة مسك وهي بيت الهى
وله في المنابر في ليالي رمضان
كأن المنابر إذ أسرجت ... قناديلها في دياجى الظلام
عرائس قامت عليها الحلى ... لتنظر بيت اله الأنام
وله غير ذلك وكانت وفاته بعد الأربعين وألف بقليل والله تعالى أعلم(1/34)
اباهيم باشا المعروف بدا لي ابراهيم باشا احد وزراء دولة السلطان مراد الثالث ذكره الحسن البوريني في تاريخه فقال في ترجمته هو على ما بلغني في الأصل من طائفة الأرمن ودخل هو وأخوه وأخته إلى دار السلطنة فحدموا وأخوه اسمه محمود ولم يزل ابراهيم من لدن دخوله في خدمة السلطنة يتقلب في الولايات حتى صار أمير الأمراء في ديار بكر بأسرها ففتك فيها وظلم أهلها وأظهر من أنواع الظلم أشياء مستكرهة جداً منها أنه كان كلما سمع بامرأة حسناء اجتهد على الأجتماع بها بأي طريق أمكن وكان له في ديار بكر رجل يقال له رجب وكان من التجار كثير الأموال إلى الغاية فجعله أباه وهو ابنه فبينما رجب في بيته إذا بقائل يقول له ابراهيم باشا على الباب يريد الدخول وكان ذلك ليلا فأرتعدت فرائصه لذلك فخرج إليه فوجده قد اقتحم البيت فبهت رجب لذلك فقال يا أبت أريد أن أنظر اخواتي يعني بناته وأريد أن تجعل لي حصة من مالك كما جعلت لبقية أخوتي فلم يزل يلاطفه حتى أرضاه بنحو خمسة آلاف من الذهب الأحمر ولم يزل به بعد ذلك حتى قتله وقطعه أربع قطع وفعل في ديار بكر الأفاعيل العظيمة فذهب غالب أعيانها واشتكوا عليه للسلطان مراد فأمر أن يؤتى به مقيدا فأتوا به كذلك ولما حضر إلى السدة السلطانية أمر السلطان أخصامه أن يقفوا معه في مجلس الشرع فما أطاق أحد أن يشهد عليه ولا قدر القاضي أن يدقق عليه في سماع الدعوى لأن أخته كانت عند السلطان مراد مقبولة جدا وانصرف خصماؤه وقرره السلطان في ديار بكر فذهب إليها ناويا على اهلاك كل من اشتكى عليه ومنهم ملك أحمد باشا وعماد الدين بيك فإنه أهلكهما تحت العذاب ووصل إلى أن ثار عليه أهل البلد وقاموا عليه قومة رجل واحد فتحصن في القلعة وصار يضرب على أهل المدينة المدافع الكبار حتى قتل منهم خلقا كثيرا وكان إذ ذاك السلطان محمد بن السلطان مراد ولي عهد أبيه مقيما في بلدة مغنيسا فأرسل إلى ابراهيم باشا يستشفع عنده في الرعايا عموما وفي ملك أحمد باشا المذكور خصوصا فقال أما الآن ماله حكم مع وجود والده وإذا صار سلطانا يفعل بي ما أراد فنذر السلطان محمد قتله يوم يصير سلطانا فلما من الله تعالى عليه بالسلطنة وحضر إلى مقر تخته سأل عن ابراهيم باشا المذكور فقيل له أنه محبوس بحبس والدك فأمر بقتله فقتل صبرا من غير تأخير قال البوريني وأخبرني بعض من شاهد قتله أنه كان جالسا في الحبس بعد صلاة العشاء فدخل عليه كبير من خواص خدم الديوان ومعه جماعة من الجلادين مغيرين صورهم حتى لا يرتاب منهم وجلس ذلك الكبير يصاحبه في أمور مموهة وأقدم عليه الجلادون من خلفه ووضعوا في عنقه حبلا وقالوا أمر بذلك السلطان قال فرأيته رفع مسبحته مشيرا بالشهادة فلما مات ألقوه في البحر ثم شفعت فيه أخته فدفنوه وصار عبرة للمعتبرين انتهى ما قاله البوريني في ترجمته ورأيت في التراجم التي أنشأها منشى الروم عبد الكريم بن سنان قاضي القضاة بمصر ذكر ابراهيم باشا المذكور فأحببت ذكر ما قاله لتوشية الكتاب بذلك التسيج قال لما تلألأت أنوار السلطنة المحمدية من هالة سريرها وأصبحت الدنيا بتلك الأنوار مشرقة بحذافيرها بدأ أحسن الله مبدأه وختامه وأغمد في رقاب الحاسدين حسامه بقتل ابراهيم باشا من عم المعالم ظلمه وفشا عرف باخوة مدبرة الحرم السلطاني لا زال مخدوما بالأمان والأماني وهو الذي سعى في أرض الله بالفساد وخرب البلاد وأباد العباد ما من بلد تولاه إلا وأمست بيوته خاويه واشتعلت فيه من المظالم نار حامية لم يتول مصر امن الأمصار إلا وأصبح فيها اعصار فيه نار تسابقت في حلبة الجور أفراس مظالمه وجرد سيف الحتف على محاربه ومسالمه أورى زناد الفساد وشب نار المظالم ولقد كان أعدى معتد وأظلم ظالم وبالجملة فإنه انفرد بقبائح لا يوجد له فيها عديل وأظهر سنام اعوجاج من الظلم لا يمكن له تقويم ولا تعديل عاد ولم يحمد عود ولايته إلى ديار بكر فصوب نحو أهلها أسنة القهر والمكر وأخذ يشتت شمل أحوالهم بأخذما لهم من مالهم لم يغادر لهم نقدا ولا بضاعه وقد صافح مالهم بيد الأضاعه فصرفه في وجوه الفساد وأضاعه فتح باب المصادرة كي يصل إلى مطلوبه وأصبح جامعا للشرور ومنار الجور يعلو به والحال أن ما أبقاه لهم جوره المقدم كفضلة صبر في فؤاد متيم ولم يقنع منهم بأخذ الأموال والأملاك بل أوقعهم بعد(1/35)
إذاقة الضرب في شباك الهلاك فلما غصت شوارع دار السلطنة بشكاته وكثر الباكون من موافاة آفاته حبسه سليمان الزمان إذ ذاك كما تحبس المرده وأحرقه بنار كمد موقده فاستمر في الحبس إلى أن تشرف سرير السلطنة بسلطان العالم المفرد الجامع لكمال بني آدم فلما رأى أنه حبس مرارا واستوطن الحبس دارا وكان يقول إذا تكرر الدواء لا ينفع وإذا طال مكث السيف في غمدة لا يقطع أزال أبقاه الله بازالة هذا الكلب غمة عن المسلمين وأظهر بقتله همة تظل تملى صحف محامدها إلى يوم الدين ألفاه نحس العين فقذفه في اليم ولعمري أنه لا يطهر ولو بالبحر الخضم فاستقر جسمه في الماء وروحه في الدرك الأسفل من النار وقد أصبح قرار البحر لجثمانه محل القرار وأرسله إلى نار هي أعظم من نار ابراهيم وصير الماء خير رفيق وحميم وكان عدوا لعلماء الملة الغراء والشريعة الشريفة الزاهراء حتى أنه لما كان بديار بكر هجم أتباعه بأمره على قاضيها والمولى لأحكام أحكام الشريعة فيها فسحبوه عاريا من ثيابه كالسيف المجرد من قرابه أهانة للشرع وصاحبه واستخفافا بالطراز المذهب من مذاهبه ولم أقصد بذكر هذه المعايب وتسطير هذه القبائح والمثالب بغض مسلم فات واقتنصته يد الآفات وحاشا أن أكون ممن يصدر ذلك من فيه ولكن عملا بقولهم إذكر الفاسق بما فيهة الضرب في شباك الهلاك فلما غصت شوارع دار السلطنة بشكاته وكثر الباكون من موافاة آفاته حبسه سليمان الزمان إذ ذاك كما تحبس المرده وأحرقه بنار كمد موقده فاستمر في الحبس إلى أن تشرف سرير السلطنة بسلطان العالم المفرد الجامع لكمال بني آدم فلما رأى أنه حبس مرارا واستوطن الحبس دارا وكان يقول إذا تكرر الدواء لا ينفع وإذا طال مكث السيف في غمدة لا يقطع أزال أبقاه الله بازالة هذا الكلب غمة عن المسلمين وأظهر بقتله همة تظل تملى صحف محامدها إلى يوم الدين ألفاه نحس العين فقذفه في اليم ولعمري أنه لا يطهر ولو بالبحر الخضم فاستقر جسمه في الماء وروحه في الدرك الأسفل من النار وقد أصبح قرار البحر لجثمانه محل القرار وأرسله إلى نار هي أعظم من نار ابراهيم وصير الماء خير رفيق وحميم وكان عدوا لعلماء الملة الغراء والشريعة الشريفة الزاهراء حتى أنه لما كان بديار بكر هجم أتباعه بأمره على قاضيها والمولى لأحكام أحكام الشريعة فيها فسحبوه عاريا من ثيابه كالسيف المجرد من قرابه أهانة للشرع وصاحبه واستخفافا بالطراز المذهب من مذاهبه ولم أقصد بذكر هذه المعايب وتسطير هذه القبائح والمثالب بغض مسلم فات واقتنصته يد الآفات وحاشا أن أكون ممن يصدر ذلك من فيه ولكن عملا بقولهم إذكر الفاسق بما فيه
وما ذم أهل الظلم شيء قصدته ... ولكنه من يزحم اليم يغرق
قلت وكانت قتلته في سنة ثلاث بعد الألف والله سبحانه وتعالى أعلم ابراهيم باشا الوزير الأعظم أحد وزراء السلطان مراد بن سليم من أصحاب الشأن العالي والرأي السديد وكان ذا حلم واسع وأناة ونهض به الحظ كما قال فيه منشى الروم المار ذكره وقد ذكره ساعدته الأيام والليالي فغدا مقدما في العز وغيره التالي رمقته عين العزة فأصبح عزيزا بالقاهرة المعزيه فطفحت كاس أمانيه وهي من الأقذاء صفيه تزينت حلل تلك البلاد بوشى أحكامه وتفيأت أهلها في ظلال بنوده وأعلامه ثم خلعت السلطنة المرادية عليه خلعة الصهاره وفاز مرة بعد أخرى بختم الوزاره آلت إليه رسالة الكتائب الأسلامية وقطف ثمار رؤس الأعداء من رياض الفتوحات الجنيه فغدا جيده حاليا بها عدة ستين وفتح ثغرا فأبتسم به الدين المبين وكان يعقد عرائس المناصب من غير كفاءة لكل خاطب ويفرقها بعد استيفاء مدتها ويزفها لآخرين دون انقضاء عدتها وكان أكثر مواعيده منجزة بسيول هباته لكنها وساوس تنشأ من خطراته حتى غدت عنده أكياس الدراهم أخلى من قدر البخيل ومعدة الصائم
أفنى ندى كفيه أمواله ... كأنما الأكياس أكفان
وقد عامل الناس بلين الجانب من الأخصاء والأجانب ولا يدري ما في قلوبهم له من النيه كما كمن في حد الحسام المنيه واستمر حاله بتلك القلادة حاليا إلى أن صوبت المنية نحوه أسهما وعواليا فأحدقت به دائرة السقام حتى ذاق من كاس المرض جرعة الحمام
ألا إنما الأحياء شرب وبينهم ... كؤس المنايا لا تزال تدور(1/36)
فمنهم سريع السكر في الحال ينتشى ... ومنهم على الشرب الكثير قدير
وذكره البوريني فقال كان أولا من جماعة الحرم السلطاني في عهد السلطان مراد ولما ظهر منه صار ضابط الجند الجديد بقسطنطينية وضبطهم أحسن ضبط واستمر حاكما عليهم مدة طويلة ثم أن السلطان مراد أراد أن يزوجه ابنته فأرسله إلى بلاد مصر حاكما وكان كريما حسن الخلق إلى الغاية وأراد أن يهدم بناء الأهرام الذي بمصر لما بلغه أن فيها دفائن للسلاطين المتقدمين فحذروه من ذلك وقالوا له أن المأمون العباسي أراد هدمها فما قدر على ذلك وقالوا ربما يكون الأهرام طلسما للرمل ولبعض منافع فإنها ما وضعت إلا بطريق الحكمة فعدل عن هدمها ثم أنه أقام بمصر أميرا يحكم فيها عوضا عنه وأخذ منه أموالا كثيرة ثم خرج من مصر بأموال عظيمة وتحف كثيرة منها أنه جعل للسلطان مراد تختا من الذهب مرصعا بالجواهر العظيمة ورجع ومعه عساكر مصر وجمع عساكر الشام وحاكمها إذ ذاك أويس باشا وكبس جبل الشوف من ضواحي دمشق على طرف البحر من الجانب الغربي وبه قوم من الدروز الباطنية وهم لا يدينون بملة ولا يرجعون إلى عقيدة يرون للشرائع باطنا غير ما هو ظاهر فقتل ونهب وحرق وأخذ منهم أموالا جمة وحاصرهم محاصرة عظيمة حتى أن أميرهم قرقماس بن معن مات قهرا ثم سار إلى قسطنطينية من طريق البحر في المراكب العظيمة ودخل على ابنة السلطان وأعطى الوزارة العظمى ثم عينه السلطان لمقاتلة النصارى في داخل بلاد الروم ووقع بينه وبينهم مقتلة عظيمة وثبت ثباتا عظيما وانتصر عليهم بعد أن كادت النصارى تكسر عساكر الأسلام فلم يزل وهو وعسكره يقتلون في النصارى حتى أفنوهم قتلا وأسر او فتحوا ثغرا من ثغورهم المعروفة وكان للمسلمين رئيس عسكر آخر يقال له محمود باشا فانتصر هو أيضاً وخذل الله المشركين قاله الحسن البوريني ثم ورد الخبر بموت ابراهيم باشا المذكور في المحرم سنة عشرة بعد الألف وأنه مات وهو مرابط زاد المنشى ونقلت جنازته إلى قسطنطينية ودفن بها في مدفن خاص به الشيخ ابراهيم القسطموني نزيل المدينة المنورة أحد العباد الزهاد ذكره ابن نوعي في ذيل الشقائق وقال في حقه كان من الفقر والرضا والكفاف في منزلة الأفراد أخذ عن الشيخ البركة حسن شيخ زاوية مصطفى باشا وأكمل عليه آداب الطريق ثم حج وجاور بالمدينة المنورة وكان عابدا زاهدا مرتاضا مجاهدا منقطعا إلى الله تعالى عفاعما في أيدي الناس حكى عنه أنه كان في أثناء مجاورته لا يقبل من أحد صدقة ولا هدية سوى أن شيخه المذكور كان يرسل له في كل ثلاث سنين قميصا واحدا فكان لباسه منحصرا فيه ومع هذا فقد كانت صلاته للفقراء وعوائده للأرامل واليتامى متصلة وفي يوم موته شوهد حالة عجيبة من الفقراء وكانوا حول نعشه بكثرة وهم يصيحون يا أبا الفقراء يا ملجأ الضعفاء فسئل منهم عن سبب ذلك فقالوا كان يعطينا في كل سنة مقدار كفايتنا وكان وجه معاشنا ونفقة عيالنا منه وهذا مع ما ذكر من صفته ليس إلا انفاقا من الغيب وكانت وفاته رحمه الله تعالى في سنة أحدى عشرة بعد الألف ودفن بالبقيع بالقرب من قبة العباس رضي الله تعالى عنه ابراهيم باشا الوزير نائب مصر ذكره النجم وقال في ترجمته كان له مشاركة في العلم وسلك أولا مسلك القضاة ثم صار فتردارا بالشام ثم عزل ورجع إلى الروم فسلك طريق الأمراء الكبار ثم صار وزيرا وولى مصر وكان ممدوح السيرة في ولايته وله حسن معاشرة إلا أنه امتحن بقصة الأستاذ زين العابدين البكري دخل إليه بقلعة الجبل بالقاهرة ثم خرج من عنده ميتا وأشاع أنه مات فجأة ثم ترجح أنه خنقه أرسمه بأمر سلطاني ولم يبق بعده إلا أياما يسيرة حتى قتلته عساكر مصر لما أراد التفتيش عليهم وأظهروا أنهم قتلوه حمية للشيخ زين العابدين وحملوا رأسه وطافوا به في مصر وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة بعد الألف(1/37)
الشيخ ابراهيم النبتيتي نزيل القاهرة المجذوب صاحب الكرامات والأحوال الباهرة ذكره المناوى في طبقات الصوفية وقال في ترجمته كان أولا حائكا في نبتيت فأجنب يوما فدخل مكانا فيه ضريح بعض الأولياء ليغتسل فيه فجذبه فخرج هائما وترك أولاده وأهله وقدم مصر فأقام بجامع اسكندر باشا بباب الخرق نحو عشرين سنة وبعضهم يسبه وبعضهم يستقله وبعضهم يخرجه لما يرى منه من تقدير المسجد ثم تحول لمسجد المره بقرب تحت الربع ثم تحول إلى بلدة نبتيت فسكنها إلى أن مات وقيل له لم خرجت من مصر قال لم أدخلها إلا باذن صاحبها إذ لم يكن لفقير دخول بدون إذن أهلها ومن فعل حل به العطب فلما استقريت بها قدم زين العابدين المناوى فلم يأذن بالجلوس فتركته واياها فما كان لفقير يدخلها أو يسكنها إلا بإذن منه خاص وكان له خوارق ومكاشفات أخبر عنه الشيخ العمدة على الحمصاني أنه كان لابن أخته زوجة وله منها ولد فقعدت يوما تلاعبه بسطح الجامع وهو صحيح سليم فقال لها أتحبيه قالت له مالك وذام قال ودعيه فإنه بعد غد وقت العصر يموت وكان كذلك وله من هذا القبيل أشياء أخر وكانت وفاته في سنة ثمان عشرة بعد الألف ودفن ببلده وعمل له أحد وزراء مصر قبة عظيمة والنبتيتي بنون مفتوحة ثم باء موحدة ثم تاء مثناة من فوق وبعدها مثناة من تحت ثم مثناة من فوق نسبة إلى قرية من أعمال الشرقية بنواحي الخانقاه السر يا قوسية ابراهيم أغا متولى جامع بني أمية بدمشق واحد أعيانها ذكره البوريني وقال هو من مماليك سلاطين زماننا آل عثمان وكان يخدم في داخل حرم السلطان وكانت خدمته هناك اقراء المماليك الصغار الذين يخدمون في داخل حرم السلطنة وكان خدم العلم برهة من الزمان فعلق في ذكره شيء من المسائل والدلائل فكثيرا ما كان يحضر مجالس العلماء فيبحث ويناظر ولما ورد إلى دمشق وصل إليها في ستة ألف فسكن في جانب سوق البزورية بزقاق هناك وكان على سمت الصلاح فسار في خدمة الجامع الأموي أحسن سيرة وعمر الحجرة المقابلة لحجرة الساعات في جهة باب جيرون وكانت مهجورة لا يميل إليها أحد ويزعمون أن بها حية عظيمة وكانت بيد رجل يقال له رمضان المرادي فلما مات لم يرغب في أخذها أحد بعده حتى قدم ابراهيم هذا فأزال ما بداخلها من البناء فصار لها صورة قابلة للبناء وقاس المعمار طريق الماء فوجده قابلا لأن يدخل إليها فشرع في عمارتها وأخذ بالعمارة اجازة من بعض قضاة الشام فلم يزل يتوسع في تعميرها حتى صارت من ألطف الأبنية وفتح لها في حائط الجامع شباكا وأضاف إليها حانوتا كان وراءها في جهة سوق الذهبيين وجعله فيها مطبخا وكان شاع بين الناس أنه يري أن يجعل هناك مستراحا فحمنوا موضع المستراح فوجدوه يقع تحت المحراب المنسوب إلى حضرة الأمام زين العابدين ابن الحسين رضى الله عنهما فغضب لذلك نقيب الأشراف بدمشق وهو زين العابدين ابن حسين بن كمال الدين بن حمزة وذهب مستشيطا بالغيظ إلى الوزير السيد محمد الأصفهاني أمير الأمراء بدمشق واشتكى من قاضي القضاة المولى عبد الرحمن الآمر بذلك فغضب الوزير لذلك ثم كتب ورقة إلى القاضي يلومه على ما وقع منه وأرسل الورقة مع النقيب وضم إليه رسولا من خدمة الديوان فلما قرأ الورقة علم أن الوشاية من النقيب ألم منه ثم قال له قم واكشف أنت على الموضع فذهب إلى المكان فلم يجد شيئا مما أنهى إلى الوزير فرجع إلى القاضي وأخبره فاستشاط القاضي منه غيظا ووقع له بسبب ذلك حقارة عظيمة وقيل أنها كانت سبب موته كما ستذكره في ترجمته واستقر ابراهيم في الحجرة وكانت سكنه إلى أن توفي قال الغزى وكانت وفاته يوم الأحد سادس صفر سنة أحدى وعشرين وألف رحمه الله تعالى(1/38)
الميرز ابراهيم الهمداني أحد علماء العجم الكبار الذين فاقوا وامتازوا وقد ذكره ابن معصوم في سلافته قال في ترجمته جامع شمل العلوم المقتنى نفائس جواهرها والمجتنى أزاهر بواطنها وظواهرها ملك أعنة الفضائل وتصرف وبين غوامض المسائل فأفهم وعرف وكان الشيخ العلامة محمد بهاء الدين بن حسين العاملي يشهد بفضله ويعترف بمقدار سموه ونبله واتفق أن سلطان العجم عباس شاه قصد زيارته فرأى بين يديه من الكتب ما ينوف على الألوف فقال له السلطان هل في العالم عالم يحفظ جميع ما في هذه الكتب فقال له لا وأن يكن فهو الميرزا ابراهيم ومن انشائه قوله نسأل الله فتح أبواب السرور بقطع علائق عالم الزور وحسم عوائق دار الغرور وتبديل الأصدقاء المحاربين بالأخلاء الروحانيين والأنزواء في زاوية العزلة والأنفراد عن مجالس السوء والمذله وصرف الأوقات في تلاقي مافات وأعداد الزاد ليوم المعاد فإن ذلك أعظم المقاصد وأعلاها وأهم المطالب وأولاها وكانت وفاته في سنة ست وعشرين وألف الشيخ أبو بكر بن أبي القاسم صائم الدهر صاحب القبة المنيرة ببيت الفقيه الزيدية ينتهى نسبه إلى اسماعيل بن محمد النجيب أخي أبي بكر الملقب بالعربادي ابن علي بن محمد النجيب بن حسن بن يوسف بن حسن بن يحيى بن سالم بن عبد الله بن حسين بن آدم بن أدريس بن حسين بن محمد النقي الجوادين علي الرضا بن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن على زيد العابدين ابن الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين كان شيخا من مشايخ الطريقة صاحب كرامات مشهورة وأحوال مذكورة روى عنه أنه قال من رآني ورأيته دخل الجنة وأموت متى شئت بإذن الله تعالى وأن شئت أكلت الطعام وأن شئت تركته عصمة من الله تعالى روى عنه السيد طاهر بن البحر وكانت وفاته في سنة اثنتين بعد الألف(1/39)
الشيخ أبو بكر بن أبي القاسم بن أحمد بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن سليمان بن أبي بكر بن أبي القاسم خزانة الأسرار بن أبي بكر المعمر بن أبي القاسم بن عمر بن علي الأهدل بن عمر بن محمد بن سليمان بن عبيد بن عيسى بن علوي بن حمحام بن عون بن الحسن بن الحسين مصغرا بن علي بن زين العابدين وفي موضع آخر وهو الظاهر عون ابن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين كذا ذكر نسب بني الأهدل جماعة وجزموا منهم السيد حسين بن الصديق الأهدل ومحمد بن الطاهر بن حسين الأهدل في كتابه بغية الطالب في ذكر أولاد علي بن أبي طالب حيث قال بعد ذكر موسى الكاظم وكونه خلف من الولد نحو ثلاثين ما بين ذكر وأنثى ومن أولاده عون وإليه يرجع نسب سيدنا الشيخ الكبير صاحب الكرامات الظاهرة أبي الحسن على الأهدل لأنه علي بن عمر الح صاحب المراوعة وأمه خديجة بنت محمد بن عمر بن أحمد بن زين العابدين بن محمد بن سليمان وفي محمد هذا اجتمع مع والده السيد الجليل الفرد صاحب المراتب العلية والعلوم الواسعة والأحلام الراسخة والطباع السليمة والمكارم الفائضة كان في عصره منقطع القرين سابقا في علوم الدين وعلى جانب عظيم من العبادة والورع والزهد والعلم والعمل وكانت أوقاته معمورة بالذكر والعبادة ونشر العلم وتوزيع الوقت على الأعمال الصالحة من التدريس والفتوى وغير ذلك وكانت لوائح العلم ظاهرة عليه من صغره حتى أن عم والدته السيد الولي الشهير أحمد بن عمر الأهدل كان يلقبه بالفقيه العالم ويشبهه بجده العارف بالله تعالى أبي بكر بن أبي القاسم وسكنه المحط من أعمال رمع وله بها الزاوية المشهورة ترجم نفسه في كتابه نفحة المندل فقال كان مولدي لنحو أربع وثمانين وتسعمائة تقريبا بقرية صغيرة بين المراوعة والحوطة وغربي القطيع تعرف بالحلة بكسر الحاء المهملة وتشديد اللام وهي غير حلة بصل بفتح الموحدة والمهملة اذهما حلتان هناك والمنسوبة لبصل هي اليمانية والمولد بالشآمية وهناك قبور أجدادي ثم انتقل بنا الوالد منها في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وتسعمائة إلى قرية السلامة المعروفة قبلي التريبة فتعلمت بها القرآن العظيم وحفظت على يد الشيخ الصالح أحمد بن ابراهيم المزجاجي المعروف بالخير ولما أكملت تعلم القرآن أمرني الوالد بتعليم أخوتي فأشتغلت بتعليمهم مع غيرهم في عريش عند مسجدنا مدة مواظبا على ترتيب قراءة القرآن في المسجد كل يوم بعد صلاة الصبح إلى الأشراق وكل ليلة جمعة أنا ومن حضر عندي بأشارة الوالد أيضا وملاحظته إذ كان له رغبة قوية وهمة علية في ذلك وغيره من أعمال البر وكثيرا ما كان يجلس في حلقة القراءة والذكر في مسجده مع أتيته حتى عمل مسجة ألفية يهلل فيها هو ومن حضر ممن لا يقرأ ليلة الجمعة وألهمت كتابة ما وقع في يدي من نحو القصص والقصائد حتى استقام خطى وصلح للتحصيل ثم أدخلني والدي مدينة زبيد لطلب العلم فكان أول طلبي في الفقه على الفقيه محمد ابن العباس المهذب وفي النحو علي محمد بن يحيى المطيب ثم أن الوالد أراد تزويجي فلم يمكني إلا مساعدته مع ما ذقته من لذة العلم فلما تزوجت اشتغل خاطري بأمر الزوجة ومراعاة حقوقها الواجبة إذ لم أكف أمرها ولا أمر الأقامة للطلب بزبيد كما كنت قبل التزويج فاستغلت عن الطلب نحو ست سنين لكني في هذه المدة لم أترك التحصيل والتعليق والمطالعة ومذاكرة من ألقاه من الطلبة لما قد تمكن في قلبي من محبة العلم وكان تزويجي في سنة ألف ثم أخذت بنا صبتي إلى تجديد الطلب بباعث رباني فقرأت على محمد بن برهان المحلى ثم قصدت زبيد أيضا للقراءة فقرأت على علي بن العباس المطيب صنو شيخنا المقدم ذكره وعلى أحمد الناشرى وابراهيم بن محمد جعمان وعلى الصديق بن محمد الخاص الحنفي وأحمد بن شيخنا الجمال محمد المطيب وعبد الباقي بن عبد الله العدني وعلى الزين بن الصديق المزجاجي ولبست الخرقة من السيد عابد بن حسين الحسيني الكشميري ومن الشيخ زين بن الصديق المزجاجي وقرأت على السيد محمد بن أبي بكر الأهدل صاحب االمقصورة وعلى عبد الله بن أحمد الضجاعي والسيد المقبول بن المشهور الأهدل ومحمد العلوي وعبد الرحمن بن داود الهندي وعبد الفتاح الصابوني وآخرين ذكرهم وذكر مقروآته عليهم ومنهم(1/40)
العارف بالله تعالى تاج الدين النقشبندي وأجازه غالب شيوخه كتابة ولفظا وله اجازات من شيوخ الحرمين وحصل بخطه كتبا كثيرة وطالع من كتب القوم ما لا يمكن حصره وله تأليف كثيرة منها نظم التحرير في الفقه ونظم الورقات ونظم النخبة واصطلاحات الصوفية ومنظومة في السواك والتعليق المضبوط فيما للوضوء كالغسل من الشروط والبيان والأعلام بمهمات أحكام أركان الأسلام وشرحان على قصيدة ابن بنت الميلق التي أولها بالله تعالى تاج الدين النقشبندي وأجازه غالب شيوخه كتابة ولفظا وله اجازات من شيوخ الحرمين وحصل بخطه كتبا كثيرة وطالع من كتب القوم ما لا يمكن حصره وله تأليف كثيرة منها نظم التحرير في الفقه ونظم الورقات ونظم النخبة واصطلاحات الصوفية ومنظومة في السواك والتعليق المضبوط فيما للوضوء كالغسل من الشروط والبيان والأعلام بمهمات أحكام أركان الأسلام وشرحان على قصيدة ابن بنت الميلق التي أولها من ذاق طعم شراب القوم يدريه صغير وكبير والأحساب العليه في الأنساب الأهدلية وأرجوزة سماها الدرة الباهره في التحدث بشيء من نعم الله الباطنة والظاهرة ذكر فيها نبذة من فؤائد التصنيف وكثيرا من مؤلفاته نظما ونثرا وقد استوفى عدتها في كتابه نفحة المندل وله أشعار كثيرة منها قوله
وفي كتب العلوم لطيف معنى ... أمضى في تطلبه حياتي
وأعمل مقلتي ويدي وقلبي ... وأضبطه على القوم الثقات
لعلى أن أفوز بغفر ذنبي ... وأظفر بالذي فيه نجاتي
وصلى الله ربي كل حين ... على أزكى الورى خير الهداة
وله من أبيات
أن كنت تطلب في الدارين تفضيلا ... وتبتغي من مليك الكون تكميلا
داوم على العلم والفعل الجميل تنل ... ذكرا جميلا وتكميلا وتوصيلا
فأطلبه وادأب على تحصيله أبدا ... وقم بتأليفه أن حزت تأهيلا
وأنفق العمر في تحقيق حاصله ... واعمر به الدهر تدوينا وتحصيلا
وقوله
وكم لله من فضل علينا ... وأفضال يحيل العقل عده
وما زالت أياديه الينا ... تغيض هباتها وتطيب مجده
فنشكره ولا نحصي ثناء ... عليه ونلزم الآناء حمده(1/41)
وكانت وفاته منتصف نهار الأحد ثالث جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وألف بقرية المحط وبها دفن والأهدل بفتح الهمزة وسكون الهاء وفتح المهملة آخره لام كما ضبط بعض ذلك اليافعي في شرح المحاسن ويكنى بأبي الأشبال ومعنى الأهدل كما قال بعض العارفين الأدنى الأقرب يقال هدل الغصن إذا دنا وقرب ولان بثمرته وفيه ايماء إلى ما كان عليه الشيخ نفع الله تعالى به من كمال التواضع لله تعالى ولعباده الناشيء عن كمال معرفته وقال بعضهم لقب بالأهدل لأنه على الأله دل انتهى وفي كتاب نظام الجواهر النقيه في بيان أنساب العصابة الأهدليه حكاية عن بعض أهل المعرفة ما لفظه أصل هذه الكلمة أعني الأهدل على الأله دل كلمتان فصارتا لكثرة الأستعمال كلمة واحدة كأنه يقال على الأله دل فأستثقلت الكلمة الثانية وأدرج بعضها في بعض لخفة النطق فقيل على الأهدل كما قيل في النسب إلى عبد شمس عبشمي وإلى عبد الدار عبدري انتهى بحروفه وقال صاحب الترجمة في كتابه نفحة المندل سمعت من بعض فضلاء الأهل أنه يقال في سبب تلقيت الشيخ بالأهدال أنه في حال صغره علقت أرجوحة بسدرة فهدلت أي تدلت عليه أغصانها لتقيه من حر الشمس ونحوه اننهي وسيادة بني الأهدل مشهورة قال ابن الأشحر في رسالته التي ألفها في انساب اشراف وادي سردد أقول طريق الأنصاف القول بشرف الأهدليين فقد تواترت بذلك المصنفات واشتهر ذكر نسبهم في كثير من مؤلفات وعلى ألسنة جماعة من المسلمين يؤمن تواطؤهم على الكذب قد ذكر بدر الدين حسين بن عبد الرحمن الأهدل في تحفة الزمن والشرجي في الطبقات وصاحب العقد الثمين وصاحب النفحة العنبرية فقال بعد أن ذكر نسب الشريف عبد الرحمن بن سالم بن عيسى بن أحمد بن بدر الدين بن موسى بن حسين بن هارون ابن محمد الكامل ابن أحمد بن جعفر بن موسى بن جعفر الصادق المشهور في سلسلة نسب الحسينيين ومن ولده أيضا بنو الأهدل يسكنون بالمراوعة مشهورون ببيت التصرف والفقه قيل وأول من تظاهر منهم بالتصوف وأخفى اسم الشرف عنه محمد الكامل ابن تقي لأجل قبض الزكاة فإن العرب إذا سمعوا بشريف منعوه الزكاة وليس لهم مرؤة أخرى وكان قد خرج من العراق ولم أعرف صورة اتصال أبي عبد الله محمد الأهدل بالشريف أحمد بن سالم انتهى بمعاه وذكر الشرجي في الطبقات أن سبب اخفاء شرفهم أن جدهم كان إذا سئل عن نسبه انتسب إلى الفقه ونحوه في تحفة الزمن وأفاد فيها أن منهم بني مطيرة بضم الميم وفتح المهملة وإنما نبهت على ذلك لأن كثيرا من الأهدليين الذين لا خبرة لهم ينكرون نسبهم إلى الأهدل ومما يدل على شرفهم قول الولي الشهير الفقيه المحدث الصوفي بدر الدين حسين بن الصديق بن حسين بن عبد الرحمن الأهدل في بعض قصائده
فإن غصني من أغصان دوحتكم ... فالله في رحمي فالرحم موصول
والمراوعة بفتح الميم وكسر الواو القرية المشهورة على مرحلة قبلي ببي الفقيه ابن عجيل وأول من توطنها منهم محمد بن سليمان فإنه قدم من العراق هو وجد السادة باعلوي أحمد بن عيسى في حدود سنة أربعين وثلثمائة فأقاما عند بني عمهما من النسب اشراف الحسنية البلدة التي إلى اليمن على قدم التصوف بوادي سردد بضم السين المهملة وسكون الراء بدالين مهملتين الأولى منهما تضم وتفتح وهو مشهور باليمن ثم بعد ذلك انتقل محمد بن سليمان المذكور إلى وادي سهام وتوطن بالمراوعة وذهب ابن عمه أحمد بن عيسى إلى حضر موت فأستوطنها وحصل لكل منهما شهرة طنانة وذرية طيبة وسيأتي في هذا الكتاب من أولادهما جماعة أن شاء الله تعالى الأديب أبو بكر بن أحمد بن علاء الدين بن محمد بن عمر بن ناصر الدين بن علي البهرا مبادى الدمشقي المعروف بابن الجوهري الأديب الشاعر المطبوع أحد المجيدين في صناعة الشعر نشأ بدمشق وكان أبوه مات وهو صغير فتعاني الأشتغال بالعلوم وقرأ على مشايخ عصره منهم الحسن البوريني أخذ عنه العربية وغيرها وتردد إلى مصر كثيرا للتجارة وأخذ عن علمائها وكتب كثيرا بخطه وحفظ وروى وكان حصل مالا كثيرا من ميراث آل إليه فصدمه الزمان فيه حتى أتلفه وكان ينظم الشعر الفصيح وجمع له ديوانا رأيته وانتخبت منه هذا القدر الذي أوردته ومن أحسنه أبياته المشهورة وفيها التفريع وهي
وما أم أفراخ تمزقن بالفلا ... بسطوة نسر كاسر بالمخالب(1/42)
وقد منعت من أن تراهن واغتدت ... تنوح وتبكي من صروف النوائب
بأوجع مني عند وشك رحيلنا ... وحث المطايا في الفلا بالحبائب
وله من قصيدة عارض بها قصيدة الملك الأمجد بهرام شاه الأيوبي التي مطلعها
عهد الصبا ومعاهد الأحباب ... درست كما درست رسوم كتابي
وأبياته هذه
أمن النوى أم فرقة الأحباب ... هطلت دموعك مثل هطل سحاب
ولقد وقفت على الربوع مسائلا ... يوما فلم تسمح برد جواب
عن جيرة كانوا بها فأجابني ... هام يناغى ناعقات غراب
سفها رجوت بأن أرد لياليا ... سلفت لنا أيام عصر شبابي
فاسلت دمع العين من آماقها ... فجرى كودق العارض السكاب
وذكرت أيام الشباب وملعبي ... بين القباب ومجمع الأتراب
ومقامنا بالأجر عين وبالنقا ... مثوى الحبائب زينب ورباب
فأجاب نطق الحال عنهم معربا ... والعمر قد ولى بحث ركاب
تبغي دنو الدار بعد بعادها ... هيهات أن ترتد بعد ذهاب
ومن مقاطيعه قوله
خيالك في عيني يلوح وكلما ... ذكرتك دمع العين يجرى على الخد
وما كان ظني بالتفرق بيننا ... إذا حكم المولى فما حيلة العبد
وقوله أيضا
أن الغريب إذا تذكر أهله ... فاضت مدامعه من الآماق
لعب الغرام بقلبه فغدا عللا الجدران يشكو كثرة الأشواق
وقوله
يا منزلا بفراديس الشآم سقى ... ربي مغانيك هطال يرويها
فلى بمنزلك السامي أخو ثقة ... فدته روحي من الدنيا وما فيها
وذكر الخفاجي في كتابه فقال في حقه شاعر عذب الكلمات حسن الذات والسمات عرائس افكاره صباح وجوهري نفثاته صحاح ورد إلى مصر مرتديا حلل الشباب المطرزة بطراز المحاسن والأداب وقد سلم لدهره في التجارة نقد عمره
إذا كان رأس المال عمرك فأحترس ... عليه من الأنفاق في غير واجب
وأنشد له في رقيب اسمه عمرو ومليح يهواه اسمه داود قوله
افدى غزالا له خال بوجنته ... مع عارض شبه واو العطف ممدود
كإنما الخال فوق الخد يحرسه ... حذار سرقة عمرو واو داود
ومما قلته في معنى ما قاله
وحاسد يرسم في صحفه ... فضلى ويخفى الذكر إذ يطرا
فأسمى لديه واو عمرو لذا ... تكتب في الخط ولا تقرأ
وأصله قول أبي نواس
أيها المدعي سليما سنماها ... لست منها ولا قلامة ظفر
إنما أنت من سليم كواو ... ألحقت في الهجاء ظلما بعمرو(1/43)
وبالجملة فإنه من أحاسن زمانه وكانت ولادته في غرة شهر ربيع الأول سنة ثمان وستين وتسعمائة وتوفي بعد الثلاثين وألف بقليل فيما أظن وبنو الجوهري هؤلاء بيت كبير بدمشق خرج منه خلق من النجباء وكان جدهم الأعلى على في بداية أمره صدرا عند أحد ملوك العجم والصدر عبارة عن قاضي العسكر وكان جليل الشأن على القدر ثم أنه رمى لمنصب وانقطع إلى الله تعالى مشتغلا بالعبادة في زاوية بهرام آباد قرية من قرى اصفهان إلى أن توفي وأول من ورد منهم إلى دمشق محمد ناصر الدين ابن علي المذكور وكان قدومه إليها في سنة أربع وثمانين وسبعمائة وكان صحب معه جواهر ومعادن فمن ثم اشتهر البيت كله ببيت الجوهري وفي دمشق محلة بالقرب من البيمارستان النوري تسمى محلة حجر الذهب سكها وعمر بها بيوتا كثيرة وتناسلت ذريته إلى علاء الدين جد أبي بكر فنشا علاء الدين هذا في نعمة طائلة وتزوج بابنة المولى بدر الدين حسن بن حسام التبريزي ويقال له الجوهري أيضا المشهور في دمشق وهو الذي صنع القماري الثلاث العظيمات التي فوق محراب الحنفية بمقصورة الجامع الأموي ولما دخل السلطان سليم إلى الشأم استقبله الجوهري المذكور وكانت له عنده الرفعة التامة وللحسن المذكور بيوت بدمشق وعمارات لطيفة ومسجد بالقرب من البيمارستان النوري عليه أوقاف دارة وجدت في بعض المجاميع أن العارف بالله تعالى المولى عبد الرحمن الجامي ورد دمشق حاجا فأنزله الحسن المذكور في بيت وأكرمه وأحمد والد أبي بكر هذا من بنت الحسن المذكور وكان صاحب كرامات ومكاشفات وأحوال باهرة وكان موسوما بعلم الكيميا فيما يقال رحمه الله تعالى والله تعالى أعلم الشيخ أبو بكر بن أحمد بن حسين بن عبد الله بن شيخ بن الشيخ عبد الله العيدروس صاحب دولة آباد أحد أجواد الدنيا الشيخ الورع العابد الناسك اليمنى التريمي ولد بمدينة تريم ونشأبها وحفظ القرآن وغيره من كتب ورسائل وصحب أباه وحذا حذوه ثم سافر إلى الديار الهندية وأقام بها في انضر عيش واجتمع بأعظم سلاطين تلك الديار في ذلك الزمان وهو المسمى بخرم شاهجان فأنعم عليه وقرر له مؤنته كل يوم من ملبوس ومطعوم وترادفت عليه الفتوحات الظاهرة والباطنة ثم قطن بمدينة دولة آباد وصار بها ملجأ للوافدين ولم يزل بها إلى أن مات رحمه الله تعالى وكانت وفاته في سنة ثمان وأربعين وألف وقبره هناك معروف يزار(1/44)
السيد أبو بكر بن أحمد بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي بكر بن علوي بن عبد الله ابن علي بن الشيخ الأمام عبد الله بن علي بن الأستاذ الأعظم الفقيه محمد المقدم ابن علي بن محمد بن علي بن علوي بن محمد بن علوي بن عبيد الله بالتصغير ابن أحمد بن عيسى بن محمد بن علي العريضي ابن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين السبط ابن علي بن أبي طالب باعلوي الشلى السيد الأجل الشافعي المذهب قال ولده محمد في مشرعه الروى سيدي الوالد حاوى الفضائل الخالد منها والتالد المتدرع جلباب الهدى والتقى المتورع الذي حل محل النجم وارتقى إلى آخر ما قال وبسط المقال ثم قال ولد بتريم في سنة تسعين وتسعمائة وحفظ القرآن على المعلم الأديب عمر بن عبد الله الخطيب ورباه والده وأدبه معلمه بأحسن تربية ومات أبوه وهو دون الأحتلام فقام بتربيته شيخه شيخ الأسلام عبد الرحمن بن شهاب الدين ثم اشتغل بتحصيل العلوم الشرعية فقرأ الفقه على شيخه المذكور وقرأ عليه في الحديث والتفسير والتصوف والعربية وأخذ ذلك عن غيره منهم السيد الجليل عبد الرحمن بن محمد بن علي بن عقيل السقاف والعارف بالله تعالى أبو بكر بن علي المعلم وأدرك العارف بالله تعالى محمد بن عقيل مديحج وصحب الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس ولازمة في دروسه وألبسه الخرقة كل هؤلاء وأذنوا له في لباسها ثم سافر إلى الواديين وادي دوعن ووادي عمد المشهورين وأخذ بهما عن جماعة من العارفين ثم أشيع في تريم بأنه يريد الحج في ذلك العام وكتبت له والدته وبعض مشايخه يعتبونه في عدم استشارتهم فعلم إنه نودى حيث لم يخطر له الحج فحج على قدم التجريد وزار جده سيد المرسلين وجاور بالمدينة أربع سنين وأخذ بالحرمين عن جماعة من العلماء منهم السيد عمر بن عبد الرحيم وأحمد بن علان والشيخ أحمد الخطيب والشيخ عبد القادر الطبري والشيخ محمد المنوفي والشيخ أبو الفتح بن حجر وأخذ العربية عن عبد الملك العصامي ودأب في تحصيل الفضائل إلى أن أحاط علما بالمهم من الفروع والأصول ثم ساح فوصل إلى بندر عدن وأخذ بها عن الشيخ أحمد بن عمر العيدروس ولازم صحبته كثيرا ثم نوى الرحلة إلى الديار الهندية فلما استشار شيخه صرفه عن هذه النية وأخذ له من نائب اليمن مراسيل إلى والي مدينة تريم في أمور تتعلق بخويصة نفسه فتمت له ولما وصل إلى بلده وذلك سنة أربع عشرة وألف تزوج ولازم الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس وقرأ عليه أكثر من مائة كتاب من الكتب المشهورة وهي في معجمه مذكورة منها الأمهات الست ومحاسن أسفار التصوف ولما مات شيخه أبو بكر بن علي المعلم أمره جماعة من المشايخ بالجلوس للدرس في محله في مسجد آل باعلوي الدرس العام بعد العشاء فتوقف لكون هذا الدرس يحضره جماعة من أكابر العلماء وكثيرون من الأدباء والفضلاء إلى أن رأى الأستاذ الأعظم الشيخ الولي عبد الله باعلوي يأمره بالجلوس فأنشرح صدره ولما درس حضره الأجلاء وكان من أحسن أهل زمانه قراءة وبيانا وفتح الله تعالى له ما استغلق على كثير ولازمه جماعة في منزله لقراءة بعض الفنون وكان في الغالب من السنين يختم أحياء علوم الدين وأخذ عنه خلق ولبسوا منه الخرقة وممن أخذ عنه السيد الجليل عبد الله بن عقيل والشيخ جعفر الصادق ابن زيد الدين العيدروس قبل رحلته إلى الهند والسيد عبد الله بن حسين يا فقيه صاحب كنور قبل سفره من تريم وبينه وبين هذا الأخيرين مكاتبات وكان له مع أدباء عصره مجالس وتنزهات ويقال أن بعض أصحابه جمعها في ديوان وكان فائقا في الظرف والملح حافظا للسيرة النبوية وتراجم السلف والصالحين وتواريخ المتقدمين متقنا لما يعرفه ثبتا فيما ينقله له يد طولى في علم الأدب وصنف عدة كتب ورسائل ومختصرات منها كتاب في فضل رمضان والصيام وكان يقرأ منه كل ليلة من ليالي رمضان بعد التراويح واختصر كتاب الغرر للسيد محمد بن علي خردولة تعليقات على الأحياء والعوارف ورسائل ابن عباد وله في الاظ غريبة في اللغة على ترتيب نهاية ابن الأثير وله مجموع جمع فيه مقروآته ومسموعاته ومشايخه وتاريخ وفيات الأعيان من أهل الزمان وشرع في جمع تاريخ عام لأهل عصره وماجريات دهره لكنه لم يتم وله نظم حسن لكنه قليل بل قيل أنه بله قبل موته وكان كثير المطالعة للكتب له جلد عظيم على قراءتها فربما استوعب المجلد(1/45)
الضخم في يوم أو ليلة ويقال أنه قرأ الأحياء في عشرة أيام وهذا أمر عجيب بالنسبة إلى أهل هذا الزمن وإنه كان حكى عن بعض الحفاظ ما هو أعظم من هذا فقد قرأ مجد الدين الفيروزابادي صحيح مسلم في ثلاثة أيام وذكر القسطلاني أنه قرأ البخاري في خمسة مجالس وبعض مجلس وذكر الذهبي أن الحافظ أبا بكر الخطيب قرأ البخاري في ثلاثة مجالس قال وهذا شيء لا أعلم أحدا في زماننا يستطيعه والذي في ترجمته أنه قرأه في خمسة أيام وأظنه الصواب انتهى وذكر السخاوي أن شيخه الحافظ ابن حجر قرأ سنن ابن ماجه في أربعة مجالس وصحيح مسلم في أربعة مجالس وكتاب النساى الكبير في عشرة مجالس كل مجلس نحو أربع ساعات ومجمع الطبراني الصغير في مجلس واحد بين الظهر والعصر وهذا أسرع ما وقع له وفي تاريخ الخطيب أن اسماعيل ابن أحمد النيسابوري قرأ البخاري في ثلاثة مجالس يبتدى من المغرب ويقطع القراءة وقت الفجر ومن الضحى إلى المغرب والثالث من المغرب إلى الفجر وحكى أن حافظ المغرب العبدوسي قرأ البخاري بلفظه أيام الأستسقاء في يوم واحد قال وكان الوالد يجمع جماعة يسبحون ألف تسبيحة يهديها لبعض الأموات ويهللون سبعين ألف تهليلة يهديها لبعضهم وكان أهل تريم يعثنون بهذا ويوصى بعضهم بمال لذلك وكان هو المتصدي لذلك والقائم به وهذا المذكور تداوله الصوفية قديماوحديثا وأوصى بعضهم بالمحافظة عليه وذكروا أن الله تعالى يعتق به رقبة من أهدى له وأنه ورد في الحديث وذكر الأمام الرافعي أن شابا كان من أهل الكشف ماتت أمه فبكى وصاح فسئل عن ذلك فقال أن أمي ذهبوا بها إلى النار وكان بعض الأخوان حاضرا فقال اللهم أني قد هللت سبعين ألف تهليلة وإني أشهدك أني قد أهديتها لأم هذا الشاب فقال أخرجوا أمي من النار وأدخلوها الجنة قال المهدي المذكور فحصل لي صدق الخبر وصدق كشف الشاب ولكن قال ابن حجران الخبر المذكور وهو من قال لا إله إلا الله سبعين ألفا فقد اشترى نفسه من النار باطل موضوع قال الحافظ النجم الغيطى لكن ينبغي للشخص أن يفعل ذلك اقتداء بالسادة الصوفية وامتثالا لأقوال من أوصى به وتبر كابأفعالهم وقد ذكره الولي العارف بالله تعالى سيدي محمد بن عراق في بعض رسائله قال وكان شيخه يأمر به وأن بعض أخوانه يهلل السبعين ألف ما بين الفجر وطلوع الشمس قال وهذه كرامة من الله تعالى وأما التسبيح فله أصل فقد أخرج الطبراني في الأوسط والخرائطي عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال من قال إذا أصبح سبحان الله وبحمده ألف مرة فقد اشترى نفسه من الله وكان آخر يومه عتيق الله قال النجم الغيطى وهذه فائدة عظيمة فينبغي أن يحافظ عليها قال وكان الوالد له اعتناء تام بالذكر لا سيما قراءة القرآن وكان يتهجد ويصلي الوتر مع مقدمته كل ليلة ثلاث عشرة ركعة وكان يحث أصحابه على التهجد وكا يقول تعود القيام آخر الليل ولو أنك تلعب وكان يعسر عليه الصوم فلا يصوم إلا رمضان وربما صام ستا من شوال قال بعض العلماء وما كان ذلك إلا لحدة ذهنه فكان لا يطيق الصوم وكان يجتزى باليسير من الغذاء ومن الملبس ومن الملاذ الدنيوية كثير التقشف طارحا للتكلف كثير الأحتمال وكان يؤثر العزلة على الأجتماع وكان كثير الشفقة على أصحابه كثير الأعتناء بأقاربه مبالغا في تعظيم العلماء والأولياء وكان يكره المدح في المراسلات والمكاتبات وكان لا يحب إظهار الكرامات ويتأذى من خرق العادات وكان إذا دعالا حد بشيء استجاب الله دعاءه وإذا توسل به أحد ممن يعتقده إلى الله تعالى حصل له مراده وما عاداه أحد إلا رجع وأعتذر إليه وما مكر به أحد إلا رجع مكره عليه قال ولده ومما وقع لي معه أني كنت أرى أنه يطلع على ما يصدر مني حال غيبتي عنه فإذا اشتغلت بطاعة قابلني بوجه مسرور وإذا اشتغلت بلعب قابلني بضد المذكور ولما شاورته في السفر إلى الهند قال أرى أن المدة قرب انقضاؤها وكنت أود أنك تحضر وفاتي فقلت أتخلف عن السفر فقال سافر فأنت في وديعة الله تعالى وما أراده سيكون وكان الأمر كما ذكر فكان انتقاله لخمس بقين من صفر سنة ثلاث وخمسين وألف وقبض وهو جالس محتب بالحبوة في دهليز داره التي بالقرب من مسجد بني علوي من غير مرض ظاهر بل كان يشتكي صدره فقال له بعض أصحابه ممن له اعتناء بالطب دواك كذا وكذا فقال له هذا داء عضال مشعر بالأرتحال وانتقل قبل العصر وشكوا(1/46)
في موته فبيتوه في داره وبات الناس يقرؤن عليه وصلوا صبح ثاني يوم في الجبانة ودفن بمقبرة زنبل في القبر الملاصق لوالده رحمه الله تعالى وآل باعلوى منسوبون إلى علوي وهذه النسبة وأن لم تكن من وضع العربية لكنها معروفة لأهل الديار الحضر موتية فإنهم يلزمون الكنية الألف بكل حال على لغة القصر فيقولون لبنى علوي باعلوي ولبنى حسن باحسن ولبنى حسين با حسين وعلوي هو ابن عبيد الله بن أحمد بن عيسى فإنه جدهم الأكبر الجامع لنسبهم ونسبهم مجمع عليه عند أهل التحقيق وقد أعتنى ببيانه جمع كثير من العلماء وذكر بعضهم أن السادة بني علوي لما استقر وابحضر موت أراد بعض أئمة ذلك الزمان أن يؤكد تلك النسبة المحمد فطلب منهم تصحيح نسبهم بحجة شرعية فسافر الأمام الحافظ المجتهد أبو الحسن علي بن محمد بن جديد إلى العراق وأثبت نسبهم وأشهد على ذلك نحو مائة عدل ممن يريد الحج ثم أثبت ذلك بمكة وأشهد على ذلك جميع من حج من أهل حضر موت فقدم هؤلاء الشهود في يوم مشهود وشهدوا بثبوت نسبهم فعند ذلك انقشعت سحب الأوهام وتبلجت غرة الشرف وأميط عنها اللثام ولقد أحسن من قالفي موته فبيتوه في داره وبات الناس يقرؤن عليه وصلوا صبح ثاني يوم في الجبانة ودفن بمقبرة زنبل في القبر الملاصق لوالده رحمه الله تعالى وآل باعلوى منسوبون إلى علوي وهذه النسبة وأن لم تكن من وضع العربية لكنها معروفة لأهل الديار الحضر موتية فإنهم يلزمون الكنية الألف بكل حال على لغة القصر فيقولون لبنى علوي باعلوي ولبنى حسن باحسن ولبنى حسين با حسين وعلوي هو ابن عبيد الله بن أحمد بن عيسى فإنه جدهم الأكبر الجامع لنسبهم ونسبهم مجمع عليه عند أهل التحقيق وقد أعتنى ببيانه جمع كثير من العلماء وذكر بعضهم أن السادة بني علوي لما استقر وابحضر موت أراد بعض أئمة ذلك الزمان أن يؤكد تلك النسبة المحمد فطلب منهم تصحيح نسبهم بحجة شرعية فسافر الأمام الحافظ المجتهد أبو الحسن علي بن محمد بن جديد إلى العراق وأثبت نسبهم وأشهد على ذلك نحو مائة عدل ممن يريد الحج ثم أثبت ذلك بمكة وأشهد على ذلك جميع من حج من أهل حضر موت فقدم هؤلاء الشهود في يوم مشهود وشهدوا بثبوت نسبهم فعند ذلك انقشعت سحب الأوهام وتبلجت غرة الشرف وأميط عنها اللثام ولقد أحسن من قال
وجحود من جحد الصباح إذا بدا ... من بعد ما انتشرت له الأضواء
ما ذاك أن الشمس ليس بطالع ... بل أن عينا أنكرت عمياء(1/47)
وجديد المذكور بفتح الجيم ودالين مهملتين بينهما تحيتة أخو علوي المذكور وله أخ آخر شقيق اسمه بصري كانا أمامين عالمين أفردت ترجمتهما بالتأليف ولهما ذرية اشتهر منهم جماعة بالعلوم وتوفي الثلاثة بقرية سمل بضم المهملة وفتح الميم وهي على نحو ستة أميال من مدينة تريم سميت باسم الذي اختطها ولا يعرف الآن إلا قبر علوي وقيل أن جديدا انتقل ببيت جبير وكانت رياسة العلم والفضل لبنى بصري ثم انقرضوا في أثناء القرن السادس وانتقلت الرياسة لبنى جديد بن عبد الله ثم انقرضوا على رأس السادسة واختص الذكر المخلد ببني علوي فطبقوا الأرض وعم نفعهم الطول والعرض ذكرهم باق على صفحات الزمان معلوم عند القاضي والدان وتوطنهم حضر موت أن الله تعالى لما أراد بأهلها خيرا أهدى إليهم السيد المذكور فاستقر بها هو وأهله ومواليه قاطبة وتديرها وكان سبب هجرة جدهم أحمد بن عيسى من البصرة وماوالاها من البلاد ما حصل بها من الفتن والأهوال حتى وجبت الهجرة منها فهاجر منها سنة سبع عشرة وثلثمائة وسافر معه ولده عبد الله لصغره وتخلف ولده محمد على أمواله واستمر محمد بالبصرة إلى أن توفي بها وارتحل مع الأمام أحمد من بني عمه اثنان أحدهما محمد بن سليمان بن عبيد بن عيسى ابن علوي بن محمد حمحام بن عون بن موسى الكاظم جد السادة بني الأهدل وتقدم الكلام عليهم والثاني جد السادة بني قديم بضم القاف مصغرا وسيأتي ذكر جماعة منهم وتوطن جد السادة المهادلة السيد الكبير جد بني قديم بوادي سردد بضم المهملة وسكون الراء وضم الدال المهملة المكررة وهذان الواديان مشهوران باليمن خرج منهما كثيرون اشتهروا بالفضل والولاية وقد ألف الشيخ العلامة محمد بن أبي بكر الأشخر رسالة سماها در السمطين فيمن بوادي سردد من ذرية السبطين فقال جملة آيات ثم قدم يعنى أحمد بن عيسى المدينة وأقام بها ذلك العام وفي هذه السنة دخل أبو طاهر بن أبي سعيد القرمطي مكة بعسكر يوم التروية والناس حول الكعبة ما بين مصل وطائف ومشاهد فدخل المسجد الحرام بفرسه وركض بسيفه وهو سكران ووضع هو وجماعته السيف وقتلوا في المطاف ألفا وسبعمائة ورموا بهم في بئر زمزم وقتلوا خارج المسجد أكثر من ثلاثين ألفا وملؤا بهم الآبار والحفر ونهبوا الديار وسبوا الصغار وأخذوا خزانة الكعبة وما فيها من القناديل والكسوة والباب وقسم ذلك بين أصحابه وطلع على الباب وأنشد
أنا بالله وبالله أنا ... يخلق الخلق وأفنيهم أنا
ولم يسلم الأمن أختفى في الجبال ولم يقف بعرفة ذلك العام إلا قليل وأمر بقلع الميزاب فطلع الكعبة رجل فأصيب بسهم من أبي قبيس فحرميتا وطلع آخر فسقط ميتا فهابوا فقال أبو طاهر اتركوه حتى يأتي صاحبه يعني المهدي الذي يزعم أنه منهم وأراد أخذ المقام فلم يظفر به لأن سدنته غيبوه في بعض الشعاب وصار بزندقته يقول
فلو كان هذا البيت لله ربنا ... لصب علينا النار من فوقنا صبا
لا ناحججنا حجة جاهلية ... مجللة لم تبق شرقا ولا غربا
وأنا تركنا بين زمزم والصفا ... جنائز لا تبغي سوى ربها ربا(1/48)
ويقال أن عسكره سبعمائة نفس فلم يطق أحدرده خذلانا من الله تعالى وحمل الحجر الأسود معه يريد أن يحول إلى بيت بناه في هجر وخطب لعبد الله المهدي أول الخلفاء العبيديين الفاطميين وكان أول ظهوره وكتب بذلك إلى عبد الله فكتب جوابه أن أعجب العجب أرسالك بكتبك إلينا ممتنا بما ارتكبت في بلد الله الأمين من انتهاك حرمة بيت الله الحرام الذي لم يزل محترما في الجاهلية والأسلام وسفكت فيها دماء المسلمين وفتكت بالحجاج والمعتمرين وتجرأت على بيت الله تعالى وقلعت الحجر الأسود الذي هو يمين الله في أرضه يصافح به عباده وحملته إلى منزلك ورجوت أن أشكرك على ذلك فلعنك الله ثم لعنك الله والسلام على من سلم المسلمون من لسانه ويده وقدم في يومه ما ينجو به في غده فلما وصل إلى القرمطي انحرف عن طاعته وبعد عود القرمطي إلى هجر رماه الله في جسده بداء حتى تقطعت أوصاله وتناثر الدود من لحمه وطال عذابه واستمر الحجر عندهم نحو عشرين سنة طمعا أن يتحول الحج إلى بلدهم وبذل لهم يحكم التركي مدبر الخلافة خمسين ألف دينار في رد الحجر فأبوا وكذلك أرسل المنصور بن القائم بن المهدي العبيدي إلى أحمد بن سعيد أخي طاهر بخمسين ألف دينار ليرده فلم يفعل ولما أيست القرامطة من تحويل الحج إلى بلدهم ردوه وحملوه على جمل هزيل فسمن ولما ذهبوا به إلى بلدهم مات تحته أربعون جملا وقالوا أخذناه بأمر ورددناه بأمر وقد طال الكلام وهو وان كان خارجا عن المقصود ففيه عبرة لمن اعتبر واتعاظ بحال من مضى وغبر ولنعد لما نحن بصدده وفي سنة ثماني عشرة وثلثمائة حج الأمام أحمد بن عيى ومن معه من بني عمه ومواليه ولم يتيسر لهم التوطن بأحد الحرمين وسألوا الله أن يختار لهم ما يرضاه من البلاد ثم رأوا أن أقليم اليمن سالم من المحن والفتن في ذلك الزمن مع ما ورد فيه من الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم عليكم باليمن إذا هاجت الفتن فإن قومه رجاء وأرضه مباركة وللعبادة فيه أجر كبير وأول مدينة أقام بها مدينة الهجرين وهي من مدينة تريم على نحو مرحلتين ثم سكن قارة بني جشير بضم الجيم وفتح الشين المعجمة ثم ياء تحتية ثم راء تصغير جشر بالتحريك وهو الرجل الغريب ولم تطب له فرحل عنها إلى الحسيسة بضم الحاء وفتح السينين المهملتين بينهما ما تحتية مشددة مكسورة وهي قرية على نصف مرحلة من تريم واستوطنها وأقام بنصرة السنة حتى استقامت بعد الأضمحلال وطلعت شمسها بعد الزوال وأظهر أمامة الأمام الشافعي بنشر مذهبه وأقعد النسب الهاشمي في أعلى رتبة وتاب على يديه خلق كثير ورجع عن البدعة إلى السنة جمع غفير ولم يزل كذلك حتى مات بالحسيسة ثم خربت الحسيسة واستوطن أولاده سمل واشتروا بها أموالا ثم بعد برهة من الزمان ارتحلوا عنها وسكنوا بيت جبير بجيم مضمومة فموحدة مفتوحة فمهملة تصغير جبر ثم توطنوا مدينة تريم وكان جلوسهم بها سنة أحدى وعشرين وخمسمائة وأول من سكنها منهم السيد علي بن علوي الشهير بخالع قسم وأخوه سالم ومن في طبقتهما ما من بني بصري وجديد وهي بالمثناة الفوقية فراء فتحتية وآخرها ميم بوزن عظيم سميت باسم الملك الذي اختطها وهو تريم بن حضر موت وقيل أن الذي اختطها الكامل ومن أسمائها الغناء بفتح الغين المعجمة والنون المشددة سميت بذلك لكثرة أشجارها وأنهارها وتسمى مدينة الصديق رضي الله عنه لأن عامله زياد بن لبيد الأنصاري لما عاد لبيعة الصديق أول من أجابه أهل تريم ولم يختلف عليه أحد منهم وبعث للصديق بذلك فدعا الله بثلاث دعوات أن تكون معمورة وأن يبارك في مائها وأن يكثر فيها الصالحون ولهذا كان الشيخ محمد بن أبي بكر باعباد يقول أن الصديق يشفع لأهل تريم خاصة وكان إذا ذكرت عنده يقول سعد أهلها وأعظم خصائص هذه المدينة العظيمة هي الذرية السنية الكريمه فلقد شرفت بهم وسمت وأتسمت من الفضائل بما أتسمت فهي بهم كالعروس تتهادى بين أقمار وشموس ومن ثم قال بعض الصوفية إنهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم أني لإجد نفس الرحمن من قبل اليمن فأكرم بها من بلدة زكت بأطيب النعال وشرفت بأهل الكمال وما مدحت الديار إلا لكونها محلا للأخيار وقد تكلم على جميع ما يتعلق بها محمد الشلي بن أبي بكر صاحب الترجمة في كتابه المشرع المروى وبين أخبارها كل البيان وأحسن كل الأحسان فليراجعه من أراد الوقوف على ذلك(1/49)
أبو بكر بن أحمد قعود النسفي المصري الحنفي الرفاعي الطريقة المنجم المشهور وصاحب الأوفاق والأعمال العجيبة كان من أكابر علماء الظاهر والباطن وله في علم الحرف والجفر والأسماء الملكة التامة وكان مشهور البركة بمصر في التمائم والعزائم واشباهها وله معرفة تامة في علم الأوفاق وكانت الوزراء والأمراء والأمراء بمصر يأتون إليه للتبرك به وجلالته أشهر من أن تذكر ولد بمصر وبها نشأ وقرأ على والده وعلى الشمس الرملي والنور الريادي وعلى بن غانم المقدسي ومن في طبقتهم وجاور بالحرمين ثمانية وعشرين سنة وأخذ بها علوم الطريق عن السيد صبغة الله السندي وعلى تلميذة أحمد الشناوي الخامي وأجازه كتابة ولفظا وكان بينه وبين السيد العارف بالله تعالى أحمد بن الشيخ أبي بكر بن سالم صاحب عينات محبة أكيدة بحيث لا يفارق كل منهما الآخر في غالب الأوقات وأحذ كل منهما عن الآخر ثم رجع إلى مصر وأقام بها وقدم إلى بيت المقدس وأخذ بها طريق الرفاعية عن العارف بالله تعالى محمد العملي ودخل دمشق مرات وسافر إلى قسطنطينية وكان آخر دخلاته إلى دمشق في سنة ثلاث وخمسين وألف وكان الوزير محمد باشا سبط رستم باشا الوزير الأعظم محافظا بها وبالغ في أكرامه وكان وهو بالروم بشره بالوزارة العظمى ومجىء الختم السلطاني له إلى دمشق وعين اليوم الذي يجىء فيه فلما جاءه خبر ذلك استحضره وقال له جاء خبر من طرف السلطنة بالعود إلى محافظة مصر فأطرق مليا ثم قال له ختم الوزارة دخل إلى حدود دمشق فصادف مجيئه في ثاني يوم وسافر الوزير وأقام هو بدمشق ثم سار أثره إلى الروم فأكرمه وحصل له من جانبه مال طائل وجعل له من الجرايات بمصر ما يقوم به وكان له من هذا القبيل أشياء كثيرة منها أنه كان في مجلس بعض الوزراء بمصر فمسك له كتابا كبيرا وقسمه شطرين وقال له ما مقدار كل واحد من الشطرين فأستخرجه في الحال وذكر في بعض محاضراته أن ثلاثة أشخاص من المهرة في علم الحرف قصدوا مكة وحدانا فنفد ما معهم من الماء والزاد وهم في برية فقراء فقال أحدهم أنا نخدم هذا العلم هذه السنين وهذا محل اتلاف النفوس فليغمل كل مناو فقالا جل الماء والماكل والمركب فنزل كل منهم وفقا فلم تمض هنيهة إلا وقد ظهر لهم في المكان الذي كانوا نزولا فيه عين ماء عذبة وجمال يقود ثلاثة جمال ورأوا في بعض ذلك الجبل قرية عامرة لم يكونوا رأوها قبل ذلك فحمدوا الله تعالى بجميل أسمائه وأثنوا على جزيل نعمائه قال والدي رحمه الله تعالى وقد اجتمعت به في دمشق والقاهرة وكانت وفاته في يوم الخميس رابع عشر شعبان سنة اثنتين وستين وألف بمصر ودفن بتربة المجاورين(1/50)
الشيخ أبو بكر بن اسماعيل ابن القطب الرباني شهاب الدين الشنواني وجده الأعلى ابن عم سيدي على وفاء الشريف الوفائي التونسي الأمام العلامة الأستاذ علامة عصره في جميع الفنون كان في عصره أمام النحاة تشد إليه الرحال للأخذ عنه والتلقي منه مولده شنوان وهي بلدة بالمنوفية وتخرج في القاهرة بابن قاسم العبادي ومحمد الخفاجي والد الشهاب وأخذ عن الشهاب أحمد بن حجر المكي وجمال الدين يوسف ابن زكريا وابراهيم بن عبد الرحمن العلقمي والشمس محمد الرملي وتفوق وكان كثير الأطلاع على اللغة ومعاني الأشعار حافظ المذاهب النحاة والشواهد كثير العناية بها حسن الضبط أخذ الناس عنه كثيرا وعليه تخرجوا وانتهت إليه الرياسة العلمية ولازمه بعد الشهاب ابن قاسم جل تلامذته وممن لازمه وتخرج به الشهاب أحمد الغنيمي وعلى الحلبي وابن أخته الشهاب الخفاجي وعامر الشبراوي وسرى الدين الدروري ويوسف الفيشي ومحمد بن عبد الرحمن الحموي والشمس البابلي وابراهيم الميموني وغيرهم من أكابر العلماء وابتلى بالفالج فمكث فيه سنين وهو لا يقوم من مجلسه إلا بمساعد وكانت تذهب الأفاضل إلى بيته ولا تنصرف عن ناديه وألف المؤلفات المقبولة منها حاشية على متن التوضيح في مجلدات لم تكمل وحاشية على شرح القطر للفاكهي لم تكمل وله حاشية أخرى على شرح القطر للمؤلف لم تكمل وحاشية على شرح الشذور للمصنف أيضا وحاشية على شرح الأزهرية للشيخ خالد وأخرى على شرح الشذور للمصنف أيضا وحاشية على شرح الأزهرية للشيخ خالد وأخرى على شرح القواعد له وله حاشية على البسملة والحمدلة للشيخ عميره وله شرح على البسملة والحمدلة للقاضي زكريا وشرح على الأجروميه مطول جمع فيه نفائس الفوائد وله حاشيتان على شرح الشيخ خالد الأزهري على الأجروميه وشرح على ديباجة مختصر الشيخ خليل للناصر اللقاني اللملكي وشرح الأسئلة السبع للشيخ جلال الدين السيوطي التي أوردها على علماء عصره حيث قال ما تقول علماء العصر المدعون للعلم والفهم في هذه الأسئلة المتعلقة بألف باتاثا إلى آخرها ما هذه الأسماء وما مسمياتها وهل هي أسماء أجناس أو أسماء أعلام فإن كان الأول فمن أي أنواع الأجناس هي وأن كان الثاني فهي شخصية أو جنسية فإن كان الأول فهل هي منقولة أومر تجلة فإن كان الأول فمم نقلت أمن حروف أم أفعال أم أسماء أعيان أم مصادر أم صفات وأن كانت جنسية فهل هي من أعلام الأعيان أو المعاني إلى آخر ما قال وكان بلغ شرحه لملك المغرب مولاي أحمد المنصورين مولاي محمد الشيخ فأرسل له عطية جزيلة ورجا منه أرسال نسخة منه وهذا الشرح في مصر معدوم على ما سمعت ويقال أنه لا يوجد إلا بأرض المغرب فإن نسخته غار عليها بعض المغارية فذهب بها معه إلى المغرب وذكره ابن أخته الخفاجي وعبد البر الفيومي وأطالا في ترجمته وأنشد له الخفاجي قوله وذلك ما كتبه إليه في صدر كتاب
سلام شداه يملأ الأرض نكهة ... تبلغه مني إليك يدا الصبا
وتحمله هوج الرياح إلى العلا ... وتنشره في الأفق شرقا ومغربا
وسقى ديار الروم والجو عايس ... رذاذ كمال حل فيها وطنبا
ورد عليه الغيم لؤلؤ طله ... ففضض هامات النبات وذهبا
لئن كان عن مصر تواري شهابها ... فقد لاح في دار الخلافة كوكبا
وما كان تأخيري جوابك عن سدى ... ولكن ضعفي للقريحة شيبا
وشرقني دمع الأسى وأهانني ... على أن قلبي من فراقك غربا
نأت بك ياقس الفصاحة بلدة ... وخلفتني بعد الفراق معذبا
فليت الذي شق القلوب يرمها ... وليت الذي ساق القطيعة قربا
وكان كثيرا ما يتمثل بهذين البيتين
وقائلة أراك بغير مال ... وأنت مهذب علم أمام
فقلت لأن مالا قلب لام ... وما دخلت على الأعلام لام
قال مدين القوصوني وكانت وفاته عقب طلوع الشمس من يوم الأحد ثالث ذي الحجة سنة تسع عشرة بعد الألف وبلغ من العمر نحو الستين ودفن بمقبرة المجاورين ولما بلغ ابن أخته الخفاجي موته قال مضمنا لبيت الشواهد المستشهد به على الترخيم في غير النداء
رحم الله أوحد الدهر من قد ... كان من حلية الفضائل حالي(1/51)
ذاك خالي وسلوتي إذ نعوه ... ليس حي على المنون بخالي
وقال أيضا يرثيه بهذه الأبيات وفيها لزوم مالا يلزم وهي
تبا لقلب عليك اليوم ما احترقا ... وناظر دمعه في ذا المصاب رقا
وغصة وشجى في القلب سوغها ... دمع به ناظر المحزون قد شرقا
وفرقة أمنتنا كل حادثة ... من الزمان ولم تترك لنا فرقا
رضيع ثدي الندى خدن العلا حسبا ... من مهده لمقر اللحدما افترقا
جاؤا به فوق أعناق مطوقة ... نداه قد جللت من دوحها ورقا
قوم بنار الجوى تشوى قلوبهم ... قد صيروها قرى هم لهم طرقا
فطيبوه بطيب الحمد متزرا ... رداء حمد على الأيام ما خرقا
والدمع جار عليه قد طفا وطغى ... لولا سفينة تابوت له غرقا
الشيخ أبو بكر حسين بن محمد بن حسين بن الشيخ عبد الله العيدروس الضرير اليمنى نزيل مكة المكرمه السيد الكبير العلم صاحب الأحوال والمناقب ولد بتريم سنة سبع وتسعين وتسعمائة وحفظ القرآن وكف بصره وحفظ بعض المتون واشتغل وسمع بقراءة أخيه علوي وغيره على مشايخ عصره وصحب أباه وأعمامه ولبس الخرقة الشريفة من كثيرين وبرع في الحديث والفقه والتصوف وهو الغالب عليه وأخذه عن جمع كثيرين ثم رحل إلى مكة المشرفة فحج وزار جده النبي صلى الله عليه وسلم وعاد إلى مكة ولقى بالحرمين جماعة منهم السيد عمر بن عبد الرحيم البصري والشيخ أحمد بن علان وغيرهما من أكابر العلماء وأخذ عنه جماعة ولبسوا منه الخرقة ثم جلس للتدريس وانتفع به جماعة من العلماء قال السيد محمد الشلي وكنت ممن أخذ عنه وصحبته نحو عشر سنين وكان من أكمل المتأخرين وكان له خلق لطيف مع الوقار والهيبة عفوا عمن هفا محسنا إلى من أساء وكان أكثر كلامه في الوعظ والنصيحة بألفاظ حسنة فصيحة ولم يزل بمكة محمود السيرة إلى أن انقضت مدة عمره فتوفى بها وكانت وفاته لتسع خلون من صفر سنة ثمان وستين بعد الألف ودفن بالمعلاة بالحوطة التي فيها قبور آل باعلون وقبره معروف يزار الشيخ أبو بكر بن حسين بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد ابن علي بن محمد بن أحمد بن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم صاحب بيجافور السيد الولي العارف السخى ولد بمدينة تريم ونشأبها وحفظ القرآن وصحب العارفين من أهل زمانه منهم الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس وولده زين العابدين والسيد القاضي عبد الرحمن بن شهاب الدين وأخذ عن أخيه القاضي أحمد بن حسين وغلب عليه علم التصوف ثم رحل إلى اليمن فقصد السيد العارف الولي الشيخ عبد الله بن علي بالوهط وصحبه مدة وأخذ عنه وألبسه خرقة التصوف ثم رحل إلى الهند وأخذ عن شمس الشموس الشيخ محمد بن عبد الله العيدروس ببند رسورت ولازمه ملازمة تامة وألبسه الخرقة وأذن له بالألباس ثم بعد انتقال شيخه ساح في تلك البلاد وأخذ عن جماعة واجتمع بالملك عنبر وكانت حضرته مجمع العلماء والأدباء ثم بعد موت الملك عنبر رحل إلى بيحافور واتصل بسلطانها السلطان محمود بن السلطان ابراهيم الشهير بعادل شاه فجعله من خاصة أحبائه وخواص جلسائه فتدير بيجافور واستقر بها وصار ملجأ للوافدين وكان كريما طلق الوجه فعم صيته تلك الأقطار وطار ذكره فيها وكف بصره في آخر عمره وابتلى بداء عضال إلى أن مات وكانت وفاته في سنة أربع وسبعين وألف بمدينة بيجافور ودفن بمقبرة السادة قريبا من السور رحمه الله تعالى(1/52)
السيد أبو بكر بن سالم بن أحمد شيخان بن علي بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله عبود بن علي بن محمد مولى الدويلة ابن علي بن علوي بن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم محمد بن علي بن محمد بن علي بن علوي بن عبيد الله بن أحمد بن عيسى بن محمد بن علي العريض ابن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم هذا نسب آل شيخان سادات مكة المشرفة كثر الله تعالى منهم وأبو بكر هذا من أبرع أهل بيته سيدا فائقا وكان شهما سريا فاضلاً أديبا ولد بمكة ونشأبها وتربى تحت حجر والده وصحبه ولزم العلم والعبادة وسلك طريق أجداده وعني بطريق الصوفية وأخذ عن الشيخ العارف بالله تعالى أحمد بن محمد المدني الشهير بالقشاشي وعن السيد الجليل محمد بن عمر الحبشي وحضر دروس الشيخ محمد بن علاء الدين البابلي حين مجاورته بمكة وصحب جماعة من أكابر العارفين منهم السيد الجليل علوي بن عقيل والسيد محمد بن علي بلفقيه الشهير كسلفه بمكة بالعيدروس وأكب على كسب العلوم وجد حتى فاق اقرانه وقام مقام أبيه بعد موته وأخذ عن والده أيضا الخرقة الصوفية بجميع طرقها وكذلك طريق النقشبندية واجتمع إليه أصحاب والده واستمر سنين على ذلك ثم ترك وأقبل على الطاعات وسار أحسن سيرة وكان لطيف الخلق والخلق حسن العشرة وألف ومن مؤلفاته شرح كبير على منسك الحج للخطيب الشر بيني وكان ينظم وينثر فمن نظمه ما أجاب به الأديب محمد الدراء الدمشقي عن قصيدة مدحه ومدح بها أخاه السيد عمر فسح الله تعالى في أجله ومطلع قصيدة ابن الدراء قوله
قل لصنوى أصل المفاخر والمجد رضيعي لبان ثدي المعالي
وجواب هذا بقوله
شامخ المرتقى حميد الخصال ... شمس علم حلت ببرج المعالي
فرع أصل زكا لذا فاق لما ... أن تغذى لبان ثدي الكمال
جهبذا لفضل ماله من نظير ... في اجتماع الفخار والأفضال
سيدي الأوحد الذي شنف السمع بحسن المفادو الأدلال
قل لشيخ القريض والأدب الغض بصدق وترجمان المقال
منك زفت عروس بكر الينا ... حين عزت في حسنها عن مثال
في حلى من البديع ومنظو ... م معان تزرى عقود اللآلى
أعربت عن ودا دخل وفي ... واعتذار عن معرض التسئال
في اجتماع بسوح بيت صديق ... بجوار لكعبة الآمال
هاك بكرا زفقتها لاعتذار ... وقبول لعذرك المفضال
ومنها
حيث لاثم مقتضيه سوى أن لطفكم دائما له ذو احتمال
فعليها كن مسبلا بالتعاضي ... ستر عذر على كلا الأحوال
وابق في نعمة مدى الدهر في طا ... لع سعد بغرة كالهلال
وكانت ولادته عصر يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى سنة ست وعشرين وألف وتوفي يوم الأحد سادس صفر سنة خمس وثمانين وألف بمكة ودفن بالمعلاة بالحوطة الشهيرة في قبر والده وجده وجد أبيه رحمهم الله تعالى(1/53)
الشيخ أبو بكر بن سعيد بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوي بن أبي بكر ابن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن الأستاذ الأعظم المقدم اشتهر جده عبد الرحمن بالجفري بضم الجيم وسكون الفاء الناسك العابد الورع الزاهد ولد بقرية قسم ونشأ وتربى في حجر والده ثم رحل إلى مدينة تريم فحضر مجالس العلم والعرفان وصحب مشايخ عصره وأكثر الأخذ فمن مشايخه بتريم الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس وولده الجليل زين العابدين والشيخ عبد الرحمن السقاف ابن محمد العيدروس والقاضي أحمد بن حسن بلفقيه والعلامة أبو بكر بن شهاب الدين والشيخ الجليل أحمد بن عبد الله بافضل الشهير بالسودى والشيخ الكبير زين بن حسين بأفضل وصحب بعينات أولاد الشيخ العارف بالله تعالى أبي بكر بن سالم منهم الحسين والحسن والمحضار والحامد وأخذ عن العارف بالله تعالى حسن بن أحمد با شعيب ثم دخل بندر الشحر وأخذ به عن السيد حسن با عمرو وعن السيد ناصف الدين بن أحمد ودخل بندر عدن وأخذ عن جماعة من بني العيدروس ثم رحل للوهط للسيد عبد الله ابن علي فأخذ عنه وصحبه ولازمه مدة ثم رحل إلى الحرمين وجاور بهما وأخذ عن جماعة فيهما فممن أخذ عنه السيد عمر بن عبد الرحيم والشيخ أحمد بن علان وابن أخيه محمد علي والسيد محمد بن عمر الحبشي والسيد سالم بن أحمد شيخان والسيد أحمد بن الهادي والشيخ تاج الدين الهندي والشيخ عبد الهادي باليل وكان يحضر تدريس الشمس محمد بن علاء الدين البابلي وصحب الشيخ العارف السيد محمد بن علوي وأخذ بالمدينة عن الصفي أحمد بن محمد القشاشي والشيخ عبد الرحمن الخياري والعارف السيد زين بن عبد الله با حسن وغيرهم ورحل إلى الهند وأخذبها عن جماعة وهو أوسع اقرانه رحلة وألبسه الخرقة أكثر مشايخه وحكموه وصافحوه وأجازوه بجميع مروياتهم وجميعى مؤلفاتهم وكان متقيا زاهدا في الدنيا وكان يحج كل عام ويلازم على النوافل والأذكار والقيام ملازما للجماعة في الصف الأول وزيارة قبر الأستاذ الأعظم ثم انقطع بمدينة تريم ولزم درس السيد عبد الله بن علوي الحداد قانعا من الدنيا باليسير مع مزيد التواضع والنقشف وكان له كرم وأيثار وأصيب آخر أمره في أنفه يداء عجز عن دوائه حذاق الأطباء ولم يزل حتى مات وكانت وفاته في سنة ثمان وثمانين وألف بتريم ودفن بمقبرة زنبل رحمه الله تعالى الشيخ أبو بكر بن صالح الكثامي الشافعي الأمام العارف بالله تعالى كان من أجلاء الشيوخ وأكابر العلماء العاملين ومن المشهورين بمصر في علوم الهيئة والميقات والفلك وكان في علم الأوفاق والزايرجا آية من آيات الله تعالى الباهرة وكان له يد طولى في وضع كل وفق أراد كالوفق المئيني وغيره وكان منقطعا بخلوة في جامع الطباخ قريبا من البرمشية وباب اللوق وله مجربات مشهورة في العلوم الحرفية ومؤلفات كثيرة منها كتاب سماه المنهج الحنيف في معنى أسمه تعالى لطيف ذكر فيه جميع ما يتعلق بالأسم الشريف من الشروط والدعوات وتقسيم الأعداد نحو أربعة عشر قسما وما يتعلق به من الخواص وله غير ذلك من التحريرات وكانت وفاته بمصر في الطاعون الواقع زمن الوزير مقصود باشا سنة أحدى وخمسين وألف ودفن بالقرافة رحمه الله(1/54)
الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن السقاف الشهير كأبيه وأهله بابن الشهاب المحدث الكبير المتفرد في زمنه بعلو الأسناد ولد بتريم ونشأبها وحفظ القرآن وعدة متون كالجزرية والأجرومية والقطر وغيرها وتفقه بالشيخ الجليل الفقيه محمد بن اسماعيل ولازم والده في دروسه وأخذ عنه علوما كثيرة من فقه وحديث وأصول وتفسير وتصوف وكذلك عن أخيه الهادي ابن عبد الرحمن وأخذ عن الشيخ عبد الله العيدروس ورحل إلى اليمن والحرمين وسمع بها من كثيرين وجاور بالحرمين واشتغل على السيد عمر بن عبد الرحيم البصري والشيخ أحمد بن علان والشيخ عبد العزيز الزمزمي وبرع في فنون كثيرة كالتفسير والحديث والتصوف والمعاني والبيان وغيرها من العلوم الشرعية والعقلية وأكثر الأخذ ثم قصده الناس للأستماع والأستفادة فتصدى للتدريس والأقراء وانتفع به جماعة وسمعوا منه طبقة بعد طبقة وممن تخرج به الأمام عبد الرحمن بن محمد أمام السقاف والسيد عبد الله بن شيخ العيدروس والسيد أحمد بافقيه وأخوه عبد الله والشيخ أحمد بن عتيق وصنو محمد الشلي أحمد بن أبي بكر قال الشلى وأمرني الوالد بالأشتغال عليه فقرأت عليه الكثير وأخذت عنه العربية والحديث والتفسير وكان متين التحقيق حسن الفكرة متأنيا في التقرير نظارا في تحريره وكتابته أمتن من تقريره وكان فصيح العبارة كامل الأدوات مشارا إليه بالتحقيق والسبق في مضمار البيان مهابا في العيون معظما موقرا حافظا للمسائل صحيح النقل وكان مع كبر سنه وتبحره في العلوم حريصا على طلب الفوائد وكان سيدي الوالد يقول ما رأيت عاشقا للعلم أي نوع كان مثله ومن جميل سيرته أنه ما استصغر أحدا حتى يسمع كلامه ساذجا كان أو متناهيا فإن أصاب استفاد منه صغيرا كان أو كبيرا ولا يستنكف أن تعزى الفائدة إلى قائلها وكان لا يكتب الفتوى إلا في المسائل العزيزة النقل وإذا سئل لا يجيب على البديهة بل يقول أفتح كتاب كذا وعد من الصفحة الفلانية كذا تجد المسئلة لأنه قل نظره آخرا وإذا سئل عما لم يعلم يقول الله أعلم ويتعجب ممن يتجرى على الفتيا ويبادر إليها ويتكلف الجواب عما لا يدريه وكان غاية في العفاف معرضا عن المناصب الدنيوية ولمةا بنى السيد الجليل النبيه محمد بن عمر بافقيه مدرسته التي بتريم فوض إليه تدريسها فدرس فيها أياما احتسابا ثم ترك ذلك وكان لا يسأل في أموره إلا الله ولا يعول في قضاء حوائجه على سواه ولا يخرج من داره إلا لجمعة أو جماعة أو زيارة صديق ونحوه ولا يتردد إلى أحد من الأعيان ملازما للطاعات بحيث لا يوجد في غير عبادة لحظة وكان له خلق عظيم وكان يشرح كلام الصوفية وأهل الحقيقة بأحسن بيان ولبس الخرقة من مشايخه وحكموه وأذنوا له في ذلك فكان يلبس الخرقة ويلقن الذكر ويحكم وكان غاية في التواضع وبالجملة فقد كان بركة اليمن وكانت وفاته في سنة أحدى وستين وألف بمدينة تريم ودفن بمقبرة زنبل المنلا أبو بكر بن عبد الرحمن المعروف أبوه بمنلا جامي الشافعي الكردي الحريري نزيل دمشق المعروف بمعلم الوزير المحقق البارع كان إليه النهاية في العلوم والتحقيق وكان فيه ورع وانعزال عن الناس وكف عن مخالطة الحكام مع ما كان عليه من الحظوة التامة عند الوزير الأعظم الفاضل أحمد باشا وأول وروده إلى دمشق كان معه وذلك لما ولى حكومتها في سنة أحدى وسبعين وألف وكان أمامه وقرأ عليه كثيرا في أنواع العلوم وهو ممن أخذ عن الصدر العالم المحقق عبد الرحمن الصهري كما قرأته بخطه في أجازة كتبها للعلاء الحصكفي مفتى الشام ولما عزل الوزير عن الشام صحبه إلى قسطنطينيه وكان قد رغب في توطن دمشق وطلب من الوزير بعض جهات تقوم به واتفق إذ ذاك وفاة العلامة محمد بن أحمد الأسطواني الآتي ذكره وكان مدرس السليمة فوجهها إليه وأضاف إليها قضاء صيدا وبعض جوالي فقدم دمشق وتدبرها وتديرها وكان مداوما على الأفادة ودرس بالجامع الأموي في التفسير وكان فضلاء الأكراد إذ ذاك يحضرون درسه ويتأدبون معه جدا وبالجملة فإنه آخر من أدركناهم بدمشق من محققي الأكراد وفاته في سنة سبع وسبعين وألف ودفن بمقبرة الفراديس المعروفة بمرج الدحداح رحمه الله(1/55)
الشيخ أبو بكر عبد القادر محيي الدين البكري الصديقي الشافعي الدمشقي المولد والوفاة الفاضل المبارك المجذوب ذكره النجم في ذيله وكان في ابتداء أمره من أذكياء الناس طلب العلم وحصل ملكة في العربية وكان لا يفتر عن الأشتغال وقرأ على والده وعلى الشيخ تاج الدين القرعوني وغيرهما ثم انجذب قيل بسبب ملازمة الأسماء وقيل لغير ذلك وكان في جذبه يحب العزلة ويلازم جامع السقيفة خارج باب توما وللناس فيه مزيدا اعتقاد وكان له كشف واضح وكان الناس يعطونه الدراهخم عن طيب نفس ويفرحون بقبوله منهم ولا شك في ولايته وأخبر بموته قبل وقوعه بستين ووجد ذلك على جدار بيته وكانت وفاته ليلة الثلاثاء ثاني رجب سنة أحدى وثلاثين وألف ودفن عند أبيه وحده بتربة الشيخ أرسلان قدس الله روحه الشيخ أبو بكر بن عبد الله المعروف بابن الأحزم على صيغة أفعل من الخرم بالخاء والراء النابلسي الشافعي العالم العلم المحدث الفقيه المعمر المؤلف رحل إلى القاهرة وأخذ الحديث عن الشيخ عامر الشبراوي ورجع إلى بلدته وأفتى بها ونفع الناس كثيرا وألف مؤلفات كثيرة منها حاشية على الجامع الصغير في الحديث وشرحه أيضا في مجلدين شرحا منقحا جمع فيه بين شرح العلقمي والشرح الصغير للمناوى وله شرح على ألفية ابن مالك وغير ذلك من حواش وكتب في الفقه والنحو والتوحيد والتصوف وأخذ عنه جماعة وبالجملة فإنه من خيار العلماء أرباب المعلومات وكانت ولادته في سنة أحدى بعد الألف وتوفي في شعبان سنة أحدى وتسعين وألف أبو بكر بن عدي المنعوت تقي الدين المعروف بابن شعيب الحنفي الصالحي خادم مزار القطب الرباني الشيخ أبي بكر بن قوام تفقه بالجد القاضي محب الدين وخطب بجامع الأفرم وكان ينشىء خطبا ويطرىء في الثناء عليها ولما عمر الوزير سنان باشا جامعه خارج باب الجابية بدمشق نقل الشيخ فخر الدين السيوفي خطيب الدرويشية إليه فتفرغ عن خطابة الدرويشية لأبي بكر المذكور فسكن دمشق بعدما كان سكنه وسكن أهله بالصالحية واستمر خطيبا بالدرويشية إلى أن مات وضعف بصره آخر عمره وربما انتقدت عليه أمور وكان ينظم الشعر فمن شعره قوله وقد كتب به لبعض أحبابه
وما زالت الركبان تخبر عنكم ... أحاديث كالمسك الذكي بلامين
إلى أن تلاقينا فكان الذي وعت ... من القول أذنى دون ما أبصرت عيني
وهذا معنى مطروق تداوله أكثر الشعراء ومن أحسن ما سمع فيه قول أبي تمام
كانت مسائلة الركبان تخبرني ... عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قدر رأى بصري
وكانت وفاته في ذي القعدة سنة سبع وعشرين وألف ودفن عند ضريح ابن قوام بالصالحية رحمه الله تعالى(1/56)
الشيخ أبو بكر بن علي نور الدين ابن أبي بكر بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد المعروف بالجمال المصري ابن أبي بكر علي بن يوسف بن ابراهيم بن موسى بن ضرغام بن ظغان ابن حميد الأنصاري الخزرحي الشافعي المكي الشيخ الفطن الأريب ذو السمت البهي والذكاء العجيب والأدب الظاهر والحفظ الباهر والفطنة النقاده والقريحة المنقاده ترجمه على والده الآتي ذكره فقال ولد سنة أحدى وسبعين وتسعمائة وحفظ الشاطبية والجزرية والأربعين النووية وألفية ابن الهائم في الفرائض وألفية ابن مالك ومنظومة ابن غازي في الحساب وحفظ متن الهجة وكثيرا من متن المنهج وقرأه على الشمس الرملي وأجازه به وبغيره وأخذ عن القاضي جار الله بن أمين بن ظهيرة الحنفي وولده علي والشيخ يحيى الحطاب المالكي ووالده محمد الحطاب مؤلف المتممة وشارح مختصر خليل والشيخ تقي الدين بن فهد المكي الحنفي والشيخ رضي الدين القازاني الشافعي ومحمد بن عبد الحق المالكي وشيخ الأسلام ابن عبد الرحمن بن عبد القادر بن فهد الهاضمي وأجازه جميع المذكورين واشتغل بالفقه على الشيخ بدر الدين البرنبالي اشتغالا تاما ولازمه ودرس وأفتى وانتفع به جماعة منهم الشيخ محمد بيري والشيخ على طحينه والشيخ عبد الرحمن الرسام وغيرهم وألف الحواشي المفيدة على كثير من الكتب في كثير من الفنون وأكثرها في فن الحساب والفرائض والجبر والمقابلة وأعمال المناسخات بالصحيح والكسور والحل وكان له يد طولي في هذه المذكورات ومشاركة تامة في غيرها كفنى المعاني والبيان والنحور والصرف والقراآت ة والفقه وكان حسن الخط صحيحه يكتب كل يوم كراسا بقطع النصف مع الأشتغال بالدرس والتأليف وكان يرى في ليله من يخبره بما سيقع في غده له منها أنه أخبر بأنه يأتيه رجل بفلفل يريد بيعه منه وهو سرقة وحذره أن يأخذه فلما أصبح أتاه رجل بما أخبر وتبين أنه سرقه ومنها أن جماعة أرادوا به حيلة فأخبر في منامه بأسمائهم ومرادهم ولقنه الحجة فلما أصبح أتاه رجل بحيلتهم فحجهم وانتصر عليهم وكان ذلك قبل أن يتزوج فلما تزوج انقطع عنه ذلك وله نظم بديع وقصائد عظيمة منها قصيدتان تائية وهمزية مكسورة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ومنها في شريف مكة حسن بن أبي نمى على لسان غيره كثير وفي غيره أكثر وكان إذا حضر السماع تواجد وغاب عن حسه فكان لا يحضره وله عقيدة تامة في الصالحين والأولياء والعارفين وكانت وفاته ضحى يوم الثلاثاء خامس عشر شهر رمضان سنة ست بعد الألف بمكة ودفن بالمعلاة رحمه الله تعالى(1/57)
السيد أبو بكر بن علي بن السيد المحدث محمد بن علي بن علوي بن خرد بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء وبالدال المهملة اشتهر جده بالعلم الأمام المقدم سيد زمانه وعالمه كان شديد الزهد والورع مديد الباع إذا قام في الأمور الشرعية وشرع ولد بتريم فحفظ القرآن ولازم تقوى الله تعالى ومشى على طريق السلامة والنجاة من الأفعال البارة والأعمال السارة ومصاحبة أهل الخير والفلاح ومواظبة الطريقة الحميدة واتصف بالصفات المستحسنة وتجنب الأمور المستهجنة واشتغل بتحصيل العلوم الشرعية وعلوم الصوفية وأخذ عن شهاب الدين أحمد با خجدب وأخذ الفقه وغيره عن جماعة منهم القاضي السيد محمد بن حسن والسيد علي بن عبد الرحمن السقاف وولده محمد وأولاده الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بلحاج بافضل وأدرك جده المحدث محمد بن علي وحكمه كثيرون من مشايخه المذكورين وألبسوه خرقة التصوف وأذنوا له في التحكيم والألباس وأجازوه في الأقراء ونفع الناس فجلس للتدريس العام في مسجد القوم بعد العشاء الأخيرة وقرأ في الفقه والحديث والتفسير وحضره خلق كثير وانتفع به الخاص والعام النفع المفيد وله تدريس خاص بجماعة وتخرج به جماعة من الفضلاء نالوا به الرتب العالية وممن تخرج به أبو بكر الشلى والسيد الجليل عبد الرحمن بن محمد بن علي بن عقيل وشمس الشموس السيد عبد الله شيخ العيدروس وصاحب العرفان السيد عبد الله بن عمر الهندوان والسيد أبو بكر بن شهاب وكان لطيف الشمايل حسن الأخلاق ثم غلب عليه العزلة وعدم الأجتماع بالناس إلا عن حاجة وكان ملازما للطيلسان مواظبا على تلاوة القرآن معرضا عن أعراض الدنيا قانعا بالكفاف وكانت فصاحته تفوق فصاحة سحبان وائل فإذا تكلم فالعلماء الأفاضل تسمع له فليس أحد منهم بمتفوه ولا قائل وله كرامات باهرة وأنفاس طاهره وكان تلميذه الشيخ عبد الله بن أحمد العيدروس يقول أنه يشفع في أهل زمانه ولم يزل ملازما للتقوى إلى أن قضى نحبه وكانت وفاته في سنة سبع بعد الألف بتريم ودفن بمقبرة زنبل هكذا ذكر ترجمته الشلى في مشروعه المروى الأمير أبو بكر بن علي الأحسائي ثم المدني الأمير الكبير الجليل القدر أحد أسخياء العالم رأيت في بعض التعاليق ترجمته وذكر مترجمه أن ولادته بمدينة الأحساء في حدود الألف ونشأ على الأشتغال بالعلم ثم رحل صحبة والده إلى المدينة وتوطنها وكان بها ملازما للعبادة مواطبا لقيام الليل حتى أنه كان يجىء إلى المسجد النبوي فيقف ببابه نحو ساعة حتى يفتحه الخدام إلى أن أدركه أجله يوم عرفة بها وهو محرم فحمل في محفة إلى مكة ودفن بالمعلاة وذلك سنة ست وسبعين وألف وتوفي والده على باشا بالمدينة في سنة أحدى وخمسين وألف وله ديوان شعر في مجلدين ومن شعره قوله مادحا الشريف زيد بن محسن صاحب مكة
زفت لعز مقامك العلياء ... وعليك فضت راحها الجوزاء
فالبدر كاس والشموس عقارها ... فأشرب بكاس شمسه الصهباء
وحبابها نجم السما فكأنها ... ذات وذاك بشكله الأسماء
وأتتك بكر أقبل فض ختامها ... يقتادها راووقها وذكاء
خضعت لعزك فاستقم في عرشها ... يا ظاهر إلا يعتريه خفاء
وانصب لواء العدل منتشر الثنا ... قد ضوعت بعبيره الأرجاء
يسعى بظل أمانه بين الورى ... ذو البأس والأمجاد والضعفاء
فالدهر سيفك فأتخذه مجردا ... متوشحا بالنصر وهو رداء
والسعد قد توجته فلك الهنا ... وكذا السعادة برجها السعداء
وعلاك قد شهد الحسود بفضله ... والفضل ما شهدت به الأعداء
وحماك أمن الخائفين تؤمه ... شم الأنوف القادة الأكفاء
ولقد حظيت من الأله بنصرة ... ردت مريد الكيد وهو هباء
وحبيت منه بما تقاعس دونه ... همم الملوك الصيد والعظماء
فالله أظهر ذا الجناب بنصه ... فالخلق أرض والجناب سماء
لو قيل لي من ذا أردت أجبتهم ... هل غير زيد تمدح الشعراء(1/58)
وإذا أدير حديثه في محفل ... فلمسمعي من طيب ذاك غذاء
ملك إذا وعد الجميل وفي به ... وإذا توعد شأنه الأغضاء
ملك إذا كتمت رعود سمائنا ... فعلى انسكاب ندى يديه نداء
ملك إذا ما القرن أوقد ناره ... فسيوفه لخمودها أنواء
ملك إذا جار الزمان على امرىء ... فجنابه السامي الرفيع وقاء
فبسعده أهدى الزمان إلى الورى ... كاسا هنيئا ليس فيه عناء
فالله يبقى ملكه السامي الذي ... قد كالمته بنورها الزهراء
ويديمه في الدولة الغرا التي ... ظهرت بها الآباء والأبناء
فإليك بكر قريحة بكرية ... زفت إليك تحفها الأضواء
كلمات حق شرفت بمديحكم ... ومديحكم تسمو به الفضلاء
وكتب إلى العلامة عيسى بن محمد الجعفري الثعالبي ثم المكي مادحا بقوله
يا من سما فوق السماك مقامه ... ولقد يراك الكل أنت أمامه
حزت الفضائل والكمال بأسره ... وعلوت قدرافيك تم نظامه
لو قيل من حاز العلوم جميعها ... لا قول أنت المسك فض ختامه
كم صغت من بكر العلوم خرائدا ... عن غير كفء لم يجب اكرامه
فأعلم بأني غير كفو لائق ... أن لم يكن ذا الفضل منك تمامه
ثم أتبعه بنثر صورته لما أضاء نور المحبة في قناديل القلوب صفت مرآة الحقيقة فظهر المطلوب فأتضحت الرسوم الطامسه وبانت الطرق الدارسه فاكتحلت عين القريحة فسالت في أنهر النطق فأثمرت بالمسطور وهو المقدور وأما المقام فهو أبهى من ذلك وأجل وليس يدرى ذلك إلا من وصل وأما العبد فهو مقر أنه قصرت به الركاب عن بلوغ ذلك وعاقته عقبات الأسباب عن سلوك هذه المسالك لكن حيث أن ثياب الستر من فضلكم على أمثاله مسبوله فيكون أنه يدخل في ضمن الأمثال مطلوبه ومأموله فأجابه الشيخ عيسى بقوله
لله درك يا فريد محاسن ... أربى على البدر التمام تمامه
قد صغت من سر البلاغة مفردا ... فاق الفرائد نثره ونظامه
وكسوته من جزل لفظك سابغا ... وشيت بكل لطيفة أكمامه
وجلوته يختال تيها آمنا ... من أن يشابه في الوجوه قوامه
أعربت فيه عن اعتقاد خالص ... ومكين ود أحكمت أحكامه
وحبوت ذا شكر ببيت قصيدة ... وبفض خاتمه العلا أسوامه
أهلا به فردا أتى من مفرد ... وحبابه ضيفا يجل مقامه
حتما علي ولازما تبجيله ... فورا وحقا واجبا اكرامه
لكن على قدري فلست بكفو من ... وطئت على هام العلا اقدامه
وإليكها عذرا على مهل أتت ... خجلا لمنزلك العزيز مرامه
فاصفح بفضلك عن صحيفة نقصها ... فالفضل مؤتم وأنت أمامه
واسحب رداء المجد غير مدافع ... فلانت عنصره وأنت ختامه
ثم أتبعه بنثر صورته هذه دام جدك في سعود ومجدك في صعود عجرفة أبرزها فاتر الفكر الأعرج وقاصر الذهن البهرج تتعثر في مروط الخجل والوجل وتتعارج لما بها من الخطأ والخطل أتت سوح حضرتك الرحراحة الأرجاء وأملت أن تفوز من كمال صفحك عن زيفها بتحقق الرجاء فقابل اقبالها بالقبول والأغضا والحظها غير مأمور بعين التقريب والرضا فإنك مأوى الفضل ومخيمه ومفتتحه ومختتمه ولولا نافذ أمرك المطاع وواجب تعظيمك المتمكن في الأفئدة والأسماع لما ترا آى لراء عجرها ولا بجرها ولا أستبان لسامع خبرها ولا مخبرها ولكن عند الأكابر تلتمس وجوه المعاذير ولدى أعيان الأفاضل يرتجى الصفح عن التقصير والسلام(1/59)
الشيخ أبو بكر بن عيسى بن أبي بكر بن عيسى ابن الأستاذ أحمد بن عمر الزيلعي كان مراد الله تعالى في حركاته وسكناته كثير الأستغراق قليل الصحو كبير الحال له اشارات غريبة ومقالات عجيبة وكان إذا غلب عليه الحال يخشى أهله سطوته على الناس ويخافون على أنفسهم منه فيحلون أزاره الذي يتزر به فلا يقدر على ربطه ولا يستطيع القيام من مكانه ولا يخرج من مكانه حتى يصحو من غيبوبته وكان يخبر بالمغيبات ويرجع إليه في المعضلات وكان أهل الجلاب إذا سافروا في البحر وحصل لهم شدة يذكرونه وينذرون له بشيء فيروه عندهم عيانا وينجيهم الله تعالى ببركته وإذا جاؤا إلى اللحية طالبهم بالذي نذروه لخه وكان كثير الخمول مغلظا القول على الدولة فلا يستطيعون الأنتقام منه ويطلب منهم الذي يريد ولا يمنعونه وإذا أخذ منهم شيئا ذهب به إلى نساء ورجال منقطعين وكانت وفاته في حياة أبيه وهو شاب ناهز الثلاثين في نيف وسبعين وألف باللحية ودفن بقبر جده ومن كراماته أن والده جاء إلى بعض أصحابه بعد موته يشكو ما حل به بعده من ضيق ذات يده وإنه كان في زمنه موسع الرزق من بيته فأجابه صاحبه بقوله أن بركته أن شاء الله تعالى حاصلة حيا وميتا وقام من عنده فما مضت ساعة حتى أتاه رجل يسأله عن ولده فأخبره بموته وكان نذر له بشيء كثير من المال فدفعه لوالده وأخبر بعض الثقات أنهم لما مشوا بجنازته أظلها طيور لا تحصى وسمع أصوات اعلام كثيرة وحصل للناس خشوع رحمه الله تعالى الشيخ أبو بكر بن محمد باجثات بجيم فمثلثتين بينهما ألف أحد الصوفية المشهورين والعلماء الصالحين صاحب المعارف والعوارف والمناقب الشهيرة واللطائف ذكرها لسيد شيخ بن عبد الله العيدروس في كتابه السلسة وقال كان من المشايخ العارفين الكبار أهل الأحوال صاحب كرامات خارقه وفراسات صادقه ولد بتريم وصحب أكابر السادة وتمسك بالعروة الوثقى فجمع بين العلم والعمل ولازم تاج العارفين وأمام المتأخرين السيد أحمد بن علوي باجحدب ورزق التوفيق حتى أذعن له أهل الطريق وأشرقت شمس جماله وأزهر بدر كماله وأذعنت السالكون لهيبة جلاله ولبس الخرقة من جماعة كثيرين ولبسها منه جماعة من العارفين وصحبه خلق كثيرون وتخرج به سالكون كاملون منهم السيد العلامة أبو بكر بن أحمد الشلى والسيد شيخ المذكور وجماعة آخرون وكانت وفاته في سنة خمس بعد الألف ودفن بمقبرة الفربط الشهيرة بحضر موت أبو بكر بن محمد بن الطيب باعلوي المجمع على كماله المنوه بفضله ولد ببندر الشحر المسمى سمعون وسلك الطريق وحاز من الفضل فنوناشتى ورحل إلى الحرمين وإلى عدة بلدان وأخذ عن جماعة من أولى العلم وكان في الثغر المذكور مرجعا للأعيان ومجمعا لفضلاء الزمان يشار إليه بالبنان مكرما للضيفان مشهورا بالولاية التامة وكان يلبس الملابس الفاخرة ويسكن البيوت المشيدة وكانت وفاته في سنة أحدى عشرة بعد الألف ودفن به أبو بكر بن محمد تقي الدين بن صفي الدين الدمشقي الشافعي المعروف بالزهيري الأديب البارع الاضل كان جيد المشاركة في فنون الأدب وله محاضرة فائقة واشعار شائقة اشتغل في مبدأ أمره على العلامة محمد الحجازي وولده عبد الحق وبهما تفقه ثم خالط الأفاضل الكبار وحضردروس جدى القاضي محب الدين في التفسير وتولى قضاء الشافعية بمحكمة الباب عوضا عن القاضي محب ابن جانيك المعروف بالسكنجي فحمدت سيرته ودرس بالجامع الأموي والمدرسة الجوزية قال البوريني وأخذ المدرسة عنه رجل رومي اللسان أعجمي التبيان يقال له موسى فاستدعى التقى من أهل البلدة أن يكتبوا محضرا في أحوال موسى المذكور وهل هو أهل للدرس أم هو جاهل بكل مسطور فكتب العلماء فيه وأطالوا وجالوا في ميدان ذمه وصالوا وما تركوا له أديما صحيحا وشرحوا عرضه بالقول تشريحا حتى أن العلامة القاضي محب الدين أنشد فيما كتب
تصدر للتدريس كل مهوس ... بليد تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس
قال وكتبت في أثناء مارقمت
مدارس آيات خلت عن تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات(1/60)
قلت والأبيات التي أنشدها جدي للحسين بن سعد أبي علي الآمدي وكانت وفاة التقي المترجم نهار الأربعاء ثامن جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة بعد الألف عن بضع وأربعين سنة ودفن بمقبرة باب الصغير الشيخ أبو بكر بن محمد بن علي بن أحمد بن عبد الله بن الأمام محمد مولى عيديد الشهير كسلفه ببافقيه صاحب قيدون الأمام المفنن الفقيه الأجل ولد بتريم وحفظ الأرشاد وغيره من المتون ورسائل كثيرة وكان عجيب الحفظ غريب الفهم اشتغل بطلب العلم من صغره ولازمه وتفقه على شيخ الجماعة محمد بن اسماعيل بافضل وأكثر انتفاعه به لملازمته له حتى تخرج به وأخذ عن الشيخ عبد الله بن شيخ العيدروس وعن الأمام زين بن حسين بافضل وغيرهم واعتنى بالأرشاد وفتح الجواد وكان له به اعتناء تام فكان يستحضر عبارته بالحرف قال الشلى ولقد أخبرني بعض تلامذته الثقات أنه كان يقرأ عليه الفتح قال فكنا نرى أنه يحفظه عن ظهر قلب وكان ينقله بالفاء والواو وكنا ندأب فيه ليلا ونهارا ونجىء إليه فنجده يستحضر من كلام المتكلمين عليه من استشكال وجواب ما لم يطلع عليه أحد منا مع مطالعتنا لشروحه ومبالغتنا في ذلك وكان آية في استحضار مذهب الشافعي وغرائب مسائله وكان هو والشيخ القاضي أحمد بن حسين بافقيه متصاحبين وكانا كفرسي رهان وكان صاحب الترجمة جامعا لكثير من الفنون ثم ارتحل إلى دوعن فأخذبه عن جماعة وأقام به مدة ثم قطن بمدينة قيدون وقصده الفضلاء وتصدى بها لنشر العلم والأفادة والفتوى وأسمع الناس العالي والنازل وصارت الرحلة إليه واشتهر بحسن التعليم وأحيا الله تعالى به كثيرا من الفنون واشتهرت فتاويه في كثير من الأقطار مع العبارة الفائقة ولم تجمع له فتاوى وكان له يد طولى في علم التصوف مع المواظبة على الطريقة المحمدية والديانة والشفقة منعزلا عن أبناء الدنيا والملوك إلا في فعل سنة أو شفاعة أو قضاء حاجة لأحد من السادة ومع كمال التواضع والتودد للناس والنصيحة والكرم والخلق العظيم والزهد ثم في آخر عمره انعزل في داره ولم يجتمع بأحد إلا آحاد الناس لدفع ضرورة إلى أن مات رحمه الله تعالى وكانت وفاته في سنة خمس وألف بمدينة قيدون الشيخ أبو بكر بن محمد بن سرين بن المقبول بن عثمان بن أحمد بن موسى بن أبي بكر ابن محمد بن عيسى بن القطب صفى الدين أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي صاحب اللحية كان من أولياء الله تعالى الكاملين وأصفيائه المرجوع إليهم في المآرب كثير العبادة يقطع ليله في الصلاة ونهاره في الصيام حريصا على فعل الخير داعيا إلى البر لاتفي عبارة بنعته وصفة كما له فالغاية فيه الأختصار حفظ القرآن وقام بمنصب والده من بعده وكانت الحكام تخشى سطوته وبالجملة فإنه متفق على جلالته وكانت ولادته باللحية في سنة ثمان وعشرين وألف وتوفي في سنة ثلاث وتسعين وألف ودفن بقبر جده الأستاذ الكبير أحمد بن عمر الزيلعي نفع الله تعالى به وسيأتي ذكر أبيه محمد وجماعة من أهل بيته وهذا البيت أعني بيت الزيلعي لهم في الولاية الرتبة المكينة أبو بكر بن محمد المعروف بالدلجي الشافعي المصري كان متضلعا من علوم العربية واحدا في الفنون العقلية رأيت ترجمته بخط صاحبنا الفاضل الكامل مصطفى ابن فتح الله تزيل مكة المكرمة ذكر فيها أنه ولد في حدود سنة خمسين وألف بدلج من أعمال صعيد مصر وبها نشأ وحفظ القرآن وجوده وقدم إلى مصر وجاور بالجامع الأزهر وحفظ عدة متون في جملة فنون منها الألفية في النحو وكان يستحضر غالب شرحها للأشموني ويحفظ أكثر عباراته عن ظهر قلب وأخذ عن شيوخ كثيرين منهم الشمس البابلي وسلطان المزاحى والنور الشبراملسي ولازم منصور الطوخي فزوجه ابنته واختص به وكان مع سلامة قريحته وحسن ذكائه وصحة تصور فطنته ودهائه مبتليا بالأمراض والأسقام مسلما لقضاء الله حتى توفي وكانت وفاته في شهر رمضان المبارك من سنة خمس وتسعين وألف بمصر ودفن بتربة المجاورين رحمه الله تعالى(1/61)
أبو بكر بن محمود بن يونس الملقب تقي الدين بن شرف الدين الدمشقي الحنفي المعروف بابن الحكيم وسيأتي ذكر والده شرف الدين خطيب أموي دمشق ورئيس أطبائها ولد تقي الدين هذا بدمشق واشتغل وحصل وأخذ عن البدر الغزي وابنه الشهاب وقرأ الطب على والده واعتني ببقية الفنون حتى برع في العقليات وكان مفرط الذكاء حسن المطالعة وكان له يد طولى في العلوم الغريبة مثل علم الوفق وعلم الحرف وأخذ التصوف عن الشيخ أحمد بن سليمان الصوفي وأخذ عنه الطريقة القادرية وسافر إلى قسطنطينيه في سنة سبع وثمانين وتسعمائة وانتهى أمره بها إلى أن اتصل بالسلطان مراد بن سليم وصار مصاحبا له وحظى عنده وحكى البوريني أن سبب اتصاله به هو ما اشتهر عن السلطان مراد هذا من أنه كان يميل إلى المتصوفة ويحب كلامهم وشطحاتهم وربما كان هو يتكلم بشيء من اصطلاحاتهم فكان في ابتداء دخوله أن رجلا من حواشي السلطنة يقال له ناصف وكان قصيرا جدا وكان السلطان يحب هذا النوع من أنواع الحفدة فدخل يوما تقي الدين إلى مقر السلطان فبصر به ناصف المذكور فقال له عندنا بعض مرضى من أولاد الخزينة السلطانية وقد قال بعض الناس أن عندكم علما بالطب وعلما من العلوم المتعلقة بالأسرار الألهية فقال نحن نداوي بالعقاقير المعنوية فقال له هي مرادنا فكتب له في فنجان كلمات واسرار فكان ذلك صادف وقوع المقادير بشفاء من سقى من ذلك الفنجان فقال ناصف المذكور للسلطان مراد لقد صادفت لك مطلوبك فإن مولانا السلطان من زمان طويل يطلب رجلا من أرباب الأحوال وقد قدم الينا رجل من رجال الشام وسماه وذكرانه داوى المرضى الذي عندنا بالكتابة والتعويذات فيقال أن السلطان طلبه ورآه ويقال بل كان يراسله ولم يزل حاله ترتقى إلى أن تقدم على الموالي وربما صار يأنف من التواضع لقضاة العساكر فحدوه وكان أمام السلطان قد ضاق ذرعه منه وكان يتظاهر بأنكار المنكرات فحرشه عليه الموالي فبينما هو ذات يوم ذاهب إلى مقر السلطان أدركه عند الباب فأغرى به جماعة من الطلبة فمزقوا عباءة فرسه وأهانوه ثم رفعوا أمره إلى السلطان وأدخلوا عليه أمورا أوجبت أن طرد من قسطنطينيه إلى الواح من ضواحي مصر وكان ذلك في سنة أحدى أو اثنتين بعد الألف ثم استأذن بالمكاتبات حتى أذن له بدخول القاهرة ثم ورد الشام في سنة ثلاث بعد الألف ثم ذهب إلى الروم ولم يتيسر له اجتماع بالسلطان ولا أمكنه العود إلى ما كان حتى توفي ببلاد الروم وكانت وفاته في سنة سبع بعد الألف رحمه الله تعالى الشيخ أبو بكر بن مسعود المغربي المراكشي المالكي مفتى المالكية بدمشق ذكره البوريني وقال في ترجمته أخبرني من لفظه أن مولده بمدينة مراكش وبها نشأ وحفظ القرآن وقال لي أن شهرتهم بمراكش ببيت الوردى ورد إلى دمشق أولا من مصر في سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة ثم رجع إلى مصر وأقام بها إلى سنة ثلاث بعد الألف ثم قدم إلى دمشق وألقى بها عصا الترحال ودرس بالمدرسة الشرابيشية لأنها مشروطة للمالكية قال وأخبرني أنه قرأ بمصر الفقه على شيخ المالكية الشمس محمد البنو فرى وعلى الشيخ طه المالكي وغيرهما وأخذ الأصول عن الشيخ حسن الطناني ومعظم قراءته كانت على أبي التجا سالم السنهوري المحدث الكبير مفتى المالكية في عصره بمصر وذكره الغزى في لطف السمر وكان له مشاركة في العربية وغيرها لكنه كان بعيد الفهم وأخذ بالشام عن مفتى المالكية بها علاء الدين بن مرجل وأفتى بعد القاضي محمد بن المغربي وولى تدريس الغزالية ثم تفرغ عنها ليحيى بن أبي الصفاء المعروف بابن محاسن وذكر البوريني أن ولادته كانت في سنة أربع وثمانين وتسعمائة تقريبا قال وفي تلك السنة مات مولاي محمد الشيخ الشريف الحسني سلطان افريقيه ومراكش وفاس والسوس الأقصى ووفاة أبي بكر في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وألف ودفن بباب الصغير رحمه الله تعالى(1/62)
الشيخ أبو بكر بن المقبول بن عبد الغفار بن أبي بكر بن المقبول تعيش الصائم رمضان في المهد ابن أبي بكر صاحب الحال الأكبر ابن محمد بن عيسى بن سلطان العارفين أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي صاحب اللحية كان شيخا جليلا كامل العقل غزير الفضل شديد الهيبة بعيد الهمة ذا رأى ثاقب محبا للفضائل تاركا للرذائل باذلا في أماكن العطاء ممسكا في أماكن الحزم مرجعا عند الخطوب مفزعا عند ما ينوب حالا للمشكلات بغرائب الكرامات له في العلم والولاية يد متمكنة ولد باللحية وبها نشأ وحفظ القرآن وجوده وأخذ عن والده وتخرج بأخيه العارف بالله تعالى أحمد السطيحة وجد واجتهد حتى فاق روى أنه لما قدم قانصوه باشا متوجها إلى اليمن كان المترجم بمكة فوشى به إليه وإنه هو صاحب اللحية وسلطان نواحيها وأوحدها بلا خلاف وإنه لا يتم له الأمر حتى يقتله فأتوا به وقت العصر إليه على حالة غير مرضية وذهب معه تلميذه الفقيه مقبول بن أحمد المحجب فلما دخلا عليه تلقاهما وأجلسهما مكانه فلما أجلسا سكت ولم يقدر على الكلام والتحرك واستمر مطرقا وأتباعه والجند واقفون والجميع مبهتون حتى دخل وقت المغرب فقال له يا قانصوه قم صل المغرب فالتفت وقام كالمنتبه من نومه وقال له يا سيدي ألك حاجة نقضيها لك فقال له لا حاجة لي عندك وقام من عنده وزادت جلالته فلما ذهب من عنده قال للفقيه مقبول لعلك خفت منه فقال نعم فقال والله ما دخلت عليه إلا وأعطيت التصرف فيه وفي عسكره جميعا ولما قام من عنده انقطعت سجته فشرعوا في جمعها وجمع قانصوه معهم لما تبدد منها فقال الفقيه مقبول اللهم شتت شمله وفرق جمعه كما تفرقت هذه السجة فأستجاب الله تعالى دعاءه فإنه لما وصل إلى اليمن وطغى وبغي وقتل جماعة من السادة والأعيان قامت عليه عساكره وأرادوا قتله فهرب في ليله منهم وأتى طائعا بنفسه إلى السيد الحسن بن الأمام القاسم وقال له ها أنا بين يديك فافعل بي ما تشاء فقال لو جئتك على هذا الحال ما كنت تفعل بي فقال له أقتلك شر قتلة فضحك ثم سأله عما يريد فقال له تبلغني إلى مكة فأرسل من جماعته من بلغه إلى مكة ثم توجه منها إلى الروم وتبدد عسكره ومن خبر قانصوه إنه لما دخل إلى اليمن دخل بهيئة عظيمة من كثرة العساكر والجند وزيادة المال وقوة السطوة وكان بعض السادة من بني بحر بلغه خبره فأرسل جاسوسا من اتباعه إلى اللحية وكان قانصوه بها وقال له إذا خرج من اللحية فاتبعه إلى بيت الفقيه في الزيدية وانظر هل يذهب لبيت عطاء لزيارة سيدي أبي الغيث ابن جميل أم لا فتبعه حتى توجه من الزيدية إلى الضحى ولم يزره فرجع إلى السيد وأخبره فقال هذا الرجل لا يتم له حال باليمن ولا يفتح عليه فإن مفاتيح اليمن بيد سيدي أبي الغيث يعطيها لمن شاء كيف شاء بإذن الله تعالى فكان الأمر كذلك ثم أن قانصوه أتى إلى هذا السيد وكان قد زاد طغيانه فقال له أقرب إلى عسى أقرأ عليك شيئا من القرآن فيشرح الله به صدرك فقال له أنا صدري مشروح بواسطة سيدي أحمد البدوي ولا يقدر أحد أن يتصرف على ببركته فإني أخذت العهد على خلفائه وأنا من المنسوبين إليه فقال له سيدي أحمد البدوي نعلم أنه من أكابر أهل الله ولكن لا تصرف له في أرضنا وحيث أنك أبيت ذلك فو الله لا بد أن تأتي إلي وتجلس تحت سريري هذا وأنت بأسوء حال فكان كذلك فإنه لما أرسله السيد الحسن بن القاسم إلى مكة مر على السيد وجاء إليه معتذرا وجلس تحت سريره كما قال له ولصاحب الترجمة كرامات كثيرة منها أنه مرض بمكة مرضا شديدا أشرف فيه على الموت فدخل عليه حينئذ الفقيه وحزن عليه لما رأى حاله اشتد ومرضه زاد وقال في نفسه أن هذا مرض الموت فبمجرد ورود هذا الخاطر عليه قال له يا مقبول لا تخف علي فإني لا أموت إلا باللحية فعوفي من ذلك المرض وقدم اللحية فلما دخل بيته تباشر أهله بقدومه وفرحوا وجمعوا النساء ليفعلوا على عادتهم من الفطرنة والغناء غير ذلك فنادى بناته وقال لهم ما هذا الذي تفعلونه أنا ما جئت عندكم إلا لأموت من قريب فصاحوا لما يعرفون من حاله وكانت وفاته في سنة اثنتين وأربعين وألف وعمره قريب من تسعين سنة باللحية ودفن بقرب تربة جده الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي نفع الله تعالى بهم(1/63)
الأديب أبو بكر بن منصور بن بركات بن حسن بن علي العمري الدمشقي شيخ الأدب بالشام الأديب الشاعر المشهور أحد الأدباء المحسنين جمع شعره بين براعة الألفاظ وبداعة المعاني وملاحة السبك وجودة التركيب وكان ينظم الموشح والدو بيت والزجل والمواليا والقوما والكان وكان وهو في كل فن منها سابق لا يلحق ومتقدم لا يدرك وكان في عنفوان شبابه كثير الرحلة دائم النقلة فجاب البلاد ودخل الروم وبلاد الشرق ورحل إلى مصر مرات عديدة ولقي جماهير البلاء وأخباره كثيرة ووقائعه عجيبة وقد ذكره البديعي في ذكرى حبيب وما أنصفه فقال في وصفه تمتام تحسن من غيره كلامه يعجم لسانه ما تعربه أقلامه ويستخرج فكره من الشعر ما يضارع الروض المنمنم فهو أشعر بني نوعه معلم يتكلم وله من الزجل ما يحمد الغباري غباره ومن جميع فنون الشعر ما يمدح أربابها فيه آثاره وكان على طريقة يحيى بن أكثم من الأعراض عن الحبيب المقنع والميل إلى المعمم ومن غريب خبره أنه هام بغلام أمرد كأنه الطاوس في مشيته لكنه أركع من هدهد ووشى به إلى الحاكم فأرسل إليه جماعة في أحدى الحنادس وكان مجاورا بجمبرة في بعض المدارس فوجدا على حالة يقبح التصريح بذكرها القبيح فأمر به في غد تلك الليلة أن يطوق عنقه بساقي ذلك الغلام ويطاف به في الأسواق بمشهد من الخاص والعام فأغتنمها فرصة وجعل يقبلهما إلى الأقدام انتهى قلت ولقد فحصت عن هذا الخبر من كل من لقيته ممن أدرك العمري فلم أرله عند أحد أثرا وفي ظني الراجح أنه مفترى والله أعلم بحقيقته نعم أن العمري صاحب طبع ميال للجمال والميل عند من يبري الساحة مظنة الأحتمال وبالجملة فمثل هذا الخبر لا ينقل إلا ليوهي وبالخصوص عندي فإنه مما لا يعني بذكر ولا أنها وحاصل القول أن العمري من كملاء عصره ونبغاء دهره غير أنه أخرج نفسه من طريق العلم واحترف فصار عطارا ولو تزيابزي العلماء لأدرك مرامه وفاق اقرانه وكان كثير النظم وشعره دائر في أيدي الناس ولو جمع له ديوان لجاء في مجلدات وقد وقفت على قطعة مجلدة منه وقد كان جمعها هو بنفسه في ابتداء أمره وذكر بعض وقائع وقعت له منها ما حكاه قال حضرت مرة مجلسا وفيه بعض أفاضل من أهل الأدب فأفضت المحاضرة إلى ذكر الخيل وعناقها وسبقها وما وصفتها بذلك الشعراء من الجاهلية والأسلاميين فأنشد بعض الحاضرين أبيات الشيخ صفى الدين عبد العزيز بن سرابا الحلي وهي مشهورة في وصف جواد التي من جملتها قوله
إذا رميت سهامي فوق صهوته ... مرت بهاديه وانحطت عن الكفل
فغلطه بعض الحاضرين وقال له الرواية تهاديه بالتاء المثناة من فوق لا بالباء الموحدة وزاد اختلاف الجماعة في ذلك فكتبت إلى المرحوم الحسن البوريني هذه الأبيات ليبين للجماعة الصواب وهي قولي
يا شيخ الأسلام يا ذا العلم والعمل ... وقائل الفصل في الأبحاث والجدل
وموضح الحق بين الخلق مظهره ... بالصدق والقصد فيه أوضح السبل
ماذا تقول ولا زالت مقالتك العليا وقاليك معدودا من السفل
في قول شاعرها المشهور بارعها ... من اعتلى رتبة في الأعصر الأول
عبد العزيز صفي الدين من عمرت ... أبياته بنسيب الشعر والغزال
في وصف يفوت الطرف حيث جرى ... ويسبق الريح أن ما سار عن عجل
إذا رميت سهامي فوق صهوته ... مرت بهاديه وانحطت عن الكفل
بالبا بهاديه أو بالتاء قال أفد ... جواب حبر ببذل الفضل محتفل
وجد بلفظ يحلى السمع جوهره ... أغلى من الدر أو أحلى من العسل
وهل للفظ تهاديه هنا عمل ... يليق أم هو منسوب إلى الخلل
واشف الصدور كما عودتنا كرما ... بحل كل عويص مشكل جلل
لازلت ترقي إلى أعلى الطباق علا ... في نعمة الله مأمونا من الخطل
ما أطلع الله معنى كان محتجبا ... في غيهب الغيب حتى صار كالمثل
فكتب إلى الحسن جوابا قوله
الحمد لله واقينا من الزلل ... رب العباد وشافينا من العلل
ثم الصلاة على المختار سيدنا ... خير البرية من حاف ومنتعل(1/64)
محمد سيد الأكوان قاطبة ... عين النبيين طه أكمل الرسل
وآله الطيبين الطاهرين أولى المجد الذين مشوا في أقوم السبل
وصحبه السادة الأمجاد من نصحوا ... وجاهدوا بمواضى البيض والأسل
صديقه وكذا الفاروق بعد وذو ... النورين والمرتضى بحر العلوم على
والستة الشهب ثم التابعين فهم ... أهل التقى والنقا والعلم والعمل
وبعد أهلا بنظم لذ مشربه ... أشهى من المن أو أحلى من العسل
مهديه لا برحت تنمو فضائله ... ولم يزل قدره فوق السماك على
أتى يسائلنا عن جهل ذي لكن ... بل قول ذي خطأ قد شيب بالخطل
لم يدر أن الهوادي جمع هادية ... للخيل تعزى ولا تعزى إلى الرجل
وأنها عنق الطرف الذي مرق السهام عنها ولم تبرح لدى الكغل
وما للفظ تهاديه هنا عمل ... إذا المصادر تهديه من الزلل
نعوذ بالله من جهل يقارنه ... عمق فصاحب ذا ينمى إلى السفل
وذا جواب بعثناه على عجل ... يسعى لخدمتكم في غاية الخجل
هاديتم الدر هاديناكم خرزا ... هذى المهاداة قل للجاهل الرذل
ودم مدى الدهر في فضل وفي نعم ... مار واذوو الجهل في غبن وفي بخل
ومنها ما حكاه قال دخلت إلى الكلاسة المعدة لبيع الكتب وراء الحائط الشمالي من الجامع الأموي بدمشق فرأيت بيد الدلال مقامات الحرير وكتاب لذة السمع في وصف الدمع للصلاح الصفدي يذكر فيه محاسن العين ومعايبها فزدت في الكتابين واشتريتهما من صاحبهما وهو القاضي الشويكي الحنبلي وجلست أعدله الثمن إذ دخل الشيخ اسماعيل النابلسي الشافعي وكان من الأخلاق سريع الغضب فلما أبصر الكتابين قال بكم صارا فقال له أن هذا الشاب اشتراهما بكذا ووقع ايجاب وقبول بين البائع والمشتري قال له علي بقطعة زائدة فخاف الدلال من حنقه وسكت فلم يسعني إلا أني قلت وقطعة أخرى فقال الشيخ وثالثة قلت ورابعة إلى أن وصلت زيادتي إلى عشرة فأغلظ لي الشيخ كلاما قبيحا فأستخرت الله وأخذت دراهمي وانصرفت وعندي ما عندي فإنه شيخ الأسلام وذو جاه عظيم عند الحكام ولا أقدر على مقاومته فاشترى الكتابين المذكورين فنظمت تلك الليلة قصيدة ودخلت عليه بها في اليوم الثاني وهو يوم السبت الحادي والعشرين من المحرم سنة تسع وثمانين وتسعمائة إلى قصره بسوق السيورية والعنبرانيين وعنده صهره العلامة القاضي محب الدين الحنفي والمرحوم أبو المعالي درويش الطالوي والقاضي شعبان قاضي بيت المقدس وقدمتها إليه وهي قولي
يا أما ما هلا على الناس قدرا ... وهما ما قد حاز فضلا وفخرا
وأديبا من لفظه ينظم الدر وفي شعره يرى السحر نثرا
فقت حتما علي بني العصر في السلم وفي الجود فقت حاتم ذكرا
كفك الغيث في العطاء وأنت الليث قسرا وفي المهابة كسرا
جئت أشكو إليك يا واسع الجو ... د كلاما أبديته لي نكرا
أن أكن مذنبا فمعظم ذنبي ... أنني زدت في المقامات عشرا
فسمعت الغليظ منكم وحسبي ... أنني بالسكوت قد نلت أجرا
وثناني الحياء وهو رداء ... أفتى لم يمل مع النفس دهرا
فاسمحوا اللفقير بالكتب فضلا ... منكم واجعلوا مع العسر يسرا
أنني مغرم بجمعي للأداب لما غدوت بالشعر مغري
لا تخل أنني من الشعر عار ... حيث أني اكتسيت ثوبا تهري
لي في النظم قوة والمعاني ... لبناني تنقاد طوعا وقهرا
أن تغزلت في الجفون وفي الأحداق تأنس من التغزل سحرا
أووصفت الجبين والفرق والفر ... ع فإني أبدي من الليل فجرا
أو أردت المديح في أحد الأعيان أظهرت من بديعي درا
وكذا أن هجوت أفحشت في القول ... لأني أحشوه نهرا وزجرا
بلسان كأنه اللولب الدوار أو كالحسام مدا وقصرا
ولعمري لقد بنيت من الفهم بناء مشيدا مشمخرا
وقرأت الحديث والفقه ... والمنطق حتى غدوت للعلم صهرا(1/65)
لم أفه بالذي ذكرت سوى للسيد المحبي الذي طاب نجرا
فليحسن في الظنون فإني ... لم أرم بالذي تبجحت فخرا
عش مدى الدهر في السعادة والأقبال والخير ما سقي القطر غبرا
فلما قرأها تغير لونه وظنها دسيسة عليه وأني لست ناظمها وقال لي خذ اقرأها أنت فلما وصلت إلى قولي منها بناء مشمخرا قال لي قف معنى مشمخرا قلت مرتفعا قال ليس هذا من كلام العرب قلت بلى من كلام العرب هذا بشر بن أبي عوانه قاله وغيره قال أو تعرف ما قاله بشر بن أبي عوانة قلت وأحفظ القصيدة برمتها قال أنشدها أن كنت صادقا فقلت نقل صاحب قراضة الذهب أنه كتب بشر ين أبي عوانة العبدي الجاهلي إلى أخته فاطمة وكان قد خرج في ابتغاء مهر ابنه عمه فعرض له أسد فقتل الأسد وقال
أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لاقي الهزبر أخاك بشرا
إذا لرأيت ليثار ام ليثا ... هزبرا أغلبا لاقي هزبرا
تهنس أو تقاعس عنه مهرى ... محاذرة فقلت عقرت مهرا
أنل قدمي ظهر الأرض أني ... رأيت الأرض أثبت منك ظهرا
فحين نزلت مدالي طرفا ... تخال الموت يلمع منه شررا
فقلت له وقد أبدى نصالا ... محددة ووجها مكفهرا
يدل بمخلب وبحد ناب ... وباللحظات تحسبهن جمرا
وفي يمناي ماضي الحد ابقي ... بمضر به قراع الدهر أثرا
ألم يبلغك ما فعلت ظباه ... بكاظمة غداة قتلت عمرا
خرجت تروم للأشبال قوتا ... ورمت لبنت عمي اليوم مهرا
وقلبي مثل قلبك ليس يخشى ... مصاولة فكيف يخاف ذعرا
ففيم تروم مثلي أن يولى ... ويجعل في يديك النفس قسرا
نصحتك فالتمس ياليث غيري ... طعاما أن لحمي كان مرا
محضتك نصح ذي شفق فحاذر ... مرامي لا تكن بالموت غرا
فلما ظن أن النصح غش ... فخالفني كأني قلت هجرا
خطا وخطوت من أسدين راما ... مراما كان إذا طلباه أمرا
يكفكف غيلة أحدى يديه ... ويبسط للوثوب على أخرى
هززت له الحسام فخلت أني ... شققت به من الظلماء فجرا
وأطلقت المهند من يميني ... فقد له من الأضلاع عشرا
وجدت له بثاية أرته ... بأن كذبته ما منه عذرا
بضربة فيصل تركته شفعا ... وكان كأنه الجلمود وترا
فخر مضرجا بدم كأني ... هدمت به بناء مشمخرا
فقلت له يعز علي أني ... قتلت مماثلي جلدا ونهرا
ولكن رمت أمرا لم يرمه ... سواك فلم أطق يا ليث صبرا
تحاول أن تعلمني فرارا ... لعمر أبي لقد حاولت نكرا
فلا تغضب فقد لاقيت حرا ... يحاذر أن يعاب فمت حراً
فكان قراءتي لها أشد على الشيخ من سماع قصيدتي إذ قصة بشر مع الأسد كقصتي مع الشيخ فلم يسعه إلا أن قال لعبده ياقوت المشهور هات الكتابين وناولهما لهذا الرجل ثم اعتذر إلي عفا الله عنه فأخذتهما وانصرفت شاكرا داعيا ومنها ما حكاه قال أنني أمتدحت المرحوم قاضي القضاة بالشام المولي عبد الرحيم الرومي الحنفي سنة ثمان وألف بقصيدة ميمية وقد فقدتها من بين مسوداتي الآن وكنت أستكتب فيها المرحوم الشيخ كمال الدين بن بركات بن الكيال فلما قدمتها إليه أجازني بجائزة حسنة فلما نمت تلك الليلة رأيت كأني جالس بين يديه وهو يتأمل القصيدة ويقول يا شيخ هذا نظمك فقلت أي والله يا سيدي فقال لي وخطك فقلت له نعم فتبسم منكرا ثم تناول الدواة وقطعة قرطاس وقدمهما إلي ثم قال لي خذا نظم نصف بيت واكمته فتناولتهما وكتبت
أقضي قضاة الورى عبد الرحيم غدا ... يقول ممتحنا والصدق شيمته
انظم لنا نصف بيت قلت ممتثلا ... ها قد نظمت ولكن أين قيمته
ثم ناولته القرطاس فاهتز طربا وأبدي عجبا وقال هذا الخط من جنس قول الشاعر عيناه فحجلت وقلت له لعل مولانا يشير إلى قوله(1/66)
عيناه قد شهدت بأني مخطىء ... وأتت بخط عذاره تذكارا
ياقاضي الحب اتئد في قصتي ... فالخط زور والشهود سكارى
فلما سمع ذلك مني ضحك ضحكا عاليا وجعل يضرب بيده على ركبته ويقول الآن حكيت فأستيقظت من منامي وحس الضرب في آذاني ومنها ما قال نشأ بحلب غلام بديع الجمال من أقارب شيخ الأسلام المرحوم الشيخ زين الدين عمر العرضي والغلام شريف أنصاري فنظم فيه أدباء حلب مقاطيع كثيرة في آخر كل مقطوع منها والحسن تحت عمامة الأنصاري ثم أرسلوا إلى دمشق يطلبون من أدبائها مقاطيع على نمط ما نظموه فنظم أدباء الشام مقاطيع كثيرة وأرسلوها إليهم منها
سألوا عن الحسن البديع تجاهلا ... والحق لا يخفى على الأبصار
فأجبت ما هذا التجاهل والعمى ... والحسن تحت عمامة الأنصاري
ومن ذلك قولي فيه
قالوا هل اجتمعت صفات الحسن في ... أحد ولم تحجب عن الأبصار
قلت الملاحة والجمال بأسره ... والحسن تحت عمامة الأنصاري
ومن ذلك قولي فيه أيضا
ما حلت عن حلب وكنت مهاجرا ... للحسن حيث السعد من أنصاري
فالسعد لاح بوجه أنصاريها ... والحسن تحت عمامة الأنصار
ومنها قال ووقع بحلب نادرة فريبة حضرتها في سنة ست بعد الألف وهي أن شخصا يسمى بدراعشق غلاما فتعاتبا يوما فقال له الغلام أن كنت تحبني فارم بنفسك في الخندق ففعل ذلك ثم أخرج منه بعد أيام ودفن فنظم فيه أدباء حلب مواليات كثيرة آخر كل مواليا منها أن كنت بتحب واصل جرى للخندق إلا أنهم لم يأتوا بالمقصود فيما نظموا فسألني بعضهم نظم مواليات فقلت
قوس الأراده على مغرم شجي بندق ... من أجل محبوب لأجله الناس تتزندق
فقال لو يوم قله بس تتفندق ... أن كنت بتحب واصل جرى للخندق
ومن شعره المجموع في السفر المذكور قوله مخمسا أبيات ابن الجهم رحمهما الله تعالى
لا تلح صبابه الهوى ولعا ... ولو سقاه من كاسه جرعا
وأن صغى للعذول أو سمعا ... دعه يداري فنعم ماصنعا
لو لم يكن عاشقا لما خضعا
كيف ووصل الحبيب ممتنع ... يهدأ صب أحشاؤه قطع
وليس فيما سواه منتفع ... وكل من في فؤاده وجع
يطلب شيئا يسكن الوجعا
أصعب من حرقة على ولد ... بعد أسير يبيت في صفد
يصبح ذاعلة وذا نكد ... وارحمتا للغريب في البلد
النازح ماذا بنفسه صنعا
واها لصب أعداؤه طمعوا ... فيه وخلانه به فجعوا
ما هجعت عينه وما هجعوا ... فارق أحبابه فما أنتفعوا
بالعيش من بعده وما انتفعا
أقصوه عن أهله وتربته ... وقاطعوه من بعد صحبته
فهو ينادي لفرط كربته ... يقول في نأيه وغربته
عدل من الله كل ما وقعا
وقوله مخمسا الأبيات التي يقال أنها مكتوبة على سيف بخت نصر وهي
الجود ما أختص به حاتم ... وكل سر فله كاتم
والحر لا يخفضه شاتم ... لله في عالمه خاتم
تجرى المقادير على نقشه
فازا امرؤ كان له مرتقى ... يرقى به أوج العلى والتقى
أكرم به أن زال عنه الشقا ... وأنت أن لم ترج أو تتقي
كالميت محمولا على نعشه
أياك وإلا جدر في سربه ... فالشر كل الشر في قربه
وأنت لا تقوى على حربه ... لا تنبش الشر فتبلى به
واحذر على نفسك من نبشه
أهل الولايات لهم مشرع ... بكل ما يولى الثنا مسرع
لهم إلى نيل العلا مهرع ... ودولة البغي لها مصرع
تنزل السلطان من عرشه
أحذر ظلوما أن طغى أو بغى ... وجاهلا في عرض حر لغا
ما بعد نصح قلته مبتغى ... أما رأيت الكبش لما طغى
أدرج رأس الكبش في كرشه
وكتب إلى النجم الغزى ملغزا
يا نجم يا ابن البدر يا شمس الهدى ... يا من ضياء وجهه يجلو الغلس
ما اسم حروف لفظه أن عددت ... فحمسة وأن تصحف فهو بس(1/67)
فأجابه رحمهما الله
يا ملغزا في اسم عليه ربنا ... صلى وأدناه إليه في الغلس
وجاء في التنزيل تنزيل اسمه ... تحت سبا وفاطر فوق عبس
وكتب إليه أيضا
حليفة موت كفنت ثم ألحدت ... بغير صلاة بينوا الحكم تؤجروا
فأجابه
يصلى عليها وهي في اللحد سيما ... وقد غسلت هذا جواب محرر
ورأى لبعض الفقهاء هذين البيتين ملغزا
ما آن منفردان كل منهما ... يجري بالأستعمال في التطهير
كل طهور وحده حتى إذا ... جمعا يعود الكل غير طهور
فأجاب عنهما بقوله
ماء تغير في الممر أو المقر ... يجوز منه الأخذ للتطهير
وإذا خلطت به الطهور وقد نما ... التغيير عاد الكل غير طهور
ومن أحاجيه قوله محاجيا في بلقين
أيها الفاضل الذي لو كتبنا ... بعض فضل له لعز المداد
قل لنا أي قرية ذات طلع ... أطلعت كاملا إليه الرشاد
لو أردنا بها نحاجى لقلنا ... أرق الماء أيها الحداد
وقوله محاجيا في عواصف
وكم رمت وصفا للحبيب فلامني ... عذولي ولم يعلم بكنه محبتي
فمن لي بحبر في الأحاجي يقول لي ... إذا رمت نعتا لائقا نبح انعت
وقوله محاجياً في قسام
لو ذعى الزمان فقت على ... كل أمام علت معارفه
أجب العبد منعما وأجد ... طرح الموت ما يرادفه
وقوله محاجيا في أخلاط
لئن كنت رب الحجى ... وذا فكرة جائشه
فما مثل قول الفتى ... شقيق أتى الفاحشه
ومن دو بيتاته قوله
ابليس وجنده أتوا مشتدين ... يا رب لفتنتي غدوا معتدين
أن كنت أطعت أمرهم عن خطأ ... رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين
وقوله يخرج منه اسم دينار بطريق التعمية
اللوم دعوه أيها اللوام ... لله حقا في الورى أحكام
العشق مواطن الشقا من قدم ... من لام تحطه بها الأيام
وقوله يخرج منه اسم رمضان
يا لقلب أسر قتلتي محبوبي ... يا دمع سل ويا حشاي ذوبي
أن أوجب ما أسر يا حاجبه ... كن حاجبه بقوسك المجذوب(1/68)
وله هذه القطعة من حمل زجل على وزان يا غائبين عني ما ترجعوا من نعشقو بالهجر قلبي قلا لما قلا وحين على جمر الغضالي سلا عني سلا وزاد على قلبي العنا والبلا وأمسيت بلا جليس أنيس عاني وجودي عدم سكران فراق هاثم نديمي الندم وقد سقاني البين بكاسه جرع دلني كيف أصنع والعذول بي شنع وامتنع عني الذي أهوى وظهري انقسم حظي مسودفا حم ما رأيت لي راحم أو لسقمي آس أهيم في النواح ورى في النواح في حجيم ما تخمد وأمسى جفني الرمد من تجني قاس قلت ولو ذكرت ماله من الفنون السبعة لطال الكلام غير أني على ذكر هذه الفنون رأيت أن أتعرض للكلام عليها بما يفيد معرفتها وهي فائدة خلا أكثر كتب الأدب عنها وزبدة القول عنها أنها لا ريب في كونها خارجة من الشعر لأنه يطلق على أبيات كل من القصيدة والرجز والقريض ويختص بما قابل الرجز وإنما هي داخلة في النظم وأول من نظم الموشح المغاربة وهذبه القاضي الأجل هبة الله ابن سناء الملك وتداوله الناس إلى الآن وسمى موشحا لأن خرجاته وأغصانه كالوشاح له وسبب تقدمه على ما بعده لأعرابه كالشعر لكن يخالفه بكثرة أوزانه وتارة يوافق أوزان الشعر وتارة يخالفه والد ويبت أول من اختلاعه الفرس ونظموه بلغتهم ومعناه بيتان ويقال له الرباعي لأربعة مصاريعه وقد اشتهر بأعجام داله وهو تصحيف وهو ثلاثة أقسام يكون بأربع قواف كالمواليا وأعرج بثلاث قواف ومردوفا بأربع أيضا وكله على وزن واحد وتقدم على ما بعده لأعرابه أيضا وأول من اخترع الزجل رجل اسمه راشد وقيل أبو بكر قزمان المغرساني وهو في اللغة الصوت وسمى زجلا لأنه يلتذبه ويفهم مقاطيع أوزانه ولزوم قوافيه حتى يغني به ويصوت وهو خمسة أقسام ما تضمن الغزل والزهر والخمر وحكاية الحال يختص بالزجل وما تضمن الهزل والخلاعة يقال له بليق وما تضمن الهجو والنكت يقال له الحماق وما بعض ألفاظه معربة وبعضها ملحونة فاسمه مزبلج وما تضمن الحكم والمواعظ فاسمه المكفر بكسر الفاء المشددة والأول أصعب هذه الخمسة وقال مخترعه قزمان لقد جردته من الأعراب كما يجرد السيف من القراب وسبب تقدمه
على ما بعده كثرة أوزانه وصعوبة نظمه وقربه من الموشح في أغصانه وخرجاته وأول من اخترع المواليا أهل واسط وهو من بحر البسيط اقتطعوا منه بيتين وقفوا شطر كل بيت بقافية ونظموا في الغزل والمديح وسائر اصنائع على قاعدة القريض وكان سهل التناول تعلمه عبيدهم المتسلمون عمارتهم والغلمان وصاروا يغنون به في رؤس النخل وعلى سقي المياه يقولون في آخر كل صوت يا مواليا أشارة إلى ساداتهم فسمى بهذا الأسم ولم يزالوا على هذا الأسلوب حتى أستعمله البغداديون فلطفوه حتى عرف بهم دون مخترعيه ثم شاع وسبب تقدمه على ما بعده لأنه من بحر القريض بحيث ينظم معربا على قاعدته وأما الكان وكان فله نظم واحد وقافية واحدة ولكن الشطر الأول من البيت أطول من الثاني ولا تكون قافيته الأمر دوفة وأول من اخترعه البغداديون وسبب تسميته بهذا الأسم أنهم لا ينظمون فيه سوى الحكايات والخرافات فكان قائله يحكى ما كان إلي أن ظهر لهم مثل الأمام ابن الجوزي والواعظ شمس الدين الكوفي وغيرهما من فضلاء بغداد فنظموا فيه المواعظ والحكم وسبب تقدمه على ما بعده لأنه ينظم بعض ألفاظه معربة وأما القوما فله وزنان الأول مركب من أربعة أقفال ثلاثة متساوية في الوزن والقافية والرابع أطول منها وزنا وهو مهمل بغير قافية والثاني من ثلاثة أقفال مختلفة الوزن متفقة القافية يكون القفل الأول منها أقصر من الثاني والثني أقصر من الثالث وأول من اخترعه البغداديون أيضا في الدولة العباسية برسم السحور في رمضان وسمى بهذا الأسم من قول المغنين بعضهم لبعض قوما لنسحر قوما فغلب عليه هذا الأسم ثم شاع ونظموا فيه الزهري والخمري والعتاب وسائر الأنواع وأول من اخترعه أبو نقطة للخليفة الناصر وكان يعجبه ويطرب له وجعل لأبي نقطة عليه وظيفة في كل سنة فلما توفي أبو نقطة كان له ولد صغير ماهر في نظم القوما فأراد أن يعرف الخليفة بموت والده ليجريه على مفروضه فتعذر عليه ذلك إلى رمضان ثم جمع أتباع والده ووقف أول ليلة منه تحت الطيارة وغنى القوما بصوت رقيق فأصغى الخليفة وطرب له فلما أراد أن ينصرف قال
يا سيد السادات ... لك بالكرم عادات(1/69)
أنا ابن أبي نقطه ... تعيش أبي قدمات
فأعجب الخليفة من هذا الأختصار فأحضره وخلع عليه وجعل له ضعف ما كان لأبيه والقما والكان وكان لا يعرفهما سوى أهل العراق وربما تكلف غيرهم فنظمهما وكل بيت من القوما قائم بنفسه وأما تأخيره فلعدم أعرابه انتهى وقد أطلنا المقال لكن ما خلونا من فائدة تناسب في هذا المجال وكانت وفاة العمري في أواخر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وألف وقد درج التسعين وقال عمر بن الصغير شيخ الأدب بعده في تاريخ وفاته
يا شيخ دمشق بالنظام الزاهي ... بشراك بجنة سناها باهي
الهاتف من ألهمني تاريخا ... لي قال أبو بكر عتيق الله
والعمري نسبة إلى العقيبي الحموي الذي ورد إلى دمشق خليفة من جهة العارف بالله تعالى الشيخ علوان وكان مسكنه بمحلة العقيبة خارج دمشق بالقرب من جامع التوبة وكان العقيبي المذكور أميا غير أنه كان ماهرا في الكلام على الخواطر وله مكاشفات وكرامات شتى ذكره النجم في الكواكب السائرة وأطال في ترجمته وكان منصور والد صاحب الترجمة من جماعته الملازمين له فنسب إليه كذا ذكره البوريني في ترجمته والله تعالى أعلم السيد أبو بكر بن السيد هداية الله الحسيني الكوراني الكردي المشهور بالمصنف ذكره الأستاذ الكبير العالم العلم ابراهيم بن حسن الكردي نزيل المدينة المنورة في كتابه الأمم لا يقاظ الهمم في ترجمة المشايخ الذين روى عنهم فقال أمام علامة له مؤلفات كثيرة منها شرح المحرر في الفقه في ثلاث مجلدات انتفع به أهل تلك البلاد وله كتابان بالفارسية أحدهما سراج الطريق يشتمل على خمسين بابا والآخر رياض الخلود ويشتمل على ثمانية أبواب وكان من أولياء الله تعالى كثير الأجتماع بالخضر على نبينا وعليه السلام وممن أخذ عنه وعليه تخرج ولده المنلا عبد الكريم شيخ المنلا ابراهيم المذكور وكانت وفاته في سنة أربع عشرة بعد الألف رحمه الله تعالى أبو بكر الكردي العمادي الشافعي نزيل دمشق ذكره النجم في الذيل وقال في ترجمته كان فاضلا بارعا قانعا عفيفا وله مع ذلك بشلشة وحسن فهم وأستماع حريصا على الفائدة وربما علق وحشى إلا أن خطه كان سقيما وذكر مبدأه أنه ورد دمشق مع خاله وكان دون البلوغ وتركه خاله بها ورحل فجاور في المدرسة الكلاسة في جانب الجامع الأموي وكان يسقى الماء بالجامع المذكور ويتقوت بما يدفعه الناس وخدم العلامة أحمد الكردي العمادي الآتي ذكره وقرأ عليه وبه تخرج ونفقه بالشهاب العيثاوي والشمس الميداني وأخذ الحديث عن الشمس الداودي نزيل دمشق ولازم مجلسه وقرأ العربية والتصريف على الحسن البوريني والنجم الغزى وبرع في الفقه وغيره ثم حصلت له بقعة تدريس بالجامع الأموي فتصدر وانتفعت به الطلبة سنوات مع وجود مشايخه وممن قرأ عليه الكمال العيثاوي وتزوج فبقي متأهلا نحو سنتين مع القناعة وذكر الغزى عنه حكاية رؤيا رأها عجيبة قال أخبرني أنه رأى أنه كان في الجامع الأموي وكل من فيه نصاري قال فأغتظت لذلك وأنكرته وإذا رجل يقول لي أدخل إلى الشيخ محيي الدين بن عربي إلى داخل الجامع فاشك إليه ذلك قال فدخلت فوجدت الشيخ ابن عربي جالسا في محراب المقصورة وبين يديه جماعة قليلة وهو يدرس وهم يقرؤن عليه فقلت له يا سيدي أما ترى هؤلاء النصارى ملؤ المسجد كيف لا تنكر ذلك ومن هؤلاء فقال لي لا تحزن هؤلاء النصارى هم الذين ضلوا بمطالعة كتبي وأما هؤلاء المسلمون بين يدي فهم الذين انتفعوا بكلامي وهم قليلون كما تراهم والذين هلكوا بكلامي كثير كما تراهم وكانت وفاة أبي بكر صاحب الترجمة ليلة الأثنين حادي عشري محرم سنة ست بعد الألف عن نحو ثلاثين سنة ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى(1/70)
الشيخ أبو بكر المعصراني المجذوب الصالح قال العزي في ترجمته كان في مبدائه يتكسب بعصر السمسم وكان يحب مجالس الذكر فحضر مجلسا فيه جماعة أجتمعوا على ذكر الله تعالى منهم الأخ الشهاب الغزى والشيخ سليمان الصواف والد الشيخ أحمد بن سليمان وبات تلك الليلة عندهم فلما كان وقت الذكر لاحت له بوارق الحق فتوله وتعرى ما دون عورته ثم أنجلت عنه تلك الحالة بعد أشهر ثم كانت تعاوده في كل سنة ثلاثة أشهر أو أربعة يغيب فيها عن أحساسة ويحلق لحيته ويستأصلها ويتعرى ويكاشف في حالته تلك من يراه ويسأل الناس في تلك الحالة فلا يرده أحد ويعطيه فطعة وربما طلب أكثر وكان يصرف ما يجمعه على الفقراء ولم يطلب من أحد شيئا ويكون خاليا من الدراهم وكان كشفه ظاهر الأشبهة فيه وله فيه وقائع مشهورة ثم كان إذا سرت عنه الحالة لازم الصمت والعبادة ولا يخرج من الجامع الأموي إلا للوضوء ونحوه ويمسك على لحيته قال وكانت بيننا وبينه صحبة أكيدة وأخذته حالة في آخر أمره فلا زمني وكان يبيت عندي ويكلمني في حالته تلك بلسان غير اللسان الذي يكلم به أكثر الناس فهو مستغرق عنهم في نظرهم وهو حاضر معي غير مستغرق إلا أنه ربما يظهر منه تخريف وأقبل علي مرة في حالته وهو يشارر الناس ويشاتمهم وكان لا يشتم أحدا إلا بما فيه تأويل ظاهر فخطر لي ما يقاسيه في حالته من الشدة والبلاء فلما حاذاني وقف علي ضاحكا مستبشرا وقال لي يا فلان
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
قال وسألت الله أن يكشف لي عن مقامه فرأيته في تلك الليلة في المنام في صورة أسد ثم تحول إلى صورته فظهر لي بذلك أنه من الأبدال فلما كان آخر النهار رأيته وهو في حالته تلك فضحك وقال كيف رأيتني البارحة وكانت وفاته بين العشاءين ليلة الأثنين الخامس والعشرين من المحرم سنة أربع عشرة بعد الألف رحمه الله تعالى أبو بكر السندي الشافعي المجاور بالطواشية شرقي الجامع الأموي تحت المنارة الشرقية نحو عشر سنين المنلا المحقق الفهامة كان بارعا في المعقولات نافعا للطلبة صالحا دينا مباركا آثر الخمول والقناعة وكانت تخطبه الدنيا ويأبى إلا الفرار منها ملازما على العبادة والصلاة بالجماعة يسرد الصوم دائم الصمت حسن الأعتقاد متواضعا لا يرغب في الحكام ولا يجتمع بهم ملازم الطلبة وملازموه وانتفعوا به في المعقولات وغيرها مات مطعونا وهو صائم في يوم السبت ثالث ربيع الأول سنة ثمان عشرة بعد الألف ودفن بتربة الغرباء بمقبرة الفراديس قال النجم ومات قبله بأيام صاحبه المنلا محمد الهندي وكانا متلازمين في الحياة وفي الممات فإن قبره إلى جانب قبره وقلت ملمحا
عجبت لطاعون أصابت نباله ... وأربت على الخطى والصارم الهندي
سطافي دمشق الشام عاما وآخرا ... تبسط في الهندي وما ترك السندي
أبو بكر الطرابلسي الحنفي شيخ الأقراء بالشام أخذ القراآت عن المقري الكبير ابراهيم بن محمد العمادي المعروف بابن كسباي المقدم ذكره وبرع في علومها وكان له مشاركة في غيرها من الفنون وكان يعسر عليه الأداء كشيخه ابن كسباي وكان دينا صالحا وقورا منزويا عن الناس وتولى أمامة السياغوشية داخل باب الشاغور وهو آخر المقرئين بدمشق مات يوم تاسع أو عاشر شعبان سنة ست وعشرين وألف ودفن بباب الصغير رحمه الله تعالى أبو البقاء بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن الصفوري الأصل الدمشقي الصالحي أحد صدور دمشق كان ذا وجاهة ومروءة وإليه مرجع أهل دائرته في الأمور وبلغ من العز ونفوذ الكلمة ما قصر عنه أهل عصره وفيه يقول الأمير منجك بن محمد المنجكي قصيدته المشهورة
من لي به والسحر ملء جفونه ... رشأ يغادر البدر من تكوينه
يقول فيها
عاطيته بنت الدنان وقد شدا ... قمري روض اللهو فوق غصونه
والليل معتكر ومعترك الحيا ... يزهو بوفد رذاذه وهتونه
والبرق في خلل السحاب كأنه ... سيف تقبله اكف قيونه
وكأنما القمر لمنير ضياؤه ... من وجه مخدون العلا وقرينه
اعني به المولي الأجل أبا البقا ... من ظنه في الدهر مثل يقينه(1/71)
شرس يعد الخطب لين خطابه ... والنصل شدة بأسه في لينه
قد أودع الله السيادة والتقى ... في بردتيه وآدم في طينه
من ذا يقيس به البرية رفعة ... أن الزمان وأهله من دونه
يفنى الزمان وليس يبلغ وصفه ... شعر ولو بالغت في تحسينه
كان أولا شافعيا وصار كاتبا للصكوك بمحكمة الصالحية وناب في القضاء بمحكمة الكبرى ثم سافر إلى الروم مرات ولازم على قاعدتهم وتحنف وتولى القضاء في عدة مناصب مثل صفد وصيدا وبيروت وحماة وأقبل عليه آخر أمره بعض الوزراء العظام وكان قد بشره بالوزارة العظمى فصيره من الموالي وأعطاه رتبة قضاء القدس وقرية الريحان بالقرب من حرستا على طريق التأبيد ورجع إلى دمشق وأقام بالصالحية وعمر بها قصرا وهو إلى الآن من أحسن المنتزهات بها ويعرف به وفيه يقول الأمير المنجكي في آخر قصيدته المتقدمة
أقسمت بالبيت العتيق وماحوت ... بطحاؤه من حجره وحجونه
ماضمت الدنيا كقصرك منزلا ... كلا ولا سمحت بمثل قطينه
وكان يعرف علم النجوم وتالزاير جاحق المعرفة وربما رمى بالسحر إلا أنه كان في غير ذلك جاهلا وفيه يقول الأديب أحمد الشاهيني هاجيا له
أبا البقاء لحاك الله من رجل ... فيك الطبيعة قد قدت من الحجر
كم تدعى بعلوم النجم معرفة ... وليس تفرق بين النجم والقمر
وكانت له أحوال وقصص وأخبار ووقع له من الأتفاقات أنه لما قدم محمد باشا نائب الشام عوضا عن محافظها الوزير المعروف بالخناق وقد كان الخناق يحب صاحب الترجمة فبلغ محمد باشا محبته له فلما خرج لأستقباله على عادة أهل الشام أهانه أهانة بليغة فأتى إلى بيته واجتلى فيه وأخذ يتلو بعض الأسماء فاتفق بعد ثمانية أيام أن مات محمد باشا المذكور وطلع أبو البقاء في جنازته مع بقية القوم وأخذ يتبجح بقتله فسمعه الشاهيني المذكور وهو يتجاهر بذلك فقال له تقتلون القتيل وتمشون في جنازته وهذه القصة مشهورة وتروى على انحاء مختلفة وملخصها ما ذكرته وله غير ذلك من الوقائع مما هو مستفيض مشهور وكانت ولادته في سنة أحدى وثمانين وتسعمائة وتوفي نهار الجمعة حادي عشري جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وألف روصلى عليه بالسليمية ودفن بالسفح وقيل في تاريخه
أودى مسيلمة الكذوب ... الساحر النحخس المرائي
ألهمت في تاريخه ... مات الشقي أبو البقاء
الشيخ أبو الجود بن عبد الرحمن بن محمد وتقدم تمام نسبه في ترجمة ابن أخيه ابراهيم ابن أبي اليمن البتروني الحلبي مفتى حلب وعالم ذلك القطر ومحط أهل دائرته وكان علامة محققا بارعا في المذهب والتفسير فارسا في البحث نظارا هاجر به أبوه وبأخويه أبي اليمن ومحمد إلى حلب بإشارة الشيخ علوان الحموي وصار أبوهم واعظا وخطيبا بجامع حلب وكان هو وولده أبو الجود يتعممان بالعمامة الصوفية واشتغل أبو الجود على علماء عصره وولى بعد أبيه الوعظ والخطابة بالجامع وكان يقرأ الدروس في الرواق الشرقي ثم ولى الأفتاء وتقاعد عن قضاء القدس ثم عن قضاء المدينة ونال من الرتبة ما لم ينله أحد ممن تقدمه وكان له سخاء ومروءة وحمية ومدحه شعراء عصره وخلدوا مدائحه في دواوينهم فمنهم حسين الجزري وفتح الاه بن النحاس وحسين بن خاندار البقاعي وفيه يقول بعض شعراء حلب
أبي الجود في الدنيا سواك لأنه ... تفرع من جود وأنت أبو الجود
وأضدادك الوادي لهم سال واستوت ... سفينة بحر العلم منك على الجودي(1/72)
وذكره البديعي في ذكرى حبيب وأثنى عليه كثيرا وقال في ترجمته دخل مرة على بعض الوزراء العظام ومجلسه غاص بالخاص والعام بعد غضب يمنع لذة الهجود ومن ذا يقر على زئير الأسود فخاطبه بجرس جهوري ولفظ جوهري يزيل الأحن من القلوب وتغفر بمثله الذنوب بما نصه نام أعرابي ليلة عن جمله ففقده فلما طلع القمر وجده فرفع إلى الله يده وقال أشهد أنك أعلينه وجعلت السماء بيته ثم نظر إلى القمر وقال أن الله صورك ونورك وعلى البروج دورك فإذا شاء قدرك وإذا شاء كورك فلا أعلم مزيدا أسأله لك إلا الدوام ولئن أهديت إلى قلبي سروره لقد أهدى الله إليه نوره فأنا ذلك الأعرابي والوزير ذلك القمر المضي لقد أعلى الله قدره وأنفذ أمره ونظر إليه وإلى الذين يحسدونه فجعله فوقهم وجعلهم دونه فلا أعلم مزيدا أدعو له به إلا الدوام فالله يديم له ظلال النعمه ومجال القدرة ومساق الدوله ووقفت على تفريظ كتبه على مؤلف العلامة الطرابلسي الدمشقي الذي شرح به فرائض ملتقى الأبحر وهو أمعنت النظر في هذا التحرير وأجلت الفكر فيما حواه من التصوير والتقرير فرأيته البحر المحيط إلا أنه ثجاج والوبل الغزير خلا أنه مواج وجزمت بأنه السحر الحلال والكمال الذي لا يحكيه في فنه كمال لازالت شموس فوائد مؤلفه مشرقه ولا برحت أغصان فوائده مورقه ما زينت أقلام العلماء الأعلام بوشى سطورها وجنات الطروس فأشرقت لذلك صدور الصدور أشراق الشموس وكانت وفاته غرة صفر سنة تسع وثلاثين وألف وقد ناهز التسعين وهو في نشاط أبناء العشرين وقيل في تاريخ موته
أن أبا الجود الذي فاق الورى ... وروج العلم وساد سوددا
أدركه الموت الذي تاريخه ... العلم مات بعده وأرقدا
ورثاه السيد محمد بن عمر العرضي بقصيدة عجيبة ذكرتها برمتها ميلامني لشعر هذا السيد وكذا أفعل في كل آثاره وهي
بفقدك قامت نواعي الحكم ... وقد فل بعدك حد القلم
أقامت مآتمها المشكلات ... عليك وسودوجه الرقم
فتبا ليومك من طارق ... نسخت به لذتي بالالم
ورثت به حالكات الهموم ... كما ورث ابنك عز النعم
ورعيا لدهر أثر نابه ... نقيع المباحث في المزدحم
نجاذب أطرفها ساعيين ... إلى حلبة السبق سعى القدم
صراخ الزمان صراخ النكا ... ل عليك وحق له بالعدم
فقد كنت سدة ثلماته ... وآخر نعمائه للأمم
وعذرا لابنائه أنهم ... ذنوب لهم بل صروف النقم
فقدتك فقدان روق الشبا ... ب وشعب الأماني به ملتئم
ليبكيك دار الضحى والأصيل ... ودار الصباح ودار الظلم
لبست عليك ثياب الحداد ... وشبت غضارة دمعي بدم
لقد ثكلت كل من لم تلد ... نظيرك في خيمه والشيم
حنانيك عن مهجة رعتها ... ولبيك عن كبد تضطرم
أبا الجود قرة عين العلا ... وغرة جبهتها في القدم
لقد خاب بعدك من ينتصى ... سيوف معاليك في الملتطم
أيصفر في الجو بعد العتاة وشهب البزاة يغاث الرخم
دفنت بدفنك في خاطري ... مباحث علم غدت كالرمم
قضيت ولم تقض منك المنى ... لباناتها والقضا محتتم
فإن كان قبرك دون الثرى ... فقدرك فوق عوالي الهمم
يعز علي بأن ينطوى ... بساط الدروس ونشر الحكم
فقد شدت مجلس أهل العلوم ولكن بأيدي المنون انهدم
سقى جد ثا أنت ثاوبه ... رخى السيول مفاض الديم(1/73)
أبو الحسن بن الزبير السجلماسي المغربي عالم المغرب وأمام نحاهه في عصره ومحقق علمائه أجمع أهل المغرب على جلالته وتمكنه في العلوم العربية وكان كثيرا الحفظ لشواهد العرب والأطلاع على أخبارهم وله المهارة القوية في اللغة وكان إذا أورد المسائل النحوية يورد لها شواهد عديدة لا يجدونها في الكتب المتداولة وكان يحفظ التسهيل وغالب شروحه وكان فصيح العبارة حسن التقرير عظيم الهيبة وهو من أجل من نشر العلوم العربية بفاس وعلمها الطلبة وكان إذا قر المسئلة لا يزال يكررها بعبارات مختلفة حتى تظهر بادي الرأي فلذلك كثر الآخذون عنه من أقطار الغرب الأقصى على كثرة علمائه أذ ذاك أخذ عن أمام النحاة أبي يزيد عبد الرحمن بن قاسم بن محمد بن عبد الله المكناسي وكثيرين ممن أخذ عنه الشيخ أحمد بن عمران والشيخ عبد القادر بن علي الفاسي ومحمد بن أبي بكر الدلائي ومحمد بن ناصر الدراوي وغيرهم من الشيوخ الكبار وكانت وفاته بفاس في سنة خمس وثلاثين وألف رحمه الله تعالى أبو السرور بن محمد بن علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عوض بن عبد الخالق بن عبد المنعم بن يحيى بن الحسن بن موسى بن يحيى بن يعقوب بن نجم بن عيسى بن شعبان بن عوض بن داود بن محمد بن نوح بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وعنهم هذا نسب السادة البكرية سادات مصر من جهة الآباء ولهم من جهة الأمهات سيادة وأبو السرور هذا أحد أولاد الأستاذ محمد بن الحسن البكري الصديقي المصري الشافعي ولد في دولة أبيه وتربى في حجر الفضل والصلاح وكان له الذوق الصحيح في معارف الصوفية والبلاغة الكاملة في التقرير وهو أنبل أخوته وأفضلهم وأكثرهم مداومة على الأفادة والقاء الدروس وكان له اتساع في الدنيا ومخالطة الحكام ومداخلة في أمور كثيرة ودرس بالخشابية بعد موت شيخ الشافعية الشمس محمد الرملي شارح المنهاج وله مؤلفات منها مختصر في فضل ليلة النصف من شعبان من كتاب النبيذة لجده أبي الحسن وشرحه وسماه فيض المنان وقرظه الشيخ عبد الله الدنو شرى فقال
هذا كتاب منازل العرفان ... ومهذب الألباب والأذهان
فالزم قراءته ولازم درسه ... إذ ذاك فيض الواحد المنان
تأليف مولانا وحافظ عصره ... من نسل صديق النبي العدنان
لا زال يرقي في جناب سيادة ... ماغردا القمري على الأغصان
ووجدت في بعض التعليقات أنه عمل رسالة تتعلق بمباحث آيات السبع المثاني حاك برود طروسها على منوال التحقيق وطرز حواشي سطورها ببنان التدقيق وبعث بها من الديار المصريه إلى دار السلطنة العليه تتضمن طلب منصب افتاء الشافعيه بالقاهرة المعزيه وكان أمر الفتوى يومئذ منوطا بشيخ مصر على الأطلاق وعلامتها المشهور في الآفاق صاحب التصانيف العديده والتآليف المتداولة المفيده شمس الملة والدين محمد بن أحمد الرملي وعد ذلك الطلب منه على المحبة ذنبا واحد لكنه شنيع وخطبا عند فضلاء الأمصار والأعصار ظليع على أن لسان حاله أنشد معتذرا مبرزا من الضمير ما كان مستترا
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
وكان ينظم الشعر وشعره لطيف فمنه ما كتب به في صدر رسالة إلى الروم للمولي يحيى ابن الكمال الدين الدفتري يعاتبه علىانقطاع مراسلاته عنه
لو أذنتم لطيب من نسيم ... بسلام يحيى فؤاد السقيم
لتلقاه من فؤادي قبول ... قانع من شذاكم بشميم
ولو أن الرسول وافى برقم ... لمحب من شوقه في جحيم
كانت النار مثل نار خليل ... تنطفى بالسلام والتسليم
حين جاء الأخوان منكم طروس ... نظمها فائق كدر نظيم
ثم جاء الأنام نحوي سعيا ... يسألوا الصب عن نباك العظيم
هل تناسى الأمير منك ودادا ... أو ثناه الخسيس بالتلويم
قلت كلا فإن ود أميري ... محكم النص كالكتاب القديم
أن يحيى الأمير أعظم مولى ... لا يبالي بغادر وزنيم
إنما الكتب للمباعد معنى ... يكتفى بالرقوم أهل الرسوم(1/74)
وذكره الخفاجي في كتابه وقال فيه ولم يزل سمح السجيه بسام العشيه لاتلين قناته لغامز ولو صيره زاد المنيه إلى أن أصابت الرزايا بنات فؤاده بسهان المنايا فنضيت جداوله واستراحت حساده وعواذله وكانت وفاته في سنة سبع بعد الألف رحمه الله تعالى أبو السعود بن أحمد بن أبي السعود الدمشقي المعروف بابن الكاتب كان جده أبو السعود هذا من كبار التجار المياسير بدمشق وله رياسة وتقدم بين أبناء نوعه وجمع أموالا كثيرة وكان له أوقاف داره واحسانات وافرة وولده أحمد كان أيضا على أثره وتزوج بابنة العلامة محمد الجوخى الآتي ذكره وجاءه منها أبو السعود المترجم ونشأ في عز باهر ونعمة طائلة وقرأ وتنبل وابتلى بمحبة غلام وأنفق عليه مالا كثيرا وكان الغلام كثير التجني عليه واتفق أن أهل صاحب الترجمة أكثروا في لومه وتعنيفه فلم يرجع عما كان فيه وأداه ولهه وغرامه إلى قتل نفسه قيل أنه أكل سبعة دراهم من الأفيون وعولج فلم يفد علاجه ومات من ليلته وهو الذي أحدث هذه الفعلة بدمشق وكان الناس عنها غافلين وبعد ذلك تبعه في فعلها أناس واشتهر هذا الأمر وهذه القصة مشهورة حتى صارت بين أهالي دمشق مدارا للتمثيل بها في أغراض كثيرة وبالجملة فقد فتح مبدعها بابا شنيعا وارتكب أمرا فظيعا وكانت وفاته في رمضان سنة ست وخمسين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير وعمره خمس وعشرون سنة أبو السعود بن تاج الدين بن محمد بن أحمد بن زكي الدين البعلي الأصل الدمشقي المولد والوفاة الخزرجي الشافعي البارع المفنن كان فاضلا مشاركا في عدة فنون وله محاضرات وآداب وكان مطلعا على فؤائد كثيرة وله مواظبة على طلب العلم لا يفتر ولا يمل إلا القليل تفقه بالشيخ محمد الخباز المعروف بالبطنيني وقرأ العربية وبقية فنون الأدب على شيخنا محقق الوقت ابراهيم بن منصور الفتال المقدم ذكره ولازم دروسه مدة مديدة وحج كثيرا وأخذ عن علماء الحرمين ودخل القاهرة وأخذ بها عن خاتمة العلماء النور على الشبرا ملسى وغيره ودرس بالجامع الأموي بين العشاءين في الشفاء للقاضي عياض وكان يبدي أبحاثا مقبولة واستنابه آخرا الشيخ يونس المصري في درس قبة النسر المشهور في الشام لما توجه إلى الروم فدرس شهرين وأياما وحمدت طريقته وكان لطيف المحاورة حسن العشرة حمولا لنكات يقصده بها بعض الأخوان مغضيا عنها فمن ذلك ما وقع له أن بعضهم كتب إليه يسأله وكان ظرفاء الطلبة تواطأوا على تلقيبه بالتركيب المزجي بعارض نسبته إلى بعلبك
أيا علماء الشام ما هي لفظة ... مركبة بالنقص لا شك توشف
ويعطي لها حكم الفتى كل حالة ... ولا ضرر يدعى لذاك ويعرف
وأن ظهر المقصود فأتوا بحجة ... تبين لي فرقا جليا وأنصفوا
فأجاب بقوله قرر النحاة أن المركب المزجي قد يضاف أول جزأيه إلى ثانيهما تشبيها بالمركب الأضافي فيعرب الجزء الأول بحسب العوامل ويجر الثاني بالأضافة ثم أن كان في الجزء الثاني ما يمنع صرفه كالعجمة في رام هرمز منع من الصرف والأصرف كحضر موت وأن كان آخر الجزء الأول ياء كمعدي كرب وقالي قلا فإنه تقدر فيه الحركات الثلاث ولا تظهر فيه الفتحة قال في النكت بلا خلاف استصحابا لحكمها حالتي البناء ومنع الصرف وعلله شارح التوضيح بشبه الفتحة بالألف لأأن من العرب من يسكن مثل هذه الياء في النصب مع الأفراد فألزم في التركيب لزيادة الثقل ما كان جائزا في الأفراد فحينئذ يكون المنقوص وهو معدى كرب مثلا كالمقصور أي في حكم التقدير في الحالات لا أنه يكون معربا بالتقدير على الألف كما يرشد إليه قول السائل ويعطي له حكم الفتى دون قوله أعراب الفتى فلله دره وهذا هو المرجح في المسئلة كما قاله ابن مالك واقتصر عليه أبو حيان ونص عليه أبو علي وعبد القاهر وغيرهما وقال بعضهم يفتح في النصب ويسكن في الرفع والجر على أصل قاعدة المنقوص كقاضي القوم فتبين بهذا ايضاح ما ألغزه هذا السائل وظهر المقصود والحجة واتضحت به الحجه انتهى ما قاله في الجواب وكانت وفاته نهار الخميس بعد العصر عاشر رمضان سنة أربع وتسعين وألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى(1/75)
أبو السعود بن عبد الرحيم بن عبد المحسن بن عبد الرحمن بن علي المصري قاضي القضاة الشعراني أحد أفراد الدهر في المعارف الآلهية وكان في هذا العصر الأخير من محاسنه الباهرة جمع بين العلم والعمل وكان لأهل الروم فيه اعتقاد عظيم وهو من بيت الولاية والصلاح وعم والده العارف الكبير عبد الوهاب صاحب العهود والطبقات والميزان وغيرهما وفضله أشهر من أن يذكرو أما أبوه عبد الرحيم فقد أفردت له ترجمة خاصة ستأتي أن شاء الله تعالى وأبو السعود ولد بمصر ودخل الروم مع والده وهو صغير وذكر شيخنا ابراهيم الخياري المدني في رحلته عند ترجمته له أنه أخذ عن الشمس الرملي والنور الزيادي قال وأخبرني عن جماعة من بعض أولياء الله تعالى الصالحين المتصرفين من أهل الطريقة وهو بالروم أنه قال لرجل منهم مالنا معكم حصة فقال له بلى ولكن تنزع جميع ما عليك من الثياب ثم تخرج من باب أدرنه إلى حضرة أبي أيوب الأنصاري قال فقلت الآن قال لا بعد أيام فعادوته بعد أيام فقلت الآن قال نعم فنزعت ثيابي إلا السراويل وقلت له أتأذن لي في ابقائه حفظا لميزان الشريعة فأذن ثم أخذت في السير إلى أن وصلت إلى الباب المذكور فلما جاوزته مررت بالمقبرة فكشف لي عن أحوال أهل القبور وما هم عليه ولم أزل كذلك إلى أن وصلت أبا أيوب فزرته ورجعت وكان ما كان وبالجملة فإنه كان صاحب قدم راسخة في الولاية وأطبق أهل عصره على ديانته وعفته وكان له في الأدب وفتونه طولي وله شعر منه قوله
أقول للقلب لا تجزع لفائتة ... أن الزمان مطيع أمر من أمره
قد يسكن الداو حقا غير ساكنها ... ويسكن البيت حقا غير من عمره
وقوله
أصبر فإن الصبر مفتاح الصعاب ... واشكر فإن الشكر مدرار السحاب
وأعلم بأن الله يولى عبده ... أنواع لطف وهو لا يدري الصواب
وذكره والدي المرحوم وأطنب في ترجمته ثم قال لازم من شيخ الأسلام صنع الله بن جعفر المفتى ودرس بمدارس قسطنطينية إلى أن وصل إلى أحدى مدارس السلطان سليمان وولى منها قضاء القضاة بالشام خمسة وأربعين يوما ثم عزل وحكى لي بعض الثقات ناقلا عنه أنه بعد عزله عزم على الرحلة إلى الروم فطلع إلى زيارة الأستاذ ابن عربي فخاطبه من داخل قبره بالتربص وأنه يأتيه في يوم كذا وقت كذا منصب كذا فوقع له أن جاءه في الوقت المعين المنصب المعين وهو قضاء القدس ثم بعد ذلك ولي قضاء بروسه وأدرنه وقسطنطينية وأعطى آخرا رتبة قضاء العسكر بأنا طولى قال والدي روح الله روحه وتشرفت به في سفرتي الثانية إلى الروم سنة ثلاث وسبعين وألف ثم لزمته وكنت إذا اجتمعت به يتنور باطني وظاهري من مخاطبته وينشرح لسماع فوائده صدري من محاضرته وأنشدته مرة قولي وأنا في شدة من الحال
الحال غدا يكل عنه الشرح ... من سكرته متى زماني يصحو
أبواب مطالبي جميعا سدت ... مولاي عسى يكون منك الفتح
فأنشدني لنفسه قوله
فلا تحزن إذا ما سد باب ... فإن الله يفتح ألف باب
وكنت ترجمته في كتابي النفحة وغيرت ترجمته إلى قالب آخر حسبما ألتزمته فيها من الألتزامات فما علي أن أذكر المعدول عنه أذ فيه على كل حال تطرية فقلت فيه وقد ذكرته بعد أبيه هو جار مع أبيه في ميدانه آخذ من فضله بعنانه متحل بنعته متخلق بسمته ولد في طالع السخاء وغذي في حجور الكرماء ومارس البلاغة ممارسة كشفت له عن أسرارها وأظفرته بكنوز جواهرها إذ لم يظفر غيره بأحجارها وكانت أوقاته مقسمة بين عارفة ينيلها أو ملمة يزيلها ومساءة من المساوى يسرها وصنيعة من الصنائع بدخرها ومجلسه أوله ثناء جميل وآخره عطاء جزيل وبينهما ترحيب وتأهيل إذا قال فتحت لثنائه الأفواه وإذا روى تحثت بفضله الرواه وله من درر المكارم وغرر المآثر ما يستغرق نظم كل ناظم ونثر كل ناثر وأنشدت له تخميسه المشهور وهو في صاحب البهجة والنور
ياحادي العيس أن حفت بك الكرب ... ألحق هديت بركب ساقه الطرب
وقل لصب غدا بالشوق يلتهب ... لمهبط الوحي حقا ترحل النجب
وعند هذا المرجى ينتهي الطلب
أعني الرسول الذي قد شرف الأمما ... ونال سائله فوق السما قسما(1/76)
يلقى العفاة بما يرجون مبتسما ... به تحط رحال السائلين فما
لسائل الدمع ما يقضيه ما يجب
أن رمت كشف العنا والحوب والنوب ... كذا الخلاص من الأكدار والنصب
وكنت حقا سعيدا غير مكتئب ... قف وقفة الذل والأطراق ذا أدب
فعند حضرته يستلزم الأدب
وهذا التخميس جيد جداً وأظن أن الأصل أيضا له وله بقيه اكتفينا عنها بنبذة نقيه وكانت وفاة صاحب الترجمة في سنة ثمان وثمانين وألف بقسطنطينيه والشعراني نسبة إلى قرية أبي شعرا بمصر أبو السعود بن علي الزين المعروف بالقسطلاني المكي المالكي الشيخ الأمام رأيت ترجمته بخط صاحبنا الفاضل مصطفى بن فتح الله رحمه الله تعالى قال في وصفه عالم عامل وناسك بركته غيث هامل وأمام بمثله يقتدى وطود بنجوم هديه يهتدي وعلامة في علوم العربيه ومثابر على خدمة خالق البريه كان متقلدا بقلائد العفاف متخليا عما يزيد على الكفاف ولد بمكة ونشأ بها وحفظ القرآن العظيم واشتغل بالعلم مدة سنين تقارب العشرين وأخذ عن جماعة منهم العلامة على بن جار الله والشيخ يحيى بن الحطاب وغيرهما وعنه أخذ العلامة عبد الله بن سعيد باقشير والفاضل حنيف الدين المرشدي وغيرهما ولم يزل ملازما لخدمة العلم وأفادته منهمكا على مطالعته ومذاكرته مكبا على افادة الطلبة وله مؤلفات منها الفتح المبين في شرح أم البراهين وفوح العطر بترجيح صحة الفرض في الكعبة والحجر وأملي على الأجرومية شرحا لطيفا وله منظومة في مسوغات الأبتداء بالنكرة وله شعر حسن منه قوله
ألائم القوم حتى أن أرى رجلا ... أخا مذاكرة للعلم ينتسب
أقام ذكر عهود بالحمى فله ... أحن الفاو بالمألوف انتسب
كأنني هل إذا فعل بحيزها ... حنت إليه وأهل العلم تصطحب
أشار به إلى ما ذكره النحويون من أن هل مختصة بالفعل إذا كان في حيزها فلا يجوز هل زيد خرج لأن أصلها أن تكون بمعنى قد كقوله تعالى هل أتى على الأنسان حين وقد مختصة بالفعل فكذا هل لكنها لما كانت بمعنى همزة الأستفهام انحطت رتبتها عن قد في اختصاصها بالفعل فأختصت به فيما إذا كان في حيزها لأنها إذا رأته في حيزها تذكرت عهود بالحمى وحنت إلى الأف المألوف ولم ترض بافتراق الأسم بينهما وإذا لم تره في حيزها تسلت عن وذهلت ومع وجوده أن لم يشتغل بضمير لم تقنع به مقدرا بعدها والأقنعت به فلا يجوز في الأختيار هل زيدا رأيت بخلاف هل زيدا رأيته وأنشدني الفاضل الأديب على السنجاري المكي في معنى قول القسطلاني
إذا غاب كان الميل مني لغيره ... وأن لاح كان الميل مني له حتما
كأني هل في النحو والفعل حسنه ... وكل الورى أن لاح محبوبي الأسمى
ولأبي السعود أيضا
فبينما الشخص يمشي وهو في فرح ... إذ صار في النعش محمولا على الكتف
فعد زادا هو التقوى وكن حذرا ... واكثر من الذكر والأحزان والأسف
وله أيضا
ألا ليت شعري هل أبين ليلة ... بروضة من بالصدق كان يقول
وهل أبصرن تلك المعاهد والربى ... وهل يقعن لي نظرة وقبول
وله غير ذلك وكانت وفاته في سنة ثلاث وثلاثين وألف ودفن بالمعلاة بمكة المشرفة رحمه الله تعالى أبو السعود بن محمد الحلبي المعروف بالكوراني الأديب الشاعر الفائق كان لطيف الطبع جيد الفكرة وله محاضرة رائقه ومفاكهة فائقة مع حداثة سنه وطراوة وعوده وشعره عليه طلاوة وفيه عذوبة وقفت له على قصيدة غرا فريده زهرا ومطلعها
أجل أنها الآرام شيمتها الغدر ... فلا هجرها ذنب ولا وصلها عذر
ففز سالما من ورطة الحب واتعظ ... بحالي فإن الحب أيسره عسر
وقدها جنى في الأيك صدح مغرد ... به حلت الأشجان وارتحل الصبر
يذكرني تلك الليالي التي انقضت ... بلذة عيش لم يشب حلوه مر
سقيت ليالي الوصل مزن غمامة ... فقد كان عيشي في ذراك هو العمر
فكم قد نعمنا فيك مع كل أغيد ... رقيق الحواشي دون مبسمه الزهر
لقد خط ياقوت الجمال بخده ... جداول من مسك صحيفتها الدر(1/77)
وروض به جر الغمام ذيوله ... فخر له وجدا على رأسه النهر
وقد أرقص الأغصان تغريد ورقه ... وأضحك ثغر الزهر لما بكى القطر
وضاع به نشر الخزامى فعطرت ... نسيم الصبا منه ويا حبذا العطر
بدائع من حسن البديع كأنها ... إذا ما بدت أوصاف سيدنا الغر
ومن مقاطيعه قوله
كأنما الوجه والخال الكريم به ... مع العذار الذي اسودت غدائره
بيت العتيق الذي ركنه حجر ... قد أسبلت من أعاليه ستائره
وله غير ذلك وكانت وفاته بحلب سنة ست وخمسين وألف وأبوه محمد شاعر مثله حسن السبك دقيق الملاحظة ولقد سألت عن وفاته كثيرا من الحلبيين فلم أظفر بها فلهذا لم أفرده في هذا الكتاب بترجمة وذكرته هنا رغبة في تطريز هذا التاريخ بشعره وما أورده له قد ذكر غالبه البديعي ولم يوفه في ترجمته حقه فمما أورده له قوله
بدر أدار على النجوم براحة ... شمسا فنارت في كؤوس رحيقه
شمس إذا طلعت كان وميضها ... برق تلألأ عند لمع بريقه
يسقى وأن عزت عليه ورام أن ... يشفى لداء محبه وحريقه
فيديرها من مقلتيه وتارة ... من وجنتيه وتارة من ريقه
وقوله
عجبت لما أبداه وجه معذبي ... من الحسن كالسحر الحلال وأسحر
بوجنته ياقوت نار توقدت ... عليها عذاو كالزمرد أخضر
وقوله مضمنا
مليك جمال أنبت العز خده ... نباتاله كل المحاسن تنسب
فكررت لثم الخد منه لطيبه ... وكل مكان ينبت العز طيب
وقوله
ومهفهف لدن القوام ووجهه ... قمر تقمص بالعذار الأخضر
فتق العذار بخده فكأنما ... فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر(1/78)
أبو السعود بن الشرف يحيى بن أحمد بن أبي السعود بن تاج الدين بن أبي السعود ابن جمال الدين بن القاضي الجمال محمد بن أحمد صفي الدين ابن محمد بن روزبة بن أبي الثناء محمود بن ابراهيم بن أحمد الكازروني المدني الزبيري نسبة إلى الزبير بن العوام رضي الله عنه الشافعي أمام الشافعية بطيبة الطيبة كان فاضلا ذا همة عاليه ونفس مطمئنة ومحاضرة لطيفة وجاه عريض مع خشية الله تعالى والتورع في كثير من أمور الدنيا والتقلل منها والتعفف عنها خطبته المناصب السنية فأباها ورفعت له عن نقاب زخرفها فنهاها وكان له همة عظيمة في النسخ لم يضيع أوقاته بلا شيء منه فجمع بذلك كتبا نفيسة بخطه وكان ملازما لورد العارف بالله تعالى سيدي أحمد ابن موسى العجيل كما أوصاه به والده من حين خرج من المكتب إلى وفاته وأوصى هو به ولده وجوده وحفظ كتبا في الفقه والأصلين وألفية ابن مالك والشاطبية والرحبية وغيرها وقرأ على كثقير من المشايخ كالسيد حسين السمر قندي المدني وأخذ عن عمه الأمام محمد تقي الدين الكازروني المنهاج وشرحه لابن حجر وعن خاتمة المحققين عبد الملك العصامي ومولات المالكي وأحمد بن منصور والأمام عبد الرحمن الخياري وغيرهم ولزم الأفادة ولاة الجماعة بالمسجد النبوي بحيث لا يفوته فرض إلا لعذر وكان لا يخرج من المسجد إلا آخر الناس خصوصا بعد صلاة العشاء ويقول أحب أن أكون آخر الناس خروجا وأولهم دخولا وكان والده يلزمه وهو مراهق بحضور صلاة الصبح مع الجماعة وحضور قراءة الوظائف واستمر على ذلك ومن عادة أهل المدينة غالبا إذا جاء وقت الصيف يخرجون إلى النخل قال وكان لوالدي نخل بالمقصرة عند الميل الأسود فطلع هو وطلعنا معه والوقت صيف فانتبهت ليلة من النوم وكانت مقمرة فتوهمت أن النهار أسفر وفاتني حضور الجماعة فأنزعجت ثم توضأت وفتحت باب النخل وذهبت إلى أن وصلت محل الداعي بباب الجمعة فإذا الريس أول ما ابتدأ في التهليل على المنارة فتحيرت حينئذ وعرفت أني قد اغتريت بالقمر وأن الليل باق ولا يمكنني الرجوع إلى المحل لأني أهاب الدخول بين تلك النخيل ولا أجد قدرة على الدخول في البقيع في تلك الساعة لكون المحل مها بإعادة ثم ألهمني الله تعالى وقوي جناني إلى أن عزمت على التقدم إلى البقيع في تلك الساعة فتقدمت باسم الله إلى أن جلست على باب عمات النبي صلى الله عليه وسلم واتكأت على باب القبة ووضعت العباءة على رأسي فبعد ساعة لم أشعر إلا بفانوس أقبل من جهة سيدنا أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى وقف به حامله بالقرب مني ومعه جماعة مبيضون ثم بعد ساعة أقبل فانوس آخر من جهة قبة العباس رضي الله عن ووقف به حامله بالقرب من باب الجمعة ومعه جمع مبيضون أيضا ثم بعد ساعة أقبل جماعة كثيرون من الدرب الذي أتيت منه إلى المحل الذي أنابه من دروب الغنم ومعهم فانوس ولهم حركة عظيمة فسلم واحد على الجمع الأول فردوا سلامه فقصدوا باب السيدة فاطمة رضي الله عنها فإذا هو مفتوح فدخلوا فدخلت معهم وقصدوا جهة الصحابة فأردت الدخول معهم فوقف لي رجل منهم وقال لي ههنا حدك فوقفت عند قبر السيدة فاطمة أتهجد ساعة ثم خرجوا وخرجت معهم فخرجوا من باب الجبر ثم من باب الجمعة فخرجت معهم فوقفوا هناك بعد أن توجهوا إلى القبلة ودعوا وأنا معهم فالتفت إلى رجل منهم وضىء وقال لي من أنت قلت أبو السعود بن يحيى الكازروني فرفع يده وطبطب بها بين كتفي وقال بارك الله فيك حصلت لك العناية ولذريتك ثم تفرقوا على أسرع ما يكون حتى كأنه لك يكن والوقت باق فرجعت إلى المكان الذي كنت فيه بقية ليلتي فبعد هنيهة إذا بحس قافلة مقبلة أسمع ولا أرى ثم بعد ذلك رأيت رجلا مقبلا من جهة درب الجنائز يقود جملا عليه شقدف عليه ثوب أبيض ورجل من خلف الجمل يسوقه وهما في صفة يمانيين بازار فقط فقلت هذه قافلة لبعض أهل الحارة تحط هنا أتونس بها إلى أن يفتح الباب فإذا هما طلعا إلى البقيع وأخذا في السير فبقيت معجبا من هذين الرجلين من أين وإلى أين إلى العريض فما هو وقته أوالى العوالي فما أتفق أن أحدا يذهب إليه بشقدف فإذا هم قصدوا جهة بالقرب من سيدنا ابراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبركوا الجمل ثم أخذوا في الحفر أراهم أخرجوا من ذلك القبر شيئا وأدخلوه في الشقدف وأخرجوا من الشقدف شيئا وأدخلوه ذلك القبر(1/79)
ثم دفنوه وأنا أنظر إليهم من مكاني وبعد ساعة أناروا الحمل فقام وإذا بالشقدف وعليه ثوب مسود بعد ذلك البياض الأول ومروا علي فلما جاوزوني قمت فمسكت قائد الجمل من يده وقلت له من تكونا فقال إليك عنا نحن الملائكة النقالة فتأخرت واقشعر جلدي وذهب لبي ثم أذن الريس للصبح وفتح الباب فكنت أول من دخل فقصدت المسجد وزرت الحضرة الشريفة وصليت سنة الفجر ثم قامت الصلاة المفروضة فصليت مع الجماعة ثم حضرت وظائفي فقرأتها مع أصحابي ورجعت للنخل وأخبرت والدي بذلك كله فقال لا بقيت تذهب وأنا أقيم في وظائفك نائبا عنك وناب عني انتهى ولصاحب الترجمة نظم ونثر ثابتان في مجاميعه وله تذكرة لطيفة جمع فيها من كل غريبة ونادرة ولما وقف عليها على بن غرس الدين الخليلي المدني قال مادحا لهم دفنوه وأنا أنظر إليهم من مكاني وبعد ساعة أناروا الحمل فقام وإذا بالشقدف وعليه ثوب مسود بعد ذلك البياض الأول ومروا علي فلما جاوزوني قمت فمسكت قائد الجمل من يده وقلت له من تكونا فقال إليك عنا نحن الملائكة النقالة فتأخرت واقشعر جلدي وذهب لبي ثم أذن الريس للصبح وفتح الباب فكنت أول من دخل فقصدت المسجد وزرت الحضرة الشريفة وصليت سنة الفجر ثم قامت الصلاة المفروضة فصليت مع الجماعة ثم حضرت وظائفي فقرأتها مع أصحابي ورجعت للنخل وأخبرت والدي بذلك كله فقال لا بقيت تذهب وأنا أقيم في وظائفك نائبا عنك وناب عني انتهى ولصاحب الترجمة نظم ونثر ثابتان في مجاميعه وله تذكرة لطيفة جمع فيها من كل غريبة ونادرة ولما وقف عليها على بن غرس الدين الخليلي المدني قال مادحا له
لله در بارع ... أتحفنا بتذكره
حوت علو ما جمة ... على التقي مذكره
تغنى عن المغي في ... نحو لما قد ذكره
وفقهها يكفي الفقيه عن كتاب حرره
وشعرها رب الشعور من كلام الخيره
عروضها يعرض أن ... يدعى له بالمغفره
فيها أحاديث عن المولي علي حيدره
أبي الحسين من زكا ... أصلا وضاءت زهره
وكم حديث ثابت ... عن حافظ قد قرره
وطرفة طريفة ... بظرفها مخدره
ونكتة بديعة ... على العدا مظفره
وتحفة نفيسة ... بروضها مسطره
قد نقلت عن مسند ... من صحف مطهره
وكتب مرفوعة ... بين الورى محبره
لا سيما وهو على ... أيدي كرام بررره
وجوههم وجيهة ... على الدوام مسفره
مبيضة من التقي ... ضاحكة مستبشره
وقد أنار سلكها ... بدرة وجوهره
من نظمه البديع مع ... نثر له قد نثره
أبو السعود الفاضل المفضال نجل الخيره
أعني الحواريين والصديق نعم المدره
وهو الأمام للورى ... في طيبة المطهره
فدام محفوظا مع النجل وأبقى عمره
وكانت ولادته في سنة ثمانين وتسعمائة بالمدينة وتوفي بها في ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وألف وصلى عليه في المسجد النبوي بعد صلاة العصر ودفن بيقيع الغرقد بقرب تربة والده واسلافه عند قبر سيدنا ابراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/80)
أبو سعيد بن أسعد بن محمد الدين ابن حسن جان القسطنطيني المولد والمنشأ والوفاة شيخ الأسلام بن شيخ الأسلام بن شيخ الأسلام وعلامة العلماء الأعلام الذي ابتهجت به الأيام والليالي وافتخرت به وببيته المراتب العوالي مفتي السلطنة العثمانيه وأوحد كبراء الدولة الخاقانيه جمع الفضائل كلها وحوى المحاسن دقها وجلها فما من فضيلة إلا فيه أصلها ومقرها ولا مدحه إلا وصفاته العلية أصلها ومستقرها دانت له الليالي فجلى ظلمة الحنادس وتدانت له سماء المعالي فصافح يدا لثريا وهو جالس وبالجملة فحلالة قدره وسمو فحره غنيان عن التعريف وهما مما يشرفان التوصيف وكان عالما فاضلا أديبا كاملا بليغ الخطاب كثير الآداب لا يشوبه في المدحة شائب وجميع صفاته حسنة أطايب وله الوقار الذي يرجح على الجبال الرواسي والسكون الذي تتغظ به القلوب القواسي وكان مثابرا على العبادة والصدقات ملازا للأوراد والأذكار في الخلوات والجلوات اشتغل في مبدأ أكره وبرع ونظم الشعر التركي وله شعر عربي أيضا إلا أنه قليل أورد منه والدي رحمه الله في ترجمته قطعتين استحسنت أحداهما وهي هذه وكتبت بها على مؤلف العلاء الطرابلسي في الفرائض
كتاب نفيس للفوائد جامع ... مفيد لطلاب المسائل نافع
على حسن ترتيب تجلى مجملا ... فقرت عيون للورى ومسامع
بدا معجبا إذ لم تر العين مثله ... به نور آثار الفضائل لامع
لجامعه فخر الأئمة سودد ... لرايات أنوار المكارم رافع
أفاض عليه الرب من سحب جوده ... فإن غمام الفضل منه لوامع
وكان لازم على عادة علماء الروم من عمه شيخ الأسلام المولي محمد ولم يزل يترقى في المدارس حتى صار قاضي قضاة الشام ودخلها نهار الأربعاء سادس عشر المحرم سنة أحدى وثلاثين وألف وكان والده مفتى الدولة وقال الأديب محمد بن يوسف الكريمي في تاريخ قدومه
أهلا بأكمل فاضل ... رب الحجي المتكامل
يا مرحبا بقدومغيث في مقام ما حل
لما أتاها حاكما ... رب العطاء الشامل
تاريخ مقدمه أتى ... قي بيت شعر كامل
زهيت معالم جلق ... بأبي سعيد العادل(1/81)
وهو أجل من ولي الشام من القضاة وأعفهم وأعظمهم قدرا وقد سار سيرة في أحكامه أنست من تقدمه وأتعبت من جاء بعده وجاءه الخبر وهو قاض أن السلطان عثمان بن السلطان أحمد قد تزوج بأخته فجمع إلى سعوده سعدا وبعد ذلك بمدة جزئية ورد عليه خبر مقتل السلطان وعزل والده عن الفتيا ثم عزل هو أيضا عن قضاء الشام ورحل إلى الروم في سادس عشري شوال من السنة المذكورة ثم من بعد وصوله الروم بمدة ولي قضاء بروسه والغلطة ثم قضاء قسطنطينيه وعزل منها ثم أعيد إليها ثانيا ونقل منها إلى قضاء العسكر بأنا طولي ثم نقل إلى روم ايلي وعزل عنها وأعيد ثانيا ثم صار مفتى التخت ثلاثا وكان كلما أعيد إليها تلا قوله تعالى هذه بضاعتنا إلينا وكان يكتب في الفتاوى التي ترفع إليه فوق السؤال الله المستعان وعليه التكلان وأول من غير مختارات المفتين من كتابتهم اللهم يا ولي العناية والتوفيق نسألك الهداية إلى أقوم طريق جده سعد الدين كان يكتب اللهم يا مجيب كل سائل نسألك تسهيل الوسائل إلى حل مشكلات المسائل ثم تبعه ابنه أسعد والد أبي سعيد فكان يكتب الله الهادي عليه اعتمادي وأصيب في آخر تولياته للفتوى بنهب داره وأخذ له أشياء لا يمكن حصرها وكان سبب ذلك قيام العسكر على الوزير الأعظم أبشير وبعد وقوع هذه الحالة اختفى مدة ثم أمر بالتوجه نحو بلاد أنا طولى وأعطى قضاء قونيه فلم يفعل وأرسل إليه قضاء الشام فلم يقبله ثم أمر بالعود إلى وطنه وبقي في الأختفاء مدة مديدة إلى أن مات وكانت ولادته في سنة ثلاث بعد الألف وتوفي في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين وألف ودفن بمقبرة أجداده بالقرب من تربة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وبنو سعد الدين هؤلاء يقال لهم بيت الخوجا لأن جدهم المذكور كان معلم السلطان مراد ابن سليم من كبراء العلماء في الدولة كان جدهم حسن جان المذكور عند السلطان سليم الأكبر له الحظوة التامة وهو من كبراء دولته العلية وولد له سعد الدين وهو الذي عظم به قدر بيتهم وسما وتشعبت أبناؤه حتى تزينت بهم المحافل والرتب وخلدت مآثرهم في دواوين السير والأدب وقد خرج منهم فذ بعد فذ تطرب المسامع بذكر أوصافه وتلتذ وكل منهم عرف بمزيه واختص بفضيلة سنيه وفضلهم وقدم صدارتهم مما لا يحتاج إلى أيضاح بل هو أشهر في الخافقين من الصباح وسيأتي في كتابنا هذا منهم جماعة كل منهم منفرد بترجمة مستقلة أبو السماع البصير المصري الشاعر البديهي أعجوبة الزمان واحد الأفراد في البديهة وارتجال الشعر وكانت طريقته إذا أراد الأرتجال أن يبدأ بأنشاد قصيدة من كلام أحد الشعراء المتقدمين بصوت شجى وفي أثناء أنشاده يبتدر على وزن تلك القصيدة في أي باب كان من أبواب الشعر مدحا كان أو غزلا أو غيرهما وورد دمشق في أوائل شوال سنة ثمان وأربعين وألف فأنزله أديب الزمان أحمد الشاهيني عنده وأقبلت عليه أعيان الشام وأدباؤها لغرابة حاله وتفوقه في شأنه ومما قال فيه الشاهيني المذكور
أن هذا أبا السماع لشيخ ... فاق في الأرتحال كل الرجال
فهو ثاني الأفراد في كل عصر ... وهو فرد الرجال في الأرتجال
وقال فيه الأديب محمد بن يوسف الكريمي من أبيات
فخر لفخر في الزمان بديع ... ما حازه في الغابرين بديع
وحديثه فلقد أتاني ذكره ... متواترا حتى انتفى موضوع
صدقت ما خبرته من فنه ... صح السماع فصدق المسموع
ندب على غير القياسي قد أتى ... أهلا به فالعمر معه ربيع
وكان مشوه الخلقة قبيح المنظر فقال فيه بعض الأدباء
أبو السماع اسمع به ولا تره ... فوصفه ناقض فيه مخبره
شيئان فيه موجبان قسوره ... عمى وخلقة لديه منكره
وأقام بدمشق مدة وودع علماءها ونجباءها ثم رحل إلى طرابلس قاصدا قاضيها الأديب البارع عبد اللطيف المعروف بأنسى الرومى وحصل منه عطايا طائلة ورحل إلى مصر قال والدي رحمه الاه تعالى ولما كنت بمصر زارني مرة وأنا نائب الصالحية في سنة أحدى وستين وألف فرأيته في حالة ردية حتى كدت أنكره ثم تعرفت معه وذكرته بأيامه بدمشق فبكى بكاء شديدا ثم طفق ينشد الأبيات المشهورة لسيدي على وفا رحمه الله وهي(1/82)
قد كنت أحسب أن وصلك يشترى ... بعظائم الأموال والأرواح
وعلمت حقا أن وصلك هين ... تفنى عليه نفائس الأشباح
لما رأيتك تجتبي وتحض من ... أحببته بلطائف الأمناح
أيقنت أنك لا تنال بحيلة ... فجعلت رأسي تحت طي جناحي
وجعلت في عش الغرام أقامتي ... فيه غدوى دائما ورواحي
وبعدما أتمها نسج على منوالها قصيدة مدحني بها وانصرف وسألت من له بعض معرفة عن سبب تبدل حاله فذكرني أنه حصل له مقت من جانب السادات بني الوفا وكان هو في الأصل من أتباعهم فطردوه انتهى قلت ولقد سألت كثيرا ممن لقيته من أهل مصر وأهل بلدتنا عن وفاة أبي السماع فلم أظفر بها لكن ذكر لي بعضهم على وجه الظن أن وفاته كانت في حدود سنة خمس أو ست وستين وألف أبو الصفاء بن محمود بن أبي الصفاء الأسطواني الدمشقي وهو جدي لامي ولد بدمشق ونشأ بها وكان حنبليا على مذهب أسلافه وله مشاركة جيدة في فقه مذهبهم وغيره وقرأ في آخر أمره فقه الحنفية على العلامة رمضان بن عبد الحق العكاري وكان من جملة الرؤساء وفضلاء الكتاب ولي خدما كثيرة من كتاب الخزينة والأوقاف وكان كاتبا بليغا كامل العقل حسن الرأي ميمون النقيبة ورزق دنيا طائلة وسعة وكان كثير التنعم وافر الخير محظوظا في الدنيا وبلغ من العمر كثيرا وهو في نشاط الشبان وبالجملة فإنه كان ممن توفرت له الدواعي ونال من الأيام حظه وكان مع ذلك سمح الكف دائم البشر وكانت صدقاته على الفقراء دارة وخيراته واصله وانتفع به جماعة ومنه أثروا وبه استفادوا والحاصل أنه كان من محاسن دهره وأكارم عصره وكانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة ستين وألف ودفن بمقبرة الفراديس في تربة الغرباء رحمه الله تعالى أبو طالب بن أحمد بن محمد بن علوي بن أبي بكر الحبشي ابن علي بن أحمد بن محمد أسد الله ابن حسن بن علي بن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم ولد بمدينة مريمه من أرض حضر موت واشتغل بالفنون وجمع الله تعالى له بيد حسن الحفظ والفهم ثم رحل إلى أرض السواحل وأخذ بها عن جماعة ثم رحل إلى الديار الهندية وأخذ بها عن بعض الفضلاء وكان كثير الأستحضار للمستحسنات من الأشعار والحكايات وله نظم ونثر ثم وفد على بعض ملوك الهند فوقع عنده موقعا عظيما وجلس عنده للتدريس العام وكان عالما بعلم الفرائض والحساب وكان الغالب عليه الأدب تم ترك ذلك كله واشتغل بالعبادة ولزم الطريقة الموصلة ورجع إلى وطنه فركب البحر فقدر الله تعالى أن سقطوا على أرض عمان وأقام بها مدة حتى مات وكانت وفاته سنة خمس وخمسين وألف ودفن بأرض عمان فلما فرغوا من دفنه في لحده سمعوا هزة وطلع منها نور لحق عنان السماء فنبشوا عليه فلم يجدوا جثته ولا الكفن رحمه الله تعالى(1/83)
الشريف أبو طالب بن حسن بن أبي نمى محمد بن بركات بن محمد بن بركات بن حسن ابن عجلان بن رمية بن أبي نمى محمد بن أبي سعيد الحسن بن علي بن قتادة بن أدريس ابن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد ابن موسى بن عبد الله المحصن ابن الحسن المثنى ابن الحسن السبط ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم صاحب مكة والحجاز كان من أمره أنه لما كبر أبوه فوض أولا نيابة الأمارة لابنه الشريف حسين فلم يطل أمره فيها فمات فولاها شقيقه الشريف مسعود وكان موصوفا بالشجاعة والقوة لكن لم يسلك فيها مسلكا مرضيا وتوفي وهو شاب فآلت إلى أبي طالب صاحب الترجمة وكان ذا فكر صائب وشجاعة عظيمة وفضيلة باهرة وفاق سائر أخوته وبعد ما حكم بالنيابة عن أبيه مدة أمر أبوه أمراء الحجاز أن يلبسوه الخلعة الكبرى وألبسوا ولده عبد المطلب الخلعة الثانية فلبساهما ثم جهز من اتباعه الأمير بهرام بهدية سنية إلى الأبواب السلطانية في هذا الخصوص والتمس من السلطان محمد خان بن السلطان مراد تقريرا بذلك فأجيب إلي ملتمسه ورجع بهرام بالتقارير وصورة منشوره مذكورة في ريحانة الخفاجي وهو من انشائه لكنه مطول أعرضت عن كتابته لطوله ويعجبني منه محل وهو قوله في مخاطبة الشريف حسن وقد ورد من جنابه رسول تلقاه من سدتنا نسيم القبول إذ جاب الفيافي من حزنها وسهلها وأدى الأمانات إلى أهلها وكان كالميل سلك بين الجفون فأجاد ومتع العيون باثمد الصلاح والسداد ومعه منشور أرق من نسيم السحر معرب عن العين بالأثر فأخبر أن مرسله أراد الفراغ وما على الرسول إلا البلاغ وتضمن منشوره المذكور أنه أراد الأستراحة من نصب المناصب والتقاعد عما بها من المراتب رغبة عن زخرف الحياة إلى خدمة سيده ومولاه وأن نجله النجيب الجليل الحسيب الناشىء في حجر الشرف الباهر المستخرج من أطيب العناصر ليث غابة بيض الصفاح وسمر العسالة الرماح عليه أمارة الأماره ومخايل النجابة والصداره
بلغ السيادة في ابتداء شبابه ... أن الشباب مطية للسودد(1/84)
وسأل أن نقلده صارم أمارة تلك الديار وما يتبعها من البلدان والأقطار على ما جرت به عادة سلفه الذي سلف وقانون من خلفه من الخلف فأجبناه إلى مراده وأمددناه بأسعافه وأسعاده لأنه إنما نزع صارمه من يده إلى يده الأخرى وجعله من بعد يمن اليمنى في يسار اليسرى فسارت الأمارة من حرم إلى حرم ولم تخرج من جيران نجد وذي سلم وخلعنا عليه حللا تأنق واشيها ورقت حواشيها ونظرنا إليه بنظرنا الذي هو اكسير أن يحسن في العمل والتدبير وينظر إلى الرعايا بعين الرعايه ويصونهم عن أهل الضلالة والغوايه ويؤمن تلك المناسك ويحرس تلك المسالك ويختار من قومه من يحرسها من الأعدا ويحميها من كل قاصر في فعله تعدى ويبطل ما فيها من المكوس والمظالم ويقيم الحدود على مستحقيها من كل باغ وظالم ليخلد في صحائف تلك البلاد الحسنات ويمحو ما فيها من آثار السيئات ويتصرف في بندر جدة على العهد القديم ومن جاور ذلك المقام فليسعفه بالنعيم المقيم ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذفه من عذاب أليم ويحرس الوافدين إلى ذلك البد الأمين بإقامة شعائر الدين ويحمى بحمايته من ورد أو صدر ويحرس مواردهم الصافية من الكدر ويلاحظ ما للخليل صلى الله عليه وسلم من صالح الدعوات في قوله وأجعل هذا البد آمنا وارزق أهله من الثمرات ثم ليعلم كل من كحل بصره باثمد منشورنا الكريم وشنف مسامعه بلا آلىء لفظه العظيم ممن في دارة تلك الديار وهالة تلك الأقطار وانتظم في سلك سكان القرى والأمصار من السادات الكرام والقضاة والحكام وولاة الأمور من الأعيان والوافدين على تلك الديار والسكان أن امارة تلك المعاهد وما فيها من العساكر وما أحاطت به من الأصاغر والأكابر وسائر الوظائف والمناصب والجهات والمراتب مفوضة إلى السيد السند أبي طالب ناظرا بعين الأنصاف متجنبا سبيل الأعتساف ويصرف المستحقين بحسن التصريف ويصرف من لا يستحق برأيه الشريف أقمناه مقام نفسنا في ذلك المقام وفوضنا ليه النقض والأبرام والعلامة السلطانية حجة لما فيه مرقوم محققة لما فيه من منطوق ومفهوم فليتحقق من وقف على هذا الخطاب ومن عنده علم الكتاب من أهل مكة ومن في جوارها وطيبة الطيبة وسائر أقطارها وبقية الئغور الباسمة لدولتنا بمباسم السرور من حاضرها وباديها أنا أعطينا القوس باريها فلم تك تصلح الأله ولم يك يصلح الألها سدد الله سهام رأيه في أغراض الصواب وفتح له بمفاتيح السمر كل مغلق من الأبواب ما سقطت من كف الثريا الخواتم ورقت على منابر الأغصان خطباء الحمائم والسلام واستمر أبو طالب تحت مراعاة والده إلى أن مات أبوه في سنة عشرة بعد الألف ولحقه أخوه عبد المطلب فاستقل بالملك من غير شريك فيه وهناه الله تعالى بما صار إليه وأصلح الله تعالى به أمور البلاد والعباد وقام بأعباء الملك وأظهر السطوة وقهر الأكابر والأعيان على الأنقياد لأوامره والأنزجار لزواجره فهابته النفوس وأنصف في أحكامه وسار السيرة المرضية وكان حسن الهيئه شديد الهيبه فإذا حضر الناس مجلسه سكتوا لمهابته وكانت تخافه البوادي وأهل النوادي وكان سخيا ندى الكف ومما يحكى من كرمه أنه زار النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يلي أمر مكة فلما أنسى نزل في واد هناك هو ومن معه فأضافه رجل من أهل الوادي يقال له السوداني فذبح ومد الموائد وقدمها ثم بلغه أن الشريف أبا طالب لم يأكل من ذلك الطعام ولم يحضره لشغل عرض له فعمد السوداني إلى أربع أو خمس دجاجات فذبحهن وطبخهن وقدمهن على كيلتين من العيش في زبدية كبيرة من الصيني وجاء بها إليه وقال له يا سيدي هذا عشاء عبدك اجبر خاطره جبر الله خاطرك فغسل الشريف يده وأكل من تلك الزبدية لقيمات ودعاله فلما استقل بالولاية وفد عليه السوداني بعد سنة فقال له الشريف الزبدية التي تعشينا فيها عندك فقال نعم فقال ائتني بها فملأها ذهبا وله كثير من هذا القبيل ولا هل عصره فيه مدائح كثيرة فمنها قول الأمام عبد القادر الطبري مهنئا له في بعض غزواته
بسمر القنا وبيض الصوارم ... تنال العلى وتنال المكارم
وبالمرسلات بلوغ المني ... وبالعاديات نوال الغنائم
ولو لم يحل ليل ذا العجاج ... لما أشرقت شمس تلك العالم
ولي سيد ماله في الوغي ... شبيه سوى جده ذي العزائم(1/85)
يجيل الحروب ويجلو الكروب ... وينفي اللغوب ويزرى بحاتم
لقد أذكرتنا فتوحاته ... مغازي الأئمة من آل هاشم
له النصر بالرعب من أشهر ... ومن شأنه قسم مال الغنائم
إذا ما بدا اللعدا جحفل ... ولم يك فيه فكل مقاوم
وأن قيل فيه أبو طالب ... فمن ذا يلاقيه إلا مسالم
تراه يخوض بحور النحور ... بجرد تجاذب جذب الطرايم
هي البرق في السبق لو لم تكن ... لها غزوات بتلك الحماحم
يحق لها الزهر بابن النبي ... سليل الصفي علي المعالم
من اتخذ الدرع تعويذة ... وطول النجاد تمام التمائم
سناء النبوة في وجهه ... كفي شرفا عن طراز العمائم
وأوصافه الغربين الأنام ... بها غنية عن طوال التراجم
فما حاول الخطب الأوكان ... له الفتح والنصر عبد أو خادم
فيا سيد اسدت كل الملوك ... من الخلص العرب ثم الأعاجم
فهل ملك أنت في الأرض أم ... مليك فعد لك أنسى المظالم
وبالجملة فهو من سراة الأشراف ومشاهير ولاة الحجاز قال الشلي وكانت ولادته في سنة خمس وستين وتسعمائة وتوفي ليلة الأثنين لعشر بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة بعد الألف بمحل يقال له العشة من جهة اليمن وحمل إلى مكة ودفن بالمعلاة وبني عليه قبة كبير قيزار بها أبو الطيب بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن مفرج بن بدر بن بدري ابن عثمان بن جابر بن ثعلب بن صنوى الغزى ابن شداد بن عاد بن مفرج بن لقيط ابن جابر بن وهب بن ضباب بن جحيش بن مغيفر بن عامر بن لؤي بن غالب العامري يتصل نسبه بعامر بن لؤي وإليه أشار جده الرضى حيث قال
وأبو الفضل كنيتي وانتسابي ... من قريش لعامر بن لؤي
الدمشقي المولد الفاضل الأديب الشاعر المفنن المشهور أوحد الزمان ونادرة العصر والأوان كان في زمانه أبلغ الشعراء وأدقهم نظرا وسعره من أجود الشعر رونقا وديباجة وكان إليه النهاية في سبك المعاني واستعمال الألفاظ الشائقة ولم يكن شعره مع جودته مقصورا على أسلوب واحد بل كان يتفنن فيه ويدخل في أساليب مختلفة وكان غزير المادة من الأدب مطلعا على معظم شعر العرب الخلص وغيرهم وكان يكتب الخط المدهش وهو من أذكياء العالم وفضلائه المشهود لهم بالتفوق والبراعة قرأ في مبدأ أمره كثير أو ضبط وبرع ومعظم انتفاعه في علوم الأدب بجدى المرحوم القاضي محب الدين فإنه به عرف وعليه تخرج وتفقه بالشهاب العيثاوي ورحل إلى مصر في حدود الألف وأخذ عن علمائها ورجع إلى دمشق ودرس بالمدرسة القصاعية الشافعية ثم تفرغ عنها وعرض له في سنة خمس عشرة وألف عارض سوداوي فطلق زوجته وفرق ثيابه على كثير من أصحابه وكان مع هذا الحال يكتب تفسير المولى أبي السعود كتابة صحيحة مليحة إلى الغاية من غير نقصان ولا تبديل وذكره البديعي في كتابه ذكرى حبيب وقال ومد نظم في سلك ذوي الأفضال اعترته آفة الكمال بسبب ما اعتراه من عارض الجنون وصيره ثالث خالد والمجنون ولم يزل بعد تلك الجنة يأتي بكل معنى شارد ويساعده شيطانه المارد في الشعر على كل طريف من الأدب وتالد وله من الشعر ما ينفث عقد السحر ثم أورد له ما ذكره الخفاجي في كتابه وذلك قوله من قصيدة
مؤنبي لا برحت في عذلي ... فحبذا حبه علي ولي
غصن دلال أغر طلعته ... شمس ضحى فوق ناعم خضل
يجول في عطفه الدلال إذا ... تحمل حقويه فترة الكسل
رقمت في طرس خده قبلا ... فظل يمحو بنانه قبلي
واخجل الورد في نضارته ... شقيق خد في وردتي خجل
ومنها
لله قلب ينوبه كلفا ... مطال مثرالي ملام خلي
كأنه في يديهما كرة ... فمن هلال الدجى إلى زحل
وأنشد له الخفاجي قوله وهو من أحسن الشعر وأخذ بمجامع القلوب
صادفته والحسن حليته ... كالريم لا رعثا ولا قلبا(1/86)
والعيد للألحاظ أبرزه ... والبدر أيسر منه لي قربا
أهوى لتهنئتي ومديدا ... وفق الهوى وتناول القلبا
قال ومد اليد المعتاد للمصافحة في الأعياد مسنون لأظهار القرب والأتحاد فجعلها لأخذ الفؤاد معنى بديع ومثله ما قلته في مد اليد المأمور به في الدعاء وهو مما لم أسبق إليه فإن أمر السائل بمد اليد بمعنى خذ ما طلبت وأزيد وهو
دعوناك من بعد قول أدعني ... فكيف نرد وكنا دعينا
ومن ذا يرد يدي سائل ... ليملأها أكرم الأكرمينا
وهذي وجوه الرجاء اغتدت ... ترى بعيون الظنون اليقينا
قلت ومن مطرباته قوله من قصيدة مطلعها
أما آن من نجم الشجون غروب ... وحتى متى ريح الفنون تؤوب
تكلفني من بعد سلوان صبوتي ... شمال تعنى مهجتي وجنوب
سهرت لها نائى المضاجع فانبري ... لها بين أحناء الضلوع لهيب
إذا ركدت ريح وقر نسيمها ... أبي منه إلا أن يعود هبوب
لحى الله قلبي كم تنازعه الردى ... لحاظ لها في صفحتيه ندوب
يلذ الهوى لا در در أبي الهوى ... وحسبك منه زفرة ونجيب
أدرج انفاسي مخافة كاشح ... وأطرق كيمالا يقال مريب
أدين بكتمان الهوى فيذيعه ... فؤاد وطرف خافق وسكوب
عدتنا عواد بيننا وخطوب ... وحالت قفار بيننا وسهوب
لعل صريح الود ينمو على النوى ... فيهتاج شوق أو تشق جيوب
ولو أنني وفيت حبك حقه ... لشاب عذاري حين لات مشيب
ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم تكتب على ذنوب
لله دره ما أعلى هذه الحشوة وهي قوله أستغفر الله وأهل البيان يسمون هذا النوع حشو اللوز ينج ومنها
لانت على غيظ الوشاة محبب ... وأنت على شط المزار قريب
أمرت الهوى ما شئت في وشاءه ... ونظمت فيك الدر وهو رطيب
بقيت على الأيام تختلس النهى ... وجادك غيث الحسن حيث ينوب
ولازلت بدر إلا يغيب الضياله ... علينا سروق مرة وغروب
ومن شعره البهي قوله
عاطيته حلب العصير ولا سوى ... زهر النجوم تجاه حول المجلس
أنظر إليه كأنه متبرم ... مما تغاز له عيون النرجس
وكان صفحة خده ياقوتة ... وكان عارضه خميلة سندس
ومثله لابن هاني الأندلسي
عاطيته كاسا كان شعاعها ... شمس النهار يضيئه اشراقها
أنظر إليه كأنه متنصل ... بجفونه مما جنت أحداقها
وكان صفحة خده وعذاره ... تفاحة حفت بها أوراقها
وقوله أيضا
خالسته نظر أو كان موردا ... فازداد حتى كاد أن يتلهبا
أنظر إليه كأنه متنصل ... بجفونه من طول ما قد أذنبا
وكان صفحة خده وعذاره ... تفاحة رميت لتقتل عقربا
ولأبي الطيب أيضا
وشرب أداموا الورد من اكؤس الطلا ... وقد أنفوا الأصدار عن ذلك الورد
سقطنا عليهم كي نلذ لديهم ... سقوط الندى عند الصباح على الورد
وقوله
أنسأني الوصل فهنيته ... ميقات موسى فات بالصد
لابد من بين على غرة ... ما أنت إلا من الورد
وقوله
لقد علقت يا فؤا ... دي بالحسين ذي الوسن
فإن ظمئت فارشفن ... ريق الحسين والحسن
ومما اشتهر من شعره وجرى مجرى الأمثال قوله
لنا نفوس إذا هي أنصدعت ... بلمح طرف تقوم ساعتها
عزت فعاشت بفقرها رغدا ... وفي اعتزال الأنام راحتها
ومما اشتهر أنه من شعر عبد المطلب جدا النبي صلى الله عليه وسلم في معناه
لنا نفوس لنيل المجد طالبة ... وأن تسلت أسلناها على الأسل
لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل(1/87)
وقد ترجمه الخفاجي في كتابيه لكن اختلفت ترجمته له كثيرا والذي حررته وصح ما نقله والدي من خط الشهاب من نسخة الخبايا حيث قال من ذوي البيوت الشامخة الرتب المزاحمة للتيراث في منازلها بالركب وله أدب غض نقده نض وشعر يتساقط في أندية الكرام تساقط الدر أسلمه النظام ألطف من شمائل الشمال وأحب من دلائل الدلال وأرق من دموع السحاب وأصفى من ماء المزن والشباب وبينهما هو رحيب الصدر صلب قناة الصبر لم تعقد حبار أيه بغير يد الحزم ولم تحل الأيام عقد رأيه الأبراحة العزم إذ غلبت عليه السوداء فأعجز داؤه الدواء فبدلت جنون الفنون بفنون الجنون وفتحت مغلق قفله وحلت عقلة عقله فظهر تشتت باله ونادي لسان حاله
تقضي زمان لعبنا به ... وهذا زمان بنا يلعب
فمما رويت من شعره قوله
ترامت نحوها الأبل ... وشامت برقها المقل
فتاة من بني مضر ... يجاذب خصرها الكفل
فما الخطار أن خطرت ... وما الميالة الذبل
تكنفها ليوث وغى ... يحاذر بأسها الأسل
لئن شط المزار بها ... وأقفر دونها الطلل
يمثلها الفؤاد به ... ويدنيها له الأمل
وكم لي يوم كاظمة ... فؤاد خافق وجل
وطرف بعد بعدهم ... بميل السهد مكتحل
علقت بها غداة غدت ... وموطىء نعلها المقل
فإن سارت بأخمصها ... تداعى الوابل الهطل
وأن قرت تقر العين ... ففينا يضرب المثل
قلت وجل شعره يشتمل على معان عذاب لطيفة الموقع وكانت وفاته في ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وألف ودفن بمقبرة الشيخ ارسلان قدس الله سره العزيز الشيخ أبو الغيث بن محمد شجر القديمي وينتهي نسبه إلى الشريف القديمي ابن الشجر بن أبي بكر محمد بن اسماعيل بن أبي بكر العربادي ابن علي بن محمد النجيب ابن حسن بن يوسف بن حسن بن يحيى بن سالم بن عبد الله بن حسين بن آدم بن أدريس بن حسين بن محمد التقي الجواد ابن على الرضا ابن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين ابن الحسين السبط ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم هكذا نقل نسب السادة بني القديمي العلامة محمد بن أبي بكر الأشخر في رسالته قال وأكثر ذرية الشريف شجر من ولده الشريف القديمي فإنه أعقب عمرو الشجر والحسن وأبا القاسم وأحمد والمساوى وعز الدين ولكل من هؤلاء عقب مشهورون كان صاحب الترجمة من أكابر أولياء عصره المشهورين له الجاه الواسع عند ملوك مكة الحسينيين وأمراء الأروام والخاص والعام وكان صاحب كشف عظيم ويحب الطيب ويحيى زواره به ويتصرف في الناس ويأخذ ما شاء منهم ويصل به الفقراء والمساكين والمنقطعين وكان تارة يلبس لباس الملوك وتارة ينزعه ويبيعه ويطعم بثمنه الفقراء ويلبس لباس الفقراء وكانت تجار اليمن وغيرهم يستغيثون به في شدائد البحر ومضايق البر فيجدون بركة الأستغاثة به في الحال وينذرون له وإذا حصل لهم الفرج أو الغرض وفوه وكان يعمل المولد بالحرم في الموسم وغيره على طريقة أهل اليمن ويعمل أشغالهم ويلحن ألحانهم بنفسه وله رياضة واجتهاد في العبادة وهو المشهور الآن عند المكيين بأبي الغيث بن جميل ومن كراماته أنه وقف في الموسم في المكان الذي يفرق فيه الصر السلطاني بالمسجد الحرام وقال للكتاب أعطوني منه ما يخصني فقال له بعضهم أن كنت رجلا كاملا فهات لنا تقريرا سلطانيا بما ترومه ونعطيه لك فما مضت ساعة إلا وأتاهم تقرير من سلطان عصره محمد بن مراد بجامكية وغيرها فدفعوا له ما هو مكتوب في المرسوم السلطاني وكان السلطان محمد المذكور من أولياء الله تعالى ومن أهل الخطوة ويقال أن صاحب الترجمة بعد أن فارق الكتاب المذكورين دخل الطواف فرأى السلطان محمد في المطاف وهو مختف فأمسكه وقال له أن لم تكتب لي تقرير الصر يكون لي ولا ولادي وإلا فضحتك بين الناس فكتب له مرسوما في تلك الساعة بمطلوبه فأتى به إليهم فأمضوه على ما ذكرناه وكانت وفاته في المحرم سنة أربع عشرة وألف بمكة ودفن بالشعب الأعلى من المعلاة بالقرب من ضريح سيدتنا خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها(1/88)
الشيخ أبو الغيث المعروف بالقشاش المغربي التونسي الأستاذ العالم الولي الرحلة الكبير القدر قطب الأقطاب ولسان الحضرة المتصرف في الأسماء والحروف الكامل في الخلائق والنعوت كان آية من آيات الله تعالى الباهرة رحلة تتعنى إليه الوفود وتستسقى من بحر كرمه العطاش وله الجلالة التي ما رزقها أحد والكرامات التي ما نالها واحد من الخليفة ومآثره وصفاته الحسنة وأحواله العجيبة الغريبة مما لا يحيط بها وصف واصف ولا مدح مادح ولم أر من ذكره إلا ابن نوعي في ذيله التركي فجميع ما تراه إلا القليل مما ذكرته في ترجمته مترجم مما قاله في حقه فأقول أنه ولد بمدينة تونس وساح في ابتداء حاله لتحصيل العلم والأدب فأخذ عن علماء عصره الفنون المتداولة حتى مهر في علم التفسير والحديث والأصول والفروع وأحاط بها وصار في علم الأدب شيخ الفن ثم حصل له جذب الهي فساح في اطراف الجبل المعروف بجبل الزعفران وانتهى إلى خدمة الشيخ محمد الجديدي وكان من كبار أهل الأرشاد فحصل من تلمذته على فيوضات عجيبة فلما انتقل شيخه المذكور بالوفاة إلى رحمة الله تعالى أتى بنية الحج إلى وطنه تونس وجمع جملة من المريدين الصلحاء وأقام هو واياهم يقريهم تارة أنواع العلوم وتارة يذكرهو واياهم ويتواجدون معه وكان أكثر لياليه يحييها هو وأياهم في ذكر وتسبيح وكان إذ ذاك حسن الملبس فهبت عليه نفحة من صوب الفناء فمزق ما عليه من الثياب وتجرد وخرج منفردا بنية أداء الحج فأداه وجاور بالمدينة مقدار سنة ثم لبس ثيابا خشنة وقفل إلى وطنه وأقام مدة قليلة مشتغلا بإفادة العلوم والعبادة ثم تغيرت أطواره وظهرت منه حركات متغيرة وكلمات متنافية فكان تارة يقول أنه المهدي صاحب الزمان وتارة يدعى الأخبار عن الغيب فيبسط مدعاه في الحوادث الآتية ويخرج في ذلك عن طور العقل فتبعه خلق كثير وقاموا بنصرته وترويج مدعاه وأفضى تشعب الأمر فيه أن اجتمعت علماء البلد واتفقوا على ايقاع أمر به يمنعه عما هو فيه فذهبوا إلى حاكم تونس رمضان باشا وطلبوا منه احضاره ليقيموا عليه بمحضر من القاضي دعوى بما أبرموا أمرهم عليه فتكررا حاره إلى مجلس الحاكم المذكور وقاضي البلد وتكرر منهم السكوت وعدم النطق مهابة منه حتى أدى أمر الجميع إلى تركه وما يصنع رأسا فبقي متلون الأحوال ينتقل من طور إلى طور فتارة يلبس عمامة العلماء الكبار ولباسهم ويعقد حلقة درس يفيد فيها الطلاب وتارة يسوح في الجبال عريانا مغلوب الحيرة في زي المجانين إلى أن ترك التلون واختار السكون والتمكن وأنشأ جامعا وخانقاه وتكية واشتهر بأنه ممن ينفق من الغيب أو من صنعة الكيميا ثم ترقي به الحال إلى أن أنشأ اثنين وثلاثين موضعا زوايا ومساجد وجوامع وبني مالا يعد من المدارس الرفيعة والقناطر المنيعة ووقف على كل أثر منها أوقافا عظيمة وعين للمقيمين والمسافرين نفقات وكان يبذل في فكاك أسرى المسلمين أموالا كثيرة وكان في شهر رجب وشعبان ورمضان يعقد مجلسا لقراءة التفسير والبخاري وكان يميل إلى تحصيل نسخ متعددة من البخاري وكان من ملتزماته أنه لا يقبل هدية من أحد إلا إذا أهدى له البخاري فكان يقبله ويقابل مهديه بأنواع الأحسان وجمع من نفائس الكتب مالا يعد ولا يحصى ومن جملة ما وجد في خزانة كتبه ألف نسخة من البخاري وقس عليه الباقي وكان مفرط السخاء مبذول العطاء وأكثر ما كان ينفق ماله على أسرى المسلمين حكى أنه أوصى يوما خدامه أن يجلبوا له ما يكفي كسوة سبعمائة نفس من ثوب وقميص وشاش وحزام وتاسومة متثلوا وصيته وأحضروا ذلك ولم يدروا السر في ذلك فما تم جمع ما طلب إلا وصل الخبر أن ثلاث غلايين من غلايين الفرنج قد انكسرت في قرب ساحل تونس وفيها سبعمائة أسير من المسلمين فخلصوا جميعا وأحضروا إلى زاوية الشيخ فألبسهم ما أعد لهم من اللباس وأكرمهم وحياهم وحكى أن رجلا من الجند مر ليلة بمحل في نواحي تونس فرأى حجر عظيما قد ارتفع وانفتحت تحته مغارة فرأى المغارة ملآنة بالذهب المسكوك فدخلها وملأ جيبه وذيله منها فلما أراد الخروج رأى الباب قد انسد فذهب عقله ثم وضع الدنانير التي أخذها مكانها وتوجه نحو الباب فرآه مفتوحا فكرر الأخذ وتكرر انسداد الباب فعند ذلك قنع بالتفرج وخرج ثم بعد أيام مر بذلك المحل فرأى رجلا قد دخل وعبي عيبة معه من ذلك الذهب وخرج ثم حمله على بغل كان(1/89)
معه فسأله العسكري من أنت فقال أنا خادم شيخ الشيوخ أبي الغيث وهذا الخزينة نصيبه إذا أمرني بنقل شيء منها جئت فأرى الباب مفتوحا فأدخل وآخذ منها مقدار ما يعينه لي ثم أخرج وليس لأحد غيره فيها نصيب ونقل أنه كان إذا وقع خيانة فيها من أحد ففي الحال ينقلب الذهب فحما أسود واتفق لبعض الناس أنه أبرم على الخادم مرة في تناول شيء منها فلاأله جيبه فلما وصل إلى بيته فإذا هو قحم أسود ومن كراماته المأثورة عنه أن شخصا من الناس فقد زوجته من فراشها فتحقق أن ذلك من فعل الجن فذهب إلى الشيخ وأخبره الخبر فكتب له قرطاسا وقال له امض إلى تونس العتيقة وأقم ثمة حتى إذا مضى ثنت الليل يمر بك جند فأعط هذا القرطاس لملكهم تنل مطلوبك فمضى إلى المكان المذكور وقعد ينظر فلما صار نصف الليل ظهر له قوم روحانيون فسأل عن ملكهم فقيل له ها هوذا فناوله القرطاس فنظر الملك فيه ثم قال سمعا وطاعة ثم أمر بأحضار المرأة وسلمها لزوجها وأمره بأن يبلغ سلامه إلى الشيخ وحكى ابن نوعي قال أخبرني الأمير على المعروف ببك زاده أنه لما كان أبوه متوليا تونس وعزل في مدة قليلة وابتلى بفقر وفاقة لا يعبر عنها بمقال قال وتكدر حالنا لأجله فاتفق أن جاء العيد وليس معه ما ينفقه وإذا بأحد خدام الشيخ جاء إلى أبي بهدية من الشيخ وهي مائة تفاحة واعتذر عن قلتها كل الأعتذار قال فأخذ أبي تفاحة وشقها نصفين فخرج من وسطها دينار فشق الجميع وأخرج ما فيها فكان مائة دينار فأنفقها وتوسع بها وله من هذا القبيل كرامات شتى وبالجملة فقد اتفقت الكلمة على علو شأنه وسمو قدره وفيه يقول شيخ الأسلام يحيى بن زكريا وقد ورد أحد خلفائه إلى الروم وطلب تقريظ أجازة أجازه بها الشيخ قدس الله سرهعه فسأله العسكري من أنت فقال أنا خادم شيخ الشيوخ أبي الغيث وهذا الخزينة نصيبه إذا أمرني بنقل شيء منها جئت فأرى الباب مفتوحا فأدخل وآخذ منها مقدار ما يعينه لي ثم أخرج وليس لأحد غيره فيها نصيب ونقل أنه كان إذا وقع خيانة فيها من أحد ففي الحال ينقلب الذهب فحما أسود واتفق لبعض الناس أنه أبرم على الخادم مرة في تناول شيء منها فلاأله جيبه فلما وصل إلى بيته فإذا هو قحم أسود ومن كراماته المأثورة عنه أن شخصا من الناس فقد زوجته من فراشها فتحقق أن ذلك من فعل الجن فذهب إلى الشيخ وأخبره الخبر فكتب له قرطاسا وقال له امض إلى تونس العتيقة وأقم ثمة حتى إذا مضى ثنت الليل يمر بك جند فأعط هذا القرطاس لملكهم تنل مطلوبك فمضى إلى المكان المذكور وقعد ينظر فلما صار نصف الليل ظهر له قوم روحانيون فسأل عن ملكهم فقيل له ها هوذا فناوله القرطاس فنظر الملك فيه ثم قال سمعا وطاعة ثم أمر بأحضار المرأة وسلمها لزوجها وأمره بأن يبلغ سلامه إلى الشيخ وحكى ابن نوعي قال أخبرني الأمير على المعروف ببك زاده أنه لما كان أبوه متوليا تونس وعزل في مدة قليلة وابتلى بفقر وفاقة لا يعبر عنها بمقال قال وتكدر حالنا لأجله فاتفق أن جاء العيد وليس معه ما ينفقه وإذا بأحد خدام الشيخ جاء إلى أبي بهدية من الشيخ وهي مائة تفاحة واعتذر عن قلتها كل الأعتذار قال فأخذ أبي تفاحة وشقها نصفين فخرج من وسطها دينار فشق الجميع وأخرج ما فيها فكان مائة دينار فأنفقها وتوسع بها وله من هذا القبيل كرامات شتى وبالجملة فقد اتفقت الكلمة على علو شأنه وسمو قدره وفيه يقول شيخ الأسلام يحيى بن زكريا وقد ورد أحد خلفائه إلى الروم وطلب تقريظ أجازة أجازه بها الشيخ قدس الله سره
أبو الغيث غيث المستغيثين كلهم ... بهمته نال الورى فك أسرهم
فهمته العلياء غيث به ارتوى ... رياض أمان اللائذين بأسرهم
وكانت وفاته في أوائل رج سنة أحدى وثلاثين وألف ودفن في زاويته المعروفة به وعمره ما جاوز الخمسين بكثير(1/90)
أبو الفرج بن عبد الرحيم السيد الشريف الحسيني المعروف بالسمهودي المدني الفاضل الأدي الكامل كان من فضلاء وقته ونبلاء عصره اشتغل وحصل وصا أحد الخطباء والمدرسين بالحرم النبوي ونبل وتفوق وكان بينه وبين شيخنا العلامة ابراهيم الخياري المدني صحبة أكيدة ومحبة قديمة وذكره في رحلته وأثنى عليه كثيرا قال وكانت وفاته بالشام شهيدا في جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير ورثاه شيخنا المذكور بقصيدة طويلة استحسنت منها هذا المقدار فأوردته وذلك
أأخي أجب إني لفقدك واله ... مع أنني للقادحات حمول
فقدتك نفس طال ما سيرتها ... وبكى لفقدك صاحب وخليل
وبكاك منبر جدك السامي الذري ... ولفقدك المحراب منه عويل
يحكى حنين الجذع لما فاته ... قرب النبي وساءه التبديل
أبو الفضل بن محمد العقاد المكي الشاعر ذكره السيد علي بن معصوم في السلافة وقال فيه هو وأن لقب بالعقاد لكنه حلال مشكلات القريض بذهبه الوقاد سار مسير الشمس من المشرق إلى المغرب منتجعا سلطانه المنصور بشعره المطرب فوفد على حضرته الساميه وورد مناهل كرمه الطاميه فصدح بشعره شاديا في ناديه ونال به مغانم من أياديه وقد ونفت على خبره العبقري من كتاب نفح الطيب للشيخ أحمد المقري إذ قال عند ذكر موشحات أهل العصر منها قول أحد الوافدين من أهل مكة على عتبة السلطان مولانا المنصور وهو رجل يقال له أبو الفضل بن محمد العقاد وهذا هو الموشح الذي ذكره مادحا به المنصور
ليت شعري هل أروى ذا الظما ... من لمى ذاك الثغير الألعس
وترى عيناي ربات الحمى ... باهيات بقد ودميس
فلقد طال بعادي والهوى ... ملك القلب غراما وأسر
هدمن ركن اصطباري والقوى ... مبدلا أجفان عيني بالسهر
حين عز الوصل من وادي طوى ... هملت أدمع عيني كالمطر
فعساكم أن تجودوا كرما ... بلقاكم في سواد الحندس
عله يشفى كليما مغرما ... من جراحات اليون الحندس
كلما جن ظلام الغسق ... واعتراني من جفاكم قلقي
هزني الشوق إليكم شغفا ... وتذكرت جيادا والصفا
وتناهت لوعتي من حرق ... ثم أغرى الوجد بي والتلفا
فأنعموا لي ثم جودوا لي بما ... يطفىء اليوم لهيب القيس
أنني أرضي رضاكم مغنما ... لبقا نفسي ومحيا نفسي
كنت قبل اليوم في زهووتيه ... مع أحبابي بسلع ألعب
ومعي ظبي بإحدى وجنتيه ... مشرق الشمس وأخرى مغرب
فرماني بسهام من يديه ... قاسي القلب فقلبي متعب
لست أرجو للقاهم سلما ... غير مدحي للأمام الأرأس
أحمد المحمود حقا من سما ... الشريف ابن الشريف الأكيس
ولم يورد له غير ذلك وقد نسج هذا الموشح على منوال موشح الوزير أبي عبد الله بن الخطيب شاعر الأندلس الذي أوله
جادك الغيث إذا الغيث هما ... يا زمان الوصل بالأندلس
وهو عارض به موشحة ابن سهل التي مطلعها
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى ... قلت صب حله عن مكنس
وحكى المقري في كتابه المذكور أنه اجتمع بالحضرة المنصورية أبو الفضل العقاد المكي المذكور والشريف المدني وهو رجل وافد من أهل المدينة انتمى إلى الشرف والشيخ الأمام أمام الدين الخليلي الوافد على حضرته من بيت المقدس فقال أمام الدين هذا للمنصور يا أمير المؤمنين أن المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال شد أهلها إليك الرحال هذا مكي وذاك مدني وأنا مقدسي انتهى وكانت وفاة أبي الفضل في حدود الثلاثين بالظن المقارب لما استفيد من أحواله والله أعلم رحمه الله تعالى(1/91)
أبو القاسم بن أحمج بن محمد بن سليمان بن أبي القاسم بن عمر بن علي الأهدل الولي المشهور شهر على ألسنة العالم بقائد الوحوش لأن الله تعالى سخرها له كرامة يسلطها علىمن أذاه أو قطعه عادة التزمها بطريق النذر ونحوه وشهرة حاله واعتقاده بين العالم تغنى عن وصفه وتفصيل سيرته وكانت وفاته ليلة الثلاثاء لعشر بقين من المحرم سنة اثنتين وعشرين وألف في المحط من أعمال رمع ودفن بها قبيل طلوع الفجر قال ولده السيد أبو بكر ولقد شاهدنا منه في حال احتضاره وغله ما يدل على حسن حاله وفضله واطلعنا له عقب وفاته على مناقب كثيرة تشهد بأنه كان ذا ولاية كبيره رحمه الله تعالى أبو القاسم بن الزبير المصباحي المغربي القصري الشيخ الأمام العالم التقي كان جليل القدر محافظ على رسوم الشريعة مع تغفل في دنياه لا ينكر من أحواله شيء وله منازلات ومكاشفات أخذ عن الشيخ أبي محمد الحسن بن عيسى المصباحي من أكابر أصحاب القيرواني وعن ولده أبي محمد عيسى بن الحسن وعن أبي عبد الله الطالب وارث القيرواني وعنه عالم المغرب الشيخ عبد القادر الفاسي وكثيرا ما كان يتردد إليه بالقصر قبل رحلته إلى فاس وكانت وفاته في مستهل المحرم سنة ثمان عشرة بعد لألف أبو القاسم بن محمد المغربي السوسي المالكي نزيل دمشق ومفتي المالكية بها كان أماما بزاوية المغاربة خارج باب الشاغور ومحل مرقد ولي الله الشيخ مسعود يقال أن الدعاء عند قبره مستجاب كان يصلي بها الأوقات الخمسة وكان حافظا لقراءة السبع والعشر وشرح الشاطبية والنشر شرحا لطيفا وكان له مكتب يعلم فيه الأطفال وما قرأ عليه أحد إلا فتح عليه لشدة ما كان عليه من الفتح وكان وحيد عصره في الفتيا بعد مشايخه العظام بدمشق كأبي الفتح المالكي وغيره وكان شهما غيورا على الدين تهابه القضاة والحكام وغالب أهل دمشق يرجعون إليه في المشاورة للأمور وحدث بالجامع الأموي فحضره خلق كثير وأخذ عليه حماعة وانتفعوا به منهم الشيخ على المكتبي وولده محمد الآتي ذكرهما وكانت وفاته في سنة ثمان أو تسع وثلاثين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من ضريح سيدنا بلال الحبشي رضي الله عنه أبو اللطف بن اسحاق بن محمد بن أبي اللطف الحصكفي الأصل المقدسي الشافعي والد العلامة السيد عبد الرحيم مفتي الحنفية الآن بالقدس الشريف كان فقيها حسن المطارحة وفيه لطف طبع ومروءة وولي افتاء الشافعية وتدريس المدرسة الصالحية وكان ينظم الشعر ووقفت له على تاريخ صنعه لكتابة نسخة من ديوان الرضى فأثبته له وهو قوله
خط ذا الديوان عبد عاجز ... بأبي اللطف تسمى ورضى
لمن الديوان أن تسأل وما ... عام حررناه أرخ للرضى
وجدد الأمير مصطفى بن باقي بيك في جامع جده لا لا مصطفى باشا بقرية جينين خلوة فقال فيها مؤرخا
بجامع جينين تجدد خلوة ... بها جلوة للواردين ذوي الصفا
بناها ابن بنت البحر باقي فأرخوا ... أساس على التقوى بناء لمصطفى
ولما وجهت فتوى الشافعية عنه للسيد محمد الأشعري سافر إلى الروم لتقريرها فمات باسكدار وكانت وفاته ليلة الأثنين عاشر شهر رمضان سنة أحدى وسبعين وألف ودفن بالقرب من تكية الشيخ محمود الأسكداري(1/92)
أبو المواهب بن محمد بن علي البكري الصديقي المصري الشافعي أحد أولاد الأستاذ الكبير محمد بن الأستاذ أبي الحسن وتقدمت بقية نسبه في ترجمة أخيه أبي السرور وسيأتي من بيتهم جماعة أن شاء الله تعالى وأبو المواهب هذا ولد في حياة أبيه ونشأ في عزة وافيه ونعمة ضافيه وكان في بداية أمره مائلا إلى الخلاعة وكانت مجالسه مشحونة بأنواع الطرب من المسمعين وصنوف الملاهي وكان لما مات والده جرى بينه وبين أخوته منافسات وأمور تسكب عندها العبرات حتى استقر الأمر لزين العابدين إلى أن وقع قبله وكان أبو السرور مات قبله فسمت الرتبة إلى أبي المواهب وهو كما قال الشهاب الخفاجي في وصفه مسك الختام وفذلكة أولئك الأعلام فظهر بمظهر أسلافه من الفضائل والمعارف وتصدر لتدريس واملاء التفسير وكان بينه وبين الشيخ على صاحب السيرة مودة أكيدة وباسمه ألف السيرة ووصفه بذي البداهة المطاوعه والفضائل البارعه والفواضل الكثيرة النافعه من إذا سئل عن أي معضلة أشكلت على ذوي المعرفة والوقوف لا نراه يتوقف ولا يخرج عن صواب الصواب ولا يتعسف ولا أخبر في كثير من الأوقات عن شيء من المغيبات وكاد أن يتخلف ودرس بالمدرسة الشريفة المشروطة لا علم الشافعية تلقاها عن والد زوجته الشمس محمد الرملي شارح المنهاج وكان ينظم الشعر وله ديوان يشتمل على دقائق فمنه قوله من أبيات
قطعت قلبي في الهوى أفلاذا ... من سيف جفنك فاتك فولاذا
رفقا بصب في الغرام موله ... بجمالكي يا منيتي قد لاذا
عجبا لقلبك لا يرق كصخرة ... والجسم لينا لا يطيق اللاذا
ومنه قوله من أبيات
نفسي افداء لورد خد عندمي ... قانية يروى في الصبابة عن دمي
يا ربربا حاز الجمال بأسره ... يا من به زاد الغرام تألمي
أني لأرضى كل ما ترضى به ... يا روح جثماني علمت وأن لم
ومنه من أبيات
ناعس الجفن ما إليه وصول ... بجفون بها علي يصول
أسمر القد أبيض الوجه ظبي ... ذو جمال والطرف منه كحيل
غصن بان يميل تيها وعجبا ... فعساه مع الهواء يميل
ومنه قوله في التبغ ومضمنا
مات اسقني أن تبغي الصفا سحرا ... حتى أخدر منه وهو اغشاء
واستجل أنوار شمع من يدي رشأ ... قدزانه قامة بالحسن هيفاء
بدر غدا كوكب الأسعاد في يده ... طوعا له فهو ماضي الأمر نهاء
ساق لنا قلبه قاس وكيف دنا ... من لين عطفيه والأضداد أعداء
لعل نار أسى بالبعيد قد وقدت ... يوما يكون لها بالقرب اطفاء
فاملأ كؤس رحيق كالحريق فقد ... أغنتك أذ وصفت ياللطف صهباء
ودع ملام طبيب عابها سفها ... وداوني بالتي كانت هي الداء
وكتب إلى العلامة عبد الرحمن المرشدي مفتي مكة المشرفة في صدر كتاب
أروم الصفا والقرب من جيرة المسعى ... وأجعل أجفاني لأقدامهم مسعى
فنار الغضى في مهجتي وأضالعي ... هي المنحني والعين أرسلت الدمعا
ألا يا حمام الأيك هيجت لوعتي ... إلى جانب الجرعا ومن حل بالجرعا
بللا وعلى أفق السماء محلها ... أحن إليها والذي أخرج المرعى
وفيها أمام عالم عامل على ... تقي نقي أتقن الأصل والفرعا
ذخيرة أهل العلم كنز أولى التقى ... له يا اله الخلق في نعمة فارعا
فما هو الأمر شدو ابن مرشد ... به ربنا للناس قد أوجد النفعا
فيا عابد الرحمن يا خير سيد ... باتقانه والله قد أحكم الشرعا
يراعك علم النحو أصبح متقنا ... فلا عجب أن يعمل الخفض والرفعا
ووالله شوقي زائد ومضاعف ... وحبي لكم بين الورى لم يزل طبعا
بقيتم مع النجل الكريم بغبطة ... ولا برحت كل الوفود لكم تسعى
ويحفظ رب العالمين كريمكم ... لكم ربنا الرحمن من فضله يرعى(1/93)
بجاه رسول الله أفضل مرسل ... ترى الأسد في الغابات من خوفه صرعى
عليه صلاة الله ثم سلامه ... وأصحابه والآل أجمعهم جمعا
وبعدها نثر منه الأخلاص فيما بيننا فاتحة الكتاب واختصاص أشهر للناس من فلق الصبح الظاهر لأولى الألباب فو العصر أنك مفرده وسعده وعضده وسيده تبت يدا أعداك فهم الكافرون للنعم وويل لكل في موقف الحشر من التغابن عند زلة القدم تبارك الذي جعلك الأنسان الكامل وأظهر لك البناء الذي خليت به من عموم العامل وخصوص أبناء طه ويس في صدور المحافل واختارك للطالبين مرشدا وأنت المستعان المستغاث في حالة الندا أهديك تحيات أعرابها مبني على الضم والجمع وتسليمات تحرك سواكن الأشواق وتطلق هوامع الدمع كيف لا وأنت المولى الذي لم يتخذ القلب عن عطفك بدلا وأصبح تأسيس تأكيد الحب الصادق عندك يجتلى أبقاك الله راقيا في معارج مدارج المجد ومناهج مباهج السعد ومروضا روض الأبد بوابل فضله وجامعا في البلاغة كل شكل إلى شكله مع عمر مديد يطاول الأدب ومنح تستغرق الأمد في عزة تقاصر عنها مقاصير العلماء ومجد تكامن له رؤس العظماء وعلم نسيق القنا مشحوذ القواضب وفهم تحيط به فوق فرق السهى معاقد المجد ومقاعد المراتب حيث تخفق بنود العلوم وتقذف أنوار الفهوم ويتضح المنطوق والمفهوم وينفخ اسرافيل اللوح الألهي في أصوار الأسرار أرواح الألهام ويتلو جبريل التنزيل على الأعلام في ذلك المقام آيات الأعلام فيا ئيها البحر الذي ملك زمام البلاغه وانقادت بيده أزمة البراعه المشحون بالمعقول والمنقول والمفتى الذي فتاواه جامعة للفروع والأصول والفصيح الذي سد على ذوي الفصاحة الطرق وجاء بالنجم مصفدا من الأفق والفرد الذي لم تبرح شمايل أخلاقه العاطرة تتأرج وعقائل أوصافه الفاخرة تتبرج وصل إلى كتابكم المرقوم ودر خطابكم المنظوم الذي هو نور النبراس ومدارك الحواس ولذة السمع ومقلة الدمع أو نفحة الند أو صبا نجد أو نسيم السحر أو بلوغ الوطر أو عقود اللآل أو السحر الحلال جمع لمنشيه فنون الأوائل والأواخر وحلى الأجياد بقلائد العقيان والجواهر وأورد له الخفاجي قوله في مليح اسمه عبد النبي
عبد النبي قاتلي ... بعينه وحاجبه
واعجبا لعبده ... يقتل نجل صاحبه
قال الخفاجي قوله بعينه وحاجبه هذا من استعمال المحدثين فيوهم أن العين فيه بمعنى الجارحة وإنما هي بمعنى الذات يقال في التوكيد جاءني فلان نفسه وعينه وبنفسه وبعينه فيراد بعينه ذاته ومن الأول قول البدر الدماميني
بدا وقد كان اختفى ... وخاف من مراقبه
فقلت هذا قاتلي ... بعينه وحاجبه
وله غير ذلك وكانت ولادته في سنه ثلاث وسبعين وتسعمائة وتوفي ليلة السبت سابع عشر شوال سنة سبع وثلاثين وألف ودفن صبيحة الأحد بتربة آبائه بالقرافة وكان ابتداء مرضه من سابع عشر شعبان بمرض الصرع رحمه الله تعالى أبو الوفاء بن عمر بن عبد الوهاب بن ابراهيم بن محمود بن علي بن محمد بن محمد بن محمد ابن الحسين الشافعي الحلبي العرضي مفتي الشافعية بحلب وابن مفتيها واحد أعيان العلماء في المعرفة والأتقان والحفظ والضبط وكان أماما عالما خيرا متواضعا حسن السمت لطيف تأدية الكلام واعظا إليه النهاية في التفهم وجودة الأسلوب روى العلوم النقلية والعقلية عن والده ولزم العلامة أبا الجود البتروني وغيره من الشيوخ واستجاز كثيرا وتصدر للأقراء مدة حياته في دار القرآن الحبشية المنسوبة إلى أبي العشائر المطل شباكها على الجامع الكبير بحلب وله شعر حسن ونثر بارع واعتنى بجمع تاريخ سماه معادن الذهب في الأعيان المشرفة بهم حلب رأيت منه قطعة ونقلت منها بعض تراجم لزمني ذكرها وله رسائل كثيرة وتآليف منها كتاب طريق الهدى في التصوف وشرح على ألمفية ابن مالك وحاشية على شرح المفتاح للسيد وحاشية على البيضاوي وحاشية على شرح المنهاج للمحلى وشرح البديعيات وشرح سورة لضحى على لسان القوم وله لامية تضاهي لاميى العجم ومطلعها قوله
جلالة الفضل تنفي زلة الرجل ... وذلة الجهل توهي صولة البطل
منها
واضرب على العقل أسوارا محصنة ... تقيك فتنة أحداث أولى حيل(1/94)
ولا يروقك ماء الحسن قطره ... نار الحياء على الخدين كالشعل
ولا حلاوة ثغر حشوه درر ... فكامن السم في العسال والعسل
وذكره البديعي في ذكرى حبيب وقال في وصفه عالم الشهباء وابن عالمها ومن شد بالفضائل دعائم معالمها وهو في الزهد كأويس وعروه وللسادة الصوفية قدوه وأنعم به من قدرة اشتغل بالتصنيف والتدريس والأفتاء على مذهب الأمام محمد ابن أدريس وهو الآن لناظرها بصر ولنا ضرها نور وثمر يعظ الناس في كل يوم جمعة بعد صلاة العصر بزوا جرلوا استقضى بها أهل الضلال لما كان مضل في العصر وله أخلاق تخلقت منها نسمات الأسحار وسجايا تنسمت عنها نفحات الأزهار وقد حوى زمام مكارم الأخلاق من طارف وتليد فأصبح مصداق قول أبي عبادة الوليد
شجو حساده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واعي
ثم ذكر له طرفا من النثر وأورد له شيئا من الشعر فمن ذلك قوله
عود الأراك قال خوف حاسد ... لما أرتوى من رشف ثغر عابق
أن الذي قد شاقني من ثغرها ... ذكر العذيب والنقا وبارق
ومثله للشهاب بن تمراس
أقول لمسواك الحبيب لك الهنا ... برشف فم ما ناله ثغر عاشق
فقال وفي أحشائه حرق النوى ... مقالة صب للديار مفارق
تذكرت أوطاني فقلبي كما ترى ... أعلله بين العذيب وبارق
وله أيضا
سألتك يا عود الأراكة أن تعد ... إلى ثغر من أهوى فقبله مشفقا
ورد من ثناياه العذيب فمنهلا ... تسلسل ما بين الأبيرق والنقا
وقوله
أسر الناس باللحاظ حبيب ... كل مضنى بسجنه محبوس
فكان القلوب منا حديد ... وعيون الحبيب مغناطيس
ويقرب منه قول بعضهم
مغنطيس الخال في خده ... يجذب بالسحر حديد العيون
ومنه
نصب الحمام لقوتي شرك الردى ... في غرة وأنابه لا أعلم
فطفقت ألقط حبة الأمل الذي ... راودته والشيب مني يبسم
فيه شمة من قول أبي تمام
ولا يروعك إيماض المشيب به ... فإن ذاك أبتسام الرأى والأدب
ومنه فيمن دق على يديه بالزرقة
البدر حين حكي ضياء جبينه ... فأحمر من غضب على هفواته
شفق ومن جهة اليمين سماؤه ... فأرتك زرقتها على حافاته
وأنشد له الخفاجي قوله
بورد الخد ريحان محيط ... وتركي حبه لا أستطيع
وقلت النفس خضرا يا عذولي ... كما قد قيل والزمن الربيع
قال وهذا مثل عامي يقولون النفس خضراء تشتهي كل شيء وقولهم تشتهي إلى آخره جملة مفسرة لخضراء وكان أصله ما ورد في الحديث أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترتع في الجنة انتهى والأصوب أن يقال أن أصله ثلاثة تذهب عنك الحزن الماء والخضرة والوجه الحسن ومعنى أن النفس خضراء أي تميل إلى الخضرة بالطبع ومن لطائفه في حق رجل يدعى منصورا رذيل المرء ما نهض به حظه الحر مقهور والعلق منصور وذكره الحسن البوريني في تاريخه وأثنى عليه وذكر أنه اجتمع به في منصرفه إلى حلب في سنة سبع عشرة بعد الألف وذكر قصيدة كتب بها أبو الوفاء إليه مطلعها قوله
شموس العلي من فوق مجدك تشرق ... وغصن النقي من فيض فضلك يورق
فأجابه عنها بقصيدة مطلعها
فؤاد بأسباب الهوى يتعلق ... ودمع له رسم على الخد مطلق
والقصيدتان في غاية الطول فلا حاجة بنا إلى ايرادهما وظفرت له بقصيدة قالها مادحا بها السيد أحمد النقيب استحسنتها فأوردتها وهي
من النوى من مجيري ... يا رحمة المستجير
والصبر جدار تحالا ... على نياق المسير
يوم الوداع أضاعوا ... حشاشتي من ضميري
يا ليت شعري فؤادي ... هل سار لا بشعوري
يقفو حداة المطايا ... في ظعنهم كالأسير
رفقا بقلب كوته ... أيدي النوى بسعير
والجسم كلت قواه ... من حادثات الدهور
وهد ربع التسلى ... مغيب أنس الحضور(1/95)
قديم حكم قضته ... حوادث التقدير
والشوق يغلو ضراما ... بدمع جفن مطير
أجرى عقيق دموعي ... جدا ولا كالبحور
نهرت سائل جفني ... عن نوء دمع غزير
فغاض ماء عيوني ... وفاض كالتنور
غوثاه من ذا التنائي ... من شره المستطير
ومن فراق مثير ... للوعة وزفير
من حاكم في فؤادي ... يعثو عليه بجور
وارحمة لمشوق ... إلى التداني فقير
يهزه كل برق ... إيماضه كالثغور
أن فاح نشر الخزامى ... أو ضاع عرف العبير
يكسو الرياض فتجلى ... في نورها والنور
يهيج كا من وجد ... بين الحشا والضمير
يذكر الصب عيشا ... صفا صفاء النمير
أوقات أنس أضاءت ... كالبدر في الديجور
نجني ثمار المعاني ... من روض مجد نضير
والمشكلات علينا تجلى بغير ستور
ندير راح الخفايا ... على سرير السرور
وحيث غاب غزال الحمى وأنس الحضور
مولاي أحمد تاج العلا وصدر الصدور
كشاف مشكل بحث ... برأيه المستنير
السابق القوم فهما ... في حومة التقرير
أقلامه في جدال ... تطول بالتحرير
فذ بتوأم فضل ... بالنظم والمنثور
قد فاق كل لبيب ... وعالم نحرير
يا مفردا في جميع العلوم لا بنظير
له بلاغة سحبان ... بل نظام جرير
آدابه في انسجام ... تفوق وشي الحرير
مدى الزمان سلامي مع الدعاء الكثير
يهدي إليك ويبدو ... في طيه المنشور
خلوص حب صفا من ... شوائب التكدير
سلساله العذب يحكى ... معتقات الخمور
وله غير ذلك وكانت ولادته ليلة الأثنين المسفر صباحها عن عيد الأضحى من سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة وتوفي في اليوم الرابع من المحرم سنة أحدى وسبعين وألف رحمه الله تعالى(1/96)
أبو الوفاء بن محمد بن عمر السعدي الحلبي الشافعي المشهور بابن خليفة الزكي ذكره أبو الوفاء العرضي المذكور قبله في تاريخ المعادن وقال فيه من أعيان المشايخ السعدية المنسوبين في الخلافة إلى الشيخ سعد الدين الجباوي خلقه والده الشيخ محمد وخلف الشيخ محمد والده الشيخ عمر المدفونان في زاويتهم خارج باب النصر أما والده الشيخ محمد فلقد كان فاضلا كاملا صالحا صاحب كرامات كان رجل يقال له عبد الرحمن بن الصلاح ذا ثروة ومال وعليه هيبة ووقار وكان يدخل في حلقة ذكر أبي الوفاء بين أقوام عوام غالبهم فلاحون وبعض جماعات من ذوي الهيئات فقلت ما السبب أنكم تدخلون إلى حلقة الذكر مع هؤلاء القوم فقال كنت شابا واقفا أنظر إلى فقراء والد الشيخ وفا وهو الشيخ محمد وأنا في ضميري أستهزىء بالذكر لأنهم يقولون مالا يفهم معناه فقلت في ضميري ما مرادهم بقولهم هام هام فخرج الشيخ من الحلقة وفرق الأزدحام وجذبني من ثيابي وقال نقول الله الله فوقعت مغشياً علي ثم لم أزل على اعتقادهم وكان في بني درهم ونصف رجل من الفضلاء يقال له المنلا يستهزىء بهم ويحقرهم فأشار إليه الشيخ محمد تأدب تأدب فوقع مصروعا فوقعوا على الشيخ واستمروا مدة طويلة يترددون إليه حتى صفح وعفا وتواتر على المذكور الشفا كل ذلك ببركة الشيخ محمد وكان له خط حسن حتى ألف كتابا اسمه المحمديه ذكر فيه مواعظ وكرامات للأولياء واستطرد إلى ذكر الشيخ سعد الدين الجباوي وهو استاذه وكذلك صنف مجالس وعظ تشتمل على آيات قرآنية وأحاديث نبوية ومعان مهذبة ومسائل مرتبة وكذلك والده الشيخ عمر ألف كتابا سماه العمرية ذكر فيه مناقب الشيخ سعد الدين وله حلقة ذكر في الجامع الكبير بحلب يوم الجمعة فيها مائة رجل وكان صاحب الترجمة يلبس العمامة الكبيرة الخضراء والثياب المتسعة الأكمام الطويلة الأذيال وقد لبسوا الأخضر قبيل الألف بمدة قليلة أثبتوا أنسابهم بواسطة الحسين وكان من عادة الأشراف يربون لهم الشعور في رأسهم وكتب لهم نسب ومحضر شهد لهم بالنسب غالب الأعيان بحلب ولما مات والده كان شابا له حدة مزاج فكان بعض الأعيان بباب النصر تشاجر معه فذهب إلى دمشق وأخبر الشيخ سعد الدين والد الشيخ محمد وكان المذكور مجذوبا لا يتمهل في الأمور فذكر له أن الشيخ أبا الوفا كان مع بعض نساء أجانب فقبض عليه حاكم البلدة وأخذ منه ما لا ليلا وأنه لا يليق بالخلافة وعندنا رجل صالح عالم يقال له الشيخ عبد الرحيم اجعله خليفة واعزل الشيخ أبا الوفا وأكتب للأعيان مكاتب بعزله فكتب للشيخ عبد الرحيم إني جعلتك خليفة وعزلت أبا الوفا وكتب للقاضي بذلك وأن يمنع أبا الوفا من الذكر مع الفقراء فأحضره القاضي وأظهر له المكتوب فقال أنا لست بخليفة له وإنما أخذت الخلافة عن والدي ووالدي عن والده ثم ورد مكتوب من الشيخ سعد الدين إلى المريدين والنقباء أن من تبع أبا الوفا فهو مطرود من طريقتي ومن تبع الشيخ عبد الرحيم فهو مقبول عند الله وعندي ومع ذلك استمرت الفقراء غالبا عنده ثم بعد مدة توجه أبو الوفا بهدايا إلى الشيخ سعد الدين ومعه الفقراء المريدون فسبقه الشيخ مسعود أخو الشيخ عبد الرحيم وقال للشيخ سعد الدين أن خلفت أبا الوفا يختل أمرنا فقال لا أخلفه فجاء أبو الوفا فأكرمه الشيخ سعد الدين أن خلفت أبا الوفا يختل أمرنا فقال لا أخلفه فجاء أبو الوفا فأكرمه الشيخ سعد الدين ثم قال له جئت تطلب الخلافة فقال أنا خليفة والدي عن والده عن جده عن أجدادكم وجئت لتأدية حقكم فحسب فإن أذنتم فبها وإلا فقد فعلت ما لكم من الأحترام ولم يبرم ثم رجع إلى حلب واستمرت حلقة ذكرهقائمة لكن حلقة الشيخ عبد الرحيم كثرت جدا بسبب السخاء وبذل القرى وكانت حلقة الشيخ عبد الرحيم بباب المقصورة ملاصقة حلقة الشيخ أبي الوفا بحيث يلتحمون ولا شيء حاجز بينهم وكان يقع بينهم من الفتن والأثارات والشتم أشياء كثيرة إلى أن مقت الناس الفريقين فلما قدم الشيخ محمد بن الشيخ سعد الدين إلى حلب ألزم الشيخ عبد الرحيم بالتحول إلى المحراب الأصغر حتى انطفت تلك النيران وقال الشيخ محمد أخطأ والدي في تفريق الكلمة بينهم وكان أبو الوفا تولى مدرسة الفردوس وتولى نقابة طرابلس وكان خطيبا بجامع الزكي وأما ماله وولي مدرسة البيرامية وكانت وفاته في سنة عشرة بعد الألف ودفن في نفس زاويتهم وقد(1/97)
قارب الخمسينارب الخمسين أبو الوفا بن معروف الحموي الشافعي الخلوتي الطريقة ذكره الشيخ عمر العرضي والد أبي الوفاء المتقدم ذكره في تاريخ ألفه وذكر فيه علماء اجتمع بهم وأخذ عنهم أو صحبهم وقفت عليه وجردت منه تراجم أناس منهم أبو الوفا فقال في ترجمته صاحبنا الفاضل الزاهد قرأ بحماة على الشيخ أبي بكر اليمنى الزاهد في الفقه ثم لما مات الشيخ أبو بكر هاجر الشيخ أبو الوفاء إلى مصر فقرأ على فضلائها كالرملى الصغير والشيخ حمدان وأخذ الحديث عن النجم الغيطي والعربية عن الشهاب ابن قاسم والشنواني ثم قدم حماه بفضل وافر فلبس الخرقة الخلوتية من شيخنا الشيخ أحمد بن الشيخ عبدو القصيري وهاجر إليه إلى قريته القصير ودخل الخلوة وتهذب وتزكت نفسه ثم عاد إلى بلده فركب منابر الوعظ ونصح وأطال اللسان واعتقده الناس سيما في أواخر عمره فإنه أسفر عن أخلاق مرضيه وتلمذ له جماعة من فضلائها وصار شيخها وقدوتها وحمده الناس وقدم علينا حلب مرات في أغلبها يبادرنا بالزيارة ولو أنه تربص لسعينا له وزرته روما لحصول بركته والأنتفاع بثواب زيارته وقال أبو الوفاء العرضي ابن المذكور في ترجمة صاحب الترجمة إنه دخل إلى القاهرة بإذن من شيخه الشيخ أحمد القصيري وحكى أنه نزل في مصر عند الأستاذ أبي الحسن البكري والد الأستاذ محمد قال فقرأت عليه بعض كتب من بعض علوم فلما وجدني على أسلوب الصالحين من ملازمة الأوراد والقيام على قدم التهجد طلب مني أن يتخذني مريد اله ويعطيني العهد فكنت أتغافل فإني لمزيد اعتقادي في الشيخ أحمد ما أردت أن أعتاض عنه بغيره وراودني في ذلك مرات قال فبينا أنا في الحجرة ليلا وإذا بالشيخ أبي الحسن أقبل علي وعليه قنباز من جوخ أحمر وعلى رأسه عمامة صغيرة منامية فجلس وبسط يده إلي وقال هات يدك حتى أبايعك على طريقتنا الشاذلية فسكت وإذا بالجدار انشق وخرج منه شيخنا الشيخ أحمد فقال للشيخ أبي الحسن لا تتعرض لمريدي قال هذا مريدي فوقعت بينهما المشاجرة وإذا به نظر إلى البكري نظرة هائلة خرج من عينه خيط نار وصلت إلى البكري فتباعد عني وإذا برجل آخر أصلح بينهما وقرأ الفاتحة لهما فسألت هناك واحدا من هذا الذي أصلح بينهما فقيل لي أنه الخضر عليه السلام وفي صبيحة ذلك اليوم توجهت من مصر قاصدا بلاد القصير خوفا من الشيخ أبي الحسن ومن الرجال فلم أزل على قدم السفر حتى وصلت إلى الشيخ أحمد وهو حي فقبلت يديه فضحك وقال سلسلتنا أن شاء الله تعالى لا تنقطع قال العرضي وعلى ما قيل كان الشيخ أبو الوفا المذكور ينفق من الغيب كان خادمه يستوفي له أجور حوانيته نحو الأربعة عشر قطعة يضعها تحت الجلد ولا يزال ينفق منها وهي باقية بعينها وربما خرج في اليوم نحو القرش وكان له نظم مقبول منه قوله
كل من في الحمى ينادم سلمى ... غير أني لهجرها لا تسل ما
فأعذروا هائما عليلا سقيما ... وأرحموا العاشق الذي مات غما
لامني عاذلي بصبري عليهم ... ما أنا سامع العواذل مهما
مذ تجلى الحبيب زاد سقامي ... ودعاني لحانة الأنس لما
قال ما إسمي فقلت الله ربي ... طاب شربي عند اللقا بالمسمى
ثم قال عجبا يتجلى المحبوب فتنكشف الكروب فكيف يزداد السقام وتتضاءف الآلام اللهم إلا أن تكون فيه الأشارة إلى قوله تعالى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا كما قال
صارت جبالي دكا ... من هيبة النتجلى
فصرت موسى زماني ... مذ صار بعضي كلي
أو لعل النسخة زال باللام وكانت وفاته عن سن يزيد على الثمانين في شهر ربيع الأول سنة ست عشرة بعد الألف بحماة قلت وهذا والد الشيخ المعروف وكان الشيخ محمد المذكور زوج أخت جدي القاضي محب الدين وكان عالما فاضلا على طريقة والده خلوتيا وكتب بخطه كتبا كثيرة توجد في أيدي الناس ويغلب عليها الصحة أبو الهدى العليمي القدسي الولي الصالح قطب وقته ذكره النجم في ذيله وأحسن الثناء عليه كثيرا وهو من ذرية الولي الشهير سيدي على بن عليم قدس الله سره قال النجم أخبرني صاحبنا أحمد بن المغيرة وهو ثقة وشهد جنازته ببيت المقدس أنه مات في ليلة الجمعة ثامن شعبان سنة اثنتي عشرة ولم يتأخر عن جنازته أحد من أهل القدس رحمه الله تعالى(1/98)
أبو اليمن بن عبد الرحمن بن محمد وهو والد ابراهيم البتروني الحلبي المقدم ذكره وقد ذكرنا تتمة نسبه هناك فلا حاجة بنا إلى ذكره هنا وكان أبو اليمن هذا مفتى الحنفية بحلب بعد أخيه أبي الجود المار ذكره وكان فاضلا فقيها متواضعا حسن الخلق جواد ممدوحا نشأ في الجد والأحتهاد وقرأ وأخذ عن علماء عصره ودرس بالمدرسة العادلية وأفني مدة طويلة وكان له شأن رفيع ولأهل حلب عليه أقبال زائد لسلامة طبعه وتودده وكرم أخلاقه ودخل دمشق حاجا في سنة أربع بعد الألف فصادف قبولا وافرا وأكرم نزله جدي القاضي محب الدين لسابق مودة بينه وبين أخيه أبي الجود وذكره البديعي في ذكرى حبيب وقال أدركته وقد خلق عمره وانطوى عيشه وبلغ ساحل الحياة ووقف على ثنية الوداع ولم يبق منه إلا أنفاس معدوده وحركات محدوده ومدة فانيه وعدة متناهيه وهو بحر علم وطود حلم وواحد الآفاقفي مكارم الأخلاق ومن لطائفه قوله في مكتوب أرسله إلى شيخ الأسلام صنع الله بن جعفر مفتي التخت السلطاني عند ذكر أسمه صنع الله الذي أتقن كل شيء وما كتبه في صدر كتاب إلى المولي فيض الله قاضي العساكر الرومية قوله
لتهن العلا إذ صرت حقا لها بدرا ... وزين عقد الفضل منك لها النحرا
فحمدا لك اللهم قد سعد الورى ... وصار بفيض الله نهر الندى بحرا
ومن شعره قوله في مجرى إسمه عبد اللطيف
عبد اللطيف للطفه ... سبق الذي جاراه
فكأنه ريح الصبا ... يحيي القلوب سراه
وقوله في الغزل مضمنا
وبي رشأ أحوى إذا ماس في الربي ... وهزقوا ما منه تحتجب القضب
علقت به حتى هلكت صبابة ... ومن ذا يرى هذا الجمال ولا يصبو
وله غير ذلك وكانت وفاته سنة ست وأربعين وألف وبلغ من العمر ثمانين سنة رحمه الله تعالى أحمد نظام الدين ابن ابراهيم بن سلام الله بن عماد الدين مسعود بن صدر الدين محمد بن غياث الدين منصور الشيرازي الحسني أحد أكابر المحققين وأجلاء المدققين كان يلقب بسلطان الحكماء وسيد العلماء وكانت له بالعجم شهرة عظيمة ومكانة جسيمة ومؤلفات كثيرة منها أثبات الواجب وهو ثلاث نسخ كبير وصغير ومتوسط وغير ذلك وكانت وفاته في سنة خمس عشرة بعد الألف وتوفي أخوه الأمير نصير الدين سنة ثلاث وعشرين وألف وكانا يشبهان بالشريفين الرضى والمرتضى رحمهما الله تعالى أحمد بن ابراهيم المنعوت شهاب الدين الصديقي المكي الشافعي النقشبندي المعروف بابن علان وتكملة نسبه إلى الصديق رضي الله عنه مذكورة في أبيات وهي قوله
أيا سائلي عن نسبتي كيف حالها ... جدودي إلى الصديق عشرون فاعدد
خليل وعلان وعبد مليكهم ... علي علي ذو النعيم المؤيد
مبارك شاه حاوي المجد بعده ... أبو بكر المحمود نجل محمد
ووالده قد جاء يكنى باسمه ... فطاهر حنون الذي هو مهتدي
وعلان ثان جاء وهو حسينهم ... عفيف أتي فيهم ويونس ذواليد
ويوسف اسحاق وعمران قد أتى ... وزيد به كل الخلائق تقتدي
ومن بعده حاوى الفخار محمد ... ووالده الصديق ذخري ومنجدي
وكان الشهاب المذكور أمام التصرف في زمانه وهو من العلم في المرتبة السامية أخذ عن الشيخ تاج الدين النقشبندي وانتفع به خلق كثير وله التآليف الجمة منها شرح قصيدة السودى التي أولها ليس عند الخلق من خبر وقصيدة ابن بنت الميلق من ذاق طعم شراب القوم يدريه وشرح ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا وشرح رسالة الشيخ أرسلان التي أولها كلك شرك خفي وشرح حكم أبي مدين شرحا مفيدا وشرح قصيدة الشهر زوري التي مطلعها
لمعت نارهم وقد عسعس الليل ومل الحادي وحار الدليل
وله رسالة في طريق السادة النقشبندية جمع فيها الآداب واللوازم وذكر فيها جماعات من مشايخ الطريق بدأ بشيخه الشيخ تاج الدين وبالجملة فإنه من العلماء الفحول وكانت وفاته في اليوم السادس عشر من شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وألف ودفن بالمعلاة بالقرب من قبر أم المؤمنين السيدة خديجة(1/99)
أحمد ابن ابراهيم المعروف بابن تاج الدين الحنفي الدمشقي التاجي كان أحد صدور الشام ومن كملائها المشهورين بحسن المصاحبة ولطف البداهة وكان وجيها صاحب أقدام في الأمور وله معرفة باللغة التركية وكان بيده وقف أجداده بني تاج الدين وهذا الوقف من الأوقاف الكبيرة بدمشق وكان شريكا لخاله شيخ شيوخ الشام عبد القادر بن سليمان في خدمة مزار حضرة الشيخ أرسلان وكانت بينهما نصفين وسافر إلى الروم ولازم على قاعدتهم ودرس ثم صار قاضيا بالركب الشامي في سنة تسع وثلاثين وألف وعاد إلى الروم وصار قاضيا بغوه في اقليم مصر وبعدما عزل منها توجه إلى الروم ثالث مرة في رجب سنة سبع وأربعين وألف وترك طريق القضاء وأبدله بالتدريس وولي تدريس المدرسة الأحمدية بالمشهد الشرقي بجامع بني أمية المعروفة بدار الحديث التي كان جددها أحمد باشا الحافظ أيام حكومته بالشام وكانت وجهت إليه برتبة الخارج ثم أعطي رتبة الداخل وأخذ المدرسة العذراوية عن عالم دمشق وخطيبها أحمد بن يحيى البهنسي الآتي ذكره أن شاء الله تعالى ولم يتصرف بها وقررت على البهنسي لكون أخذها لم يصادف محلا وناب في قضاء دمشق عن قاضي القضاة أبي السعود الشعراني المقدم ذكره وأثرى في آخر عمره وتصدر وكثرت حواشيه وعلى كل حال فهو معدود من الصدور وكانت ولادته في سنة سبع بعد الألف وتوفي في سابع شعبان سنة ستين وألف ودفن بالمدرسة القلجية تحت قدمي بانيها الأمير سيف الدين قلج الأصفلار رحمه الله تعالى أحمد بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي بكر بن علوي بن عبد الله بن علوي بن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم جدا الجمال محمد الشلي والد والده أبو بكر المقدم ذكره حفيد الجمال في تاريخه المسمى نفائس الدرر في أشراف القرن ذالحادي عشر وقال في ترجمته ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن واشتغل وصحب من أكابر عصره كثيرين وأخذ عن جماعة منهم الأمام أحمد بن علوي باجحدر والشيخ شهاب الدين بن عبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الرحمن السقاف وأدرك المحدث الكبير محمد بن علي خرد صاحب الغرر وأخاه القاضي أحمد شريف وحج وأخذ بالحرمين عن جماعة ولبس خرقة التصوف من والده وغيره وكان كثير السؤال عما يقع له من أمور الدين من الأشكال وافر التحري في أمور العبادة كثير المداومة على عمل البر والأوراد والأذكار وكثرة القيام والتلاوة وأخذ عنه جمع كثيرون منهم ابنه أبو بكر والشيخ عبد الله بن سهل بافضل وآخرون وكان عالما بالفقه وأصوله لكن غلب عليه علم التصوف والأشتغال بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكان كثير الخوف والبكاء وأثنت عليه مشايخه وأكابر عصره وكان زاهدا في الدنيا قانعا منها بالكفاف وظهرت منه كرامات منها أن السيد الجليل عمر بن أحمد مقر لما حفر بئره المشهور تحت تريم اعترضت دون الماء صخرة عظيمة فتعب لذلك فلما علم صاحب الترجمة بأنه قصد بها وجه الله وأن فيها نفعا للمسلمين كتب في حجارة صغيرة ورمى بها على تلك الصخرة الكبيرة فأنهارت كالتراب ونبع الماء ومنها أنه لما سافر إلى الحج في طريق الشط حصل للركب الذي هو فيه عطش شديد ومحل الماء بعيد عنهم فأخذ قربة وتوارى في جبل صغير ورجع والقربة مملوءة ماء فراتا وكان يقال أنه يعلم الأسم الأعظم وكانت وفاته في رجب سنة أربع بعد الألف ودفن بمقبرة زنبل بقرب قبر والده وجده رحمهم الله تعالى(1/100)
أحمد بن أبي بكر النسفي الخزرجي المالكي الشهير بقعود الأمام البارع الكبير الماهر في كثير من الفنون كان أحد العلماء المشاهير بمصر حسن النظم والنثر أخذ عن النجم الغيطى والناصر اللقاني ومن في طبقتهما وألف مؤلفات كثيرة نظما ونثرا منها منظومة في النحو ومنظومة في الزحافات والععل العروضية وتذكرة جمع فيها من لقيه من الشيوخ ومن عاصره وكثيرا من نظمه البديع وأخذ عنه جماعة من العلماء وانتفعوا به منهم ولده أبو بكر والشهاب أحمد الخفاجي وذكر في كتابه فقال في وصفه بليغ سحب ذيل بلاغته على سحبان وروض أدب في كل ورقة خطها بستان ألفاظه أرق من دمع السحاب وأطرب من كأس يضحك بالحباب سطور شعره قضب عليها من قوافيه حمام وعصره وأن تأخر لمدام الأدب مسك ختام أن ورى فالكلمات النباتية لحيائها ذات تواري أوزف ابكار أفكاره فالكنس لشبهها جواري وهو من أعيان مصر وأدبا وممن مال لرقته كل نسيم وصبا وله مكارم أخلاق تؤثر مآثر الجود في الآفاق كما قال فيه تلميذه يحيى الأصيلي
لله در شهاب الدين مرتقيا ... في الجود والنسب السامي على السلف
من رام سعى تقي أو منتقي نسب ... قالت فضائله في ذا وذا ستقي
ومع كون طبعه يهزأ بالشمال والشمول أدركته حرفة الأدب فأعتكف في زوايا الخمول ومن شعره قوله
يا صاحبي اتركا معنى ... أو فاعذلاه وعارضاه
فاتطيقان رشد غاو ... بما يلاقي وعي رضاه
سبي حشاه والعقل منه ... عينا غزال وعارضاه
يا جمع من صيروا التصابي ... في الحسن عارا بالعارضا هوا
وقوله
لي حبيب من هجره زاد كسرى ... وسلوى هواه أقبح ذنب
جاءني داعيا وقال أئت أني ... أولم اليوم قلت قلب المحب
وقوله من قصيدة
تفت فؤادك الأيام فتا ... وتنحت جسمك الساعات نحتا
وتدعوك المنون دعاء صدق ... ألا يا صاح أنت أريد أنتا
ومنها في العلم
وكنز لا تخاف عليه نهبا ... خفيف الحمل يوجد حيث كنتا
ستجني من ثمار الجهل شوكا ... وتصغر في العيون وأن كبرتا
وقوله
هم بابنة البن فقد ودها ... للطفهارب الحجي والدها
مذ سادت العنبر لونا شدا ... لا تدعني إلا بياعبدها
وللقيراطي مضمنا
في خد من أحببته شامة ... ما الند في نكهته ندها
والعنبر الرطب غدا قائلا ... لا تدعني إلا بياعبدها
وهو تضمين لقول الشاعر
لا تدعني إلا بياعبدها ... فإنه أشرف أسمائي
يشير إلى شرف مقام العبودية ولذا قال سبحانه سبحان الذي أسرى بعبده ومثله قول الآخر
ومما زادني شرفا وتيها ... وكدت باخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي ... وجعلك خير خلقك لي نبيا
انتهى ما أورده له وكانت وفاته في سنة سبع بعد الألف وسبب شهرته بقعود أنه حج صحبة الأستاذ محمد بن أبي الحسن البكري فأركبه الشيخ قعودا كان هو يركبه لأجل المنام في الطريق فأتفق لما وصلا إلى المدينة بعد تمام الحج أن الجمال جاءهما وأخبرهما أن القعود مات فأغتم صاحب الترجمة حينئذ فقال له الشيخ لا تغتم نركبك أحسن منه فلم يفده فذهب وهو متغير الحال إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك تجاه الضريح وإذا بالجمال رجع متعجبا إلى الشيخ يخبره أن القعود حي فأشتهر من ذلك الخبر بقعود هكذا رأيتهه بخط بعض المصريين(1/101)
أحمد بن أبي بكر بن سالم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن اليمني من الكمل المشهورين ولد بقرية عينان ونشأ بها وأشتغل على أبيه ثم أمره أبوه بالسفر إلى تريم لزيارة من فيها وللأخذ عن العارف بالله تعالى أحمد بن علوي وكذا أخوانه أمرهم أبوهم أبو بكر بالأخذ عن بني علوي وسئل عنهم فأثنى عليهم خيرا وقال أزهدهم أحمد وحج أحمد مرتين ولقي جماعة من العارفين ولزم الطاعة ودخل بندر عدن لزيارة أبي بكر ومن به من بني العيدروس ثم قصد زيارة الشيخ أحمد ابن عمر العيدروس إلى داره فخرج الشيخ أحمد للقائه ولما رأى كل منهم صاحبه وقف تلقاءه ولم يكن بينهما مصاحبة ولم يكلم أحد منهما صاحبه ولما سئل صاحب الترجمة عن ذلك قال حال بيننا نور منعنا أن نتكلم بلسان المقال ورجع كل منهما إلى محله ورحل صاحب الترجمة من عدن إلى بندر الشحر فأقام به وطار صيته وقصده الناس من كل مكان وعم نفعه وظهر له كرامات وخوارق منها أنه لما دخل مكة أتى لزيارة الشريف أدريس بن حسن بن أبي نمى فقال له ستلى أمر الحجاز بعد أخيك أبي طالب وكان الأمر كذلك ومنها ما أخبر به الشيخ العارف محمد بن علوي أن الشيخ أبا بكر الشهير بقعود المصري حصبل بينه وبين صاحب الترجمة محبة شديدة ولما خرج من مكة خرج قعود معه للموادعة ولما رجع فقد خاتمه وكان فيه وفق عظيم وكان له معرفة تامة بعلم الأوفاق والأسماء كما تقدم فتعب افقده تعبا شديدا ونام تلك الليلة في غاية التعب لذلك فرأى صاحب الترجمة في نومه وهو يقول له تعبت لأجل الخاتم هذا خاتمك وألبسه أياه فلما أصبح وجد الخاتم في يده ففرح فرحا شديدا ومنها أن بعض آل كثير قتل قاتل أبيه وخاف من السلطان عمر بن بدر أن يقتله به فاستجار بصاحب الترجمة فأمر السلطان عمر بإخراجه من دار الشيخ فهجم العسكر الدار وفتشوا جميع المنازل فلم يظفروا به ثم أخرجه ليلا والعسكر محيطة بالدار ولأهل حضر موت والشحر والدوعن والسواحل ومقدشوه فيه اعتقاد عظيم ويأتون بالنذور الكثيرة إليه وظهر لكثيرين منه كرامات كثيرة وانتفع بصحبته جم غفير ولبسوا منه الخرقة وكان ملجأ للوافدين وكانت وفاته في سنة عشرين وألف ببندر الشحر وأزدحم الخلق على جنازته رحمه الله تعالى(1/102)
أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي بكر بن علوي بن عبد الله ابن علي بن عبد الله بن علوي بن الأستاذ الأعظم الفقيه الأجل المعروف بالشلي وهو أخو محمد الجمال صاحب التاريخ واحد مشايخه ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن على المعلم الكبير محمد با عيشه وجوده عليه وحفظ الجزرية والعقيدة الغزالية والأربعين النووية والأجرومية وأكثر الأرشاد وورقات الأصول وقطر الندى لابن هشام وأخذ عن والده وتفقه بالعلامة محمد الهادي بن عبد الرحمن بن شهاب الدين والقاضي الأجل أحمد بن حسين وأخذ عن الشيخ أبي بكر وأخيه شهاب الدين ابني عبد الرحمن بن شهاب الدين الأصلين وغيرهما من علوم الدين والشيخ عبد الرحمن بن عبد الله باهارون والشيخ زين العابدين العيدروس وأخيه عبد الرحمن السقاف بن محمد العيدروس والفقيه فضل والشيخ أحمد بافضل الشهير بالسودى وأخذ عن غيرهم ممن يطول ذكرهم وبرع في الفقه والحديث والعربية وأجازه غير واحد من مشايخه وألبسه الخرقة ثم رحل إلى الهند وأخذ بها عنه جماعة علوم الأدب وأخذ عن السيد الأجل الشيخ شيخ بن عبد الله العيدروس علوم الصوفية وصحب الشيخ الكبير السيد أبا بكر بن أحمد العيدروس والسيد الكبير الشيخ جعفر العيدروس والسيد عمر بن عبد الله باشيبان ولازمه في دروسه وأخذ عنه العلوم العقلية والفنون الأدبية وعلوم العربية واتصل بالملك عنبر فأحسن إليه واختص به بعض ملوك تلك الديار فأجلسه في أعلى مراتبه ثم عاد إلىوطنه فلازم القاضي أحمد بن حسين وقرأ عليه فتح الجواد وأحياء علوم الدين وقرأ علي الشيخ عبد الرحمن السقاف في العربية والحديث وكتب الصوفية ثم رحل إلى الحرمين وأخذ عن الشيخ العارف محمد بن علوي والشيخ عبد العزيز الزمزمي والشيخ محمد بن علي بن علان والشيخ سعيد باقشير والشيخ محمد بن عبد المنعم الطائفي والسيد أحمد بن الهادي والعارف أحمد بن محمد القشاشي المدني وأجازه أكثرهم بجميع مروياتهم ومؤلفاتهم ثم رجع إلى وطنه وكان أديبا باهرا حسن الخط ثابت الذهن عجيب الفهم مطلعا على اللغة والمفاكهات وكانت له قدرة على كشف الغوامض ومعرفة تامة بالحساب والفرائض ودرس وأجاد وانتفع به كثير من الطلبة وكان نير السريرة طيب الرائحة لطيف الثياب دائم البشر لا يترك قيام الليل كثير التحمل للبلايا صبورا على من أذاه وكان يحب الفقراء وكان يقول كل من ابتلاه الله بالفقر في هذا الزمان حقيق بأن يعتقد وكان حسن الأدب مع الناس قال أخوه في ترجمته ومنذ صحبته ما أذكر أنه غضب يوما من الأيام ولا أغتاب أحدا ولو أذاه ولم يزل على حالته إلى أن توفي وكانت ولادته في سنة تسع عشرة وألف وتوفي في سنة سبع وخمسين وألف بمدينة تريم ودفن بمقبرة زنبل وقبره بها معروف يزار رجمه الله تعالى الشيخ أحمد بن أبي بكر بن سالم بن أحمد بن شيخان بن علي بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله باعلوي وتقدم رفع نسبه في ترجمة والده أبي بكر الشهاب المقدم في العلوم المنفرد بالفنون الأديبة إلى مكارم شيم وأخلاق وصفاء باطن وظاهر ولد بمكة المشرفة في رجب سنة تسع وأربعين وألف وبها نشأ وتربى في كنف والده وحفظ القرآن والأرشاد وبعض المنهج وألفية الحافظ العراقي في أصول الحديث وألفية ابن مالك وغير ذلك من الرسائل ولازم أباه وعنه أخذ الطريق المسلسل ولبس منه الخرقة الشريفة وتلقن الذكر والمصافحة والمشابكة ولازم الشيخ عبد الله با سعيد باقشير في درسه وأخذ عن الشيخ عبد العزيز الزمزمي والشيخ علي بن الجمال وأحمد بن عبد الرؤف وعبد الله بن الطاهر العباسي وحضر دروس العلامة عيسى المغربي وأخذ عن العارف بالله تعالى عبد الرحمن المغربي وألبسه الخرقة ثم لازم محمد بن سليمان ملازمة تامة وأتقن عدة فنون منها الحديث والفقه والأصول والعربية والفرائض والحساب والميقات والمعاني والبيان والعروض وأمره شيخه ابن سليمان بالتدريس فجلس بالمسجد الحرام وأخذ عن الشيخ أحمد البشبيشي لما قدم مكة في حجته الأولى وأجازه وكانت له همة تزاحم الأفلاك ونثر وأنشاء ونظم وألف عدة رسائل وتعاليق وأختصر تاريخ القرطبي المسمى بالبرق اليماني وزاد فيه زيادات ولكن لم تطل مدته ومن شعره قوله في مليح اسمه بكرى
ياغزالا مرعاه وسط فؤادي ... وحبيبا ما زال دمعي يذري(1/103)
أنت أولى الملاح بالملك حقا ... بنصوص السماع إذ أنت بكري
وقوله مقتبسا في مليح اسمه مبارك
بي مرسل الألحاظ مع فترتها ... مقيد الأوصاف وهو مطلق
يا أمة العشق هلموا أنه ... مبارك فأتبعوه واتقوا
وله غير ذلك وكانت وفاته يوم الجمعة سابع عشر شهر ربيع الثاني سنة أحدى وتسعين وألف ودفن بالمعلاة بالحوطة عند أسلافه رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن أبي الفتح الملقب شهاب الدين الحكمي المقري نزيل مكة الشيخ الأمام رفيع الشان كان من كبراء العلماء ذا مهابة وجلالة وكان من أرباب الأحوال ذكر مبدأ أمره في رسالة له سماها نسيمات الأسحار في ذكر بعض أولياء الله الأخيار وذكر مشايخه الذين تلقي عنهم بأرض اليمن ومنتهى سنده إلى الحكمي والبجلي أصحاب عواجة وعواجة بلدة معروفة بأرض اليمن بلد الحكمي والبجلي فأما مشايخه فهم سبعة الصديق بن محمد الشهير بالبلاط والشيخ أحمد بن المقبول الأسدي المشهور بأبي الفضائل والشيخ عثمان بن السهل المشهور بالأقرع تلميذ الشيخ الكبير الرباني المربي الصوفي العارف بالله تعالى سيدي الشيخ شيخين بن أبي الفتح الحكمي والشيخ الأمين بن أبي القاسم شافع والشيخ محمد بن عبد القادر الحلوى والشيخ محمد بن يعقوب النمازي وذكر ما قرأه عليهم من الكتب وهي كثيرة وله شيخ ثامن وهو العالم الرباني الشيخ الكبير عبد القادر بن أحمد الحكمي المشهور بأبي الرسائل أخذ عنه الطريق وتلقن عنه ورده من القرآن بأشارة منه قال وقال لي يا أحمد اقرأ من القرآن كل يوم سبع القرآن بتقديم السين على الباء وقال لي يا أحمد لا تترك هذا السبع من القرآن كل يوم إلا لعذر يبيح ترك الجمعة والجماعة وتلقي عنه ورده في تهجده بالقرآن في جوف الليل بأشارة منه قال وقال لي يا أحمد تهجد في جوف الليل بقدر جزء من القرآن ولا تترك التهجد في القرآن في جوف الليل إلا لعذر وقال أنا ملازم لذلك ولله الحمد والمنة وقرأ عليه في علم التصوف كتاب الرسالة للشيخ أبي القاسم القشيري وأذن له أن يرويها عنه بروايته لها عن شيخه وجده الشيخ أحمد بن أبي الفتح الحكمي وهو يرويها عن والده أبي الفتح بن الصديق وهو عن شيخه وجده الشيخ الكبير العارف بالله تعالى سيدي الشيخ علي بن أبي بكر الحكمي وهو يرويها عن شيخه وجده الكبير عمر بن عمر الحكمي ولقبه زخم الدارين وهو عن شيخه وجده الشيخ محمد بن أبي بكر الحكمي صاحب عواجة وهذا منتهي سند الشهاب صاحب الترجمة لرواية الرسالة ويروي العلوم من طريق الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني نزيل مكة وهي التفسير والحديث والفقه والأصلان والنحو والصرف والقراآت عن المشايخ السبعة المقدم ذكرهم بسندهم إلى أحمد بن موسى العجيل والشيخ اسماعيل بن محمد الحضرمي وهما يرويان عن الحكمي والبجلي أصحاب عواجة قال وقد جمعني الخضر على هؤلاء المشايخ الخمسة يقظة وهم الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي والشيخ أحمد بن موسى العجيل والشيخ اسماعيل بن محمد الحضرمي والشيخ محمد بن أبي بكر الحكمي والشيخ محمد بن أبي بكر الحكمي فقال لي الشيخ هلم إلي فجلست بين يديه فقال لي أقرأ فإذا الكتاب الذي في يدي كتاب الرسالة لأبي القاسم القشيري فقرأت عليه الكتاب المذكور في مجلس واحد من أوله إلى آخره هذا ما ذكره في رسالته قال الشلي في ترجمته أخذ عنه كثيرون منهم شيخنا على بن الجمال الأنصاري المكي وشيخنا عبد الله ابن سعيد باقشير وبالجملة فكان من الضنائن المخدرين أهل الدلال المحبوبين وكان يميل بالطبع إلى السماع وينخلع إذا سمع عن بشريته المحكومة للطباع ويظهر منه حالات رضية لمن له بالحواس السليمة أدراك وروى أنه رحل من مكة لزيارة الحضرة المحمدية صلى الله عليه وسلم في الرابع عشر من رجب سنة أربع وأربعين وألف وقدم المدينة فمرض في اليوم السابع والعشرين منه وتوفي بالمدينة في التاسع والعشرين من رجب المذكور ودفن في يومه ببقيع الغرقد وهو في سن الخمسين(1/104)
الشيخ أحمد بن أبي الوفاء بن مفلح الحنبلي الدمشقي الأمام الكبير الفقيه المحدث الورع الزاهد الحجة الثبت الخير كان أحد العلماء بالشام الملازمين على تعليم العلم والفتيا وكان له المتانة الكاملة في الفقه والعربية والفرائض والحساب والتاريخ ولأهل دمشق فيه اعتقاد عظيم وهو محله وأهله وكان متنبا غالب الناس وله مداومة على تلاوة القرآن والعبادة أخذ عن الأجلاء من مشايخ عصره منهم جدنا العلامة اسماعيل النابلسي الشافعي وأخذ الفقه عن الفقيه الكبير موسى بن أحمد الحنبلي المعروف بالحجازي صاحب الأقناع وأخذ عن الشمس محمد ابن طولون الصالحي وبرع في أنواع العلوم ودرس بعدة مدارس منها دار الحديث بصالحية دمشق بالقرب من المدرسة الأتابكية وكان له بقعة تدريس بالجامع الأموي وعرض عليه قضاء الحنابلة بمحكمة الباب لما مات القاضي محمد سبط الرجيحي الحنبلي في زمن قاضي القضاة المولي مصطفى بن حسين بن المولي سنان صاحب حاشية التفسير فأمتنع وبالغ القاضي ومن كان عنده من كبار العلماء في طلبه فلم ينخدع واعتذر بثقل السمع وأنه لا يسمع ما يقوله المتداعيان بسهولة وذلك يقتضي صعوبة فصل الأحكام ولم يزل يتلطف بالقاضي حتى عفا عنه وكانت وفاته في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وألف وبنو مفلح من البيوت المعروفة بالعلم والرياسة بالشام ووردوا في الأصل من قرية راميم من وادي الشعير تابع نابلس ونزلوا صالحية دمشق وتفرعوا بطونا فأحمد هذا من نسل نظام الدين وأما ابن عمه القاضي محمد المعروف بالأكمل الآتي ذكره في حرف الميم أن شاء الله تعالى فهو من نسل ابراهيم وهما أخوان الأديب أحمد بن أحمد المكني بأبي العنايات ابن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الكريم النابلسي الأصل المكي المولد نزيل دمشق الشاعر المشهور بالعنا يأتي أحد بلغاء عصره جمع شعره بين جودة السيك وحسن المعنى وعليه طلاوة رائقة وبهجة فائقة وديوان شعر مشهور وكان يدخل في جميع طرق الشعر من بديع وهجر وغزل ونسيب وله في فنون النظم الست التي ابتدعها المتأخرون الباع الطويل وكان أبوه رحل من نابلس وقطن مكة مدة وتزوج بها فولد له أحمد هذا بها وكان أسمر اللون وينطق بنطق أهل مكة ونبابه وطنه أيام شبابه ففارق المقام وقوض الخيام وتقاذفت به ديار الغربة وكان ينتقل ويجول في كل ديار لكن كانت سياحته مقصورة على البلاد الشامية ودخل دمشق آخرا في سنة ست أو سبع وثمانين وتسعمائة وألقي بها عصا ترحاله فسكن مرة في جامع هشام بن عبد الملك في جهة سوق جقمق ثم ارتحل إلى المدرسة الباذرائية واستمر بها مجاورا في حجرة من حجراتها إلى أن مات وكان يتعمم بالصوف الذي يقال له المئزر ووصف البديعي هيئته فقال رث الشمائل وسخ الأثواب كأنما بكرت عليه مغيرة الأعراب خلق الجلابيب والأردان كأنما أتخذ عمامته منديل الخوان فزيه غريب وطليسان ابن حرب بالنسبة إليه قشيب وكان متقللا في المطعم واللباس منقبضا في الغالب عن المخالطة ولم يتزوج في عمره وكان يكتب الخط الحسن المنسوب وينظم من الشعر ما يزرى بزهر الخمائل وكان في الغالب يقضي أوقاته في بيوت القهوة وربما كان يبيت هناك وكان قليل التكسب بالشعر وإذا مدح أحدا يرسل مدحه إلى بعض توابعه ويرجو بالأشارة بعض جدواه وقد وصف بعض حاله في قصيدة له حيث قال
إذا لم أعز فمن ذا يعز ... وفقري وقنعي كنز وحرز
لبست من اليأس في الناس ثوبا ... عليه من العقل والفضل طرز
ولست أرى الذل إلا إذا كان في الحب والذل في الحب عز
ومثلي حر عباه غناه ... إذا استعبد الناس خزوبز
ووصف خطه وحظه فقال
زاد خطي وقل حظي فمن لي ... نقل نقط من فوق خاء لطاء
وبشعري الغالي ترخص سعري ... وبطب الفنون مت بدائي
وهذا مسبوق إليه في قول بعضهم
لا تحسبوا أن حسن الخط يسعدني ... ولا سماحة كف الحاتم الطائي
وإنما أنا محتاج لواحدة ... لنقل نقطة حرف الخاء للطاء(1/105)
وذكر الحسن البوريني في ترجمته أنه كان مع ظهوره بصورة الفقر يتهم بمال كثير وظهرت له بعض آثار حيث أحب بعض أحداث دمشق وشكا عليه بمبلغ يقرب من مائة دينار ذهبا وكان القاضي حينئذ المرحوم العلامة محب الدين الحموي فلما وقف العنا يأتي بين يديه وأقر الحدث بالحق لديه طلب حبسه وأقتضى منه ديناره وفلسه فقال له القاضي يا شيخ أحمد تحبسه عندك فقال له يا مولانا أنا في حبس حبه وهو في حبس مالي فحينئذ لا له ولا لي قلت وكان لجدي المذكور معه مداعبات ألطف من نسمات الرياض وأخفى سحرا من الحدق المراض وألطف ما سمعته منها أنه كان يهوى غلاما أسمه أصلان وكان الغلام يحترف في دكان ببعض أسواق دمشق وكان العنا يأتي إلى دكان أمامه ويجلس لأجل مشاهدته فمر به الجد يوما وهو جالس فسأله عن سبب جلوسه فقال له يا مولانا له أصل فقال بل أصلان وأخبار العنا يأتي كثيرة ونوادره شهيرة ومما يستجاد من شعره قوله
لو كنت شاهده وقد غق الدجى ... ودموعه في خده تتحدر
لرثيت يا مولاي للعبد الذي ... شوقا إليك فؤاده يتفطر
وزار الحسن البوريني مرة في المدرسة الناصرية الجوانية وكان مجاورا بها للقراءة على مدرسها أستاذه العمادي الحنفي فلم يجده فكتب له على بابها معاتبا
يزيدلكم جفاكم من ودادي ... وذنبي عندكم تلك الزياده
لكم مني مقال أبي فراس ... ولي منكم مقال أبي عباده
أراد بقول أبي فراس
أساء فزادته الأساءة حظوة ... حبيب على ما كان فيه حبيب
وبقول أبي عبادة
إذا محاسني اللاتي أدل بها ... صارت ذنوبا فقل لي كيف أعتذر
وزاره أخرى فوجده نائما فكتب على باب الحجرة قوله
جاء محب إليك بعد سنه ... رآك محتجبا عنه بسنه
يا حسنا جاءه المحب فما ... أبصره سوء حظه حسنه
ثم زاره أخرى فلم يجده فكتب أيضا على الجدار قوله
قد كاد من فرح يطير إليك في ... مثنى ثلاثا مذ إليك تشوقا
فأعاده حاشاك فقدك خائبا ... لاذقت طعم رجوعه صفر اللقا
وكتب إلى بعض من يهواه وقد اتفق أنه زاد في جفاه وأسند إليه أقاويل لم تصدر منه وإنما جعلها سببا للتقاطع عنه قوله
أن المحب عناؤه لا يبرح ... في القرب والأبعاد فهو مبرح
القلب بالشوق الشديد مجرح ... والطرف بالدمع المديد مقرح
وإلى متى هذا الهوان من الهوى ... والله أن الموت منه أروح
قد كان جرح الصد منك نكاية ... فأتى فراق بالذي هو أجرح
ما أنت إلا الروح أن حجبت فما ... للجسم غير الروح شيء يصلح
فيا مولاي من أين قيض لنا هذا الحجاب وأتانا من البعد بعذاب لم يكن في حساب فو الله أني منذ سمعت هذه الأخبار لم يقر لقلبي قرار ولا وجدت هدى ولا هدوا على هذه النار بل أخذني التبلد ولم أجد ذرة من التجلد وصرت كالذاهل الحيران الغارق في بحار الأشجان لا أعرف ما أقول ولا ينصرف فكري إلى معقول ولا منقول وما ذكرت السبب إلا تحدر دمعي على الخد وأنسكب وعلمت أن الشر كله من عشرة غير الجنس مكتسب سيما هذا الجنس الذي ليس فيه مروه ولا أخوة تمنع أنفسهم من النقص ولا فتوة وأنت والله غلطان في تقريب بعضهم وأوجب حبك لهم ومنعك مطلوبهم مكروه بغضهم وأنت تعلم صانك الله من الأغيار ووقاك كيد الفجار الأشرار أن الحر الكريم لا يقوى أن يسمع في عرضه كلام من يسوى ومن لا يسوى وما وحق من يعلم السر والنجوى بذلت لك هذه النصيحة إلا لتعلم أن محبتي سليمة صحيحه وصفاء ودي لا يتكدر وجوهر عشقي على مدى الأيام لا يتغير لكن يا روحي السارية مسرى الدم في الأعضا وشفاء القلوب المرضى التي لا تريد غيره طبيبا ولا ترضى أنت تعلم أن ماء الجمال تكدر ونواظر الفواسق وصونه بصورة الجلال محمود عند ذوي الحقائق فإن ترك مالا يصلح أصلح والأقبال على من تنتفع بعقله أصوب وأرجح لأن من وقع عليه نظر المفلح أفلح فاتغظ بهذه الواقعة عليك ولا تركن بإحسانه إليك لكنني أقول مقال المحب المغرم الذي يتظلم من أن لا يظلم
رويدك أن الهوى معرك ... يعدم فيه الأجر والمغنم(1/106)
فإنما تأويلنا أنه ... يحل للمضطر ما يحرم
من ذا الذي أفتى عيون المها ... بأن ما تتلف لا تغرم
يستعذبوا ظلمي من أجلهم ... أستغفر الله لمن يظلم
وقلنا في مثل هذا الحال سابقا وهو بهذا المعنى كما تراه لائقا
وأنا الذي لا ذنب لي وللذتي ... بالعفو عني قلت أني مذنب
أن لم يكن ذنب فحلمك واجب ... أو كان لي ذنب فحلمك أوجب
ولقد صبرت على الشدائد كلها ... الأبعادك عنه صبري يعزب
فأرجع وعد عود الكرام لعادة ... عودتها فالأصل أصل طيب
ولو أني بثثتك عشر ما عندي من الأشواق لفنيت الأقلام والمحابر والأوراق ولكنها نفثة مصدور أصبح مهجورا وكان ذلك في الكتاب مسطورا وأهدى إلى مليح وردتين وهو مقيم بصالحية دمشق عند بعض خلانه للتنزه وكتب معهما قوله
متعت طرفي من سنا وجهه ... ووجنتيه بجني الجنتين
فاقتطف الطرف ورود الحيا ... أذعز في ذلك قطف اليدين
وجئته أهدى له من يدي ... عن ناظري عن خده وردتين
واحتجب الخال فعوضته ... نقط زباد عوض الشامتين
وقلت للقلب الشحي قرطه ... ذا ملك يحكم في الخافقين
وله غير ذلك وكانت وفاته في عشري القعدة أو حادي عشريه سنة أربع عشرة بعد الألف وقد تجاوز الثمانين وقال أبو بكر العمري المقدم ذكره في تاريخ موته
مات العنا يأتي شمس الحجي ... والموت طبعا بالعنا يتتي
قال لسان الحال من بعده ... تاريخه مات العنا ياتي
ورآه بعض فضلاء دمشق في منامه بعد وفاته فقال له قل لي ما فعل الله بك فأنشده بيتين وأفاق الرجل وهو حافظهما وهما قوله
كلوني للرحيم وخلفوني ... طريحا أرتجي عفو الكريم
لأني عاجز عبد حقير ... وأن الله ذو فضل عظيم
قلت ووقع مثل هذا كثيرا ويعجبني له في بابه ما نقله ابن خلكان قال رأيت في بعض المجاميع قال الوزير أبو القاسم بن المغربي رأيت الخطيب بن نباتة في المنام بعد موته فقلت له ما فعل الله بك قال وقع لي رقعة بالأحمر
قد كان أمن لك من قبل ذا ... واليوم أضحى لك أمنان
والصفح لا يحسن عن محسن ... وإنما يحسن عن جاني
والعنا يأتي نسبة إلى أبيه أبي العنايات هكذا ذكره البوريني رحمهما الله تعالى(1/107)
أحمد بن أحمد بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت ابن عمر بن علي بن يحيى بن كذالة بن مكي بن نيق بن لف بن يحيى بن تشت بن تنفر بن حيراي بن النجر بن نصر بن أبي بكر بن عمر الصنهاجي الماسي السوداني يعرف بابا صاحب كتاب الديباج قد ترجم نفسه في آخره فقال مولدي كما وجدته بخط والدي ليلة الأحد الحادي والعشرين من ذي الحجة ختام عام ثلاث وستين وتسعمائة ونشأت في طلب العلم فحفظت بعض الأمهات وقرأت النحو على عمي أبي بكر الشيخ الصالح والتفسير والحديث والفقه والأصول والعربية والبيان والتصوف وغيرها على شيخنا العلامة محمد يفيع ولازمته سنين وقرأت عليه جميع ما تقدم عني في ترجمتي وأخذت عن والدي الحديث سماعا والمنطق وقرأت الرسالة ومقامات الحريري تفقها على غيرهم واشتهرت بين الطلبة بالمهارة على كلال ومهل في الطلب وألفت عدة كتب تزيد على أربعين تأليفا كشرحي على مختصر خليل من أول الزكاة إلى أثناء النكاح ممزوجا محرراً وحواشي على مواضع منه والحاشية المسماة منن الرب الجليل في مهمات تحرير خليل يكون في سفرين وفوائد النكاح على مختصر كتاب الوشاح للسيوطي وغيرها قال الثقة أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأديب المراكشي في فهرسته في ترجمتي كان أخونا أحمد بابا من أهل العلم والفهم والأدرك التام الحسن حسن التصنيف كامل الحظ من العلوم فقها وحديثا وعربية وأصلين وتاريخا مليح الأهتداء لمقاصد الناس مثابرا على التقييد والمطالعة مطبوعا على التأليف ألف تآليف مفيدة جامعة فيها أبحاث عقليات ونقليات وهي كثيرة كوضعه على مختصر خليل من الزكاة إلى أثناء النكاح في سفرين وتنبيه الواقف على تحرير نية الحالف في كراس وتعليق على أوائل الألفية سماه النكت الوفيه بشرح الألفيه وآخر سماه النكت الزكيه لم يكملا ونيل الأمل في تفضيل النية على العمل وغاية الأجاده في مساواة الفاعل للمبتدأ في شرط الأفاده في كراسين وآخر سماه النكت المستجاده في مساواتهما في شرط الأفاده والتحديث والتأنيس في الأحتجاج بابن أدريس يريد بألفاظه على العربية في ورقات وجلب النعمه ودفع النقمه بمجانبة الظلمة أولى الظلمه في كراسين وشرح الصغرى للسنوسي في أربعة كراريس ومختصر ترجمة السنوسي في ثلاثة كراريس ونيل الأبتهاج بالذيل على الديباج والمطلب والمأرب في أعظم أسماء الرب تعالى في كراسة وترتيب جامع الميعاد للونشر يشي كتب منه كراريس وله أسئلة في المشكلات ثم امتحن في طائفة من أهل بيته بثقافهم في بلدهم في المحرم سنة اثنتين بعد الألف على محمود ين زرقون لما استولى بلادهم وجاء بهم أساري في القيود فوصلوا مراكش أول رمضان من العام واستقروا مع عيالهم في حكم الثقاف إلى أن أحجم أمر المحنة فسرحوا يوم الأحد الحادي والعشرين لرمضان سنة أربع بعد الألف ففرحت قلوب المؤمنين بذلك جعلها الله لهم كفارة لذنوبهم ثم ذكر مقروآته على صاحب الترجمة قال وكان من أوعية العلم صان الله مهجته انتهى قال المترجم ولم ألق بالمغرب أثبت منه ولا أوثق ولا أصدق ولا أعرف بطريق العلم منه ولما خرجنا من المحنة طلبوني للأقراء فجلست بعد الأباءة بجامع الشرفاء بمراكش من أنوء جامعها أقرى كتبا ثم قال وأزدحم الخلق علي وأعيان طلبتها ولازموني بالأقراء على قضاتها كقاضي الجماعة بفاس العلامة أبي القاسم بن أبي النعيم الغساني وهو كبير ينيف على ستين وكذا قاضي مكناس الرحلة المؤلف صاحب أبي العباس بن القاضي المكناسي له رحلة للشرق لقي فيها الناس وهو أسن مني ومفتى مراكش الرجراجي وغيرهم وأفتيت بها لفظا وكتبا بحيث لا تتوجه الفتوى فيها غالبا إلا إلي وعينت إلي مرارا فابتهلت إلى الله تعالى أن يصرفها عني واشتهر أسمي في البلاد من سوس الأقصى إلى بجاية والجزائر وغيرهما وقد قال لي بعض طلبته لما قدم علينا مراكش لا نسمع في بلادنا إلا باسمك فقط انتهى هذا مع قلة التحصيل وعدم المعرفة وإنما ذلك كله مصداق قوله صلى الله عليه وسلم أن الله لا ينزع العلم الحديث وقد ناهزت الآن خمسين سنة بتاريخ يوم الجمعة مستهل صفر عام اثني عشر بعد الألف انتهى كلامه قلت ومن لطائفه ما نقله عنه بعض الشيوخ إذا حضر طالب العلم مجلس الدرس غدوة ولم يفطر نادى مناد من قعر جوفه الصلاة على الميت الحاضر وكانت وفاته في سابع شعبان سنة اثنتين وثلاثين وألف رحمه الله تعالى(1/108)
أحمد بن شيخ أحمد أحد موالي الروم المعروف بشيخ زاده قاضي قضاة الشام ذكره النجم في ذيله وقال في ترجمته ولي قضاء الشام من دار الحديث السليمانية فدخلها في أوائل شعبان سنة اثنتين وعشرين وألف وكان علامة في العلوم العقلية وله المام تام بعلوم البلاغة فاضلا في الفقه وكان يباشر الأحكام بنفسه ويتحرى الحق فيها متصلبا في الحق يتردد إليه الخصوم وإلى نوابه المرة بعد المرة فلا يأخذ منهم شيئا حتى تنتهي الدعوى فيأخذ منهم برفق وكان مقتصدا في أحواله ويقول الأقتصاد خير من الجور على الناس وكان له أنكار على ما يراه من المناكير حتى أمر بأزالة عشة اليمانية غربي الجامع الأموي بعدما كان وضعها أحد رؤساء الجند بالدق والمسمار وقال التحجير في المسجد لا يجوز ولم يستطع أحد إلا التسليم لأمره لموافقته الشرع وأعيدت بعد عزله بسنوات وكان متقيدا بأوقاف الجوامع والمساجد بدمشق مشددا على متوليها وينكر على الناس سكناهم في المدارس وكان يحضر بالجامع الأموي للجماعة في أكثر الأوقات ويطوف كل يوم بعد صلاة الصبح بالجامع وينظر فيما فيه وحواليه وكان يواجه أحمد باشا الحافظ نائب الشام بالأنكار عليه والنصيحة وكان الحافظ يكرمه ويجله إلى أن وصل خبر عزله عن قضاء الشام وأعطائه قضاء مكة في يوم الأثنين سادس جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وألف وكانت توليته بها نحو عشرة أشهر انتهى قال البوريني ووصل خبر عزله إلى دمشق بعد خروجه منها وكان عازما على الحج فأستأجروا له ساعيا وأرسلوا له الأمر السلطاني بتوليته قضاء مكة ورحل إلى بيت المقدس وزار المعاهد التي هناك وأقام قليلا ثم توجه إلى مصر يريد أن يعبر منها إلى السويس ومنه إلى مكة المشرفة ثم عاد إلى دمشق مع الحاج في سنة خمس وعشرين وألف وسافر إلى الروم وتقاعد عن القضاء بتدريس دار الحديث سنوات حتى وجه إليه شيخ الأسلام يحيى بن زكرياء عندما صار مفتيا قضاء أدرنه فوليها ستة أشهر واستعفى منها فانفضل منها بأختياره في رجب سنة اثنتين وثلاثين وألف ثم ورد الخبر بموته إلى دمشق سنة ثلاث وثلاثين وألف رحمه الله تعالى أحمد بن أحمد المصري الملقب شهاب الدواخلي الفقيه الشافعي الورع الزاهد الناسك أمام الفقهاء والمحدثين في عصره كان أماما جليلا صدرا ورعامها بالأيخاف في الله لومة لائم ملازما لأقراء العلم غير مشتغل بشيء غيره صارفا أوقاته في الطاعة ملازما للجماعة وكان عظيم الهيبة كثير الفكر تراه دائما مطرقا من خشية الله تعالى ومراقبته حتى قال بعض الشيوخ في شأنه ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أخوف لله تعالى منه سالكا طريقة السلف الصالح من التقشف في الأكل والشرب والملبس لا يرى متكلما إلا في مجلس علم أو جواب عن سؤال أخذ عن النور الزيادي ومنصور الطبلاوي وسالم الشبشيري والشيخ علي الحلبي والشيخ يس المحلي المالكي والبرهان اللقاني قال العجمي في مشيخته سمعت عنه تقاسيم شرح المنهج مع حاشية الزيادي وشرح المنهاج للشمس الرملي والشهاب ابن حجر الهيتمي وسيرة ابن سيد الناس وحاشيتها نور النبراس وكثيرا من الشفاء وشروحه للدلجي والسيد الصفوي والشمني والتلمساني والمواهب اللدنية وكثيرا من الجامع الصغير مع شروحه للعلقمي والمناوي وكثيرا من صحيح مسلم مع شروحه للنووي والأبي والسيوطي وتلوت عليه القرآن مدارسة مرار إلا أحصيها وأجازني بجميع ما ذكر وبما سمعه من اللقاني من المواهب وتذكرة القرطبي والشمايل للترمذي وسيرة ابن هشام والأربعين النووية وكتب لي ذلك بخطه في يوم الأربعاء سابع عشر رمضان سنة خمس وأربعين وألف وأخذ عنه جهابذ العلماء منهم منصور الطوخي وأحمد البنا الدمياطي وأحمد البشبيشي وغيرهم وكانت وفاته غريقا بحر الليل وهو يقرأ القرآن في سنة خمس وخمسين وألف والدواخلي نسبة لمحلة الدواخلي من الغربية بمصر والله سبحانه أعلم(1/109)
الشيخ أحمد بن أحمد الخطيب الشوبري المصري الفقيه الحنفي العالم الكبير الحجة شيخ الحنفية في زمانه كان أماما في الفقه والحديث والتصوف والنحو كامل الفضائل ولد ببلده ورحل مع أخيه الشمس إلى الشيخ أحمد بن علي الشناوي بمنية روح وأخذا عنه علوم الطريق وبه تخرجا في علوم القوم ثم قدم مصر وجاور بالأزهر سنين وروى الفقه وغيره عن الأمام علي بن غانم المقدسي وعبد الله النحريري وعمر بن نجيم وبهم تفقه وأخذ عن شيخ الشافعية الشمس محمد الرملي شارح المنهاج وعن غيره وحكي البشبيشي أنه أخبره أنه سمع البخاري على الشمس محمد المحبي الحنفي وكان إذا فاته سماع درس منه يذهب إليه لبيته فيقرؤه عليه وأجازه كثير من شيوخه وتصدروهم نفعة لأهل عصره بحيث أن جميع علماء الحنفية من أهل مصر والشلم ما منهم إلا وأخذ عنه وكان يلقب بمصر بأبي حنيفة الصغير وأخوه محمد كان يلقب بالشافعي الصغير وكان أحمد مشهورا بالخير والصلاح والبركة لمن قرأ عليه منعكفا في بيته منعزلا عن جميع الناس جامعا بين الشريعة والحقيقة معتقدا للصوفية وجيهامها بإلا يتردد إلى أحد مجللا كثير البكاء والخشية من الله تعالى صاحب أحوال وكرامات قلت وممن أخذ عنه فقيه الشام وبارعها اسماعيل بن عبد الغني النابلسي الدمشقي الحنفي صاحب الأحكام شرح الدرر في الفقه الآتي ذكره وغيره ولقيه والدي المرحوم في منضرفه إلى القاهرة سنة سبع وخمسين وألف وذكره في رحلته التي ألفها فقال في وصفه قرة عين الأمام الأعظم وصاحبيه من انتهت رياسة الحنفية بالقاهرة المعزية إليه سراج المذهب وطرازه المذهب قرأت عليه بحضور بعض أفاضل الطلاب من أوائل الهدايه وأجازني بماله من رواية ودرايه وها أجازته بخطه مضبوطة عندي بضبطه وذكره الشلي في عقد الجواهر والدرر قال وكان مشهورا بالصلاح والبركة والغالب عليه العزلة لا يتردد إلى أحد وكان مجللا عند الناس مقبول الكلمة معتقد للصوفية والصلحاء وله كرامات ومكاشفات حكي أن السري محمد بن محمد الدروري الآتي ذكره وهو من أعيان العلماء كان ينقصه وينكر عليه فبلغه ذلك فقال لبعض أصحابه قل له المشاهد بيننا فلم يفهم السري ذلك فاتفق أنهما ماتا في شهر واحد وكانت جنازة السري كجنازة آحاد الناس وجنازته حافلة لم يتخلف عنها أحد من الحكام والأمراء والعلماء وأسف الناس لفقده وكانت وفاته في سنة ست وستين وألف وصلى عليه أخوه الشيخ الأمام الشمس محمد بالرميلة والشوبري بفتح الشين المعجمة وسكون الواو وفتح الباء وبعدها راء نسبة إلى قرية بمصر والله تعالى أعلم(1/110)
الشيخ أحمد بن أحمد بن سلامه المصري القليوبي الشافعي الأمام العالم العامل الفقيه المحدث أحد رؤساء العلماء المجمع على نباهته وعلو شأنه وكان كثير الفائدة نبيه القدر أخذ الفقه والحديث عن الشمس الرملي ولازمه ثلاث سنين وهو منقطع ببيته ولازم النور الزيادي وسالم الشبشيري وعليا الحلبي والسبكي وغيرهم من مشاهير الشيوخ وعنه منصور الطوخي وابراهيم البرماوي وشعبان الفيومي وغيرهم من أكابر الشيوخ وكان مهابا لا يستطيع أحد أن يتكلم بين يديه إلا وهو مطرق رأسه وجلا منه وخوفا ولا يتردد إلى أحد من الكبراء ويحب الفقراء ولا يقبل من أحد صدقة مطلقا بل كان في غالب أوقاته يرى متصدقا وليس له وظائف ولا معاليم ومع ذلك كان في أرغد عيش وأطيب نعيم وكان متقشفا ملازما للطاعات ولا يترك الدرس جامعا للعلوم الشرعية متضلعا من العلوم العقلية وأما معرفته بالحساب والميقات والرمل فأشهر من أن تذكر وأمامته في العلوم الحرفية وتصرفه في الأوفاق والزايرجا وغير ذلك من الفنون فذلك أمر مشهور وكان في الطب ماهرا خبيرا وكان حسن التقرير ويبالغ في تفهيم الطلبة ويكرر لهم تصوير المسائل والناس في درسه كأن على رؤسهم الطير وألف مؤلفات كثيرة عم نفعها منها حاشية على شرح المنهاج للجلال المحلى وحاشية على شرح التحرير لشيخ الأسلام وحاشية على شرح أبي شجاع لابن قاسم الغزي وحاشية على شرح الأزهرية وحاشية على شرح الشيخ خالد على الأجرومية وحاشية على شرح أيساغوجي لشيخ الأسلام ورسالة في معرفة القبلة بغير آلة وكتاب في الطب جامع ومناسك الحج وغير ذلك من الرسائل والتحريرات المفيدة وكانت وفاته في أواخر شوال سنة تسع وستين والقليوبي بفتح القاف وسكون اللام وضم الياء المثناة من تحتها وسكون الواووبعدها باء موحدة نسبة إلى بليدة صغيرة بينها وبين القاهرة مقدار فرسخين أو ثلاث فراسخ ذات بساتين كثيرة والله أعلم(1/111)
الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن ابراهيم بن محمد بن علي بن محمد المعروف بالعجمي الشافعي الوفائي المصري الأمام المفنن اللوذعي كان من أجلاء علماء مصر له الفضل الباهر والحافظة القوية والذهن الثاقب وكان صدوقا حسن العشرة والمحاضرة وإليه النهاية في معرفة التاريخ وأيام العرب وأنسابهم مع ما انضم إليه من معرفة بقية الفنون وكان مرجعا لأفاضل العصر في مراجعة المسائل المشكلة لطول باعه وسعة أطلاعه وكثرة الكتب التي جمعها وذكره شيخنا الخياري في رحلته وأثنى عليه كثيرا وقال في آخر ترجمته وبالجملة فإنه مستجمع للعلم والحلم والظرف ومستكمل في الفضل الأسم والفعل والحرف تفنن في العلوم العقلية والنقلية الفرعية والأصلية فأخذها عن أهلها وأوصل الأمانة إلى محلها وقد جمع من الكتب المؤلفة في سائر العلوم والفنون فأوعى وحصلها بسائر أقسامها فصلا وجنسا ونوعا بحيث أصبح بمصر خزانة العلم الذي عليه في النقل يعول وإليه في ذلك يشار وعمدة الفضلاء الذين يردون من معين كتبه البحار انتهى وذكر لي بعض الآخذين عنه أن له من التأليف شرح ثلاثيات البخاري ورسالة في الآثار النبوية وجمع لنفسه مشيخه رأيتها وعليها خطه ونقلت منها في كتابي هذا كثيرا من وفيات علماء مصر الذين أخذ عنهم وهو في الغالب يستوفي أخبار أشياخه وذكرانه في مبدأ أمره اجتمع بالنور الزيادي صحبة والده أحمد مرتين وحل نظره عليه ثم ابتدأ الأشتغال في سنة سبع وعشرين وألف فقرأ على الشيخ على الحلبي صاحب السيرة والبرهان اللقاني والشهاب الغنيمي وقاضي القضاة الشهاب الخفاجي والشمس الشوبري وسلطان المزاحي والشمس البابلي والعلا الشبر أملسي وغيرهم وكان الشبر املسي مع جلالته يحترمه ويثني عليه ويراجعه في كثير من المسائل وأسماء الرجال وأخذ طريق السادة الوفائية عن أبي الأسعاد يوسف الوفائي الآتي ذكره وألبسه الخرقة وأجازه في غير ذلك من العلوم وكان خصيصا به وبأولاده إلى أن مات وكان هو عندهم في غاية الحظوة وأخذ عنه جماعة منهم شيخنا الخياري المذكور وصاحبنا الفاضل ابراهيم بن محمد بن عبد العزيز الجينيني ثم الدمشقي وغيرهما قرأت في مشيخته أن ولادته كانت في ثالث عشر رجب سنة أربع عشرة بعد الألف وتوفي ليلة الأربعاء ثامن من عشر ذي القعدة سنة ست وثمانين وألف ودفن بمقبرة المجاورين ورآه الشهاب البشبيشي وهو كأنه في درسه ليلة الأربعاء بعد ثمانية أيام من وفاته وعليه ثياب بيض وهو في مجلس حافل فيه جمع من الناس يتلون القرآن عرف منهم المحدث الكبير الشمس البابلي ومحمد بن خليفة الشوبري رحمهم الله تعالى(1/112)
أحمد بن أسد البقاعي الأصل الصفدي الصوفي العابد الزاهد المرشد كان والده من قرية حمارا من عمل البقاع خرج منها إلى دمشق وأخذ الطريق عن الأستاذ العارف بالله تعالى محمد بن عراق ثم أرتحل إلى صفد وأقام بدير في سفح جبل بالقرب من قرية البعنة وكان قديما يعرف بدير الخضر وكان مسكن النصاري فأخرجهم منه السلطان سليمان وأمر أسد بالأقامة به مع أولاده وأتباعه فقطن فيه إلى أن مات في سنة سبع وسبعين وتسعمائة فنشأ ولده أحمد هذا على العبادة وانتقل إلى صفد وأخذ بها زاوية وكانت تعرف قديما بجامع الصدر واستمر بقية أخوته مقيمين بالدير ولهم ورد خاص بهم نقلوه عن أستاذ والدهم المذكور يقرؤنه مع جماعتهم عقب الصلوات الخمس ونشر أحمد طريقتهم في صفد وأخذ عنه جماعات وكان منقطعا عن الناس لا يفارق تلاوة القرآن ولا يفتر عن العبادة وكان له خط حسن وعبارات رشيقة وفضيلة مقبولة وللناس فيه أعتقاد عظيم ذكره البوريني وقال في ترجمته أخبرني ابن أخيه الشيخ عبد الرحمن أن ولادته كانت في سنة أربع وأربعين وتسعمائة ولم يؤرخ وفاته وقد كتب لي صاحبنا الأديب الفائق أحمد بن محمد الصفدي أمام الدرويشية بالشام في جملة ما كتب لي من وفاة الصفديين أن وفاة أحمد الأسدي كانت في سنة عشرة بعد الألف ودفن بزاويته في صفد وسيأتي ابن أخيه عبد الرحيم المذكور والبقاعي بكسر الباء الموحدة وفتح القاف وبعدها ألف ثم عين مهملة نسبة إلى البقاع العزيزي والعزيزي نسبة إلى العزيز عكس الذليل وكأنه نسبة إلى الملك العزيز ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب قال في التعريف ومقرولايته كرك نوح عليه السلام وأما البقاع البعلبكي فهو نسبة إلى بعلبك لقربه منها قال في التعريف وليس له مقر ولاية وهاتان الولايتان منفصلتان عن بعلبك لحاكم غير حاكمها أحمد بن اسكندر الرومي الكاتب نزيل دمشق وحيد وقته في صناعة الأنشاء وكانت له الشهرة التامة بالذكاء وسرعة الفطانة وكان يكتب العروض المهمة من رأس القلم من غير تسويد ويكون مقبولا إلى الغاية عند العارف بهذا الفن مع حسن الخط الفائق حلاوة وطلاوة وسبب تفوقه في هذه الصناعة أنه أتقن الألسن الثلاثة العربي والفارسي والتركي اتقانا كاملا والمقبول من انشاء التركية ما كان مرصعا من الألسن الثلاثة ورد دمشق في سنة ثمان وثمانين وتسعمائة مع قاضي القضاة مصطفى بن بستان وكان أحد جماعته الذين ينوبون عنه في القضاء ونال منه حظا عظيما بحيث أنه يمضي غالب الأمور بأشارته وكان يكتب له العروض ثم قطن دمشق وبقي بعد عزل استاذه وابتني بيتا كان تربة في مقابلة دار الحديث الأشرفية بالقرب من قلعة دمشق ودرس بالمدرسة الجوهرية ودأب في تحصيل العلوم والمعارف فقرأ على العلامة محمد بن عبد الملك البغدادي الحنفي علم الكلام والهيئة وغيرهما وقرأ على الحسن البوريني من الشرح المختصر على التلخيص ومقامات الحريري ومهر في جميع الفنون حتى صار من أعلام وقته ومفردات عصره في التنقيب عن كلمات القوم الدقيقة وكان ينكر على ابن عربي وابن الفارض وأضرابهما ويحط عليهما وانفلج في آخر عمره فكان يقال أن ذلك بسبب أنكاره وكانت وفاته بعد الألف بقليل هكذا ذكره النجم في لطف السمر ولم يزد على ذلك والله أعلم أحمد بن أكمل الدين الدمشقي الحنفي رئيس المؤذنين بجامع بني أمية المعروف بالشراباتي كان أعجوبة وقته ونادرة عصره جمع إلى الصلاح حسن المعاشرة ولذة المخاطبة وكان حسن الصوت عارفا بالموسيقي وله سخاء وأيثار وكان في مبدأ أمره مؤذنا بالجامع المذكور ولما توفي الشيخ محمد المحملجي أحد رؤساء المؤذنين الثلاثة به وجه إليه مكانه وسافر إلى آمد مع ابراهيم باشا الدفتري بالشام وحج معه لما صار أمير الركب الشامي في سنة أحدى وأربعين وألف وكانت ولادته في سنة تسع وتسعين وتسعمائة وتوفي عصر نهار الجمعة آخر يوم من ذي الحجة سنة تسع وستين وألف ودفن من غده في مقبرة باب الصغير قال والدي رحمه الله واتفق بوم وفاته أن كان يوم نوبته في الترقية بين يدي الخطيب فناوله ساقي الحمام في نوبته رحمه الله تعالى(1/113)
أحمد بن تاج الدين الدمشقي الأصل المدني موقت الحرم النبوي وكاتب الأنشاء للشريف سعد بن الشريف زيد الأعلم كان واحد عصره في معرفة العلوم الغريبة كالرياضي والنجوم والسيميا وماشا كلها وله في وضع الآلات الفلكية اليد الطولي وكان كثير الأدب جيد المحاضرة حسن التحرير لطيف النادرة أخذالفنون عن الأستاذ الكبير محمد بن سليمان المغربي نزيل مكة المشرفة وعن غيره وتفوق واشتهر وحبب إلى الخواطر وكان حسن الأنشاء وأظن أن له نظما لكني لم أقف له على شيء من منظومه ومن لطائفه الأدبية ما وجدته منقولا بخطه في آخر صحيفة ترجم فيها السيد جمال الدين محمد بن عبد الله المدني الملقب بكبريت عند ذكر اسمه نفسه فكتب ما صورته قاله عجلا وحرره خجلا من لم يكن وكان وسوف يخلو منه المكان المنوه باسمه في قول القائل
وراكعة في ظل غصن منوطة ... بلؤلؤة لاحت بمنقار طائر
فرع من لوح باسمه الشاعر بقوله
جاءت بقلب مضاف دائما أبدا ... للدين فأرتفعت بالله توقيرا
وكانت وفاته بمكة المشرفة في سنة أحدى وثمانين وألف أحمد بن توفيق الكيلاني الأصل القسطنطيني المولد قاضي القضاة المعروف بتوفيقي زاده فضلاء الروم المشهورين ونبلائها المذكورين وكان إليه النهاية في التحقيق والذكاء والبراعة وفضله ونبله أشهر من أن ينبه عليه ووالده المنلا توفيق قد أفردت له ترجمة ستأتي أن شاء الله تعالى في حرف التاء نشأ أحمد هذا وقرأ أنواع الفنون وبرع ولازم من شيخ الأسلام محمد بن سعد الدين ودرس ولازال ينتقل من مدرسة إلى مدرسة حتى وصل إلى دار الحديث السليمانية وأعطي منها قضاء سلانيك وبعد مدة ولي قضاء الشام في سنة أربعين وألف وأقام بها سبعة أشهر وعزل وكان معتدل الحكومة غير أن فيه حدة وشراسة أخلاق ثم ولي قضاء مصر ثم أدرنه وتوفي بها وكانت وفاته في سنة أحدى وخمسين وألف أحمد بن حسام الدين السيروزي الشهير بملاجق من أفاضل قضاة الروم ذكره ابن نوعي وقال في ترجمته لازم من واحد الدنيا المولي عبد الرحيم المعروف بابن أخي واشتهر بالفضل الباهر ثم سلك طريق القضاء فولي قضاء البلاد الكبار من أرض الروم مثل تيمور حصار وزغرة العتيقة وهزار غراد وسيروز وفي توليته هزار غراد خلف عطائي بن نوعي صاحب الذيل المذكور في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وألف وأضيف إليه مدرسة ابراهيم باشا بها مع خدمتة الأفتاء ثم عزل في ختام السنة وأقام بها لشدة الشتاء فمرض ومات وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وألف ودفن بحظيرة ابراهيم باشا وله تأليف ورسائل منها رسالة على مواطن من التفسير والهداية والتلويح وله كتاب على المغلفات من فتاوي قاضي خان وشرع في كتاب القول لمن فلم تساعده الأيام على اتمامه وحكي عطائي المذكور قال أخبرني المترجم قال لما توجهت إلى هزار غراد مررت على أدرنه فابتليت بالحمى المحرقة فلما أشتد ضعفي وغيبت حواسي رأيت كأن الملك الموكل بقبض الأرواح قد جاء إلي على أحسن هيئة فانطلق لساني بقولي له أهلا وسهلا أفعل ما أمرت به فتردد هنيهة كأنه منتظر أمرا ثم قال لي أن في عمرك بقية وهي ستة عشر شهرا ثم ولي من حيث جاء وأخذت العافية تدب في آنافآنا حتى ذهب المرض عني قال عطائي فقلت له على طريق التسلية لعل ما قاله ستة عشر سنة وأنت في دهشتك سمعته يقول شهرا فقال هيهات قد كان ما كان فلم يتجاوز ستة عشر شهرا حتى مات رحمه الله تعالى برحمته والسيروزي بكسر السين ثم ياء مثناة من تحت فراء مضمومة بعدها واو ثم زاي نسبة إلى بلدة عظيمة بولاية روم ايلي بالقرب من ينكي شهر والعامة تقول سرز بفتح السين والراء والصواب سيروز والله أعلم الأمام أحمد بن الحسن بن القاسم بن محمد بن علي بن الرشيد بن أحمد بن الأمام الحسين بن علي بن علي بن يحيى بن يوسف الملقب بالأشل ابن القاسم بن الأمام يوسف الداعي ابن الأمام منصور يحيى ابن الأمام الناصر أحمد بن الأمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن ابراهيم طباطبا ابن أسماعيل بن ابراهيم بن الحسن المثنى ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أمام اليمن العلم الشهير والملك الكبير كان هو ووالده وأخوه محمد أعيان عصرهم وأئمة مصرهم
إذا ركبوا زانوا المواكب هيبة ... وأن جلسوا كانوا صدور المجالس(1/114)
وصاحب الترجمة من بينهم متقلب في النعم مختال بين الخول والخدم معقود عليه بالخناصر وكان يقال أنه سيف آل القدم الأكابر ذو وجود ونوال وأجابة للسؤال ومحاسن ومفاخر ومكارم ومآثر وفعل خير موصوف وميل إلى جهات البر معروف ولي الأمامة بعد عمه الأمام اسماعيل المتوكل الآتي ذكره ولقب نفسه بالمهدي لدين الله فقام بأمرها أحسن قيام وانتظم به الأمر أحسن انتظام وكان مهابا وفي أثناء دعوته دعا ابن عمه السيد القاسم بن الأمام محمد المؤيد وخطب له على منابر الشرفين والأهنوم وشهارة وظليمة وحجة وأكثر التهائم وبعد أمور كثيرة يطول شرحها حصل الأتفاق على أمامة صاحب الترجمة واجتمعت كلمة اليمن إليه ومن حينئذ نفذت كلمته وعمت سطوته وهيبته وأطاعته الأئمة القاسميون وصاروا إليه من كل حدب ينسلون ووفدت إليه قبائل العرب الأعيان كحاشد ومكيل وقحطان وقام بأعباء الأمامة وسلك طريق العدل وتعهد أحوال الفضلاء وعم ظل فضله الأنام وسار سيرة الأئمة الهادين من تفقد الضعفاء وأمنت السبل ووفدت الأسفار وكان مع اشتغاله بأمور الرعايا منهمكا على مطالعة كتب العلم والأدب وله ميل إلى الفنون العلمية ومحاضرة بديعة وله أشعار حسان ووفدت عليه الناس وأثنا عليه وألف الأدباء في سيره وأحواله مؤلفات وبالجملة فإنه كان من أفراد الزمان وأجلاء الأوان وكانت وفاته في اليوم الثاني عشر من جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وألف بالغراس وبها دفن رحمه الله تعالى أحمد بن حسن بن الشيخ سنان الدين البياضي الرومي الحنفي قاضي العسكر واحد صدور الدولة العثمانية من أجلاء علماء الروم وأجمعهم لفنون العلم وكان صدرا عالما وقورا جسيما عليه رونق العلم ومهابة الفضل واشتهر بالفقه وفصل الأحكام وشاعت فضائله وذاعت وقد أخذ عنه جماعة منهم شيخ الأسلام يحيى بن عمر المنقاري وحج مع والده وحضر دروس الشمس البابلي بمكة لما كان أبوه قاضيا بها وأجازه في عموم طلبته ونبل ودرس بالروم وأفاد وولى قضاء حلب في سنة سبع وسبعين وألف واعتني به أهلها وبالغوافي توقيره وتعظيمه وجرى له مع مفتيها العلامة محمد بن حسن الكواكبي الآتي ذكره مباحثات ومناقشات كثيرة دونت واشتهرت عنهما ثم عزل وولي قضاء بورسه ثم قضاء مكة في سنة ثلاث وثمانين وألف وسار فيها أحسن سيرة وعقد بمجلس الحكم درسا وقرأ شرحه على الفقه الأكبر وهو شرح استوعب فيه ابحاثا كثيرة وأحسن فيه كل الأحسان وسماه اشارات المرام من عبارات الأمام وقد رأيته بالروم واستفدت منه ثم عزل عن قضاء مكة وقدم دمشق واجتمعت به فيها فرأيته جبلا من جبال العلم راسخ القدر ثم ولي قضاء قسطنطينية في أواخر سنة ست وثمانين وألف وكنت إذ ذاك بها ثم ولي قضاء العسكر بروم ايلي وكان يوم ولايته كثير الثلج فأنشدت بعض حفدته قولي
والأرض سرت به لهذا ... قد لبست حلة البياضي
ووقع في أيام قضائه أنه ثبت على امرأة أنها زني بها يهودي وشهد أربعة بالزنا على الوجه الذي يقتضي الرجم فحكم برجم المرأة فحفر لها حفيرة في آت ميداني ورجمت وهذا الأمر لم يقع إلا في صدر الأسلام ثم عزل وأقام بداره مدة إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى وكانت وفاته في أحدى الجماديين سنة ثمان وتسعين وألف(1/115)
الشيخ أحمد بن حسين بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس أبو عبد الله شهاب الدين أحد العلماء الأجلاء والأولياء الأتقياء ذكره الشلي وقال ولد بمدينة تريم في سنة سبعين وتسعمائة ونشأ بها وصحب أباه ومن في طبقته وأخذ عن علماء ذلك الزمان وألبسه خرقة التصوف جماعة من العارفين وتفقه وكان كثير القيام والصدقة والصوم وكان إذا سجد يطيل السجود كثير التفكر وكان غير ملتفت إلى الدنيا وأربابها زاهدا فيها وفي مناصبها متباعدا عن السلطان منقبضا عن الكبار كثير التلاوة للقرآن كثير الأستماع للمواعظ والأشعار الحسنة وربما حصل له عند ذلك حال ورزق السعادة في نسله فخلف ثلاثة أولاد سارت سيرتهم في سائر الأرض ونفع الله تعالى بهم خلقه فالشيخ عبد الله في الديار الحضرمية والشيخ حسين في الديار اليمنية والسيد أبو بكر في الديار الهندية وكل واحد منهم مذكور في كتابي هذا في محله وكانت وفاة صاحب الترجمة ليلة الجمعة لليلتين خلتا من شوال سنة ثمان وأربعين وألف ودفن بمقبرة زنبل ولما حفروا قبره وجدوا فيه شربة لم يعرفوا من أي شيء عملت ولا لأي شيء صنعت فأخذوها وهي موجودة يستشفي بها الناس من الأمراض الشيخ أحمد بن حسين بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن علي بن محمد بن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم يعرف كسلفه ببافقيه قاضي تريم القاضي شهاب الدين الحضرمي الأمام المفتي العالم الأجل ذكره الشلي وأثني عليه كثيرا ثم قال ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن والأرشاد وبعض المنهاج وغيرهما وعرض على مشايخه محفوظاته وأكب على تحصيل العلوم من صغره وتفقه على الشيخ محمد بن اسماعيل ولازمه في القراءة والتحصيل وأكثر التردد والأخذ عن السيد عبد الرحمن ثم رحل إلى الحرمين وأخذ بهما عن السيد عمر بن عبد الرحيم والشيخ أحمد ابن علان قال الشلي وبلغني أن الشيخين الجليلين الشمس محمد الرملي والشهاب أحمد بن قاسم حجا في ذلك العام وأنه أخذ عنهما الأخذ التام وأجازه جماعة من مشايخه في الأفتاء والتدريس وتفوق حتى ضرب به المثل في تلك الدائرة وقصدته الطلبة من كل البلاد واشتهر صيته وتخرج به جماعة من فضلاء العصر كثير وكان له في التحقيق حظ وافر وكان في الفتاوى من أحسن أهل زمانه فإذا سئل عن مسئلة فكأنما الجواب علىطرف لسانه ويورد المسئلة بعينها ولفظها لقوة حافظته ويقال أنه في مذهب الشافعي أحفظ أهل جهته وله فتاوى منتشرة مفيدة ثم عين لقضاء تريم وألزم بعد امتناع فحمدت طريقته ونفع الله تعالى بفراسته ونفوذ أحكامه أهل تلك الديار مع خفض الجناح ولين الجانب والحلم والصبر والتودد ثم عزل عن القضاء بسبب واقعة بين زين العابدين بن عبد الله العيدروس وأخيه شيخ سنذكرها في ترجمة زين العابدين وكان زين العابدين يومئذ صاحب الحل والعقد فسعى في عزله وتولية تلميذة السيد حسين بافقيه فأعطاها أكثر من حقها ولم تطل مدته في القضاء بل عزل بعد أطفاء تلك الفتنة وأعيد صاحب الترجمة فلم يسلم ممن يعاديه بل كاد أن يفارق بلده ووقع له في الأحكام واقعة في دخول رمضان وشوال وهي أن جماعة شهدوا برؤية الهلال ليلة الثلاثين بعد الغروب وشهد آخرون بأنهم رأوه بالشرق يوم التاسع والعشرين قبل طلوع شمسه فحكم بشهادة الأولين ووافقه جماعة من العلماء وأفتى تلميذه السيد أحمد بن عمر بخلاف ما حكم به وأن شهادة من شهد برؤيته بعد الغروب غير صحيحة إذ هي مستحيلة شرعا وعقلا وعادة ولكل منهما في المسئلة كتابة قال الشلي ولم أقف على كتابة القاضي أحمد هذا وأما شيخنا فستأتي في ترجمته وأرسلوا يستفتون أهل الحرمين فاختلف جوابهم ولكن أكثرهم أفتى بما حكم به صاحب الترجمة قال وذكرت في رسالة معرفة اتقان المطالع وأختلافها ما يؤيده وبالجملة فقد كان صاحب الترجمة من سراة رجال العالم واشتغل في آخر عمره بالتصوف لاسيما كتاب الأحياء ومنهاج العابدين واجتهد فيه حتى بلغ رتبة المرشدين الكاملين ولم يزل حتى توفي وكانت وفاته في سنة ثمان وأربعين وألف ودفن بمقبرة زنبل عند قبور سلفه(1/116)
الشيخ أحمد بن حسين بن محمد بن علي بن أحمد بن عبد الله بن محمد مولي عبديد الشهير كسلفه ببافقيه الأمام الجليل المتقي الورع ذكره الشلي وقال بعد أن وصفه بأوصاف لائقه به ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن والجزرية والأجرومية والأربعين النووية والأرشاد والملحة والقطر وطلب العلم فأخذ العلم عن أبيه وعمه أبي بكر وهو صغير وقرأ على الفقيه أحمد بن عمر البيتي في بعض المتون وشروحها وعلى الشيخ أبي بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين كتبا كثيرة في عدة فنون وعلى الشيخ عبد الرحمن بن علوي بافقيه والشيخ أحمد بن عمر عبديه والشيخ أحمد بن حسين بافقيه وغيرهم وبرع في الفقه والتفسير والحديث والفرائض والحساب والعربية قال الشلي وسمع بقراءتي على أكثر مشايخنا وسمعت بقراءته عليهم وصحبته مدة وانتفعت بصحبته وكتب الكثير وانتفع بصحبته جمع وكان أفصح اقرانه قلما وأمكنهم في معرفة العلوم وأحسنهم في معرفة دقائق المعاني ورحل إلى الحرمين وجاور بمكة سنين للتفقه فأخذ بها عن جماعة منهم الشيخ عبد العزيز الزمزمي والشيخ عبد الله ابن سعيد باقشير والشيخ علي بن الجمال والشيخ محمد بن عبد المنعم الطائفي والشيخ محمد بن علي بن علان وأخذ عن السيد محمد بن علوي وغيرهم وأخذ بالمدينة عن الشيخ عبد الرحمن الخباري والصفي القشاشي ثم عاد لمكة ثانيا وأقام بها إلى أن توفي وكانت وفاته في سنة اثنتين وخمسين وألف ودفن بمقبرة الشبيكة رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن حسين بن أبي بكر العيناتي الشيخ الكبير الفائق ذكره الشلي وقال في ترجمته ولد بقرية عينات ونشأ بها في حجر أبيه وصحبه وعمه الحسن وكان كجماعته علىطريق أهل البادية أبدانهم وشعورهم باديه ولما توفي أبوه اتفق أهل عصره على تقديمه فقام مقامه وكان في الكرم غاية لا تدرك وقصده الناس ومدحه الفضلاء وكانت ترد عليه النذور والأموال وهو يفرقها على الفقراء والوافدين قال الشلي ولما دخلت عينات استمديت من بحره واجتنيت من دره ورأيت من بره وعطفه وكرم أخلاقه ولطفه ما يزيد على شفقة الوالدين واجتليت من أنوار طلعته ما أقر العين وكان خلقه كالروض الوسيم وأنواره يقتبس منها في الليل البهيم وكان يملك نفسه عند الغضب ويكظم الغيظ إذا قدر وغلب وكان مقبول الشفاعه يقابل أمره بالسمع والطاعه وكانت وفاته صبح يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الأولى سنة أحدى وستين وألف ودفن بمقبرة عينات عند قبور سلفه رحمه الله تعالى أحمد بن خليل بن علي التركماني الأصل الحمصي المعروف بالأطاسي الفقيه المعمر الحنفي المذهب مفتي حمص وعالمها كان من الصدور الأفاضل وله في التحقيق الباع الطويل أخذ بحمص عن ابن كلف الرومي وصحبه إلى القدس وشاركه في القراءة عليه الشيخ عبد النبي بن جماعة ودخل إلى حلب ولازم الشهاب الأنطاكي صديق جده ثم عاد إلى حمص وقد زاد علمه وولي بها تدريسا والنظر على مقام سيدي خالد ابن الوليد رضي الله عنه ودخل دمشق فتزوج بأخت مفتيها العلامة عبد الصمد العكاري ثم سافر معه إلى حلب حين كان السلطان سليمان بها في سنة أحدى وستين وتسعمائة فأعطي بعنايته تدريس الجراعية بدمشق ثم أعطي الأفتاء بحمص وبقي يتردد إلى دمشق قال ابن الحنبلي الحلبي في تاريخه وجده علي هو العارف بالله تعالى الذي أخبر عنه الشيخ الفاضل الصوفي محمود صهر سيدي الشيخ علوان الحموي أنه ظهرت له كرامة الأولياء بعد موته لأنه لما وضع بين يدي الغاسل انسحبت الخرقة الساترة للعورة شيئا يسيرا فمد يده وسترها بحيث انستر منه ما كان انكشف انتهى وبالجملة فبيتهم بيت ظاهر البركة وخرج منهم فضلاء ونبلاء عدة وكنت أسمع من والدي أن لنا معهم قرابة والله تعالى أعلم وكانت وفاة أحمد صاحب الترجمة يوم الأثنين الحادي والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع بعد الألف عن نحو تسعين سنة والأطاسي بضم الهمزة وبعدها طاء مهملة ثم سين مهملة ولا أدري هذه النسبة لماذا والله سبحانه وتعالى أعلم(1/117)
الشيخ أحمد بن خليل بن ابراهيم بن ناصر الدين الملقب شهاب الدين المصري الشافعي السبكي نزيل المدرسة الباسطية بمصر وقف المرحوم القاضي عبد الباسط وخطيبها وأمامها ذكره الشيخ مدين القوصوني فيمن ترجم من علماء عصره وقال في حقه الفاضل العلامة الفقيه المفيد أخذ عن الشيخ الفاضل محمد شمس الدين الصفوي المقدسي الشافعي نزيلها بجامع الحاكم وهو الذي أنشأه من صغره وزوجه ببنته واستمر تابعا آخذا عنه إلى حين وفاته وأخذ عن الشمس محمد الرملي وكان ملازما للمدرسة المذكورة نهارا وبمنزله بها ليلا وحج المرة بعد المرة براومرة بحرا وجاورو له من المؤلفات حاشية على الشفا للقاضي عياض وشرح على منظومة الجلال السيوطي التي تتعلق بالبرزخ سماه فتح المقيت في شرح التثبيت عند التبييت وهو قولات وشرح آخر عليها سماه فتح الغفور وهو مزج وله أيضا شرح على منظومة ابن العماد التي في النجاسات سماه فتح المبين بشرح منظومة ابن عماد الدين وله رسالة سماها هدية الأخوان في مسائل السلام والأستئذان وله مناسك حج كبيرة وأخرى صغيرة وله الفتاوى التي جمعها من خط شيخه شيخ الأسلام الشمس الرملي في جلد ضخم انتهى ما قاله الشيخ مدين ورأيت في تعاليق أخينا الفاضل مصطفى بن فتح الله ترجمته وذكر أنه أخذ عن النجم الغيطي ومن في طبقته من علماء وقته وعنه الشيخ سلطان المزاحي والشمس محمد البابلي وغيرهما وكان له مهارة في علوم الحديث والعلوم النظرية وفقهه بتكلف واتفق للشيخ سلطان معه أنه حصل معه يوما في صلاة الجمعة في مسجد كان صاحب الترجمة أما ما فيه وكان من عادته أن يقيم ولده للخطبة ويصلي الجمعة هو بنفسه فلما فرغ ولده من الخطبة تقدم للصلاة على عادته فأمسك بيده الشيخ سلطان وقال له يا سيدي تفيدوا أن من شرط أمام الجمعة أن يكون خطيبا أو سمع الخطبة وكان المترجم عرض له ثقل في سمعه فقدم ولده حينئذ للصلاة بدله انتهى وكانت وفاته في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين وألف عن ثلاث وتسعين سنة ودفن بفسقية أحدثها بجوار الأيوان الصغير الغربي من المدرسة المذكورة ذكر ذلك مدين القوصوني أحمد بن خليل المصري المعروف بالسلموني الأديب الشاعر ذكره بعض فضلاء مصر في جمعيته وقال في وصفه جامع أشتات المعالي وحسنة الأيام والليالي علامة الزمان ووحيد الأقران والمشار إليه بالبنان في البيان زين الأكابر والأماثل ورأس الأعيان والأفاضل ومقصد الملتمس والسائل ومحط رحل أمل الآمل حسن الأخلاق حليم النفس يلتذ بالعفو عن الزلة كما يلتذ الأحمق بالعقاب عليها مشكور السيره صافي السريره له مهارة جيده في فنون متعدده وأشعاره أنيقه حسنة السبك رقيقه منها قوله من قصيدة يمدح بها بعض القضاة ومطلعها
ماذا الذي وسق الأحشاء بالنصل ... ولم يدع موضعا فيها لمنتصل
أذاك زرق عوال من كماة وغي ... أم ذاك رشق نبال من بني ثعل
أم هي عيون بأوتار الجفون رمت ... سهام ألحاظها قيس الحواجب لي
أم هي سيوف لحاظ في الحشا فعلت ... فعال سيف أمير المؤمنين على
أم هي خناجر طعن في الحناجر من ... رنا محاجر تلك الأعين النجل
أم هي رماح قدود لا يعادلها ... في القد سمر القنا العسالة الذبل
بيض الوجوه لها البيض الصفاح طلا ... سود العيون لها السمر الرماح حلي
مالي وعشق ملاح من محاسنها ... تبدي أحد سلاح مرهف صقل
وأحيرتي الأغراء والغرام بذا ... الجمال أجنح للوام والعذل
أصبو لذاك ولا أصغي لذين ولا ... أسلو حلاوة مص الريق والقبل
لكنني في الهوى أصبحت ذاوله ... ومنه أمسيت شبه الذاهل الوهل
أشبهت ماصلة والغير يحسبني ... ذا عائد موصلا والحال لم أصل
أني الوصول إلى نيل العوائد والصلات من فاتر الأجفان والمقل
من لي بذلك والألحاظ تسلبني ... سلب المدامة لب الشارب الثمل
ما بالنا معشر العشاق تأخذنا ... في السلم تلك الرنا أخذا على عجل(1/118)
ونحن في الحرب أقوى ما نكون إذا ... تقارعت في الظبا الأبطال والأسل
وبعد ذاك القوى والعزم تنظرنا ... نهبا لألحاظ تلك النعس الكحل
ظباء السيوف وأطراف الأسنة لا نخشى ونخشى سواد الطرف والكحل
الله أكبركم من ناعس غنج ... أردى وجندل كم من فارس بطل
وهي طويلة وله أشعار كثيرة والعنوان يدل على الطرس وكانت وفاته بمصر خامس شعبان سنة سبع وثلاثين وألف رحمه الله تعالى الأمير أحمد بن رضوان بن مصطفى الأمير الكبير نائب غزة وأمير الحاج كان أبوه الأمير رضوان من كبار الأمراء في زمن السلطان سليم بن مراد وأما جده مصطفى فإنه كان في رتبة الوزراء في عهد السلطان سليمان وأرسل إلى فتح بلاد اليمن وكان يعرف في بلاد الشام بأبي شاهين قيل لكثرة حمله الشاهين الطائر المعروف على يده عند الصيد ونشأ ولده الأمير أحمد هذا في دولة باهرة وكان شجاعا بطلا وعقله في غاية الرزانة وله مطالعة في كتب التاريخ وبعض الفنون وقصده الشعراء ومدحوه وخلدوا مدحه في مجاميعهم فمنهم أبو المعالي الطالوي فإنه مدحه بقصيدة ميمية عجيبة في بابها عند عوده من القاهرة ومروره بغزة ومطلعها قوله
ولما أرتنا العيس غزة هاشم ... عيانا أنخناها بتلك المعالم
رواجع من مصر نوازع للحمى ... حمى الشام تهدي بالبروق البواسم
وقد ذكر فيها ما أشتمل عليه الطريق من المراحل فلا جل هذه الفائدة ذكرت منها محل ذلك بتمامه وذلك قوله
أضاء لها البرق الشآمي مرة ... فأثر في أخفافها والمناسم
الضميران للعيس المقدم ذكرها وبعده قوله
حننت وحنت إذا أضاء وإنما ... حنيني لو تدري لبرق المباسم
وأعدي حصاني قطعها البيد فانثني ... يجوب الفلا جوب النياق الرواسم
فودع ربع العادلية سائرا ... ولم يثنه عن سيره لوم لائم
ووافى ربوع الخانقاه عشية ... ومر على بلبيس مر النسائم
وأصبح خطارا بخطارة المنى ... وجاز بها كالبرق لاح لشائم
وجاوز ورد الصالحية كالقطا ... لقطية ليلى قبل ورد الحوائم
ترفع عن بئر الدويدار قدره ... وخلفها مطروقة للسوائم
وأهوى لبئر العبد كالتجم غائرا ... لام الحسا والليل وحف القوادم
وقابله رمل العريش فعاقه ... عن السير إذ خانته أحدى القوائم
وغيبه عن حسه هول صعقة ... تخر لها كوم المطي الروازم
فودعته طرفا أغر محجلا ... كريم السجايا من عتاق كرائم
وقلت له هلا حملت على وجا ... فتى سيره للشام ضربة لازم
فقال مقالا كنت أجهل قدره ... وعيناه فاضت بالدموع السواجم
أتشكو الجوى إذ جئت غزة هاشم ... وفيها أمير أريحي المكارم
سمى نبي الله أحمد من غدا ... حديث نداه ناسخا ذكر حاتم
كثير رماد القدر دان نواله ... طويل نجاد السيف ماضي العزائم
سليل الملوك الصيد من خضعت له ... قبائل من تيم وقيس ودارم
وذو النسب الوضاح والجوهر الذي ... أقام فرندا في متون الصوارم
أمير تردى المجد درعا وشاحه ... طوال العوالي في طوال المهاذم
وقد ألف البيض الصوارم والقنا ... وقتل العدا من قبل عقد التمائم
أخو الحرب يغشى الليث والليث مشبل ... وتخشاه في الهيجاء أسد الضراغم
ترى بابه للوافدين محطة ... فمن راحل مثن وآخر قادم
وردت حماه مستفيضا نواله ... فرحلني عنه بأسني الغنائم
فلا زالت الأقدار تخدم سعده ... بغزة في عز مدى الدهر دائم(1/119)
وكان يحب مذاكرة العلوم ويسأل العلماء عن الأحكام ويعظمهم ويكرمهم ويصل علماء بلده وغيرهم وانتشأ في أيام حكومته بغزة علماء وفضلاء سيأتي ذكرهم ورزق من السعادة حظا عظيما واستولى على مملكة غزة ما يقرب من ثلاثين سنة من غير عزل يقتضي رحيله عنها وسكنها وتولى أمارة الحاج الشامي سنين عديدة بعد الأمير قانصوه أمير عجلون وما والاها من بلاد الكرك وكان يحضر إلى دمشق في بعض الأعوام وعمر بها بالقرب من باب البريد بيتا محكم البناء حسن الوضع وأنفق عليه مالا كثيرا وكان له أولاد وكلهم من بنت المرحوم درويش باشا صاحب الجامع المعروف بالدرويشية خارج دمشق وخالهم لأمهم حسن باشا الوزير ابن الوزير وتفرغ في آخر عمره لبعض أولاده عن أمارة غزة وأرسل إلى طرف السلطنة قاصدا بتحف وهدايا كثيرة وطلب أن يصير أمير الأمراء ببعض المدن الكبيرة على طريق التقاعد المعروف الآن في الأصطلاح فأجيب إلى ما طلبه وكان ذلك في سنة تسع بعد الألف وأقام إلى أن مات وكانت وفاته في سنة خمس عشرة بعد الألف رحمه الله تعالى أحمد بن روح الله بن سيدي ناصر الدين بن غياث الدين بن سراج الدين الأنصاري الجابري الرومي قاضي القضاة بالشام ومصر وأدرنة وقسطنطينية وولي قضاء العسكرين اشتغل ودأب وأخذ العلوم عن جماعة كثيرة من أجلهم المولي محمد شاه وكان معيدا له ولازم منه وبرع وتفوق وكان علامة في المعقولات متبحرا في فنونها وألف مؤلفات تدل على فضله منها تفسير سورة يوسف وحاشية على تفسير سورة الأنعام للبيضاوي وحاشية على حاشية ملا مسعود في آداب البحث وحواشي على غالب شرح المفتاح للسيد الشريف وله رسائل متعددة في فنون كثيرة وقد ذكره الحسن البوريني في تاريخه وقال في ترجمته ولد في بلاد كنجه وبردعه من بلاد العجم وبها نشأ ثم خرج منها وكان وحيدا فريدا قال وأخبرني أنه ورد من بلاده ماشيا وأنه دخل البلدة المسماة بالقصير فأخذ بها العهد على الشيخ أحمد القصيري المشهور وسافر بعد ذلك إلى باب السلطنة العثمانية وخدم رجلا من أركان الدولة يقال له فريدون وأقرأ أولاده ولازمه حتى انتظم في سلك الموالي قال غيره ودرس بعدة مدارس منها مدرسة بناها المرحوم محمد باشا باسمه وهي معروفة بين قسطنطينية وأدرنة وهو أول من درس بها ومنها مدرسية أيا صوفيا ومدرسة والدة السلطان مراد بمدينة اسكدار وألقي بها درسا عاما حضره غالب فضلاء الروم وعلماؤها وخلع عليه يوم الدرس ثلاث خلع بعد أن أرسلت إليه الوالدة ألف دينار لأجل ضيافة من يحضر الدرس وما وقع ذلك لأحد غيره وتكلم في تفسير سورة الأنعام على قوله تعالى وقالوا لولا أنزل عليه ملك الآية وكان درسا حافلا لم يعهد في الروم مثله لأن المدرسين في بلادهم لا يفعلون ذلك وإنما يجلس المدرس وحده في محل خال من الناس فلا يدخل إليه إلا من يقرأ الدرس وشركاؤه فيه ولا يحضرهم أحد من غير تلامذة المدرس وجرى بذلك الدرس إبحاث وتناقلتها الرواة وألف هو فيه رسالة وعرضها على كثير من العلماء فقرظوا له عليها وكان من جملة القوم جدي القاضي محب الدين فكتب ما من جملته قوله
ومتع العبد طرفه بتلك الطرف ... بظل هاتيك الهاديا والتحف
ودخل من جنان سطورها غرفا مبنية من فوقها غرف فلما شاهد آيات فضلها التي لا تجحد وعاين معجزاتها الباهرة آمن برسالة أحمد وقد أعطي من مدرسة الوالدة قضاء الشام قال البوريني وكان موصوفا بالتهاون فيما يتعلق بأمور القضاء حتى أنه كان لا يتأمل الحجة التي تعرض عليه للأمضاء بل كان يمضيها تقليد للكاتب ثقة به وتغافلا عن التثبت لا سيما في أمور الشرع وصدر من ذلك أن بعض أعدائه أدخل عليه حجة فيها بيع السموات وتحديدها بكرة الأرض فعلم عليها واشتهر أمرها بين موالي الروم وما بالي بذلك انتهى ثم بعد عزله من دمشق ولي قضاء مصر ووجدت في بعض المجاميع أنه لما ولي قضاء مصر كان إذ ذاك أبو المعالي الطالوي بها فنظم هذين البيتين بهجوه بهما وهما في غاية اللطافة
حمير شروان أتت مصرنا ... وأصبحت بعد الشقا في دعه
وفارقت كنجة لكنها ... لم يخل منها البعض من بردعه(1/120)
وبعد ذلك ترقي في المناصب على الترتيب الذي ذكرته في مبدأ ترجمته إلى أن وصل إلى قضاء العسكر بروم إيلي وتوفي وكانت وفاته بقسطنطينية في سنة ثمان بعد الألف الشريف أحمد بن زيد بن محسن بن الحسن بن الحسن بن أبي نمي وتقدم تمام النسب في ترجمة عم جده الشريف أبي طالب فليرجع إليه ثمة كان من أمر الشريف أحمد المذكور أنه كان في دولة أخيه الشريف سعد مشاركا له في الربيع ثم لما عزلا عن شرافة مكة توجها في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وألف إلى الطائف ثم إلى بيشة وأقاما بها ثم توجه المترجم إلى ديرة بني حسين فإن له أهلا بها وولدا واستمر مقيما إلى ذي القعدة من السنة فرحل منها قاصدا لزيارة جده صلى الله عليه وسلم في المدينة فدخلها ليلة دخول الحاج الشامي وواجهه فيها أمير الحاج المذكور والتمس منه بعض مرام من شريف مكة إذ ذاك الشريف بركات ثم خرج من المدينة ونزل على شيخ حرب أحمد بن رحمة واستمر عنده إلى عود الحاج الشامي فواجهه أمير الحاج وأخبره بعدم تمام ذلك المرام ثم توجه إلى الفرع في أول عام أربع وثمانين وألف واستمر بها مدة يسيرة ثم لما خرج الشريف بركات لمحاربة حرب في أواسط السنة المذكورة عاد إلى حرب وحصن الحرب ثم بعد انقضائها توجه إلى الفرع ثم وصل إليه أخوه الشريف سعد واستمرا بين الوارقية والفرع وأكثر الأقامة بالفرع ولما توعد الشريف بركات أهل الفرع في أوئل سنة خمس وثمانين وألف تنحوا إلى جهة وادي البقيع من بلاد حرب بين السفر وبلاد بني علي وعوف واستمروا ومن معهم بها إلى شهر رمضان ثم عن لهم التوجه إلى الأبواب السلطانية فوصلوا إلى حول المدينة ونزلوا بالغابة مجتمع السيول غربي أحد أواخر رمضان وعيدوا في ذلك المحل وليس في نزول الأسود في الغابة ملامة ولا معابة وقضوا حوائجهم وذهبوا خامس شوال متوجهين إلى الشام لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أكرموهم ومن أعجب الأتفاق نزولهم على مرج بني سجيم من غير علم منهم بذلك وكان الشريف سعد قتل أباه فلما علموا به حصل لهم كرب شديد فلم يشعروا إلا وولده مواجه لهم بالعبودية والسلام وأهدر دم والده وأكرمهم وذبح لهم الذبائح ومنح المنائح وهذه من غير شك معجزة من جدهم ولم يزالوا على مثل ذلك مع كل من مروا عليه من العربان من جمع ووحدان إلى أن وصلوا إلى الشام فتلقاهم أهلها وأمراؤها وكبراؤها وعلماؤها ونقيبها ودخلوا بموكب عظيم والأشراف من أهل الشام حولهم مشاة بأمر من نقيبهم ثم أقاموا بها وأستأذن لهم حاكم الشام حينئذ السلطنة في الوصول فأذنوا لهم فتوجهوا إلى أن دخلوا أدرية فحصل لهم من الدولة أكرام والتفات واجتمعت بهم ثم توجهوا بأمر من السلطنة إلى قسطنطينية واستمروا بها وتولي الشريف سعد بعد ذلك معرة النعمان وتوجه إليها ثم عزل عنها وعرضت على المترجم طرسوس فلم يقبل وأقام بقسطنطينية مدة مديدة واتحدت بخدمته أتحاداتا ما وتقربت إليه كثيرا وكان كثيرا ما يدنيني إليه ويقبل علي بكليته ومدحته بقصائد منها هذه القصيدة كتبتها إليه في سنة تسع وثمانين وألف وهي قولي
يجوب الأرض من طلب الكمالا ... ومن صحب القنا بلغ السؤالا
وكم في الأرض من سكن ودار ... وأن كان النوى يضني الجبالا
وما هجري الدمي ذلا ولكن ... رأيت الذل أن أهوى الجمالا
وأن الحتف في حب الغواني ... جزين الصب هجرا أو وصالا
أما وحياة عينيك اللواتي ... بغير السحر تأبي إلا كتحالا
وما بسقيم جفنك من فتور ... أعاد البدر من سقم هلالا
لأنت أعز من روحي ومالي ... وأن لعب الزمان بنا ومالا
وكم للشوق في أحشاء صب ... يبيت خياله يرعى الخيالا
يخاطب من أمانيه نديما ... ويجني من مطامعه نوالا
فيقطع بالنوى الأيام سيرا ... ويقطع بالمني السود الطوالا
إذا ما أوهمته النفس أمرا ... وراء السد كلفها ارتحالا
وليس الجد في الدنيا بمجد ... ولا زاد النوى رزقا ومالا
ولكن الأمور لها دواعي ... وأسباب بقاء أوزوالا(1/121)
وأسهرني بأرض الروم برق ... سرى من جلق يشكو الكلالا
وجددلي بأرض الشام عهدا ... وذكرني الأحبة والظلالا
مواطن صبوتي ومقام أنسي ... وأن صرمت أهاليها الحبالا
وما كانت غوانيها جفاة ... ولكن علموهن الدلالا
وترك المرء دار الضيم حتم ... ونفس الحر تأبي الآعتقالا
وما كلفتهم شيئا ولكن ... أعاد الوهم رشدهم ضلالا
وليس يبين فضل المرء حتى ... يبين ويشبه الشهب انتقالا
ومن لم يشكر النعماء يوما ... وأنكرها فقد رضي الزوالا
جفوا فحلمت فإزدادوا جفاء ... وظنوا الحلم عجزا واحتمالا
وبعض الجهل في الأحيان خير ... وبعض الحلم يستدعي النكالا
فخلفت الديار ومن عليها ... وفارقت الأحبة والعيالا
وسرت ولي من الذكرى سمير ... يؤرقني وصحبي والجمالا
فلا زالت لأحمد مكرمات ... تقابلني نزولا وأرتحالا
هو المولي الشريف ومن تسامى ... إلى العيوق أفضالا وطالا
مليك مستفاد من مليك ... كعرف الروض أكسبه شمالا
فتى للفضل قد أضحى يمينا ... وباقي الناس كلهم شمالا
طليق الوجه بسام المحيا ... يسابق فضله منا السؤالا
ومن أحيا موات الجود فضلا ... وورث عدله الدنيا اعتدالا
تهون به الصعاب وكل عقد ... أبي ألا بكفيه انحلالا
أجل ملوك أهل الأرض طرا ... وأصدقهم إذا نطقوا مقالا
رويدا أيها الراجي علاه ... فإن الشمس تكبر أن تنالا
ويا من قاسه بالبحر جودا ... لقد قايست بالملح الزلالا
ويا من قد أراد له نظيرا ... لقد كلفت دنياك المحالا
له النسب الرفيع إلى نبي ... لقد نالت به الدنيا جمالا
أجل المرسلين ومقتداهم ... وأجزل من على الغبرا نوالا
عليه بعد أنفاس البرايا ... صلاة الله تكسبه كمالا
إليك سليل خير الخلق أشكو ... نوى قصرت نتيجته وطالا
وهاك حلى على الهيف الغواني ... والأخذ على الوجنات خالا
عروب أن أردت قتال خصمي ... أجرد من قوافيها النصالا
تمتع من مدائحها بروض ... يروقك منه شمأله اعتدالا
ودم صدر الزمان ولا رأينا ... لذاتك ما حدا الحادي زوالا
لمجدك تنتمي زهر الدراري ... ومجدك ينطق الكون ارتجالا
ودخلت عليه يوما فرأيته يقرأ قصيدة قافية لابن هاني الأندلسي ومطلعها قوله
قمن في مأتم على العشاق ... وجعلن الحداد في الأحداق
فلما أتم قراءتها اقتراح على نظم قصيدة على وزنها ورويها فنظمت هذه القصيدة ومطلعها قولي أمتدحه بها وهي
إنما الدمع آية العشاق ... وأحمرار الدموع حلى المآقي
لا عدمت الهوى وأن كان يقضي ... بتلاف المتيم المشتاق
أن عيشا يمضي بغير تصاب ... ما لخلق يختاره من خلاق
ومن الضيم أن يبيت المعنى ... خالي القلب من جوى واحتراق
لا أرى صحوة لمخمور عشق ... أسكرته سلافة الأحداق
دوختني نوائب الحب لكن ... عرفتني محاسن الأخلاق
أيها القلب غير حرك هذا ... أن صدا لحسان غير مطاق
وتنائي الديار يكبر عنه ... في فؤاد المضني تنائي الرفاق
يذهب الدهر بيننا لا يوالي ... بين لحظ المنى وطيف العناق
من لقلبي المذاب أن لج وجدي ... وحنيني ومن ولد معي المراق
فضلوعي رهن الأسى وفؤادي ... نهب أيدي الأشجان والأشواق
يا سقي مألفا لنا بحمي الشام هزيم من الحيا المغداق
طالما بت في حماه وعيشي ... مع آرامه شهى المذاق(1/122)
نتروى من الصبوح ونفتض نسيم الشمول في الأغتباق
ومحي بالشمس بدر فيسقى ... أنجم الشرب في سماء الرواق
شادن موثق عهود التجني ... وأراه ضعيف عقد النطاق
يتثنى كأنما راح يخطو ... فوق أحناء قلبي الخفاق
فلما انتهت في الأنشاد إلى هذا البيت قال هذا شعر معجب وهذه القافية سيدة قوافيه فقلت له صاحب البيت أدري بالذي فيه ففطن بالمراد وقال قد لاح لي في الأحناء الأنتقاد فقلت أن رأى الأستاذ أبدلتها بلفظة افلاذ فإنها أقرب إلى القلب منها وشغاف العشاق لا يبعد عنها فأظهر بما قلته ابتهاجه واهتز اهتزاز مرنح بصفو الزجاجه ومنها
بات عندي ألذ من قبلة الغيد وأشهى من الشفاه الرقاق
نجتني اللهو يافعا من غصون ... للأماني كالورد في الأطباق
بحديث كالزهر كلله الطل فضاهي قلائد الأعناق
وسلاف تسرى من الروح مسرى ... مكرمات الشريف في الآفاق
سيد تستفيد منه المعالي ... لبنيها طرائف الأعراق
ذو بنان تجري بخمسة أنهار فتجري عوائد الأرزاق
وندى كالغمام ليس له برق سوى بشر وجهه البراق
أشبه المرهف المحلي سوى أن حلاه مكارم الأخلاق
أن تجاري الكرام في حومة الجود رأيناه أسبق السباق
من سراة ودادهم فرض عين ... ما تجلى بحبهم ذو نفاق
وبآثارهم تسامي بنو اسمعيل فخرا على بني اسحاق
كلهم جاءت السيادة تنقاد إليه بأوجب استحقاق
سبقوا العالمين نحو المعالي ... حيث حلوا والسبق حلى العتاق
وأقاموا في الله أركان دين الحق بالبيض والدروع الوثاق
ما عسى يبلغ المديح علاهم ... لو تناهي في الحصر والأغراق
آل بيت هم معدن الجود وال ... حلم وخير الأنام بالأتفاق
أن قلبي لهم مقيم على المي ... ثاق من قبل ساعة الميثاق
وانتسابي منهم لأحمد يقضي ... أنني عبده بغير شقاق
قيدتني نعماه بل أطلقتني ... فأنا شاكر على الأطلاق
ومتى رحت للهوان أسيراً ... فك أسرى منه وحل وثاقي
وكفاني إذا الحوادث أعطشن مسيلا بسيبه الدفاق
قد كساني ثوب الغنى وأراه ... عوضا لي عن حلة الأملاق
فلأكسوه من نسيج ثنائي ... حللالاتهم بالأخلاق
بقواف في جودة السبك تحكي ... جوهر الحلي في عقود التراقي
كل معنى كالسحر يستره اللفظ وحسن الأزهار بالأوراق
يا أعز الورى حمى لا يسامى ... وقف الدهر فيه ذا أطراق
لا عدمنا لقياك والعمر منا ... حسبه من هو النيل التلاق
إنما أنت بدر أفق المعالي ... فابق في الدهر زائد الأشراق
واتفق لي في خدمته يوم من أيام الجنان قد غفلت عنه عيون الحدثان في ظل ربي هب فيه صبا فطال ريا وطاب ريا والوقت منتسب إلى خلقه في اعتداله والزهر منتم في العرف لنشر خلاله فنظمت أبياتا في وصف ذلك اليوم وأنشدته أياها بمحضر من القوم وهي
لله بستان حللناه ضحى ... والورق تملي شجوها تغريدا
حاكت به أيدي الجنوب وجودت ... في النسج حتى ألبسته برودا
وتمايلت فيه الغصون كخرد ... تبدي لنا الورد الجني خدودا
والطل مطلول على حافاته ... يحكي لدنيا لؤلؤا منضودا
أهدى شذاه معنبرا فكأنما ... في كل عود منه يحرق عودا
أو أن خالطه سناء مملك ... طابت خلائقه فكان مجيدا
ما أن تصفحنا خلال كماله ... إلا رأينا أحمدا محمودا
هو صاحب النسب الرفيع محله ... قد طاب آباء زكت وجدودا
فالبحتري كأنما عنه عني ... في بيت شعر كان فيه مجيدا
نسب كان عليه من شمس الضحى ... نورا ومن فلق الصباح عمودا
قد ساد للرتب الجليلة ساميا ... أقرانه حتى استبد فريدا
لو أن منزلة الغسني كمنا له ... شرفا إذا جاز السماك صعودا(1/123)
لا زال يبقي في المعالي لاقيا ... عيشا على مر الزمان رغيدا
ولم يزل مقيما بالروم والأحوال تنتقل به إلى أن حصل لمكة ما حصل من الأختلاف بين الأشراف فبلغ ذلك السلطان فأرسل إلى الشريف أحمد يطلبه فلما أتاه ودخل قام إليه وقابله في غاية الأجلال ووضع كفه بكفه وصافحه من قيام قائلا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأول خطاب من السلطان قال له يا شريف أحمد الحجاز خراب أريدك تصلحه فأمتثل ذلك فعند ذلك ألبسه ما كان عليه ثم جلس السلطان وأمره بالجلوس فجلس وأعاد عليه ما قاله أولا مرتين وهو يجيبه بالأمتثال والقبول فحينئذ قال السلطان إذا آن أوان الشيء أبرزه الله تعالى وأمر الوزير والكتاب أن يكتبوا له ملتمسه فخرج الشريف وقدم له مركوب من خيل السلطان ورحل على خيل البريد إلى دمشق وقد خرج الحاج منها فدخلت عليه مهنئا له بالشرافة وأنشدته هذه الأبيات
الحق عاد إلى محله ... والشيء مرجعه لأصله
يا طالما وعد الزمان به وأعيانا بمطله
حتى تحقق أنه ... في الناس مفتقر لمثله
والسيف عند الأحتياج ... إليه يعرف فضل نصله
والدهر ينفر تارة ... ويعود معتذرا لأهله
لا ريب قد سر الورى ... بفعاله الحسنى وعدله
فالكل شاكر صنعه ... ولسانهم وصاف فضله
وأقام بدمشق ثلاثة أيام ثم خرج قاصدا الحاج حتى لحقه بالعلا ودخل المدينة الشريفة وتلقاه عسكرها ولبس الخلعة السلطانية تجاه الحجرة الشريفة كما لبسها ثمة أبوه ثم دخل مكة سابع ذي الحجة ختام سنة خمس وتسعين وألف من جهة أسفلها ووراءه المحمل المصري وجميع عسكر مصر والشام وجدة وركب بين يديه قاضي مكة وأحمد باشا حاكم جدة وكان موكبا عظيما فحج بالناس على أحسن حال وحصل لأهل الحرمين بقدومه غاية السرور وأستمر شريفا إلى أن توفي وكانت وفاته في اليوم الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وألف وولي بعده الشريف سعيد بن أخيه الشريف سعد ثم عزل وولي بعده الشريف أحمد بن غالب المولي أحمد بن المنلازين الدين العجمي الننجواني الأصل الدمشقي المولد والوفاة قاضي القضاة الملقب بالمنطقي الفاضل الأديب الشاعر الناثر أحد أفراد الدهر ومحاسن العصر كان فاضلا ساميا هضبات الأدب متفننا بليغا في أنشائه عذب المنطق سريع الفهم وبالجملة فقد كان روحا كله من فرقة إلى قدمه وكان ينظم وينثر في الألسن الثلاثة وهو فيما عدا العربي نسيج وحده ومفرد وقته وشعره فيما بين أهل الروم أغلى قيمة من الدر وذكر لي بعض الثقات منهم أن الأديب شاعر الروم في وقته سليمان البوسنوي المنعوت بمذاقي وهو ممن أدركته بالروم وسأذكره في كتابي هذا كان يقول في شعر المنطقي أن كل غزل من شعره يعادل ديوانا من شعر غيره وكنت وأنا بالروم جمعت من أشعاره حصة وافرة فأردت ذكر شيء منها ها هنا ثم منعني من ذلك أن أهل بلادنا ليس لهم اعتناء بهذا النوع وغالب النساخ عندنا لا يعرفون التركية فكثيرا ما يحرفون الكلم عن مواضعه فيقع التخبيط والحاجة ليست بماسة لذلك جدا نعم هي ماسة لدفع ما يقع بين أدباء العرب من السؤال عن قوافي أشعار الروم بسبب اتحادهافي الصورة ولو كثرت ويقولون أن هذا ايطاء تبعا للعربية فهذا يحتاج إلى بيان ولم أر من تعرض له إلا العماد الكاتب في خريدته فإنه قال وللعجم قلت والروم تبع لهم مذهب في الشعر فخالف لأسلوب العرب وهو أنهم يجعلون الكلمة الواحدة رديفا يرددونه في كل بيت مثال ذلك ما نظمه الشاعر
سل الصبا هل ورد الورد ... يا من عليه حسد الورد
ثم قال فالدال هي الروى عندهم والورد هو الرديف مثل هاء الضمير في أسودها وأغيدها قال وتذكرت هنا رباعيات لي وهي
أسمع ما قال عند ليب الورد ... فالبلبل في الروض خطيب الورد
الشرب على الورد نصيب الورد ... ما يحسن أن يضيع طيب الورد
وأيضا
كم حضر الراح وغاب الورد ... حتى عدم الراح فناب الورد
لما عبق الراح وطاب الورد ... قلنا جمد الراح وذاب الورد(1/124)
وهذا كلام وقع في البين ولكن ما خلا من فائدة فلنعد إلى تتمة ترجمة المنطقي فنقول وأما شعره العربي فقليل وقد أورد له والدي رحمه الله تعالى في ترجمته قطعتين أستحسنت أحداهما فأوردتها وهي هذه
سقت الرياض دموع عيني الجاريه ... فبدت تراجعها عيون باكيه
وسرت لأغصان الورود فأصبحت ... أكمامها منها قلوبا داميه
دمعي تبدل بالشرار وكيف لا ... وجحيم قلبي فيه نار حاميه
ماذا علي من الحجيم ولم تزل ... نار المحبة في وجودي باقيه
يا سادة لما بدا سلطانهم ... ملك القلوب من الأنام كما هيه
تلوى غصون قدودهم أيدي الصبا ... وقلوبهم مثل الحجارة قاسيه
لم يبق لي ثمن يقاوم وصلكم ... إلا المحبة والمحبة غاليه
الجسم ذاب من الجفا والقلب رهن عندكم والروح مني عاريه
منوا علي بنظرة فوحقها ... قسما بمن يحيى النفوس الفانيه
لو مر بي ميتا نسيم دياركم ... سرت الحياة إل عظامي الباليه
وذكر مبدأ أمره أنه ولد بدمشق وقرأ وبرع واشتهر وأشهر من أخذ عنه الشرف الدمشقي وبرز بروزا غريبا فجلس لألقاء الدروس وهو حدث السن جديد العذار فاجتمع في حلقه درسه جماعة من الأكراد والأعاجم ونبل قدره وعلاصيته وولي تدريس المدرسة السليمية بصالحية دمشق وكانت بيد العلامة عبد الرحمن بن عماد الدين العمادي وبعد مدة أعيدت إلى العمادي فسافر المنطقي إلى حلب وذلك في سنة خمس وعشرين وألف واجتمع ثمة بالوزير محمد باشا السر دار المعين من جانب السلطان أحمد إلى مقاتلة شاه العجم عباس خان فحظي عنده بأقبال كثير وقرر له المدرسة وعاد إلى دمشق بمهابة عظيمة وأقام بها مدة ثم سافر ثانيا إلى حلب صحبة محمود الرومي الدفتري بدمشق فأجتمع بقاضيها الأديب المنشىء المشهور عبد الكريم ابن سنان فأحسن اليمه كل الأحسان ولما عزل من قضاء حلب صحبه إلى الروم وكان ذلك في حدود سنة ثمان وعشرين وألف فدخل إلى دار السلطنة وأقام بها فرغب كثير من كبرائها في معاشرته لحسن محاضرته وأدبه وحظي عندهم ولازم ودرس بعد مدة بعدة مدارس وجمع مالا كثيرا وجاها عريضا وترقي في الشهرة حتى وصل خبره للسلطان مراد فأتخذه نديم مجلسه وكان يجتمع هو ونفعي الشاعر المشهور أحد الندماء في المجلس السلطاني ويجري بينهما مكالمات ومخاطبات تأخذ بالعقول وكان كل منهما شديد الحط على الآخر في غيبته ومن أبلغ ما وقع بينهما أن السلطان أمر صاحب الترجمة أن يهجو نفعي فهجاه بقصيدة أفحش فيها فلما سمعها نفعي استشاط غيظا وجزم على مكيدته وعرض في المجلس السلطاني بأن المنطقي يحسن محاكاة كل جيل من الناس وأن أحسن ما رآه منه محاكاة الفرنج في الملبس والمكالمة فنادى السلطان صاحب الترجمة وذكر له ما قاله نفعي عنه فحلف الإيمان الأكيدة أنه لم يصدر منه مثل ذلك قط وما زال يتخضع ويبكي حتى خلص نفسه من هذه الورطة التي كان أدنى عاقبتها القتل ولما تحرك الجند على السلطان وقتلوا الوزير الأعظم أحمد باشا الحافظ انقطع صاحب الترجمة عن صحبة السلطان خوفا من الجند ولزم زاوية العزلة وظهر السلطان بعد ذلك على الجند وقتل منهم من قتل وفرق شملهم فظهر المنطقي إلى الوجود إلا أنه ضرب بالحجاب بينه وبين صحبة السلطان كغيره من الندماء ولكنه بقي على التردد إلى مجالس الصدور كالمفتي الأعظم المولي يحيى بن زكرياء وغيره وكان كثير الحط على من يعاديه مغاليا في أظهار زيف أبناء عصره خصوصا أهالي بلدته دمشق وذكروا لدى في ترجمته أنه كان يوما في مجلس المفتي المذكور فوصلت إليه قصيدة أرسلها إليه أديب دمشق أحمد بن شاهين ومطلعها
لا يسلني عن الزمان سؤول ... أن عتبي على الزمان يطول
فناوله المفتى قرطاسها وأمره بقراءتها فابتدر يقرؤها ويحاكي ناظمها في حركاته وانشاده الشعر وكان على طريقة أبي عبادة البحتري في أنشاده الشعر يتشدق ويهز رأسه ومنكبيه ويشير بكمه ويقف عند كل بيت ويقول أحسنت أو أجدت أو ما شاكلها إلى أن أتم قراءتها على هذا الأسلوب فبلغ ابن شاهين ما فعله فجهز قصيدة ثانية إلى المفتي المذكور ومطلعها قوله(1/125)
غب لثم الأعتاب بعد الدعاء ... بشفاء لم تنو غير الشفاء
وذكر فيها فصلا يعرض بالمنطقي وهو في بابه مستعذب جدا وذلك قوله فيها
وأناس من الشآم نعتهم ... شامنا في جوانب الغبراء
تركتهم لا يألفون خليلا ... من جميع الورى لفقد الوفاء
خرجوا يطلبون فضل ثواء ... ليتهم قد رضوا بفضل الثراء
ألفوا الكسب من وجوه البرايا ... مادر واقدر مكسب الآباء
برح العجز فيهم فتراهم ... يبتغون الغداء وقت العشاء
قد أراقوا ماء الحيا والمحيا ... ثم حدوا في الكذب والأفتراء
ربما هجنوا لديك ثنائي ... ربما حسنوا لديك ازدرائي
ربما حاولوا حكاية صوتي ... فأخلوا بحسن ذاك الأداء
ليس عندي وأنت ذخري منهم ... غير مابا لجوزا من العواء
أنا يا سيدي سهيل عليهم ... وطلوعي يضر نسل الزناء
هذا البيت مأخوذ من قول المتنبي
وتنكر موتهم وأنا سهيل ... طلعت بموت أولاد الزناء
والعرب تزعم أن سهيلا إذا طلع وقع الوباء في الأرض وكثر الموت يقول فأنا سهيل على أولاد الزناء خاصة أي أنهم يموتون حدا لي وبعض الناس يقول أن ولد الزنا اسم لدويبة ترصف إذا طارت بالليل وأنها تموت إذا طلع سهيل ولا أدري صحته والله تعالى أعلم ولم يزل المنطقي على حالته المذكورة حتى صار قاضي قضاة حلب ونقل منها إلى قضاء الشام فوردها وكان سيره بها حسنا ومدحه شعراء ذلك العصر بالقصائد الطنانة وأجود ما مدح به قصيدة الأمير المنجكي التي مطلعها قوله
ورد الربيع فقم لحث الكاس ... ودع المقام بأربع أدراس
يقول منها في مديحه
قاض تود لو أنها فرشت له ... عند القدوم كواكب الأغلاس
بيديه حل المعضلات وكشفها ... وجلاية الجلى ورفع الباس
وله سهام عدالة لوفوقت ... تركت متون الجور كالأقواس
لما سهرت على مدائحه التي ... جعلت عداي من الردى حراسي
ود الهلال لو استقام وأنه ... أمسى لدي مكانة النبراس(1/126)
ووجهت حكومة الشام في أيام قضائه إلى مصاحب السلطان مراد الوزير مصطفى باشا السلاحدار فأرسل من قبله لضبطها رجلا يقال له عثمان الجفتلري وهو الذي صارحا كما مستقلا بالشام في سنة ثمان وأربعين وألف ووقف الوقف الذي له على أجزاء تقرأ في الجامع الأموي بعد صلاة الظهر في المغرية الصغيرة الوسطى قبالة محراب الحنابلة فأتفق أنه وقع بينه وبين صاحب الترجمة لمنعه أياه عن بعض المظالم فعرض فيه بما لا يليق عرضه وأسند إليه أمورا منها هدم قبة المزار المنسوب لسيدي عبد الرحمن حفيد سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه بمقبرة الفراديس وكان هدمه بسبب أنه كان يصير فيه بعض مناكر من الفساق ومنها أنه ورد أمر فتح قلعة روان حين أخذت من يد شاه العجم عباس شاه واتفق يومئذ وجود القاضي في الصالحية فأرسل إليه الخبر فتباطى في النزول وحضور الديوان ومنها أنه ربما أطلق لسانه في أركان الدولة ومنهم الوزير المذكور فبعد مدة قليلة من أرسال العرض ورد خبر عزله عن قضاء الشام ثم ورد أمر شريف بقتله فأخذ إلى قلعة دمشق وخنق بها واتفق يوم وصول خبر قتله دخول المولي عبد الله بن عمر معلم السلطان عثمان قاضي مصر إلى الشام وجرى ذكر المنطقي في مجلسه وما وقع له من الخنق فقال متمثلا أن البلاء موكل بالمنطق وكأنه أحال ذلك على سببية أطلاق لسانه في حق بعض الصدور وقيل في تاريخ قتله قل مسقط الرأس دمشق وحكي أنه لما ولي قضاء الشام ذهب إلى المفتى الذي ولاه المولي يحيى المذكور آنفا بالتشكر منه ففاء له بالتبريك بأن قال له أول شام وأخر شام وكان ذلك جرى على لسانه بالهام فوقع ما قاله وهذه اللفظة بستعملها أهل الروم من قبيل المثل ولم أقف على أصلها وأن كان معنى شقها الثاني صحيحا بأعتبار أن الشام أرض المحشر والمنشر وأما بأعتبار شقها الأول فما أدري وجه الأولية والله تعالى أعلم وبالجملة فقد عاش المنطقي حميدا ومات شهيدا فرحم الله تعالى فضائله ومعارفه وكانت ولادته في سنة ثلاث بعد الألف ومات صبيحة الجمعة ثالث عشر جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وألف وضبطت أمواله لجهة بيت المال و صلى عليه بعد أداء صلاة الجمعة في الجامع الأموي ودفن بمقبرة الفراديس بالقرب من قبر أبي شامة والنخجواني بفتح النون وسكون الخاء المنقوطة وضم الجيم ثم واو بعدها ألف ونون بلدة بالعجم معروفة الشيخ أحمد بن زين العابدين بن محمد بن علي البكري الصديقي المصري الشافعي أحد السادة البكرية شيخ وقته بالقاهرة وكان له الأدب الباهر والعلم الزاخر تصدر بعد موت عمه أبي المواهب وعقد مجلس التفسير في بيته بالأزبكية وجمع فيه علماء العصر وأذعنوا له وظهرت له أحوال باهرة وحج مرارا ورزق القبول التام في جميع حالاته وكان صاحب أخلاق حسنة وفيه سخاء وتلطف وقصده الشعراء من كل ناحية ومدحوه ومنهم فتح الله بن النحاس الحلبي فإنه مدحه بقصائد وأجودها قصيدته البائية التي مطلعها
عطف الغصن الرطيب ... وتلافانا الحبيب
وهي مشهورة فلا نطيل بذكرها سوى ما قاله منها في مدحه وذلك قوله
أحمد البكري في ... منبرها اليوم خطيب
ابن زين العابدين السيد البرالوهوب
ابن من يصدع بالحق ويقفو وينيب
ابن من كان به الغوث مع الغيث يصوب
شاهد الحضرة واختص وناجته الغروب
وأستمر الفيض للأستاذ والفتح قريب
بلبل الحق لسان الغيب هطال سكوب
صفع الدهر بكف ... مالها الدهر قتوب
قامع الكرب وقد حل من القلب الكروب
ضاحك الوجه وهل في ... طلعة القطب قطوب(1/127)
وقد ترجمه صاحبنا الفاضل مصطفى بن فتح الله في مجموعه فقال في حقه شهاب الأئمه وفاضل هذه الأمة وملث غمام الفضل وكاشف الغمه شرح الله تعالى صدره للعلوم شرحا وبني له من رفيع الذكر في الدارين صرحا إلى زهد أسس بنيانه على التقوى وصلاح آهل به ربعه فما أقوى وآداب تحمر خدود الفضل من آنافها خجلا وشيم أوضح بها غوامض مكارم الأخلاق وجلا وفلاح يشرق من محياه وطيب أعراق يفوح من نشررياه ولد بمصر وبها نشأ واشتغل بفنون العلوم وكرع من مشارع الفهوم وقرأ على عمه الأستاذ أبي المواهب وأبيه وغيرهما من مشايخ عصره وتصدر للأقراء بالجامع الأزهر فأشرق فيه نوره وأزهر وكانت له اليد الطولي في تفسير القرآن وإليه النهاية في علوم الطريق ومزيد الأتقان مع كرم يخجل المزن الهاطل وشيم يتحلى بها جيد الزمان العاطل وجاء عريض وتمكين ومكان عند الناس مكين يستلمون أركانه كما تستلم أركان البيت العتيق ويتنسمون أخلاقه كما يتنسم المسك الفتيق والنور يسطع من أسارير جبهته والعز يطلع في آفاق طلعته ومن مؤلفاته كتاب جعله على أسلوب لوعة الشاكي ودمعة الباكي سماه روضة المشتاق وبهجة العشاق وله شعر يدل على علو محله وأبلاغه هدى القول إلى محله فمنه قوله
أحن إذا جن الظلام تشوقا ... إلى زمن بالقرب زاد تألقا
وأقطع ليلى ساهرا متفكرا ... لعل زمان الأنس يسعف باللقا
قلت وله ديوان شعر أكثر ما فيه ألغاز وكان له فيها باع طويل فمن ذلك قوله
غزالة في بردها رافله ... تقتنص الأسد من القافله
في حرم الأمن وقد خلتها ... قائمة بالفرض والنافله
قلت لها رقي فقالت لمن ... كأنها عن مطلي غافله
ثم انثنت تلغزلي باسمها ... لغزا به أفكارنا كافله
ما اسم خماسي وتصحيفه ... شبه بدور لم تكن آفله
في سنة المختار خير الورى ... بيانه وهي له شامله
في سنة نبه مستيقظا ... وأن تشا في سنة كامله
ومن قوله أيضا
وحق حمرة خد ... تثير بالقلب جمره
تطفى لجمرة ثغر ... بيضاء في الكاس حمره
تجلى لخمرة فضل ... تزيد بالشرب خمره
ومن نثر له جواب لغز في الحوراء كتب به للوارثي المصري الآتي ذكره قريبا أجدت أيها الجهبذ الهمام وحليت بجواهر زواهر الدرر أجياد الكرام واستجليت على منصة فكرتك حور الجنان واستخليت بها في مقاصير الحسان فأفتر ثغر حسنها للقياك وروت لك رواية بشر عن الضحاك فصابح الله صباحة وجهك بوجهها الحسن ولا زالت تخدمك المعاني بأنضرفنن وله ملغزا في أشهب ما علم مفرد مركب وضع لحيوان يركب أن رفعت رأس زمامه دل على أسم جمع ناري في التزامه وأن أتيت برأسه إلى قدامه فأستعذ بالله من سهامه مع أنه على حقيقة الأنفراد أمام تزيد فيه اعتقاد وتقتدي بأمره ونهيه وعدله وقد شهد العلماء بفضله خصوصا أهل مذهبكم الشريف ولا يحتاج إلى تعريف وله غير ذلك وكانت وفاته في سنة ثمان وأربعين وألف وأرخ موته عبد البر الفيومي بقوله بجنة الفردوس أحمد يقيم أحمد بن سراج الدين الملقب شهاب الدين المعروف بابن الصائغ الحنفي المصري الشيخ الرئيس الطبيب الفاضل أخذ العلوم عن الشيخ الأمام علي بن غانم المقدسي والأمام الفهامة محمد بن محيي الدين بن ناصر الدين التحريري وولده الرئيس الشهير سري الدين وبه انتفع في الطب وتولي قديما تدريس الحنفية بالمدرسة البرقوقية ومات عن مشيخة الطب بدار الشفاء المنصوري ورياسة الأطباء قال الشيخ مدين وكانت ولادته كما أخبرنا به في سنة خمس وأربعين وتسعمائة وتوفي في شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وألف ودفن خارج باب النصر ولم يعقب إلا بنتا وتولت مكانه مشيخة الطب(1/128)
الشيخ أحمد بن سعد بن الحسين بن محمد المسوري اليمني كان هذا العلامة الحبر عظيم الشان جليل القدر واحد الدهر وفريد العصر وعالم السهل والوعر ذكره ابن أبي الرجال في تاريخه مطلع البدور ومجتمع البحور وأثني عليه بما لا مزيد فوقه ثم قال أصله من بلاد مسور واشتغل بالعلم وحرر العلوم وكان في العلوم النقلية والعقلية شيخها الأكبر وفي الأدب الذي فيه انحصرت مزاياه وبالجملة فإنه كان من الأفراد في اليمن وكانت دولة القاسم زاهية به وهو صدر مجالسهم ونور مقابسهم تصدر للأفادة والكتابة في مجلس الأمام القاسم ثم في مجلس ولده الأمام المؤيد بالله محمد ثم في مجلس أخيه القائم بعده أحمد أبي طالب ثم في مجلس أخيه الأمام المتوكل على الله اسماعيل وانتهت مدته في هذه الدولة وهو كاتب الأنشاء ومتقلد منصب الخطابة في حضرة الأئمة المذكورين وانتهى إليه علم اللغة والحديث والتفسير والنحو والصرف والأصلين والدراية بمناطيق العرب ومفاهيمها وما اشتملت عليه من الكنايات والأشارات وعلى كل حال فالواصف له مقصر وشيوخه كثيرون والآخذون عنه مثل ذلك قلت ومنهم أحمد بن صالح بن أبي الرجال وبه تخرج وإليه يشير في تاريخه كثيرا قال وله مؤلفات فائقة ومنشآت من خطب وغيرها بليغة وله من الورع مالا يحصر بقيد ولا وصل إليه عمرو بن عبيد مع تعاور العناية له في طاعة هؤلاء الأئمة وأنسجال ديم النفائس عليه وكانت الأئمة تراسله بالكتب والهدايا فيأباها ولا يرى في ذلك من الملوك عقباها فمن ذلك ما أجاب به على الأمير الكبير الشريف الحسين ابن أحمد الخواجي صاحب صنعا وقد كتب إليه كتابا وأصحبه هدية وبعد فوصل كتابكم الذي هو جواب جوابي عليكم مشتملا على وجوه من الخطاب صيرت ما كان سبق مني من الأحسان بإجابة الكتاب الأول ذنبا وما كنت أحسبه حمدا عند الله وعند خير عباده سبا إذ لم يقع مني ما صدر من البشر السابق لمن وصل إلي من الحضرة الأمامية من أخوانكم الشرفاء ثم جوابي لكم في كتابكم الذي ابتدأ به المولى إلا رعاية لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كنتم وأولئك الجماعة من أهل بيته وممن ينسب إلى ذريته ثم صيانة لعرض مولانا أمير المؤمنين ومحبة في أن يكون من في حضرته الكريمة من المكرمين كما جاء في الحديث النبوي المؤمن ألف مألوف وكنت أظنكم رعاكم الله وأولئك الجماعة ممن له في خوف الله نصيب وممن أقلع عما يوجب البعد من القريب المجيب وممن دعواه صادقة أنه لا يريد إلا الله ولا يسعى إلا في طاعته وتقواه فخدعتموني تالله فأنخدعت ولو أخذت بالحزم الذي هو سوء الظن لما أبعدت فحملتم تلك الحالة مني على ما زهدني والله وغيري من المؤمنين فيكم ونبهني على الحذر والريب في كل ما يصدر من قول أو فعل عنكم إذ أحللتموني محلا لست من أهله وكتبتم إلي بتصدير هديتكم المردودة إليكم غير مشكورة ولا محموده ولم ترها والحمد لله عيني ولا لمستها والمنة لله يدي إذ أردتم خديعتي عن ديني والتوصل بها إلى ما تريدون من أغراض الأهواء في هلكتي فأكون كما قيل
بت كأني ذبالة نصبت ... تضىء للناس وهي تحترق(1/129)
ومعاذ الله أن أكون ممن يبيع دينه بكل الدنيا فضلا عن عرض منها هو أقل وأدنى أو أن يحبط أعماله ويبطلها بإماطة الأوساخ عن الناس لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين وكيف أن بقي شيء من المعقول آمر الناس بالبر وأنسي نفسي وأتصدر لأمام الحق في أنشاء مواعظ يخطب بها على المنابر لنصيحة الخلق وأخونها وهي أعز الأنفس عندي على أني والمنة لله علي من فضل ربي وفضل أمامي في خير واسع ورزق جامع وأمل في كل بلاغ راتع ثم أنه لا يسلك أحد طريقة ألا وله فيها سلف يقتدي بهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول في خطبته والله لأن أبيت على حسك السعد أن مسهدا أو أجر في الأغلال مصفدا أحب إلي من أن ألقي الله تعالى ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد أو غاضبا لشيء من الحطام وكيف أظلم أحداً والنفس يسرع إلي البلى فقولها ويطول في الثرى حلولها والله لقد رأيت أخي عقيلا وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعا ورأيت صبيانه شعث الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم وعاودني مؤكدا وكرر علي القول مرددا فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقا يقيني فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها فضج ضجيج ذي دنف من ألمها وكاد أن يحترق من مسها فقلت له ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها أنسانها للعبه وتجرني إلى نار أضرمها جبارها لغضبه أتئن من الأذي ولا أخاف من لظي وأعجب من هذا طارق يطرقنا بملفوفة في وعائها ومعجونة كما عجنت بريق حية ارياقها فقلت أصلة أم زكاة وصدقة فذلك محرم علينا أهل البيت قال لاذا ولا ذاك ولكنها هدية فقلت هبلتك الهبول أعن دين الله أتيتني لتخدعني أمخبط أنت أم ذو جنة أما والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها خلب شعيرة ما فعلتها وأن دنياكم هذه لاهون عند الله من ورقة في فم جرادة ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لا تبقى نعوذ بالله من سيئات العمل وقبح الزلل وبه نستعين وأقرب أئمتي إليه أمام عصري بعد والده أمير المؤمنين القاسم بن محمد بن علي رضوان الله عليهم وهما جميعا ممن علم الخاص والعام سلوكهما تلك الطريق وتمسكهما بذلك الحبل على التحقيق ورفضهما الدنيا بعد ملك المشرق والمغرب ورضاهما منها بأدناها مع نفوذ أمرهما في العرب والعجم والبعد والقرب
والشمس أن تخفي على ذي مقلة ... نصف النهار فذاك تحقيق العمى
وأما آبائي الذين أنتسب إليهم فأدناهم أبي الذي ولدني كان والله كما ورد في الحديث النبوي يغضب لمحارم الله كما يغضب الجمل إذا هيج لا تأخذه في الله لومة لائم وكما قيل
القائل الصدق حتى ما يضر به ... والواحد الحالتين السر والعلن
ثم أخوه عمي الذي أدبني كان كما قال أمير المؤمنين على كرم الله وجهه في صفة المؤمن المؤمن بشره في وجهه وحزمه في قلبه أوسع شيء صدرا وأذل شيء نفسا يكره الرفعه ويشنأ السمعه طويل غمه بعيد همه كثير صمته مشغول وقته شكور صبور مغمور بفكرته ضنين بخلته سهل الخليقه لين العريكه نفسه أصلد من الصلد وهو أذل من العبد ثم أبوهما جدي المسمى سلمان أهل البيت الذي لا نعلم أن أماما من الأئمة مدح غيره بذلك فقال الأمام شرف الدين لولده شمس الدين بن أمير المؤمنين
جاءكم سلمان بيثي ... فأعرفن يا شمس حقه
ولرجواه فحقق ... وببشر فتلقه
وأنا بحمد الله لم أعرف غير سبيلهم ولا ربيت إلا في حجورهم وأني والناس لكما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى
يقولون لي فيك انقباض وأنما ... رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولم أقض حق العلم أن كنت كلما ... بدا طمع صيرته لي سلما
وما كل برق لاح لي يستفزني ... ولأكل من في الأرض ألقاه منعما
إذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لا خدم من لاقيت لكن لا خدما
أأشقي به غرسا وأجنيه ذلة ... إذا فأتباع الجهل قد كان أسلما(1/130)
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تهجما
اللهم أني لا أقول ذلك أفتخار إلى ولا تزكية لنفسي بل لما ينبغي من تجنب مواقف التهم معترف بأني أحقر من أن أذكرو أهون من قلامة الظفر ولكن مظلوم رفعت ظلامتي إليك كما قال زين العابدين رضي الله عنه يا من لا يخفى عليه أنباء المتظلمة ويا من لا يحتاج في قصصهم إلى شهادة الشاهدين ويا من قربت نصرته من المظلومين ويا من بعد عونه عن الظالمين قد علمت يا إلهي ما نالني من فلان إلى آخر ما ذكره في دعائه وحسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم هذا ولولا تحرج أمير المؤمنين علي في أعادة الجواب لما توجه مني بعد ذلك خطاب وهذا أن شاء الله تعالى بيني وبينكم آخر كتاب والسلام الشيخ أحمد بن سليمان القادري الدمشقي الشيخ العارف المعتقد المتفق على ورعه وديانته كان من أكبر مشايخ الشام في عصره له الخلق الحسن والشيم الزكية والكرامات الباهرة ورزق الحظوة التامة في اعتقاد الناس عليه بحيث لم يختلف في شأنه اثنان وكان له في التصوف حال باهر وكلمات رائقة نشأ على مجاهدات وعبادات وأخذ الحديث عن البدر الغزي وجلس على سجادة أبيه من بعده في سنة أحدى وخمسين وتسعمائة وكان في مبدأ أمره ساكنا في محلة الشلاحة بدمشق ثم انتقل إلى مدرسة الأمير سيف الدين قلج الأسفهلار المعروفة بالقلجية وعزل التراب الذي كان فيها من بقايا الخراب في فتنة تيمور وعمرها وأنشأ سبيلا بجوار تربتها وكان ذلك في سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة وقال مامية الرومي مؤرخا بناء السبيل
هذا السبيل الأحمدي ... لله لفيه خفا
وقد أتى تاريخه ... أشرب هنيا بل شفا
وبعدما أتم العمارة قطن بالمدرسة وأسكن في حجراتها عدة من الفقراء وكان يقيم حلقة الذكر في الجامع الأموي يوم الجمعة عقب الصلاة عند باب الخطابة وبالمدرسة المذكورة يوم الأثنين بعد العصر وكان يتعاطى الإصلاح بين الناس وعظم حيته وارتفع قدره حتى صارت الحكام والأمراء يقصدونه للزيارة ويتبركون بدعواته وكان لطيف المحاورة طريف المعاشرة يستحضر أخبار السلف ويوردها أحسن مورد وكان يكرم المترددين إليه ويضيفهم ويقبل عليهم وكان يكاشف الغالب منهم بأنواع المكاشفات قرأت بخط الأديب عبد الكريم الطبراني في بعض مجاميعه أنه وقع لصاحب الترجمة مكاشفة مع بعض الروميين وكان من جماعة خسرو باشا كافل المملكة الشامية وقد ذهب لزيارته فقال له اليوم يحصل لك حادثة فأحذرها ولا تخرج من مكانك حتى يمضي اليوم فلم يبال بما قاله وخرج من غير مشورة لجهة الكسوة لأمر أوجب ذلك فأتفق له أن ساق جواده ولا زال يسوقه حتى رماه على صخور وحجارة صلدة فهشم وبقي طريحا على الأرض لا يفيق ولا يعي ثم حمل إلى منزله واستمر يعالج نفسه إلى أن عوفي وأشهر ما يؤثر عنه لرد الضالة اللهم يا معطي من غير طلب ويا رازقا من غير سبب رد علي ما ذهب وبالجملة فإنه كان من الولاية في رتبة عاليه وهو فوق ما وصفته في كل منقبة ساميه وكانت ولادته في بضع وعشرين وتسعمائة وتوفي يوم الأحد لثلاث بقين من شهر رمضان سنة خمس بعد الألف وصلى عليه بعد العصر بالجامع الأموي ودفن في مدفن الأمير سيف الدين بالمدرسة المذكورة رحمه الله تعالى المولى أحمد بن سليمان الرومي المعروف بالأياشي قاضي القضاة بحلب ثم بالشام ولي الشام في سنة سبع بعد الألف وكان في ابتداء قضائه معتدلا وسلك مسلك الأنصاف ومدحه شعراء دمشق بالقصائد البديعه ومنهم أبو المعالي درويس محمد الطالوي فإنه كتب إليه قصيدة شينية استحسنها أدباء وقته مع صعوبة رويها ومطلعها
كيف أخشى في الشام أمر معاشي ... وملاذي بها جناب الأياشي
أفضل القوم من سما للمعالي ... فأعتلاها طفلا وكهلا وناشى
فهو بدر العلوم صدر الموالي ... من سماهم فضلا ولست أحاشي
ساق عدلا بالشام حتى شهدنا ... مشى ذئب الفلاة بين المواشي(1/131)
ثم تغيرت أحواله وفسدت أطواره واشتهرت في أيامه الرشوة وأبطل كثيرا من الحقوق حتى ضجر منه أهل دمشق وأعياهم الجهد وقامت عوامها على ساق فرجموه عند خندق القلعة بين سوق الأروام والعمارة الأحمدية وأفحشوا في رجمه وكان رجمه يوم دخول السيد محمد باشا الوزير إلى دمشق حاكما بها وقد كان طلع لأستقباله فكان الناس يشيرون إلى الوزير بالشكاية عليه في وجهه ويتظلمون وهو ساكت ولم يزل الناس ممسكين أيديهم عن الرجم إلى أن دخل الوزير المذكور إلى دار الأمارة ففارقه القاضي فأستقبله الناس عند انصرافه يصيحون في وجهه ويقابلونه بكلمات لا تليق وأعقبوا ذلك بالرجم حتى فر منهم هاربا وأدركه مع ذلك ما أدركه من الأحجار وهجاه بعد ذلك أبو المعالي المذكور بقصيدة طويلة سماها رفع الغواشي عن ظلم الأياشي وقسمها فصولا وجعل كل فصل في حال من أحواله وابتدأها ببيتين من شعر شيخه أبي الفتح المالكي مفتي المالكية بالشام وهما قوله
الشام تبكي بدموع غزار ... بكاء ثكلى مالها من قرار
بكاء مظلوم له ناصر ... لكن بعيد الدار والخصم جار
ثم ذكر فصولها فمن ذلك قوله مشيرا إلى ظلمه مع وكيله لرجل بدمشق يقال له عقيص مات وخلف ثلاثة آلاف قرش أخذ منها ألفا فقال
كيف أستحل ألف قرش لنا ... وجملة المال ثلاث كبار
وجملة الأوقاف في عهده ... تباع في الدلال بيع الخيار
ويدعى الرقة في طبعه ... مثل المخاديم الموالي الكبار
ثم عزل عن قضاء الشام بعيد رجمه بقليل واتفق عزله يوم عيد النحر من سنة ثمان بعد الألف فقيل في تاريخ عزله
رجم الأياشي في دمشق وجاءه ... عزل وكان العيد عيدا أكبرا
وسئلت عن تاريخه فأجبتهم ... بالعزل شيطان رجيم دمرا
وكانت وفاته في سنة عشر بعد الألف والأياشي بفتح الهمزة بعدها ياء مثناة ثم ألف فشين معجمة نسبة إلى أياش بليدة يصنع بها الصوف من نواحي أنقره ببلاد قرمان والله أعلم أحمد بن سنان المعروف بالقرماني الدمشقي صاحب التاريخ المشهور وأحد الكتاب المشهورين كان كاتبا منشئا حسن العبارة قدم أبوه سنان إلى دمشق وولي نظارة البيمارستان ونظارة الجامع الأموي وانتقد عليه أنه باع بسط الجامع الأموي وحصره وأنه خرب مدرسة المالكية بالقرب من البيمارستان النوري وتعرف بالصمصامية وحصل به الضرر بمدرسة النورية ببعلبك فقتل بسبب هذه الأمور هو وناظر السليمية حسين في يوم الخميس رابع عشر شوال سنة ست وستين وتسعمائة خنقا معا بدار السعادة بشاشيهما وعمامتاهما على رأسيهما ثم نشأ أحمد صاحب الترجمة بعد أبيه وصار كاتب وقف الحرمين ثم ناظره وكان حسن المحاضرة وله مخالطة مع الحكام خصوصا قضاة القضاة وعمر بيتا وحديقة بمحلة الجسر الأبيض من الصالحية وكان له حشمة وأنصاف في كثير من الأمور وجمع تاريخه الشائع وتعرض فيه لكثير من الموالي والأمراء المتأخرين وسماه أخبار الدول وآثار الأول وكانت ولادته في سنة تسع وثلاثين وتسعمائة وتوفي يوم الخميس تاسع عشري شوال سنة تسع عشرة بعد الألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى الأديب أحمد بن شاهين القبرسي الأصل الدمشقي المولد الأديب اللغوي الشاعر المنشى المشهور أصل والده من جزيرة قبرس بالسين المهملة لا بالصاد كما يغلط فيه العوام جزيرة بالبحر الشامي وهو من الفىء الذي أفاءه الله على الأسلام حين فتحها فأشتراه بعض الأمراء وتبناه وجعله من أجناد دمشق ومكث بعد الأمير يزداد في الرفعة حتى صار أحد الأعيان المشار إليهم بالتقدم وولد له أحمد هذا ونشأ وانتظم في سلك الجند ولما وقعت الفتنة بين علي بن جانبولا ذو العساكر الشامية وانتهى الأمر إلى انهزام العسكر الشامي وقتل منهم من قتل وأسر من أسر كان الشاهيني من جملة من أسر في تلك الوقعة ولما أطلق من ربقة الأسر اعتاض عن الوشيج والحام بالقراطيس والأقلام كما قال
صبوت إلي حب الفضائل بعدما ... تقلدت خطيا وصلت بلهذم
وصار مدادي من سواد محاجري ... وقد كان محمرا يسيل كعندم
ومارست من بعد القناة يراعة ... كأبيض مصقول العوارض لهذم(1/132)
ولزم الحسن البوريني وعمر القاري وعبد الرحمن العمادي وقرأ عليهم من أنواع العلوم وتأدب بأبي الطيب الغزي وعبد اللطيف بن المنقار حتى برع وصار أحد الفضلاء وعين الأعيان وكان مليح العبارة في الأنشاء جيد الفكرة حلو الترصيع لطيف الأشارة جوادا ممدحا منشيا بليغا حسن التصرف في النظم والنثر وكان الغالب عليه في أنشائه العناية بالمعاني أكثر من طلب التسجيع وله رسائل بليغة وآثار شائعة واختصر حصة من القاموس وزاد من عنده أشياء حسنة الموقع وسلك طريق علماء الروم فلازم المفتى الأعظم صنع الله بن جعفر وناب في القضاء بدمشق وتولي قضاء الركب الشامي في سنة ثلاثين وألف ولقي شريف مكة حينئذ الشريف أدريس بن الحسن ومدحه بقصيدة مطلعها
يا ربع صبري عاد فيك دريسا ... وهواي أمسى في حماك حبيسا
ودرس بالمدرسة الجقمقية بالفراغ من المنلا بستان الرومي نزيل دمشق وأعطي تدريس الداخل ونبل قدره وطار صيته ومدحه شعراء عصره بالقصائد السائرة ورأيت لبعض الفضلاء كتابا ضخما ضخما ألفه باسمه وسماه الرياض الأنيقة في الأشعار الرقيقه افتتحه بقصيدة رائية في مدحه أولها
رنا فرماني بسهم النظر ... وسل من الجفن سيف الحور
فأدمي فؤادي ولا منكر ... وأضحي يسائلني ما الخبر
ومن عجب عارف بالذي ... عراني ويسأل عما ظهر
ولما قدم حافظ المغرب أبو العباس أحمد المقري إلى دمشق أنزله في المدرسة الجقمقية واعتني به اعتناء زائدا وصدر بينهما محاورات جميله ومراسلات جليله فمن ذلك ما كتبه الشاهيني في تهنئة بعام جديد
عام جديد وجد مقبل ونهى ... فياضة وفهوم بتن كالشهب
فهل يرى البدر بدر الغرب في شرق ... بأن يرى النجم نجم الشرق في الأدب
واليوم ما زال سيارا وربتما ... يحل منزلة تنحط في الرتب
وأرسل إليه بهدية وخمسين قرشا وكتب إليه معتذرا وأجاد إلى الغاية
لو كان لي أمر الشباب خلعته ... بردا على عطفيك ذا أردان
لكن تعذر بعث أول غايتي ... فبعثت نحوك غاية الأمكان
والبيت الأول مأخوذ من قول الشريف الرضى
ولو أن لي يوما على الدهر امرة ... وكانت لي العدوى على الحدثان
خلعت على عطفيك برد شبيبتي ... جودا بعمري واقتبال زماني
فراجعه المقري بقوله
يا واحد العصر الذي بمديحه ... سارت ركاب المجد في البلدان
أو ليتني مالا أقوم بشكره ... مالي بشكر المنعمين يدان
ونظمت أشتات الكمال جواهرا ... أضحت تفوق قلائد العقيان
فالله يبقي من جنابك سيدي ... عين الزمان ومفخر الأعيان
وسيأتي لمراجعتهما طرف في ترجمة المقري أن شاء الله تعالى وكان الشاهيني على طريقة ابن بسام ويقفو أثره في عبث اللسان وشكوى الدهر وهجاء أبناء عصره وكان ابن بسام هجا أباه فضرب الشاهيني على قالبه ونسج على منواله حيث قال في أبيه
أقول لركب من معين وهم على ... جناح رحيل دائم الخفقان
أما أنه لولا فراق بكورنا ... يثبن إلى ردى بجذب عناني
ولولا أبي شاهين قص قوادمي ... لكان جناحي وافر الطيران
وقال
لما رأيت العيش من ثمر الصبا ... وعلمت أن العفو حظ الجاني
أدركت مالا سولته شبيبتي ... وفعلت مالا ظنه شيطاني
ولما مات والده في سنة أربعين وألف حزن لفقده وانعزل عن الناس مدة وكان كثيرا ما ينشد لنفسه وهو معتزل
ليس في دارنا التي نحن فيها ... من جميع الأوصاف والأحوال
حالة تشبه الجنان سوى ما ... قد عرفناه من فراغ البال
وقال يشكو من بيته
سئمت والله من البيت ... ليتي أراه فارغا ليتي
في كل يوم ألف تصديعة ... آخرها قارورة الزيت
وكان مع وفور أدبه قليل الحظ من دنياه لا يزال ضيق الحال شاكيا من دهره وله في هذا الباب ملح وتحف فمن ذلك قوله
وقائلة ما بال جدك عاثرا ... وأنت مقيل عثرة الكرماء(1/133)
فقلت ذريني لا أبالك ليس ذا ... عثار جدودي با عثار ذكائي
وقوله من قصيدة كتبها وأرسلها إلى شيخه العمادي المفتي يستدعيه إلى القصر الذي بناه بقرية كفر بطنا ومطلعها كفاك اغترابا أن تحل البواديا يقول فيها
ولو كنت ممن خيرته جدوده ... تخيرت أن أغدو لغمدان واليا
ولو ظفرت نفسي بمبلغ حقها ... سموت فنظمت النجوم مراقيا
وما رضيت نفسي سوى البدر صاحبا ... ولا أتخذت الأعطارد تاليا
ولا استوطنت إلا المجرة روضة ... ونهرا إذا رامت هناك التلافيا
ولو أن حظي راح يصحب همتي ... لبت على أيوان كيوان ساميا
غضبت لدهري حين غيري سما به ... وزاد له لما كرهت التساويا
زماني كحظي ثم حظي كدهره ... فما أنا عن دهري ولا عنه راضيا
وهي قصيدة طويلة تحتوي على حماسة عجيبة في بابها وغمدان في قوله تخيرت أن اغدو لغمدان كعثمان قصر باليمن بناه يشرح بأربعة وجوه أحمر وأبيض وأصفر وأخضر وبني داخله قصرا بسبعة سقوف بين كل سقف وسقف أربعون ذراعا كذا قاله في القاموس وقال يعض شراح المقصورة الدريدية غمدان بناء بصنعا لم يدرك مثله هدمه عثمان بن عفان رضي الله عنه في الأسلام وله رسوم باقية إلى الآن والذي بناه هو النعمان بن المنذر وفيه يقول الشاعر
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا ... في رأس غمدان دار منك محلالا
ومن عجيب خبر الشاهيني أنه امتحن باصطناع الكيميا وصرف عليها أموالا جمة ولم ينل منها طائلا ولما تحقق استحالتها في ذلك قال
لعمري لقد جربت كل مجرب ... من الناس أضحى يدعى العلم بالحجر
فإن قال أني واصل قلت كاذب ... غدا واصلا في الكذب للشمس والقمر
وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات من جملة قصيدة للطغرائي في هذا الفن وهي
يا طالب العلم عليه يدور ... في كتب الرازي وشرح الشذور
وجابر مع نجل وحشية ... وخالد الأول ذاك الحذور
إذا هو السهل القريب الذي ... أمات بالحسرة أهل القبور
كتب الرازي في هذا الفن كثيرة أشهرها سر الأسرار وشرح الشذور الذي عناه هو شرح الجلد كي لأنه أشهر شروحه وأما متنه فهو لسيدي علي بن موسى بن أرفع رأس المغربي وجابر هو ابن حيان الصوفي عبد الأمام جعفر الصادق رضي الله عنه وفيه يقول صاحب الشذور
حكمة أورثناها جابر ... عن أمام صادق القول حفي
يوصي طاب من تربته ... فهو كالمسك تراب نجفي
وابن وحشية أستاذ كبير في هذا الفن وخالد بن يزيد كان معاصر لجابر وهو أول من عرب الكتب الحكمية إلى لغة العرب وله الديوان المشهور بالفردوس وكون هذا الفن يوجب التحسر مما لا يحتاج إلى تفكر وما أحسن قول محمد بن عبد السلام
قد نكس الرأس أهل الكيميا خجلا ... وقطروا أدمعا من بعدما سهروا
أن طالعوا كتبا للدرس بينهم ... صاروا ملوكا وأن هم جربوا افتقروا
تعلقوا بحبال الشمس من طمع ... وكم فتى منهم قد غره القمر
ولشهاب الخفاجي
مولاي مثل الكيمياء وليس من ... اكسيره نفع لكسرى جابر
فإذا تصورناه فهو لنا غنى ... وإذا نجر به ففقر حاضر(1/134)
والأكسير شيء يوضع قليله على النحاس فيصير ذهبا وعلى الرصاص فيصير فضة وقد اشتهر في الكيميا وقال ابن عربي بصحته وكذا الشيخ البوني وكثير من العلماء ومن حوز تعاطيه شرط بأن لا تنقلب عينه عن معدن النقدين بعد ذلك وأنكره أبو حيان والحافظ السيوطي والتحقيق أن تعاطيه من غير علم يقيني عبث وضلال وفساد وعن مشاهدة من أستاذ عارف واختبار لمعدنه بحيث يبقي ذهبا أو فضة لم يتغير وإذا عرض أرباب الخبرة أجمعوا على أن معدنه صحيح جائز ونقل ابن شاكر عن العلامة عبد الرحيم بن علي الشهير بابن برهان وكان رحلة في علوم شتى وكان عريان الرأس أنه قال لو كان علم الكيميا حقالما احتجنا إلى الخراج ولو كان علم الطلاسم حقا لما احتجنا إلى الجنذ ولو كان علم النجوم حقا لما احتجنا إلى الرسل والبريد وقد خرجنا عما يعني إلى ضده فلنرجع لما نحن بصدده فنقول أن لابن شاهين قصد اغررا ومن أحسنها ديباجة قصيدته التي كتب بها شيخ الأسلام يحيى بن زكريا يمدحه بها ويطلب منه قضاء الحج وقد تقدم طرف من خبرها في ترجمة أحمد بن زين الدين المنطقي ومطلعها قوله
لا يسلني عن الزمان سؤول ... أن عتبي على الزمان يطول
طال عتبي كطول عمر تجنيه فعتبي بذنبه موصول
أنست بي خطو به فلو اغتال سوائي لعزني التبديل
وهذا ينظر إلى قول الشريف البياضي
ألفت الضنى لما تطاول مكثه ... فلو زال عن جسمي بكته الجوارح
وقول أبي الطيب المتنبي
حلفت ألوفا لو رجعت إلى الصبي ... لفارقت شيى مرجع القلب باكيا
رجع
وأحاطت سهامه بي حتى ... سد طرق المسام مني النصول
أخذه من قول المتنبي
فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال
رجع
أبتغي صفوة الحياة ضلالا ... وسواد الليال ليس يحول
أنا يا دهر لست إلا قناة ... لم يشنها لدي المكر النحول
أن أكن في الحضيض أصبحت أني ... في ذرى الأوج كل حين أجول
فطريقي هي المجرة في السير وعند السماك دأبي المقيل
صنت نفسي ترفعا عند قدري ... فكثير الأنام عندي قليل
فإذا قيل لي فلان تراه ... ذا جميل أقول صبري الجميل
وفرت همتي علي وعزمي ... ماء وجهي فسيف عرضي صقيل
قد عرفت الأيام قدما فلما ... أن دهتني أبت وعندي الدليل
أخذه من قول المتنبي
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علما
رجع
سلبتني بالغدر كل جميل ... غير فضلي ففاتها المأمول
أن هذا الزمان يحمل مني ... همة حملها عليه ثقيل
يتأذى من كون مثلي كأني ... أنا منه في الصدرداء دخيل
فكأني إذا انتضيت يراعا ... بسنان على الزمان أصول
وكأن المداد أذ رقمته ... أنملي والدموع مني تسيل
صبغة أثرت بحظي سوادا ... وأحالته وهي لا تستحيل
ليتني لو صبغت فودي منها ... فأرعوى الشيب وأستحال الفضول
لا أرى أنني انفردت بهذا ... كل أيام دهر مثلي شكول
ومن شعره
وأذكرني قد القناة قوامه ... وهزني الشوق اهتزاز المهند
وأزعجني حتى ظننت وسادتي ... علي وقد أمست كقطعة جلمد
على أنني يا شوق بالله عائذ ... ومستشفع من فتنتي بمحمد
وقوله في جبهة محبوب أثرت الشمس فيها
عجيب للشمس إذ حلت مؤثرة ... في جبهة لم أخلها قط للبشر
وإنما الجبهة الغراء منزلة ... مختصة في ذرى الأفلاك بالقمر
وما كنت أحسب أن الشمس تعشقه ... حتى تبينت منها حدة النظر
وقوله في مجدر
وقائله والشمس أعني وقد رأت ... قروحا على خد يفوق على الورد
أما تغتدى تهدي لحبك عوذة ... فقلت وهل تغني الرقي من أخي الوجد
فجاءته ولهى بالنجوم تمائما ... فأدهشها حتى نثرن على الخد(1/135)
وهو معنى حسن تصرف فيه وأصله قول بعضهم
كأنه غنى لشمس الضحى ... فنقطته طربا بالنجوم
ومن قوله المستجاد
نصل الشباب وما نصلت من الهوى ... وبدا المشيب وفي فضل تصابي
وغدوت أعترض الديار مسلما ... يوما فلم تسمح برد جوابي
فكأنها وكأنني في رسمها ... أعشى يحدق في سطور كتاب
وقوله أيضا
قد كان يمكن أن أكف يد الهوى ... عني وأعصي في البكاء جفوني
لكن لي صبرا متى استنجدته ... ضحك الهوى وبكت علي عيوني
وقوله في معذر
حفت رياض خدوده ريحانة ... فغدت لأزهار بها أكماما
وتحوطتها هالة لعذاره ... فتوهموه للبدور غماما
وقوله فيه أيضا
ومعذر كتب الجمال بوجهه ... سطرين بين مضرج ومدلج
فكأن خديه ولون عذاره ... ورد تفتح في ياض بنفسج
وسمع حكمة من قول بعض الحكماء المتقدمين وهي قوله الدنيا إذا أقبلت على المرء كسته محاسن غيره وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه فنظمها في قوله
وإذا أقبلت دنياك يوما على امرىء ... كسته ولم يشعر محاسن غيره
وأن أدبرت تسلب محاسن وجهه ... ويلقي شرورا في تضاعيف خيره
وله غير ذلك مما يطول شرحه ولا تنتهي محاسنه فلنقتصر منه على هذا المقدار وأما نثره فكثير وقد أوردت له كثيرا من منشآته في كتابي النفحة فليرجع إليه وقد ذكره البديعي في ذكرى حبيب في ترجمته طار صيت فضله في البلاد وسرى كلامه مسرى الأرواح في الأجساد وما سفرت رقة النسيم إلا عن خلقه الكريم ومن قاس جوده وكرمه بكعب وحاتم فقد ظلمه وأما اللغة فقد فصل مجملها وفرق معضلها وانتقد جوهري نظره صحاح ألفاظها وأظهر بفائق فكره غلط حفاظها فالقاموس جدول كتابه والعباب سيف عبابه ومن وقف في اللغة على كتابه الفاخر علم منه كم ترك الأول للأخر كما قال هو
لا تقل للأوائل الفضل كم من ... أول فضله نبا عن أخير
وإذا قرنت بدائع نظمه ونثره بكلام كل متقدم من شعراء الشام إلى عصره كانوا المذانب وهو البحر والكواكب وهو البدر هذا وكل اطناب في مدحه ايجاز وكل حقيقة له من المدح في غيره مجاز ثم ذكر ابتداء أمره كما ذكرت وأورد له شيئا كثيرا من شعره وبالجملة فإنه من نوادر الأيام وكانت ولادته في سنة خمس وتسعين وتسعمائة وتوفي في شوال سنة ثلاث وخمسين وألف ودفن بمقبرة الفراديس وكان يوم موته ماطرا جدا فقال الأمير المنجكي يرثيه
قلت لما قضي ابن شاهين نحبا ... وهو مولى يشير كل إليه
رحم الله سيدا وعزيزا ... بكت الأرض والسماء عليه
أحمد بن شمس الدين الصفوري الدمشقي الشافعي المعروف بالبيضاوي نزيل المدرسة الحجازية بدمشق الفاضل العالم المؤرخ ولد بقرية صفورية وقدم إلى دمشق وهو في سن الكهولة وقرأ على الشيخ محمد الحجازي وولده عبد الحق وخدمهما مدة طويلة وكان منعزلا عن الناس منكفا عن مخالطتهم رأسا وله تلامذة يأتون إليه ويقتبسون منه وله ملكة في العلوم وأطلاع زائد على علم التاريخ والوقائع وكتب كتبا كثيرة بخطه وضبطها بضبطه ولم يتزوج في عمره قط وكانت وفاته بدمشق في سنة ثمان وأربعين وألف ودفن بمقبرة الفراديس وسبب موته أنه كان ممتحنا بغلامين أحدهما من ابناء غوطة دمشق والآخر من أبناء دمشق وقد أقرأهما العربية والفقه وبرعا وكان الغلام الأول له بعض أقارب في قريته فأتفق أنهم زاروا قريبهم عند صاحب الترجمة ليلة دوران المحمل لأجل التفرج وأقاموا عندهم إلى نصف الليل ثم قاموا إلى البيضاوي والغلامين وهم نيام وقتلوهم وأخذوا جميع ما في المكان من مال وكتب وأسباب وقفلوا الباب وساروا ولم يشعر بهم أحد ثم بعد ثمانية من قتلهم فاحت روائحهم بالمدرسة وأعلم بذلك الحكام فكشف عليهم وغسلوا ودفنوا ولم يعلم قاتلهم غير أن حاكم العرب محمود البلطجي متسلم مصطفى باشا السلاحدار الظالم المشهور أخذ من المحلة ومن غالب قرى دمشق جريمة عظيمة نحو ألفي قرش والقصة مشهورة والله أعلم(1/136)
الشيخ أحمد الهادي بن شهاب الدين بن السقاف با علوي الحسيني قدس الله سره الموصوف بالجلالة والفخامة العالم العامل الولي كان أمام المعقول والمنقول عارفا بطريق القوم محتفلا بكتبهم مقتفيا لآثارهم الحميدة ملتزما لآدابهم مشتغلا في غالب أوقاته بأنواع العلوم من فقه وأصول وحديث وتفسيروآلات كنحو وصرف وكان له درس خاص في كتاب أحياء علوم الدين لحجة الأسلام الغزالي وكان مجاب الدعوة وكانت وفاته فجر يوم الثلاثاء من ذي القعدة سنة خمس وأربعين وألف بمكة ودفن بالمعلاة رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن شيخ بن عبد الله بن شيخ العيدروس اليمني الولي القطب المكاشف ذكره الشلي في تاريخه وقال في ترجمته ولد بمدينة تريم في سنة تسع وأربعين وتسعمائة يضبطها بالجمل الكبير عدد حروف ولي الله شمس الشموس وصحب جماعة من أكابر عصره منهم السيد عبد الرحمن بن شهاب والشيخ الأمام أحمد بن علوي باحجدب والشيخ أحمد بن حسين العيدروس ثم رحل إلى والده بالديار الهندية وأقام عنده بأحمد أباد ولاحظته عناية أبيه ثم سافر إلى بندر عدن وأخذ عن الأمام العارف عمر ابن عبد الله العيدروس وغيره ولازم أباه في دروسه ولما مات أبوه انتقل إلى بندر بروج وقصده الناس لألتماس بركته وحصلت له حال غيبته عن الأحساس وكان في حال غيبته يخبر بالمغيبات وأخبر جماعة بما هم متلبسون به في الحال وآخرين بما سيؤل إليه أمرهم ودعا لجماعة من أهل العلل والأمراض بالشفاء فعافاهم الله تعالى ولم يحتاجوا إلى استعمال الدواء وأخبر السيد عبد الله بن شيخ أن أباه شيخنا انتقل إلى رحمة الله بتريم وأن أخاه السيد عبد الرحمن قام مقامه وورد في الخبر بأن ذلك اليوم وقع فيه الأنتقال وأن الأمر كما قاله وله رحمه الله تعالى كرامات كثيرة وكانت وفاته يوم الجمعة لا ربع عشرة بقين من شعبان سنة أربع وعشرين وألف ودفن ببندر بروج رحمه الله السيد أحمد بن شيخان با علوي وتقدم تتمة نسبه في ترجمة حفيده أبي بكر الحسيني السيد الشريف ولد بالمخا وكان من أكابر الأشياخ الصالحين والأولياء المكرمين الكاملين وكان حاتم زمانه في الكرم مرتبا لغالب أصحابه كل سنة نقدا وكسوة وكان يكرم الوافدين ويحب الفقراء وكان يعمل كل يوم سماطا عظيما يجلس هو وجماعته وأصحابه ثم يجلس الخدام ومن حضر ثم العبيد وأهل الحرف الدنية ويفعل نحو أربعين رغيفا يجلس تحت بابه وكل من مر من الفقراء أعطاه رغيفا ولما مات والده استولى على مخلفاته أخوه السيد حسن وأبرأه صاحب الترجمة من جميعها وتعاطى التجارة ففتح الله تعالى عليه حتى اتسعت أملاكه واستوطن وصار يمد أخاه بالنفقة وبناته من بعده وزار جده النبي صلى الله عليه وسلم وحصل له مزيد الأكرام وعمي آخر عمره ولما زار النبي صلى الله عليه وسلم وقد كف بصره زار بعض الأولياء الذين يرون النبي صلى الله عليه وسلم وطلب أن يسأله هل قبلت زيارته فقال له قال النبي صلى الله عليه وسلم نعم قبلت زيارته فطلب منه أن يسأله أن يدعو الله تعالى أن يرد أحدى عينيه ليعيش بها وينظر إلى عجائب مخلوقاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم سيرد الله تعالى عليه عينيه فكان الأمر كما قال فإنه لما رجع إلى مكة أتى إليه رجل ففتح له عينيه واستمر إلى أن مات فجر يوم الجمعة ثامن رجب سنة أربع وأربعين وألف بثغر جدة فحمله ولده سالم من جده إلى مكة ووصل به ليلة السبت ودفن في صبح اليوم المذكور على أبيه وأخيه في حوطة آل باعلوي الشهيرة بالمعلاة وأرخ وفاته ولده سالم بعد أن رآه في منامه بقوله
شاهدت في عام الوفاة بليلة ... غراء أحمد قائلا نفسي أحمدي
أسكنت جنات النعيم نعم هي ... نزلا فتاريخ الوفاة تخلدي(1/137)
الشيخ أحمد بن صالح بن عمر القدسي العملي الفقيه الزاهد العابدين أخي الولي العارف بالله تعالى محمد العلمي المشهور من بيت الولاية والصلاح لهم الرتب العلية في البيت المقدس وخرج منهم علماء وصلحاء كثيرون وقد ظفرت بتمام نسبهم بخط بعض فضلاء القدس فيما كتب إلي منها من الوفيات هكذا عمر جد أحمد بن محمد سعد الدين بن تقي الدين بن القاضي ناصر الدين بن أبي بكر بن أحمد بن الأمير موسى ولي الله صاحب الكرامات بن عمر بن علم الدين بن ربيع بن سليمان بن المهذب بن قاسم بن محمد بن علي بن حسن بن أحمد الحكاري انتهى وكان أحمد صاحب الترجمة من عباد الله الصالحين له الورع التام والعبادة وكان ملازما للمسجد وصلاة الجماعة دائم التهجد والأوراد أخذ عن عمه التصوف ولازمه وانتفع به وفي آخر أمره رحل إلى دمشق فتوفي بها عشية الجمعة منتصف شوال سنة أربع وخمسين وألف ودفن بمقبرة الفراديس
الشيخ أحمد صفي الدين بن صالح بن أبي الرجال اليمني الأديب المؤرخ الوافر الأطلاع كان من أفراد اليمن وقور إذا أدب وسلامة لفظ وحسن تأنق ولطافة طبع فهو أنسان عين زمانه وأديب أوانه من سراة الأدباء والفضلاء بصنعاء وكان طلق الوجه حسن الشمايل حلقت عليه الدروس بمدينة صنعاء وشهاره وصعده وكان له اليد الطولي في المعاني والبيان وتفاسير القرآن وتقييد الفروع بالأصول ورد كل شيء إلى أصله وتولي الخطابة وأنشأ الخطب في خلافة الأمام المتوكل على الله اسماعيل بن القاسم ولازم حضرته وألف وقيد ومن أجود مؤلفاته تاريخه الذي جمعه لليمن وسماه مطلع البدور ومجمع البحور وهو تاريخ حافل في سبع مجلدات وذكر معظم علماء اليمن وائمتها ورؤسائها وقد وقفت بخط صاحبنا الأديب مصطفى بن فتح الله نزيل مكة على تراجم منه تتعلق بأهل هذه المائة فأدرجتها في محلها وأعجبني حسن أسلوبها ولطف تعبيراتها وكان ينظم وينثر فمن نظمه ما قاله يصف محاسن الروضة بصنعاء بقوله
روضة قد صبا لها السعد شوقا ... وصغا ليلها وطاب المقيل
جوها سجسج وفيها نسيم ... كل غصن إلى لقاه يميل
صح سكانها جميعا من الداء وجسم النسيم فيها عليل
أيه يا ماءها العذب صلصل ... حبذا يا زلال منك الصليل
أيه يا ورقها المزنة غني ... فحياة النفوس منك الهديل
روض صنعاء فقت لونا وطبعا ... فكثير الثناء فيك قليل
ته على الشعب شعب بوان وافخر ... فعلي ما نقول قام دليل
نهر دافق وجوفتيق ... زهرها فائق وظل ظليل
وثمار قطوفها دانيات ... يجتنيها قصيرنا والطويل
لست أنسى ارتعاش شحرور غصن ... طربا والقضيب منه يميل
وعلى رأس دوحه خاطب الورق ... ودموع الغصون طلا يسيل
ولسان الرعود تهتف بالسحب فكان الخفيف منها الثقيل
وفم السحب باسم عن بروق ... مستطير شعاعها مسطيل
وزهور الربي تعجب من ذا ... شاخصا طرفها المليح الجميل
فأنبرت قضبها تراقص تيها ... كخليل سقاه خمرا خليل
وعلى الجو مطرف الجو ضاف ... وعلى الشط برج أنس أهيل
فيه لي رفقة رقاق الحواشي ... كاد لين الطباع منهم يسيل
أريحيون لو تسومهم الروح لجادوا فليس فيهم بخيل
نتهادى من العلوم كؤوسا ... طيبات مزاجها زنجبيل
وغوان من المعاني كعاب ... ريقها حين رشفه سلسبيل
طاب لي دارها وطاب ضحاها ... كيف أسحارها وكيف الأصيل
وله أشعار غير هذه الأبيات ومنشآت وعلى كل حال فالمعارف هالة وهو بدرها والفضائل روضة وهو زهرها وكانت وفاته بصنعاء في سنة اثنتين وتسعين وألف رحمه الله تعالى(1/138)
الأمير أحمد بن طرباي بن علي الحارثي أمير اللجون من قبيلة حارثة ينتهي نسبهم إلى سنبس بكسر السين وسكون النون وكسر الباء الموحدة وبعدها سين مهملة من طي وهؤلاء القوم لهم قدم في الأمارة ما زالوا في جينين وما والاها من البلاد لهم العزة والحرمة وأحمد هذا انبغ من بيتهم وحيدا في المفاخر والشجاعة وكان له الرأي الصائب والطالع المسعود والعهد الوفي ولي في مبدأ أمره حكومة صفد ثم تولى حكومة اللجون بعد موت أبيه طرباي في سنة عشر بعد الألف ووقع بينه وبين فخر الدين بن معن حروب كثيرة وكان ابن معن توجه إلى بلادهم ثلاث مرات للمحاربة ورحل ابن طرباي إلى الرملة وكان في كل مرة يكسر عسكر ابن معن ويدحضه وأشهر وقعاته معه وقعة يافا وكان هو وحسن باشا حاكم غزة والأمير محمد ابن فروخ أمير نابلس فقتل من جماعة ابن معن مقتلة عظيمة وغنم غنيمة وافرة جدا ومما شارع له في صدق العهد ما وقع له مع ابن جانبولاذ مع ابن سيفا وكان ابن سيفا هرب إلى محل حكومة ابن طرباي فأكرمه وأظهر له ما يليق بأمثاله وكان ابن سيفا خرج إليه ومعه سبعة رجال من جماعته وكان معه من الأموال والذخائر مالا يدخل تحت الأحصاء فأرسل ابن جانبولاذ إلى ابن طرباي برسالة وذكر له أنه يجتهد في قتل ابن سيفا وله جميع ما معه من المال وأن لم يفعل جوزي بالعقاب الشديد فكان جوابه أن هذه كلمة لا تقال ومن وقع في مثل هذا فعثرته لا تقال ثم بادر إلى أكرام ابن سيفا أزيد مما كان عليه وأهداه خيولا وغير ذلك وكان من خطابه له لو كان لي مال لقدمته إليك ولكن عندي خيول وفيها جواد لم يعل ظهره أحد بعد أبي فهو لك مني هدية وأقام ابن سيفا عنده أياما إلى أن راسل عسكر الشام بأن يقدموا عليه حتى يأتي معهم إلى دمشق ولما وردو اتجهز معهم وأتى من طريق حوران إلى دمشق وتمام قصته نذكرها أن شاء الله تعالى في ترجمته في حرف الباء وكانت وفاة الأمير أحمد سنة سبع وخمسين وألف وقد قارب الثمانين وقد ولي الحكومة بعده ابنه زين وكان شجاعا عاقلا حليما ثم ولي بعده أخوه محمد وكان جوادا سمح الكف ممدحا توفي ليلة السبت سابع عشري جمادى الثانية سنة اثنتين وثمانين وألف ودفن بجينين وقام من بعده ابن أخيه زين المذكور وصالح ثم يوسف بن علي بن عمتهم إلى سنة ثمان وثمانين وألف فخرجت الحكومة عنهم ووليها أحمد باشا الترزي وتصرفت فيها السلطنة إلى يومنا هذا واللجون موضعان الأول مدينة بالأردن قديمة وهي قرية يسكنها بعض أناس قلائل حكي أن ابراهيم الخليل عليه السلام سكن هذه المدينة ومعه غنم له وكانت المدينة قليلة الماء فسألوه أن يرتحل عنهم لقلة الماء فضرب بعصاه على صخرة هناك فخرج منها ماء كثير حتى عم أهل البلد ببركته والصخرة باقية إلى وقتنا هذا والثاني منزل في طريق المدينة قرب البلقا والله أعلم(1/139)
مولاي أحمد بن عبد الله بن محمد الشيخ أبو العباس المنصور بن الخليفة المهدي ابن أبي عبد الله القائم بأمر اله الشريف الحسني ملك مراكش وفاس السلطان العالم الأديب كان من أمر جده الشيخ أنه كان في بداية أمره من أهل العلم وكان مجتهدا في تحصيل الكمالات فأطلع على شيء من الجفر ورأى أن طالعه يوافق الملك فصار قاضيا في نواحي السوس من ديار الغرب ثم وثب على بني حفص المنتسبين إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يزل يقاتلهم حتى ملك ديارهم وعفا من السلطنة آثارهم وقتل كثيرا من العلماء ومن جملة من قتل الشيخ الزقاق وكان يقول من قتل سوسيا كان كمن قتل مجوسيا فلما مسكه قال له أنت زق الضلال فقال له لا والله بل أنازق العلم والهداية فجعل عليه هذا الكلام حجة وبه قتله واستمر يؤسس قواعد ملكه إلى أن مات في سنة أربع وستين وتسعمائة وقام بالأمر بعده ولده عبد الله وتوفي فتولى الملك بعده ولد محمد أخو مولاي أحمد صاحب الترجمة وكان أكبر أخوته ولما جلس على سرير السلطنة أظهر مولاي أحمد المنصور أنه غير طالب للملك وأنه لا ينفق رأس مال عمره في غير ما للعلم من كنوز ومطالب فلما مات أخوه قام ولده في محله واستولى عليه الغرور وأشار عليه بعض خدمته بقتل من بقي من أعمامه فلما علم بذلك مولاي أحمد وجف بجيش من الروم ومعه أخوه وجيش من عنده وقاتله فتمت على ابن أخيه الهزيمة وذهب إلى ملك الفرنج فأمده ورجع إلى الحرب ثانيا فتقاتلا ولما تمت عليه الكسرة ثانيا أسرع إلى البحر وأغرق نفسه فتبرجت لمولاي أحمد عروس تلك الممالك وثبتت قواعده وارتفعت معاهده وكان موادعا لسلاطين آل عثمان فيرسل إليهم بالهدايا في كل سنة وكانوا هم يرسلون إليه المكاتيب والخلع السنية حتى أن السلطان مراد ابن سليم خان كتب إليه في اثناء مكاتيبه لك على العهد أن لا أمد يدي إليك إلا للمصافحه وأن خاطري لا ينوي لك إلا الخير والمسامحه ورسله دائما تأتي إلى قسطنطينية من جانب البحر ويمكثون زمانا طويلا ويتعهدون الوزراء ويكاتبون من له قرب إلى الدولة ولم يحصل لأحد من أولاد محمد الشيخ ما حصل لهذا المنصور فإنه قد طال في الملك مدته واتسعت مملكته وقويت شوكته وكان ابتداء ملكه من حدود افريقية إلى حافة النهر المحيط وملك حصة من بلاد السودان وكان ابتداء تملكه في آخر سنة خمس وثمانين وتسعمائة واستمر سلطانا ثمانية وعشرين سنة وكان له أولاده قد فرقهم في البلاد فجعل الأكبر وهو مولاي محمد الشيخ في فاس وجعل زيدان في مكناس وكان هو بنفسه يقوم في مراكش وكان سلطانا عادلا عظيم القدر حسن التدبير أديباله شعر نضير عليه رونق السلطنة أنشد له الخفاجي في كتابه قوله
حرام على طرف يراه منام ... وأني لجسم قد شفاه سقام
وكيف بقلب في هواه مقلب ... وأين له بين الضلوع مقام
فيا شادنا يرعى الحشا أنت بالحشا ... أما لمحل أنت فيه ذمام
والبيت الأخير مما تداولت بمعناه الشعراء وأجود ما قيل فيه قول الأرجاني
يرمى فؤادي وهو في سودائه ... أتراه لا يخشى على حوبائه
ومن البلية وهو يرمي نفسه ... أن تطمع العشاق في أبقائه
وقول مهيار
أودع فؤادي حرقا أودع ... ذاتك تؤذي أنت في اضلعي
أمسك سهام اللحظ أو فارقها ... أنت بما ترمي مصاب معي
موقعها القلب وأنت الذي ... مسكنه في ذلك الموضع
ومن المشهور من شعر مولاي أحمد
لاولحظ علم السيف فقد ... وقوام كفنا الخط ميد
ووميض لاح لما ابتسمت ... من ثنايا مثل درأ وبرد
ما هلال الأفق إلا حاسد ... لعلاها وبهاها والغيد
ولذا صار عليلا ناحلا ... كيف لا يفنى نحولا من حسد
وهذا منوال لطيف وأسلوب ظريف تنوعت في قوالبه الشعراء ومثله في حسن موقع القسم قول ابن المعتز في قصيدة
لا ورمان النهود ... فوق أغصان القدود
وعناقيد من الصدغ وورد من خدود
وبدور من وجوه ... طالعات بالسعود
ورسول جاء بالميعاد من غير وعيد
ونعيم من وصال ... وشقا طول الصدود(1/140)
وما رأت عيني كغيد ... زرنني في يوم عيد
وهذا القسم وأمثاله عد من المحسنات البديعة وإليه أشار صاحب الكشاف أيضا ولم يفهمه كثير من الأدباء لظنهم أنه من معاني الكلام الوضعية ولا وجه لجعلها محسنة ووجه حسنه أنه لما بولغ في عظم الشي أقسم بغير الله تعالى أعلاما نشرف المقسم به ففيه نكتة زائدة على مجرد القسم ألا ترى إنهم لم يعدوا والله وتالله وبالله من القسم الأصطلاحي انتهى ومن املاء حافظ المغرب أحمد المقري لمولاي أحمد قوله
أن يوما لنا ظري قد تبدي ... فتملي من حسنه نكحيلا
قال جفني لصنوه لا تلاقي ... أن بيني وبين لقياك ميلا
ومن أدبه الباهر أن بعضهم أنشده قول الأبيوردي
ولو أني جعلت أمير جيش ... لما حار بت إلا بالسؤال
لأن الناس ينهزمون منه ... وأن ثبتوا لأطراف العوالي
فقال لو كان البيت لي لقلت
ولو أني جعلت أمير جيش ... لما حاربت إلا بالنوال
قال الخفاجي وأين كلام سائل مل السؤال من كلام ملك يملك القلوب بالنوال انتهى وقيل عليه رأى مولاي أحمد رأى الملوك فإن ذلك شأنهم ومن هذا ما قيل في شواهد المطول
والجراحات عنده نغمات ... سبقت قبل سيبه بنوال
وهذا أبلغ من قول ابن النبيه
وتهزه في السلم نغمة طالب ... طربا ويوم الحرب صرخة ضارب
وقد أشار إلى ماجنح إليه مولاي أحمد بن الرومي في قصيدة طويلة مشهورة بقوله
وحارب من نعمائه ريب دهره ... من البر والمعروف جند مجند
ومنها قوله
له صورة مكننة في سكينة ... كما اكتن في الغمد الجراز المهند
بجهل كجهل السيف والسيف منتضي ... وحلم كحلم السيف والسيف مغمد
قال الخفاجي انتقدت عليه أنه كرر السيف أربع مرات وثلاث منها محل الأضمار ومثله يخل بالفصاحة ثم قال ورد بأنها كدعائم الخبا لو رفعت واحدة انهدم ووجهه أن تغاير الصفات منزل منزلة تضاد الموصوفات وكذا تغاير أوقاتها وكررت هنا لتدل بطريق الكناية الأيمائية على ذلك حتى كأنه السيف ودلالة اللفظ عليه في كل حال بمنزلة دلالة المشترك على معانيه وهذا نقله الشيخ في دلائل الأعجاز عن الصاحب انتهى ملخصا وكانت محظية من حظايا مولاي أحمد غضبي فجاءه رجل من بستان بوردة في أول ظهور الورد فأرسلها لها مع هذه الأبيات استعطافا لها
وافي بها البستان صنوك وردة ... يقضي بها لما مطلت عهودا
أهدى البهار محاجرا وأتى بها ... في وقته كيما تكون خدودا
فبعثتها مرتادة بنسيمها ... تثني من الروض النضير قدودا
وبالجملة فأشعار المنصور كلها جارية على نهج الرقة والعذوبة وفيما أوردناه له كفاية وأما جلالة شأنه وعظم قدره فمما تكفلت بهما شهرته وأخباره وحاشية من العلماء والأدباء كالمقري والثعالبي وأضرابهما وتوفي في سنة اثنتي عشرة بعد الألف أحمد بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن فضل بن عبد الله بن محمد بن الفقيه سعد بن محمد بن القاضي أحمد بن محمد بن الفقيه فضل بن محمد بن عبد الكريم بن محمد بأفضل إلى هنا انتهى نسب آل بأفضل الفاضل المشهور بالسودي أحد الأعيان وفضلاء الزمان كان من أفضل أهل زمانه في العلوم وأعرفهم بالعربية على الأطلاق ومن أحذق الحذاق حفظ القرآن والجزرية والأجروميه والملحة وأكثب الألفية وقطعة من المنهاج وحفظ كثيرا من الدواوين ومن كلام العرب وأخذ عن السيد عبد الله ابن شيخ العيدروس علم التصوف ولبس منه الخرقة وصحبه مدة مديدة وتخرج به في علوم شتى ثم صحب ولده زين العابدين ولزمه وتخرج به في المتون والأصطلاحات وأخذ الفقه عن الفقيه محمد بن أسماعيل والسيد عبد الرحمن بن شهاب الدين وسمع من خلق لا يحصون وبرع في أصول الدين والحديث والعربية والتصوف ودرس وصنف ومن تصانيفه حاشية على القصيدة الطرافعية وله ديوان شعر ونظمه كثير حسن ولذلك لقب بالسودي وكانت وفاته في سنة أربع وأربعين وألف كذا ذكر خبره الشلي ولم يورد له شيئا من شعره وأنا لم أطلع على شيء من آثاره فلهذا اقتصرت على ما رأيته في تاريخ الشلى والله تعالى أعلم(1/141)
الشيخ أحمد بن عبد الله بن أحمد بن عبد الرؤوف بن يحيى الواعظ المكي الشافعي تلميذ الشهاب أحمد بن حجر من ثدور الأفاضل وأعيان الأمائل ولد بمكة وبها نشأ وحفظ القرآن والأرشاد وألفية العراقي وألفية ابن مالك وجمع الجوامع واشتغل بالعلم على أكابر الشيوخ المكيين وأخذ عن الشيخ عبد الله باقشير عدة علوم كالفقه والأصول والعربية والعروض والمعاني والبيان وتفقه بالشيخ عبد العزيز الزمزمي ولازمه مدة حياته وجلس للتدريس في محله بالمسجد الحرام بعد وفاته وأخذ عن الشيخ علي بن الجمال والشمس البابلي وأخذ التصوف عن العارف بالله سالم بن أحمد شيخان وتلقن منه الذكر وأخذ عنه الطريق ولبس منه الخرقة وأخذ عن الشيخ محمد بن علوي والسيد عبد الرحمن المغربي والشيخ عبد الواحد بن العرب صاحب القنفدة وأخذ عنه جماعة وكانت الفتاوى ترد عليه فيجيب عنها بأحسن جواب وأعذب خطاب وكان باذلا نفسه لأصلاح ذات البين وإذا تصدر في قضية تمت على أحسن حال وذلك يدل على حسن نيته وطيب طويته وكان ينظم الشعر وشعره سهل القياد مستعذب وذكره السيد علي بن معصوم في سلافته فقال في حقه أديب بد أقرانه ونفق أدبه في زمان كساده أحسن نفاق بقريحة وقاده وذكاء ملك به زمام الأدب وقاده مع مشاركة في العلوم الشرعيه وقيام بشروطها المرعيه إلا أنه ما طلع بدره حتى أفل ولا ورد ظعنه حتى قفل فمات دون الأكتهال ولم يسعفه الدهر بأمهال وله شعر لا يقصر عن السداد وأن لم يكن بطلا فممن يكثر السواد وأورد له قوله في الغزل
حو يدي اليعملات بسفح حاجر ... رويدا في قتيل ظبأ المحاجر
فتى شرخ الشباب عليه ولي ... بذات الأبرقين وذي المحاجر
منازل كن للأفراح مغنى ... وللأرواح سالبة فحاذر
أخانا في الغرام سألت نصحا ... فرأى العاشقين بأن تهاجر
فكم من عاشق أضحى حزينا ... فلما حل في حزن المهاجر
يباشر بالوصول إلى مقام ... ترامى فيه أعناق الأكابر
وألقي بالعصي وحل نادى ... ربوع المربع الغيد الجآذر
لقد أصبحت فيهم مستهاما ... فوا شوقي إلى تلك المشاعر
لعمري أنني فيهن صب ... فمن لي أن أكون لهم مسامر
قلت وقد وقفت له على أشعار أجود من هذه الأبيات فمن جملتها قصيدته التي يستغيث فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم في معرض عرض له ومطلعها قوله
يا صاحبي حققا ميعادي ... وانطلقا لأخصب الوهاد
ولاحظاني في السري فإني ... نضو هوى مقرح الأكباد
قد ترك الجفن منامه فلا ... يأوى إليه وافد الرقاد
وظل شرخ العمر في بياضه ... أشرق من أشعة الأفواد
فعرجا بمسرح السرب الذي ... ليس له مرعى سوى فؤادي
وخفضا عليكما وخليا ... دمعي السفيح رائحا وغادي
يرمل في جرعائها معتسفا ... لا يعتريه وهن الوخاد
ويجعل الحصبا عقيقا أحمرا ... من النجيع الأحمر الفرصادي
ويجعل القاع لهم أعقة ... يكرع منها كل صب صادي
وزفرة قد غرست بمهجتي ... وطلعها في لمستي بادي
تتابعت حتى يخال أنني ... من فرق لنجدهم أنادى
أذابت القلب سوى ما أحرزوا ... لما أتوا من وسط السواد
وعاذل يعبث بي لو أنه ... يجديه ما خط بلا مداد
يتمق العذل يخال أنه ... يمازج التشكيك بأعتقاد
كأنما يرقم في كوثر ما ... أفرغ في الفؤاد من وداد
لا يقبل التعنيف في الهوى سوى ... من يقتني غير هوى سعاد
واحر قلباه وبرد المشتهى ... هيهات كيف مجمع الأضداد
ذادوا العيون عن ورود هائم ... زادت على الأنواء للوراد
ماحق طرف جاد إذ قد ضن نؤ الطرف أن يحمى عن الميراد
هيهات لم يبرح يروم نظرة ... من حضرة الأسعاد والأمداد(1/142)
من حضرة المختار طه أصل مبنى الكون في الأتقان والأيجاد
من نور ذي العرش الرفيع كنهه ... تواتر قد جاء بالآحاد
في قول لولاك أشارة ولا ... خفاء للمريد في المراد
يدريه من يرى الشؤن جمعت ... في مغرد مجتمع الأفراد
فآدم الآبا وغيره له ... فرع على معنى حلى الراد
وذاك معنى أنه أصل الوجود أول في البسط للأعداد
فأعجب له ختما نبيا أولا ... قد جاء بالتحقيق في الأسناد
الواضح الحق الصحيح حسبما ... حرره أئمة الأرشاد
وبعد أن زان جمال وجهه ... وجود ما جاء الكمال هادي
فقام بالتوحيد داعيا له ... وراقب المدعون بالمرصاد
ومهد الشرع القويم للورى ... مبين الميعاد والأيعاد
وشت شمل الكفر بانتظامنا ... في سلكه كالعقد في الأجياد
فابتهج الكون نضارة به ... وصدحت في دوحها الشوادي
وخفقت ألوية النصر على ... سكون ريح الكفر والأعادي
وزمزم الرعد على مسرى الظبا ... وشقت السحب ظبي الغوادي
وأصحك الروص مسرة على ... بكاء ذي التاج والأيلاد
وأحيت الأنواموات الجدب من ... مرتبع التلال والوهاد
ونتجت من صلبه أئمة ... قادوا إلى الإيمان والأرشاد
من مظهر الزهراء ذات الفخرفي ... حظائر التقديس والأسعاد
من حيدر علي الطهر أمير المؤمنين سيد الأمجاد
قد أعرضوا عما به الناس عنوا ... وصرفوا الوجه إلى المعاد
تزهدوا وذاك من صفاتهم ... ذاتا وهل يخفي شميم الجادي
قد شرفوا على الورى فحبهم ... نص الكتاب عن حصى التعداد
يا سيد الرسل ويا خاتم من ... قد خصصوا بوافر الأيادي
يا خير مبعوث على ظهر الثرى ... بسيبه أخصبت البوادي
يا من هو الأولى بكل مؤمن ... من نفسه من سائر العباد
خفف علي حوبة جنيتها ... قد جرعتني غصص البعاد
وعرضتني هدفا لأسهم الأغراض لا أخلو من العوادي
وأخلقت صبري وجدت طمعي ... في أن أرى في هذه النوادي
وضاق ذرعي فذريعتي إلى ... إلي رحابك الفيحاء سوق الحادي
فحل عقدي يا ملاذي مثل ما ... حللت عقد العسر بالأنقاد
وأطلق القيد المحيط علني في سوحكم أنحل من قيادي
فأنت كهف المرتجين في الورى ... وغيرهم في زمر القصاد
وأنت مقصودي وأنت موئلي ... وعمدتي في السهل والشداد
وأنت باب الله كا من أتى ... من غيره يسام بالأبعاد
فمن دنا من سوحه ملتمسا ... بادره العفو إلى المراد
وعمه الفضل فقال شاكرا ... قد كثرت ذخائر الفؤاد
صلى عليك الله ماتلألأت ... صفاتك البيض على السواد
وهي على عروض قصيدة الفتح ابن النحاس التي مطلعها قوله
قد نفدت ذخائر الفؤاد ... فلم أرد الدمع للسهاد
وله غير ذلك والأقتصار من البلاغة وكانت وفاته لا ربع بقين من المحرم سنة سبع وسبعين وألف رحمه الله تعالى(1/143)
الشيخ أحمد بن عبد الله بن حسن بن محمد بن عبد الله باعنتر السيووني الحضرمي الشافعي الأمام الجليل العلامة صادق اللهجة شديد الحزن من خوف الله تعالى خفيف النفس لطيف الذوق حسن المحاضرة ولد في سنة اثنتي عشرة بعد الألف بالحوطة من أعمال سيوون من وادي حضرموت وببلده حفظ القرآن ثم رحل من مكة وأخذ بها عن جمع منهم الشمس البابلي ومحمد على بن علان ومحمد الطائفي وعلي بن الجمال وعبد الله باقشير وعيسى بن محمد الجعفري وتلقن الذكر وليس الخرقة من الصفي أحمد القشاشي ومهنا بن عوض بامزدوع الحضرمي وأقام بالطائف ملازما للقراءة والأفادة معتزلا عن الناس وكان عاملا بالعلم لا يخشى في الله لومة لائم مهابا موقرا في النفوس عليه سيما الصلاح والتقوى طاهرا متقشفا في ملبسه معتقدا عند الخاص والعام وكان أهل الطائف لا يصدرون إلا عن أمره ولهم فيه اعتقاد ومحبة زائدة وكان والده كثير المال عقيما فشكا حاله للسيد شيخ بن عبد الله بن شيخ بن طه باعلوي فقال له أذهب للسيد علوي بن أحمد العيدروس ببتي قرية من أعمال تريم تقضي حاجتك فذهب إليه فوجد في طريقه لصافهم اللص بفعل سوء به فتمثل له فارس منعه من ذلك ووصل إلى مقصده فلما رآه السيد علوي قال له بعد أن سلم عليه قد حميناك من العدو وأرجع فقد حصل لك مقصودك فرجع من حينه إلى بلده وواقع زوجته فحملت بصاحب الترجمة تلك الليلة هكذا حكى بعض الحضارمة ومن مؤلفاته شرح القصيدة المسماة بالحديقة الأنيقة التي أولها إلى كم ذا التماد وأنت صادي وشرح بانت سعاد وذيل على تاريخ المدينة للمرجاني في مجلد وكانت وفاته بالطائف يوم الجمعة سابع شهر رمضان سنة أحدى وتسعين وألف وفن بالقرب من تربة الأمام عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما الشيخ أحمد بن عبد الله بن أبي اللطف البري الحنفي الخطيب المدني أحد أعيان العلماء بالمدينة وانبل من بها من رؤساء العلم المشهورين بالبراعة وحسن العبارة مع بديع الشعر الرائق والنثر الفائق وحفظ أحاسن المحاسن من أخبار المتقدمين ولطائف المتأخرين وطال عمره في عزة ورفعة وكان بليغا حسن العبارة ولد في سنة عشرة بعد الألف بطيبة الطيبة وبها نشأ وقرأ القرآن بالروايات وأخذ عن علمائها ورحل إلى مكة وأخذ بها عن جمع وأجازوه منهم العلامة عبد الملك العصامي صاحب التصانيف الفائقة المفيدة الآتي ذكره ومنهم الشيخ عبد الرحمن بن عيسى المرشدي وكان بديع المحاضرة عالما بوضع كل شيء من فنون المحاضرة في موضعه وكان بينه وبين الشيخ محمد ميرزا ابن محمد الدمشقي ثم المدني الآتي ذكره مودة أكيدة وكان في يوم الجمعة عالبا يأتيه إلى بيته ويتذاكرون ببديع الفرائد وفرائد القلائد وله أشعار حسان ونثر حسن لا سيما خطبه التي كان ينشيها حال مباشرته بالمسجد النبوي فإنها فائقة بليغة ولما وصل القاضي الفاضل تاج الدين المالكي المكي للمدينة فأنها فائقة بليغة ولما وصل القاضي تاج الدين المالكي المكي للمدينة الشريفة سنة خمس وأربعين وألف ومدح أهلها بهذه الأبيات وهي
يا ساكني طيبة فحرا فقد ... طابت فروع منكم والأصول
وآية الأنصار فيكم سرت ... كأنما المقصود منها الشمول
تصفون محض الود من جاءكم ... فما عسى مادحكم أن يقول
؟وليهنكم ما قد خصصتم به فيا لها خصيصة لا تزول
جاورتم المختار خير الورى ... وفزتم في سوحه بالحلول
فأجابه صاحب الترجمة بقوله
أعظم بأهل الركن من سادة ... في مفرق العلياء جروا الذيول
جيران بيت الله من قدرهم ... تحار في درك مداه العقول
بمكة حلوا فحلوا بها ... جيد المعالي حلية لا تزول
من مثلهم والفضل حق لهم ... ومنهم التاج أمام النقول
رئيس هذا العصر من جلة ... سمادع غر كرام فحول
أكرم به إذ قال من أجلنا ... طابت فروع منكم والأصول
وآية الأنصار فيكم سرت ... لكنني بالأذن منكم أقول
يا نخبة الأنصار منكم لنا ... حتى شهدتم وصفكم لا يحول
وأنتم جيران ذاك الحمى ... والآن أنتم في جوار الرسول(1/144)
جمعتم فضلا إلى فضلكم ... فسدتم الناس وحق المقول
فالله رب العرش سبحانه ... يوليكم الحسنى وحسن القبول
حتى توافوا القصد في نعمة ... تترى وعمر في سرور يطول
ودولة الأفضال تسمو بكم ... وتزدهي طورا وطورا تصول
ما غردت ورقاء في دوحة ... غنا وغنت حين طاب الدخول
ومن لطائف ما وقع له مع القاضي تاج الدين المذكور أنه رأى في المنام في العام الذي زار فيه التاج في المدينة كأنه في مجلس الدرس في الروضة النبوية وإذا بالقاضي تاج الدين داخل من باب السلام وهو قاصد الحضرة الشريفة فلما قضى الوطر من التحية والزيارة جاء بفضله وجلالة قدره إلى المجلس وقعد بعد تلقيه وتقبيل يديه وأشار بهذين البيتين
أمولاي تاج الدين لا زلت ذا على ... على الهام والأوهام ليست بذي فطن
إذا كنتم في مجلس كان أهله ... بأجمعهم خرسا وأنت اك اللسن
ثم انتبه وهو حافظ البيتين ثم لم تكن إلا نحو عشرة أيام من هذه الرؤيا حتى وصل القاضي وكان دخوله المسجد الشريف من باب السلام وصاحب الترجمة في مجلس درسه على الصفة التي كانت في الرؤيا ثم لم يلبث أن جاء إلى المجلس فتلقاه البري وجلس في الموضع الذي جلس فيه وأشار باستمرار القراءة جريا على عادته في التفضل والأحسان والجبر فألقي الكراريس وأنشده البيتين ثم أخبره بالرؤيا فقضى العجب واستسر ثم بعد قيامه من المجلس أنشده قوله معتذرا ومتشكرا
لئن كان قدري مثل ما قلت عندما ... تواضعت إذ طبقت كتبك في الوسن
فقد صح بالأحرى أتصافك بالذي ... وصفت به الملوك من ظنك الحسن
لأني وأن أحرزت ذاك فأنني ... لديك أخو صمت وأنت لك اللسن
وكانت وفاته لست بقين من صفر سنة اثنتين وتسعين وألف ودفن في بقيع الغرقد ورثاه جمع منهم تلميذه أحمد بن شيخنا المرحوم ابراهيم الخياري عمر الله تعالى بوجوده مدينة العلم فإنه رثاه بقصيدة طويلة أرخ وفاته فيها بقوله
فجأ الأنام جميعهم ... خطب ألم بهم عجيب
ومصيبة قد أوجبت ... للطفل فيها أن يشيب
ورزية عظمت بدار المصطفى طه الحبيب
فقد الأمام الحافظ العلامة الشهم الخطيب
فأجبتهم متأوها ... بلسان محزون كئيب
زل أول الأعداد من ... تاريخه لتكن مصيب
واسمع فقدوا في لنا ... تاريخه مات الخطيب
ومر لده بأول الأعداد واحد لا الميم كما يتوهم على أن زيادة واحد أو اثنين في العدد لا يضر في التاريخ كما قيل فليفهم الشيخ أحمد بن عبد الرزاق بن محمد بن أحمد بن أحمد المشهور بالمغربي الرشيدي المولد والوفاة الفقيه الشافعي المحرر النقاد المفنن كان فاضلا كاملا صاحب براعة وفصاحة عقدت عليه الخناصر وأقرت بفضله علماء عصره حفظ القرآن ببلده وأخذ بها عن العلامة عبد الرحمن البرلسي ومحمد الشاب وعلى الخياط ثم قدم القاهرة وجاور بالجامع الأزهر وأخذ عن شيوخ كثيرين ولازم العلاء الشبرا ملسى وبه تخرج وبرع في العلوم النقلية والعقلية حتى فاق أقرانه ورجع إلى بلده وصار بها شيخ الشافعية وعكف على التدريس وشهر بها شهرة كبيرة وألف المؤلفات العجيبة منها حاشية على شرح المنهاج للرملي في مجلدين ومنها منظومة تسمى تيجان العنوان جعلها على أسلوب عنوان الشرف لابن المقري لم يسبق إلى مثلها فرظ له عليها علماء بلده وغيرهم ومما قيل فيها
أنظر إليه مصنفا ... تجده قد حاز الطرف
لم يحو سطر مثله ... في غابر مما سلف
روضا نضيرا يانعا ... وردا هني المرتشف
فكأنما ألفاظه ... در عرين من الصدف
وكأنما أبياته ... غرر الكواكب في الشرف
لا غرو أن لقبتها ... تيجان عنوان الشرف
وكانت وفاته في شعبان سنة ست وتسعين وألف برشيد ودفن بها رحمه الله تعالى(1/145)
الشيخ أحمد بن الفقيه عبد الرحمن بن سراج بإجمال الحضرمي الشافعي كان من الفقهاء المحققين والعلماء المتضلعين ذكره المثلي وقال في ترجمته ولد بالغرفة وبها نشأ وقرأ على والده الفقيه المتضلعين ذكره الشلي وقال في ترجمته ولد بالغرفة وبها نشأ وقرأ على والده الفقيه عبد الرحمن وغيره وجد في التحصيل حتى صار أعلم أهل بلده وتولى الجامع ببلده الغرفة وأضيفت إليه الأحكام وقصده الناس للفتوى وكان له اليد الطولي في محقيق المشكلات والأطلاع على المسائل العويصات وكان غزير العقل قوي الفهم والذهن كريم النفس له القريحة الوقاده والعبارة المنقاده سريع الحفظ لما يعانيه وله النظم الرائق والأجوبة المحققة الواضحة المرضية جمعها ولده الفقيه محمد وفاته كثير منها واختصر فتاوى شيخ الأسلام الشهاب أحمد بن حجر الكبري في مجلد والتقط فتاوى كثير من المتأخرين قال وذكره تلميذه الشيخ أحمد الأصبحي في مطالع الأنوار من بروج الجمال ببيان مناقب آل بإجمال وكانت وفاته في سنة ثمان عشرة وألف ودفن شرقي ضريح العارف بالله تعالى عبد الله بن عمر بإجمال ببلده الغرفة من حضرموت وآل بإجمال قال الفقيه محمد بن عبد الرحمن بن سراج في كتابه مواهب البر الرؤف بمناقب الشيخ معروف من المعلوم قديما وحديثا أنهم بيت علم وصلاح لهم من شرف النسب وكرم التقوى الحظ الأوفر لم تزل رفعتهم وعظمتهم واحترامهم عند السلاطين والملوك وكافة الناس أشهر من الشمس في رابعة النهار لا يجهل مقدارهم ولا يضام جوارهم فأموالهم مصونة محترمة وأعراضهم مبجلة مكرمة أكراما وتعظيما لشعائر الدين إذ هم موضحو شريعة سيد المرسلين ومنهم العباد المخلصين وقال الفقيه أحمد بن محمد بإجمال الأصبحي في مطالع الأنوار في بروج الجمال ببيان مناقب آل باجمال أعلم أن آل باجمال بتشديد الميم بنتسبون إلى كندة القبيلة المشهورة وكانوا ملوك حضرموت في الجاهلية ونقل عن محمد بن عبد الرحمن ابن سراج أنه قال في مواهب البر الرؤف أن جد آل باجمال ثور بن عبد مرتع بضم الميم وفتح الراء وكسر المثناة الفوقية المشددة ابن معاوية بن ثور بن عفير هو كندة كما في التهذيب وكانوا ولاة ثور فأخذها آل بانجاد فانتقلوا إلى شبام وجدهم الجامع لجميعهم هو الشيخ أحمد بن ابراهيم فجميعهم منسوبون إليه وكان معاصرا للشيخ عبد الله بن محمد باعباد القديم ثم قال فإذا كانت القبيلة منحصرة في جد معلوم وتشعب أولاده أفخاذا فإذا مات واحد منهم وجهل أقربهم إليه مع تحقق أن جد هؤلاء الموجودين والميت زيد لكن جهلت الوسائط فقد اختلف المتأخرون فأفتى أبو قضام بأنه لابد من ذكر المتوسطين بين الميت والجد المذكور والأحياء والجد هذا التعرف أصولهم المعدودة وأفتى جماعة من الفقهاء تبعا لأبي قضام وخالف العلامة عبد الله بن عمر مخرمة وقال هذا من الأرث المحصور بالأستحقاق وقال محل معرفة الوسائط في القبيلة المنتشرة وأما مع الأنحصار المحقق فلا يحتاج لمعرفة الوسائط فإن علم أعلى درجة فالأرث له وأن لم يعلم وأدعي ذلك كل واحد من أرباب الميراث المحصورين في ذلك الجد المذكور فيوقف الميراث إلى اقرارهم بالأقرب أو مناقلتهم بالنذر لأحدهم لأن الأرث والحالة هذه محقق محصور فيهم وجرى على ما قاله أبو مخرمة الفقيه عبد الله بن سرتج وقال في كلام الشهاب ابن حجر ما يشهد لذلك والذي نعتمده ما قاله أبو مخرمة لأن العلة تقتضيه(1/146)
الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الوارثي المصري المالكي الصديقي المعروف بالوارثي الأمام الكبير المفسر المحدث ونسبه إلى الصديق متفق عليه ذكره السخاوي في تاريخه عند ذكر جده بدر الدين قال عبد البر الفيومي في كتابه المنتزه ورأيت المنشور الذي كتب له أن يكون قاضي القضاة بالقطر المصري من أحد الملوك وهو عندهم موجود وذكر فيه أتصال النسب وأمه بنت الشيخ أبي الحسن البكري فالشمس البكري خاله وأم جده لأمه شريفة وله من جهة أم والده إلى سيدي يوسف العجمي انتساب وكان في وقته مرجع الناس للتلقي والأستفادة وكان له اليد الطولي في غالب العلوم وله تحريرات كثيرة منها الأجوبة عن الأسئلة لابن عبد السلام في التفسيرؤ وله تفسير بعض المفصل من السور وغير ذلك من الرسائل في التفسير وكتب على متن التهذيب في المنطق ونظم عقيدة لها حسن أسلوب لكن عباراتها مغلقة وشرع في أختصار المواهب فكتب قطعة ومات ولم يكمله وله قصائد ومقاطيع وقد ترجمته في كتابي النفحة فقلت في وصفه لست أدري ماذا أقول فيمن ورث المجد خلفا عن سلف وعجزت عن أوصافه الألسن وما هجس لها في المبالغة سرف فلو أدرك زمن النبوة نزلت آي القرآن بشواهد علاه أو لحق الصديق لقال هذا وارثي لا سواه فهو أمام التفسير والحديث الراقي علة الأسناد منه في القديم والحديث بل العلم في كل علم بلا خلاف الذي إذا كشف عن المعضلات كان نعم الكشاف فعطارد تلميذ أفادته والمشتري مشتري سعادته فلو أدرك التفتازاني لقيل أدركه السعد أو السيد لحصل على أمنيته من غير وعد وبالجملة فهو خاتمة المحققين وأنسان عين المدققين وكان من الأدب في سنامه وكاهله تحوم الآراء حول موارده فترتوي من مناهله وله نظم ونثر كما انتظمت الأزهار بعدما انتثرت عليها دراري الأمطار فمن نظمه قوله
وأني لصب في القوافي ومدحها ... ويبلغ بي حد السرور بليغها
وأطيب أوقاتي من الدهر ليلة ... تريغ القوافي خاطري وأريغها
وكم بلغت بي همتي بعد غاية ... يعز على الشعري العبور بلوغها
فما سرني إلا كلام أسيغه ... بمسمع واع أو معان أصوغها
وقوله
ماذا تقولين فيمن شفه سقم ... من فرط حبك حتى صار حيرانا
قد لاذ في الحب حتى صار مكتئبا ... والعشق أضرم فيه اليوم نيرانا
هل يشتفي منك بالثغر الرحيق إذا ... أو تتركيه على الأدنان ندمانا
وكتب إلى بعض وزراء مصر
يا أيها المولى الوزير ومن له ... منن حللن من الزمان وثاقي
من شاكر عني يديك فإنني ... من عظم ما أوليت ضاق نطاقي
منن تخف علي يديك وإنما ... ثقلت مواهبها على الأعناق
وله فيمن اسمه بدر
سموه بدر أو ذاك لما ... أن فاق في حسنه وتما
وأجمع الناس مذ رأوه ... بأنه اسم على مسمى
وله
وكم لله من نعم ... يعم الكون ماطرها
تذكرنا أوائلها ... بما تولى أواخرها
وله
رمت حال الوصل إني ... لا أرى للوصل آخر
فحرمت الوصل رأسا ... زاد بي الوجد فحاذر
وله غير ذلك وذكره الشيخ الأمام عبد الباقي الحنبلي الآتي ذكره في مشايخه الذين أخذ عنهم وأثنى عليه وقال عند ما ذكره ولما وصلت إلى غزة في سفري إلى مصر سنة خمس وثلاثين وألف شاع خبر وفاته وصلى عليه غائبة بها ودخلت إلى مصر فوجدته بالحياة فهنيته بالسلامة وأخبرته بما شاع وعاش بعدها عشر سنين قلت وقد ذكر عبد البر الفيومي أنه توفي سنة خمس وأربعين وألف رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن عبد العزيز السجلماسي العباسي من أدباء المغرب المحيدين وفضلائها البارعين حج في سنة اثنتين وثمانين وألف وجاور بمكة وأقرأ بالحرم الشريف وأملي أدبا وشعرا فمن ذلك هذه القصيدة قال اتفق لي أن خرج ابن لمولاي رشيد صاحب المغرب لينظر إلى أبل وخيل وردت عليه من بعض أحياء العرب فأقام عندها أياما واشتغل خاطر ابيه فأمرني أن أكتب إليه كتابا فكتبت إليه قولي
بلت مدامعه البطاح ... سكران حب غير صاح
وضع اليدين على الحشاشة من تحرقه وصاح(1/147)
صب تولع مذ نشا ... بنواهد الغيد الملاح
الفاتكات بلا ظبا ... والقاتلات بلا جناح
هن الفواعل بالحشا ... فعل المثقفة الرماح
من كل غانية حكت ... غصنا تلاعبه الرياح
تبغي النهوض بخصرها ... ويردها الكفل الر داح
فكأنها غصن إذا ... انفتلت عليه البدر لاح
وتخالها ظبيا إذا التفتت إليه السرب راح
ترنو بهار وتية ... مقل مريضات صحاح
غنج سهام جفونها ... تصمي الفؤاد بلا جراح
وقطوف روضة خدها ... شبه الشقائق في البطاح
من لي برشف لمى حكي ... مختوم صهباء وراح
وصفيف ثغر اشنب ... يحكيه مطلول الأقاح
نفحاته مسكية ... ورضا به عذب قراح
؟يأيها البدر الذي لحرام قتلي استباح
أو ما كفتك مراشف ... تفتر عن فلق الصباح
لم بلق صب إذ بدت ... سمعا لحي على الفلاح
ولطالما يخفى الصبابة بالمغالط والمراح
والدمع نم بسره ... وبحاله المكنون باح
يأيها المشغوف بالغيد المكعبة الملاح
فلئن بكيت تشوقا ... فمن الذي بالشوق ناح
ولئن سقمت من الجوى ... فمن الذي بالسقم جاح
شط المزار ولا أرى ... لك في الصبابة من نجاح
أنساك من سكن الحشا ... حب الصوافن واللقاح
وتعاهد العسل التي ... قرت عيونك بالرداح
من كل شائلة حكت ... مزناتراكم في المراح
ورضاب عذب الثغرقد ... أنساكه وضع القداح
ومشاهد عوضتها ... بمفاوزهت براح
وأفاضل يهدون من ... طرف القريض إلى الصباح
لطفاء قد أبدلتهم ... بوغود أعراب فحاح
عجبا عنانك لاويا ... لعنان أفراس جماح
فأبو القصيدة أحمد ... قاض بذاك ولا جناح
وكان سافر إلى مصر فأدركه أجله في شهر ربيع الثاني سنة خمس وثمانين وألف ودفن بمقبرة المجاورين رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن عبد القادرين عمر الدوعني الحضرمي خلاصة الخلان مأمن المخلصين وصفوة الصفوة من الصوفية المحققين وزبدة الزبدة من أهل التمكين أمام أهل العرفان في عصره وشيخ الأولياء في قطره كان له في علم التحقيق المشرب الصفي والمقام الأكمل الوفي ورزقه الله تعالى حسن العبارة فكان يتكلم بالفتوحات الألهية وكانت السادة آل باعلوي مع جلالتهم تخضع وتأخذ عنه وتتبرك به ولازمه منهم أئمة عارفون وبه تخرجوا وببركة علومه انتفعوا وكان إذا أتته الجذبات الألهية يغيب عن شعوره وهو حافظ لمراتب الشريعة وقد قال بعض الصوفية من لم يحفظ المراتب فهو زنديق وألف الرسائل المقبولة منها شرح أبيات مشكلة للشيخ الأكبر ابن عربي وشرح مشكلات الأمر المحكم المربوط وفتح مغلقاته التي هي بسر الذات الأحدية منوط ولوامع أنوار حلية الفقر من مطالع أسرار مسافة القصر وخرب سماه خرب الفتح والنصر وكان مولعا بكتب الشيخ ابن عربي قائلا بالوحدة الوجودية التي عليها أصحاب التمكين وكراماته في أرضه شهيرة أفردها بعض الحضرميين بالتأليف وممن أخذ عنه ولازمه سنين العارف بالله تعالى على بارأس الدوعني وغيره من أكابر العارفين وكانت وفاته في ثاني عشر شعبان سنة اثنتين وخمسين وألف ببلده الرباط من أعمال دوعن وبني عليه قبة عظيمة وأعقب ذرية صالحة رحمه الله تعالى(1/148)
الشيخ أحمد بن عبد اللطيف بن القاضي أحمد بن شمس الدين بن علي المصري البشبيشي الشافعي الأمام العالم المحقق الحجة النقال كان متضلعاً من فنون كثيرة قوى الحافظة ميالا نحو الدقة له تصرف في العبارت ذكره الأخ الأديب الفاضل مصطفى بن فتح الله فيمن ذكر من مشايخه وأطنب في مدحه وكنت كثيرا ما أذاكره في شأنه فيبالغ ويذكر من فضائله وعلومه ما يقضي ببراعته وتفوقه على نظائره من أهل عصره قال وقد ولد ببلده بشبيش في سنة إحدى وأربعين وألف وحفظ بها القرآن ولازم من مشايخها الشيخ على المحلى وقرأ بالمحلة على الشيخ العارف بالله تعالى القطب الرباني حسن البدري ولازمه كثيرا وبشره بأشياء حصلت له وكان يمس بدنه في ابتداء طلبه العلم ويقول له يا أحمد أضلاعك ملآنة من العلم حتى كان الأمر كذلك ثم رحل إلى مصر وقرأ بالروايات على الشيخ سلطان المزاحي ولازمه في الفقه والحديث والفرائض والعربية وغيرها نحو خمس عشرة سنة ولازم أبا الضياء على الشبرا ملسى في العقائد والنحو والأصول حتى تخرج به وأخذ عن الحافظ الشمس البابلي والشمس الشوبري والشيخ يس الحمصي وسرى الدين محمد الدروري الحنفي وتصدر للأقراء والتدريس بالجامع الأزهر واجتمعت عليه الأفاضل وجلس في محل شيخه سلطان المزاجي فلازمه جماعته ودرس في العلوم الشرعية والعقلية وحج في سنة اثنتين وتسعين وألف وأقام بمكة يدرس وانتفع به جماعة من أهلها وقد سمعت الثناء عليه وعلى فضائله من كثير منهم ثم توجه إلى مصر وسافر منها إلى بلده بشبيش لصلة رحمه فأدركه بها الحمام وكانت وفاته ليلة الأثنين سلخ رجب سنة ست وتسعين وألف وكنت أنا وجماعة من أصحابنا بدمشق فذكر بعض الحاضرين أنه توفي فراجعت الفكر في لفظة مات البشبيشي فوجدتها تاريخ وفاته فذكرت ذلك للحاضرين وشاع هذا التاريخ عني وهو بكسر أوله وثالثه بينهما شين معجمة ثم ياء مثناة من تحت ثم شين معجمة ثانية قرية من أعمال المحلة بالغربية(1/149)
الشريف أحمد بن عبد المطلب بن حسن بن أبي نمى شريف مكة وتقدم تمام نسبه في ترجمة عمه الشريف أبي طالب كان هذا الشريف من أدأب أهل بيته فاضلا نبيها نجييا جيد الذكاء وكان حسن الصورة عظيم الهينة أخذ في بدء أمره الطريق عن العارف بالله تعالى أحمد الشناوي وهو الذي بشره بولاية مكة لكنه قال له على الشهادة يا أحمد فقال على الشهادة وكان كثيرا ما يكني عنها بطلوع الشمس ولما تولى أمر مكة استولى على أموال الناس ولم يرحم أحدا وعاقب كثيرا ممن كان قبل استبعدها عنه وسخر منه وكان له أخدان وجلساء قبل الولاية فعجل لهم الأذية منهم السيد سالم بن أحمد شيخان والشيخ أحمد القشاشي والشيخ محمد القدسي خليفة سيدي أحمد البدوي فحبس الجميع وثقل عليهم حتى افتدوا أنفسهم بمال جزيل وذلك بوشاية شخص يقال له ألماس واستمر متغلبا على مكة وهو في الحقيقة مغلوب عليه واستولى على أموال مكة ورقاب أهلها وصادر التحار وحبس من حبس وقتل من قتل فنفرت الناس وجلت عن مكة وخالفت القبائل وتقطعت الطرق وأكثر العسكر الفساد في أشراف البلاد وسكنوا بيوت الأشراف وانتهكوا حرمتهم وقبض على جماعة من الأعيان من أجلهم الشيخ عبد الرحمن المرشدي وحبسه مغضبا عليه فلما كان موسم سنة سبع وثلاثين وألف قدم الحاج المصري وأميره إذ ذاك قانصوه باشا وكان بينه وبين المرشدي مودة أكيدة ومكاتبات سابقة فلما صعد الحجيج إلى عرفة أتى حريم المرشدي إلى مخيم قانصوه مستشفعين به إلى الشريف أحمد ابن عبد المطلب في أطلاقه من الحبس فرق لهن رقة عظيمة وتوجه إلى الشريف يوم عرفة مستشفا به فلم يقبل رجاءه فلما كان ليلة النحر أمر به فخنق شهيدا وكان ذلك سببا لوقوع ما وقع من قانصوه باشا في الشريف أحمد ثانيا لما قدم أميرا على اليمن ثم استمر قانصوه متوجها لفتح اليمن وصحبته العساكر وعدتها ثلاثون ألفا وضرب مخيمه أسفل مكة وكان بين الشريف مسعود بن أدريس وبين الشريف المذكور ممالأة ومواطأة قبل نزوله لبندر جدة مضمونها إني لا أريد الملك لنفسي إنما أريده لك أو هو بيننا فخذل عني من استطعت من آل أبي نمي وثبطهم وحل عزائمهم ووعده بذلك ففعل ما فعل وحصل به على الشريف محسن ما حصل ولله الأمر فلما نزل الشريف أحمد إلى جدة تقمصها لنفسه ولم يف الشريف مسعود ببعض تلك العهود بل أراد قتله ففر إلى قانصوه والتجأ إليه فصادف قانصوه مملوء بالوجأ على الشريف أحمد فلما أقبل قانصوه قاصد الليمن لاقاه الشريف مسعود من الينبع أو الحورا وجاء معه مختفيا وواجه في المجيء الأول الشريف أحمد قانصوه بالزاهر ورد عليه تحية القدوم وعزم على محاربة قانصوه فأزداد قانصوه عليه حنفا على حنق وشرع يستميل عسكر الشريف فأطاعوه فخرجوا من مكة ثم خيم قانصوه ولما أن قضت الحجاج مناسكهم وذهبوا إلى بلادهم تخلف قانصوه بثقله أسفل مكة فلما تحرك السفر قدم ثقله ولم يبق إلا مخيمه وخيام العسكر فأشار قانصوه إلى شخص يتعاطى خدمته من أبناء الطواف يسمى محمد المياس أنه يحسن للسيد أحمد الوصول إلى قانصوه للوداع ففعل وذهب إلى الشريف أحمد وحسن له ذلك يوم السبت رابع عشر صفر فلما كانت ليلة الأحد خامس عشر الشهر المذكور سنة تسع وثلاثين وألف ركب الشريف أحمد إليه وصحبته من الأشراف بشير بن بشير بن أبي نمي ومحمد بن حسن بن صيقان وراجح بن أبي سعيد ومن أعوانه وزيره مقبل الهجاني وأحمد البشوتي متولى بيت المال وفليفل فلم يزالوا يدخلون في المخيم من باب إلى باب حتى وصلوا إليه فتحادثا مليا ثم نصبا نطع الشطرنج فلما كانت الساعة الخامسة من الليلة المذكورة قبض على الجميع فقتل الشريف أحمد فتحركت عساكره فأظهره لهم مقتولا ونشر العلم ونودى المطيع للسلطان يقف تحته فوقفت العساكر تحته وخلع على الشريف مسعود بن أدريس وكان للشريف أحمد زوجان من القنا الطويل جدا بسنان مذهب تحته أكرة من الفضة مطلية يحمل كل واحد رجل يمشي على قدميه إذا سار في موكبه يسيران أمامه قريبا منه يصوبانهما ويصعد انهما بحركة سريعة لطيفة التصويب واللتصعيد على حد سواء وربما كان فيهما اجراس قلت رأيت بخط بعض الفضلاء أن هذا يفعله أئمة اليمن وأكابر أمرائه إلى الآن إذا ساروا في المواكب انتهى وليس أهل اليمن أول من ابتدعه فقد كان يفعله الخلفاء العباسيون وقد ذكر ذلك شعراؤهم في قصائدهم قال القاضي تاج(1/150)
الدين الأرجاني من قصيدة يمدح بها المستظهر بالله الخليفة العباسي الأرجاني من قصيدة يمدح بها المستظهر بالله الخليفة العباسي
وألوية منهن صقران أوفيا ... على علمي رمحين فأكتنفاكا
وليس سوى النسرين من أفقيهما ... لحبهما نيل العلى تبعاكا
وكان إذا سا بالليل لا يوقد بين يديه إلا الشمع الموكبي بدلا عن المشاعل وكان دخوله مكة متملكالها وأجفل الشريف محسن وبني عمه عنها ضحى يوم الأحد سابع عشر شهر رمضان سنة سبع وثلاثين فكان يتبجج ويقول فتحت مكة بالسيف كما فتحها رسول صلى الله عليه وسلم ودخلتها في اليوم الذي دخلها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صاحبنا ومولانا الشيخ عبد الملك بن حسين العصامي حفظ الله تعالى يوجوده زين الفضل أما قوله كما فتحها الخ فالمشهور والذي عليه الجمهور أنها لم تفتح عنوة وإنما فتحت صلحا وما وقع من خالد بن الوليد رضي الله عنه فإنه قاتل بعض قتال مع الأحابيش وعبدان أهل مكة في أسفل مكة وقد نهاه صلى الله عليه وسلم عن القتال ولكنه لما قوتل وهذا هو شبهة القائل بأنها فتحت عنوة وأما قوله فدخلها إلى آخره فخطأ لأنه لم يدخلها عليه الصلاة والسلام سابع عشرة وإنما دخلها ثامن عشرة وهب أنه صلى الله عليه وسلم دخلها كذلك ولكن أين هذا الدخول من ذلك فإن هذا جرأة وبغي على حرم الله وسكان حرمه وذرية نبيه إذ في ضمن هذا التشبيه تشبيه من فيها من المسلمين الآن بالمشركين إذ ذاك وقال في ذاك يوسف بن أبراهيم المنهار
سنة السبع والثلاثين بعد الألف جاءت بما ينفر بالطبع
دخل السبع مكة الله بالجند ولا شك أنها سنة السبع
وكانت مدة ولايته سنة واحدة وأربعة أشهر وثمانية عشر يوما والله سبحانه وتعالى أعلم أحمد بن عثمان بن علي بن محمد بن علي بن محمد العزي بالعين المهملة المكسورة المصري المالكي الشاعر البليغ ذكره الخفاجي في كتابيه وقال في وصفه شاب رقيق الجلباب يقطر من أهابه ماء اللطافة والشباب تأدب وبرع ووعى ما جمع منعكما في زوايا الخمول ملتقطا جواهر الفضائل من أفواه الفحول كان في زمن الطلب خدني يجني من خمائله كما أجني حتى اقتطفت يد المنية زهرة حياته وشربت الليالي بقايا لذاته فرجعت غير راج لأرتجاعه وطلوع بدره من ثنيات وداعه ووالده من شيوخ الغربيه وصدور أنديتها النديه ثم أنشد له من شعره قوله
لا زال هذا الجمع جمع سلامة ... لا نقص يعروه ولا تغيير
والجمع من أعدائكم في قلة ... ونقيض تلك القلة التكثير
قلت وقد ظفرت له بهذين البيتين وهما قوله
أدم يا رب خلواتي بحبي ... لأقضي بالتواصل منه ديني
ولا تجعل هناك سوى لساني ... سميرا بين من أهوى وبيني
وكانت وفاته في صفر سنة تسع بعد الألف بعد والده بأيام قلائل(1/151)
أحمد بن عثمان بن أبي بكر الكردي السهراني الشافعي المعروف بالمجروحي نزيل دمشق ورد إليها في سنة خمس وعشرين وألف ونزل عنده حمزة الكردي أحد أعيان الجند بالشام واقرأ أولاده مدة ثم انتقل إلى عمارة شمسي أحمد باشا وأقام بها يقرى بالفارسية والعربية ويكتب الكتب لنفسه وأخذ عن الشمس الميداني وحج في سنة خمس وثلاثين وألف وسافر إلى مصر في خدمة قاضيها المولي شعبان بن ولي الدين الآتي ذكره وصار في زمنه محاسب أوقافها ثم أتى في خدمته إلى دمشق وسار إلى الروم سنة خمسين ولازم بعض الموالي وأخذ المدرسة اليونسية عن القاضي أحمد الزريابي المالكي وعاد في أواسط سنة أحدى وخمسين ثم سافر إلى الروم مرة ثانية سنة ستين وأخذ المدرسة القجماسية بالفراغ من الملا أحمد بن الملا حيدر الكردي السهراني العلامة المشهور صاحب التحقيقات الفائقة ومؤلف الحواشي على أثبات الواجب للمولى الدواني والحاشية على شرح المولى المذكور للعقائد وكان قدم دمشق ودرس بالمدرسة المذكورة وانتفع به جماعة وكان من التحقيق والتدقيق في الذروة العليا وقد ذكرته هنا واكتفيت عن ذكره في ترجمة أفردها له لأن وفاته لم تبلغني عن يقين والمقصود ذكر الرجل وتعريف حاله وأغلب الأحتمال أن وفاته ما جاوزت عشر السبعين والله أعلم وكان لما فرغ لصاحب الترجمة عن المدرسة المذكورة سافر إلى الروم وبعد مدة توجهت المدرسة عن صاحب الترجمة فسافر إلى الروم مرة ثالثة وقررها وعاد على أحسن حال وكان له فضل وحسن محاضرة وأطلاع على التواريخ والأخبار وكانت ولادته في سنة ثمان أو تسع بعد الألفوتوفي بدمشق قبيل الغروب من ليلة الجمعة آخر شهور ربيع الثاني سنة تسع وستين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير والسهراني بضم السين وسكون الهاء وبعدها راء وألف ونون نسبة إلى بلدة معروفة ببلاد الأكراد والله أعلم الشيخ أحمد بن علي بن احمد البسكري بضم الموحدة وسكون السين المهملة الصوفي رحلة الهند في زمانه ذكره الشلي وأثني عليه ثناء جميلا ثم قال أخذ عن والده وعن الشيخ عبد القادر بن شيخ العيدروس وغيرهما وكان لطيف الذات كامل الصفات وكان أكثر همه الأستعداد ليوم المعاد قال في النور السافر وكان صاحبنا أحمد المذكور من أهل العلم والصلاح متبعا للكتاب والسنة سالكا على نهج السلف الصالح متصفا بالعفاف قانعا بالكفاف ولا يرى في أكثر الأوقات إلا مشغولا بمطالعة أو كتابة مظهر اللجمالة له جملة مصنفات وكان كف بصره قبل وفاته بقليل وللناس فيه مدائح فمن ذلك ما قاله أديب الزمان الشيخ عبد اللطيف بن محمد الزبير فيه من قصيدة
أعني به أحمد المختار سيرته ... خلقا وخلقا سواه لا يساويه
شهاب نجل علي البسكري بلدا ... المالكي مذهبا من ذا يضاهيه
قد خصه بجميل الفضل خالقه ... بسرطي معان في معاليه
له بديع بيان في الخطاب يرى ... وغير لفظ وقد جلت معانيه
أخباره قد أتت في الحال تخبر عن ... أبيات أفكاره المخصوص من فيه
حديثه الحسن العالي روايته ... أعلت لسامعه شأنا وراويه
وكانت وفاته ليلة السبت الثالث والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة تسع بعد الألف بمدينة أحمد آباد ودفن بها رحمه الله تعالى(1/152)
الشيخ أحمد بن علي بن عبد القدوس بن محمد أبو المواهب المعروف بالشناوي المصري ثم المدني الأستاذ الكامل المكمل الباهر الطريقة ترجمان لسان القدم كان آية الله الباهرة في جميع المعارف وقد أعلى الله تعالى مقداره ونشر ذكره وله بالحرمين الشهرة الطنانة أخذ بمصر عن الشمس الرملي والقطب محمد بن أبي الحسن البكري والنور الزيادي وبالمدينة عن السيد صبغة الله بن روح الله السندي أخذ عنه طريق التوم وتلقن منه الذكر ولبس منه الخرقة وبه تخرج في علوم الحقائق وقام مقامه للناس في التربية والتلقين والألباس والتحكيم ومن مشايخه أيضا السيد غضنفر بن جعفر البخاري ثم المدني وأخذ عنه كثيرون منهم السيد سالم بن أحمد شيخان والصفي أحمد بن محمد الدجاني المدني المعروف بالقاشي والسيد الجليل محمد بن عمر الحبشي الغرابي وغيرهم من العارفين والشيخ سلطان المزاحي وله خلفاء في كل أرض ورتبهم عالية معلومة وله التصانيف التي لم ينسج على منوالها منها حاشية على كتاب الجواهر للغوث الهندي والسطعات الأحمديه في روائح مدائح الذات المحمديه والتأصيل والتفصيل وكتاب الأقليد الفريد في تجريد التوحيد وسعة الأخلاق وفواتح الصلوات الأحمدية في لوائح مدائح الذات المحمديه ورسالة في الوحدة الوجوديه وتمكن حاله واشتهر مقاله وكان يقول فيما حكاه العلامة أحمد البشبيشي لو كان الشعراني حيا ما وسعه إلا اتباعي وكان يقول لا يدخل النار من رآني إلى يوم القيامة ومثل هذا الأمام لا يتكلم إلا عن إذن إلهي والسلام على أهل التسليم ومن فوائده وفي أسانيدنا الأولى كثرة الرجال بخلاف أسانيد المحدثين فالمراد فيها قلة الرجال لسهولة النقد والمراد هنا كثرة الرجال لتقوى المدد وتعظيم السند فإن للمتقدم على المتأخر زيادة وله عليه أمداد وأفادة وله الشعر البليغ فمن ذلك قوله في تخميس قصيدة السودى المشهورة
كيف تبدو العين بالأثر ... وهي تأبى الغير كالحصر
صح فيها قول معتبر ... ليس عند الخلق من خبر
عنك يا أغلوطة الفكر
صارت الأنباء عنك عمي ... وشهود الكشف فيك وما
وعليم القوم مصطلما ... حارت الألباب فيك وما
ميزت وردا من الصدر
وحدة عزت مهيمنة ... جمعت للضد مرتبة
وجلت للعين تعمية ... حيرة عمت فأي فتى
رام عرفانا ولم يحر
فجلالا هوته ظللا ... فبد أنا سوته مثلا
وعلى أطلاقه أزلا ... عميت أنباء ذاك علي
كلهم في البدو والحضر
قصدوا جمعا به صدعوا ... فرقوا في الجمع فانقطعوا
وهم عنه به منعوا ... فأنثنوا والله ما وقعوا
لا علي عين ولا أثر
قحيط كيف يحجبه ... فأبت عنهم مذاهبه
وضيا الأمكان واجبه ... بل عظيم القوم مطلبه
شدة التحيير والحصر
إن دون الحق ليس نبا ... فسوى القوم منه هبا
وجمال الوجه ما حجبا ... كيف حاروا فيك واعجبا
يا سنا سمعي ويا بصري
حكمه ما بمنعقد ... وقيام الفرد في عدد
قمت فيهم غير متحد ... أنت لا تخفي على أحد
غير أعشي الفكر والنظر
أو على رسم له شبه ... أو على وسم به وله
أو على من فرقه عمه ... أو على شخص به كمه
لم يشاهد صورة القمر
فعلى تحقيق رتبتهم ... أنت في أطلاق نسبتهم
وعلى تعيين وجهتهم ... أنت فيهم ظاهر وبهم
ولهم لولا بقا الأثر
فهم منهم بهم عدم ... ولهم في علمه قدم
وهم من وجهه أمم ... لو تلاشت عنهم ظلم
وانمحوا عن عالم الصور
فهم خلق ببسط وطا ... وهم حق بكشف غطا
فلو أنهلوا هدى وسطا ... شاهدوا معناك منبسطا
سائرا في سائر القطر
ورأو الله ما حكموا ... وبعين الله ما علموا
وبوجه الحق قد عصموا ... ورأوا أن الحجاب هم
عن شهود المنظر النضر(1/153)
وله أشياء في هذا الباب كثيرة وكانت ولادته في شوال سنة خمس وسبعين وتسعمائة بمحلة روح من غربية مصر وتوفي في ثامن الحجة سنة ثمان وعشرين وألف بالمدينة ودفن ببقيع الغرقد بالقرب من ضريح شيخه السيد صبغة الله رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن علي بن قاسم أبو العباس المعروف بالزقاق بزاي وقافين المالكي الفقيه الحافظ عالم بلاد المغرب ورئيس جها بذتها في عصره وكان عالما فقيها متكلما ناظرا عظيم الهيبة جليل القدر عالي الهمة أخذ عن أبيه وغيره وبرع وقيد وضبط وألف ومن تآليفه شرح منظومة أبيه في القواعد وبعض الرسالة والمدونة ومختصر خليل ورحل وحج وتفقه به كثير من أهل فاس ولازمه ابن أخيه عبد الوهاب الزقاق وانتفع به وكانت وفاته في سنة أحدى أو اثنتين وثلاثين وألف ذكر هذا الشلى في تاريخه السيد أحمد بن علي بن علاء الدين السيد الشريف المعروف بالصفوري الحسني الشافعي الدمشقي كانت له معرفة تامة بالفقه والغربية والشعر وأنواع الأدب وكان حسن الخلق جيد الفهم له همة عالية وطبيعة مطيعة قرأ بدمشق على عبد الحق الحجازي والحسن البوريني والشرف الدمشقي وسمع الحديث من الشمس الميداني والنجم الغزي وكان معيدا لدرسيهما في صحيح البخاري تحت قبة النسر بجامع دمشق وسافر إلى حلب في سنة ست عشرة وألف وجرى له مع أدبائها مطارحات وقفت عليها بخطه في بعض مجاميعه ودرس بدار الحديث الأشرفية وتولى قضاء الشافعية بمحكمة الباب بدمشق وكان حسن النزاهة في قضائه مشهور السمعة وله شعر مستعذب عليه طلاوة وفيه رقة وعذوبة فمن ذلك قوله
أيا رب قد مكنت في القلب حبه ... وحكمته في الصب بالقول والفعل
وألهمته الأعراض عني ولم تدع ... لقلبي صبرا عنه في الهجر والوصل
فألهمه أحسانا إلي فليس لي ... سوى لطفك المعهودان لم يكن من لي
وإلا فسو الحب بيني وبينه ... فإنك يا مولاي توصف بالعدل
هذا أسلوب لطيف يعرفه من له خبرة بقرض الشعر وهو نقل الكلام من أسلوب إلى آخر تظرفاً كاستعماله في الغزل ما عهدا استعماله في الدعاء كقول ابن الوكيل
يا رب جفني قد جفاه هجوعه ... والوجد يعصي مهجتي وتطيعه
يا رب قلبي قد تصدع بالنوى ... فإلى متى هذا البعادير وعه
يار بدر الحي غاب عن الحمى ... فمتى أراه في القباب طلوعه
يا رب في الأظعان سار فؤاده ... يا ليته لو كان سار جميعه
يا رب لا أدع البكا في حبهم ... من بعدهم جهد المقل دموعه
يا رب عذب في الهوى من ساءني ... بمقالة أحلى الهوى ممنوعه
يا رب هذا بينه وبعاده ... فمتى يكون إيابه ورجوعه
ومثله استعمال الغزل على طريق الأوامر السلطانية كقول الظريف
أعز الله أنصار العيون ... وخلد ملك هاتيك الجفون
وأسبغ ظل ذاك الشعر منه ... على قدبه هيف الغصون
ومن شعر صاحب الترجمة قوله مضمنا
أن جئت حي أميري صف له شبجني ... وطول سقمي وما ألقي فإن سمعا
فاشرح له حال صب مغرم دنف ... قد قطع البعد عنه قلبه قطعا
لا يستقر به في منزل جسد ... وطرفه بعده والله ما هجعا
واذكر له أن حبي زاد فيه وهل ... يخشى تغير ما في الطبع قد طبعا
وأنشده عهداً مضى في الرقمتين لنا ... والبدر شاهدنا لما إليه سعى
عساه تعطفه تلك العهود وكم ... خل إلى العهد والميثاق قد رجعا
واسرع بلطف وقل مستعطفاً ملكا ... خل إلى العهد والميثاق قد رجعا
واسرع بلطف وقل مستعطفا ملكا ... بيتاً إلى ذكره حال المشوق دعا
يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصرما ... قد حدثوك فما راء كمن سمعا
هذا البيت مما كثر تضمينه قديما وحديثا ولا أدري لمن لمن هو وفيه عكس التشبيه إذ ليس المراد جعل السامع أو في درجة من الرائي وقوله مضمنا أيضاً
يا من به بدء الجمال ومن غدا ... للحسن دون ذوى الكمال ختاما(1/154)
قد تم حسنك بالعذار فمن أى ... بدراً يكون له الكسوف تماما
وهذا البيت للأستاذ أبى الفرج بن هند وقبله
خلع العذار على جمالك خلعة ... خلعتقلوب العاشقين غراما
وللباخرزي فيما يقاربه وهو قوله
وجه حكى الوصل طيباً زانه صدغ ... كأنه الهجر فوق الوصل علقه
وقد رأيت أعاجيب الزمان وما ... رأيت وصلا يكون الهجر رونقه
وللصفوري في الاعتذار قوله
أيامن فلضله والجود سارا ... مسير النيرين بلا معارض
وعدتك سيدي والوعددين ... ولكن ما سلمت من العوارض
قلت العوارض مظلمة سلطانية تؤخذ من البيوت في الشام في كل سنة ويقال أنها من محدثات الملك الظاهر بيبرس وبهذا تمت له التورية ومما يعجبني في التعرض لها قول الأكرمي المقدم ذكره
لحى الله أيام العوارض أنها ... هموم لرؤيا تشيب العوراض
يضيق لها صدري وإني لشاعر ... خليع وبيتي ما عليه عوارض
وقال ملمحا بحكمة وتروى عن الإمام محمد بن الحنفية وهي ليس بحكيم من لا يعاشر بالمعروف ما لا يجد بداً من معاشرته حتى يجعل الله لهفرجاً ومخرجا
إذا أنت لم تقدر على ترك عشرة ... لذي شوكة فائصح وعاشره بالصدق
ولا تضجرن من ضيق ما قد لقيته ... عسى فرج يأتيك من خالق الخلق
وله
إذا أنت لم تقرب يناجيك خاطري ... وأن تدن مني فالجوارح أعين
لأنك مطلوبي على كل حالة ... وإنك مختاري فرؤياك أحسن
وفي معناه قول القاضي إسماعيل الحجازي الآتي ذكره
إذا لحت ناجيك كل جوارحي ... وإن غبت عن عيني أناجيك بالقلب
فأنت مني قلبي حضوراً وغية ... وأنت ضيا عيني في حالة القرب
ومن شعره قوله يمدح الوادي التحتاني أحد منتزهات دمشق
والله ما رأت العينان مثلك يا ... وادي دمشق ولم تسمع به أذن
لأنت كالجنة الفردوس إذ هبطت ... فيك الجواري والولدان قد سكنوا
وبالجملة فمحاسن السيد أحمد في الشعر كثيرة فنكتفي منها بهذا القدر وكانت ولادته في سنة سبع وسبعين وتسعمائة وتوفي خامس شعبان سنة ثلاث وأربعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى(1/155)
الشيخ احمد بن علي الحريري العسالي الشافعي شيخ الخلوتية بالشام البركة الولى العائد الزاهد نزيل دمشق واحد الأفراد المتفق على صلاحه وزهده وورعه وكان له في طريق القوم كلمات من النمط العالي وشاع أمره وطار صيته وكان والده كردى الأصل قدم من بلدة حرير ونزل بقرية عسال من ضواحي دمشق فولد له بها أحمد هذا فدخل في صباه دمشق وأخذ بها عن بعض الصوفية ثم ارتحل إلى حلب وأخذ ها عن العارف بالله تعالى أحمد الدرغراني من قرية دير غره تابع حلب وسافر إلى عينتاب واجتمع بالشيخ شاه ولي الخلوتي وعنه أخذ طريق الخلوتية ورجع إلى دمشق وسكن به الحيتها مدة مديدة وكانت نواب الشام وقضاتها وأعيانها يسعون إليه ويلتمسون دعواته ويتبركون به وربما أخذ بعضهم الطريق عنه وقد أخذ عنه من أهالي دمشق وغيرها خلق لا يحصون كثرة وكانت علامات الولاية ظاهرة عليه وهو في كل حال مرضى السمت وحدث بعض الثقات من أهل دمشق أنه سافر إلى مصر في حياة العسالي فاجتمع ببعض الخبيرين بفن الزاير جا فسأله عن قطب ذلك الوقت فاستخرج أبياتاً باسم العسالي صاحب الترجمة وسكنه وشكله وقريته وما زال في إقبال من الناس وشهرة تامة حتى عمر له محافظ الشام احمد باشا المعروف بالكجك عمارته بالقرب من مسجد القدم وكان ذلك في سنة خمس وأربعين وألف ونقله إليها في سنة ست وأربعين وألف فازداد اشتهاره وشاع خبره وممن أخذ عنه وبايعه من مشايخ دمشق الاستاذ الكبير أيوب والسيد محمد العباسي شيخنا وغيرهما وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن عشر ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وألف وصلى عليه تجاه قبة الحاج عقب صلاة الجمعة وكانت جنازته حافلة جدا ودفن بالعمارة المذكورة والعسالي بضم العين المهملة وبعدها سين مهملة وألف ولام تسبة إلى قرية من قرى الجبة من نواحي دمشق والقطب معروف وقد ورد فيه بعض الأثار ونقل النجم الغيطى عن شيخه القاضي زكريا أن القطب موجود في كل زمان كلما مات قطب أقام الله مكانه آخر وهذا أمر معلوم مشهور والمنكر لذلك محروم من بركة الأقطاب معترف بأن منة الله تعالى لم تواجهه وليته إذ فاته الوصول إليها لا يفوته الإيمان بها النتهى وأما الوصف بالغوث المشتهرين الصوفية فلم يثبت لكن أخرج الخطيب البغدادي وابن عساكر من طريق عبيد الله بن محمد القيسى قال سمعت الكناني يقول النقباء ثلثمائة والنجباء سبعون والأبدال أربعون والأخيار سبعة والعمد أربعة والغوث واحد فمسكن النقباء المغرب ومسكن النجباء مصر ومسكن الأبدال الشام والأجيار سائحون في الأرض ابتهل بها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العمد فإن أجيبوا والاابتهل الغوث فلا تتم مسئته حتى تجاب دعوته والخلوتية معروفون ونسبوا إلى الخلوة لأنها من لوازم طريقتهمقال الأستاذ أيوب في رسالته الأسمائية وليدخل الخلوة السربة وهي التفريد بالله ذكرا في وجوده والغيبة به عما سواه فإن تيسر مع ذلك خلوة الشخص عن الخلق بأن والصوم الشرعي والأولى أن يتجرد عن كثرة الأكل والشرب إذا أفطر وإذا ترك الشرب فإن ذلك أولى فإن العطش في الطريق امر عظيمبل هو مسرع الفتح إذا ساعد التوفيق والعناية ويشرب شيئاً من الماء والدبس أو العسل ويكون ذكره في الخلوة لا إله إلا الله فإن عجز عن ذكرها في الظاهر فيرجع إلى اسمه في الباطن فيذكره ولا ينام في الليل قليلاً ولا كثيراً بل بعد صلاة الإشراق لتنجلى له وقائعه وإن كانوا جماعة فكذلك إلا أنهم يذكورن الله جميعاً بقوة عزم وأن وجد حاد ينشد لهم من كلامالسادة الصوفية فلا بأس ليروحهم فإن المجاهد لها كرب على النفوس والخلوة بالجماعة لا تتجاوز الثلاثة أيام وخلوة الواحد ما شاء من ثلاثة وسبعة وخمسة عشر وثلاثين شهراً كاملاً وسبعين وعاما ثم العمر كله وهو الخلوة المطلقة بالسر المطلق قال بعضهم لا يتخلص الإنسان من احكام النفس إلا إذا توالت مجاهدته وتتابعت حولاً كاملاً فلا تعود أوصافها إليه وإن عادت لا تستولى على الإنسان بل تزول بادني توجه بعد ذلك وأما عندنا فإن فعل ذلك فلا يأمن بل يجمع بين المجاهدة والأدب في عدم لركون إلى النفس والسادة الخلوتية اختاروا في السلوك اثني عشر اسما تذكر بالترتيب شيئاً بعد شئ على حسب الوارد فلا يذكر الثاني حتى ترد موارده على الأول ويقع الأذن بذكر الثاني فيذكر مع قوة الاجتهاد وثبات الجاش وعلو(1/156)
الهمة ولثالث والرابع إلى الثاني عشر وذكرها له ثلاثة شروط الأول كتمانه عن شائر الناس الثاني الطهارة في الحس بالوضوء أو الغسل ولمعني بالأخلاق الحسنة النافية للأخلاق السيئة الثالث المداومة عليها في كل حالوعدم المبالاة تبتيلا وقال تعالى وذكر اسمربه فصلى وإن أراد السالك أن يسرع إليه الخير فليلزم الذكر وليخلص فيه اخلاصاً يحقر السرى في عينه كأنه باق على عدميته الأصلية وهو كذلك فلا وجود لشئ مع الحق جل وعلاة ولثالث والرابع إلى الثاني عشر وذكرها له ثلاثة شروط الأول كتمانه عن شائر الناس الثاني الطهارة في الحس بالوضوء أو الغسل ولمعني بالأخلاق الحسنة النافية للأخلاق السيئة الثالث المداومة عليها في كل حالوعدم المبالاة تبتيلا وقال تعالى وذكر اسمربه فصلى وإن أراد السالك أن يسرع إليه الخير فليلزم الذكر وليخلص فيه اخلاصاً يحقر السرى في عينه كأنه باق على عدميته الأصلية وهو كذلك فلا وجود لشئ مع الحق جل وعلا أحمد بن علي المحيرثي نسبة إلى المحيرث كدريهم مصغراً بلدة من بلاد كوكبان ذكره ابن أبي الرجال في تاريخه وقال في ترجمته كان من نوادر الزمان نبيها زكيا أحاط بعلوم جمة وتمكن من قواعد المذهب ثم قرأ أكتب الحنفية وولى القضاء للأروام بصنعاء وقضى بمذهبهم وكان في علوم المعقول والأدوات نسيج وحده وكان يقضي للأروام بلغتهم وللفارسيين بلغتهم وللعرب بلغتهم وكان من أعيان الزيدية قرأ على المفتى وغيره منهم ثم أخلط في آخر عمره قال حكى بعض الشافعية اختلط صاحب الترجمة لجودة ذكائه وأحرقت الألمعية عقله وكان يذكر أنه المهدي المنتظر ومن أرجوزة له إلى السيد احمد بن الإمام القاسم ولد أخيه الحسين قال فيها
من الإمام المهدي المرتضى للرشد ... إلى المليك أحمد ثم الحسين الأرشد
إلى آخرها وتارة يقول أنه الدابة التي تكلم الناس وله أجوبة مسكتة وأشعار فائقة في ضبط العلوم ومن شعره قوله
قاضي الجمال أتى يجر ذيوله ... كالغصن حركه النسيم الساري
لبس السواد فعاد بدراً في الدجى ... لبس البياض فكان شمس نهار
قالت رياض الحسن هذا مالكي ... قد أقرأ الحنفي في الأزهار
ثم دخل مكة فاشتغل به العلماء هنالك وكان مكي فروخ الحنفي على جلاله قدره يجذمه للطهور وكانت وفاته بمكة في افراد سنة خمسين وألف(1/157)
أحمد بن علي بن عبد الرحمن بن محمد جلاخ باقشير الشيخ الإمام المفنن في العلوم ولد بحضرموت ببلده المسماة بالعجر وحفظ القرآن على يد جده لأمه الهادي باقشير وقرأ بالتجويد وحفظ الجزرية وغيرها من فن القراآت والتجويد وحفظ الإرشاد والألفية والقطر وغيرها وجل محفوظاته على مشايخه ولازم جده المذكور وأحد عنه التصوف ورباه فأحسن تربيته وأخذ عن جماعة بحضرموت ثم رحل إلى المستغاض وأقام عند ضريح العارف بالله تعالى الشيخ الجوهري مدة لتعليم القرآن وتدريس العلم النافع وانتفع به كثيراً من أهل تلك الجهة ثم ارتحل إلى مكة المكرنة وحج وأقام بها وتبوأ صحن مسجدها الشريف فلقى بمكة سادات اعلام كالشيخ عبد الله باقشير أخذ عنه علم التوحيد والقراآت وقرأ عليه للسبع بعد أن حفظ الشاطبية وحلها عليه وقرأ عليه شرحها وأخذ الفقه عن الشيخ عبد العزيز الزمزمى وعن الشيخ على الجمال الفقه الفرائض والحساب ولازمه في هذين الفنين وأخذ الفرائض والحساب أيضاً عن الشيخ أحمد بن تاج الدين رئيس المؤذنين بالحرم النبوي ولازمه ملازمة تامة حتى تخرج به ولما قدم العلامة عيسى بن محمد الجعفري المغربي إلى مكة لازمة وقرأ عليه العلوم العقلية كالاصلين والمنطق والمعاني والبيان والبديع والنحو والصرف وكان الشيخ عبد الله باقشير يحبه ويشير إليه وكان إذا ورد عليه مسئلة مشكلة أمره أن يراجعها له ويحررها ثم يكتبها وكان الشيخ إذ ذاك ضعف عن المراجعة وقل نظره وزوجه بابنته ثم أذن له مشايخه بالتدريس فدرس وأخذ عنه جماعة لا سيما بعد وفاة شيخه المذكور ثم شرع في التأليف فصنف عدة رسائل لكنه لم يبيضها وله نظم أرجوزة في على الفرائض والحساب جمع فيها فأوعى ثم شرحها شرحا طويلا استوعب فيه جميع الطرق والمباحث وبالجملة فقد انفرد بعلمى الفرائض والحساب بعد شيخه على بن الجمال لا سيما علم المناسخات فإنه كاد أن يحفظ جدول ابن عبد الغفار لكثرة مطالعته له وقراءته وشرع في اختصار حواشى الفهامة ابن قاسم على التحفة وكانت وفاته ضحى يوم الخميس سابع عشر شهر ربيع الثاني سنة خمس وسبعين وألف بمكة وحضر جنازته خلق كثير وحملوه والسماء تمطر حتى فرغوا من دفئه وممن حمل جنازته عيسى الجعفري والشيخ أحمد بن عبد الرؤف الناس عليه ودفن بالمعلاة رحمه الله تعالى الشيخ أحمد أبو العباس بن علي بن محمد بن إبراهيم مطير الحكمي اليمنى الشافعي أحد علماء بنى مطير الأكابر الذين ورثوا العلم كابرا عن كابر وبرعوا في سائر العلوم وكرعوا من مشارع الفهوم واشتغلوا بطاعة اله تعالى أخذ العلم عن والده وتمنع منه بطارفه وتالده وأغناه عن التردد إلى غيره وأجناه من ثمرات خيره وألف المؤلفات المفيدة منها تسهيل الصعاب في علمي الفرائض والحساب والروض الأنيف في النحو واللغة والتصريف ونظم كتاب الأزهار في فقه الأئمة الاطهار بالتماس بعض الزيدية لذلك ومن شعره قوله
جدد عهودك بالوادى وبالسند ... بين العقيق وبين السفح من أحد
ديار من جهم فرض أدين به ... ومن لهم منزل قد شيد في خلدى
حيث النبوة حطت رحلها وثوب ... ومهبط الوحى والأملاك بالرشد
وراجيا من رسول الله رحمته ... محمد أحمد المبعوث من أدد
ما كان من قبله علم لامته ... ولا له كان بالأيمان ثم هدى
يا خالق الخلق يا من لا شريك له ... يا مالك الملك بالآزال والأبد
يا ملجأى في أموري كلها أبدا ... يا منجدي من مخوفات ومن كمد
إليك أرفع كفى ضارعا خجلا ... وأخلص الدين إذ أدعوك يا سندي
وأخفض الرأس منقاداً به وجلا ... مسنغفراً لذنوب جمة العدد
مستسقيات منك غيثا مطبقا غدقا ... سحا هنيئاً مريئاً مصلح البلد
عاماً دريرا مريعا غير منقطع ... ولا مضر ولا مؤذ ولا نكد
تحيا به الأرض والأحياء كلهم ... واغفر لنا كل ذنب وامحه وجد
يا مفزعى يا إلهي يا ملاذي يا ... مولاى يا موئلي هب لي ومديدى
يا عالم السر مثل الجهر يا أملي ... ارحم بجودك ضعفي واشددن عضدي(1/158)
يا فرد يا حي يا قيوم يا صمد ... يا ذا الجلال وذا الاكرام يا أحدى
مطالبي منك لا تحصى وعلمكها ... أحصى وجودك تعطيه على الأبد
فآتنا كل ما نرجو ونطلبه ... وأقبل دعانا سريعا وحينا ورد
وآت داعيك بي في كل حادثة ... تنوبه سؤله في الخيران ترد
فاحمد بن على قد دعاك وقد ... عودته الخير فضلا منك لم يبد
وكل آل مطير لست تهملهم ... فهم عبيدك فارحمهم وعد وجد
وأبق منهم لهذا الدين مطلعا ... يسمو بهم وانصرنهم نصر منتجد
هم حاملون كتاب الله تعصمهم ... آياته عن تآويل وعن أود
واحفظ بحفظهم من كان يصحبهم ... من أهل ودهم من شرذى حسد
واقرن صلاتك بالتسليم لا برحا ... على نبيك في يوم وكل غد
رسولك المجتبى الداعى إليك أتى ... لبيك لبيك آمنا بلا جحد
وعن آلا وأصحابا وتابعهم ... لهديهم مقتد بالبر والرشد
وكانت وفاته يبلدهم عيسى الحصن من المخلاف السليماني باليمن في سنة خمس وسبعين وألف رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن علي الدمشقي الخلوتي المعروف بابن سالم العمري الحنبلي خليفة الشيخ أيوب والشيخ أيوب أخذ طريق الخلوتية عن العسالي المقدم ذكره وكأن ابن سالم فيما أدى إليه اطلاعي من عباد الله الصالحين وكان قرأ الفقه والعربية وغيرهما وكان له مشاركة جيدة وأخذ لتصوف عن شيخه المذكور وألف فيه ناليفا نافعا سماه منهل الوراد في الحث على قراءة الأوراد وله آخر سماه تحفة الملوك لمن أراد بتجريد السلوك وله رسالة الحسب وقفت عليها ورأيته قد ذكر في آخرها مبدأ أمره وما اتساق إليه حاله فجردت منها ما الزمني اثباته في ترجمته وأعرضت عن غيره قال كان لي بدايتي وما ثم نهاية أني كنت مغر ما بحب الصوفية وتطلبت مرشدا كاملا فلم أجده حتى سافرت في طلبه إلى الحجاز والروم ومصر والجزائر والسواحل فلما أعياني تطلبه جئت وأقمت بالصالحية مدة فحانت منا زيارة لمقام إبراهيم ببرزة فاجتمعت فيها باستاذنا الشيخ أيوب فكاشفني عن بعض ما عندي وأوقع الله في نفسي أنه هو المطلوب ثم رأيت بعد ذلك في الرؤيا قائلا يقول لي قم فقد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك يريدك في هذا الوقت فقمت مسرعا وكأني بالجامع المظفري فخرجت من الباب الغربي فرأيت رجلا يقود فرسا مسرجا ألصقها بالصفة التي على الباب فقال اركب فقلت من أنا حتى أذهب لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم راكبا أنا أمشى على عينى فقال هكذا أمرت فمسك لي الركاب فركبت وذهبت فكأني بالناس وقد شقوا إلى زقاقا في الوسط فسرت بينهم إلى أن وصلت إليه فتأخرت عنه قليلا لئلا أحاذيه بفرسي وهو راكب فجعلت رأس فرسى قريبا من ركبته الشريفة وتكلمنا كثيرا ثم استيقظت وأنا مفكر في واقعتي وإذا برسول الشيخ أيوب جاءني من السلطانية إلى الجامع المظفري يقول لي الشيخ يطلبك فسرت فلما دخلت عليه ضحك وأنشدني ارتجالا
السالمى أحمد السالك طريق القوم ... نسيج وحده ظريف الشكل غالي السوم
رأى الذي أمنوا البلوى وهو في النوم ... فعاد وهو سميرى في المحبة دوم(1/159)
ثم التفت إلى الحاضرين من أهل الطريق وقال لهم أن طريقكم يحمله هذا وهو صاحبه وأشار إلى فتعجبت ولم يتقدم لي معه بيعة ولا جمعية ثم قال اجلس فجلست فبايعني على طريقه وقال تذهب في هذا اليوم إلى مقام برزة قلت مرحبا فجئ بدا بتين أحداهما له والأخرى لي وبقية الناس يمشون وكلمني ببعض ما رأيت آنفا في واقعتي ورأيت بعض من رأيت في الوقعة معه فعرفت أنه الوارث المحمدي فزدادت محبتي له واعتقادى فيه ثم أنا جئنا فقال مكاننا لا يصلح للطريق فاختر لنا مكانا فجئنا للمدرسة الضيائية تجاه الجامع المظفري من الشرق وكان لنا بها مدة لا تقوم بها مدة ثم رأيت كأن سبعة نفر شكل بريد السلطان جاؤا إلى الضيائية وسألوا عني فقلت وماذا تريدون منه قالوا هو مطلوب الملك فقلت أنا هو وهل أليق لذلك فقالوا نحن رسل لا ندري فانزعجت واستيقظت وقصيت على الشيخ واقعتي فقال بكرة النهار أفسرها لك ثم أنا نزلنا إلى المدينة على طريق البساتين فقال لي الشيخ كبر عمامتك وكنت إذ ذاك أتعمم بعمامة صغيرة فقلت يكفى هذا يا سيدي فقال لي أنت مطلوب لإمامة مسجد القصب والجماعة الذين رأيتهم البارحة حجرين عدى وأصحابه المدفونون هناك فتعجبت أيضاً لعدم استعدادي بعد مدة صرت أماما به باختيار جماعته فأقمت أنا والشيخ به ثمان عشرة سنة فرأيت كأني نائم على باب خان السلطان على المسجد الصغير هناك وإذا ببرد السلطان وقفوا على وقالوا هذا هو فقلت ما تريدون منى فقالوا هذه أحكام السلطان لتكون نائب الشام فقلت أنا من فقراء البلد وضعفائهم لا أعرف سياسة فزجروني وقالوا تأدب فنحن في الكلام وإذا بعجوز ومعها عرض حال فقالت خذ عرض حالي فزجرتها وقلت لهم اضربوها فضربوها فذهبت عنى فاستيقظت وقصيت ذلك على الشيخ فقال سترى عيانا ولما مرضت أنا والشيخ في مرضه الذي مات فيه وصلنا إلى العدم فرأيت في واقعتني كان رجالا داخلون إلى جهة بيتنا يحمل كل واحد منهم صينية فيها يا سمين ومنجرة وقمقم فقلت ما هذا قال عرسك على صافية بنت الشيخ أيوب فقلت لا أدرى أن له بنتا اسمها صافية قالوا هذه البنت كلهم يقولون لي مبارك فاستيقظت وبكيت لعلى أن هذا موت الشيخ وكان ليلة عيد الأضحى ففي وقت الضحى جاءني زمرة من الأخوان يبكون وقالوا في هذا اليوم جلس الشيخ بين اثنين وقال اخواني ليعلم الحاضر منكم الغائب أن خليفة الخلفاء بعدى الشيخ أحمد بن سالم وما ذلك منى وإنما نزلت خلافته من السماء بحضور رجال الطريق جميعا والطريق لسان صدق وبعد أيام تعافى الشيخ قليلا فقال احملوني إلى جامع منجك على دابة فجاء إلى الجامع وسأل كيف حال الشيخ أحمد فقالوا هو على حاله فقال احملوني لا عوده فحملوه يتهادى بين اثنين فجلس عند رأسي ولم أقدر أن أجلس له فقال لي قم لا بأس عليك ثم قال أرسلت أخبرك مع إخوانك بالخلافة وقد جئت إليك بنفسي أنت خليفتي بعدى فعليك بالطريق وأن أبيت أوقفك عليه بين يدى الله تعالى لي أتلفت عليك أحدى وعشرين سنة من أجل هذا فبكيت وبكى وكان أخواننا جميعاً حاضرين ثم قال لي ما رأيت فأردت أن أكتمه واقعتي قزجرني وقال قل الصدق فقلت الواقعة المذكورة فقال أي والله هي صافية وهي البكر المخدرة التي لا تليق إلا بك وقد زوجتك إياها جعلها الله مباركة وقرأ لي الفاتحة وانصرف من عندي فما مكث إلا قليلا حتى مات رحمه تعالى هذا ما قاله في ترجمة نفسه قلت وبعده وفاة شيخه صار خليفة من بعده وبايعه خلق كثير واشتهر أمره وبالجملة فأنه كان من خيار الناس وكانت وفاته سنة ست وثمانين وألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن على السند وبي الشافعي المصري الشيخ الأمام كان من أعيان المدرسين بالأزهر ومن أكابر الأفاضل ذا عبارات فصيحه وشيم مليحه أخذ عن الشمس الشوبرى والنور الشبراملسى وسلطان المزاحي ومحمد البابلي والشهاب القليوبى وكثير وأجازه شيوخه وتصدر للإقراء في ضروب من الفنون وله مؤلفات منها شرح على ألفيه ابن مالك وشرح قصيدة المقرى التي مطلعها قوله
سبحان من قسم الحفوظ ... فلا عتاب ولا ملامه
في نحو عشرة كراريس وشرح القصيدة الشيبانية وشرح العنقود للموصلى في النحو وله منظومة في الحال وأخرى في مصطلح الحديث وله أشعار كثيرة منها قوله ملغزا في ناصر(1/160)
صبرنا فلما أن رأى الصبر بأسنا ... تأخرعنا وهو منقطع القلب
وقوله:
ودنيانا بأهلها كركب ... يساربهمن وأكثرهم نيام
وقوله:
إذا ما رمت من جاؤا بافك ... فهاك عدادهم فيما يصحح
تولى كبره ابن أبى سلول ... وحمنة ثم حسان ومطح
وقوله:
إذا عدت المريض فلا تطول ... وقلل في الكلام لدى العيادة
ولا تذكر له فيها مريضاً ... ولا خبرا فذلك خير عاده
وحج مرات ورأيت بخط صاحبنا الفاضل مصطفى بن فتح الله قال اتفق لي معه أني زرت معه المعلاة تربة مكة فتذكرنا انسها وعدم الوحشة فيها بالنسبة إلى مقابر غيرها من البلاد ومن فيها من الأولياء ممن لا يحصى كثرة قد كرت له ما نقله المرجاني في تاريخ المدينة عن والده قال سمعت أبا عبد الله الدلاصى يقول سمعت الشيخ أبا عبد الله الديسى يقول كشف لي عن أهل المعلاة فقلت لهم أتجدون نفعاً بما يهدى إليكم من فراءة ونحوها فقالوا لسنا محتاجين إلى ذلك فقلت لهم ما منكم أحد واقف الحال فقالوا ما يقف حال أحد في هذا المكان فأعجب به وقال أرجو الله أن يميتني بمكة وأن أدفن بالمعلاة فلم يقدر له ذلك وتوفى بمصر وكانت وفاته في سوم الثلاثاء غرة جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وألف وعمره ثمان وستون سنة الشيخ أحمد بن عمر الحمامي العلواني الخلوتي الشافعي نزيل حلب الشيخ البركة تأدب على يد أستاذه أبى الوفاء العلواني قرأ عليه في مقدمات العلوم ولازمه في حضور مجالس شكوى الخاطر ثم سلك على يد ابن أخيه الشيخ محمد فكان بيته وبين الشيخ علوان رجل واحد هو الشيخ أبو الوفاء بن الشيخ علوان ثم خرج من بدلته خماة لحدة مزاجه وضيق أخلاقه وذلك بعد موت مشايخه فورد حلب ونزل بمحلة المشارقة وكان حينئذ يكتسب بالحياكة ثم مل منها وجلس بمسجد الشيخ شمعون بمحلة سويقة حاتم قرب الجامع الكبير فكان يقرئ المبتدئين في الألفية النحوية وشرح القطر ونحو ذلك ويقرى في المنهاج الفرعي وكان يقنع بسد الرمق يلبس الثياب الخشنة كالعباءة والقميص من الخام مع قدرته على لبس أحسن من ذلك ثم تردد إلى دروس الشيخ أبي الجود فسمع التفسير وما يقرأ على الشيخ أبي الجود وكان يتفقده ثم أخذ يشكو الخواطر على طريق العلوانية وكيفية شكوى الخواطر أنه يوم الجمعة صبيحة النهار يقرأ أوراد العلوانية ويستمر يذكر الله تعالى حتى ترتفع الشمس على قدر قامتين ويجلس السامعون بعضهم إلى ظهر بعض ثم يطرق الشيخ رأسه ويقول أستغفر الله فكل واحد يقول كذلك بمفرده ثم يشكو بعض جماعات منهم ما لاح في ضميره هذا يقول مثلا أجد نفسي تميل إلى الأطعمة الطيبة وعجزت عن دفعها وهذا يقول أشغلني عن عبادة الله أمور العيال وهذا يقول ما معنى قول ابن الفارض روحى فداك عرفت أم لم تعرف وهذا يقول ما معنى قوله تعالى هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين وبعد الفراغ من السؤالات يشرح لهم الخواطر واحد بعد واحد ويسترد قال العرضى الصغير حضرته مرة فاستطرد إلى أن حكى أنه لما كان في خدمة شيمه أبي الوفاء وجده في الليل نائما في الزاوية في الأيوان أيام البرد فأيقظه وقال له يا أحمد أوصيك لا تتخذ لك بيوتاً سوى المساجد لئلا تحاسب عليها في القيامة وذكر أن شيخه أعطاه مفتاح خزانة الزيت ليعطى منها للمسجد ما يحتاج فكان يسمى الله تعالى ويعطى واستمر مدة طويلة حتى حمل الحسد رجلاً قال للشيخ أن أحمد لا يقدر على حفظ الزيت فسلمه الشيخ المفتاح وعزل الشيخ أحمد فما مضى نحو أسبوع وإذا بالرجل قال فرغ الزيت فقال الشيخ سبحان الله كانت البركة في يد أحمد ولو استمر المفتاح عنده كان الزيت يقيم سنوات وله مؤلفات مقبولة منها تروية الأرواح وأعذب المشارب في السلوك والمناقب المتن له منظوم والشرح له منثور ومطلع المنظور قوله:
إليك بك اللهم وجهت وجهتي ... وفيك إذا ما همت ألغيت همتي
لقد سدت الأبواب عني وقصرت ... فأسألك التفريج من كل شدة
لك الحمد إذ أظهرت في الكون سادة ... تحلى بهم والله جيد الملاحة
بهم كل جود في الوجود وما لمن ... أحبهم غير الهنا والمسرة(1/161)
لك الحمدان أشغلت قلبي بذكرهم ... وشرفت ما أملى يوصف المحبة
فهم نور عيني والجمال بحفهم ... وهم روح جسمى والحياة بجملة
لك الحمد فارحمني إذا ما ذكرتهم ... بوصف جميل واصلح الله نيتي
وقد ذكر في الشرح شيخه أبا الوفاء وأطنب في مناقبه وذكر فيه الشيخ عمر العرضى وأطال في مدحه وكان سأل العرضى المذكور أن المقرر أن النبي أعم من الرسول مع أن الله تعالى علق الارسال على كل شئ فقال وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى دلت بصريحها أنه ما من شئ إلا وقد أرسل الله إليه أجاب بأن الرسول المعروف إنسان أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه ذاك بحسب عرف أهل الشرع والارسال المراد في الآية الارسال اللغوى قال تعالى وهو الذي يرسل الرياح ونحو ذلك ولم يعرف لذة الجماع أصلا ولما ورد شاه ولى الخلوتي العارف بالله تعالى صاحبه الشيخ أحمد وتلذ له وأخذ عنه البيعة حتى تعجب الناس من حسن أخلاق الشيخ أحمد ولبس الشيخ أحمد جميع مريديه تاج الخلوتية وشرع بقيم الذكر على أسلوب الخلوتية فكثرا اتباعه وقصده الناس من جميع أقطار حلب إلا أن المشددين في الزهد ما أعجبتهم هذه الحالة لكون الطريقة العلوانية محض سنة محمدية واتخذ له كرسيا يجلس عليه يوم شكوى الخواطر فكان يقرأ بعض آيات قرآنية ويفسرها للناس وأقبلت عليه الدنيا والنذورات وأسرعت الحكام وأرباب الدولة إلى زيارته ولما أدركت الشاه ولى الوفاة بحلب اجتمعت عليه أهالي باب النيرب وقالوا له يا مولانا ترك الشيخ أحمد طريقته آبائه وتلمذكم وهو عالم فاضل فلا يليق بالخلافة غيره فقال لهم لا الخليفة عليكم بعدى قايا حلبي وكرروا هذا الأمر مرارا وهو يقول لهم كذلك ثم انحل الشيخ أحمد عن تلك الحالة وأدركه الموت فقال أشهد الله أني أموت على طريقة الشيخ علوان وكان ربما اقتصر في اليوم على أكل رغيف وكانت وفاته في سنة عشرة بعد الألف ودفن بجانب الشيخ شاه ولى ملاصقا لمقام الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
السيد أحمد بن عمر بن عبد الله بن علوى بن عبد لله العيدروس ذكره الشلى وقال في حقه صاحب العلوم اللدنية والمعارف القدسية والأسرار العرفانية ولد بتريم ونشأبها وحفظ القرآن وأخذ عن جماعة بها ثم رحل إلى والده ببتدر عدن ولازمه وتخرج به وأخذ عن غيره من العلماء وكان جامعاً للأخلاق المحمودة مأوى للغريب ومنقذ اللهفان وبرع في العلوم الشرعية وعلوم التصوف وكان حاويا لأسباب الدقائق الفرعية والأصلية جامعاً المفردات الحقائق الشرعية والعقلية وقام بمنصبهم بعد والده أتم قيام وانتفع به الناس وكان ذا خلق رضى وسمت مرضى وانتفع به خلق ومن كراماته أنه لما قربت وفاته ولم يكن به مرض وإنما كان معه انقباض من الخلق كعادته طلب الماء فتوضأ وصلى ما شاء الله ثم طلب خواصه فتكلم معهم بكلام فيه اشارات في ضمنها بشارات منها ما عرف ومنها ما لم يعرف ثم التفت إلى أولاده الكبار وعرفهم بأمورهم وأمر أهل بيتهم وأوصاهم ونصب ابنه الكبير شيخاً عليهم وأمر الجميع باتباعه وأوصابهم وأعطى بعض خدامه إذ ذاك مريضاً ثم أمر الجماعة بالخروج ثم شمعوه يقول الله الله فدخلوا عليه فوجدوه قد خرجت روحه وكانت وفاته في سنة يبع وعشرين وألف وكان عمر بضعاً وخمسين سنة وقبر في قبة الشيخ أبي بكر بن عبد الله العيدروس رحمه الله تعالى(1/162)
الشيخ احمد بن عمر المعروف بالقارى نسبة لفارة بين حسية والنبك مشهورة بالبرد الشديد نزيل حلب الشيخ الصالح المتجرد المتقلب في أفانين الشطح ذكره الشيخ أبو الوفاء العرضى في معادنه وقال بعد أن أثنى عليه نشأ فقيرا وسلك طريق المشيخة والدروشة فطاف البلاد وزار مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني قال وأخبرني أنه وجد الشيخ حبيب الله البصرى في بغداد وطلب منه عهد القوم على طريقة القادرية فاطرق مليا قال أجد عليك سيما غيري وأظنه سيما المجذوب أبي بكر الحلبي قال ثم لما جئت غلى الشيخ أبي أبكر قال لي في الوقت والساعة جذبناك بالحبال والرجال فإن الشيخ بؤنث المذكر ولازم خدمة الشيخ زمنا وكان ما عنده أعظم من صاحب الترجمة فتولى الخلافة بعد جماعات متعددة وأيدى الأقدار تبددهم وقد كان الزوار لمرقده الشريف لا يحضى عددهم والصدقات تتوارد عليهم وهم لا يعلمون مقدارها ولا يستطيعون أن يشتروا ماءونا يطبخون فيه لغلبة الجذب عليهم وكلهم محلقون اللحى يلبسون المرقعات ويفترشون جلود الغنم يأكلون الحشيش والكلس وبعض المجاذيب منهم يشرب الخمر والعرق ولا يصلون ولا يصومون وتتوارد عليهم مجاذيب البلاد على هيئات مختلفة وصاحب الترجمة معهم لا يقدر أن يخالفهم في صورة الظاهر في شئ حتى ضجروا يوما من الأيام فلاموا أنفسهم على أحوالهم وقالوا مرادنا شيخ يصلح نظامنا فتصبوا المذكور فاشترى لهم بسطا وصحونا وبعض حوائج التكية ثم زارهم كافل حلب أحمد باشا ابن مطاف فلامهم على ترك الصلاة وهذه الأحوال ثم أجرى لهم اسماعيل نائب القلعة الماء من قناة حلب ولازموا الصلوات الخمس بالاوراد والعبادات حتى أشرقت قلوبهم وأضاءت وجوههم وكثرت الصدقات الدارة عليهم فعمر لهم حسن باشا ابن علي باشا ميدان الفقراء بالقبة الكبيرة تحتها العواميد العظيمة وعم حمزة الكردى الدمشقي القاعة ذات البركة من الماء ولم يتمها بل وصلت إلى السراويل فأتمها أحمد باشا اكمكحي زاده الوزير والوزير الأعظم محمد باشا كبرا القبة التي على مرقد الشيخ وعلى أغاضا بط العسكر عمر عمارات والحاصل فقد أنشأ فيها صاحب الترجمة بتدبيره وحسن رأيه أشياء عظيمة من حدائق لطيفة ومطابخ للطعام وصار هذا المزار لا يوجد له نظير بالنظر إلى مزارات الأولياء وكان صاحب الترجمة ذا سكون ومصاحبة لطيفة وسخاء مفرط لوجئ له بالألوف لفرح بانفاقها يوما واحداً وعماراته كلها صدرت منه بصدر واسع وكرم زائد وتحمل تام للفعلة والمعلمين وقد لامه شيخ الإسلام المولى أسعد لما مر على حلب على كونه يحلق لحيته مع كون ذلك بدعة قال هكذا وجدنا أستاذنا قال أستاذكم كان مجذوباً وأنتم عقلا فقال أن شاء الله تطلق سبيل اللحية ولما سافر المولى أسعد استمر على حلق اللحية حتى قدم على الله وكان له معرفة بكلام القوم ومذاكرة في بعض لطائف من الواضحات ومن محاسنه أنه سمع من أغلب الناس أن الوزير نصوح باشا يريد قتله وهدم ابنيته فلم يبال بذلك حتى خرج الوزير المذكور يوماً ومعه الفعلة بالفوس والمجارف وأهل حلب يظنون أنه يهدم ذلك الموضع فاجتمع الناس عند مرقد الشيخ أبي بكر لأجل الفرجة والفقراء الذين عنده هربوا وهو قاعد ثابت وفي خلال ذلك ظهر أنه يهدم الأبنية التي على سور المدينة ثم جاءه الباشا زائرا فقال له صاحب الترجمة قالوا لي عنك أنك غضبان علينا فقلت للناس الباشا يقدر علينا في ثلاثة أمور أما القتل فأنا لنا مدة تتمنى الشهادة ودرجتها وأما النفى من حلب فلنا مدة نطلب السياحة وأما الحبس فلنا مدة نطلب الرياضة أتقدر على أكثر من ذلك قال لاثم قال له طب نفسا وقر عينا ما لنا بركة إلا أنت اليوم أخرجت الفعلة لهدم الدور التي على سور المدينة وليس لي نية على ضرركم أصلا واستمر نحو خمسين سنة في الخلافة لا ينازعه منازع في راحة وافرة صدقات متواترة تأتيه من الناس والكبير والصغير يقبلون يده وهو ملازم على الأوراد ويبذل القرى للواردين وكل من يرد عليه سقاه القهوة ومن يستحق الضيافة أضافه يصدر واسع وخلق كريم لكن كانوا في كل يوم وقت الضحوة الصغيرة يديرون الكاس يأكلونه ويشربون القهوة عليه وكان يقول الدهر مل من طول عمر ثلاثة أحدهم أنا والثاني أبو الجود مفتى حلب والثالث شاه عباس قال بعضهم والرابع يوسف باشا ابن سيفا وهذا الكلام محمول على طول عمر هذه الثلاثة وكثرة(1/163)
وقائعهم وأحوالهم بحيث مل الناس من ذكر أمورهم حتى سار الأملال إلى الدهر لكن كان أبو الجود فيه نفع لعباد الله تعالى ثم اشترى كتبا فيها المقبول الذي له ثمن فوقعها على المكان واشترى أراضى ووقفها على الأماكن واشترى بستانا ووقفه أيضاً على الدراويش وكتب بذلك وقفية وجعل لها متوليا ولما مرض أوصى بالخلافة من بعده للدرويش أحمد الكلشني وأعطاه ختمه أحضر الكشاف عنده وكتب له بذلك حجة ولما مات أظهر الشيخ مصطفى القصيرى ورقة بخط الشيخ أحمد أنه اتخذ الدرويش مصطفى الخليفة من بعده واشتد الخصام وبقى هذا يتولى الخلافة مدة ثم يذهب الآخر ويأتى بأمر سلطاني ليكون الخليفة ويعزل الآخر وهلم جراوا ختل أمر ذلك المكان غاية الاختلال وكانت وفاته في سنة احدى وأربعين وألف وقال أديب الشهباء السيد أحمد بن النقيب الآتى ذكره يرثيهم وأحوالهم بحيث مل الناس من ذكر أمورهم حتى سار الأملال إلى الدهر لكن كان أبو الجود فيه نفع لعباد الله تعالى ثم اشترى كتبا فيها المقبول الذي له ثمن فوقعها على المكان واشترى أراضى ووقفها على الأماكن واشترى بستانا ووقفه أيضاً على الدراويش وكتب بذلك وقفية وجعل لها متوليا ولما مرض أوصى بالخلافة من بعده للدرويش أحمد الكلشني وأعطاه ختمه أحضر الكشاف عنده وكتب له بذلك حجة ولما مات أظهر الشيخ مصطفى القصيرى ورقة بخط الشيخ أحمد أنه اتخذ الدرويش مصطفى الخليفة من بعده واشتد الخصام وبقى هذا يتولى الخلافة مدة ثم يذهب الآخر ويأتى بأمر سلطاني ليكون الخليفة ويعزل الآخر وهلم جراوا ختل أمر ذلك المكان غاية الاختلال وكانت وفاته في سنة احدى وأربعين وألف وقال أديب الشهباء السيد أحمد بن النقيب الآتى ذكره يرثيه
ما الكون سوى صحيفة الأكدار ... خطت لذوى العقول والأفكار
كم موعظة تضمنت أسطرها ... أن أنت جهلتها فأين القارى
وفي لفظ القارى ايهام التورية كما لا يخفى والله سبحانه وتعالى أعلم الشيخ أحمد بن عمر بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي بكر بن إبراهيم بن عبد الرحمن السقاف الفقيه الشافعي اليمنى البيتى نسبة غلى بيت مسلمة قرية قرب مدينة تريم أحد العلماء الأعلام ولد بتريم وحفظ القرآن والجزرية والاجرومية والأربعين النووية والملحمة والقطر والارشاد وغير ذلك وعرضها على مشايخه واشتغل على خاله القاضي أحمد بن حسين بافقية ولا زمه في دروسه حتى تخرج به وأكثرا انتفاعه به وأخذ عن الفقيه محمد بن إسماعيل بأفضل والشيخ القاضي عبد الرحمن بن شهاب الدين وعن الشيخ عبد الرحمن السقاف العيدروس والشيخ زين الدين بن حسين بأفضل وأحكم على الفروع والتصوف والعربية وشارك في غيرها وألبسه الخرقة جماعة من العارفين وبرع في طريق القوم وأكثر الأخذوا لتردد على علماء عصره وأذن له غير واحد من مشايخه بالافتاء والتدريس وكان يحضر درسه جم غفير واشتهر بالفتح لكل من قرأ عليه وقصيدته الطلبة من كل مكان لما يحصل في درسه من البحث والإيضاح وكان له في تعليم المبتدئين تدريج حسن وأكثر اعتنائه بالارشاد وشروحه قال الشلى وهو أول شيخ أخذت عنه في عنفوان عمرى أخذت عنه الحديث والفقه والتصوف والنحو لازمته مدة مديدة وقرأت عليه كتبا كثيرة وكانت أخلاقه رضية وكان الغالب عليه بذاذة حاله وعدم الاحتفال بنفسه وقد روى أبو داود البذاذة من الإيمان وورد في خبر آخر من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القايمة على رؤس الاشهاد يخيره من أي حلل الجنة شاء يلبسها ولا ينافي هذا خبر أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده وخبر أن الله جميل يحب الجميل وفي رواية يحب النظافة لأن الأول محمول على من آثر ذلك للتواضع لا غير والثاني على من قصديه اظهار نعمة الله عليه قال ولم يزل على تلك الأحوال إلى أن مات وكانت وفاته في سنة خمسين وألف ودفن بمقبرة زنبل من جنان بشار(1/164)
المولى أحمد بن عوض العينتابي الأصل الحلبي قاضى قضاة الشام ومصر وغيرها كان من أهل الفضل والكمال وفيه تواضع وله أخلاق حسنة ولد بحلب وكان أبوه صالحاً تقيا نشأ في حجره وقرأ في مبادى عمره بحلب ثم سافر إلى الروم وأقام بها مدة طويلة ولازم بعض الموالى فسلك طريق الموالى فدرس وقدم في غضون ذلك إلى حلب صحبة قاضيها عبد الرحيم بن اسكندر فولاه قسمة حلب وقدم إلى دمشق مرات عديدة ثم خدم بعض قضاة العسكر في خدمة التذكرة وصارت له محنة كاد أن يقتل بسبها وذلك أنه نسب إليه أنه قلد السلطان في خطه فكتب السلطان خطا شريفا بقتله ثم لم تزل أعيان الدولة يشفعون له حتى سكت عنه واختفى مدة حتى تنوسيت قصته ثم أخذ في اصلاح أخواله فتولى قضاء آمد فسلك فيها أحسن سلوك وكاد يلتحق بالقاضي شربح ثم ولى قضاء القدس ثم قضى أيوب ثم ولى قضاء الشام في سنة إحدى وأربعين وألف وقال فيه بعض الأدبا مؤرخا توليته
لقد ولى الشام الشريفة حاكم ... بخير لنا قد عدت والعود أحمد
وكان بالروم رجل من أهالى حلب يسمى تبجى ويعرف بستيتية حلب وكان علماء الروم يعتقدونه كثيرا خصوصا شيخ الإسلام حسين ابن أخي فشفع لصاحب الترجمة في إبقائه بدمشق مدة زائدة على مدته فأبقى وأنفذت شفاعته فقال في ذلك الأمير منجك
تقول لنا الشهباء والدهر نادم ... وأم الليالي اشتد صوت نواحها
ستيثيتي أبقت لقاضي دمشقكم ... جناحافها هو طائر بجناحها
وفي أيام قضائه ورد إلى دمشق من عسكر السلطان مراد بن أحمد طوائف وشهرتهم بالقشلق وسبب ورودهم إنهم كانوا عينوا المحاربة شاه عباس فدهمهم الشتاء دون الوصول إلى خطة العجم فأمروا بأن يشتوا في دمشق واطرافها من القرى وضيقوا على الناس أمر المعيشة وبالغوافي التعدى والتجاوز ونهب أموال الناس ونفع صاحب الترجمة الخلق في قمع أولئك بعض القمع وفيهم يقول إبراهيم الإكرمي المقدم ذكره
أنظر غلى القشلق في ذلة ... العكس من حالهم الحائل
كم رجل منهم بسموره ... على جواد صائل صاهل
تحف بالجندى غلمانه ... وقد أتى يسأل من سائل
ولأبي بكر العمري قصيدة في وصفهم وفيما فعلوه ويشير فيها إلى معاوية صاحب الترجمة في دفع بعض شرهم ومطلعها
أواه مما حل في جلق ... من العنافي زمن القشلق
رامى البلا مد على أهلها ... قوسا له قال القضا فوقى
حتى تنادى الناس مما دهى ... يا ليتنا من قبل لم نخلق
قدمنا الضر وعم الأذى ... وما لنا من منجد مشفق
من مبلغ سلطاننا أننا ... من جنده في حرج ضيق
ويا مراد الله في خلعته ... من السلاطين غدا نلتقى
في موقف يحكم رب الورى ... فيه ولا ملجأ منه يقي
أدرك رعاياك فقد أصبحوا ... على شفا من كل باغ شقى
كانت دمشق الشام محسودة ... لكونها بالعين لم تطرق
آمنة من كل ما يختشى ... مأمنة للخائف المشفق
مائسة تزهو بسكانها ... مائدة للبائس المملق
لا يعرف الدخل لها مدخلا ... ولا إلى عليائها يرتقى
وهي على ما تم من نعمة ... تتيه بالحسن وبالرونق
وأهلها في سفه كلهم ... الفاجر الفاتك والمتقى
يغبطهم في ذاك أهل الدنا ... من مغرب الشمس إلى المشرق
فجاءها ويلاه في غفلة ... أمر إليها قط لم يسبق
أمر مرادى له سطوة ... أخرست المنطيق والمنطق
قوم من الاتراك عاثوا بها ... على خيول ضمر سبق
من جهة المشرق قد أقبلوا ... والشر قد يأتي من المشرق
في رقعة الشام عدت خيلهم ... وذلت الارخاخ للبيدق
أواه من خمدة نيرانها ... يا نار كيف اليوم لم تحرق
أين العتاق الجرد ما بالها ... من أدهم عال ومن أبلق(1/165)
ما للمواضى سكنت غلفها ... كأنها بالأمس لم تبرق
ما للعوالي نكست للثرى ... رؤسها كالخائف المطرق
وأين فسر سانك يا شامنا ... هل دخلوا في نفق مغلق
عهدي بهم كانوا اليوث الوغى ... لم يعبأوا بالفيلق المطبق
عهدى بهم كانوا غيوث الندى ... إذا ظمئنا منهم نستقى
عهدى بهم كانوا حماة الحمى ... من الثنيات إلى المفرق
قد أسلمونا للردى خيفة ... منهم ولاذوا بحصون تقى
وبيننا خلوا وبين العدا ... ووكلوا الباشق بالعقيق
أقول للنفس وقد أوجفت ... خوفا عليك إلا من لا تفرقى
أن مسك الضر وزاد العنا ... فلا زمى الصبر ولا تقلقى
أو نالك الجوع فلا تشتكى ... فإن باب الله لم يغلق
ولا تضيقى أن عرى فادح ... ذرعا ولو دام فلا تحنقى
لكل كرب فرج يرتجى ... قصدقى ما قلته واصدقي
يا ويح قوم دعسوا أرضنا ... وأوقعونا في ردى موبق
وقد أغاروا وبنا أحدقوا ... يا غيرة الله إلينا اسبقى
أجلوا أهالي الدور عن دورهم ... يالسيف والدبوس والبندق
واتخذوها سكنا دونهم ... بالفرش من خروا واستبرق
واستوعبوا أكثر أموالهم ... ظلما بلا عهد ولا موثق
واقتنع الناس بأعراضهم ... فإنها بالثلب لم ترشق
هذا ولولا الله بارى الورى ... أغاثهم بالعالم المفلق
إلا وحدى المولى خدين العلى ... أحمد قاضيها التقى النقى
العلام الفرد رفيع الذرى ... الناشر العدل على صنجق
والله لولاه يمين امرئ ... لسانه بالمين لم ينطق
خلت دمشق الشام من أهلها ... طرا ولم يبق بها من بقى
جاهد في الله وخاض الوغى ... بهمة علياء لم تلحق
ولم يخسف في الله من لائم ... لام ولا من ناطر مذلق
وحوله الأعلام ساداتنا ... كل يرى كالقمر المشرق
فقاتلوهم بقلوب صفت ... بالوعظ لا بالكف والمرفق
وخوفوهم بطش سلطاننا ... مراد مردى كل باغ شقى
ثم ابتهلنا كلنا بالدعا ... أن الدعا من كل شر يقى
وزال عنا بعض ما نشتكى ... ونسأل المنان فيما بقى
وبعدها قالوا اشتروا شامكم ... منا فباعوها غلى المخنق
لقد غرينا دون وعد بلا ... لام فأرخ سنة الفشلق
وصل يا رب على من ترى ... أنواره جهرا من الأبرق
وخبر القشلق مستغبض مشهور وكذا هذه القصيدة مشهورة عود إلى تتمة الترجمة وعزل صاحب الترجمة عن قضاء دمشق وبعد مدة طويلة ولى قضاء مصر وبها توفى وكانت وفاته في أوائل سنة ثمان وأربعين وألف ودفن بالقرافة الكبرى(1/166)
الشيخ أحمد بن عيسى بن علاب بن جميل المنعوت شهاب الدين الكلى المالكي شيخ المحيا النبوي بالجامع الأزهر الأمام العلامة خاتمة الفقهاء والمحدثين ومربى المريدين وقطب العارفين وهو منفلوطي المولد ولديها ونشأ ثم تحول مع أبيه إلى مصر فحفظ القرآن وعدة متون وأخذ عن والده ولازم العلماء الأعيان كالقاضي على بن أبي بكر القرافي المالكي والشمس محمد الرملي وغيرهما وتفقه على مذهب الإمام مالك بالأمام البنوفري ولزمه وانتفع به وأذن له بالجلوس في محله بالجامع الأزهر وصار يلقى دروساً مفيدة وأخذ الحديث عن جماعة منهم النجم الغيطى والشمس العلقمي والشريف الأرميوني وأخذ التفسير عن تاج العارفين محمد البكرى والتصوف عنه وعن العارف بالله عبد الوهاب الشعراوى وجد واجتهد حتى علت درجته وسمت رتبته وعنه أخذ جمع منهم الشمس البابلي وغيره وجلس بالمحيا الشريف بعد والده ووالده جلس بعد الشيخ نور الدين الشوني المدفون برواية الشيخ عبد الوهاب الشعراوى عن أذن من النبي صلى الله عليه وسلم كما هو ثابت مشهور وكان صاحب الترجمة صاحب أحوال باهرة وحكى بعض العارفين الأولياء أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في درسه ومن محاسنه أنه كان محافظاً على التصدق سرا بحيث لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه وكان وفاته في سنة سبع وعشرين وألف بمصرود فن بالقرافة الكبرى رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن عيسى المرشدى الحنفي المكي أحد فضلاء مكة وأدبائها المسلم لهم ما يقولون من غير نكير وكان مع أدبه الباهر فقيها متضلعاً ولى القضاء نيابة بمكة ورأيت أخباره مستقصاة في مجاميع عديدة ومنشآته وأشعاره كثيرة رائقة وذكره السيد على بن معصوم في السلافة وقال في ترجمته شهاب الفضل الثاقب الشهير المآثر والمناقب سطع في سماء الأدب نوره وتفتق في رياضه زهره ونوره وامتد في البلاغة باعه فشق على من رام أن يشق غباره اتباعه لا تلين قناة فضله لغامز ولا يلمز لبه المبر أمن العيب لامز كان قد ولى القضاء بمكة المشرفة فنال به من أمله ما طمح بصره إليه واستشرفه ولما حصل أخوه في قبضة الريف أحمد بن عبد المطلب ومنى منه بذلك الفادح الذي فهر به وغلب حصل هو أيضاً في القبض والأسر وأردف معه على ذلك الأدهم بالقسر حتى جرع أخوة تلك الكاس وأنعم عليه بالخلاص بعد الياس فراش الدهر حاله وأعاد منها ما غيره وأحاله ولم يزل فارغ البال من شواغل النكد والبلبال إلى أن انقضت أيامه وتنبهت له من دواعى المنون نيامه وله شعر بديع الأسلوب يملك برقته المسامع والقلوب فمن ذلك قصيدته التي يمدح بها الشريف مسعود بن إدريس
عوجا قليلا كذا عن أيمن الوادى ... واستوقف العيس لا يحدو بها الحادى
وعر جابى على ربع صحبت به ... شرخ الشبيبة في أكناف أجواد
واستعطفا جيرة بالشعب قد نزلوا ... أعلى الكثيب فهم غيي وارشادى
وسائلا عن فؤادي تبلغا أملى ... أن التعلل يشفى غلة الصادى
واستشفعار واسعفا سؤالكم فعسى ... بقدر الله اسعا في واسعادى
وأحملاني وحطا عن قلوصكما ... في سرح مردى الأعادى الضيغم العادى
مسعود عين العلى المسعود طالعه ... قلب الكتيبة صدر الحفل والنادى
رأس الملوك يمين الملك ساعده ... زند المعالى جبين الجحفل البادى
شهم السراة الأولى سارت عوارفهم ... شرقا وغربا بأغوار وأنجاد
فردغما العلى في سوحه وأرح ... أيدي الركائب من وخدو اسآد
فلا مناخ لنا في غير ساحته ... وجود كفيه فيها رائح غادى
يعشوشب العز في أكناف ذروته ... يا حبذا الشعب في الدنيا لمرتاد
ولمجبتنى ثمر الآمال يانعة ... من روض معروفه من قبل ميعاد
فأي سوح يرجى بعد ساحته ... وأي قصد لمقصود وقصاد
ليهن ذا الملك إذ ألبسن حلته ... تحسي مآثر آباء واجداد
علوت فخرا ففاخرت النجوم على ... والشهب فحرا بأسباب وأوتاد(1/167)
ولحت بدر بأفق الملك متحسده ... شمس النهار وهذا جرحت بادى
وصفا مكة إذ طهرت حوزتها ... من ثلة أهل تغليب والحاد
قد غر بعضهم الأهمال يحسبه ... عضوا فعادلاً تلاف وافساد
فذدتهم عن حمى البيت الحرام وهم ... من السلاسل في أطراق أجياد
كأنهم عند رفع الزند أيديهم ... يدعون حبا لمولانا بامداد
وما ارعووا فشهرت السيف محتسبا ... يا برد حرهم في حر أكباد
غادرتهم جرزا في كل منجدل ... كان أثوابه مجت بفرصاد
وأثمر الدم من أجسامهم ثمرا ... حلوا بأفواه أجداث وألحاد
سعيت سعيا جنينا من خمائله ... نور الأماني لا رواح بأجساد
فكم بمكة من داع ومبتهل ... ومن محى ومن مثن ومن فادى
وقت كل عصى ذلة وعنا ... وكان من قبل صعبا غير منقاد
وعاد كل شقى صالحا وغدت ... أيامنا بالهنا أيام أعياد
نفى لذيذ الكرى عنهم تذكرهم ... وقائعاً لك بين الخرج والوادى
من كل أبيض قد صلت مضاربه ... لما ترقى خطيبا منببر الهادى
وكل أسمر نظام الطلى وله ... إلى العدا طفرة النظام مياد
أسكنت قلبهم رعبا تذكره ... ينسى الشفوق الموالى ذكر أولاد
أقبلتهم كل مر قال وسابحة ... يسرعن عدوا إلى الأعدا بأطواد
من كل شهم إلى العلياء منتسب ... بساد قادة للخيل أجواد
فهاك يا ابن رسول الله مدحة من ... أورت قريحته من بعد أخماد
فأحكمت فيك نظما كله غرر ... ما أحرزت مثله أقيال بغداد
أضحت قوافيه والآمال يسرحها ... روض البديع لارصاد بمرصاد
ترويه عني الثريا وهي هازثة ... بالاصمعي وبما بروى وحماد
وتستحث مطايا الزهران ركدت ... كأنها إبل يحدوبها الحادى
وتوقظ الركب ميلا من خمار كرى ... والليل من طوق نداب السرى هادى
أتتك تسأل اقبالا لمنشئها ... فاقبل تذللها يانسل أمجاد
وأسبل الستر صفحا أن بدا خلل ... واهتك به ستر أعداء وحساد
لا زلت يا عز آل البيت في دعة ... تحف منهم بأنصار وأنجاد
بحق طه وسبطيه وأمهما ... والمرتضى والمثنى الطهر والهادى
صلى عليهم إله العرش ما سجعت ... قمرية أوشدا في أيكة شادى
وهذه القصيدة لها شهرة بالحجاز طنانة وقد عارضها جماعة منهم القاضى تاج الدين المالكي ومطلع قصيدته قوله
غذيت در التصابى قبل ميلادى ... فلا ترم يا عذولي فيه ارشادى
وستأتي في ترجمته ومنهم السيد احمد بن مسعود ومطلع قصيدته قوله
ألوى برسم اللوى الترجال والحمادى ... وقوض الصبر عن قلب بإجياد
وثلاثتهم مدحوا بقصائدهم الريف مسعود عارضهم الأديب محمد بن أحمد حكيم الملك بقصيدة مدح بها الشريف زيد بن محسن ومطلعا
صوادح البان وهنا شجوها بادى ... فمن عذير فتى من فت أكباد
وستأتي الأخرى ومن شعر صاحب الترجمة ما كتب به إلى القاضي تاج الدين المذكور من الطائف بقوله
لا هاج قلباً هام من ... برح الفراق بالانصداع
غيم أرق حواشيا ... من برد ضافية فه القناع
زجل الرعود كأنها ... نغمات آلات السماع
والهمع مثل الدمع من ... عينى مراء أو مراع
يهمى ويسكب كي يعم ... برية سعف التلاع
والبرق يخفق مثل قل ... ب الصب في يوم الوداع(1/168)
ونسيمه قد رق من ... حر اشتياقي والتلاع
لفراق تاج الدين ما ... ضي الأمر قاضينا المطاع
من جمعت فيه العلى ... وتوفرت فيه الدواع
ذي الفضل بالمعنى الاعم ... ولا أخص ولا أراع
سبقت أنامله الأنام ... فأحرزت قصب البراع
من ذا يبارى ذا البنان ... براقم ويدى ضياع
أن حاك وشى ما يحوك ... بالابتكار والاختراع
لا زال محمود الخصال ... ودام مشكور المساع
فراجعه بقوله
أن كان قلبك صيب من ... برح الفراق بالانصداع
فالقلب قد غادرته ... شذرا بمعترك الوداع
أوهاجكم زجل الرعود ... سرى وأصبح في اندفاع
وسمعت من نغماته ... رنات آلات السماع
فلقد رحلت بمقلة ... عميا وسمع غير واع
ولئن يكن رق النسيم ... بما يجن من التياع
فبزفرتي اشتعل الهواء ... من العنان إلى البقاع
كم قلت للقلب المصدع ... بالنوى جد بارتجاع
فأحال ذاك على انتظ ... ام الشمل في سلك اجتماع
عهدي به لما أن استو ... لت عليه يد الضياع
أضللته في موقف التود ... يع من دهش ارتياعى
ناشدته نشسداته ... لي بين هاتيك الرباع
تحت المواطئ من ممر ... صديقي الخل المراعى
يا سيدي وأخي هوى ... وجلالة ويدى وباعى
من أصبحت شمس العلى ... بسناه ساطعة الشعاع
فحر القضاة وفيصل الأ ... حكام في يوم التداعى
بحر العلوم فإن أفا ... د ترى له سعة اطلاع
قل للمحاول شأوه ... قصر خطا هذى المساعى
فانظر لمرآة الزمان ... وقد غدت ذات التماع
لا غير صورة مجده ... فيما تراه وذا انطباع
يا محرزا بيتانه ... قصب السباق بلا دفاع
وموشيا حبر البلا ... غة والبراعة باليراع
أني يحاكى وشها ... بحياكتي ذات الرقاع
كان الحرى بها اشتما ... لي صوب سمتي وادراعي
لكن أمرت بأن أجيبك ... وامتثال الأمر داعى
فأتتك من خجل تج ... ر الذيل مرخيه القناع
فانشر لها ستر الرضا المن ... سوج من كرم الطباع
لا زال مجدك كل ح ... ين في ازدياد وارتفاع
وقال في صوفية عصره
صوفية العصر الأوان ... صوفية العصر والأواني
فافوا على قوم لوط ... بنقرزان لنقرزان
ومن بديع شعره ما كتبه في ديوان ابن عقبة بقرية السلامة من أعمال الطائف وهي قصيدة فريدة لم أظفر منها إلا بهذا القدر ومطلعها قوله
قصر ابن عقبة لا زالت مواصلة ... منى إليك التحا يا نسمة السحر
ولاعدتك غوادى السحب تسحبه ... رحابك الفيح ذيل الطل والمطر
كم لذة فيك أرضيت الغرام بها ... يوما وأرغمت أنف الشمس والقمر
وكم صديق من الخلان حاونى ... أطراف أخبار أهل الكتب والسير
وقال معللا تسمية القدح قدحا
مذ صب ساقينا الطلا ... حتى تناثر وانتضح
خالوا شرارا مارأوا ... فلا جل ذا قالوا قدح
ومن شعره قوله في البرقع الشرقي المعروف عند أهل اليمن
وخود كبدر التم في جنح مصون ... حماها من الابصار برقعها الشرقي
نرى طرة مثل الهلال بدت لنا ... على شفق والفرق كالفجر في الأفق
فقلت خلال لاح والبدر طالع ... من الغرب أم لاح الهلال من الشرق
وقوله في مثل ذلك
بالبرقع الشرقي ت ... حت المصون الباهي الجمال(1/169)
أبدت لنا شفقا ولي ... لا لاح بينهما الهلال
ويعجبني من شعره قوله في مطلع قصيدة مدح بها السيد شهوان بن مسعود
فيروزج أم وشام الغادة الرود ... يبدو على سمط در منه منضود
وأعجب منه مخلصها وهو
صهباء تفعل بالألباب سورتها ... فعل السخاء بشهوان بن مسعود
وله غير ذلك وكانت وفاته لخمس خلون من ذي الحجة سنة سبع وأربعين وألف واتفق تاريخ وفاته صدر هذا البيت
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
الشيخ أحمد بن الفضل بن محمد يا كثير المكى الشافعي من أدباء الحجاز وقضلائها المتمكنين كان فاضلا أديبا له مقدار على وفعل جلى وكان له في العلوم الفلكية وعلم الأوفاق والزاير جايد عالية وكان له عند أشراف مكة منزلة وشهرة وكان في الموسم يجلس في المكان الذي يقسم فيه الصر السلطاني بالحرم الشريف لا عن شريف مكة ومن مؤلفاته حسن المآل في مناقب الآل جعله باسم الشريف أدريس أمير مكة ومن شعره قوله مصدرا ومعجزا قصيدة المتنبي يمدح بها السيد على بن بركات الشريف الحسني وهي
حشاشة نفس ودعت ودعوا ... وقالت لا طعان الأحبة اتبعوا
وصبزنوى الترحال يوم رحيلهم ... فلم أدرأى الظاعنين أودع
أشار وابتسليم فجدنا بأنفس ... تسيل من الأنفاس لما ترفعوا
وسارت فظلت في الخدود عيوننا ... تسيل من الآماق والسم أدمع
حشاى على جمر ذكي من الهوى ... وصبرى مذ بانوا عن الصبر بلقع
وقلبي لدى التوديع في حزن حزنه ... وعيناي في روض من الحسن ترتع
ولو حملت صم الجبال الذي بنا ... من الوجد والتبريح كان تضعضع
وأكبادنا من لوعة البين والنوى ... غداة افترقنا أوشكت تتصدع
بما بين جنبى التي خاض طيفها ... دموعي فوافى بالتواصل يطمع
تخيل لي في غفوة وجهت بها ... إلى الدياجى والخليون هجع
أتت زائر أما خامر الطيب ثوبها ... وخمرتها من مسك دارين أضوع
فقبلت اعظا مالها فضل ذيلها ... وكالمسك من أردانها يتضوع
فشردا عظامى لها ما أتى بها ... وفارقت نومى والحشا يتقطع
وبت على جمر الغضا لفراقها ... من النوم والتاع الفؤاد المولع
فيا ليلة ما كان أطول بتها ... سمير السها حلف الدجى أتضرع
يجر عنى كاس الأسى فقد طبفها ... وسم الأفاعي عذب ما أتجرع
تذلل لها واخضع على القرب والنوى ... لعلك تحظى بالذى فيه تطمع
ولا تأنفن من هضم نفسك في الهوى ... فما عاشق من لا يذل ويخضع
ولا ثوب مجد مثل ثوب ابن أحمد ... على بن بركات بن الفخر أجمع
عليه ضفا بالمكرمات ولم يكن ... على بن بركات به الفخر أجمع
وأن الذي حابى جديلة طىء ... بحاتمهم وهو الجواد الممنع
حبا بعسلى آل طه فإنه ... به الله يعطى من يشاء ويمنع
بذى كرم ما مر يوم وشمسه ... بغير سنا منه تضئ وتسطع
ومنها في الختام قوله
ألا كل سمح غيرك اليوم باطل ... لأنك فرد للكمالات تجمع
وكل ثناء فيك حق وأن علا ... وكل مديح في سواك مضيع
واتفق له أنه سمع وهو محتضر رجلا ينادى على فاكهة ودعوا من دنا رحيله فقال بديها
يا صاح داعى المنون وافى ... وحل في حينا نزوله
وها أنا قد رحلت عنكم ... فودعوا من دنا رحيله
فلم يلبث إلا قليلاً حتى مات رحمه الله تعالى وكانت وفاته ف سنة سبع وأربعين وألف بمكة ودفن بالمعلاة(1/170)
الأديب أحمد بن كمال الدين بن مرعى الشافعي الدمشقي العيثاوى الأديب الذكى الناظم اللبيب كان جيد الفهم حلو العبارة فائق النظم على حداثة سنه وغضارة عوده ولديد بدمشق وبها نشأ وقرأ على والده شيئاً يسيرا من الفقه وقرأ العربية وفنون الأدب على علماء عصره ومال بكليته نحو الأدب فنظم الشعر المبدع ومدح غالب أعيان وقته واشتهر فضله ونبل قدره وقفت له من الشعر على هذه القصيدة كتبها جوابا القصيدة أرسلها إليه أبو بكر العمرى وألغز له فيها في صندل وهي قوله
يا ناظم العقد الظريف ... بقريضك الحسن اللطيف
بيراعك الصفحات تز ... هو بالعقود وبالشنوف
وبفكرك الوقاد ته ... زء بالظريف وبالعفيف
كم عين نقدك أظهرت ... بفصاحة خافى الزيوف
أنت المجلى كم بطرف ال ... طرف جلت على الصفوف
ويح المجارى لم يكن ... من دأبه غير الوقوف
يا من يفوق الشمس بالح ... سن المصون عن الكسوف
البدر عند كماله ... بالنقص حط بالخسوف
هل ذا النظام حديقة ... تزهو بتذليل القطوف
أن ذاك للصادى النم ... ير أتاه في حر المصيف
أم ذا الحبيب مواتيا ... كرما يوعد للدنيف
أم ذات حسن أقبلت ... تجلى مخضبة الكفوف
لا بل دواء متسيم ... لا زال ذا جسم نحيف
أفديك من بحأتي ... مبدى العجائب والصنوف
من بعضها الحسنا التي ... تنبى عن الفضل المنيف
جاءت تجر الذيل من ... تيه على رغم الأنوف
سترت صباح جبينها ... بظلام شعر كالسجوف
فدهشت مذ أبصرت ... منها الفرق كالبرق الخطوف
ووقفت اجلالا لها ... ولمثلها حتم الوقوف
وسألتها حسر اللئا ... م بحل معناها اللطيف
فأبت وآبت وهي لم ... تحنن على فكرى الضعيف
فضربت تحت الاجت ... اع فجاء بالشكل الظريف
فوجدتها لمريدها ... لم تلف بالطلب الخفيف
وكانت وفاته وهو شاب في حياة أبيه ليلة الجمعة خامس ليلة من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وألف ودفن بمقبرة الفراديس أحمد بن محمد بن عبد الرحيم الملقب شهاب الدين با جابر الحضرمي ذكره الشلة في تاريخه المرتب على السنين وقال في ترجمته ذو السودد الظاهر والفضل الباهر أخذ من والده الشيخ محمد وتربى تحت حجزه وتحلى بجواهر بحره وأخذ عن غيره من العلماء ورحل إلى الهند وأخذ عن الشيخ عبد القادر بن شيخ وغيره وله نظم حسن ومدائح في السادة قال الشيخ عبد القادر مدحني بقصيدة يقول فيها
وما قصدي الجزاء سوى انتسابي ... إلى علياكم يوم القيامة
فكان من اختيار الله تعالى له بمقتضى حسن نيته أن مات قبل أن يفتح الله علينا بشئ من الدنيا وتأسفت على موته داً وكنت كلما ذكرته استثار منى الحزن وانبعث الأسى والندم حتى كان مصابى باعتبار ذلك جديداً في كل آن ثم كنت كثير الترحم عليه والدعاء له وصنفت في أخباره وما جرياته كتابا سميته صدق الوفاء بحق الأخاء وكانت وفاته ببلده لا هور من الديار الهندية في ليلة الثلاثا رابع عشر شوال سنة أحدى بعد الألف رحمه الله تعالى(1/171)
الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن عثمان شهاب الدين المتولى الأنصارى الشافعي المصري الأمام المؤلف المحرر المتقن ذكره الشيخ مدين القوصوني فيمن ترجمه فقال بركة المسلمين ومفيد الطالبين شيخنا أحمد شهاب الدين كان ورعا متواضعا وكان يجلس للوعظ بالمدرسة المؤدية وكان لا يسمع أصلاً وإنما كنا نكتب له ما نسأله عنه أخذ عن جماعة منهم الشيخ يوسف بن شيخ الاسلام زكريا وعن الشمس محمد الرملى وعن الشيخ محمد بن حسن الطنجي وغيرهم وله من المؤلفات شرح على الجامع الصغير وهو شرح مفيد جامع ومنه كان يستمد الشيخ عبد الرؤف المناوى في شروحه وله مقدمة وضعها قبل الشرح المذكور تشتمل على أربعة وعشرين علما قلت وقد رأيت هذا الشرح وطالعته فرأيته استوعب في مقدمته أشياء نفيسة جمة الفائدة وله رسالة سماها نيل الاهتداء في فضل الارتداء أصلها سؤال عن وضع الشد على الكتفين هل له أصل في السنة أولا فأجاب فيها بما حاصله أن الأصل في ذلك الرداء ثم قال فإن قلت فهذا الذي اعتاده الناس من جعل ثوب على العنق وارساله من الجانبين هل له أصل من السنة قلت أصل له وهو عادة القبط قديماً كما قاله أبو شامة وغيره ممن ألف في الحوادث والبدع وقد اعتاده الناس فمن فعله حرم بركة الاقتداء به صلى الله عليه وسلم وروى أبو داود عن ابن عمر والطبراني في الأوسط قال ومن تشبه بقوم فهم منهم قال وأما الاتداء فمن فعله فببركة اتباع السنة يقيه الله المكروه فعليك بالاتباع وإياك ولابتداع ومن عجيب ما وقع لي أنه حضر بعض أكابر العلماء ومن ينسب إلى المشيخة الكبرى وهذا الثوب الذي يعرف الفعل ولم عدلتم عن اتباع ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم فما أعاد جوابا كأنه ألقم الحجر ورحم الله ابن رشد قال كان العلم في الصدور فصار الآن في الثياب انتهى وقال قبل ذلك وفي النهاية الرداء الثوب أو البرد الذي يضعه الإنسان على عاتقيه وبين كتفيه فوق ثيابه روى الطبراني عن ابن عمرو رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الارتداء لبسة العرب والالتفاع لبسة الإيمان وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله قال عبد الملك بن جبير في شرح الموطأ الارتداء وضع الرداء على الكتفين والتلفع أن يلقى الإنسان الثوب على رأسه ثم يلتف به لا يكون الالتفاع إلا بتغطية الرأس وروى ابن عساكر عن عائشة رضى الله عنها قالت كان طول رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أذرع وشبرا في ذراع وروى ابن سعد عن عمرو بن الزبير أن طول رداء النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أذرع وعرضه ذراعان انتهى خاتمة في بيان عبارة صاحب الترجمة وعبارة غيره من شراح الجامع الصغير في جواز اللعن وتحريمه قال الأول مانصه وقد أجمعوا على تحريم المسلم المصون وأما لعن أهل المعاصي لا المعينين والمعروفين كلعن الله آكل الربا فحائز وأما لعن معين متصف بمعصية كيهوي أو مصور أو آكل ربا فظاهر الأحاديث أنه جائز وأشار الغزالي إلى تحريمه وأما لعن الحيوان والجماد فكله منهى عنه مذموم قال الحافظ ابن حجروا احتج شيخنا يعنى البلقينى على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذ دعاها زوجها إلى فراشة فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح وهو في الصحيح وتوقف فيه بعضهم فإن اللاعن هنا الملائكة فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسى بهم وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها والذي قاله شيخنا أقوى فإن الملك معصوم والتأسى بالمعصوم مشروع والبحث في جواز المعين وهو موجود قلت يحتمل أن يقال هو من خصائص المعصوم ليسقط الاستدلال بع فتأمل هذا وقد ثبت النهى عن اللعن فحمله على المعين أولى انتهى بحروفه وقال شيخنا عبد الرؤف المناوى في شرحه ما نصه وأجمعوا على تحريم لعن المسلم المصون وأما أهل المعاصي غير المعين فجائز أما لعن معين متصف بمعصية كيهودي أو نصراني وآكل ربا فظواهر الأخبار جوازه وأشار الغزالي إلى تحريمه وجوز البلقيني لعن العاصى ولو معينا الخبر إذا دعا المرأة زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح واعترض بأن الاستدلال متوقف على وجوب التأسى بالملائكة أو جوازه مع أن ليس في الخبر تسميتها وزعم بعض من كتب على الكتاب أنه من خصائص المعصوم فلا يستدل به ساقط إذ لا بد في دعوى الخصوصية من دليل انتهى كلام مل من الشارحين وقد رأيت أصل العبارة للإمام النووي في(1/172)
أواخر الأذكار وعبارته أن الغزالي أشار إلى التحريم إلا في حق من علمنا أنه مات على الكفر كأبي لهب لأن اللعن هو الإبعاد عن رحمة الله تعالى وما ندرى ما يختم به لهذا الفاسق والكافر وله رسالة قال في أولها فقد سألني بعض الأخوان أن أعلق تعليقا لطيفا ألذ من بلوغ الآمال جوابا عن مسائل تتعلق بعرض الأعمال ورفعها إلى الله تعالى في الأيام والليالي فأجبته إلى ذلك السؤال وجمعت هذه الرسالة الحاوية لنفائس الجواهر واللآل وسميتها نجاح الآمال بإيضاح عرض الأعمال وقال في أواسطها روى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عبد الغفور بن عبد العزيز عن أبيه عن جده مرفوعا تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس على الله تعالى وتعرض على الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة فيفرحون بحسناتهم وتزداد وجوههم بياضا واشراقا فاتقوا الله ولا تؤذ واموتاكم ثم قال قال الشيخ ولى الدين العراقي أن قلت ما معنى هذا مع أنه ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار وقبل عمل الليل قلت يحتمل أمرين أحدهما أن أعمال العباد تعرض على الله تعالى كل يوم ثم تعرض عليه أعمال الجمعة في كل اثنين وخميس ثم تعرض عليه أعمال السنة في شعبان أو تعرض عليه عرضا بعد عرض ولكل عرض حكمة يطلع عليها من يشاء من خلقه أو يسأثر بها عنده مع أنه تعالى لا يخفى عليه شئ من أعمالهم ولا تخفى عليه خافية انتهى قلت وهي رسالة كثيرة الفوائد جد أو كانت وفاته ليلة السبت ثامن عشر ربيع الأول سنة ثلاث بعد الألف ودفن خارج باب النصر بتربة الشريف الدارس وهي وبالقرب من مقابلة حوض اللفت رحمه الله تعالى الأذكار وعبارته أن الغزالي أشار إلى التحريم إلا في حق من علمنا أنه مات على الكفر كأبي لهب لأن اللعن هو الإبعاد عن رحمة الله تعالى وما ندرى ما يختم به لهذا الفاسق والكافر وله رسالة قال في أولها فقد سألني بعض الأخوان أن أعلق تعليقا لطيفا ألذ من بلوغ الآمال جوابا عن مسائل تتعلق بعرض الأعمال ورفعها إلى الله تعالى في الأيام والليالي فأجبته إلى ذلك السؤال وجمعت هذه الرسالة الحاوية لنفائس الجواهر واللآل وسميتها نجاح الآمال بإيضاح عرض الأعمال وقال في أواسطها روى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عبد الغفور بن عبد العزيز عن أبيه عن جده مرفوعا تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس على الله تعالى وتعرض على الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة فيفرحون بحسناتهم وتزداد وجوههم بياضا واشراقا فاتقوا الله ولا تؤذ واموتاكم ثم قال قال الشيخ ولى الدين العراقي أن قلت ما معنى هذا مع أنه ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار وقبل عمل الليل قلت يحتمل أمرين أحدهما أن أعمال العباد تعرض على الله تعالى كل يوم ثم تعرض عليه أعمال الجمعة في كل اثنين وخميس ثم تعرض عليه أعمال السنة في شعبان أو تعرض عليه عرضا بعد عرض ولكل عرض حكمة يطلع عليها من يشاء من خلقه أو يسأثر بها عنده مع أنه تعالى لا يخفى عليه شئ من أعمالهم ولا تخفى عليه خافية انتهى قلت وهي رسالة كثيرة الفوائد جد أو كانت وفاته ليلة السبت ثامن عشر ربيع الأول سنة ثلاث بعد الألف ودفن خارج باب النصر بتربة الشريف الدارس وهي وبالقرب من مقابلة حوض اللفت رحمه الله تعالى أحمد بن محمد بن علي الحصكفى الشافعي المعروف بابن المنلا وتمام نسبه قد ذكرته في ترجمة ابنه إبراهيم فلا حاجة إلى إعادته وأحمد هذا قد ذكره جماعة من المؤرخين والمنشئين وكلهم أثنوا عليه ووصفوه بأوصاف حسنة رائقة بالجملة فإنه كان واحد الدهر في كل فن من فنون الأدب جمع الجماهير نشأ في كنف أبيه وقرأ على جماعة من العلماء وأكثر اشتغاله على الرضى ابن الحنبلي صاحب تاريخ حلب أخذ عنه رسالته سرح المقلتين في مسح القلتين دراية ورافق في سماع تأليفه مخائل الملاحه في مسائل المساحة وشارك في الجبر والمقابلة وقرأ المحلى الأصلى مع مشارفة حاشيته وسمع شمايل النبي صلى الله عليه وسلم للترمذي من لفظه قال ابن الحبلي في تاريخه وكان أي ابن المنلا السبب في أن قلت
يا من لمضطرم الأوام ... حديثه المروى دوى
أروى شمايلك العظام ... لرفقة حضر والدي
على أنال شفاعة ... تسدى لدى العقبى إلى(1/173)
حاشا شمايلك اللطيفة ... أن رى عونا على
وقرأ عليه شرح المواقف والعضد مع حاشية السيد الجرجاني والسعد التفناز أبى وصحب سيدي علوان بن محمد الحموى وهو بحلب سنة أربع وخمسين وسمع منه الثلث من البخارى وحضر مواعيده وسمع الحديث المسلسل بالأولية من البرهان العمادى وأجاز له وقرأ بالتجويد على الشيخ إبراهيم الضرير الدمشقي نزيل حلب كثيراً وأجاز له في سنة خمس وستين ودخل دمشق مرتين وأخذ بها عن البدر الغزى وحضر دروسه بالشامية البرانية وقرأ على النور النسفى بدمشق قطعة من البخارى ومسلم وحضر عنده دروسا من المحلى وشرح البهجة وأجاز له وقرأ بها شرح منلا زاده على هداية الحكمة على محب الدين التبريزى مجاور التكية السليمانية مع سماعه عليه بعض تفسير البيضاوى وقرأ قطعتين صالحتين من المطول والاصفهاني على أبي الفتح الشبسترى ورحل في سنة ثمان وخمسين إلى قسطنطينية صحبه والده فأخذ رسالة الاسطر لاب من نزيلها الشيخ غرس الدين الحلبي واجتمع بالمحقق السيد عبد الرحيم العباسي واستجاز منه رواية البخارى فأجاز له ومدحه بقصيدة مطلعها قوله
لك الشرف العالى على قادة الناس ... ولم لا وأنت الصدر من آل عباس
وهي مذكور في رحلته التي ألفها وسماها بالروضة الوردية في الرحلة الروميه ورجع إلى حلب فولى تدريس البلاطية التي أنشأها الحاج بلاط دويد أر الحاج أينال كافلها إلى جانب تربته وتربة مخدومه وأفاد وصنف وشرح مغنى اللبيب شرحا جمع فيه بين الدمامينى والشمنى وأطال فيه وهو في بابه لا نظير وله رسائل أدبية منها رسالة طالبة الوصال من مقام ذلك الغزال نسجها على منوال عبرة الكثيب وعثرة اللبيب للصفدى وشكوى الدمع المراق من سهام الفراق ووضع كتابا سماه عقود الجمان في وصف نبدة من الغلمان وضعه على أسلوب كتاب شيخه ابن الحنبلي المسمى بمرتع الظبا ومربع ذوى الصبا وتعاطى صناعة النظم والنثر فأحسن فيهما إلى الغاية ومن محاسن شعره قوله
نازع الخد عذار دائر ... فوق خال مسكه ثم عبق
قائلاً للخد هذا خادمى ... ودليلى أنه لونى سرق
فانتضى الطرف لهم سيف القضا ... ثمنادى ما الذي أبدى الفرق
أيها النعمان في مذهبكم ... حجة الخارج بالملك أحق
وقوله
وأسمر من بنى الأتراك ذى غنج ... يهز قد اكغصن البان في هيف
كأنه حين يعلو سور قلعته ... وينثنى شر فامنه على شرف
غصن الصبا مزهرا قدر نحته صبا ... عليه بدر بدا من دارة الشرف
وقوله
ادعوا أن خصره في انتخال ... فلذا بان قده الممشوق
وأقاموا الدليل ردفا ثقيلا ... قلت مهلا دليلكم مطروق
وله
قالوا حبيبك أمسى لا تكلمه ... ولا تميل لرؤيا وجهه النضر
فقلت أمر دعاني نحو جفوته ... والحب للقلب لا للفظ والنظر
وقوله
المشهدى لسانه ... قد فل كل مهند
أن رام انشاد القر ... يض فقل له يا سيدي
يشير غلى قول بعضهم في قول ابن الشجرى العلوى
يا سيدي والذي عيدك من ... نظم قريض يصدا به الفكر
ما فيك من جدك النبي سوى ... أنك لا ينبغي لك الشعر
وهذا ألطف في التعبير بمراتب من قول مخلد الموصلى وهو
يا نبي الله في الش ... عر ويا عيسى ابن مريم
أنت من اشعر خ ... لق الله أن لم تتكلم
وأن كان أصله ما قاله الثعالبي في كتابه المسمى بالشكاية والتعريف إذا كان الرجل متشاعر غير شاعر قالوا افلان نبى في الشعر يعنى أنه لا ينبغي له ذلك وقال
أن كنت تفخر يا رقي ... ع بما زعمت من الشرف
فالله يدري ما تق ... ول ولست الاذا سرف
إني أجل بنى الرس ... ول من أن تكون لهم خلف
وإذا قبلنا ما تقو ... ل فأنهم نعم السلف
ومنه قول أبي تمام
لئيم الفعل من قوم كرام ... له من بينهم أبدا غواء
ومن لطائف مضامينه البديعة قوله في شخص عابه بانحسار شعر رأسه(1/174)
يعيبني أن شعر الرأس منحسر ... منى فتى قد عرى من حلة الأدب
وليس ذلك إلا من ضرام هوى ... سرى إلى الرأس منه ساطع اللهب
أقصر عدمتك ذا داء بمبعره ... فالعيب في الرأس دون العيب في الذنب
وكتب مع هدية قوله
أقبل هدية مخلص ... في وده وثنائه
واجبر بذلك كسره ... واغنم جميل دعائه
ومما ينخرط في هذا السلك قول سعيد بن أحمد
هديتي تقصر عن همتي ... وهمتي تعلو على مالي
فخالص الود ومحض الولا ... أحسن ما يهديه أمثالي
وله
قد بعثنا إليك أكرمك ... الله ببر فكن له ذاقبول
لا تقسه إلى ندى كفك الغ ... مر ولا نيلك الكثير الجزيل
واغتفر قلة الهدية منى ... أن جهد المقل غير قليل
وقال في رحلته الرومية لمحت بعريض شيزر غزا لابين الغزلان نافر وشادنا طار نحوه قلبي فالفى الذي بين جفنيه كاسر ومليحا أسفر عن بدر في تمامه وابتسم عن ثنايا كأنها الدرفى انتظامه يتبعه شرذمة من خرد النساء الحسان وهو يلعب بينهن كأنهن الحور وهو من الوالدان
صادني بالعريض ظبى غرير ... بحسام من حد جفن غضيض
ثم لما انثنى بأسمر قد ... أوقع القلب في الطويل العريض
وله من رسالة يقبل الأرض معترفا برق العبودية قربا وبعدا ومقرا بان فراق تلك الحضرة الزكية لم يبق له على مقاومة الصبر جهدا ارتكب مجاز لتصبر ليفوز بحقيقة الاصطبار واستعار لقلبه جناح الشوق فها هو يود لو أنه نحوكم طار عجل عليه البين يدنو حينه وسبك في يودقة خديه خالص بريز دمعة عينه وقطر بتصعيد أنفاسه لجين دموعه ونفى بتأوهه وأنيته طير هجوعه وله غير ذلك من غرر القول وكانت ولادته في سنة سبع وثلاثين وتسعمائة وتوفي في سنة ثلاث بعد الألف قتله الفلاحون في قرية باتشا من عمل معرة نسرين ظلما وعدوانا ودفن بالجبل بالقرب من تربة جده لامه الخواجه اسكندر بن آيجق رحمه الله تعالى أحمد بن محمد بن أحمد نزيل طيبة والمتوفى بها ابن أحمد بن أحمد بن عمر بن أحمد ابن أبي بكر بن أحمد العباس شهاب الدين الفقيه الحبلى المعروف بالشوبكى الصالحى كان من أفاضل الحنابلة بدمشق وكان غزير العلم سريع الفهم حسن المحاضرة فصيح العبارة وفيه تواضع وسخاء ولد بصالحية دمشق وحفظ القرآن والمقنع في الفقه وأخذ الفقه وغيره عن محرز مذهبهم العلامة موسى الحجاوى الصالحي وأخذ العربية وغيرها من الفنون عن الشمس محمد بن طولون والملا محب الله والعلامة أبي الفتح الشبسترى والعلامة علاء الدين بن عماد الدين والشهاب أحمد بن بدر الطيبى الكبير ثم رحل إلى مصر وأخذ بها عن الجلة من العلماء كشيخ الإسلام تقى الدين بن أبي بكر بن محمد الغيومي ورجع إلى دمشق وأفتى بها ودرس نحو ستين سنة وسلم له فقهاء المذهب غير أنه كان على مذهب ابن تميية من القول بتجويز بقاء التزويج بعد الطلقات الثلاث وتولى القضاء بالصالحية وقناة العوني الكبرى وكان يحكم ببيع الأوقاف وترك الصالحية في أواخر عمره وقطن بدمشق بالقرب من الجامع الأموي وخطب مدة طويلة بجامع منجك بمحلة ميدان الحصى وكان صوته حسنا وتلاوته حسنة وامتحن مرات وسافر إلى قسطنطينية في بعضها وسرقت ثيابه وغالب ما كان يملك في منزله بدمشق إلى قسطنطينية في بعضها وسرقت ثيابه وغالب ما كان يملك في منزله بدمشق دخل عليه اللصوص وأمسكو الحينة وأراد واقتله ونسب فعل ذلك إلى غلام رومى كان مال إليه ثم رتكه وكانت ولادته في سابع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وتسعمائة وتوفي في يوم عرفة بعد العصر تاسع ذي الحجة سنة سبع بعد الألف ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى(1/175)
الشيخ أحمد بن محمد الصفوري الأصل الدمشقي المولد المعروف بابن عبد الهادي العمري الشافعي الفقيه النبيل من بيت معروف بقرية صفورية لهم الصلاح والعلم خرج منهم فضلاء جمة وينتهى نسبهم إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأول من قدم منهم إلى دمشق محمد والد أحمد هذا فقطن بقرية عقربا من ناحية الغوطة واتخذ بها بساتين ومساكن وتزوج بنت العارف بالله تعالى عبد القادر بن سوار شيخ المحيا بدمشق وجاء منها أولاد كثيرون منهم أحمد صاحب الترجمة فنشأ طالبا للعلوم والمعارف وقرأ على الحسن البور بنى الشافعي طرفا من فقه الشافعي وشيئاً من المعاني والبيان واشتغل على غيره وبرع وكانت وفاته في أواخر ذي القعدة سنة تسع بعد الألف ودفن بتربة القصارين في جانب قبر عاتكة ثم رأيت في الكواكب السائرة أن جدهم عبد الهادى كان يسكن دمشق بمحلة قبر عاتكه ووصفه بالشيخ الصالح الصوفي المسلك المربى ولي الله تعالى وذكر أن وفاته كانت سوم الأحد سادس عشر شوال سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة ودفن بتربته بالقرب من مسجد الطالع بتربة الدقاقين أحمد بن محمد القاضي شهاب الدين الجعفري الصالحي الشافعي المعروف بالمصارع ولي نيابة القضاء بمحاكم دمشق وعزل آخراً عن نيابة الباب بعد أن تعاقب عليه مرارا والقاضي محمد الكنجي الآتي ذكره وكان يبذل المال لأجل تولية النيابة ويعزل سريعا لحماقة كانت فيه وكان مذموماً سئ الأطوار ولما ولى نيابة الحكم قيل فيه
أصبحت يا ابن الجعفرية حاكما ... فسد الزمان تراه أن جن الفلك
أما الصراع فأنت فيه عارف ... لكن شريعة أحمد من أين لك
وجرت له محن كثيرة لطلاقة لسانه في حق الأكابر أصبح ميتا في فراشه في يوم العشرين من شهر ربيع الأول سنة اثنتى عشرة بعد الألف ودفن في مقبرة الفراديس وقيل في تاريخ موته
مصارع ليس له مضارع ... أقرع رأس بالاذى يقارع
ألهمت يوم موته تاريخه ... مات إلى جهنم المصارع
وقيل أيضاً
مات المصارع والنام تيقنوا ... أن الأذى للخلق منه يضره
ألهمت يوم وفاته تاريخه ... أن المصارع في الجحيم مقره
أحمد بن محمد بن راضى الشافعي العلواني من اتباع الشيخ على الكيز وأني الشيخ الصالح قرأ على والده في علم القراآت وكان لوالده اليد الطولى في هذا الفن وغالب قراء حلب في زمنه تعلموا منه وقرأ على الشيخ عمر العرضي مدة مديدة وانتفع منه بمباحث مفيدة كان أماما بالكيزوانية ومتوليا واستولى على جميع أوقافها باعتبار انتسابهم في الأخذ عن الشيخ الكيزواني طريقة العوانية بل طريقة شيخه السيد على بن ميمون فإن الكيزواني كان من اقران الشيخ علوان إلا أن سيدي الشيخ علوان كان ذا علوم غزيرة من علوم الشريعة الحقيقة وكان الاسم الكبير له والشهرة التامة فإن السيد على بن ميمون خلف الشيخين المذكورين وخلف الشيخ محمد ابن عراق وخلف الشيخ الزين الحلبي مدفنا فالشيخ علوان له المصنفات العظيمة نحو نسمات الأسحار ومصباح الهداية وشرح التائية الفارضية والتائية الصفدية وغير ذلك والشيخ الكيزواني له رسائل كثيرة في التصوف إلا أنها مختصرة وكذلك الشيخ محمد بن عراق وتولى صاحب الترجمة المدسة الأرغوانية وكان يتولى تكاليف محلة العقبة فمنهم المادح ومنهم غير ذلك وكانت وفاته في سنة ثمان عشرة بعد الألف ودفن بقرب الفيض وقد جاوزا الستين تقريبا رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن العلامة الشمس محمد بن شيخ الإسلام أحمد بن يونس بن إسماعيل ابن محمود السعودي الشهير بالشلبي المصري الفقيه الحنفي الأمام المحدث رأس فقهاء زمنه ومحدثيه وكان له بعلم الحديث اعتناء كبير محتاطا فيه عارفا بطرقه وتفييداته واقراء كتبه وله سهم عال في الفقه والفرائض وكان سريع الفهم وافر الاطلاع ولد بمصر وبها نشأ وأخذ عن والده وعن الجمال يوسف بن القاضي زكريا وغيرهما وعنه أخذا لشهاب أحمد الشوبرى والشيخ حسن الشرنبلالي وعمر الدفرى والشمس محمد البابلي وزين العابدين بن شيخ الإسلام القاضي زكريا وغيرهم وكانت وفاته بمصرفي نيف وعشرين وألف(1/176)
الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى المعروف بالكواكبي البري الأصل ثم الحلبي الحنفي الصوفي أحد أعيان علماء حلب وكبرائها ذكره أبو الوفاء العرضي وقال في ترجمته لزم الاشتغال على الوالد يعنى الشيخ عمر العرضي برهة من الزمان حتى وصل غلى قراءة المطول وحواشيه قراءة تحقيق وقرأ على الشيخ محمد بن مسلم المغربي أحد شيوخ الوالد في المغنى وحاشيته وقرأ فقه الحنفية على الشيخ محمد المصري الحنفي وكان يحضر مجالس ذكر والده فأخذ الطريق على الشيخ عيوادا الكلشني وهو ارد ولى أيضاً واتخذ له حلقة ذكر في جامع بانقوسا ثم رجع إلى طاعة والده وتاب إلى الله تعالى وتقدم عليه في بعض مجالس الذكر الشيخ عبد الله فضربه صاحب الترجمة وألقى عمامته عن رأسه وكان في وقت هوية الذكر فلم ينزعج الشيخ عبد الله بل استمر في ذكره وهذا خلق حسن عظيم ثم ترك زى الصوفية وشرع في أخذ المدار من الحلبية ثم حركه مبغضوا الشيخ أبي الجود على أخذ افتاء حلب منه فاستعظم ذلك ثم توجه إلى قسطنطينية وأخذها وتولى القسمة العسكرية بحلب مرارا وصار قائماً مقام القاضي إذا تولى جديدا حتى جمع في سنة واحدة بين الفتوى والقسمة العسكرية مع النيابة الكبرى عن قاضي حلب والنظر على كتخذاى الدفتر دار وكان عفيفا في أقضيته له حسن معاملة مع أصحابه ومحبيه وأحبه كافل حلب نصوح باشا نكاية في أبي الجود لكون أبي الجود ساهر العسكر الدمشقيين ونصوح باشا كان يبغضهم وكان يترددا إليه وتزدحم على بابه الأكابر والأعيان وبنى دارا عظيمة بالجلوم غلى جنب زايوة جده من جهة الشرق ولما تولى حسين باشا كفالة حلب وعزل نصوح باشا ووقع بينهما تلك الفتن والمحن كان حسين باشا ينظر إلى صاحب الترجمة شزرا ويسمعه هجرا واشتد الوهم به حتى تدلى ليلا من السور وانهزم حتى وصل إلى طرابلس سريعاً جداً فاتجأ غلى كرم بنى سيفا فاستقبلوه بلأجلال فجلس هناك شهور قليلة ثم توجه إلى مصر وحج واستمر بمصر حتى ذهبت دولة جانبو لاذعاد إلى حلب ولبس صلى الله عليه وسلم وكان يأتى إليه نحو ألف إنسان ما بين ذاكر وناظر وكان يطيل مجلس الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يمل المصلى والسامع فقال له أخوه الشيخ أبو النصر طريقتنا قسم تهليل وليس فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحب الترجمة يقول الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم يرجحها في الفضل على لا إله إلا الله ثم طال الجدال بينهما حتى أصلح الشيخ أبو النصر مسجدا كان مهجورا واتخذه للذكر في ليالي الجمع فكان الأكثر من الناس يأتون إلى الشيخ أبي النصر لكون ذكره بالنغم والأساليب الحسنة مع العبادة ومجلس صاحب الترجمة عبادة محضة وكان كتب في امضائه نقل من السجل المصان فاعترضه الشيخ أبي النصر لكون ذكره بالنغم والأساليب الحسنة مع العبادة ومجلس صاحب الترجمة عبادة محضة وكان كتب في امضائه نقل من السجل المصان فاعترضه الشيخ أبو الجود وقال الشيخ أبو الوفا وكان سألني وأنا شاب لم كان اسم الفاعل مع فاعله ليس بجملة والفعل مع فاعله جملة فأجبت بأنه لما لم يختلف غيبة وتكلما وخطايا عومل معاملة المفردات وأما الفعل مع فاعله لما اختلف عومل معاملة الجمل فأعجبه ومن نظمه حين أحب أخوه شابا يقال له محمود فأنشد
قد قلت للأخ لما زاد في شغف ... ارفق بنفسك أن الرفق مقصود
فقال لا أبتغى عن ذا الهوى بدلا ... هواى بين أهيل العشق محمود
وكانت ولادته في سنة خمس وخمسين وتسعمائة وتوفي في رمضان سنة ثلاث وعشرين وألف ودفن في قبور الصالحين السلطان أحمد بن محمد بن مراد السلطان الأعظم والخاقان والأفخم اعظم ملوك آل عثمان وأحملهم وأكرمهم كان سلطانا عظيم القدر جميل الذكر محبا للعلماء وآل البيت متمسكا بالسنة النبوية حسن الاعتقاد معاشرا لارباب الفضائل سمح الكف جواد الاتزال إحساناته للفقراء واصلة وعطاياه لارباب الاستحقاق مترادفة وكان مائلا وكان مائلا إلى الأدب والمحاضرات وله شعر بالتركية ومخلصة على قاعدة شعراء الروم يختى ومما يروى له من الشعر العربي قوله وأجاد
ظبي يصول ولا اتصال إليه ... جرح الفؤاد بصارمى لظيه
ما قام معتدلا وهز قوامه ... إلاتهتكت الستور عليه(1/177)
يسقى المدامة من سلافة ريقه ... ويخصنا بالغنج من جفنيه
عيناه نرجسنا وآس عذاره ... ريحاننا والورد من خديه
يا شعر في بصرى ولا في خده ... أني أغار من النسيم عليه
عجبى لسلطان يعز بعدله ... ويجور سلطان الغرام عليه
لولا أخاف الله ثم حجيمه ... لعبدته وسجدت بين يديه
قلت والبيتان الأخيران من جملة قصيدة لابن زيك الشيعى ومطلع قصيدته قوله
ومهفهف ثمل القوام سرت إلى ... أعطافه النشوات من عينيه
ولما توفي والده كان الوزير له إذ ذاك قاسم باشا فأخفى الوزير موت السلطان ودخل يلبس السواد ويحضر في الجمع ويجلس على الكرسي وإذا احضر أعيان العلماء وأصحاب المناصب وأركان الدولة من أكابر الوزراء والأمراء وقبلوا يده وبايعوه على السلطنة على قانونهم فيقول لهم كل واحد منكم يمشى على طريقه ويصله كمال الشفقة ونهاية الرحمة فلما صدر ذلك خرج الوزير وأرسل وراء الأعيان والوزراء فخض واو أخذ كل واحد منهم مجلسه فبعد هنيئه رأوا شابا حسن الوجه رقيق الجسم تعلوه هيبة عظيمة ووقار جسيم فجاء حتى جلس على كرسي السلطنة وعليه موت واحد منهم فلما جلس علموا أنه لسلطان وتحققوا موت والده فقاموا وقبلوا يده وحدثهم بما عهد إليه به الوزير وانقضى المجلس على ذلك وشرعوا بعد ذلك في تحهيز السلطان محمد ودفنه وكان ذلك نهار الأحد سابع عشر شهر رجب سنة اثنتي عشرة وألف وكان عمر السلطان أحمد يومئذ أربعة عشر سنة ووافق تاريخ جلوسه مخلصة بختى وقيل في تاريخه أيضاً هو خير السلاطين وقضت وأنا بالروم على مجموع بخط بعض الأفاضل لا يحضرني اسمه أنشأ فيه تواريخ جلوس السلطان أحمد صاحب الترجمة وهو
سلطاننا أحمد عزت ولايته ... تاريخها في اسمه للناس أن حسبوا
أعداد مضروبه اضرب في الأصول وفي ... ثانيه رابعه يحصل لك الأرب(1/178)
ولما التحم أمره ابتدأ بارسال وزيره على باشا الوزير الأعظم إلى جهة المجز بالعساكر فمات وهو متوجه فعين مكانه محمد باشا الذي كان سر دارا في روم ايلى ثم بعد ذلك سعى في الصلح مراد باشا بين السلطان والمجر على مدة عشرين سنة ودخل إلى الديار الرومية برسل الكفار ومعهم الهدايا والتحف فقبل السلطان أحمد ذلك ثم سعى في قطع دابر البغاة الخارجين على السلطنة في أيام والده وقد كان جرى على أيامه منهم ما لم يجر على أحد من أهل بيته ممن تقدمه ولا تأخره حتى أنهم ملكوا غالب النواحي والبلدان وقويت شوكتهم وكبر شأنهم منهم حسين باشا الذي كان حاكما في بلاد الحبة ولخروجه أسباب يطول الكتاب يذكرها فأفسد وجبى الأموال من البلاد وأحرق بعضي النواحي من بلاد قرمان ونواحى أنا طولى وقتل وسبى وأسر بعض القضاة واستمر في غلوائه حتى وصل غلى مدينة الرها وبها العاصى الذي أسس بناء السكبانية وهو عبد الحليم اليازجي فلما وصل المدينة المذكورة التقى صلان صلائلان واجتمع ثعبانان منثعبان وأبرز كل منهما للآخر حكما يشهد بأن آل عثمان قد أمروه وبقتل الآخر وقد اتفقا على المخالفة لآل عثمان دفعة واحدة ونزلا في قلعة الرها وتحالفا أن لا يتخالفا فلما شاع توافقهما عين السلطان لقتالهما الوزير محمد باشا ابن سنان باشا وضم إليه عساكر الروم والشام وحلب وغيرهما فرجع الأمر لتسليم عبد الحليم لحسين باشا وأرسل يطلب رهنا من العسكر السلطاني على أن يدفع لهم حسين باشا ويتركوه هو في القلعة حاكما فأرسلوا له من عسكر دمشق كنعان لجركسي وهو من أعيان عسكر دمشق وبكر دواتدار حاكم دمشق خسر وباشا الخادم وجماعة فأذعن لأعطاء حسين باشا وسلمه ولما أخذت العساكر السلطانية حسين باشا مالت إلى ترك اليازجي في قلعة الرها لأن العهد هكذا صدر منه فغضب لذلك السر دار محمد باشا وعرض ذلك للسلطان أحمد وكاد أن يقتل بسببه حاكم دمشق خسر وباشا المذكور لولا أن تداركته المعونة واستمر عبد الحليم عاصبا حتى قدم عليه الوزير حسين باشا ابن الوزير محمد باشا مع العساكر السلطانية بأسرها فالتقوا بجمع البغاة وكبيرهم عبد الحليم وأخوه حسن في مكان يقال له البستان من نواحي مرعش فاقتتلوا هناك وكسر عسكر البغاة وقتل منهم ما يزيد على أربعة آلاف رجل ثم أن عبد الحليم مات في قصبة سامون واجتمع البغاة على أخيه حسن وكان أشجع من أخيه فوصل إلى الوزير المذكور وطلبه للمقابلة فخرج إليه بمن معه من العساكر فما ثبتوا اقدام لبغاة لحظة حتى كسروا وهرب حسن باشا إلى قلعة توقات وما رفعوه إلا بالجبال وهجم العدو وعلى المدينة بأسرها وصارت عساكر السلطان في اسر البغاة ما عدا حسن باشا مع بعض الخواص فإنه اعتقل في القلعة وأغلقت أبواب القلعة والعدو يحفها إلى أن وقع موت حسن باشا عل يد بعض خدمه كما سنذكره في ترجمته فرجل حسن الخارجي عن توقات وتقرب من جانب قر احصار ثم أن جماعة قربوه إلى خاطر السلطان أحمد وقالوا له أنه يقنع بمنصب في بلاد الروم فأعطوه مدينة طمشوار وهي في أقصى مدن الإسلام ومنها بداية ولاية الكفر فدام فها مدة طويلة وحسن حاله وقلت احقاده وخدم خدمة حسنة إلى أن قدر الله عليه المخالفة بينه وبين أهل ولايته فأخرجوه منها فذهب إلى مدينة بلغراد فوضعه حاكمها في القلعة مكرما في الظاهر محبوسا في الباطن وعرض أمره إلى السلطان فأرسل أمر إلى حاكم بلغراد بقتله فقطع رأسه وخرج بعد ذلك على السلطنة ابن جانبو لاذحاكم كلس وعزاز ووصل إلى أن جرد العساكر قاتل عسكر السلطان على حماة وكان رئيس العساكر الأمير يوسف بن سيفا التركماني حاكم بلاد طرابلس الشام وانكسر عسكر ابن سيفا ومن معه وآل أمر ابن جانبو لاذ إلى الطغيان الزائد وجاء إلى دمشق ونهبها وسيأتي تفصيل ما وقع وفعل بدمشق في ترجمته ثم رحل إلى حلب ومكث بها وكانت جماعته تزيد يوما فيوما واشتهر أمره وقوى جاشه إلى أن ورد الوزير معه في شأن ابن جانبو لاذفكان شوراه أن يذهب إليه وهو بحلب وأن يسعى في إزالته وقهره ففعل ذلك ورود إلى حلب وانتزعها من أعوان ابن جانب ولاذ إلى أن آل الأمر إلى دخوله إلى قسطنطينية واجتمع مع السلطان وحكى له قصته فقبل عذره وأعطاه حكومة طمشوار ولم يزل على حكومتها إلى أن عرض له أمر أوجب قتاله لرعايا تلك البلاد وانحصر في بعض القلاع فعرض أمره إلى السلطان(1/179)
فبرز الأمر بقتله فقتل وأرسل رأسه إلى باب ليعتبروا به وكان أجل من قتله السلطان منهم نصوح باشا الوزير الأعظم وكان سبب قتله أن جماعة جاؤا إلى السلطان بمكاتيب ادعوا أنه كتبها لجهة العجم فيها التحريض على عدم الصلح والتلويح بمساعدتهم فحين قرأ السلطان المكاتيب أرسل خلف بعض الوزراء وأمره بفعل وليمة لجماعة نصوح باشا بأسرهم وكان نصوح باشا إذ ذاك متمرضا فجاء اتباعه بأجمعهم إلى الوليمة فحين خلا محله من أتباعه أرسل السلطان جماعة لقتله فاستأذنوا في الدخول عليه فقال لهم بعض جماعته لا يمكن الاجتماع به فقالوا لا بد من ذلك فدخلوا عليه وليس عنده أحد وأظهروا الأمر السلطاني بقتله فقال لهم أمهلوني لا صلى ركعتين فأمهلوه فقام وتوضأ وصلى ركعتين ثم لما فرغ خنقوه على سجادة الصلاة ثم ذهبوا إلى السلطان وأخبروه فقال ائتوني به فجاؤا به فأمر بعوده ودفنه وكان السبب في قتله المفتى الأعظم المولى محمد بن سعد الدين ثم ولى مكانه محمد باشا زوج ابنة السلطان وجهزه بالعساكر غلى بلاد العجم ووقع المصاف بينه وبين عساكر العجم وكانت الهزيمة على العجم ولما رأت الأعاجم ذلك أرسلوا اسمالوا اتباعه فحصل التواني ووقع الاختلال وقتل من عسكر السلطان جانب كبير وعاد بلا فائدة فغضب السلطان وأراد قتله كما فعل بمن قبله ثم عفا عنه بواسطة أم الوزير بشرط جلوسه في اسكدار وكان السلطان أحمد مدة حياته لا يفتر عن عمارة المساجد وفعل الخيرات ومن جملة آثار الجميلة أنه كسا البيت الشريف وكذلك فعل بالحجرة النبوية وكسا أضرحة جميع سكان البقيع وسكان المعلاة وكان أراد أني جعل حجارة الكعبة الشريفة ملبسة واحدا بالذهب وواحد بالفضة فمتعه المولى محمد بن سعد الدين المفتى وقال هذا يزيل حرمة البيت ولو أراد الله سبحانه وتعالى لجعله قطعة من الياقوت فكف عن ذلك وجعل ثلاث مناطق من الفضة فمتعه الملى محمد بن سعد الدين المفتى وقال هذا يزيل حرمة البيت ولو أراد الله سبحانه وتعالى لجعله قطعة من الياقوت فكف عن ذلك وجعل ثلاث مناطق من الفضة المحلاة بالذهب أيضا داخل الكعبة الشريفة صونا لها م الهدم وأول من حلاها في الجاهلية عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام الوليد بن عبد الملك وقبل أبوه وقيل ابن الزبير وحلاها من العباسيين الأمين والمتوكل والمعتضد وحلتها أم المقتدر العباسي والملك المجاهد صاحب اليمن ومن ملوك آل عثمان صاحب الترجمة ومن آثاره أيضاً تجديد مولد السيدة فاطمة وتبييضه ومنها عمارة مسجد البيعة وهو بالقرب من عقبة منى على يسار الصاعد بينه وبين عقبة منى مقدار غلوة سهم ووهم من قال أنه من منى ومنها عمارة العين وأصلح مآثر كثيرة بمكة وأنشا وقفا من قرى مصر على خدام الحرمين لأجل أن يصرف علوفة الخدم السنة تماما لأن في القديم ما كان يصرف لهم الأعلى حكم النصف وفي سنة أربع وعشرين وألف أرسل للحضرة الشريفة فصين من الألماس قيمتهما ثمانون ألف دينار فوضعها فوق الكوكب الدرى وهذا الكوكي تجاه الوجه الشريف في الجدار وهو مسمار من الفضة مموه بالذهب في رخامة حمراء من استقبله كان مستقبل الوجه الشريف كذا قال ابن حجر الجوهر المنظم وأنشد بعضهمبرز الأمر بقتله فقتل وأرسل رأسه إلى باب ليعتبروا به وكان أجل من قتله السلطان منهم نصوح باشا الوزير الأعظم وكان سبب قتله أن جماعة جاؤا إلى السلطان بمكاتيب ادعوا أنه كتبها لجهة العجم فيها التحريض على عدم الصلح والتلويح بمساعدتهم فحين قرأ السلطان المكاتيب أرسل خلف بعض الوزراء وأمره بفعل وليمة لجماعة نصوح باشا بأسرهم وكان نصوح باشا إذ ذاك متمرضا فجاء اتباعه بأجمعهم إلى الوليمة فحين خلا محله من أتباعه أرسل السلطان جماعة لقتله فاستأذنوا في الدخول عليه فقال لهم بعض جماعته لا يمكن الاجتماع به فقالوا لا بد من ذلك فدخلوا عليه وليس عنده أحد وأظهروا الأمر السلطاني بقتله فقال لهم أمهلوني لا صلى ركعتين فأمهلوه فقام وتوضأ وصلى ركعتين ثم لما فرغ خنقوه على سجادة الصلاة ثم ذهبوا إلى السلطان وأخبروه فقال ائتوني به فجاؤا به فأمر بعوده ودفنه وكان السبب في قتله المفتى الأعظم المولى محمد بن سعد الدين ثم ولى مكانه محمد باشا زوج ابنة السلطان وجهزه بالعساكر غلى بلاد العجم ووقع المصاف بينه وبين عساكر العجم وكانت الهزيمة على العجم ولما رأت الأعاجم ذلك أرسلوا اسمالوا اتباعه فحصل التواني ووقع الاختلال وقتل من عسكر السلطان جانب كبير وعاد بلا فائدة فغضب السلطان وأراد قتله كما فعل بمن قبله ثم عفا عنه بواسطة أم الوزير بشرط جلوسه في اسكدار وكان السلطان أحمد مدة حياته لا يفتر عن عمارة المساجد وفعل الخيرات ومن جملة آثار الجميلة أنه كسا البيت الشريف وكذلك فعل بالحجرة النبوية وكسا أضرحة جميع سكان البقيع وسكان المعلاة وكان أراد أني جعل حجارة الكعبة الشريفة ملبسة واحدا بالذهب وواحد بالفضة فمتعه المولى محمد بن سعد الدين المفتى وقال هذا يزيل حرمة البيت ولو أراد الله سبحانه وتعالى لجعله قطعة من الياقوت فكف عن ذلك وجعل ثلاث مناطق من الفضة فمتعه الملى محمد بن سعد الدين المفتى وقال هذا يزيل حرمة البيت ولو أراد الله سبحانه وتعالى لجعله قطعة من الياقوت فكف عن ذلك وجعل ثلاث مناطق من الفضة المحلاة بالذهب أيضا داخل الكعبة الشريفة صونا لها م الهدم وأول من حلاها في الجاهلية عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام الوليد بن عبد الملك وقبل أبوه وقيل ابن الزبير وحلاها من العباسيين الأمين والمتوكل والمعتضد وحلتها أم المقتدر العباسي والملك المجاهد صاحب اليمن ومن ملوك آل عثمان صاحب الترجمة ومن آثاره أيضاً تجديد مولد السيدة فاطمة وتبييضه ومنها عمارة مسجد البيعة وهو بالقرب من عقبة منى على يسار الصاعد بينه وبين عقبة منى مقدار غلوة سهم ووهم من قال أنه من منى ومنها عمارة العين وأصلح مآثر كثيرة بمكة وأنشا وقفا من قرى مصر على خدام الحرمين لأجل أن يصرف علوفة الخدم السنة تماما لأن في القديم ما كان يصرف لهم الأعلى حكم النصف وفي سنة أربع وعشرين وألف أرسل للحضرة الشريفة فصين من الألماس قيمتهما ثمانون ألف دينار فوضعها فوق الكوكب الدرى وهذا الكوكي تجاه الوجه الشريف في الجدار وهو مسمار من الفضة مموه بالذهب في رخامة حمراء من استقبله كان مستقبل الوجه الشريف كذا قال ابن حجر الجوهر المنظم وأنشد بعضهم(1/180)
الكوكب الدرى من شأنه ... يخفى مع الوجه السراج المنير
فكثروا الجوهر أوقللوا ... فالجوهر الفرد عديم النظير(1/181)
وبعض أيضاً للحجرة بشبابيك من الفضة المحلاة بالذهب وأمر أن يرسل إليه بالشبابيك القديمة لجعلهما في مدفنة الذي أنشأه بقسطنطينية لأجل اللتبرك فمنعه المفتى واعترضه في نقل الشبابيك فقال نحن نرسلها من البحر فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبلها فهي تصل سالمة من غير غرق والافتغرق في الطريق فأرسلها من البحر إلى الاسكندرية فوصلت سالمة ثم أرسلها من مصر إلى المدينة المنورة فوصلت سالمة أيضاً وكذلك أمر أن يفعل بالشبابيك القديمة حين ترسل إليه فوصلت إلى قسطنطينية من غير أدنى مشقة فجعلها في مدفنه كما أراد وجدد عمارة العلمين للذين هما حدا الحرم من جهة عرفة في سنة ثلاث وعشرين وألف على يد الباشا حسن المعمار وأول من وضع انصاب الحرم خوف اندراسه الخليل إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام بدلالة جبريل عليه السلام وهي في جميع جوانبه خلاجهة جدة وجهة الجعرانة فإنه ليس فيهما انصاب ثن نصبها إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ثم قصى بن كلاب وقيل ابن عدنان بن أد أول من وضع انصاب الحرم حين خاف أن يندرس ونصبتها قريش بعد أن نزعوها والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل هجرته وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح تميم بن أسد فجددها ثم أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعث أربعة نفر لتجديدها وهم مخزوم بن نوفل وسعيد بن يربوع وحويطب بن عبد العزى وأزهر بن عبد عوف ثم عثمان ثم معاوية ثم عبد الملك بن مروان ثم المهدي العباسي ثم أمر الراضى العباسى بعمارة العلمين الكبيرين اللذين هما حد الحرم من جهة التنعيم في سنة خمس وعشرين وثلثمائة ثم أمر المظفر صاحب اربل بعمارة العلمين اللذين هما حد الحرم من جهة عرفة في سنة ثلاث ثمانين وتسعمائة ثم صاحب الترجمة كما ذكرنا وبعض إلى بيت المقدس من فضة مطلية بالذهب لتوضع على القدم الشريف بالضحرة وهي إلى الآن موجودة وفي شوال سنة ست وعشرين وألف أرسل لأحمد باشا محافظ مصر بأن يرسل مقدارا من الخزينة لأجل عمارة الحرم النبوي على حكم الحرم المكي فامتثل وأرسل ومات السلطان أحمد قبل الشروع في ذلك وقال محمد بن عبد المعطى بن أبي الفتح بن أحمد الاسحاقي في كتابه لطائف الأخبار الأول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول عند ذكر السلطان أحمد ومن جملة محاسنه أنه حصل في بناء الكعبة الشريفة ميلان في بعض أحجارها فأرسل عمدا من فولاذ مطلية بالذهب ومموهة بالذهب فطوقت بها الكعبة الشريفة من الجهات الأربع وحفظت الأحجار من السقوط وأرسل ميزابا من الفضة مموها بالهذب ووضع موضع الميزاب العتيق وتسلم أمير الحاج الميزاب العتيق وأرسله إلى السلطان ووضع في الخزانة العامرة تبركا وعمل سحابة بطريق الحاج المصري يحمل بها الماء للفقراء والمساكين ووقف عليها أوقافا وهي مستمرة إلى الآن وبها النفع العام ورتب من ريع وقفه لفقراء الحرمين وأرباب وظائفهما زيادة في معلومهم في كل سنة اثنى عشر كيسا تحمل إليهم صحبة الحاج المصري ثم قال والذي ضبطه جامع هذه الأرقام بطريق التقريب ورقمه حسب ما وصل إليه علمه من أفواه المباشرين والكتاب أن الذي يجهز في كل عام إلى فقراء الحرمين ومجاوريهما من صدقات آل عثمان وهدمتهم وممن سيأتي ذكره في الديار المصرية ما هو من المال النقد المسمى بالصرة مائة كيس وأربعة وستون كيسا بيان ذلك ما هو من أوقاف الد شيشة الكبرى أربعة وستون كيسا وما هو من وقف السلطان مراد سبعة عشر كيسا وما هو من وقف السلطان محمد اثنا عشر كيسا وما هو من وقف السلطان أحمد اثنا عشر كيسا وما هو من وقف الخاصكية عشرة أكياس وما هو من وقف الحرمين عشرة أكياس وما هو من وقف الأشراف اثنا عشر ألف نصف وما هو من وقف الخدام ثمانون ألف نصف وما هو من وقف رستم باشا اثنا عشر ألف نصف وما هو من وقف اسكندر باشا عشرة آلاف نصف وما هو من وقف سنان باشا عشرون ألف نصف وما هو من وقف على باشا اثنان وثلاثون وألف نصف وما هو من الحب في كل عام ثمانيةن وأربعون ألف اردب وثمانمائة اردب وذلك خارج عن صدقات البلاد الرومية والشاميةن والحلبية وغالب الممالك الإسلامية قلت وذلك شئ لا يحصره ضبط ولايحيط به وصف وبالجملة فإن محاسن هذه الدولة العثمانية كثيرة وخيراتهم غزيرة ومن آثاره التي بقسطنطسنسة الجامع الذي لم يعمل مثله في انشائه واحكام بنائه ودقة صنائعه إلى(1/182)
غير ذلك وله ست منارات حسنة الوضع إلى الغاية وداخله مزين بأنواع القناديل من البلور والقاشاني والسدف وغير ذلك وفيه كل أعجوبة لا نظير لها ولما تم وضعه هادته ملوك الأقاليم بالتحف من قناديل الذهب وغيرها لتعلق فيه وبلغت مصارف نفقته نحو نفقة عمارة جامع بني أمية بدمشق فإنه يقال أن الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي أنفق عليه أربعماءة صندوق من الذهب في كل صندوق أحد عشر ألف مثقال من الذهب وفي خارجه المكان المعروف بآتن ميداني وهو ميدان واسع وبه رصد من نحاس على شكل أفعى قيل أنه كان رصد اللحيات لكن الآن بطل عمله فإن السلطان مراد ولد صاحب الترجمة كان كسر منه قطعة فبطل عمله لذلك ويروى أنه بعد تمام بنائه واستحكامه كان بقى في أحد جوانبه اعوجاج بسبب بيت صغير كان لعجوز وقد أرغبت بالمال الكثير لتبيعه فأبتن فاتفق أنها ماتت عن غير وارث وآل البيت إلى بيت المال فأضيف إلى الجامع وتناسب بذلك وضعه ومما قيل فيه من التواريخ تاريخ المولى محمد بن عبد الغنى قاضى العسكر وهو قولهغير ذلك وله ست منارات حسنة الوضع إلى الغاية وداخله مزين بأنواع القناديل من البلور والقاشاني والسدف وغير ذلك وفيه كل أعجوبة لا نظير لها ولما تم وضعه هادته ملوك الأقاليم بالتحف من قناديل الذهب وغيرها لتعلق فيه وبلغت مصارف نفقته نحو نفقة عمارة جامع بني أمية بدمشق فإنه يقال أن الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي أنفق عليه أربعماءة صندوق من الذهب في كل صندوق أحد عشر ألف مثقال من الذهب وفي خارجه المكان المعروف بآتن ميداني وهو ميدان واسع وبه رصد من نحاس على شكل أفعى قيل أنه كان رصد اللحيات لكن الآن بطل عمله فإن السلطان مراد ولد صاحب الترجمة كان كسر منه قطعة فبطل عمله لذلك ويروى أنه بعد تمام بنائه واستحكامه كان بقى في أحد جوانبه اعوجاج بسبب بيت صغير كان لعجوز وقد أرغبت بالمال الكثير لتبيعه فأبتن فاتفق أنها ماتت عن غير وارث وآل البيت إلى بيت المال فأضيف إلى الجامع وتناسب بذلك وضعه ومما قيل فيه من التواريخ تاريخ المولى محمد بن عبد الغنى قاضى العسكر وهو قوله
ذا جامع مؤسس ... على تقى الرب المتين
بنا مسلطان الورى ... بعد له الجزل الرزين
سمى أحمد الهدى ... ظل آله العالمين
حاولت تاريخا له ... من نص قرآن مبين
فجاء فيه قوله ... لنعم دار المتقين
وبالجملة فإن هذا السلطان أعظم سلاطين آل عثمان قدرا وكانت ولادته في سابع عشر شهر رجب سنة تسع وتسعين وتسعمائة وقيل في تاريخه حفظه الله وابتدأه المرض في شوال سنة ست وعشرين وألف بقرحة في ظهره وأخبر عنه مصطفى أغا ضابط الحرم أنه قبل موته بيوم وكان قبل العصر صار يقول وعليكم السلام إلى أن قال ذلك أربع مرات قال مصطفى أغا تسلمون على من فقال حضر لي في هذا الوقت سيدنا أبو بكر الصديق وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي رضوان الله عليهم أجمعين وقالوا إلىن أنك تجتمع بسلطان الدنيا والآخرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في غد مثل هذا الوقت فكان كما قال فمات في ثاني يوم وهو يوم الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة سنة ست وعشرين وألف وقد بلغ من العمر ثماني وعشرين سنة ودفن بجانعة المذكور رحمه الله تعالى وخلف من الأولاد أربعة وهم السلطان عثمان ولسلطان محمد توفي شهيداً في سنة ثلاثين وألف والسلطان مراد والسلطان ابراهيم وثلاثتهم ولوا الخلافة وقد ذكرتهم في محالهم وأما وزراؤه فسبعة وهم ياوز على باشا ومحمد باشا البوسنوى ودرويش باشا ومراد باشا ونصوح باشا ومحمد باشا وخليل باشا رحمهم الله تعالى السيد أحمد بن محمد بن يحيى المتطبب الحنفي سيبويه زمانه وأما سائر فنون الأدب في أوانه كان فقيها محققا آلت الفتوى في مذهب الأمام أبي حنيفة إليه وأمده الله تعالى بالحفظ فكان بحرازا خرا في جميع الفنون وخصوصاً علم النحو ومتعلقاته مع التحقيق الوافي والتدقيق الوافر أخذ عن والده وغيره وعنه أخوه عبد الله بن محمد والسيد أبو بكر بن أبي القاسم الأهدل وأخوه سليمان وكثير وعلاصيته واشتهر أمره وكانت وفاته في ذي القعدة الفاضل المفنن أبو بكر بن علي مهير أحد تلامذته بمرثية منها قوله(1/183)
أمام له في العلم باع وساعد ... وكف بكف الخطب أنى تغلبا
منها
أما كان فردا في العلوم وملجأ ... إذا ما عرى خطب من الدهر قلبا
أما كان في العلم الأمام الذي له ... نرى فرض عين أن يعدو يحسا
فمن لدروس العلم بعد شتاتها ... يذلل منها فهمه ما تصعبا
ومن لخبايا النحو كم قد تسترت ... فابدى لنا منها ضميرا محجبا
ومن للفتاوى في العلوم بأسرها ... يفيدك ايجازا وإن شاء الها
خطيبا ترى قسا لديه كباقل ... فصيح إذا ما قال أطرى وأطربا
لقد بزمنا الدهر وجه بلادنا ... وفرق منها الحسن تفريقه سبا(1/184)
الشيخ أحمد بن محمد القادري الحموي الشافعي من ذرية القطب الكبير الجيلاني المقيمين بحماه وهم رؤساؤهم المشار إليهم تولى خلافة السادة القادرية بعد أخيه الشيخ عبد الله وحظى بكثرة الأموال والعقارات والبيوت الحسنة المطلة على نهر العاصي حتى قيل لما مر السلطان سليم فاتح الأقطار الشامية والمصرية والحجازية أعجبه مكانهم فقال عنه جنات تجرى من تحتها الأنهار ولم يدنس عرضه بتعاطى أموال المصادرات والدخول في المظالم كما المظالم كثير من مشايخ حماه ولا يكلف أهل محلته المساعدة على قرى الضيوف كما هو من عادتهم وكان يقرى الضيوف مما حضر من غير تكلف وأما أخوه الشيخ عبد الله فإنه كان بحرا يتلاطم بالأمواج من السخاء حتى أن رجلا من حماه كان ليلة في الحرم الشريف فلما خلا المطاف نادى المذكور الاستاذ العارف بالله تعالى محمد البكرى وقال تعالى حتى نحتى نحن وأنت ففعل ذلك ووضع الشال عليهما فقال القائل من داخل الشال الشيخ عبد الله من الأبدال وما نال تلك المرتبة إلا بالسخاء وسلامة الصدر وعلامته أن لا يعيش به ولد وقد حظى بالكلمة النافذة وإقبال الوزراء والأمراء والقضاة والعلماء وكانوا يأخذون طريقة سيدي عبد القادر الجيلاني وكان لا يخرج لزيارة حاكم ولا لغيره أصلا وكان كثير الصدقات والهدايا إلى الحكام بعث ثلاثة آلاف من القروش صدقة للجامع الأزهر وبنى جامع المعرة وجامع أريحا ومسجداً في بيت المقدس وكان إذا سافر إلى بلد لا يحب أن يدخلها بالشهرة والجماعات والأعلام كما هو عادة المشايخ ومن عجيب أمره أن لم حجرة كبيرة أخذها الأمير ابن الأعوج في غيبته ووضعها في حمام له بناه وبقى إخراجها صعبا فلما رجع من الحج استقبله ابن الأعوج فاسمعه ما يكره وقال لا بد أن تعيد الحجرة إلى مكانها فلا زال ابن الأعوج يسترضيه حتى جعل له ثمن الحجرة مائة خمسين قرشا فقال له لا تتعب لو أعطيت بثقلها ألماسا لا أرضى إلا بإعادة حجتي إلى موضعها فوضعها موضعها ومن عجيب أمره أن مضى أريحا كان يحبه ويعظمه ولما قدم الشيخ أحمد إلى حلب أخذ يضيفه حتى بالغ في العظيم له فأعطاه الكسوة القادرية ثم بعد مدة أراد الشيخ محمد مفتى أريحا أن يظهر تعظيماً للشيخ أحمد فأخ هدية عظيمة فلما وصل إليه غضب الشيخ ورد إليه الهدية فحصل له خجل ثم نزل على ابن عم صاحب الترجمة فقال له مرحبا ولكن اجلس عندنا الليلة وصباحاً توجهوا مع السلامة فإني أخاف أن يسمع الشيخ فيغضب علينا وفي اليوم الثاني بعث جماعة بالخفية يتوسلون بالشيخ لعله يأذن بالإقامة فلم بأذن حتى رجع إلى وطنه وقصد الشيخ تعريف المريد صدق الملذة ومن عجيب أمره أن الوزير الأعظم نصوح باشا لما قدم من آمد إلى حلب وكان الشيخ فتح الله يقول له الشيخ قل للوزير ينظر منزلا حسنا قريبا منه فغضب الشيخ فتح الله وقال ما أنا متفرغ لهذا الأمر ولا الوزير الأعظم ولكن الشيخ ينزل أرض الله واسعة ولا بأس أن ينزل في نكية الشيخ أبي بكر فلما وصل الخبر إلى الشيخ قال وتربة الشيخ عبد القادر ما أنزل إلا في نفس خيمة الوزير نكاية في الشيخ فتح الله تم ركب بغلته ودخل على الوزير فاستقبله بالتبجيل وقال له أين نزلتم فقال المنزل عندكم فنصب له حيمة عظيمة بجانبه ووكل به أعظم جماعته وأوقفه في خدمته ثم كتب الشيخ دفترا عظيما فيه هدايتا للوزير يبلغ ثمنها ألفا وخمسمائة قرش فقال له الشيخ فتح الله ما أبقيتم لكم شيئاً فقال أنا في غنية ولله الحمد ومرادى مجرد محبة الوزير قيل قال المنكرون لو أعطيتموها للفقراء فقال أنا ما أهادى الحكام إلا لأجل الفقراء ومصالحهم ومن عجيب أمره أنه كان بينه وبين أمير حماه ابن الأعوج شحناء بسبب ظلم ابن الأعوج فقدم وزير تولى مصر وخدمة ابن العوج ولم يحسن للوزير زيارة الشيخ أحمد فقال الشيخ أحمد لبعض جماعته اذهب إلى كتخدا الوزير وقل له عندي بعض صدقات لأهل الجامع الأزهر مرادى يكلف خاطره ويحضر عندي حتى أعطيه أياها فحضر الكتخدا ففي الحال أعطاه نحو ثلثمائة قرش وأمره أن يتصدق بها على أهل جامع الأزهر وأعطاه نحو ثلثمائة قرش وأمره أن يتصدق بها على أهل جامع الأزهر وأعطاه لنفسه ما ينوف عن مائة وخمسين قرشا ثم لما قام من عنده قال له عندي نحو ثلاثة آلاف قرش كان مرادى أسلمه أن للباشا يعطيها صدقة لأهل الأزهر لكن ما زارنا كان عادة الوزراء(1/185)
أن يزورونا ولكن نصبر حتى يمر علينا وزير مثله نعطيه أيها فاجتمع الكتخدا بالباشا وقال له هذا قطب العالم ففي الحال جاء إليه الباشا زائراً وقبل يديه وفي صحبته ابن الأعوج أمير حماه فقال الباشا ابن العوج قريبنا يكون نظرك عليه فقال لكن عجزت عن نصيحته عن ظلم العباد فلم يسمع منى فكانت هذه نكاية منه لابن الأعوج حيث لم يحسن له زيارته وأعطى الوزير الدراهم لأهل الأزهر وخدمة بهدايا تساوى خمسمائة قرش فلما ذهب الوزير قال لجماعته جئت بالوزير على رغم أنف ابن الأعوج وجعلت قيمته عنده كالكلب والحاصل أنه كان تقيا صالحا مهابا حصلت له الرياسة العظمى وما غضب على أحد وكانت أحواله باهرة تقصده الوزراء والأمراء ويقبلون يده وكانت وفاته في سنة ثلاثين بعد الألف وقد جاوزا التسعين ودقن بزاويته بحماه رحمه الله تعالىأن يزورونا ولكن نصبر حتى يمر علينا وزير مثله نعطيه أيها فاجتمع الكتخدا بالباشا وقال له هذا قطب العالم ففي الحال جاء إليه الباشا زائراً وقبل يديه وفي صحبته ابن الأعوج أمير حماه فقال الباشا ابن العوج قريبنا يكون نظرك عليه فقال لكن عجزت عن نصيحته عن ظلم العباد فلم يسمع منى فكانت هذه نكاية منه لابن الأعوج حيث لم يحسن له زيارته وأعطى الوزير الدراهم لأهل الأزهر وخدمة بهدايا تساوى خمسمائة قرش فلما ذهب الوزير قال لجماعته جئت بالوزير على رغم أنف ابن الأعوج وجعلت قيمته عنده كالكلب والحاصل أنه كان تقيا صالحا مهابا حصلت له الرياسة العظمى وما غضب على أحد وكانت أحواله باهرة تقصده الوزراء والأمراء ويقبلون يده وكانت وفاته في سنة ثلاثين بعد الألف وقد جاوزا التسعين ودقن بزاويته بحماه رحمه الله تعالى أحمد بن محمد بن أحمد المغربي الأصل المعروف بالحودى الطرابلس المالكي واشتهر بالصل كان من فضلاء زمانه وهو معدود من الأدباء منخرط في سلكهم قدم أبوه إلى دمشق في عشر السبعين وتسعمائة وتديرها وولد بها أحمد هذا فنشأ وتفقه بالعلاء بن المرحل البعلى المالكي والشمس محمد بن أحمد الأندلسي خليفة الحكم بدمشق وحج فأخذ بمكة عن الشيخ خالد التونسي وبالقاهرة عن البرهان اللقاني وبالمدينة عن الشيخ محمد البرى المالكي والشيخ محمد زوز التونسي وقرأ العربية بدمشق على الشيخ أحمد الوفائي المفلحي والشيخ تاج الدين القطان وأخذ الحديث عن الشمس محمد الداودى والشيخ إبراهيم بن كباى والشيخ محمود البيلوني وتأدب بالشيخ عبد الرحمن العمادى وفي مكة بالشيخ عبد الرحمن بن عيسى المرشدي وفي المخا بالسيد حاتم وفي عدن بالسيد احمد العيدروس ثم رحل إلى مكة في سنة إحدى عشرة بعد الألف وأقام بها بين ذهاب إلى اليمن وعود إليها وكان يرد المدينة في كل سنة ثم رجع إلى دمشق في سنة ثلاث وعشرين وألف واشتغل بمعاناة الأدب وكان ينظم الشعر وشعره مستعذب ومنه قوله من قصيدة كتب بها إلى عبد الكريم الطاراني جوابا عن أبيات كتبها له يستدعيه بها ومطلع قصيدة الصل قوله
على م أدرت يا ذخر الموالى ... فتى في الحب من بعض الموالى
تذكر ليلة مرت وطابت ... وقد يغنيك حالى عن سؤالى
يا قداح وافراح وأنس ... يا صحاب وأعيان موالى
ودارات بيننا كاسات لفظ ... غدت أشهى من الماء الزلال
وكم ذكر جميل في وقار ... جرى منا لدى صحب أعالى
ورحا في حيازيم الأماني ... وعينا للأحبا والأهالي
نطارحهم بألفاظ عذاب ... تنير الزهر في أفق المعالي
عجبت لها وقد خلبت فؤادى ... معانيها كما السحر الحلال
لدى صحب تساقوا كاس حب ... فأكسبهم ثناء كالغوالي
فبعضهم له جدو جد ... وكلهم ذووا مجد أثال
فلا تبعد عن الاعطاف واعطف ... وقابل بالتحمل ذا الدلال
وصل من غاله فرط اشتياق ... ولا تقطع مودة ذى كمال
وكانت ولادته في ليلة السبت رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة كما أشار إلى ذلك في قوله من أرجوزة
ومولدى ليلة سبت زاهر ... رابع عشر من ربيع الآخر
وذاك في عام ثلاث وثما ... نين وتسعمائة وقد رمى(1/186)
بي الدهر بعد أن كبرت بالعرى ... وعشت دهر في ذرى أم القرى
وتوفى في حلب في سابع شعبان سنة اثنتين وثلاثين وألف والحمودى نسبة إلى قيلة من عرب المغرب منازلهم الجبل الأخضر والصل معروف وكان لا ينكر تلقيبه به قال الطاراني وكنت أشير بنزلة فيأبى والله أعلم الأديب أحمد بن محمد المعروف بابن المنقار الحلبي الأصل الدمشقي المولد والوفاة الأديب الشاعر الذكى البارع كان مشهوراً بالذكاء والفطنة والفضل لازم العلامة الملا أسد الدين بن معين الدين التبريزى نزيل دمشق وأخذ عنه العربية والمعاني والبيان وغيرها وبرع فيالفنون وتميز على أقرانه وطار صيته وصار يضرب به المثل في الفطنة وألف قبل أن يبلغ العشرين من سنة رسالة مقبولة في مباحث الاستعارة وبيان أقسامها وتحقيق الحقيقة والمجاز وعرضها على علماء عصره فقبلوها ودرس بالمدرسة الفارسية ونطم الشعر الرائق المعجب ومن جيد شعره القصيدة التي كتب بها إلى الحسن البورينى جوابا عن قصيدة أرسلها إليه وهو قوله
أتى ينثنى كاللدن بل قده اسمى ... غزال بفعل الجفن يلهيك عن أسما
فريد جمال جامع اللطف جؤذر ... أمير كمال أهيف أحور ألمى
إذا ما بدا أوماس تيها وأن رنا ... ترى البدر منه والمثقف والسهما
له مقلة سيافة غمدها الحشا ... ونبالة قلبي لا سهمها مرمى
تجسم من لطف وظرف أما ترى ... تغيره لما تخلته وهما
ومنها
يمينا بميمات المباسم أنني ... عن الحب لا ألوى بلومهم العزما
ولا أبغتى من قيد حبيه مخلصا ... سوى حسن فعلا وقولا كذا اسما
ولا أبتغى من قيد حبيه لوفاة والده محمد بها وكان من قضاة العقبات فتوجه أحمد إليها ليتناول ما خلفه والده من المال فاشتهر صيته بين علماء الروم حتى أن المفتى الأعظم زكريا بن بيرام الآتى ذكره جعله ملازما على قاعدة علماء تلك الديار ثم أداه لطف الطبع والامتزاج مع ظرفاء تلك البلدة إلى استعمال بعض المكيفات فغلبت عليه السوداء فاختلط عقله وصار يخلط في كلامه فوضعوه في دار الشفاء ثم لزم ارساله إلى بلاده وكان بقسطنطينة ذاك بعض أعيان دمشق فصحبه مع خوثقا وقدم به إلى دمشق ثم تزايد عليه الجنون حتى حبس في بيت لا يخرج منه إلا في بعض الأوقات وعليه حارس موكل وكانت حالته تزيد وتنقص بحسب فصول العام قال البورينى في ترجمته ولقد دخلت عليه مسلما وله من الدهر متظلما فرأيته في سلسلة طويلة الذيل فأسليت دموعى كالسيل حزنا عليه وشوقا إليه لأنه كان يراسلني بقصائده ويتخفى بفرائده وكنت أجسه عن رسائله وأحقق جميع لائله فقال لي وهو في تلك الحال متمثلاً على سبيل الارتجال مشيرا إلى سلسلته التي منعته المسير وصيرته في صورة الأسير
إذا رأيت عارضا مسلسلا ... في وجنة كجنة يا عاذلى
فاعلم يقينا أننا من أمة ... تقاد للجنة بالسلاسل
قلت البيتان للوداعى وأصلهما الحديث عجب ربك من أقوام ياقدون إلى الجنة بالسلاسل قيل هم الأسرى يقادون إلى الإسلام مكرهين فيكون ذلك سبب دخولهم الجنة ليس أن ثمة سلسلة ويدخل فيه كل من حمل على عمل من أعمال الخير ولا يخفى لطف موقع البيت لما فيه من دعوى أنه من أسرى المحبة وقد بقى على ذلك الحال نحو ثلاثين سنة إلى أن توفى وكانت وفاته في أوائل شوال سنة اثنتين وثلاثين وألف وبيت المنقار بحلب ودمشق بيت علم ورياسة خرج منهم نجباء وجدهم الأعلى محمد بن مبارك بن عبد الله الحسامى كان أميراً جليلا صار أحد مقدمى الألوف بالشام سنة ثلاث وثمانمائة وولى كفالة حماه في أيام السلطان فرج بن برقوق وجعله مرة رئيس عسكره وكان أولا يعرف بابن المهمندار وهو صاحب الوقف العظيم الباقي في يد ذريته بدمشق وحلب ومنهم الفقير مؤلف هذا التاريخ فإن جدتي والدلة والدي منهم وهذا هو الذي لقب بالمنقار لأنه كان لمطبخه طباخة مسنة وكان ينكر عليها حسن الطبخ مفغضبا فقالت له يوما إلى متى ترفع منقارك على تريد بذلك رفع أنفه عليها عند غضبه فلقبه أعداؤه بالمنقار ورحمه الله تعالى(1/187)
الشيخ أحمد بن محمد بن يوسف الصفدي المعروف بالخالدي الفقيه الأديب الحنفي كان أماماً بارعاً فقيها مطلعا وكان حسن المطارحة كثير الفنون ولد بصغد وبها نشأ ثم ارتحل إلى القاهرة وأخذ بها عن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن علي الهنسي العقيلي الشافعي المصري وأجازه بالبخارى في سنة أربع وتسعين وتسعمائة وعن أحمد بن محمد بن شعبان العمرى الحنفي وأجاز له جميع مروياته ومؤلفاته التي من جملتها تشنيف المسع وأجاز له أيضاً على بن حسن الشر نيلالي ومحمد بن محيى الدين النحريرى الحنفيان جميع ما يحوز لهما وعنهما وعمر بن منصور الحنفي جميع ما يجوز له والشيخ عبد الله بن بهاء الدين محمد بن جمال الدين عبد الله بن نور الدين الطنبغا التركى الشهير نسبه بالعجمة الشنشورى الغرضي الشافعي الخطيب بالجامع الأزهر سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة بجميع مروياته ومؤلفاته وأجاز له الشيخ على ابن محمد بن علي المعروف بابن غانم الخزرجي المقدسي ثم المصري متن الكنز وسائر كتب الفقه والحديث والتفسير والتاريخ وغيرها في سنة ثلاث وتسعين ومحمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن البكرى الصديقة سبط آل الحسن بجميع ما يجوز له والشيخ ابراهيم العلقمي بجميع مروياته وعبد الرحمن المسيرى الحنفي المعروف بابن الذئب جميع ماله روايته وأبو النجا سالم بن محمد عز الدين بن ناصر الدين السنهورى المالكي بجميع مروياته ويحيى القرشي الأسدي الزبيري الشهير بالقارفى الشافعي بالصحيحين وجيمع مروياته ورجع إلى صفد ودرس وافتى وناب في القضاء وألف ومن تآليفه شرح على ألفيه ابن مالك وكتاب في العروض وله رحلة إلى الحج وأخرى إلى بيت المقدس نظما وخمس خمزية إلا بوصيرى وبرأته وله غير ذلك ومن شعره قوله من قصيدة مطلعها
من لى بهيفاء لا أسطيع سلوانا ... عنها وفي دمع عينى عين سلوانا
وكانت وفاته بصفد في سنة أربع وثلاثين وألف ودفن بمصلى العيدين والخالدي نسبة إلى خالد بن الوليد الصحابى رضى الله عنه الشيخ أحمد بن محمد السعدي الحلبي الشهير بابن خليفة التركي أخو الشيخ وفاء خليفة بنى سعد الدين الجباوي ينبحلب آلت غليه الخلافة بعد موت أخيه المذكور فلازم حلقة الذكر بعد صلاة الجمعة في الجامع الكبير بحلب وصبر على مرارة الفاقة وتحمل أحوال المريدين ولازم زاويته لا يخرج إلا للذكر غالبا ويبذل قراه للواردين وكان كلما عمره ازداد خيرا وصلاحا ودينا وفلاحا ولما كان الشيخ عبد الرحيم يذكر بالقرب منه كان إذا قام الفقراء للذكر أخذ الفقراء وأبعد عن فقراء الشيخ عبد الرحيم الخليفة الثاني للسعديين هربا من الجدال والعداوة بخلاف أخيه فإنه كان يقرب من الشيخ عبد الرحيم حكى بعض الثقات العدول من كراماته انه أمر نقيبه أن يأخذ على الحمار حمل حنطة ليطحنها فطلب لنقيب منه عثمانيين لأجل اليسقية قال والله ما معي صبرهم فتوجه النقيب وفم العدل مربوط والحنطة نازلة عند فم العدل وعند عقيه حتى يحصل التعادل فلما وصل إلى اليسقى امتنع من ترك العثمانيين وقطع الحبل المربوط به فم العدل بالخنجر والحنطة متراكمة عند فم العدل فلم يسقط منها حبة واحدة فضج اليسقى بالبكاء وذهب إلى الشيخ تائبا خاضعا معتقدا ووالده شيخ عالم شرح البخارى على أساليب مجالس الوعظ وذكر فيه مسائل حسنة وفوائد نفيسة وله تأليف جمع فيه مناقب شيخه سعد الدين ومناقب أولاده من بعد وكانت وفاته سنة أربع ثلاثين وألف ودفن بزاوية جده رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن محمود المعروف بابن الفرفور الفقيه الأديبي الحنفى الدمشقي ذكره البديعى في ذكرى حبيب وقال في حقه هو من ذوى الحسب والعراقه وأرباب اللسن والطلاقه وآباؤه صدور الدروس وزينة الأزمنة والطروس
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكب والسير
قلت وكان أحمد هذا واسطة قدهم وفذلكة حساب مجدهم كما قال فيه أبو بكر ابن أحمد الجوهرى
أبناء فرفور لقد حازوا العلى ... حتى علوافى المجد هام الغرقد
ورثوا الفضائل كابرا عن كابر ... وكمال ذلك بالشهاب الأحمد(1/188)
ولد بدمشق وقرأبها على عبد الحق الحجازي وعلى غيره وكانت له مشاركة جيدة في الفقه وغيره ودرس بالقضاعية الشافعية واتفق أن الدهر ضرب على صماخيه بصمام الصمم فكان ثقل تلك الحاسة زادته خفة فكان لا يجتمع إلا ببعض وكان له ما يقوم به من وقف أجداده وتعانى النظم وكان أكثر ما يميل طبعه إلى الأحاجي وله في علمها وحلها اليد الطولى فمن أحاجيه التي نظمها أحجية في نهروان كتب بها الأديب عبد اللطيف المتقارى وهي قوله
يا من سقى الفضل ماء فكرته ... فمنه يحيا ربيعه الخصب
ما مثل من قال وهو ذو ظمأ ... وأرى الحنايا لجعفر نصب
فأجابه
يا فاضلاً أبرزت قريحته ... أحجية حال شأنها عجب
يوما تراها بالغرب ظاهرة ... وتارة للعراق تنتسب
ماء ولكن ما لجانيه ... حوتان بالنار أصلها حطب
وكتب إليه المفنى العمادى من قصيدة قوله
من لي بظبة كحلت ... أجفانه بالسقم
يغتر عن ثغر غدا ... عذب الثنايا شبم
أجرى دموعى في الهوى ... كمغد قات الديم
وسل سيف لحظه ... وهز قد لهذم
واختال في ثوب صبا ... يسحب كل معلم
مصائب ما جمعت ... إلا لقتل المغرم
يا قاتل الله الهوى ... بدل دمعى بالدم
فكم لي في خلدي ... سرائر لم تعدم
فأجابه بقوله
درسمت بالقيم ... وسميت بالكلم
أم روضة دامت عل ... يها ها طلات الديم
فلاح منها نور ثغ ... ر نورها المبتسم
أن غادة قلبي كليم ... لحظها المكلم
من بيضها وسمرها ... في الطرس قتل المغرم
حيث فأحيت باللقا ... قلبا إليها قد ظمى
لم لا ومهديها كر ... يم للكرام ينتمى
ألفاظه كالسحر إلا ... أنها لم تحرم
مهذب آدابه ... تفوح بين الأمم
كنشر روض قد سرى ... غب حيا منسجم
وكانت ولادته في صفر سنة أربع وثمانين وتسعمائة وتوفى ليلة الخميس حادى عشر المحرم سنة سبع وثلاثين بعد الألف ودفن بتربتهم الملاصقة لضريح سيدي الشيخ أرسلان قدس الله سره ورثاه أحمد بن شاهين بقصيدة مطلعها
بكيت وأضللت الغواء مع الرشد ... لمن عنده صبرى وأحزانه عندي
وهي طويلة إلى الغاية فلا حاجة بنا إلى إيرادها والفرفورى بضم الفاء بن كما نقله البورينى من خط الشمس بن طولون المؤرخ ولا أذرى هذه النسبة لماذا والله أعلم الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن إدريس المنعوت شهاب الدين الحلبي الأصل الدمشقي المولد المعروف بابن قولا قسز الفقيه الحنفي كان من أجل الفقهاء المشهورين بسعة الأطلاع والتبحر تقه على والده شمس الدين الآتى ذكره وعلى جدى القاضي محب الدين والشمس محمد بن هلال وبه تخرج في كتابة الأسئلة المتعلقة بالفتاوى حتى أنه فاق فيها من تقدمه واشتهر ذكره وصار مرجعا للناس في المشكلات وانتفع به جماعة كثير منهم عبد الوهاب بن أحمد الفرفورى المقدم ذكر أبيه والآتى ذكره ودرس بالمدرسة الفارسية وكانت ولادته في سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة ومات في تاسع شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من مزار بلال الحبشي وقولا قسر لفظة تركية معناها عادم الأذن وهو والد محمد بن قولا قسز الذي تولى النيابة الكبرى بدمشق ودرس بالشبلية الشيخ أحمد بن محمد بن عبد الله سميط على المشهور بالسنهجى بن عبد الرحمن ابن أحمد بن علوى بن الفقيه بن عبد الرحمن بن علوى بن محمد صاحب مرباط الشهير كسلفه بابن سميط النميى الزاهد صاحب الأحوال والكرامات الشهيرة ولد بمدينة تريم وصحب بها علماء جمة وسلك مسلك آبائه وحذا حذوهم ثم اتحل إلى الحرمين وكان ملازما للطاعات كثير المجاهدة عظيم الرياضة إلى أن حصل له من الآمال ما لم يخطر له على خاطر وكانت تغلب عليه الأحوال فتضطرب أقواله وأفعاله وكثيرا ما ينشد
ألا يا صاحب الخمر ... قتلت الناس بالسكر(1/189)
وسكر الناس لا سكرى ... وسكرك قاطع السكر
وكانت له حالات تظهر في تلك الأطوار فتكشف عن كرامات وخوارق عادات وقد تستمر به الحال مدة مديدة وأشهرا عديد واعتقده الناس اعتقاد عظيما وتوطن آخر عمره ببتدر جدة ولم يزل قاطنا بها إلى أن توفي وكانت وفاته ف سنة سبع وثلاثين وألف وقبره معروف بزار رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن محمد بن علوى بن أبي بكر الحبشي بن علي بن الفقيه أحمد بن محمد أسد الله بن حسن بن علي بن الأستاذ الأعظم الفقيه الشهير كبلغه بالحبشي صاحب الشعب المشهوره وأحد العلماء المشهورين باليمن ولد بمدينة تريم وحفظ القرآن وابتدأ التحصيل وصحب أكابر عصره وأخذ عنهم فمن مشايخه الأمام عبد الرحمن بن شهاب الدين والعارف بالله تعالى أبو بكر بن علي خردوا السيد الجليل محمد بن عقيل مذ يحج والشيخ الأمام أبو بكر بن سالم عينات وكان هو والسيد العظيم عبد الله بن سالم كالتوأمين وأخذ كل منهما عن صاحبه ورحلا على قدم التجريد إلى الحرمين وأخذا بهما وباليمن عن جماعة كثيرين منهم الأمام العارف بالله تعالى تاج العارفين محمد بن محمد بن أبي الحسن البكري وجاور بالحرمين عدة سنين وكانت له مجاهدات ورياضات وربما ترك الأكل مدة وكان كثير الصيام والقيام سالكا مسلك الصوفية مواظبا على السنن والآداب الشرعية ما يعلم بفضيلة إلا عمل بها ولا يسمع بكراهة إلا اجتنبها وبلغت شهرته الآفاق فهرعت إليه الناس وكان كرمه فوق الغاية وكان ورعا يصدع بالحق وكانت له دعوات مستجابات وكان يعتني بكلام الشيخ عمر بامخرمه وشعره وبشرح الحكم لابن عباد وكان يحب القهوة ويأمر بشر بها وكان يقول هذه الثلاثة يعنى كلام بامخرمه واللذين بعده من النعم التي اختص بها المتأخرون ثم في آخر عمره استوطن الحسيسة فكان ملجأ للواردين والوافدين إلى أن مات بها وكانت وفاته في سنة وثلاثين وألف وقبر في أسفل الجبل وبنى على قبره قبة عظيمة رحمه الله تعالى السيد أحمد بن محمد بن لقمان بن أحمد بن شمس الدين بن المهدي أحمد بن يحيى المرتضى اليمنى الإمام المبرز في جميع العلوم الكارع من مشارب الفهوم كان من أرأس العلماء في عصره له مؤلفات مفيدة منها شرح الكافل في علم الأصول ومرقاة الأصول للإمام القاسم وشرح الإسا من له أيضا وكانت وفاته فجر يوم الخميس تاسع رجب سنة تسع وثلاثين وألف ودفن بقلعة غمار من جبل دازح(1/190)
الشيخ احمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي العيش بن محمد أبو لعباس المقرى التلمساني المولد المالكي المذهب نزيل فاس ثم القاهرة حافظ المغرب جاحظ البيان ومن لم ير نظيره في جودة القريحة وصفاء الذهن وقوة البديهة وكان آية باهرة ف ي علم الكلام والتفسير والحديث ومعجز أباهرا في الأدب والمحاضرات وله المؤلفات الشائعة منها عرف الطيب في أخبار ابن الخطيب وفتح المتعال الذي سنفه في أوصاف نعل النبي صلى الله عليه وسلم واضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة وأزهار الكمامه وأزهار الرياض في أخبار القاضي عياض وقطف المهتصر في أخبار المختصر واتخاف المغرى في تكميل شرح الصغرى وعرف النشق في أخبار دمشق والغث والسمين والرث والثمين وروض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام مراكش وفاس والدار الثمين في أسماء الهادي الأمين وحاشية شرح أم البراهين وكتاب البدأة والنشأة كله أدب ونظم وله رسالة في الوفق المخمس الخالي الوسط وغير ذلك ولد بتلمسان ونشأ بها وحفظ القرآن وقرأ وحصل بها على عمه الشيخ الجليل العالم أبي عثمان سعيد بن أحمد المقرى مفتى تلمسان ستين سنة ومن جملة ما قرأ عليه صحيح البخارى سبع مرات وروى عنه الكتب الستة بسنده عن أبي عبد الله التنسى عن والده حافظ عصره محمد بن عبد الله التنسى عن البحر أبى عبد الله بن مرزوق عن أبي حيان عن أبي جعفر بن الزبير عن أبي الربيع عن القاضي عياض بأسانيده المذكورة في كتاب الشفا والأحاديث المسندة في الشفاء جميعها ستون حديثا أفردها بعضهم في جزء من أراد رواية الكتب الستة من طريقه فليأخذها من كتاب الشفا أو من الجزء المذكور وكان يخبر عن بلدة تلمسان أنها بلدة عظيمة من أحاسن بلاد المغرب وأنها في يد العثمانيين سلاطين مملكتا وهي الحد المضروب بين سلطاننا وسلطان المغرب ورحل إلى فاس مرتين مرة سنة تسع بعد الألف ومرة سنة ثلاث عشرة وكان يخبر أنها دار الخلافة للمغرب وكان بها الملك الأعظم مولاى أحمد المنصور المشهور بالفضل والأدب المقدم ذكره وأن الفتوى صارت إليه في زمنه ومن بعده لما اختلت أحوال المملكة بسبب أولاده إلى حديث يطول ذكره ارتحل تاركا للمنصب الوطن في أواخر شهر رمضان سنة سبع وعشرين بعد الألف قاصدا حج بيت الله الحرام وأنشد صاحب مراكش متمثلا قول على بن عبد العزيز الحضرمى
محبتي تقتضى مقامي ... وحالتي تقتضى الرحيلا
فأجابه صاحب مراكش بقوله
لا أوحش الله مثلث قوما ... تعود واستعك الجميلا
قلت وبيت الحضرمى أول أبيات ثلاثة كتب بها العز الدولة ابن سقمون وكان في خدمته وبعده
هذان خصمان لست أقضى ... بينهما خوف أن أميلا
فلا يزالان في خصام ... حتى أرى رأيك الجميلا
فوقع عز الدين على ورقته الرأى الجميل أن تمنع من الرحيل وتسوغ الإقامة في ظل دوحة وإحسان غمامه قال المقرى وكتب إلى الفقيه الكاتب أبو الحسن على الخزركي الفاسي الشهير بالشاحى بما كتبه أبو جعفر أحمد بن خاتمة المرى المغربي إلى بعض أشياخه
أشمس الغرب حقا ما سمعنا ... بأنك قد سئمت من الإقامة
وإنك قد عزمت على طلوع ... إلى شرق سموت به علامه
لقد زلزلت منا كل قلب ... بحق الله لا تقم القيامه
ثم ورد إلى مصر بعد أداء الحج في رجب سنة ثمان وعشرين وألف وتزوج بها من السادة الوفائية وسكنها وقد سئل عن حظه بها فقال قد دخلها قبلنا ابن الحاجب وأنشد فيها قوله
يا أهل مصر وجدت أيديكم ... في بذلها بالسخاء منقبضه
لما عدمت القرى بأرضكم ... أكلت كتبي كأنني أرضه
وأنشد هو لنفسه
تركت رسوم عزى في بلادى ... وصرت بمصر منسى الرسوم
ونفسى عفتها بالذل فيها ... وقلت لها عن العلياء صومى
ولى عزم كحد السيف ماض ... ولكن الليالي من خصومى(1/191)
ثم زار بيت المقدس في شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وألف ورجع إلى القاهرة وكرر منها الذهاب إلى مكة فدخلها بتاريخ سنة سبع وثلاثين خمس مرات وأملى بها دروسا عذيده ووفد على طيبة سبع مرات وأملى الحديث النبوي بمرأى منه صلى الله عليه وسلم ومسمع ثم رجع إلى مصر في صفر سنة تسع وثلاثين ودخل القدس في رجب من تلك السنة وأقام خمسة وعشرين يوما ثم ورد منها إلى دمشق فدخلها في أوائل شعبان وأنزلته المغاربة في نكان لا يليق به فأرسل إليه أحمد بن شاهين مفتاح مدرسة الجقمقية كتب مع المفتاح هذه الأبيان
كنف المقرى شيخى مقرى ... وإليه من الزمان مفرى
كنف مثل صدره في اتساع ... وعلوم كالبحر في ضمن بحر
أي بدر قد أطلع الدهر منه ... ملأ الشرق نوره أي بدر
أحمد سيدي وشيخي وذخرى ... وسميى وذاك أشرف فخرى
لو بغير الأقدام يسعى مشوق ... جئته زائرا على وجه شكرى
فأجابه المقرى بقوله
أي نظم في حسنه حار فكرى ... وتحلى بدره صدر ذكرى
طائر الصيت لابن شاهين ينمى ... من بروض الندى له خير ذكر
أحمد الممتطين ذروة مجد ... لعوان من المعالي وبكر
حل مفتاح فضله باب وصل ... من معاني تعريفه دون نكر
يا بديع الزمان دم في ازدياد ... بالعلى وازدياد تجنيس شكر
ولما دخل إليها أعجبته فنقل أسبابه إليها واستوطنها مدة أقامته وأملى صحيح البخارى بالجامع تحت قبة النسر بعد صلاة الصبح ولما كثر الناس بعد أيام خرج إلى صحن الجامع تجاه القبة المعروفة بالبعونية وحضرة غالب أعيان علماء دمشق وأما الطلبة فلم يتخلف منهم أحد وكان يوم ختمه خافلا جداً اجتمع فيه الألوف من الناس وعلت الأصوات بالبكاء فنقلت حلقة الدرس إلى وسط الصحن إلى الباب الذي سوضه فيه العلم النبوي في الجمعيات من رجب وشعبان ورمضان وأتى له بكرسي الوعظ فصعد عليه وتكلم بكلام في العقائد الحديث لم يسمع نظيه أبدا وتكلم على ترجمة البحارى وأنشد له بيتين وأفاد أن ليس للبخارى غيرهما وهما
اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بغته
كمن صحيح قد مات قبل سقيم ... ذهبت نفسه النفيسة فلته
قلت ورأيت في بعض المجاميع نقلا عن الحافظ ابن حجرانه وقع للبخارى ذلك أو قريب منه وهذه من الغرائب انتهى وكانت الجلسة من طلوع الشمس إلى قرب الظهر ثم ختم الدرس بأبيات قالها حين ودع المصطفى صلى الله عليه وسلم وهي قوله
يا شفيع العصاة أنت رجائي ... كيف يخشى الرجاء عندك خيبه
وإذا كنت حاضرا بفؤادى ... غيبة الجسم عنك ليست بغيبه
ليس بالعيش في البلاد انقطاع ... أطيب العيش ما يكون بطيبه
ونزل عن الكرسي فاردحم الناس على تقبيل يده وكان ذلك نهار الأربعاء سابع عشرى رمضان سنة سبع وثلاثين وألف ولم يتفق لغيره من العلماء الواردين إلى دمشق ما اتفق له من الحظوة واقبال الناس وكان بعدما رأى من أهلها ما رأى كثر الاهتمام بمدحها وقد عقد في كتابه عرف الطيب فصلا يتعلق بها وبأهلها وأورد في مدحها أشعارا ومن محاسن شعره في حقها قوله
محاسن الشام جلت ... عن أن تقاس بحد
لولا حم الشرع قلنا ... ولم نقف عند حد
كأنها معجزات ... مقرونى بالتحدى
وقوله
قال لي ما تقول في الشام حبر ... شام من بارق العلى ما شامه
قلت ماذا أقول في وصف أرض ... هي في وجنة المحاسن شامه
وقوله
قل لمن رام النوى عن وطن ... قولة ليس بها من حرج
فرج الهم بسكنى جلق ... أن في جلق باب الفرج
وجرى بينه وبين أدبائها وعلمائها مطار حات شتى فمن ذلك ما كتبه إلى الشاهينى مع خاتم ومسجة أرسلهما له
يا نجل شاهين الذي ... حاز المعالى والمعالم
يا من دمشق بطيب ما ... يبديه عاطرة النواسم
فالنهر منها ذو صفا ... والزهر مفتر المباسم(1/192)
والغصن يثنى عطفه ... طربا لتغريد الحمائم
يا أحمد الوصاف يا ... من حاز أنواع المكارم
أنت الذي طوقتنى ... مننا لها تعتو الأعاظم
فمتى اؤدى شكرها ... والعجز لي وصف ملازم
والعذر بادان بع ... ثت إليك من جنس الرتائم
تسبيحة لذكر التي ... جاءت بتصحيف ملايم
وبخاتم داع إلى ... فيض الندى من كف حاتم
فامدد على جهد المقل ... رواق صفح ذا دعائم
لا زلت سابق غاية ... بين الأعارب والأعاجم
سيدي لا يخفاك أنني بعثت بها رتيمه ولو أمكنني لاهديت من الجواهر ما ينوف على قدر القيمه فهما أعنى الخاتم والمسبحة تذكير ليد العلى بخالص الوداد وفي المثل لا كلفة بين من تثبيت بينهم الألفة حتى في الورق والمداد والله يبقيك البقاء الجميل ويبلغك غاية التأميل والعفو مطلوب والله عند منكسرة القلوب وهو المسئول أن يحرسكم بعين عنايته التي لا تنام بجاه من ترقى إلى أعلى مقام ولله در القائل
هدية العبد على قدره ... والفضل أن يبقلها السيد
فالعين مع تعظيم مقدارها ... تقبل ما يهدى لها المرود
فكتب إليه الشاهينى قصيدة مطلعها
يا سيدي اشعرى له ... ما إن يقاوى أن يقاوم
منها وهو محل ذكر ما أهداه إليه
قد جاء ما شرفتنى ... بخصوصه دون الأعاظم
من خاتم كفى به ... ورثت سليمان العزائم
وبسبحة شبهتها ... بالشهب في أسلاك ناظم
فلتحسد الجزاء ما ... أحرزت من تلك المكارم
هي آلة للذكر لك ... ن ليس ذكرا في الحيازم
فهواك في قلبي وما ... في القلب جل عن الرتائم
ماذى رتاسم سيدي ... بل إنها عندي تمائم
لو أنها من جنس ما ... يطوى غدت فوق النعائم
لكنها قد زينت ... كفى وأزرت بالخواتم
واتفق للمغرى مجلس في دعوة بعض الأعيان وكان المفتى العمادى والشاهينى صحبته في تلك الدعوة فمس ثلجا وقال الماس هذا فأنشد الشاهينى مرتجلا
شيخنا المقرى وهو الناس ... والذي بالأنام ليس يقاس
مس ثلجا وقال الماس هذا ... قلت ألماس عندنا ألماس
ثم ارتجل بآخرين في الثلج
غنيت بالثلج عن سوداء حالكة ... من قهوة لمتكن في الأعصر الأول
وقلت لما غدا خلى يعنفنى ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
فقال العمادى
يا بردها ثلجة جاءت على كبد ... حراء من فرقة الأحباب في وجل
فقال المقرى
تحلوا ذاكررت ذوقا وعادة ما ... أعيد أن يلتقى بالكره والملل
فقال العمادى
لعل اعلاله بالثلج ثانية ... يدب منها نسيم البرد في عللي
فقال المقرى
إذ ادعاني بمصر ذكر معهدها ... أجاب دمعي وما الاعي سوى طلل
فقال العمادى
لو كان في مصر ماء بارد لكفى ... عن الثلوج ومن للعور بالحول
ومن شعر المقرى قوله مضمنا مع الاكتفاء والتورية
لم أنس يوما للنواعير به ... في نهر فاس شجن هاج الجوى
فقلت إذ ذكرني معاهدا ... لله ما قد هجت يا يوم النوى
والمصراع الثاني ضمنه من مقصوره حازم وبعده على فؤاد من تباريح الجوى ورأيت في بعض المجاميع نقلا عن هط المقرى قال أنشدني صاحبنا العلامة البليغ الناظم الناثر القاضي محمد المتوفى لبعض من قصده الده بسهامه ولم يجد صبرا لاشكال صبره وانبهامه قوله
وأخفيت صبرى ساعة بعد ساعة ... ولكن عينى في الأحاديين تدمع
فقلت مضمنا وفيه لوزم ما لا يلزم
وقائلة مالي رأيتك ذا شجى ... ولم يك قدما فيك للشجو مطمع
فقلت أصابتني من الدهر عينه ... وخالفت ذا نصح له كنت أسمع
فقالت تصبروا كتم الأمر تسترح ... ولا تسأمن فالخير في ذاك أجمع(1/193)
فقلت لها أرشدت من ليس جاهلا ... وأنشدتها والحى للسير أزمعوا
وأخفيت صبرى ساعة بعد ساعة ... ولكن عينى في الأحاديين تدمع
قال وكان شيخ مشايخنا القاضي الأجل سيدى عبد الواحد بن أحمد الونشر يسى التلمساني الأصل قاضى قضاة فاس المحروسة نظم بيتا ورمز فيه للمواضع التي لا يصلى فيها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال
على عاتقي حملت ذنب جوارح ... تعبت بها والله للذنب غافر
وهذا بيان مارمز على الترتيب عطاس عبره حمام ذبح جماع تعجب بيع فقلت أن قوله والله للذنب غافر لا محل له في الرمز مع أنه بقيت أشياء أخر لو جعلت مكان هذا الكلام أحسن وأيضاً فإن بيته ليس فيه ما يفهم منه مراده فلما رأيت ذلك وطأت له ببيت صرحت فيه بالمارد وأبدلت قوله والله للذنب غافر بالرمو لما أغفله قلت والفضل بالتقدم له
ينزه ذكر المصطفى في مواضع ... لها رمز ألفاظ تبدى شمولها
على عاتقي حملت ذنب جوارح ... تعبت بها قد أثقلتني حولها
رمزت للقذر والأكل وحاجة الإنسان لا يقال أن الحاجة تدخل في قوله حملت لأنا نقول أنه كرر في قوله على عاتقي وذلك يدل على أنه لا كيتفى باللفظ الواحد ثم ظهر لي بعد ما تقدم أن قولى ينزه إلى آخره ليس فيه التصريح بعدم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فقلت بدله
صلاة على المختار دع في مواضع ... لها رمز ألفاظ تبدى شمولها
عليك بأكثار الصلاة على الذي ... رسالته للخلق باد شمولها
ودعها بعشر قلت في رمز عدها ... كلاما عيسوني زاد منه همولها
على عاتقي حملت ذنب جوارح ... تعبت بها قد أثقلتني حمولها
ومن املائه لبعض فضلاء دمشق أنه قال حكى أن أفلاطون كتب إلى نقراط قبل أن يتعلم منه إني أسألك عن ثلاثة أشياء أن أجبت عنها تلمذت لك فكتب إليه بقراط سل وبالله التوفيق فكتب إليه أخبرني من أحق الناس بالرحمة ومتى يضيع أمر الناس وما تتلقى به النعمة من الله فكتب إليه بقراط أما أحق الناس بالرحمة فثلاثة البريكون في سلطان فاجر فهو الدهر حزين لما برى ويسمع والعاقل في تدبير الجاهل فهو الدهر متعب مغموم والكريم يحتاج إلى اللئيم فهو الدهر خاضع دليل وأما تييع أمور الناس فإذا كان الرأي عند من لا يقبل منه والسلاح عند من لا يستعمله والمال عند من لا ينفقه أما ما به تتلقى النعمة من الله فبكثرة الشكر ولزوم طاعته واجتناب معصيته فأقبل إليه أفلاطون وصار تلميذ إله إلى أن مات قال المقرى وقد واجتناب معصيته فأقبل إليه أفلاطون وصار تلميذ اله إلى أن مات قال المقرى وقد نظمت هذا السؤال والجواب في قولي
أرسل أفلاطون وهو الذي ... قد ما سما في الناس بالحكمة
لشيخه بقراط من قبل أن ... يكون ممن قد حوى علمه
أن أنت حققت جوابي على ... ثلاثة محضتك الخدمه
وكنت تلميذ مقرا بما ... تسديه من علم ومن حرمه
فقال بينها فقال اكشفن ... عمن أحق الناس بالرحمه
وعن أمور الناس أوضح متى ... تضيع واستقبلنا النعمه
من ربنا سبحانه ما الذي ... به تلقى فاشرح القسمه
فقال بقاط أحق الورى ... برحمة يا موفى الذمه
ذو العقل في تدبير الجهل لا ... يبرح طول الدهر في غمه
والبران أضحى بسلطان من ... فجوره عم الورى نقعه
يحزنه ما يسمع أو ما يرى ... منه لأن الظلم ذو ظلمه
كذا كريم النفس ذو حاجة ... إلى لئيم ساقط الهمه
يغدو ذليلا خاضعا خاشعا ... له وناهيك يذا وصمه
فاسأل من الرحمن سبحانه ... عنالثلاث الحفظ العصمه
وذى ثلاث أن تكن في الورى ... ضاعت أمور الناس في مهمه
المال في كف امرئ ممسك ... له يرى أنفاقه ثلمه
والرأى أن كان دلى من أبوا ... منه قبولا وأبوا حزمه
وذو سلاح ليس مستعملا ... له ولم يكسب به حشمه(1/194)
وذى ثلاث غيرها أوضحت ... عما به تستقبل النعمه
ترك المعاصي ولزم التقى ... وكثرة الشكر فصن نظمه
وذكر في بعض محاضراته أن لسان الدين بن الخطي ذكر في الكنية الكامنه في أبناء الثامنة جوابا عن البيتين المشهورين وهما قوله
كسرت لما قد قلت قلبي ... ولم تضغه إلى فلان
ما يملك المستهام قلبا ... يا ظالم اللفظ والمعاني
قال والبيتان المشهوران اللذان هذان جواب عنهما هما قول القائل
يا ساكنا قلبي المعنى ... وليس فيه سواه ثاني
لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان
ورأيت لبعضهم جوابا عنهما وقد أجاد إلى الغاية بقوله
سكنته وهو ذو سكون ... لم ينه عن هواى ثاني
فكان كسرى له قياسا ... لما التقى فيه ساكنان
وأجاب المقرى بقوله
نحلتني طائعا فؤادي ... فصار إذ حزته مكاني
لا غروان كان لي مضافا ... إني على الكسر فيه باني
قلت وذكر الخافجى في ترجمة أحمد بن الجيعان أنه ذكر هذا السؤال في بيتين وقال إذا التقى ساكنان كسرأحدهما ما لا محلهما وكون المراد بالمحل الكلمة التي فيها ذلك فإنه إذا كسر أحدهما كانت مبنية على الكسر كأمس لا تحتمله البلاغة قال فقلت له هذا مما لا مزيد عليه وأحسن منه قولي في هذا المعنى
إن ذا الدهر لا يزال يرى ... جمع شمل الكرام ممتنعا
فهو حتما محرك أبدا ... أحد الساكنين ما اجتمعا
ولسان الدين بن الخطيب هو الذي ألف الترجمة كتابه عرف الطي في أخباره ومن غريب خبره والأيام ترى الغريب من أفعالها وتسمع العجيب من أحوالها انه رحل من غرناطه ودخل إلى مدينة فبالغ سلطانها في اكرامه فتمكن منه أعداؤه بالأندلس وأثبتوا عليه كلمات منسوبة إلى الزندقة تكلم بها فسجل بها ودخل إليه بعض الأوغاد السجن وقتله خنقا وأخر جوار منه فدفنت فأصبح غدوة دفنه طريحا على شفير قبره وقد ألقيت عليه الاحطاب وأضرمت فيها النار فاحترق شعره واسودت بشرته ثم أعيد إلى حفرته وكان ذلك سنة ست وسبعين وسبعمائة ومن أعجب ما وقع له أنه كان نظم هذا المقطوع وهو
قف لترى مغرب شمس الضحى ... بين صلاة العصر والمغرب
واسترحم الله قتيلا بها ... كان أمام العصر في المغرب
فاتفق أنه قتل بين هاتين الصلاتين فالمارد من شمس الضحى نفسه وقوله واسترحم الله قتيلاً بها معناه اسأل الله رحمة للقتيل بشمس الضحى فضمير بها عائد غلى شمس الضحى على سبيل استخدام وكلا المعنيين مجازى وقد أطلنا الكلام حسبما اقتضاه المقام فلنرجع إلى الغرض من ذكر المعنيين جمازى وقد أطلنا الكلام حسبما اقتضاه المقام الأربعين يوما ثم رحل منها في خامس شوال سنة تسع ثلاثين إلى مصر وعاد إلى دمشق مرة ثانية في أواخر شبعان سنة أربعين وحصل له من الإكرام ما حصل في قدمته الأولى وحين فارقها أنشد قوله
أن شام قلبي عنك بارق سلوة ... يا شام كمن يخون ويغدر
كم راحل عنها لفرط ضرورة ... وعلى القرار بغيرها لا يقدر
متصاعد الزفرات مكلوم الحشا ... والدمع من أجفانه يتحدر
ودخل مصر واستقر بها مدة يسيرة ثم طلق زوجته الوفائية وأراد العود إلى دمشق للتوطن بها ففاجأه الحمام قبل نيل المرام وكانت وفاته في جمادى الآخرة سنة أحدى وأربعين وألف ودفن بمقبرة المجاورين وقال الأديب ابراهيم الأكرمي في تاريخ وفاته
قد ختم الفضل به ... فأرخوه خاتم
والمقرى بفتح الميم وتشديد القاف وآخرها راء مهملة وقيل بفتح الميم وسكون القاف لغتان أشهرهما الأولى نسبة إلى قرية من قرى تلمسان وإليها نسبة آبائه(1/195)
أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن سليمان القاضي شهاب الدين بن ناصر الدين الأسطواني الدمشقي الحنفي رئيس الكتاب بمحكمة الباب كان كاتبا بارعا تام المعرفة حسن الخط وافر الضبط قرأ وحصل في مباديه ثم صار كاتبا للصكوك بالمحكمة الكبرى وبعد مدة نقل إلى الباب وصار رئيس كتابها وانحصرت فيه أمورها وكان يراجع في المهام وهو في حد ذاته من المتفوقين في صنعته برى الساحة مما يدنسه كامل العرض حسن السمت وخلفه ابنه حسن وكان على سمته وبالجملة فهذا البيت في دمشق معروف بالرؤساء الأجلاء ولهم قدم ووجاهة واجتناب للمكاره وكانت ولادته سنة خمس وتسعين وتسعمائة وتوفى في عشرى المحرم سنة ثلاث وأربعين وألف ودفن بمقبرة الفراديس(1/196)
الشيخ أحمد بن محمد بن علي الملقب شهاب الدين بن شمس الدين بن نور الدين المعروف بالغنيمي الأصنارى الخزرجي الحنفي المصري الأمام الغلامة الحجة خاتمة المحققين المشار إليهم بالنظر الصائب ولطائف التحرير ودقة النظر وهو أجل الشيوخ الذين انفرد وافى عصرهم في علم المعقول والمنقول وتبحروا في العلوم الدقيقة والفنون العويصة حتى استخروجها بالنظر الدقيق والفكر الغامض وكان أولا شافعاً حضرا الجلة من مشايخ الشافعية واتقن المذهب ودرس فيه ثم أنه لما صار إلى البلاد الرومية وأخذ بعض التداريس الحنفية وكان ذلك بالمدرسة الأشرفية التي بصحراء مصر صار حنفياً قال مدين القوصوني ومما كتب لنا بخطه بعد الطلب وأما تاريخ مولدى فلا أتحققه لكن أذكر ما فيه تقريب له وهو أني أدركت قتل محمود باشا وكنت إذ ذاك صغيرا بالمكتب أتهجى ولما شاع الخبر بقتله جاءني عمى أبو بكر وحملني على كتفه وذهب بي إلى لبيت خشية على ولا يخفى أن تاريخ قتله بالجمل عظه بالظاء المشالة وأما مشايخي فهم شيخ الإسلام محمد الرملي وعارف الوقت سيدي محمد بن أبي الحسن البكرى الصديقي حضرته في غالب الشفا للقاضى عياض بقراءة الشيخ الفاضل صفى الدين الغزى عليه وحين ختمه استجاز فقال أجزتم رضى الله عنكم لمن قرأه أو سمعه أو شيئاً منه أن يرويه وجميع مايجوز لكم وعنكم روايته فقال الشيخ محمد المذكور نعم وأهل العصر وحضرته أيضاً في المشايل ودروس الغسير والتصوف وغير ذلك ومنهم شيخ الإسلام نجم الدين الغيطى بقراءة الشيخ سالم السنهورى المالكي وغيره وكنت إذ ذاك صغيرا مشغولا بحفظ القرآن ومنهم الشيخ يوسف جمال الدين بن شيخ الإسلام زكريا الأنصارى اجتمعت به متبركا وحضرته مرة أو مرتين بقارءة العم الشيخ جمال الدين عليه في الحديث ومنهم عالم الحنفية العلامة الفهامة علي بن غانم المقدسي حضته في المطول مع حاشية الفنرى ومنهم الشيه الفهامة المتقن إبراهيم العلقمى لازمته زمانا كثيرا في البخارى وغيره ومنهم الشيخ العلامة الفهامة فريد عصره ووحيد دهره أحمد بن قاسم العبادى أخذت عنه العربية بقارءته ألفيه ابن مالك مرتين في داخل مقصورة الجامع الأزهر بين المغرب ولعشاء وأصول الفقه جمع الجوامع غالبه في الدرس العام ومنهم رفيقه في الاشتغال العلامة إليه يوسف النحوى ومنهم شيخ الإسلام على نور الدين الزيادى ومنهم الشيهان العالمان العاملان الشيخ محمد الخفاجى والشيخ أبو بكر الشنواني ومنهم الفهامة الشيخ صالح البلقينى ومنهم العالم الشيخ محمد النحراوى ومنهم الشيخ عبد الله السندي نزيل مكة أخذت عنه رسالة الاستعارات وغالب شرحها للمولى عصام الدين وبينه وبين عصام الين شيخ واحد ومنهم شيخ الإسلام محمد البهنسى شارح البخارى وغيره ومنهم العلامة أحمد بن عبد الحق السنباطى ومنهم الشيخ نور الدين العسيلى ومنهم الشيخ الفاضل أبو نصر الطبلاوى وأما مؤلفاتي فهي أقل من أن تذكر بين مؤلفات المحققين الأعلام لكن رأيت من الأدب حسن الامتثال فمنها وهي أجلها حاشية على مقدمة الأمام محمد السنوسى المسماة بأم البراهين في أصول الدين جاءت في نحو تسعين كراسة صغيرة ولم تكمل ومنها شرح مقدمة العراف بالله تعالى الشيخ عبد الوهاب الشعراوى في علم العربية قال وقد تعبت في شحرها لعدم الفها وغريب صنعها ألزمني في ذلك بعض الأخوان ومنها رسالة في أن الله سبحانه قديم الذات والزمان ردا على من اعترض علينا في خطبة حاشيتنا على أم البراهين حيث قلنا فيها ذلك وهي مفيدة عزيزة ومنها رسالة فيتحير النسب الأربع مع نقضائها المذكور في أوائل المنطق ومنها رسالة في شرح الأبات المشهور التي أولها
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته ... عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لأحد(1/197)
واعتذرت في عدم الكتابة عليها بأني لست من فرسان هذا المبدان فألزمت أن أكتب عليها على مقتضى ظاهر اللفظ فإنها أرسلت إلينا من الصعيد بالخصوص ومنها رسالة تتعلق بالخضر عليه السلام في أنه نبي أو ولى وفى نسبه وغير ذلك مع عدم الوقوف على رسالة الجلال السيوطى وغيره فيه ومنها رسالة في مباحث متفرقة قلت ورأيت في بعض التعاليق أنه رحل إلى الروم فتحول حمفيا بأمر مولى من موالى الروم وحظى ثمة حظوة لم يحظها أحد في عصره من العرب والروم وأعطى المدارس العلية بمصر والوظائف والمعاليم ثم عاد إلى مصر من طريق البحر إلى أن إلا كتابا واحدا كان بيدهن فخرج به من المركب ثم سرق منه وبقى صفر اليدينن ثم أرسل إلى مفتى الروم وعرفه بجميع ما حصل له فعوضه عن بعض ذلك وجدد له مراسيم بمدارسه ووظائفه واستمر بمصر وعرض له في آخر عمره ثقل في سمعه حتى لا يفتر عن ذكره وحكى عنه أنه قال مات المعقول والمنقول بعده ورأيت بخط بعض الأخوان أن له تآليف زائدة على ما ذكر منها كتاب ابتهاج الصدور في بيان كيفية افضافة والتثنية والجمع للمنقوص والممدود والمقصور وكتاب إرشاد الطلاب إلى لفظ لباب الأعراب قلت وهذا شرح الشعرانية في علم العربية وله حاشية على شرح الاستعرات للمولى عصام وحاشية على شرح ايساغوجى للقاضى زكرياء وله حواش نفسية على طر ركتبه جرد منها في حال حياته وبعد مماته منها ما كتبه على شرح عقائد النسى للتفتازاني وما كتبه على شرح جمع الجوامع للمحلى وما كتبه على شرح الأزهرية للشيخ خالد وغير ذلك من الرسائل المقبولة وكان الشبراملس يقول من رأى دروس الغنيمى وتقريره ودقة نظره لا يجوز نسبة هذه التآليف التي ألفها إليه لأن مقامه أجل منها مع إنها في غاية الدقة وحسن الصناعة ومما ظفرت به من تحريراته ما كتبه على عبارة القاضي البيضاوى عند قوله تعالى إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصلوا بالحق وتواصوا بالصبر حيث قال البيضاوى وهذا من عطف الخاص على العام للمبالغة إلا أن يخص العلم بما يكون مقصورا على كماله انتهى قال الغنيمي الضمير في كماله يرجع إلى الإنسان وهو الظاهر المتبادر إلا أن يخص العلم المفهوم من قوله وعملوا الصالحات بعمل يكون ذلك العلم مقصوراً على كمال الإنسان نفسه لا يتجاوزه إلى غيره وحينئذ لا يكون وتواصوا بالحقي الخاص لأن التواصي ليس مقصورا على كمال الإنسان نفسه بل يتجاوزه إلى الغير ويمكن رجوع الضمير إلى العمل ويكون ذلك من قصر الجزئي بل يتجاوزه إلى الغير ويمكن رجوع الضمير إلى العمل ويكون ذلك من قصر الجزئي على ما للكلى فالمراد من قوله وعملوا الصالحات الأعمال الكاملة أما لتادرها عند الإطلاق أو من العنوان عنها بالصالحات مع المقام أو غير ذلك فقوله وتواصوا بالحق شامل للكاملة وغيرها ويجوز أن يكون ما في قوله بما يكون واقعة على الدليل المخصص إلا أن يخص العمل بدليل يكون مقصور أعلى كمال العمل بأن يدل عليه انتهى وكانت وفاته ليلة الأربعاء سابع عشرى رجب سنة أربع أربعين وألف عن نحو ثمانين سنة والغنيمى نسبة إلى جدة الشيخ غنيم المدفون بالشرقية ويتصل نسبه إلى سعد بن عبادة الأنصاري رضى الله تعالى عنه الشيخ أحمد بن محمد البقاعى العرعانى نزيل دمشق المحدق الشافعي المذهب المعمر كان من أجلاء العلماء له الشهرة التامة في الحديث والوراية أخذ بالشام عن شيخ الإسلام البدر الغزى وغيره ورحل إلى مصر والحرمين في طلب الحديث وأخذ عن الجلة من علماءها كالنجم الغيطى والشيخ جمال الدين بن القاضى زكرياء وأبى النصر الطبلاوى والاستاذ الكبير محمد بن أبي الحسن البكرى والشمس محمد المرلى والنور على نب غانم المقدسي الحنفي والعارف بالله عبد الوهاب الشعراوي وأبي النجا سالم السنورى المالكي والشيخ العمر يطى وبمكى عن ابن حجر المكى وغيرهم ورجع إلى دمشق وكان يجلس في الزاوية الغزالية يدرس ويقرى وانتفع به خلق كثير وكان دينا خيرا مقبول لرواية ذكره الشيخ عبد الباقي الحنبلي في مشيهته وأثنى عليه كثيرا وهو من جملة م روى عنه وأخبرني ولده أبو بكر وهو الآن في الأحياء أن ولادة والده كانت في سنة ثمان عشرين وتسعمائة وتوفى سنة خمس وأربعين وألف والعرعاني بفتح العين المهملة وسكون الراء وفتح العين المهملة وبعدها ألف ونون نسبة إلى عرعان قرية بالبقاع العزيزى(1/198)
الشيخ أحمد بن محمد الهادى بن عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن ابن الشيخ على اليمنى المفتى أخذ عن والده وعميه الشيخ شهاب الدين وأبي بكر عدة علوم منها التفسير والحديث والفقه والنحو والتصوف وأخذ عن شيخ الإسلام عبد الله بن شيخ وولده زين العابدين بن العيد روس وأخذ عن السيد الجليل عبد الرحمن بن عقيل وغيرهم ثم ارتحل إلى الحرمين وأخذ بهما عن جماعة منهم العارف بالله تعالى أحمد علان وشيخ الإسلام والسيد عمر بن عب الرحمي البصرى ولازمه ملازمة تامة حتى تخرج به وكان يحبه ويثنى عليه وزوجه بنته وممن أخذ عنه الشيخ عبد العزيز الزمزمى والشيخ أحمد الخطيب والشيخ محمد بن محمد البى الماليك المدنى والشيخ عبد الملك العصامى والشيخ عبد الرحمن الخيارى وغيرهم من أهل الحرمين ولبس الخرقة من جمع كثير وأذنوا له بالالباس وأجازوه بالافتاء والتدريس فجلس للإقراء بالمسجد الحرام وكان له اعتناء بكتاب احياء علوم الدين فأقرأه في المسجد الحرام ست مرات وقرأه على والده أربع مرات وعلى شيخه عبد الله بن شيخ العيد روس أربع مرات وقرأه على والده أربع مرات وعلى شيخه عبد الله بن شيخ العيد روس أربع مرات وربما قرأ في التفسير وحضره جم وافر وكان طلق اللسان متدرعا جلباب الطاعة عاملا بعمله حافظا للسانه وفهمه مواظبا على السنن النبوية كثير التلاوة للقرآن ملازما للذكر مع غاية من الزهد والقناهة وكان شديد الإنكار يثب على المنكر كأنه صاحب ثار تأخذه في الله لومة لائم ولا تأخذه رأفة في دين الله وإذا حضر مجلسا احتاط الحاضرون في ستر المنكرات والمتهجنات وحكى أنه دخل على بعض أرباب الدولة وعنده من يضرب بالآلة فأسكت المسمعين ووعظ الحاضرين وأمرهم بالتوبة وكان لطيف المعاشرة حسن المذاكرة له كرامات كثيرة منها أنه دعا لجماعة من أصحابه بمطالب دينية ودنيوية فنالوها ببركة دعائه ومنها أن بعض أصحابه اعتراه وسواس شديد حتى اتفق له أنه كان في الطواف فتخيل له أنه خرج منه بول فأسرع بالخروج من المسجد خشية نلويثه ثم نظر غلى ثوبه فلم يجد بللا وشك في وضوءه وطهارة ثوبه وتعب تعبا شديدا فمر به صاحب الترجمة وهو في تلك الحالة فتعلق به وألزمه بالدعاء له في رفع تلك الوسوسة فدعا له فأذهبها الله عنه من حينئذ وكان يحب الفقراء الضعفاء ريكرمهم وتخرج به جماعة في عدة علوم لا سيما التصوف وألب الخرقة لجماعة ولم يزل على حالته إلى أن مات وكانت وفاته في سنة خمس وأربعين وألف ودفن بالمعلاة عند قبور السداة الأشراف بنى علوى وقبره معروف يزار رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن محمد المعروف بالزريابي الدمشقي المالكي قاضي المالكية وفقيههم بدمشق كان من الفضلاء المشهورين والنبلاء المعروفين نشأ بدمشق وقرأ على العلامة عمر بن محمد الفارى والشيخ تاج الدين المقرءونى ثم رحل إلى القاهرة وتفقه على البرهان اللقاني وأخذ عنه بقية العلوم وأخذ عن غيره ومكث ثمان ستين وعاد إلى دمشق وولى افتاء المالكية والقضاء بمحكمة الباب ن والده وذلك سنة تسع وثلاثين وألف ودرس بالمدرسة اليونسية بعد وفاة العلامة محمد بن محمد بن على الحزرمى البصير الآتي ذكره سنة ست وأربعين ثم في أوامر سنة تسع وأربعين شرع في عمارة الشيخ ارسلان قدس الله سره العزيز وانقطع هناك وصرف مالا جزيلا وكان صاحب ثروة وأجرى ماء للشباك قبالة الضريح وكان ينظم الشعر ومن شعره قوله لما عمر العمارة المذكورة
قد شاده خويدم الاعتاب ... أحمد ذاك المالكي بالباب
في رأس خمسين والف تتلو ... من هجرة النبي والأصحاب
وقوله يمدح الشيخ ارسلان
رسلان يا كهف لدى درك المنى ... وغياثنا وملاذنا والمطلب
وإذا ألم بك الزمان بنائب ... فانهض إليه فهو باز أشهب
وقوله أيضاً فيه
أرسلان قد أظمأت نفسا تعشقت ... بحب إله العالمين تعشقا
وأرويت مد أوريت زند ولاية ... وأسقيت أهل الشام كاسا مروقا
وكانت ولادته ستة أحدى وألف وتوفى في سابع عشرى جمادى الآخرة سنة خمسين وألف ود فن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى(1/199)
السيد أحمد بن محمد الحسنى المعروف بابن النقيب الحلبي الأديب المفنن البارع المشهور ذكره البديعى في ذكره حبيب فقال في حقه عنوان الفضل وبسملة كتابه وفصل خطابه وفذلكة حسابه وسهان كنانته ودلا عيابه ورواء الشهباء فخامة وجلالا ووسامة واقبالا وقد جمع الله له أسباب السعاده كما قصر عليه أدوات السياده وهو في اقتناء السودد فريد وأنه الحب الخير لشديد ومنزلة في النظم رفيعه وطريقته في النثر بديعه ينظم فينثر الدرر وينثر فينظم الغرر وحاشيته على الدرر تشهد بأن الوانى وإني وحبرية أثر نقسه وبراعته برهان حق على مسن ماني فكم بسلاسل السطور شوارد بقتبس منها مشكاة الهدى والنور وهو الآن للأدب وأصوله وأنواعه وفصوله أمام أئمته ومالك أزمته وبورى غليل الإفهام سلسال تقريره وتحلى أجياد الأقلال عقود تحريره انتهى قلت وقد رأيت خبره مغصلا في بعض ما كتبه إلى السيد عبد الله الحجازى رحمه الله تعالى من تراجم الحلبيين قال ولد بحلب وبها نشأ وأخذ عن العلامة عمر العرضى وغيره وتأدب بابراهيم بن المنلا وبرع ورحل إلى قسطنطينية وولى القضاء برهة ثم تقاعد عن رتبة القدس وولى نيابة القضاء بحلب وكان له إحاطة تامة بأنواع الفنون وقرأ عليه جماهة من مشاهير فضلاء حلب وبه انتفعوا وألف حاشية على الدرر والغرر في الفقه وأجاد فيها حدا واطلعت أنا له على تحريرات كثيرة تدل على دقة نظره وغزارة فضله وأما شعره ونثره فإليهما النهاية ف يالحسن فمن شعره قوله من قصيدة
سقى الله عيشا مر في زمن الصبا ... وحياه عنى بالعبير نسيم
ودهرا بقسطينية قد قطعته ... إذ السعد عبد لي بها وخديم
بلادها الدنيا إذا ما قطنتها ... فوجه الأماني مسفر ووشيم
وما هي الأجنة الخلد بهجة ... وما غيرها الألظى وجحيم
فكم في مغانيها قضيت لبانة ... وزالت عن القلب الكليم هموم
وقرب أبي أيوب كم روضة إذا ... حللت بها يوما فلست تريم
تقول إذا شاهدت عالى قصورها ... أهذى جنان زخرفت ونعيم
جرى ماؤها كالسلسبيل فمثلها ... إذا ما تذكرت البقاع عديم
كستها الغوادى حلة سندسية ... وأهدى شذاها للنفوس شميم
وبالسفح سفح الطوبخانة أربع ... لها النسر في جو السماء نديم
تلوح بها الغيد الصباح كأنما ... علوا واشراقا تلوح نجوم
يقابلها ذاك الخليج بصفحة ... كأن لها متن السماء خديم
ترى السفن فيها جاريات كأنها ... جياد فمنها سابق ولطيم
وعند الحصارين المنيعين جيرة ... حديث علاهم في الأنام قديم
عجبت لأيامى بهم كيف لم تدم ... وهل دام شئ غيرها فتدوم
وكتب لبعض الكبراء مع قطاع من الصينى أهداها قوله
أن قصر الداعى وأهدى بلا ... روية محتقر انزرا
من عمل الصين قطاعا أتت ... لا تستحق الوصف والذكرا
فاعذر فقد أهدى إليك الثنا ... عقد انظيما يخجل البدرا
وكتب مع أخرى يعتذر عن هدية قوله
وهديت اليسير فانعم وقابل ... نزره بالقبول والامتنان
فلو أن العيوق والشمس والب ... در مع الفرقدين في امكاني
كنت أهيدتها وقدمت عذرا ... ورأيت القصور مع ذاك شاني
وقال من فصل وهو مما يختار للكاتب مع الهدايا قد جرت العادة بمهاداة الخدم للسادة رجاء أنن يجدد والهم ذكرا وأن كانت الهدية شيئاً انزار ولهم في ذلك أسوة بالسحاب إذا أهدى القطر إلى تبار البحر وبالنسيم إذا أهدى النشر إلى حديقة الزهر وله من قصيد يخاطب بها صديقا له
نزول الرواسى عن مقر رسومها ... وودى على الأيام ليس يزول
ولست بمن يرضيه من أهل وده ... خفى وداد في الفؤاد دخيل
إذا لم يكن في ظاهر المرء شاهد ... على سره فالودمنه عليل
أأرضة بود في الفؤاد مغيب ... وليس إلى علم الغيوب سبيل
وأقبل عن هجرى اعتذار مزينا ... تمحلته إن ي إذا لجهول(1/200)
لعمرك قد حركت ما كان ساكنا ... وعلمتني بالغيب كيف أصول
وكتب إلىالعلامك البوسنوي يودعه حين توجه إلى الروم من حلب من غير عزل وأقامه مقامه
ركابك مقرون بعز وإقبال ... وسيرك ميمون بطالعك العالى
رحلت فأضرمت القلوب بجمرة ... وكل بما أوريت من حرها صالى
وغادرتنا حلف التأسف والأسى ... نبيت بآلام ونغدو بأوجال
إذا ما تذكرنا زمانك والذى ... جنيناه فيه من جنى كل افضال
تمزق درع الصبر عنا نلهفا ... عليه ولم نبرح رهائن بلبال
فما أنت إلا الغيث نخصب أن دنا ... ونجدب أما هم عنا بترحال
وقد كانت الشهباء لما حللتها ... تجر مروط العز ناعمة البال
وتفخر اعجابا وما ذاك بدعة ... فكم من عرين نال فخرابر يبال
فصارت وقد أعرضت عنها خلية ... عن العدل والانصاف في أسوء الحال
كان امرأ القيس انتحاها بقوله ... ألا عم صباحا أيها الطلل البالى
وقال يخاطب بعض أصحابه بقوله
رويد لشأن الدهر أن يتغيرا ... وشيمته أن ما صفا أن يكدرا
وعادته الشعاء في الناس أنه ... إذا جاء بالبشرى تحول منذرا
فلا بؤسه يبقى وأما نعميه ... فكا لطيف إذ تلقاه في سنة الكرا
فلاتك مسرورا إذا كان مقبلا ... ولا تك محزونا إذا هو أدبرا
فأي دجى هم دهاك ولم تجد ... صباحا له بالبشر وافاك مسفرا
وقد هزلت أيامنا فلو أنها ... أتتنا بجد كان للهزل مظهرا
ومنها
وليس يعيب البدر فقدان نوره ... إذا كان بعد الفقد يظهر مقمرا
وكتب إلى بعض الموالي يودعه
أمامك التوفيق والرشد ... وخدنك التأييد والسعد
وكلما حليت في منزل ... قابلك الاقبال والجد
رحلت عن شهبائنا فانزوى الف ... ضل بها وانطمس المجد
من بعد ما أجريت عدلا بها ... فيه تساوى الحر والعبد
فكنت مثل الشمس ما شانها ... بالنور إلا الأعين الرمد
وكنت مثل الورد ما زرتنا ... حتى ترحلت كذا الورد
لا بل كريعان الصبا سرنا ... حينا ولكن ساءنا الفقد
فاذهب فأنت الغيث ما حل في ... منزلة الآله خمد
وله وهو في غاية الجودة
لدواة داعيكم مداد شاب من ... جور الزمان وقد رثت لمصابه
فأتت تؤمل فضلكم وتروم من ... أحسانكم تجديد شرخ شبابه
وكتب صدر رسالة
أيها الفاضل الذي خصه ال ... له من الفضل والجدي بلبابه
أن شوقى إليك ليس بشوق ... يمكن المرء شرحه في كتابه
وكتب إلى السيد محمد العرضى قبل توجهه إلى الروم
ما زلت محسودا على أيامكم ... حتى غدوت ببعدكم مرحوما
ومن البلية قبل توديعى لكم ... أصبحت رزقا للنوى مقسوما
فأحابه وكان محموما
وافى الكتاب وكتب قبل وروده ... من خوف ذكر فراقكم محموما
هذا ولى أمر بصرفة عزمكم ... عنه فكيف إذا غدا محتوما
وله
أن شوقي يحل عن أن يؤدى ... بعض أوصافه لسان اليراع
وكتب لمن أعاره مجموعا
مولاى هب أن المحب فؤاده ... هبة مسلمة بغير رجوع
فاقنع فديتك بالفؤاد تفضلا ... وانعم ولا تتبعه بالجموع
قلت مما يناسب هذا المضمون ويحسن موقعه عنده في المماطلة بمجموع ان الصدر تاج الدين أحمد بن الأمير الكاتب استعار مجموعا من مجاهد الدين بن شقير وأطال مطله به فانفق يوما أن حضر إلى ديوان المكاتبات فقال له ابن الأمير كيف أنت يا مجاهد الدين والله قلبي وخاطرى عند فقال له والله وأنا مجموعى عندك فطرب لها الحاضرون ومن رباعيات ابن النقيب قوله
يا من اخترت لي حبيبا قبله ... يا من صيرت حسنه لي قبله(1/201)
روحى لك قد أخذتها خالصة ... فاجعل ثمن المبيع منا قبله
ولما انتقل أخوه بالوفاة كتب إلى أبي الوفاء العرضى وكان أصيب بولديه قوله
رزء ألم وحسرة تتوالى ... ومصيبة قد جرت الأذيالا
وجليل خطب لو تكلف حمله ... ثهلان ذو الهضاب دك ومالا
وفراق ألف أن أردت تصبرا ... عنه أردت من الزمان محالا
وغروب عين ليس نفترد دائما ... عن سكب رقراق الدموع سجالا
بعد الدهرشأنه أن لا يرى ... الاخؤونا غادرا محتالا
تغتر فيه بالسلامة برهة ... ونزى المآل تمحقار وزوالا
ويعير ناثوب لشبيبة ثم لم ... يبرح به حتى يرى أسمالا
قبحت يا وجه الزمان فلا ارى ... لك بعد أن فقد الجمال جمالا
ذاك الذي قد كان قرة ناظرى ... وقرار قلبي بل وأعظم حالا
قد كنت أرجو أن يؤخر يومه ... عنى ويحمل بعدى الاثقالا
ويذوق ما قد ذقته لفراقه ... ويمارس الأهوال وألأوجالا
فتطاولت أيدي المنية نحوه ... وبقيت فردا أندب الأطلالا
كنا كغصنى بانة قطع الردى ... منا الأغض الأرطب الميالا
أو كاليدين لذات شخص واحد ... كان اليمين لها وكنت شمالا
أسفى عليه شمس فضل عوجلت ... بكسوفها وعماد مجد مالا
لا كان يوما حسم فيه فراقنا ... فلقد أطال الحزن والبلبالا
فسقى ضريحا حله صوب الحيا ... في كل وقت لا يغيب وصالا
ومنها
هيهات من لي بالرثاء وفقده ... لم يبق في بقية ومجالا
أفحمتنى يا رزأه من بعدما ... كنت الفصيح المصقع الغوالا
من لي بطبع اللوذعى أبى الوفا ... ذاك الذي بالسحر جاء حلالا
مولى إذا وعظ الأنام رأيته ... يلقى على كل امرئ زلزالا
يزواجز لو أنه استقصى بها ... أهل الضلال لما رأيت ضلالا
مولاى يا صدر الزمان ومن غدا ... لبنيه غوثاير تجى وثمالا
ذى نفثة المصدور قد سرحتها ... لحماك تشكو بثها ادلالا
أن المصيبة ناسبت ما بيننا ... اذ حولت بحلولها الأحوالا
فثكلت مخدومين كل منهما ... قد كان في أفق السعود هلالا
لو أمهلا ملأ العيون محاسنا ... وكذا القلوب مهابة وكمالا
ولكان هذا للمعالى ناظرا ... ولكان هذا في طلاها خالا
خطفتها أيدي المنون وغادرت ... ماء العيون عليهما هطالا
فأجابه بقصيدة منها
لهفى على بدر تكامل بعدما ... قد سار في ذاك الكمال هلالا
أعظم به رزأ أتاحخ مصائبا ... فت القلوب ومزق الأوصال
ما كنت أعلم قبل حمل سريره ... أن الرجال تسير الأجبالا
وعجبت للبحر المحيط بحفرة ... هل غاب حقا أو أراه خيالا
يا دافنيه من الحياء تقنعوا ... غيبتم شمس الغداة ضلالا
عهدى الغمامم حجابها مالى أرى ... أضحى الحجاب جنادلا ورمالا
وكتب إليه في هذا الشأن قوله
هطب يقرب دونه الآجالا ... ويمزق الأحشاء والأوصالا
فدع الجفون تجودان نضبت س ... حائب دمعها فيه دما هطالا
أفلت نجوم الفضل من فلك العلى ... ووهى ثبير المكرمات ومالا
فقدت أولو الألباب ذا المجد الذي ... عدموا بفقد حياته الاقبالا
فقدوا حليف الفضل من بكماله ... وحجاه كنا نضرب الأمثالا
من شاء للعلياء يسع فإن من ... كانت له بالأمس ملكا زالا
ومنها
اعزز على بأن أرى رب الفص ... احة والبلاغة لا يجيب سؤالا
ما كنت أعلم قبل يوم وفاته ... أن الكواكب تسكن الارمالا(1/202)
ما كنت أحسب أن أرى من قبله ... للشمس من قبل الزوال زوالا
ومنها
صبرا على ما نالني في يومه ... كالصبر منه به على ما نالا
ملأ القلوب من الآسى ولطالما ... ملأ العيون مهابة وجلالا
لولا أخوه أبو الفضائل أحمد ... لرأيت أندية العلى أطلالا
الكامل الفطن الذي عزماته ... أن صال تلقاها ظبا ونصالا
ومنها
ما رام بدر التم مثل كماله ... الأوصيره المحاق هلالا
مولاى يا ابن الراشدين ومن لهم ... شرف على هام السماك تعالى
صبرا فإن الدهر من عاداته ... يدنى النوى يحول الأحوال
وقد اقتفى أثر الشريف الرضى في قصيدته التي رثى بها الصاحب ابن عباد ومطلعها
أكد المنون تقطر الأبطالا ... أكذا الزمان يضعضع الأجبالا
وهي طويلة جداً فلا حاجة بنا إلى إيرادها ولابن النقيب غضة الشغوف مها قوله حضرة تقلدت أعناق الرجال بقلائد نعمها وتدبجت رياض الآمال بهواطل سحب كرمها وطافت أفهام الطلاب بكعبة حقائقها وعلومها وسعت أفكار بنى الآداب بين صفا منثورها ومروة منظومها لا برحت الأيام باسمة الثغر بمعالها والأنام حالية النحر بأياديها وكقوله وهو صدر الدنيا وركن العليا وواسطة عقد ورثة الأنبياء وواحد هذا النوع الإنساني من الأحياء دعوى لا يدخل بينتها وهم ونتيجة لا يشين مقدماتها عقم فإن من كان صدر بنى هاشم وشنب ثغرهم الباسم وهم في الرفعة والمنعة كان أجل موجود وأعظم من في الوجود وكقوله قسما بمن جعل محاسن الدنيا في تلك الذات محصورة وأسباب العليا على ملازمة عتباتها مقصوره أن عقد عبوديتي عقدلا تتطاول إليه الأيام بفسخ وعهد مودتي عهدا تتوصل إليه الحوادث بنسخ وكيف يفسخ وصورته في الجنان مجلوة أم كيف ينسخ وسورته في كل حين باللستن متلوه ولعمري مهما نسيت فإني لا أنسى أيامي في خدمتها والتقاطى الدر من مذاكرتها وما كان بيننا من المصافاة التي هي مصافاة الماء مع الراح وما يجرى بيننا من المفاوضة التي هي في الحقيقة مفاوضة الورد مع التفاح وعلى كل حال فلا عوض لنا عنها إلا ما تنقله الركبان من أخبار سلامتها وما تودعه في صدفة آذاننا من جواهر آثار عدالتها لا جرم أنه كلما تعطرت مجالسنا بشيء من ذلك دعونا الله عز وجل فيما هنالك بأن يزيد باع عدلها امتداد وشعاع فضلها سطوعا وازديادا وأن يبلغها أقصى ما تطمح إليه عين طامحه أو نحج نحوه نفس جانحه هذا والمتوقع من كرمها كما هو المألوف من شيمها أن لا تخرجنا من ضميرها المنير وأن تعدنا في جريدة من يلوذ بمقامها الخطير والله تعالى يبقى لنا تلك الذات سامية الركاب عالية القباب في رفعة دونها قاب العقاب بالجملة فمحاسن هذا السيد كثيرة وأشعاره ومنشآته غزيره فلنكتف بهذا المقدار وكانت وفاته في ستة ست وخمسين وألف وعمره ثلاث وخمسون سنة حتى أنه كان يقول في مرض موته أحمد واقعة الحال رحمه الله تعالى أحمد بن محمد بن نعمان بن محمد بن محمد المعروف بالايجى الدمشقي الحنفي كان فاضلا كاملا سخيا سليم الصدر صافي المشرب نشأ بدمشق وقرأ على أبيه وغيره وكان شافعيا على مذهب والده ثم تحنف وتزوج بابنة نقيب الاشراف السيد محمد بن حمزة وجاءه منها أولاد وتولى النباتات بنواحي دمشق ومحاكمها وصار قاضي الركب لشامى وأقبلت عليه الدنيا ولازم من بعض الموالى ودرس بدار الحديث الأحمدية الكائنة بالمشهد الشرقي من الجامع الأموي وقبل موته بأيام صارت له رتبة الداخل المتعارفة الآن عند أهل دمشق تبعا لأهل الروم ونفذت كلمته وكانت وفاته ليلة ثاني عيد النحر سنة ثلاث وستين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير والإيجى بكسر الهمزة وسكون الياء المثناة من تحت وبعدها جيم نسبة إلى ايج بلدة بالعجم قدم منها جدة أبوا لنعمان محمد بن محمد سنة عشرين وتسعمائة وتوطن دمشق وكان من أجلاء العلماء وله ترجمة طويلة في الكواكب السائره للنجم الغزى وسيأتى في كتابنا ابنة نعمان وابن ابنة محمد والد أحمد ويحيى أخو أحمد أن شاء الله تعالى(1/203)
الشيخ أحمد بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن أحمد بن موسى بن أبي بكر صاحب الخال الأكبر ابن محمد بن عيسى بن سلطان العارفين أحمد بن عمر الزيلعى صاحب اللحية ابن حسين بن ملكا بن عقيل بن حسين بن طللة بن علي بن أحمد بن حسين ابن عمر بن أحمد بن أحمد بن جبريل بن عبد الرحمن بن حسين بن سليمان بن حسن بن أبي بكر بن علي بن زكرياء بن إبراهيم بن محمد بن جبريل بن محمد بن جبريل بن محمد بن سراج الدين بن حامد بن عبد الله بن صالح بن أحمد بن حسين بن زين العابدين ابن مسلم بن عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم المعروف بصاحب الخال كبير اللحية وصدرها وشيخ المعارف والعلوم ومعدن العوارف والفهوم الامام الفقيه الجليل النغرد في عصره بعلوم الدين والولاية وكان قاضى اللحية ومرجعها الذي عليه المعول وله الكلمة النافذة والقبول التام والتمسك من التقوى بسبب أقوى وجلالته ومهابته وخشيته من الله تعالى مما اشتهر وبهر ذكره الشلى فيما أعلم ثم رأيت الأخ الفاضل الشيخ مصطفى بن فتح الله الحموى الأصل ثم الدمشقى نزيل مكة قد ترجمه وذكر أن ولادته كانت في سنة خمس وتسعين وتسعمائة وحفظ القرآن والإرشاد وعدة متون في جملة فنون وأخذ عن شيوخ كثيرين منهم الفقيه رضى الدين بن أبي بكر القمرى وأبو الخير محمد بن شيخ الإسلام أحمد بن حجر الهيثمى والشيخ محمد علي بن علان الصديقى وعنه جمع من أعيان الأفاضل وكثير من العلماء منهم ولداه محمد وأبو بكر وله مؤلفات منها منظومة في الحساب ومنظومة في أسماء الصحابة الذين روى عنهم البخارى وصحيحه وكانت وفاته ليلة الجمعة خامس عشر رجب سنة خمس وستين وألف باللحية ودفن يقرب تربة العارف بالله تعالى سيدي المقبول صاحب القضيب ابن أحمد بن موسى قدس الله سره العزيز الشيخ أحمد بن محمد الأسدي الشافعي المكي من فضلاء الزمان وظرفائه ولد بمكة ونشأ بها وأخذ عن والده عدة علوم وأخذ عن الشمس محمد بن علان والإمام على ابن عبد القادر الطبرى والشيخ محمد الطائفي وغيرهم وتصدر للأقراء بالمسجد الحرام وانتفع به جماعة كثيرون وكان كثير العبادة محبا للعزلة ونظم شذور الذهب لابن هشام في أرجوزة سماها قلائد النحور بنظم الشذور وله أشعار كثيرة منها قوله متغزلا وهو أسلوب لطيف الموقع حسن التأدية
دع المدامة يعلو فوقها الحبب ... رضا به وثناياه لنا أرب
نزه فؤادك عن راح الكؤوس وخذ ... راحا من الثغر عنها يعجز العنب
شتان بين حلال طيب عذب ... وحامض يزدريه العقل والأدب
إذا تغزلت في خمر وفي قدح ... فما مرادى إلا الثغر والشنب
لله دل مدام بت أشفها ... من في غزال إلى الأتراك ينتسب
مهند اللحظ زنجى السوالف لم ... تحو الذي قد حواه العجم والعرب
قالت مباسمه للبرق حين سرى ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
وبت أشد وعلى الغصن الرطيب لذا ... بينى وبينك يا ورق الحمى نسب
يقول لما رأى دمعي جرى ذهبا ... يا مطلبا ليس لي في غيره أرب
تبت يدا عاذلي عمن أعوذه ... بالناس من نافث أو غاسق يقب
أن المحرم سلواني لطلعته ... فقل لشعبان عنى أنني رجب
كيف السلو وعينى كلما نظرت ... لوامع البرق قالت زالت الحجب
وقوله من قصيدة يمتدح بها شيخه الإمام علي بن عبد القادر الطبرى ويستجيزه
من أين للبدر جزء من محياك ... أم للصباح نصيب من ثناياك
والبدر يزريه ما يعلوه من كلف ... والصبح يكفيه أن يدعى بأفاك
وهل حوى الكاس ما يحويه ثغرك من ... نفائس لم ينلها غير مسواك
قد غره عندما يعلوه من حبب ... قول الذي قال الأخلته فاك
أنت البريئة من نقص تشان به ... حاشاك من وصمة حاشاك حاشاك
كل المحاسن في مرآك قد جمعت ... فجل من بحلى الحسن حلاك
من علم الظبى أن يرتو بناظره ... وعلم الغصن أن يهتز الاك(1/204)
والبيض من لحظك الفتان راوية ... والسمر تنقل ما ترويه عطفاك
يا كعبة الحسن بل يا ركن كعبته ... تبارك الله من أنشا وسواك
رقى لصب فقي من تصبره ... بحق من بكنوز الحسن أغناك
منى عليه يوصل بات يرقبه ... فطرفه ساهر من صار يهواك
أقسمت بالميم من طائى مبسمها ... ونون حاجب ذاك الناظر الشاكى
أن لا مليح سواها فهى واحدة ... وما لها في البها شبه ولا حاكى
أملى العذول سلوى وهو مؤتفك ... وعنك شنع هجري بعد املاك
كيف السلو وقلبي ما له شغل ... إلا التفكر في تحقيق معناك
نعم بحضرة ذي الآلاء قدوتنا ... رب المكارم مولانا ومولاك
وقال في مليح اسمه بلال
ومليح تكامل الحسن فيه ... لشقاء المحب سمى بلالا
كلما رام منه نيل وصال ... لا تراه يجيب الإبلالا
وأشعاره كلها من هذا النمط مستعذبة لطيفة وكانت ولادته في سنة خمس وثلاثين وألف وتوفي في سنة ست وستين وألف بمكة ودفن بالشبيكة الأسدى نسبة إلى أسد بن عامر أحد الفقهاء العامريين والأسديون كثيرون باليمن مشهورون بالعلم والصلاح منهم العارف بالله تعالى أبو محمد عبد الله بن على الأسدي المعروف بالبلاع صاحب الكرامات المشهورة وكان يلقب بالمعمر لأنه عمر مائة وثمانين سنة على ما قيل وأصلهم من قبيلة يقال لهم آل خالد سكنهم بنواحى جازان قرية بأرض اليمن قلت جازان أصلها جوزان بفتح الجيم والزاى وجازان لغة عامية هكذا رأيت في بعض التغاليق والله تعالى أعلم الشيخ أحمد بن محمد المعروف بالقلعى الحمصي المولد الدمشقي الدار الفقيه الحنفي أحد مشايخ دمشق المتصدرين للتدريس النفع كان أماما عالما متجرا في الفقه مقدما في معرفته واتفاقه وكان له المام بغيره من العلوم وكان الناس يجتمعون إليه ويقتبسون منه وكان حسن التعليم جيد التفهيم ونفسه مباركا انتفع به خلق كثير وأجل من قرأ عليه شيخنا محقق العصر إبراهيم بن منصور القتال المقدم ذكره وسمعت منه الثناء عليه بالعلم والتقوى مرارا وذكره والدى المرحوم في تاريخه وقال قدم مع والده إلى دمشق وكان صغيرا وبلغني أن والده توفى فجأة وهم داخلون إلى دمشق بالقرب من مسجد الاقصاب قبل أن يصلوا وصلى عليه بجامع منجك ودفن بمقبرة الفراديس واستمر أحمد هذا بدمشق وقرأ ودأب واتصل بخدمة العارف بالله تعالى موسى السيورى ولازمه مدة مديدة واشتغل بالعلم على العلامة عمر القارى والشيخ عبد الرحمن العامدى والشيخ الأمام يوسف بن أبي الفتح وصار معيد الدرس السليمانية وكان مدرسها إذ ذاك الفاضل المشهور محمد المعروف بالسكوني مفتي دمشق بعد العمادى المذكور وبرع وتنبل وسكن آخرا داخل قلعة دمشق وصار أماما ولذلك يدعى بالقعلى قال والدى رحمه الله قرأت عليه في أوائل الطلب مقدار ثلثى القدورى وحصة من كتاب الاختيار وشرح المختار وكانت وفاته في دود سنة سبع وستين وألف الأديب احمد بن محمد بن علي المعروف بالجوهري المكي الأديب الشاعر البارع ذكره السيد علي بن معصوم في السلافة وقال في حقه جوهرى النثر والنظام أزهرى السجايا العظام حلى بعقود نظمه عواطل الأجياد وسبق بجواد فكره الصافنات الجياد وتضلع من فنون العلوم واطلع على خفايا المنطوق والمفهوم ولد بمكة ونشأ بها وترعرع ورحل إلى الهند عن عنفوان عمره وابتداء حاله وأمره فقطن بها خمسة وعشرين سنة وعاد إلى مكة شرفها الله تعالى فأنكر تقلب أمورها فانتقل منها إلى فارس فطنب بها خيامه ولم يتم له فيها مرامه فرجع إلى الهند ولم يزل حتى دعاه أجلخ فلبى وقضى من الحياة نحبا ومن رقيق شعره قوله
ما شمت برقا سرى في جنح معتكر ... إلا تذكرت برق المبسم العطر
ولا صبوت إلى خل أسامره ... إلا بكيت زمان اللهو والسهر
شلت يد للنوى ما كان ضائرها ... لو غادر تنانقض العيش بالوطر
في خلسة من ليالي الوصل مسرعة ... كأنما هي بين الوهن والسحر
لا نرقب النجم من فقد النديم ولا ... نستعجل الخطو من خوف ولا حذر(1/205)
وأهيف القد ساقينا براحته ... كأنه صنم في هيكل البشر
منعمين وشمل الأنس منتظم ... يربو على نظم عقد فاخر الدرر
فما انتهينا لأمر قد ألم بنا ... الأوبدل ذاك الصفو بالكدر
لا دردر زمان راح مختلسا ... من بيننا قمر أناهيك من قمر
غزال أنس تحلى في حلى بشر ... وبدر حسن تجلى في دجى شعر
وغصن بان تثنى في نقا كفل ... لا غصن بأن تثنى في نقا مدر
كأن ليلى نهار بعد فرقته ... مما أقاسى به من شدة السهر
يا ليت شعرى هل حالت محاسنه ... وهل تغير باللحظ من حور
فإن تكن في جنان الخلد مبتهجا ... فاذكر معنى الأماني ضائع النظر
وأن تأنست بالحور الحسان فلا ... تنس الليالي التي سرت مع القصر
وقوله
كيف أسلو من مهجتي في يديه ... وفؤادي وأن رحلت لديه
أن طلبت الشفاء من شفتيه ... جادلى بالسقام من جفنيه
أن حلف السهاد عين رأته ... وجنت ورد جنتى خديه
كلما رمت سلوة قال قلبي ... لا تلمني في ذا العكوف عليه
لست وجدى مثيما في هواه ... كل أهل الغرام تصبوا إليه
وله مقاطيع سماها الآلى الجوهرى منها قوله
كيف يرجو العرفان بالله من قد ... قيدته الذنوب طول حياته
لا لعمري أم كيف يشرق قلب ... صور الكائنات في مرآته
وقوله
إذا انقضت الأوقات من غير طاعة ... ولم تك محزونا فذا أعظم الخطب
علامة موت القلب أن لا ترى به ... حراكا إلى تقوى وميلا عن الذنب
وقوله
أن خرت علما فاتخذ حرفة ... تصون ماء الوجه لا يبذل
ولا تهنه أن ترى سائلا ... فشأن أهل العلم أن يسئلوا
وقوله
قل للذي يبتغى دليلا ... من غير طول على المهيمن
ما ذرة في الوجود إلا ... فيها دليل عليه بين
وقوله في الغزل
ولقد سقتنا البابلية اذرأت ... أنا نحدثها ونسبر حسنها
خمرا أدارتها العيون فأذهبت ... منا العقول ولم نفارق دنها
وقوله
لما بدا البدر يجلو ... دجى الظلام وأسفر
ذكرت وجه حبيبي ... والشئ بالشئ يذكر
وقوله
وأسمح الناس كفا ... من لا يقول ويفعل
وأعذب الشعر بيت ... يرويه عذب المقبل
وقوله
لا تعذلوني في وقت السماع إذا ... طربت وجدا فحير الناس من عذرا
حتى الجماد إذا غنت لها طرب ... أما ترى العود طور يقطع الوترا
فكتب إليه بعض الأدباء مقزطا وصل البيتان بل القصران فما ألفاظهما إلا الدر النظيم فلا وحقك لم يفه بمثلهما العصران لا الحديث ولا القديم فلله درك ما أحفل درك وأبهج في أسلاك المعاني درك ولقد خاطبت بمعناهما عند سماعهما من عذل وطربت لحسن سبكهما طرب من منح عند نشوته سبيك النضار وبذل بل طرب لهما الجماد ومن ذا الذي سمعهما وما ماد فالله تعالى يبقيك للأدب كهفا يرجع إليه وذخرا عند اشتباه الألفاظ والمعاني يعول عليه وقد نظمت البارحة أبياتا في العود أحببت أن يلاحظها بملاحظتك لها السعود وهي
وعود به عود المسرة مورق ... يغنى كما غنت عليه الحمائم
إذا حركت أوتاره كف غادة ... فسيان في شوق خلى وهائم
يرنح من يصغي إليه صبابة ... كما رنحته في الرياض النسائم
فراجعة بقوله يا مولاى الذي أن عدأ رباب المجد عقدت عليه الخناصر وأن ذكر أصحاب الفضل فلا يدانيه متقدم ولا معاصر لو أمدني ابن العميد وأضرابه والصاحب ابن عباد وأصحابه ما استطعت تقريظ أبياتك الأبيات إلا منك الممتنعات إلا عنك فأنت فريد دهرك ولا أقول في هذا الفن ووحيد عصرك وليس ذلك عن ظن وقد دعتني داعية الأدب إلى أن أقول أن العود يفوق آلات الطرب فمدحته كما مدحته ووصفته كما وصفته وقلت
فاق كل الآلات في اللحن عود ... حين تعلو أصواتها وترن(1/206)
فكان الحمام دهرا طويلا ... علمته ألحانها وهو غصن
وهذا من قول أبي الفضل أحمد بن يوسف الطيبى رحمه الله تعالى
من أين للعود هذا الصوت تأخذه ... أطرافه بأطاريف الأناشيد
أظن حين نشا في الدوح علمه ... سجع الحمائم ترجيع الأغاريد
ومثله قول معاصره الصفى الحلى
وعود به عاد السرور لأنه ... حوى اللهو قد ما وهو ريان ناعم
يغرب في تغريده فكأنما ... يعيد لنا ما لقنته الحمائم
ولبعضهم فيه
وعود له نوعان من لذة المنى ... فبورك جان يجتنيه وغارس
تغنت عليه وهو رطب حمامة ... وغنت عليه قينة وهو يابس
ومن لآلئه المذكورة قوله
لا تجهلن قدرا لنفسك أنها ... علوية ترقى لما هو شبهها
والنفس كالمرآة يصقلها الغنا ... قسرا ويظلم بالمعاصى وجهها
وقوله
في المنع والاعطاء كن راضيا ... واستقبل الكل بوجه الرضا
فالخير للعارف فيما جرى ... ورب منع كان عين العطا
وقوله
إذا التبس الأمر أن فالخير في الذي ... تراه إذا كلفته النفس يثقل
فجانب هواها واطرح ما تريده ... من اللهو واللذات أن كنت تعقل
وهذا من قول الأحنف بن قيس كفى بالرحل رأياً إذا اجتمع عليه أمر أن فلم يدر أيهما الصواب أن ينظر أعجبهما إليه وأغلبهما عليه فليحذره وقريب منه قول أبي الفتح البستى
وأن هممت بأمر ... ولم تطق تخريجه
فقس قياسا صحيحا ... وخذ بضد النتيجة
ومن مقاطيعه في الغزل
أخجلت بدر الدياجى ... إذ تم في بدء أمرك
فعاد في النقص حتى ... حكى قلامة ظفرك
وقوله
وظبى نافر مما أراه ... يذل لحسنه الملك المهيب
عرفت مزاجه فانقاد طوعا ... ومن عرف المزاج هو الطبيب
وقوله
وأهيف كالسيف ألحاظه ... وقده العسال كالسمهرى
أخجلني ثغر له باسم ... فاعجب لثغر مخجل الجوهرى
وقوله
قال عذولى إذ رأى ... أخا الغزال الأعفر
هذا الذي مبسمه ... فتت قلب الجوهرى
وقوله
جرح اللحظ خال خد غلام ... فضح البان قده باعتداله
فإذا آثار طاعنا لفؤادى ... قال خذها من طالب ثار خاله
وقوله
تذكرت إذ جاء الحجيج بمكة ... ونحن وقوف ننظر الركب محرما
فصرت بأرض الهند في كل موسم ... يجدد تذكاري لقلبى مأتما
وقوله
ولو أن أرض الهند في الحسن جنة ... وسكانها حور وأملكها وحدى
لما قستها يوما ببطحاء مكة ... ولا اخترت عن سعدى بديلا هوى هند
وقوله
وقالوا بالمخا خير كثير ... فقلت صدقتم وبها الأمان
ولكن حرها يشوى البرايا ... ولولا البريق لاخترق اللسان
وقوله
شهت أمواج بحر الهند حين رست ... به السغائن من هند ومن صين
بأسطر فوق قرطاس قد اتسقت ... والسفن فيه علامات السلاطين
وقوله
إذا لم تكن ناقد للرجال ... وصاحبت من لالة تعرف
فخالفه في بعض أقواله ... فإنك عن حلقه تكشف
وله غير ذلك وكانت وفاته بالهند في ليلة الأربعاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة تسع وستين وألف رحمه الله تعالى(1/207)
الشيخ أحمد بن محمد بن عمر قاضى القضاة الملقب بشهاب الدين الخفاجى المصري الحنفي صاحب التصانيف السائرة واحد أفراد الدنيا المجمع على تفوقه وبراعته وكان في عصره بدر سماء العلم ونير أفق النثر والنظم رأس المؤلفين ورئيس المصنفين سار ذكره سير المثل وطلعت أخباره طلوع الشهب في الفلك وكل من رأيناه أو سمعنا به ممن أدرك وقته معترفون له بالتفرد في التقرير والتحرير وحسن الإنشاء وليس فيهم من يلحق شأوه ولا يدعى ذلك مع أن في الخلق من يدعى ذلك مع أن في الخلق من يدعى ذلك مع أن في الخلق من يرعى ما ليس فيه وتآليفه كثيرة ممتعة مقبولة وانتشرت في البلاد ورزق فيها سعادة عظيمة فإن الناس اشتغلوا بها وأشعاره ومنشآته مسلمة لا مجال للخدش فيها والحاصل أنه فاق كل من تقدمه في كل فضيلة وأتعب من يجئ بعده مع ما خوله الله تعالى من السعة وكثرة الكتب ولطف الطبع والنكتة النادرة وقد ترجم نفسه في آخر ريحانته من حين مبدئه فقال قد كنت في سن التمييز في مغرز طيب النبات عزيز في حجر والدي ممتعا فلما درحت من عشى قرأت على خالي سيبويه زمانه يعنى أبا بكر الشنواني علوم العربية ثم ترقيت فقرأت المعاني والمنطق وبقية العلوم الاثنى عشر ونظرت كتب المذهبين مذهب أبي حنيفة والشافعي مؤسسا على الأصلين من مشايخ العصر ومن أجل من أخذت عنه شيخ الإسلام محمد الرملى حضرت دروسه الفرعية وقرأت عليه شيئا من صحيح مسلم وأجازني بذلك وبجميع مؤلفاته ومروياته بروايته عن القاضي زكرياء وعن والده ومنهم شافعي زمانه الشيخ نور الدين عل الزيادى حضرت دروسه زمنا طويلا ومنهم العلامة الفهامة خاتمة الحفاظ والمحدثين إبراهيم العلقمي قرأت عليه الشفاء بتمامه وأجازني وبغيرهن وشملني نظره وبركة دعائه لي ومنهم العلامة في سائر الفنون على بن غانم المقدسي الحنفي حضرت وبركة دعائه لي ومنهم العلامة في سائر الفنون على بن غانم المقدسي الحنفي حضرت دروسه وقرأت عليه الحديث وكتب لي إجازة بخطه وممن أخذت عنه الأدب والشعر شيخنا أجمد العلقمى ومحمد الصالحي الشامي وممن أخذت عنه الطب الشيخ داود البصير ثم ارتجلت مع والدي للحرمين الشريفين وقرأت على الشيخ علي بن جار الله العصام وغيره ثم ارتحلت إلى القسطنطينية فتشرفت بمن فيها من الفضلاء والمصنفين واستفدت منهم وتخرجت عليهم وهي إذ ذاك مشحونة بالفضلاء الأذكياء كابن عبد الغنى ومصطفى بن عزمى والحبر داود وهو ممن أخذت عنه الرياضيات وقرأ عليه اقليدس وغيره وأجلهم إذ ذاك أستاذى سعد الملة والدين ابن حسن أخذ عن خاتمة المغسرين أبي السعود العمادى عن مؤيد زاده عن الجلال الدواني ولما توفى استاذي قام مقامه صنع الله ثم ولداه ثم انقرضوا في مدة يسيرة ثم لما عدت إليها ثانيا بعد ما توليت قضاء العسكر بمصر رأيت تفاقم الأمر فذكرت ذلك للوزير فكان ذلك سببا العزلى وأمرى بالخروج من تلك المدينة وقد من الله تعالى على بالسلامة ثم ذكر أن من تآليفه حواشى تفسير القاضى وهي التي سماها عناية القاضي وشرح الشفاء وشرح درة الغواص والريحانة والرسائل الأربعين وحاشية شرح الفرائض وكتاب السانح والرحلة وحواشى الرضى قلت وله كتاب شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل والنادر الحوشى القليل وكتاب ديوان الأدب في ذكر شعراء العرب ذكر فيه مشاهير الشعراء من العرب العرباء والمولدين وله كتاب طراز المجالس وهو مجموع حسن الوضع جم الفائدة رتبه على خمسين مجلسا ذكر فيه مباحث تفسيرية ونحوية وأصولية وغيرها وذكر في آخره لما قرأت ما قاله علماء الحديث في الخصائص النبوية انه لم تلج النار جوفا فيه قطرة من فضلاته صلى الله عليه وسلم قال بعض من كان عندنا حاضرا إذا كان هكذا فكيف تعذب أرحام حملته فأعجبنى كلامه ونظمته في قولي
لوالدى طه مقام علا ... في جنة الخلد ودار الثواب
فقطرة من فضلات له ... في الجوف تنجى من أليم العقاب
فكيف أرحام له قد غدت ... حاملة تصلى بنار العذاب
ثم ختم الكتاب بقوله
استغفر الله ما لي بالورى شغل ... ولا سرور ولا آسى لمفقود
عما سوى سيدى ذي الطول قد قطعت ... مطالبي كلها مذ تم توحيدي(1/208)
وله رسائل كثيرة ومكاتبات وافرة لم يجمعها ومقامات ذكر بعضها في ريحانته وكان لما وصل إلى الروم في رحلته الأولى ولى القضاء ببلاد روم إيلي حتى وصل إلى أعلى مناصها كأسكوب وغيرها ثم في زمن السلطان مراد توصل حتى اشتهر بالفضل الباهر فولاه السلطان قضاء سلانيك فحصل بها مالا كثيرا ثم أعطى بعدها قضاء مصر وبعد ما عزل عنها رجع إلى الروم فمر على دمشق وأقام بها أيام ومدحة فضلاؤها بالقصائد واعتنى به أهلها وعلماؤها فأكرموا نزله وقع له لطائف من ذلك أنه دعاه العمادى المفتى إلى قصرهم بالصالحية فمر الشهاب وصحبته العمادى وابن شاهين على الجسر الأبيض فنظر إلى غلام واقف هناك نظرة ميل ووقف يتأمله فانتقد العمادى وابن شاهين عليه ذلك فأنشد بديهة قوله
قيل لا تنظرت لوجه مليح ... أن هذا مبدد الحسنات
قلت هذا الجمال لما تبدى ... أشغل الكاتبين عن سيئاتي
ودخل حلب أثر ذلك ثم وصل إلى الروم وكان إذ ذاك مفتيها المولى يحيى بن زكرياء فأعرض عنه لأجل أمور انتقدت عليه أيام قضائه في سلانيك ومصر من الجرأة وبعض الطمع فصنع مقامته التي ذكرها في الريحانة وتعرض فيها للمولى المذكور فكان ذلك سببا لنفيه إلى مصر وأعطى قضاء ثمة على وجه المعيشة فاستقر بمصر يؤلف ويصنف ويقرى وأخذ عنه جماعة اشتهروا بالفضل الباهر من جملتهم العلامة عبد القادر البغدادي والسيد احمد الحموي وغيرهما واجتمع به والدي المرحوم في منصرفه إلى مصر وأخذ عنه وكتب عنه أصل الريحانة الذي سماه خبايا الزوايا فيما في الرجال من البقايا وكتب منها في دمشق نسخ ومن ثم اشتهرت فضيلته وذكره في رحلته فقال ثم جئت إلى رياض العلوم المزهرة بأصناف الفنون من منثور ومنظوم فجنيت زهر الآداب من تلك الحدائق الرحاب فكان بيت قصيدها وواسطة عقدها وفريدها مالك أزمة هذه الصناعة وفارس حلبة البلاغة والبراهة جناب المولى الشهاب إنسان عين الموالى وزبدة الأحقاب
علامة العلماء واللج الذي ... لا ينتهى ولكل لج ساحل
قد أشرقت بشموس علومه أفلاكها ولمع بسنا المنطوق والمفهوم سماكها وتحلت أجياد الطروس بعقود ألفاظه وراجت نقود آدابه في سوق عكاظه قد اتفقت كلمة الكلمة أنه واحد عصر بلا خلاف وأقرتن له علماء دهره في حيازة السبق بالاعتراف فانتهت إليه اليوم بلاغة البلغاء فما تظل الخضراء ولا تقل الغبراء في زماننا أجرى منه في ميدانها وأحسن تصرفا بعنانها وأما فنون الآداب فهو بن بجدتها وأخو جملتها وأبو عذرتها ومالك أزمتها
فإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له
قد سقت عيون قريحته المسائل وبسقت في روضه أغصان الفضائل فصار عزيز مصر وقاضيها وناشر لواء العدالة في نواحيها وبنى وشيد بأيدي تحريراته معالم التنزيل ونضا قناع خفايا بمحكم التأويل فكم أبدع بما أودع في خبايا الزوايا فيما في الرجال من البقاع فنظمه نفثات وقلائد النحر وغمزات الإلحاظ المراض وعطفات الحسان بعد الإعراض ونثره النثرة إشراقا وحباب الصهباء رونقا وإنسانا
فقر لم يزل فقيرا إليها ... كل مبدى فصاحة وبيان
وقد حصلت على ضالتي المنشودة من لقياه وظفرت بالكنز الذي كنت أتوقعه وأترجاه وشاهدت ثمار المجد والسودد تنثر من شمائله ورأيت فضائل الدهر عيالا على فضائله ومن فوائده المعجبة التي لا ينقضى التحسين لها ما نقله في شرح الشفا عند قوله ومن دلائل نبوتة صلى الله عليه وسلم أن الذباب كان لا يقع على ما ظهر من روى هذا والذباب واحد ذباب قيل أنه سمى به لأنه كلما آب أي كلما طرد رجع وهذا مما أكرمه الله به لأنه طهره من جميع الأقذار وهو مع اسقذار قد يجئ من مستقذر قيل وقد نقل مثله عن ولى الله الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره ولا بعد فيه لأن معجزات الأنبياء قد تكون كرامات لأولياء أمته وفي رباعية لي
من أكرم مرسل عظيم جلا ... لم تدن ذبابة إذا ما حلا
هذا أعجب ولم يذق ذو نظر ... في الوجودات من حلاه أحلى
وتظرف منه منلا جامى فقال محمد رسول الله ليس فيه حرف منقوط لأن النقط يشبه الذباب فصين اسمه ونعته عنه كما قلت في مدحه صلى الله عليه وسلم
لقد ذب الذباب فليس يعلو ... رسول الله محمودا محمد(1/209)
ونقط الحرف يحكيه بشكل ... لذاك الخط منه قد تجرد
ومن تحريراته في أن القرآن هل فيه السجع أولا قال وقال البقاعى في كتاب مصاعد النظر اختلق فيه السلف فقال أبو بكر الباقلاني في كتاب الاعجاز ذهب أصحابنا الأشاعرة كلهم إلى نفي السجع عن القرآن كما ذكره أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه وذهب كثير ممن خالفهم إلى اثباته انتهى والقول الثاني فاسد من اختلاف أكثر فواصله في الوزن والروى ولا يبغي الإغترار بما ذكره بعض الأماثل كالبيضاوى والتفتازاني من إثبات الفواصل والسجع فيه وأن مخالفة النظم في مثل هارون وموسى بحسبه ونقل أبو حيان في قوله تعالى ولا الظل ولا الحرور في فاطر انه لا يقال في القرآن قدم كذا وأخر كذا للسجع لأن الإعجاز ليس في مجرد اللفظ بل فيه وفي المعنى ومتى حول اللفظ لأجل السجع عما كان يتم به المعنى بدون سجع نقص المعنى ثم أنه قال لو كان في القرآن سجع لم يخرج عن أساليب كلامهم ولم يقع به اعجاز ولو جاز أن يقال سجيع معجز جاز أن يقال شعر معجز والسجع ما تؤلفه الكهان وقد أنكر صلى الله عليه وسلم على من سجع عنده على ما عرف في كتب الحديث ولو كان سجعا لكان قبيحا لتقارب اوزانه واختلاف طرقه فيخرج عن نهجه المعروف ويكون كشعر غير موزون وما احتجوا به من التقديم والتأخير ليس بشئ وأنه كذكر القصة بطرق مختلفة أقول أطال بلا طائل لتوهمه أن السجع كالشعر لالتزام تفقيته ما ينافى جزالة المعنى وبلاغته لاستتباعه للحشو المخل وأن الأعجاز بمخالفته لأساليب الكلام فشنع على هؤلاء الإعلام وليس بشئ والعجب منه أنه ذكر كلام الباقلاني مع التصريح فيه بأن من السلف من ذهب إليه والحق أنه وقع في القرآن من غير التزام له في الأكثر فكان من نفاه نفى التزامه أو أكثريته ومن أثبته أراد وروده فيه على الجملة فاحفظه ولا تلتفت إلى ما سواه وهذا مما ينفعك فيما سيأتي ولذا فصلنا هنا لتكون على ثبت منه والذي عليه العلماء أنه تطلق الفواصل عليه دون السجع انتهى ومن غرائبه التي زلق فيها قوله عند قول القاضي وقرئ صراط من أنعمت فيه دليل على جواز اطلاق الأسماء المبهمة على الله كما ورد في الأحاديث المشهورة يا من بيده الخير ونحوه فلا يغرنك ما نقله الحفيد عن صاحب المتوسط من متعه فهذا منه غفلة من في القرآن ليست واقعة على الله حتى يستدل بها على جواز الاطلاق انتهى ونوقش في البيت المشهور
كأنه فوق شقات الرخام ضحى ... ماء يسيل على أثواب قصار
بعد قوله
لله يوم بحمام نعمت به ... والماء من حوضه ما بيننا جارى
فقيل أنه عيب حتى قيل في قائله
وشاعر أو قد الطبع الذكى له ... فكاد يحرقه من فرط لألاء
أقام يعمل أياما رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء
فقال هذا العيب ليس بشئ فإنه شبه هذا الرخام في الحمام بشقة قصار جرى عليها الماء ولم يرد تشبيه الماء ولكن ما ذكر في الطرفين جاء بارد فأشار الشاعر إلى برودته في كلامه بما ذكره وله ديوان شعر وقفت عليه وكل شعره مفروع في قالب لأجادة ومن أجوده قصيدته الدالية المشهورة وهي قوله
قدحت رعود البرق زندا ... أضرمن أشجانا ووجدا
في فحمة الظلماء إذ ... مدت على الخضراء بردا
حتى تثاءب نوره ... وتمطت الأغصان قدا
وأتى الشقيق بمجمر ... للروض أو قد فيه ندا
وعلى الغدير مفاضة ... سردت له النسمات سردا
وحبابه من فوقه ... قد بات يلعب فيه نردا
فسقى معاهد بالحمى ... قد أنبتت حبا وودا
تذر الليالي في ثرى ... من عنبر للمسك أهدى
عجبا لدر ناصع ... أودعن في مسك مندى
في ظل عيش ناعم ... بنسيم أسحار تردى
والدهر عبد طائع ... أهدى لناشر فاوسعدا
ما زال أصدق ناصح ... كم قال لي هزلا وجدا
سلم امرؤ عن طوره ... في كل حال ما تعدى
فالخطب بحرز آخر ... فاصبر له جزرا ومدا(1/210)
لا يختشى لسع الزنا ... نير الذي يستام شهدا
في ذمة الأيام ل ... لأحرار ين قد يؤدى
أن ما طلت فلربما ... أنجزن بعد المطل وعدا
فإذا رمى طأطئ له ... رأسا تراه عنك عدى
أفبعد أخواني الألى ... درجوا أخاف اليوم فقدا
عينى إذا استسقت بهم ... تسقى بدمع العين خدا
لو كانت العطرات تجمد ... مد نظمت في الجيد عقدا
قوم لهم يدعو الثنا ... من شاسع الأقطار وفدا
كم في عكاظ نديهم ... جلبوا لهم شكرا وحمدا
لا يشترون بذخرهم ... الأجميل الذكر نقدا
أبقى لهم حسن الحديث ... برغم أنف الدهر خلدا
ورثوا المكارم كابرا ... عن كابر فرضا وردا
من كل طود شامخ ... متسربل برداه مجدا
أمست عيونا كلها ... ترنو إلى الأعداء حقدا
تلقى الورى بنديهم ... نكس العيون إذا اتبدى
لبس الجلال على الج ... مال فصد عنه الطرف صدا
فهم بسلطان التقى اتخ ... ذوا قلوب الناس جندا
أمسوا بغمد ضريحهم ... وبقيت مثل السيف فردا
ما لي أقيم ببلدة ... فيها بناء الدين هدا
وبها الشهاب إذا سما ... يخشى من الشيطان طردا
وله قصيدة مطبوعة مطلعها قوله
أرح طرف عين جفاها الهجوع ... فإن عناء الجفون الدموع
إذا علم الصبر أن يخدع الع ... زائم دهر لحظى خدوع
حسيت كؤوس الهوى سحرة ... وساقى المنى لمرادى مطيع
إلى حين غايت نجوم الهدى ... فكان لها في عذارى طلوع
وباتت تحث مطايا الغرام ... فجالت بقيد الكلال المنوع
ربيئة قلبي عين لها ... لسان من الدمع سرى يشيع
تحاربنا في مجال الصبا ... يد للطلا من قناها الشموع
وظبى ترى في حجور القلوب ... له توأم الحسن خدن رضيع
فلولا فؤادي له مسكن ... لما كان تحنو عليه الصلوع
تقنعت بالوصل من طيفه ... وكل محب لعمري قنوع
ولى حاجة عنده للجوى ... وليس له غير ذلى شفيع
رهنت فؤادي على حبه ... فما باله لرهوني يضيع
تجرد من لحظه صارم ... لعمر اصطباري عليه قطوع
ولو لم يكن قاتلا للكرى ... لما سال من مقلتي النجيع
بمرآة خديه أصداغه ... تخال عذارا لصبري يروع
تقيل المحاسن في ظله ... وماء الجمال لديه مريع
له بسط الروض ديباجه ... ومدت عليه الخيام الفروع
وقد ردد الطير آياته ... وللقضيب في جانبيه ركوع
كان الشقيق وستر الضباب ... وزهر تبقى عليها هزيع
مجامر تبرعلاها الدخان ... وقد أصبح الند فيها يضوع
وهي قصيدة طويلة فلنقتصر منها على هذا المقدار طلبا للأختصار ومن شعره قوله
قلت للندمان لما ... مزقوا برد الدياجى
قتلتنا الراح صرفا ... فاقتلوها بالمزاج
أصله قول حسان
أن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
قال الراغب أصل القتل ازالة الروح من الجسد كالموت لكن إذا اعتبر بفعل المتولى لذلك يقال قتل وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال موتا واستعير على سبيل المبالغة قتلت الخمر بالماء إذا مزجته ووجه الاستعارة فيه أنه يزيل شدتها فجعلت نشوتها كروحها وجعلت سكرتها عدوا انتهى وللشهاب
قبل يد الخيرة أهل التقى ... ولا تخف طعن أعاديهم
ريحانة الرحمن عباده ... وشمها لئم أياديهم(1/211)
أخذه من قول عيسى بن حجاج اليمنى وهو من كبراء الأولياء وكان ل من دخل عليه أو خرج يقبل يده فأنكر عليه بعضهم ذلك فقال العبد المؤمن ريحانة الله في أرضه ولا بأس بشم الريحان في الدخول والخروج ومن شعره قوله
أخوك الذي أن جئته لملمة ... يشمر عن ساق بعزم مسدد
يبادر أمر اليوم قبل مضيه ... وليس محيلا في الأمور على غد
أصله ماروى عن المفضل الضبى أنه قال قال لي المهدي يوما أبغض شئ إلى أن أجعل عمل اليوم في غد فقلت له انه الحزم يا أمير المؤمنين كما قال أخو تميم
أخوحك له عزم على الحزم لم يقل ... غدا يومها أن لم تعقه العوائق
وله من الرباعيات قوله
مذ أطنب بالمطال والأيجاز ... في موعده ظننته بي هازى
حتى أرى عقيق فيه قبلا ... والخاتم من علامة الانجاز
يوضحه قول بدر الدين الأزهري
أمنت من خوف العدى وشرهم ... مذ جاءني بخاتم الأمان
خاتم الأمان كمنديل الأمان يستعمل في أمارة الانجاز لأن الرؤساء اعتادوا ارسال ذلك إذا أرادوه وله
قد كان لي خل على ... نهج النفاق لقد سلك
ركت ملابس وده ... فقطعته من حيث رك
أورد هذا في شرح درة الغواص عند قول الحريرى ويقولن اقطعه من حيث رق وفي كلام العرب اقطعه من حيث رك أي من حيث ضعف ومنه قيل للضعيف ركيك وفي الحديث أن الله تعالى يبغض السلطان المركك وقال هو عليه هذا على تقدير السماع فيه أمر سهل فإنه يلزم من رقه الثوب عدم قوته فلا مانع من ارادة لازمه وباب المجاز مفتوح ولذا فسر أهل اللغة رك برق ولا حاجة في أن يقال تبدل الكاف قافا لقرب مخريجهما ومن ملح ابن نباتة قوله
كانت للفظى رقة ... ضن الزمان بما استحقت
فصرفتها عن فكرتي ... وقطعتها من حيث رقت
وللشهاب
كم من كريم قد باب في دعة ... أتاه سيل الصباح بالنكد
ورب فرخ أراشه زمن ... فصار بالعز بيضة البلد
هذا جار على استعمال أهل الحجاز يقولون في الشتم هو فرخ يعنى ولد زنا لا يعرف له أب وإنما تعرف الدجاجة التي باضته وفي الحديث لشريف على بعض الروايات فرخ الزنا لا يدخل الجنة وهو استعارة بديعة في بابها وقوله فصار بالعز بيضة البلد جرى فيه على أحد احتماليه وهو المدح والمراد به واحد البلد الذي يجمع إليه ويقبل قوله لكن الأشهر أنه ذم وقولهم فلان بيضة البلد أي لا يعبأ به كما ذكره في مجمع الأمثال وله
سهام جفونه أعرضن عني ... فأسرع فتكها ونما جواها
فيا لك أسهما تصمى الرمايا ... إذا صرفت إلى شئ سواها
ومثله لابن الرومي
نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت عنه فكاديهيم
ويلاه أن نظرت وأن هي أقصدت ... وقع السهام وقصدهن إليم
ومن شعره قوله
أن يعدذ وبغى عليك فحله ... وارقب زمانا لانتقام الطاغى
واحذر من البغى الوخيم فلو بغى ... جبل على جبل لدك الباغى
أصله ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما لو بغى جبل على جبل لدك الباغى وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه الأمين
يا صاحب البغى أن البغى مصرعة ... فاعدل فحير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوما على جبل ... لا ندك منه أعاليه وأسفله
وقال في هذا المعنى أيضا
بغى على لئيم دون سابقة ... تدعوه غير فضول الجهل والجاه
فلم ألمه سوى أن قلت من جزع ... الموعد الحشر والقاضى هو الله
وله
من يترك الدنيا يسد أهلها ... ويقتطف زهرتها باليد
لا تسكن التقوى ولا حكمة ... تنزل قلبا فيه هم الغد
أصله ما روى عن ابن سينا انه قال ورد في الحديث الشريف ا، الحكمة لتزل من السماء فلا تدخل قلبا فيه هم غدو قال أيضاً مضمنا
أرى عز غير الله للذل صائرا ... وكل هنى من سواه منغص
وي تعب خود لا عمى تزينت ... وقامت له في ظلمة الليل ترقص
فلا ترج من أهل الزمان مودة ... إذا غلت الأسعار بالترك ترخص(1/212)
وفي معناه قول الصاحب ابن عباد
أردت وصل على ... فقال كم ذا الذنوب
فقلت كفر ذنوبا ... سلطتها فأتوب
ومن مستظرفاته قوله
يقول من أهواه دعنى وتب ... يا أيها المفتون عن حبي
فقلت مر حسنك أن لا يرى ... مسلطا عشقا على قلبي
وقوله
قد كساني حلة هذا الضنا ... خاطها في الليل وجد لا يمل
ابر قد نبتت في مضجعي ... وخيوط من دموع لي تحل
وله
رئيس تشفع بي سيد ... إليه لأمر لقلبي طبيب
فقلت استرح واعفه أنه ... إذا مطل الداءمل الطبيب
وفي معناه قول الرئيس مستوفى اربل
غرام قديم الشجو أعوز برؤه ... إذا طال مطل الداء غير طبيبه
ومن ملحه قوله
أيها السائلي عن ابن فلان ... وديون عليه دهرا مليا
ليس يقضيك حبة من ديون ... ويكيل الإيمان كيلا وفيا
أن تخاشنه في تقاضيه يوما ... صاربا لحلف دينه مقضبا
ولابن بسام
إذا آلت إلى ضيق ديوني ... وباكرني التجار لجذبوني
دفعتهم لمن لو شاء أدى ... ديونهم إليهم متذحين
فما في حكمه تفتير رزقي ... وتعذيبي بحنثى في يمينى
وابن الرومي
وإني لذو حلف كاذب ... إذا ما اضطررت وفي الحال ضيق
وهل من جناح على مسلم ... يدافع بالله ما لا يطيق
وللعجلى
وإن دراهم الغرماء عندي ... معلقة لدى بيض الأنوق
فإن دلفوا دلفت لهم بحلف ... كمعطى البرد ليس بذى فتوق
وأن لانوا وعدتهم بلين ... وفي وعدى ثنيات الطريق
وإن وثبوا على وجردوني ... حلفت لهم كاضرام الحريق
ومن مجونه
مولاى شكرا لفرج قد رقيت به ... فاستشفع الحر واسأله بما ومنى
واعضض عليه وعش في رفعة وغنى ... وانعم بعيش هنى نلته بهن
وله في معناه
قالوا فلان قدر في بزوجة ... لرتبة لم يك قبلها حرى
فقالت الزوجة لما أن علا ... لولا حرى ما كان ذابه جرى
ونحوه قول الآخر
قل للأمير ولا تفرعك هيبته ... وأن تعاظم واستولى بمنصبه
لولا فلانة ما استوزرت ثانية ... فاشكر حر اصرت مولانا الوزيربه
وله وهو من مبدعاته
لعمري لم أبد البكاء لذلة ... وإني لسوء الذل لست مطيقا
ولكن أراد الطرف تبريد غلتي ... برد لماء الوجه حين أريقا
وله في الرثاء
قد ضمه البحر في لج مخافة أن ... يؤذى التراب لجسم فيه يبليه
فالماء خر على رأس لفرقته ... والموج يلطم والاطيار تبكيه
ولآخر
غريق كأن الموت رق لحسنه ... فلان له في صفحة الماء جانبه
أبى الله أن يسلوه قلبي فإنه ... توفاه في الماء الذي أنا شاربه
ولآخر
ولما لم تسعه الأرض جمعا ... تضمن جسمه البحر المحيط
وله في ثقيل
لازمنا فدم ثقيل فهل ... له على الأرواح مناديون
تكرهه الالحاظ منا لذا ... تلوذ بالاجفان منا العيون
جعل العيون لائذة بالاجفان كناية حسنة عن تغميض العيون وأصله قول ابن الرومي
لنا صديق كلا صديق ... غث على أنه سمين
إذا بدا وجهه لقوم ... لاذت بأجفانها العيون
كأنه عندهم غريم ... حلت عليهم به ديون
وله
العرف قرض لمن تذكو مروءته ... يهوى الا داء له في حال مقدرته
وذاك قيد له أن لم يؤد فلا ... يفك إلا بشكر أو مكافأته(1/213)
أصله قول ابن المعتز المعروف على الخير غل لا يفكه الاشكر أو مكافأة وله غير ذلك مما إذا اتتبعته جاء في مجلدة ضخمة العنوان يدل على الطرس وكانت وفاته رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء لثنتى عشرة خلت من شهر رمضان سنة تسع وستين وألف وقد أفاف على التسعين وكان توفى قبله بثلاثة أشهر الفقيه الكبير محمد بن أحمد الشوبرى الملقب بالشافعي الصغير فقال فيهما السيد الأديب أحمد بن محمد الحموي المصري يرثيهما وكان قرأ عليهما
مضى الأمامان في فقه وفي أدب ... الشوبرى والخفاجى زينة العرب
وكنت أبكي لفقد الفقه منفردا ... فصرت أبكى لفقد الفقه والأدب
قلت البيت الأخير مضمن من قول جحظه البرمكى في رثاء أبي بكر بن دريد اللغوي مع تغيير يسير وذلك قوله
فقدت يا ابن دريد كل فائدة ... لما غدا ثالث الاحجار والترب
وكنت أبكى لفقد الجود منفردا ... فصرت أبكى لفقد الجود والادب
والخفاجى نسبة إلى أبيه خفاجى ولا أدري معناه وأصل والده من سريا قومن قرية من قرى الخانقا والله تعالى أعلم الشيخ احمد بن محمد بن عبد الرحمن البتروني الحلبي وتقدم تتمة نسبه في ترجمة ابن عمه إبراهيم بن أبي اليمن وسيأتي أبوه محمد أن شاء الله تعالى وهذا هو المعروف بابن مفتى الفقيه الحنفي أحد كبراء حلب واحد رؤسائها وكان من أسخياء العالم ذا مروءة وهمه عالية وشهامة باهرة ولى القضاء مدة مديدة ثم تقاعد عن رتبة قضاء الشأن وتصدر بحلب وانقاد إليه أهلها ونفذت فيما بينهم كلمته وجلت حرمته وحصل أموالا كثيرة وجاها وافرا إلا أن بضاعته كانت كبضاعة أبية مزجاة وكانت وفاته في سنة إحدى وسبعين وألف(1/214)
السيد أحمد بن محمد بن يونس المدعو عبد النبي بن أحمد بن السيد علاء الدين علي ابن السيد الحسيب النسيب يوسف بن حسن بن يس البدرى نسبة إلى السيد بدر فقال بدر الولى المشهور المدفون بزاويته بوادى النور ظاهر القدس الشريف وله ذرية لا يحصون كثرة قال صاحب الإنس الجليل بتاريخ القدس والخليل ومناقبهم لا تحصى وذكر منهم جماعة وساق نسب السيد بدر بن محمد بن يوسف بن بدر بن يعقوب بن مظفر بن سالم بن محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسن بن العريض الأكبر بن زيد بن زين العابدين على بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضى الله عنه إلا أن الشيخ أحمد كان يخفى نسبه اكتفاء بنسب التقوى المفضى للتنصل من أسباب الفخر والجاه في الدنيا فتبعته على ذلك ذريته وكانت والدة الشيخ محمد المدني من ذرية سيدنا تميم الدارى رضى الله عنه وهم كثيرون ببيت المقدس ووالدة صاحب الترجمة من بيت الانصارى ولهذا كان يكتب بخطه أحمد المدني الأنصارى وتارة سبط الأنصار ورباه والده وأقرأه بعض المقدمات الفقهية على مذهب الإمام مالك لأن والدة تمذهب بمذهب شيخه الشيخ محمد بن عيسى التلمساني وكان من كبراء العلماء والأولياء بالمدينة ورحل به والده إلى اليمن في سنة إحدى عشرة بعد الألف فأخذ عن أكثر علمائه وأوليائه خصوصا شيوخ والده الموجودين إذ ذاك كالشيخ الأمين بن الصديق المرواحى والسيد محمد الغرب والشيخ أحمد السطيحه الزيلعة والسيد على القبع والشيخ على مطير ومكث عند والده مدة ثم حدث له وارد مزعج فخرج سائحا من اليمن حتى وصل إلى مكة ومكث بها مدة وصحب جماعة كالسيد أبي الغيث شجر والشيخ سلطان المجذوب وعاد إلى المدينة وصحب بها الشيخ أحمد بن الفضل بن عبد النافع ابن الشيخ الكبير محمد بن عراق والشيخ الولى عمر بن القطب بدر الدين العادلى والشيخ شهاب الدين الملكاني وغيرهم ثم لزم الشيخ الكبير أحمد بن علي الشناوى الشهير بالخامى وتمذهب بمذهبه وسلك طريقته وقرأ كتبا في مشربه وأخذ عنه الحديث غيره ولا زال ملازماً له حتى اختص به وزوجه انته واسختلفه ثم أخذ عن رفيق شيخه في الإرادة السيد أسعد البلخي ولازمه حتى مات وورث أخواله ثم صحب خلقا يطول تعداد أسمائهم وكان جملة من أخذ عنهم في طريق الله تعالى نحو مائة شيخ منهم الشيخ عبد الحكيم خاتمة أصحاب الغوث مؤلف الجواهر الخمس ومنهم العلامة المنلاشيخ الكردى قرأ عليه في العربية وغيرها ولم يزل على قوة حاله حتى انتفع به الناس على اختلاف طبقاتهم وانتشر صيته وكثرت أتباعه في أقطار الأرض وشهد له أولياء وقته بأنه الامام المفرد كالشيخ أيوب الدمشقي فإنه كتب إليه كتبا يقول في بعضها إني لا علم أن لكل وقت صمد أوانك والله صمد هذا الوقت ومنهم الولى العارف بالله تعالى مقبول المحجب الزيلعى والسيد عبد الله بن شيخ العيدروس بحيث أنه أخذ عنه في أيام زيارته المدينة ومنهم السيد العلامة الولى بركات التونسي والسيد عبد الخالق الهندي بل أخذ عنه كبار الشيوخ كالسيد العارف بالله عبد الرحمن المغربي الأدريسي والشيخ عيسى المغربي الجعفري والشيخ مهنا بن عوض با مزروع والسيد عبد الله بافقيه وجماعة من علماء السادة بنى علوى ومن فقهاء اليمن من جعمان وغيرهم ومنهم نتيجة النتائح خليفته الروحاني إبراهيم بن حسن الكوراني السهراني فإنه به تخرج وبعلومه انتفع لازمه مدة حياته وصار خليفته في التربية والارشاد بعد مماته وله مؤلفات كثيرة الموجود منها نحو خمسين مؤلفا منها حاشية على المواهب وحاشية على الإنسان الكامل للجيلى وحاشية على الكمالات الإلهية له وشرح حكم ابن عطاء الله في مجلد ضخم وشرح عقيدة ابن عفيف وكتاب النصوص والكنز الاسنى في الصلاة والسلام على الذات المكملة الحسنى وعقيدة منظومة في غاية الحسن والاختصار وكان إمام القائلين بوحدة الوجود حافظا للمراتب الشرعية متضلعا من أذواق السنة كثير النوافل والصيام كامل العقل والوقار ووصل إلى قمام الختمة في عصره فقد قال فيما وجد بخطه على هامش رسالة العارف بالله سالم بن أحمد شيخان باعلوى المسماة بشق الجيب في معرفة رجال الغيب عند قوله والختمة وهو واحد في كل زمان يختم الله به الولاية الخاصة وهو الشيخ الأكبر انتهى ما نصه الذي يتحقق وجد أنه أن الختمة الخاصة مرتبة الهية ينزل بها كل أحد لها حسب وقته وزمانه غير منقطعة(1/215)
أبد الآباد إلى أن لا يبقى على وجه الأرض من يقول الله الله لعدم خلو المراتب الإلهية عن القائمين بها حتى يصير القائم بها كالصفر الحافظ لمرتبة العدد فيما قبله وبعده بأنفاسه تتم الصالحات وتقضى الحاجات وقد تحققنا بذلك حقا ونزلناه منازلة وصدقا وممن رأيته من مشايخ من أهل الختم المذكورة سندا متصلا منهم إلينا من غير انقطاع بإذن الله تعالى خمسة أنفس سادسهم كلهم لا رجما بالغيب وربه ثم قال بعدها قاله عبد الجميع أحمد بن محمد المدنى ومثله لا يتكلم لا رجما بالغيب وربه ثم قال بعدها قاله عبد الجميع أحمد بن محمد المدني ومثله لا يتكلم بمثل هذا الكلام إلا عن أذن إلهي ونفث روعى وله ديوان شعر منه قولهأبد الآباد إلى أن لا يبقى على وجه الأرض من يقول الله الله لعدم خلو المراتب الإلهية عن القائمين بها حتى يصير القائم بها كالصفر الحافظ لمرتبة العدد فيما قبله وبعده بأنفاسه تتم الصالحات وتقضى الحاجات وقد تحققنا بذلك حقا ونزلناه منازلة وصدقا وممن رأيته من مشايخ من أهل الختم المذكورة سندا متصلا منهم إلينا من غير انقطاع بإذن الله تعالى خمسة أنفس سادسهم كلهم لا رجما بالغيب وربه ثم قال بعدها قاله عبد الجميع أحمد بن محمد المدنى ومثله لا يتكلم لا رجما بالغيب وربه ثم قال بعدها قاله عبد الجميع أحمد بن محمد المدني ومثله لا يتكلم بمثل هذا الكلام إلا عن أذن إلهي ونفث روعى وله ديوان شعر منه قوله
أضاءت لنا بالرقمين على نجد ... لوامع أنوار فهجن لي وجدى
وذكرنني العهد القديم ورامة ... وأرقات أنس ما برحت بها أشدى
وكأس مدام أدهقته كريمة ... تسمت بأسماها الرباب معا هند
فلما تحسى القوم كأس غرامها ... غدوا ولها يشدون بالعلم الفرد
فهم فتية صرف الغرام قلوبهم ... بمشهدها الأعلى لدى صفوة الجند
فساروا بها نحو الإضاءة يبتغوا ... خلاصا إليها والبنود لهم تهدى
أذلا لسلطان المليحة صبوة ... وذل الهوى مستعذب الصدر والورد
فلما اجتلوا للإسم جال بوسمه ... فأبدى مسماه بزينب والدعد
وقوله أيضاً
يا قرة العين أن العين فيك جلت ... محض العيان بمسموع ومبصور
فامتع قراك على علم بذاك فذ ... اك الغيب شاهدنا في كل منظور
وله
هذى صلات الذي دامت صلاتهم ... مذ حافظوا بدوام لنفخ في الصور
وقوله
وفي مهجتي من نار وجدك فارض ... يقسم ميراث الصبابة للكل
يعشقني فيه إليه بوجهه ... يوحى وتكليف على ملة الرسل
ويدعو إلى صرف اللقاء بموت ما ... تراآه وهمى مذتعين بالشكل
فهل من سبيل والكفاح مصرح ... بوجه محيا طالع البدر في نزل
ففي الغرق تعذيب عذوبة مائه ... مجاذبة الأسماء في شاخص الظل
وإني أنا المجذوب والكل جاذب ... وقبلتنا الشطر الحرام مع الكل
وقوله
لا تعر عقلك غيرك ... فترى من بعد تندم
إنما العقل ضياء ... يهد للى هي أقوم
وله غير ذلك وكانت وفاته رحمه الله نهار الأثنين آخر سنة إحدى وسبعين وألف ودفن بالبقيع شرقي قبة السيدة حليمة السعدية ضى الله عنهما(1/216)
الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أحمد العجل بن محمد بن يوسف بن إبراهيم بن الشيخ القطب الفقيه أحمد بن موسى بن عجيل أبو الوفا اليمنى الإمام البحر العارف الاستاذ الشهير بالعجل بكسر العين المهملة وسكون الجيم والصواب فتح العين وكسر الحيم كذا اضبطه شيخنا علامة القطر الحجازي لحسن بن علي العجيمى الحنفي فيما كتبه إلى من خبره وذكر أنه ولد في بلدته المعروفة ببيت الفقيه ابن عجيل ونشأ في حجر أبويه فحفظه والده القرآن وأقرأه في المنهاج الفقهي وألقى إليه ما لديه من العلوم الظاهرة والباطنة وأجاره وحج به وزار النبي صلى الله عليه وسلم مرات وأخذ عن شيوخ الحرمين كالقاضي الأجل على بن جار الله بن ظهيرة بمكة والشيخ المعرم حميد السندى بالمدينة وتزوج وولد له أبو الزين موسى في سنة أربع بعد الألف وفيها دخل إلى زبيد ومكث بها نحو أحدى عشرة سنة لا يخرج منها إلا للمحج أو زيارة أبيه نادرا ولازم بها الشيخ العلامة الولى الزين بن المزجاجي فقرأ عليه كتبا كثيرة منها الفتوحات المكية وأخذ عن علماء زبيد ونواحيها كالشيخ الصديق الخاص واجازه وكذا أجاز له مسند اليمن السيد الطاهر بن الحسين الأهدل خاتمة الآخذين عن الديبع سماعا وسلك على طريقة آبائه الأكرمين مع العناية بقراءة الحديث وغيره حتى وفد إلى زبيد الشيخ تاج الدين النقشبندي فأخذ عنه هو ووالده وأهل بيته ولازنه ثم سافر إلى مكة وانقطع بها مجاوزا مع ولده موسى عند الشيخ تاج الدين سنة أو أكثر حتى وصل إلى رتبة الخلافة وكان الشيخ تاج يجله حتى كان يجلسه معه على السرير وسائر الجماعة تحتهما ومكث في بلته مقصود للزيارة والارشاد والرواية وتعمر حتى ألحق الاحفاد بالأجداد فإنه روى عمن ذكر بالقراءة والسماع والإجازة بالاجازة فقط عن الشيخ الإمام البدر بن الرضى الغزى الدمشقي قلت روايته عن البدر الغزى غير بعيدة بأن يكون أبوه استجازه له بالمكاتبة ويكون إذ ذاك السنه سنة واحدة فإن وفاة البدر في سنة أربع وثمانين وتسعمائة وولادة صاحب الترجمة في سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة ومسافة الطريق سنة فصح ما قلته وله رواية عن القطب المكى وعن الإمام يحيى الطبرى والشيخ محمد النحراوى الحنفي المصري والشيخ عبد الرحمن بن فهد وغيرهم وكان ممن جميع له بين العلوم الظاهرة والباطنة وأظهر على يديه الأسرار والكرامات الباهرة وله فوائد ونوادر من جملتها لدفع الأعداء في كل صباح ومساء ثلاثا اللهم يا مخلص المولود من ضيق مخاض أمه ويا معافى الملدوغ من حمة سمه ويا قادرا على كل شئ بعلمه أسألك بمحمد واسمه أن تكفينى كل ظالم يظلمه فإنك تكفاء وكانت وفاته بعد صلاة العشاء من الليلة التي تسفر صبيحتها عن رابع عشر شعبان سنة أربع وسبعين وألف وجاء تاريخ موته شيخ أجل مكمل ودفن خارج قبة والدة المشهورة ببلده وخلفه ولده العالم الولى أبو الزين موسى الآتى ذكره أن شاء الله تعالى(1/217)
الشيخ أحمد بن محمد بن مروان القاضي بن عبد العزيز بن محمد القاضي بن أبي مجلى العباسي المالكي المغربي التجموعتي السجلماسى الحافظ الإمام المحدث العالم من بيت الرياسة والعلم بسجلماسة وكان علامة نحويا فقيها مقر يا شائع الصيت ذائع الذكر توفي سنة ثلاث وثمانين وألف وكان له ثلاث أخوة محمد وعبد العزيز وعبد الملك وكلهم علماء أجلاء وأبوهم محمد عالم معتقد معدود من أولياء زمانه مات محمد سنة سبع وثمانين وألف وعبد العزيز مات سنة ثمان خمسين وألف وعبد الملك حج وجاور وقرأ في الحرمين الحديث والعلوم وهو الآن قاضي سجلماسة ولعبد العزيز ولد اسمه أحمد علامة كبير متجر في العلوم ثبت الرواية قدم مصر وحج وزار البيت المقدس ووجدت بخط صاحبنا الفاضل الأديب إبراهيم بن سليمان الجينينى أن أحمد هذا أخبر حين قدم الرملة متوجها لزيارة القدس وذلك نهار الثلاثاء سادس عشرى رجب سنة سبع وثمانين وألف أنه قرأ أكتابا بمصر جاء من ملك سنار يخاطب به القاضي عمر السوسى المغربي قاضي المالكية بمصر يتضمن بعد السلام عليه آية كبرى وهي أنه يوم الاثنين بعد العصر الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة ست وثمانين وألف سقط حجر ياقوت من السماء ووجد فيه مكتوب بقلم القدرة لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم بعد ذلك بأيام وقع حجر آخر صغير مكتوب عليه لا إله إلا الله وذكر أنه أرسل الحجر الساقط أولا إلى الحجرة النبوية على الحال بها أفضل الصلاة وأتم السلام والتحية انتهى وسألت بعد ذلك صاحبنا الجينينى عن هذا الخبر فقال حدثنا به جماعة من فضلاء الرملة وأخبرني أنه أخذ عنه بها جمع من فضلائها وسألته عن خبرهن بعد ذلك فقال انقطع عنا والظاهر أنه في الأحياء الآن والتجموعتي بفتح التاء المثناة وسكون الجيم وضم الميم وسكون الواو وفتح العين المهملة وبعدها تاء مثناة ساكنة نسبة إلى بلدة بالسوس والسجلماسي بكسر السين المهملة والجيم وسكون اللام وفتح الميم وألف وسين ثانية وهاء نسبة إلى ولاية مشهورة وهي مدينة تلى الخضراء الفاصلة بين بلاد المغرب وبلاد السودان وليس في جنوبها وغربيها عمارة والله تعالى أعلم الشريفي احمد بن محمد الحارث بن الحسين بن أبي نمى السيد الشريف الأفضل كان آية في العقل والذكاء مرجعا للإشراف الحسنيين ملوك مكة في جميع أمورهم وإذا حكم بأمر لا يقدر أحد أن يستدرك عليه فيه شيئا لحسن أحكامه ولما قوع بين الشريف سعد بن زيد وبين حسن باشا صاحب جدة ما وقع وذهب للمدينة ولى صاحب الترجمة ولم يتم له ذلك وكانت وفاته تاسع رجب سنة خمس وثمانين وألف بمكة ودفن في قبة جده الشريف حسن إلى جنب تابوته مما يلى الشرق ووضع عليه تابوت عظيم وخلف أولادا أمجادا أكبرهم السيد محمد كريم مشهور وشجاع مخبور أيس في عصره أحد يماثله من الاشراف جودا وسخاء وأخوه السيد ناصر أحددهاة الأشراف وعقلائهم المرجوع إليهم في المهمات كان الشريف بركات يقول لا أخاف من أحد من الاشراف ما أخاف من ناصر الأمير أحمد بن محمد معصوم بن نصير الدين بن إبراهيم الملقب نظام الدين الأمير بن الأمير الصدر العالي القدر والد السيد علي بن معصوم صاحب السلافة ذكره ابنه في سلافته فقال في ترجمته ناشر علم وعلم وشاهر سيف وقلم وراقى ربا نجد وسامى علا ومجد أمام ابن أمام وهمام ابن همام وكفى شاهدا على هذا المرام قول بعض أجداده الكرام ليس في نسبنا الا ذو فضل وحلم حتى نقف على باب مدينة العلم وهذا فرع طابق أصله ومبرز أحرز فصله طلع في الدهر غره فلآ العيون قرة فألقت إليه الرياسة قيادها وأقامت به السيادة منآدها فأصبح ومرتبته العليا وعبده الدهر وأمته الدنيا إلى علم بهرت حجته كالبحر زخرت لجته قذف درا فكشف ضرا وناهيك بمعروف أصل ذي منطق فصل وأنامتي نعت حسبه فإنما أنعت مجدى ومتى وصفت نسبه فإنما أصف جدى بيد أنى أقول وأن دغم كل أبي
هذا أبى حين يعزى سيدلاب ... هيهات ما للورى يا دهر مثل أبي(1/218)
مولده ومنشأه الطائف بالحجاز والقطر الذي هو موطن الشرف على الحقيقة وسواء المجاز سنة سبع وعشرين وألف وربى في حجر الحجر وغذى بدر زمزم فغرد طائر يمنه على فنن سعده وزمزم ولما ضاع أرج ذكره نشرا وتهلل محيا الوجود بفضله بشرا وغارصيته وأنجد وأذهن لمجده كل همام أمجد عشقت أوصافه الاسماع وتطابق على نبله العيان والسماع فاستهداه مولانا السلطان إلى حضرته الشريفه واستدعاه إلى شدته المنيفه فدخل إلى الديار الهندية عام خمس وخمسين وألف فأملكه من عامه ابنته وأسكنه من انعامه جنته وهناك امتد في الدنيا باعه وعمرت بإقباله رباعه وقصده الغادي والرائح وخدمته القرائح بالمدائح فهو متحلى من محتده الطاهر ومفخر الباهر الظاهر بفضل تثنى عليه الخناصر وتثنى عليه العناصر وأدب تشهد به الأعلام وتستمد منه ألسنة الإقلاء قلت وقد ذكر في كتابه المذكور كثيرا من مدائح الشعراء فيه وجملة كافية من شعره وقطعا بديعة من نثره ومراده بالسلطان الذي استعداه إليه وزوجه ابنته وضمه إليه شاهنشاه
عبد الله بن محمد قصب شاه ملك حيدر آباد وما والاها من البلاد وقد انتهت إليه بسبب تقربه إلى السلطان بتلك الأرض الرياسه وقصده الناس من أقصى البلاد النائية وساس أحسن سياسه حتى أدرك السلطان أجله وظنه أن يكون ملكا بعد فنم ينم له ما أمله وتولى الملك بعده الميرز أبو الحسن من العجم المقربين إلى الملك المزبور في قصة يطول شرحها فقبض عليه وسجنه إلى أن وفاه أجله ولقى ما عمله ومن شعره قوله
مثير غرام المستهام ووجده ... وميض سرى من غور سلع ونجده
وبات بأعلا الرقمتين التهابه ... فظل كئيبا من تذكر عهده
يحن إلى نحو اللوى وطويلع ... وبانات نجد والحجاز ورنده
وضال بذات الضال مرخ غصونه ... تفيأه ظبى يميس ببرده
يغار إذا ما قست بالبدر وجهه ... ويغضب أن شبهت ورد ابخده
كثير التجنى ذو قوام مهفهف ... صبيح المحيا ليس يوفى بوعده
مليح تسامى بالملاحة مفردا ... كشمس الضحى والبدر في برج سعده
ثناياه برق والصباح جبيته ... وأما الثريا قد أنيطت بعقده
فمن وصله سكنى الجنان وطيبها ... ولكن لظى النيران من نار صده
ترا آي لنا بالجيد كالظبى لغتة ... أسارى الهوى في حكمه بعض جنده
روى حسنه أهل الغرام وكلهم ... يتيه إذا ما شاهد واليل جعده
يعنعن علم السحر هاروت لحظه ... ويروى عن الرمان كاعب نهده
قضاء اليمانيات دون لحاظه ... وفعل الردينيات من دون قده
إذا ما نضا عن وجهه بعض حجبه ... صبا كل ذي نسك ملازم زهده
وأبدى محيا قاصرا عنه كل من ... أراد له نعتا بتوصيف حده
هو الحسن بل حسن الورى منه مجتدى ... وكلهم يعزى لجوهر فرده
وما تفعل الراح العتيقة بعض ما ... بمبسمه بالمحتسى صفو وده
وقوله في مليح
يا جوهر افرد اعلا ... من أين جاءك ذا العرض
اعتل طرفه
وعلام طرفك ذا الم ... ريض أعله هذا المعرض
عهدى به مما يصيب ... فكيف صار هو الغرض
ها قلبي المعمود نص ... ب للنوائب يرتكض
فاجعله يا كل المنى ... بدلا لما بك أو عوض
فاسلم مدى الأيام يا ... ذا الحسن ما برق ومض
فمذا اعتللت أخا المها ... في الطرف طرفى ما غمض
أنت المراد وليس لي ... في غير وصفك من غرض
وقوله
خلت خال الخد في وجنته ... نقطة العنبر في جمر الغضا
دامت الأفراح لي مذ أبصرت ... مقلتي صبح محيا قد أضا
يتمنى القلب منه لفتة ... وبهذا اللحظ للعين رضا
جاهل رام سلوا عنه إذ ... خطر الوصل وأولاه النضا
هامت العين به لما رأت ... حسن وجه حين كنايا بالاضا
وقوله(1/219)
سلوا بطن مرو والغميم ومزوعا ... متى اصطفاها طبى التقا وتربعا
في الغزل
وهل حل من شرقيها أرض عجلة ... وقد جادها مزن فسال وأمرعا
سقى تلك من نوء السماكين حفل ... سحائب غيث مربعا ثم مربعا
تظل الصبا تحد وبها وهي نعم ... وتنزلها سهلا وحزنا وأجرعا
فتلك مغان لا تزال تحلها ... مد ملجة الساقين مهضومة المعا
ربيبة خدر الصون والترف الذي ... يزيد على بدر الليالي تمنعا
تروت من الحسن البهى خدودها ... وقامتها كالغصن حين ترعرعا
وكتب إلى الشيخ محمد الشامي رقعة صورتها يا مولانا عمر الله بالفضل زمانك وأنار في العالم برهانك سمحت للعبد قريحته في ريم هذه صفته بهذين البيتين
ترا آي كظبى خائف من حبائل ... يشير بطرف ناعس منه فاتر
وقد ملئت عيناه من سحب جفنه ... كنرجس روض جاده وبل ماطر
فإن رأى المولى يجيزهما ويجيرهما من البخس فهو المأمول من خصائل تلك النفس وإن رآهما من الغث فليدعهما كأمس ولعل الاجتماع بكم في هذا اليوم بعد الظهر وقبل العصر لنحسو من كؤوس المحادثة ما راق بعد العصر والمملوك كان على جناح ركوب بيد أنه كتب هذه البطاقة وأرسلها إلى سوق أدبكم العامرة التي ما برح إليها كل خير مجلوب
فأسبل الستر صفحا أن بداخلل ... تهتك به ستر أعداء وحساد
فكتب إليه بهذين البيتين بديهة
ولرب ملتفت يا جياد المها ... نحوى وأيديى العيس تنفث سمها
لم يبك من ألم الفراق وإنما ... يسقى سيوف لحاظه ليسمها
ثم نظم المعنى بعينه فقال
ولقد يشير إلى عن حدق المها ... والرعب يخفق في حشاه الضامر
غشت نواظره الدموع كأنها ... ماء ترقرق في متون بواتر
رقت شمائله ورق أديمه ... فتكاد نشر به عيون الناظر
وقال أحمد الجوهري معارضا
وظبى غرير بالدلال محجب ... يرى ان ستر العين فرض المحاجر
رماني بطرف أسبل الدمع دونه ... لئلا أرى عينيه من دون ساتر
ولما وقفت أدباء اليمن على بيتى النظام تجاورا فيهما بسوابق النظام فقال السيد حسن بن المطعر الجرموزى
وريم فلا أصل المحاسن فرعه ... تبدى كبدر في الدجى للنواظر
سبابي بجفن أدعج ماج ماؤه ... فطرز شهب الدمع ليل البواتر
وقال حسن بن علي با عفيف
وخشف عليه الحسن أوقف نفسه ... له ناظر يحميه من كل ناظر
نظرت إليه ناظر ادر دمعه ... فنظام فكرى هام في در ناثر
وقال الشيخ عبد الله الزنجى
وطرف له فعل السيوف البواتر ... يصيب به مستلئماً دون حاسر
رمى رنا فانهل بالدمع جفنه ... كدر حواه سمط نظم الجواهر
وقال السيد على صاحب السلافة
ولله ظبى كالهلال جبيته ... رماني بسهم من جفون فواتر
جرت بمآقيه الدموع كأنها ... سقاء فريد في شفار بواتر
وللنظام غير ذلك ممارق وراق من الاشعار الفائقة وكانت وفاته في سنة ست وثمانين وألف بمدينة حيدر آباد(1/220)
أحمد باشا بن محمد باشا الوزير الأعظم المعروف بالفاضل أحمد باشا الكوبرى الأصل القسطنطينى المولد وزراء الدولة العثمانية بل أوحدهم الذي عز به السلطنة وافتخرت الدولة وكان في وقته من مفاخره السامية وأفراده المتعالية وبه ظهر رونق الزمن وعلا قدر الفضل وكان عصره إلى أواسط مدته أحسن العصور ووقته أنضر الأوقات ولم يكن في الوزراء من يحفظ أمر الدين وقانون الشريعة مثله صعبا شديدا في أمور الشرع سهلا في أمور الدنيا وكان حاذقا مدبر للملك قائما بضبطه وملك من نفائس الكتب وعجائب الذخائر ما لا يدخل تحت الحصر ولا يضبط بالاحصاء ولد بقسطنطينية ونشأ بها واعتنى أبوه بتهذيبه وأقرأه العلوم حتى مهر وسمت همته نحو معا لي الأمور وسلك في بداية أمره طريق المدرسين ثم عدل إلى طريق والده فتولى وأبوه في الصدارة العظمى ولاية أرض روم إيلي فظهرت كفايته وحمدت طريقته ثم انتقل منها إلى حكومة الشام وأعطيها برتبة الوزارة وذلك في سنة إحدى وسبعين وألف وقدمها وكانت أمورها مختلة النظام فأصلحها وتقيد في أمور الأوقاف وأزال ما بها من محدثات الوظائف وغيرها وركب على أولاد مع وبنى شهاب وأقام بالبقاع العزيزى أياما حتى أزالهم عن بلادهم وقمع أهل الفتن وكان قبل وطأه قدمه دمشق ولغت بها أيدي القحط حتى عمها وبلغت غرارة الحنطة في الثمن إلى ثمانين قرشاً فنفع الناس في جلب الحبوبات من مصر وأمر وهو بالبقاع بعمارة قاعة معظمة داخل دار الامارة بدمشق فبنيت على أسلوب عجيب ووضع غريب ثم طلب من البقاع إلى الروم فسار بالسرعة وعزل عن حكومة دمشق وجاء أمر حكومة حلب وهو ذاهب في الطريق ولم يدخلها وبعد وصوله إلى قسطنطينية صار قائما مقام أبيه فيها وكان السلطان إذ ذاك بأدرنة وأقام اياما قليلة ثم طلب إلى أدرنة وكان والده قد ابتدأه المرض فلما وصلها صار قائما مقامه في حياته وبعد أيام قليلة توفى والده فتولى مكانه وذلك ي سنة اثنتين وسبعين وألف وأرخ بعضهم توليته بقوله دولته نعمى الأله وسلك طريقا في وزارته لم يسبقه إليها أحد وبلغ من الأحكام ونفوذ القول مبلغا ليس فيه مستزاد ولم يبق للناس سوى التمسك بعنايته ومراعاة حاشيته وكان صائب الرأى كامل الفراسة ومما ينسب إليه من الفطنة أنه جاء يوما شخص بتوقيع فتفرس فيه أنه مصنوع فناوله لأحد جماعته وأمر بحفظه ومضى على ذلك ست سنوات فجاء يوما شخص آخر برقعة فلما رآها طلب التوقيع فجئ به فقابله على الرقعة ثم سأل صاحبها عن كاتبها فأخبرها فأرسل إليه مثل بين يديه أراه التوقيع وقال أليس هذا بخطك فاعترف بأنه هو الذي كتبه فأمر بقطع يمينه وعين له من بيت المال ما يكفيه في كل يوم وقصده الشعراء من البلاد ومدحه جماعة منهم والدي المرحوم فإنه مدحه بثلاث قصدا حداها التي أولها
طيف يمثله الغرام بفكره ... أرجا يحار بطيه وبنشره
وهي قصيدة فائقة في بابها وكتب إليه رسائل عجيبة الإنشاء وترجمة ترجمة استوعب المدح بجميع أفانينه فيها وكتب إليه الأمير المنجكى في صدر رسالة
يا سيد لوزراء دعوة مقعد ... محت الحوادث رسمه فعسى عسى
فانظر إليه برأفة بل رحمة ... يكفيك من جرح الأسايا ما احتسى
قد كان سبحان الزمان فضيلة ... قطعت علوفته فأصبح أخرسا(1/221)
ومن الغزوات التي وقعت أيام وزارته وعين إليها غزوة ايوار عينه السلطان محمد إلى فتحها فسار بجميع العساكر إليها وحاصرها ووقع بينه وبين كفار المجر وقعة عظيمة ومكروا بعسكره مرات وخلصهم الله تعالى بيمن تدبيره ثم افتتحها في حادى عشرى صفر سنة أربع وسبعين وألف وهدم مما يليها قلعة تسمى بالقلعة الجديدة كانت الكفار بنوها ليتحصنوا بها وبعد ما قدم إلى مقر الدولة واستقر مدة وقد قويت شكوته وعظمت مهابته أمره مخدومه بالسفر إلى جزيرة كريد لفتح بلدة قندية التي كانت بقيت في هذه الجزيرة من بين بلادها لم تفتح كما شرحنا ذلك في ترجمة السلطان إبراهيم فوصلها في خامس ذي القعدة سنة سبع وسبعين وألف وبنى بالقرب منها مكانا كان متهد ما لتهيئة مهمات الحصار ثم نزلها بمن معه من العساكر وكان أهلها حصنوها بأشياء لا يمكن حصرها وأضافوا السورها سورا آخر عمروه من داخل السور القديم وطال الحرب بين الفريقين مدة ثم افتتحها صلحا في غرة جمادى الأولى سنة ثمانين وألف ووردت البشائر إلى الأطراف بالزينة وكثرت تباشير الناس بفتحها وبالجملة فإن أمرها كان بلغ الغاية وطال حتى مل الناس من خبرها وأكثرت الشعراء من التواريخ لهذا الفتح وعملت القصد العجيبة حتى رأيت بعض الفضلاء أفرد الأشعار التي نظمت في ذلك وفي مدح الوزير صاحب الترجمة فبلغت شيئاً كثيرا ومن نوادرها التاريخ اللفظى المعنوى لصاحبنا الشيخ الفاضل أحمد الصفدي وهو قوله في عام ألف وثمانين عام ومن التهنئات قصيدة العلامة الأديب المشهور مصطفى بن عثمان البابى الكلبي قاضى المدينة المنورة الآتى ذكره وهي من جيد شعره ومطلعها
لك الله من ندب إذا هم صمما ... وطلاع أنجاد إذا أم تمما
نقاب بأعقاب الأمور محدث ... كان له منها عليها مترجما
إذا عرضت في جانب الملك زيغة ... أراها قذى الأجفان أو تتقوما
وقام بأعباء الوزارة ناصحا ... ووطأ فاستقصى وشاد فأحكما
من النضر الغر الألى تركت لهم ... عزائمهم في غرة الدهر مبسما
إذا ظمئت بيض الظبا في أكفهم ... تحاشوا الها وردا سوى مصدر الظما
لقد قرنوا بالنجدة العلم والتقى ... فقد نظموا طعمين شهدوا علقما
ففي الجدب يستقى بفضلهم الحيا ... وفى الروع يستسقى ببيضهم الدما
فيا أسد الله الذي أن يحرم الفري ... سة أقراهم من الأسد مطعما
ليهنك فتح بشرته سعوده ... باقبال عز يملأ الأرض والسما
رأيت به الإسلام يلتام شعبه ... وقد كربت أركانه أن تهدما
فعلت بجيش الكفر ما أنت فاعل ... وجرعته كأسا من الذل علقما
فأخرجت حتى لم يجد متأخرا ... وأقذفت حتى لم يجد متقدما
وما اختار موج البحر إلا أنه ... رأى موجه من موج سيفك أسلما
فطوقتها طوق الحمامة نعمة ... وأنا لنرجو فوقها لك أنعما
إلى أن تعود الأرض بالأمن كعبة ... حراما وكل الدهر شهر محرما(1/222)
وبعد ما مهد أمورها وبنى ما كان تهدم أيام المحاربة من مساكنها رجع إلى مقر حكومته وكان السلطان إذ ذاك بأدرنة فأقام مدة ثم عينه السلطان إلى محاربة القوم المعروفي بالليه من النصارى فسار في جمع عظيم لم يشهد مثله وافتتح قلعة قنيحة في سنة أربع وثمانين وعاد إلى ادرتة أخذ في نقض الأمور وإبرامها على الوجه الحميد ولرأى السديد ثم تغيرت أطواره وحببت إليه العزلة فانقطع عن الديوان وتعاطى المصالح واشتغل باتخاذ الندماء وكان مجلسه كله فوائد ولم ينسب إليه ما يشيته سوى بعض التشاغل عن أمور الرعية وإلا فقد يقال أن جميع مزايا الحسن جمعت فيه فحاز من كل وصف وغايته ثم رحل السلطان من أدرنة إلى قسطنطينية وذلك في أواسط المرحم سنة سبع وثمانين وألف فرحل هو معه فعند وصوله ابتدأه المرض وكان ابتداء مرضه اليرقان الأسود وعولج مقدار ستة أشهر فلم يفد العلاج واشتد به إلى أن سافر السلطان إلى أدرنة في شعبان من هذه السنة وخرج هو على أثره من البحر في مركب إلى بلد سلورية ووصل من البر إلى نواحى جور لي فأدركه أجله في قرية بالقرب منها وغسل بها وأتوا بجنازته إلى قسطنطينية فدفن مما يبى والده بتربية التي كان أنشأها بدرب الديوان وصلى عليه مكان دفنه وذلك نهار الأربعاء سابع عشرى شعبان سنة سبع وثمانين وألف وكانت ولادته في سنة خمس وأربعين وألف وكان قبل وفاته وقف كتبه ووضعها في خزانة بالتربة المذكورة ورتب لها أربعة حفاظ وفيها من نفائس الكتب ما لا يوجد في مكان وأخبرني بعض من أثق به أنها خمنت بأربعين ألف قرش رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن محمد بن أمين الدين بن شهاب بن أبي الفضل بن عمر بن أحمد بن شرف الدين المعروف بالداراني الدمشقي الفقيه الواعظ الشافعي المذهب كان فاضلا ديناً خيرا له صلاح وانقطاع إلى الله تعالى وفيه سلامة طبع وزهد وقناعة قرأ على والده وعلى الشيخ محمد الأسطواني وأخذ عن محمد البلباني ومحمد الخباز البطتينى وعن الأستاذ الكبير إبراهيم بن حسن الكوراني نزيل المدينة ودرس بأحد بقع المدرسة العمرية وكان يعظ بالجامع الأموى ويدرس به الفقه وانتفع به جماعة وأنا الفقير من معتقديه ومحبيه فإنه كان في جميع أحواله على حد سواء من الاستقامة والصلاح وكان الناس يعظمونه ويطلبون منه الدعاء وهو مظنة عظيمة للدعاء الصالح بل أرى ذلك فيه عيانا وكان كثير الأمراض نحيف البدن قانعا بضنك العيش صبورا وبالجملة فإنه خير محض من فرقه إلى قدمه وكانت ولادته في سنة خمسين وألف تقريبا وتوفى ليلة الجمعة ثاني عشر صفر سنة ثلاث وتسعين وألف وكانت جنازته حافلة ودفن بعد صلاة الجمعة بمقبرة باب الصغير والداراني بفتح الدال المهملة ثم ألف وراء نسبة إلى داريا بياء مشددة قرية عظيمة بدمشق والنسبة إليها على داراني من شواذ النسب لأنه على غير قياس إذ القياس أن تحذف الألف الاخيرة لو قوعها سادسة كما قالوا في قبعثر فبعثرى ثم تحذف الياء الأولى وتقلب الثانية واوا كما قالوا قصوى نسبة إلى قصى فكان القياس أن يقاس في النسبة إليها داروى والله تعالى أعلم(1/223)
الشيخ احمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد الصفدي الدمشقي الشافعي ثم الحنفي أمام الدرويشية صاحبنا الشيخ الأجل الأدي الفاضل اللبيب الشاعر كان فيما تحققته من حاله كثير كثير الفضل غاية في حسن الأخلاق سخى الطبع لطيف المعاشرة ظريف النكتة والنادرة حمولا صدوقا صحبته من سنة أربع وسبعين إلى أن مات فما أنكرت شيئاً من أخلاقه وكان كثير الشعر ندى القلم وشعره عليه مسحة من الطلاوة وبالجملة فهو ممن ينوه بذكره ولا يهمل إيراد شعره ولد بصفد وقدم إلى دمشق وما جاوز العشرين بكثير فأقام بجامع المرادية مشتغلا بعلم القرا آت ونسخ الكتب وكتب بكثيرا ثم قرأ على جماعة من العلماء منهم الشيخ منصور السطوحى والشيخ عبد القادر الصفورى واستجازهما فأجازاه بما لهما وحج فأخذ عن علماء الحرمين ثم تقلبت به الأحوال إلى أن صار شاهدا بالمحكمة الكبرى ومحكمة الباب ثم ترك وصار أماما بجامع المرحوم درويش باشا وخطيبا بجامع الاغا وسافر إلى الروم مرات ونال جهات ومعاليم ودرس بالعمرية ووعظ بالجامع في يوم الأربعاء وكان يقيم أكثر أوقاته بالخلوة بجامع الدرويشية يرس فيها القرا آت والحديث والعقائد والفقه والأدب وله من التآليف منظومة في العقائد وكتاب جمع فيه ألف حديث رتبها على حروف المعجم وجمع من شعره ديوانا فسرق ثم جمع آخر أكثره من شعره المستجد بعد ذلك وظفر في مسوداته ببعض المسروق فألحفه وكنت في بعض الأحايين أداعبه إذا قرأت له شعرا من الديوان المذكور فأقول له أظن هذا من الشعر المسروق فيفطن للغرض فيبتسم ومما اتفق له أن الشيخ مصطفى بن سعد الدين كان دعاه وشيخنا الشيخ عبد الغنى النابلسي وعين يوما للدعوة ثم عرض له مانع فأرسل يعتذر إليهما وكان ذلك في سنة ثلاث وسبعين فأرخ شيخنا تبطليله الدعوة الشيخ قلب وتوارد معه صاحب الترجمة مؤرخاً بقوله قلب الشيخ وكنت كثيراً ما أستنشده التاريخين وأقول له أرى الشيخ قلب الشيخ قلب ومن مستظر فاته ما كتبه إلى شيخنا النابلسي المذكور يستدعيه إلى روض وأرخ الدعوة بقوله
مجلسنا عبد الغنى نزهة ... لنا ظرخال عن الخوض
فشرفونا واحضروا عندنا ... فنحن في التاريخ في روض
ووقع بينى وبينه مخاطبات نظما ونثرا كثيرة فمن ذلك ما كتبه إلى وأنا بالروم قوله
على الحبر الأجل المستقيم ... طراز الجود ذى الفضل العميم
كثير الخير مفتاح العطايا ... شريف النفس والنفس الكريم
محمد الأمين ومن تسامى ... بديع الصنع ذي النظر السليم
عليم البحر من فن القوافى ... وبحر العلم ذى القدر الجسيم
بليغ النظم منتظم الللآلى ... طويل الباع ذى الحلم الحليم
كريم فاق في الأفاق ذكرا ... وعم الأرض بالعلم العليم
سلام من سلام من سلام ... قويم من قويم في قويم
عظيم العرف كالمسك الذكى ... غضيض الطرف كالورد الشميم
ومصحوبا بخيرات حسان ... ورضوان بجنات النعيم
فيغشى الحب في روض أنيق ... ويلثم تربه لثم النديم
وفي التقبيل عنى ناب أنى ... كثير النوح في الليل البهيم
من الأشواق شق القلب منى ... وأحرق مهجتي بعد الحميم
لذيذ العيش عندى صار مرا ... وإني للفراق كما السقيم
فإن ألقيت طيفك في خيالي ... توقد في الحشا جمر الجحيم
ولما جاء طرس منك حلى ... بنظم صار كالدر النظيم
فأنعشنى ولكن زاد شوقى ... إلى لقياك في وجد عظيم
فيا مولى دم بالخير واسلم ... مدى الأيام بالفضل العميم
فكتبت إليه الجواب
تذكر لذة العيش المقيم ... فحن لذلك العهد القديم
وبات مؤرقا يطوى ضلوعا ... على شغف بشادنه الرخيم
سقى عهدى به نوء الغوادى ... يرويه بصيبه العميم
أو أنا كنت أجنى في حماه ... ثمار الحظ في الروض النعيم(1/224)
وأروى فيه زاهية القوافى ... عن الصفدي كالدر النظيم
بألفاظ أرق من الحميا ... وألطف من محادثة النديم
وأندى من ربا هبت عليها ... صبا فاحت معطرة الشميم
بروحى ثم بى أفدى سميرى ... ومن أدعوه بالخل الحميم
ومن هو في الحفيظة ليس يمشى ... على غير الصراط المستقيم
أديب الدهر مختار المعاني ... وفرد العصر ذو القدر الجسيم
تملك كل وصف مستجاد ... بحسن الخلق والطبع السليم
أيا مولا دمت حفيظ ودى ... فودك من فؤادى بالصميم
بعثت إلى بالغر اللواتي ... تعرفني بأسلوب الحكيم
أتت نحوى على مضضى فحلت ... حلول البرء في جسم السقيم
وقاك الله من نكدى وحزنى ... وحياني بمنظرك الوسيم
ودم تتناشنى من خطب دهر ... رماني بالنوى الصعب الذميم
أجلك أن يكون إليك هذا ... جوابى لا من الوشى الرقيم
فعدر أن فكرى في انقباض ... تقاضاه التنائى كالغريم
إذا استنتحت منه بعض شئ ... فينتجه من الشكل العقيم
وكانت وفاته رحمه الله تعالى نهار الجمعة سادس عشرى شهر ربيع الثاني سنة مائة وألف ودفن بمقبرة باب الصغير ولم يجاوز الستين بكثير وقلت أرثيه
لهفى على الصفدى فرد الدهر من ... لعلاه كف المكرمات تشير
طود الفضائل دكه حكم القضا ... فالارض من أقصى التخوم تمور
فانظر عجبا وقدسا روابه ... جبلا غدا فوق الرجال يسير
الشريف أحمد بن مسعود بن حسن بن أبي ينمى الشريف الحسنى أحد أشراف مكة صاحب الأدب البارع والأشعار السائرة المرغوبة ذكره ابن معصوم في السلافة فقال في ترجمته نابغة بنى حسن وباقعة الفصاحة واللسن الساحب ذيل البلاغة على سحبان والسائر بأفعاله وأقواله الركبان أحد السادة الذين رووا الحديث براعن بر والساسة الذين فتقت لهم ريح الجلاد بعنبر فاقتطفوا نور الشرف من روض الحسب الأنضر وجنوا ثمر الوقائع يانعا بالعز من ورق الحديد الأخضر كانت له همة تزاحم الأفلاك وتراغم بعلو قدرها الأملاك لم يزل يطلب من نيل الملك ما لم يف به عدده وعدده ولم يمده من القضاء مدده ومدده فاقتحم لطلبه برا وبحرا وقلد للمولك بمدحه جيدا أو نحرا فلم يسعفه أحد ولم يساعد إذا عظم المطلوب قل المساعد وكان قد دخل شهارة من بلاد اليمن في إحدى الجماديين من سنة ثمان وثلاثين وألف وامتدح بها أمامها محمد بن القاسم بقصيدة راح بها ثغر مديخه ضاحكا باسم وطلب مساعدته عل تخليص مكة المشرفة له وإبلاغه من تحليته بولايتها أمله وكان ملكها إذ ذاك الشيف أحمد بن عبد المطلب فأشار في بعض أبياتها إليه وطعن فيها بسنان بيانه عليه ومطلعها
سلامن دمى ذات الخلاخل والعقد ... بماذا استحلت أخد روحى على عمد
فإن أمنت أن لا تقاد بما جنت ... فقد قيل أن لا يقتل الحر بالعبد
منها وهو محل الغرض
أغث مكة وانهض فأنت مؤيد ... من الله بالفتح المقوض والجد
وقدم أخاود وأخر مباغضا ... يساور طعنا في المؤيد والمهدى
ويطعن في كل الأئمة معلنا ... ويرضى عن ابن العاض والنجل من هند
فلم يحصل منه على طائل إلا ما أجازه من فضل ونائل فعاد إلى مكة المشرفة سنة تسع وثلاثين وأقام بها سنتين ثم توجه إلى الديار الرومية في أواسط شهر ربيع الثاني سنة إحدى وأربعين قاصدا ملكها السلطان مراد خان فورد عليه قسطنطينية العظمى مقر ملكه واجتمع به ومدحه بقصيدة فريدة وسأله فيها توليته مكة المشرفة وأنشده إياها في أواخر شوال سنة إحدى وأربعين وألف ومطلعها قوله
ألا هبى فقد بكر النداما ... ومج المرج من ظلم الندى ما(1/225)
فيقال أنه أجابه إلى ملتمسه ومراده وأرعاه من مقصده أخصب مراده ولكن مدت إليه يدا لهلك قبل نيل الملك وقيل أجزل صلته فقط فقد طعمه عما تمناه وقط ولم يعد إلى مكة وتوفي في تلك السنة أو التي تليها أو ظفرت في آثار السيد محمد بن العرضى الحلبي بذكره في ترجمة أفردها له وهي من محاسن المقول فذكرتها تتمة للفائدة والمقصود التطرية وما تم لها أحسن من الكلام المهذب الجارى عن أمثال هذا فقال في حقه النقاب ابن النقاب ومن غدى بلبان أبي تراب نبغة من الشجرة النبوية الزاكية النجار المعجونة طينتها برند نجد والعرار طلع علينا بحلب سنة اثنتين وأربعين وألف طلوع البدر في الداره وألقى بها عصا التسيار وكأنه من الكواكب السيارة فنزل منها بصدر حيب وقابلته بتأهيل وترحيب وكل من أبنائها تشوق لنزوله عنده في السعه قائلا بلسان الحال هلم يا ابن رسول الله إلى الراحة والدعه أبى أن ينزل الأعلى أفقر بيت في المدينة وأصلحه وهو بيت الشيخ الزاهد ناصر الدنيا والدين المعروف بالصنائع ومن ذيله بالطهارة الدينية ضاف وسابغ مقتديا في ذلك بجده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة فكان كلما مر على دار من دور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم يا رسول الله هلم إلى القوة والمنعة فيقول خلوا سبيلها يعنى الناقة انها مأمورة ولم يزج من زمامها ولم يحولها وهي تنظر يمينا وشمالا حتى إذا أتت دار مالك بن النجار بركت على باب المسجد وهو يومئذ لسهل وسهيل ابنى رافع بن عمر وهما يتيمان في حجر معاذ بن عفراء ويقال أسعد بن زرارة وهو المرجح ثم ثارت وهو صلى الله عليه وسلم عليها حتى بركت على باب أبى أيوب الأنصارى ثم ثارت منه وبركت في مبركها الأول وألقت جرانها بالأرض يعنى باطن عنقها أو مقدمها من المذبح وزرمت يعنى صوتت من غير أن تفتح فاها فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هذا المنزل إن شاء الله واحتمل أبو أيوب رحله وأدخله بيته ومعه زيد بن حارثة وكانت دار بنى النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها وهم أخوال عبد المطلب جده عليه الصلاة والسلام كذا في المواهب للدنية للقسطلاني عودا إلى تمام سيرة ابن هشام وابن سيد الناس وخير الأنام التي هي أزكى من الروض من الأنف يفتر عن زهر الكمام ثم انثالت إليه من أبناء الشهباء عيون أعيانها من وجوه علمائها وأشرافها الذين هم إنسان حدقة إنسانها انثيال الدرالي الواسطة من عقد النحر واحتفت به احتفاف النجوم بالبدر فمن دعاه ناديه فلباه حظى بإقبال وجهه وطلعة محياه فرأينا يحاضرنا بأخبار الشريف الرضي من وجه مذهب في البلاغة وطريقة وهو أخو المرتضى مرضى ويلهج كثيرا بأخباره ويحفظ أغلب أشعاره فمدحته بقصيدة مطلعها
لله أكناف بخيف ... طابت وطاب بها وقوفي
إلى أن قلت في التخلص إلى المديح
وإذا طلبت عريفهم ... ولأنت بالفطن العريف
فهو الشريف ابن الشريف ... ابن الشريف ابن الشريف
فقايل لدى انشادها طربا وأظهر اعجابا وعجبا قائلا لافض الله فاك وكثر من أمثالك فقلت استجاب الله دعاك كما ايتجابه من جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنشده النابغة الجعدى
بلغنا السما مجدا وجودا وسوددا ... وأنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال له صلى الله عليه وسلم إلى أين يا ابن أبي ليلى قال إلى الجنة يا رسول الله فقال أجل ثم قال
ولا خير في حكم إذا لم يكن ... له حكيم إذا ما أورد الأمر اصدرا
فقال صلى الله عليه وسلم لا فض الله فاك فبلغ عمره مائة سنة ولم يتغير يتغير له سن بل كان أحسن الناس ثغرا ثم قصد الشريف المزبور دار السلطنة فلقى سلطان الوقت إذ ذاك مراد الغازى ومدحه بقصيدته التي مطلعها قوله
ألا هبى فقد بكر النداما ... ومج المرج من ظلم الندى ما
منها
فيا ملك الملوك ولا أحاشى ... ولا عذرا أسوق ولا احتشاما
أنفت بأنني ألقاك منهم ... بمنزلة الرجال من الأيامى
إلى جدواك كلفنا المطايا ... دو أما لا نفارقها دواما
صلينا من سموم القيظ نارا ... تكون ببردك الناشى سلاما
وخضنا البحر من ثلج إلى أن ... حسبناه على البيد الكماما(1/226)
نؤم رحابك الفيح اشتياقا ... ونأمل منك آمالا جساما
ومن قصد الكريم غدا أميرا ... على ما في يديه ولن يضاما
وحاشا بحرك الفياض أنا ... نرد بغسلة عنه هياما
وقد وافاك عبد مستهيج ... ندى كفيك والشيم الضخاما
وحسن الظن يقطع لي بأني ... أنال وأن سما منك المراما
ولا بدع إذا وافاك عاف ... فعاد يقود ذا لجب لهاما
فقد نزل ابن ذي يزن طريدا ... على كسرى فأنزله شماما
أتى فردا فآب يجر جيشا ... كسا الآكام خيلا والرغاما
به استبقى جميل الذكر دهرا ... وأنت اجل من كسرى مقاما
وسيف لو سما دونى فإني ... عصامى وأسموه عظاما
بفاطمة وابنيها وطه ... وحيدرة الذي أشفى السقاما
عليهم رحمة تهدى سلاما ... يكون لنشرها مسكا ختاما
وفي أملي بأن يجزيك عنى ... نبى عفوه يطفى الاواما
فخذ بيدي وسمنمنى محلا ... بقربي منك فيه لن أسامى
وهب لي منصبي لتنال أجرى ... وشكرى ما بقيت بها لزاما
فقد لعبت ببيت الله حقا ... زعانف يستحلون الحراما
أغثه فليس مسئول غداة الم ... عاد سواك أن بعثت قياما
وفك أسير أسر ليس يرضى ... بأن يغشى وأن خفى الملاما
فقل سل تعط أعكاك الذي لم ... تخف تقصا ولم يخش انتقاما
مدى الأيام تخفض ذا اعوجاج ... وترفع من أطاعك واستقاما
ودم في دار عمرك والاعادى ... تمنى في مضاجعها الحماما
قوله فقد نزل الأبيات يلح إلى قصة سيف ذي يزن لما تغلبت الحبشة على ملك اليمن فنزل بكسرى مستنجدا فأمده بجيش انقشعت به غمامتهم فعاد سيف قرير العين إلى ملكه وسكن غمدان قصره ورجع إلى صولته وفتكه فانثالت عليه وفود العرب بالتهنئة من كل فج عميق وكان من جملتهم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وهو إذ ذاك معروف قريش العريق والنبي صلى الله عليه وسلم رضيع في المهاد محفوف بعيون العناية والاسعاد فأخبره سيف أنه سينحم أمره ويطلع بدره في قصة يطول شرحها مستوفاة في كتب السير فجعل صاحب الترجمة نفسه كسيف وسلطان الوقت ككسرى وكان الأنسب أن يجعل سلطان الوقت كقيصر لكونه ملك الروم إلا أنه تحاشى عن ذلك لكون قيصر لما قصده سيف لم ينجده ولم يبجه إلى مراده بل اعتذر إليه بانا نحن والحبشة أخوان لكوننا جميعا أهل كتاب فرجع من عنده خائبا قال العرضى وكانت رفادة البيت وسقاية الحاج المعبر عنها الآن بسلطنة الحرمين مفوضا أمرها إلى صاحب الترجمة إلا أنه فاضت في زمن توليته فتن أدت إلى خلعة وتولية ابن عمه الشريف زيد بن محسن بن حسين فسكن بيمن توليته نابض الفتنة أخمد بنو طلعته نار المحنة وكذا النور يخمد النيران فلم يقر لصاحب الترجمة قرار دون أن ينشر على رأسه لواؤها والعلم فركب أبله وجعل الليل جمله يفلى شعر الفلاة بمشط كل حافر ومنسم فوجه تلقاء مدين دار السلطنة العادلة رجاه ضاربا بعصا تسياره أحجار عرصاتها لينجر له ما يترقبه ويتمناه من انعطاف السلطنة إليه ثانيا فلذا استماح سلطان الوقت بقوله وقد أضحى لعنان خمته ثانيا ثم ذكر قطعة من قصيدته المتقدمة قلت قد وقفت له على أشعار كثيرة ذكرت منها في النفحة التي ذيلت بها على الريحانة حصة وافرة وقصيدته السينية التي مطلعها قوله
حث قبل الصباح نجب كؤوسى ... فهي تسرى مسى الغذافى النفوس
سائرة مشهورة فلا حاجة إلى ذكرها هنا وكان نظمها في طرسوس البلدة المعروفة قرب طرابلس الشام فإنه كان مر عليها قادما من ناحية مصر على طريق الساحل وبعد ما عاد من الروم مات في الطريق وكانت وفاته في أواخر سنة أحدى أو اثنتين وأربعين وألف رحمه الله تعالى(1/227)
الأمير أحمد بن مطاف أمير الأمراء بحلب ذكره أبو الوفاء العرضى في تاريخه وقال في ترجمته لم يزل يتدرح إلى المناصب حتى تولى كفالة حلب وفي تلك الأيام وقع الحريق في سوق العطارين وذهب للناس أموال كثيرة مع أن هذا الأمر لم يعهد في حلب قيل سببه أن بعضهم نسى في الشقف بعض نار وقيل أن جماعة الكافل فعلوا ذلك عمدا حتى يغرموا الناس الأموال والله أعلم بحقيقة الحال والذي قاله بعض أرباب العقول الحسنة أن هذا الأمر وقع من غفلة رجل عن النار وظهر في زمنه من العرب فساد كثير من قطع الطريق وأخذ أموال الناس حتى ركب ابنه درويش بك بعساكر حلب نحو ألف فارس وكان أمير العرب عرار خال دندن فاقتتلوا وانهزم عسكر حلب فكان عرار يتبعهم وحده ويقتل منهم ويفرون من تحته فرسه التي لا تسابق وعليه الدرع الذي لا تعلم في السهام ولا السيوف قيل ولا المكاحل واستمر يتبعهم إلى قرب حلب وكان عرار في الشجاعة والفروسية لا يطاق وعاش درويش بعد والده مدة طويلة وكان من أكابر أعيان المتفرقة وحصل له القبول التام عند نصوح باشا وسعى على قتل السيد حسين نقيب الأشراف بتحسين أخيه السيد لطفى قائلا له أن أخي يفعل كذا ويفعل كذا وسيأتي خبر قتل السيد حسين ثم لما وقعت الفتنة بينه وبين حسين باشا ابن جانبو ولاذ وكان يتهم درويش بك في أنه هو الذي حسن لنصوح باشا كل هذه الأمور فلما ملك حسين باشا حلب وصار كافلها حبس درويش بك في القلعة وخنقة ليلا وعلقه على باب الحبس وقال أن درويش بك هو الذي قتل نفسه تجاوز الله عن الجميع وكان قتله في سنة أربع عشرة بعد الألف وأبوه صاحب الترجمة مات قبله وهو باني المدرسة المعروفة به بحلب وقد شرط لمدرسها في اليوم عشر قطع فضية وفي قول عشرين عثمانيا صحيحا واتخذ له ثلاثين جزأ من كتاب الله تعالى وهو ختم كامل وبنى له مدفنا وله خان وبعض دكاكين وقفها على هذه الخيرات وكانت وفاته في سنة ثمان بعد الألف ودفن بمحلة الجلوم رحمه الله تعالى الشيخ أحمد السطيحة بن المقبول بن عبد الغفار بن أبي بكر بن المقبول تعيش الصائم رمضان في المهد ابن أبي بكر صاحب الخال الأكبر بن محمد بن عيسى بن أبي الأولياء سلطان العارفين بالله أحمد بن عمر الزيلعى صاحب اللحية الذي قال في شأنه الولى الكبير أبو الغيث بن جميل حين زاره وتعاطى خدمته بنفسه وقد سأل تلامذته عنه وعن سبب تعاطيه خدمته بنفسه دون غيره من اتباعه أنه ما على الله الآن أكرم منه وأن له لواء يعرف به يوم القيامة وأكون أنا وأنتم تحت لوائه الأمام العقبلى أحد أولياء الله تعالى الكبار الذين اشتهروا في سائر الأقطار فعمت بركاته وعظمت حالاته مولده اللحية وبها نشأ وأقعد وهو صغير وأخذ عن أكابر الشيوخ وعنه أخذ كثير من العارفين منهم الختم الإلهي أحمد بن محمد القشاشى والولى الشهير مقبول المحجب الزيلعى وغيرهما ومن كراماته أن بعض السادة جاءه وهو مقعد وكان يتعلم القرآن وهو صغير جداً فقال له في أذنه لما رأى الأطفال قاموا يتمشون ويلعبون بعد انفضاضهم من القراءة نقيمك يا سطيحة تمشى معهم فقال له مجيبا أن أقمتنا أقعد ناك فصاح وخرج هاربا ومنها أنه قبل موته بأيام كان يقول لزوجته إذا مت فلا تصيحوا ولا تنوحوا على فإني متوجه من مكان إلى آخر وهي تقول له وكانت هي أيضاً من أولياء الله تعالى ما يمكن نخالف عادة أهل بلدنا فإذا لم نفعل ذلك يعيبوننا ويقولون أنك عندنا ممتهن فقال لها أن كنتم تفعلون ذلك تفتشون على ما تجدوني فلما مات ناحوا عليه وبكوا فلما جهزوه وأتوابه إلى المسجد للصلاة عليه فبينما هم ينتظرون أمام المسجد ليصلى عليه جاء بعض الناس ومسه ليتبرك ببدنه فلما وضع يده على الساتر الذي يضعونه فوق التابوت على الميت لم يجده في التابوت أخبر الناس فضجوا وتحيروا وصاروا يفتشون عليه ويظنون أنه سقط حتى جاء بعض أكابر السادة بنى الزيلعى فأمرهم أن يقرؤا سورة يس أربعين مرة فلما أتموها وجدوه مكانه وكانت وفاته نصف ليلة الأحد ثامن شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة بعد الألف باللحية ودفن بقرب تربة جده الفقيه أحمد بن عمر الزيلعى رحمهما الله تعالى(1/228)
المولى أحمد بن نور الله البولوى نزيل قسطنطينية المعروف بذكى قاضى القدس الشريف أحد من لقيته من فضلاء الروم وأدبائها البارعين وهو أمثلهم في معرفة فنون الأدب واللغة وأرواهم للشعر العربي وأحفظهم للوقائع والأخبار وكان مع ذلك متقنا للفقه والفرائض والأصول كثير الإحاطة بمسائلها وقد جمع إلى تحقيق العجم فصاحة العرب وكان أستاذي علامة الروم المولى شيخ محمد بن لطف الله المعروف بعزتي يعظم ويعرف قدره ويقدمه وهو أحد اتباعه وملازميه وصحبه إلى دمشق ومصر أيام قضائه فيهما وولاه فيهما القسمة وكنت وأنا بالروم لزمته للأخذ عنه والتلقى منه فقرأت عليه أصول الفقه وأخذت عنه الفرائض والعروض ورسالة الربع وهو أخذ عن خاله العلامة الكبير المولى أحمد وعن غيره ونفع الطلبة في ابتداء أمره مدة في اقراء العلوم ثم أنه مال إلى سلوك طريق الموالى فدرس بعدة مدارس بقسطنطينية إلى أن وصل إلى المدرسة المعروفة بوفاء برتبة السليمانية وأعطى منها قضاء القدس في رجب سنة ثلاث وتسعين وألف وقدم إلى دمشق وأنابها فاجتمعت به ثم سار إلى القدس وسلك في قضائه بها مسلكاً معتدلا ثم عزل وقدم إلى دمشق في ذي الحجة سنة أربع وتسعين ومرض بها مدة أيام ثم توجه إلى الروم وهو مريض فمات في الطريق بمدينة أركلة أواخر صفر سنة خمس وتسعين وألف ودفن بها رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن يحيى بن محمد بن محمد بن رجب خطيب دمشق وابن خطيبها المعروف بالبهنسى الحنفي أحد العلماء الرؤساء النبلاء كان عالما وجيها كثير التخصيص والتنعيم وافر العزة والحرمة محفوظاً في الدنيا موقرا عند الخاصة والعامة قرأ في أول أمره على والده وأخذ عنه النحو وأخذ النحو والمعاني عن الشيخ الشمس ابن المنقار والحسن البورينى والفقه عن أبيه وغيره وتصدر للإقراء والنفع به جماعة وسافر مع أبيه إلى الروم ولازم من قاضي العسكر المولى محمد بن بستان وانفصل عن بعض مدارس الأربعين وناب في خطابه الجامع الأموي عن والده ثم أعطيها بعد موت أبيه وأفتى بدمشق نيابة عن العلامة عبد الرحمن العمادى مفتى الحنفية لما حج في سنة ثلاث وثلاثين وألف وكذا لما مات المفتي المذكور في سنة إحدى وخمسين إلى أن وجهت للعلامة محمد بن قباد المعروف بالسكوتى الآتى ذكره وتوجه إلى القدس وإلى الحج في سنة خمس وأربعين ودرس بالعادلية الصغرى والعذراوية وفرغ عن العذراوية آخرا إلى زوج ابنته عبد اللطيف بن علي الكريدي وكانت ولادته في منتصف جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وتسعمائة وتوفي في منتصف جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من بلال الحبشي رحمه الله تعالى الشيخ أحمد بن يحيى بن حسن بن ناصر الحموى المعروف بابن المؤذن الفقيه الشافعي القادري الطريقة خطيب جامع السلطان بمدينة حماه وكان عالما محققا مطلعا واعظا معتقد ارحل إلى القاهرة وأخذ بها عن البرهان اللقاني وغيره من علماء الأزهر وتفوق وبرع وأقام بدمشق مدة وأخذ بها ن الحسن البورينى وغيره وتضدر للإفادة بحماة فاتنفع به جماعة وذاع ذكره ثمة بالعلم والصلاح وكانت وفاته في رجب سنة سبع وثمانين وألف بحماة وقد جازر الستين هكذا أخبرني ولده الشيخ الصالح محمد في منزلي بدمشق(1/229)
الشيخ أحمد بن يحيى بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن يوسف بن أحمد الحنبلي الكرمى نسبة لطور كرم من قرى نابلس ثم القدس كان من العلماء العاملين والأولياء الزاهدين ولد ببيت المقدس في سنة ألف وقرأ القرآن بطور كرم وأخذ الطريق عن العارف بالله محمد العلمي ورحل إلى القاهرة سنة ست وعشرين وألف وأخذ بها الفقه وغيره عن عمه مرعى الحنبليي وعن منصور البهوتي ويوسف الفتوحي الحنبليين وأخذ النحو عن محمد النحوى والفرائض والحساب عن عبد المنعم الشرنوبي والحديث عن البرهان اللقاني وعلى الاجهوري وكثير وكان ملازما للعبادة بمكانه المعروف بجامع الأزهر مشتغلاً بالعلوم الدينية لا يتردد إلى أحد من أرباب الدنيا قانعا باليسير من الرزق متقيد بصلاة الجماعة في الصف الأول في الأوقات الخمسة قليل الكلام حسن السيرة جامعا لصفات الخير ليس فيه شئ يشينه في دينه ودنياه حكى عن ولده الشيخ الفاضل عبد الله أنه رأى الحق سبحانه وتعالى في النوم ثلاث مرات أولها رأى الملائكة قد أخذوه إلى النار فإذا بمناد من الحق سبحانه ليس من أهلها اذهبوا به إلى الجنة فقام من نومه فرأى نفسه في الجامع الأزهر وكانت وفاته ليلة الجمعة رابع عشر صفر سنة أحدى وتسعين وألف ودفن بتربة المجاورين بقرب تربة عمه مرعى رحمهما الله تعالى السيد أحمد بن يحيى بن عمر الحموى المعروف بالعسكرى الشافعي مفتى الشافعية بحماة العالم الفصيح العبارة الكامل الأدوات قرأ على أبيه على الشيخ سرى الدين بن محمد البكرى الشراباتي وكان فقيها فرضيا حسابيا أديبا لبيبا ودرس بعد أبيه بالمدرسة العصرونية بحماة وكانت وفاته في ثالث عشر رمضان سنة أربع وتسعين وألف وسيأتي أبوه السيد يحيى أن شاء الله تعالى المولى أحمد بن يوسف المفتى الأعظم المعروف بالمعيد المجمع على فضله وديانته وتبحره في العلوم ورزق من الحظ والإقبال في أموره ما لم يكن لأحد من أهل عصره ولد بقرية قاز طاغى وقدم قسطنطينية واشتغل بالعلوم حتى مهر فيها ثم صار من طلبة المولى محمد فهمي المعروف بابن الحنائي وصار معيد درسه في مدرسة على باشا الجديدة وشهرته بالمعيد لذلك ثم لازم منه بعد انفصاله عن المدرسة المذكورة واختص بالعلامة المحقق المولى محمد بن عبد الغنى صاحب الحاشية على تفسير البيضاوى الآتى ذكره وكان كثير التقشف مدا وما على العبادة وعلماء الروم ينظرون إليه نظر التوقير ويتوسمون فيه الصلاح والفلاح ثم درس بعد ذلك على قاعدتهم حتى وصل إلى إحدى مدارس السلطان سليمان وولى منها قضاء دمشق نهار الأربعاء حادى عشر شهر رجب سنة خمس وثلاثين وألف وكانت سيرته في حكوماته مرضية جداً ولد له في دمشق ولد سماه يحيى عليك عبد وعزل في ثالث يوم من ولادته توفى ابنه المذكور ثاني يوم عزله ثم سار إلى قسطنطينية وبعد مدة صار قاضيا بمصر في سنة تسع وثلاثين وعزل عنها وولى بعد ذلك قضاء أدرنة وقسطنطينية وقضاء العسكر بانا طولى في عشرى ذي الحجة سنة ست وأربعين ووقع بينه وبين العلامة يوسف بن أبي الفتح الدمشقي أمام السلطان امتحان بسبب أنه تخطاه في مجلس أحد الصدور وجلس فوقه وتباحثا في بعض مسائل من علوم متفرقة سأذكرها في ترجمة الفتح أن شاء الله تعالى فإنها كثيرا ما تطلب ويسأل عنها وذاك محلها فإن الفتحى هو السائل وله على الأجوبة اشكالات دقيقة المسلك وبسببها ظهر الفتحى عليه في البحث فأعطى رتبة قضاء العسكر بروم إيلي ليتقدم في الجلوس على المعيد واستمر المعيد قاضى العسكر بانا طولى إلى أن سافر السلطان مراد إلى بغداد وسافر هو بخدمته حتى وصلوا إلى أزنكميد فأهان رجلا من جماعة المفتى الأعظم المولى يحيى بن زكريا فغضب السلطان عليه لذلك وعزله ووجه إليه قضاء بلغراد مع فقواها فتوجه إليها وكان بعض المنجمين بشره بالفتوى فظنها هي ولم يعلم أن الفتوى العظمى مدخرة له ثم أذن له بالعود من بلغراد وأعطى ثانيا قضاء العسكر بانا طولى ونقل منها بعد مدة إلى قضاء عسكر روم إيلي فأقام بها مدة طويلة وعزل ثم أعطى منصب الفتوى في نهار الأربعاء خامس عشرى ذي الحجة سنة خمس وخمسين وألف وأرخ توليته قاضى القضاة الشهاب أحمد الخفاجى المقدم ذكره بقوله
أنى لا شكر دهرنا ... مذ زاد في الحسنى وأحمد
إذ صير الفتوى إلى ... أتقى أهالي العصر أحمد(1/230)
أرخته في نصره ... لشريعة المختار أحمد
أمعيد شرع محمد ... بكماله والعود أحمد
وبنى مدرسة بقسطنطينية تجاه داره بالقرب من جامع السلطان محمد الفاتح ومات وهو مفت في خامس شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وألف ودفن بمدرسته المذكورة وخلف مالاً جزيلا ولم يعقب إلا بأنثى وقاز طاغى بقاف ثم ألف وزاى ثم طاء وألف وغين معجمة ثم ياء قصبة معروفة قرب مدينة بروسة سميت باسم جبل قريب منها فقولهم قاز طاغى أي جبل الاوزفان القاز الأوز وطاغ الجبل وعادتهم تقديم المضاف إليه على المضاف وازنسكميد بكسر الهمزة والزاي وسكون النون وكسر الكاف والميم ثم دال والعامة تقول ازميد بلدة عظيمة بقرب بروسة والله تعالى أعلم(1/231)
الشيخ أحمد بن يونس بن أحمد بن أبي بكر الملقب شهاب الدين العيثاوي الدمشقي الشافعي أحد شيوخ العلماء الأجلاء بالشام المتصدين للأفتاء والتدريس ونفع الناس كان عالما ورعا جليل القدر نبيه الذكر جيد الملكة سليم الطبع وكان ألطلف الأشياخ عبارة وأجودهم تقريراً وله من التآليف متن على طريق الإرشاد في فقه الشافعي سماه الحبب وشرحه شرحاً لطيفا سماه بالحبب في التقاط الحبب وله غير ذلك من تحريات ورسائل وأفتى مدة طويلة وانتفع به كثير من المتأخرين الفضلاء وعنه أخذوا وعمر حتى لم يبق من أقرانه في دمشق وحلب ومصر والحجاز أحد وكان له في الولاية شأن عال وأخبار عجيبة قرأت في ثبت الشيخ محمد المكتبي مممما أرويه وأنقله عن السادة الأخيار أن عجانا عجن عجينه بالنهار ثم خبزه وأتى الجامع فتوضأ وصلى الظهر واضطجع يريد صلاة العصر فاسترسل به النوم إلى وقت السحر وإذا برجل شعل القناديل التي فوق محراب المالكية وعمد إلى الباب الذي يجرى فيه ماء الحنفية ففتحه حتى دخلت منه رجال نحو الأربعين فلما رآهم العجان ظن أن الصلاة للمغرب أو العشاء فجاء القوم واصطفوا منتظرين لأمامهم فإذا صلاة العشاء قد أقيمت للعيثاوى فتقدم وصلى أماما ثم أن القوم جاؤا إليه يلتمسون منه البركة وجاء العجان على آثرهم فخاطبه وأمره بالكتمان مدة الحياة ولد بدمشق وقرأ القرآن على الشهاب أحمد بن النبيه ثم قرأ الفقه والنحو على الشيخ البارع تاج الدين ثم لزم والده الفقيه الكبير يونس ثم أمره والده بملازمة فقيه العصر أقضى القضاء نور الدين على النسفى المصري نزيل دمشق فلازمه سنين حتى تبحر في الفقه وحضر بأمره أيضاً دروس العلاء بن عماد الدين وأخذ الحديث عن الشمس محمد بن طولون وغيره وقرأ في القراآت على أستاذ القراء الشهاب الطيى وصحب في طريق القوم ومذاكرة العلوم الشهاب أحمد بن البدر الغزى واصطحب في الطريق أيضاً مع الشيخ عبد الرحيم الصالحي وأجازه البدر الغزى بالفتوى بعد وفاة الطيبى وأخذ عنه جماعة منهم الحسن البورينى والشيخ محمد الجوخى والشرف الدمشقي والنجم الغزى وغيرهم وكان أفقه أهل زمانه وعليه المعول في الفتوى من بينهم واختلف هو والعلامة اسماعيل النابلسي الشافعي في بناء المنارة البيضاء التي بنيت على كنيسة النصارى داخل دمشق بمحلة الخراب فأفتى النابلسي بعدم بنائها حذرا من أن يكون اشهار الأذان بها سببا لسب النصارى لدين الإسلام ونظر إلى الآية ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية وأفتى العيثاوى بجواز بنائها وكان الباني لها علاء الدين بن الحجيج التاجر الكبير وكان قاضي القضاة مصطفى بن بستان مائلا إلى ما أفتى به العيثاوي ونائب الشام حسن باشا بن محمد باشا مائلاً إلى ما أفتى به النابلسي ثم بنيت بأمر القاضي بعد أن بذل النصارى للوزير مالاً جماً وألف العيثاوي في بنائها رسالة لطيفة وكان ذلك قبل التسعين والتسعمائة وتولى من الوظائف أمامة الجامع الأموي وخطابة التوريزية خارج دمشق بمحلة قبر عاتكة ودرس بالعمرية والعزيزية ثم الظاهرية ثم الشامية البرانية ووعظ بالجامع الأموي وجامع السلطان سليمان وسافر إلى الحصن وإلى طرابلس الشام مرتين لصلة أرحامه وكان له ثم خؤله وسافر إلى حلب مرتين أيضاً كلاهما في مصلحة أهالي دمشق الأولى سنة ست عشرة بعد الألف هو والشيخ محمد بن سعد الدين وآخرون بشكاية إلى الوزير مراد باشا بما وقع بدمشق ونواحيها من على بن جانبو لاذو فخر الدين بن معن وأحزابهما وعتوهما في بلاد دمشق والقصة مشهورة وستأتي في ترجمة ابن جانبو لاذ في حرف العين أن شاء الله تعالى والثانية في سنة خمس وعشرين لرفع التكليف عن أهل دمشق بسبب سفر العجم الواقع في تلك السنة وأقبلت عليه أهالي حلب للأخذ عنه وعظموه تعظيما بليغا ورأيت أبا الوفاء العرضي يثنى عليه في تاريخه كثيرا وذكر علمه وورعه وهو في نفس الأمر أهل لكل وصف حسن وكان مرض مرة عاما كاملا وكان ابتداء مرضه في عيد الأضحى سنة سبع وتسعين وتسعمائة وانتهى في عيد الأضحى من العام القابل فعيده الحسن البورينى وأنشد لنفسه قوله
شهاب المعالى وبدر الدجى ... ومن منه كل الورى تستفيد
نذرت الصيام ليوم الشفا ... وكيف يصوم الفتى يوم عيد(1/232)
قال النجم الغزى في ذيله المسمى بلطف السمر في أعيان القرن الحادي عشر أخبرني مرارا أن مولده في سنة إحدى وأربعين وتسعمائة وتمرض بحمى الربع وتوفى في مستهل ذي الحجة سنة خمس وعشرين وألف عن أربع وثمانين سنة ودفن بمقبرة باب الصغير وقال أبو بكر العمري في تاريخ وفاته
يا أخا العلم خاض بحر الفتوى ... وغدا الدين دامى الطرف أرمد
مات غوث الأنام من كان يست ... سقى به الغيث والخلائق تشهد
شيهنا العيثوى بل شيخ أهل الع ... صر طرادع جاهلا فيه هند
شافعي الزمان مالك أسب ... اب العلوم التي بها الناس ترشد
قل الهى إذا دعوت وأرخ ... ارحم العيثوى عبدك أحمد
والعيثاوى بفتح العين المهملة ثم ياء وثاء مثلثة وألف مقصورة نسبة إلى عيثا قرية من قرى البقاع العزيزى من ضواحى دمشق ويقال في النسبة إليها عيثوى أيضاً كما استعمله العمري وعيثا لغة عامية وكان والده يونس قدم منها إلى دمشق وتوطنها ذكره البوريني أحمد بن يونس وزير شريف مكة السيد ادريس بن الحسن كان شديد البأس ذا قوة وعدد ومدد وطار صيته في الآفاق وأكثر الدخل وأقل الانفاق وكان ذا تدبير لا حواله حتى جاوز الحدود فوقع ما قضاه الله تعالى وذلك أنه لما استفحل أمره وعظم وصارت الأمور كلها منوطة برأيه فتعدى طوره ولم يقف عند حده فتوافق الشريف ادريس والشريف محسن على عزله فأرسل الشريف إدريس وكان إذ ذاك بالمبعوث إلى القاسم مقامه بمكة السيد محمد بن عبد المطلب يأمره بأخذ المهر منه وهو مهر العروض وأرسل الشريف محسن إلى القائد ياقوت بن سليمان وكان زيره بأخذ مهره منه ففعل كل ما أمر به وكان الأخذ المذكور صبيحة عاشر رمضان سنة ست وعشرين وألف فشاع في البلد عزله وأرسل الشريف ادريس إلى القائد ريحان بن سالم حاكم مكة يأمره بالوصل إليه إلى الشرق فقدم إليه فقلده منصب الوزارة فوصل إلى مكة في الشهر المذكور فلما كان آخر العشر الثاني من رمضان وصل الخير للسيد محمد المذكور بأن القائد أحمد يريد الركوب عليك وقد اجتمعت عنده العدد والمدد ووصل الخبر إلى القائد أحمد بذلك أيضاً فركب كل منهما وألبس ووقف عند باب داره ثم انجلى الأمر وظهران ما أخب به كل منهما ليس له أصل وأرسل السيد محمد إلى الشريف إدريس والشريف محسن يعرفهما بذلك ولما كان العشر الأخير من رمضان ذهب القائد أحمد إلى المبعوث وأقام هناك فجاء الأمر إلى السيد محمد بأخذ أمواله من داره وكل ما هو له وأن يحتفظ على ذلك فلما كانت ليلة العيد فرق السلاح على العسكر آخر الليل ونزل إلى المسجد وصلى صلاة العيد فقط وبرز من المسجد قبل الخطبة وعزم بالجيش إلى بيت القائد المذكور فختم على أمواله وأمر أن ينزل البعض منها إلى البلد واستمر إلى بعد صلاة العصر فنزل هو والجيش بعد أن ختم على بيوتهم ثم فكوا بعد وصول الشريف إدريس إلا إبراهيم بن أمين كاتبه وأعظم المقربين إليه فإنه لم يزل مسجونا إلى قضى الله عليه وأما القائد أحمد فإنه استمر بالمبعوث فثارت بسببه في ثاني شوال من السنة المذكورة فتنة أدت إلى الإدراع والإلباس ثم رحل إلى كلاح فأقام بها ثم رجع منها إلى جهة الشام فلما أن كان في أثناء الطريق رجع فوصل إلى الشريف ادريس وهو بالشرق في السنة المذكورة فسجنه وكبله بالحديد ثم أنه قتله في العام المذكور في محل يقال له وادى النار ودفن هناك عفا الله عنه أحمد الأحمدي الصعيدي من بيت بني أحمد قرية من أعمال المنية كان ماشيا على طريق القوم بكثرة العبادة محبا للفقراء والعلماء صوفيا زاهد اعمت امداداته واشتهر صيته وكان يحج سنة ويترك أخرى مع ادامته لخشونة عيشه وكان ربما لبس الخيش وكان كثيراً ما ينشد
اقنع بلقمة وشربه ماء ولبس الخيش ... وقل لقلبك ملوك الأرض راحوا بايش
وكان كثير الفكر والذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه إذا زاره سمع منه رد السلام عليه كانت وفاته في سنة سبع بعد الألف ذكر وفاته المناوى في طبقاته وهو عندة وذكر الشلى أن وفاته في رجب سنة عشر بعد الألف ولا أدرى عمن نقل هذا والله أعلم(1/233)
الشيخ أحمد المغربي المالكي شيخ المالكية بدمشق المتكلم عليهم بعد العلاء ابن المرحل كان فاضلا دينا وفيه خير وصلاح وكلمته نافذة عند الحكام وله استقامة لا يتكلم في أحد بسوء ولى نظاة الجامع الأموي فحمدت سيرته وكان ينتدب الأوقاف فيعمرها مع التوفير في المصارف ووسع الطرقات إلى الجامع فوسع باب البريد بتأخير تخوته إلى خلف ووسع سوق السلاح وكانت وفاته في إحدى الجماديين سنة ثمان وألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى خان أحمد الكيلاني الشريف الحسينى سلطان بلاد كيلان من بيت السلطنة أبا عن جد وكان من كونه من الملوك أحد أفاد العالم في العلوم الرياضية والحكمة حصل علم الهيئة ولهندسة والفلك وكان يدرس القوشجى في الهيئة وكان إليه النهاية في الموسيقى والشعر الفارسي وإذا نظم غزلا ربطه في أصوات ونغمات وكان طهما سب شاه قد اعتقله في قلعة دهقهه في بلاد العجم ومكث بها معتقلا سنين عديدة وكان ولد طهما سب شاه إسماعيل محبوسا عنده فقال له أن أطلقني الله من الحبس وولاني أمر الناس فلله على أن أطلقك وأوليك بلادك فاتفق أن الله تعالى أطلقه وأعطاه سلطنة العراقين وأذربيجان وشروان وشيراز وخراسان وهمدان وبلاد الجبال فأخرجه من دهقهة لكن وضعه في قلعة اصطخر وقال له أريد أرسلك إلى بلاد مع مزيد التعظيم فلم تظل مدة إسماعيل ومات ثم استخرجه الشاه أعمى أخو إسماعيل لم يجدو في بيت السلطنة ذكرا قابلا للملك سوى هذا فقالوا هو من بيت السلطنة ليس إلا فنحن توليه ملك أبه ولو كان أعمى فلما تولى السلطنة أرسل إلى خان أحمد واستخرجه من اصطخر وولاه بلاد كيلان كما كان فلم يزل بها إلى أن أخذ سلطان الإسلام السلطان مراد بن سليم غالب عراق العجم وكل عراق العرب واذربيجان وشروان وبلاد الكرج فلزم أن شاه عباس بن هداى بنده الضرير المذكور أرسل عسكرا وافرا فأخذوا كيلان من يد خان أحمد فهرب مع جماعة معدودين إلى جانب السلطان محمد بن مراد فدخل عليه وامتدحه بقصيدة عظيمة يحثه فيها على أهذ كيلان من يد شاه عباس وأهدى له شمعدانا مرصعا قيل أنه خمن بثمانين ألف دينار ولم يحصل على مراده من العسكر وذهب إلى بغداد بإذن السلطان فماث بها في سنة تسع بعد الألف الشيخ أحمد الضوى المصري المعروف بابي لبدلانه كان يتعمم بعدة برد ويضع على رأسه عقدة لبدر ويجعلها واحدة فوق واحدة المجذوب اليقظان الهائم السكران كان مقيما بقلمة بقرب قليوب لا يأوى غالبا إلا للكيمان وكان بينه وبين النور ابن العظمة الآتى ذكره ما سكون بين الأقران حتى أنه لم يدخل مصر مدة حياته مهابة له وله كرامات وأحوال غزيرة منها ما حكاه الحمصاني أنه يدخل مصر مدة حياته مهابة له وله كرامات وأحوال غزيرة منها ما حكاه الحمصاني أنه دخل على والدته ذات يوم فقال أعندك شئ آكله فقالت لم يكن عندي إلا جبن فقال بلى عندك لبن ادخريته لزوجك وكانت ادخرته له كما قال ولم تعلم به أحدا قال الحمصاني وكان له اطلاع على الخواط ما وقف إنسان تجاهه إلا كاشفه بما عنده ومنها أنه وجد غزالة مع رجل بسوق طنان فقال له بعنى هذه فقال أعطيت خمسين نصفا فقال له خذ هذا ثمنها فوضع في يده خمسة أنصاف فأعادها له وقال له أقول لك أعطيت خمسين فما زال يدفعهم له بعينهم وفي كل مرة يزيدون ويقول هم الثمن إلى أن صاروا خمسين وله غير ذلك وتوفى في سنة سبع عشرة بعد الألف الشيخ احمد المدعو حمده المجذوب الصاحى كان كشفه لا يكاد يتخلف وكثيرا ما يخبرنا بالشئ قبل وقوعه قال المناوى قال الولد يعنى ولده زين العابدين الآتى ذكره ما تلبست بحال الأكاشفنى به وهو مقيم عند نساء بباب الفتوح يخدمهن وبعضهن بغيات ومامات أحد منهن إلا عن توبة وربما صار بعضهن من أهل المقامات ويذهب كل يوم من باب الفتوح إلى باب زويلة يجمع لهن دراهم من أرباب الحوانيت قال وقال لي الحمصاني لقيته مرة وإذا بولدك قادم فقال له أصبحت فينا صيرفيا ومن لم تستجوده فليس عبقراي طاعتك علينا حكم الفرض لا نصدر إلا عن رأيك في الطول والعرض وكانت وفاته في أوائل سنة ست وعشرين وألف ودفن في الروضة خارج باب النصر(1/234)
الشيخ أحمد الأحمدي المصري العارف بالله تعالى المرشد المعروف بالسيحى ذكره أحمد العجمي في مشيهته قال في ترجمته تلا القرآن على محقق عصره الشيخ أحمد بن شيخ الشيوخ عبد الحق النباطى ولزمه وأخذ عنه وأخذ عن علماء عصره العلوم الشرعية وكان في عداد طبقة المشايخ الكبار بل أكبر منهم حالا ومقالا وكانوا كلهم يعظمونه ويوقرونه ويتبركون به ثم ارتحل من مصر بإشارة بعض أرباب الأحوال فطاف البلاد البعيدة على قدم التجريد والمجاهدة والتوكل ودخل بغداد والكوفة والبصرة وما وراء تلك النواحي ثم عاد إلى مصر فابتنى مسجدا بجوار مشهد الشهداء بالمنوفية وأقام فيه لاقراء الناس القرآن فانتفع به خلائق لا يحصون وكل يجئ إلى مصر في كل عام مرة يجلس أحيانا بجامع الأزهر وأحيانا بمدرسة السيوفية والناس يزدحمون عليه ثم يعود إلى مسجده هذا دأبه مدة حياته وكانت وفاته سنة ثلاث وأربعين وألف ودفن بمسجده وضريحه يزار رحمه الله تعالى أحمد المغربي القيرواني الحنفي المعروف بصاحب السعادة أحد أعاجيب الزمان ونوادره كان في مبدأ أمره خرج من بلاده وهو متقن لمعارف وأفانين كثيرة فيه فضل وأدب فوصل إلى الروم واختلط بأدبائها ولم يزل مقيما بها حتى صار مستوفيا ببلاد اليمن ورحل إليها فصادف بها حاكمها حيدر باشا فانخرط في سلك ندمائه ولم يزل عنده في مكانة سامية حتى وقف على جملة من هزلياته فتفرعته وعرض فيه إلى جانب السلطان فعزل وسافر إلى الروم فولى الحكومة بمدينة مرعش وبعد ما صرف عنها حط به الدهر إلى أن بقى منفرد إلا يملك من حطام الدنيا إلا ما عليه من الثياب وورد دمشق أقام بها مدة أخبرني من كان له وقوف على حاله أنه كان فاسد الرأى كثير الازراء بنفسه ومن عجيب أطواره أنه كان يلبس ثوبا من الليف البراسي سوى أكمامه فكان يصنعها من الكتان الرفيع الفاخر وكان له تاسومتان أحداهما عتيقة يلبسها في أغلب أوقاته وأخرى جيدة يصطحبها داخل كيس معلق في حزامة إذا أراد الدخول على أحد من الأعيان أحمد المقرى صحبة أكيدة فلما قدم المقرى دمشق كان لا يفارقه بسببه اتحد مع علماء دمشق منهم أحمد الشاهينى ولما رحل المقرى من دمشق أقام هو بها فتغير عليه الشاهينى ووقع بينه وبينه منافسات كثيرة فصنع فيه الشاهينى رسالة وبعث بها إلى المقرى وهي عجيبة في بابها فلذا أوردتها برمتها وهي يا مولاى وحياتك العزيزة عندي وشرف طبعك الذي استأثر بمجموع شكرى وحمدى أنني لم أنقم على هذا الرجل الملقب بصاحب السعادة إلا لما يدعيه من الحلاوه وإنما هو معدن الشقاوة والغباوه ولا رواء ولا طلاوه وإني كما قال أبو الطيب
ولا سلمت فوقك للثريا ... ولا سلمت فوقك للسماء
وبعد فلست أرضى للسيد أن يكون أبا إسحاق الذي جعله الشاعر ثالث القمرين ومعزز النيرين في قوله
ثلاثة تشرق الدنيا بهجتها ... شمس الضحى وأبو اسحاق والقمر
حتى يأتى هذا الحلفى الشقى المتلقف من الأفواه مما حفظناه ونسيناه فيدعى المساواة لمولاى ومولاه لا والله لا أسلم له دعواه حتى أراه نابذا وراء دنياه مستقبلا بوجهه أخراه معلقا بالعيوق يمناه وبالثريا يسراه وهيهات أن ينب المقعد إلى السموات وهل تستطيع اليد الشلاء أن تتناول عقد الجواز مع كمال التخلف والهوينا كما قلت
ومن العجائب جمة ... أن يدرك المسبوق شأو السابق
أعجوبة لكنها محجوبة حرية بالسؤال جديرة بالاحتفال قل ما هيه فإنما هي داهيه واستملها وابحث عنها حتى أتحفك بطرف منها ثم اعلم أنها حجيا بين الناس يحاجى بها عن شخص ممقوت في شكل النسسناس ورى النسبة والهيئة سخيف الذهاب والجيئة ما درى البخل طوسى النجار أشعبى الطبع سلمى الأخبار ساساني الانتساب في حمل الجراب واقتحام المحراب للرياء لا للثواب ذو طيلسان كطيلسان ابن حرب وشهرة طنانة لم يسبقه إليها إلا ابن وهب أحرص من النمل وألح من الخنفساء كأنه لما يتلون فيه من الملابس الخشنة في تشكله الحرباء غنى في صورة فقير متكبر وهو بين الناس حقير يدعى الكياسى وهو رقيع ويرفع نفسه الخسيسة وهو وضيع لا أوضع منه إلا اللوم ولا أقبح شكلا منه إلا البوم كأنه لحطيئة حين نظر المرآه فرأى من القبح ما ليس في غيره يراه فقال
أرى لي وجها قبح الله شكله ... فقبح من وجه وقبح حامله(1/235)
إلا أن الحطيئة شاعر وهذا من جملة الاباعر أو الفرزدق حيث يقول فيه جرير
لها برص بإحدى اسكتيها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا
غير أن الفرزدق نظام وهذا من جملة العوام بل الهوام أو جحظة البرمكى الذي يقول فيه ابن الرومى
نبئت حجظة يستعير حجوظه ... من قيل شطرنج ومن سرطان
وارحمنا لمنادميه تحملوا ... ألم العيون للذة الآذان
خلا أن منا دم هذا يجمع بين الألمين بين ألم الأذن وألم العين أو هو أبو زيد الذي قال فيه الصاحب
انظر إلى وجه أب يزيد ... أوحش من حبس ومن قيد
وحوشة تتع في ثوبه ... وظهره يركب للصيد
بيد أن أبا زيد أثبت له الصاحب صفة الصيد وهو لا يكون إلا لوزير أو لأمير ابن أمير وهذا الفاتك المتناسك كأنه حجام اوحائك أو هو عياش الذي قال فيه أبو تمام
أيامن أعرض العالم طرا عنه من بغضه ... ويا من بعضه يشهد بالبغض على بعضه
ويا أثقل خلق الله من ماش على أرضه ... ويا أقذر مخلوق تناهى الخلق في رفضه
ومن عاف مليك الم ... وت واستقذر من قبضه
وأقسم بالله أن قدر عياش ما بين الأوباش بالنسبة إلى هذا القلاش في المعاش كنسنية أبي تمام لبعض أراذل العوام وليس في نفس الأمر الازيد الذي وصفه عمرو فقال يا صاحب الشقاوه ومنبع الغباوه كم تدعى الحلاوة وقال ما هذه العلاوة والطرف ذو غشاوه وحظك العداوه وقال فيه
يا من به وبشكله ... لذوى البصائر تبصره
أخلاق ثوبك عبرة ... للعاقلين وتذكره
قومت ما فيه أتى ... بقمامة في مجزره
في كل مغر زابرة ... قاذورة أو مطهره
ما أنت الادمنة ... مكروهة مستقذره
وقال فيه
يا بحر جهل قد زخر ... بالحمق دهرا فافتخر
هلا تنسمت الذي ... في الثوب من فضل الحجر
ما للكنيف وائح ... فاحت بفيك من البخر
وقال فيه
يا ذا الذي قد جاءنا ... والشكل منه مزدرى
ما أن رأيتك مقبلا ... إلا تمنيت العمى
أصبح في الشام كأنه في العربية ابن هشام يتكلم بغبر احتشام فتارة يدعى أنه أفضل أهل المشرق وأحيانا أنه أفضل أهل المغرب وآونة أنه أكمل فضلاء مصر ورادفة أنه أجل أمراء العصر وهو خارج من الفريقين ودارج عن الطريقين
لا إلى هؤلاء أن طلبوه ... وجدوه ولا إلى هؤلاء
وربما يلهو بلحيته الوسواس الخناس فيزكى نفسه ويقول أنا أتقى الناس وربما لج به الغرور حتى فضل نفسه على الجمهور وإذا اتحكم به الطغيان صرح وقال من فلان وفلان وحين يقرب بزعمه من نفس الأمر جعل نفسه ثانيا لواحد الدهر وليس حظه من هذه الدعوى إلا البلوى والشكوى ولا فائدة ولا جدوى بل حظه منها الجدال والمرا ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره فيه ما لا يرى يزعم أنهم لقبوه صاحب السعادة ولا أدرى ما السعادة التي ينتمى إليها والرياسة التي يلوب ويتهالك عليها أن كانت أخروية فذلك الأمر لا يعرف كيف يكون وأن كانت دنيوية فالرجل لا محالة مجنون مفتون إذ ليس فيه أثر من آثارها ولا ذرة من غبارها فالويل له من هذه الدعوى الكاذبه والتنابز بالالقاب المخطئة الغير صائبه اللهم أنا نسأ تلك عقلا بعقلنا عن مثل تلك الحماقات ورشد ايمنعنا عن تلك الدعاوى الباطلات العاطلات
والدعاوى ما لم يقيموا عليها ... بينات أبناؤها أدعياء(1/236)
فلما وصلت إلى صاحب الترجمة أخبار هذه المقدمة لم يزل يتطلبها حتى وقف عليها وتحامق على حمقه وحنق وذهب بها إلى الشيخ المقرى وبكى وشكى من مؤلفها فأرسل مؤلفها يعرف الشيخ سبب تأليفها وانشائها وتصنيفها فكتب إليه يقول ولقد أجل سيدي عما سيعرض على عالي جنابه وأنزه من ذلك شريف سمعه وخطابه من هذا الوسواس المنافر والهذيان الوافي المتنافر والسخرية التي يحرس سمع الأديب عنها ويكلا والأعجوبة التي خبرها يسلى الحزين ويضحك الثكلى والمدح الذي يلوح القدح على صفحاته والهزل الذي يأخذ الجد بمخنق لهاته والشعر الذي ينفث السحر بين كلماته وفقراته والداعى إلى ائتلاف قوافيه وتضييع العمر فيه أن هذا الرجل الملقب نفسه بالضد وهو حليف الشقاوة من طريق الجد قد نصب حبائل الخداع في استجلاب ما عندنا من نفائس المتاع ولم يفرق بين عروض التجار وعروض الأشعار فجاءنا بوريقة فيها خطوط أخلاط لا يدركها ولا يفهمها بقراط مشوشة المبنى مختلفة المعنى يدعى أنها تدخل في سلك النظم لا تساغ مع الظكم ولا يعمل فيها الهضم إنما هي لقمة ذات عظم لا يؤثر فيها القضم فما رأيت قدرا أكثر منها اعظما ولا آكلا أكثر من كظما كما لم أر ناظما أقبح منه نظما ثم أنه أخذ يتقاضى الجواب ولا يمنعه الحجاب ولا يعوقه البواب ولا بروعه السباب فيقف بين يدي كأن له دينا على فيضغطنى ضغطة الغريم اللئيم للمدين الكريم حتى أردت أن أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم أمسكت اليراع وأنا ممتلئ بالصداع ونظمت هذه الأبيات والنشوة على شرف الفوات وما أنشأت هذا القريض حتى انحط طبعى للحضيض ثم لم يبرح من باب الدار حتى أمسكت بيدي الطومار فكتبت وشرخ البديهة عازب ونجم القريحة غارب ولولا ذلك لكانت كلها هجوا ولما كان بعض هجائها نجوى وها يه كما يراه السيد منها الردئ والجيد فقلت مرتجلا بديهة من غير توقف ولا تدبر
من رام يحوى في العلى مراده ... فليصحبن صاحب السعاده
مهذب الرأي الذي دنياه في ... يديه لا في قلبه معاده
ذو همة لو جئ بالعنقاء قد ... يقول هذي عندنا جراده
مقتصد عدوه الاسراف في ... أموره وخلقه الزهاده
وربما ير فل في ديباجه ... طورا طور الإبسا نجاده
ولو أتاه قس يوما حجه ... ولو غدا مستنصرا إياده
أو حاتم وافاه راح خجلا ... ولو بطى قد نوى استنجاده
يقول قس أين لي فضل فتى ... وأحرز خصل الفضل مع زياده
وحاتم يقول إني عاجز ... عن شأ ومولى غالب اضداده
عن الامام المقرى شيخنا ... رويت كلما رويت عاده
والمقرى عند أصحاب النهى ... خزيمة في موطن الشهاده
يحفظه الله الذي أفادني ... أفادة تغنى عن الاعاده
قد كثر الله معاليه كما ... قد كثر الله بها حساده
لله ما أسعد أوقاتي به ... وطبعه الموصوف بالاجاده
هو القريب للقريب جامع ... في زمن مشتت أفراده
قماءة وطول باع في العلى ... وزى فقر في الغنى استفاده
طول في كل المعاني باعه ... من اغتدى مقصرا نجاده
أحمد ذاك الكامل السامى الذي ... قد لقبوه صاحب السعاده
المغربي القيرواني الذي ... أشرب قلب شرقنا وداده
هي الخصال كلها غريبة ... جود وخرم ومعالي الساده
من الذكاء قلبه مشتعل ... أورى له الفضل به زناده
فبذله كفضله وجوده ... من طبعه وقوته العباده
يحتمل الكل عن الخل الذي ... أضافه ويكره استبعاده
مقتنع بكل ما يأتى به ... محسن للباذل اقتصاده
لا يأكل الطعام إلا مرة ... بحكمة من طبعه مفاده
وكلما ذكرت من أخلاقه ... مبين من رشد سداده(1/237)
وبعض ما أوردت من صفاته ... هو الذي مشد رقاده
لك الصفا لك الهنا لك المنا ... لك الرضا مع منتهى الاراده
أن جئتنا في يوم سعد زائرا ... يا من يرى الخل به أعياده
يا لهف نفسي كيف أبغى مدحة ... لفاضل لست أرى أنداده
أفيده مدحا له وهو الذي ... بذاته استغنى عن الافاده
أتحفنى منه بشعر شاعر ... ما مثله حاز أبو عباده
من لي بشعر حرت في نشيده ... حين سمعت في الملا انشاده
حسب ابن شاهين بأن قد جئته ... بمدحة كأنها لاده
من لؤلؤ وجوهر منضد ... يزين منها نظمها أجياده
فإن يجبك سيدي بمثل ما ... أهديته فمن علاك صاده
وأن يكن صاد النجوم مهديا ... إليك فهو عنده ما اعتاده
فلا برحت سيدى مرتقبا ... مراقى العزة والسياده
في مدة لافنيت بعارض ... وعمره محصل مراده
وكانت وفاة صاحب السعادة في سنة خمس وأربعين وألف بالمحلة الكبرى(1/238)
أحمد باشا المعروف بالحافظ احد وزراء الدولة العثمانية الكبراء وكان فاضلاً كاملا عارفا بالعربية والفارسية ويعرف علوم الأدب والعروض وكان متيقظا مدبرا حاذقا خدم في مبادئ أمره بدار السلطنة ولم يزل يترقى في المناصب حتى ولى كفالة دمشق ودخلها يوم الثنين حادى عشر شهر ربيع الثاني سنة ثمان عشرة وألف وساس الأمور في بداية أمره على النهج القويم إلا أنه لما طالت مدته تجبر وظلم الناس ظلما بلغ الغاية وملأ من الرعب قلوب أهل دمشق ولما مات الشيه محمد ابن سعد الدين تنازع في المشيخة أخوه سعد الدين وابن أخيه كمالالدين وكل منهما ذو أموال كثير وعقارات غزيرة فأخذ من كل واحد منهما أموالا لا تحصى ثم بعدما استصفى منهم الأموال أخذ بستانا عظيما يساوى خمسة آلاف ديبار من الشيخ سعد الدين حتى حاز على المشيخة وقطع آمال الشيخ كمال الدين وكتب الشيخ سعد الدين حجة بالبيع له وقبض الثمن منه وقد كان صاحب الترجمة ذا شهامة ومعرفة تامة بأحوال الحروب وتغريم الأموال فصادر جماعات في دمشق وأخذ منهم أموالا بغير حق وكان أرباب الدولة من مقربى السلطنة يبعدونه دائما عن السلطان لعلمهم أنه إذا قبر بوه سحر السلطان بسعة عقله وتمام فضله وكثرة حيله وقوة مكره ومن العجب أن مرسة انحلتن في دمشق فأم القاضي أن تعطى للشيخ زين الدين الاشعار في وكان أراد أن يستوطن دمشق وكان عالما وستأتى ترجمته وكان صاحب تآليف في علم العروض والحافظ طلبها لأجل أمام له وكان صالحا وكان يعرف بعض أشياء من العبادات على مذهب الحنفية فقيل للحافظ أن الشيخ زين الدين ثاني الخليل في علم العروض فسأله الحافظ عن تقطيع بيت فقدر الله أنه عجز وصار له كما صار للحريرى ثم أن الحافظ عن تقطيع بيت فقدر الله أنه عجز وصار له كما قتال الأمير فخر الدين بن مع وأمر كافل حلب وكافل ديار بكر وكافل طرابلس وأمراء الأكراد ونحو النصف من السباهينة وعساكر دمشق وعساكر حلب الجميع يكونون تبعا له فتوجه بنحو ثلاثين ألفا وحاصر ابن مع تسعة أشهر فلم يقدر أن يأخذ قلعة من القلاع ثم بعده أخرج رجلا من جماعته وقال لمن في القلاع أنا مالي عندكم غرض الوزير الأعظم له غرض فقولوا للأمير فخر الدين أن ينزل إلى خيامنا وعليه أمان الله ونأخذ دراهم للسلطان وللوزير ونقرره في أماكنه فقالوا الأمير ذهب في المراكب إلى بلاد الفرنج فلما تحقق ذلك رضى بنزول أم فخر الدين فقالت نحن ما ضبنا بلدا بغير أذن السلطان ولا انكسر عندنا مال فعند ذلك أعطت للسلطان مائة ألف فرش وللزير خمسين ألفا وللحافظ مثلها وانفصل الأمر على ذلك ثم تولى يوسف باشا بغداد وكان وزير اشهما فظلم وكان بكرا حد اجناد بغداد استطال على العسكر لكثرة اتباعه وأمواله فوقع بينه وبين الوزير المذكور وأراد الوزير قتله فحاصر بكر معونة أكثر عساكر بغداد قلعة بغداد وفيها الوزير فكان ينظر من أسوارها فضربت مكحلة من جانب عسكر بكر فأصابت الوزير فقتلته واستولى بكر على بغداد وجعل نفسه بيده حاكمها وبعض الأموال والعروض والمحاضر إلى دار السلطنة ليتولى على بغداد فما أجيب إلى ذلك ثم في خلال ذلك كتب الحافظ أبياتا بالتركية تتضمن الخطاب للسلطان أحمد أنه ما بقى عنكم عسكر ولا رجال ولا أموال حتى تيعنوا سردارا على بغداد وكان مراده التوصل إلى الوزارة العطمى وكان عنده مملوك جميل اسمه دلاى ورفبعث إليه السلطان صيدة تركية يقول له فيها ما بقى عندك دولار بمعان متعددة ثم بعد ذلك جعله السلطان سردارا على بغداد وأمر عدة أمراء أن يكونوا تبعا له وجميع الأكراد لكن ما جعله وزيرا أعظم فلما سمع ذلك بكر كتب لشاه عباس مكتوبا يقول له أسلمك بغداد بشرط أن تكون الخطبة والسكة باسمك فقط فرضى الشاه بذلك فقيل له أنت سنى وهذا شيعى كيف تحكم الشيعة في السنية فقال أنا أكذب على الشاه إذا رجع الحافظ لا أطمع بنى عثمان ولا الشاه فجاء الحافظ وحاصر بغداد وقدر الله تعالى أن بغداد كانت في غاية لقحط فتحمل بكر المضض واستمر الحافظ على المحاصرة حتى البكراني جعلتك حاكم إلى ديار بكر وحاصر الشاه بغداد فضاقت المعيشة بعساكر بغداد ووصلوا إلى أنهم كانوا يأكلون الآدميين وكان بكر جعل على كل باب ببغداد رجلا من أكابر أقاربه وسلم القلعة لابنه محمد علي فلما رأى محمد على أن الأمور صائرة إلى الهلاك سمح بهلاك والده(1/239)
لنجاة نفسه فبعث للشاه ورقة التسليم وأدخل ليلا للقلعة عساكر الشاه ولما كان وقت الصباح إذا بطبول الشاه تضرب في القلعة فانقطعت قلوب أهل السنة من الخوف وامتلأت قلوب الشيعة من الفرح والسرور فدخل الشاه صباحا وقتل بكرا شر قتلة ووضع أخا بكر عمر في السفينة وألقى فيها النفظ والقطران والنار وأحضر المنلا على وكان سنيا حنفيا شيخا كبيرا فأحضره إليه وقال له العن الشيخين فقاليا شاه أنا عشت هذا العمر ما بقي لي غرض في الحياة لعنة الله على من يلعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الشاه السيف بيده وضربه ضربا متواليا حتى قتل شهبدا سعبدا ثم نادى بقاضى بغداد الذي ولاه السلطان مراد وطلب منه أن يسعى بينه وبين السلطان مراد في أن يولى ابن الشاه بغداد وتكون السكة والخطبة باسم السلطان مراد ويرسل ابنه في كل سنة خمسين ألف قرش فوعده القاضى بالخير فقال له خواصه أن القاضي بضرك عند السلطان ويحسن له أخذ بغداد قال صدقتم وقتله ثم قتل السيد محمد نائب المحكمة والخطيب العظيم في بغداد وكانت امرأة فسخت نكاحها عن زوجها بسبب تعذر النفقة كما هو مذهب السادة الشافعية وعند الشيعة لا يجوز الفسخ وكان السيد محمد في المنبر يبالغ في الدعاء على الشاه وفي لعنه فقال له أسمعنا تلك الخطبة البليغة فقال له لا ولكني أسمعك مولد النبي صلى الله عليه وسلم فقال له كيف تزوج امرأة زوجها حي قال فسخ عنها على قاعدة مذهب الشافعي فلعن الشافعي ولهن بقية الائمة الأربعة وضرب السيد محمد بكلاب أخرجه من لسانه وصلبه وحكى الشيخ عثمان الخياط البغدادي أنه رفس برجله صندوق الشيخ عبد القادر وألقى عمامته عن الصندوق وسمر بابه واتخذ تكيته اصطبلا للخيل والجمال وفعل بقبر الامام أبي حنيفة أكثر من ذلك فقال له السيد دراح وكان نقيب الاشراف ببغداد الشيخ عبد القادر شريف فلم تهينه فقال جماعة من اتباع الشاه ليس بشريف وقال له رجل نزل بباب الأزج أجهل للشيخ اهانة عظيمة يهلك بها أهل السنة وهي أن أسد جميع المراحيض في باب أوج وأسد باب مزار الشيخ عبد القادر وأفتح من القبة طاقة على قبر الشيخ فجميع من كان مراده أن يبول ويتغوط تنزل فضلاته على قبر الشيخ فقال خوب خوب وباتوا تلك الليلة وأخذ في سد الأبواب م الغد فقيل المغرب أخذ خادمه يفتش له على عرق ايكر فقيل له لماذا قال أصابه قولنج ثم مات سريعا فعلم الشاه أن الشيخ عبد القادر صاحب أحوال وأهان جميع أهل السنة وحكى أن البغداديين الشيعة كانوا إذا وقفوا يقرؤن الفاتحة عند قبر الشيخ عبد القادر أو قبر أبي حنيفة يقولون يا عار يا عار يا أنجس من الفار أن كان الله حرمك من الجنة لا يحرمك من النار وبدل الجمعة بخطيب يصعد إلى المنبر ويذكر أئمة البيت الاثنى عشر ويلعن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم ويلعن الائمة الاربعة والعلماء الموجودين في الأحياء وينزل ويصلون فرادى وينتظرون خروج المهدي ويؤذنون ويقولون بعد الحيلتين حي على خير العمل محمد وعلى خير البشر وضبط الشاه جميع أموال عساكر بنى عثمان وأموال المنسوبين إليهم ثم بعد ذلك عين السلطان جركس محمد باشا سر دارا على الشاه بعد ما يقاتل أبازه محمد باشا ولما ورد إلى توقات فقاتل أبازه وانكسر وتفرقت العساكر وكان جركس محمد باشا ولما ورد إلى توقات فقاتل أبازه وانكسر وتفرقت العساكر وكان جركس محمد باشا يقعد في خيمته ويتهجد ويدعو الله أن لا يظلم أحد ولا يكسر خاطر أحد أصلا فأدركه الموت وخلصه الله من هذه المشاق فاجتمع رأى أرباب الدولة أن يجعلوا الحافظ وزيرا أعظم فتوجه لكن اغتر بعزمه فكان يقول للعساكر مفاتيح بغداد بيدى وسببه أن ضابط بغداد بعث إليه أن يسلمه بمجرد وصوله إليها بشرط أن يعطيه منصبا جليلا وأنا ما أقدر أسلم ما لم تحضر فإني أخاف من عسكر الشاه أن يقتلوني فلما وصل الحافظ بالعسكر العظيم إلى خارج بغداد أرسل جماعة الشاه المكاحل وهم يصرخون ويقولون بالتركية خذ هذه مفاتيح بغداد فعلم أنهم أرادوا الخداع والمكر حتى لا يتدراك مهمات الحصار واتخذوا لقومات عديدة فما أفادت شيئا سوى لقم واحد اصطنعه ضابط الجند خسرو باشا ففتح جانبا عظيما ولكن العسكر لم يهجموا كلهم عليه فإن من عادة أكابر العسكر أنهم يريدون تدبير بعضهم بعضا فحينئذ أقدم عساكر بغداد حتى سدوا اللقم فكان خسرو باشا(1/240)
يبكى وينتف لحيته من قهره وكان الشاه نزل بالقرب من بغداد نحو ثلاثة أيام حتى تسمع عساكره في بغداد بخبره فتقوى قلوبهم وتضعف قلوب عساكر السلطان وكان مراد باشا الارنبوى كافل حلب يقبح صنيع الحافظ ويسبه ويقول لاى شئ لا يرسل عساكر من عنده وكان هو معه عساكر كثيرة وجاء إلى الحافظ وقال له أعطنى اجازة حتى أتوجه إلى الشاه وأقتل جماعته وربما قبضت عليه فيقول له الحافظ مراد باشا لا نفرق عسكرنا وتضعفهم فيهجم عساكر بغداد علينا ويقتلونا ومراد باشا يصمم على قتال الشاه فقال له الحافظ أن فعلت فأنت تعلم فجمع مراد باشا نحو أربعة آلاف وكبس الشاه فتحاربوا شيئاً قليلا ثم رجع مراد باشا مكسورا فقال له الحافظ عرفت أن قول الشيوخ أصوب من رأى الشبان وضاق الأمر على عساكر الحافظ ووقع الغلاء فيهم وهرب غالبهم ثم بعد ذلك اجتمع العسكر ورجموا الحافظ وطلبوا منه أن يقوم بالعساكر عن الحصار ويرجعوا إلى أوطانهم فقال اصبر على أسبوعا فصبروا أسبوعين ثم جاؤا فلم يزل يوادعهم حتى اجتمعوا عليه ووضعوا في عنقه محرمة وجذبوه حتى قام من مكانه وشرع في الرحيل وكان عنده بعض مكاحل دفنها في الارض ولم يعلم بذلك أحد الاشرذمة قليلة فجرد المكاحل فتبعهم الشاه وأراد العسكر أن يعجلوا في الرجوع فنادى كل من فارق الوزير وخرج عن خيامه تخرج عنه علوفته فتبعهم الشاه مرحلة مرحلة وأراد الهجوم عليهم فلم يبالوا بهن وجمعهم الحافظ وتوجه إلى الشاه وقاتله حتى رجع الشاه من خوفه وبعد يومين أحضر إليه مراد باشا وقال له أم لأقل لك لا تركب حتى كسرت العساكر وأظهرت الصيت القبيح لنا وقتله في الحال بين خيامه وأرسل جثته إلى جماعته وجاء الحافظ إلى حلب فبعث الهدايا والتحف إلى السلطان وجماعته واسترضى السلطان وجماعته حتى لا يقتل لكنه عزل ونزل بقسطنطينية خائفا مختفيا وتولى الوزارة بعده خليل باشا وبعده خسر وباشا ثم تولاها الحافظ صاحب الترجمة ثانيا وكان للعساكر الطغيان العظيم فاجتمع عليه العساكر وقتلوه وكان السلطان خيره بين أن يقتله هو بنفسه ويبعث برأسه إليهم ليطفى نار غضبهم وبين أن يمكن العساكر منه فقال الأولى أن تسلمني للعساكر ولا تتقلد دمى ليبقى الاثم في عنق العسكر ويكون لي في القيامة المطالبة الكبرى وكان قتله في شهر رمضان سنة إحدى وأربعين وألف رحمه الله تعالىتف لحيته من قهره وكان الشاه نزل بالقرب من بغداد نحو ثلاثة أيام حتى تسمع عساكره في بغداد بخبره فتقوى قلوبهم وتضعف قلوب عساكر السلطان وكان مراد باشا الارنبوى كافل حلب يقبح صنيع الحافظ ويسبه ويقول لاى شئ لا يرسل عساكر من عنده وكان هو معه عساكر كثيرة وجاء إلى الحافظ وقال له أعطنى اجازة حتى أتوجه إلى الشاه وأقتل جماعته وربما قبضت عليه فيقول له الحافظ مراد باشا لا نفرق عسكرنا وتضعفهم فيهجم عساكر بغداد علينا ويقتلونا ومراد باشا يصمم على قتال الشاه فقال له الحافظ أن فعلت فأنت تعلم فجمع مراد باشا نحو أربعة آلاف وكبس الشاه فتحاربوا شيئاً قليلا ثم رجع مراد باشا مكسورا فقال له الحافظ عرفت أن قول الشيوخ أصوب من رأى الشبان وضاق الأمر على عساكر الحافظ ووقع الغلاء فيهم وهرب غالبهم ثم بعد ذلك اجتمع العسكر ورجموا الحافظ وطلبوا منه أن يقوم بالعساكر عن الحصار ويرجعوا إلى أوطانهم فقال اصبر على أسبوعا فصبروا أسبوعين ثم جاؤا فلم يزل يوادعهم حتى اجتمعوا عليه ووضعوا في عنقه محرمة وجذبوه حتى قام من مكانه وشرع في الرحيل وكان عنده بعض مكاحل دفنها في الارض ولم يعلم بذلك أحد الاشرذمة قليلة فجرد المكاحل فتبعهم الشاه وأراد العسكر أن يعجلوا في الرجوع فنادى كل من فارق الوزير وخرج عن خيامه تخرج عنه علوفته فتبعهم الشاه مرحلة مرحلة وأراد الهجوم عليهم فلم يبالوا بهن وجمعهم الحافظ وتوجه إلى الشاه وقاتله حتى رجع الشاه من خوفه وبعد يومين أحضر إليه مراد باشا وقال له أم لأقل لك لا تركب حتى كسرت العساكر وأظهرت الصيت القبيح لنا وقتله في الحال بين خيامه وأرسل جثته إلى جماعته وجاء الحافظ إلى حلب فبعث الهدايا والتحف إلى السلطان وجماعته واسترضى السلطان وجماعته حتى لا يقتل لكنه عزل ونزل بقسطنطينية خائفا مختفيا وتولى الوزارة بعده خليل باشا وبعده خسر وباشا ثم تولاها الحافظ صاحب الترجمة ثانيا وكان للعساكر الطغيان العظيم فاجتمع عليه العساكر وقتلوه وكان السلطان خيره بين أن يقتله هو بنفسه ويبعث برأسه إليهم ليطفى نار غضبهم وبين أن يمكن العساكر منه فقال الأولى أن تسلمني للعساكر ولا تتقلد دمى ليبقى الاثم في عنق العسكر ويكون لي في القيامة المطالبة الكبرى وكان قتله في شهر رمضان سنة إحدى وأربعين وألف رحمه الله تعالى(1/241)
أحمد باشا الوزير الكبير المعروف بكوجك أحمد الارنودى أحد الوزراء المشهورين بالشجاعة وشدة البأس وحسن التدبير وكان عارفا بأحوال الحروب له طالع سعيد ورأى سديد وكان في مبدأ أمره خامل الذكر ثم نهض به الحظ حتى صار بكر بكيار وتولى حكومة سيواس ثم ورد دمشق حاكما بها أولا في سنة تسع وثلاثين وألف وبعد ما عزل عنها ولى حكومة كوتاهيه فنجم في بلاد الروم الياس باشا وأظهر العقوق للدولة العثمانية فعين السلطان مراد صاحب الترجمة لمحاربته مع جملة من العساكر فسار إليه وقابله وفتك به فتكة بالغة وأسره وغنم منه غنائم ثم كثيرة وعاد به إلى الأبواب العالية فأكرمه السلطان لذلك وفوض إليه ثانيا كفالة دمشق وكان ذلك في سنة اثنتين وأربعين وألف وخلع عليه خلعة الوزارة وعينه لمقاتلة الأمير فخر الدين بن معن وقد كان خرج عن طاعة السلطنة وجاوز الحد في الطغيان وأخذ كثيرا من القلاع من ضواحي دمشق وتصرف في ثلاثين حصنا وجمع من طائفة السطبان جمعا عظيما وبالجملة فقد بلغ مبلغا لم يبق وراءه الا دعوى السلطنة وكان في ابتداء أمره تعين لمقاتلته الحافظ المار ذكره فلم يقابله وهرب إلى بلاد الفرنج كما سلف الإيماء إليه ولما عاد أفرط فيما كان يرتكبه إلى أن تعين له صاحب الترجمة وأمر كافل حلب نوالى باشا وجميع أمراء أطراف الشام كطرابلس وغزة والقدس ونابلس واللجون وعجلون وحمص وحماه أن يونوا تبيعا له وهو رئيسهم فبعد قدومه إلى دمشق جمع أعيان العلماء وكبراء العسكر وقرأ عليهم الأوامر السلطانية فقابلوها بالطاعة وبادروا إلى مهمات تدارك السفر وأخذت أمراء الاطراف يردون واحدت بعد واحد إلى أن قدم نائب حلب فبرز بمن معه من العسكر في ثاني عشر صفر سنة ثلاث وأربعين وقد كان جدد المحمل الشريف فأطلعه أمامه وأقام بالقرب من قرية الكسوة بأول الجسور أياما قليلة إلى أن تكامل جمع الجموع ورحل إلى قره خان ثم عين شرذمة من العسكر لمنازلة بنى الشهاب الذين يسكنون وادى تيم الله بن ثعلبة وهم منبه الشقاوة فسار كتخداه ومعه بعض الامراء إلى جانب حاصبيا وريشيا فاتفق من ألطاف الله أن الأمير على بن فخر الدين بن معن أمير صفد كن متوجها لناحية والده لمساعدته فالتقى العسكران عند صلاة الصبح فانقضت فرقة العسكر السلطاني انقضاض النسور على أضعف الطيور فمزقوهم بددا وفرشوا الفضا بحثث القتلى ولم يعلم أحد أن الأمير على بينهم ولو علموا لما ثبت أحد لكبر صيته وكان من الاتفاق العجيب أن بغض الشجعان صادفه فطعنه برمح رماه عن جواده وما عرفه فأتاه رجل من الجند وكان خدم الامير على مبدئه فنزل إليه ليحرز رأسه فعرفه الأمير على فقال له خلصني ولك على من المال ما تريد فقال إليه ليحزر رأسه فعرفه الامير على فقال له خلصني ولك على من المال ما تريد فقال له أن بقاءك بعد هذه الجراح محال ثم قطع رأسه وأتى إلى مخيم الوزير فدخل عليه وهو نائم فنبه خدمه الموكلون به ولما أفاق قبل يديه ووضع الرأس قدامه وقال له هذا رأس رئيس القوم فلم يصدقه حتى جاء من عرفه وحقق له الامر فضربت البشائر وكان العسكر الذين تلاقوا مع عسكر الامير على انتصروا وغتموا غنيمة عظيمة وقتلوا وأسروا ولم ينج من أيديهم الاشرذمة قليلة وأرسل أحمد باشا رأس الأمير على إلى دمشق في جملة من الرؤس وأدخلوهم مشرعين على رؤس الرماح وجهزوهم بعد أيام إلى الأبواب السلطانية ثم أن أحمد باشا سار إلى البقاع العزيزى وافتتح قلعة قبر إلياس وتوجه إلى جانب صيدا وأقام بها مدة شهر والاخبار عن الامير فخر الدين مختلفى فمنهم من يقول أنه في قلعة ينحا ومنهم من يقول أنه في قلعة جزين وكان الوزير الاعظم محمد باشا في حلب فاستدعى أحمد باشا فسار بخواص اتباعه وأبقى جميع العسكر بمدينة صيدا واجتمع به في حلب وعاد بالسرعة وكان تحقق أن فخر الدين في قلعة جزين أخذ يحاصرها ولما رأى فخر الدين أنه مأخوذ خرج من القلعة وأتى طائعا إلى أحمد باشا فقبض عليه وأتى به إلى دمشق ودخل بموكل حافل وفخر الدين خلفه مقيد على فرس وكثر دعاء الناس له ومدحه شعراء دمشق بالقصائد الطنانة وأكثروا من التواريخ ومن جملة من مدجه الامير المنجكى فإنه مدحه الابيات وهي
أن الوزير أدام الله دولته ... أخباره سير في الناس تنتقل(1/242)
إذ طهر الأرض من كفر الدروز ومن ... شر البغاة التي من دونها الاجل
وجاءنا بابن معن بعد ما قطعت ... صم الصخور عليه وهو معتزل
لم تغن عنه الحصون البيض إذ طلعت ... سوء الرزايا عليه اليوم والقلل
ولا الدلاص ولا ذاك الرصاص ولا ... تلك الجياد دولا العسالة الذبل
ولا من لعرب من كانت جرائره ... تأتى عليهم ولا الكتاب والرسل
أطفاله لهم من حوله زجل ... كأنهم قتلوا من غير ما قتلوا
كم بات يحسب في التقويم مفتكرا ... في نجمه فرآه أنه زحل
من راح يطلبه التقدير ليس له ... بحر يقيه ولا بر ولا جبل
هذى عواقب من يطغى وحرفته ... في قومه وبنيه المكر والحيل
ثم أرسله أحمد باشا مع من وكله به إلى مقر السلطنة فبعد وصوله أمر السلطان بقتله وسيأتي خبره مفصلا في ترجمته في حرف الفاء ولما تم الامر على هذا المنوال رجع صاحب الترجمة إلى بلاد فحر الدين لضبط ماله من الاموال والامتعة فنازل قلعة فيحة وتسلمها واستدعى قاضى القضاة بالشام وعلماءها وأعيانها فتوجهوا إليه وحضروا الضبط ولم يظهر من النقود إلا شئ يسير وأما الاملاك والعقارات والامتعة وحلى النساء وأواني الذهب والفضة وآلات الحرب فقد ظهر منها شئ وافر وكتب بذلك حجة وعاد صاحب الترجمة إلى دمشق وأقام بها مدة وكان عمر بدمشق تكية خارج باب الله بالقرب من قرية القدم ووقف عليها قرى من ضواحى صيدا وبعلبك وكان أملا كالفخر الدين وألحق بذلك ستين جزأ بالجامع الأموي وتعيينات لأهالي الحرمين وبنى سبيلا بالقرب من عمارته عظيم النفع وقيل في تاريخه
أنشا الوزير للوفود منهلا ... لوجه مولاه إذا في غدا
وأنشد الوارد في تاريخه ... هذا السبيل الا حمدى قد بدا
ثم طلبه السلطان مراد إلى محاربة العجم في قلعة روان وعزل عن حكومة دمشق ثم أعيد إليها قريبا وأمر بمحافظة الموصل وعين معه عسكر الشام فحافظوا مدة ومرض في أثناء المحافظة وأراد المقاومة لشاه العجم عباس شاه فما ساعده القدر فقتل وأسر غالب من معه من العساكر وأرسل رأسه إلى دمشق فدفن في تكيته المذكورة وكان قتله في ربيع الثاني سنة ست وأربعين وألف رحمه الله الشيخ أحمد باعنتر اليمنى الحضرمى نزيل الطائف كان من كبار العلماء قال الشلى في ترجمته ولد بحضرموت في سنة ثمان عشرة وألف وطلب العلم بها وهو صغير ثم ارتحل إلى مكة وأقام بها سنين وأخذ عن جمع منهم الشيخ عبد الله الجبرتي ومحمد الطائفي والشيخ عبد الله باقشير والشيخ على بن الجمال والشمس محمد البابلي والشيخ عيسى بن محمد الجعفري المغربي وأخذ عن الصفى القشاشى وتلقن منه الذكر ولبس منه الخرقة ومن الشيخ محمد با علوى والسيد عبد الرحمن المغربي وأخذ عن الشيخ مهنا بن عوض با مزروع وزار النبي صلى الله عليه وسلم مرار كثير ثم تدير الطائف وجلس للتدريس وانتفع به خلق كثير في فنون عديدة واعتقده أهل تلك الجهة لحسن سيرته وكان يغلب على أهل تلك البلاد عدم الاستقامة فلم يزل يرشدهم إلى الشريعة حتى اهتدى منهم خلائق ولم يكن بين اثنين مخاصمة ووصلوا إليه إلا أصلح ما بينهم ويرضى كل بصلحه وكان أول أمره يعلم القرآن وكان فقيرا زاهد قانعا ثم اتسع في آخر عمره وكان يحج في كل سنة ويقيم بمكة إلى آخر المحرم ويزور النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا من السنين وكانت وفاته يوم الجمعة تاسع سنة إحدى وتسعين وألف بالطائف وحضر جنازته أكثر أهل البلد وعطلوا الصنائع والتجارة وتعب الناس لفقد رحمه الله تعالى(1/243)
الشيخ اخلاص الخلوتي الشيخ العارف بالله نزيل حلب كان مسلكا ومرشدا حسن الخلق وهو في المقام اليونسي يقرب مريدوه من مائة ألف أو يزيدون وذكره العرضى الصغير ووصفه بصفات كثيرة ثم قال كان في ابتداء أمره خادما لبعض أرباب الدول فلازم اعتاب أستاذه الشيخ قايا خليفة الشيخ شاه ولى وأقبل على الرياضة وكسر النفس وتهذيب الأخلاق وقمع الشهوات والمنع من اللذات والدخول في الخلوات أسوة غيره من المريدين حتى دنت وفاة الشيخ قايا فامتدت أعناق المريدين إلى الخلافة فاختار اخلاصا مع أن لهابنا صالحا فاضلاً يقال له الشيخ حمزة لكن من عادة هذه الفرقة من الخلوتية أنهم لا ينصبون خليفة إلا الاجنبي كما أن الفرقة الأخرى من الخلوتية اتباع جدنا لوالدتنا أحمد القصيرى لا يختارون إلا ابنهم أو أخاهم أواحد أقاربهم ودليل الأولى اختيار النبي صلى الله عليه وسلم الصديق للخلافة مع كونه أجنبيا مع وجود العباس عمه وابن عمه على بن أبي طالب ودليل الثانية طمأنينة قلوب المريدين للأقارب وعدم احتقارهم ولئلا ينفطع الخير عن ذريته وقد اتخذ له الوزير الاعظم محمد باشا الارنو دزاوية صرف عليها مالا جزيلا ووقف عليها وقفا عظيما يحصل منه في اليوم ثلاثة قروش وطعن فيه بعض الناس أنها من مال العرواض ولكن قال بعضهم أن الوزير اقترض من رئيس الدفتر بين مالا جزيلا لأجل مهمات السفر وحصل الإيفاء من مال العوارض وما أظن الكلامين صحيحين وحكى لنا الشيخ عبد العزيز بن الأطرش وهو ناشد حلقه ذكره أنا كنا مع الشيخ بناحية بيرة الفراة وكان معى رجل يقال له الحاج حسين والله أعلم قال ذهبت معه إلى ماء هناك للإغتسال فنزل المذكور إلى النهر فرآه عميقا ولا قدرة له على السباحة فيه فغط وأخرج رأسه وصرخ إني هلكت وغط الثانية وأخرج رأسه لا يستطيع الكلام وأنا عاجز عن السباحة وما عندي أحد وثيابه بالقرب منى فهربت خوفا من الحكام وجئت إلى الشيخ فقال لي أين الحاج حسين فقلت له يا سيدي لا أدري فكرر الكلام ثانيا وثالثا وقال أين هو فقلت والله يا سيدي لا أعلم قال يا مجنون الشيخ الذي لا يحمى مريده لا يكون شيخا وبعد زمان طويل وإذا بالحاج حسين محمول انتفخ من الماء وفيه روح فعلقوه وجعلوا رأسه تحت وأقدامه فوق حتى نزل الماء من فيه وحصل له الشفاء فسألته قال كنت قطعت بالموت فرأيت يدا تدافعني إلى الساحل حتى خرجت سالما هكذا أخبر والعهدة عليه وله في كل سنة أيام الشتاء خلوة عامة يجتمع إليها المريدون فيصومون ثلاثة أيام ويأكلون عند المساء مقدار أوقيتين من الحريرة ورغيفا من الخبز أكثر من أوقية ولا يشربون الماء القراح بل يشربون القهوة ويستمرون في الذكر والعبادة آناء الليل وأطراف النهار وأما باقي الأيام فيقومون سحرا ويتهجدون على قدر طاقتهم ثم يأخذون في الذكر إلى وقت الاسفار ثم يصلون الصبح لكون الشيخ حنفيا ويقرؤن الاوراد إلى ارتفاع الشمس ويصلون الاشراق وهكذا يفعلون العبادات في أوقات الصلوات المفروضات وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وألف وبلغ من العمر إحى وسبعين سنة الشريف إدريس بن الحسن بن أبينمى وتمام النسب تقدم في ترجمة أخيه الشريف أبي طالب صاحب مكة وكان من أجل الناس من سراة الاشراف شهما تهابه الملوك والاشراف شجاعا حسن الأخلاق ذا تودد وسكينة وكان يكنى أبا عون ولد في سنة أربع وسبعين وتسعمائة وأمه هنا بنت أحمد بن خميصة بن محمد بن بركات بن أبي نمى وكان له من العبيد المولدين والرقيق الجلب ما يزيد على أربعمائة ومن المقاديم من العرب جماعة ولى مكى بعد أخيه أبي طالب في سنة إحدى عشرة وألف وأشرك معه أخاه السيد فهيد ثم خلعه في واقعة ذكرتها في ترجمته ثم أشرك معه أخيه الشريف محسن بن الحسين بن الحسن باتفاق من أكابر الاشراف وتمكن من السطوة والعزة ووفد إليه ومدح كثيرا ومن أجود مامدح به قصيدة حسين بن أحمد الجزرى الحلبي وهي من أرق الشعر وأسوغه ومطلعها قوله
أألزم قلبي فيك حبك والصبرا ... سألت مجيبا لو ملكت له أمرا
وما الحب من يبقى على الصب لبه ... ولا القلب من يبقى ويحتمل الهجرا
وليس التماس العين من سهد ليلها ... بأمنع منها منك أن لم تكن سكرى(1/244)
طوى أن أطل شرحاً له قلت هو هوا ... ويكفيك ذكر النار عن فعلها ذكرا
وموقف بين لانذيع وداعه ... ولم ند الالحاظ الايه شزرا
أحم على العنين من وجه لائم ... وأثقل في الاسماع من ذكره وقرا
نموه في تسليمنا بأنا مل ... عليك فتنضى البيض أو تهزز السمرا
ومن لي بكتم بين واش وحاسد ... لسرك والأجفان توضحه جهرا
فراق تراق النفس فيه مدامعا ... وشاهد قولى أنها قطرت حمرا
ويوم يؤم المرء فيه حتوفه ... وإلا فما بال الوجوه ترى صفرا
ودهر إذا استعفيته عن مظالمي ... كأني سألت الضب أن يسلك البحرا
أصاحب فيه الليل والبيد والسرى ... وأفقد منه الانس وإلا من والفجرا
وما طال لإ ليل من طال همه ... ولا زاد إلا هم من زاده فكرا
وحسبك من ليل إذا رمت حده ... فأطول يوم البين أقصره عمرا
أكلف مهرى فيه كل تنوفة ... كما كلف المضطر في حاجة عمرا
ليلحق بي السلطان إدريس هاشم ... ويركب هول البحر من طلب الدرا
فتى يهب العافين ما دون مجده ... ولو كان يعطى سره بذل السرا
إذا ما سألت القطر ثم سألته ... توهمت ان القطر يسألك القطرا
ولا عيب فيه غير أن نواله ... على سعة الآفاق يستعبد الحرا
ومن جملتها
من القوم أثنى الله في الذكر عنهم ... وطهرهم من رجس دنياهم طهرا
فما غاية المثنى عليهم بشعره ... ولو نطم الشعرى العبور بهم شعرا
وما جهد من يبغى اللحاق لشأوهم ... ولو ركب النكباء في سيرهم شهرا
ومفترع العلياء بكرا وليس من ... يحاور عينا مثل من وطئ البكرا
وما زادت الآفاق لإلا بهم سنا ... وما دلت الاعناق إلا لهم قسرا
ومنها
ومن كان نجلا للنبي محمد ... فقد فاز في الدنيا مقاما وفي الأخرى
فدم ملكا كلتا يديه لتا منى ... فنأمن باليمنى ونوسر باليسرى
مفدى بقيل بعد قيل وما أنا ... بمنيرتضى زيدا فدالك أو عمرا
ومدحه الحسن البورينى لما حد سنة إحدى وعشرين وألف بقصيدة يقول فيها من المديح
مولاى يا ماجد ألم يحكه أحد ... ولوسعى جهده في سالف الأمم
لا بدع أن فقت كل الناس قاطبة ... فأنت من نسل خير الخلق كلهم
قصدت ساحة جود في منازلكم ... لم أستلمها ولا قبلتها بفمى
ولا وردت إلى شرب تروقه ... منك البشاشة والقلب المشوق ظمى
وليكم أنا والأيام تشهد لي ... بالصدق من قبل أن أصبحت ذا حلم
أرجو بكم شربة قد راق منهلها ... والحر يركض في أحشاء محترم
وللشاهينى فيه قصيدة طويلة مطلعها
يا ربع صبرى عاد فيك دريسا ... وهواى أمسى في هواك حبيسا
ورأيت له ترجمة في أنوذج السيد محمد العرضى الحلبي فقال في وصفه سلطان الأكياس ومن سيرته سيرة ابن سيد الناس ذو الطلعة الغرا وزهرة فاطمة الزهرا ذو الجبين المستنير بالعرفان إذا غدا غيره جهولا مقنعا بطيلان الذل الهوان ما جد حتبى بنطاق المجد كما احتبى بالسحائب ثهلان وجواد أقسم جوده بيوم الغدير والنهر وإن قأقسم برب البدن تدمى منها النحو رانه الوارث منه وقفة الحجيج والوفاده وسقايتهم والرفاده وشهوده على ذلك منى والمخيف وصم الصفا والمعرف كما قال الشريف الرضى
له وقفات بالحجيج شهودها ... إلى عقب الدنيا منى والمخيف
ومن مأثرات غيرها هاتيك لم تزل ... له عنق عال على الناس مشرف(1/245)
سار المذكور في أهل الحجاز بسيرة جده من غير أن يغمد فيهم سيف حده ومما أنشدت له من شعر الملوك المحمود وإن قيل شعر الهاشمي لا يجود قوله في الاعتذار عن خضاب الشيب بالشباب الملبس المعاد ولتسربل على موت الصبا بثياب الحداد
قالوا خضبت الشيب قلت لهم نعم ... ما إن طعمت بذاك في رد الصبا
لكن عقل الشيب ما أحرزته ... فخشيت أن أدعى جهولا لا أشيبا
واستمر الشريف محسن مشاركاً له صدق الكلمة والنصح والمساعدة في الأحوال المهمة ونافره بنو أخيه عبد المطلب بن حسن لأمر فقام الشريف محسن في موافقتهم له فتم ذلك ودخلوا في الطاعة وطابت نفوسهم وتوغل الشريف ادريس والشريف محسن في الشرق ووصلا بالفريق إلى قرب الإحسا واجتمعا بهم هناك ثم دخلا الأحبا وضربت خيامهم قبالة الباب القبلى من سور الحسا وأكرمهما صاحبها على باشا وأقاما نحو ثمانية أيام ولم يتفق لأحد من أشراف مكة المتولين من من القتاديين دخول الاحسا كما اتفق لهذين الشريفين ثم وقع بين الشريفين ادريس ومحسن تنافر بسب خدام الشريف ادريس وتجاوزهم في التعدى وعمت البلوى بما يصدر عنهم من الأمور المشتملة على التلبيس خصوصا من زيره أحمد بن يونس المقدم ذكره وكان الشريف ادريس متغافلا عما يصنعوه ولم يلق سمعه إلى ما ينهى من فعلهم إليه لا ينصف أحدا من شكايتهم وراجعه الشريف محسن في شأنهم مرار وردد القول فكانت الشكوى إلى غير منصف فرأى الشريف محسن وخامة عواقب الحال فعند ذلك اجتمع أهل الحل والعقد من بنى عمه من السادة الاشراف والعلماء والفقهاء والأعيان فرفعوا الشريف ادريس عن ولاية الحجاز وفوضوا الأمر إلى الشريف محسن رأيت في بعض التعاليق ما نصه في يوم الأربعاء ثالث المحرم سنة أربع وثلاثين وألف أشيع بمكة أن السادة الاشراف نيتهم اقامة الشريف محسن مستقلا بالأمر فحصل اضطراب عظيم في البلد وحركة عظيمة وقسمت آلات الحرب من الجانبين فلما كان يوم الخميس ألس كل منهما لمن معه من العساكر والجنود وقف كل منهما عند باب داره فبرز من جماعة الشريف محسن شرذمة من جانب عقد السيد بشير بنية عقد النداء في البلد للشريف محسن استقلالا فقبل وصولهم المقعد رمتهم الجبالية المجعولون في مدرسة السيد العيدروس بالبندق فقتل من الجماعة المذكورين بالندق السيد سلمان بن عجلان بن ثقبة والقائد مرجان بن زين العابدين وزير الشريف محسن فرجع الباقون وفيضحى هذا اليوم ركب الشريف أحمد بن عبد المطلب ومعه خيل والمنادى ينادى بالبلاد للشريف محسن ولم يزل هذا الاضطراب في البلد ذلك اليوم جميعه ومن ألطاف الله تعالى أن الجماعة بالمسجد الحرام قائمة ذلك اليوم والأسواق فاتحة وفيها الأقوات ولم يحصل تغير أبدا فلما كانت ليلة الجمعة خامس المحرم وقع الصلح بينهما على أن يستقل الشريف محسن يوم الجمعة بمفرده ثم خرج الشريف من مكة ليلة المولد ونقل الثقات أنه لما ضويق وأجلبت عليه الإشراف ومن معهم بحيث أنه أصيب جويرية من بين يديه بالبندق فسقطت ميتة بين يديه فارتاع لذلك وخرن ووضع منديلا لطيفا علة وجهه وبكى لفقد الناصرين فدخلت عليه في تلك الجالة أخته الشريفة زينت بنت الحسن فقالت له علام ذا الحزن والعناء دعها لابن أخيك فقد وليتها مدة طويلة فحينئذ أرسل إلى الشريف محسن والاشراف وطلب منهم مهلة شهرين في البلد وأربعة أشهر خارجها ليتأهب للسفر إلى حيث شاء فأعطاه الشريف محسن ذاك وشرط عليه أن لا يحدث شيئاً من المخالفات فاستمر شهر محرم وصفر فمرض فيه حتى خيف عليه وفي ليلة المولد خرج من مكة فما طاف للوداع إلا في محفة وخرج وقد أضعفه المرض فتوفى سابع عشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة عند جبل شبر ودفن بمحل يسمى يا طب ومن الاتفاق العجيب أن حساب يا طب بالجمل اثنان وعشرون وهي مدة ولايته مجبورة فإن ولايته إحدى وعشرون ونصف ووصل خير وفاته إلى مكة في مستهل رجب وصلى عليه غائبة بالمسجد الحرام رحمه الله تعالى برحمته(1/246)
الشيخ إسحاق بن عمر بن محمد بن محمد بن محمد بن علي بن أبي اللطف المقدسي الشافعي من بيت العلم والرياسة بالقدس ورأس منهم جماعة وسيأتي في هذا الكتاب غالبهم وكان أبو اسحاق هذا حنفيا ولى افتاء الحنفية بالقذى ودرس بالمدرسة العثمانية وابنه هذا تحول إلى مذهب أجداده وكان فقيهانبيلاً وله في الفرائض والحساب باع طويل وكان في الكرم غاية لا تدرك وحدث عنه بعض من لقيه أنه كان إذا أتى إلى بيت المقدس قافلة ربما أضاف كل أهلها ولا يمل ذلك المرة بعد المرة وشاع ذكره في الآفاق وولى تدريس المدرسة الصلاحية بالقدس وهي مشروطة لا علم علماء الشافعية في ديار العرب وعلوفتها في ل يوم مثقال من الذهب وهي من بناء المرحوم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الذي أخذ القدس من يد النصارى وكان له شريك في التدريس المذكور وهو ابن عمه الشيخ يوسف بن أبي اللطف ولكن التصرف في الغالب إنما هو لإسحاق الشيخ إسحاق بن محمد الخريشى القدسى الحنبلي كان عالما عاملا أخذ عن والده وأم بالمسجد الأقصى وكان إليه النهاية في علم القراآت إلى العشر حسن الصوت والاداء لا يمل من سماعه طارحا للتكلف مشتغلا دائما بالقراءة والده محمد صاحب المؤلفات العديدة مشهور توفي إسحاق في سنة خمس وثلاثين وألف رحمه الله تعالى الشيخ إسحاق بن محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم بن إسحاق بن إبراهيم بن أبي القاسم بن إبراهيم بن أبي القاسم بن عبد الله بن جعمان بفتح الجيم وسكون العين بن يحيى بن عمر بن محمد بن أحمد بن عمر بن الشوي بن علي بن وهب بن علي بن صريف صريف بن ذوال بن سنوه بن ثوبان بن عيسى بن سحاره بن غالب بن سحاره بن غالب بن عبد الله بن عك ابن عدنان العكى العدناني الصريفي الذوالى اليمنى الزبيدى الشافعي قاضى زبيد العلامة الذي جمع أشتات العلوم وحار قصب السبق في العلوم الدينية ونشر أقوال الشافعية وقام بنصر الاشاعرة وأقام الحجج على المخالفين وقمع شبه غلاة المبتدعين مع شدة في الأحكام الشرعيه وتبصر بالقواعد الحكميه وتنفيذ للاقضية الحكميه ولد بمينة زبيد في سنة أربع عشرة بعد الألف وحفظ بها القرآن وأخذ عن والده علوم الفقه والحديث ولازم عمه الطيب بن أبي القاسم جعمان في كثير من علوم السنة والقرآن برع وفاق أقرانه خصوصا في علم الحديث وأجازه شيوخ كثيرون وقرأ بزبيد الجامع الضحيح للبخارى مرات كثيرة وتكرر منه ختمه له وسمع منه بالحرمين خلق كثير لا يحصون منهم سيد المحدثين في عصره ابراهيم بن حسن الكوراني وعيسى بن محمد الجعفرى والسيد محمد بن عبد الأول البرزنجى وغيرهم وله مؤلفات نافعة منها الحشية الأنيقه على مسائل المنهاج الدقيقه وله شعر منه قصيدته التي عارض بها القصيدة الموصلة التي أولها
لمعت نارهم وقد عسعس اللي ... ل ومل الحادى وحار الدليل
وقصيدته هي هذه
نفحة العبير وريا ... مندل الحب أوصلتها شمول
سحرا والرفاق من سكرة الن ... وم على أظهر النجائب ميل
فنشقنا نوافج الطبيب منها ... إذ شذاها على الخيام دليل
فحثثنا المطى في أثر الط ... يب سراعا لها إليه ذميل
فطرقنا الخيام منسلخ الل ... يل وللصبح عارض مستطيل
فنزلنا فيها بأكرم نزل ... عند حي يعز فيه النزيل
نعم الطرف عندهم بجمال ... ليس للبدر مثله فيحيل
واحد الحسن مستضئ مضئ ... مستنير كأنه قنديل
مشرق النور تحت ليل بهيم ... مظلم فرقه له ترسيل
بجبين كأنه صدف ال ... در أو الطرس زانه التصقيل
فيه قوس وحاجب وسهام ... من لحاظ وفيه خداسيل
اوسع العاشقين سببا وقتلا ... ما لهم من حياضه تبليل
قام هاروت لحظه يجمع الس ... بى وبالسفك قد قضى قابيل
كم أسير مكبل بفنا الد ... ار وفيها مجرح وقتيل
فائق للملاح بل هو زين ... واسط العقد بل هو الأكليل(1/247)
باسم الثغر عن نضيد نقى ... جوهرى رحيقه معسول
ثم بتنا لديه والطرف منه ... منعم والوشاة عنه غفول
وسقانا من كف يمناه كأسا ... سلسبيلا مزاجها زنجبيل
نظرة منك سيدي يتلافى ... مستهام بها ويشفى غليل
ثم يطفى بها لهيب المعنى ... ويداوى من السقام العليل
وفؤادى أودى به الشوق والو ... جد وجسمى به الضنا والنحول
يا حبيبي ان كان خطبا جليلا ... هجركم فالوصال وصل جميل
بات يرمى جواهر اللفظ من ي ... ه ودرامن النظام نبيل
بعتاب كأنه نسمة الف ... جر جناها رضا بها مطلول
يا حبيبي قد كان ما كان فاصفح ... وتعطف فليس عنك بديل
لا وسقم الهوى وطيب التلاقى ... ما فؤادى إلى سواك يميل
فحكم مولاى واقض بما شئت ... فأنت العطاء والتنويل
وكانت وفاته في ثاني شهر ربيع الثاني سنة وتسعين وألف بمدينة زبيد ودفن يتربة باب سهام عند آبائه وأجداده رحمه الله تعالى المولى أسعد بن سعد الدين بن حسن جان التبريزى الأصل القسطنطيني المولد ولوفاة مفتى التخت العثماني وواحد الزمان في الفضل والاتقان وكان عالما محققا متجرا في العلوم طويل الباع واتفق أهل عصره على انه لم يكن له نظير فيه فضلا وديانة واتقانا ونفاسة وبلغ هذا المبلغ من الكمال وهو حدث السن غض الشباب وغالب تحصيله على والده وعلى المولى العلامة المنلا توفيق الكيلاني الآتي ذكره قال الحسن البوريني أخبرني منلا توفيق من لفظه وقد نزل في مدرستي الناصرية الجوانية عند وروده إلى دمشق مع المرحوم المولى عبد الله قاضى القدس الشريف ناويا على زيارة القدس أنه لم ير في علماء الروم أفضل من مولانا أسعد وحكى لي عن فهمه وادراكه شيئاً لا تسعه دائرة العقول انتهى وقد لازم من والده وولى المدارس والمناصب الرفيعة في عنفوان عمره منها تدريس المدرسة الكبرى التي تنسب إلى والدة السلطان سليم الثاني وهي من المدراس التي جرت العادة بنقل مدرسيها إلى إحدى المدارس الثمان ومنها إلى إحدى المدارس السليمانية بمدينة قسطنطينية وكذلك وقع له إلا أنه أقام في المدرسة السليمانية مدة طويلة وأكب على الاشتغال والافادة فلم ينقطع يوما واحدا مما جرت العادة وأما شغله في منزله بالمطالعة فإنه فوق ما يقال وكان لا يفتر ولا يمل ولا يقدم على ذلك أمراً مهما ولا حاجة من حوائج الدنيا وكان له في العربية والفارسية والتركية باع طويل وله أشعار رائقة في الألسن الثلاثة ثم وجه له قضاء أدرنة في سنة أربع بعد الألف ولما سافر السلطان محمد إلى بلاد الكفار بولاية الألمان مر في ريقه على أدرنة فوجد أهاليها شاكرين منه فأقبل عليه وجلس لأجله مجلسا خاصا لا يشركه فيه أحد للسلام عليه فبمجرد نظره إليه قام له وعظمه في الدخول والخروج أكثر من تعظيمه لقضاء العساكر ثم اقتضى رأيه أن يكرمه ففوض إليه قضاء قسطنطينية فبينما هو في أثناء الطريق إذ ورد إليه خبر أن والدة السلطان قد امتنعت من تنفيذ هذا الاعطاء وسمعت على رد هذه الولاية وولت قاضى استانبول السابق لكون السلطان فوض إليها أمر ذلك وأنها تعزل من أرباب الدولة من أرادت وتولى من أرادت فاضطربت أرباب المناسب لهذا واستمر هو معزولا ثم ولى بعد مدة قضاء قسطنطينبة وكانت توليته لها في المحرم سنة سبع بعد الألف ثم ولى قضاء العسكر بانا طولى في صفر سنة عشر وألف وعزل منه في رجب سنة إحدى عشرة وولى قضاء الروم مره في شعبان سنة اثنتي عشرة ومرة في المحرم سنة سبع عشرة وانفصل عنه مدة وفي تلك المدة قدم إلى دمشق حاجا وذلك في سنة ثلاث وعشرين وخدمته أهل دمشق خدمة لم تتفق لغيره وبذلوا في تعظيمه جهدهم ثم حج ونظم قصيدته المشهورة وهو بالمدينة المنورة مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم
يا رسول الله أنت المقصد ... أنت للراجين نعم المسند
كل خير فهو مجموع لديك ... بين جمع الرسل أنت المفرد
كل من ناداك فيم نابه ... فاز بالاسعاد فيما يقصد(1/248)
قد أتى مستغفراً مستشفعا ... عبدك المسكين هذا أسعد
مستغيثاً شاكيا من نفسه ... باكيا مما جنت منه اليد
منك فتح الباب أرجو ضارعا ... قارعا أبواب فضل ترصد
منك يا غيث الندى أرجو الهدى ... إن في الليالي بالتوالي أسهد
طال أيام التنائي والاسى ... يا طبيب القلب أنت المنجد
يا حبيب الله بالله الذي ... غيره سبحانه لا يعبد
بالذي أعطاك قدرا عاليا ... ما المخلوق إليه مصعد
بالذي أعطاك بين الانبيا ... مكرمات أنت فيها أوحد
بالذي أعطاك ما لم يعطه ... واحداً من خلقه يا سيد
عد بلطف منك كن لي شافعا ... أن تلاحظني فإني أسعد
لا تخيبنى فإني سائل ... سائل الدمع الذي لا يطرد
سل من الرحمن تعجيل الشفا ... وانشاح الصدر لي يا أمجد
كل من يرجو الندى من بابكم ... فهو من نيل الأماني يسعد
أنت محمود لربي فعلى ... ذاتك لا أحصى الثنايا يا أحمد
صل يا رب على خير الورى ... بصلاة سرمدا لا تنفد
وارض عن آل وأصحاب هم ... العابدون الراكعون السجد
ورجع إلى الروم وكان أخوه الأكبر المولى محمد مفتيا فتوفى وولى مكانه صاحب الترجمة وجاء المنشور وهو ذاهب في الطريق وكان ذلك في جمادى في الآخرة سنة أربع وعشرين وألف وعزل في رجب سنة إحدى وثلاثين وتولاها ثاني مرة في ذي الحجة اثنتين وثلاثين وتوفي وهو مفت في ثاني عشر شعبان سنة أربع وثلاثين وألف ودفن بتربة أسلافه بمدينة أبي أيوب وقال العمادي المفتى في تاريخ وفاته
نح على الكون غاب أوحده ... أعدم المجد فيه موجده
قال في عامه مؤرخه ... مات مولى في الروم واحده
ورأيت في طبقات التقى التميمي التي ألفها في علماء مذهب الإمام أبي حنيفة ذكره وذكران ولادته كانت ثاني عشر المحرم سنة ثمان وسبعين وتسعمائة المولى أسعد بن عبد الرحمن بن عبد الباقي القسطنطيني قاضي القضاة من ذوي البيوت المعروفة بالروم وجده سلطان الشعراء باقس صاحب الديوان المشهور وسيأتي في كتابنا هذا في حرف العين أن شاء الله تعالى وكان أسعد هذا صاحب معرفة وكمال وله حسن خلة ومعاشرة وسخاء ورفعة شأن نشأ في دولة أبيه واشتغل ودرس إلى أن وصل إلى إحدى المدارس السليمانية وصار منها قاضيا بالغلطة ثم بدمشق وقدم إليها في حادى عشر رمضان سنة سبع وستين وألف ثم عزل عنها وتوجه إلى الروم ولما وقع الحريق الكبير بقسطنطينية في ذي القعدة سنة إحدى وسبعين احترقت داره وذهب له أمتعة كثيرة وبعد مدة أعطى قضاء بروسة ثم قضاء أدرنة وبعد ما قدم منها إلى قسطنطينية توفي فجأة كوالده وصلى عليه بجامع السلطان محمد ودفن إلى جانب خاله قاضي العسكر المولى محمد بستان داخل قسطنطينية بجامع جد والدته المعروف بالنيشاني بقرب قرمان الصغيرة السيد أسعد بن عبد الرحمن بن أبي الجود بن عبد الرحمن وتقدم تمام النسب في رتجمة اباهيم أبي اليمن البتروني الحلبي الأديب البارع الحلو العبارة قرأ ودأب بموطنه ثم خرج في صباه إلى الروم فسلك طريق القضاء ودخل دمشق ومصر وحظى في دنياه كثرا وسمت همته حتى ولى افتاء الحنفية بحلب عن مفتيها العلامة محمد بن حسن الكواكبي مدة يسيرة وبعد ذلك ترقى في مناصب القضاء بالقصبات حتى ولى أرقاها ومات وهو معزول عن ازنكميد وكان فاضلا أديبا حسن الهيئة فكها لطيفا طيب المحاورة شريف النفس متواضعا وفيه تودد وبشر وانبساط وهو مع ذلك شاعر مطبوع إلا أن شعره قليل وأغلبه في الهجاء وكان في هذا الباب أعجب ما سمع يخترع كل معنى غيب ومضمون عجيب وأما وقائعه وما جرياته فهي من أعذب ما يحاضر به وكنت وأنا بالروم أسمع أشعاره ووقائعه ولم تتفق لي رؤيته معالمجاورة وقرب المحل إلا بعد مدة ثم إني لزمت مجلسه وكنت مشغوفا بملازمته ومؤانسته مستعذباً أسلوبه ومدحته بقصيدة مطلعها
حنا نيك هل يلوى الحبيب المماطل ... فتنحج آمال وتقضى وسائل(1/249)
وهي طويلة جداً فلا حاجة إلى يرادها ومما أخذنه من شعره قوله وكتب بها إلى السيد موسى الرا محمداني
قد حل أمر عجب ... شيب بفودى يلعب
نجومه لا تغرب ... فأين أين المهرب
أرجو بقاء معه ... ما أنا إلا أشعب
هذا الشباب قد مضى ... وبان منى الأطيب
هل عيشه تصفو لمن ... قد غاب عنه الطرب
دهر أرانا عجبا ... وكل يوم رجب
أندب أياما مضت ... فيها صفا لي المشرب
في حلب بسادة قد خدمتهم رتب
من كل سمح ماجد ... تخجل منه السحب
أفناهم الموت الذي ... لكل بكر يخطب
وما بها بعد هم ... من للمعاني ينسب
سوى جهول سفلة ... عن كل فضل يحجب
وهو إذا أملته ... كلب عقور كلب
أستغفر الله بها ... استاذنا المهذب
موسى الذي لفضله ... مدر رواق مذهب
حلال كل مشكل ... وحاتم إذ يهب
وإن جرى في محكم ... يخال قسا يخطب
وقد حوى معاليا ... تنحط عنها الشهب
من سادة أحسابهم ... تنطق عنها الكتب
مولاى أشكو غربة ... طالت وعز المطلب
وتحت أذيال الدجى ... حاملة لا تنجب
إلا بأولاد الزنا ... هذا العمرى العجب
إليكها خريدة ... منالها يستصعب
جآذر الروم لها ... تسجد أو تنتسب
فاسلم ودم في رفعة ... للسعد فيها كوكب
ما حركت متيما ... ورقاء حين تندب
فأجابه عنها بقوله
ما الدهر الأعجب ... فمنه لا تستعجب
أعمار ناتنتهب ... يوما فيوما تذهب
ونحن نلهو أبدا ... في غفلة ونلعب
أواه من يوم يجى ... وشمسه لا تغرب
صائلة فيه المنى ... بصولة لا تغلب
تسطو على أرواحنا ... فأين أين المهرب
تبا لدنيانا التي ... لم يصف فيها المشرب
كم سيد غرت به ... واراه لحد أحدب
لدود فيه مرتع ... وللهو أم ملعب
والويل يوم العرض أن ... لم ينج منا المذنب
ومن لظى نار بها ... أجسادنا تلتهب
لا عمل يرجى ولا ... غوث إليه ينسب
إلا الكريم ربنا ... ومن به نحتسب
مع الشفيع من إلى ... جنابه ننتسب
محمد خير الورى ... مقصدنا والمطلب
الحمد لله فلا ... يكون ما لا يكتب
والخير فيما اختاره ... حتم علينا يجب
نسأله يبقى لنا ... سيدنا المهذب
أسعد من ساد الورى ... به وساد العرب
جوهرة العقد الذي ... جوهره المنتخب
نجل الألى تجملت ... بهم قديما حلب
علما وحلما وتقى ... وحسب ونسب
يخجل من أخلاقه ... زهر سقته السحب
ومن جميل صنعه ... له المعالي تخطب
طلق المحيا بهج ... مبجل محجب
ولطف أنفاس الصبا ... إلى علاه ينسب
ومن إلى المجد يج ... اريه فلا يصوب
زيد بنا ناكفه ... إن شاق عما يهب
فسيب صوب جوده ... يخجل مه الصيب
لم يحل خل غيره ... مودد محبب(1/250)
وله غير لك وابتلى في آخر أمره بمرض المراقيا وعالجه مدة وكان يسببه كثير المراجعة للإطباء وكتب الطب حتى صار له في الطب مهارة كلية ثم بعد مدة قوى عليه المرض فكان سبب هلاكه وتوفي بقسطنطينية ودفن بها وكانت وفاته في سنة ثلاث وتسعين وألف السيد أسعد البلخي نزيل المدينة النقشبندي الطريقة أحد خلفاء السيد صبغة الله السندي الآتي ذكره وكان هو والشيخ احمد الشناوي المقدم ذكره فرسى رهان في التحقيق وللسيد أسعد كتابات على شرح الفصوص للمحقق محمد بن إسحاق القونوى تدل على علو كعبه في علم التصوف وكان ينظم الشعر العربي على مصطلح التصوف فمن شعره ما كتبه إلى السيد سالم شيخان من المدينة المنوره إلى مكة المشرفة وهو قوله
ومن كان في أم القرى مستقره ... لماذا امتطى الوخاد شوقا ليثرب
لذا حن وجدا للتدلى دنوه ... ليلونا خير أمام محجب
أم اشتاق من عز الغنى ذل فقرنا ... أشد حنينا يا له من محبب
كذاك حوى دور التسلسل دائما ... لينظم شمل السفل أوج المحدب
فأجابه بقوله
ومن كان عن أم الكتاب سفوره ... بسبع مثان وصفه للتحبب
فتكوينه تدوين اعجاز محكم ... بامكانه نشر الوجود المغيب
فأم قراه مستقر وجوبه ... ومستودع إلا مكان منهل يثرب
إليه امتطى الوخاد من شرق روحه ... ليسفر شمس الذات في لوح مغرب
ويطلع بدر الوصف من غرب كونه ... بتفصيل تصريفولكن معرب
بمن عزه قد حن شوقا لذلنا ... ليبلو فقرا بالغنى خبرة الاب
ويتلو كتاب الجمع من نقش نفسه ... على فرض عين في وجود محجب
ليتلو منه شاهد لاح شاهدا ... به الوجه يبدو سافرا بتحمعب
لرحمانه عرش على حكمه استوى ... بخلق وأمر هجرتي في التغرب
إلى من إليه كل أمر مرده ... تسلل في أدوار عنقاء مغرب
عليه به صلى شهيد وجوده ... بآل وصحب ما تلى المدح للنبي
وبالجملة فإنه من كبار المحققين العرافين وكانت وفاته نهار السبت خامس عشرى شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وألف ودفن بالبقيع اسكندر بن يوسف بن إسحاق الرومي الأصل الدمشقي أحد كتاب خزينة الشام وهو ابن أخت ابراهيم بن عبد المنان الدفتري المقدم ذكره وأصله من بوسنه كان كاتبا منشئا عارفا بالقوانين العثمانية وله خبرة تامة بالحساب وانشاء الرسائل التركية مع جرأة وإقدام وهو الذي سعى في قطع رزق العلماء والصلحاء بالشام من جوالى السلطان وسافر إلى الروم وتعاضد هو والدفترى بالشام إذ ذاك وبعض عونة من الكتاب وعرضوا ما أبرموه على الوزير فجرت المقادير على وفق ما أحكموه من الرأى الفاسد وقطع عن الناس شئ كثير وبسبب ذلك ضعف قوة العلماء باشام واستولى عليهم الفقر وكان ذلك في حدود سنة ستين وألف ومما قيل في هذا الخطب الفادح
شكت الشام عمها المتوالى ... نحو باب المراد في عرض حال
فقرأ هلى وفاته الناس فاقت ... والجوالى لها احتراق الجوى لها
قطعوها ظلما وأبقو يتامى ... فاقدى الزاد ما لهم من نوال
والفقيرات باكيات بضعف ... فقدوا قوة لجسم ومال
ويح مس يسنبيح رزقة محيا ... وأمام وطالب ذي عيال
وكذاك المؤذنون أصيبوا ... وهم الذاكرون جنح الليالي
دفترى له القساوة طبع ... مبغض خائن دنى الفعال
أكل المال بالخيانة حتى ... صار ذائر وطول سبال
ساعدوه جماعة أشقياء ... ظهروا بغتة بزى الرجال
منهم اسكندر الخبيث المداجى ... مع بعض أصون عنه مقالي
لا جزاهم الهنا غير نار ... تتلظى وحسرة في الوبال
هل لهذا المصاب مبلغ خير ... نحو باب المراد بين الموالى
علهم يبلغون كهف العطايا ... منبع العدل والندى والمعالي(1/251)
ملك زاده الإله بهاءوله اليمن صاحب والعوالي
ما نحا وجهة من الخير إلا ... بادرته مطيعة لا تبالى
نسأل الله أن يديم علينا ... ملكه دائما بأحسن حال
ولم تطل بعد ذلك مدة اسكندر حتى مات بقسطنطينية مطعونا في سنة إحدى وستين وألف وقيل فيه
يقولون لي قد مات اسكندر وما ... أصيب بسيف مستحق بسيره
فقلت لهم سهم القضاء أصابه ... ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
وقيل في تاريخ موته
بشرى لأهل الجوالى ... هلاك منشى الضلال
من طالما قد تعدى ... وبالدعا لم يبال
وضر بالناس حتى ... أتاه سهم الوبال
وسار نحو عذاب ... مؤبد واشتعال
أرخ أوى في جحيم ... اسكندر وانتقال
السيد إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى بن الهدى بن إبراهيم المهدي بن أحمد بن يحيى بن القاسم بن يحيى بن عليان بن الحسن بن محمد بن الحسين بن محمد بن الحسين بن محمد الملقب حجاف بن جعفر بن الامام القاسم بن علي العياني بن عبد الله بن محمد بنالامام القاسم الرسى بنإبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى نالحسن السبط بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه المعروف بالحجاف اليمنى الأديب البليغ المنفرد في الأقطار اليمنية حفظ القرآن والحاجبية والأزهار في الفقه وغيرهما من المتون وأخذ عن أكابر شيوخ زمانه منهم والجه السيد ابراهيم وجده السيد حسين بن علي بن إبراهيم الحجاف والسيد علي بن حسين الحجاف والسيد عبد الرحمن بن حسين الحجاف وعنه أخذ جمع من الأعيان منهم السيد شرف الإسلام والمسلمين الحسن بن أمير المؤمنين المتوكل إسماعيل وغالب أخوته وسادة أهل بلده وله شعر لطيف منه قوله من قصيدة يمدح بها الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم ويحثه على إحياء مدارس العلم التي كادت أنتندرس
أصبح الدهر طيب الأوقات ... كامل الحسن وافر الحسنات
مشرق الوجه باسم الثغر يز ... داد بمر الشهور والسنوات
كعروس من فوقها زانها ال ... حلى جمالا إلى جمال الذات
غادة تسلب العقول وتغت ... ال قلوب الأنام باللحظات
بنت سبع وأربع وثلاث ... برعت في الكسون والحركات
تتثنى فينثنى من وراها ... خافق القلب ساكب العبرات
جمعت كل مفرد من جمال ... وتثنت غصنا من المائسات
مذ تولى أمر الخلافة فيه ... أوحدى الفعال جم الصفات
ثابت الرأى ثابت الجاش اسم ... عيل حلف الهدى حليف الهداة
الذي بشرت به الرسل حقا ... وحوى ذكره حديث اثقات
فهو مهدى هاشم وهداها ... ذو الكرامات فيالورى البينات
هدوى في نسبة من أبيه ... قاسمى في نسبة الأمهات
تتلاقى اطرافه في المعالي ... بين خير وخيرة الصالحات
فهو فرع لدوحة المجد شمس ... في بروج الفخار والمكرمات
زاده الله بسطة في علوم ... طالما أعجزت ذوى الطلبات
وجلاها من لظفه ببيان ... مستنير وأوضح المشكلات
رغبت فيه بعد طول نفار ... عن سواه وأذعنت بالتفاف
واستعاذت صعابها من يديه ... طائعات لامره تابعات
يا إمام الزمان قد أسعد الل ... ه أنا سارأوك قيل الممات
شاهد وافيك من صفات على ... جملة أخبرت عن الباقيات
علمه مع بيانه وعلاه ... مع خضوع وجوده مع ثبات
وأهنيك يا ابن خيرة قريش ... عود عيد الصيام بالخيرات
جاء مستوهبا نوالك فاغم ... ه بمسنونه مع الواجبات
طامعا أن يفوز منك بفضل ... فيباهى أمثاله الماضيات
وكذا شهرك الكريم يه ... نيك بما حزت فيه من قربات(1/252)
من صيام ودرس علم ووحى ... وصلاة مقبولة وصلات
طبق الأرض جود كفيك فيه ... وغمرت الورى بأسنى الهبات
يتبارى كفاك والبحر جودا ... فأنا فاسبقا على الذاريات
صفة من صفات جدك قد جا ... ء بمضمونها حديث الروات
قد هدى اله أمة قمت يها ... قائدا وفدها إلى الجنات
حطتها عن عداتها بمواض ... وجياد سوابق مقربات
كل من رام أن يضم علاها ... عاد متسوليا على الحسرات
حجة الله لابرحت بخير ... في رياض أنيقة مغدقات
أصبحت عبرة لكل نسيب ... عرصات من أهلها مقفرات
فتميل القلوب تشكو إليها ... هجرها دائما بكل جهات
ليس خلق سواك يحنو عليها ... يا أماما فواث قبل الفوات
وانتعش أهلها وشيد بناها ... وأعدها في أحسن الحلات
أنت في الأرض رحمة أهبطها الل ... له تعالى وسامع الدعوات
أنت للناس عصمة في معاش ... ومعاد نمحو به السيئات
ختم الله بالرضى عنك سعيا ... إنما الفوز في رضى الخاتمات
وعلى الطهر خاتم الرسل والا ... آل سلام وأفضل الصلوات
وله غير ذلك وكانت ولادته بحبور في سنة أربع وعشرين وألف تقريبا وتوفي ليلة الجمعة رابع عشر شعبان سنة سبع وتسعين وألف ببلده ودفن بها رحمه الله تعالى الشيخ اسماعيل بن عبد الحق بن محمد بن محمد بن أحمد الحمصي الأصل الدمشقي الشافعي القاضي الفاضل الأديب الشاعر ويعرف بالحجازي لمجاورة جده محمد بالحجاز كما سيأتي ذكر ذلك في ترجمته ذكر اسماعيل هذا والدى رحمهما الله تعالى وأثنى عليه كثيرا ثم قال على العلامة فضل الله بن عيسى البوسنوى نزيل دمشق وعلى العلامة عبد الرحمن العمادي المفتى وأخذ فقه الشافعية عن الشرف الدمشقي والطب عن جده محمد وغيره وولى قضاء الشافعية بمحكمة قناة العوني ونقل منها إلى الباب وصار رئيس الأطباء عن الشيخ محمد بن الغزال وكان فاضلا شاعرا رقيق حاشية الطبع رائق البديهة حسن الأسلوب لين العشرة لطيف المؤانسة حلو المذاكرة وله أشعار كثيرة مسبوكة في قالب الرقة جارية على وصف الشوق والحب وذكر الصبابة والغرام فلهذا علقت بالقلوب ولطف مكانها عند أكثر الناس ومالوا إليها وتحفظوها وتداولوها بينهم وذكره البديعى في ذكر حبيب فقال في حقه أديب يطرب بالحانه ما لا يطرب المدام بحانه فلو أدركه أبو الفرج الاصبهاني لوشح بأصوات موشحاته كتاب الأغاني ثم عقب هذا الكلام بذكر سلسلته المشهورة التي مطلعها قوله
ما فاح شذا المسك من صفاتك أوضاع ... إلا وتذكرت منك حسن أوضاع
وذكره عبد البر الفيومي في كتابه المنتزه أيضا وذكر شيئا من شعره فقال ومن نظمه المشهور قوله
ورب عتاب بيننا جدد الهوى ... شهى بألفاظ أرق من السحر
وأحلى من الماء الزلال على الظما ... وألطف من مر النسيم إذا يسرى
عتاب سرقناه على غلفة النوى ... وقد طرفت أيدي الهوى أعين الدهر
وقد أخذتنا نشوة من حديثه ... كأنا تعاطينا سلافا من الخمر
ورحنا بحال ترتضيها نفوسنا ... وها أنا بين لصحو ما زلت والسكر
وقوله
فؤاد أبي إلا التولع في الحب ... ولم يرض بعد البين يسكن في قلبي
وطرف قريح جفنه قاطع الكرى ... وواصلة دمع يفوق حيا السحب
تساعد قلبي في تلافي وناظري ... فخذ لي حقي منهما أنت يا ربي
وقلبي طلبت الضبر منه فخانني ... فما للهوى ذنب إذا خانني قلبي
وقوله
ولم أنس إذ جاء الحبيب وودعا ... وفي القلب نيران التباعد أودنا
وقولى له هل يجمع الله شملنا ... على رغم ذياك الحسود الذي سعى
رعى الهل أيما تقضت ونحن في ... أمان من الهجران لي نتروعا(1/253)
نبيت كغصنى بانة في ربي الصبا ... يرنحنا صوت الحمام مرجعا
إلى أ، دعانا للفراق رقيبنا ... فيا ليت داع للتفرق ما دعا
وملح وأطرب في قوله
كلما حدثت قلبي سلوة ... عن هواهم قال لي لا يمكن
وإذا ذكرته أنهم ... قد أسؤا قال لإبل أحسنوا
وفي قوله
ولي قلب أليم من ... صدودك دائم الضرم
بودى لو أقطعه ... فإن وجوده عدمى
ولكن قطعي العضو الأليم يزيد في ألمي
وقال
قد وقفنا بعد التفرق يوما ... في مكان فديته من مكان
نتشاكى لكن بغير كلام ... نتحاكى لكن بغير لسان
وقال
ورية ليلة قذرا فيها ... خيال في الدجى منه طروق
وبات تشوقي في يدنيه منى ... ويبعده من القلب الخفوق
فلا أروى الحشا منه اعتناق ... ولا بل الجوى لي منه ريق
وقال
طلع البدر والحبيب معا ... فأضاء الوجود والتمعا
فتعجبت إذ رأيتهما ... في زمان كلاهما طلعا
كيف يبدو والهلال في زمن ... فيه وجه الحبيب قد سطعا
وله في التورية
قالت حبيبي قل لي ... يا صاح من أي قوم
أورم هجرك أن لم ... تقل لنا قلت رومى
وله
يا أخلاى إذا ما جئتكم ... فاعذروني ودعوا عني ملامي
جاء بي الشوق إلىن أرضكم ... ودعاني نحوكم داعى غرامي
وأشعاه كثيرة والاختصار أولى بالمختصر وكانت ولادته في سنة خمسين وتسعمائة وتوفي في سنة إحدى وألف ودفن بباب الصغير إلى جانب أبيه وجده الشيخ اسماعيل بن عبد الغنى بن اسماعيل بن أحمد بن إبراهيم النابلسي الأصل الدمشقي المولد والدار العلامة الفقيه الحنفي كان عالما متجرا غواصا على المعاني الدقيقة قوى الحافظة وهو أفضل أهل وقته في الفقه وأعرفهم بطرقه وصنف كتبا كثيرة أجلها وأحكمها كتابه الأحكام شرح الدرر في اثني عشر مجلدا بيض منها أربعة إلى كتاب النكادح وهو كتاب جليل المقدار مشتمل على جل فروع المذهب وما عداه من تآليفه كلها بقيت في المسودات وكان أولا اشتغل بمذهب الشافعي وألف فيه حنيفة وقرأ بدمشق على الشرف الدمشقي والمنلا محمود الكردى والشيخ عمر القارى والعمادى المفتى وتفقه بالشيخ عبد اللطيف الجالقي وأخذ الحديث عن النجم الغزى وبرع في العلوم ثم شرع في القاء الدروس في الجامع الأموي سنة تسع وثلاثين وألف وسافر إلى الروم ولازم من شيخ الإسلام يحيى بن زكرياء ودرس على قاعدتهم ثم عاد إلى دمشق وكرر الذهاب إلى الروم وأعطى المدرسة القيمرية بدمشق ودخل حلب وحج وقفل من الحجاز إلى القاهرة وأخذ بها عن الشهاب أحمد الشوبرى الحنفي والشيخ حسن الشرنبلا لي ثم توجه إلى الروم وضم له قضاء صيدا وعاد ولما توفي المولى يوسف بن أبي الفتح امام السلطان كان عليه تدريس جامع السلطان سليم يصالحه دمشق فوجه إليه وأخذ عنه بعد مدة فسار إلى الروم وقرره وصارت له رتبة مدارس الصحن وكان ذلك في سنة ستين ولما رجع إلى وطنه انعزل عن الناس للتحرير والمدارسة وكان لا يفتقر ولا يمل من المطالعة والمباحثة ولزمه جماعة للأخذ عنه وبه انتفعوا منهم شيهنا المرحوم إبراهيم الفتال وأملي تفسير البيضاوي بالجامع الأموي وكان يورد عليه عبارات تفاسير عديدة وكلها القاء من حفظه وبالجملة فقوة حافظته مما يقضى منها بالعجب وكان ينظم الشعر وشعره كثير منه قوله وكتب به ضمن كتاب أرسله إلى دمشق من حمص حين توجه إلى الرم في أواخر رجب سنة تسع وثلاثين وألف
أن طلبتم أبدى لكم شرح حالي ... فهو أمر بكل عنه مقالي
لا تقولوا مسافر بل مقيم ... كل يوم سروره في كمال
ثم ما قد أصابنا من رفيق ... وعزيز ومنبه الافضال
فهو أمر عجزت أن رمت أحصى ... منه حالا فكيف بالأحوال
غير أني قصدت من رقم هذا ... فهمكم حالنا على الاجمال
وقوله وكتب به في صدر مكاتبة أيضاً
إذا قيل أي إمام همام ... بليغ لقد فاق للفاضل(1/254)
غزير النوال عزيز المنال ... شريف الخصال وذي النائل
وحبر الأنام وبحر الكرام ... لخير يرام بلا سائل
كريم الأصول ومحيي القبول ... وفضل يصول على الجاهل
أشار إليك جميع الأنام ... إشارة غرقي إلى الساحل
أصل هذا ما قاله في كتاب العقد انه وقف بعض الشعراء على عبد الله بن طاهر فأنشده
أما قيل أي فتى تعلمون ... أهش إلى البائس السائل
وأضرب للهام يوم الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل
أشار إليك جميع الأنام ... غشارة غرقي إلى الساحل
وللنابلسي
لوى وجهه عني أنني ... أداهنه من أجل أمر أحاوله
فقلت له خفض عليك فإنني ... تكلفت هذا الامر ممن أخا لله
وصدقت ظني فيك والطبع غالب ... وكل يلاقي بالذي هو فاعله
وله
ولو لم يكن علمي بأنك فاعل ... من الخير أضعاف الذي أنا فاعل
لما بسطت كفى إليك وسيلة ... ولا وصلت منى إليك الرسائل
وله هذه الرباعية
قد أقسم لما اعتراني الوله ... أن يعطف لي لنكنه أوله
لا يسمح بالوصال الا غلطا ... في النادر والنادر لا حكم له
وله غير ذلك وقفت على مموع بخطه فيه من إنشائه وشعره أشياء كثيرة ومن جملة ذلك خطب دروسه التفسيرية وفيها مناسبات ولطائف تعبيرات تشهد له باليد الطولى في كل فن وكانت ولادته في سنة سبع عشرة وألف وتوفي في ليلة الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي القعدة سنة اثنتين وستين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بالمدفن المعروف بهم وهو بالقرب من جامع جراح ولنا قرابة معهم من جهة الأمهات فإن جدى محب الله ابن عمة صاحب الترجمة ولما مات رثاه بعض الأدباء بقوله
أودى الإمام الحبر اسماعيل ... لهفى عليه فليس عنه بديل
بكت السما والأرض يوم وفاته ... وبكى عليه الوحى والتنزيل
والشمس والقمر المنير تناوحا ... حزنا عليه وللنجوم عويل
أين الإمام الفرد في آدابه ... ما إن له في العالمين عديل
لا تخذ عنك منى الحياة فإنها ... تلهى وتنسى والمنى تضليل
وتأهبن للموت قبل نزوله ... فالموت حتم والبقاء قليل
اسماعيل بن عبد الوهاب الهمداني نزيل دمشق ذكره الغزى في ذيله وقال دخل دمشق في سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وسكن بالماجهدية وكان يبيع الحير بباب البريد ويصبغ الورق وكان يخدم القضاء وغيرهم ونال شيئا من الجوالي ثم أعطى تولية جامع سيباي خارج باب الجابية ثم أعطاه المولى علي بن أمر الله المعروف بابن الحنائي وكان قاضي القضاة بالشام تولية الجامع الأموي عن منلا أسد بن معين الدين التبريزى وضم إليه نظارة النظار عن الكمال بن الحمراوى وبقى متوليا عل الجامع أربعين سنة وتصرف هو والقاضي أبو بكر بن الموقع تصرفا انتقد عليهما أكصر وفيهما يقول شيخ الإسلام أبو الفتح المالكي مشيرا إلى ما فعلاه بالوقف
يقول على ما قيل جامع جلق ... أمل يك قاضي الشام عني مسئولا
يسلم للإعجام وقفي لأكله ... ويروى لهم عني كتاب ابن مأكولا
أبعد الفتى السبكى أعطى لسبيك ... وبعد الامام الزنكلوني لزنكلولا
أقاموه لي قرد بشباك مشهد ... وضمو إله بأعلى الرقص مجبولا
يؤمل كل أكل وقفى بأسره ... فلا بلغ الله الأعاجم مأمولا
ولما آل أمر الوقف إلى الضياع ولزم توزيع نقص ماله على أرباب الوظائف وكان يقسم على طبقات اقتضى صرف اسماعيل عن نظارته وأعطيت لبور نسور على سنة فطغى في نظارته ثم عزل عنها وولى مكانه حسن باشا الشهير بشور بزه حسن فسلك فيه أحسن السلوك من تنمية وقفه واعطاء علوفاته ورفع يدا اسماعيل وكان يوصله علو فته فاختل أمره وبقى في زوايا الخمول إلى أن مات في سادس عشر شوال سنة ست بعد الألف(1/255)
الامام إسماعيل بن القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن الرشيد بن أحمد بن الأمير الحسين بن علي بن يحيى بن يوسف الملقب بالاشل بن القاسم بن الامام يوسف الداعى ابن الإمام المنصور يحيى بن الإمام الناصر أحمد بن الإمام الهادي بن يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضى الله عنه المتوكل على الله الزيدي صاحب اليمن وليها بعد وفاة أخبه محمد المؤيد وخلع أخيه الإمام احمد في سنة خمس وخمسين وألف وأرخ بعضهم ابتداء دعوته بقوله توكلت على الهل وحده أبدا وعظمت حرمته ورهبت سطوته ودانت له الأقاليم اليمنية وسار بالناس سيرة حسنة وكان حازم الرأي خبيرا بتدبير الأمور حسن المعاملة محمود الأوصاف بعيداً من وكان حازم الرأي خبيرا بتدبير الأمور حسن المعاملة محمود الأوصاف بعيد من الخناء والفحش يملك نفسه عند المحارم ويعد مغاتم الفاحشة من المغارم سار السيرة العادلة بحيث لم يكن له همة بعد الاشتغال بالعلم إلا التفكر في أمور الرعايا فأمنت السبل في أيامه ورخصت الأسعار ولم يتمكن أحد من ظلم أحد في ولايته ولو كان كافرا ولم يجسر أحد من عماله على ظلم أحد من الرعايا وأمن الناس على أنفسهم وحريمهم وأولادهم وترددت التجار لسائر الأقطار وكان حسن الشكل مليح الوجه عالما متضلعا أخذ عن كثير من المشايخ من علماء الشافعية والزيدية وجد بالأشتغال بالعلوم الشرعية والآتية وبرع في سائر الفنون وألف تآليفار رائقة منها شرحه على جامع الأوصول لابن الأثير وجمع أربعين حديثا تتعلق بمذهب الزيديه وشرحها شرجا مستوعبا ذكر لي بعض الأخوان من أهل دمشق وكان رحل إلى اليمن أنه رآه وهو يحتوى على تحقيقات وأبحاث بديعه وله العقيدة الصحيحه في الدين لنصيحه وله رسالة في التحسين والتقبيح الأصليين وكان بحاثا مناظرا وكان يعظم الشرع ولا يخرج عن حكمه ويوقر من زاره من الفضلاء وكان إذا اجتمع بأحد من أهل العلم يقبل يوجهه عليه ويوده ويؤانسه ومن سعادته أنه كان إذا غضب على أحد في الغالب لا يزال ذلك المغضوب عليه في خمول وتعس ونكدالي أن يموت وبالجملة فإن جميع أيامه كانت غررا وفي بعض التعاليق في سنة سبعين وألف استولى الإمام إسماعيل على حضرموت كلها وأمرهم بأن يزيدوا في الأذات حي على خير العمل وترك الترضى عن الشخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومنع الدفوف واليراع في رابت السقاف وانتهت دولة آل كثير من تلك الديار وكان آخرهم عبد الله بن عمر فإنه لما خلع نفسه وتولى أخوه بدر بن عمر وفي آخر دولته ظلم وطغى فهجم عليه ابن أخيه بدر بن عبد الله وحبسه فدانت له العباد إلى أن ظلم وصادر السادة فاجتمعوا ودعوا عله فقدر الله أن كتب عمه بدر ابن عمر وهو في الحبس إلى الإمام إسماعيل وهون عليه أمر حضرموت فكتب الإمام إلى السلطان بدر بن عبد الله بإخراج عمه من الحبس فأخرجه ثم اتصل بالإمام وطلب منه التجهيز على حضرموت وتكفل لهم بأشياء وساعده على ذلك الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن العمودي شيخ العموديين وكان واليا على أكثر وادى دو عن فكاتبوا مشايخ القابئل وأرسلوا لهم بالأموال فلما التقى الجيشان انكسر جيش السلطان بدر ولم يقاتل معه الإ خواصه ثم انكسر منهز ما وولى مدبر إلى جبل أخواله السناقر وطلب لنفسه الإمان فأعطيه ولما لم يطب لأحمد بن حسن المقام بحضرموت أقام بها بدر بن بدر الكثيرى ورجع إلى عمه الإمام إسماعيل وبقيت حضرموت في تصرف الإمام إلى مماته وتمكن غاية التمكن ومدحه شعراء عصره بالقصائد الطنانة منهم إبراهيم بن صالح المهندي فإنه مدحه بقصيدة غاية في الحسن ويعجبني منها قوله
نعم ما لربات الحجول ذمام ... ولا لعهود الغانيات دوام
أعز الام البرق عندك خلب ... وحتام سحب الوصل منك جهام
تقلص ظل من وفائك سابغ ... ظليل وعاد الرى وهو أوام
تخذت قلال الصد والبعد جنة ... مللت ألا أن الملال ملام
وتلك لعمري في الحسان سجية ... وللشيخ في الما مهن لزام
ولكنه في حقهن ممدح ... يحل وأما في الرجال حرام(1/256)
قصارى جمال الغيد وجد ولوعة ... لها بين احناء الضلوع ضرام
تصعبت حتى ما لمضناك حصة ... من الوصل إلا من رناك سهام
حسدت بأن الحسن باق وربما ... غدا نعيه يا عز وهو تمام
وكل شباب بالمسيب مروع ... وإن لم يرعك الشيب راع حمام
ألم تعلمى أن المحاسن دولة ... يزول إذا زالت جوى وغرام
ولو دامت الدولات كانوا لغيرهم ... رعايا ولكن ما لهن دوام
إذا زدت بعد أو أطلت تجنبا ... رحلت وجسمي لم يذبه سقام
وما فضل رب السيف لو فتكت به ... جفون كليلات المضاء كهام
أنيصبن لي من هدبهن حبالة ... وهل صيدفى فخ الغزال حمام
ولي همة لا تمتطها صبابة ... وحزم فتى بالحتف ليس يسام
وعزمة ندب لا يزال فؤاده ... وجانب حر لا تراه يضام
هيامي في نهد أقب مطهم ... إذا القوم في نهد المليحة هاموا
ولم يك عندي غير كتب نفيسة ... تروق والإذابل وحسام
ولي قلم كالصل أما لعابه ... فسم وأما نفثه فمدام
وأن رامنى دهرى الخؤون بحادث ... فلى من أمير المؤمنين عصام
وكان ينظم الشعر وروى له أشعار جيدة مقبولة فمن ذلك قوله من قصيدة مطلعها
في المهجة أضحى معهده ... فلذافي الغيبة تشهده
فتان الحسن ممنعه ... فتيان الصبوة أعبده
معسول الصغر مفلجه ... عسال القد معربده
وافى من بعد تجنبه ... ووفى بالزورة موعده
وسرى كالبدر فسريه ... مسلوب كرى لا يرقده
وكتب إليه القاضي محمد بن إبراهيم السحولى
عجبا ماللاخله ... أعرضوا من غير عله
وتجافوا عن كئيب ... هائم القلب موله
مستهام عذبته ... من غزال الرمل مقله
ذو قوام مثل غصن ال ... بان قد حل برمله
ومحيا أورث الأن ... جم والأقمار خجله
عبلة الساق رداح ... دونها في الحسن عبله
غادة عادتها ... للصب أن تكثر مطله
جعلت هجر المعنى ... في الهوى دينا ومله
حرمت من وصله ما ... خالق الخلق أحله
وأحلت قتله والل ... له قد رحم قتله
يا ترى في أي يوم ... يصل المحبوب حبله
وبه في طيب عيش ... يجمع الرحمن شمله
ويرى العاذل فيه ... تاركا في الحب عذله
ويعود الصب للمع ... هود من غير تعله
فهم قوم سراة ... أريحيون أجله
ولهم في القلب ود ... لا يروم الغير نقله
غير أن الدهر أبدى ... منهم للصب غفله
سددون الضاحك الث ... غر طريقا منه سهله
فتناسوا عهد صب ... ذاهل اللب موله
وجفوه فرسوم ال ... ود منهم مضمحله
فمتى في الدهر نلقى ... شيخنا بدر الأهله
علنا نشكو إليه ... سطوة الدهر وفعله
نجل إبراهيم عز ال ... دين محمود الجبله
أعظم الأخيار نيلا ... أكرم الاحرار خله
أحسن الناس خصالا ... لم نرى في الناس مثله
وهو للطالب علما ... علم زاه وقبله
يا جمال الدين من ح ... از خصال المجد جمله
هاك نظما من محب ... لا يرى غيرك أهله
أوجدته فكرة قد ... كدرتها أي شغله
يرتجى منك قبولا ... لنظام جاء قبله
مسبلا من دونه ست ... را من العيب وكله
دمت في أرغد عيش ... اقيا أعلى محله
فراجعه عنها بقوله
سامحو المملوك لله ... واصفحوا عن كل زله(1/257)
عفوكم عنا دواء ... نافع من كل عله
والرضى منكم زلال ... مبرد من كل غله
ودكم عندي أمان ... ببراهين الأدله
حبكم شرعى ودينى ... وهو عندي خير مله
وهولى لي خلق كريم ... وطباع وجبله
ولقد مازج روحى ... وسواد القلب حله
قمر الحسن وللح ... سن بدور وأهله
لو رآه البدر أع ... لاه مقاما وأجله
ضرب الحسن عليه ... قبة تزهو وكله
يا لقومي في كثير ... الحسن حظى ما أقله
يا رسول قل له با ... لله أن أحسنت قل له
كي يقضي الصب عمرا ... فعساه ولعله
أن يكن لا يرتجى الو ... بل من الوصل فطله
وعلى الحسن زكاة ... وردت فيها الأدله
وهو مسكين فمنع ال ... صرف فيه من أحله
لست أشكو الجورالا ... للأجل ابن الأجله
من له كثرة أوصا ... ف العلى من غير عله
من رقى في المجد والف ... خر إلى أرقى محله
ونضا منصل عزم ... مرهف الجد وسله
وسعى في طلب العل ... ياء من غير تعله
وسما في نيله الف ... ضل إلى أرفع قله
ما أحل الله شخصا ... في العلى حيث أحله
يا سليل العز يا من ... لاعا ديه المذله
وصل المملوك وصل ... منكم أعلا محله
وكساه برد فحر ... زانه بين الأخله
عقد نظم خلته ور ... دا كساء الصبح طله
وتود الغيد لو أ ... ن لها منه أشله
بل هو الفضل أدا ... م الله للعالم ظله
فيه اعزاز لقدرى ... ولنظمى فيه ذله
فاقبلوا منى جوابا ... جاء في ضعف وقله
طال تقصيرى ولكن ... سامحوا المملوك لله
ومن شعر الإمام قوله
وشادن أجرى دموعي دما ... سفحا على الخدين لا ترقا
أخاف مسود عذارى به ... ببيض من حلته الزرقا
وله غير ذلك وكانت ولادته في سنة تسع عشرة بعد الألف وتوفي في رابع جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وألف وقام بعده في طلب الأمامة لنفسه أحمد بن الحسن بن القاسم ونازعه فيها القاسم بن محمد بن القاسم ابن عمه وحصل بينهما محاربه ثم تمت الولاية لأحمد كما تقدم في ترجمته الشيخ إسماعيل بن محمد عماد الدير المعروف بابن تبل الدمشقي القبياتي ذكره النجم الغزى في ذيله فقال في حقه كان من أذكياء العالم ودأب في الاشتغال حتى برع في كل فن من الفنون واشتهر بالفضل وكان شافعيا ثم تحنف وقصد أن يسلك طريق الصوفية فاختلى عند الشيح احمد الحرستاني الكاتب ورأى في الواقعة بعد ستة عشر يوما أنه فلاة فيها فيها كوم من أحجار وأوساخ ووجد عليها قطعة خبز فأكلها فذكر هذه الرؤيا للشيخ أحمد فقال له اخرج من الخلوة فإن لك خولة في الدنيا فخرج ثم تعلق بأنواع العلوم العقلية وسافر إلى الروم وسلك الطريق وخدم في الدنيا فخرج ثم تعلق بأنواع العلوم العقلية وسافر إلى الروم وسلك الطريق وخدم بعض الموالى حتى صار محاسبا بأوقاف قسطنطينية في زمن بعض قضاتها حتى حصل دنيا عريضة واشتهر فيما بينهم بمنلا عماد ثم تفرغ عن ذلك كله ووهب ما عنده من متاع وغيره ولحق بالعارف بالله تعالى الشيخ محمود الاسكدارى وصار من مريديه وتوفي في عنده بأسكدار في نسة عشر بعد الألف رحمه الله تعالى السيد إسماعيل بن محمد بن الحسن بن الإمام القاسم من أولاد الأئمة باليمن وجده هو الذي أخرج الأتراك من اليمن وكان ذا ولاية واسعة وستأتي ترجمته أن شاء الله تعالى وكان السيد إسماعيل المذكور في المحل الأعلى من الفصاحة والبلاغة وحسن الأدب نقى الطبغ به الآثار رقيق جلباب النظم وله مؤلف سماه سمط اللآل بأشعار الآل وفضله في اليمن أشهر من أن يذكر ومن شعره النقى البهى قوله يمدح والده محمد بن الحسن(1/258)
أترى السلب للقلوب الشجيه ... لسواجى ألحاظها كالسجيه
أم رمى غير أسهم اله ... دب ولم يدر ان قلبي الرميه
فعلت بي الألحاظ شرفها الل ... ه تعالى ما تفعل المشرفيه
عرفتني أسحار بابل ها ... روت فكانت عندي هي البابليه
نصبت لي أشراك هدب فهلا ... شافعي واحد من الزيديه
أنا شيعها وبالنصب جر ... تني إلى أن وقعت في المالكيه
ملكتني قلبا وعينا وحتى ... ملكتني قولا وفعلا ونيه
ما نويت الطموح للغير إلا ... حجبتني الحواجب النونيه
وبنار الأخدود ذاب فؤادى ... من خدود ندية عندميه
أي نار لها اتقاد لماء ... غيرنا على الخدود النديه
يا لها فتنة لها قدرها الله فعا ... دت عشاقها قدريه
لا يرون السلوان مما يطي ... قون ولا يدفعون هذي البليه
حققوا الجبر في اعتزالهم الل ... وم فراحوا لفعلهم رافضيه
فهم يفرقون من كل شئ ... أبدا في صباحهم والعشيه
مثل ما يفرق الشجاع إذا لا ... قى أمام العصابة الهاشميه
الأمام القوام لله بالح ... ق باجماع الجماعة النبويه
الأغر الابر عز الهدى اله ... ادى البرايا إلى الطريق السويه
المفيد المبيد شمل الأعادى ... بالمواضى وبالقنا السمهريه
خير من هز صار ما يوم روع ... وعلى صهوة الجياد العليه
والذي قاد شاردات المعالي ... بالعوالى والهمة العلويه
والذكى الذي يحل من الأ ... سكال ما يعجز الفحول الذكيه
والجواد الذي يسوق إلى العا ... فين سحبا من اللهى عسجديه
والمليك الذي يدبر أعم ... ال نظام الشريعة الأحمديه
لم يزل في الأمور يمضى برأى ... هو أوضى من الشموس المضيه
أحلم الناس أعلم الناس أز ... كاهم مقاما ومحتدا وطويه
والذي طاب نشر ذكراه حتى ... طاب منه أقصى الجهات القصيه
هاكها بنت ليلة حبرتها ... مع شغل سليقة حسنيه
درها تخجل اليواقيت منه ... ودرارى الكواكب العلويه
فاقبل النور من خطابي واعذر ... في خطاب جلبة وخفبه
إنما يحسن النظام ويزكو ... حين تزكوا العوارض النفسيه
غير خاف على أب الفضل أن ال ... ضيم تأبى منه النفوس الأبيه
وابق ما مالت الغصون على ال ... روض وغنت بأبكها قمريه
وعلى خاتم النبيين وا ... آل صلاة من الاله سنيه
وسلام عليك تترى من ... الله تعالى في بكرة وعشيه
وله غير ذلك وكانت وفاته في سنة ثمان أو تسع وسبعين وألف وعمره فوق الثلاثين وتحت الأربعين تقريبا في مذيخره من أعمال السعدين رحمه الله تعالى(1/259)
الشيخ إسماعيل الأنقروى المولوى أحد خلفاء طريق حضرة مولانا قدس الله سره العزيز المشهود لهم بالفضل الباهي الباهر ولد بانقره وساح وجد في طريق المولوية إلى أن أكمل الطريق ثم ولى المشيخة الواقعة بالغلطة المنسوب ايقاظها إلى اسكندر باشا وكانت مجالسه غاصة بالادباء والظرفاء وكان فاضلا متورعا متشرعا أديبا وافر المعرفة بلسان القوم مطلعا على أحوالهم وله بالمثنوى المام كلى وله عليه شرح نفيس وشرح مشكلاته أيضاً وله تآليف كثيرة منها كتاب طريقت نامه وشرح حديث الأربعين وحجة السماع وشرح التائية وشرح الهياكل والفاتحة العينيه وهو تفسير الفاتحة بالتركيه ألفه بعد أن طرأ عليه العمى وعوفى منه وفي زمنه قدم الشيخ عبدى المولوى من ديارانا طولى وجدد زاويتهم المشهورة بقاسم باشا وكان شيخا صالحا مجاهد اعظيم الشان وكانت وفاة الشيخ إسماعيل في أواسط سنة اثنتين وأربعين وألف ذكر هذا ابن نوعى في ذيل الشقائق التركى الشيخ إسماعيل السجيدى المصري الفقيه الشافعي كان من أكابر الشافعية بمصر وكان صاحب عبارة وبلاغة وفصاحة وبراعة أماما في العلوم العربية أخذ الفقه عن الشيخ الرملى ولازمه إلى أن مات وتكمل بالنور الزيادى وتصدر للإقراء بالجامع الأزهر سنين عديدة واستمر إلى أن توفي نهار الاثنين سابع ربيع الأول سنة ست وخمسين وألف وعمره نيف وتسعون سنة الشيخ إسماعيل الكلشني خليفة الطائفة الكلشنية بحلب كان من خيار الخيار ذكره أبو الوفا العرضي في تاريخه وقال في وصفه أعطى مزمارا من مزامير آل داود وصار سمير العبادة والزهادة والركوع والسجود نشأ في العبادة ولتقوى منذ كان طفلا واستمر عل حالة واحدة شابا وشيخا وكهلا قرأ على العرضى المذكور في المصابيح للإمام البغوى مدة مديدة ثم استجازه فأجازه بما يجوز له وعنه روايته وقرأ أعلى النجم الحلفاوى في النحو والفقه مدة طويلة وكان أوى م المريدين للكلشنية وكانت زاويتهم أول من أصلحها وأنشأ هذه الطريقة في الديار الحلبية درويش رجب ثم إنه فعل أوضاعا مذمومة ثم تولى المشيخة رضوان دده فجلس مدة ولم يقبل الناس عليه ثم أدركته الوفاة ثم قدم صاحب الترجمة مجازا من الديار المصرية من صاحب السجادة أحد أعيان ذرية الكلشنى فوجده الناس ذا هيئة حسنة وشكل حسن وقراءة حسنة مجودة فإنه قرأ على الشيخ عبد الرحمن اليمنى أحد أئمة القراء في الديار المصرية وكان صاحب الترجمة يقرأ بالألحان والأوزان والأنغام من غير أن يخرج الحروف والكلمات عن حقوقها فاستحلى جميع الناس قراءته مع المحافظة على الدين والشريعة ويعرف الفقه معرفة لا بأس بها وبعض شئ في النحو ويقرى المخاديم الصغار القرآن بالتجويد ويعلمهم مقدمات الفقه واللسان الفارسي مع الضبط لفقرائه بحيث أن غالبهم محافظون على الشريعة وكان لا يموت أحد من الأعيان وغيرهم إلا أحضروه يذكر أمام الجنازة تبركا به ويعظمونه ويعطونه أكثر من غيره وكانت الأكابر ترسل إليه بالاحسانات فيبذلها للمريدين ولا يختص بها وصار لزاويته بعض خيرات وصدقات حتى انتظم أمرها وكان يقيم حلقة الذكر ليلة الجمعة فيقرأ مع الجماعة سورة تبارك على أسلوب لطيف تستحليه الناس أرباب الأذواق السليمة ثم يذكر مع القوم على أسولب حسن مع الرضى بالقناعة ثم إنه لما مات شيخه في مصر توجه إلى مصر ليأخذ البيعة على الشيخ الجديد فقدر الله أن الشيخ الجديد مات وهو في خلال الطريق وتولى غيره وحضر صاحب الترجمة فعطموه وأجلوه وأعطوه أجازه أيضاً فرجع عزيزاً جليلا وأقام بحلب إلى أن توفى وكانت وفاته في سنة ست وسبعين وألف(1/260)
أصلان دده المجذوب نزيل حلب قال العرضى المذكور آنفا عند ما ذكره اخترط في مبادى العمر شوك القناد واحتمل المشقات والانكاد من الجوع والعطش والعرى والسهر وكان ينام في المساجد بغير غطاء مشغولا ولا بخويصة وجوده في منادماته وشهوده وكان نائبا لبعض قضاة حلب فحصل له الجذب الآلهي فيها يقال انه قطع خصيتيه قال وسمعته يقرأ أحيانا بعض عبارات كافية ابن الحاجب وكان يسرد أحيانا قليلة ولا يتكلم مع الناس إلا القليل من الكلمات تارة لها انتظام وأخرى بدونه ثم خدمه رجل يقال له الشيخ محمد العجمي وكان شيخا معلما لبعض الأكابر من أرباب الدول وكان له صوت حسن وخط حسن فأجل مقامه وأظهر أحترامه فعكف الأكابر عليه وقدمت الأموال إليه وشاهد كثير من الناس تصرفه التام ومن كراماته ما أخبرني به صهرنا الشيخ أحمد الشيباني وكان عبداً صالحا معتقدا في الأولياء من ذرية قوم كرام من ذرية بني الشيباني ومن ذرية بيت الشحنى أنه كان لوالده معتق يقال سليمان ترقى في الرفعة حتى صار كتخذاى جعفر باشا كافل بلاد اليمنية انه لما رجع من اليمن على انطاكية فاستقبلة أحمد المذكور فأخرج له ورقة تتضمن أن الشيخ محمد الزجاج من أهل اليمن يسلم على اصلان دده ويقبل أياديه وقال لي قبل أيديه عنى فأنا الآن مشغول بخدمة الباشا لا أستطيع الذهاب إلى المذكور فأنت كن نائبا عنى فلما جاء أحمد المذكور قام له أصلان دده قائلا مرحبا بالذي جاء لنا بسلام أهل اليمن ررها أربع مرات ثم قال وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وكررها أربع مرات ثم قال رأيت الجمل قل ولا الجمال وكررها أيضاً كل هذا وأحمد المذكور لم يكلمه بذلك ولا شطر كلمة وإنما عرض عليه الأمر في الباطن وهذه الكلمات قالها بالتركي فإن أصلان دده كان لا يعرف العربية ولسانه تركى فقال له درويش على خليفته الجالس في خدمته يا سيدي حضرة الدده يقول لكم السلام ولكم اليمن والبركة ولكم الجمال لمكة فقال يا مولانا صدقتم هذا تأويل كلام الشيخ
سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب(1/261)
ومن كراماته أن عسكر يا اشترى من باياس أرزاو بنا وسكر وقال في ضميره أعطى للمذكور منه ستة عشر أبلوجا من السكر والباقي يبيعه خليفته سيدي على ويحط الثمن على دراهمه الكثيرة ثم عدل وقال آخذ له أبلوجين ثم حمل السكر من باياس فسقط عن الدابة ووقع في الماء حتى وصل إلى التلف وقدر الله أن البن والأرز كانا يباعان بأحسن ثمن فانحط ثمنها ففي الحال ذهب وأعطى بقية ماندره في ضميره فما مضى ثلاثة أيام حتى باع الجميع بأرفع الأثمان ومنها أنى الفقير أردت أن آخذ مكانا خرابا كان أصله يباع فيه غزل الصوف من مستحق وقفة فطابته مه فامتنه ووقع في خاطر وكان المذكور كثيرا مايز ورنا ي زاويتنا العشائرية يدخل إلى بيتنا ولبيتنا باب آخر إلى الجراكسية وغلى الموضع الذي طلبته وما خرج المذكور قط من ذلك الباب فزارنا ودخل إلى بيتنا وفتح ذلك الباب وتوجه إلى ذلك المكان وأسند إليه ظهره زمانا طويلا ثم عاد إلى بيتنا وخرج إلى زاويتنا ففي اليوم الثاني جاءني مستحق الوقف يطلب منى ما كنت ذكرته له وقضى الله المصلحة ومنها أنه يوما من الأيام ديوان حافظ واستمر عنده نحو شهر وهو ينظر إليه ويقبله فبعد ذلك تواترت الأخبار أن الحافظ صار وزيراً أعظم وكانحينئذ في آمد وكانت الهدايا والنذورات تأتيه على التوالي وتعطيه أرباب الدول المئات من القروش بحيث إذا شفع في أعظم شفاعة تقبل مع أنه لا يدرك شيئاً بالكلية لغلبة الجذب عليه حتى بنى له خليفته سيدى على دكاكين وبيوتا وأخذ له خان الكتان واتخذ له قهوة بعض الدكاكين وقف ناصر الدين بن برهان وبعضها وقف زاوية بيت الشيخ دامان الشيخ إبراهيم الحبال وكتبها لنفسه فالخلوات ملك له ثم وقفها وأما الأرضية فإنها للغير بعضها الجامع ناصر الدين بيك وبعضها الزاوية بيت الشيخ دامان في سويقة الحجدارين واتخذ هذا البناء في زمن يسير من زارة الحافظ وهو الزير الأعظم فأعطاه ألف دينار ومن عجيب أمره انه قبيل موته حضر لديه إنسان يشبهه من كل وجه بحيث لو رآه الصغير الذي لا يدرك شيئاً وقيل له من هذا لقال أخو أصلان دده فادعى انه أخوه وجلس هناك وسيدى على ينكر ذلك فأحضر سيدى على نائب المحكمة الصلاحية وأحضر هذا الرجل فقال من أنت فقال أنا فلان بن فلان وأمي فلانة فسمى أباه وأمه وسئل صاحب الترجمة وهو لا يدرك شيئاً من الأمور فقال أنا فلان وأبي فلان وأمي فلانة فسمى أباه وأمه بغير ما سماه وأثبت النائب أنه ليس أخاه ثم لم يفدهم ذلك شيئاً واستمر يأخذ من وقف التكية حتى مات ومنها ما شاهد الناس منه أنه لما كان السلطان يطلب بغداد كان صاحب الترجمة في تعب باطني عظيم وكانت وفاته بعد فتح بغداد بقليل والفتح كان في سنة ثمان وأربعين وألف وقد عاش نحو مائة سنة رحمه الله تعالى الشيخ أكمل الدين بن عبد الكريم القطبى مفتى مكة وعالمها كان من العلماء الأجلاء له الشهرة والعظمة والهيبة ودرس وأفتى وأفاد وأخذ عن جماعة وأخذ عنه جماعة وفتاويه شاهدة بعلمه الجم وهي مقبولة فيما بين علماء مكة مرغوب إليها وبالجملة فهو من أساطين علماء الحجاز وكانت ولادته ليلة الخميس سابع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وتوفي شهيدا بالاعاضد وهو اسم محل به نخل ومزارع بين الطائف والمبعوث ليلة الثلاثاء ثاني عشر شوال سنة تسع بعد الألف والشريف إدريس إذ ذاك بالمبعوث ودفن بالمسبل وبنو القطب بمكة أبناء علم ورياسة وسيأتي منهم عبد الكريم بن أكمل الدين هذا أن شاء الله تعالى(1/262)
الأديب أكمل الدين بن يوسف المعروف بابن كريم الدين الدمشقي الحنفي الأديب الشاعر المشهور كان فاضلا مفننا طلق اللسان حلو العبارة حسن الخط عارفا باللغة الفارسية والتركية صاحب نظم ونثر فيهما وكان جهورى الصوت ندى اللهجة مثقنا للموسيقى وتوابعها وله أغان كان يصنعها وتنقل عنه وألف شرحا على ديوان ابن الفارض لم يشتهر وقد تلقى عن أشياخ عدة منهم عبد الرحمن المفتى العمادي وفضل الله بن عيسى البوسنوى نزيل دمشق والشيخ عمر القاري والشرف الدمشقي وأخذ الحديث عن أبي العباس أحمد المقرى وبرع ولازم من شيخ الإسلام يحيى بن زكريا وولى نيابة القضاء بمحاكم دمشق ودرس بالمدرسة القصاعية الحنفية ثم رجل إلى الروم وصحب معه زوجته أولاده وأقام بها مدة جزئية وأعطى رتبة الداهل فقدم دمشق ثم حبب إليه الانعزال عن الناس ولزم الوحدة حتى ابتلى بمال ليخوليا وأثرت فيه آثارا باللغة وكانت تصدر عنه أحوال غريبة يجعلها اكثر من يعرفه أحاديث واطروفات ومن أعجبها ما حكاه الدرويش ولى الدين الموصلى الطنبورى وكان له به صحبة قال استدعاني ليلة إلى داره فجلسنا للمفاكهة والغناء إلى وقت نصف الليل ثم نهض مسرعا وجاء بسيف مسلول ثم قال خطر في بالي الآن أن أقتلك وأنا مصمم عليه البتة فإنه طهر لي أنك جاسوس من جانب شاه العجم على بلادنا وأنا متقرب بقتلك إلى خاطر سلطاننا فإنه إذا بلغه هذا حصل له حظ عظيم وإن أردت السلامة فأعطني موثقا بأنك إذا أطلقت ووصلت إلى الشاه فلا تذكرني في مجلسه فإنه ربما يكون ذلك سببا لمجيئة إلى بلادنا وإن ذكرتني ولا بد فليكن ذكرك على وجه المدح وأعلمه بأني أعرف اللغة الفارسية فإذا أرسل يطلبني سرت إلى خدمته فإني سئمت م هذه البلاد وانفصل المجلس بينهما عل هذا وله من هذا القبيل أشياء أخر أعرضت عنها لشهرتها وبالجملة فإن أوائله كانت في غابة من الظرف والكمال وله أشعار كلها جيدة لطيفة مستعذبة منها قوله
وحديقة ينساب بين غصونها ... نهر يرى كالفضة البيضائ
قد ألبسته يدا الجنائب والصبا ... زردا كنبت الروضة الغناء
دولابه بنحيبه كمذكر ... عهد الشباب ومعهد السراء
أبدا يدور على الأحبة باكيا ... بمدامع تربو على الأنواء
ناح الحمام عليه قدما فهو في ... ترجيعه موف قديم أخاء
وقد أجاد في قوله من رباعية
حيا وسقى الحيا الربى والسفحا ... من غادية تشبه دمعى سفحا
والله وما ذكرت عيشى بهما ... إلا وضربت عن سواهم صفحا
وقال معميا في اسم عيسى
وجهك الشمس على ... قد له الخال شعار
فتنة العالم دارت ... منك إذ دار العذار
أراد بالشمس العين وبالقد الذي له الخال شعار الياء ونقطها بالعذار المراد به آس إذا دار كان ساوفيه دخل من جهة كتابة عيسى بالياء والمستخرج للمعى إنما يستخرج ما يراه مكتوبا والأمر في ذلك سهل وأشعاره كثيرة وقد استوعيت منها طرفا في كتابي النفحة فراجعه إن شئت وكانت ولادته في سنة اثنتي عشرة وألف وتوفي في حادى عشرى سفر سنة إحدى وثمانين وألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى(1/263)
اله بخش العارف بالله تعالى واله بخش لفظ فارسى معناه عطية الله الهندي النقشبندي كان صاحب معرفة وكما لو تكميل وكانت طريقته طريقة العشقية وكان عالى المشرب نهاية في المعارف نقلت عنه التصرفات العجيبة والكرامات الغريبة وهو من أجل مشايخ العارف بالله تاج الدين الهندي التقشبندي نزيل مكة وله معه خوارق منها أن الشيخ أرسله إلى بلد أمروهة لخدمة فكان يمشى في الطريق فرأى في أثناء طريقه امرأة جميلة فتعلق قلبه بها وصار مشغوفا بها حتى خرج زمام اختيار من يده ونسى تلك الخدمة وتبعها فبينما هو كذلك إذ رأى الشيخ على يمين تلك المرأة ينظر إليه واضعا اصبعه السبابة في فمه على طريق التنبيه والتعجب فلما رآه حصل له منه غاية الحياء وانقطع أصل محبتها من قلبه ومضى لسبيله ولما رجع من الخدمة وصل إلى الشيخ فلما رآه ضحك منه فعرق أنه كان مشعرا بذلك ومنها أن واحدا من أصحاب الشيخ إله بخش كان يقرأ عليه شيئاً في علم التصوف ذات يوم فجاء الجراد إلى البلد ووقف على أشجار الناس وزروعهم فجاء راعة بستان الشيه وأخبره بالجراد فأرسل الشيخ واحدا من أصحابه إلى البستان وقال له قل للجراد مناديا بصوت رفيع إنكم أضيافنا ورعايه الأضياف لازمة إلا أن بستاننا أشجاره صغار لا تحتمل ضيافتكم فالمروءة أن تتركو مفرد ما سمع الجراد هذا الكلام من الرجل طار وخرج من بستان الشيخ وصار زروع الناس وبساتينهم كعصف مأكول الابستان الشيخ ومنها أن رجلا جاء إلى الشيخ أله بخش وشكا إليه الفقر والضيق في المعيشة وجلس أياما في خدمته فقال له الشيخ إذا حصل لك شئ من الدنيا ما تخرج لنا منه فقال العشر فقال له لا تستطيه فكرر عليه الكلام حتى استقر الحال على أن يخرج له من كل مائة واحد فأمره أن يروح إلى واحد من أهل الدنيا فحصل له ببركة الشيخ دنيا كثيرة في أيام قليلة فكان الشيخ يرسل إليه الفقراء ويكتب له بأن يعطيهم فلا يؤدي إليهم شيئاً ثم اجتمع عنده دراهم كثيرة من حصة الشيه فكتب إلى الشيخ أنكم ترسلوا واحدا من خدامكم حتى نرسل هذه الدراهم إليكم فلما وصل مكتوبه حصل للشيخ غيرة وغضب وقال بحان الله ما قلع أحد من وقت آدم إلى يومنا هذا شجرة غرسها بنفسه إلا أنا أقلعه اليوم فجاء بعد أيام خبر موته وله كرامات كثيرة وكانت وفاته ليلة الأثنين تاسع عشر شهر رمضان سنة اثنتين وألف وعمره اثنان وثمانون سنو وهو على ركبة تلميذه الشيخ تاج الدين وأوصاه أن لا يغسله ولا يكفنه إلا هو فقبل وصيته رحمه الله تعالى الشيخ إمام الدين بن أحمد بن عيسى المرشدي العمري الحنفي مفتى مكة الفاضل العالم العلم ولد بمكة وبها نشأ وقرأ القرآن وحفظه جوده على الفقيه المقرى أحمد اسكندر وحفظ الكنز والها ملية وعرضهما على ابن عمه حنيف الدين بن عبد الرحمن المرشدي الآتى ذكره ولازمه في دروسه حتى حصل طرفا صالحا في مذهب الإمام الأعظم وأخذ النحو عن عبد الله باقشير وأخذ عن عيسى المغربي الجعفري ومحمد بن سليمان نزيل مكة وقرأ طرفا على السيد محمد الشلى باعلوى من البخارى والشمايل وشرح الأربعين وجملة كتب في علم العربية وقرأ الفرائض والحساب على أحمد بن علي باقشير وجدروا جتهد في طلب العلوم لا سيما العقه حتى فاق أقرانه ولبس الخرقة من السيد العارف بالله تعالى عبد الرحمن الأدريسي المغربي وولى منصب الأفتاء بمكة ولم يزل على طريقة حسنة حتى توفي وكانت وفاته يوم الاثنين منتصف جمادى الآخرة سنة خمس وثمانين وألف بمكة ودفن بالعلاة في سوح السيدة خديجة رضى الله عنها على يسار الخارج م القبة ثم بعد سنين دفن عليهن السيد إبراهيم بن محمد أخو الشريف بركات وبنى عليه بناء مرتفع يشبه التابوت المولى أويس القاضي الرومي المعروف بويسة واحد الزمان في النظم والنثر لم ير مثله في حسن التأدية والتصرف في قوالب الشعر والإنشاء بلسان التركي وكان في حياته سلطان الشعراء باقي الآتى ذكره يشار إليه بالبراعة التامة فلما مات باقي أذعنت له الشعراء جميعا حتى خاطبه أحدهم يوم موت باقي ببيت بالتركية ترجمته هكذا
لئن مضى للنعيم باقي ... فكن لنا الدهر أنت باقي(1/264)
وكان سريع البديهة إذا أخذ القلم بيده لا يدعه حتى يستوفى غرضه وأخبرني جماعة عنه أنه كان يقول عن نفسه إذا أخذت القلم بيدي لا نشئ شيئاً تزاحمت على المعاني فربما حررت في مقصد واحد أشياء كثيرة ثم أعود فانتخبها انتقيها وقريب من هذا ما يقال أن صديقا لكلثوم العتابي طلب منه يوما أن يصنع له رسالة فاستمد مدة ثم علق القلم فقال له صاحبه ما أرى بلاغتك الارشادة عنك فقال العتابي إني لما تناولت القلم تداعت على المعاني من كل جهة فأحببت أن أترك كل معنى حتى يرجع إلى موضعه وهذا أمثل قول امرئ القيس يقال أنه قالها وهو ابن عشر سنين
أذود القوافي عنى ذيادا ... كذوذ غلام غوى جوادا
فلما كثرن وعتيته ... تخير منها جوادا جوادا
فأعزل مرجانها جانبا ... وآخذ من درها المستجادا(1/265)
وله تآليف حسنة الوضع منها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بالتركية أحسن فيها كل الإحسان وقد طالعتها كثيرا فشكرت صنيعه فيها وأورد فيها أشياء مناسبة للمقصود فمن ذلك ما ذكره في فصل سفر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام واجتماعه بجير الراهب قال أخبرني الشاب الغاضل على الحلبي الأسكوبي وأنا قاض باسكون وقد طارحته في الوقائع النبوية فحكى لي أنه في أثناء سياحته مر على قصبة من قصبات الروم تدعى دبرى بكسر الدال ثم باء موحدة وراء مكسورة بعدها ياء قال فدخلت إلى دير معظم بالقرب منها فلم أر أحسن منه وضعا وتزيينا ورأيت فيه مجلسا عظيم الشأن قد رتب ترتيباً أنيقاً فسألت عنه ثمة راهبا من الرهبان الطاعنين في السن فجذبني إلى مكان لا يرانا فيه أحد ثم قال لي هذه صورة المجلس الذي رتب فيه بحير الضيافة لنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم لما ورد الشام للتجارة قال فتأملته فإذا هو على طبق ما ذكره أهل السير ثم قلت للراهب أترى أن نبينا لو لم يكن عندكم مبعوثا بالحق عل كان صناديدكم يتكلفون في تخليد مآثره هذا التكلف وهل كانوا يعتنون في إقامة رسومه بينكم فما هو إلا كما نقول قال فقال لي أنا نحن مصدقون بنيوته موقنون بها وربما أنا لو لم نخف من الجهلة لا قررنا بالشهادتين في الملأ العام فهو النبي الصادق الوعد المبعوث في آخر الزمان غي أننا قائلون ببعثته إلى العرب خاصة والله أعلم وله كتاب واقعتنا مه بالتركية ألفه على طرز مخاطبة جرت من البديع الهمداني لابن فارس صاحب المجمل سأذكرها إذا ذكرت مخلص هذه وحاصل تأليفه أنه رتب رؤيا وأبرزها في هذا القلب وذلك في عهد السلطان أحمد في حدود سنة سبع عشرة وألف وكان أمر الدولة إذ ذاك في غاية الاضمحلال قال لما لاحظت الحوادث في عالم الكون والفساد كنت أتمنى لو كلمت السلطان في هذا الشأن بلا واسطة حتى طرقني النوم في أثناء هذه الفكرة فرايت جماعة كل منهم في ناصيته نور الساعدة لامع وشعاع الإقبال في وجهه ساطع فنزلوا في بستان وكل منهم استقر على كرسي وبقيت أنا مع الخدم فناداني المتأمر منهم وأجلسني فسألت عنه فقيل لي أنه الاسكندر ذو القرنين والذين حوله هم ملوك آل عثمان الماضين ثم أقبل موكب حافل وأسفر عن السلطان أحمد فجاء وجلس على سرير مقابل للإسكندر وأخذ هو والاسكندر في المكالمة فكان تارة يتكلم وذاك ينصب وتارة ينصب وذاك يتكلم حتى ابتدر الاسكندر وقال إن السلطان قلب العالم فإذا لم يكن القلب معتدل الأحوال انحرف العالم عن د الاعتدال والعدل والرشاد مادة الساداد والمرحمة والانصاف سبب جمعية الرعايا والجور والاعتساف باعث تفريق البرايا فتأوه السلطان ثم قال أيها السلطان الأعظم كلامك حق معلوم أما اعتدال القلب فموجود وأما الجور فغير مجحود وذلك لأن السلطنة لم تسلم لنا إلا بعد خراب الدنيا فإنه من عهد جدي المرحوم السلطان مراد الثالث قدار ارتكبت مكروهات لا محيد عنها وذلك بسبب التصميم على قلع شجرة الرفض والالحاد فاقتضى الأمر تعيين العساكر التي لا نهاية لها ولزم من ذلك اعطاء المناصب العلية والمراتب السنية لغير أهلها لوزم من ذهاب العساكر وإيابها في كل سنة تكاليف الرعايا ووقع بينهم وبين العساكر وربما أدت مخاصمة اللسان إلى محاكمة السيف والسنان فوقع بسبب ذلك الخراب فقال أن قطع النظر عن ذلك وادعى العمار فيما قبله وإن الدنيا لم تخرب إلا في هذا الزمان فيا ليت شعرى متى كانت معمورة أفي زمان آدمن ثم ذكر وقائع نبي بعد نبي إلى نبينا ثم إلى الخفاء ثم إلى الملوك إلى زمان الملك الناصر بن قلاون ولا يتعرض إلا لمصاحب ما جرية غريبة وبعد إباد لما جرية يقول في أي زمان هذا كانت الدنيا معمورة إلى آخر ما ذكره ومن رسالة البديع تعرف الأسلوب غير أنه غيره في كونه ابتدا من أول الدنيا إلى الطرف الآخر والبديع ابتدأ من الطرف الآخر وهذه رسالة البديع كما تراها وسبب انشائها أنه ذكر يوما البديع في مجلس ابن فارس فقال كلاما معناه أن البديع نسى حق تعليمنا إياه وعقنا وشمخ بأنفه علينا فالحمد لله على فساد الزمان وتغير نوع الإنسان فبلغ ذلك البديع فكتب إليه مجاوبا نعم أطال الله بقاء الشيخ أنه الحمأ المسنون وإن ظنت الظنون والناس لآدم وإن كان العهد قد تقادم وتركبت الأضداد واختلط الميلاد والشيخ الإمام يقول فسد الزمان أفلا(1/266)
يقول متى كان صالحا أفي الدولة العباسية فقد رأينا آخرها وسمعنا أولها أن المدة المروانيه وفي أخبارها لا يسكع الشول بأغبارها أم السنين الحربية والرمح يركز في الكلا والسيف يغمد في لكلا ومنبت حجر بالفلا والحربان وكربلا أن البيعة الهاشميه والعشرة تراس من بنى فراس أن الأيام الأمويه والنفير إلى الحجاز والعيون في الأعجاز أم الإمارة العدوية وصاحبها يقول وهل بعد البزول إلا النزول أن الخلافة التمييه وهو يقول طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام أن على عهد الرسالة ويوم الفتح قيل اسكني يا فلانة فقد ذهبت الإمانة أن في الجاهلية ولبيد يقول وبقيت في خلف كجلد الاجرب أن قيل ذلك وأخو عاد يقولل متى كان صالحا أفي الدولة العباسية فقد رأينا آخرها وسمعنا أولها أن المدة المروانيه وفي أخبارها لا يسكع الشول بأغبارها أم السنين الحربية والرمح يركز في الكلا والسيف يغمد في لكلا ومنبت حجر بالفلا والحربان وكربلا أن البيعة الهاشميه والعشرة تراس من بنى فراس أن الأيام الأمويه والنفير إلى الحجاز والعيون في الأعجاز أم الإمارة العدوية وصاحبها يقول وهل بعد البزول إلا النزول أن الخلافة التمييه وهو يقول طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام أن على عهد الرسالة ويوم الفتح قيل اسكني يا فلانة فقد ذهبت الإمانة أن في الجاهلية ولبيد يقول وبقيت في خلف كجلد الاجرب أن قيل ذلك وأخو عاد يقول
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الناس ناس والزمان زمان
أن قبل ذلك ويروى عن آدم عليه السلام
تغيرت البلاد ومن عليها ... ووجه الأرض مسود قبيح
أن قبل ذلك والملائكة تقول أتجعل فيها من يفسد فيها ما فسد الناس بل اطرد القياس ولا أظلمت الأيام بل امتد الظلام وهل يفسد الشئ إلا عن صلاح ويمسى المرء إلا عن صباح ولعمري إن كان كرم العهد كتابا يرد وجوابا يصدر أنه لقريب المثال سهل المنال وإنني على توبيخه لي الفقير إلى لقاءه شفيق إلى بقائه منتسب إلى ولائه شاكر لآلائه إلى كلام آخر يتخضع له فيه ويتملق والغرض المسوق له الكلام قد انتهى بعون الله وحسن توفيقه وكانت وفاة أويس في سنة سبع وثلاثين وألف رحمه الله تعالى الشيخ أيوب بن أحمد بن أيوب الاستاذ الكبير الحنفي الخلوتي الصالحي أصل آبائه من البقاع العزيزى ونسبه متصل بسيدى على بن مسافر قدس الله سره ولد صاحب الترجمة ونشأ بصالحية دمشق واشتغل في أنواع العلوم على جدى القاضي محب الدين والمنلا نظام والمنلا أبي بكر السنديين وعبد الحق الحجازي وأخذ الحديث عن المحدث المعمر إبراهيم بن الأحدب وصحب في طريق الخوتية العارف بالله أحمد العالي وأخذ عنه التصوف وصار شيخ وقته حالا وقالا وفريد عصره استيلاء على الكمالات واشتمالا وكلماته في التحقيق مشهورة مدونه وله تحريرات ورسائل لا يمكن حصرها ولا ضبطها وأكبر ما روى له من الآثار رسالته التي سماها ذخيرة الفتح ودونها عقيلة التفريد وخميلة التوحيد وذخيرة الأنوار وسميرة الأفكار ورسالة اليقين وذخيرة المكر الإلهي ورسالة التحقيق في سلالة الصديق وجمع جزأ المشايخه في الحديث واتفق كل من عاصره على أنه لم ير أحد مثله جمع بين على الشريعة والحقيقة وبلغ الغاية في كل فن من الفنون وأخبرني عنه بعض الثقات أنه كان يقول أعرف ثمانين علما يعرف الناس بعضا منها بالحقيقة وبعضا بالاسم والبعض الآخر يجهلونه رأسا وولى الإمامة بجامع السلطان سليم بالصالحية وكان حسن الصوت والقراءة عافا بالموسيقى وحج مرتين وسافر إلى بيت المقدس ست مرات واستدعاء السلطان إبراهيم للإجتماع به في سنة خمسين فتوجه إليه واجتمع به ودعا له وعاد وكان يقول قد أظلمت في وجهي الدنيا منذ خرجت من دمشق حتى عدت إليها وكانت أحواله غريبة جدا من التواضع وترك التكلف وحسن المعاملة إلى الغاية وكان له الكشف الصريح وهو لسان ابن عربي وسمعت الفقيه الأديب إبراهيم بن عبد الرحمن أمين الفتوى بدمشق المقدم ذكره يقول إني كنت نظمت قصيدة مدحته بها ومطلعها
دعوه يكابد اشواقه ... فقد أكثر الوجدا حرافه(1/267)
قال وكنت لم أنشد لأحد منها شيئا فصادفت السيخ أيوب داخلا من باب العنبرانيين إلى الجامع الأموي فبادرني بانشاد مطلعها هذا فتعجبت من ذلك وظننت إني مسبوق به فقال لي أنظمت شيئاً من هذا الروى والوزن فقلت له نعم فقال في الليلة الماضية أنشدتني قصيدة هذا مطلعها اذهب واثنى بها وله من هذا الأسلوب وقائع كثيرة وروى عنه انه رأى الشيخ ابن عربي وعلى أبوابه حجب كثيرة نحو الأربعين ندخلها ولم يمنعه أحد من الحجاب فلما كشفها ووصل بين يديه قال له أنت على قدمي يا أيوب ولا أعلم أحداد خل على غيرك ورأى النبي صلى الله عليه وسلم والسادة العشرة معه وهو يقول لابن عمه على بن أبي طالب رضى الله عنه قل لأيوب طوبى لعصر أنت فيه وقد أشار إلى ذلك في خمزيته التي أولها يا عربيا حموا حمى الجرعاء وكان ملازما في جميع أوقاته على قول لا إله إلا الله حتى امتزجت به فكان إذا نام يسمع هديره وكن يقول لو كنت في مبدأ أمرى اعلم ما في إله إلا الله من الأسرار ما طلبت شيئاً من العلوم وذكر في رسالته الأسمائية أن أسرع الاذكار نتيجة لا إله إلا الله وقراءة سورة الإخلاص إلا أن هذه السورة أورادها أقهر للنفس الإمارة وأشد تأثيرا في فنائها فهي أولى للمتوسط في سلوك الطريقة بعد ظهور نتائج كلمة التوحيد وكان مغرما بالجمال المطلق لا يفتر ولا يمل من التعشق والتوله وفي ذلك يقول
قال المحقق أن القطب بعشق ما ... بداله من جمال قلت قد صدقا
وأن تقيد فقل أصل الجمال به ... مخيم لا تلوم الفرع أن لحقا
وقال أيضاً
قد لامني الخلق في عشق الجمال وما ... يدرو امرادى فيه آه لو عرفوا
وصلت منه إلى الاطلاق ثم رى ... سرى إلى قيد حسن عنه قد وقفوا(1/268)
وكانيقع له في باب العشق أحوال مقرونة بكرامات ومن أشهرها ما حدث به بعض التقات أن الشيخ حضر ليلة غند بعض خلانه وكان في المجلس غلام بارع الجمال فلما أرادوا النوم طلب الشيخ صاحب الرتجمة مضاجعته فأنكر عليه بعض الجلساء والتزم مراقبته في ليلته ثم اقتضى خروج الرجل في أثناء الليل إلى خارج الدار فصارف الشيخ قائما يصلى وحق شخصه ثم دخل فرآه نائما وتكرر منه فعل ذلك مرار فألقى أعنة التسليم ورجع عن انكاره تلك الصفة الكشف الصورى الذي ترفع فيه الجدران وينتفى الاستطراف ووقع له نوع من هذا في الخلوة بجامع السليمية أنه كبر وعظم في الخلقة حتى ملأ الخلوة رآه على هذه الحالة بعض حدفته من العلماء وأظنه شيخنا عبد الحي العكرى الصالحي رحمه الله تعالى ومن غريب ما وقع له أنه سحر فعدم القرار فبينما هو جالس في السليمية في شباكها القبلي وإذا برجل طويل القامة لم يره قبل ذلك اليوم فقال له اثتنى بدواة وقرطاس فأتاه بهما ثم قال له اكتب ما أمليك وهو بسم الله بايخ بسم الله بيدوخ بسم الله شمادخ بسم الله شموخ بسم الله برخوى بسم الله بانوخ قال موسى ما جئتم به السحران الله سيبطله أ، الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون يد الله فوق أيديهم وعصا موسى بين أعينهم كلما أو قد وأنار للحرب أطفاها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين فأغشيناهم فهم لا يبصرون شاهت الوجوه شاهت الوجوه وعنت الوجوه للحي القيومن وقد خاب من حمل ظلما سبحان الملك القدوس مالك الملك ثم قال له يكفى هذا القدر فإذا كان عليك أو على أحد سحر فاكتب منه نسختين تحمل واحدة وتغتسل بالأخرى ومن فوائده في رسالته الأنوار المرتبة الثالثة أو علمته أحدا من خلقك أي ابتداء من غير أن تكون له سلما أو معراجا أي يكون له ذلك كمن يذكر اسما من أسمائه سبحانه فيرجع في التجلى باسم آخر لم يعهده فيذكره فيتحلى عليه منه غرائب وربما أنكر عليه بعضه والأول كثير ومنه ما وقع للغوث الهندي وجمع منه الجواهر الخمس وهي الآن في عصرنا هذا لا سيما في مكة قد اشتهرت واجتمعنا بأهلها وسلموا لنا بعد الامتحان ظنا منهم أنها لم تصل إلينا وكانت قد وصلت إلينا قبلهم فأخرجوا ثلاثين كراسا قد شرحت فيها الجواهر الخمس فأمليتهم أياها ثم أمليتهم ما فيها في أدنى من ساعة رملية جملا جملا فلم يستطيعوا بعد ذلك احتجابا عني وإذا احتجبت عنهم لمصلحة طلبوني حثيثا وذلك إني لما عرفت ونزلت إلى مكة جلست تجاه الكعبة المشرفة مشاهدا لها فبينما أنا في حالة اعترتني وإذا بشاب وقف على وسألني فقلت له هذا الذي تسأل عنه اطلبه من غيري فسأل الغير فدله على فقال قم معي فإن جماعة يدعونك إلى عندهم فذهبت إليهم فحين جلست كتب واحد منهم يقال له الشيخ مهنا م حضرموت اليمن أبياتا أرجوزة تقارب خمسة عشر بيتا يسألني عن ثلاث مسائل ما القطب الأكبر وما الختم المحمدي وما معنى قول بعض المحققين الإنسان الكامل يعمر كل منزل ثم قدموا إلى داوة وقلما وقرطاسا فسميت الله تعالى وغمست القلم وكتبت مائة وثمانين بيتا من بحر الرجز أيضا لم يقف القلم فيها فأخذها ورأوها من الكرامات التي يكرم الله بها عباده المضافين إليه فبيضوها وكتبوها بالورق الحرير ثم أنهم لزموني لزوم الظل ولا زالوا في هذه معنا إلى أن خرجت من مكة ولى معهم أمور عجيبة إلى الآن يعملها الله وكما وقع للشيخ الأكبر في كتابه طب المرء من نفسه وتعريبه الأسماء الهندية وهو كتاب بديع غريب المظهر انتهى وقال فيها أيضاً ولقد رأيت في واقعتي ليلة تفييدى لأبيات من همزيتى في مدجه صلى الله عليه وسلم وهي قصيدة تزيد على أربعمائة بيت والتزمت في كل بيت جناسين من سائر أنواعه ما خلا الأنواع اليديعية وكنت في تلاوة ورد الصبح فجاءت المبشرة مثل فلقها وصورتها أنه ترا آي لي شجرة كما ذكر الله سبحانه أصلها ثابت وفرعها في السماء يغشاها من الأنوار كما يقال الرقائق الشمسية فطلبت في الحال ما وراءها فأغشيتها ورأيت خلفها فضاء واسعاً لأحد له ولا نهاية فإذا بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقبل إلى الجهة التي العبد فيها ومعه خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى وشعاع الأنوار ساطع من سائر مسام جسده الشريف فوق رأسي وصدره الشريف فوق صدري يضع يديه لشريفتين على ظهري ويقول إلى بارك(1/269)
الله فيك وفي عصر أنت فيه ولله الحمد على ما حصل من فيض فضله صلى الله عليه وسئل عن معنى قول القائل فيك وفي عصر أنت فيه ولله الحمد على ما حصل من فيض فضله صلى الله عليه وسئل عن معنى قول القائل
رأت قمر السماء فأذكرتني ... ليالي وصلنا بالرقمين
كلانان ناظر فمراً ولكن ... رأيت بعينها ورأت بعيني
فأجاب معنى هذين البيتين أن المرء الذي هو قمر السماء بعين المحبوبة إذكر المحب الليالي التي حصل له بها وصل هذه المحبوبة التي رأت قمر السماء فكل مهما نظر قمر من باله ولكن المحبوبة لما رأت ورؤيتها أذكرته رؤيته إياها تلك الليالي قمرا ادعى أنه رأى بعينها إذ لا قمر عنده إلا هي وهو إذا رأى القمر فقد رآها وهي أيضاً رأت بعينه فإنه ليس في عينه إلا هي التي هي القمر المرئي مطلقا فهو معنى ادعائي في الرؤيتين وهذا أحد الوجوه في معنى هذين البيتين وسئل عن معنى قول بعضهم في القصيدة المشهورة التي مطلعها
إليك وجهت وجهي لا إلى الطلل
منها
يا عين عيسى ويا لام الخليل ويا ... ياء الحقيقة يا موحي إلى الرسل
فأجاب
عين عيسى روح الإله تعالى ... ثم لام الخليل روح لعينى
وح هذا روح بدت لمثال ... من مليك لجبرئيل الأمين
وبروح الخليل معنى لطيف ... جامع للوداد للمظهرين
وبياء الحقيقة السرباد ... عندها في لطيفة النقطتين
يا عليا عن السمى كن لقلبي ... موحيا للأسرار من غير مين
وقرأت بخطه هذه الأبيات ذكر أنه توسل بقلب القطب الغوث فرد الزمان
إلهي بالقلب الذي حاز نظرة ... فأحياه ذاك اللحظ بعد مماته
وصيره صبا صبا لحبيبه ... بعشقته للذات بعد صفاته
ولا زال هذا دأبه في حياتهإلى أن أتاه الروح عند وفاته وخاطبه سرا لتخلص لامهمن الألف الغراء بعد ثباته
فخلصه منه وخصصه به ... ورقاه في المعراج ليلا بذاته
وقال له عبدي أبحث مشاهدي ... لخاطرك المنتاب من رشفاته
أبلني من هذا المقام رقيقة ... تمد فؤادي قوة في ثابته
ومن غزلياته قوله
لا تسألوا عن أسير شفه الشغف ... فالحال يخبر فوق ما وصفوا
إني غريم غرام والهوى وطني ... ولست عنه مدى الأيام انحرف
وكيف يصرف من قد صار في زمن ... له شوامته من صدقه اعترفوا
يختار حال الهوى في سيره وله ... في عقله وله والدمع منذرف
إذا نذكر يوم البين خالطه ... ما ليس يعرفه من للهوى عرفوا
يقول وهو لبلواه على رمق ... والعقل منزعج والقلب منزعف
أرى الطريق قريبا حين أسلكه ... إلى الحبيب بعيدا حين انصرف
وقوله
وليلة بت فيها لا أرى غيرا ... مع شادن وجهه قد أخجل القمرا
نادمته قال هات الكاس قلت له ... جل الذي لافتضاحى فيك قد سترا
وقمت أرشف من ريق المدام ومن ... مدام ريق وأقضى في الهوى وطرا
ولفنا الشوق في ثوبى نقى وهوى ... وطال بالوصل لي والليل قد قصرا(1/270)
وأكثر شعره موجود في أيدي الناس فلا حاجة إلى الإكثار منه هنا لكن نذكر من حكمه وكلماته ما ستظرف فمن ذلك قوله الخمول يورث الحجب والشهرة تورث العجب ليس العارف من ينفق من الجيب بل العارف من ينفق من الغيب من صدقت سريرته انفتحت بصيرته من قنع منالدنيا باليسير هان عليه كل عسير من لم يكمل عقله لا يمكن نقله من صدق مقاله استقام حاله الأخ من يعرف حال أخيه في حياته وبعد ما يواريه كل من الخلق أسير نفسه ولو كان طلبه حضرة قدسه معاملة الإنسان دليل على ثبوت الإيمان لا ينال غاية رضاه إلا من خالف نفسه وهواه من علامة أهل الكمال عدم الثبوت على حال ومن وصاياه الجامعة ما أوصى به أحد أولاده وهي ما أحببت أنيعاملك به فعامل به خلقه وبالجملة فآثاره وأخباره كثيرة والعنوان يدل على الطرس وكانت ولادته في سنة أربع وتسعين وتسعمائة وتوفي نهار الأربعاء مستهل صفر سنة إحدى وسبعين وألف ودفن بمقبرة الفراديس المعرفة بتربة الغرباء وقيل في تاريخ موته الشيخ أيوب قطب رحمه الله تعالى
حرف الباء
السيد باكير بن أحمد بن محمد المعروف بابن النقيب الحلبي السيد الأجل الفاضل الأديب الناظم الناثر كان عارفا باللغة والأدب حق المعرفة ولم يكن في حلب من أدباء عصره أكثر رواية منه للنظم والنثر قال البديعي في وصفه له كلمات من النمط العالي فكأنما عناه بقوله الميكالي
أن كلام ابن أحمد الحسنى ... آسى كلام الهموم والحزن
سحر ولكن حكى الصبا سحرا ... في لطفه غب عارض عتن
قال وجرى ذكر نجابته ليلة في مجلس شيخنا النجم الحلفاوي فرأى في منامه كان رجلا ينشده هذين البيتين
باكير فاق على الأقران مرتقبا ... أوج المعالي فلا قرن يدانيه
والفرع أن أثمرت أيدي الكرام به ... فالأصل من كوثر الافضال يسقيه
قلت وقد مدحه بعض الأدباء بقوله
إذا رمت تلقى ذات علم تكونت ... وتروى حديث الفضل عن أوحد الدهر
فعرج على ذات العواصم قاسدا ... سليل العلى نجل الكرام أبا بكر
دأب في تحصيل المعارف حتى رقى ذروة من الفضل علية وكان أكثر اشتغاله على والده وقرأ على غيره وتعانى صناعة النظم وشعره حسن الرونق بديع الأسلوب وأخبرني من كان يدعى معاشرته وله وقوف على حاله أن أكثر شعره منحول من شعر والده ومن جيد شعره قوله من قصيدة
لاح الصباح كزرقة الألماس ... فلتصطبح ياقوت در الكاس
من كف أهيف صان ورد خدود ... بياج خط قديدا كالآس
فكان مرآه البديع صحيفة ... للحسن جدولها من الانفاس
في روضة قد صاح فيها الديك إذ ... عطس الصباح مشمت العطاس
ضحكت بها الأزهار لما أن بكت ... عين الغمام القاتم العباس
ورقى بها الشحرور أغصانا ناغدت ... بتموج الأرياح في وسواس
والورد تحمده البلابل هتفا ... من فوق غصن قوامه المياس
ويرى البنفسج عجبه فيعود من ... حسد لسطوته ذليل الراس
والطل حل بها كد مع متيم ... لمعاهد الأحباب ليس بناس
فتظن ذا ثغرا وذاعنا وذا ... خد الغانية كظبى كناس
واحمر خد شقائق مخضلة ... حميت بطرف النرجس النعاس
حسدا الخد الطرس لما أن غدا ... خط القريض بمدح فضلك كاس
وقوله مضمنا
بك صرح العلى سام عماده ... وكذاك الكمال وار زناده
أن كل الأنام من ناظر ال ... دهر بياض وأنت منه سواده
قد غرقنا من فيض فضلك في ... أمواج بحر تتابعت أزياده
وإذا الفكر لم يحط بمعاليك جم ... يعا وخاب فيك اجتهاده
فاعتذارى ببيت ندب همام ... ما كبا في ميدان فضل جواده
أن في الموج للغريق لعذرا ... واضحا أن يفوته تعداده
ومن مقاطيعه قوله في تشبيه ثلاث شامات على نمط
في جانب الخد وهي مصفوفة ... كأنها أنجم الذراع بدت
وقوله(1/271)
في خده القاني المضرج شامة ... قد زيد بالشعات باهر شانها
كلهيب جمر تحتا حبة عنبر ... قد أوقدت فبدا زكى دخانها
وأنشد له البديعى قوله من قصيدة في المدح
تهلل وجه الفضل والعدل بالبشر ... وأصبح شخص المجد مبتسم الثغر
ومنها
فيا لك من مولى به الشعر يزدهى ... إذا ما ازدهت أهل المدائح بالشعر
فريد المعالي لا يرى لك ثانيا ... من الناس إلا من غدا أحول الفكر
معنى البيت الأول مطروق وأصله قول أبي تمام
لوم أمدحك تفخيما بشعرى ... ولكني مدحت بك المديحا
وأبو تمام أخذه من قول حسان في النبي صلى الله عليه وسلم
ما ا، مدحت محمدا بمقالتي ... لكن مدحت مقالتي بمعمد
والبيت الثاني مأخوذ من قول بعضهم
أن من يشرك بال ... له جهول بالمعاني
أحول الفكر لهذا ... ظن للواحد ثاني
وله ويروى لوالده
صدر الوجود وعين هذا العالم ... وملاذ كل أخي كمال عالم
أيضاً
إن لم تكن لذوى الفضائل منقذا ... من جور دهر في التحكم ظالم
فبحق من أعطاك أرفع رتبة ... أضحى لها هذا الزمان كخادم
وحباك من سلطاننا بمواهب ... تركت حسودكن في الحضيض القاتم
فإذا تتوج كنت درة ناجه ... وإذا تختم كنت فص الخاتم
إلا نظرت بعين عطفك نحونا ... وإذا تختم كنت فص الخاتم
إلا نظرت بعين عطفك نحونا ... وتركت فيهم كل لومة لائم
ورعيت في داعيك نسبته إلى ... خير البرية من سلالة هاشم
فالوقت عبدك طوع أمرك فاحتكم ... فيما تشاء فأنت أعدل حاكم
قلت هكذا أندشني له هذه الأبيات صاحبنا المرحوم عبد الباقي بن أحمد المعروف بابن السمان الدمشقي وذكر أنه أخذ قوله فإذا تتوج إلى آخره من قول أبي الحسن العرضي العلوي
كأنما الدهر تاج وهو درتهوالملك والملك كف وهو خاتمه ولم يدر مع سعة اطلاعه أن البيت برمته لأبي الطيب في قصيدته التي أولها
أنا منك بين فضائل ومكارم ... ومن ارتياحك في غمام دائم
وقد أطلنا الكلام حسبما اقتضاه المقام وبالجملة ففضل صاحب الترجمة غير خفى بل هو أجلى من الجلى وكانت ولادته في سنة ثلاث وثلاثين وألف وتوفي في سنة أربع وتسعين وألف بحلب رحمه الله تعالى الشيخ بركات بن تقى الدين المعروف بابن الكيال الدمشقي الشافعي خطيب الصابونية كان شيخا صالحا قارئاً مجود أحسن السمت والاعتقاد يحب الطيب ويكثر التطيب أخذ القراآت عن شيخ القراء بدمشق الشهاب الطيبى وولده وكان يقرأ القرآن قراءة حسنة وولى خطابه الصابونية بعد أن عمه ولى الدين وناب في إمامة الجامع الأموي عن ابن الطيبى المذكور ولازم المحيا الشيخ بالجامع الأموي وجامع البزورى بمحلة قبر عاتكة خارج دمشق في زمن شيخ المحيا الشيخ عبد القادر بن سوار وكان يقرأ العشر المعتاد من سورة الأحزاب في المحيا وكان بيته بالقرب من الجامع قريبا من بيت ابن منجك وأكثر أوقاته يقيم بالجامع في الحجرة الصغير التي كانت بيد شيخه الطيبى ثم ولده عند باب جبرون من جهة القبلة وكانت وفاته في سنة ثمان عشرة بعد الألف ودفن بمقبرة باب الصغير قلت وابن عمه ولى الدين المذكور هو والد جدة أبي لامه وله أوقاف دارة وأنا الآن صاحب نصيب وافر من خيرها وأبوه شمس الدين مثله صاحب ادرارات وكلا الوقفين نصف نظارتهما على جزاهم الله عني خيرا وبالله الاستعانة(1/272)
الشريف بركات بن محمد بن إبراهيم بن بركات بن أبي نمى بن بركات الشريف الحسنى صاحب مكة وبلاد الحجاز ونجد وكان من أمره لما توفي الشريف زيد بن محسن بن الحسين بن الحسن وقام بالأمر بعده الشريف سعد بعد أن وقعت بمكة رجة عظيمة فيمن يتولى بين الشريف سعد والشريف حمود بن عبد الله وقام كل مهما وجمع الجموع وتحصنوا بالبيوت والمنائر وانضم الإشراف إلى الشريف حمود ولم يبق مع الشريف سعد الإ مبارك بن محمد الحرث وراجح بن قايتباى وعبد المطلب ابن محمد ومضر بن المرتضى والسيد حسين بن يحيى وفارس بن بركات ومحمد بن أحمد ابن علي وهو الذي كان مع المنادى لأن من قواعد الإشراف أنه إذا ولى أحدهم الإمارة مشى شريف متهم مع المنادى ليحميه ممن يتطرف إليه من الإشراف المبارزين حالتئذ وكان بمكة إذ ذاك عماد أمير جدة وشيخ الحرم فردوا الأمر إليه فأحضر خلعة عنده والرسل تسعى من الشريف سعد إليه فاتفق الرأى أن يلبس الخلعة الشريف سعد فلبسها في بيته وكان مجلس عماد في دكة عند باب رباط الداودية فبعد أن أخذت الخلعة قيل له أن ابن زي محمد يحيى هو ولى العهد لأن والده أخرج له مرسو ما سلطانيا بذلك فقال لمن أخذ الخلعة قولوا للشريف سعد بشرط أنك قائم مقام أخيك فبعد ا، ذهبوا بالخلعة ومشوا بها قليلا دخل المسجد من باب بنى سهم المسمى بباب العمرة جماعة من الإشراف منهم السيد محمد بن أحمد بن عبد الله ومبارك بن فضل بن مسعود وعبد الله بن أحمد ومحمد بن أحمد بن حراز في نحو عشرة أشحاص فوقفوا على عماد فقال لهم نحن ألبسنا لشريف سعد بشرط أنه قائم مقام أخيه فقال له السيد مبارك نحن حمود شيخنا وكبيرنا ولا نرضى إلا به وكان عند عماد راجح بن قايتبأى من جانب الشريف سعد فوقع بينهما كلام طويل ثم ذهب الإشراف والخيل إلى حمود فخرج عليهم متعمما بعمامة زرقاء فجلس لحظة ثم قام للنزول إلى تجهيز الشريف زيد ومعه نحو ثلاثة من بنى عمه فلما كان في الدرج أقبل عليه السيد أحمد بن محمد الحرث فوقف له حمود وقال له لا قطع الله هذه الزائلة فأجابه بقوله إذا جاءتك الرجال كن زيره فرده ورجع معه ولم يذهب إلى ما كان قصده ثم جهز الشريف زيد وأخرج إلى المسجد بعد صلاة الظهر وخرج في جنازته من الاشراف ولده حسن وآخر من بنى عمه ولم يخرج أحد من العسكر والاتباع لاشتغالهم بما هم فيه وطلع معه العامة والعلماء والفقهاء وجلس الريف سعد الثالث من موت الشريف زيد وقع الاتفاق بين سعد وحمود على قدر معلوم من المعلوم وعينت جهاته وكان يوما عظيما عند الناس وحصل بذلك إلا من وأمر الشريف سعد بالزينة ثلاثة أيام وكتب محضرا وعليه خطوط الأعيان وأرسله مع أحد توابع أبيه إلى مصر فأرسله وزير مصر إلى السلطان وكذلك كتب السيد حمود محضر أليس عليه إلا خطوط الإشراف وأرسله مع رجل مصري يقال له الشيخ عيسى فقدر الله أنه مات عقب دخوله مصر بيومين وكان ذلك لسعد سعد فوجدوا العرض في تركته ولم يصل إلى مقصد وكذلك السيد محمد يحيى بن الشريف زيد أرسل محضرا من المدينة وعليه خطوط أعيانها وقد كان والده أخرج له مرسوما سلطانيا كما ذكرنا فلم يتمكن من تنفيذ درأ للمفسدة وكان لاي حج مع زيد غالبا الباكل سنة من أولاده إلا حسن ومحمد يحيى وكان محمد يحيى بالمدينة فطلبه للحج في عام موته فامتنع لأمر يريده الله فلما بلغ زيداً قال أنك لا تهدي من أحببت وكان سعد في نحو الشرق فجاء في ذلك العام وتقرب من والده وحج معه وكان من أمر الله تعالى ما كان واستمر الناس منتظرين خبر ورود الأمر السلطاني نحو ستة أشهر إلى أن وصل رسول السلطان بالخلعة له من غير شريك ودخلوا بها على معتادهم وقرئ المرسوم بالحرم واستقر له الأمر وجلس للتهنئة وجاءه السيد حمود وأتباعه من الإشراف طائعين مظهر بن له الوداد والصداقة وكان حمود في هذه المدة يطلب منه ما يريد فيجيبه إلى طلبه ثم حصل بينهما تنافر فخرج حمود يوم الأربعاء ثامن ذي القعدة سنة سبع وسبعين وأقام بالجوخى وكان كثيراً ما ينشد في خروجه بتا للسيد قتادة المستشهد به في واقعة له
مصارع آل المصطفى عدت مثلما ... بدأت ولكن صرت بين الأرقاب(1/273)
ولم تزل الرسل تسعى بينهما فلم يتفقا على حال وتوجه حمود إلى وادي مرو وأقام بمن معه من لإشراف وأتباعهم وسعد لم يستخفه الطيش وتوجه بعضهم إلى طريق جدة فوجدوا القوافل فنهبوها وفيها أموال عظيمة للحجاج والتجار والعسكر فقطعت السبل ارتفعت الأسعار ولما قدم الحاج المصري إلى مكة وأميره الأمير أوزبك ركب حمود ومن معه من الإشراف إليه ودخل عليه ومعه أحمد الحرث وبشير ابن سليمان فأنهوا إليه حالهم وعدم الوفاء من سعد فيما التزمه لهم من معاليمهم وقالوا أننا لا ندع أحد يحج إلا أن نأخذ ما هو لنا وكان قدره مائة ألف أشرفي فالتزم لهم أن ينفذ الشريف نصفها قبل الصعود فقبلوا التزامه وخلوا سبيله ومن معه فلما دخل الأمير مكة خرج الشريف سعد على المعتاد إلى المختلع فلبس الخلعة ثم كلمه الأمير فيما التزامه لحمود ومن معه فقبل وسلم خادم حمود الخمسين ألفا قبل الصعود ثم لما كان يوم الأثنين عشرى ذي الحجة وصل حمود إلى مكة ومعه السيد عبد المعين بن ناصر بن عبد المنعم بن حسن والسيد محمد بن أحمد بن عبد الله بن الحسن والسيد بشير بن سليمان بن موسى بن بركات بن أبي نمى والسيد مبارك ونافع ابنا ناصر ابن عبد المنعم في جميع من الأشراف والقواد للصلح بين سعد وحمود وترددت الرسل بينهما وألزموهما بالحضور إلى القاضي فجاء جمود وحضر الأمراء ووجوه أركان الدولة وعماد وأكابر العسكر فأرسل سعد خادمه بلالا وكيلا عنه في الخصومة والدعوى فاغتاظ حمود من ذلك واراد الفتك به في المجلس فذهب مسرعا فزعا فأرسل عوضه أخاه محمد يحيى وكيلا وادعى على حمود بما أخذه في طريق جدة من الأموال فلم يثبت عليه ثم طلب حمود أن يتوجه إلى مصر ويرفع أمره إلى السلطان فأدنوا له واتفق الحال على ذلك ثم توجه الحاج الشامي وسائر الحجاج توجه معهم حتى وصل إلى بدر فتخلف وأقام بها مدة ثم لما دخلت سنة ثمان وسبعين توجه من بدر إلى ينبع في صفر وأرسل ولده أبا القاسم وأحمد بن الحرث وولده محمدا ومعهما غالب بن زامل بن عبد الله بن حسن وجماعة من ذوى عنقاه السيد بشير بن محمد وظافر بن واضح ومحمد بن عنقاء وولده وأرسل معهم هدية إلى وزير مصر عمر باشا نحو سنة افراس منهم البغيلة والكحيلة والهدباء فساروا إلى أن بلغوا الحوراء المنزلة المعروفة في طريق الحج فلاقاهم قاصد إبراهيم باشا المتولى بعد صرف عمر باشا بمكاتيب متضمنة للأمر بالإصلاح والاتفاق فرجع غالب صحبة القاصد إلى مكة لينظر ما يتم عليه الحال فأقاموا بالحوراء بما معهم نحو خمسة عشر سوما ينتظرون فلم يصل إليهم خبر فساروا إلى مصر فدخلوها ليلة المولد وقدموا ما معهم من المقاود والمكاتيب لإبراهيم باشا فأكرمهم وزاد في تعظيمهم واستمر كذلك إلى جمادى الآخرة ولم يرجع القاصد من مكة إلى مصر وأشيع بها أن الاشراف قتلوه فأشار على الوزير بعض أكابر الدولة بمصر أن يقبض على السيد أبي القاسم بن حمود والسيد محمد بن أحمد الحرث فأمر بنقلهما من محلهما الأول بقا يتباى إلى بيت الأمير يوسف وفي هذه المدة طلب محمد يحيى من أخيه سعد أن سجعل له محصول بع البلاد وينادى له بها فامتنع من ذلك فغضب الشريف أحمد بن زيد وكان بالشرق فجاء غلى مكة مسرعا فلحق أخاه سعد أقبل أن يتوجه وتوجه محمد يحيى ولحق بحمود واتفق معه وأقاما يعاندان القضاء وأقام سعد وأخوه أحمد معين له ولما لم يحصل الاتفاق بين سعد وحمود بعد وصول القاصد للإصلاح أرسل سعد إلى وزير مصر بعرفه بما جرى ليعرضه على السلان وكذلك أرسل حمود قاصدا أيضاً وبرز يوم عشرى ربيع الأول الشريف سعد إلى الجوخى في موكب عظيم بمن معه من الاشراف والعساكر وأقام هنالك ينتظر وصول الأخيار فلما وصلت الأخبار إلى وزيره مصر بتجهيز خمسمائة من العسكر أمر عليها الأمير يوسف متوليا جدة ومشيخة الحرم وصرف عماد عنها فساروا من مصرهم بأتباعهم ومن معهم من الحجاج ولتجار يدخلون في ألف وخمسمائة فلما وصل الخبر إلى مكة توجه حمود ومعه سعيد بن بشير بن حسن وكان واليا على بيشة ونواحيها مدة في زمن زيد فأخرجوه مها فواجه العسكر بينبع في جيش لهام من أهل ينبع وجهينة وعنزة فأخذوهم عن آخرهم وقتلوهم وسلبوا أموالهم وأسروهم ولم يسلم منهم إلا نحو مائة.(1/274)
وقبض على الأمير يوسف وقتل حينئذ من الاشراف بشير بن أحمد بن عبد الله بن حسن وسرور بن عبد المنعم ومن ذوى عنقاء زيد العابدين بن ناصر وقتل أيضاً السيد لباس وسبب قتله أنه صعد أول الحرب إلى متراس للترك ظنه متراسا لعسكر حمود فلما وصل إليهم ماشيا صاعدا تلقوه فقطعوا رأسه من حينه ووضعوه في خلاة علقت على بعير ولم يدر وابه إلا بعد انكسار جيش الترك وجاء به بعض من أخذ الجمل بما عليه من المتاع وأصيب السيد عبد المعين بن ناصر في رأسه بعد أن زاغت عنه الخودة بسبب وقوعه عن الفرس بكبوها وقتلها ونهبت الاجمال بالاجمال ثم أمر حمود بجمع حريم الأمير يوسف وغيره في مخيم كبير وأجرى عليهم المصروف ومات الأمير يوسف وكان اللقاء المذكور يم الأربعاء عاشر رجب من هذه السنة وكان حمود أرسل إلى العسكر قبل قدومهم عليه أن ليس لكم طريق علينا أن لم يكن السيد أبو القاسم معكم والسيد محمد فلم يمتثلوا فلما وصل الخبر إلى مصر قتلوا من كان من أتباع السيد أبي القاسم والسيد محمد وتتبعوهم في الأماكن وأمر بالسيد بن إلى حبس الدم بعد أن طلب وزير مصر الفتوى من العلماء بجواز قتلهما فلم يفتوه فأمر باعتقالهما ثم عزل إبراهيم باشا عام ثمانين وتولى مصر حسين باشا ابن جانبو لاذ فسأل عن سبب حبسهما فأخبر بما وقع في العسكر من أبويهما فقال هل كان الواقع قبل وصولهما أو بعده فقيل بعده بمدة فقال لا ينسب شئ من ذلك إليهما وأمر بإخراجهما واستدنا هما وأكرمهما وأقام لهما من المعين ما يكفيهما وأنزلهما ببيت نقيب الاشراف فلما كان شهر رمضان استدعاهما النقيب ليلة إلى الإفطار عنده فأتاه أبو القاسم في جملة من أصحابه ولم يأته محمد فدعاهما في الليلة الثانية فكان كذلك فاستنكر عدم مجئ محمد تلك الليلة فردد الرسل إليه فلم يأت فقوى الريب عنده فاعتذر عنه أبو لاقاسم ثم رخج محمد بمفرده فارا من مصر إلى مكة ماشيا حتى انتهى إلى العقبة فأتى له بما يركبه وأما أبو القاسم فاستمر إلى أن توفي في شوال سنة إحدى وثمانين وألف شهيدا بالطاعون ثم جهز عسكر كثير من مصر ومعه أميران وعليهم أمي رمحمد جداويش متوليا جدة ومشيخة الحرم فوصلوا إلى ينبع وكانوا تلاقوا مع الحاج قبلهما بيومين أو ثلاثة ودخلوا معا وأقاموا فيها خمسة أيام أو ست يكاتبون حمودا وهو يجيبهم بكلام شديد فحملوا عليه فلم يجدوه فاقتضى رأيهم أن بعضهم يقيم لحفظ البلد والآخر يحج وهو الأكثر فدخلوا مكة بموكب عظيم سابع ذي الحجة ومعهم اثنا عشر كاشفا تحت يد كل كاشف جماعة ودخل الحاج الشامي والمدني وأما أهل العراق ونجد والحجاز وسائر العرب فلم يحجوا لما حصل لهم من التعب والجوع والخوف ونزل العسكر في بيت حمود وأحمد الحرث وجميع الأشراف الذين معه وقتل محمد جاويش ستة أشخاص من أتباع حمود ثم توجه الحاج المصري ومعه العسكر والشريف سع إلى ينبع نحو حمود وأقام أخاه السيد أحمد مقامه بمكة فلما وصلوا إلى ينبع تشاور وأهل يقيمون أو يتوجهون وراء حمود أو يرجعون إلى مصر فاتفق الرأى أن يذهبوا إلى مصر وأقام سعد ومحمد جاويش وقبض سعد على جماعة من المفسدين كانوا مع حمود وكلبهم بالقيود والأغلال وخرج من مكة يوم الاثنين سادس صفر سنة تسع وسبعين وألف أحمد بن زيد بعسكره إلى جهة المبعوث لاصلاح تلك الجهات والطرقات وأقام مقامه بمكة بشير بن سليمان ثم دخل سعد إلى مكة ثاني عشرى ذي القعدة من السنة المذكورة وبعدها بأربعة أيام دخل أخوه أحمد فلما كان رابع ذي الحجة وصل رسول من المدينة يخبر بأن رجلا اسمه حسن باشا قدم متوليا جدة ومعه أوامر سلطانية بأنه ينظر في أمور الحرمين فبرزت له عساكر المدينة وكبراؤها وتلقوه بموكب عظيم والسبب في وصوله أن أهل المدينة رفعوا أمرهم إلى السلطان بالشكوى من الشريف سعد ولما خرج من المدينة متوجها إلى مكة صا ينادى مناديه في الطريق أن البلاد للسلطان ولا يذكر الشريف سعد فدخل الحاج المصري إلى مكة ولبس الشريف خلعته المعتادة ثم دخل الحاج الشامى ثم دخل بعد الظهر حسن باشا في موكب عظيم إلى أن وصل إلى باب السلام فنزل ودخل المسجد وفي السوم السابع خرج الشريف لامير الحاج الشامى ولبس خلعته المعتادة أيضاً وكان من العادة أن يقسم بعض الصدقات لأهل مكة قبل الصعود إلى عرفة فمنع من ذلك وتخلف منهم كثير عن الحج لذلك فتعب الشريف سعد من(1/275)
أحواله السابقة واللاحقة وقال أن لم يظهر ما بيده من الأوامر فننظرها كاذبة أو صادقة لم أحج في هذا العام وأرسل بذلك إليه وإلى الأمر وشدد في الكلام ووقع اضطراب في البلاد وعزلت الأسواق وغلقت الأبواب وخليت الطرق وجمع الشريف سعد جيشه وقام على قدميه ثم أن الأمراء وكبار العسكر أتوا إليه مستشفعين للحج فعند ذلك نادى مناديه بأن الناس يحجون وصعد إلى عرفات ولم يحصل شئ مخالف ثم سعى جماعة بينهما بالصلح منهم الأمير عساف بن فروخ أمير الحاج الشامى وكان اجتماعهم بعد صلاة العصر ثاني المحرم سنة ثمانين وألف خلف مقام الحنفي بحضرة الخاص والعام ثم تفرقا ورجع كل منهما إلى منزله وأرسل كل منهما نوبته إلى الآخر فضربت الطبول وأرسل كل منهما إلى الآخر هدية سنية وفي اليوم الثامن من المحرم توجه بعد العصر الشريف سعد وأخوه أحمد إليه فقابلها بالإكرام والتعطف ولما أرادا القيام ألبس كلا منهما ثوبا نفيسا يليق به وخرجا من عنده ثم في اليوم العاشر أراد حسن باشا التوجه إلى جدة فتوجه إلى الشريف بعد العصر ومكث عنده ساعة ولم يذق عنده شيئاً من الطعام وادعى أنه صائم ولما خرج قدم له فرسا مسرجة محلاة فلما وصل إلى جدة أغلق أبوابه وحصل منه أمور يطول شرحها ثم في سابع عشر ذي الحجة من السنة المذكورة أشرك الشريف سعد أخاه أحمد في الربع ونودى في البلاد وأمر الخطيب بالدعاء له على المنبر وأرسل إليه حسن باشا نوبته فضربت في بيته ثلاثة أيام وأتته خلعة سلطانية مع أخيه في الموسم الثاني ولم يزل حسن باشا يعارض الشريف في أحواله وأحكامه ويستولى على غالب محصول جدة والشريف يتلطف به وهو لا يفيد ذلك حتى كان يوم الثالث من منى بعد انتصاف النهار نفر حسن باشا إلى رمى الجمار في موكب عظيم والجند محدقون به فلما كان واقفا عند العقبة لرمى الجمار ورماه ثلاثة رجال بثلاث بنادق فحر على وجهه للتراب فتلقاء جنده فرفعوه إلى التخت وتحير وافيما نزل بهم من هذا المصاب ونزلوا به إلى مكة وصاروا يقتلون من لا قوة في الطريق ووصلوا به إلى مكة وتحصنوا في البيوت ودخل جمع منهم المسجد بالسلاح والنار ورموا فيه البندق إلى بيت الشريف ووجهوا المدافع للأربع جهات واحترسوا غاية الاحتراس ثم إن الشريف توجه بعسكره وبالأشراف إلى مكة ملبسين مدرعين فاجتمع المراء حنيئذ واتفقوا على أن يعطيه ما كان استولى عليه من مال جدة وقدره ثلاثون ألف قرش واستعطفوا الشريف بترك الثلث فتركه وأخذ عشرين ألفا فلم يستطع المقام بمكة فأرسل إلى جدة بعض أتباعه وتوجه مع الجامع المصري إلى المدينة واقام بها فوفد عليها السيد محمد بن أحمد بن الحرث فألزمه بالذهاب إلى والده واسلحاقه إليه في المدينة فلما حضر نادى له في البلاد بعد أن ألبسه خلعة وأمر بالدعاء له على المنبر وقطع الدعاء لسعد وقد كان سعد خرج صحبة الحاج أوعقبه حتى وصل إلى ينبع فأقام بها فلما بلغه ما فعل حسن باشا أرسل إلى أحمد الحرث كتابا مضمونه بعد الثناء أن هذا الواقع الذي سمعنا به من تقمصك برداء الملك وأثوابه فهذا أمر أنت بيته الأعلى ومثلك أحرى به وأولى فإنك أنت الشيخ والوالد الجائز كل كما طريف وتالد فإن كان هذا محكم الأسناس في البنيان جاريا على مقتضى مرسوم السلطان فنحن بالطاعة أعوان وإن كان الأمر خلاف ذلك وإنما هو من تسويلات هذا الظالم الغادر وتنميقات ذلك المذمم الغير ظافر فأجل حلمك أن تستخفه نكباء الطيش وأن تستزله اخلاط الإشارب وغوغاء الجيش فأرسل إليه ابن الحرث بأن الأمر لم يكن على هواى وإنما هو إلزام مع علمي بأن هذا الابتداء لا يكون له تمام فاستشعر حسن باشا أن من نية سعد المسير البه فتهيأ للقتال وصنع اركا من حديد قريباً من مائتين تسمى قنابر تملأأ بالرصاص والحديد يرمى بها من بعد إلى الجيش وكان كلما أراد المسير ثبطه ابن الحاجب فعزم سعد وأحمد إلى المدينة وصمما على القتال وكان حمود نازلاً بالمبعوث في المربعة المنسوبة إلى السيد محمد الحرث فأتاه السيد أحمد بن حسن بن حراز رسولاً من ابن الحرث وحسن باشا بكتا بين يستدعيانه إليهما للانضمام ووعداه بما يريده من الجهات والمعينات ومضمون كتاب ابن الحرث بعد الثناء واظهار الود والشوق أن أخاك لم يكن له هذا الأمر ببال ولم يلتفت إليه بالقال والحال وإنما لحقنى ولدى محمد إلى الشعرى وكرر على(1/276)
القول مرة بعد أخرى ولم أوافقه حتى رأيت جدك النبي في المنام قائلاً لي وافق ودع الأوهام فحينئذ رجعت والقصد أني أخوك الذي تعرفه ولا تنكره فاقبل إلينا فهو أعظم جميل نذكره ففكر حمود ساعة وقال كأني برسول الله سعد يصحبنا أن لم يماسنا فقبل الغروب إذا يراكب منيخ فتقدم إليه وأخرج مكتوبين من سعدو وأحمد مضمونهما استحثاثه في المسير إليهما وأن حسن باشا قد شمر عن ساقيه للحرب وكشر عن نابيه للطعن والضرب وستشهد سعد بقول الشاعر مرة بعد أخرى ولم أوافقه حتى رأيت جدك النبي في المنام قائلاً لي وافق ودع الأوهام فحينئذ رجعت والقصد أني أخوك الذي تعرفه ولا تنكره فاقبل إلينا فهو أعظم جميل نذكره ففكر حمود ساعة وقال كأني برسول الله سعد يصحبنا أن لم يماسنا فقبل الغروب إذا يراكب منيخ فتقدم إليه وأخرج مكتوبين من سعدو وأحمد مضمونهما استحثاثه في المسير إليهما وأن حسن باشا قد شمر عن ساقيه للحرب وكشر عن نابيه للطعن والضرب وستشهد سعد بقول الشاعر
وما غلطت رقاب الأسد حتى ... بأنفسهان تولت ما عناها(1/277)
وأتبعه بقوله وأنت تعلم أن الأمر الذي يعنانا يعناك وأدرى بما يؤل إليه الأمر في ذاك وهذه ألف دينار صحبة الواصل إليك فأدرك ادرك أدام الله فضله عليك فقال له بعض الحاضرينما رأيت لمن تتوجه قال إلى سعد صاحب الفضل ومولاه فإن بينى وبينه في شريح الحبر عبد الله عهودا لو عارضنيفيها والدي عبد الله لكفحت وجهه بالسيف دونه ثم توجه على الركاب يومه الثاني وقوض الأخبية وفارق المباني حتى وصل إلى سعد وأخيه وهما بمحل يقال له ملجة فوافى ذلك عزل حسن باشا وطلبه فارتحل من المدينة فمات بطريق غزة ودفن هناك وأتت إلى الشريف الخلع من وزير مصر وكان ارسالها ضربا من المكايد ثم في آخرى ذي القعدة من السنة المذكورة قدم محمد جاويش المقدم ذكر بجيوش نحو أربعة آلاف أو خمسة قبل قدوم الحاج بأيام ونصب خيامه في أسفل مكة نحو الزاهر بمن معه من العساكر وصاروا يدخلون خمسة سواء أو عشرة أو ما قارب ذلك ثم يرجعون إلى خيامهم ثم قدم الحاج المصري ولبس الشريف خلعته المعتادة وقدم الحاج الشامي ومعه حسين باشا الوزير كافل الشام بنحو ثلاثة آلاف وقد فوض إليه أن يعمل بما يقتضيه رأيه فلما كان اليوم السابع من ذي الحجة خرج الشريف لملاقاة أمير الحاج الشامي على المعتاد فطلب منه أن يأتي إلى مخيم الأمير فلم يرض لكونه غير معتاد لاسلافه وترددت إليه الرسل في ذلك فلم يجب بل عطف عنان فرسه راجعا من طريق الشبيكة إلى مكة فحشوا من وقوع فتنة فأرسلوا الخلعة مع من لحقه بها في أثناء الطريق ثم صعد الحجيج إلى عرفات فلما كان يوم النفر وهو اليوم الثاني من أيام منى ترددت الرسل من لشريف إلى أمير الحاج الشامي لما هو المعتاد من الخلعة التي معها المرسوم السلطاني التي يلبسها ذلك اليوم ويقرأ المرسوم ويسمعه القاصي والداني فلم يؤت بها إليه فاستشعر حينئذ أن مرادهم بهذه العساكر القبض عليه فأضمر الصولة عليهم والمسير ثم رجح الانكفاف والذهاب فسافر بمن معه على الخيل والركاب ولما كان ظهر اليوم الثاني عشر حضر حسين باشا ومحمد جاويش وأمراء الحاج وأكابر الدولة واستدعوا جماعة من الاشراف منهم السيد أحمد بن الحرث والسيد بشير بن سليمان والسيد بركات بن محمد وأظهروا أمر سلطانيا للشريف بركات بولايته على مكة وألبس حينئذ خلعة سلطانية ونزل من منى إلى بيت أبيه المعروف بزقاق طاعنة وورد في ذلك الموسم كتاب للسيد أحمد بن الحرث وللسيد حمود وللسيد بشير بن سليمان مضمون الجميع واحد وعباراتهم مختلفة ولفظ كتاب السيد حمود فرع دؤابة هاشم وشيخ المحامد والمكارم السيد حمود نظم الله عقود وأباد حسوده وبعد فلا يخفى عليكم أن الكعبة البيت الحرام ومطاف طواف الإسلام هو أول بيت وضع للناس وأسس على التقوى منه الاساس وأنه لم يزل في هذه الدولة العلية آمنا أهله من النوائب وروضا مخصبا بأحاسن الأطايب إلى أن طهر من السيد سعد من الأمر الشنيع ما يشيب عنده الطفل الرضيع وما كفاه ذلك حتى شد الخناق على أهل المدينة البهية وأذاقهم كاس المنون روية فلما بلغ هذا الحال السمع الكريم السلطاني أمر بعزله عن مكة وتفويضها إلى الشريف بكرات ليعمل فيها بحسن التصرفات وتكونوا له معينا وظهيرا وناصحا ومشيرا وكل من يتفرع غصنه من دوحة فاطمة الزهراء ويتصل نسبه إلى أئمة الملة الغراء تهدونه إلى طريق الخير والصلاح وترشدونه إلى معالم الرشد والنجاح وأنتم على ما تعهدون من التكريم والتبجيل والله على ما نقول وكيل فاستقام الأمر بتولية الشريف بركات غاية الاستقامة وكان في الباطن طالبا لهذا الأمر حريصا عليه وذكر الشلى في ترجمة الشيخ عبد الله صاحب رباط الحداد أن ا لشريف بركات قبل أن يتولى الإمارة بأيام أتاه وهو في الحجر وسأله الدعاء بتيسير المطلوب فدعا له بذلك فلما ذهب سأل الشيخ رجل من أشراف مكة عما طلب فقال أنه طلب أن يكون ملكا وقد استجاب الله الدعاء له في ذلك ولما تولى توجه الشريف سعد من مكة فخرج الشريف بركات ومعه العساكر في طلبه فسلك طريق الثنية إلى الطائف وكان الشريف سعد قد سلكها ونزل بالطائف ثم ارتفع عنه إلى عباسه ثم إلى تربة ثم إلى بيشة فتبعه الشريف بركات حتى قارب تربة ثم عاد إلى المبعوث ثم إلى الطائف وأقام بها ثم رجع إلى مكة وحظى عند السلطنة وكان مقبول الكلمة عندهم معتقد لما كان يكثره من مداراتهم وكان كثير(1/278)
الإحسان للإشراف ولتعطف بهم وتقووا في زمنه وقويت شوكتهم وكثرت أموالهم وبسبب ذلك بقى كبار الإشراف وصغراهم تحت وعه وكل يخرج بهم لحرب العرب من أهل الفرع وغيرهم ويكون الظغر فيه له وللإشراف وحمدت طريقته وامنت في زمنه السبل ربحت التجار وانتظمن الأمر خصوصاً للخجاج وفيه يقول بعض أدباء دمشق وقد حج للإشراف ولتعطف بهم وتقووا في زمنه وقويت شوكتهم وكثرت أموالهم وبسبب ذلك بقى كبار الإشراف وصغراهم تحت وعه وكل يخرج بهم لحرب العرب من أهل الفرع وغيرهم ويكون الظغر فيه له وللإشراف وحمدت طريقته وامنت في زمنه السبل ربحت التجار وانتظمن الأمر خصوصاً للخجاج وفيه يقول بعض أدباء دمشق وقد حج
أنخ الركاب فهذه أم القرى ... قد لاح نور الهدى من مشكاتها
واجعل شعارك فيه تقوى الله كي ... تستنج الخيرات من بركاتها(1/279)
ولم يزل كذلك عالى الهمة ميمون النقيبة إلى أن تغلب عليه غالب الإشراف وخرج السيد أحمد بنغالب مفارقاً له في نحو ثلاثين شريفا من ذوى مسعو وغيرهم فدخلت الإشراف في الصلح بينهم فلم يتم وخرجوا إلى الركاني من وادي مرو اجتمعوا هناك وتأهبوا وساروا مه قاصدين الأبواب السلطانية فوصلوا إلى الشام فأنزلهم متوليها حسين باشا ببيت عظيم وأجرى عليهم ما يكفيهم من المصرف وبالغ في تعظيمهم وأرسل يعرف بشأنهم إلى الأبواب العلية فأمر وابكتابة عرض بما يشكونه فكتبوه وأرسلوه معاثنين منهم وهما السيد محمد بن مساعد والسيد بشير بن مبارك بن فضل فوعد وابازاحه شكواهم وكان الشريف بركات عرض لما فارقه ابن غالب ومن معه أن الإشراف ابتعوه بالطلب الشطيط وأنه بالغ في رضاهم بكل وجه وقال إني رضين أن أجعل لهم مغل ثلاثة أرباع البلاد ويكون لي ربعه فأبرز واله أم اسلطانيا بذلك ولما كان حادى عشرى ربيع الأول وقعت فتنة سببها أن عبد اللسيد حسن ابن حمود بن عبد الله اختصم مع رجل من عسكر مصر عند البزابيز بالمسعى فضرب العسكري العبد وأخذ سلاحه فحينئذ استحشمن السيد حسن الاشراف والعبد العبيد فاجتمعوا كلهم عند السيد محمد بن أحمد بن عبد اله ثم انقلبت شرذمة من العبيد نحو الخمسين شاهرين السلاح فوصلوا إلى المروة فهربت الأتراك وأرادوا الرجوع فرماهم بعض الأتراك الساكنين في الربع بالاحجار فأرادوا الطلوع إليهم فكسروا بعض الدكاكين التي تحله ظنا أنها باب الربع فوجدوها ملآته من النحاس والأئاث فنهبوا جميع ذلك وفعلوا بد كان أخرى مثل ذلك وصوبوا نحو ثلاثة من الترك بالسلاح وقتلوا آخر من المجاورين كان يحتجم عند حلاق بالمروة ثم ذهبوا ثم تحزبت الأتراك وجاؤا إلى القاضي وأرسلوا إلى الشريف يطلبون الغرماء فصبروا فلم يصبروا وأتوا إلى بيت الشريف وبيت السيد أحمد بن الحرث وكان به جماعة من عسكر الشريف فرموهم من بيت الحرث فقتلوا من الترك اثنين أيضاً فرجع الترك حينئذ وأرسل الشريف بركات إلى الإشراف يطالبهم بالغرماء فامتنعوا وخرجوا إلى الشيخ محمود وقالوا من يطلب الغرماء يأتنا وخرج العبيد حتى عبيد الشريف بركات وعبيد حاكم مكة القائد أحمد بن جوهر إلى بركة ماجن ووحدوا جماعة من الأتراك المجاورين مقيلين فأخذوا جميع ما معهم وسلبوهم ونبهوا قريباً من أربعمائة رأس من الغنم ثم أرسل الشريف بركات أخاه عم فرد العبيد ثم قصد الشريف تسكين الفتنة فأمر بعبد بن كانا محبوسين في سرقة أن يشنقا فشنقا فلم تطب نفوس الأتراك بذلك ثم وجد السيد يحيى بن بركات وكان يعسى البلد بالليل عبدين سارقين فضرب عنقهما ورمى بجثتهما تحت جميزة المعلاة فرضى الأتراك حينئذ واصطلح الأشراف مع الشريف ودخلوا إلى مكة بأجمعهم ووقع بينهم الأتفاق الذي ما شابه بعد وصمته واستقام الأمر وفي أيامه في ثاني عشرى ذي الحجة سنة تسع وثمانين ألف وقع سيل بالمدينة خرب كثيراً من الدور التي تحتها وكله أن يدخلها من باب المصري واستمر خمسة أيام ولم يهلك من الناس الأشخص أو شخصان وفي هذه السنة حصل في قرية السلامة وما حولها من أرض الطائف برد شديد له وقع عظيم بحيث صار يضرب بالصخور والأبواب كالبنادق غالبه كبيض الحمام وبعضه كبيض الدجاج قال الشلى في تاريخه وسمعت غير واحد يقول وزنت واحدة فكانت رطلا ووقع بعضه على قدر فخرقه وأتلف ثمار البساتين وجرح كثيرا من الحيوانات وبعضها مات وفي ثاني عشرى ذي الحجة من سنة إحدى وتسعين وقع بنكة سيل عظيم وسالت الأودية وخربت منها دورا كثيرة وأتلف أموالا لا تحصى وأغرق نحو ثلثمائة نفس ودخل المسجد الحرام وعلا على مقام إبراهيم ومقام المالكي والحنبلي وعلا باب الكعبة وكان الركب المصري إذ ذاك في تغير السير من مكة فأكثر الغرقاء كانوا غرباء واستمر نحو عشرين درجة ثم سكن المطر وعاد مرة أخرى استمر فيها نحو الأولى ثم سكن وفي أيامه عمرت الخاصية التكية المعروفة الآن بمكة بين البزابيز والمدعي وصرف عليها أموالا كثيرة وقد وقعت موقعها وعم نفعها وكانت وفاته ليلة الخميس ثاني عشر شهر ربيع الثاني سنة ثلاث وتسعين وألف بمكة وكانت ولايته عشر سنين وأربعة أشهر وستة عشر يوما وتولى بعد ولده الشريف سعيد ولم يختلف فيه اثنان من الأشراف وذلك أنه بعد موت أبيه ذهب عمه السيد عمرو في جماعة من الأشراف إلى القاضي وطلبوا(1/280)
منه خلعة فسألهم هلن الأشراف راضون فقيل له نعم فأتوا بها إليه فلبسها ونودى في البلاد باسمه ومع المنادى السيد الحسين بن يحيى والسيد عبد الله بن هاشم ثم جهز الشريف وصلى عليه ضحى أماما بالناس الشيخ عبد الواحد الشيبى فاتح البيت في مشهد حافل حضرت الأشراف والعلماء وعامة الناس ودفن بحوطة السيفى على يسار الذاهب إلى المعلاة بوصية منه ولم يحصل بموته للناس خوف ولا فزع ثم عقد مجلس الاجتماع يوم الجمعة ثاني يوم وفاة أبيه بالحطيم حضرت الأشراف والعلماء ولأعيان والعساكر فأظهر الشريف سعيد أمر اسلطانيا كان برز له لما أرسله والده إلى السلطان أن الملك له بعد أبيه فقرئ بذلك المجمع ولم تقع مخالفة من أحد ثم ورد الأمر الذي كان طلبه الشريف بركات بالأرباع بعد موته فأخفاه الشريف سعيد وكان الإشراف متحققين خبره قبل وصوله إلى مكة فطلبوه من الشريف فأحضره إلى مجلس الشرع وسجل مضمونه وقسموا مدخول البلا دار باعا ربع لشريف مكة وربع تشيخ فيه السيد محمد بن أحمد بن عبد الله والسيد ناصر بن أحمد الحرث ومعهما جماعة من الاشراف والربع الثالث تشيخ فيه السيد أحمد بن غالب والسيد أحمد بن سعيد ومعهما جماعة والربع الرابع تشيخ فيه السيد عمرو بن محمد والسيد غالب بن زامل ومعهما جماعة فحصل بذلك التشاجر في القسمة والتعب والتشاحن ووقع في البلاد السرقة والنهب واختلفوا فيما بينهم وصارت الرعية بلا راع ولزم من ذلك أن كل صاحب ربع يكون له كتبة وخدام يجمعون ما هو له وجمع ابن غالب عسكرا وانضم إليه من العبيد كثير فتعب الشريف سعيد بذلك وأمرهم بترك العسكر فامتنعوا وقالوا أن السوالف سبقت بمثل هذا لصاحب الربع وشهد بذلك كبار الأشراف وذكر الشريف سعيد أنه متوهم من هذا الفعل وطلب من يكفل له ابن غالب فكلفه عشرة من الإشراف واصطلحا على ذلك ثم ادعى الشريف سعد أن عبيدهم أتلفوا البلاد والقصد أن أهل الأرباع كل منهم يرسل رجلا من جانبه يعس البلاد بالليل مع جماعته فأرسل ابن غالب أهاه السيد حسن وأرسل السيد محمد بن أحمد ابنة السيد بركات وأرسل الشريف سعيد السيد حمزة بن موسى بن سليمان في جماعة من الخيالة والمشاة ومعهم حاكم مكة القائد أحمد بن جوهر ولما قدم الحاج وخرج الشريف لملاقاته على المعتاد لم يخرج معه الإشراف في العرضة فبعد أن حج الناس ونزلوا عقد الشريف مجلسا فيه أحمد باشا حاكم جدة وأمير الحاج الشامي صالح باشا وأمير الحاج المصري ذو الفقار بيك وأمير الصرة وأكابر عسكر الحجين فلما حضروا جميعهم شكا من السيد أحمد بن غالب من جهة كتابة العسكر وأنه منا كد له في البلاد وأنه أفسد عليه والاشراف وأنه حصل منه ومن جماعته الفساد في البلاد وأرسلوا له السيد غالب بن زامل ليحضر فيظهر ممن الخلاف فامتنع من الحضور في بيت الشريف سعيد وقال أن كان القصد الاجتماع ففي المسجد وأن كان لكم دعوى فأوكل وكيلا يسمع ما تدعون به على فأرسلوا له من جهة كتابة العسكر وما بعده فأجاب بأن هذه قواعد بيننا قد سلفت أن لصاحب الربع أن يكتب عسكر وأما قولكم أنه قد حصل من جماعتي أو عسكري مفسدة فأطلقوا مناديا ينادي معاشر الناس كافة هل أحد منكم يشتكى من أحمد ابن غالب أو من جماعته أو من عسكره مشيئاً أو أخذوا حق أحد ظلما أو ضربوا أحداً فإن وجدتم مشتبكيا صح ما قاله الشريف سعيد والأفلا وجه له ولكم وأما قولكم أنا تركنا العرضة معه فخفنا أن يقع شئ فينسب إلينا أو إلى جماعتنا كل هذا وجميع الأشراف اجتمعوا على قلب واحد وخيولهم مسرجة ودروعهم على أظهرهم وملؤا أجياد إلى العقد وتحركت الأنفة الهاشمية التي تأبى الضيم ولما سمعوا جواب السيد أحمد بن غالب علموا أنه لا وجه له عليه فسعوا في الصلح بينهما وكتب بينهما بذلك حجة وطلبوا من ابن غالب أن يأتي إلى الشريف سعيد فأتاه ليلة ثم أتاه الشريف سعيد ليلة أخرى وتم الصلح وحصل من الشريف سعيد في ذلك الموسم أنه أمر مناديا ينادى في البلاد بإخراج الأغراب من مكة من جميع الطوائف فحصل للناس مزيدة تعب فتكمل العسكر معه في ذلك فرجع فلما رأى أحمد باشا حاكم جدة اختلال حالة تسطى على ربع الحب الجراية التي ترد إلى مكة وأراد الاستيلاء عليه فبلغ ذلك الإشراف فلما كان يوم الجمعة ثاني عشر المحرم افتتاح سنة خمس وتسعين أراد لنزول إلى جدة فحشكت عليه الاشراف بعد أن كملوه(1/281)
في ذلك فامتنع وتحزبوا جميعا وقالوا لا ينزل حتى يعطينا ما هو لنا ولا يبقى لا عنده مشئ وكان ذلك بعد أن قدم أهله وأثقاله إلى خارج مكة قاصدين جدة فصار حينئذ أحير من ضب واجتمعوا كلهم ببيت السيد محمد بن حمود وأرسلوا إليه السيد ثقبة فقال له أن نزلت قبل أن تصلح الأشراف يأخذ واجميع أسبابك التي تقدمتك وينهبوا حرمك ويقتلوك فأذعن حينئذ يوفائهم فقالوا ألا نرضى بذلك حتى يكفل لنا فكفله كورد أحمد أغا وجميع رؤساء العسكر وكتب بذلك حجة وأنه أن حصل منه منع لبعض حقوقهم يكن عاصى الشرع والسلطان ثم خرج من مكة بعد العصر كالهارب وطلب منهم شريفا يوصله إلى جدة خوفا من العرب أن يطمعوا فيه ففعلوا ذلك وأرسلوا معه السيد مبارك بن ناصر صم اشتد البلاء بالسرقة ليلاً ونهارا وكسرت البيوت والدكاكين وترك الناس صلاة العشاء والفجر بالمسجد خوف القتل أو الطعن وشارا العبيد لا يأتون إلا ثمانية أو عشرة وانقلب ليل الناس نهارا وكثرت القتلى في الرعية حتى ضبطت القتلى في شهر رمضان فبلغت تسعة أشخاص فضجت الناس من هذه الأحوال فأرسل الشريف سعيد إلى الأبواب السلطانية ترجمانة يذكر فساد مكة وإنها خربت وأرسل يطلب عسكر الاصطلاحها وكانت الناس في هذه المدة يتوسلون إلى الله تعالى أن يصلح الأمور فاستجاب الله دعاءهم فاقتضى نظر السلطان وأركان دولته أنه لا يصلح هذا الخلل إلا الشريف أحمد بن زيد فأعطى الشرافة في قصة ذكرناها في ترجمته والشريف سعيد وعمه عمرو ينتظر أن الجواب فلما كان سابع عشرى ذي القعدة سنة خمس وتسعين ركب الشريف سعيد إلى أحمد باشا صاحب جدة وكان بالابطح ببستان الوزير عثمان بن حميد أن واستمر عنده إلى جانب يسير من الليل ثم ركب وقصد ثنية الحجون ذاهبا إلى السيد غالب بن زامل وكان نازلا يذى طوى فلما جاوز الحجون إذا هو برجل على ذلول فاستهبره من أي العارب فقال من بنى صخر فقال له الشريف سعيد أمعك كتاب من يحيى بن بركات فقال لا وكان الشريف يحيى ذهب لملاقاة الحاج الشامي فأمر بضربه وهدد بالقتل فأقر بأنه رسول من الشريف أحمد بن زيد إلى السيد أحمد بن غالب وأنه قد جاء متوليا مكة ولحق الحاج الشامي في العلاء ثم ذهب ليلة الثلاثاء تاسع عشرى الشهر المذكور إلى بيت عمه السيد عمرو واستدعى السيد غالب بن زامل والسيد ناصر بن أحمد الحرث وعبد الله بن هاشم وتشاوروا في اظهار هذا الأمر كيف يكون فاتفق الأمر على أن يرسلوا إلى السيد مساعد بن الشريف سعد ابن زيد فأرسلوا إليه السيد عبد الله بن هاشم وأتى به فلما دخل بيت السيد عمرو ورأى الجماعة مجتمعين جلس معهم فقال له الشريف سعيد يا سيد مساعد لم أرسل إليك في هذا الوقت إلا قصدي أودعك أهلي فإن عمك الشريف أحمد تولى مكة وأنك تقوم مقامه حتى يصل وأرسل الشريف سعيد إلى أغاوات العسكر الذين معه وقال لهم أن الأمر للسيد أحمد بن زيد فأخذ مواسيد كم وخرج الشريف سعيد تلك الليلة إلى الوادي وأقام به حتى سافر الحاج المصري من مكة فذهب معه إلى مصر وهو الآن مقيم بهاذلك فامتنع وتحزبوا جميعا وقالوا لا ينزل حتى يعطينا ما هو لنا ولا يبقى لا عنده مشئ وكان ذلك بعد أن قدم أهله وأثقاله إلى خارج مكة قاصدين جدة فصار حينئذ أحير من ضب واجتمعوا كلهم ببيت السيد محمد بن حمود وأرسلوا إليه السيد ثقبة فقال له أن نزلت قبل أن تصلح الأشراف يأخذ واجميع أسبابك التي تقدمتك وينهبوا حرمك ويقتلوك فأذعن حينئذ يوفائهم فقالوا ألا نرضى بذلك حتى يكفل لنا فكفله كورد أحمد أغا وجميع رؤساء العسكر وكتب بذلك حجة وأنه أن حصل منه منع لبعض حقوقهم يكن عاصى الشرع والسلطان ثم خرج من مكة بعد العصر كالهارب وطلب منهم شريفا يوصله إلى جدة خوفا من العرب أن يطمعوا فيه ففعلوا ذلك وأرسلوا معه السيد مبارك بن ناصر صم اشتد البلاء بالسرقة ليلاً ونهارا وكسرت البيوت والدكاكين وترك الناس صلاة العشاء والفجر بالمسجد خوف القتل أو الطعن وشارا العبيد لا يأتون إلا ثمانية أو عشرة وانقلب ليل الناس نهارا وكثرت القتلى في الرعية حتى ضبطت القتلى في شهر رمضان فبلغت تسعة أشخاص فضجت الناس من هذه الأحوال فأرسل الشريف سعيد إلى الأبواب السلطانية ترجمانة يذكر فساد مكة وإنها خربت وأرسل يطلب عسكر الاصطلاحها وكانت الناس في هذه المدة يتوسلون إلى الله تعالى أن يصلح الأمور فاستجاب الله دعاءهم فاقتضى نظر السلطان وأركان دولته أنه لا يصلح هذا الخلل إلا الشريف أحمد بن زيد فأعطى الشرافة في قصة ذكرناها في ترجمته والشريف سعيد وعمه عمرو ينتظر أن الجواب فلما كان سابع عشرى ذي القعدة سنة خمس وتسعين ركب الشريف سعيد إلى أحمد باشا صاحب جدة وكان بالابطح ببستان الوزير عثمان بن حميد أن واستمر عنده إلى جانب يسير من الليل ثم ركب وقصد ثنية الحجون ذاهبا إلى السيد غالب بن زامل وكان نازلا يذى طوى فلما جاوز الحجون إذا هو برجل على ذلول فاستهبره من أي العارب فقال من بنى صخر فقال له الشريف سعيد أمعك كتاب من يحيى بن بركات فقال لا وكان الشريف يحيى ذهب لملاقاة الحاج الشامي فأمر بضربه وهدد بالقتل فأقر بأنه رسول من الشريف أحمد بن زيد إلى السيد أحمد بن غالب وأنه قد جاء متوليا مكة ولحق الحاج الشامي في العلاء ثم ذهب ليلة الثلاثاء تاسع عشرى الشهر المذكور إلى بيت عمه السيد عمرو واستدعى السيد غالب بن زامل والسيد ناصر بن أحمد الحرث وعبد الله بن هاشم وتشاوروا في اظهار هذا الأمر كيف يكون فاتفق الأمر على أن يرسلوا إلى السيد مساعد بن الشريف سعد ابن زيد فأرسلوا إليه السيد عبد الله بن هاشم وأتى به فلما دخل بيت السيد عمرو ورأى الجماعة مجتمعين جلس معهم فقال له الشريف سعيد يا سيد مساعد لم أرسل إليك في هذا الوقت إلا قصدي أودعك أهلي فإن عمك الشريف أحمد تولى مكة وأنك تقوم مقامه حتى يصل وأرسل الشريف سعيد إلى أغاوات العسكر الذين معه وقال لهم أن الأمر للسيد أحمد بن زيد فأخذ مواسيد كم وخرج الشريف سعيد تلك الليلة إلى الوادي وأقام به حتى سافر الحاج المصري من مكة فذهب معه إلى مصر وهو الآن مقيم بها(1/282)
الشيخ بركات الملقب زين الدين المعروف بابن الجمل الدمشقي الشافعي الإمام العالم الصالح المعتقد كان حافظا لكلام الله تعالى عارفا بالفقه والفائض والعربية كثير النحرى في العبادة فقيراً صابراً قانعا متواضعا عابداً زاهداً لا يغتاب ولا يسمع الغيبة لزم الشهاب بن البدر الغزى وأخذ عنه القراآت والفرائض والحساب وتفقه بالشرف يونس العيثاوى وكتب الكثير مع ضعف بصره وانتفع به خلق في القرآن وغيره من العلوم وكان أمام المسجد المعروف بالغيربية لصيق الدرو يشية وبالجملة فإنه كان من القوم الأخيار وكانت وفاته ليلة الجمعة ثالث صفر سنة تسع عشرة بعد الألف صلى المغرب وصعد إلى بيته بالمكتب عند الشادبكية درجتين أو ثلاثة فسقط ميتاً ووجد فيه طاعون وصلى عليه بالسيبائية وذفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من مقابر بنى قاضي عجلون قريباً من ضريح سيدي بلال الحبشي إلى جهة الغرب عن نحو ستين رحمه الله تعالى الأمير برويز بن عبد الله الأمير الكبير أحد أعيان كبراء دمشق واصحاب الرأي والتدبير وكان أمير جليل القدر على الهمة نافذ القول محترما يتردد إليه نواب الشام وقضاتها ويصدرون عن رأيه وهو في الأصل من أرقاء على جلبي دفتري الشام سابقا الذي كان يسكن بمجلة القيمرية فتنقل في مراتب الأخيار حتى صار أمير الأمراء وتقاعد وعمر مسجدا بالقرب من داره بمجلة القيم ويعرف الآن به ورتب له أماما ومؤذنا وأجزاء وبالجملة فقد كان من أصحاب المروآت والوجاهة والمآثر الفائقة ولم يسمع عنه زلة وبلغ من العمر نحو تسعين سنة أو قارب المئة وقتل في محاربة على بن جانبو لاذ وقد كان ذهب إلى الصالحية وزار بعض زياراتها ثم ذهب إلى العراد وكانت الواقعة ثاني يوم ذهابه فوجد مقتولاً ودفنت جئته هناك وكان ذلك في سنة خمس عشرة وألف رحمه الله تعالى الشيخ بستان الرومي الواعظ البورسوى الحنفى نزيل دمشق وشيخ مدرسة المرحوم أحمد باشا المعروف بشمس وكان عليه الوعظ فوق الكرسي الرخام في مقابلة مزار حضرة النبي يحيى عليه السلام وكذا خطابة السليمية بالصالحية وكان عالما عاملاً صالحا طارحا للتكلف وللناس فيه اعتقاد عظيم خصوصا إلا ترك يحضرون مجلس وعظه ويتها فتون على فوائده وكانت عمدته في املائه على عبادة القاضي البيضاوى والإمام البغوى وكان يحط على المتكبرين ويحاكيهم في أفعالهم ويبالغ في تقبيح أمورهم يبذل الجهد في نصائحهم وهم مع ذلك يحبونه ويحترمونه وكان عفيفا قانعا ميمون الوجه مأمون الغائلة يتردد إلى الحكام فلا يتكلم إلا بخير ويحب الصالحين ويعترف بالفضل لأهله وكانت وفاته ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الأول سنة ثلاث بعد الألف عن نيف وخمسين سنة ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى بشير بن محمد الخليلي القدسي الأديب الشاعر الفائق وكان بالقدس أحد من تفرد بالشعر والأدب ولم يكن في زمنه من أقرانه فيه الأشراف الدين العسيلى الآتي ذكره لكن شعر بشير أغزر مادة وأجود تخييلا وقفت له على قصيدة أجاب بها عن قصيدة شيخ الإسلام خير الدين الرملي التي صنعها وهو بالقدس يمتدحها ويمتدح أهلها حين رحل إليها ومطلع قصيدة الشيخ خير الدين
ما كان مرمى فؤادي حيث هيئ لي ... فيه البناء بهند بعد مرتحلى
وقصيدة بشير هي هذه
صوب من الغيث وافى زائد الهطل ... أحيا ربي القدس عند الجدب والمحل
أم شمس فضل ترقت في مطلعها ... أوج الفخار فحلت دروة الحمل
أم بدر أفق المعالي قد تنقل في ... بروجه وكان البدر في النقل
لابل هو الجمامع العرف الذي ملكت ... أوصافه الغرر حب السهل والجبل
أراد ربك في تحريكه حكما ... وربما صحت الأجسام بالعلل
فاهتز من طرب هذا لزائره ... وارتج من حرب هذا لمرتحل
وكم على المسجد القدسي من فرح ... وكم على الساحل البحري من خبل
وكيف لا وهو خير أن أقام على ... أرض تسامت وإن يرحل فلا تسل
تجمعت فيه أوصاف الكمال كما ... تجمعت قسم التفصيل في الجمل
أحيا الدروس وقد احفى الدروس بها ... وجادوا وابلها الظمآن بالنهل(1/283)
معالم لو رأى الرازي حقائقها ... لبات بالري يشكو برح الغلل
بجود كف لو الطائي شاهده ... لقال لاناقتي فيها ولا جملي
ومنطق يترك الألباب ذاهلة ... والكامل العقل مثل الشارب الثمل
كم أنشدت لذوى الفتون براعته ... أصالة الرأي صانتني عن الخطل
قلدت جيداها لي القدس عقد ثنا ... من در الفاظك الخالي عن الخلل
قصيدة ما لها مثل يناظرها ... سادرت بلاغتها في الكون كالمثل
لو أنصفوا لم يكن موجودهم بدلا ... عنها وهل ليتيم الدر من بدل
من أعجب الأمر تعريضي لها هذرا ... ولو سترت عواى كان أصلح لي
فما نظامي لما أن يقال بها ... إلا نظي قياس الشمس مع زحل
لكن رأيت انتظامي مع قصور يدي ... في سلك مدحكم عفوا من الزلل
فرمته فأتى يسعى على عجل ... فاعجب له من بسيط جاء في رمل
ولذلى وصفك الزاكي فأذهلني ... عن البداءة بالتشبيب والغزل
أنا البشير وكل اسم لصاحبه ... منه نصيب بنج القصد والأمل
فدم فما زلت نورا يستضاء به ... إلى الهدى وبعون الله لم تزل
تحمى حمى ملة المختار أشرف من ... نال الفخار من الأملاك والرسل
صلى عليه إلهي دائماً أبدا ... والآل والصحب أهل العلم والعمل
ما أنشدت فاستمالت قلب سامعها ... ما كان مرمى فؤادي حيث هيئ لي
ويمعت خبر فضائله كثيراً من أهل القدس وبالجملة فإنه من الشعراء البلغاء وكانت وفاته سنة ستين وألف رحمه الله تعالى بعث الله المصري الحنفي نزيل دمشق وربما قيل في اسمه بعث وهو منقول عن الفعل الماضي والأول منقول عن الجملة شيخ المولد السوى واحد المؤذنين بجامع بنى أمية وكان أعمى وحفظ القرآن على كبر بعد مجيئه إلى دمشق وجوده على الشيخ أحمد الضرير وكان عرف أهل زمانه بالموسيقى وأحسنهم صوبا وأقواهم ملكة له تصرف عجيب في صوته مع جهارته ونداوته وكان يقول أن الذي به من حسن الصوت بدعاء أستاذ كان له بمصر م الصالحين وأنه لما أراد السفر من مصر ذهب إلى وداعه فقال أن شئت فتحت فاك وإن شئت فتحت يدك قال فقلت له افتح فمي قال وظنن أنه يطعمني شيئاً قال افتح ففتحته فوضع يده عل فمي وقال بسط الله لك الشهرة في الآفاق فرزق الحظ العظيم وكان لا ينشد شعرا إلا معربا فصيحا وكان آدم اللون وفيه يقول مامية الرومى الشاعر مشيراً إلى فظاظته إذا طلب للمولد
بعث الله ضريراً ... أورث القلب عذابا
قلت لما طير ود ... بعث الله غرابا
وكان في أول أمره يعمل القصد إذا دخل مجلس الأكابر فلما حفظ القرآن صار يقول لأهل المجلس الذي يدخل إليه أسمعكم آيات أن أبيات وهم لا يستطيعون أن يختاروا ف يظاهر الحال على كتاب الله غيره وأن كانت خواطرهم في غير ذلك فلا يكون جوابهم إلا طلب القرآن وحج في سنة ثمان بعد الألف فلم ينشد شيئاً في المسجدين إلا أنه قرأ شيئاً من القرآن وسافر قديما إلى قسطنطينية وقرأ المولد في حضرة السلطان مراد ثم عاد إلى دمشق وسافر إلى طرابلس واستقر آخرا بدمشق وكانت مدة إقامته بها أربعين سنة وبالجملة فإنه كان من محاسن وقته وكانت وفاته نهار الاثنين رابع رمضان سنة ست عشرة وألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى(1/284)
الشيخ بكار بن عمران الحيبى المولد الدمشقي الولى العريان المستغرق صاحب الحال الباهر والكشف الصريح الذي لا يتخلف واتفق أهل عصره على ولايته وتفوقه وله كرامات كثيرة حدث بعض الثقات قال أخبرني الشيخ العارف بالهل محمد القشاشي نزيل مكة ونحن بها في سابع ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وألف أن الشيخ بكرا كان عنده في ذلك اليوم وأخبره أن الوزير الأعظم قره مصطفى باشا قتل وجاء خاتم الوزارة إلى نائب الشام محمد باشا سبط رستم باشا قال فشككت في هذا الخبر فلما وافيت دمشق تحققته فظهر لي أن ختم الوزارة كان وصل إلى الشام في اليوم الذي أخبرني فيه القشاشي بالخبر وسألت عن الشيخ بكار هل فارق الشام فقيل لي لم نره فارقها منذ زمان طويل وكان كثير من الحجاج يشاهدونه في الموقف واقفا بعرفة وذكر عنه أنه لما قدم المولى محمود المعروف بقره جلبي زاده إلى دمشق قاضياً لمكة زاره الشيخ بكار بمنزلة الذي نزل فيه ولبس صوفه ووضع له الوسادة وأمره بالنوم وأخذ يورد كلاما مضمونه صريح في توليته قضاء دمشق وأنه لا يذهب إلى مكة فاتفق في ذلك اليوم أنه جاءه الأمر بتوليته قضاء دمشق وصرفه عن مكة وعلى كل حال فصلاحة وولايته مما أطبقت عليها أهل دمشق وكانت وفاته في سنة سبع وستين وألف ودفن بمقبرة الفراديس المعرفة بتربة الغرباء وكانت جنازته حافلة جداً لم يتخلف عنها أحد وقبره الآن معروف يزار ويتبرك به ومما قبل في تاريخ وفاته
ما غدا بكار فرد الواصلين ... نازلاً في ظل رب العالمين
فجنان الخلد نادت فرحة ... مرحبا أهلا بفخر القادمين
طبت بكار أبها أرمخ وقل ... ادخلوها بسلام آمنين
والرحيبى بضم الراء وفتح الحاء وسكون الياء المثناة من تحت ثم بعدها باء موحدة نسبة إلى قرية الرحيبة من ضواحى دمشق بالقرب من منزلة القطيفة بكر البغدادي تقدم ذكره ضمن ترجمة الحافظ أحمد الوزير وعلينا هنا أن نعرف أصله فنقول هو رومى الأصل سكن بغداد وصار من أكابر عسكرها وتغلب عليها وانبسطت يده على مملكتها حتى صار إذا جاءت وزراؤها من قبل السلاطين آل عثمان متولين عليها ما ينفذ من حكمهم إلا ما تفذه وهو الذي ادخل الشاه بغداد كما ذكرته مفصلا في ترجمة الحافظ وقتله الشاه وولده محمد شر قتلة وكان قتلهما في سنة اثنتين وثلاثين ألف برهان الدين بن محمد الهنسي الدمشقي بشقلبها من ذوى البيوت بدمشق الدين خرج منهم علماء وفضلاء وتقدم ابن عمه أحمد الخطي وسيأتي أبو أحمد يحيى وهذا برهان الدين نشأ مبدأ أمره يبيع الحرير بحانوت قرب باب العنبر انيين من أبواب جامع بنى أمية ثم نما حاله وأثرى فيرحل إلى الروم وعام مدرساً بالمدرسة السليمية وعد ذلك من العجائب ولم يطل أمره بها وأخذها عنه المولى يوسف ابن أبي الفتح أمام السلطان فتوجه إلى الروم ثانيا وولى ضاء سيداً ولما عزل عنها استقر بدمشق وبقى يعامل الفلاحين واشتهر بالربا وبلغ فيه مبلغا ليس وراء غاية وكان إذا استحق ماله على الدائن يغلظ عليه في طلبه ويقول لا سبيل إلا أن تعطينى مالي أو تشقلبه وهذه عبارة جارية على السن العوام يقولون شقلب ماله أي رايح فيه مرة ثانية فكان منهم من يعطيه ماله ومنهم من يرابحه وبذلك عرف بشقلها وجمع كتما نفسية واملاكا وعقارات وامتحن مرات فكان قضاة دمشق يهينونه كثيراً وهو لا يعبأ بذلك وكان قرب داره قناة ماء فأخرجها إلى الشارع وعمرها وكان ذلك في سنة ثمان وعشرين وألف فقال العمادى الفتى مؤرخاً بناءها وهو من الوتواريخ العجيبة وهو قوله
لبرهان قناة قد بناها ... وشقلها فتلك له سمات
فشقلب واحد في العد واحسب ... وأرخها مشقلبة قناة
قلت قد اعتبر التاء المربوطة في قناة هاء وهي مستعملة عند الأدباء كذلك كما في المقامات الحريرية وكانت وفاته سنة اثنتين وتسعين وألف ودفن بمقبرة الشيخ أرسلان قدس الله سره العزيز(1/285)
بير محمد المعروف بمفتى اسكوب كان أيوه مملوكا وولد هو بقسطمون والتحق أولا بطائفة البكتاشية من الدراويش ثم طلب العلم وبرع ولازم من ابن جوى ثم صار مفتيا بمدينة زغرة ودرس بها بمدرسة إبراهيم باشا المقتول ثم اعطى فتوى اسكوب وبقى بها مدة مديدة واشتهر صيته وكان فقيها مطلعا وقد جمع ما وقع في زمن افتائه من المسائل وأضاف إليها نقولها ودونها ورتبها على أبواب الفقه وهي موسومة بفتاوى الأسكوبى وهي مشهورة عند الروميين يعتمدون عليها في المراجعات وكانت وفاة صاحب الترجمة سنة عشرين وألف هكذا ذكره ابن نوعى في ذيله التركى
حرف التاء
المثناة فوق
تاج الدين بن أحمد المعروف بابن محاسن الدمشقي المولد والدار الأديب الألمعى كان احد أعيان التجار المياسير وكان من ثروته لا ينفك عن المذكرة وقرأ في مبدأ أمره كثيرا وحصل ورحل إلى مصر والحجاز للتجارة وكان له وجاهة تامة بين أبناء نوعه ورزق الحظ العظيم وكان ينظم الشعر وله شعر مطبوع غير متكلف فمنه ما قاله بالقاهرة متشوقا إلى دمشق
منذ فارقت جلقا ورباها ... لم تذق مقلتى لذيذ كراها
ولسكانها الأحبة عندي ... فرط شوق بحيث لا يتناهى
فسقى الله ربعها كل غيث ... وحمى الله أهلها وحماها
وكتب إلى بعض أحبائه
يا أحباي والمحب ذكور ... هل لأيام وصلنا من رجوع
وترى العين منكم جمع شمل ... مثلما كان حالة التوديع
وكتب لابنه محمد الخطيب بجامع بنى أمية في صدر مكاتبة من مصر يقول
أبدا إليك تشوقي يتزايد ... ولديك من صدق المحبة شاهد
واليته أن الباعاد لمتلفى ... أن دام ما يبدى النوى واكابد
كم ذا أعلل حر قلبي بالمنى ... فيعيده من طول نأيك عائد
وجار الزمان على في أحكامه ... ولطالما شكت الزمان أساود
والدهر حاول أن يصدع شملنا ... فامتد منه للتفرق ساعد
يا ليت شعرى هي يرق وطالما ... ألفيته لا ولى الكمال يعاند
اشكوه للمولى الذي الطافه ... تزوى الخطوب إذا أتت وتساعد
وكتب مع سجادة اهداها لبعض العلماء
مولا قد أرسلت سجاة ... هدية من بعض انعامكم
فلتقبلوها إذ مرادى بأن ... تنوب في تقبيل اقدامكم
وكتب على ديوان أبي بكر الجوهري
طالعت هذا السفر في ليلة ... سامرت فيها البدر والمشترى
رأيته عقد ثمينا ولا ... يستنكر العقد على الجوهري
ووجدت في بعض المجاميع أن نسبة بني محاسن في الأصل لبنى فرعون وكتب صاحب ذلك المجموع ومما يرشد إلى ما قلنا أنه لما تزوج تاج الدين يعنى صاحب الترجمة ابنة الحسن البورينى أنشد أبو المعالى درويش محمد الطالوى لنفسه في ذلك قوله
بارك الل للحسن ... ولبورين بالختن
يا ابن فرعون قد ظفر ... ت ولكن ببنت من
والأصل فيه قول محمد بن حازم الباهلي لما تزوج المأمون بوران بنت الحسن
بارك الله للحسن ... ولبوران بالختن
يا ابن هرون قد ظفر ... ت ولكن ببنت من
فنقله الطالوى نقلا استحقه به ويروى أن قول الباهلي لما بلغ المأمون قال والله ما ندري خيرا أراد أن شرا وقصة تزوج المأمون بوران مستقيضة شائعة وكانت ولادة تاج الدين في سنة تسعين وتسعمائة وتوفي لست بقين من شعبان سنة سنين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير وسيأتي ابناه عبد الرحيم ومحمد وابن أخيه يحيى(1/286)
القاضي تاج الدين بن أحمد بن إبراهيم بن تاح الدين بن محمد بن محمد بن تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب ابن اقضى القضاء جمال الدين محمد بن يعقوب بن يحيى بن يحيى بن عبد الوهاب المالكي المدني ثم المكى ويعرف بابن يعقوب كذاذ كرنسبه ابن فهد في ذيله القاضي الفاضل والحبر الكامل كان بمكة من صدور الخطباء والمدرسين ومن أكاير العلماء المحققين وممن سيد ربوع الأدب وكان بها ترجمان لسان العرب غذته الفضائل بدرها وكالمت تاجه بدرها مع طيب محاورة تسكر منها العقول تهزأ بالشمول وجاه عند الجولة ظاهر وكلمة مسموعة عند البادى والحاضر ولد بمكة وبها نشأ وأخذ عن أكابر شيوخ عصره كالعلامة عبد القادر الطبرى وعبد الملك العصامى وخالد المالكي وغيرهم وإجازه عامة شيوخه وتصدر للتدريس بالمسجد الحرام وطار صيته عند الخاص والعام وكان إمام الإنشاء في عصره ومفرد سمط المكاتبات في دهره فلا برح يتفجر ينبوع البلاغة من بنانه ويتلاعب بأساليب البراعة على طرف لسانه وله ديوان إنشاء جمع من المكاتبات اسماها ومن المراسلات اسناها وفتاوى فقيهة جمعها ولده أحمد في مجموع سماه تاج المجاميع وأما خطب الجمع والعيد والاستسقاء فجعله مجموعا مستقلا وله رسالة في شرح قصيدة العفيف التلمساني التي أولها
إذا كنت بعد الصحو في المحو سيدا ... سماها تطبيق المحو بعد الصحو على قواعد
الشريعة والنحو وله رسالة في الاستغفار سماها فصوص الأدلة المحققة في نصوص الاستغفار المطلقة وله رسالة في الكلام على الأسئلة الواردة من بلاد جاوه فيما يتعلق بالوحدانية سماها الجادة القويمة إلى تحقيق مسئلة الوجود وتعلق القدرة القديمة وله رسالة في العقائد سماها بيان التصديق مفيدة جداً خصوصا للمبتدى وله رسالتان كبرى وصغرى في شرح البيتين اللذين هما
من قصر الليل إذا زرتني ... اشكو وتشكين من الطول
عدو عينيك وشانيهما ... أصبح مشغولا بمشغول
وله أشعار كثيرة فمن ذلك قصيدته التي مدح بها الشريف مسعود بن ادريس ومطلعها قوله
غذيت در التصابي قبل ميلادى ... فلا ترم يا عذو لي فيه ارشادى
غي التصابى رشاد والعذاب به ... عذب لدى كبرد الماء للصادى
وعاذل الصب في شعر الهوى حرج ... يروم تبديل اصلاح بافساد
ليت العذول حوى قلبي فيعذرني ... أوليت قلب عذو لي بين أكبادى
لو شام برق الثنايا والتثني من ... تلك القدود ثنى عطفا لا سعادى
ولو رأى هادى الجيداء كان درى ... أن اشتقاق الهدى من ذلك الهادى
كم بات عقداً عليه ساعدي ويدي ... نطاق مجتمع المخفى والبادى
إذ أعين الغيد لا تنفك ظامئة ... لورد ماء شبابي دون اندادى
فيا زمان الصبا حييت من زمن ... أوقاته لم نرع فيها بانكاد
ويا أحبتنا روى معاهدكم ... من العهادهتون رائح غاد
معاهد كن مصطفاى ومرتبعى ... وكم بها طال بل كم طاب تردادى
يا راحلين وقلي اثر ظعنهم ... ونازحين وهم ذكرى وأورادى
أن تطلبوا شرح ما أيدي النوى صنعت ... بمغرم حلف ايحاش وايحاد
فقابلوا الريح أن هبت شآمية ... تروى حديثى لكم موصول اسناد
والهف نفسي على مغنى به سلفت ... ساعات أنس لنا كانت كأعياد
كأنها وأدام الله مشبهها ... أيام دولة صدر الدست والنادى
ذو الجود مسعود المسعود طالعه ... لا زال في برج اقبال واسعاد
عادت بدولته الأيام مشرقة ... تهز مختالة أعطاف مياد
وقلد الملك لما أن تقلده ... فخرا على مر أزمان وآياد
وقام بالله في تدبيره فغدا ... موقفا حال اصدار وايراد
حق له الحمد بعد الله مفترض ... في كل آونة من كل حماد(1/287)
أنفتهم من يد الاعداء متخذا ... عند الاله يدا فيهم بانجاد
داركتهم سهدا رمقى فعاد لهم ... غمض لجفن وأرواح لاجساد
بشراك يا دهر حاز الملك كافله ... بشراك يا دهر أخرى بشرها باد
عادت نجوم بنى الهراء لا أفلت ... بعودة الدولة الزهرا المعتاد
واخضل روض الأماني حين أصبحت الأ ... جواد عقد أعلى أجياد أجياد
وأصبح الدين والدنيا وأهلهما ... في ظل ملك لظل العدل مداد
يبيج خام الأعادي م صوارمه ... ما استحصدت بالتعاصى كل حصاد
فهم أيادي أعاديه ونائله ... على الورى أصحبحت أطواق أجياد
يقضى ميمم جدوى راحتيه إلى ... طلق المحيا كريم الكف جواد
بذل الرغائب لا يعتده كرما ... ما لم يكن غير مسبوق بميعاد
والعفو عن قدرة اشهى لمهجته ... صينت وأشفى من استيفاء ايعاد
مآثر كالدرارى رفعة وسنا ... وكثرة فهي لا تحصى باعداد
فأنت من معشرات غارة عرضت ... خفوا إليها وفي النادى كالهواد
كم هجمة لك والأبطال محجمة ... ووقفة أوقفت ليث الشرى العادى
بكل مجتمع الأطراف معتدل ... لدن لعرق نجيع القرن فصاد
فخر الملوك الألى تزهو مناقبهم ... دم حائزا ملك آباء وأجداد
وليهن حلته اذراح يلبسها ... فأصبحت خير أثواب وابراد
واستجل أبكار أفكار مخدرة ... قد طال تعنيها من فقد أنداد
كم رد خطابها حتى رأنك وقد ... أمتك خاطبة يا نسل امجاد
أفرغت في قالب الألفاظ جوهرها ... سبكا بذهن ورى الزند وقاد
وصاغها في معاليكم وأخلصها ... ود ضميرك فيه عادل اشهاد
يحدو بها العيسى خاديها إذا رزمت ... من طول وخد وارقال واسآد
كأنها الراح ابالألباب لاعبة ... إذا شدا بين سمار بها شادى
بفضلها فضلاء العصر شاهدة ... والفضل ما كان عن تسليم اضداد
فلو غدت من حبيب في مسامعه ... أو الصفى استحلا بغض حساد
واستنزلا عن مطايا القوم رحلهما ... واستوقفا العيس لا يحدو بها الحادى
وحسبها في التسامى والتقدم في ... عد المفاخر إذ تعد ولتعداد
تقريضها عند ما جاءت معارضة ... عوجا قليلا كذا عن أيمن الوادى
وهي عروض قصيدة الأديب الفاضل أحمد بن عيسى المرشدى المقدم ذكرى ومطلعها الذي ذكره عوجا قليلا وقد ذكرتها برمتها في ترجمة المرشدي المقدم ذكره ومن قوائده أنه سئل عن قول الصفى الحلى
فلئن سطت أيدي الفراق وأبعدت ... بدرا تحجب نصفه بنصيف
فلقد نعمت بوصله في منزل ... قد طاب فيه مربعي ومصيفى
فأجاب بقوله لا يخفى أن النصيف هو الخمار فكان الشاعر تخيل أن الجبين بدر تام كامل الاستدارة ستر الخمار نصفه الأعلى فلما تخيل ذلك قال بدرا تحجب نصفه بنصيف ثم ضمنه بقوله
افدى التي جلب الغرام جبينها ... تحت الخمار لقلبى المشغوف
فصبا له لما تحقق أنه ... بدر تحجب نصفه بنصيف(1/288)
وقد سئل عنه الإمام زين العابدين الطبرى الحسينى أمام المقام فأجاب بما لفظه النصيف الخمار وكل ما يغطى به الرأس والوجه هو البدر في التشبيه فمراد الشاعر أنها تلثمت ببعض النصيف الذي على رأسها فصارت بذلك ساترة لنصف وجهها الأسفل المشبه بالبدر فصار نصيفا ونقابا والنقاب ما تنقبت به المأة كما في لقاموس وهو شامل لما كان مستقلا وبعض شئ آخر كما يقال مثله أيضاً في النصيف فهو نصيف وأن غطى رأس الرأس مع الرأس وهذا الذي ذكرناه هو عادة غالب النساء الحسان في قطر العرب فإن الواحدة منهن تنتقب بفاضل خمارها فتقتن العقول بما ظهر من لواحظها وأسحارها انتهى وكتب القاضي تاج الدين إلى القاضي أحمد بن عيسى المرشدي معتذرا عن وصوله إليه بعد وعده له به لعروض مانع عرض له بقوله بديها
أيها المعشر الذين إليهم ... واجب أن يكون سعيا براسى
لا تظنوا تركى الوصول إليكم ... لملالي ودادكم أو تناسى
أو تراخ عنكم وأن كان عذري ... هو أني ندبت خير أناس
فأجابه بقوله
قد أتاني اعتذار كم بعد أني ... بت من هجرك الأليم أقاسي
فتلقيته بصدر رحيب ... ولصقت الكتاب عزا براسى
غير أني لا أرتضيه إذا لم ... تنعموا بالوصال والإيناس
وأقلني العثار في النظم إني ... قلته والفؤاد في وسواس
وكتب إلى شيخه عبد الملك العصامى مسائلاً بقوله
ماذا يقول إمام العصر سيدنا ... ومن لديه ينال القصد طالبه
في الدار هل جائز تذكير عائدها ... في قولنا مثلا في الدار صاحبه
ومن إبانة همز ابن اراد فهل ... يكون موصوفه اسما يطالبه
أم كونه علما كاف ولو لقبا ... أو كنية أن أراد الحذف كاتبه
أفد فما قد رأينا الحق منخفضا ... إلا وأنت على التمييزنا صبه
فأجابه بقوله
يا فاضلاً لم يزل يهدي الفرائد من ... علومه وتروينا سحائبه
تأمثك الدار حتم لا سبيل إلى التذ ... كير فامنع إذا في الدار صاحبه
والابن موصوفه عمم فإن لقبا ... أو كنية فارتكاب الحذف واجبه
هذا جوابي فاعذر أن ترى خللا ... فمصدر العجز والتقصير كاتبه
لا زلت تاجا لها مات الهدى علما ... في العلم يحوى بك التحقيق طالبه
ومن شعر التاج قوله
غنيت بحلية حسنها ... عن لبس أصناف الحلى
وبذت بهيكلها البد ... يع تقول شاهد واجتلى
تجد المحاسن كلها ... قد جمعت في هيكلى
ولما وقف عليها السيد احمد بن مسعود شيد كل بيت من أبياته قصرا وابتز ذلك المعنى باستحقاقه قسرا فقال
لله ظبى سربه ... يزهو به في المحفل
قنص الأسود بغالب ... قيدالا وابد هيكلى
وله الجوارى المنش ... آت جوى الحشاشة للخلى
قد قال في ظلمائه ... يا أيها الليل انجلى
وحذا حذوهما القاضي أحمد المرشدي المذكور فقال
يا ربة الحسن الجلى ... لمؤمل المستأمل
صدري ووجهي منية ... للمجتنى والمجتلى
فالحظ بديع محاسنى ... من تحت أنواع الحلى
تجد الهياكل والح ... لى جمالها من هيكلى
وكتب إلى بعض أصدقائه قوله
من كان بالوادى الذي هو غير ذي ... زرع وعز عليه ما يهديه
فليهدين ألفاظه الغر التي ... تحلو فواكهها لكل نبيه
وله في مليحة اسمها غريبة
خالفت أهل العشق لما شرقوا ... فجعلت نحو الغرب وحدى مذهبي
قالوا عدلت عن الصواب وأنشدوا ... شتان بين مشرق ومغرب
فأجبتهم هذا دليلى فانظروا ... للشمس هل تسغى لغير المغرب
وكتب إلى صاحبين له استدعياه فتعذر عليه الذهاب إليهما فقال
يا خليلى دمتما في سرور ... ونعيم ولذة وتصافي(1/289)
لم يكن تركى الإجابة لما ... أن أتاني رسولكم عن تجافي
كيف والشوق في الحشاشة يقضى ... أنني نحوكم أجوب الفيافي
غير أن الزمان للحظ مني ... لم يزل مولعا بحكم خلافي
عارض المقتضى من الشوق بالم ... انع والحكم عنكم ليس خافى
فسلام عليكم وعلى م ... فزتما من ثماره باقتطاف
وله في المفاخرة بين الإبرة والمقص
فاخرت ابرة مقصا فقالت ... لي فضل عليك باد مسلم
شأنك القطع يا مقص وشأني ... وصل قطع شتان إن كنت تعلم
وأصله قول بعضهم
أن شأن المقص قطع وصال ... فلهذا يضيع بين الجلوس
وترى الإبرة التي توصل ال ... قطع بعز مغروسة في الرؤس
وكتب إلى الفاضل محمد بن درار يستدعسه
رق النسيم وذيل الغيم منسدل ... على الوجود وطرف الدهر قد طرفا
فاغنم معاقرة الآداب واغن بها ... عن المدام وخذ من صفوها طرفا
وانزع إلينا لتجنى من خمائلها ... وردا ونجذب من مرط الوفا طرفا
وله أيضاً يصف بركة ماء
ألا فانظروا هذا الصفاء لبركة ... تقول لمن قد غاب عنها من الصحب
لئن غبت عن عينى وكدرت مشربي ... تأمل تجد تمثال شخصك في قلبي
ومثله قول الإمام على الطبرى
وبركة ماء قد صفا سلسبيلها ... ومن حولها روض تكال بالزهر
تخال إذا ما لاح رونق حسنها ... كبدر سماء حف بالأنجم الزهر
وله في الفوارة
وفوارة من مروة قام ماؤها ... كبز بوزا بريق وليس له عروه
يد إلى لما أن وردت صفاؤها ... ولا غرو أن يبدو الصفا من المروة
ومثله قول الفخر الخاتوني الآتي ذكره
ألا مل إلى روض به بركة زهت ... بفوارة فيها كفص من الماس
إذا ما أتاها زائر قام ماؤها ... فأجلسه منها على العين والراس
والأصل في ذلك قول ابن المعتز
وقاذفة للماء في وسط جنة ... قد التحفت كما من الطل سجسجا
إذا انبعثت بالماء منصلا ... وعلى عليها ذلك لنصل هودجا
تحاول ادراك النجوم بقذفها ... كان لها قلبا على الجو محرجا
لدىروضة جاد السحاب ربوعها ... فزخرفها بسين الرياض ودبجا
على نرجس غض يلاحظ سوسنا ... وآس ربيعي يناغى بنفسجا
كان غصون الأقحوان زمرد ... تعمم بالكافور ثم تتوجا
ونوار نسرين كان شميمه ... من المسك في جو السماء تأرجا
وكانت وفاة التاج بمكة ثامن شهر ربيع الأول سنة ست وستين وألف وأرخ وفاته الشيخ محب الدين بن منلا جامي بقوله
لتاج الدين أصبح كل حر ... حزين القلب باكي الطرف أواه
أقام يسوح باب الله حتى ... دعاه إليه أقبل ثم لباه
فتاريخ اللقا لما أتاه ... دنان الخلد منزله ومأواه(1/290)
الشيخ تاج الدين بن زكريا بن سلطان العثماني النقشبندي الهندي شيخ الطريقة النقشبندية ورابطة الارشاد إلى المنازل للسالكين في السلوك وواسطة الأمداد للمواهب الرحمانية من ملك الملوك كان شيخا كبيراً مهابا حسن التربية والدلالة على الوصول إلى الله تعالى صحبه خلق كثير من المريدين ومنن صحبه ولازمه الاستاذ أحمد أبو الوفاء العجل العجيل المقدم ذكره وولد أحمد المذكور الشيخ موسى والشيخ محمد ميرزا والأمير يحيى بن علي باشا وغيرهم وألف كتبا منها تعريب النفحات للعارف عبد الرحمن الجامي وتعريب الرشحات ورسالة في طريق السادة النقشبندية جمع فيها الكلمات القدسية المأثورة المروية عن حضرة الخوجه عبد الخالق الفجدواني المبنى عليها الطريق وشرحها بأحسن بيان والصراط المستقيم والنفحات الإلهية في موعظة النفس الزكية وجامع الفوائد وقد افرد ترجمته تلميذه السيد محمود بن اشرف الحسنى في رسالة سماها تحفة السالكين في ذكر تاج العارفين وقال فيها شمعته يقول أنه قبل أن يصل إلى الشيخ إله بخش في بداية أمره في غلبة الجذبات بعد توفيق التوبة بواسطلة الخضر عليه السلام كان اشتغاله غالبا بالسياحة في طلب الشيخ وكان الزم نفسه الأمور السلام كان استغاله غالبا بالسياحة في طلب الشيخ وكان الزم نفسه الأمور المقررة في كتب المشايخ أنه ينبغي للمريد أن يجعلها على نفسه قبل وصوله إلى الشيخ ثم بعد وصوله إليه لا يختار إلا ما احتاره وكان تحضر له رواح المشايخ وحصل له الكشف فلما وصل إلى بلدة اجمير التي فيها قبر قطب وقته الشيخ معين الدين الجشنى حضرت له روحه وعلمه طريق النفي والاثبات على كيفية مخصوصة في طريق الجشتية يسمونها حفظ الأنفاس وأمره أن يجلس ويستعمل الذكر يهذه الطريقة في بلدة باكور التي فهيا قبر الشيخ حميد الدين الباكورى وهو من أجل أصحابه وقال إني ما طئت إلا اليوم بعد مدة مديدة لأجلك وإلا فأنا بمكة لكثرة البدع التي يعملونها على قبره فسافر بموجب أمره إلى باكور وجلس بها يشتغل بالذكر المذكور ويزور أحيانا قبر الشيخ حميد الدين ويعلمه آداب الطريق فكان تظهر عليه الأنوار والتجليات والأحوال على طبق سلوك الجشتية وقال إني في تلك السنة كنت ادهل في خلوة كانت داخل ثلاث بيوت في ليلة مظلمة وأصك الأبواب كلها فكان يظهر لي نور مثل الشمس ثم يزيد ثم يحيط بالبيت ويصير ضوء مثل ضوء النهار فكنت اقرأ القرآن في ذلك الضوء فحصل لي الأنس بذلك النور حتى إني يوما من الأيام كنت أمر ببعض الطرق فإذا رجل عنده رسالة مكتوب فيها أن بعض الناس يحصل لهم في أوان الذكر نور فيغترون به وأخذ الرسالة مكتوب فيها وما رأيته بعد فانتهت وزاد تعلقي به ثم يوما كنت جالسا عند قبر الشيخ حميد الدين فخضرت روحه واراد أن يعطينى خرقة الإجازة وكان مراده أن يأمر في النوم والواقعة لبعض من كانوا على سنده من الخلفاء ليعطينى الخرقة فقلت لا أريد أن تعطينى إلا بيدك فقال الشيخ هذا اخلاف سنة الله فاطلب منه فاستأذنت منه وخرجت في طلب الشيخ وكنت أسيح في الجبال والراري والأغوار والانجاد وكنت أصل إلى المشايخ كثيرا فلم يحصل لي الاعتقاد لأحد منهم وكان وصل في هذه المدة إلى الشيخ نظام الدين الباكوري وكان مالمشايخ الجشتية فأراد الشيخ كثيرا أن يجلس عنده فما جلس عنده ورأى كثيراً من مشايخ الوقت حتى وصل إلى الشيخ إله بخش فلما رآه حصل له فيه أقصى ما يكون من الاعتقاد والشيخ رضى الله عنه تلقاه بحسن القبول وأظهر له أنه كان منتظر إله وكان من طريقة الشيخ أن لا يلقن أحدا إلا بعد ادخاله في الخدمات والرياضات الشاقة التي تنكسر بها النفس وتحصل بها التزكية فإن التزيكة مقدمة على التصفية عند أكثر المشايخ بخلاف النقشبندية فإن طريقتهم على العكس قالوا بعد ما يتوجه الإنسان إلى التصفية والتوجه الحق بالصدق فيحصل له من التزكية بامداد جذبة من جذبات الرحمن في ساعة مالا يحصل لغيره من الرياضات والسياسات في سنين بناء على تقدم الجذبة عندهم على السلوك فإن سلوكهم مستدير لا مستطيل وأن أول قدمهم في الحيرة والفناء كما قاله الخوجه بهاء الدين النقشبندي بدايتنا نهاية الطرق الأخر وقال أيضاً معرفة الحق حرام على بهاء الدين أن لم تكن بدايته نهاية أبي يزيد البسطامى وقال الخوجه عبيد الله احرار أن اعتقاد السلف قد يذهب بالبعض(1/291)
إلى انكار هذا الكلام مع أنه لا ينافى أمراً من الشرع بل حديث مثل متى مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره يدل على خلاف ذلك رجع إلى تتمة الكلام السابق قال تلميذه في رسالته فقال له الشيخ غله بخش في الواقعة يا شيخ تاج طريقنا أن لا نلقن الذكر أحدا حتى يحمل الحطب والماء قاشتغل أنت بحمل الماء إلى المطبخ ثلاثة أيام قال فكان يحمل فوق طاقته وكان تظهر منه الخوارق في تلك الأيام وأخبرت أن أهل تلك البلدة يقولون أن الشيخ حين كان يحمل الجرة على رأسه ويمشى كنا نرى الجرة منفصلة عن رأسه مقدار ذراع إلا أنني سمعته يقول ما لي علم بهذا الأمر فبعد ما تم له ثلاثة أشهر قال له الشيخ آله بخش اليوم قد تم أمرك بسم الله اشتغل بالذكر وكان أمره بالخدمة المذكورة بالباطن.لى انكار هذا الكلام مع أنه لا ينافى أمراً من الشرع بل حديث مثل متى مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره يدل على خلاف ذلك رجع إلى تتمة الكلام السابق قال تلميذه في رسالته فقال له الشيخ غله بخش في الواقعة يا شيخ تاج طريقنا أن لا نلقن الذكر أحدا حتى يحمل الحطب والماء قاشتغل أنت بحمل الماء إلى المطبخ ثلاثة أيام قال فكان يحمل فوق طاقته وكان تظهر منه الخوارق في تلك الأيام وأخبرت أن أهل تلك البلدة يقولون أن الشيخ حين كان يحمل الجرة على رأسه ويمشى كنا نرى الجرة منفصلة عن رأسه مقدار ذراع إلا أنني سمعته يقول ما لي علم بهذا الأمر فبعد ما تم له ثلاثة أشهر قال له الشيخ آله بخش اليوم قد تم أمرك بسم الله اشتغل بالذكر وكان أمره بالخدمة المذكورة بالباطن.(1/292)
وقال له هذا الكلام بالظاهر فلقنه ذكر العشقية فاشتغل بها ولا زال في خدمته حتى وصل إلى الكمال والتكميل ثم قال أن سيدي الشيخ تاج خدم سيدي الشيخ آله بخش عشر سنين خدمة خارجة عن طوق البشر وأجازه بارشاد المريدين وما كان يناديه إلا بقوله يا تاج الدين قال سيدي الشيخ تاج الدين وحصل لي ما كان بشرني به الشيخ آله بخش إلا أن حصوله بالتدريح وبعد أمور منتظرة قال الشيخ تاج الدين وكانت خدمته أنفع لي من الذكر وإني كلما وجدته من الأحوال وجدته من الخدمة ثم قال فصل في ذكر نبذة من خوارقه ومعارفه سمعت من غير واحد من أصحاب الشيخ أن سيدي الشيخ كان جالسا يوما في بلدنا أمروهة بالمراقب فرفع رأسه فانفصل منه نور وقع على شجرة رمان فبعد ذلك اليوم كانت تلك الشجرة كلها ثمرها وورقها وخشبها درياقا مجرباً للناس يستشفون به وكانت هذه الكرامة ظاهرة حتى فنيت تلك الشجرة وسمعت أيضاً منهم أن الشيخ دخل يوما في بيت وقت القيلولة فرقد على سريره وخرج الأصحاب ثم رجعوا ولم يجدوا الشيخ مكانه فتحيروا ثم ظهر الشيخ مكانه على السرير وقام واشتغل بالصلاة وما استطاع أحد أن يسأله عن ذلك وسمعت أيضاً أن بنتاً صغيرة للشيخ كانت مريضة وكان الشيخ يتوضأ فألهمهما الله أن شربت من غسالة رجليه عند الوضوء فشفيت بإذن الله وسمعت أيضاً واحداً من أصحابنا الصالحين يذكران الشيخ كن يوما جالسا في مكان يتلكم في المعارف لحقائق وفي اثناء ذلك الكلام يمزح مع أصحابه ويضحك فحطر لبعضهم أن مقام المشيخة لا يناسب المزاح أو محو ذلك فاطلع على خاطره وقال أن المزاح من سنة سيد المرسلين فإنه كان يمزح مع أصحابه ولا يقول الأحقا وذكر قصة وقوع ابن أم مكتوم في حضرته وضحك الأصحاب في الصلاة ومها أن واحدا من المكاشفين كان بشر بعض أصحاب سيدي الشيخ بأشياء فلما وصل إلى مكة كان مع الشيخ فخطر له أن الأمور التي كان بشره بها ذلك المكاشف ما ظهرت أسبابها وكان يختلج في سره أن ليس لقول ذلك المكاشف أثر والأكيف الحال ثم توجه غلى نحو الشيخ فقال له قبل أن يظهر شيئاً أن أحداً من أولياء الله لو بشر أحد بشئ لا بد أن يظهر ولو بعد عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة ففهم وحصل له السكون وسمعت من الشيخ أنه خرج إلى سفر ووصل إلى بلدة وكان جالسا فيها مع أصحابه بالمراقبة فحضر في حلقته رجل لا يعرفه فقرب الرجل وقبل يده ورجله وقال إني من الجن وهذا مكان سكنانا وإنا بعد ما رأينا طريقتكم أحببناكم فأريد أن آخذ منكم الطريق فلقنه الطريقة النقشبندية وكان يحضر عنده في الحلقة وكان يراه ولا يراه أحد غيره وقال للشيخ كل وقت أردتم أن أحضر عندكم فاكتبوا اسمي على ورقة وضعوها تحت أرجلكم أحضر عندكم تلك الساعة وسمعت أيضاً منه أنه حين سافر إلى كشمير حضر عنده واحد من الجن وأخذ عنه الطريقة وأاد أن يعرض على الشيخ كثيرا من خواص النباتات فلم يقبل الشيخ منه ذلك وكان يلازم صحبة الشيخ إلا أن الشيخ قال أنه كان يحصل لي النفرة من صحبته فإن الجزء الناري غالب على مزاجهم فيحصل من صحبتهمم الأوصاف الغير المرضية التي نشأت من الجزء الناري من الغضب والكبر فأردت أن أفعل به حيلة تنفره مني فسألته أن يزوجني بواحدة منهم فقال أن لي أختا بديعة الجمال عديمة المثال إلا أني أعرض عليكم أولاً حكاية ثم الرأى رأيكم فإن إلا لغة الإنس بين الجنى والأنسى متعسر فإن الجن يصدر منهم كثير من الحراكات التي لا تعرف الإنس حقيقتها فلا يستطيع الصبر عليها قال أنه كان هنا واحد من الصالحين زوجناه واحدة منا فولد لها منه ولد وكان يوقدنا فرمت الجنية ولدها في النار فصبر الرجل ثم ولد لها ولد فأعطيته الكلبة فأكلته فصبر الرجل ونسيت الثالثة فتعب الرجل وما استطاع الصبر وغضب عليها وقال لها أهلكت الأولاد الثلاثة فأحضرت الثلاثة وقالت كنت أعطيتهم للتربية لأخواننا فخذ أولادك من بعد اليوم ولا أجلس عندك وطارت من عنده ثم سافر الشيخ من تلك البلدة وسمعت أن الشيخ كان في أمر وهو فمرضت امرأة صالحة من المشرق وكانت معتقدة له فالتجأت إليه فذهب إليها الشيخ يعودها فلما رأى حالها أخذته الشفقة عليها والرحمة لها وكانت قد أشرفت على الموت فأخذها في ضمنه فبرأت كأن لم يكن بها شئ فإن الأخذ في الضمن شئ مقرر عند الأكابر النقشبندية إلا أنه لا يتصور إلا قبل نزول ملك الموت فبعد(1/293)
نزوله لا بد من بدل كما أن الخوجة الخاموش قدس الله سره كان أخذ واحداً من العلماء وضمنه فشفى ساعتئذ وقال إني دعوت الله سبحانه في وقت لا يرد بثلاثة أشياء وقد استجيبت أولها أن لا يصل إلى أحد ضرر مني وأن غضبت بمقتضى البشرية والثاني أن يزول منى الكشف والثالث أن كل من أخذ الطريق منى تكون خاتمته خيرا أو يجعله الله منكراً على ومعرضا عني ثم يفعل الله به ما يشاء انتهى واعلم أنه وأن دعا يزوال الكشف وكذلك يظهر من كلامه فإنه يقول كثير اللأصحاب أن الشيخ إما أن يكون صاحب كشف فلا ينبغي للمريد أن يعرض عليه حاله بل العرض عليه حينئذ سوء أدب أولاً يكون صاحب كشف فينبغي أن يعرض عليه فيهم بسؤال أحوال المريدين فيفهم منه أنه يظهر أنه ليس بصاحب كشف إلا أن الظاهر أن له اطلاعاً تاما واشراقا عظيما على الخواطر الأحوال فقد جرى لنا معه أحوال وأمور كثيرة وكن هذا من قسم الغراسة التي هي أقوى وأرفع منزلة من الكشف انتهى واعلم أنه أقر في فنون العلم كتبا كثيرة كالكافية ونحوها ثم غلب عليه الجذب حتى لم يبق منه أثر والآن ليس فن من فنون العلم إلا وهو واقف على دقائقه التي يتحير أرباب ذلك الفن في ادراكها وليس قسم من أقاسم المردكات إلا أدركه على الوجه الأتم الألطف وله رسالة في أنواع الأطعمة وكيفية طبخها ورسالة في كيفية غرس الأشجار وأخرى في أنواع الطب ودخل تام في معرفة أوضاع الكتابة وغير ذلك ودخل إليه أحد الأفاضل وكان له وقوف تام في الطب فتكلم معه بدقائق المنطق وغيره من العلوم حتى صار متحيرا وكان ذلك سبب سعادته ودخوله في الطريق ومن مشايخه السيد علي بن قوام الهندي النقشبندي مولده ومسكنه ومدفنه جانبور من بلاد الهند شرقي دهلي على مسيرة شهر منه كان من أكابر أولياء الله تعالى صاحب تصرقات عجيبة وجذب قوى قل بعض الصالحين ما ظهر في الأمو المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأتم السلام من أحد بعد القطب الرابني الشيخ عبد القادر الكيلاني رضى الله عنه من الخوارق والكرامات والتصرفات مثل ما ظهر منه حدثنا شيخنا قال حدثني رجل أنه كان من طريقة السيد أن لا يدخل عليه أحد إلى وقت الضحى وكان في هذا الوقت يغلب عليه الجذب والناس كلهم قد عرفوا هذا الأمر فما كان يدخل عليه في هذا الوقت أحد فجاء واحد من الأعراب كأنه كان من أولاد شيخ السيد قدس الله سره فمنعه الخادم من الدخول عليه فلم يقبل قوله وأراد أن يدخل فلما قرب وسمع السيد صوته قال من أنت قال أنا فلان قال اهرب إلى وراء الشجرة وكان هناك شجرة كبيرة وإلا احتراق فهرب الرجل واستتر بالشجرة فخرجت نار من باطن السيد أخذت الشجرة كلها فأحرقتها وبقى أصلها وسلم الرجل وكفى بهذه اشارة إلى كمال تصرفاته ثم قال صاحب الترجمة اعلم أن شيخنا مجاز من الشيخ اله بخش بالطريقة العشقية وبالطريقة القادرية وبالجشتيه والدارية وله بحسب الباطن اجازة من رئيس كل طريق وكذلك سمعت منه أنه سلك طريق الكبروية من روحانية الشيخ نجم الدين الكبرى في ربع النهار وأجازه وله رسالة في بيان سلوكهم ذكر فيها أن سلوكهم يتم بتمام الأطوار السبعة في كل طور يطوى عشرة آلاف حجاب حتى يطوى في تمام الأطوار السعبة تمام السبعين ويصل إلى الله تعالى ولهذا تفصيل إلا أنه ليس مقيدا إلا بالتسليك بسلوك النقشبندية فإني رأيت في نكتوب له إلى بعض أصحابه ينصحه أن الأكابر النقشبندية فإني رأيت في مكتوب له إلى بعض أصحابه يتصحه أن الأكابر النقشبندية هم أرباب الغيرة ثم ذكراني بعدما أجازني الخوجة ورخص لي واشتغلت بالتربية على طريق الأكابر النقشبندية لو كان يأتني طالب يريد الطريقة العشقية أو غيرها ألقنه فيها وأربيه حتى أن يوما حضرت روحانية الغوث الأعظم الخوجة عبيد الله احرار للخوجة محمد الباقي وقال له أن الشيخ تاج يأكل من مطبخنا ويشكر غيرنا فأخرجنا من النسبة فقال الخوجة محمد الباقي اعف عنه هذه المرة حتى أخبره فكتب إلى الخوجة محمد الباقي في هذه الواقعة فتركت كل ما كان غير هذه السلسلة وحصرت التربية والتلقين فيها انتهى كلامه فله طريق النقشبندية من الخوجة محمد الباقي وله من الخوجة إلا ملتكن وله من مولانا درويش محمد وله من مولانا محمد زاهد وله من الغوث الأعظم عبيد الله أحرار وله من الشيخ يعقوب الجرخى وله من حضرة الخوجة الكبير بهاء الحق والدين المعروف(1/294)
بنقشبند وله من أمير سيد كلال وله من الخوجة عبد الخالق الغحدواني وله من قطب الأقطاب الخوجة محمد باب السماسى وله من حضرة الخوجة على الرامتينى وله من حضرة الخوجة محمد الجرنفورى وله من الخوجة عارف ريوكرى وله من الشيخ يعقوب بن أيوب الهمداني وله من الشيخ أبي على الفارمدى وله من الشيخ أب الحسن الخرقاني ومن سلطان العارفين أب يزيد البسطامي وله من الإمام جعفر الصادق وله من قاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضى الله عنه ومن سلمان الفارسي ومن أبي بكر الصديق رضى الله عنه ومن سيد الكائنات صلى الله عليه وسلم والنسبة إلى الإمام جعفر عن أبيه إلى على كرم الله وجهه وكانت وفاته قبل غروب يوم الأربعاء ثامن عشر جمادى الأولى سنة خمسين وألف ودفن صبح يوم الخميس في تربية التي أعدها له في حياته في سفح جبل قعيقعان وضريحه ظاهر يقصد للزيارة وقعيقعان كزعفران جبل بنكة وجهه إلى أبي قبيس لأن جرهم كانت تضع فيه أسلحتها فتقعقع فيه أو لأنهم لما نحاربوا قعقعوا بالسلاح والله تعالى أعلمشبند وله من أمير سيد كلال وله من الخوجة عبد الخالق الغحدواني وله من قطب الأقطاب الخوجة محمد باب السماسى وله من حضرة الخوجة على الرامتينى وله من حضرة الخوجة محمد الجرنفورى وله من الخوجة عارف ريوكرى وله من الشيخ يعقوب بن أيوب الهمداني وله من الشيخ أبي على الفارمدى وله من الشيخ أب الحسن الخرقاني ومن سلطان العارفين أب يزيد البسطامي وله من الإمام جعفر الصادق وله من قاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضى الله عنه ومن سلمان الفارسي ومن أبي بكر الصديق رضى الله عنه ومن سيد الكائنات صلى الله عليه وسلم والنسبة إلى الإمام جعفر عن أبيه إلى على كرم الله وجهه وكانت وفاته قبل غروب يوم الأربعاء ثامن عشر جمادى الأولى سنة خمسين وألف ودفن صبح يوم الخميس في تربية التي أعدها له في حياته في سفح جبل قعيقعان وضريحه ظاهر يقصد للزيارة وقعيقعان كزعفران جبل بنكة وجهه إلى أبي قبيس لأن جرهم كانت تضع فيه أسلحتها فتقعقع فيه أو لأنهم لما نحاربوا قعقعوا بالسلاح والله تعالى أعلم الشيخ تاج العارفين بن أحمد بن أمين الدين بن عبد العال الحنفي المصري العلامة المفيد المجيد كان بمصر صدر المدرسين رئيساً نبيلاً روى عن والده ووالده روى عن والده وهو عن والده وهو عن الحافظ ابن حجر العسقلاني وأجازه شيوخ عصره بالافتاء والتدريس وتصدر للإقراء بجامع الأزهر وأفاد الطلبة وأجاد وألف مؤلفات عديدة ورسائل شهيرة في فقه الحنفية ولما سقط من البيت الشريف الجدار الشامي بوجهيه وانجبذ معه من الجدار الشرقي إلى حد الباب الشامي ولم يبق سواه وعليه قوام الباب ومن الجدار الغربي من الوجهين نحو السدس ومن الوجه الظاهر سقط منه نحو الثلثين وبعض السقف وهو محاذ للجدار الشامي وسقطت درجة السطح وكان سقوطه كذلك بعد عصر الخميس لعشرين من شعبان سنة تسع وثلاثين وألف ونقل ما فيها من النقاديل إلى بيت السادن وعلق باقي أخاشب سقفه خوفا عليه من السقوط جمع شريف مكة الشريف مسعود علماء البلد الحرام وسألهم عن حكم عمارة الساقط ولمن هي ومن أي مال تكون فوقع الجواب منهم بأنها تكون فرض كغاية على سائر المسلمين ولشريف البلاد لنائب عن السلطان الأعظم ذلك وأنه يعمرها بمال حلال ومنه مال القناديل التي بها مما لم يعلم أنها عينت من واقفها لغير العمارة ووافقهم على ذلك العلامة محمد بن علان المكي وأفتى به وألف رسائل حافلة في شأن ذلك ثم ورد السؤال من الديار المكية إلى الديار المصرية عن ذلك وعليه خطوط السادة المكيين بالجواب عن ذلك ليعرض على حضرة السلطان ينظر قاضي مصر إذ ذاك المولى أحمد المعيد المقدم ذكره فسأله أن يكتب أيضا رسالة في شأن ذلك لترعض مع أجوبة المكيين تقوية لهم فأجابه لذلك وألف رسالة سماها الزلف والقربة في تعمير ما سقط من الكعبة وقد أحسن فيها كل الإحسان وأجاد كل الإجادة وكان ينظم الشعر فمن شعره ما كتبه إلى الشيخ عبد الرحمن المرشدي مفتى مكة
أذكرت ربعا من أميمة أقفرا ... فأسلت معاذا اشعاع أحمرا
أم شاقك الغادون عنك بسحرة ... لما سروا وتيمموا أم القرى
زموا المطى وأعنقوا في سيرهم ... لله دمعى خلفهم يا ما جرى(1/295)
ما قطرت للسير أجمال لهم ... إلا ودمعي في الركاب تقطرا
فكان ظهر البيض بطن صحيفة ... وقطارها فيه يحاكى الأسطرا
وكأنها بهوادج قد رفعت ... سفن ودمع الصب يحكى الأبحرا
رحلوا وما عادوا على مضناهم ... واها لحظى ليت كنت مؤخرا
أن كان جسمى في الديار مخلفا ... فالقلب منهم حيث قالوا اهجرا
اظهرت صبري عنهم متجلدا ... وكتمت وجدى فيهم متسترا
وغدا العذول يقول لي من بعدهم ... بادهواك صبرت أم لم تصبرا
أقسمت أن جاد الزمان بمطلبي ... وسلكت ربعا بالمناسك عمرا
وشهدت بدر الحي بعد أفوله ... مذ لاح منأفق السعادة مقمرا
أديت خدمة سيد سند غدا ... مفتى الأنام وراثة بين الورى
هو عابد الرحمن واحد عصره ... فاسأل بذلك أن شككت مخبرا
هذا امام عرفه فينا حكى ... عرف الرياض إذا سرى متعطرا
ذو همة تسمو على نسر السما ... فيشيف منها هاو يا متحدرا
وسكينة تلقاه فيها مفردا ... مع لطف جسم بالفضائل عمرا
وقريحة منقادة وقادة ... شبت كبار ثم سالت أنهرا
كم حلبة في البحث أظلم نقعها ... يمشى جواد الفكر فيها القهقرى
آيات فضلك مثل مجدك أحكمت ... وسنا سنائك نفعه قد نورا
وجياد فكرك كالرياح كواعب ... وضياكما لك نوره قد أزهرا
من كنت أنت له ملاذا كيف لا ... يزهو بمدحك رفعة وتكبرا
فاسلم ودم في ظل عيش أرغد ... ما اعتز غصن في الرياض ونورا
وكتب إليه في سنة ثلاثين وألف كتابا صورته اليوم مثل الدهر حتى أرى وجهك والساعة كالشهر أن أبهى ما تجملت به السطور والطروس وأشهى ما استعذبته الألسن وطلبته النفوس دعاء على ممر الدهور لا ينقضى وابتهال بأكف الضراعة للإجابة مقتضى أن يديم على صفحات خدود الوجود شامة دهرها وواحد وقتها وعالم عصرها خاتمة العلماء المتنوهي مالك أزمة البراعة بضله المتين شيخ الإسلام والمسلمين المستجمع لمكارم الأخلاق والشيم والمنفرد بزراياها عند الخلق ولأمم المشتهر عند العرب والعجم بأنه ملك من العلم زمامه وجعل العكوف عليه لزامه فانقاد إليه انقياد الجواد وجرى في ميدانه بحسن السبق والفكر الوقاد عالم الغرب والشرق ومزيل ما تعارض من المسائل بحسن الجمع والفرق الجامع بين رياستي العلم والعمل والمانع باخلاص السريرة من لحوق عوارض العلل كنز العلوم والكشف بحر الهداية الذي ارتوى منه بالعب والرشف صدر الشريعة الغرا وشيخ حرم الله بالافتاء والأقرا من لا يمكن حصر وصفه بالتفصيل فإن الأطناب فيه طويل وإنما أحيل على ما قيل
أنت الذي يقف الثناء بسوقه ... وجرى الندى بعروقه قبل الدم
فالله سبحانه يمتع المسلمين بهذه الأخلاق ويديم فحار أهل الجود ببقاء صاحب هذا الاستحقاق ولا زال مذهب النعمان متحليا بعقوده متوشحا بطارفه وبروده هذا وإن التفت خاطره لتذكار ودوده والمخلص في دعائه حال ركوعه وسجوده فهو بخير وعافية ونعمة وافرة وافية نرجو من الله دوامها بدوام دعائكم إذا لا شك أنا من جملة منسوبيكم وأنسابكم فإنك الأصل في زكاء هذا الفرع ونموه والسبب الداعى إلى اعتلائه وسموه بأمور يهد بها الخاطر فتشهد بالاقرار بنعم الله في الباطن والظاهر غير أن الخاطر كله عندكم وفي التألم لبعدكم وما حصل له العام من فقدكم
روضة العلم قطبي بعد ضحك ... والبسي من بنفسج جلبانا
وهبي النائحات منثور ردمع ... فشقيق النعمان بان وغابا
فالله سبحانه وتعالى يجزل لكم الثواب ويعوضكم خيراً فيما بقى من الأحباب والسلام وكتب إليه أيضاً في سنة ست وثلاثين وألف
ملكت سورة الرحيل عناني ... وأهاجت سواكن الأشجان
أتمنى أسرى وهل يملك الس ... ير طريح الندى أسير التدانى
فاعطفا وانزلا وبثا سلامي ... لوجيه العلا فريد المعاني(1/296)
مرشد الفضل وابنه من يضاهي ... عالم الدين عابد الرحمن
لو تطيق التياق شوقي لما ج ... فت خضوعا من تربها أجفاني
وبقلبي من الوجيب إليه ... مثل ما بالنياق من ثهلان
فوعيش الصبا وعهد التصابي ... وليالي الرضا وإنس التداني
أن قصدي لقياك لكن قيادي ... بيد ليس لي بها من يدان
فراجعه
يا خليلي بالصفا أسعداني ... ويوصل من الأياس عداني
بقوله
واحملا بعض ما ألاقي وبثا ... حال صب متيم القلب عانى
جسمه في جياد والقلب منه ... في قرى مصردا ثم الخفقان
لم يزل شيقا ولوعا دواما ... شاخص الطرف ساهر الأجفان
يرقب النجم ليله وإذا أصب ... ح أضحى مناشد الركبان
هل رأيتم أو هل سمعتم حديثا ... عن قديم الأخا عظيم المعاني
هو تاج للعارفين الذي قد ... نال ارثا عوارف العرفان
من غدا مفردا بمصر بل ال ... عصر فلا يسمح الزمان بثاني
خص بالعلم والرياسة والو ... د وهذي مواهب الرحمن
فهو كنز وجامع لعلوم ... قد حواها بغاية الاتقان
دام فينا مبلغا ما يرجى ... من مراد ورفعة وأماني
ما تغنى على الرياض هزاز ... وأجابته الفه بالأغاني
وله غير ذلك من الآثار وكانت وفاته في حدود الأربعين بعد الألف السيد تاج العارفين بن عبد القادر بن أحمد بن سليمان الدمشقي القادري أحد صدور المشايخ ورؤساء المحافل بدمشق ركان شيخا موقراً عالي الهمة مبسوط الكف حمولاً صبورا مدا وما على العبادة لا يفتر عنها ولزم مدة حياته التردد إلى الجامع الأموي في السحر وله نوبة مع أخويه الاستاذ الكبير الشيخ صالح والعالم العلم الشيخ سليمان في خدمة مزار سيدي الشيخ ارسلان قدس الله سره وكان هو القائم بأعباء أمور أخيه ومتعلقاتهم وله تصرف عجيب وعقل وافر وبالجملة فإنه كان من الرؤساء الأخيار وكانت ولادته في سنة سبع وعشرين وألف ووفاته في منتصف شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وألف ودفن بزاويتهم عند أبيه وجده رحمه الله الشيخ العارفين بن محمد بن علي أبو الوفاء المصري الشافعي أكبر أولاد الأستاذ محمد بن أبي الحسن البكرى الصديقى سبط آل الحسن كان أكثرهم مالا وأفرهم نعمة ذكره البكرى في تاريخه الذي ألفه في ولاة مصر فقال اشتغل على أبيه وغيره من جماهير العلماء وتبحر في العربية ولاتفسير والأصول حتى ألف تفسير القرآن في أربع مجلدات لم تبيض وتفسير سورة الأنعام في مجلدين وتفسير سورة الكهف في مجلد كبير وتفسير سورة الفتح في مجلد مثله وله رسائل عديدة وشعر وكان فاضلاً كاملا وله القدم الراسخ في للتصوف وهو أول من لقب بافتاء السلطنة بالقاهرة ورأيت له ترجمة في ذيل النجم قال عند ما ذكره رأيته بمكة سنة سبع وألف فرأيت ملكا وحاله حالة الملوك لا حالة الشيوخ وسمته سمت الأمراء لاسمت العلماء وإن كان في زيهم ومنهرطا في سلكهم فإني رأيته في حجرة ينزلها أهله عند باب إبراهيم ورأيت جدرانها مستورة بالرخوت المفضضة المطلية بالذهب والسيوف المحلاة والتروس المكلفة ورأيت غلمانه الجبش والترك وكل واحد عليه ما يساوى المئات من الدنانير من لباس الحرير وغيره وبلغنى أن دائرته التي معه في سفرته مائة بعير وما عليها ملكه غير الخيل والبغال والحمير وكان معه أخوه أبو المواهب وهو يقاربه في سمته وأخوه عبد الرحيم وهو رجل مجذوب مات بمكة في تلك السنة قال ورجع تاج العارفين من سفرته تلك فأدركته المنية قبل وصول الحاج المصري إلى مصر بيومين وحمل إلى القاهرة ميتا في أوائل صفر سنة ثمان وألف هكذا ذكره النجم والبكرى ذكر أن وفاته ليلة الاثنين ثامن من شهر ربيع الثاني سنة سبع وألف ست وثلاثين سنة والله تعالى أعلم أي القولين الصواب(1/297)
القاضي تقى الدين بن محمد الدمشقي الصالحي المعروف بالقاضي التقى أصل والده من مدينة حمص وولد هو ونشأ بصالحية دمشق وكان من ذوى المرآت والفضائل كامل الاداة سخى النفس دمث الأخلاق حسن المطارحة له حسن أدب ومداراة لزم في مبدأ أمره أبا البقاء الصالحي المقدم ذكره ثم صار من طلبة حسام الدين مفتى الحنفية بدمشق وسافر إلى الحج في سنة ثلاث وثلاثين وألف ولم يتيسر له الحج بل أقام بالمدينة المنورة ثم صار شيخ الطعام بالعمارة السلطانية السليمانية وكان له خدمة بالسليمة أيضاً وكان يتردد غلى الأعيان ويتعهدهم بالهدية وولى النيابة بالصالحية زمانا طويلاً ثم سلك طريق علماء الروم ولازم ودرس بأربعين عثمانيا على قاعدتهم وحج في سنة ست وأربعين ثم ولى قضاء الركب الشامي وسار إلى الحج في سنة تسع وأربعين وصار قسام العيكر بدمشق وناب في القضاء بمحكمة الباب وبالمحكمة الكبرى والميدان وصار محاسب الأوقاف وبالجملة فإنه كان من أعيان أهل عصره وكانت ولادته في سنة سبع بعد الألف وتوفي نهار الأربعاء ثامن شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وألف ودفن بسفح قاسيون وكان سبب موته التخمة صحبه قاضي دمشق المولى مصطفى بن جشمى قبل موته بيوم إلى المنتزه المعروف بالسهرابية بالشرف القبلى من الواديي الأخضر فثقل من الطعام وفي غد ذلك اليوم دخل إلى حمام المقدم بالصالحية فمات في داخله رحمه الله تعالى تقي الدين بن يحيى بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن مصطفى في السنجارى المكي الحنفي الفاضل الأديب النبيل النبيه ترجمه السيد علي بن معصوم في سلافته فقال في وصفه أديب قام به أدبه المكتسب إذ قعد به موروث الحسب والنسب فهو ابن نفسه العصامية إذا عدت الآباء والجدود والمنشد لسان حاله عند افتخار السيد على المسود
ما بقومى شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فحرت لا بجدودى
سمع قول بعض الأدباء
كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك مورثه عن الحسب
فأجهد نفسه في تحصيل الأدب واكتسابه وغنى عن شرف النسب بانتمائه إليه وانتسابه فتمثل فخرا على كل معرق غبى
أن الفتى من يقول ها أناذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
قلت وهذه الترجمة كانت أعظم أسباب الترعض لسب السلافة وصاحبها فإن حفيد صاحب الترجمة صاحبنا الفاضل الأديب على بن تاج الدين السنجارى لما رآها استشاط غيظا وعمل هذين البيتين وهما
هات اقر لي ريحانة ابن خفاجة ... لا عطر بعد عروس لفظ محكم
واترك سلافة رافضي مبعد ... أن السلافة لا تحل لمسلم
وقال أيضاً
قولا لنجل ابن معصوم إذا نظرت ... إليه عينا كما عنى ولا تخفا
المزر أحسن من هذي السلافة إذ ... تديرها الحبش في حيشانها غرفا
ما زدت عن أن أفدت الناس قاطبة ... يا رافضي بما أضمرت للخلف
وقال أيضاً
ما أحسن الحق حين يبدو ... رغما على من يرى خلافه
فإن للإسم والمسمى ... تناسبا عن ذي الظرافه
وضمنت مدح قوم سوء ... روافض جاحدى الخلافه
ما سهل الله أن تسمى ... لما حوته غير السلافه(1/298)
ومن ذلك كثر فيها اللاغي والقادح وأهملت عن الاعتناء بشأنها مع أنها أحرى من كل حرى بالقبول وأنت أن اختبرتها عرفت لمؤلفها أغراضها قديمة أراد بهذا التأليف تقييدها ومن جملة أغراضه أنه إذا ترجم شيعيا يغالى في مدحه ويبالغ في تعظيمه والاشارة إليه وإذا ذكر سنيا لا يعطيه حقه بل ينكت عليه حتى أنه لما ترجم السيد الجليل المجمع على جلالته وكمال علمه عمر بن عبد الرحيم البصرى رماه بسنان لسانه وتكلم عليه بزوره وبهتانه وبالجملة فالله يسامحه على ما ارتكبه من الازدراء والامتهان فيمن ترجمه من الفضلاء والاعيان عود الخبر صاحب الترجمة ورأيت له ترجمة في مجموع بخط الأخ الفاضل الأديب مصطفى بن فتح الله وأغلب الاحتمال أنها له قال فيها سابق فرسان الإحسان وعين أعيان البيان والتبيان رفع للعلوم رايه وجمع فيها بين الرواية والدرايه وغاص في بحر الأدب فاستخرج درره وسما إلى مطالعه فاستجلى غرره فنظم اللآلى والدرارى ونثر وجدد ما درس من مغاني المعاني ودثر ثم أنشد له من شعره قوله ملغزا في نخلة وكتب بها إلى القاضي تاج الدين المالكي المقدم ذكره
أيها المصقع الذي شرف الد ... هر وأحيا دوارس الآداب
والهمام الذي تسامى فخارا ... وتناهى في العلم والاحساب
والخطيب الذي إذا قال أما ... بعد أشفى بوعظه المستطاب
والامام الذي تهذب طفلا ... وذكا في العلوم والانساب
جئت أرجو كشفا لشئ تناهى ... في العلى واكتفى عن الحجاب
أن تصفحه كان فيه شفاء ... وبه النص جاءنا في الكتاب
ولك الفضل أن تصفحه أيضاً ... بالعطالا برحت سامى الرحاب
مفرد أن حذفت منه أخيرا ... صار جمعا جنسا بغير ارتياب
أو وصلت الأخير منه بصدر ... كان عدا براي أهل الحساب
أو ثبان أن ضم تال إليه ... فهو خل من أعظم الأصحاب
وإذا ما صحفته لذ للنف ... س مذاقا في مطعم وشراب
خل نصفا يحل عنه وبادر ... قلع عين ما إن لها من حساب
قلع الهل عين شانيك يا من ... قدره قد سما عن الاسهاب
وابق في نعمة وعز منيع ... ما حدا بالحجاز حادى الركاب
فأجابه بقوله
يا أماما صلى وكل ... خلفه من أئمة الآداب
وخطيبا رقى فضمخ طيبا ... منبر الوعظ منه فصل الخطاب
لم ينافس لدى التقدم إلا ... قال محرابه هو الأحرى بي
أشرقت شمس فضله لا توارت ... عينها عن عياننا بحجاب
وأتى روض فكره بعروس ... قد أمدت أنهار من عباب
تقتضى منى الجواب وعذري ... في جوابي حوشيت أن الجوى بي
شبه في حشاى فقد فتاة ... رحلت تمتطى متون الرقاب
وانطوت بعد بينها بسط بسطى ... وانقضت دولة الصبا والتصابي
ليت شعري بمن أهيم وشمسي ... ما لها في أفولها من إياب
كيف أصبو ووردة كان روض ... الأنس يزهو بها ثوث في التراب
لا وعيش مضى بها في نعيم ... لست أصبو من بعدها الكعاب
هات قل لي يا ملعب السرب مالي ... لا أرى فيك ظبية الأتراب
قال سل حاسب الكواكب عما ... حار في دفعه أولو الألباب
أصبحت من بنات نعش وكانت ... بدرتم فهل ترى من جواب
فابسط العذر يا أخا الفضل ... فضلا أن نجدني أخطأت صوب الصواب
أتصيب الصواب فكرة صب يحتسى كاس فرقة الأحباب
وتطول وأسبل الستر صفحا ... فهو شأن الخل المحب المحابي
في جواب عن مخلة قد أتتنا ... يجنى النحل في سطور الكتاب
أتحفتنا باللغز في اسم لأخت ... لا بينا خصت بذا الانتساب
وكساها المروى من شبه المؤ ... من فضلاً في سائر الأحقاب(1/299)
وهي ترقى من غير سوء فطورا ... يستحق الجاني أليم العذاب
ثم طورا وهو الكثير يرى الج ... اني عليها من أفضل الأصحاب
ولها أن تشأ تصاحيف منها ... مفرد فيه غاية الأغراب
جاء قلب اسم جنسه وهو لحن ... لا تنافيه صنعة الأعراب
ومسمى التصحيف هذا إليه الل ... ه أوحى سبحانه في الكتاب
وهو ذشوكة وجند عظيم ... خلف يعسو به بغير حساب
ذو دوى في جحفل يملأ ال ... جو كرعد في مكفهر السحاب
حيوان وأن يحصف جماد ... مفصح عن مراد سامى الجناب
يا خليلي بل يا أنا في اتحاد ... بك عينى بدا بغير ارتياب
أن صنعي في حلى اللغز باللغ ... ز بديع فلا تفه بعتابي
وابق في نعمة وفي جمع شمل ... ببنيك الأفاضل الانجاب
ما سرت نفحة الأزاهر تروى ... ضحك الروض من بكاء السحاب
وأعقب ذلك بنثر صورته المولى الذي إذا أخذ القلم وشئ وأرى غباره أرباب البلاغة والانشاء لا يرى على من رماه الدهر بسهمه ولعبت صوالج الأحزان بكرة فهمه فمزج المدح بالرثاء وقابل النضر بالغثاء فقد بان عذره واتضح فعل الزمان به وغدره وقد كنت قبل ادراج هذا الرثاء في اثناء الجواب أرقت ذات ليلة من تجرع صاب ذلك المصاب فنفثت القريحة في تلك الليلة التي كاد أن لا يكون لها صبيحة
لقد كان روض الإنس يزهز بوزدة ... شذا كل عطر بعد نفحة طيبها
فمد إليها البين كف اقتطافه ... وأمحل ذاك الروض بعد مغيبها
ولم يصف لي من بعدها كأس لذة ... وكيف تلذ النفس بعد حبيبها
فروى ثراها يا سحائب أدمعي ... ومن لي بأن تروى بسح صبيها
فقصدت أن أثبتها في ذيل الجواب وأخرياته لما عسى أن تكون من محفوظات مولانا ومروياته وقد طال هذا الهذا وطغى القلم بما هو للعين قذا فلنجس عنانه ونرح سمع المولى وعيانه وكانت ولادة صاحب الترجمة في سنة عشر بعد الألف بمكة وتوفي بها في سنة يبيع وخمسين وألف ودفن بالمعلاة والسنجارى بكسر السين نسبة إلى البلدة المعروفة القاضي تقي الدين التميمي الغزى الحنفي صاحب الطبقات العالم العلم الفاضل الأديب الجم الفائدة المفنن أخذ عن علماء كثيرين وجال في البلاد ودخل الروم وألف وصنف وأحسن ماله من التآليف طبقات الحنفية وقفت على حصة منها وقد جمع فيها جملة من علماء الروم وعظمائها وأكابر سراتها ورسائها وذكر الخفاجي في ريحانته وأثنى عليه كثيرا وذكرانه كان في مبدأ أمره وإقبال طلائع عمره حرفته الزهاده وحانوته السجاده ثم ساقه القدر والقاض فرضى بما قدره الله وقضى بعدما كان يقول
من تمنى القضا فلا تعطينه ... واجعل الموت بقا للقضاء
وقد قالوا أن من تولى القضاء ولم يفتقر فهو لص والآن قد افتقرت اللصوص لما سرقت الامراء من الخواتم الفصوص والسارق إذا سرق من سارق فقد عامله برأس ماله وقال الربح والفائدة السلامة من خسران وباله وما يسلب قاطع الطريق العريان بل يهديه للسبيل ويعطيه الأمان وأورد من شعره قوله وقد لبس من القضاء خلع المذله وحاكت الأطماع من نصب المناصب حله
أحبابنا نوب الزمان كثيرة ... وأمر منها رفعة السفهاء
فمتى يفيق الدهر من سكراته ... وأرى اليهود بذلة الفقهاء
وله أيضاً
ما أبصرت عين امرئ ... في الدهر يوما مثلنا
عشق وحرمان به ... أبدا ترانا في عنا
الدون لا نرضى به ... والعال لا يرضى بنا
والعال بمعنى العالي إلا أنها عامية مبتذلة وقيل لابن المقفع لم لا تقول الشعر فقال لا يجئ ما نرضاه وما نرضاه لا يجئ وله أيضاً
إذا أكثر العبد الذنوب ولم يكن ... له شافع من حسنه يوجب العذرا
وأبصرت مولاه مع الذنب ممهلا ... عليه فحقق أن بينهما أمرا
وله
وإذا أساء إليك خادم سيد ... وأقره فارحل ولا تتوقف
واعلم بأنك قد ثقلت وأنه ... أعطاك اذنا بالرحيل فخفف
وله(1/300)
لنا صديق له بالغانيات هوى ... وايره لا يزال الدهر طراقا
كأنما هو حرباء الهجير ضحى ... لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا
وقد سبقه لهذا ابن الأنبارى المصري فقال
لا يشغلنك شئ في زمانك عن ... وصل الملاح وحاذر كل ما عاقا
وكن كما قيل في الحرباء من فطن ... لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا
وهو تضمين من قول بعض شعراء الجاهلية
إني يتيح له حرباء تنضية ... لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا
والساق فيه غصن الشجرة ومن الإنسان معروف وبه قامت التورية وضربه بعض العرب مثلاً بألد الخصام الذي كلما انقضت حجة أقام له أخرى والحرباء دويبة تسمى أم حبيرة تتلون ألوانا مع الشمس وتكنى أباقرة ويقال حرباء تنضب كما يقال ذئب غضا وهو شجر تتخذ منه السهام جمع تنضبة وفي المثل أحزم من حرباء لأنه مع تقلبه مع الشمس لا يرسل يده من غصن حتى يمسك آخر وهو الذي عناه الشاعر وضربه ابن الرومي مثلا للقبح في كثرة التقلب انتهى وكانت وفاة التميمي بمصر يوم السبت خامس جمادى الآخرة سنة عشر وألف وهو في سن الكهولة رحمه الله تعالى المنلا بن محمد الكيلاني نزيل قسطنطينية وأحد المحققين المشهورين بالفضل الباهر والحذق التام والمعرفة في الفنون الغريبة كالحكميات والألهيات والرياضيات حصل ودأب ببلاده ثم قدم إلى آمد وأقام بها مدة يدرس ويفيد في العلوم وكان إذ ذاك المنلا عماد الآمدي بها وكان يقع بينهما مناظرات ومحاورات ولما ولى حسن باشا بن محمد باشا حكومة لشام سافر في صحبته إليها أقاما بها مدة ثم رحل المنلا توفيق إلى الروم وانحاز إلى المولى سعد الدين بن حسن جان معلم السلطان فعينه معلما لا ولاده واتخذه نديما ومصحبا وبسببه طنت حصاة فضله واشتهر وأعطى مدرسة خررى قاسم باشا التي بأيوب على طريق التقاعد هكذا اذكر ابن نوعى خبره في ذيله التركي وذكره البورينى في تاريخه وأثنى عليه قال في ترجمته كانت له معارضة مع العماد الحنفي السمر قندى البا ياسوني النعماني وكان أهل النظر لا يرونه أهلا لمعارضة العماد وطالت بينهما المعارضة والمحاورة حتى أنهما لم يجتمعا في مجلس لكن كانت السفار بينهما غير مندفعة حتى أن المنلا توفيق لقب العماد بقوله هو كيف الدين لأنه كان يتناول شيئاً من الأفيون فأرسل العماد إليه قائلاً الدين ماله كيف بل له زائر وضيف فأنت يا توفيق ضيف الدين وذلك لأنك كنت كيلانيا وأهل كيلان زيديون وهم قسم من الشيعة يرون الأمامة لزيد بن الحسن فكأنه لما رتك تلك البلاد وصار حنفيا في بلاد آمد صار ضيفاً للدين لأنه نزيل أهل السنة وشاعت بينهما أمثال هذه الأقاويل ثم رحل العماد إلى دمشق ورحل توفيق إلى الروم فتوفي في سنة عشر وألف
حرف الجيم
جار الله بن أبي بكر بن محمد بن محمد بن محمد بن علي لقدسي المعروف بابن أبي اللطف الحصكفى الأصل مفتى الحنفية ومدرس المدرسة العثمانية بالقدس تولاها بعد موت عمه عمرو توجه إلى الروم بعد موت عمه المذكور وتقرر في هذه المناصب وله رحلة سابقة إلى مصر أخذ بها العربية والفقه عن علماء ذلك العصر وأخذ عن عمه شيخ الإسلام محمد وكان يحبه جداً حتى أنه زوجه ابنته قال الحسن البور بنى حكى لي ولد محمد المذكور وهو الشيخ كمال الدين محمد بن أب اللطف الآتي ذكره أن والده كان قد عزم أن يزوج ابنته المذكورة بابن أخ آخر له فرأت امرأة صالحة في دارهم والد الشيخ محمد وهو شيخ الإسلام محمد شمس الدين وهو يقول هذه البنت لا يعطيها محمد لفلان بل يعطيها الجار الله وهكذا رأى هذا المنام بعينه رجل صالح ضاع عني اسمه فلزم أنه أعطاها لجار الله كما حكم والده في الرؤيا وأصاب في ذلك فإن ابن أخيه الآخر مات سريعا ولم ينتج وأنتج جار الله وكان عالما فاضلاً سخيا طلق الكف طلق الوجه مبذول القرى قرأت بخط العلامة محمد بن عمان إلا يجى الدمشقى في مجموع له ذكر فيه بعض وفيات قال توفي جار الله مفتى القدس في أوائل شعبان سنة ثمان وعشرين وألف وورد خبر موته إلى دمشق في أواسط شعبان وكانت وفاته من غير علة وسيأتي ولده على مفتى القدس رحمه الله تعالى(1/301)
جعفر الصادق بن علي بن زين العابدين بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن الشيخ عبد الله العيدروس اليمنى الشافعي الشريف الفائق الأجل المولى العلى القدر ولد بمدينة تريم وصحب أباه ولازمه مجة في فنون عديدة وحفظ القرآن وجوده وحفظ الإرشاد والملحة والقطر وغيرها وأخذ عن ابن عمه عبد الرحمن السقاف بن محمد العيدروس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن شهاب والشيخ زين بن حسين بأفضل وأبي بكر الشلي باعلوى وبرع في التفسير والفقه والحديث والتصوف والعربية والحساب والفلك والفرائض وكان ناضر العيش رخى البال وأتحفه الله بحسن الفهم وجمال الصورة وكمال الخلقة ورزقه قبولا تاما وكان بليغاً في مظمه وإنشائه ثم حج وأخذنا بالحرمين عن جماعة ثم عاد إلى تريم ولم يدخل إلى بلد إلا وأكرمه وإليها غاية الأكرام ولما قرب من تريم خرج الناس للقائه ودخل في جمع لم يتفق لأحد من أهل بيته وكثرت مزاحمة الرجال وأرباب الدفوف والشبابات بين يديه والمداح امدحه وتثنى عليه وسبب ذلك أن أباه كان متوليا أمر الأشراف وكان له إليه محبة زائدة وأقام بتريم مدة ثم رحل إلى الهند لطلب العلوم العقلية فدخل بندر سورت للأخذ عن عمه الشريف محمد ثم قصد إقليم الدكم فاتصل ثمة بالوزير الأعظم الملك عنبر فنظمه في سلك ندمائه وناظر العلماء بحضرته فظهر عليهم ثم تصدر للتدريس واعتنى بلسان الفرس فحصله في مدة يسيرة ولما رأى بعض العجم العقد النبوى لجده الأمام شيخ بن عبد الله طلب منه أن يترجمه له بالفارسية فترجمه بأحسن عبارة ولم يزل حتى مات الملك عنبر وأقيم ولده فتح خان مقامه فزاد في إجلال صاحب الترجمة إلى قدر الله تعالى على تلك الدولة ما قدر من نفادها وتشتت أربابها فعاد الصادق إلى بندر سورت وقرر على ما كان عليه عمه محمد العيدروس من المعلوم والغلال وزادوه كثيرا من الأرضي فكان ينفقها على الوارد وألقى بالبندر عصاه واشتهر أمره وطنت حصاته وكان له من الولاية نصيب وافر وله كرامات ومكاشفات منها ما حدث به بعض الثقات من أهل مكة قال أردت السفر إلى وطنى وأنا ببندر سورت فدخلت عليه أودعه وأسأله الدعاء بالوصول إليها سالما فقال لي تسعى بين الصفا والمروة في اليوم الحادي والثلاثين من هذا اليوم قال فلما وصلتها بينما أنا أسعى إذ سألني رجل عن السيد المذكور فتذكرت قوله لي وحسبت الأيام فإذا الأمر كما قال قال وبالجملة فهو من خيار القوم وكانت ولادته في سنة سبع وتسعين وتسعمائة وتوفي سنة أربع وستين وألف ودفن في مشهد عمه محمد العيدروس وقبره معروف يزار ويتبرك به رحمه الله تعالى جعفر أبو البحر بن محمد بن حسن بن علي بن ناصر بن عبد الإمام الشهير بالخطى البرحاني العبدى أحد بنى القيس بن شق بن قصى بن دعمة بن جديلة بن أسد بن ربيهة بن نزار بن معد بن عدنان ذكره في السلافة فقال في وصفه ناهج طرق البلاغة والفصاحة الزاخر الباحة الرحيب الساحه البديع الأثر والعيان الحكيم الشعر الساحر البيان تقف بالبراعة قداحه وأدار على المسامع كؤسه وأقداخه فأتى بكل مبتدع مطرب ومخترع في جنسه مغرب ومع قرب عهده قد بلغ ديوان شعره من الشهرة المدى وسار به من لا يسير مشمرا وغنى به من لا يغنى مغردا وكان قد دخل الديار العجمية فقطن منها بفارس ولم يزل وهو لرياض الأدب جان وفارس حتى اختطفته ايدى المنون فعرس بفناء الفناء وخلد عرائس الفنون ولما دخل اصبهان اجتمع بالشيخ بهاء الدين محمد العاملي وعرض عليه أدبه فاقترح عليه معارضة قصيدته التي أولها قوله
سرى البرق من نجد فهيج تذكارى ... عهودا بجدوى والعذيب وذى قار
فعارضة بقصيدة مطلعها
هي الدار تستسقيك مدمعك الجارى ... فسقيا زخير الدمع ما كان للدار
ولا تستضع دمعاً تريق مصونه ... لعزته ما بين تو وأحجار
فأنت امرؤ بالأمس قد كنت جارها ... وللجار حق قد علمت على الجار
عشوت على اللذات فيها على سنا ... سنا شموس ما يغبن وأقمار
فأصبحت قد أنفقت أطيب ما مضى ... من العمر فيها بن عون وأبكار
نواصع بيض لو أفضن على الدجى ... سناهن لاستغنى عن الكوكب السارى
خرائد يبصرن الأصول بأوجه ... تغص بأمواه النضارة أحرار(1/302)
معاً طير لم تغمس يد في لطيمة ... لهن ولا استعبقن جونة عطار
أبحنك ممنوع الوصال نواز لا ... على حكم ناه كيف شاء وأمار
إذابت تستسقى الثغور مدامة ... أتتك فحيتك الخدود بأزهار
أموسم لذاتي وسوق مآربي ... ومجنى لباناتي ومنهب أوطارى
سقتك برغم المحل أخلاف خزنة ... تلف إذا جاشت سهولا بأوعار
وفج كما شاء المجال خشوبه ... بعزمه عواد على الهول كرار
تمرس بالاسفار حتى تركنه ... لدقته كالقدح أرهفه البارى
إلى ما جد يعزى إذا انتسب الورى ... إلى معشر بيض أماجد أخيار
ومضطلع بالفضل زر قميصه ... على كنز آثار وعيبة أسرار
سمى النبي المصطفى وأمينه ... على الدين في إيراد حكم واصدار
به قام بعد الميل انتصبت به ... دعائم قد كانت على حرف هار
فلما أناخت لي على باب داره ... مطاياى لم أذمم مغبة أسفاري
نزلت بمغشى الرواقين داره ... مثابة طواف وكعبة زوار
فكان نزولي إذ نزلت بمغدق ... على المجد فضل البرعار من العار
أساغ على رغم الحواسد مشربى ... وأعذب ورد العيش لي بعد امرار
وأنقذني من قبضة الدهر بعدما ... ألح بأنياب على واظفار
جهلت على معروف فضلى فلم يكن ... سواه من الأقوام يعرف مقدارى
ولما انتهى إلى هذا البيت في إنشاد قال وأشار إلى جماعة من سادة البحريين وهؤلاء يعرفون مقدراك أن شاء الله تعالى
على أنه لم يبق فيما أظنه ... من الأرض شبر لم تطبقه أخباري
ولا غروفا لأكسير شهرة ... وما زال من جهل به تحت أستار
متى بل لي كف فلست بآسف ... على درهم أن لم ينله ودينار
فيا ابن الألى أثنى الوصى عليهم ... بما ليس تثنى وجهه يد انكار
بصفين إذ لم يلف من أوليائه ... وقد عض ناب للورى غير فرار
وأبصر منهم جن حرب تهافتوا ... على الموت اسراع الفراش على النار
سراعا إلى دعوى المنون يرونها ... على شربها الأعمار مورد أعمار
أطاروا غمود البيض واتكلوا على ... مفارق قوم فارقوا الحق كفار
وأرسوا وقد لاثوا على الركب الجنى ... بروكا كهدى أبركوه لجزار
فقال وقد طابت هنالك نفسه ... رضا وأقر واعينه أي قرار
فلو كنت بوابا على باب جنة ... كما أفصحت عنه صحيحات أخبار
يشير إلى همدان وهي قبيلة من اليمن ينتهى إليهم نسب الممدوح وكانوا قد أبلوا يوم صفين بلاء حسنا فروى أنهم في بعض أيامها حين اسنجر القتل ورأوا فرار الناس عمدوا إلى غمود سيوفهم فكسروها وعقلوا أنفسهم بعمائهم وجثوا للركب وبركوا للقتل فقال فيهم أمير المؤمنين على كرم الله وجهه ورضى عنه
لهمدان أخلاق ودين يزينها ... وبأس إذ لاقوا وحسن كلام
فلو كنت بوابا على باب جنة ... لقلت لهمدان دخلوا بسلام
وقال فيهم يوم الجمل لو تمت عدتهم ألفا لعبد الله حق عبادته وكان إذا رآهم تمثل بقول الشاعر
ناديت همدان والأبواب مغلقة ... ومثل همدان سنى فتحة الباب
كالهند وإني لم تفلل مضار به ... وجه جميل وقلب غير وجاب(1/303)
ذكره ابن عبد ربه في العقد وهمدان بسكون الميم وبعدها دال مهملة وأما همذان بفتح الميم والذال المعجمة فبلد من بلاد العجم وهي أول عراق العجم وإليها ينسب بديع الجمال الهمذاني صاحب المقامات الذي اقتفى الحريرى أثره فيها وتمام القصيدة موجود في ديوان صاحب الترجمة وقد قزط له عليها الشيخ بهاء الدين تقريظا حسنا ذكره في السلافة وذكر له بعض أشعار أوردت منها قطعة في النفحة التي ذيلت بها على الريحانة ومطلعها عاطنيها قبل ابتسام الصباح وكانت وفاته سنة ثمان وعشرين وألف رحمه الله تعالى(1/304)
جعفر باشا الوزير الخطير صاحب اليمن ذكره الأمام على الطبرى في تاريخه وقال سمعت من لفظ والدي قال تباحثت أنا وإياه في خمسة علوم التفسير والحديث والمعاني البيان والقراآت فوجدته في كل منها كاملا وذكر محمد بن كأني الرومي في تاريخه أنه كان حاكم بلاد الحبشة فأنعم عليه السلطان ببلاد اليمن فوصل إلى بندر الصليف من حدود اليمن في تاسع عشر شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وألف ودخل مدينة صنعاء في رابع عشرى شوال من السنة المذكورة وكان جامعا بين محاسن الخصال ومراتب الكمال وكان عالما عاملا وفيه من الديانة والتهجد ما هو كثير على أمثاله وكان خليقا بكل وصف حسن إلا أنه كان يحب الفخر وفيه من التيه شئ لطيف ومن نظر إليه في بعض مجالس أنسه وكثرة انبساطه ظن أنه يعتريه الجذب ولو أمن من سفك الدماء في آخر مجيئه إلى اليمن لكان ممن ملك القلوب وهو معذور في هذا الأمر فإنه لما دخل صنعاء تصفح أحوال البلاد فرأى أن تقوى الإمام القاسم بمساعدة عبد الرحمي بن المطعر وذلك بسبب عزم سنان باشا فاستحسن مصالحه الأمام فصالحه يوم الاثنين حادى عشرى ذي الحجة سنة ست عشرة وألف على جهات معلومة وهي بلاد إلا هتوم وبلاد عدو والقصمات ووادعة وبلاد برض وشرط الإمام خروج أولاده ومكالفه وأصحابه من حصن كوكبان فأطلقهم الوزير المذكور وأحسن إليهم وإلى ولده السيد محمد وتوجهت العساكر على عبد الرحيم فأسره وأرسله إلى العتبة السلطانية في شهر رمضان سنة ثمان عشرة وألف وواجهه أخوه الأمير أحمد والأمير محمد فأكرمهما بصنحقين وسلطانيين وفتح بلاد حجة والشرف وبلاده وحصونه وفتح بلاد بنوه ووصاب وشرع في نظام البلاد وسار سيرة مرضية فوصلت الأخيار إلى اليمن أنها توجهت إلى ضابط الجند الوزير إبراهيم فخرج الوزير جعفر قاصدا إلى الأبواب في حادى عشر ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وألف ووصل الوزير إبراهيم إلى بندر الصليف في سلخ صفر وخرج إلى البر غرة شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين فطلع من اليمن متوجها إلى صنعاء فمال إليه الأمير عبد الله كتخدا الوزير جعفر وامضك إليه ولم يرع لولى نعمته حرمة ولا راقب فيه ذمة فعين الوزير إبراهيم معه عسكرا جرارا وعينه عليهم وعلى من بصنعا من العساكر وأمره بالتقدم قبله إلى صنعاء فتقدم ونهض الوزير إبراهيم إليها فوصل إلى زمار وهو مريض ثم نهض منها فلما وصل إلى منقذة وهي على مرحلة من زمار مات وفي سبب موته أقاويل وذلك يوم الاثنين خامس عشرى جمادى الأولى من السنة وقد كان الوزير جعفر وصل إلى زبيد واستقر بها لأجل تكميل مهمات يحتاج إليها في الطريق فوصلت إليه الأخبار بموت خلفه فرجع قاصداً صنعاء لما أرسل إليه أعيان البلاد المجتمعون في مدينة زمار خارجا عمن كان مع الأمير عبد الله لأنه كان وزير السلطان وأولى الناس بالولاية لأجل الحفظظ حتى يرى السلطان في ذل برأيه فلما بلغ الأمير عبد الله رجوع الوزير جعفر ضاقت نفسه لجراءته وأحاطت به الأوهام فاجتمع الذين أساؤا إليه من الامراء والجند فتشاجروا وتحاوروا على الخلاف وكان الأمير عبد الله يعدهم ويمنيهم بالذي يوافق أعويتهم فساعد بقية العسكر وكان فيهم من ينكر فعلهم وأظهر الاستقلال بالأمر الأمير عبد الله ولما وصل الوزير جعفر إلى زمار أرسل إليه كتابا بالصفح والعفوف فتعذر بالعسكر الذين نصبوه كرها وحذره من الوصول فلما ترددت الرسل ما زاد هو ومن معه إلا عدوا نافعين الوزير كتخذاه الأمير حيدر سردارا على العسكر وأرسلهم فلما ترا آي الجمعان انخذل بعض العسكر وجاء إلى جانب السردار وثبت بعضهم للقتال فتقدم بمن معه عليهم فهزمهم ولما بلغ عبد الله هزيمة أعوانه تحصن في حصن صنعاء ووصل السردار وحط بحمراء علب قرب صنعاء فأرسل إلى الامراء ووانسهم ووصل السردار وحط بحمراء علب قرب صنعاء فأرسل إلى الأمراء ووانسهم فطلبوا الأمان فأرسل لهم بالأمان فخرجوا إلى حمراء علب وتقدموا إليه فما وسع الأمير عبد الله إلا النزول إليه فلما وصل شاهد السردار أشقياء العسكر يتزايدون ويتناقصون في الكلام فحسم مواد الفتن بقطع رأسه وخمدت نيران الفتنة وذلك في أوائل شعبان سنة اثنتين وعشرين وألف ووصل الوزير جعفر إلى صنعاء وكان نزوله في البستان قبال باب السبى وهو أحد أبواب صنعاء في اليوم الرابع والعشرين من الشهر وصام شهر رمضان في قصر صنعاء(1/305)
وتتبع من كان سببا للفنن وساعد الأمير عبد الله فقطع دابرهم وعفا عن بعضهم وكان الإمام القاسم قد اغتنم الفرصة مدة هذه الفتى فبسط يده على أكثر بلاد القبلة والمغارب وتقوت شوكته فجمع الوزير جعفر جيشا وعين كتخداه حيدر سردار عليهم فتوجه فظفر بالسيد الحسن بن القاسم في عرة الأشمور فقبض عليه وأرسله إلى الوزير ثم كانت الحرب بعد ذلك سجالا وفي آخر الأمر حصل الحرب الأكيد فقتل من الجانبين عالم كثير في أماكن متعددة وبينت عن قتل السيد على بن القاسم فكان سببا لأطفاء نيران الحرب من الطرفين وفي خلال ذلك وصلت الأخبار بأن ولاية اليمن قد توجهت إلى الوزير حاجي محمد باشا فاختار الصلح لاشتغالهما بأنفسهما فانعقد الصلح بين الوزير جعفر بين الأمام القاسم بأن لكل منهما ما تحت يده من البلاد والخيار لمحمد باشا بعد وصوله إلى صنعاء في تمام الصلح وعدمه وخرج الوزير جعفر من صنعاء متوجها إلى الأبواب السلطانية يوم تاسع عشرى شعبان سنة خمس وعشرين وألف وكان أول دولته حرب ونصر وأوسطها سلم وراحة وآخرها حرب وفتنة ومحنة وحقد انتهى وقد ذكر تتمة خبره من هنا النجم الغزى في ذيله فقال دخل دمشق منفصلاً عن اليمن يوم الخميس رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وألف وكان دخل مصر وأقام بها مدة قال واجتمعت به في الميدان الأخضر فوجدته من افراد الدهر ينطق باللفظ العربي الفصيح وهو عالم متمكن في العربية والتفسير أمام في علم الكلام ومعرفة مذاهب الفرق ويحسن الرد عليهم بالأدلة العقلية عارف بالخلاف بين المذاهب شديد التعصب على المعتزلة والروافض والزيدية لا يمل من البحث ولا يفتر عنه حاذق الفكرة جيد الذكاء ثم سافر من دمشق هو وقاضي قضاة مصر السيد محمد الشريف في يوم السبت حادى عشراً وثاني عشر رجب ثم عاد من الروم إلى الشام في أواخر سنة سبع وعشرين وألف متوليا نيابة مصر قال واجتمعت به فرأيته على حالته لم يتغير عنها ثم سافر إلى مصر وعزل عنها وتوفي بها مطعونا في سنة ثمان وعشرين وألف انتهى ووجدت في تاريخ البكرى الذي ألفه في الخلفاء والسلاطين وذيله بنواب مصر وقضاتها عند ذكر جعفر باشا أنه كانت توليته لمصر في نهار الأربعاء تاسع ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وعزل يوم الأحد ثالث عشرى شعبان من هذه السنة فكانت مدة استيلائه خمسة أشهر وأربعة عشر يوما قال وكان من أجلاء العلماء له البد الطولى في غالب العلوم خصوصا التفسير ووقع في زمنه الفناء العظيم فكل من مات في زمنه وله ولد أعطى علوفته لولده أو أبيه فإن لم يكن له ولد ولا أب أعطى ذلك لأقاربه مع البشاشة وكان ابتداء الفناء في أواخر ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وانتهاؤه في أواخر جمادى الآخرة من السنة المذكورة وكان غالب من يموت فيه عمره ما بين الخمسة عشر سنة إلى خمس وعشرين سنة وحصر من توفي في مبوطا من الحوانيت يوما بيوم فكان من ابتدائه إلى انتهائه مائة ألف وخمسا وثلاثين ألفا هذا ما أخرج من الحوانيت وما عدا ذلك فهو كثير وتوفي جعفر باشا في آخره انتهى قلت وقد ولى الشام في جيلنا سميه الوزير جعفر باشا في سنة اثنتين وستين وألف ووقع في زمنه طاعون بالشام لم يعهد مثله في الكثرة وبلغ عدد الجنائز بدمشق يوما بيوم الفاو ينوف واستمر ستة أشهر وإنما ذكرت ذلك لمناسبة اسم هذين الوزيرين مع أن ترجمة هذا الثاني مما يتعين لكنى لم أظفر بخبر وفاته فلهذا ذكرته بهذه المناسبة واكتفيت بذلك عن ترجمتهوتتبع من كان سببا للفنن وساعد الأمير عبد الله فقطع دابرهم وعفا عن بعضهم وكان الإمام القاسم قد اغتنم الفرصة مدة هذه الفتى فبسط يده على أكثر بلاد القبلة والمغارب وتقوت شوكته فجمع الوزير جعفر جيشا وعين كتخداه حيدر سردار عليهم فتوجه فظفر بالسيد الحسن بن القاسم في عرة الأشمور فقبض عليه وأرسله إلى الوزير ثم كانت الحرب بعد ذلك سجالا وفي آخر الأمر حصل الحرب الأكيد فقتل من الجانبين عالم كثير في أماكن متعددة وبينت عن قتل السيد على بن القاسم فكان سببا لأطفاء نيران الحرب من الطرفين وفي خلال ذلك وصلت الأخبار بأن ولاية اليمن قد توجهت إلى الوزير حاجي محمد باشا فاختار الصلح لاشتغالهما بأنفسهما فانعقد الصلح بين الوزير جعفر بين الأمام القاسم بأن لكل منهما ما تحت يده من البلاد والخيار لمحمد باشا بعد وصوله إلى صنعاء في تمام الصلح وعدمه وخرج الوزير جعفر من صنعاء متوجها إلى الأبواب السلطانية يوم تاسع عشرى شعبان سنة خمس وعشرين وألف وكان أول دولته حرب ونصر وأوسطها سلم وراحة وآخرها حرب وفتنة ومحنة وحقد انتهى وقد ذكر تتمة خبره من هنا النجم الغزى في ذيله فقال دخل دمشق منفصلاً عن اليمن يوم الخميس رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وألف وكان دخل مصر وأقام بها مدة قال واجتمعت به في الميدان الأخضر فوجدته من افراد الدهر ينطق باللفظ العربي الفصيح وهو عالم متمكن في العربية والتفسير أمام في علم الكلام ومعرفة مذاهب الفرق ويحسن الرد عليهم بالأدلة العقلية عارف بالخلاف بين المذاهب شديد التعصب على المعتزلة والروافض والزيدية لا يمل من البحث ولا يفتر عنه حاذق الفكرة جيد الذكاء ثم سافر من دمشق هو وقاضي قضاة مصر السيد محمد الشريف في يوم السبت حادى عشراً وثاني عشر رجب ثم عاد من الروم إلى الشام في أواخر سنة سبع وعشرين وألف متوليا نيابة مصر قال واجتمعت به فرأيته على حالته لم يتغير عنها ثم سافر إلى مصر وعزل عنها وتوفي بها مطعونا في سنة ثمان وعشرين وألف انتهى ووجدت في تاريخ البكرى الذي ألفه في الخلفاء والسلاطين وذيله بنواب مصر وقضاتها عند ذكر جعفر باشا أنه كانت توليته لمصر في نهار الأربعاء تاسع ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وعزل يوم الأحد ثالث عشرى شعبان من هذه السنة فكانت مدة استيلائه خمسة أشهر وأربعة عشر يوما قال وكان من أجلاء العلماء له البد الطولى في غالب العلوم خصوصا التفسير ووقع في زمنه الفناء العظيم فكل من مات في زمنه وله ولد أعطى علوفته لولده أو أبيه فإن لم يكن له ولد ولا أب أعطى ذلك لأقاربه مع البشاشة وكان ابتداء الفناء في أواخر ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وانتهاؤه في أواخر جمادى الآخرة من السنة المذكورة وكان غالب من يموت فيه عمره ما بين الخمسة عشر سنة إلى خمس وعشرين سنة وحصر من توفي في مبوطا من الحوانيت يوما بيوم فكان من ابتدائه إلى انتهائه مائة ألف وخمسا وثلاثين ألفا هذا ما أخرج من الحوانيت وما عدا ذلك فهو كثير وتوفي جعفر باشا في آخره انتهى قلت وقد ولى الشام في جيلنا سميه الوزير جعفر باشا في سنة اثنتين وستين وألف ووقع في زمنه طاعون بالشام لم يعهد مثله في الكثرة وبلغ عدد الجنائز بدمشق يوما بيوم الفاو ينوف واستمر ستة أشهر وإنما ذكرت ذلك لمناسبة اسم هذين الوزيرين مع أن ترجمة هذا الثاني مما يتعين لكنى لم أظفر بخبر وفاته فلهذا ذكرته بهذه المناسبة واكتفيت بذلك عن ترجمته(1/306)
الشيخ جلال بن أدهم بن عبد الصمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أدهم وليس هو إبراهيم بن أدهم السلطان الولى المشهور وأن كان نسب جلال متصلاً به لكن لم أقف على تتمة نسبه واصل آبائه من التركمان وسكنوا مدينة عكار وكان لهم بها أملاك دارة ومريدون وزاوية ورد منهم عبد الصمد إلى دمشق قبل الأربعين وتسعمائة وتوطنها وكان معه حكم سلطاني بافتاء الحنفية بدمشق وتدريس التقوية فنفذ حكمه قاضي القضاة ولى الدين بن الفرفور وصيره مفتيا ومدرسا بالمدرسة المذكورة وكان فقيها شديد الورع وكان يتردد في السكنى بين مدرستين فيسكن في الشتاء بالمدرسة العادلية المقابلة للظاهرية وفي الصيف بالمدرسة الجمالية بسفح قاسيون وطالت مدته وهو يفتى إلى أن مات نهار الأثنين ثامن من رجب سنة خمس وستين وتسعمائة وخلفه ابنه أدهم فدرس بالعادلية وكان صالحا غير متكلف بلبسه ومعيشته على أسلوب التركمان واتصل بالوزير الأعظم سنان باشا وصار له معلما ونال منه خيرا كثيرا وله معه مكاشفات ووقائع سيأتي منها شئ في ترجمة سنان باشا وكان بعد وفاته ولى سنان باشا حكومة الشام بعد الوزارة العظمى فصير ابنه جلالا معتمدا على جامعه الذي عمره خارج باب الجابية فاقتنى من ذلك أملا كاعظيمة وأموالا جزيلة وبنى بيتا خلف حمام العقيقى كان حماما موقوفا على أماكن كثيرة منها حصة موقوفة على أئمة الجامع الأموي ولم يهنأ عيشه به ولا اطمأن خاطره فيه وبنى بالصالحية بيتا وقصرا وغرس بستانا لطيفا على نهر يزيد قلت وهو القصر المعروف الآن ببنى عماد الدين وكان جلال فاضلا حسن العشرة وقصة تولهه بمملوكه مستغيضة وافتتانه فيه شهيرة وقد ذكرها ألبورينى فيترجمته فلا حاجة إلى ايرادها وكانت وفاته نهار الأحد ثامن رجب سنة إحدى عشرة بعد الألف ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى الشيخ جمال الدين بن شمس الدين محمد المشهور والده بالعجمى القدسي الواعظ وهو والد عبد الغفار مفتى القدس وأخيه الحافظ القاضي الشاعر الآتي ذكرهما أن شاء الله تعالى كان والده محمد رجلا واعظا ذكيا حضر مع السلطان سليمان بن عثمان فتح رودس وحصل له منه إكرام ثم قدم القدس واستمر بها يعظ الناس إلى أن توفي ودفن بما ملا بقيته التي أنشأ ولده جمال الدين هذا ورحل إلى مصر وصحب الزين المرصفى ثم عاد إلى القدس في حدود سنة ثمان وستين وتسعمائة تقريبا ولزم شيخ الصلاحية الشيخ عفيف الدين بن جماعة ثم تقرر في قراءة المولد والمعراج بالمسجد الأقصى عن الشيخ أبي الفتح بن فتيان أمام الصخرة ثم قرر في تدريس دار الحديث التي تجاه دار القرآن السلامية وشرقي المدرسة الظافرية وكانت متهدمة فعمر بها عمارة جمع مجموعاً له في الوعظ رأيت بخط الأمام المحدث الشمس محمد الداودى المقدسي ثم الدمشقي ف أوراق كتب فيها تراجم بعض معاصريه وألحقها ببعض وقائع قال ذكر لنا ولده عبد الغفار لما قدم غلى دمشق بعد وفاته أنه يشتمل على ألف مجلس وتفي ليلة الأحد ثاني عشر جمادى الأولى سنة إحدى وألف وكان سنة ثلاثا وستين سنة وخلف ثلاثة أولاد ذكور وبنتين رحم الله الجميع برحمته والله أعلم جمال الدين بن مجب الدين المعروف بالجنيد الدمشقي الشافعي وشهرة أهله ببنى الكوكيه وينتهى نسبهم إلى معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه وكانوا بدمشق من التجار المياسير ولهم مآثر وخيرات ولهم أقارب بمكة وهم أيضاً أصحاب ادرارات وشهرة وجمال الدين هذا خرج من بينهم كامل الأدوات حسن الآداب لطيف المطارحة حلو الحديث صاحب نكات ونوادر رواية واسعة في الأخبار والشعار والأحاديث وعمر كثيراً ولقى أساطين العلماء وجالسهم والتقط من فوائدهم وروى عنهم ولازم الذكر والأوراد من ابتداء عمره واشتغل بالعبادة ولذلك لقب بالجنيد وفيه يقول الأديب الباهر محمد بن يوسف الكريمى
أنت يا شيخ الطريقه ... فيك والله حقيقه
لم يتفها من مزايا ... جامعي الفضل دقيقه
أنت والله جنيد الو ... قت في كل حقيقه
أنت من يرسد أر ... باب النهى خير طريقه
لك أخلاق بتق ... ريض المجيدين خليقه
لوغد اللفضل شخص ... في الورى كنت شقيقه
إنما انت بأخلا ... قك روض أو حديقه(1/307)
فلعمري أنت بدر ... فاز من كنت رفيقه
وكان يحكى عن نفسه أنه لم يتفق له مدة عمره صلاة من قعود وكان مواطبا على السنن والرواتب وله صدقات سرية وكتب الكثير من الكتب بخطه وكان خطه حسنا وضبطه بينا وبالجلمة فإنه كان من مفردات وقته وحسنات عصره وذكره والدي رحمه الله تعالى في تاريخه وقال في ترجمته هو شويخ نسر لقمان عنده فريخ عمر إلى أن فات حد الماية ولقى القرن القرن بعد القرن والغاية بعد الغاية وعاشر الوزراء ونادم الكبراء وتردد إلى الأعيان وهام في الغيد الحسان حتى صار شيخ الغرام ونقيب الوجدن والهيام فهو صغير كبير وكبير صغير إذا خالط الكبار يكبر وإذا خالط الصغار يصغر محبوب قلوب الأنام له فيها التصرف التام لا يراه أحد من الناس إلا يود أن يكون له من الندماء والجلاس يحب التلاق ويكره الفراق لا يودع مسافرا ولا يعود مريضاً ولا يشيع جنازة إلا نادرا وكانت أوقاته مستغرقة في النزهات وكان له بعض ثروة ويتعاطى صنعة القماش وحج مرتين متتابعتين وسافر إلى القدس وحلب وكان يورد قصصا وحكايات كثيرة وربما شاهد غالبها بالعين وكان في ذلك تاريخا برجلين وكان مفرد وقته في لعب الشطرنج ولم يكن في عصره مثله في معرفته والناس يضربون به المثل فيقولون لمن يحسن لعبه فلان يلعب مثل الجنيد وربما كان يمازحه بعضهم بأنه أدرك واضعه لكبر سنه ومهارته فيه ومما قيل فيه وكان كما وصف أصفر اللحية
رب شخص بلحية نارنجي ... قدمته نضيلة الشطرنج
وكان يكتم سنة فإذا ألح عليه في السؤال ملح لم يزده على أن سنى عظم ويتمثل كثيرا بقول أبي العلاء البغدادي
احفظ لسانك لا تج بثلاثة ... سن ومال ما استطعت ومذهب
فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة ... بمكفر وبفاضح ومكذب
وكان يجرى لا دباء دمشق معه مداعبات ومطارحات من أنفس ما يسامر به فمن ذلك ما فاله الأديب إبراهيم بن محمد الأكرمي المقدم ذكره وكان له رفيق يلقب بالقطب
الشام أضحت أحوالها عجبا ... في دهرنا والأمور أسباب
القطب فيها بالعشق مشتهر ... لا يستحى والجنيد دباب
وقال فيه أيضاً هذه الأبيات وفيها إشارة إلى ما كان فيه من الشره في الأكل ويخرج منها لفظ جنيد بطريق التعمية
وذي شره مغرم بالطعام ... يسير على بطنه أي سير
تراه إذا مد زاهي الطعام ... وصف بأنواع لطف وخير
يمد يدا جن من قبلها ... ويخلط كل الطعام بغير
ونقل عنه أنه حضر في ضيافة عند أحد الأعيان بدمشق فخلط في الطعام على عادته فأنكر فعله بعض من كان في المجلس فلما تنبه لانكاره أنشده قول الحريري سامح أخاك إذا خلط فذيل له المنكر هذا المصراع بقوله في الرز والزرد فقط والرز لغة في الارز ويقال أرز وأرز مثل كتب ورنز وحكى لي والدي المرحوم أنه حضر سماطا وإمامه الجنيد فبالغ في النهمة وكان في المجلس بعض الأدباء فأنشد قول أبى محمد القزوينى الضرير في رجل أكول
وصاحب لي بطنه كالهاويه ... كان في أمعائه معاويه
قال لي الوالد وهذا البيت قد ذكره الثعالبي في اليتيمة واستجاد وجازة لفظه ووقوع الأمعاء إلى جنب معاوية لمزية ثالثة وهي كون الذي أنشد فيه من نسل معاوية وحضر ليلة في دعوة كان فيها حافظ المغرب أبو العباس أحمد المقرى وأحمد بن شاهين المقدم ذكرهما فلما قدم الطعام قام الجنيد وتوضأ وصلى بعض ركعات فقال المقرى مستجيزا
قام الجنيد يصلى ... ونحن نأكل عنه
فأجابه ابن شاهين
تقبل الله منه ... ولا تقبل منه
وقصيدة محمد الكريمى اليت قالها في هجائه مشهورة وهي طويلة فنذكر بعضا منها فإنها من رائق الكلام وسبب انشائها أن بعض أدباء دمشق ومنهم الجنيد كانوا مجتمعين في محل وبين يديهم رمان يأكلون منه فطلع عليهم الكريمى فقال القوم كلهم إلا الجنيد فأنشأ الكريمى هذه القصيدة ومطلعها
تزهو بشاشك أو بمالك ... وكلاهما من حظ مالك
قم كم تنام وفي الهوى ... متها لكايا سوء حالك
كيف القايم لناسك ... إني لا عجب من محالك
منها
أن المعظم نفسه ... سا شيخ في بحر المهالك(1/308)
يا عير قام القوم لي ... إلا حمارا من مثالك
لكن عذرك واضح ... فالأكل من أقوى اشتغالك
هذا عتاب لاهجا ... وعظيم أنفك مع سبالك
حررته مستغفرا ... إذ كدت أدخل في وبالك
هذا وما عهد الق ... يام من الجماد فدم بحمالك
ومنها
صدقت استاذي العم ... ادي في شهادته بذلك
بقصيدة الكرى والأغ ... نام فاجعلها ببالك
فاشكر صنيعي أن عق ... لت وأن ترم خذها بقالك
إني رأيتك قد مقت بع ... يد زهوك واختيالك
واعتضتن بالدنيا عن الأ ... خرى فراقب نار مالك
ارفق بنفسك قد كبر ... ت وزاد هولك عن مجالك
وأعد صلاتك ما است ... طعت وعد عن ماضي دلالك
فأراك لا تفرق ريا ... لك في النجاسة من مبالك
والحق أنك جاهل ... وتعد نقصك من كمالك
وقوله بقصيدة الكردى والأغنام اشارة إلى أن الأبيات التي نظمها فيه العمادى المفتى والشاهينى وعبد اللطيف بن المنقار من باب المساجلة بينهم ومطلع هذه القصيدة
عذرتك ياح حلا حل بالجنيد ... وقلت له سماعك بالمعيدى
وحلا حل هذا كان رجلا كثير المجون واسمه على وسيأتي ذكره وكان كثيراً الحط على الجنيد شديد الأزراء به وله معه نكايات ووقائع شتى وكان الجنيد بمجرد ذكره يتأمل ويحنق لما كان يلحقه منه من الأذية خصوصا في مجالس الكبار والأعيان من العلماء وغيرهم وتتمة الأبيات
له مثال يشابه عارضيه ... صفارا فوق وجه كاقريد
يبادر للمآكل حين يدعى ... ويشتم الروائح من بعيد
ينكش سنة من شرب ماء ... باصبعه وطور بالعويد
ويصبح هائشاً يبغى طعاما ... يطوف على المنازل كالجعيدي
على الطحان يعتب كل آن ... ويضرب باليماني الهنيدي
ومثل النحل يأكل كل شئ ... ويجنى اللسع مع عدم الشيهد
وتشكو ثقل فستقة حشاه ... ويزلط كل خرفان الكريدى
وينكح بنت شهوته طعاما ... ويعطى مهرها نحل النقيد
ويلبس فروة من جلد نمر ... يقول لبستها خوف البريد
بموت قد تلقب في البرايا ... وبين الناس من يدعى بالصميديي
على الأصحاب يطرح كل شاش ... بأربعة من الذهب النقيدي
برأس الملل يخبرهم كذوبا ... ويفترس الأنام كما الفهيد
ولما جئت ما أهديت شيئا ... بعثت إليك هجوا من عنيدى
وأن تنكر قوافيها فسامح ... فإن الشعر من ملامجيد
وملامجيد المذكور كان روميا نزل دمشق وقطن بها وكان ينظم أشعارا على طريق المجون وكان أدباء دمشق كالمولى أحمد بن زين الدين المنطقي وابن شاهين والأمير المنجكي ينظمون الأشعار الهزلية على لسانه وينسبونها إليه ومن نوادر الجنيد أنه لما وصله خبر الأبيات من الكريمى اجتمع به واستنشده إياها فلما أتم قراءتها نظر إليه بنظر المستهزئ به ولم يزده على أن قال له أين الأم المشفقة التي تبكى عليك وهذه كناية عن سوء الحال فإن الكريمى ورث من أبيه مالاً كثيراً فأتلفه في مدة جزئية وساء حاله بعد ذلك وحكى عن الكريمى أنه قابلني بكلمة لو صرفت عمري في هجوه ما وفيت بها وللجنيد نكات مقبولة ومقولات رائقة فمن ذلك قوله لا تسمع غناه إلا من فم تشتهى أن تقبله ومن لطائفه تسمية فرع الأمرد بعريشة الحسن وقد نظمها الأخ الفاضل إبراهيم بن محمد السفر جلاني أبقاه الله تعالى في مقطوع فأجاد حيث قال
قال صف فرعى الذي قد تدلى ... فوق خدى أن كنت من واصفيه
قلت ماذا أقول في وصف روض ... قد تدلت عريشة الحسن فيه(1/309)
ومن غرائب وقائعه التي تسند إلى حسن عشرته وتحمله وتقديم النشاط على غيره أنه مات له ولدان وجئ إليه بخبرهما وهو مع جماعة في بستان بالصالحية يلعب بالشطرنج فلم يشعر أحد أوقام وأعطى المخبر دراهم وفوض إليه أمر تجهيزهما وعاد إلى ما كان فيه وبالجملة فإنه كان من نوادر الزمن وكانت وفاته نهار الأربعاء ثامن عشرى ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وألف ودفن بمقبرة الفارديس رحمه الله تعالى وقد أرخ بعضهم وفاته بقوله
ما الدهر دهر جديد ... كذا تكون العبيد
وما سوى الله فإن ... وأين من لا يبيد
وعمر هذا قصبر ... وعمر هذا مديد
وللفريقين يوم ... لا بد يأتي شديد
أما سمعت المنايا ... تقول ماذا يفيد
طير الفنان تؤرخ ... صح مات مات الجنيد
السيد جمال الدين بن نور الدين بن أبي الحسن الحسيني الدمشقي الأديب الشاعر الذيق كان ألطف أبناء وقته دماثة خلق وخلق حسن معاشر لطيف الصحبة شهي النكتة والنادرة قرأ بدمشق وحصل وحضر مجالس العلامة السيد محمد بن حمزة نقيب الأشراف فأخذ عنه من المعارف ما تنافست عليه به الآراء ثم هاجر إلى مكة وأبوه ثمة في الأحياء فجاور بها مدة ثم دخل اليمن أيام الأمام أحمد بن الحسن فعرف حقه من الفضل وراجت عنده بضاعته ومدحه بهذه القصيدة وهي قوله
خليلي عود إلى فيا حبذا المطل ... إذا كان يرجى في عواقبه الوصل
خليلي عودا واسعد إني فأنتما ... أحق من الأهلين بل أنتما الأهل
فقد طال سيرى واضمحلت جوارحي ... وقد سئمت فرط السرى العيس والإبل
فعاد وقالا صح ما بك من جوى ... وفي بعض ما لاقيته شاهد عدل
ولكن طول السير ليس بضائر ... وغايته كنز الندى أحمد الشبل
منها
أبانت به الأيام كل عجيبة ... يسير بها الركب اليماني والقفل
فنير أن بأس في بحار مكارم ... ومن فعله وصل وفي قوله فصل
أرانا عيانا ضعف أضعاف سمعنا ... وعن جوده قد صح بالنظر النقل
ومنها
أقول وقد طفت البلاد وأهلها ... بلوتهم قولا يصدقه الفعل
إذا ما جرى ذكر البلاد وحسنها ... فتلك فروع والغراس هي الأصل
وأن عدد وفضل ومجد مؤثل ... فأحمد من بيت الأنام له الفضل
فلا غروان قصرت طول مدائحي ... ففي البعد قصر الفرض جاء به النقل
إليك صفى الدين منى خريدة ... فريدة حسن لا يصاب لها مثل
وأعظم ما ترجو القبول فإنما ... قبول الثناباب يتم به السؤل
فحقق رجاها واحل عاطل جيدها ... بما أنت يا نجل الكرام له أهل
ثم فارق اليمن ودخل الهند فوصل إلى حيدر إباد وصاحبها يومئذ الملك أبو الحسن فأتخذه نديم مجلسه وأقبل عليه بكليته وهذا الملك كما بلغني في هذا العصر الأخير من أفراد الدنيا وفور كرم وميلاد للأدب وأهله فأقام عنده في بلهنية عيش وصفاء عشرة حتى طرقت أبا الحسن النكباء من طرف سلطان الهند الأعظم السلطان محبوسا هناك فانقلب الدهر على السيد جمال الدين فبقى مدة في حيدر إباد وقد ذهب أنسة إلى أن مات بها في سنة ثمان وتسعين وألف كما أخبرني بذلك أخوه روح الأدب السيد على بمكة المشرفة حرسها الله تعالى(1/310)
الأمير جوهر سحرتي لبرهان نظام شاه الموفق سلطان الهند أحد امراء الديار الهندية المشهورين بحسن السيرة جلب إلى الهند وهو صغير وهو وأخ له فاشتراهما السلطان العادل برهان نظام شاه وسلم جوهر المن يعلمه القرآن فتعلمه وحفظه وحفظ غيره ثم تعلم الفروسية واللعب بالسيف والرمح والسهام إلى أن مهر في ذلك ثم ترفى إلى أن صار أميراً على مائتي فارس وكان شافعي المذهب سمع من جماعة وقرأ كتبا كثيرة وصحب المشايخ ولزم الشيخ الأمام شيخ بن عبد الله العيدروس ولبس منه الخرقة ذكره الشلى وقال اجتمعت به في رحلتي إلى الهند وعرفت فضله ودجرته في العلم وقرأ على في الفقه والنحو والحديث فأقمت برهة أرتع في رياض فضله وكان له من العبادة شئ كثير لا يفتر ساعة عن تلاوة أو ذكر أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له مطالعة في كتب الدقائق وسير الملوك والخلفاء وكان كثيرا الاعتقاد فيمن يثبت عنده صلاحه وكانت له بشاشة وجه وكان شجاعا شهما ذا سياسة للرعايا كثيرا لغزو والجهاد لقتال أهل الكفر ثم رماه الدهر بسهمه ففارق محل مملكته وتوجه إلى بيجافور فمات بها وكانت وفاته في سنة ست وخمسين وألف ودفن بمقبرة السادة والعرب تحت مدينة بيجافور من أرض الهند واعتنى السادة بتجهيزه وكان له مشهد عظيم وخلف ولدين صغيرين فاقيما مقامه رحمه الله تعالى
حرف الحاء المهملة
السيد حاتم بن أحمد بن موسى بن أبي القاسم بن محمد بن أبي بكر بن أحمد بن عمر بن أحمد بن عمر الأهدل اليمنى الحسينى ذكره الشلى في تاريخه والسيد على بن معصوم في سلافته وتلميذه الشيخ شيخ بن عبد الله العيدروس وصنف ولده الشيخ عبد القادر ابن شيخ ترجمته في الدر الباسم من روض السيد حاتم وأثنوا عليه ثناء ليس وراءه غاية وهو واحد الدهر في جميع أنواع العلوم والمعارف والنظم والنثر رحل إلى كثير من البلدان واقام بالحرمين ثم توطن المخا وحصل له بها شأن عظيم وعم نفعه بها وفيه يقول بعضهم
تاهت بكم أرض المخا وتجملت ... فالبندر المحروس زهوا يرفل
لما طلعت يأفقه متهللا ... أمسى وظل بنوره يتهلل(1/311)
وكان يدخل المخا في أيامه مراكب عديدة وكل من حل عليه نظره تبدلت أحواله السيئة بصفات محمودة وحكى أنه قال ولائي النبي صلى الله عليه وسلم هذه البلدة أو هذا القطر ثم قصده الناس فتخرج به جمع كثير وكان له يد طولى في العلوم الشرعية والفنون العربية لكن غلب عليه التصوف وكان الشيخ عمر بن عبد الله العيدروس إذا جاءته مسئلة في التصوف أرسلها إليه ليجيب عنها فيحيب بأحسن جواب وكان العلوم نصب عينيه وكان متقنا لعلم الأسماء والحروف ودوئر الأولياء ومقامات الموقتين وعلم الأسرار ومدد الأذكار حتى قيل أنه يعرف الاسم الأعظم والحجر المكرم وكان زاهد في الدنيا وكانت الوزراء والأمراء يطلبون الاجتماع به فيمتنع ومن زهده أنه لم يتعلق في الدنيا وكانت الوزراء والأمراء يطلبون الاجتماع به فيمتنع ومن زهده أنه لم يتعلق في الدنيا بسبب من أسبابها ومات ولم يخلف شيئاً وبلغ من جميع الصفات الكاملة ما لم يبلغه أحد وكان العارف بالله تعالى السيد أبو بكر المعروف بصائم الدهر يعظمه ويزوره إلى بيته وكان يرى النبي صلى الله عليه وسلم وقال رايت النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنا والسيد على با سعد بين يديه فألبس النبي صلى الله عليه وسلم بيده المباركة الشريفة السيد على يا سعد طاقية وأمره أن يلبسي فألبسني إياها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وكان له تصرف في الموجودات وظهرت له كرامات منها أنه أخبر بعض أصحابه بكائنة تحدث في سنة أربع فوقع الأمر بعد أن أخبر كما ذكر وأخبر بواقعة الشيخ الصديق الخاص وأنه يقتل فقتل الشيخ الصديق بعد انتقال السيد حاتم بأعوام وصادر بعض الوزراء الظلمة بعض السادة الشراف وطلب منه مالا فذكر ذلك للسيد حاتم فقال له أعطه فإنه لا يستطيع أخذه فلما أعطاه وتناوله ذلك الظالم آلمه لما شديد افصاح وتركه وذهب وحكى أنه كان جالسا في الحرم المكي وعنده بعض مريديه فجرى على خاطره أن القطب يكون بمكة وأن يكون الآن فالتفت إليه السيد حاتم وقال له هو الآن على المنبر فقام المريد إلى المنبر فوجد عليه تركيا طويل الشوارب على هيئة الجندي فرجع إلى شيخه وأخبره فقال أتريد أن يأتيك على صورته ويقول لك أنا القطب فرجع إلى المنبر فلم يجد أحدا ومنها أنه أراد السمر فأمر باحضار البخور والماورد فقيل له فرغ العود فأخرج من تحت البساط عودا فاخر فقال تلميذه على الجاز أني هذا العود من معدنه ومنها أن خادمه قال له يوما ليس عندنا ما نشترى به القوت فأخرج له دراهم من المنديل فقال له عهدي بالمنديل فارغا فقال لنا رخصة في التصريف بقدر الحاجة مما يباح لنا أخذه وحكى أن السلطان في بعض السنين جدد السكة وكان بعض الصادة من أهل زبيد رأس ماله كله من الدراهم القديمة فتضرر لذلك وحكى حاله للسيد حاتم فدله على بعض الأولياء في زبيد فذهب إليه فقال له السيد حاتم أقدر مني على قضاء حاجتك ولكن اذهب إلى المسحد الفلاني تجد فيه شخا بدلك فذهب فوجد الشخص فقال له ادخل محل كذا حيث تجدر جلا يخرز النعال القديمة فدخل فوجده كذلك وعنده اناء فيه ماء متغير الرائحة من النعال التي يخرزها فجعل يدخل النعال في الماء بقوة ليصيبه الرشاش فينفر عنه فأدخل الرجل يده في الماء ورش على بدنه فعرف الخرازانه لا بد له منه فأخذ الجراب الذي فيه الدراهم وجلس عليه ساعة ثن أعطاها ياه فإذا الدراهم على السكة الجديدة ثم قال له الرجل الذي لقيته في المسجد هو الخضر عليه السلاح وجعل يقول فضحوني ومات بعد ثلاثة أيام ومن كراماته اللطيفة أنه وشى به إلى من يحبه بعض الوشاة فلما علم بذلك قال في موشح له على طريقة أهل اليمن يا ورنيسان يا يهجة الدون والدان منعلمك نقض العهود يبلى بثعبان يلذع لسانه يا فتان حتى يصير في اللحود فسعت تلك الليلة حية إلى لسان ذلك الواشي ولذعته ونفثت في فيه سمها فمات وله كلام عال في الحقائق والتصوف قال بعض العارفين ما رأين في شيوخنا من اجتمع له علم وحال غير حاتم إذا رأيت علمه رجحته على عمله وإذا رأيت عمله رجحته على علمه وله كتابات على أبيات العفيف التلمساني التي أولها قوله
إذا كنت بعد الصحو في المحو سيدا ... أماما مثنى النعت بالذات مفردا
وله كتابات على أبيات العفيف التي أولها
منعتها الصفات والأسماء ... أن ترى دون برقع أسماء(1/312)
وعلى الأبيات التي أوهلا
إذا كنت في توحيدك المطلق الوصف ... على ثقة من عالم الذوق والكشف
ومن نثره إليهي قوله في بعض رسائله يقصر عن جسم معاليك قميص الثناء فيفوت الرصاف وترفل زهوا إذا فصلت لمعانيك حلل الأوصاف ويعترف بالعجز سحبان إذا سحبت ذيول البيان ويقر المعرى بالتعرى عن لفظك الحريري المشتمل على الجواهر الحسان ويلحق القاضي الفاضل النقص في هذا الميزان ويزوى البياني عند طلوع شمس معانيك البديعة التبيان ومن شعره قوله مشطرا فائية ابن الفارض
قلبي يحدثني بأنك متلفى ... عجل به ولك البقا وتصرف
قد قلت حين جهلتني وعرفتني ... روحى فداك عرفت أم لم تعرف
أنت القتيل بأي من أحببته ... فلك السعادة في الشهادة يا وفى
ولقد وصفت لك الغرام وأهله ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفى
وقوله مخمسا لقصيدة ابن النبيه
رقم العذول زخارفا وتصنعا ... واشاع نقض العهد عنك وشنعا
فأجبته والنفس تقطرا دمعا ... أفذيه أن حفظ الهوى أوضيعا
ملك الفؤاد فما عسى ان أصنعا
حكم الغرام فلذ به وبحكمه ... واثبت على مفروض واجب رسمه
واخضع لعدل الحب فيه وظلمه ... من لم يذق ظلم الحبيب وظلمه
حلوا فقد جهل المحبة وادعى
يا من بلطف جمالة قلبي اقتنص ... صبري على الأعقاب من جلدي نكص
وثبات حملى حين زمزمتم رقص ... يا صاحب الوجه الجميل تدارك الصبر
الجميل فقد عفا وتضعضعا
وفرت من نبل اللواحظ اسمهمى ... وكلمت أحشائي ولم أتكلم
وهجرتني ظلما ولم أتظلم ... ما في فؤادك رحمة لمتيم
ضمت جوانحه فؤادا موجعا
قلبي إليك مسائر لك سائر ... كلى عليك مسامع ومناظر
وإذا شكتت بأصل ما أنا ذاكر ... فتش حشاى فأنت فيه حاضر
تجد الحسود بضد ما فيه سعى
إني اعترفت بزلتي وجنايتى ... ورضاك مقصودى وغاية غايتى
يا من لالي فيه عين هدايتى ... هل من سبيل أن أبث شكايتى
أو اشتكى بلواى أو اتضرعا
لي في حماك مسارح ومطامح ... كم بت للغزلان فيه أطارح
يا قلب أما اليوم طيبك نازح ... يا عين عذرك في حبيبك واضح
سحى لفرقته دما أو أدمعا
وله نظم كثير جمع منه بعض أصحابه ديوانا حافلا وهو متداول بين الناس وكان يقول وقت الوارد اكتبوا عني ما أقول فيملى عليهم وهم يكتبون وكانت وفاته نهار الأحد سابع عشر المحرم سنة ثلاث عشرة وألف ببندر المخا ودفن ببيته وكانت مدة اقامته بالخا سبعا وثلاثين سنة رحمه الله تعالى.
حافظ الدين بن محمد المقدسي بالسرورى من ولد غانم العالم العلم الأفضل الأمجد كان ذا فضل باهر وشيم مرضية وكان علامة في المنقولات خصوصا لأصول فإنه كان فيه غاية لا تدرك وكان كأنه امتزج بلحمه ودمه قرأ ببلده وضبط صم رحل إلى القاهرة وأخذ عن الشيخ الأمام محمد المحبي والشهاب أحمد أي المواهب الشناوى وأجازه في الحديث ورجع إلى القدس واستقر بها وانتفع به ولده محمد الآتى ذكره وغيره من علماء القدس المتاخرين وغلب عليه في آخر أمره التوصف ولزم الانفراد مع الافادة في بعض الأحاديين لبعض تلامذته وكانت وفاته سنة ثلاث وستين وألف ودفن بباب الرحمة ظاهر القدس رحمه الله تعالى(1/313)
حبيب بن محمود المخجواني الأصل نزيل صالحية دمشق أحد الكتاب المشهورين بجودة الخط وكان كل ما يكتبه قد استوفى أقسام الحسن وجمع أدوات الإجادة وكان يعرف اللغات الثلاث العربية والفارسية والتركية وأصل والده من نجوان ورد دمشق في فتنة قزلباش لما استولى على بلاد العجم ونزل صالحية دمشق عند جسرها الأبيض وأعطاه السلطان سليمان زعامه والزعامه عبارة عن قرى يقطعها من اعطاها وتخمن على الأقل بعشرين ألف عثمان في كل سنة وتزوج بالصالحية وولد له ولدان أحدهما حبيب هذا والثاني فروخ فأما حبيب هذا فإنه وصل مع الزعامة إلى أن صار جاويش السلطان وعلا أمره ولما جاء الوزير الأعظم مراد باشا بعساكر الروم إلى حلب لإزالة على بن جانبو لاذ سافر حبيب في ضمن العساكر الشامية فمات بانطاكية ودفن عند حضرة حبيب النجار فقال الناس مات حبيب ودفن عند حبيب وكان ذلك في شهر رجب الفرد من سنة ست عشرة بعد الألف رحمه الله تعالى حبيب الله الشيرازي ثم البغدادي ثم المصري الشافعي القادري قال العرضي الكبير في ترجمته خرج من شيراز فارا بدينه مما كان يطرق سمعه من سب أكابر الصحابة على رؤس الأشهاد فحج ثم قطن بمصر بجامع الأزهر ملازما درس شيخ الإسلام الشمس الرملى وتلميذه النور الزيادى ففهم الفقه مع مشاركة في العلوم كالنحو والكلام والمعاني والمنطق ثم لزم الطريقة القادرية وجاور في مشهد الشيخ عبد القادر ببغداد بعد مفارقة مصرو مر بحلب فأقام بها أياما قليلة ثم اتحل إلى البصرة لعدم راحته في بغداد لكثرة الروافض فيها وقوة شوكتهم فقطتها واعطى بها جزيرة كثر مها رزقه وأقام ملازما للعبادة والتقوى وقراءة الدعاء السيفى المسمى بالحرز اليماني واكرام الضيفان وجبر خاطر القادمين عليه من الفقراء والغرابء وإقامة حلقه الذكر والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وملازمة الجماعة وصيانة اللسان والانتماء إلى الشيخ عبد القادر رضى الله عنه إلى أن مات في سنة أربع عشرة وألف بالبصرة رحمه الله تعالى.
حبيب الدرويش الرومى الحنفي المجاور بالخانقاه السمساطية بجوار الجامع الأموي إلا قطع ذكره الغزى وقال في ترجمته كان طويل الصمت لطيق الذات نظيف الأثواب متواضعا صوفيا له ذوق في المعارف والحقائق وله آداب وكان يمتهن نفسه في الخدمة وللناس فيه اعتقاد عظيم وكان عليه نورانية ظاهرة قال وأخبرني بعض أصحابه أنه كان قلندري المشرب ولم أرمنه ذلك لأنه كان ملازما للمسجد الجامع في أوقات الصلاة وكان إذا فتح عليه بنفيس الطعام أكل وإذا تيسر له خشن الخبز وقليل الأدم قنع وأقام بدمشق أكثر من عشرين سنة ولم أر شيئاً أنتقده عليه لأني كنت أخالطه كثيراً مات يوم الجمعة عاشر شعبان سنة أربع وعشرين وألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى.
حسام الدين المنتضى الحنفي أحد علماء الروم ذكره ابن نوعي في طبقة علماء دولة السلطان محمد الثالث وقال في ترجمته أصله من بلدة منتشى وهي بلدة من نواحي قرمان وإليها ينسب من العلماء الشاهدي صاحب الكتاب المشهور ولازم ودرس في مدينة أدرنة بمدرسة طا شلق وبالجامع العتيق وكان فاضلاً صاحب تحريرات مقبولة ألف حاشية على صدر الشريعة ولما توجه السلطان محمد إلى سفر أكرى عرضها على المولى سعد الدين معلم السلطان المذكور فقبلها وأجازه عليها وكانت وفاته في ربيع الآخر عشر بعد الألف.
حسام الدين الرومي مدرس السليمانية ومفتى الحنفية بدمشق كان فقيها عالما حسن الاستحضار وكان له بالطب المام تام وكان متكيفا إلا أنه حسن الأخلاق لطيف الذات يعرف قدر العلماء ويودهم توفي بدمشق يوم السبت سادس عشرى رجب سنة ثمان وعشرين وألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله.(1/314)
الحسن بن أبي بكر بن سالم بن عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن السقاف اليمنى الحضرموتي الولى الصالح المربى المرشد كان فرد زمانه وواحد قطره ولد بعينات ونشأ بها وحفظ القرآن وأخذ عن اخوانه الكبار وأدرك أباه وهو صغير واشتغل بالعلوم والمعارف وعنى بالفقه والتصوف وولى قضاء بلده وحمدت سيرته وانتفع به جماعة كثيرون وكان شديد المجاهدة متواضعاً قانعا باليسير كريم النفس كلما ملكه أنفقه محبوبا عند الناس وكان عظيم المكاشفات والكرامات وبالجملة فهو بركة من بركات عصره وكانت وفاته بمدينة عينان في سنة ثمان وخمسين وألف رحمه الله تعالى وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
تم الجزء الأول من خلاصة الأثر يليه الجزء الثاني أوله الشريف حسن بن أبي نمي.
//بسم الله الرحمن الرحيم الشريف حسن بن أبي نمى محمد بن بركات بن محمد وتقدم تمام نسبه في ترجمة ابنه الشريف أبي طالب ذكره الشهاب في كتابيه وأطال الثناء في ترجمته وذكره الشلى في تاريخه وقال ولد لسبع في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة وأمه فاطمة بنت سباط بن عنقا بن وبير بن محمد بن عاطف بن أبي نمى بن أبي سعيد ابن علي بن قتادة حملت به سنة وفاة جده بركات ونشأ في كفالة والده سعيدا رئيسا حميدا ولبس الخلعة الثانية بعد وفاة أخيه أحمد في سنة اثنتين وستين وتسعمائة ثم فوض إليه والده الأمر فلبس الخلعة الكبرى التي لصاحب مكة ولبس أخوه ثقبة الخلعة الثانية واستمر مشاركا لوالده في الإمرة إلى أن انتقل والده يوم تاسوعاء سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة فاستقل بسلطنة الحجاز وقام بها أحسن قيام وضبط الأمور والأحكام على أحسن نظام وأمنت البلاد واطمأنت العباد وقطع دابر أهل الفساد فكانت القوافل والأحمال تسير بكثرة الأموال مع آحاد الرجال ولو في المخاوف والمهالك وخافه كل مقدام فاتك وكان عظيم القدر مفرط السخاء بصيرا بفصل الأمور شجاعا مقداما حاذقا صاحب فراسة عجيبة حكى أنه سرقت الفرضة السلطانية بجدة وضاع منها قماش له صورة وأموال كثيرة ولم يكسر بابها ولا نقب جدارها ولا أثر يحال عليه معرفة المطلوب والطالب بل حبل مسدول من بعض الجوانب فلما عرض عليه طلب الحبل ثم شمه ثم قال هذا حبل عطار ثم دفعه إلى ثقة من خدامه وأمره أن يدور على العطارين فعرفه بعضهم وقال هذا حبل كان عندي اشتراه مني فلان ثم نقل من رجل إلى رجل إلى أن وصل لشخص من جماعة أمير جدة ثم وجدت السرقة بعينها في المحل الذي ظنها فيه ومع ما كان فيه من هذه الصفات كان صاحب فضل باهر وأدب غض ومحاضرة فائقة واستحضار غريب حكى البديعي في كتابه الذي ألفه في حيثية المتنبي وسماه الصبح المنبي عن حيثية المتنبي عن بعض علماء القاهرة وأظنه أحمد الفيومي قال كنت في حرم البيت المنيف فدعاني إلى بعض الأماكن الشريفة حسن الشريف وسمع بتلك الدعوة أحد بني عمه الكرام فسارع إلينا مسارعة القطر من الغمام واتفق أن سقط من يده الكريمه خاتم به حجر ثمين القيمه فقال له لم لا تقف على طلب ذلك الخاتم الثمين فقال له ألست من أبناء أمير المؤمنين فلمح الشريف إلى قول أبي الطيب شعر
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
ولمح ابن عمه إلى قول المتنبي أيضا
كذا الفاطميون الندى في أكفهم ... أعز انمحاء من خطوط الرواجب(1/315)
والبيت الأول من قصيدة للمتنبي كثيرة العيوب وذكر البديعي المذكور عند الكلام على هذا البيت نكتة أوردها ولم يتنبه لمحذورها وهي سأل بعضهم كم قدر ما يقف الشحيح على طلب الخاتم فقال أربعين يوما ثم قيل له ومن أين علمت ذلك قال من سليمان بن داود عليهما السلام فإنه وقف على طلب الخاتم أربعين يوما فقيل له ومن أين علمت أنه بخيل قال من قوله تعالى " هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدى " وما كان عليه أن يهب الله لعباده أضعاف ملكه انتهى وهذا كلام كما تراه صادر عن قلة التدبر فإن الأنبياء عليهم السلام ينزه مقامهم عن البخل المخل بنبوتهم وما يتوهم فيه من إسناد البخل إلى سليمان قد دفعه أئمة التفسير بأجوبة كثيرة منها أن المراد بقوله لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني في حياتي كما فعل الشيطان الذي لبس خاتمه وجلس على كرسيه ومنها أن الله تعالى علم أنه لا يقوم غيره من عباده بمصالح ذلك الملك واقتضت حكمته تخصيصه به فألهمه طلب تخصيصه به ومنها أنه أراد بذلك ملكا عظيما فعبر عنه بتلك العبارة ولم يقصد بذلك الأعظم الملك وسعته كما تقول لفلان ما ليس لأحد من الفضل أو من المال وتريد بذلك عظم فضله أو ماله وإن كان في الناس أمثاله وهذا كلام وقع في البين وقصدت إيراده تطرية للسامع فإن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر يحسن عند ذوي الآراء السليمة عودا إلى تتمة خير الشريف حسن وحكى بعض أهل الأدب في مجموع ذكر فيه بعض محاضرات أدبية أن بعض بني عم الشريف حسن وردنا ناديه وهو يجر ذيلي التيه والحمية الهاشمية فتصدر عليه بعض من حضر ذلك المجلس فتجعدت أساريره وظهرت حدة طبعه فلما فطن الشريف حسن لذلك قال أنه ليقودني للعجب ويهز من عطف أريحيتي ساعد الطرب قصيدة أبي الطيب التي أولها شعر
فؤاد ما يسليه المدام ... وعمر مثل ما يهب اللئام
فتسلى بذلك وتبسم وجهه بعد القطوب لأنه علم تلميحه إلى قوله فيها شعر
ولو أن المقام له علو ... تعالى الجيش وانحط القتام
وفي سنة ثمان بعد الألف أمر أمراء الحجاج أن يلبسوا الخلعة الكبرى ولده أبا طالب وهو يومئذ أكبر أولاده وولى عهده في بلاده والخلعة الثانية لولده عبد المطلب فلبسها أياما ثم جهز تابعه بهرام بهدية سنية إلى السلطان محمد بن مراد والتمس منه تقريرا لولده أبي طالب فرجع بهرام بجميع ما التمسه الشريف ولم يزل ينفذ الأحكام إلى أن رمى بسهم الحمام شعر
وما هو شخص قضى نحبه ... ولكنه أمه قد خلت
على أنه لم يمت من بقيت مآثره ونشرت من بعد ما طوى مفاخره فكيف بمن خلف ذكرا حسنا من أولاد كرام وذرية فحام فأولاده الذكور حسين وأبو طالب وباز وسالم وأبو القاسم ومسعود وعبد المطلب وعبد الكريم وإدريس وعقيل وعبد الله وعبد المحسن وعبد المنعم وعدنان وفهيد وشبير والمرتضى وهزاع وعبد العزيز وجود الله وعبيد الله وبركات ومحمد الحارث وقايتباى وآدم والبنات سبعة عشر وقد أفرد ذكره بباب مستقل السيد الإمام العلامة عبد القادر الطبري من أرجوزته المسماة بحسن السيرة وشرحها المسمى بحسن السريرة فقال
الحسن الملك الشريف بن أبي ... نمى بركات من حبى
بنسبة إلى النبي العربي ... والشرح يعطيك تمام النسب
وسرد نسبه في الشرح على طبق ما قدمناه في ترجمة أبي طالب شعر
هو الشريف من كلا جديه ... من صفوة الملك انتهت إليه
وأمه بنت سباط فاطمه ... أدنى الإله نحوها مراحمه
وكان عام حمله في ظلا ... على حساب أبجد قد حلا
أظهره الرحمن في ربيع ... يظل سوح الحرم المنيع
أشار إلى أنه شريف من أمه أيضا كما قدمناه وأنها حملت به في عام إحدى وثلاثين وتسعمائة وهو حساب ظلا الذي ذكره شعر
فلم يزل يصعد في المعالي ... ويرتقي بصعدة العوالي
حتى أتته صفوة الخلافه ... منقادة طوعا بلا خلافه
في عام إحدى بعد ستين مضت ... من قبلها تسع مئين حفظت
فشارك الوالد في الملك إلى ... أن أم بدء عام حتف نزلا
أشار بقوله إلى أن أم إلى انتقال والده عام اثنين وتسعين كما تقدم واستقلاله بعده بجميع الأمور(1/316)
وذب عن بيت الإله بالأسل ... منزها عن التواني والكسل
وأمن السبل جميعا وحمى ... كل المخاليف فأضحت حرما
فطالما قد شدت الرحال ... موقرة من فوقها الأموال
من مكة لبصرة ونحوها ... قاطعة لقفرها وبدوها
ولم يكن معها سوى حاديها ... من حاضري البلدة أو باديها
فتصل المقصد وهي سالمه ... ثم تعود مثل ذاك غانمه
وشاع هذا الأمن منه واشتهر ... معطرا باقي الممالك الأخر
فكل من حج البيت الحرام ... وشاهد الأمن استخار في المقام
أشار بذلك إلى أنه لم يزل حاميا حوزة البيت المعظم وذابا عن سوحه المطهر المفخم حتى أنه من مزيد أمنه اختلط فيه العرب والعجم ورعى الذئب مع الغنم وأمن السبل الحجازية ومهد الطريق الحرميه فكانت تشد الرحال في سائر جهاته وليس معها خفير سوى الأجير لا يفقد منها صواع ولا يختلس منها ولا قدر صاع وربما ترك المتاع أو المنقطع في القفر السبسب ليؤتى له بما يحمل عليه أو يركب فيوجد سالما من الآفات ولو طالت الأوقات مع كثرة الطارقين لتلك المعاهد والسالكين لهذه المواطن والمقاصد ولم يعهد هذا إلا في زمن هذا الملك العادل ولم ينقل مثله عن مثله من الملوك الأوائل فلقد كانت هذه الطرق في مبدأ ولايته مخوفه والمخاليف كلها غير مألوفه حتى من أراد أن يعزم من مكة إلى التنعيم للاعتمار لا بد له أن يأخذ خفيرا من أرباب الدول الكبار وإن لم يفعل ذلك يعطب في نفسه وماله ولا يرثي في أخذ الثار لحاله ولطالما نهبت الأموال ما بين مكة وعرفة ليلة الصعود إليها وسفكت الدماء في تلك المشاعر وجدلت الأجساد لديها وإذا سرق متاع قل أن يظفر به وربما قتل صاحبه عند طلبه بسببه وكل ذلك من العرب المحيطين بأطراف البلاد الساعين في الأرض بالفساد فمذ بسط الله بساط الأمان بولايته ألزمهم بحراسة هذه المواطن وغرم ما يذهب للناس في هذه الأماكن وعاملهم بصنوف العقاب وأنواع العذاب من الصلب وقطع الأيدي وتكليف أحدهم بالقتل إن لم يدى إلى غير ذلك من أصناف الاجتهادات السياسية والآراء السلطانية المرضيه حتى صلح حال العالم غاية الإصلاح ونادى منادي الأمن بالبشر والفلاح فاطمأنت النفوس بإقامة هذا الناموس واعتدلت أحوال الرعايا واتصل ذلك إلى علم الملوك البقايا فشكر كل سعيه في هذه المآثر الحميده وحمد الله تعالى في هذه المعدلة الظاهرة المجيده وكثر حجاج بيت الله العتيق وضربوا إليه آباط الإبل من كل فج عميق فيرون ما كانوا يسمعون به عيانا فيستخيرون الله في أن تكون بلده لهم مسكنا وأهلها إخوانا شعر
فمن هنا مكة صارت مصرا ... محشودة بالعالمين طرا
وقبل هذا العهد لم يقم بها ... إلا أناس شغفوا بحبها
نحو ذوي البيوت ممن قطنوا ... دهرا بها واستوطنوا وسكنوا
لذا انتهت إليهم الرياسه ... بطيبهم مناصب النفاسه
والغير يدعو بمنادى الملك ... يا من قصى مرامه من نسك
ارحل إلا بلادك الأصليه ... من يمن أو جهة شاميه
فإن هذا البلد الحراما ... واد بلا زرع يرى ولاما
فيرحلون ما عدا من ذكرا ... من أهلها خلص من قد أمرا
فإنهم شوكته القويه ... وخادمو حضرته العليه
فلم يزالوا هكذا أبابأب ... مقترنين من أعالي ذا النسب
أشار إلى القواعد القديمة لولاة مكة الكريمة أن ينادى بعد تمام الحج يا أهل الشام شامكم ويا أهل اليمن يمنكم فيرحل كل إلى بلده ولا يقيم بمكة إلا خواص أهلها من ذوي البيوت القديمة فلما تولى مكة وشاع ذكره رغب كل أحد في المجاورة بها وصارت مصرا من الأمصار
فعند ما قد أفضت الخلافه ... لحسن وجاوزت خلافه
ومهد المسالك المخوفه ... وشيد المعاهد المألوفه
وكثرت بعد له الأرزاق ... وعمرت بأمنه الأسواق
وفجر الله عيون الأرض ... بصيته الباقي ليوم العرض(1/317)
أقام كل بفنا البيت العتيق ... وأملوه من ورا الفج العميق
ونال كل منه ما قد أمله ... لما أتاه قاصدا وأم له
والناس في عيش بعدله خصيب ... وقد حوى بفضله كل نصيب
أما أولو العلم ففازوا بالنعم ... ونشروا على رؤسهم علم
وتوجوا لديه بالوقار ... فما رآهم قط باحتقار
لا سيما من منهم ينتسب ... إليه بالإخلاص وهو السبب
ويخدم الخزانة المعموره ... بكل آية له مسطوره
من كل تأليف عظيم المنقبه ... به استحق نيل تلك المرتبه
وهم لعمري فرقة كبيره ... ومنهم ناظم هذي السيره
فإنه في كل عام شمسي ... يبدع تأليفا بديع الأنس
مما ذكرنا درة الأصداف ... أسسها في ذروة الأوصاف
كذا عيون لمسائل حوى ... من العلوم أربعين بالسوا
وشرحه القصيدة المقصورة ... لابن دريد نسبة شهيره
وشرحه أيضا لحسن السيره ... بما له من حسن السريره
وغير ذا من غرر القصائد ... وكل نثر زينة الفرائد
أشار إلى احتفاله بالعلم وأهله حتى ألفوا له التصانيف اللطيفة
وكم بشعر فائق النظم امتدح ... من كل قطر أم قصدا وامتنح
وكل هذا خدمة للسيد ... الحسن الشريف عالي المحتد
فهو الحقيق دائما أن يخدما ... وأن يكون مالكا للعلما
لبره إليهم وعطفه ... عليهم ببشره ولطفه
يجيز بالألف على التأليف ... وينصف الشخص على التصنيف
ثم إذا قدم تأليف له ... طالعه غالبه أو كله
وأظهر الرغبة فيه جدا ... وبالدعا لربه أمدا
وزاد في رفعته وقدره ... ليعلم العالم شأن فخره
قصد الترغيب الورى في العلم ... مشحذا لفكرهم والفهم
وكل ذا ابتغاء وجه الله ... من غير ما شك ولا اشتباه
فمن هنا تبادر الناس إلى ... درس العلوم بعد درس وبلى
فأنتجت مكة بعد العقم ... أفاضلا شتى كأبنا أم
ملتحمين في العلوم والأدب ... كلحمة في سبب أو في نسب
نالوا علوما جمة مرتبه ... علوا بها على الشيوخ مرتبه
ما ذاك إلا حيث كان السيد ... ملتفتا لما بنوا وشيدوا
ولم يضع صنيعهم له سدى ... لا زال منصفا بحق أبدا
أشار إلى أن الأفاضل كانت تتقرب إلى خدمته ومنهم العلامة خضر بن عطاء الله الموصلي ألف له الإسعاف في شرح شواهد القاضي والكشاف ومنهم الناظم خدمه بكتب منها شرح القصيدة الدريدية وأجازه عليها بألف دينار واتفق إنه حكم تاريخه قوله
أرخني مؤلفي ... ببيت شعر ما ذهب
أحمد جود ماجد ... أجازني ألف ذهب
فلما قرأ البيتين قال له والله إن هذا لنزر جدا بالنسبة إلى هذا التأليف ولكن حيث وقع الاقتصار عليه فعلى الرأس والعين وأعطاه ذلك
وما أرى ذا الأمر إلا أثرا ... لطالع السيد حيث أثرا
في أهل عصره السعيد الأبدي ... فإنه آلة فعل الأحد
وليس بدعا فلهذا السيد ... طالع سعد فالق للجلمد
فما رأيناه أناب أحدا ... إلا وكان كاملا مسددا
ينمو كما تنمو الثمار بالعلل ... ولم يزل دهرا مجانب العلل
ويرزق القبول والمحبه ... فكل من خالطه أحبه
ولم يكن يبغض شخصا إلا ... كان لدى الأنام رذلا نذلا
يذبل دهرا ثم يضمحل ... وعندنا لكل قسم مثل(1/318)
وحكمة التأثير عند العالم ... أن المليك مثل قلب العالم
فلم يزل مؤثرا للبسط ... والقبض شبه آلة للربط
ينبغي أن يعلم أن ما تقدم من صلاح الزمان وأهله فهو طالعه قال الابوصيري رحمه الله تعالى
وإذا سخر الإله أناسا ... لسعيد فإنهم سعداء
والمثل المشهور " فلأجل عين ألف عين تكرم " والأصل فيه قوله تعالى خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " وقد اتفق العقلاء من أهل التنجيم أن للطالع تأثيرا وكل ذلك بمنزلة الشرط والآلة وإلا فالتصرف للفاعل المختار لإله وقد منحه الله بأنه ما توجه لأحد بالرضا إلا ونما فمن ذلك المولى خضر بن عطاء الله المذكور فإنه ورد إلى الديار المكية بحالة من الفقر لا تذكر فحل عليه نظره فتقلب في النعم إلى أن جنت يده عليه ورمت بسهام الغدر إليه وورد من البصرة رجل من أهل العلم يسمى نجم الدين حصلت له عنده حظوة فنال منه خيرا عظيما حتى وقعت منه زلة قدم ردته إلى الحضيض وكذلك أحمد بن إبراهيم بن ظهيرة فإنه كان في غاية من الإجلال ونهاية من الرعاية حتى تجرأ بسوء أدبه فعامله بمتعلقات السحر في نفسه الجليلة وأثر ذلك عنده مدة طويلة حتى أطلعه الله ببركة طالعه على هذا العمل فتفحص عنه وسأل فوقف على أنه الصانع لذلك فأدبه بالضرب ثم تركه وحاله ونبذه ظهريا إذ كان بعواقب الأمور غبيا وبهذا القدر يكتفي اللبيب العاقل ولا بدع فيما ذكر فالملك ظل الله على عباده وقد حكى أن بعض الملوك توجه بجمع قليل على بعض البغاة وهم طائفة كبيرة فمذ رأوه أسلموا له البلد ولم يقاتله منهم أحد فقيل لهم في ذلك فقالوا رأينا بين يديه شخصين امتلأنا منهما رعبا فسئل بعض الأولياء عن ذلك فقال هذان الخضر والقطب مازالا يؤيدان كل ملك يقيمه الله ويختاره على عباده وناهيك أن قلب الملك بين إصبعين من أصابع الرحمن بقلبه كيف يشاء وهو بمنزلة القلب للعالم فبسطه يسرى إليهم وقبضه ينشر عليهم
هذا وما عاداه قط أحد ... إلا وخاب خيبة لا تجحد
فكم نوى جانبه بالأسوا ... جماعة فامتحنوا بالبلوى
وهلكوا في مدة يسيره ... فليعتبر ذا من له بصيره
وعنه كان كل من والاه ... وكف عنه كل من عاداه
فقد جرى لجده النبي ... هذا الولا وأبه علي
ومن كمال سعده أنه ما عاداه أحد إلا وعاد بالخيبة وقبح الأوبة ولا نواه أحد بسوء إلا ودارت عليه دائرته فمنذ لك أن الوزير الأعظم مصطفى باشا قصده بالأذى وجهز العساكر الرومية إلى مكة وصمم على إيذاء هذه الذرية فما زال كل من في قلبه ذرة إسلام يثبطه عن هذا العزم فلم يجد فيه نفعا فاجتمع جماعة من أهل الخير وقرؤا الفاتحة وقالوا إن هؤلاء أولاد النبي صلى الله عليه وسلم فنسأل الله بحرمة جدهم وحرمتهم أن يرينا في الوزير ما يكون به عبرة لمن اعتبر فما فارقوا مجلسهم إلا وجاءهم خبرانه أصيب بالقولنج ومات لوقته فأوصلوا الخبر للسلطان وقصوا عليه القصة فرجع عن ذلك واستغفر الله ومن ذلك أن الشيخ العلامة عبد الرحمن المرشدي قصد السفر إلى اليمن فاستأذنه فلم يأذن له فكان منعه له عن السفر عين المصلحة والنجاح فإن الأمر بعد ذلك أسفر عن تغير قطر اليمن وانقطاع سبله وكثرة الخوف في طرقه بموجب بعض الفتن فإنه قام ثمة قائم من أهل البيت يسمى بالقاسم وادعى الإمامة وظهر شأنه وقويت في الجبال دون تهامة شوكته والناس إذ ذاك في أمر مريج وقد عزم جماعة إلى تلك الديار فعادوا مبادرين للفرار وأراد الله للمذكور الراحة حيث استقر بمكة
من أنه ابن مستجاب الدعوه ... وما له في عمره من صبوه
وكيف لا وقد حمى البيت الحرام ... بنفسه خمسا وأربعين عام
مؤيدا شرائع الإسلام ... مشيدا شعائر الإحرام
مع أنه في زمن أي زمن ... مظنة لكل قول وفتن
وقد حكى بعض الورى عن السلف ... وذاك محفوظ لهم عن الخلف
إن ولى مكة يصير في ... مرتبة القطب يقينا فاعرف
فأظهر الصلاح في الرعايا ... وفي ملوك الدول البقايا(1/319)
قد اشتهر عنه أنه مجاب الدعوة منها أنه كان في عام أربع بعد الألف في محل يقال له غدير وشحا فأصاب الناس غاية التعب من الظما فورد إليه رعاء إبله وتفاوضوا معه في ورودها ومن أي محل ترد فعددت أماكن بعيدة عن منزلهم هذا فما ارتضى ذلك وتوجه إلى الله تعالى قائلا اللهم أسقها فما كان بينه وبين السقيا إلا ليلتهم تلك فانهلت عليهم السماء كأفواه القرب ثلاثة أيام حتى أن الإبل صدرت منتهلة من مباركها واستمروا مدة لا يرون إلا من مآثر دعوته المباركة ومنها أن الناس أرجفوا في سنة ثلاث وألف بوصول عزيز أحمد باشا إلى مكة في عدة من العساكر وكذلك وزير اليمن حسن باشا فانزعجت لذلك الرعية إذ صح عزمها لجهة مكة فتوجه بخاطره إلى الله تعالى فصرف أولئك عن العزم وأشغلهم بموت السلطان مراد بن سليم رحمه الله تعالى
وقد حبى بصالح الذريه ... ممتعا بعيشة مرضيه
أما البنون فهم عشرون مع ... أربعة فخذهم ممن جمع
لاقى الإله منهم ثمانيه ... إذ علموا الدنيا يقينا فانيه
من بعد أن قد كملوا وسادوا ... وللمعالي أسسوا وشادوا
ثم البنات وينو الأولاد ... كثرتهم تنمو على التعداد
كذا الأقارب الذين وصلوا ... إليه أدلاهم جدود أول
تقدم ذكر أولاده وقد مات قبله منهم ثمانية أبو القاسم والحسين ومسعود وباز وعقيل وهزاع وعبد العزيز وأبو طالب
إن ركبوا في موكب فإنهم ... كواكب الجوزاء وهو بدرهم
لا سيما إذ يلبس التشريفا ... ثوبا سنيا فاخرا شريفا
يأتيه من سلطنة الروم العظام ... في غاية من البهاء والنظام
ما نال من أسلافه ما ناله ... من التشاريف ذوي الجلاله
فإنه قارن في ذي المدة ... من الملوك الأكرمين عده
منهم سليمان مليك الروم ... ثم سليم صاحب التكريم
ثم مراد ثم ملك العصر ... محمد لا زال رب النصر
وهو لعمري قن جدير ... بكل ما قد صرح المنشور
فما سمعنا مثل نشره الأمان ... قاطبة ولا في سابق الزمان
ومن رأى تاريخ مكة أقر ... بذاك فهي الآن أولى مستقر
يعين من يقيم بالإحسان ... فضلا بلا من ولا تواني
ما أحد من الملوك صنعا ... صنيعه فإنه تبرعا
بمال بيت المال تقرير المن ... يحتاج طبق ما مضى من الزمن
ومنذ دهر لم يقم ذا الواجب ... ولم يكن لبيت مال راتب
حتى أتى الله بمولانا الإمام ... غيث بنى الآمال بل غوث الأنام
فرتب المال لذي الحاجات ... والعلما وخالصي النيات
منزها لنفسه عن مالهم ... وموصلا لهم إلى آمالهم
أكرم بها منقبة عظيمه ... ورتبة فاخرة فخيمه
ما أحد يقصد في أرض الحجاز ... حقيقة سواه من غير مجاز
له الكرامات التي لا تحصر ... والكرم الذي دهورا يذكر
وما غزا إلا وفاز بالظفر ... وافتتح البلدان فتحا استمر
له مغاز في الأنام عده ... حكى بها فيها أبه وجده
أما سراياه فزادت كثره ... وكلها مقرونة بالنصره
ولم يكن مؤمرا فيها سوى ... أولاده الكرام أرباب اللوى
وقل ما أمر غيرهم على ... بعوثه والكل منهم ذو علا
وحاصل الأمر بأن النصرا ... خادمه دهرا طويلا عمرا
لم يتفق وربنا المشكور ... له انكسار بل هو المنصور
كأنما ملائك الرحمن ... جنوده في سائر الأزمان
وليس بدعا فهم في بدر ... كانوا جنود جده الأغر(1/320)
سراياه كثيرة شهيرة لم يؤمر فيها إلا أولاده النجباء وممن بعثه منهم ولده الحسين ومنهم أبو طالب فقد أرسله غير مرة ومنهم مسعود ومنهم عقيل عبد المطلب ومنهم عبد الله فكان بعزمه إصلاح جهات اليمن
فاق الملوك بالنهي والحدس ... كما به يشهد عدل الحس
وكم له قضية شهيرة ... بين الورى كالشمس في الظهيره
قد فاق الملوك بمزيد الفطنة وله في ذلك قضايا مشهورة منها أنه اختصم عنده رجلان مصري ويماني في جارية فادعى كل منهما أنها له وأقام بذلك بينة فأجال فكرته الوقادة وطلب قليلا من الحب وقال لها ما اسم هذا في بلادكم فقالت بر فحكم بها لليمني فظهر بعد ذلك أنها ملكه ومن ذلك أنه اختصم لديه رجلان شامي ومصري في جمل وادعى كل منهما أنه له وأقام بذلك حجة ثم قال لهما أني سأحكم بحكم فإن ظهر لي أن الحق بيد أحد كما غرمت الأخر ثمن الحمل فأمر بذبح الجمل فذبح وأمر باستخراج مخه فاستخرج فتأمله وقضى بالجمل للشامي وأمر المصري بتسليم القيمة فقيل له في ذلك فقال رأيت مخه منعقد فاستدليت بذلك فإن أهل الشام يعلفون دوابهم الكرسنة وهي تعقد المخ وأهل مصر يعلفون الفول وهو يعقد الشحم دون المخ فظهر بعد ذلك أن الحق كما قال ومن ذلك أن شخصا دفن مالا بالمزدلفة وكان شخص يرقبه فلما قصد النفر منها إلى منى وجد المال قد حفر عنه وأخذ ولم يظفر بأثر من آثار الغريم إلا بعصا ملقاة فأخذها ورفع شكواه إليه وذكر له القصة فسأله هل وجد من أثر فقال نعم وجدت عصا ملقاة فطلبها منه فأحضرها ثم تأملها فأمر بإحضار جماعة مخصوصين من العرب فحضروا فأشرفهم على العصا وسألهم هل يعرفون صاحبها فقالوا نعم هي عصا فلان فأحضره وسأله فأنكر فشدد عليه فأقر بالمال ومن ذلك أن شخصا من سادات اليمن وصل إلى مكة بجارية حسناء سنها نحو العشر سنوات فتعصب عليه طائفة من الجبرت وادعى بعضهم أنها حرة الأصل وأنها بنت فلان وشهد منهم شاهدان من طلبة العلم واستخلصوها من يد ذلك السيد قهرا فرقع القضية له فطلب الشاهدين وأخذ يستدرجهما بمدحهما وأنهما من مشاهير من جاور بمكة من مدة طويلة وأن شهادتهما مقبولة ثم سألهما عن الشهادة فأدياها كما سبق وأنها بنت فلان الجبرتي ولدت ببلده ونحن بها قبل وصولنا إلى مكة فقبل شهادتهما ثم سألهما عن مدة إقامتهما بمكة وهل خرجا بعد دخولهما فذكرا أن المدة تنوف على ثلاثين سنة وإنهما ما خرجا منها إلى بلدهما بعد أن دخلا فشاغلهما بالكلام ساعة ثم سألهما عن سن الجارية فقالا نحو عشر سنين فأخذ يسبهما ويتكلم عليهما حيث شهد بولادتها وهما ببلدها وقصد إتلافهما وأعاد الجارية إلى سيدها وكانت هذه الحكومة منه حكمة بالغة فإنه قصم بها طائفة الجبرت عن مثل ذلك فإنهم سلكوا هذا المسلك مدة واستخلصوا به أرقاء الناس من أيديهم
هذا ومولانا رفيع العلم ... ممن حظي بسيفه والقلم
فإنه إن بالمداد رقما ... فكل ما أبداه كان حكما
له الكلام الجامع المهذب ... في فهمه لكل شخص مذهب
وكم له من حسن المحاضره ... ما فات للعرب به والحاضره
قد ذقت من حديثه حلو السمر ... كم ليلة لذبها طول السهر
فلفظه الدر إذا ما نثرا ... على بساط السمع من غير مرا
كأنه من نفس النبوه ... أجل لما فيه من البنوه
فطالما أوقرت منه سمعا ... قد جمع الحكمة فيه جمعا
وكل ما فيه أنا من نعم ... فإنه آثار تلك الحكم
فالله يبقيها ويبقى مددي ... منها ويغنيني بهذا السيد
دهرا طويلا سالما من الغير ... ولن يشوب صفوه شوب الكدر
ممتعا له خصوصا بالقوي ... وناشرا لنصره ذاك اللوا
وكافينه كل ما أهمه ... من عين كل حاسد ملمه
يبيد بالقدرة من عاداه ... بطالع السعد الذي حواه
ومن تولى نصره الله فمن ... يخذله وذاك مولانا الحسن
والى عليه ربنا مكارمه ... موصولة منه بحسن الخاتمه(1/321)
وكانت وفاته ليلة الخميس لثلاث خلت من جمادى الآخرة سنة عشرة بعد الألف في مكان يقال له الرفاعية بعد أن توعك نحو يومين وحمل إلى مكة على محفة البغال وجهز في ليلته وصلى عليه في المسجد الحرام في محفل جمع من العلماء والأشراف والعامة ودفن بالمعلاة وبنى عليه قبة عظيمة وله من العمر نحو تسع وسبعين سنة واستقل بعده ابنه الشريف أبو طالب كما ذكرنا في ترجمته سابقا وأول من ولى مكة من أجداده الشريف قتادة بن الشريف إدريس أخذها من ملوكها الهواشم في سنة سبع أو ثمان أو تسع وتسعين وخمسمائة واستمر ملكهم إلى هذا الحين أدامه الله تعالى وقد جمع الإمام محمد الشلى باعلوى الحسيني رسالة فيمن ملك منهم من قتادة إلى ملك زمانه والله تعالى أعلم ؟الشيخ حسن بن أحمد بن إبراهيم باشعيب الحضرمي الواسطي الشافعي الإمام المؤلف الزاهد العابد أخذ عن الشيخ أبي بكر بن سالم وتخرج به وصحب جماعة من أكابر العارفين واشتغل بالعلوم الشرعية حتى حصل منها طرفا صالحا وحج وأخذ بالحرمين عن غير واحد منهم الشيخ أبو بكر الشبامى أخذ عنه الفقه وغيره وانتهت إليه رياسة العلوم والمعارف في بلده الواسطة من أعمال حضرموت وكان قدوة في القول والعمل وأخذ عنه جمع كثير منهم الشيخ زين العابدين العيدروس وأخوه شيخ وابن أخيه سقاف وسيدي محمد بن علوي وأبو بكر الشلى والد الجمال المؤرخ وعبد الرحمن المعلم وصنف كتبا كثيرة مفيدة منها كتاب سرور السرائر وفسحة الأرواح وراحة القلوب وهو كتاب مفيد جدا وكتاب حقيقة زبدة لبن الشريعة بحركة مخض سلوك الطريقه وكتاب عافية الباطن وسلامة الدين والصدق الصحيح بنفي كل مين ورين وهو شرح لأبياته وأوله الحمد لله الذي كون الكون وقط لا يشبهه كون وقصيدة السودى التي أولها " أغريب قد مطرت بلادك " وقصيدته التي أولها " شاهد جمال محيا غاية الطلب " وكان حلو العبارة لطيف الإشارة توفى سنة ثلاثين وألف ودفن بقريته الواسطة وقبره بها معروف يزار رحمه الله تعالى السيد حسن بن أحمد الدمشقي المعروف بابن الحجار السيد الأجل من أهل العلم والورع وأسلافه كلهم تجار وكان هو في مبدأ أمره يعانى التجارة وعدل عنها إلى طلب العلم فتفقه بالشمس محمد الميداني وقرأ العربية على المنلا حسن الكردي وتصدر للتدريس بجامع بني أمية ثم بعد مدة مال إلى الظهور فتوجه إلى آمد لعرض أحوال أهل دمشق وما هم عليه من الحيف والظلم إلى الوزير الأعظم قره مصطفى باشا لما عاد من بغداد وكان معه الشيخ العلامة رمضان بن عبد الحق العكاري خطيب جامع السنانية بدمشق وحصل له من الوزير المذكور إقبال تام وأخذ المدرسة الشامية الجوانية عن الشمس محمد بن علي بن عمر القارى الآتي ذكره وادعى أنها مشروطة لأعلم علماء الشافعية وإن ابن القارى صار حنفيا فوجهت إليه وتصرف بها مدة ثم قررت على ابن القارى وتوجه السيد حسن إلى الروم لأجل عرض مادة العوارض السلطانية بدمشق فلما عرض ذلك على الوزير المذكور آنفا كان ثمرة ذلك أنه عين منها في كل سنة خمسا وعشرين ألفا إلى خزينة السلطان ولم يكن سبق ذلك وأخذ مدرسة دار الحديث الأحمدية الكائنة بالمشهد الشرقي بجامع بني أمية عن أحمد بن إبراهيم بن تاج الدين المقدم ذكره وبعد مدة قررت على ابن تاج الدين وبقي السيد حسن بلا مدرسة إلى أن توفى في حادي عشر المحرم سنة إحدى وخمسين وألف ودفن بالمدرسة الخالدية قبالة ضريح سيدي الشيخ أرسلان قدس الله سره وكانت ولادته في سنة ثمان وثمانين وتسعمائة هكذا رأيته في بعض التعاليق فأدرجته كما رأيته والله تعالى أعلم(1/322)
الأمير حسن باشا بن أحمد بن رضوان بن مصطفى وتقدم ذكر أبيه الغزى المولد الأمير الكبير حاكم غزة وكان حسن السيرة جوادا ممدحا عظيم القدر وكان مغرما بالنساء وله في النكاح حظ وافر وجمع من الحظايا عددا كثيرا ورزق منهن أبناء كثيرة نحو الخمسة وثمانين ولدا وينقل عنه أنه كان إذا حضر أحدهم لديه يسأله عن اسمه واتفق أنه مات أحدهم فلم يعرفه حتى عرفوه له بوالدته وقالوا له هذا ابن فلانة وكان الطبع يحسن غالب الصنائع وحبب إليه الانعزال عن الناس فكان ينفق أوقاته في أرغد عيش وأهناه وركبته ديون كثيرة لتبذير كان فيه وعمر مكانا بغزة وتأنق فيه جدا حتى صيره أحسن منتزه في تلك الدائرة ومات ولم يكمله وبالجملة فانه كان ممتعا في دنياه وتوفى سنة أربع وخمسين وألف حسن بن أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن سليمان الأسطواني الدمشقي الحنفي رئيس الكتاب بمحكمة الباب وتقدم أبو أحمد في حرف الهمزة وكان حسن هذا فقيها كاملا حسن الخط وفيه مروءة وسخاء نشأ وحصل ثم صار كاتبا بمحكمة الباب ثم بعد مدة ولى رياستها وعلت همته ونفذت كلمته وكان قضاة القضاة يعتمدون عليه ويفوضون إليه أمورهم وما زال يزداد في الترقي حتى ولى نيابة الحكم بدمشق مرتين وخطى من دنياه وبالجملة فإنه كان مأمون الغائلة وفيه لطف طبع وحسن سلوك واتفق أنه زوج ابنا له وختن آخر فبالغ في الكلفة بحيث اتفق أهل دمشق على أنه لم يتفق ما فعله من التبسط والمبالغة في الضيافات لأحد قبله ومات بعد ذلك بأربعين يوما وكذلك اتفق لوالده أنه مات بعد ضيافة عرس ابنه حسن المذكور بأربعين يوما وهذا من الاتفاق العجيب وكانت وفاته نهار الخميس ثالث عشرى جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وألف ودفن بمقبرة الفراديس رحمه الله تعالى الحسن بن أحمد اليمنى المعروف بالحيمي ترجمه الأخ الفاضل مصطفى بن فتح الله في مجموع له فقال في حقه فائق أقرانه وسابق ميدانه وأحد الأعيان الأفاضل الذين بدا سنا الإقبال في سيماهم وأعرب مبتدأ عمرهم عن منتهاهم وممن غدا نجم سعادته سابقا لائحا وراح مسك شذاه عابقا فائحا كان كما أخبر به تلميذه العلامة صالح بن المهتدي المقيلي إماما في الفقه مشاركا فيه مشاركة تامة وكان كذلك في غيره من العلوم صاحب تدبير ورياسة ومعرفة في الأمور المهمة معظما عند الدولة مشارا إليه وكذلك أرسله الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم رسولا إلى الحبشة في أغراض مهمة قضيت بنظره على أحسن حال وألف رسالة في الحبشة لطيفة وهو والد القاضي محمد ويحيى الآتي ذكرهما وله شعر حسن منه قوله
فؤاد على هجر الأحبة لا يقوى ... وكيف وربع العامرية قد أقوى
وصبر ولكن غاله الهجر والنوى ... فلا نفع للمهجور فيه ولا جدوى
ولكنني قد ذبت في الوصل بالرجا ... وكم ذي لبانات تمتع بالرجوى
فيا أيها الخل الذي أناصبه ... عليك بآداب الحديث الذي يروى
ومن علينا بالترسل إنني ... رأيت حديث المن أحلى من السلوى
وكانت وفاته في سنة إحدى أو اثنتين وسبعين وألف رحمه الله تعالى السيد حسن بن أحمد الجلال اليمنى الإمام العلامة الذي بهر بتحقيقه واعترف الفضلاء بتدقيقه له المؤلفات الشهيرة والمحاسن السائرة المنيرة ومن مصنفاته تكملة الكشف على الكشاف وشرح على التهذيب والشمسية في المنطق وشرح على الفصول في الأصول للسيد إبراهيم بن الوزير وشرح على الكافية في النحو وشرح على منتهى السؤل لابن الحاجب وله مختصر في علم الأصول شرحه شرحا يدل على فضله واختار اختيارات مخالفة لعلماء الأصول وله بديعية وشرحها شرحا لطيفا وله شعر طيب النفس في فنون كثيرة ومن شعره قصيدته البائية وله عليها شرح مبين لمقاصدها وأولها
العلم علم محمد وصحابه ... يا هائما بقياسه وكتابه
ولآله منه الخلاصة كلها ... إرثا تنوسخ عن هدى أصلابه
علموا بمحكم كل آي كتابهم ... فجنوا به الإيمان بالمتشابه
ما ضرهم والعلم كل فنونه ... لله غنيتهم بآمنا به
بلغ الوقوف على طريقته بهم ... عين اليقين فأسكروا بشرابه(1/323)
ورأوا حقيقة أمر آمرهم به ... فتجاهلوا ذلا لعز جنابه
وتجنبوا في الدين داء جدالهم ... حذرا لما علموه من أوصابه
وتبادروا الأعمال حين تيقنوا ... أن النفيس أهم ما يعنى به
إن أبهم القرآن حكما أبهموا ... حذر ابتداع خوفوا بعقابه
وبقوا على حكم الأصول لفقده ... وكذاك ما يجرى على آدابه
قد كان لا أدري لهم في علمهم ... ثلثيه أو كانت عمود نصابه
بل آثروا حب الكتاب لهم على ... ترك السؤال تخوفا مما به
فالمرء يلزم غير حكم نفسه ... فيكون حكما لاصقا بثيابه
قد أبدع الرهبان رهبانية ... باؤا بشؤم بديعها ومصابه
وأبو حنيفة إذ رأى الإيجاب في ... نفل فباشر من هنا أفتى به
تالله ما عجزوا ولا من دونهم ... أن يكتبوا إلا لكتب خطابه
أو يدعوا نقض النصوص ليحبطوا ... في كل وسواس أتى بعجابه
فيفرقوا دينا لأمة أحمد ... كمذاهب أشفت على إذهابه
ومنها
وعن الحديث نهى العتيق وحمله ... كتبا محرمها حذار كذابه
وعن ابن مسعود مقالة مقسط ... ويطول بسط القول في إطنابه
بالاجتهاد قضوا ولكن رخصة ... لمكلف يدريه عن أسبابه
وهي طويلة يقول فيها
يا راكبا يهوى لقبر محمد ... عرج به متمسكا بترابه
واقر السلام عليه من صب به ... يبلغ إليه القدس في محرابه
وقل ابنك الحسن الجلال مجانيا ... من قد غلا في الدين من تلعابه
لا عاجزا عن مثل أقوال الورى ... أو خائفا في علمهم لصعابه
فالمشكلات شواهد لي أنني ... أشرقت كل مدقق بلعابه
لولا محبة قدوتي بمحمد ... زاحمت رسطاليس في أبوابه
يا سيد الرسل الكرام دعاء من ... أودى به الهجران من أحبابه
ولك الشفاعة والكرامة عنده ... فاشفع بجاهك ماله منجابه
سل لي وراثة كنز علمك فالفتى ... يبغي نفيس الكنز في أعقابه
وقد انفردت عن الرجال ومؤنسي ... قرب إليك أعود حلس جنابه
وله غير ذلك من الآثار المرغوبة في بلادهم وبالجملة فهو من أفراد اليمن وفور فضل وأدب وكثرة تأليف وتصنيف وكانت وفاته في منزله بالخراف من أعمال صنعاء سنة تسع وسبعين وألف رحمه الله تعالى(1/324)
الشيخ حسن بن أحمد الرومي المشهور بأمي سنان زاده القسطنطيني الخلوتي الشيخ البركة المعتقد كان فرد وقته في المعارف الإلهية ولأهل الروم فيه اعتقاد عظيم وهو محله أخبرني بعض مريديه أنه ولد بقسطنطينية ونشأ لا يأكل إلا من كسب يمينه وكان يصنع الصابون المطيب ويبيعه ويتقوت بثمنه ولم يتفق له أنه تغوط خارج داره ولم ينم مدة عمره إلا هنيئة بين صلاتي الإشراق والضحى ويحكى أن والدته كانت تقول لم أرضعه إلا على طهارة كاملة وظهرت له خوارق ومكاشفات منها أن شخصا يعرف بشيخ زاده وكان حسن الصوت جدا عارفا بالمويسيقى والأغاني والضروب والناس يتهافتون على سماع صوته وأغانيه فأراد أخذ الطريق عن الشيخ صاحب الترجمة فشرط عليه أن يدعو الله بأن ينزع منه حسن الصوت حتى لا يستعمل الغناء فاستمر خمس عشرة سنة بعد ذلك الدعاء لا يخرج له صوت ثم بعد أن بلغ رشده دعا الله له فانطلق صوته وحكى لي مريده المذكور ولا أشك في صدقه أنه في ابتداء تلمذته له كان تولع بغلام وأراد أن يعمل به الفاحشة فلما أراد المباشرة رأى الشيخ واقفا أمامه هو يوبخه ويلومه فأقلع ولم يعد بعدها إلى شيء من ذلك وكان له حلقة ذكر بتكيته بمحلة كوركجى باشى بالقرب من طوب قبوسى وكان قليل الاختلاط بالناس ولما توفى الشيخ محمود المعروف بغفورى خليفة الشيخ محمود الاسكداري وكان واعظا بجامع السلطان محمد فوجه إليه الوعظ مكانه واشتهر أمره بعد ذلك وانكبت عليه الناس ثم استدعاه السلطان محمد سلطان زماننا إلى أدرنة ليجتمع به فتوجه إليه فلما وقع بصره عليه طلب السلطان الرجوع إلى قسطنطينية وكان الناس قد أيسوا من ذكره إياها فضلا عن التوجه إليها فعد ذلك من كرامات الشيخ صاحب الترجمة وشاع أنه لما خرج من قسطنطينية تفوه بأنه يجلب السلطان إليها وأخبرني بعض الإخوان أنه لما توجه السلطان إلى أدرنة في سنة ثمان وستين وألف كان ذلك بوفق صدر من رجل يقال له صالو شيخ محمد وأن أهل أدرنة كانوا شكوا إليه حالهم وما هم فيه من ضنك المعيشة وصنع لهم وفقا لمجيء السلطان ثم قال حكم هذا الوفق يمتد إلى ثمان عشرة سنة ثم يأتي رجل اسمه حسن فيكون سببا لإبطاله وأقام بأدرنة ثلاثة أيام ثم استأذن في الرجوع وخرج ولما دخلتها في ذلك الأثناء رأيته وهو يعظ الناس في جامع السلطان محمد وكان حلو العبارة متواضعا جدا شاخص البصر إلى فوق حتى لا يرى أحدا وكان هذا دأبه وبالجملة فقد كان بقية السلف وكانت وفاته في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وألف عن ثلاث وستين سنة وصلى عليه بجامع السلطان محمد وكانت جنازته حافلة جدا قل أن يقع مثلها ودفن بتكيته ونسبته لأمي سنان من جهة والدته وأطن أنه قيل لي أنه جدها لأبيها وكان أمى سنان المذكور من صدور مشايخ دولة السلطان سليمان وقد ذكره ابن نوعى في ذيل الشقائق وأثنى عليه كثيرا وذكر أن له من الرسائل رسالة في ذكر سلسلة مشايخ السادة الخلوتيه ورسالة في الدوران والسماع ذكر في تلك الرسالة أن والده حكى عن أبيه الشيخ الأجل يعقوب أن الشيخ الأجل سنبل سنان كان من أهل السماع وكان إذا دخل إلى السماع في الجامع ترفع قبة الجامع إلى الهواء حتى يرى دوران الملائكة وكان في زمنه المولى عرب وهو من كبار علماء الظاهر فأطال لسانه في حقه وأكثر الوقيعة به فافترق العلماء إذ ذاك فرقتين لكن الفرقة الكثيرة كانت في طرف الشيخ سنبل سنان فاجتمعوا يوما في جامع السلطان محمد ودعوا الشيخ إليهم فحضر هو وأتباعه وتقدم حتى جلس في المحراب ونظر عن جانبيه ثم قال ما أحسن جمعيتكم ما كان الداعي إليها فأجابه المولى صارى كرز وكان قاضي قسطنطينية إذ ذاك وفيه غلاظة أن أتباعك يذكرون الله بالدوران والسماع فما دليل جواز ذلك بينوه لنا وإلا فامتنعوا من ذلك فقال الشيخ إذا لم يكن المرء صاحب اختيار ماذا يحكم عليه شرعا فقال القاضي أتزعم أن هؤلاء يسلبون الاختيار إذا ذكروا فقال فيهم من هو كذلك فقال القاضي إذا فرضناهم كذلك فمن سلب اختياره أتراه يسلب عقله أو يجذب فقط فقال الشيخ هؤلاء عقلهم كامل فقال القاضي يا لله العجب يسلب اختيارهم وتبقى عقولهم هذا الكلام من أي مقولة هو فقال الشيخ هلا أخذتك الحمى قال بلى فقال لأي شيء كنت ترتعد أترى عقلك لم يكن في رأسك فسلب الاختيار لا يوجب زوال العقل فتفطن إن كنت عاقلا فأفحم القاضي ثم التفت إلى(1/325)
الجماعة وخاطب كلا بما أبهته فلم يجدوا بعدها جوابا وختم المجلس بقوله هذه أغراض نفسانية لا محصل لها ثم صعد المنبر وأبدى في الحقائق أشياء تحير الأذهان ووقع اعتقاده في صدور غالب القوم وأخذوا عنه الطريق في ذلك الوقت وأذعنوا له ومما يروى من مناقبه أنه كان وقع بينه وبين المولى أبي السعود العمادي صاحب التفسير في منسئلة فحنق عليه المولى أبو السعود وحلف أنه إن مات الشيخ سنان قبله لا يحضر للصلاة عليه فقال له خفض عليك لا يصلى علي إماما إلا أنت وليس لك محيد عن ذلك فاتفق أنه يوم موت الشيخ سنان توفيت ابنة السلطان سليمان وأحضرت الجنازة في الجامع ودعي أبو السعود للصلاة عليهما وكان لم يبلغه وفاة الشيخ فقدم للصلاة على الجنازتين ولما أتم الصلاة سأل فقيل له هذا الشيخ سنبل سنان فكفر عن يمينه وكان بعد ذلك إذا طرأ ذكره يعظمه ويذكر أحواله وإنما ذكرته وليس على شرط كتابي ليعلم نسبة الشيخ صاحب الترجمة ولما في ذكر هؤلاء السادة من الفائدة التامة رحمهم الله تعالىالجماعة وخاطب كلا بما أبهته فلم يجدوا بعدها جوابا وختم المجلس بقوله هذه أغراض نفسانية لا محصل لها ثم صعد المنبر وأبدى في الحقائق أشياء تحير الأذهان ووقع اعتقاده في صدور غالب القوم وأخذوا عنه الطريق في ذلك الوقت وأذعنوا له ومما يروى من مناقبه أنه كان وقع بينه وبين المولى أبي السعود العمادي صاحب التفسير في منسئلة فحنق عليه المولى أبو السعود وحلف أنه إن مات الشيخ سنان قبله لا يحضر للصلاة عليه فقال له خفض عليك لا يصلى علي إماما إلا أنت وليس لك محيد عن ذلك فاتفق أنه يوم موت الشيخ سنان توفيت ابنة السلطان سليمان وأحضرت الجنازة في الجامع ودعي أبو السعود للصلاة عليهما وكان لم يبلغه وفاة الشيخ فقدم للصلاة على الجنازتين ولما أتم الصلاة سأل فقيل له هذا الشيخ سنبل سنان فكفر عن يمينه وكان بعد ذلك إذا طرأ ذكره يعظمه ويذكر أحواله وإنما ذكرته وليس على شرط كتابي ليعلم نسبة الشيخ صاحب الترجمة ولما في ذكر هؤلاء السادة من الفائدة التامة رحمهم الله تعالى الشيخ حسن بن زاهر المقدسي العاروري الأنصاري الشيخ الصالح الجواد المربي كان من خيار الناس وله صلاح وانعكاف على العبادة ولأهل دائرته فيه اعتقاد عظيم وبالجملة فقد كان من عباد الله الصالحين وكانت وفاته نهار الخميس بعد الظهر سادس عشر صفر سنة تسع وسبعين وألف وصلى عليه في اليوم المذكور بعد العصر ودفن بمدفنه الذي عمره داخل جامعه الذي بناه بقرية السيلة من أعمال اللجون وحضر جنازته غالب أهالي القرى التي حولها وجماعة من أهل جينين والعاروري نسبة إلى عارورا بلدة بضواحي بيت المقدس وسيلة بكسر السين المهملة قرية من عمل اللجون وفي ناحية نابلس سيلة أخرى غير هذه والله أعلم حسن بن زين الدين الشهيد العاملي الشهير بالشامي نزيل مصر من حسنات الزمان وأفراده ذكره الخفاجي في ريحانته وقال في وصفه ما جد صيغ من معدن السماح وابتسمت في جبينه غرة الصباح إلى آخر ما قاله وذكر من شعره قوله
مصر تفوق على البلاد بحسنها ... وبنيلها الزاهي ورقة ناسها
من كان ينكر فالتحكم بيننا ... في روضة والجمع في مقياسها
وهو يقرب من قول القائل
إن مصرا لأطيب الأرض عندي ... ليس في حسنها البديع قياس
فإذا قستها بأرض سواها ... كان بيني وبينك المقياس(1/326)
وكذره ابن معصوم في السلافة فقال في وصفه شيخ المشايخ الجله ورئيس المذهب والمله الواضح الطريق والسنن الموضح الفروض والسنن يم العلم الذي يفيد ويفيض وخضم الفضل الذي لا ينضب ولا يغيض المحقق الذي لا يراع له يراع والمدقق الذي راق فضله وراع المتفنن في جميع الفنون والمفتخر به الآباء والسنون قام مقام والده في تمهيد قواعد الشرائع وشرح الصدور بتصنيفه الرائق وتأليفه الرائع فنشر للفضائل حللا مطرزة الأكمام وأماط عن مباسم أزهار العلوم لثام الأكمام وشنف الأسماع بفرائد الفوائد وعاد على الطلاب بالصلات والعوائد وأما الأدب فهو روضه الأريض ومالك زمام السجع منه والقريض والناظم لقلائده وعقوده والمميز عروضه من نقوده وسأثبت منه ما يزدهيك إحسانه وتصبيك خرائده وحسانه ومن مصنفاته كتاب منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان وكتاب المعالم والإثنى عشريه ومنسك الحج وغير ذلك ومن شعره قوله
طول اغترابي بفرط الشوق أضناني ... والبين في غمرات الوجد ألقاني
يا بارقا من نواحي الحي عارضني ... إليك عني فقد هيجت أشجاني
فما رأيتك في الآفاق معترضا ... إلا وذكرتني أهلي وأوطاني
ولا سمعت شجا الورقاء نائحة ... في الأيك إلا وشبت منه نيراني
كم ليلة من ليالي البين بت بها ... أرعى النجوم بطرفي وهي ترعاني
كان أيدي خطوب الدهر منذ نأوا ... عن ناظري كحلت بالسهد أجفاني
ويا نسيما سرى من حيهم سحرا ... في طيه نشر ذاك الرند والبان
أحييت ميتا بأرض الشام مهجته ... وفي العراق له تخييل جثمان
وكم حييت وكم قدمت من شجن ... ما ذاك أول إحياء ولا الثاني
شابت نواصي من وجدي فواأسفي ... على الشباب فشيبي قبل إباني
يا لائمي كم بهذا اللوم تزعجني ... دعني فلومك قد والله أغراني
لا يسكن الوجد ما دام الشباب ولا ... تصفو المشارب لي إلا بلبنان
في ربع أنسى الذي حل الشباب به ... تمائمي وبه صحبي وخلاني
كم قد عهدت بهاتيك المعاهد من ... إخوان صدق لعمري أي إخوان
وكم تقضت لنا بالحي آونة ... على المسرة في كرم وبستان
لم أدر حال النوى حتى علقت به ... فغمرتي من وقوعي قبل عرفاني
حتام دهري على ذا الهون تمسكني ... هلا جنحت لتسريح بإحسان
أقسمت لولا رجاء القرب يسعفني ... فكلما من بالأشواق أحياني
لكدت أقضي بها نحبي ولا عجب ... كم أهلك الوجد من شيب وشبان
يا جيرة الحي قلبي بعد بعدكم ... في حيرة بين أوصاب وأحزان
يمضي الزمان عليه وهو ملتزم ... بحبكم لم يدنسه بسلوان
باق على العهد راع للذمام فما ... يشوب عهدكم يوما بنسيان
فإن براني سقامي أو نأى رشدي ... فلاعج الشوق أوهاني وألهاني
وإن بكت مقلتي بعد الفراق دما ... فمن تذكركم يا خير جيران
وقوله وهي من محاسن شعره
فؤادي ذي ظاعن اثر النياق ... وجسمي قاطن أرض العراق
ومن عجب الزمان حياة شخص ... ترحل بعضه والبعض باقي
وحل السقم في بدني وأمسى ... له ليل النوى ليل المحاق
وصبري راحل عما قليل ... لشدة لوعتي ولظى اشتياقي
وفرط الشوق أصبح بي خليعا ... ولما ينو في الدنيا فراقي
وتعبث ناره في الروح حينا ... فيوشك أن تبلغها التراقي
وأظماني النوى وأراق دمعي ... فلا أروى ولا دمعي براقي
وقيدني على حال شديد ... فما حرز الرقى منه براقي
أبى الله المهيمن أن تراني ... عيون الخلق محلول الوثاق
أبيت مدى الزمان بنار وجدي ... على جمر يزيد به احتراقي(1/327)
وما عيش امرئ في بحر غم ... يضاهي كربه كرب السياق
يود من الزمان صفاء يوم ... يلوذ بظله مما يلاقي
سقتني نائبات الدهر كأسا ... مريرا من أباريق الفراق
ولم يخطر ببالي قبل هذا ... لفرط الجهل أن الدهر ساقي
وفاض الكأس بعد البين حتى ... لعمري قد جرت منه سواقي
فليس لداء ما ألقى دواء ... يؤمل نفعه إلا التلاقي
وله غير ذلك وكانت ولادته في سنة أربع وخمسين وتسعمائة تقريبا فإني رأيت في تاريخ الشلى أن والده مات في سنة خمس وستين وتسعمائة وكان عمره إذ ذاك اثنتى عشرة سنة فيكون مولده على هذا في سنة أربع وخمسين كما ذكرته وتوفى في سنة إحدى عشرة بعد الألف والله تعالى أعلم السيد حسن بن شدقم المدني الحسيني الفاضل الأديب الكامل ذكره ابن معصوم في السلافة فقال في حقه واحد السادة وأوحد الساسة وثاني الوسادة في دست الرياسة القدر على والحسب سني والخلق كالاسم حسن والنسب حسيني جمع إلى شرف العلم عز الجاه ونال من خيري الدنيا والآخرة مرتجاه وكان قد دخل الديار الهندية في عنفوان شبابه فصدره الشرف في مجلس أهله وأربابه وما زال يورق في رياض الإقبال عوده حتى أسفرت في سماء الإسعاد سعوده فأملكه أحد ملوكه ابنته ورفع في مراتب العلياء مرتبته فاجتلى عرائس آماله في منصات تيلها واستطلع أقمار سعده في نواشئ ليلها واقتعد الرتبة القعسا وأصبح وهو رئيس الرؤسا وكان من أحسن ما قدره من عزمه ودبره وحرره في صفحات غرسه وحبره إرساله في كل عام إلى بلده جملة وافرة من طريف ماله وتلده فاصطفيت له به الحدائق الزاهيه وشيدت له القصور العاليه ولما هلك الملك أبو زوجه وهوى قمر حياته من أوجه انقلب بأهله إلى وطنه مسرورا وتقلب في تلك الحدائق والقصور بهجة وسرورا إلا أن الرياسة التي انتشى في تلك الرياض بكؤسها والمكانة التي تميز بعلوها بين رئيسها ومرؤسها لم يجد عنهما في وطنها خلفا ولم ترض أنفته أن يرى في وجه جلالته كلفا فانثنى عاطفا عنانه وثانيه ودخل الديار الهندية مرة ثانيه فعاد إلى أبهة عظمته الفاخره وبها انتقل من دار الدنيا إلى دار الآخره وله شعر بديع فائق كأنما اقتطفه من أزهار تلك الحدائق فمنه قوله حين أنف من مقامه في وطنه بين أهله وأقوامه بعد عوده من الديار الهنديه والانتقال من ظلال عزه النديه
وليس غريبا من نأى عن دياره ... إذا كان ذا مال وينسب للفضل
وإني غريب بين سكان طيبة ... وإن كنت ذا مال وعلم وفي أهلي
وهو من قول البستي رحمه الله
وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها جيرتي وبها أهلي
وليس ذهاب الروح يوما منية ... ولكن ذهاب الروح في عدم الشكل
وما غربة الإنسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل
ومن شعره أيضا قوله
لا بد للإنسان من صاحب ... يبدى له المكنون من سره
فاصحب كريم الأصل ذا عفة ... تأمن وإن عاداك من شره
وله غير ذلك وكانت وفاته في شوال سنة ست وأربعين وألف رحمه الله تعالى(1/328)
حسن باشا بن عبد الله الأمين الكبير المعروف بشوربزه حسن أحد صدور دمشق وأعيانها الذين كان يرجع إليهم في المهمات ويعول عليهم في الأمور وكان كامل العقل حسن التدبير صافي المزاج وكان يعتقد العلماء والصلحاء ويتردد إليه جماعة منهم فيكرمهم ويعظمهم وتقلبت به الدنيا بين نعيم وبؤس حتى استقر في مركزه وبلغ من العز والجاه مبلغا ليس وراءه غاية واحتوى على أملاك وعقارات كثيرة وعمر الخان المعروف بسوق قمق ووقفه مع جملة من عقاراته على ذريته وكان في مبدأ أمره من آحاد جند الشام ثم ترقى حتى صار كتخداهم وضرب واحدا منهم حتى هلك فقاموا عليه وأجمعوا على قتله فخلص منهم وصولحوا بعزلة فاختار فريقة التيمار حتى صار جاويش السلطان وسافر إلى قسطنطينية مرارا وكان إذا سافر إليها استنهضه الناس في قضاء مهامهم فيقضيها على أحسن وجه ويسامح غالبهم بما يذهب عليها من الخرج ويأتي كل نوبة بحسنة إلى بعض المستحقين من العلماء والصلحاء إما وظيفة وإما صدقة وكان يحنو على الأيتام وحض كثيرا منهم ممن لا ولي له ونمى أموالهم وكان منتميا إلى الوزير الأعظم سياغوش باشا فدفع إليه مالا وأمره أن يبني له مسجدا بدمشق ويرتب فيه من يقوم بشعائره فبنى المسجد المعروف بالسياغوشية بالقرب من داره بحارة القصاعين داخل باب الجابية وأحسن بناءها وكذلك فعل معه الوزير الأعظم مراد باشا فعمر له سوق المرادية بباب البريد والخان وسوق الذراع وجعله وقفا على الحرمين وولى وقف البيمارستان النوري فأقام شعائره بعد أن كانت اضمحلت وعمر أوقافه وأتى فيه من حسن التنمية بما لا مزيد عليه فاستدعاه المولى مصطفى المعروف بكوجك قاضي القضاة بدمشق لولاية البيمارستان القيمري فأبى حتى أبرم عليه هو ورئيس الأطباء بدمشق الشيخ شرف الدين لاضمحلال حاله ثم قبله على شريطة أن لا يتناول فيه رئيس الأطباء بعض أشياء عينها ولا يخالطه من أموره بسوى قبض القدر الفلاني من علوفته فإنه بسبب تجاوزه وتجاوز أمثاله خرب الوقف فقبل القاضي والرئيس شرطه وعمره ونمى وقفه وولى تولية الجامع الأموي بعد أن كاد وقفه يذهب فبذل جهده في ضبطه وتنميته وقد تقدم طرف من خبر توليته في ترجمة إسماعيل بن عبد الوهاب العجمي فارجع إليه هناك وعمر حمام البزورية وقف دار الحديث النوريه بأمر الوزير أحمد باشا الحافظ وصرف من ماله مبلغا واستوفاه من أجوره ثم سلمه لمتوليه بعد الاستيفاء وترقى في المناصب بعد ذلك حتى تقاعد عن حكومة قرمان وكان أكثر قضاة الشام إذا ولوا دمشق فوضوا إليه أمورهم حتى حضروا وولى محافظة الشام فقتل طائفة من المناحيس ولم تطل مدة محافظته وصار مستوفى دمشق فاجتهد في تحصيل الأموال السلطانية وشدد على كتاب الخزينه والامناء فأضمر بعض الكتاب له السوء فلما عزل أخرجوا عليه أشياء انتقدوها عليه ووشوا به إلى الوزير الحافظ المذكور فكلفه ما خرج عليه من المال فقبض منه البعض وسكت عن البعض لما رأى من انقياده إليه ولما قدم محمد باشا السلحدار حاكما بالشام انتقد عليه ما سكت عنه الحافظ وعرض فيه إلى باب السلطنة فجاءت فيه مناشير سلطانية وحوالة وأخذ منه ما بقى عليه وكانت دخلت عليه أوهام من الوزير الأعظم نصوح باشا وغيره فلحقته الأمراض والأسقام وآل أمره إلى أن بدا فيه الفالج فأسرع في بعض أعضائه ثم لما قدم محمد باشا جوقدار السلطان أحمد قدم إليه سرادقا عظيما وخدمه بخدمة عظيمة فالتفت إليه وقربه من مجلسه ولم تطل مدته بعد ذلك حتى مات في زمنه وبالجملة فإنه كان من صدور أعيان عصره وكان له محاسن ومساوى إلا أن محاسنه كانت أكثر وتراكمت عليه المحن في آخر أمره إلى أن مات وكانت وفاته ليلة السبت ثامن عشر ربيع الثاني سنة سبع وعشرين وألف وقال النجم الغزى يرثيه وذكرها في ذيله
عجبت والدهر أعيتني أعاجيبه ... من عجمة لم تبن عنها تعاريبه
أما رأيت رحاه وهي دائرة ... في الناس قد لعبت فيهم دواليبه
والموت ما زال أخاذاً لذي نفس ... لكن قد اختلفت فيهم أساليبه
ما خاصم الخصم إلا وهو خاصمه ... غلب الرجال وإن جلت مغاليبه
أما نظرت إلى شوربزهم حسن ... وكان كالسبع أدهتهم أراعيبه(1/329)
له محاسن لا تحصى لكثرتها ... فطالما هطلت خيرا شآبيبه
يحب تعمير أوقاف المساجد لا ... يألو وقد حسنت فيها تراتيبه
وكان يحسن للأيتام يحضنهم ... تجري على مستوى فيهم أنابيبه
لكنه كان ذا جاه وذا جرد ... وجرأة عظمت منها تراهيبه
عنت دمشق ومن فيها له وغدا ... تجرهم غير آباء مجاذيبه
وربما مس منه الظلم بعضهم ... وعاث في الناس تؤذيهم يعاسيبه
يبادر الناس بالترهاب يوهمهم ... مما يبلغه عنهم دياديبه
أخلت منيته منه الديار فقد ... أمست خلاء وتبكيه شناحيبه
من بعد ما أفلجت منه مفاصله ... وما نفت عنه أسقاما تقاريبه
كانت تسوم في عرض مراكبه ... فصار للأرض وانفكت تراكيبه
فليعتبر كل جبار بميتته ... ما خيله خلدت كلا ولا نيبه
يا طالما أبصر الآيات ظاهرة ... والقلب ما فعلت فيه تقاليبه
وما اعتبرنا بما التاطت وما نشبت ... في ذا الزمان بأهليه مخاليبه
نجرب الدهر تارات فنعرف ما ... يجريه لم تلونا عنه تجاريبه
طوبى لمن لم يكن بالدهر منخدعا ... ولم تمله عن التقوى محابيبه
بالخير يذكر أو بالشر كل فتى ... قضى فلا ليثه يخشى ولا ذيبه
حسن بن عثمان الرومي الحنفي نزيل دمشق المعروف باوزون حسن أي الطويل قدم في شبيبته إلى قسطنطينية وخدم شيخ الإسلام زكريا بن بيرام مفتي التخت العثماني ولازم منه ثم لما توفى المفتي المذكور بقي هو في خدمته ابن أستاذه شيخ الإسلام يحيى وورد بخدمته إلى حلب ودمشق والقاهرة لما ولى قضاءها ولما عزل عن مصر ودخل دمشق راجعا منها كان معه أيضا فاستقر بدمشق وتزوج واقتنى دارا تجاه دار الحديث الأشرفية بالقرب من باب القلعة قلت وهو الآن بيد بني الأصفر ودرس بالمدرسة القصاعية الحنفية والدرويشية وولى تولية الجامع الأموي ونظارته وتولية الدرويشية وكان الموالى قضاة الشام يرسلون يستنيبونه في قضائها مدة إلى حين وصولهم وكذلك قضاة العساكر يفوضون إليه القسمة العسكرية وصار أحد كبراء دمشق وانعقدت عليه صدارتها وكان مهابا موقرا معظما سالكا مسلك السلف مختصرا في أموره وله عفة ونزاهة ومدحه الأديب إبراهيم الأكرمي الصالحي المقدم ذكره بقصيدة مطلعها
ما راقه بعد رامة وطن ... وكيف وهي الغرام والشجن
وهي مذكورة في ديوان الأكرمي فلا نطيل بذكرها وكانت وفاته سنة سبع وثلاثين وألف ودفن بمقبرة الفراديس(1/330)
المولى حسن بن علي بن أمر الله وقيل إسرافيل القسطنطيني المولد المعروف بابن الحنائي صاحب التذكرة التي ألفها في شعراء الروم وهي لهم كدمية القصر للباخرزي تحتوي على لطائف المنثور ومنتخبات الأشعار وذكر فيها معظم شعرائهم من ابتداء الدولة العثمانية سلاطين زماننا إلى زمانه وألف حاشية على الدرر والغرر مقبولة وله غيرها من التصانيف المقبولة بلسان التركي وترسلات شائعة متداولة وكان جيد العبارة لطيف الطبع صاحب نوادر وتحف وبالجملة فهو أحد أفراد الدهر ومحاسن العصر ولد سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وكان والده إذ ذاك ببروسة مدرس مدرسة حمزة بيك وأخذ عن ناظر زاده مدرس علي باشا الجديد وقاضي زاده المعزول عن قضاء حلب ثم وصل إلى مقام شيخ الإسلام أبي السعود العمادي وصار من طلبته المختصين به وحصل ودأب ولازم من المولى المذكور ثم درس إلى أن وصل إلى المدرسة السليمانية وولى منها قضاء حلب في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وتسعمائة ثم ولى قضاء القاهرة في جمادى الآخرة سنة ثلاث وألف ثم ولى قضاء أدرنة في ذي الحجة سنة أربع بعد الألف ثم ولى مصر ثانيا في جمادى الآخرة سنة ست وألف ثم قضاء بروسة في شوال سنة سبع وألف ثم عزل وعين له قضاء أيدنجك على وجه التقاعد ثم أعطى قضاء كليبولى ونقل منها إلى قضاء أيوب وفي صفر سنة إحدى عشرة وألف أعطى قضاء اسكى زغرة على طريق التأبيد فاستولت عليه بها أمراض بلغمية منعته من الحركة إلا نادرا فطلب قضاء رشيد من نواحي مصر فأعطيها بقيد الحياة وتوجه إليها وتوفى بها هكذا ذكر ابن نوعى في ترجمته ورأيت في بعض أوراق بخط إبراهيم المعروف برامي الدمشقي أنه بعد عزله من أدرنة أدركته حرفة الأدب وولعت به فحطه الدهر من علياء قدره بعد الرفعة العظيمة وتفرق شمل حاله من فقد رياشه وضيق معاشه ووجدت في بعض المجاميع لبعض فضلاء الروم أنه كان عندما ولع الزمان به قد أغرى بإنشاد هذين البيتين لا يجف لسانه من ترديدهما في أكثر أوقاته وأحواله ولست أدري أنهما له أو لغيره وهما قوله
من كان يرجو أن يعيش فإنني ... أصبحت أرجو أن أموت فأعتقا
في الموت ألف فضيلة لو أنها ... عرفت لكان سبيله أن يعشقا
ثم رأيت البيتين منسوبين لأحمد بن أبي بكر الكاتب وقد اقتدى فيهما بابن الرومي في قوله
قد قلت مذ مدحوا الحياة وأسرفوا ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقائه بلقائه ... وفراق كل معاند لا ينصف
وهو أول من فتح هذا الباب انتهى قال رامي ولم يزل صاحب الترجمة يعاني الحرمان كما ذكر حتى ولى قضاء رشيد فتوفى بها في شوال سنة اثنتى عشرة وألف(1/331)
الإمام حسن بن علي بن داود الحسن بن علي بن المؤيد المؤيدي قام باليمن في نصف شهر رمضان سنة خمس وثمانين وتسعمائة وقام معه الشيعة في صعدة فخرج منها إلى جبل الاهنوم فاشتعلت الأرض نارا وفتح جملة قرى وأرسل رسله بالرسائل وكتب إلى لطف الله بن المطهر فلم يجبه واضطربت عليه البلاد وكتب إلى محمد بن شمس الدين بمثل ذلك فلم يجبه أيضا وكتب إلى يحيى بن المطهر فكاد أنه يجيب وغره أحد إخوان الإمام فأجاب وسلم إليه بعض الحصون فوجه لطف الله عبد الله بن أحمد بن شمس الدين والنقيب مرجان فخرجوا إلى الخشب وفتحوا ما قد خالف ثم خرج الأمير سنان إعانة لهم من قبل مراد باشا فهزموا أصحاب الإمام وسكنت بلاد زمرمر وعاد سنان إلى صنعا ثم في سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة توجه سنان المذكور لحرب الإمام الحسن إلى الاهنوم واستولى سنان على أكثر بلاد الإمام وضايقه وفي شهر رمضان من السنة المذكورة فتح سنان جميع بلاد الاهنوم وانحصر الإمام الحسن في محل يقال له الصاب فجنح إلى السلم وخرج إلى يد الأمير سنان في سادس عشر رمضان سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة ومن عجيب الاتفاق أنه ادعى بالإمامة في النصف من شهر رمضان سنة ست وثمانين وأسر في النصف منه سنة ثلاث وتسعين ووصل الإمام الحسن صحبة الأمير سنان إلى الوزير آخر يوم من شهر رمضان فأودعه الحفظ وفي ليلة الاثنين خامس عشر شوال منها وجه الوزير الأمير سنان بالإمام الحسن وبأولاد المطهر لطف الله وعلي ويحيى وحفظ الله وإبراهيم وعبد الله وجماعة آخرين إلى الروم فسار بهم إلى المخا وأركبهم السفينة وعاد فمات أولاد المطهر بالروم واحدا بعد واحد وتوفى الإمام الحسن بالروم أيضا في رجب سنة أربع وعشرين وألف رحمه الله حسن بن علي بن حسن بن أحمد بن محمود العاملي الكونيني الشهير بالحانينى من أهل الفضل والأدب جم الفائدة كان شاعرا مطبوعا كثير النظم له فيه الباع الطويل وكان مقيما ببلده بيت حانينى من ضواحي صفد وأفتى مرة في حياة الشهاب أحمد الخالدي المقدم ذكره وقد وقفت له على أشعار كثيرة في مجموع جمع صاحبه فيه المدائح التي مدح بها الأمير فخر الدين بن معن فانتقيت بعضا منها من ذلك قوله من قصيدة مدح بها الأمير المذكور مطلعها
لنا في هوى ذات الوشاح مقاصد ... وفي خالها للعاشقين مراصد
على حبها نحيا ونحشر في الهوى ... ونحن على ميثاقها نتعاهد
يقد قلوب الأسد مائس قدها ... وللصيد منها في الجفون مصايد
أعارت شريد الريم حسن تلفت ... كما قد أعارتها العيون الأوابد
موردة الخدين دعجاء طفلة ... برهرهة خمصانة البطن ناهد
غريرة حسن هام عند جمالها ... وطيب شذاها مستقيم وفاسد
تعلمت البيض البواتر فتكها ... ومن لينها سمر الرماح موايد
أسال دم العشاق سيف لحاظها ... على وجنتيها والغرام مساعد
أذاب على الخدين ورد شقائق ... بأكنافه ذوب الشبيبة جامد
مهاة متى ألقت عقارب صدغها ... تشكل منها في القلوب أساود
فتاة كان الصبح فوق جبينها ... وبدر الدجى من جيبها متصاعد
كان هلال الصوم واضح طوقها ... ومن خلفه نظم النجوم قلائد
كان خفوق البرق قلب عشيقها ... إذا لامه بين المحافل زاهد
كان سنا أوصافها مدح كامل ... وبسط ثناه والأنام شواهد
وهي طويلة جدا فلنكتف منها بهذا المقدار وله غير ذلك وكانت وفاته في سنة خمس وثلاثين وألف الحسن بن علي بن جابر الهبل اليمنى ذكره ابن أبي الرجال فقال في وصفه بديع الزمان وقريع الأوان من لا عيب فيه سوى بعد بلاده وقرب ميلاده فالمندل الرطب في أوطانه خشب أما صغر الميلاد فلله در أبي الطيب حيث يقول
ليس الحداثة من حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
وأما بعد البلاد فأمر لا يعتبره الحذاق وإن قالوا القرب المفرط مانع لإدراك الأحداق وقال بعض الناس
عذيري من عصبة بالعرا ... ق قلوبهم بالجفا قلب
يرون العجيب كلام الغريب ... وأما القريب فلا يطرب(1/332)
وعذرهم عند توبيخهم ... مغنية الحي لا تطرب
لكن العاقل الفاضل لا يجنح إلى التقليد حتى في تفضيل الحصباء على لآلئ الجيد وإن الإنصاف من أجمل الأوصاف ولد بصنعا وبها نشأ على العبادة والزهاده ومودة العترة الطيبة الساده واشتغل بالعلوم والآداب حتى برع على الشيوخ فضلا عن الأتراب وله ديوان شعر فائق وسحر حلال رائق في كل معنى مليح نهج مناهج الأدباء وجاراهم في رقيقهم وجزلهم وجدهم وهزلهم وهو مع ذلك السابق المجلى ولقد رأيت له مقاطيع باهره وقصائد فاخره ونفسه أشبه بشعر الحسين ابن حجاج غير أنه مصون من الأقذاع وانها هو في الفصاحة والنصاعه وجودة السبك والصناعه وقد كان يقال أن ابن حجاج نفسه يشبه نفس امرئ القيس ابن حجر ومن شعر صاحب الترجمة قوله في الوعظيات
أين استقر السفر الأول ... عما قريب بهم ننزل
مروا سراعا نحو دار البقا ... ونحن في آثارهم نرحل
ما هذه الدنيا لنا منزلا ... وإنما الآخرة المنزل
قد حذرتنا من تصاريفها ... لو أننا نسمع أو نعقل
يطيل فيها المرء آماله ... والموت من دون الذي يأمل
يحلو له ما مر من عيشها ... ودونه لو عقل الحنظل
ألهته عن طاعة خلاقه ... والله لا يلهو ولا يغفل
يا صاح ما لذة عيش بها ... والموت ما تدري متى ينزل
يدعو لي الأحباب من بيننا ... يجيبه الأول فالأول
يا جاهلا يجهد في كسبها ... أغرك المشرب والمأكل
ويا أخا الحرص على جمعها ... مهلا فعنها في غد تسئل
لا تتعبن فيها ولا تأسفن ... لما مضى فالأمر مستقبل
ما قولنا بين يدي حاكم ... يعدل في الحكم ولا يعزل
ما قولنا لله في موقف ... يخرس فيه المصقع المقول
وإن سئلنا فيه عن كل ما ... نقول في الدنيا وما نفعل
ما الفوز للعالم في علمه ... وإنما الفوز لمن يعمل
وقوله
لا تعتبر ضعف حالي واعتبر أدبي ... وغض عن رث أطماري وأسمالي
فما طلابي للدنيا بممتنع ... لكن رأيت طلاب المجد أسمى لي
وقوله في العفاف
ما زلت من درن الدنايا صائنا ... عرضا غدا كالجوهر الشفاف
وإذا جرى مرحا بميدان الصبا ... مهر الهوى ألجمته بعفاف
وإذا هم وصفوا محاسن شادن ... مستكمل لمحاسن الأوصاف
أبديت فيه من النسيب غرائبا ... ووصفت فيه ما عدا الأرداف
وقوله قريبا من هذا المعنى
تغزلت حتى قيل أني أخو الهوى ... وشببت حتى قيل فاقد أوطان
وما بي من عشق وشوق وإنما ... أتيت من الشعر البديع بأفنان
وقوله من قصيدة
حتام عن جهل تلوم ... مهلا فإن اللوم لوم
طرفي الذي يشكو السها ... د وقلبي المضنى الكليم
إن الشقا في الحب عند الع ... اشقين هو النعيم
ما الحب إلا مقلة ... عبراء أو جسم سقيم
يا من أكتم حبه ... والله بي وبه عليم
وبلابل بين الجوا ... نح لا تنام ولا تنيم
مالي وما للوائمي ... أعليك ذو عقل يلوم
يا هل تراه يعود لي ... بك ذلك الزمن القديم
وهنى عيش باللوى ... لو أن عيش هنا يدوم
وبرامة إذ نلت من ... وصل الأحبة ما أروم
يا حبذا تلك الربو ... ع وحبذا تلك الرسوم
يا تاركين بمهجتي ... شررا يذوب بها الجحيم
طال المطال ولم ته ... ب لصدق وعدكم نسيم
مطل الغريم غريمه ... حاشا كم خلق ذميم
وقوله أيضا
ملكتم فاعدلوا في الصب أو جوروا ... ذنب الأحبة في العشاق مغفور(1/333)
وقد تقرر في قلبي مقركم ... دون الورى فأقيموا فيه أو سيروا
يا مخربي ربع صبري بالجفا عبثا ... الحمد لله ربع الود معمور
ويا مطول هجراني بلا سبب ... أما بدا لك في الهجران تقصير
ومنكرا ما ألاقي من محبته ... حيى كطرفك بين الناس مشهور
أنا الكئيب المعنى في هواك وإن ... أظهرت أني بما ألقاه مسرور
ألا خلاص لقلبي من صبابته ... فإنه في تعاطي الحب مغرور
كم دا أكابد ملومر أيسره ... بالطور دك له من ثقله الطور
وكم أرى طاويا كشحي على شجن ... ونار قلبي لها في القلب تسعير
وكم أراقب ساري الطرف يطرقني ... وإنما الطيف تخييل وتزوير
يا للحمى كم على واديه طل دمي ... وكم فؤاد محب ثم مأسور
وفي مليك جمال سيف مقلته ... مظفر بقلوب الناس منصور
نبي حسن له من روض وجنته ... جنات عدن ومن ألحاظه حور
وقوله وفيه إبداع
يا من أطال التجني ... منك الصدود ومني
مولاي إن طال هذا ... علي فاعلم بأني
أفديك قل لي ما ... ذا الذي بدا لك مني
تركتني مستهاما ... حيران أقرع سني
أشكو إليك الذي بي ... وأنت تعرض عني
ولم ترق لحالي ... ولا رثيت لحزني
وقوله
أصخ لشكيتي وارفق ... بجسم فيك قد نحلا
وقل لي من أحل دمي ... ومن ذا حرم القبلا
وإن تنكر ضنى جسدي ... ولم تعطف علي ولا
فكف النبل من عيني ... ك يكفى بعض ما فعلا
ولا تطلع لنا خداك ... ورد رياضها الخضلا
وقوله وفيه الجناس الكامل
رويدك من كسب الذنوب فأنت لا ... تطيق على نار الجحيم ولا تقوى
أترضى بأن تلقى المهيمن في غد ... وأنت بلا علم لديك ولا تقوى
وقوله
افرغ إلى الباري وكن ... مما جنيت على وجل
وارج الإله فلم يخب ... راجي الإله علا وجل
قد سبق إلى هذا في قول القائل
كن من مدبرك الحكيم ... علا وجل على وجل
وقوله في الثقة بالله وفيه الجناس الكامل
ثق بالذي خلق الورى ... ودع البرية عن كمل
إن الصديق إذا اكتفى ... ورأى غناء عنك مل
وقال وقد رأى شعرة بيضاء في رأسه وفيهما التورية والاكتفاء
شباب غير مذموم تولى ... وشيب قد أتى أهلا وسهلا
مضى عمري الطويل ومر عيشي ... كأني لم أعش في الدهر إلا
وقوله
أذن الندى عن نداء الشعر صماء ... فليس يجديك إنشاد وإنشاء
يا قالة الشعر مهلا لا أبالكم ... رويدكم ما لهذا القدح إيراء
إنا لفي زمن ود الفصيح به ... لو أنه ألكن في القول فأفاء
كم تمدحون ولا تعطون جائزة ... كأنما مدحكم بالمنع إغراء
قل للمساكين أهل الشعر يا تعب الأ ... فكار إن لم يصبهم منه إثراء
هذي الملوك ملوك الأرض هل أحد ... منهم على سنن المعروف مشاء
كم قد مدحنا فما أجدت مدائحنا ... لأنهم إنما يعطون من شاؤا
ما للقوافي إذا أقوت معاهدها ... أفي زمانك يوهى الشعر إقواء
من ذا الذي من مقام الذل ينهضها ... إن نالها بنعال الذل إيطاء
أف لها خطة يشقى ملابسها ... ضاقت بصاحبها للأرض أرزاء
وحرفة أزجيت فينا بضاعتها ... فربح صاحبها فقر وإكداء
أيها أغث مستغيثا أنت قط له الم ... رجوان مسه بأس وضراء
وله غير ذلك مما أوردت منه كثيرا في كتابي النفحة وكانت وفاته بصنعا في صفر سنة تسع وسبعين وألف ودفن غربي القصر السعيد(1/334)
؟السيد حسن بن علي بن الحسن بن محمد بن الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن محمد ابن عيسى النعمى الحسني من فضلاء الزمن وأدبائه وعلمائه وشعرائه ولد بصنعا وبها نشأ وقرأ القرآن وأخذ عن والده علوما جمة وقويت في طلب العلوم همته وله نظم فاخر منه ما كتبه إلى القاضي الناصر بن عبد الحفيظ المهلا نائبا عن السيد جمال الإسلام محمد بن صلاح يتشوق إليه بقوله
ألا بالله يا نفس الخيال ... اعدلي ذكر سالفة الليالي
وأتحفني بذكر أهيل نجد ... وما قد مر في تلك الخلال
فإني إن ذكرت زمان وصلى ... وما قد مر من حسن اتصالي
بمن أهواه في عيش خصيب ... وأيام حلاها قد حلالي
أكاد أذوب من ولهي عليه ... وأضرب باليمين على الشمال
واصبو للربوع وساكنيها ... وأبقى في افتكار واشتغال
وأرجو الله يجمعنا قريبا ... بذات النفس لا طيف الخيال
ونقضى للصبابة والتصابي ... لبانات التواصل والوصال
وبعد فحث يا حادي المطايا ... قلوصك باهتمام واحتفال
وسر عجلا هديت ولا تأنى ... وجوزها الحضيض مع الرمال
وأطلعها إلى الجبل امتثالا ... وحط الرحل في بلد بهالي
أخلاء وأحباب وأهل ... وأصحاب علوا رتب الكمال
وفيهم ناصر الدين المرجى ... لحل المشكلات من السؤال
تراه مذ نسا كلفا بجمع ... لآثار النبي وخير آل
وإن أملى تدفق مثل بحرتدفق بالجواهر واللآلي
ففي المعنى وفي المغنى عظيم ... جليل في المقال وفي الفعال
حباه الله منه بكل خير ... وفضله على كل الرجال
وأرجو الله يحبوني قريبا ... بأن أضحى وعزمته قبالي
ومن شعره أيضا قوله يخاطب السيد مساعد الحسني وقد قدم من مكة واليا على عتودوبيش وأعمالها بأمر الشريف زيد بن محسن
شمس المحاسن قد لاحت من الحجب ... فأشرق الكون نورا غير محتجب
وقد بسمن ثغور الشعب من عجب ... وماست القضب فوق الكثب من طرب
وغنت الورق في أفنانها طربا ... والزهر يفتر عن طلع وعن حبب
نسل الذين سما في المجد مفخرهم ... حتى علا فوق هام السبعة الشهب
مساعد الاسم ميمون الصفات ومن ... بسقن أعراقه من مغرس الأدب
صافي النضار وميمون الفخار وعلوي الن ... جار وسامي النفس والرتب
لم يعرف المجد إلا من أبوته ... مورثا ما حواه عن أب فأب
أهلا وسهلا أقر العين مقدمكم ... ومرحبا يا سليل السادة النجب
تعطرت أرضنا واخضر يابسها ... وافتر مبسمها عن لؤلؤ شنب
وماس مخلافنا في روضه وزها ... تيها على الغوطة الغراء مع حلب
وفاح منه شميم الورد وابتهجت ... منه النفوس لمرأى البدر في الكثب
وافيت للعدل فيما قد ندبت له ... لله منتدبا من خير منتدب
ما كان ذا الملك المنصور منتضيا ... من غمد دولته إلا لذي شطب
لا يبرح اليمن والتوفيق خادمه ... ولا برحت لجمع الشمل والنسب
وفقت في كل ما قد رمت مرتقبا ... مراتب العز والعلياء والحسب
واسلم ودم في نعيم لا يكدره ... صرف الزمان بما يبدى من النوب(1/335)
وكانت وفاته بمكة في مستهل المحرم سنة ثلاث وستين وألف ودفن بالشبيكة بالقرب من تربة السيد العيدروس والنعمى نسبة إلى جدلهم اسمه نعمة وهؤلاء سادة أشراف بيت علم وفضل وأدب وهم من ذرية الحسن المثنى ومقامهم بجهة صبيا والمشهور منهم الآن آل محمد بن عيسى وآل أخيه أحمد بن عيسى وصاحب الترجمة من ذرية محمد بن عيسى وأما هذا الذي يجيء بعده وأخوه محمد فهما من ذرية أحمد بن عيسى والله تعالى أعلم ؟؟السيد حسن بن علي بن حفظ الله بن عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن أحمد بن عيسى النعمى الحسني السيد العلامة ابن محمد بن سليمان بن محمد بن سالم بن يحيى ابن مهنا بن سرور بن نعمة بن فلتية بن حسين بن يوسف بن نعمة بن علي بن داود بن سليمان بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض ابن الحسن المثنى ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ذو المحامد الساميه والمكارم العاليه بدر المحاسن الصاعدة العليه ومصباح العترة النبويه وحجة الأسرة من العصابة الفاطميه من انحطت لمعاليه المشيدة طوالع الشهب وقصرت عن أياديه المديدة هوامع السحب ونطقت بمفاخره العديدة الآثار والكتب واحد الكملاء الفضلاء الذين تبوؤا من الطاعات دارا واتخذوا روضة الجمعة والجماعات سكنا وقرارا وجعلوا أردية الفضل وأبنية الكرم والبذل شعارا ودثارا ولد سنة تسع وعشرين وألف بالدهنا من أعمال صبيا وبها نشأ وأخذ عن السيد العلامة علي بن الحسن النعمى وغيره وبرع في العلوم الشرعية والمحاضرات الأدبية وله أشعار رائقة بديعة منها ما كتبه لعلي بن الهادي المنسكي معتذرا إليه في إبطاء كتبه عنه وهو قوله من كتاب
ما بعد كتبي عن الأحباب نسيان ... وقطع وصلى لهم والله سلوان
أو سلوة بسواهم لا وحقهم ... إني على عهدهم باق وإن بانوا
وكيف أسلو وفي الأحشاء منزلهم ... والقلب ربع لهم والجسم أوطان
ومن إذا شمت برقا نحو ربعهم ... بلت من الدمع أجفان وأردان
ومن إذا الطيف منهم زارني عجلا ... يشب في مهجتي جمر ونيران
وكتب إليه من فصل وقد جاء من تلقائه الكتاب الكريم الشافي ووصل من نحوه المثال الفخيم الوافي جلت طوالعه المهنئة حنادس الهموم وحلت نوازعه فوارس البلاغة في يوم مشهود له الناس وذلك يوم معلوم فما تنزل به روح لمعانيه من بيان سماء بلاغته إلا لشفاء أوامى ولا تدلى أمين يراعته على بيان بلاغته إلا لبرء أسقامي فما أحلى ما شريت من زلاله المعين شافيا وما ألذ ما ارتويت من برد غيره المغيث صافيا وما أنور ما تبسم به ثغره عن لؤلؤ عتاب كريم وما أعطر ما تنسم به فجره عن غفران من المولى وسلام قولا من رب رحيم وكتب إلى القاضي الفاضل الحسين ابن الناصر المهلى الشرفي قوله متشوقا إليه
لأنت لمدلهم الأمر بدر ... يضئ وشمس معرفة وبحر
وطود مكارم وسبيل حق ... لليل دجى من الشبهات فجر
ونور هدى لمن يعروه جهل ... ويم ندى لمن وافاه فقر
وفضلك شاع في العلماء حتى ... تداول ذكره شام ومصر
بيوت علاك شامخة طوال ... وروض هواك ناضره يسر
وفضلك جاءني فاهتز عطف ... له مني وطاب بذاك صدر
علومك أصبحت عسلا مصفى ... وفي أنهارها لبن وخمر
وحور حسانها متبخترات ... تدور بشأنها ولهن نشر
واشبه بالنسيم الرطب شيئا ... عتاب فيه للمعتوب عذر
لتأخير الرسائل منك عني ... وذلك بين أهل الود فخر
وأنت حميت نور سواد عيني ... ورق ولاى تحت ولاك حجر
فإن لكم لدى بني المهلى ... ودادا لا يحول ولا يفر
فجدلي يا حسين بحسن صفح ... فمن يعفو له فضل وأجر
عليك تحية وسلام رب ... رحيم ما أنار وضاء بدر
ومما كتب إليه أيضا يتشوق بمروره بمحله
منتظرا لقلب متى وصلكم ... فحالنا شق به الانتظار
والشوق منا لم يزل صاليا ... جوانح القلب بجمر ونار(1/336)
وربعنا تهتز أكنافه ... شوقا إليكم يا خيار الخبار
لا زلتم للحق قوامة ... وفي المعالي قادة والفخار
وقد جعلت الناصر المرتضى ... أباك إذ ذاك الصفي النضار
معتصما من هجركم سابقا ... وملجأ من مثله مستجار
فراجعه القاضي بقوله
يا بدر أفق في الليالي أنار ... ومن لأفلاك المعالي أدار
يا رافعا دار العلا في الملا ... فداره أضحى رفيع المنار
وساكنا أرضا فأضحت به ... غراء بيضاء كشمس النهار
ومنع السودد والمجد في ... دار له صارية خير دار
وافى إلينا النظم كاللؤلؤ المن ... ظوم في حوراء فيها يحار
فهو لقلبي وفؤادي شفا ... وليميني ويساري يسار
وله غير ذلك وكانت وفاته في رجب سنة تسع وسبعين وألف الشيخ حسن بن عمار بن علي أبو الإخلاص المصري الشرنبلالي الفقيه الحنفي الوفائ كان من أعيان الفقهاء وفضلاء عصره ومن سار ذكره فانتشر أمره وهو أحسن المتأخرين ملكة في الفقه وأعرفهم بنصوصه وقواعده وأنداهم قلما في التحرير والتصنيف وكان المعول عليه في الفتاوى في عصره قرأ في صباه على الشيخ محمد الحموي والشيخ عبد الرحمن المسيري وتفقه على الإمام عبد الله النحريري والعلامة محمد المحبي وسنده في الفقه عن هذين الإمامين وعن الشيخ الإمام علي بن غانم المقدسي مشهور مستفيض ودرس بجامع الأزهر وتعين بالقاهرة وتقدم عند أرباب الدولة واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به منهم العلامة أحمد العجمي والسيد السند أحمد الحموي والشيخ شاهين الارمناوى وغيرهم من المصريين والعلامة إسماعيل النابلسي من الشاميين واجتمع به والدي المرحوم في متصرفه إلى مصر وذكره في رحلته فقال في حقه والشيخ العمدة الحسن الشرنبلالي مصباح الأزهر وكوكبه المنير المتلالى لو رآه صاحب السراج الوهاج لاقتبس من نوره أو صاحب الظهيرة لاختفى عند ظهوره أو ابن الحسن لأحسن الثناء عليه أو أبو يوسف لأجله ولم يأسف على غيره ولم يلتفت إليه عمدة أرباب الخلاف وعدة أصحاب الاختلاف صاحب التحريرات والرسائل التي فاقت أنفع الرسائل مبدى الفضائل بإيضاح تقريره ومحيي ذوي الأفهام بدر غرر تحريره نقال المسائل الدينية وموضح المعضلات اليقينية صاحب خلق حسن وفصاحة ولسن وكان أحسن فقهاء زمانه وصنف كتبا كثيرة في المذهب وأجلها حاشيته على كتاب الدرر والغرر لمنلا خسر واشتهرت في حياته وانتفع الناس بها وهي أكبر دليل على ملكته الراسخة وتبحره وشرح منظومة ابن وهبان في مجلدين وله متن في الفقه ورسائل وتحريرات وافرة متداولة وكان له في علم القوم باع طويل وكان معتقدا للصالحين والمجاذيب وله معهم إشارات ووقائع أحوال منها أن بعضهم قال له يا حسن من هذا اليوم لا تشتر لك ولا لأهلك وأولادك كسوة فكانت تأتيه الكسوة الفاخرة ولم يشتر بعدها شيئا من ذلك وقدم المسجد الأقصى في سنة خمس وثلاثين وألف صحبة الأستاذ أبي الإسعاد يوسف بن وفا وكان خصيصا به في حياته وكانت وفاته يوم الجمعة بعد صلاة العصر حادي عشرى شهر رمضان سنة تسع وستين وألف عن نحو خمس وسبعين سنة ودفن بتربة المجاورين والشرنبلالي بضم الشين المثلثة مع الراء وسكون النون وضم الباء الموحدة ثم لام ألف وبعدها لام نسبة لشبرا بلولة وهذه النسبة على غير قياس والأصل شبرا بلولى نسبة لبلدة تجاه منوف العليا بأقليم المنوفية بسواد مصر جاء به والده منها إلى مصر وسنه يقرب من ست سنين فحفظ القرآن وأخذ في الاشتغال رحمه الله تعالى(1/337)
السيد حسن بن الإمام القاسم بن محمد بن علي من ملوك اليمن الذين تسنموا من الفخر عالي الذرى ووسع جودهم عامة الورى أما العلم فهو من أفاضل جيله وأما الحلم فهو الناهج لسبيله وأما الحماسة فما اشتقاق الحمس إلا من حماسته ولا السماحة إلا من فائض سماحته وهو الذي فتح اليمن وأخذه لأخويه محمد وإسماعيل من الأتراك وأخرجهم منه وكان مع شجاعته ذا سياسة وتدبير عظيم ومرجع الدولة في عصره إليه والكل من بني القاسم لا يصدرون إلا عن رأيه ويعولون في جميع الأمور عليه وكان مع اشتغاله بالحروب وقيامه بأمر الملك على ضروب يهتز للشعر هز النشوان ولا يشغله شاغل عن المذاكرة في كل أوان فلو رآه ابن الرومي لما قال شعر
ذهب الذين تهزهم مداحهم ... هز الكماة عوالي المران
وكان يبين بجودة دهنه الوقاد الجواد والمقصر في ميدان الإنشاد وكان عظيم العطاء كثير المعروف محبا لفعل الخير وكان يجل أولاد الأولياء والعلماء ويعرف لهم حقهم ولذلك تم له الدست وكان سعيدا في حروبه وما اتفق أنه ركب في جيش إلا وعاد منصورا وبالجملة فكان حسنة في بني القاسم على وجه الزمان ولا يدانيه في شجاعته منهم مدان وأما ما قيل فيه من المدائح فيطول ذكره وهو الذي اختط الجبل المسمى بضوران بضاد معجمة مضمومة فبنى به حصنا مشيدا واختط به مدينة عظيمة وأحيا به أرضا دائرة وغرس بها فواكه فصارت مدينة عظيمة بأسواقها وحماماتها ومساجدها وأمر كل أمير من أمرائه أن يبني بها بيتا فاتبعوا أمره وعمر ما حول المدينة من القرى وكانت وفاته يوم السبت ثاني شوال سنة ثمان وأربعين وألف بمرض ذات الجنب وحصل بموته التعب الشديد لعموم نفعه ورياسته وشجاعته وحسن أخلاقه حتى أنه لما انتصر على الأروام في زبيد كان يغريه المجالسون بالإيقاع بهم لما صدر منهم من حربه فلم يؤثر فيه العذل بل عفا عنهم وكساهم وأحسن إليهم وكانت مدة إمارته بعد خروجه من صنعاء نحو خمسة عشر عاما ودفن بضوران وبنى عليه قبة عظيمة إلى جانب مسجده الذي أسسه وتممه ولده محمد وأجرى المياه هنالك إليه وجاء تاريخ وفاته حسن المخلد في الجنان رحمه الله تعالى(1/338)
؟حسن باشا ابن محمد باشا الوزير ابن الوزير نائب الشام قد تقدم طرف من خبره في ترجمة السلطان أحمد وعلينا أن نفصل أمره هنا فنقول ولى في مبدا أمره كفالة حلب ودخلها ولم يلتح أولم تكمل لحيته ثم ولى بعدها كفالة الشام في سنة خمس وثمانين وتسعمائة وعزل عنها وولى ولاية أناطولى ثم ولاية أرزن الروم وكان الوزير الأعظم فرهاد باشا سردارا على العساكر العثمانية لغزاة ولاية العجم فاجتمع به في ولايته المذكورة ووقع بينهما أمور طويلة بسبب أن فرهاد باشا كان بنى بعض القلاع في ديار الشرق ورفع حساب كلفته عليها في دفتر وطلب من بقية الأمراء إمضاء ذلك الدفتر فمنهم من أمضاه ومنهم من رده وكان صاحب الترجمة ممن رده وعرض إلى السلطان أن المبلغ الذي رفع حسابه فرهاد باشا ليس كما ذكر بل زاد على جناب السلطنة شيئا كثيرا فنما إليه الخبر وكان مقيما بأرزن الروم حينئذ فأرسل إليه وعاتبه على ما بلغه عنه فدار بينهما كلام في أثناء المعاتبة أدى إلى نكايات وصمم كل منهما على قتل الآخر بالمواجهة فدخل من كان في المجلس بينهما بادر صاحب الترجمة إلى الرحيل فرحل من حينه إلى طرف دار السلطنة وكان يقال أنه اشترى تفتيش السردار المذكور بأحمال من الذهب فوصل الخبر إلى السردار فقبل ذلك خوفا من التفتيش وحدث بعض الثقات أنه قبل وصوله إلى قسطنطينية رأى رجل من قواد السلطنة والد صاحب الترجمة الوزير محمد باشا في النوم فقال له الوزير اذهب إلى جميع أركان الدولة وأوصهم بحسن ولدي وقل لهم إني أوصيهم به فقام ذلك القائد متعجبا ودار على أرباب الدولة وذكر لهم الواقعة فتعجبوا ولم يعلموا السبب في الرؤيا المذكورة لأنهم لا علم لهم بما صدر بين حسن باشا وفرهاد ونما خبر الرؤيا حتى وصل إلى السلطان مراد بن سليم ولما وصل حسن باشا ماجت لقدومه الدولة واضطربت وعلم الناس أن والده كان من أصحاب الأحوال وأقبل السلطان عليه وولاه نيابة الشام ثانيا وكان ذلك في حدود سنة سبع وتسعين وتسعمائة واستمر بها حاكما مدة تزيد على سنتين وسار بها سيرة حسنة ووقع في زمنه في سنة ثمان وتسعين ثلوج عظيمة بدمشق ودامت نحو أربعين يوما وسقط منها بيوت كثيرة على أقوام هلكوا تحت الردم فأمر أن لا يكشف على أحد منهم ونادى كل من مات عنده أحد تحت الهدم يدفنه ولا يشاور عليه ثم عزل وأعيد ثالثا ولم يسبق لأحد غيره من أمراء آل عثمان أن يتولى الشام ثلاث مرات ومن عجيب ما وقع في أيامه حادثة محمود البواب المعروف بتكرى بلمزاى الذي لا يعرف الرب وهذه الحادثة شهيرة ولم يبق أحد من المؤرخين وأصحاب المجاميع إلا ساقها وفيها طول وملخصها أن شخصا يقال له محمود بن يونس بن شاهين الأعور كان قد هلك في ذي القعدة لسنة ثمان وثمانين وتسعمائة بدمشق واتفق أن شخصا يقال له يوسف السقا من الأجناد الدمشقيين تزوج بزوجة الأعور وذهب إلى الديار الرومية وأنهى عن الشيخ شمس الدين محمد بن خطاب وولده القاضي كمال الدين المالكي خليفة الحكم بدمشق والقاضي شمس الدين محمد الرجيحى الحنبلي وعلاء الدين ابن الخشاب الترجمان إنهم أخذوا جميع مال محمود الأعور وجملة ما خلفه بعد موته ثلاثة وثلاثون ألف دينار ذهبا واقتسموه وقد كان حق بيت المال لموته عن غير وارث وقرر أنهم أثبتوا له ولدا صلبيا لا أصل له فعين بمجرد إنهائه محمود البواب المذكور وجاء وصحبته يوسف السقا المذكور وقبض على القضاة المذكورين بعد أن هرب شمس الدين الخطابي إلى طرابلس الشام وأقام في بيت رجل من أصحابه فسار البواب وقبض عليه وأتى به إلى دمشق وعلى رأسه قلنسوة نصراني وفي رجليه القيود وفي عنقه الغل ودخل به على هذه الهيئة والناس ترمقه وأما القاضي الرجيحى فإنه هرب إلى مصر وأقام بها مستخفيا ووضع الذين قبض عليهم من هؤلاء في الزناجير والقيود وأخذهم مكبلين بالحديد إلى ديار الروم غير أنه لم يدخل بهم دار السلطنة خشية من مفتيها لئلا يسعى في خلاصهم ثم قفل بهم جميعا إلى دمشق والزناجير في رقابهم على ملأ الأشهاد وشرع يأخذ جميع ما يملكونه من الأقمشة والأموال والعقار والغلمان حتى سلبهم الجميع وعاقبهم معاقبة بالغة وقبض في أثناء ما فعل على غالب أعيان دمشق وشيوخها منهم شيخ الإسلام إسماعيل النابلسي والشيخ محمد الحجازي ومن رؤساء الصوفية الشيخ أبو الوفا العقيبي العمري واغتصب من تجارها(1/339)
المشاهير وبعض أهالها الضعفاء مالا جزيلا أناف على مائتى ألف دينار ومن التحف والأقمشة ما لا يحصى ثم قبض على نائبي الحكم العزيز بالمحكمة الكبرى القاضي شمس الدين محمد بن جانبك الشافعي والقاضي عبد الله ابن الرملي المالكي وضم معهما القاضي نجم الدين بن أبي الفضل الشافعي وابن عمير الصالحي وأصر على التعدي وإضرار الناس مدة تسعة أشهر وطفق يتعاطى المنكرات وتوارى منه علماء دمشق وأعيانها خيفة منه فكتب جدي القاضي محب الدين رسالتين وقصيدتين وأرسل كلا منهما واحدة إلى المفتي الأعظم المولى محمد بن محمد بن إلياس بن جوى والأخرى إلى المولى سعد الدين معلم السلطان مراد بما فعل البواب مفصلا فعرضت الرسالتان على السلطان مراد بواسطة الوزير الأعظم سياغوش باشا فخرج الحكم بقتله بعد الإثبات عليه وورد الحكم إلى دمشق ونائبها صاحب الترجمة وقاضي القضاة بها المولى علي بن المولى سنان فجمع الوزير أعيان الشام بأسرهم وكان قاضي القضاة بالمجلس وأخرجوا من كان في حبس البواب على صورتهم بالقيود والأغلال في أعناقهم ولما أحضر البواب إلى الديوان المزبور أمر الوزير بنزع كسوة السلطان عنه وألبس قلنسوة نصراني وأوقف في حاشية الديوان وادعى عليه بعض المحبوسين من القضاة وأرباب المناصب وقامت عليه البينة بتحقير العلماء وازدرائهم فحكم عليه القاضي بالقتل لثبوت الردة عليه وكان ذلك في بعض أيام التشريق والأرجوحة مركبة على باب دار الإمارة على قاعدة الاروام في تركيبها أيام العيد فأنزلوه فلما تحقق أنه مقتول لا محالة طلب المهلة إلى أن يغتسل كأنه كان جنبا فأمهلوه حتى اغتسل في مسجد عيسى باشا الذي على باب دار الإمارة وصلى ركعتين وصلبوه في خشب الأرجوحة وكثر سرور الناس بقتله ولشعراء ذلك العصر في هذه الحادثة قصائد وتواريخ لو ذكرتها مستوفاة لبلغت إلى مجلدة ولما عزل صاحب الترجمة عن الشام في هذه المرة سافر إلى دار السلطنة وتقلبت به الأحوال إلى أن صارحا كما في بلاد الروم واستمر هناك ونسبوا إليه في حكومته أمورا لا أصل لها فورد حكم سلطاني بقتله فلم يسلمه العسكر للقتل ثم حضر بعد ذلك إلى طرف السلطنة وبحث عن أصل الحكم الذي ورد بقتله فلم يجد له أصلا وإنما هو منسوب إلى صنع بعض النساء ولم يزل يطلب التفلت من قسطنطينية حتى أعطى ولاية بغداد وما يليها من بلاد عراق العرب فذهب إليها بعسكر جرار ودخلها بعنوان عجيب وأطهر فيها من الحجاب ما لا يعهد لمثله ولم يزل بها حاكما حتى حدثته نفسه بحفر نهر أخذه من دجلة فأجراه يسقي أماكن كثيرة قيل إن محصولها يزيد في السنة على عشرين ألف دينار ذهبا وحدث بينه وبين العسكر العراقي أمور أدت إلى أن عرضهم على الحضرة السلطانية فأمروه بالخروج من بغداد فخرج منها خائفا من شق العصا وأقام بالموصل أياما ثم نازلهم منازلة المحارب إلى أن جاءه الأمر بالانفصال بعد أن نهبت جماعته فتوجه إلى ديار بكر فبينما هو فيها وإذ بالأمر السلطاني جاءه أن يصير اصفلارا على العساكر ويذهب لقتال عبد الحليم اليازجي الباغي الناجم في نواحي سيواس هو والطائفة السكيانية فتوقف في نواحي ديار بكر إلى أن اجتمع عليه العساكر من كل ناجية ولما تحقق قدومهم إلى نواحي الفرات تقدم هو أيضا واجتمع بهم في مدينة عينتاب وهناك عرض العساكر كلها واستدعى الشاميين وكان أميرهم إذ ذاك السيد محمد الأصفهاني ورجفوا إلى جانب الخارجي فورد الخبر بأن حاجى إبراهيم باشا ورد بالعساكر الرومية وإنه بادر بهم إلى لقاء عبد الحليم وكسره عبد الحليم كسرة شنيعة وغنمه جميعه فاستقبح الناس مبادرته إلى ذلك قبل استكمال العساكر وطمع العدو وكان عبد الحليم يقول بقي علينا لقاء هذه القافلة يشير إلى حسن باشا وعساكره ولم يزل العسكر السلطاني يتقرب قليلا قليلا واليازجي يقابلهم إلى أن التقى الجيشان في مكان من نواحي سيواس يقال له البستان فاستند اليازجي إلى ذيل جبل ووضع المدافع الكبيرة التي كان أخذها من عسكر إبراهيم باشا حين كسره وصف رجاله وضرب المدافع في وجه العسكر فلم تصب أحدا وصدم عسكر الأكراد وعسكر ارزن الروم ووان إلى أن أرجعهم إلى مواقفهم وحسن باشا واقف والألوية تخفق فوق رأسه وكان الأمر قد سبق لعسكر الشام بأن يتواقفوا في لقاء الخارجي ويكونوا كمينا فلما تراجعت العساكر السلطانية بادر الشاميون(1/340)
بالتكبير ودهموا عسكر اليازجي فردوهم على أعقابهم ووضعوا فيهم السيف فما مضت لحظة من النهار إلا وقد انكسر عسكر العدو وولوا ولم يزل عبد الحليم هاربا إلى أن استقر بجبال جانبك واقصر العساكر عن طلبه واجتمعوا على السردار في نواحي قونية ولما تحققوا مكان عبد الحليم عطفوا السير نحوه وسارت وراءه العساكر كلها إلا شرذمة من عسكر الشام ولما قرب السردار من مقر عبد الحليم أرسل إليه عسكرا كثيفا فلحقوه في بعض الجبال فواقعهم وكان السردار عليهم حينئذ عثمان باشا ابن باقي بيك التبريزي الأصل وهو من أقارب شيخ الإسلام المولى سعد الدين معلم السلطان فتقدم إلى أن توسط هاتيك الجبال فبينما هو عند الصباح وإذ بقوم قد وقع بينهم وما عرفهم فتحقق الحال فإذا هم جماعة عبد الحليم فقبضوا عليه وأخذوه أسيرا إلى عبد الحليم فأكرمه وجلا ما كان فيه من الوهم واستمر عنده مقدار أربعين يوما مقيما حتى شيعه إلى جانب السردار ولما قدم واجتمع به أظهر له العداوة وآلمه بالكلام ظنا منه أن ذهابه إلى عبد الحليم كان بصنعه وصعب ذلك على عثمان باشا فخرج في ليلة مستخفيا من العسكر إلى طرف السلطنة يسير الليل والنهار حتى وصل إلى باب الدولة واختفى عند قدومه حتى طلبه السلطان وسأله عن اليازجي فقال يا مولانا السلطان أما اليازجي فإنه أقسم علي بأنني إذا وقعت في أعتابكم أقول لكم يطلب أن يعطى منصبا في ولاية الروم ويتكفل بجهاد الكافرين ويعطى أخوه حسن صنجق جروم في بلاد سيواس وأما أنا فالذي أعلمه من حاله أنه خائن لا يثبت على قول وإنه يقصد بما ذكره من الطلب أن يرفع عنه السردار ويعود إلى العصيان فعند ذلك صدق السلطان كلامه وأرسل إلى السردار رجلا من خواصه المقربين يقال له قيطاس كتخدا وأرسل معه من جانب السلطان تجملات ورسالة بخط يد السلطان في بقائه على السردارية وفي أثناء ذلك مات عبد الحليم في قصبة ساميسون واجتمع البغاة بعده على أخيه حسن وجاء إلى محاربة الوزير صاحب الترجمة على حين غفلة ليلة عيد الأضحى إلى توقات بعد أن كان نهب أسبابه وتجملاته القادمة عليه من آمد وكان أرسل خمسمائة رجل من جماعته ليأتوا إليه بها فخرج عليهم حسن ونهبهم وقتل الجماعة المعينين وكان معهم حظاياه وجواريه فلم يتعرض لهن بل جهزهن إليه بالأمانة والصيانة وطلبه للمقابلة فخرج إليه حسن باشا ومن معه من العساكر فمما ثبتوا قدام البغاة لحظة حتى كسروا وهرب حسن باشا إلى قلعة توقات ورفعوه إليها بالحبال وهجم العدو وجنوده يحفها وما زال على منازلتها حتى قتل حسن باشا داخل القلعة على غير يده فسار حسن إلى قره حصار وتمام قصته وموته ذكرته في ترجمة السلطان أحمد فارجع إليه هناك وكان سبب قتل حسن باشا صبيا من جماعته يقال له درى كان قد نال منه مقاما فضرب صبيا من صبيان خزينة حسن باشا فنزل الصبي المضروب إلى المدينة وخالط البغاة إلى أن امتزج بهم وحكى لهم ما صدر من درى في ضربه له وأنه جاء مصادقا لهم فقالوا له إن كنت صادقا في مقالك فأين يجلس الوزير من القلعة فقال لهم انه يجلس دائما في هاتيك الغرفة وراء ذلك الدفوف فجاء رجل من البغاة وجلس تحت تلك الغرفة التي عينها له الصبي وفي يده بندقية فيها رصاصتان فضرب بها فجاءت للقضاء المقدر تحت إبط حسن باشا فمات لساعته واستمر مستندا إلى الجدار لا يعلم أحد حاله من الصباح إلى الظهر والناس يظنون أنه حي ساكت فبعد ذلك أشرفوا عليه فوجدوه قد مات وهو يابس جالس فغسلوه ودفنوه وكان ذلك في سنة اثنتى عشرة بعد الألف رحمه الله تعالىلتكبير ودهموا عسكر اليازجي فردوهم على أعقابهم ووضعوا فيهم السيف فما مضت لحظة من النهار إلا وقد انكسر عسكر العدو وولوا ولم يزل عبد الحليم هاربا إلى أن استقر بجبال جانبك واقصر العساكر عن طلبه واجتمعوا على السردار في نواحي قونية ولما تحققوا مكان عبد الحليم عطفوا السير نحوه وسارت وراءه العساكر كلها إلا شرذمة من عسكر الشام ولما قرب السردار من مقر عبد الحليم أرسل إليه عسكرا كثيفا فلحقوه في بعض الجبال فواقعهم وكان السردار عليهم حينئذ عثمان باشا ابن باقي بيك التبريزي الأصل وهو من أقارب شيخ الإسلام المولى سعد الدين معلم السلطان فتقدم إلى أن توسط هاتيك الجبال فبينما هو عند الصباح وإذ بقوم قد وقع بينهم وما عرفهم فتحقق الحال فإذا هم جماعة عبد الحليم فقبضوا عليه وأخذوه أسيرا إلى عبد الحليم فأكرمه وجلا ما كان فيه من الوهم واستمر عنده مقدار أربعين يوما مقيما حتى شيعه إلى جانب السردار ولما قدم واجتمع به أظهر له العداوة وآلمه بالكلام ظنا منه أن ذهابه إلى عبد الحليم كان بصنعه وصعب ذلك على عثمان باشا فخرج في ليلة مستخفيا من العسكر إلى طرف السلطنة يسير الليل والنهار حتى وصل إلى باب الدولة واختفى عند قدومه حتى طلبه السلطان وسأله عن اليازجي فقال يا مولانا السلطان أما اليازجي فإنه أقسم علي بأنني إذا وقعت في أعتابكم أقول لكم يطلب أن يعطى منصبا في ولاية الروم ويتكفل بجهاد الكافرين ويعطى أخوه حسن صنجق جروم في بلاد سيواس وأما أنا فالذي أعلمه من حاله أنه خائن لا يثبت على قول وإنه يقصد بما ذكره من الطلب أن يرفع عنه السردار ويعود إلى العصيان فعند ذلك صدق السلطان كلامه وأرسل إلى السردار رجلا من خواصه المقربين يقال له قيطاس كتخدا وأرسل معه من جانب السلطان تجملات ورسالة بخط يد السلطان في بقائه على السردارية وفي أثناء ذلك مات عبد الحليم في قصبة ساميسون واجتمع البغاة بعده على أخيه حسن وجاء إلى محاربة الوزير صاحب الترجمة على حين غفلة ليلة عيد الأضحى إلى توقات بعد أن كان نهب أسبابه وتجملاته القادمة عليه من آمد وكان أرسل خمسمائة رجل من جماعته ليأتوا إليه بها فخرج عليهم حسن ونهبهم وقتل الجماعة المعينين وكان معهم حظاياه وجواريه فلم يتعرض لهن بل جهزهن إليه بالأمانة والصيانة وطلبه للمقابلة فخرج إليه حسن باشا ومن معه من العساكر فمما ثبتوا قدام البغاة لحظة حتى كسروا وهرب حسن باشا إلى قلعة توقات ورفعوه إليها بالحبال وهجم العدو وجنوده يحفها وما زال على منازلتها حتى قتل حسن باشا داخل القلعة على غير يده فسار حسن إلى قره حصار وتمام قصته وموته ذكرته في ترجمة السلطان أحمد فارجع إليه هناك وكان سبب قتل حسن باشا صبيا من جماعته يقال له درى كان قد نال منه مقاما فضرب صبيا من صبيان خزينة حسن باشا فنزل الصبي المضروب إلى المدينة وخالط البغاة إلى أن امتزج بهم وحكى لهم ما صدر من درى في ضربه له وأنه جاء مصادقا لهم فقالوا له إن كنت صادقا في مقالك فأين يجلس الوزير من القلعة فقال لهم انه يجلس دائما في هاتيك الغرفة وراء ذلك الدفوف فجاء رجل من البغاة وجلس تحت تلك الغرفة التي عينها له الصبي وفي يده بندقية فيها رصاصتان فضرب بها فجاءت للقضاء المقدر تحت إبط حسن باشا فمات لساعته واستمر مستندا إلى الجدار لا يعلم أحد حاله من الصباح إلى الظهر والناس يظنون أنه حي ساكت فبعد ذلك أشرفوا عليه فوجدوه قد مات وهو يابس جالس فغسلوه ودفنوه وكان ذلك في سنة اثنتى عشرة بعد الألف رحمه الله تعالى(1/341)
الأمير حسن بن محمد الأمير الجليل أبو الفوارس المعروف بابن الأعوج أمير حماة أوحد أمراء الدهر وعين باصرة الأدب وشمس فلك المجد قد جمع الله له بين أدوات المحاسن ورقاه إلى أعلى ذروة المفاخر مع أدب بارع وحسب تارع وطيب أرومة وزكاء جرثومة وكان في الكرم غاية لا تدرك ومما قال فيه بعض الشعراء
حوى قصبات السبق في حومة العلا ... نعم هو للسباق مازال يسبق
متى تبرز الأيام مثل وجوده ... جوادا بما في كفه يتصدق
لقد زين الدنيا جمالا كماله ... فمنه على وجه البسيطة رونق
ولد بحماة ونشأ بها وهو من بيت أصيل الرياسة عريق النسب من الجهتين أما من جهة أبيه فهو أمير ابن أمير ورث السيادة كابرا عن كابر وأما من جهة والدته فهي ابنة شيخ الإسلام محمد بن سلطان العارفين الشيخ علوان الحموي صاحب الكشف والكرامات ونشا هو في صدر العز بنعم جزيلة فمال طبعه نحو الكمال فقرأ على علماء بلده علوم العربية والفنون الأدبية وعاشر الأدباء وجالس الشعراء ولما شاع خبره شد الرحال إليه الأدباء من الأقطار واجتمع عنده منهم ما لم يجتمع عند أحد من أمراء عصره وسافر إلى الروم في أيام السلطان مراد بن سليم شاه واجتمع بمعلمه المولى سعد الدين بن حسن جان ومدحه بعدة قصائد فأكرمه ومدحه للسلطان وجمعه به فولاه ولاية حماة ورجع إليها فأقبل عليه الشعراء من كل مكان وأقام حاكما بها ثلاث سنين ثم عزل وأقام بمنزله ثم بعد مدة ولى إمارة معرة النعمان وتوجه إليها بعشائره وتكرر له العزل عنها وعن حماة والتولية لهما وعانده الدهر في بعض الأحيان وكان صبورا على نوائبه وكان في جميع حالاته مشتغلا بالأدب وكان ينظم الشعر فيأتي فيه بكل معنى رائق ولفظ شائق مما يليق أن يعلق تميمة في جيد الزمان وينظم فريدة في عقد الحسن والإحسان فمن ذلك قوله في الغزل
آه من لي بظبية فتانه ... وهي تلهو ومهجتي ولهانه
ذات ثغر كأنه اللؤلؤ الرط ... ب حكى كفها وحاكت بنانه
هي في القد غصن بان ولكن ... من رأى القد قال ذي رمانه
يا عجيبا منها تظن سلوا ... من فؤادي وتشتكي سلوانه
يا عجيبا إني أريد رضاها ... وهي في حالة الرضى غضبانه
لست أخشى في حبها من عذول ... فدعوه فينا يطيل لسانه
حاصل الأمر أن يقال فلان ... طار صيتا بحبه لفلانه
أناصب بحبها مستهام ... ملك الحب سره وعيانه
لست أنسى لما مضى ورقيبي ... عينه من يدر الكرى ملآنه
وقضينا الوصال رشفا وضما ... بقلوب هيمانة حيرانه
وأراد الجموح طرف التصابي ... فلوينا عما أراد عنانه
وملكنا نفوسنا برضاها ... وزجرنا بعفة شيطانه
فدع العاذلين ينقلن عني ... آه من لي بظبية فتانه
ومن شعره قوله من جملة قصيدة يتشكى فيها من الزمان وما لاقى من الألم في وطنه
حادي العيس سر بغير ارتياب ... ففؤادي قد حن للاغتراب
لا أريد الأوطان والذل فيها ... واضع طوقه بأعلى الرقاب
ولو أني قضيت فيها سرورا ... في شبابي لم أكتئب لمصابي
بل تولت نضارة العز مني ... بين عيش ضنك وفرط اكتئاب
فالفرار الفرار من دار هون ... تركتني أشكو زمان الشباب
وإذا الضيم ما أقام فأحبب ... بجياد تمر مر السحاب
لو يكن في مقام ذي اللب فضل ... قطع السيف وهو ضمن القراب
أدرك المسك بالتنقل شانا ... وهو في أرضه دوين التراب
فالفتى الشهم من إذا شام ضيما ... لا يبالي بفرقة الأحباب
كيف مكثي ما بين أظهر قوم ... عهدهم في ثباته كسراب
جارهم إن غدا عزيزا عليهم ... كان كالشاة في مقيل الذئاب
هم إذا صادروا أسود شراء ... وإذا حاربوا فدون الكلاب(1/342)
كم أناس من دارهم أخرجوهم ... ليسومونهم بسوء العذاب
إن فرعون ثم نمرود كانا ... دونهم في اختراع شؤم العقاب
ومساويهم التي مثل هذا ... عدد الرمل والحصى والتراب
رب يا من أباد عاد وأودى ... بثمود ذوي النفوس الصعاب
لا تذر منهم على الأرض شخصا ... إنهم جاحدون نص الكتاب
وانتقم مسرعا وعجل عليهم ... ليس فينا صبر ليوم الحساب
ورأيت بخط الأديب إبراهيم رامي كثيرا من أشعار صاحب الترجمة وذكر في بعض أوراقه ومن محاسن ما اتفق له في الشعر وذلك أن الأمير موسى بن الحرفوش أمير بعلبك عزم على الحرب مع الأمير علي بن سيفا في ناحية غرير وقتل ابن سيفا جماعة الأمير موسى فكتب للأمير موسى في ابتداء القتال هذين البيتين مع كتاب أرسله إليه يستحثه على القتال فقال
غرير طور ونار الحرب موقدة ... وأنت موسى وهذا اليوم ميقات
ألق العصا تتلقف كل ما صنعوا ... ولا تخف ما حبال القوم حيات
قلت وقد رأيت البيتين في تاريخ الصلاح الصفدي في ترجمة الأشرف منسوبين للكمال ابن النبيه ونظمهما عندما نازل موسى الأشرف دمياط وصدورهما هكذا دمياط طور إلى آخر البيتين وللأمير حسن وكتب بهذه الأبيات إلى جدي القاضي محب الدين في صدر كتاب وكان سمع بوفاة المولى سعد الدين بن حسن جان المذكور أنفا
فجئت بنعي لو أبثك بعضه ... لأيقنت أن الدهر قد عدم الرشدا
وليس يقر المرء عند سماعه ... ولو كان قلب السامع الحجر الصلدا
وله أنه قد مر يوما بيذبل ... ورضوى لهذا الرزءد كهما هدا
أظنك ذقت الحزن مما سمعته ... فإني لم آلوك في كشفه جهدا
على أنني أرجو بقاء محمد ... وأسعد إن غال الزمان لنا سعدا
وقوله في حلاق سيئ الخلقة
ألا رب حلاق بليت بشره ... فأثر في رأسي الجراحة والبوسا
أنامله كالطور من فوق جبهتي ... ورأسي كليم كلما حرك الموسا
واستأذن عليه بعض ندمائه الأدباء بهذين البيتين
على الباب المعظم عبد رق ... بأنواع اللقا منكم يفوز
يجوز الباب عن إذن كريم ... وإلا فهو شيء لا يجوز
فأنفذ إليه الجواب بهدية سنية
نحيط بعلمكم أنا نشاوى ... وقد جليت لنا بكر عجوز
فإن جوزتم ما نحن فيه ... وإلا فهو شيء لا يجوز(1/343)
ومن غريب ما اتفق له أنه كان من أقربائه شاب يسمى الأمير يحيى وكان بارع الجمال بعيد المنال وكان الأمير حسن يحبه محبة شديدة بمنزلة ولده وكان من المنسوبين إليه رجل من طلبة العلم كردي الأصل يسمى يحيى أيضا وكان عينه معلما للأمير يحيى المذكور يقرئه العلم ويعلمه الأدب فواظب على إقرائه دهرا طويلا وكان الأمير يحيى ساكنا في دار مستقبلة قبالة دار الأمير حسن وكان يتيما فاتفق أن الأمير حسن بنى دارا عظيمة وصرف عليها مالا جزيلا ولما تمت عمارتها وفرش مساكنها صنع وليمة عظيمة ودعا أعيان بلدته وكانت الوليمة ليلة الجمعة فاجتمع أكابر البلدة وكان الأمير يحيى من جملة القوم فسهروا قريبا من ثلث الليل الأخير وباركوا للأمير بالدار وتفرقوا فتوجه الأمير يحيى إلى منزله ونام واستغرق من تعب السهر فلما أصبح الصباح جاء الشيخ يحيى الكردي ودق الباب عليه فخرجت الجارية فقال لها نادي لي الأمير لأقرئه الدرس لأن لي حاجة مهمة أريد المسير إليها فتعجبت الجارية من مجيئه في ذلك الوقت وقالت له إن الأمير أطال السهر في هذه الليلة وهو نائم وإن اليوم يوم الجمعة ومن عادتكم ترك القراءة في الجمع فقال لها لي حاجة مهمة أخاف من التعويق بسببها عن درس غد فرجعت الجارية إلى الدار ونبهت الأمير يحيى فخرج مسرعا إلى الشيخ وتلقاه وسلم عليه وتوجه إلى قضاء الحاجة فلما دخل بيت الراحة تبعه الشيخ وأشهر سكينا ومسكه بعنف وطرحه على الأرض وذبحه وخرج من الدار هاربا يريد الخلاص ولم يكن في الدار إلا الجارية ففطنت للأمير وخرجت خلفه إلى الطريق ونادت بأعلى صوتها يا قوم الشيخ ذبح الأمير يحيى فأدركوه من جميع الجهات وأحاطوا به فقاتل مع الناس قتالا شديدا وقتل ثلاثة رجال ثم ضربه رجل من العوام بحجر كبير على ظهره فسقط مغشيا عليه فمسكوه ثم أحضروه بين يدي الأمير حسن فسأله عن سبب ذلك فلم ينطق بحرف فأمر بإحراقه فجمعوا حطبا وأوقدوه ثم ألقوه في النار فاحترق وعجل بروحه إلى النار والذي يظهر أن قتله له إنما كان عن ولوع وهيام ورأى أنه إذا قتله يقتل به فيخلص مما كان فيه من المشقة والألم ونظم الأمير حسن هذه الوقعة في قصيدة يرثي بها الأمير يحيى وأثبتها برمتها لغرابتها في بابها وتضمنها مثل هذه الواقعة العجيبة وهي قوله
عجبت لمن أمسى يؤمل أن يحيى ... بصفو وربع الأنس قد هده يحيى
هلال قبيل التم وافى محاقه ... وسار إلى الأخرى فأظلمت الدنيا
وغصن ذوى من قبل أن يثمر المنى ... كأن الأماني قاطعات على المنيا
وأصبح روض العيش أغبر يابسا ... وعوض قبرا بعد دوحته العليا
أتاه الردى ممن تربى بفضله ... فقد لج في كفران نعمته بغيا
أقسيم عليه حارسا راعيا له ... وقالوا له رعيا فقال لهم نعيا
ومن وضع الإحسان في غير أهله ... فمن كفه في عنقه وضع المديا
ومن يجعل السرحان للظبي راعيا ... فلا يلم السرحان إن قتل الظبيا
وما هذه الأمثال إلا وسيلة ... أسلى بها قلبا سلاه الجوى سليا
وإلا القضاء الحتم أن حل بالورى ... فأبصرهم أعمى وأحذقهم أعيا
وما لم يكن من جانب الله حافظ ... فلا ترج بالأشياء أن تحفظ الأشيا
فقد يشرق الريق الفتى وهو عونه ... ويبرى الحسام العضب صاحبه بريا
وقد يفجأ الموت الفتى وهو آمن ... أينجو ونار الحرب قد صليت صليا
ويدرك عند اليأس ما العبد طالب ... ويحرم عند الرشد مما له غيا
ألم تر من سموه يحيى تفاؤلا ... سيبقى غداً في الحال رهن أبي يحيى
فويل أمه الثكلى لو أن مصابها ... برضوى دحاه الخطب في أرضه دحيا
تصوره حيا لفرط ذهولها ... وتسأل منه أن يرد لها هديا
تعانقه والعنق يجري لها دما ... أظنت خلوقا حيث لم تملك الوعيا
بكى لبكاها الجو وانهل دمعه ... بتموز شاهدناه يذرى الحيا ذريا(1/344)
وضج جميع الناس ضجة واحد ... له واحد من فقده واظب النعيا
فلو أنه يفدى فدته نفوسنا ... وسيقت له الأرواح في حبه هديا
ولكنما الأقدار إخفاء سرها ... لقد أذهل الأفكار والعقل والرأيا
فإن ناب خطب سلم الأمر للذي ... بحكمته قد أحكم الأمر والنهيا
وصبرا فما الدنيا بدار إقامة ... كأنك بالاحياء قد فارقوا الاحيا
ألم يك في قتل الحسين مواعظ ... لمن رام إنصافا من الدهر أو بقيا
فلو تم شيء كان آل نبينا ... أحق به من سائر الناس في الدنيا
ولكنها دار الإهانة والعنا ... فتعسا لأهليها وخزيا لهم خزيا
تبددهم فتكا ولا يتركونها ... وتسقيهمو سما يظنونه ريا
تسرهم كيما تعن بفعلها ... وتلهيهمو نزرا وتفريهمو فريا
وقد أطلنا الكلام ولولا خوف السآمة لذكرت من محاسن هذا الأمير ونوادره وأشعاره شيئا كثيرا وبالجملة فإنه زينة أمراء عصره ومع شهرته التامة وأدبه الغض لم يذكره أحد من المؤرخين ولم أظفر بشيء من خبره إلا في وريقات بخط إبراهيم رامي وهذا من أعجب العجب وقد ذكر إبراهيم المذكور أن وفاته ليلة النصف من شعبان سنة تسع عشرة وألف ودفن أمام داره بجامع المرابد عند والده وأجداده قال إبراهيم المذكور وأخبرني بعض أفاضل حماة ممن كان ينخرط في سلك ندماء الأمير حسن بن الأعوج قال دخلت عليه في مرضه الذي مات فيه فعند دخولي أقبل بريد من الباب العالي وبشره بإمارة حماة وكان له مدة لم يتولها وناوله من يده منشور الحكومة فالتفت إلى البريد وقد اغرورقت عيناه بالدموع وتنفس الصعداء وقال بصوت ضعيف قضى الأمر الذي فيه تستفتيان قال فدعوت له بطول العمر وسليته عما كان فيه من الاضطراب والألم فتلهف وتفجع وبكى بكاء شديدا ثم مسك يدي وقال أرى الأمر قد آن وقرب الارتحال ولا أرى لي مخلصا بعدما أنا فيه من شدة المرض ثم أنشد بديها لنفسه
لا يحسب الإنسان بعد ذهابه ... مكث الأسى في عشرة وقرين
في الحال يعتاضون عنه بغيره ... ويعود رب الحزن غير حزين
العندليب الورد كان أمامه ... لما قضى غنى على النسرين
ثم فارقته ففي تلك الليلة قضى نحبه ولقى ربه رحمه الله تعالى(1/345)
؟الشيخ حسن بن محمد بن محمد بن حسن بن عمر بن عبد الرحمن الصفوري الأصل الدمشقي الملقب بدر الدين البوريني الشافعي ذكره كثير من المؤرخين وأرباب الآداب وأثنوا عليه وكان فرد وقته في الفنون كلها وكان يحفظ من الشعر والآثار والأخبار والأحاديث المسندة والأنساب ما لم ير قط من يحفظ مثله ويحفظ دون ذلك من علوم أخر منها اللغة والنحو والسير والمغازي ومن آلة المنادمة شيئا كثيرا وألف التآليف البديعة منها تحريراته على تفسير البيضاوي وحاشية على المطول وشرح ديوان ابن الفارض وهو أشهر تآليفه والتاريخ الذي هو أحد مآخذ تاريخي هذا وقد سبق ذكر ذلك في الديباجة وله رحلة حلبيه وأخرى طرابلسيه وسبع مجاميع بخطه وسمهم بالسبع السيارة وله رسائل كثيره ومنشآت عديده وجمع ديوانا من شعره وهو سائر متداول في أيدي الناس وكان عالما محققا ذكي الطبع فصيح العبارة طليق اللسان متين الحفظ حسن الفهم عذب المفاكهة وكان أبوه في مبدأ أمره منجدا ثم صار عطارا ثم انقطع عن الحرفة ولزم ولده وكانت أمه من صفورية وأبوه من بورين وولد هو ببورين ثم هاجر به أبوه في سنة ثلاث أو أربع وسبعين وتسعمائة وكان عمره إحدى أو اثنتى عشرة سنة ونزل بصالحية دمشق بالقرب من المدرسة العمرية وأخذ له حجرة بالمدرسة المذكورة وشرع في الاشتغال فقرأ النحو الفرائض والحساب على البرهان إبراهيم بن الأحدب المقدم ذكره وعلى الشيخ أبي بكر الذباح والشيخ غانم المقدسي الضرير نزيل دمشق ولا زال في الاشتغال إلى سنة خمس وسبعين وتسعمائة فحصل بدمشق قحط فارتحل مع والده إلى بيت المقدس فاشتغل بها على شيخ الإسلام محمد بن أبي اللطف إلى حدود سنة تسع وسبعين ثم عاد إلى دمشق ونزل مع أبيه وأمه بميدان الحصى ودأب في التحصيل وأخذ عن الجلة من العلماء منهم الشهاب الطيبي الكبير وولده الشهاب الطيبي الأوسط وعن شيخ الإسلام البدر الغزى وولده الشهاب أحمد وقرأ المعقولات على جدي العلامة أبي الفدا إسماعيل النابلسي والعماد الحنفي والشمس محمد بن المنقار والنجم محمد بن البهنسى خطيب دمشق وأخذ الحديث عن الشمس محمد الداودي والشهاب أحمد العيثاوى وساد على أهل عصره وتصدر للتدريس وأملى على التفسير للبيضاوي والكشاف والمولى أبي السعود وحج قاضيا بالركب الشامي سنة عشرين وألف ودرس بالمدرسة الناصرية الجوانية والشامية البرانية والعادلية الصغرى والفارسية والمدرسة الكلاسه وكان له بقعة تدريس بالجامع الأموي ووعظ بجامع السلطان سليمان بدمشق واشتهر فضله وشاع ذكره ولما ورد دمشق الحافظ الحسين التبريزي المعروف بابن الكربلالي في حدود سنة ثمان وثمانين وتسعمائة صحبة وتعلم منه اللغة الفارسية حتى صار يتكلم بها كأنه أعجمي وفي ذلك يقول
تعلمت لفظ الأعجمي وإنني ... من العرب العرباء لا أتكتم
وما كان قصدي غير صون حديثكم ... إذا صرت من شوقي به أترنم
وإن كنت بين المعجمين فمعرب ... وإن كنت بين المعربين فمعجم
أغدو بأشواقي إليكم مترجما ... وسركم في خاطري ليس يعلم(1/346)
ثم تعلم في آخر حاله التركية وكان في الفارسية أبرع ونظم ونثر وكان من عادته الإطراء في مديحه فإذا كتب على شيء أطال جدا وذكر النجم الغزى قال كنت مرة عند شيخنا القاضي محب الدين يعني جدي فدخل عليه سالم العواد ومعه محضر بخط العناياتي وقد قرظ عليه البوريني فأطال وأوسع فلما تأمله شيخنا قال سبحان الله ما ترك البوريني في البراني شرابا ولمح لما اشتهر عنه من نسبته إلى شرب الراح ولم يكتب عليه شيخنا ووقع لقاضي القضاة بمصر المولى يحيى بن زكريا أن البوريني لما عمل مجلس الحديث بعد صلاة المغرب بالجامع الأموي وكان يتكلم على الشفا ويوضع له الفانوس تقليدا للبكريين بمصر وطلب البوريني من المولى يحيى حضور مجلسه فحضره مرة فلما دار الكلام عند المولى يحيى في تدريس البوريني قال هو بكرى دمشق موريا في لفظ بكرى فإنه في اللغة التركية مدمن الشراب وإنما أشاع الناس ذلك عنه لأنه كان يعاشر الدولة كثيرا ويبيت عندهم فربما ذكر عنه جماعتهم مثل ذلك وذكره البديعي في ذكراه وقال في وصفه حسنة ازدان بها الدهر ازديان الوجنات بالحبات وتاهت به الأيام إذ كان لها من الحسنات ومذ رأى الشباب يتأهب والشيب يتلهب شنف الأسماع بجواهر وعظه فلين القلوب القاسيه وأبرز خرائد حفظه فذكر النفوس الناسيه بعدما كان يخرج في العشرة عن القشرة في أيامه الماضيه ومما وقفت عليه من آثاره هذه الرسالة جوابا عن رسالة أرسلها إليه بعض أحبابه موشحة بعتابه يذكره تراضع الكاس في أيام الايناس فأجابه بقوله
مضت الشبيبة والحبيبة فانبرى ... دمعان في الأجفان يزدحمان
ما أنصفتني الحادثات رمينني ... بمودعين وليس لي قلبان
وردت رسالتك الآمرة بالطيش المحسنة للانطلاق إلى نهب طيب العيش
فقلت لها أهلا وسهلا مرحبا ... بلطف حبيب زار عن غيره موعد
على أنها وردت رامزة إلى الغفلة عن الإخوان مشيرة إلى نسيان الأحبة والخلان فكلا ثم كلا والله ما تبعت في نسيان الأحبة الهوى وبالله إني صاحبكم وما ضل صاحبكم وما غوى
تجنوني ذنوبا ما جنتها ... يداي ولا أمرت ولا نهيت
ومع ذلك
فلو كان هذا موضع العتب لاشتفى ... فؤادي ولكن للعتاب مواضع
ولئن حصل في مدة الأجل انفساح لنعملن بقول الصلاح
لزمت بيتي كلزوم البنا ... للفعل والحرف على الأصل
واستوحشت نفسي حتى لقد ... تنفر لو أمكن من ظلي
وهذا مجمل يعسر تفصيله وحكم يصعب تعليله وأما ما أشرتم إليه بما قال أبو نواس والعمل بقوله من ارتضاع الكاس فمقبول لو كانت منازل الشباب آهله وأوقات الهوى لصفاء العيش قابله ولكن بعد نزول الشيب والإنذار من عالم الغيب لا مجال لمصافحة بنت الدنان ولو أنها بمشافهة الصفاح والسنان
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله
نعم قد جلت في أيام الشباب بميدان الصبا فما عثر طرفي في قضاء وطر ولاكبا
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم ... وأسمت سرح الطرف حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام
وأما الآن فإني أقول
فما شاقني ذكرى حبيب ومنزل ... ولا راقني للساجعات ترنم
ولا أطرب الحادي بترجيع لحنه ... ولا فاح من نشر الرياض مشمم
ولا يختلج ببالك إن كلامنا هذا باللسان من غير مطابقة الجنان فإني أقسم بالوفا والكرم والبيت والحرم إن ظاهر هذا الأمر وباطنه سيان ولو اطلعت على الضمير لازددت علما على ما نطق به اللسان ولو كنت مائلا إلى ما أشرت إليه وعولت في عبارتك عليه ما كنت أجد مثلك من نديم كفه كريم وخاطره سليم يفهم الكلام بالإشاره ويستغنى عن مفهوم العباره
إن كان لا بد من عيش ومن سمر ... فحيث آمن من خلى ويأمنني
نعم إن مالت نفسك إلى مجاذبة أطراف الآداب والمحادثة عما مضى من وقائع الأحباب فإنك والله أعز الإخوان وإنسان عين الخلان ما رأينا منك سوى ما يسر القلوب ويكون عين المقصود والمطلوب فأنت المقصود بقول الشاعر
بروحي من نادمته فوجدته ... أرق من الشكوى وأصفى من الدمع(1/347)
يوافقني في الجد والهزل دائما ... فينظر من عيني ويسمع من سمعي
هذا هو الجواب مع الاختصار وعند مثلكم يقبل الاعتذار انتهى ومن غريب ما اتفق له أنه كان في مبدأ أمره لا يتكيف ولا يأكل من المكيفات شيئا حتى قال شعرا لما رأى انكباب الناس على البرش وهو قوله
عم البلا بأكل البرش فانتقعت ... مخايل الناس في خلق وأخلاق
ولو تصور هذا الدهر في رجل ... لأبصرته الورى في زي درياق
ثم ابتلى بأكله حتى ظهر في فعله وهيئته وحركته إلا أنه لم يغير ذكاءه ونوادره ولطائفه كثيرة فمن ذلك ما رأيته بخطه أنه سئل عن الحب هل هو بالكسر أو بالضم فقال هو بالكسر ويستحسن فيه الضم وعن الجفن أهو بالكسر أو بالفتح فقال هو بالفتح ويستحسن فيه الكسر وهذان الجوابان شبيهان بجواب الزمخشري وقد سئل عن العثير أهو بالفتح أو بالكسر فقال بالكسر ولا تفتح فيه العين وسئل المولى أبو السعود المفسر عن الخزانة والقصعة فقال لا تفتح الخزانة وتكسر القصعة ومما يستظرف من مناسباته أنه كان يميل إلى غلام يتخلص برامي فجفاه مرة ثم جاءه معتذرا بإشارة خفية من جفنيه فأنشده بديهة قول ابن الفارض
رمى فأثبت سهما من لواحظه ... في وسط قلبي فواشوقي إلى الرامي
وكان بينه وبين أحمد بن شاهين مودة أكيدة ومشيخة وتلمذة لأن الشاهيني تلميذ البوريني فوقع بينه وبينه بسبب أن الشاهيني كان نظم قصيدة مدح بها صنع الله المفتي لما ورد الشام مطلعها
حي المنازل بالنقا فز رود ... فالرقمتين فعهدنا المعهود
فنسبة البوريني فيها إلى الانتحال وجرى بذلك بينهما شحناء وتقاطع وخاطبه الشاهيني بقصيدة طويلة مطلعها
قف بي فلي أثر الحدوج حنين ... ومن الصبابة ظاهر وكمين
وأعقبها برسالة من إنشائه المعجب ذكرهما البوريني في ترجمته واجتمعا يوما في مجلس فقال له الشاهيني القصيدة المنحولة صدرت عن طبع نشأ في الرياض بين الأكمام لا عن طبع نشأ في القرى بين الآكام واجتمعا مرة أخرى فناوله الشاهيني لغزا صنعه في سكين فلما فطن له قال قد صعب علي استخراجه ومن مقولاتهم المعنى في بطن الشاعر وكان غالب أعيان الشام من العلماء يغضون من البوريني لانطلاق لسانه وربما أوقعوه في مكروهات من القول والفعل وازدروا به وسعوا في توهينه وكان كثير التيقظ لمكايدهم حكى أن بعض وزراء الشام أقبل عليه واتخذه نديم مجلسه وكان يبالغ في توقيره وتعظيمه فقصدوا توهينه عنده فاجتمعوا يوما في دار الحكومة والبوريني معهم فأرسلوا إلى والده يتطلبوه إلى الوزير بناء على أن الوزير استدعاه وكان رث الهيئة في زي عوام السوقة كما سلف فلم يشعر البوريني إلا وأبوه مقبل فنهض من مقعده مسرعا واستقبله وقبل يده ثم جاء إلى الوزير وقال له حلت عليكم البركة بقدوم والدي فإنه بركة هذا الوقت الصوام القوام الكذا الكذا فنهض الوزير وقبل يده وأجلسه وبالغ في تعظيمه فانقلب أعيان أولئك ولم يعودوا إلى مثلها وهكذا كان البوريني صاحب بذرقة في تعبيراته وأشعاره كثيرة أخرجت منها محاسنها وأثبتها هنا وما محاسن شيء كله حسن فمن ذلك قوله وقد تبع فيه الشعراء الأقدمين
وكنا كغصني بانة قد تألفا ... على دوحة حتى استطالا وأينعا
يغنيهما صدح الحمام مرجعا ... ويسقيهما كأس السحائب مترعا
سليمين من خطب الزمان إذا سطا ... خليين من قول الحسود إذا سعى
ففارقني من غير ذنب جنيته ... وأبقى بقلبي حرقة وتوجعا
عفا الله عنه ما جناه فإنني ... حفظت له العهد القديم وضيعا
ولكن سيدري ود من كان مخلصا ... صدوقا ويدري من يكون مصنعا
والأصل في هذا ما في أمالي القالي عن أبي الفضل الربعي عن أبي السمراء قال دخلت منزل نخاس في شراء جارية فسمعت صوت جارية تقول
وكنا كزوج من قطافي مفازة ... لدى خفض عيش معجب مونق رغد
أصابهما ريب الزمان فانفردا ... ولم نر شيئا قط أوحش من فرد
قال فقلت للنخاس اعرض علي هذه المنشدة فقال إنها شعثة حزينة فقلت ولم ذلك قال اشتريتها من ميراث وهي باكية على مولاها وتقول(1/348)
وكنا كغصني بانة وسط روضة ... نشم جني الروضات في عيشة رغد
فأفرد ذاك الغصن من ذاك قاطع ... فيا فردة باتت تحن إلى فرد
قال أبو السمراء فكتبت إلى عبد الله بن طاهر أخبره بخبرها فكتب إلي أن ألق هذا البيت عليها فإن أجازته فاشترها ولو بخراج خراسان والبيت هو هذا
بعيد وصل قريب جهد ... جعلته منه لي ملاذا
فألقيته عليها فقالت في سرعة
فعاتبوه فذاب شوقا ... ومات عشقا فكان ماذا
قال أبو السمراء فاشتريتها بألف دينار وحملتها إليه فماتت في الطريق فكانت إحدى الحسرات انتهى وفي الحماسة الطائية لصفية الباهلية
كنا كغصنين في جرثومة سميا ... حينا بأحسن ما تسمو به الشجر
حتى إذا قيل قد طالت فروعهما ... وطاب فبؤهما واستنضر الثمر
أخنى على واحد ريب الزمان وما ... يبقى الزمان على شيء ولا يذر
كنا كأنجم ليل بيننا قمر ... يجلو الدجى فهوى من بيننا القمر
وللبوريني وهو من مستجاداته
يقولون في الصبح الدعاء مؤثر ... فقلت نعم لو كان ليلي له صبح
وقد ترجم هذا المعنى من الفارسية وأصله لشاعر العجم وحشى سبكه في قالب حسن ومثله قول البها زهير
جعل الرقاد لكي يواصل موعدا ... من أين لي في حبه أن أرقدا
وقول الباخرزي
قالت وقد فتشت عنها كل من ... لاقيته من حاضر أو بادي
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترني فقلت لها وأين فؤادي
والأدباء يستحسنونه ولم يعرفوا أنه من قول عبد الله بن شبيب
هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت ... وأهوى لنفسي أن تهب جنوب
يقولون لو عذبت قلبك لارعوى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب
وتابعه عروة بن أذينه
قالت وأودعتها سرى فبحت به ... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطى هواك وما ألقى على بصري
وذيل البوريني بيته المفرد بأبيات هي
فيا عجبا مني أريد لقاءه ... وفي جفنه سيف وفي قده رمح
وإنسان عيني كيف ينجو وقد غدا ... يطول له في لج مدمعه سبح
وإن كان يوم البين يسود فحمه ... فمن مهجتي نار ومن نفسي قدح
وليس عجيبا أن دمعي أحمر ... وفي مهجتي جرح وفي مقلتي قرح
ولو تركه مفردا لكان أصوب ومن شعره
أحول وجهي حين يقبل عامدا ... مخافة واش بيننا ورقيب
وفي باطني والله يعلم أعين ... تلاحظه من أضلع وقلوب
والمعنى حسن وأحسن منه قول الخفاجي
تنازع فيه الشوق قلبي وناظري ... فأثر فيه الطرف والقلب ناب
وتنظره من قلبي الصب أعين ... عليها المحنى الضلوع حواجب
لكن أخذه الشهاب ونقله عن معناه المراد من قول القائل
خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم ... عيونا لها وقع السيوف حواجب
قال الحريري من سرق ورق فقد استحق وله في ترجمة من الفارسية
ورق الغصون إذا نظرت دفاتر ... مشحونة بأدلة التوحيد
ومثله للشهاب من ذوات أمثاله
باح بنشر الروض خفاق الصبا ... وأسكر الغيث النبات في الربا
أما ترى في روضه الأوراقا ... رطب لسان يشكر الخلاقا
وتلك للتوحيد كالدفاتر ... تقرؤها الطيور في المنابر
وللبوريني
أيا قمرا قد بت في ليل هجره ... أراقب سيار الكواكب حيرانا
خبأتك في عيني لتخفى عن الورى ... وما كنت أدري أن في العين إنسانا
وللخفاجي
خبأتك في العين خوف الوشاة ... وكم شرف الدار سكانها
ومن غيرة خفت أن يفطنوا ... إذا قيل في العين إنسانها
وللبوريني
تعشقت منه حالة لست قادرا ... على وصفها إن لم يذقها سوى قلبي
وله
أترى علمت بحالتي ... يا من تغافل عن شؤوني
هلا رحمت مدامعا ... سالت عيونا من عيوني(1/349)
وله من قصيدة يصف فيها الغدير
يجاوب أسيحاع الحمام خريره ... فتصغي له الورقاء من فوق أيكة
وتبع في ذلك أبا الحكم في قوله
وتحدث الماء الزلال مع الصفا ... فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى
وللبوريني
أتنكر مني رفع صوتي بالبكا ... لبين حبيب عز منه معاد
ألست ترى الثوب الجديد وقد غدا ... يصيح لدى التفريق وهو جماد
وقريب منه قول القائل
لا غرو من جزعي لبينهم ... يوم النوى وأنا أخوالهم
فالقوس من خشب يئن إذا ... ما كلفوه فرقة السهم
وله
عمامتي لعبت أيدي الزمان بها ... كأنها نسجت من عهد حواء
أريد أغسلها والخوف يمنعني ... من أن ترى نزلت يوما مع الماء
ومن مشهور شعره قوله في نصيحة
أوصيك أوصيك فاسمع ما أقرره ... فقد نصحتك خلى نصح معتبر
لا تركنن إلي من ليس تعرفه ... ومن عرفت فكن منه على حذر
أخذه من قول غبن فارس
اسمع مقالة ناصح ... جمع النصيحة والمقه
إياك واحذر أن تكو ... ن من الثقات على ثقه
وله
يا ساكنين الجزع لي من بعدكم ... طرف مدى الأيام ليس بناظر
ما زار إنساني سواكم بعدكم ... إلا وألقى ستر دمع مع ساتر
مأخوذ من قول الارجاني
لي بعد آلافي الذين رحلوا ... وخلفوا صبري كلبى منتهب
إنسان عين لم يزره غيرهم ... إلا وألقى ستر دمع فاحتجب
وله يعتذر عن أمر نقل عنه
الله يعلم أن ساحة خاطري ... مما رقمت صحيفة بيضاء
وسنلتقي يوم القيام بموقف ... في ضمنه تتبن الأشياء
واتفق له أنه سار إلى بعض غياض دمشق وأراد استدعاء بعض أحبابه فلم يجد قلما ولا دواة وكان أيام التوت الأسود فكتب بمائه بديها
يا طائر البان خذ مني مكاتبة ... ضعها لدى منزل الظبي الذي سنحا
هي الشكاية من داء الفراق وقد ... كتبتها بدم القلب الذي جرحا
وله
تنفس الصعداء ليس شكاية ... مني لهجرك يا ضياء الناظر
لكن بقلبي من جفاك تألم ... فأرى بذلك راحة للخاطر
وله
قال لي عاذلي تسل قليلا ... بمسير عن الحمى والربوع
قلت يا عاذلي تأخرت عني ... كان هذا الكلام قبل وقوعي
وله
مرادي من الدنيا مراد أريده ... من الحب والإنسان قد يتخير
سوى وقفة فيها أسائل ما الذي ... يقدم غيري أو لماذا أؤخر
وله
بحق الذي أعطاك حسنا ودولة ... ولطفا به للضد ما زلت تقهر
لماذا رعاك الله غيري مقدم ... ومثلي على صدق الوداد مؤخر
وله
ما رمت ترك الظلم منه تبرما ... من حمل أثقال القطيعة والجفا
لكن خشيت عليه عقبى فعله ... في يوم يلقى المرء ما قد أسلفا
وله
وكم قائل ما لي أراك مجانبا ... غرام مليح كالغزال المشرد
فقلت دعوا هذا الملام فإنني ... ختمت رسالات الهوى بمحمد(1/350)
وله غير ذلك من عيون الأشعار والأخبار ما لو استقصيته لجاء في كتاب مستقل وكانت ولادته في قرية صفورية نهار الجمعة منتصف شهر رمضان سنة ثلاث وستين وتسعمائة وتوفى بعد الظهر نهار الأربعاء ثالث عشر جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وألف وصلى عليه بالجامع الأموي من اليوم الثاني ودفن بمقبرة الفراديس وكان قبل موته بلحظة أمر بعض من حضر عنده بقراءة سورة يس فقرؤها وكان هو في حالة النزع يحرك شفتيه معهم إلى أن وصلوا إلى قوله تعالى " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " فمد السبابة إشارة إلى الشهادة وخرجت روحه ورآه بعض الثقات ليلة موته وجماعة ينشدون هذه المقالة ويذكرون أن البوريني نظمها وأوصى أن ينشدونها أمام جنازته وهي للقاء الله باسم الله وعلى ملة رسول الله كنت أمس بين أحبابي وأصيحابي وأترابي فدعاني نحوه ربي ألف أهلا وألف باسم الله ورآه بعض الفضلاء بعد موته في منامه كأنه على كرسي عظيم في روضة غناء وعليه هيبة وإلى جانبه رجل وهو يعلم أنه مات فقال له يا سيدي كيف حالك وما فعل الله بك فقال إني جعلت بيتين يعلم منهما ما فعل الله بي ثم أنشد قوله
وفي لي من أهوى وآنس وحشتي ... وداوي فؤادي بالتداني وبالقرب
فظن به خيرا وإن كنت مذنبا ... فما خاب عبد أحسن الظن بالرب
ونظم هذه الرباعية قبل موته وأوصى أن تكتب على قبره وهي قوله
يا رب تبعث سيد الأبرار ... واخترت سبيل صحبة الأخيار
واليوم فليس لي سوى لطفك بي ... يا رب فوقني عذاب النار
ورثاه جماعة من فضلاء زمانه منهم العلامة عبد الرحمن العمادي المفتي وكان ممن أخذ عنه وتلمذ له مدة وقصيدته أحسن ما قيل فيه المراثي وهي مشهورة متداولة مطلعها قوله
زلزل الكون والقتام علا ... وهوى البدر بعدما كملا
ويعجبني منها قوله
كم له من فوائد وفدت ... قد غدا ركنهن مرتحلا
والبلاغات بعدما بلغت ... حدها منه دانت الأجلا
في اللسانين فارس بطل ... فاللسان بعده بطلا
راق روض النهي به زمنا ... في دمشق وبعده ذبلا
ندم الدهر حيث جادبه ... غلطة بعد طول ما بخلا
عقد در في السلك قد عبثت ... منه أيدي المنون فانفصلا
كان للدهر بهجة وسنا ... منه أما إذ غاب عنه فلا
قل لمن شاء أن يؤرخه ... بدر علم في الشام قد أفلا(1/351)
ومن غريب ما وقع بعد موته أنه كان في مرضه تفرغ عن المدرسة الشامية البرانية للشهاب أحمد العيثاوي فلم يقبل قاضي القضاة بدمشق المولى محمد بن محمد المعروف بجوى زاده ووجهها لعبد الحي بن يوسف وعوض العيثاوي بالوعظ في السليمانية ووجه الناصرية الجوانية لمنلا عبد الرحمن بن أويس الكردي والعادلية الصغرى للقاضي عبد اللطيف بن الجابي والبقعة بالكلاسة للشيخ أحمد بن محب الدين الحنفي والبقعة بالجامع الأموي لأخيه إبراهيم البوريني وقراءة الحديث بالجامع الأموي لعبد الرحيم بن محاسن سبط البوريني فلما كان يوم السبت سادس عشر جمادى الأولى اجتمع جماعة منهم أحمد بن شاهين وأحمد بن زين الدين المنطقي المقدم ذكرهما وحسين بن عبد النبي الشعال ورمضان بن عبد الحق العكاري والكمال ابن مرعى العيثاوي وسليمان الحمصي وشرف الدين الدمشقي ومحمد بن نعمان الايجى وإبراهيم العمادي الواعظ وأحمد العرعاني وكان اجتماعهم بالجامع الأموي ثم أحاطوا بالشمس الميداني ورأسوه عليهم وقالوا نجتمع ونذهب إلى القاضي والباشا ونطلب توزيع وظائف البوريني علينا ثم ذهب منهم طائفة إلى العيثاوي وسألوه أن يذهبوا في خدمته إلى القاضي فقال لهم لا تليق هذه الجمعية ولكني أذهب إلى القاضي وأنصحه فذهب إليه وتكلم معه أن يعطي الحديث لابن الايجى وتكون الناصرية مشتركة بين الملا عبد الرحمن الكردي وآخر فأجابه القاضي إلى ما قال فبينما هم كذلك إذ اندفع القوم ومعهم آخرون فدخلوا على القاضي وجلبوا عليه فبادر القاضي وقال لهم اجلسوا واقتسموا الوظائف فجلسوا خارج المجلس يقتسمون والكاتب يكتب ما يتفقون عليه ثم خرجوا من عنده بناء على أن تكتب التقارير على ما رتبوه فلما كان يوم الثلاثاء تاسع عشر الشهر المذكور جمع القاضي إليه العيثاوي ومنلا عبد الحي بن يوسف والخطيب يحيى بن محمد البهنسي وولده أحمد والقاضي أبو البقاء الصالحي وذهب بهم إلى نائب الشام إذ ذاك محمد باشا الركسي وصور الدعوى عند القاضي بن مغيزل قسام العسكري بدمشق واكن حاضرا بالديوان بإذن الباشا على الجماعة بالهجوم وقلة الأدب معه وأثبت ذلك عليهم وكتب بذلك صك فتقدم منلا زين الدين والد أحمد المنطقي وتكلم مع القاضي بكلمات فاحشة وسجل عليهم كل ذلك إلا ابن شاهين فإنه استثنى من الكتابة سرا لمكانة أبيه ثم شفع العيثاوي ومن معه عند القاضي في العفو عنهم من التعزيز بالضرب وانفصل المجلس على ذلك ونظم النجم الغزي هذه الحادثة في قصيدة طويلة ذكرها في ذيله ومطلعها قوله
رويدك إن الفضل للمرء نافع ... ولكن على قدر العقول المنافع
متى ضل عقل المرء ضل طريقه ... وليس له عن وهدة الجهل مانع
ألم تر رهطا حاولوا رفع قدرهم ... بأنفسهم والله ما شاء صانع
سعوا نحو قاضي الشام صين جنابه ... وكل امرئ غاد وللنفس بائع
قضى الحسن العلامة الندب فاغتدوا ... وكل له بالاشتغال تنازع
يقولون وجهت الجهات لغيرنا ... أبى الله معط من يشاء ومانع
وعن أد زاحوا فراحوا بنقمة ... وقد ذل بين الناس من هو طامع
وقد كاد لولا عفوه وسماحه ... تماسسهم منه العصا والمقارع
وقد عزر وافي مشهد ثم أسمعوا ... لما كرهوا والقول للمرء رادع
أيجمل منهم ما أتوا وتهوروا ... هنالك إن العقل للمرء وازع
منها
إذا قارع الضرغام جدي لجهله ... بصولته فالليث للجدي قارع
إذا ركب الإنسان في غير سرجه ... أتيح له عن ذلك السرج صارع
ومن لم تؤدبه العلوم وخف في ... هواه نهاه أدبته الوقائع
ومن لم يكن في فورة الأمر ناظرا ... عواقبه يندم وللسن قارع
وقد هد منه عرشه وهو ناظر ... وقد قدمنه عرضه وهو سامع
تعجبت من تلك القضية إنها ... لعمري وعظ وهي للقلب صادع
جرت بعد ألف ثم عشرين حجة ... بذا العام حيث العام من بعد رابع(1/352)
تأمل رعاك الله أفعال ربنا ... فليس لما يقضيه في الكون دافع
ولا ترج إلا الله في كل مقصد ... تبارك إن الفضل منه لواسع
وبعد فإن الله جل جلاله ... لكل الورى يوم القيامة جامع
الشيخ حسن بن محمد أبي الفضل ابن بركات بن أبي الوفا الملقب بدر الدين الدمشقي الميداني الشافعي المعروف بالموصلي الشيباني قاضي الشافعية بباب قاضي القضاة بدمشق وأحد أعيان الفضلاء وكان عالما فقيها نحويا بارعا وفيه أناة وحلم ومكارم أخلاق قرأ بدمشق على جدي القاضي محب الدين وجدي إسماعيل النابلسي والعماد الحنفي والأسد بن معين الدين التبريزي وتفوق ولزم إفادة الطلبة بالجامع الأموي مدة ولما انحلت إمامة الشافعية الأولى بالجامع عن الشيخ موسى الجوسي في زمن قاضي دمشق المولى مصطفى المعروف بالكوك اجتمع علماء البلدة وطلبوها للمذكور وكان القاضي وجهها لابن أبي البقا فعارضوه وذكروا أحقية المذكور فقال انظروا ثالثا ممن يستحقها فقام الشمس محمد الميداني الآتي ذكره في المجلس وقال أنا الثالث وطلبها فوجهها القاضي إليه وخرج الجماعة من عند القاضي حنقين عليه ثم سعى بعض أكابرهم في إتيان براءة للبدر المذكور فلما قدم المولى مصطفى بن حسن قاضيا بدمشق ترافعا إليه بمحضر من العلماء وكل منهما قدم براءته فاقتضى رأي القاضي والجماعة أن تشطر بينهما وداما على ذلك وولى البدر بعد ذلك قضاء الشافعية بطلب علماء دمشق وحمدت سيرته فيها ولم يزل قاضيا حتى توفى في سنة ثلاث أو أربع وثلاثين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بقرب مسجد النارنج رحمه الله تعالى الشيخ حسن بن محمد بن إبراهيم الكردي الصهراني النورديني الشافعي المحقق الفهامة المؤلف الأستاذ كان من أجلاء علماء الأكراد وله الباع الطويل في حل الغوامض والغوص على المعاني قدم إلى دمشق في حدود سنة خمس وسبعين وألف واختص أولا بالملا أبي بكر ابن منلا جامي المقدم ذكره فاستنابه في تدريس المدرسة السليمية لسوء مزاج كان اعتراه وعقد حلقة تدريس بالجامع الأموي عند مقام الخضر وعاينته هناك وهو يقرر أشياء دقيقة المرمى تدل على نظر دقيق وتحقيق زائد وأخبرني صاحبنا الملا محمد بن رستم الصهراني وهو من أقاربه أنه قرأ بصهران على المولى رسول الصهراني وأخذ ببلاد ديار بكر عن المولى قره قاسم والمولى عمر بن الجلى صاحب شرح البهائية في الحساب والحاشية على ميزاب الفتح في الآداب وحكى لي أنه كان يفضل الجلى على جميع من رآه من أساتذته وألف بدمشق شرحا على البهائية في غاية الدقة وله رسالة في سورة المطففين وكان شرع في تحرير شرح على القطر لابن هشام على أسلوب عجيب من الدقة وكتب منه حصة وافرة ولم يكمله وكان في الزهد والورع غاية لا تدرك ووقع له أحوال تدل على علو كعبه في الولاية حكى لي الملا محمد المذكور قال أخبرني الملا حسن يعني صاحب الترجمة أنه كان في موطنه يكتب مصحفا فجلس يوما للكتابه فرأى الدواة قد فاضت بالحبر حتى امتلأ ما حوله فنهض مذعورا وركض مسافة عشر خطوات ثم التفت فرأى خلفه بحرا من حبر ثم غاض فرجع إلى مكانه وشرع يكتب وحدثني عنه من هذا الأسلوب بأشياء كثيرة ولما مات الملا أبو بكر المذكور في التاريخ الذي ذكرته في ترجمته سافر إلى الروم في طلب جهاته فأدركه أجله بعد مدة من وصوله وكانت وفاته بأدرنة سنة ثمان وسبعين وألف وهو في سن الأربعين(1/353)
السيد حسن بن محمد بن علي السيد الأجل الحسيني المعروف بالمنبر الحموي الأصل الدمشقي الفقيه الشافعي خلاصة الخلاصات من السادة الكمل الأخيار كان عالما فقيها ورعا زاهدا تاركا لما لا يعنيه لا يصرف أوقاته في عبث بل كل أوقاته معمورة بالفائدة من مذاكرة علم أو قراءة قرآن أو عمل خير وكان في هذا العصر الأخير من أفراده جمع بين العلم والعمل وكان فيه نفع عظيم للناس لا زال يقرئ الدروس بجامع الدرويشية والسيبائية وتخرج عليه خلق كثير من طلبة العلم من الشافعية وبه تفقهوا وانتفعوا وكان الناس يعظمونه ويهابون ساحته وإذا أقبل من بعيد في سوق أو زقاق تبادروا إلى تقبيل يده وطلب دعائه وكان مرشدا متواضعا سليم الصدر بشوشا إلى الغاية لم نسمع أن أحدا تأذى منه مدة عمره في قول أو فعل ويحكى عنه كرامات وأحوال هو في أعلاها ذروة وأسماها منقبة وبالجملة ففضائله مما لا منازع فيها وكانت وفاته عقيب الظهر بهنيئة من يوم الأحد سادس عشري شوال سنة أربع وتسعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من سيدي نصر المقدسي وسيأتي أبوه محمد في حرف الميم إن شاء الله تعالى الشيخ حسن بن موسى بن محمد بن أحمد المعروف بابن عطيف الدمشقي الحنفي كان فاضلا ساكنا له حسن مطارحة وانعطاف وكان لطيف الصوت قارئا مجودا قرأ العربية على مصطفى بن محب الدين وغيره وتفقه على والده وعلى الإمام رمضان بن عبد الحق العكاري وبرع في الفنون وتولى الخطابة بجامع العداس خارج دمشق بمحلة القنوات ولازم الاشتغال هو وشيخنا أخوه العلامة رمضان الآتي ذكره مدة حياتهما وكانا لا يملان من المذاكرة وحضور الدروس ولا يكادان يفترقان لحظة واحدة وعرض لحسن في آخر عمره مرض الفالج فانقطع عن الناس سبع سنين وما كان يفهم منه إلا لفظ الله الله واستمر مفلوجا إلى أن توفى نهار الثلاثا ثالث عشر جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير قرب مسجد النارنج وأخبرني أخوه شيخنا المذكور أن ولدته في سنة عشرين وألف رحمه الله تعالى الشيخ حسن بن الناصر بن عبد الحفيظ المهلا الشرفي العلامة الذي تفرد في وقته بالفضل والعلم والورع والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة وكان كثير الصدقة على ذوي الفاقة حريصا على فعل الخير والمعروف أخذ عن أبيه وجده وسمع على أخيه الحسين كثيرا من العلوم مع كونه أسن منه بنحو سبع سنين وكان له الخطا الحسن الرائق المضبوط والنظم والنثر الفائقان ولقى جماعة من أكابر العلماء وأخذ عنهم كثيرا وحوى علما غزيرا وله ارتحالات كثيرة من جملتها ارتحاله مع أخويه إلى شهارة إمام دعوة القاسم بن الإمام محمد المؤيد وأقاموا بها ثلاثة أشهر بداره الميمونة بالناصرة من شهارة وفي خلال الإقامة شارك السيد أحمد بن الإمام المتوكل في قراءة التيسير للديبع وغيره من الكتب الحديثية وكان في زمن حداثته مجدا في الاشتغال بالعلم وطلبه على أبيه وجده مع مشاركة أخيه الحسين وكان إذا قرأ شيئا في غيبة أخيه الحسين تتأثر نفس الحسين فيعاتبه في ذلك فيعتذر صاحب الترجمة إليه ويعيد ما قرأه عليهما فقال في ذلك صنوه الحسين أبياتا رائية معاتبا له وجعل أول كل بيت حرفا من حروف المعجم وأولها قوله
أذاب فؤادي بارق الغور إذ سرى ... بنفحة مسك من حدائقها تترى
بحقك خبرني عن الغور إنه ... حديث صحيح ليس في القول منكرا
تأمل به تلك المغاني تلق لي ... لطائف فاقت في المحاسن مخبرا
ثملت وقد دارت رحيقة وصفه ... فأنهلنا التسنيم من تلك مسكرا
جرى ذكر أحبابي بروضة قدسها ... وقد كسيت بردا من الوشى أخضرا
حووا من مليح الوصف كل غريبة ... كزهر سماء الأرض في حسنها ترى
خليلي ما واف بعهدي أنتما ... إذا لم تقصا وصفها لي وتخبرا
دعوتكما كي تفهماني حقيقة ال ... أحبة فيما مفرقين وتحضرا
ذكرت لهم ذكر الصفات فهاج بي ... من الشوق ما ألفيته متذكرا
رأينا بها ما يملأ العين قرة ... فروحت الأرواح من حسن ما ترى
زيارتهم فيها لقلبي مسرة ... غدت موردا للصالحات ومصدرا(1/354)
سلى إن أردت اليوم عني وعنهم ... ترى ما يسر الأولياء بلا مرا
شفتنا وأولتنا فوائد عندها ... تسهل للأحباب ما قد تعسرا
صفت عندنا تلك الصفات التي علت ... وفاقت وراقت للقلوب بلا أمترا
طوينا لدى الأحباب كل مقالة ... وقد كان في نفسي مقال تكثرا
ظفرنا بما نرجو من الحسن الذي ... يفيدك أن أقرا الفوائد أوقرا
عليم بأعقاب الأمور كأنما ... لما في غد من قبل يأتيه أبصرا
غدوت عليه عاتبا حين أهمل الأ ... خوة لما ينتظرني ويدكرا
فواعجبا من فعله حين غبت عن ... محافله هلا لحقي آثرا
قرأت حماك الله لم تنتظر لنا ... وعذري أن السحب بالغيث أمطرا
كفى حجة برهانها مشرق بما ... فعلت على إهمال حقي بما عرا
لويت عنان الوعد عني عامدا ... وأنسيت حقا للإخاء مؤثرا
محلك فوق الشمس عندي وإنني ... لابني له فوق المجرة معمرا
نحوتكم لما تقشع سحبها ... وسرت إلى سوح المعالي مبكرا
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا
هو الصنع أن تعجل فخير وإن بدت ... بعذر فكم ريث به عاد أكبرا
لاعظم من أولى ووالى صنيعه ... وحاز من الخيرات سهما موفرا
يقول لك القلب الذي ترك الهدى ... إذا أنت راعيت الإخاء المقررا
ألست من القوم الذين وليدهم ... يرجى لإقراء العلوم وللقرى
بلغنا السماء مجدا وعزا وسوددا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
تجرد لأخذ العلم عنهم فإنهم ... أئمته فارحل إليهم مشمرا
ثباتهم فيه عظيم رسوخه ... وذكراه قد يولى الثناء معنبرا
جزى الله آبائي عن الكل خيره ... وأبقاهم ما قيل نظم وسيرا
حموا بعواليهم حمى الدين واستووا ... على فلك العلياء لما تنورا
عليك سلام الله ما انهلت السما ... بودق على روض أريض فأزهرا
فأجابه صاحب الترجمة بقوله
أسر إذا خفقت في القوم معشرا ... وتكثر أتراحي إذا كان أكثرا
بناء على أن امرأ باد عمره ... إذا كان في غير العلوم مكثرا
تبينت أن العز في العلم والعلا ... وأن تجار العلم هم خيرة الورى
ثنائي عليهم لا على كل مهمل ... يجانبهم ممن عتا وتكبرا
جنوا ثمرا من كل روض فنونه ... وأعطاهم الرحمن حظا موفرا
حريون بالتقديم أقدامهم على الثر ... يا وأهل الجهل في أسفل الثرى
خلا من غدا في دهره متعلما ... ومستمعا ما فاق درا وجوهرا
دنا منهم فازداد مجدا ورفعة ... وعاش حميدا في الورى متبصرا
ذكرت خلالا للحسين فسرني ... بأن أخي للعلم أضحى مشمرا
رضيت له هذا طريقا ومسلكا ... وصاحبه فوق النجوم كما ترى
زيادة ما فوق البسيطة لم تكن ... من العلم نقصان وخسر بلا مرا
سما من له العلم الشريف وسيلة ... وما فاز ذو جهل وخاب من افترى
شرى نفسه يبغي الرضى من الهه ... فيا فوزه بالربح من خير ما شرى
صبور على درس الدفاتر مقبل ... سرى سرى والصبح قد يحمد السرى
طويل عليه الليل إن بات مهملا ... قصير إذا للدرس بات مؤثرا
ضجيع كتاب لا يفارقه ولا ... يوافق إلا عالما متبحرا
ظفرت بما أملت فاشكر ولا تكن ... ملولا فإن الصيد في باطن الفرا
على أنه وافى نظامك عاتبا ... علينا ومنظوما نظاما محبرا(1/355)
غدوت به في نعمة لبلاغة ... حواها وألفاظ لها قد تخيرا
فواعجبا من عاتب كان حقه ... بأن يبتدى بالعتب فيما تحررا
قوافيك والتنا محاسن عقدها ... تقول وقد خاطبت من كان قصرا
كأنك لم تعلم بمن سار أشهرا ... ليحظى بعلم ثم عاد مطهرا
له رحلة معروفة أنت أهلها ... فواصل دروسا درسها لك يسرا
مدى الدهر لا تبرح على الدرس عاكفا ... فما العلم في الأسواق بالمال يشترى
نبيك لم يترك سوى العلم فاغتنم ... وراثته بالدرس عن سيد الورى
وأنت بحمد الله قد صرت عالما ... ولكن نظمنا ما تراه مذكرا
هداك إله الخلق نهجا مبلغا ... إلى جنة الفردوس فضلا ويسرا
يريد أخي قلبي العتاب فقل له ... يحق لمثلي أن يغض ويصبرا
لئن كنت ترعى للحقوق فإنني ... لأرعى لها فاسأل بذلك من درى
إذا أنا لم أحمل على النفس ضيمها ... سددت طريقا منورا
بدا لي عذر الصنو بعد خفائه ... وذلك أن السحب دام وأمطرا
توالت بذا الأسبوع فضلا ونعمة ... فرام لهذا أن يقال ويعذرا
ثلاثا هجرتم ثم زدتم كمثلها ... لك الله أرجو أن يقبل ويغفرا
جرى ما جرى منكم من الهجر والقلى ... وفوق ثلاث حرم الطهر ما جرا
عليك سلام الله ما ذر شارق ... وآثر ذو عزم لعلم وما سرى
ولصاحب الترجمة نظم التلقين والوظائف المروية عن جعفر الصادق رضي الله عنه
تتبع يا فتى طرق السعاده ... فتلك إذا وصلت هي السياده
وجنب نفسك الشبهات واصبر ... وفيما حل فالزمها الزهاده
وحب الله آثره وأحسن ... وقم بالواجبات من العباده
تفكر في خلائقه وحاذر ... تصور ذاته واعرف مراده
وقم بحوائج الإخوان فيه ... لتحرز فضله وارحم عباده
ولازم ذكره والجأ إليه ... تنل منه مع الحسنى زياده
وعظم أمره تعظيم عبد ... تيقن رحلة فأعد زاده
ولا تفرح بما أوتيت واندم ... على التفريط عن طلب السعاده
وأبق بشكره النعماء واجعل ... تدبرها لنفسك كالقلاده
تجنب ما نهاك الله عنه ... وما يعينك لا تهدم مشاده
تأمل عاجل الأحوال وانظر ... عواقبها على حسب الإرداه
تصور بعد موتك ما تلاقي ... فمبدي الأمر تمكنه الإعاده
وجنب نفسك الدنيا فمن لم ... يحاذرها فقد ملكت قياده
ومهما آذنت بصلاح أمر ... تراه صالحا فاحذر فساده
ورج الخير في الأحوال إلا ... لذي ذنب فخف واقدح زناده
وأخلص نية في كل فعل ... لعالم غيب أمرك والشهاده
وحاذر عد نفسك ذات فضل ... وإنك بالغ رتب السعاده
فتترك ما به كلفت إذ قد ... وصلت كزعم أرباب البلاده
أتأمن من لها بالسوء أمر ... به تعمى لذي لي فؤاده
حذار الجبر والتشبيه واحذر ... من الإلحاد يا علم الإفاده
وحاذر من أمور زينوها ... بها حرموا ثواب ذوي العباده
فما قالوه من هذا ضلال ... تنزه عنه أرباب السياده
ومهما أمكنتك خصال خير ... فآثرها تفز وحز الإجاده
وكانت وفاته سابع عشر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وألف بمدينة صنعا(1/356)
حسن باشا المعروف ببالجى المدفون بالجنينة الحمدانية تحت قلعة دمشق على حافة نهر بردى ويليها من جهة شرقها المدرسة الايدغمشية كان حسن باشا أمير بلاد صفد سكن الشام مدة ثم ولى حكومة طرابلس الشام ثم القرص وكان من أنصف الحكام توفى بالقرص سنة اثنتين بعد الألف وحمل منها في صندوق في محفة إلى دمشق وحضر للصلاة عليه الوزير مراد باشا نائب الشام والد فترى والسيد معرفة الله مفتي الحنفية بدمشق ودفن في تربته المذكورة وكان أنشأها في حياته قلت وكان يسكن في مقابلة التربة المذكورة من جهة القبلة وله ربعة أجزاء في التربة تقرأ بعد الظهر والتكلم على وقف هذه التربة الآن امرأة من بيت باقي بيك وهم يدعون أنه وقف أهلي والله أعلم والقرص بفتح القاف وسكون الراء وبعدها صاد مهملة بلدة بالقرب من أرزن الروم بيد ملوك آل عثمان وهي الحد الفاصل بين مملكتهم ومملكة العجم حسن باشا الطواشي الوزير الأعظم أحد وزراء دولة السلطان محمد بن مراد كان في ابتداء أمره خزينه دار السلطان ثم ولى مصر في سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وعزل عنها ولما وصل إلى قسطنطينية في سنة إحدى وتسعين حوسب فخرج عليه مال كثير ووضع في حبس يدي قلة ثم أعطى حكومة شروان ثم صار وزيرا رابعا في سفراكرى حافظ البلدة المذكورة فأعطى ختم الوزارة العظمى وكان ظالما جبارا مرتشيا ترجمه منشى الروم عبد الكريم بن إسكندر القاضي فقال في حقه تحلى بحلى الوزارة وتملى بعروسها وراح سكران في مجلس المجد برشف كؤوسها حل الدهر عقد طالعه وعقد لواء ولائه فأصبح العقد والحل مفوضا إلى آرائه وصفا مورد عيشه حتى غار نهر المجرة من صفائه
تمسى الأماني صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي
أقبل عليه السعد برجله وخيله وقطع بمرافقة السرور مسافة يومه وليله وهو منتصب على ذلك الحال يجر ذيل العز والسعد والإقبال فلم يشكر نعم الله عليه ولم يتوسل ببدائع الخير إليه بل هم بتوسيع باب الارتشا وأخذ بالأخذ من الناس كيف يشا رمى غرض الرشا فأصاب ودعاه داعي البغي فأجاب وجمع من شتيت الطمع ما جمع ونسخ حديث أشعب من كتاب الطمع يجول حول مائه وهو بين الورد والصدر ولا يبالي أكاس الناس صفو أم فيها كدر فأجل مناه أخذ أموال الناس وقاعدة ارتشائه كتضمين العرب على غير قياس مع أن الغنى ربما كان سببا للعنا
يجنى الغنى للئام لو عقلوا ... ما ليس يجنى عليهم العدم
ما من منصب إلا وباعه لغير أهله ولم يجتهد في إيقاع تقليده في محله إلا ما صادف فيه قسر الإيراد ولا يتصور فيه راد فطاوعه مطاوعة السفن للتيار على رغم أنفه وقاسى فيه مقاساة تزيد على حتفه حتى أنه لما ذوت أغصان رياض ابن بستان وانتقل من هذه الديار إلى روضات الجنان هم بصرف الإفتاء عمن تحلت به المراتب وتوجت باسمه نواصي المناصب السيد السعد الذي تم به الشرف وصارت تحف الأيام بمعاليه تحف وسبب نزاعه له الحسد الذي امتلأ به إناء الجسد فأنشد لسان الزمان لمن عاداهم من السادة الأعيان
اصبر على مضض الح ... سود فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله
وكان ذلك سببا لتأخيره وتدبير الدهر في تدميره كيف لا وهو لا يزال في مجالس جود ومقام العبادة في الركوع والسجود رجع إلى بعض أوصافه من قلة مبالاته وعدم إنصافه فلم يزل على هذا الأسلوب غافلا عما نواه الدهر من الخطوب يتناول كؤوس الفساد كالمغرم الهائم ولا يبالي بعذل ولا لوم لائم لا يقابل خالص النصح بالانتصاح وقد غدا في سمعه أضيع من مصباح في الصباح
يقضى على المرء في أيام دولته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن(1/357)
إلى أن أرادت دوحة غصن السلطنة الأزهر ومعدن الخلافة الذي حلى جيد الزمان بذلك الجوهر رافعة أعلام الخيرات والناصبة لها على طرق المبرات لا زالت من حوادث الدهر خليه ومن أكدار الزمن صفيه وضع أساس جامع هو لكل شرف وأجر جامع المؤسس البنيان على تقوى من الله ورضوان فاجتمع هنالك أعيان الدولة وكثير من الناس ليؤخذ برأيهم الكشاف للمشكل في الأساس فوصل المترجم إلى ذلك المجلس وهو في فلك العز قمر لا يخشى السرار ويأبى لنفسه غير الإبدار ونزل عن جواده ودوران الفلك على قدر مراده فبادر عظماء الدولة إلى استقباله وأدوا فرائض توقيره وإجلاله فسلم عليهم يمينا وشمالا واستقر في الصدر وعزه يهزأ بالبدر كمالا وهو يترنح من نشوة قهوة المجد سكرا وينظر إلى كبراء الدولة شزرا فشرع في قطع الأمور ووصلها وأخذ في عقدها وحلها وهم لأمره سامعون وبلسان الحال قائلون
مرنا بأمر فإنا لا نخالفه ... وحد حدا فإنا عنده نقف
فبينما هو كذلك إذ أقبل بعض خدمة السلطنة لأخذ ختم الوزارة منه وحبسه وجعله غرضا لسهام الدهر وهو الجاني على نفسه ومعه كتاب سلطاني بمحو حروف المظالم ونسخ وجود كل ظالم ما زبر حرف ولمح طرف ولما دنا من المجلس الذي هو فيه والنادي الذي يحويه قبل الكتاب وبالغ في إجلاله وناوله إياه وقد أوتي كتابه بشماله فبادر إلى فض ختمه بعد تقبيله ولثمه فإذا هو سطر عنبري كأنه من رماح الخط فكلمه روحه قبل جسمه وأيدي السخط
جراحات السنان لها التيام ... ولا يلتام ما جرح اللسان
فأثر تأثير الرماح في إتلاف الأرواح فأجال فيه النظر فكاد وجهه يسفر عن دم ويصبغ أديمه بعد البياض بصبغ عندم فنهض من مجلسه دهشا ومشى خطوات مرتعشا فالتف من الخوف ساقه بساقه وكيف ويدا لحتف أخذت بأطواقه فأخذ من ذلك المقام وأودع في السجن بعض أيان والدهر يسدد إليه سهام الحمام إلى أن برز الأمر بسلب سلب حياته وإلباس لباس مماته فسارعوا إلى السجن حسب ورود الأمر في أمره وهبوا إليه كالريح لإطفاء سراج عمره وقد صادفوه في ليل نابغى بهيم ووجدوه في ليل السليم غير سليم وهو مفرد قد جمع من الهموم أنواعها وأجناسها وتوحش من الوحدة وهو يذكر من أيام السعد إيناسها لا يرى أحد على بابه ولا يظهر حاجب من حجابه قد خلا مقامه عن حزبه وأقفر مجلسه عن صحبه منفردا عن خدمه وقارعا سن ندمه وخائفا من زلة قدمه وموقنا بإراقة دمه وهو يتحزن على نيران الغضى ولسان حاله ينشد متأسفا على ما مضى
قل لجيران الغضى آها على ... طيب عيش بالغضى لو كان داما
فأوتر له من الحمام حنيه واتخذ غرضا لسهام المنية
شهى إلى الناس النجاء من الردى ... ولا جيد إلا وهو في فتر خانق
ومدت حبال الموت فالتوت على جيده التواء الأراقم وأحاطت به إحاطة السوار بالمعاصم فغربت شمس حياته واستراح الملك من كتابه سيئاته
وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى
فدفن في جانب مدرسته المبنيه في دار السلطنة العليه وسبب بنائه لها أن له معلما أراد أن يكون في سلك المدرسين منتظما لاندراجه في خدمته فما تيسر له ذلك لعدم أهليته فلما عجز عن هذه القضيه أخذته الحمية الجاهليه فبنى له تلك المدرسة ليكون مدرسا بها لدروس الدروس وإمضاء للغيرة المقررة في النفوس وفيها سقاية للسبيل يروى بمائها الغليل انتهى قلت وكان مقلته في سنة ست بعد الألف(1/358)
حسن باشا الشهير بيمجشى هو كالذي قبله كان أحد الوزراء في عهد السلطان محمد بن مراد وكان في مبدئه من جماعة السلطان في الداخل ثم خرج ضابطا للجند الجديد وعزل ثم أعيد ثم أعطى حكومة شروان ثم عزل وصار وزيرا رابعا وأعطى التفتيش على السكة الجديدة والأموال في شهر ربيع الأول سنة تسع بعد الألف فشكرت خدمته فصار قائم مقام الوزير في شعبان من هذه السنة ثم أعطى ختم الوزارة العظمى في سادس عشرى محرم سنة عشرة وألف وكان جبارا خبيث الطبع عنيدا وقد ترجمه المنشى المذكور آنفا فأفرط في سبه حيث قال في وصفه قذاة عين الدين وكمد قلوب الموحدين ضعف تركيب الإسلام وقوة عبدة الأصنام من نبذ كتاب الله وراء ظهره ولم يطع ما أوجبه من نهيه وأمره إذا الفساد به مشدود الازر ولعمري إن وزارته مأخوذة من الوزر كان أسدا في السلم وفي الحرب نعاما ولم يزل يتبع المعاصي كالندامى لم يميز بين الصوف والخز ولم يفرق بين العباءة والجز
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
إليه بالجهل يومى مثل حمار الطبيب توما لكن جهله مركب لو أنصفوه لكان مركب
لو كان خفة عقله في رجله ... سبق الغزال بها وصاد الأرنبا
غدت له عروس الوزارة العظمى متدانيه وقطفت ثمار وصلها يده الجانيه جازى من كان السبب في إفاضة تلك النعمة عليه بالكفران وجعله غرضا للنوائب وخانه في معاملته والله لا يحب كل خوان استعان بنعمته على كفران نعمته وجعل تلك السيئة عنوان صحيفة سيئته سل عليه سيفا يده صقلته وشرع عليه رمحا كفه قومته عامله بما جبلت عليه سفالة سجيته ولا تثريب عليه إذ كل يعمل على شاكلته لم يتفرع على ما رتبه من مقدمات الغدر إلا نتيجة قتله كيف لا ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله لم يؤد الأمانة إلى أهلها ولم يزف العروس إلى بعلها ولم يدفع الصحيفة إلى قاريها ولم يعط القوس باريها
ووضع الندى في موضع السيف بالفتى ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
فاستبد برياسة الأجناد فأحدقت به من سائر أطرافها الآفات والانكاد اعتزلت عروس الفتح في عهده بوجه عابس ولا بدع فإنه كان أشأم من طويس وداحس ولم يطأ جسرا بشؤم أقدامه إلا وقد انكسر كما انكسر ظهر الدين في أيامه قد استولى الكفر على بعض الحصون الإسلامية من سخافة رأيه فاتخذت مساجدها كنائسا وأقيمت بها نواميس النواقيس فأصبح بهذا السبب ربع الجهاد دارسا والعدا في أيامه آمنة الثغور وباسمة الثغور ولما عاد غير محمود انقطع جلب الزاد واتصل الغلا وبعدت الرحمة من العسكر بقرب الأعدا والغزاة لم يستطيعوا مناما ولم يذوقوا طعاما وكم واحد من تلك الجماعة قضى نحبه من المجاعة فلما وصل إلى دار السلطنة العلية راضيا من الغنيمة بالإياب وقد هلك من الجند أكثر من الحصى والتراب فعرف بزلة قدمه وأيقن بإراقة دمه فاستجار ببذل الأموال من عصبة بعصبه آملا منهم أن يقيلوا عثاره وذنبه فتعصب له ذلك الحزب ليخلصه من شباك الحين فنكصوا على أعقابهم وانخذلت إحدى الطائفتين وظهرت العداوة والبغضاء ولم يلتئم إلا الآن شمل الفئتين فاستقر في دست الوزاره وأصبح ساحبا ذيل الصداره فأخذ في إبعاد من تقرب إلى حضرة السلطنة من الوزراء والحواشي من كل من هو الدخيل في ذلك الفن والناشى زعما من سخيف عقله على أن يستقل بالوزارة على حكم الانحصار ولم يعلم بأن الأيام قد نهضت على قوائم الهمة لأخذ الثار حتى قد سولت له نفسه التفريق بين غصن الدولة ودوحته وأصبح هذا الأمر في صدره أجل أمنيته فعلم ما أراد وما شرع فيه من المكر والفساد فبادره العزل فاستمر عدة أيام خارج السور كالمحبوس وقد نفضت الناس بهذا السبب غبار النكد والبوس إلى أن برز الأمر فيه بتطهير العالم من ذلك الخبث الذي هو لنقض وضوء الإسلام حدث فغدا جيده في فتر خانق فاستراح مما ألم به من القلب الخافق فاتفقت مواراة سوأته بقرب من قبله حسن باشا باسكدار وما أبغض الجار إلى الجار انتهى قلت وكان قتله في سنة اثنتي عشرة بعد الألف والله أعلم(1/359)