أولهما : كون الآية على أسلوب التشبيه الذي أداته مُقدَّرة.
ثانيهما : أنه من التشبيه المؤكد الجمل لحذف الوجه مع الأداة.
والذي يبدو أن في عَذَ هذه الآية من باب التشبيه - سواء أكانت من التشبيه
المعدول أو المقلوب - مجافاة للصواب.
لأن الآية تبالغ في شأن من اتبع الهوى ونسي واجبات الخالق . وليس الغنى أنه ساوى بين واجبات الخالق.
ومغريات الهوى . إذن فليس له - من ظاهر حاله - إله غير الهوى.
وقد سبق عن ابن عباس أن في الآية تقديماً وتأخيراً . .
والتقدير : " اتخذ هواه إلهه ".
فعدها - إذن - من التشبيه ليس بمسلم.
وعدوا من المقلوب قوله تعالى حكاية عن ابنة عمران : (وَليْسَ الذَّكَرُ
كَالأُنثَى) . . والأصل : وليس الأنثى كالذكر . ولعل سر التقديم هنا أن
نفسها كانت تمتلئ رغبة في الذكر الذي طلبته.
* *
* خصائص تشبيهات القرآن :
أولاً - إن القرآن الكريم قد اشتمل على قدر كبير من التشبيهات ومن
التمثيل لا تكاد تخلو منها واحدة من سوره الطوال.
بل قد حفلت قصاره بكثير منه.
وهو يتخذ من الأسلوب التشبيهى والتمثيلي وسيلة للبيان والتهذيب ،
والتربية والإصلاح والمدح والذم ، والإرشاد والتوجيه.
ثانياً - إن الغرض الدينى هو السمة الظاهرة في جميع تشبيهات القرآن
وتمثيله وليس بينها ما يخلو من هذه السمة .(2/279)
ثالثاً - إن الفائدة في التشبيه القرآني تعود دائماً على المشبه لأن المشبه
به أقوى صلة بالصفة المشتركة بين الطرفين . وهذا هو الغالب فيه.
" ومن غير الغالب أن يتساوى الطرفان في الصفة . أو يكون المشبه أقوى
من المشبَّه به كقوله تعالى : (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) ، وليس هناك داع للاحتجاج على مشروعية هذاَ
التشَبيه وصحة معَناه بأمثلة من الشعر أو غيره.
لأن المراد الإيضاح والبيان وليس المراد بيان المقدار ".
والتشبيه الإيضاحى لا يُشترط فيه قوة الصفة في المشبه به دون المشبه ،
والأولى أن يقاس على القرآن أقوال الشعراء لا أن يقاس هو عليها سواء في
ذلك مسائل هذا الفن وغيره من الفنون كالنحو والصرف.
رابعاً - مادة التشبيه والتمثيل القرآني :
إن القرآن يتخذ من الطبيعة وظواهرها من سُحب وأمطار . ورعد وبرق.
ويحور وأنهار . وزروع وأشجار . وجبال وصواعق . وزوابع وأعاصير.
يتخذ من كل ذلك مادة حية في تشبيهاته وتمثيلاته . . كما يتخذ من الحيوانات والآفات التي تصيب الإنسان كالعمى والبُكم والصم . . .
وما أشبه ذلك ، يتخذ منه كذلك مادة لتشبيهاته وتمثيلاته.
ويتخذ من أحوال الحياة من غير هذه العناصر مادة يُشكِّل فيها التشبيه والتمثيل على نمط فريد . واتخذ كذلك من المعادن النفيسة مادة لتلك التشبيهات.
كما اتخذ من صفات البَشر من الرق والحرية وما أشبههما مادة لتشبيهاته ،
وقد تكون الصورة المشبَّه بها مفروضة غير مدركة كتشبيه الإنفاق الخالص بسنبلة(2/280)
أنبتت سبع سنابل ، وكتشبيه طلع شجرة الزقوم برؤوس الشياطين ،
وكتشبيه اهتزاز العصا باهتزاز الجان.
ولذلك كانت تشبيهات القرآن خالدة حية مستمرة الجدة والطرافة ، والرقة
والجزالة ، لأنها مصنوعة من مادة حية متجددة الرواء والنماء.
خامساً - غناء التشبيه والتمثيل القرآني :
إن جملة التشبيه والتمثيل في القرآن غنية بالمعاني الإضافية التي تقوى من
المعنى الذي من أجله صيغ التشبيه أو التمثيل ولم يُكتَف فيها بمجرد وجود
التشبيه بين الطرفين نفياً أو إثباتاً ، ذماً أو مدحاً ، وتقوم فواصل الآي في هذا
المجال بنصيب كبير.
ففى تمثيل الإنفاق الخالص بالسنبلة التي أنبتت سبع سنابل تجد وجه الشبه
هو الكثرة والنماء . فجاءت الفاصلة مع قرينتها وافية بهذا المعنى أيما وفاء ،
(وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261).
وفي تمثيل الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة جاءت الفاصلة مؤكدة لهذا المعنى : (أُصْلُهَا ثَابثٌ وَفَرْعُهَا فِي السماءِ).
كما أكدت فاصلة تشبيه الكلمة الخبيثة المعنى حيث كانت : (اجْتُثتَ من
فَوْقِ الأرْضِ مَا لهَا مِن قَرَارٍ).
ثم تأمل المقابلة الساحرة بين الموضعين : " أصلها ثابت " مع " اجتثت من
فوق الأرضِ " ، و " فرعها في السماء " مع " ما لها من قرار ".
وإيثار لفظ مكان آخر يؤدى هذا الدور أيضاً ، فقد جاء تشبيه الموج بالجبال ، وتشببه السفن بها كذلك . ولكنه في جانب تشبيه الموج آثر كلمة : " الجبال " ، وفي جانب تشبيه السفن بها آثر كلمة : " الأعلام " وأصل المعنى واحد .(2/281)
ولعل السر في هذه التفرقة أن السفن أضخم عادة من الموج والمراد بالجبل
مطلق الجنس ، أما الأعلام فلا يراد بها إلا الجبال العظيمة ، فلذلك جاءت كل كلمة في الموضع المناسب لها من حيث الوفاء بحق المعنى في دقة وإحكام.
وقد ينمى القرآن المعنى المراد من التشبيه بزيادات لا تخلو من دلالة مهمة
كقوله تعالى : (وإنْ يَسْتَغيثُواْ يُغَاثُواْ بمَاءٍ كَالمهْلِ) ، وإلى هنا يكمل المعنى . .
ثم يأخذ القرآن بعد ذلك في إضافة زيادات مهمة تزيد المعنى
الأصلي قوة وسلطاناً . فيقول : (يَشْوي الوُجُوهُ) ، ويقول : (بئْسَ
الشَّرابُ) ، ويقول : (وَسَاءت مُرْتَفَقاً).
ومثله قوله تعالى : (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46).
فقد وصف " المهل " بأنه : " يغلى في البطون ".
ثم أخذ " الغلي " المفهوم من الفعل : " يغلي " وأدخله في تشبيه
آخر : " كغلي الحميم " فخطا بالمعنى نحو القوة خطوة لها شأنها من حيث
المقام . مقام التهديد والإنذار . . وغير ذلك كثير.
فأنت ترى - إذن - أن جملة التشبيه أو التمثيل في القرآن مرنة لها من
الحرية أن تدخل من المعاني الإضافية واستبدال لفظ مكان آخر أو أن تأتي فى
الفاصلة بما يقوى المعنى ويؤكده . في غير ما سرف ولا فضول.
سادساً - إن الأداة الغالبة في تشبيهات القرآن هي " الكاف " ثم " كأن " ،
وغالباً ما تدخل الكاف على كلمة " مثل " فتشبه مثلا بمثل . وقَلَّ حذف الأداة فى تشبيهات القرآن على عكس ما يرى ابن الأثير في المثل السائر.
وقد تدخل " الكاف " على " ما " المصدرية.
وهي هنا تفيد التساوى بين الطرفين كما في قوله تعالى :
(آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ).(2/282)
وقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15).
وقوله : (إنا أوْحَيْنَا إليْكَ كَمَا أوْحَيْنَا إلى نُوحٍ).
*
* صورتان فيهما دقة :
وقد يكون المشبه مع " كما " محذوفاً كقوله تعالى : (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5).
فقد قال النسفي : " كما أخرجك ربك " في محل نصب على أنه صفة
الفعل المقدر . والتقدير : " قل الأنفال استقرت للهِ والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك ".
وأورد الزمخشري هذا الرأي بلفظه ومعناه ، ثم أورد رأياً آخر ، قال : أن
يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : " هذه الحال كحال
إخراجك ، يعني أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم فى
كراهة خروجك للحرب ".
وتابع العلامة أبو السعود ما ذكره الزمخشري في الوجهين.
ومن هذا يتضح أن " كما " لم تدخل على المشبَّه به . بل دخلت على ما هو
معمول في المعنى للمشبَّه به . وهو : " لكارهون ".
ومثله في كون الأداة غير داخلة على المشبَّه به - وهي : " كما " ، أيضاً
قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ).(2/283)
َقال الزمخشري : " فإن قلتَ : ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم
أنصاراً للهِ بقول عيسى صلوات الله عليه : (مَنْ أنصَارِي إلى الله) ؟
قلت : التشبيه محمول على المعنى ، وعليه يصح والمراد : كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم : (مَنْ أنصَارِي إلى اللهِ).
*
* سر آسر :
وهذا التصرف البديع لم يُعرف في غير القرآن . ولعل السر في إيلاء أداة
التشبيه غير المشبه به - كما رأينا - الإيماء إلى عقد تشبيه بين القولين وهما :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ أنْصَارَ الله) ، و (قَالَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
لِلحَوارِيينَ مَنَْ أنصَارِي إلى اللهِ).
والوجه : أن كُلا من القولين يجب أن يُطاع ويُمتثل.
أما قول عيسى عليه السلام فقد أجيب . فعلي الذين آمنوا - كذلك - أن يجيبوا هذا القول ويمتثلوه.
وقد تدخل " الكاف " على اسم الإشارة - وهو كثير جداً في القرآن : وهو
على كثرته نوعان :
نوع يتضح فيه أمر التشبيه . مثل : (وكَذَلكَ أوْحَيْنَا إليْكَ رُوحاً مِن
أُمْرِنَا) بعد قوله تعالى : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا).(2/284)
وهذا النوع - أعنى وضوح التشبيه معها - هو الغالب في استعمالها فى
القرآن الكريم.
والنوع الثاني : ألا يكون أمر التشبيه فيها ظاهراً . مثل قوله تعالى :
(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40).
لذلك يرى بعض الباحثين : أن يحمل معناها على التوكيد وإن صح معها
تقدير التشبيه . وهذا الرأي لا يخلو من الوجاهة.
هذا . . وقد تتصدر أداة التشبيه في القرآن كلاماً جديداً يكون مشبَّهاً به.
أما المشبه فغير مذكور صراحة ، بل هو أمر منتزع من كلام سابق وذلك كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11).
قال الزمخشري : " دأب هؤلاء كدأب الذين من قبلهم من آل فرعون
وغيرهم).
ولهذه الآية نظائر هي : آية : 54 من نفس السورة وآيتا : 50 - 51 من
الأنفال ، وآية : 31 من غافر.
فالمشبه - هنا - محذوف ، والذي سوَّغ حذفه دلالة المقام عليه.
وفي كل موضع من هذه المواضع التي حُذفَ فيها المشبه حرص القرآن الكريم على ذكر أداة التشبيه للإشعار به لأنها لو حُذفت مع حذف المشبه لكان الحمل على التشبيه بعيد التصور نوعا .(2/285)
ولا أظن أن هذا النوع من التشبيه معروف خارج دائرة القرآن.
فهو كذلك سمة من سماته الفريدة.
سابعاً - تجمع تشبيهات القرآن بين أقسام التشبيه الأربعة المعروفة من حيث
الطرفان.
ففيه تشبيه المحسوس بالمحسوس وتشبيه المعقول بالمحسوس وهذا القسم هو
الغالب فيه . كتشبيه الإنفاق الخالص بسنبله أنبتت سبع سنابل.
وكتشبيه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة والكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة . . . وغير ذلك كثير.
*
* وهم مدفوع :
وقد وَهمَ بعض المعاصرين فقال إن تشبيهات القرآن تقف عند هذين
القسمين . لأن تشبيه العقول بالمعقول وارد في القرآن الكريم ، ومنه قوله
تعالى : (وَإذا قيلَ لهُمْ آمنُواْ كَمَا آمَنَ الناسُ قَالواْ أُنُؤْمنُ كَمَا آمَنَ
السُّفَهَاءُ)
وقوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ).
وقوله تعالى ْ (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ).
وقوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47).
فلا يشك - أحد أن التشبيه في هذه الآيات واقع بين معقول ومعقول ، فكيف ساغ إذن أن يقال إن التشبيهات في القرآن لم تخرج عن ذينك القسمين ؟(2/286)
ولم تقف تشبيهات القرآن عندما ذكرنا ، بل هو مليء بأمثلة أخرى.
وفيه - كذلك - تشبيه المحسوس بالعقول.
ومثاله قوله تعالى : (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا).
وقوله تعالى : (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65).
والآن فهل لقول مَن يرى أن تشبيهات القرآن محصورة بين تشبيه المحسوس
بالمحسوس والمعقول بالمحسوس نصيب من الصحة ؟
*
* وجه الشبه في تشبيهات القرآن :
أما وجه الشبه فيأتي مفرداً ومركباً ، وكل منهما عقلي وحسي.
فما الوجه فيه مفرد عقلي قوله تعالى : (إنَّا أوْحَيْنَا إليْكَ كَمَا أوْحَيْنَا إلى نُوح).
والوجه ثبوت كون الوحينِ من عند الله.
وما الوجه فيه مفرد حسي قوله تعالى : (وَجَنة عَرْضُهَا السماواتُ
والأرْضُ). والوجه هو الاتساع والبسطة.
وما الوجه فيه مركب عقلي قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا).
وما الوجه فيه مركب حسي قوله تعالى : (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ).
وقد جمعت تشبيهات القرآن بين تشبيه المفرد بالمفرد كما في قوله تعالى :
(وَهى تَجْرى بهمْ في مَوْجٍ كَالجبَال) ، وقوله : (من صَلصَال كَالفَخاَرِ).(2/287)
والمركب بالمركب كما في قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتخَذُواْ من دُون الله أُوْليَاءَ
كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتخَذَتْ بَيْتاً).
وتشبيه المفرد بالمركب كقوله تعالى : (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ).
ولا رابع لهذه الأقسام إذ لم يرد فيه تشبيه المركب بالمفرد.
*
* ووهم آخر مدفوع :
ولستُ مع الأستاذ علي الجندى إذ يرى " أن التشبيه المتعدد لم يرد فى
القرآن لما فيه من أثر الصنعة والتكلف ".
والواقع أن التشبيه المتعدد وارد في القرآن.
وقد خلا من أثر الصنعة والتكلف وهو على أنواع :
1 - التعدد في الوجه والطرفان مفردان . مثل قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) . .
فقد شبَّه القمر بالعرجون - وهما مفردان - من ثلاثة وجوه . هي : الدقة والانحناء والاصفرار.
ومثله : (يَوْمَ يَكُونُ الناسُ كَالفَراشِ المبْثُوثِ) . .
أي في الكثرة والضعف والتموج.
2 - وقد يكون الشبه مفرداً ، والمشبَّه به متعدداً كقوله تعالى : (كَأنهُن
اليَاقُوتُ والمرْجَانُ).(2/288)
ومنه أيضاً - أي من المتعدد - قوله تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) . . فقد تعدد المشبه به والمشبَّه مفرد.
وبهذا يندفع ما ذهب إليه الأستاذ على الجندى من نفى التعدد عن تشبيهات
القرآن الكريم مع خلوها - متعددة ، وغير متعددة - من أثر للتكلف والصنعة.
*
* مدخول الأداة في التشبيه المركب :
ثامناً - أن أداة التشبيه في القرآن الكريم حين تدخل على أحد أجزاء
الصورة التشبيهية في التشبيه المركب فإن الجزء الذي تدخل عليه هو أعظم تلك الأجزاء في رسم الصورة . لذلك أوثر دخولها عليه من بين بقية الأجزاء.
يظهر هذا جلياً في المواضع الثلاثة التي شبَّه فيها القرآن الدنيا في سرعة
فنائها بعد ازدهارها . فإن الأداة في تلك المواضع الثلاثة لم تدخل إلا على الماء ، والماء ليس مشبَّهاً به بل مجموع الأجزاء مع ملاحظة الصورة المكونة منها هى المشبَّه بها.
وما ذلك إلا لأن الماء هو أهم عنصر من عناصر تلك الصورة التي أريد
التشبيه بها . فليس في بقية الأجزاء جزء ليس للماء مدخل فيه.
وكذلك عندما ضرب الله مثل اليهود في حفظهم للتوراة . وترك العمل بها ،
فإن الأداة دخلت على أحد أجزاء الصورة وهو الحمار ، والحمار في تلك الصورة هو أهم جزء من أجزائها كلها لذلك أوثر الدخول عليه.
وكذلك عندما شبَّه الله أعمال الذين كفروا ، فإن الأداة دخلت على أهم جزء من أجزاء الصورة وهو الرماد .(2/289)
ولعل هذا الأسلوب للإيمان بأن مدخول الأداة يمكن أن يستقل بأن يكون
الطرف القابل للمشبه في قوته وأهميته في البيان والإيضاح ، ولو حاولتَ
مخالفة ما صنعه القرآن في هذه المواضع وما أشبهها فأدخلت الأداة على جزء
آخر لوجدتَ مخالفة بين المعنيين ، وهذا العمل - أي تبديل الجزء المدخول عليه بآخر - قد لا يكون له فرق في المعنى إذا نحن أجريناه خارج دائرة القرآن كبيت بشار مثلاً :
كَأن مَثَارَ النَقْعِ فَوْقَ رُؤُوسِنا . . . وَأسْيَافَنَا ليْلٌ تَهاوَى كَواكِبُه
*
* عود للتشبيه المسلوب :
تاسعاً - ومن خصائص التشبيه القرآني تلك التشبيهات السلبية بما تحتوى
عليه هي نفسها من خصائص وذلك حين يقارن القرآن بين أمرين ليس بينهما وجه للمقارنة فينفى القرآن أن يكون بينهما وجه من وجوه الشبه ، ويغلب على هذا النوع دخول الاستفهام الإنكارى ، وقد يؤكد ذلك الإنكار بلفظ مذكور فى الفاصلة ،
كقوله تعالى : (أفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسقاً لا يَسْتَوُونَ).
وقد يأتي الإنكار قبيل الفاصلة كقوله تعالى :
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76).(2/290)
وقد يُبدَّل من هذا التشبيه تشبيه آخر منكر فيه تخصيص لعموم إفادة الأول
وذلك كقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21).
ويمكن أن يدمج هذا الملحظ إلى ما أسميناه بغنى جملة التشبيه في القرآن
الكريم.
* *
* نوع فريد من التشبيه في القرآن :
عاشراً - وفي التشبيه القرآني نهج فريد لم يُعهد في سواه ذلك أن الناظر
فى تشبيهات القرآن يرى أداة التشبيه تأتي عقب جمل من الكلام لها معنى قد
أدئه . فتدخل أداة التشبيه على اسم إشارة مشار به إلى مجموع تلك الجمل
باعتبار المعاني التي أدَّتها فيكون اسم الإشارة مشبَّهاً به ملحوظاً فيه معاني
تلك الجمل ، ويأتي بعد ذلك المشبه مؤخراً اسماً أو فعلاً.
والمعهود أن المشبه رتبته التقديم على المشبَّه به وعلى الأداة.
ومن ذلك قوله تعالى بعد ذكر قصة أصحاب الجنة وقد فصَّل القرآن الحديث فيها : (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33).
فالمشبه العذاب - وهو هنا - اسم وقد أُخرَ على المشبَّه به والأداة لفظاً لأن
رتبته التقديم إذ هو مبتدأ . و " الكاف " وما دخلت عليه خبره.
والمعنى : " العذاب كذلك " ، ولعل السر في التقديم هنا لأن المشبَّه به لم يستقل بالمعنى لأنه مشار به إلى معاني الجمل التي سبقته . فقُدم لتقدمها .(2/291)
ومعنى آخر - أن البدء بأداة التشبيه هنا والياً لها المشبَّه به تُشعر باتصال
الكلام ، أما لو بدئ بـ " العذاب " لتوهم زوال ذلك الاتصال.
ومنه أيضِاً : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28).
والمشبه - هنا - فعل كما ترى.
كما تأتي أداة التشبيه في بدء كلام فتربط بينه وبين كلام سابق من حيث
أنهما متشابهان - لتؤذن - مع هذا بتفصيل المشبَّه به فيما يستأنف من الكلام.
ومثاله أيضاً من قصة أصحاب الجنة : (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17).
ويتوالى الحديث بعد ذلك في تفصيل قصة أصحاب الجنة التي هي مشبَّه بها.
* *
* التشبيه والتمثيل أصيلان في أسلوب القرآن :
حادى عشر - لذلك كانت جملة التشبيه في القرآن تمثل عنصراً أساسياً فى
إيضاح المعاني وتقريرها . وليست ثانوية في الأسلوب.
لذلك استخدمها القرآن الكريم في الأغراض الهامة من المدح إلى الذم.
ومن الترغيب إلى الترهيب . ومن التهذيب والإصلاح إلى التشريع والأحكام إلى الجدل والإفحام إلى آخر مقاصد الكتاب الحكيم.
ثانى عشر - إن الباحث في تشبيهات القرآن يراه محذوف الوجه دائماً فهي
- إذن - من التشبيهات الجملة التي تقتضى التماثل التام بين الطرفين . وفى
هذا نوع من تأكيد الصلة بين ذينك الطرفين.
* * *(2/292)
الفصل الثاني
1 - المجاز في القرآن الكريم
دراسة تحليلية حول نص مختارمن سورة البقرة
* النص :
قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)(2/293)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
* *
* عرض سريع :
فى هذه الآيات يتحدث القرآن عن طائفتين من الناس :
طائفة كافرة ، وأخرى جمعت إلى الكفر النفاق.
وفي حديثه عن كل من الطائفتين ذكر أوصافها ،
وأسباب تلك الأوصاف وجزاءها المدَّخر لها في الآخرة.
ففى الآية الأولى من النص الحكيم إجمال للحديث عن الكافرين.
وفي الآية الثانية تفصيل موجز لقصتهم.
وفي الآية الثانية عشرة مثل مضروب لهم.
ثم حكم عليهم في الآية الثالثة عشرة.
أما قصة المنافقين فتبدأ بالآية الثالثة من النص الحكيم . حتى الحادية عشرة.
وعندها يُسدل الستار قليلاً ليبرز أمامنا مثل الكافرين في الآية الثانية عشرة
وما بعدها وبهما ينتهى الحديث عن الكافرين . ويُرفع الستار مرة أخرى عن
طائفة المنافقين . ليضرب لهم - أيضاً - مثلاً موضحاً وكاشفاً لحقيقتهم وبهذا
ينتهى الحديث عن الطائفتين (1).
وفي كلا الموضعين - الكافرين والمنافقين - كان حديث انقرآن مفصلاً بحكمة ومقدَّراً بمقدار.
أولاً - في شأن الكافرين :
وقد حصر القرآن شأنهم في البقاء على الكفر والعناد مهما دعوا وأنذروا.
__________
(1) في جعل المثل الأول للكافرين والثاني للمنافقين مسايرة منا للدكتور محمد عبد الله دراز إذ هو صاحب هذا الرأي . وقد خالف به ما أجمع عليه المفسرون وسنفصل هذا بعد قليل .(2/294)
هذا الشأن يصوره القرآن في عبارات وجيزة ذات براعة في التصوير ، وقوة فى التأثير :
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7).
فقد جاءَ الحكم مؤكداً ب " إن " ، وآثر التعبير عنهم بالوصول ليمكن وصفهم بالذي استحقوا عليه العقاب في الصلة.
كما أن اسمية الجملة مفيدة أيضاً للتأكيد . وعبَّر عن الإنذار بالفعل ليفيد فائدة لم يكن لتحصل لو عبَّر عنها بالاسم . لأن الأصل : سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك . أو إنذارك وعدم إنذارك سواء عليهم.
* *
* لماذا يستخدم القرآن المصدر المؤول.
والجواب : إن المصدر المؤول أو الفعل يتيح صلاحية الكلام لإفادة اعتبارات
من شأنها أن تقوى المعنى أو تجعله أنسب المقام.
ومن ذلك قوله تعالى : (أوَلمْ يَكْفهمْ أنا أنزَلنا) ، والتقدير : أو لم يكفهم إنزالنا وقد رأينا أن المصدر المؤول جعل الكلام صالحاً لدخول حرف التوكيد على الجملة.
كما أن اعتبار التجدد والحدوث المستفاد من الفعل هنا مطلوب.
وقال في سورة البقرة : (وَأن تَصُومُوا خَيْرٌ لكُمْ).
بدل : " صيامكم " . لأن الاستقبال مع التجدد والحدوث داخل في الاعتبار هنا : إذ المقام مقام بيان حكم شرعي إنما يطاع ويمتثل بعد ثبوت التشريع.
وقال في سورة يوسف : (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35).
فإن الذوق يحكم بأن فاعل " بداَ " هنا . هو المصدر المتصيَّد من الفعل وتقديره : بدا لهم سجنه . وإنما وضع الفعل : " ليسجننه " بدله لأنه(2/295)
أتاح دخول التوكيد القسمى والتوكيد ب " النون " على الفعل وهذا يكشف لنا أن أمر سجن يوسف قد بدا لهم بداءً مؤكداً لا بديل له.
ولو وُضِع الاسم بدل الفعل لفاتت هذه الاعتبارات.
وقد عبَّر عن فساد القلوب بالختم عليها . وكذلك الأسماع.
أما الأبصار فحيث لم يهتدوا إلى الصواب عن طريقها وعموا عن الدلائل والآيات . فقد عبَّر عن هذا بالغشاء الذي يُجعل على الأبصار فيحجب عنها الرؤية الصحيحة.
يقول الزمخشري موجهاً ذلك : " فالختم والكتم أخوان . لأن في الاستيثاق
من الشيء بضرب الخاتم عليه . كتمانه وتغطيه لئلا يتوصل إليه ولا يطلع
عليه ".
" والغشاوة : الغطاء - فعالة من غشاة إذا غطاه - فإن قلت : ما معنى
الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار ؟.
قلت : لا ختم ولا تغشية ثَمَّ على الحقيقة.
وإنما هو من باب المجاز . ويُحتمل أن يكون من كِلا نوعيه.
وهما الاستعارة والتمثيل ".
وحاصل كلامه أن لنا اعتبارين في تحليل هذا المجاز.
إما أن نعتبر الختم والتغشية كُلا منهما استعارة مفرد لفرد . على طريق
التصريحية التبعية في الختم والتصريحية الأصلية في التغشية.
وإما أن نعتبر الكلام كله . استعارة تمثيلية لهيئة بهيئة . وكلا المعنيين حسن.
وإن كان الذوق يميل إلى اعتبار المجاز المفرد فيها دون المركب.
وقد أبى الزمخشري إسناد الختم إلى " الله " على الحقيقة . متأثراً بمذهبه
الاعتزالى الذي لا يجيز إسناد أفعال القُبح إلى الله . ولذلك جعله من المجاز
العقلي . والفاعل الأصلى هو الشيطان ، أما إسناده إلى " الله " فلأنه أقدر(2/296)
الشيطان عليه . والعلاقة - إذن - هي السببية.
وقد رأى هذا الرأي فى غير هذا الموضع.
وقد تناول القرآن هذه الحواس الثلاث : " القلوب - الأسماع - الأبصار "
عند حديثه عن الكافرين في أساليب متنوعة . ومواضع مختلفة تفيد فى
جملتها : أن وجود هذه الوسائل لانعدام أثرها النافع فيهم كعدم وجودها.
وكثرت في هذه الأساليب استعارة " ختم " للدلالة على هذا المعنى.
قال في الجاثية : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً).
* * *
* مقارنة سريعة :
ولنا أن نقارن بين صورة المجاز في هذه الآية . وبين صوره في آية " البقرة ".
فالحال هنا هو الحال هناك : كفر وعناد ، وهناك ختم على القلوب والأسماع ، وغشاوة على الأبصار ، وهنا - كذلك ختم وغشاوة . فالآيتان متفقتان في رسم الإطار العام للمعنى مختلفتان في دقائق التعبير.
ففى آية " البقرة " القلوب مقدمة على السمع . وهنا السمع مقدم على
القلب . وهنا أيضاً تصريح بنسبة جعل الغشاوة على البصر ، وهناك ترك لذلك التصريح اكتفاءً بذكر الجار والمجرور.
فما السر إذن ؟
لعل السر في ذلك أن في آية " البقرة " مجرد إخبار عن حال الكافرين عامة
فهم لا تثمر فيهم بشارة ولا يخيفهم إنذار . .
من أجل ذلك لم يهئ الله لهم أسباب الهداية . لعدم استعدادهم لذلك .(2/297)
أما في آية " الجاثية " فعرض لنموذج معيَّن فريد من جنسه ، وقصد إلى
نوع ألد خصومة وأبعد ضلالاً ، يشعر بذلك أن صدر الآية فيه لفت قوى إلى
تأمل حال هذا النوع : (أفَرَأيْتَ مَنِ اتخَذَ إلهَهُ هَواهُ). . هذه واحدة.
(وَأضَلهُ اللهُ عَلى عِلم) . . وهذه ثانية.
(وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلبِهِ). . وهذه ثالثة.
(وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشَاوَةً). . وهذه رابعة.
فهو لانغماسه في هواه لم يعر دعوة الحق أدنى اهتمام ، فهو عنها في صمم ،
فجدير بقلبه أن يُختم ما دام لم يصل إليه عن طريق السمع توجيه مفيد ، فلم
يسمع ، ولم يع ، ولم ير شيئاً غير شهواته وملاهيه.
وقال في سورة الأنعام : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) . .
وظاهر أن هذه الآية مسوقة في مقام التهديد والوعيد وهو مقام قرة وعنف ، ولهذا جاءت الاستعارة هنا مناسبة للمقام لا فيها من قوة وعنف ، ففى الآيات السابقة كان كل من السمع والبصر موجوداً ، لكنهما منوفان ، وفي هذه الآية السمع والبصر مأخوذان من أصلهما ، حتى ليخيل إلى التأمل في هذه الصورة أنها تمثل أناساً غريبي الخِلقة ليس لهم حاسة سمع ولا حاسة بصر!
والقلوب مع هذه مختوم عليها ، فماذا بقى فيهم من وسائل النفع ؟
لا شيء . . إذن فلا خير في بقائهم ولا أسف على هلاكهم.
* * (2/298)
* صمت . وكلام :
وصورة أخرى من صور الحشر ، يحكيها القرآن عن الكافرين حينما يأتون يوم القيامة يريدون أن يجادلوا عن أنفسهم ، فإذا هموا بالاعتذار فقدوا النطق وهنا نرى كلمة " ختم " تفارق مكانها السابق - القلوب والأسماع - وتقفز قفزة سريعة لتجثم فوق الأفواه : (اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْواهِهِمْ).
(هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64).
الأفواه هنا أحكم ختمها . لماذا ؟ لأنهم همَّوا بالكلام مجادلين ومعتذرين.
فدحضوا وفقدوا كل حُجة للدفاع عن أنفسهم ، وهنا تأتي مفاجأة لم تكن فى
الحسبان لحظة : (. . وَتُكَلَمُنَا أيْديهمْ وَتَشْهَدُ أرْجُلهُم بمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
يا سبحان الله . . أرادوا الكلام من حيث عهدوا ليدفعوا عن أنفسهم العذاب
فما استطاعوا . وتكلم منهم ما ليس بمتكلم لإحلال العذاب عليهم . .
من هذه النصوص نرى أن القرآن يستعير كلمة " ختم " إذا كانت فعلاً
ماضياً أو مضارعاً ، ويجعلها صفة لقلوب الذين كفروا فلم يفقهوا شيئاً.
* *
* " طبع " و " ختم " أختان :
وقد فسَّر المفسِّرون ومنهم الزمخشري " ختم " : بطبع لإفادة نفس المعنى.
ومن العجيب أن كلمة " طبع " قد استخدمها القرآن مستعارة لهذا المعنى.
وجاءت كذلك في إحدى عشرة آية . وهي :(2/299)
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155).
(. . رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87).
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93).
(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100).
(تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101).
(أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108).
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74).
(كَذَلِكَ يَطبَعُ اللهُ عَلى قُلوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلمُونَ).
(كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35).(2/300)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16).
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3).
* *
* وصف جامع :
وبالنظر في هذه الآيات جميعاً يتضح لنا أن القرآن استخدم مادتى : " ختم "
و " طبع " . في مواضع متعددة يشملها وصف واحد هو أن هاتين الكلمتين
تفيدان في هذه النصوص إعراض مَن وقعت في سياق الحديث عنهم عن قبول
الإيمان . وأن القرآن يقرن بهما في كل موضع جاءتا فيه وصفاً يفيد نفى العلم
النافع عنهم . أو وصفاً يُشعر بذمهم وسوء مصيرهم.
وهذا المعنى يؤدى بنفى العلم صراحة في بعض المواضع ، وفي بعضها يؤدى بنفى ما يُفهم منه نفى العِلم.
هذا قياس مطرد نجده في كل النصوص الواردة في هذا الشأن.
لِمَ لمْ يتخلف منها واحد ؟
ففى آية " البقرة " خُتمت الآية بوصف صريح في ذمهم ومصيرهم السيئ :
(وَلهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ).
وآية " الجاثية " قرنت الآية بعدة أوصاف لإفادة معنى الذم.
وفي آية " الأعراف " كذلك : (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ).
* *
* تفرقة عجيبة :
وباستقراء استعمال القرآن لهذه المادة : " ختم " نجد استعمالاتها إذا كانت
فعلاً . مقصورة على مواضع الذم . متضمناً السياق الذي هي فيه وصفاً يُشعر
بذلك الذم متقدماً عليها أو متأخراً عنها.
وقد سبق شرح هذه الظاهرة العجيبة .(2/301)
أما إذا كانت اسماً فإنها تختص في هذه الحالة بمواضع المدح ، وقد جاءت -
كذلك - في سورتين ، إحداهما : سورة الأحزاب في قوله تعالى :
(مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) ،
وقد أجمع العلماء على أن ختَم الرسل بمحمد عليه السلام وصف شامل لفضائل التعظيم اختص الله به محمداً عليه السلام.
والثانية - سورة المطففين : (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26).
وهذه خاصة من خصائص الأسلوب القرآني إذ يفرِّق بين استعمالات الكلمة
الواحدة فيطرد استعمالها على صورة معينة في موضع ويطرد صورة أو صوراً
أخرى من استعمالاتها أيضاً في موضع آخر.
أما مادة " طبع " فقد استعملت كذلك في معنى الذم.
وقرن استعمالها فى كل موضع بوصف مشعر بذلك الذم.
على أن الغالب في الوصف هنا أن يكون بنفى العِلم أو الإيمان.
أو ما يؤدى إلى نفى العِلم بطريق التجوز في الكلام.
فآيتا " التوبة " اللتان ذكرناهما آنفاً . إحداهما فيها نفى العلم صراحة :
(فَهُمْ لاَ يَعْلمُونَ) ، والثانية تنفى عنهم " الفقه " الذي هو أخص من العلم :
(فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ) ، وآية " النساء " تنفى عنهم العلم صراحة . . .
أما آيتا سورة " الأعراف " فإحداهما تصريح بنفى " السمع :
(فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) وهذا يتضمن نفى العلم عن طريق المجاز المرسل الذي علاقته السببية . لأن السمع سبب في " العلم " إذ هو وسيلته ،
والثانية تُصرَّحَ بنفى الإيمان : (فَمَا كَانُواْ ليُؤْمنُواْ بمَا كَذَّبُواْ به مِن قَبْلُ) ،
وفي نفى الإيمان نفى للعلم النافع عن طريق المجاز المرسل الذي علاقته السببية ، لأن السمع سبب فى(2/302)
العلم إذ هو وسيلته ، ولأن الإيمان سبب عن العِلم الذي يهدى إلى النظر والتأمل وينَتهي إلى الإيمان الدعم بالدليل.
وتدل آية سورة " يونس " على نفى الإيمان كذلك : (فَمَا كَانُواْ ليُؤْمنُواْ
بِمَا كَذَّبواْ بِهِ مِن قَبْلُ).
أما آية سورة " الروم " فتنص على نفى العلم صراحة : (كَذَلكَ يَطبَعُ
اللهُ عَلى قُلوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلمُونَ).
وفي آية " النحل " إثبات الغفلة لهم أمر يستدعى - بداهة - سلب العلم
عنهم : (وَأؤلئكَ هُمُ الغَافلونَ) مع تقرير المعنى بتعريف الطرفين وتوسط
ضمير الفصل بينهَما . وهذا يفيَد القصر والتوكيد.
وتعود آية " المنافقين " إلى نفى الفقه ، كما سبق في إحدى آيتى " التوية " :
(فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ) ، وفي " غافر " نجد ذلك الوصف : (مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)
وهما خلتان ذميمتان . لا يتصف بهما إلا جاهل أو من في حكمه.
وفي آية " محمد " كان اتباع الهوى هو الوصف اللازم لهذا الفريق والمتبع الهوى حقير ذليل.
* *
* منهج القرآن في " طبع " و " ختم " :
فهذه سُنة القرآن فقد اتبع كل تصوير مجازي لمادة " طبع " - بعد التزامه
ورودها في مواضع الذم - وصفاً مؤكداً للمعنى ومشعراً به.
وهذه الأوصاف مهما تباينت طرقها فإنها لا تخرج عن تسجيل أشنع ألوان الذم لهؤلاء المذكورين.
ولنا أن نسجل - هنا - في اطمئنان . أن هاتين الآيتين " ختم " و " طبع "
مادتا مجاز في القرآن . مع التزام " طبع " في مواضع الذم . و " ختم "
كذلك إذا كانت فعلاً . فإن كانت اسماً فهى للمدح لا غير.
* * (2/303)
* " ربط " تنافى " ختم " و " طبع " :
من بديع القول أن القرآن حين التزم - على النحو الذي أبناه - استخدام
مادتى " ختم " و " طبع " للدلالة على فساد القلوب.
فإنه التزم مادة " ربط " للدلالة على صيانة القلوب من الفساد.
وذلك في مواضع ثلاثة :
الأول في أهل بدر : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ)
وقال في شأن أهل الكهف مادحاً : (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا . . ).
وقال في شأن أم موسىَ : (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10).
فى المواضع الثلاثة السابقة استخدم القرآن مادة " ربط " فعلاً في معنى
المدح ، على العكس من " ختم " و " طبع ".
وكذلك إذا كانت اسماً . . قال سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ).
وقال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200).
فى المواضع الثلاثة الأولى جاءت الكلمة - فعلاً - فأفادت حفظ القلوب من
الفساد وبقاءها على الإيمان والثبات.
وفي الموضعين الرابع والخامس وردت المادة في مقام الجهاد . اسماً فى
الأولى ، وفعلاً في الثانية . وذلك كله في مقام المدح والثناء .(2/304)
وهى في المواضع الثلاثة الأولى جاءت على طريق المجاز ، استعارة تصريحية
تبعية ، ويمكن حملها على المجاز المركب - كما سبق - عن الزمخشري فى
توجيه المجاز في " ختم ".
كما يلاحَظ أن الاستعمال المجازي هنا - بل وغير المجازي - مصحوب
بوصف يؤكد المعنى ويقويه وقد سبق نظيره في مادتي " طبع " و " ختم ".
* *
ثانياً - في شأن المنافقين :
أما المنافقون . . فقد بدأ الله قصتهم بمطلع مجمل : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8).
وطائفة المنافقين معقدة الأحوال . لها ظاهر طيب . وباطن خبيث.
ولهذا سلك القرآن في حديثه عنهم مسلكاً فيه شيء من تفصيل إذا ما قيس
بحديثه عن طائفة الكافرين.
فقد جاء حديثهم في إحدى عشرة آية من نص
بلغت جملة آياته خمس عشرة آية.
وقد اشتمل حديث القرآن عنهم على صور من المجاز والمعاني والبديع . .
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8).
تشتمل هذه الآية على صغرها على إجمال قصة الكافرين.
وتحتوي على أصول القضية وفروعها وإثبات الإيمان في صدر الآية حسب مدعاهم ونفيه عنهم فى عجزها.
حسب عدم الله بهم . يمثل عند البلغاء ما يسمونه طباق السلب ،
وأثره في جمال الأسلوب واضح.
وقد ذكر الله في الرد عليهم : (وَمَا هُم بمُؤْمنينَ) غير معد الوصف
ب " مؤمنين " إلى معمول . فما هم بمؤمنين باللهَ ولا بَاليوم الآخر . وذكرهما فى(2/305)
الدعوى أغنى عن ذكرهما في الرد عليها . كما نلاحظ دخول حرف الجر على الوصف وحقه ألا يدخل عليه . وذكره عفيد لتأكيد النسبة . لينفى عنهم - نفياً مؤكداً - ما أرادوا أن يروجوه عنهم رواجاً مؤكداً.
ولهذا تعادلت كفتا الميزان.
ثم لننظر إلى دقة التعبير القرآني . إنه قال : (مَن يَقُولُ آمَنا) ولم يقل :
" ومن الناس من آمن بالله " لأن القول غير الإيمان.
ولو كان كذلك لما جاز نفيه وإلا أدى إلى تناقض يحتاج إلى تحرج بعيد.
فكل لفظة فيه موضوعة بحساب.
(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9).
هذا شروع في تفصيل قصة المنافقين و " الخدع " أن يوهم صاحبه خلاف
ما يريد به من المكروه من قولهم : ضب خادع ، إذا أمَر الحارس يده على باب جحره أوهمه إقباله عليه ثم خرج من باب آخر.
فكيف جاز - إذن - إطلاقه على الله . وهو العليم الخبير ؟
*
* الخداع في جانب الله :
يجيب على ذلك صاحب المفردات فيذكر قوله تعالى : (يُخَادعُونَ اللهَ)
ثم قال : " أي يخادعون رسول الله وأولياءه ".
ونسب ذلك إلى الله تعالى من حيث أن معاملة الرسول كمعاملته.
ولذلك قال تعالى : (إن الَّذِينَ يُبَايعُونَكَ إنمَا يُبَايعُونَ اللهَ) ، وجعل ذلك خداعا تفظيعاً لفعلهم وتنبيهاً على عظم الرسول وعظم أوليائه ، وقول أهل اللغة : إن هذا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فيجب أن يُعلم أن المقصود بمثله في الحذف لا يحصل لو أتى بالمضاف المحذوف لما ذكرنا من التنبيه على أمرين :(2/306)
أحدهما : فظاعة فعلهم فيما تحروه من اللفظ معه.
وأنهم بمخادعتهم إياه يخادعون الله.
وثانيهما : التنبيه على عظمة المقصود بالخداع وأن معاملته كمعاملة الله ".
ويرى الزمخشري أن هذا مجاز عند البيانيين لأنهم تعاطوا - أي المنافقين
حسب ظنهم - أفعال المخادع ، والدليل عليه صدق نفيه في عجز الآية :
(وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أنفُسَهُمْ) . . مجاز استعاري كذلك لأن المراء لا يخدع
نفسه ، وإنما سمى إضرارهم أنفسهم " خداعاً " حيث كانوا لا يشعرون بأن فى
عملهم هذا ما يعود عليهم بالضرر ، وقد حسن من موقع المجاز هنا مشاكلته
للمجاز الأول بلفظه ومعناه.
وليس ضرر المنافقين بواقع على أحد ، وإنما هو واقع بهم ، وهذا المعنى أفاده
القصر في الآية الذي طريقه النفي والإثبات.
ولهذه المادة " خدع " مواضع في القرآن جاءت في واحد منها على معناها
اللغوى ، وجا عت في بقية المواضع على طريق المجاز منها الاثنان اللذان في آيتنا هذه ، وقد وضح المجاز فيهما ، أما المواضع الأخرى فهى :
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ).
فخداعهم لله مجاز تقدم الوجه فيه ، أما خداع الله لهم فمجاز - كذلك - لأن
الخداع الحقيقي يوهم - هنا - أن المخادع يعجز عن الكافحة وإظهار المكتوم ، مع أن الله تعالى قادر على هتك سترهم وإنزال العذاب بهم ولا حَرَج عليه.
ولكن حيث وضع فعل الله بهم مقابلاً لما توهموه خداعاً للهِ.
سمى جزاؤه لهم خداعاً ، فهو كقوله تعالى : (صَبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أحْسَنُ منَ الله
صِبْغَةً)(2/307)
* ولكن ما خداع الله لهم ؟
رأى يقول : إن ذلك من حيث تجرى عليهم أحكام المسلمين من حيث الظاهر
مع أن الله توعدهم وعيداً شديداً . . وهذا رأى صائب.
ولكن لماذا لا يراد بذلك إنعام الله عليهم وتقلبهم في مظاهر النعيم يسومون
فيها كما تسوم الأنعام ، ومصيرهم في الآخرة النار : (إنَّ المنَافقينَ فى
الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ)
*
* توجيه جديد للآية :
ولنا في الآية ملحظ . . ذلك أن الله عبَّر في جانب المنافقين بفعل رباعى :
" يخادعون " إذ أصله : خادع ، وهذا يقتضي مفاعلة بين طرفين مخادعٍ
ومخادعَ.
وفي جانب الذات العلية عبَّر بوصف من فعل ثلاثى لا مفاعلة فيه :
" خادعهم " من خدع . . فما السر إذن ؟
أرى - والله أعلم - أن الفعل : " يخادعون " . على حسب تصورهم أن
الله مخادع أمام ألاعيبهم - فهنا طرفان من حيث الظاهر.
أما في جانب الله ، فإن فعله سبحانه موجه إليهم لا على سبيل الخداع وإنما
هو فعل واقع من قوى لا يخشى شيئاً ، على ضعيف يخشى كل شيء.
فليس - هنا - مخادعة كاملة الأطراف ، ولذلك خولف في الموضعين بين
صيغ العبارة . . . ودليلي على ذلك القرآن نفسه .(2/308)
فإنه في آية " البقرة " قال : (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) . .
فهنا طرفان : مخادعٍ - وهم المنافقون - ومَخادَع - وهم الذين آمنوا ، فجاء
الفعل " يخادعون " من " خادع " المقتضى للمفاعلة بين طرفين.
وعندما بيَّن أن هذا الخداع غير مؤجه إلا إليهم أنفسهم جاء الفعل :
(وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أنفُسَهُمْ) ، من " خدع " الثلاثى الذي لا مفاعلة فيه.
لأنه ليس هنا طرفان بل طرف واحد ، وإن صح هذا فذلك من دقة التعبير فى
هذا الكتاب المعجز.
قال الراغب في : (وَهُوَ خَادعُهُمْ) : معناه مجازيهم بالخداع.
وقال سبحانه : (وَإن يُرِيدُواْ أن يَخْدَعُوكَ فَإنَّ حَسْبَكَ اللهُ . .) . .
والكلمة هنا ورادة على المعنى اللغوي لا مجاز فيها . .
وقال : " يخدعوك " دون "يخادعوك " لأن الله حسبه فهو ليس موضع مخادعة - أعنى محمداً - صلى الله عليه وسلم -
- فلم يكن للخداع طرفان فجيء به من فعل لا يقتضي المفاعلة ، وهذا جار على المنهج الذي أبنَّاه آنفاً.
* * *
* " النفاق " . . كلمة مدنية :
والخلاصة : أن هذه المادة " خدع " لم يستعملها القرآن إلا في سياق الحديث
عن المنافقين.
فهى - إذن - كلمة مدنية لا عهد للقرآن بها في مكة ، فالبقرة والنساء
والأنفال سور مدنية ، وهي السور التي وردت فيها هذه المادة.(2/309)
وهى أيضاً في القرآن مادة مجاز . لأنها لم ترد على وجه الحقيقة إلا فى
موضع واحد وهو آية " الأنفال " ، أما في آيتى البقرة والنساء فقد جاءت على طريق المجاز الاستعاري.
* *
* دور المرض في المجاز :
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10).
استعمال المرض في القلوب يكون حقيقة . ويكون مجازاً . فيكون حقيقة إذا
أصابها مرض جعلها عاجزة عن أداء واجبها نحو الجسم من تغذيته بالدم وتنقيته من الشوائب.
ويكون مجازاً للدلالة على فساد المعتقَد والحقد والحسد وما أشبه ذلك من
الأمراض التي لا تعلق لها بصحة الأجسام.
والقلب الخالى من هذه الأمراض المجازية قد استعار له القرآن كلمة " سليم "
من " السلامة " ضد المعنى الأول . فقال سبحانه : (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89).
قال الراغب : المرض الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان وذلك ضربان :
الأول : مرض جسمى وهو المذكور في قوله تعالى : (وَلا عَلى المريض
حَرَجٌ).
الثاني : عبارة عن الرذائل كالجهل والجُبن والبخل والنفاق . . وغيرها من
الرذائل الخلقية نحو قوله تعالى : (فِى قُلوبِهِم مَرَضٌ) .(2/310)
فالمراد بالمرض الذي في القلوب هو الكفر والنفاق ، وهذا على سبيل المجاز
الاستعاري ، والاستعارة فيه تصريحية أصلية.
ويذكر الراغب سبب تشبيه الكفر وغيرهما بالمرض ويرجع ذلك لما يأتي :
إما لأنها مانعة من إدراك الفضائل كالمرض المانع للبدن من التصرف الكامل.
وإما لأنها مانعة من تحصيل الحياة الأخروية.
وإما لميل النفس بها إلى الاعتقادات الرديئة . . ميل البدن المريض إلى
الأشياء المضرة.
ومعنى : (فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) أي : كفراً ونفاقاً . . مجاز كذلك جاء
مشاكلاً للمجاز الأول.
وإسناد زيادة المرض إلى الله مجاز عقلي عند صاحب الكشاف ، وقد تقدم
وجهه فيما سبق.
أما : (وَلهُمْ عَذَابٌ أليمٌ) . ففى إسناد " الأليم " إلى ضمير العذاب
مجاز عقلي عند الجميع حيث أسند الإيلام إلى ضمير العذاب.
ونظيره قول الشاعر :
وَخَيْلٍ قَدْ دَلفْتُ لهَا بِخَيْلٍ . . . تَحِيَّةُ بَيْنهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
حيث أسند الوصف : " وجيع " إلى ضمير الضرب . لأن الضرب سبب الإيجاع كما أن العذاب سبب الإيلام . فالعلاقة فيهما السببية.
والقرينة حالية.
وقد استعار القرآن هذه المادة : " مرض " من دلالتها الوضعية إلى معان
مجازية في إحدى عشرة آية هي :(2/311)
(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ . .)
(إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ).
(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125).
(لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ).
(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا . . .).
(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12))
(فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ).
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ)
(فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29).(2/312)
(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا).
* المرض . . حقيقة ومجازاً :
وهذه المواضع الأحد عشرة إذا أضفنا إليها الموضعين السابقين في آية البقرة
يكون مجموعها ثلاثة عشر موضعاً.
استعمل القرآن فيها هذه الكلمة استعمالاً مجازياً
على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.
وقد استعمل القرآن هذه المادة في معانيها اللغوية في المواضع الآتية :
(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80).
حكاية عن إبراهيم عليه السلام.
(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ).
(وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ).
(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
(وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ).
(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ).
(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ . .).
(وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى).
(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ).(2/313)
(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ).
(عَلِمَ أن سَيَكُونُ مِنكُم مَرْضَى).
* *
* موازنة ضرورية :
وهذه هي مواضع استعمال المادة في معناها اللغوى . إذ لا مجاز في واحد
منها وقد ذكرتها تمهيداً لإجراء موازنة بين الاستعمالين المجازي والحقيقي أراها
- ضرورية في هذا المجال.
وهذه الموازنة تعتمد على الحقائق الآتية :
أولاً : أن القرآن يقصر استعمال هذه المادة استعمالاً مجازياً إذا كانت اسماً -
وإن شئت فتتبع مواضع استعمالها اسماً حيث جاءت وصفاً للقلوب فلا تجد
واحداً متها خرج عن نطاق الاسمية.
وهو في استعماله لها استعمالاً مجازياً ما فارقت وصف القلب في أي موضع
كذلك.
وقد جاءت جزءاً من صلة الموصول الاسمى " الذي ، ، ولم تخرج عن هذه
الحال إلا في موضع واحد هو آية " النور " : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا) ، وهي كذلك واردة في شأن المنافقين . بدليل عطف " الكافرين "
عليها في قوله تعالى : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ)
. . أما عطفه على (المنافقَون) فىَ مثل قوله تعالى :
(إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ)
فلا يبعد أن يكون عَطف تفسير.
ثانياً : أما استعمال القرآن لها في معانيها اللغوية فذلك مقصور على
حالتين :(2/314)
(أ) إذا كانت فعلاً . وهي كذلك في موضع واحد . وهو آية الشعراء
حكاية عن إبراهيم عليه السلام : (وَإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).
(ب) إذا كان وصفاً مشتقاً - مفرداً كان أو مجموعاً - وهي في هذه
الحالة لا ترد إلا في مقام التشريع وتيسير الأحكام.
والمتتبع لمواضعها التي أثبتناها - قبلاً - يجد المادة موزعة حسب المنهج
الذي شرحناه.
وهذه سمة من سمات الأسلوب القرآني ودعامة من دعامات إعجازه مثيرة
مدهشة ، فيها دقة وعمق نظر.
أما الدقة . . فلالتزام هذا المنهج الفريد وما كان هناك حَرَج لو خولف لا فى
واقع اللغة ولا في طبيعة الأسلوب.
وأما عمق النظر . . فللبحث عن سر هذا الالتزام وما روعي فيه من لطائف
ودقائق يعز فهمها وتوجيهها.
* * *
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15).
دعوى الإيمان من المنافقين غير رائجة.
أما نسبتهم الكفر إلى أنفسهم فرائجة ما في ذلك شك.
والخطاب في الشق الأول من الآية مع مؤمنين ينكرون كل
الإنكار أن يؤمن أهل النفاق.
والخطاب في الشق الثاني منها موجه إلى شياطينهم.
وهم لا ينكرون أنهم معهم باقون على الكفر والنفاق.
* * (2/315)
* مقتضى الظاهر ومخالفته :
واختلاف المقام يقتضي المخالفة بين كيفيات الكلام فيهما.
والظاهر يقتضي أن يؤكدوا دعوى إيمانهم مع المؤمنين . لأنهم منكرون لما يقولون شاكون فيه وألا يؤكدوا مع شياطينهم لأنهم مصدقون لهم لا يحتاجون إلى تأكيد ولكنا نرى الموضع هنا مختلفاً.
إلقاء الخطاب مجرداً من كل توكيد مع المؤمنين ومؤكداً مع الشياطين والظاهر
يقتضي العكس.
يرى السعد أن سر المخالفة في الموضعين : أنهم تركوا التوكيد مع خطاب
المؤمنين . لأن دعوى الإيمان لا تروج من المنافقين . وهم يعلمون ذلك فأنفسهم - إذن - لم تساعدهم عليه.
أما توكيدهم له مع الشياطين فلأن هذا رائج منهم عند شياطينهم.
ولتوافر الرغبة فيه وكمال العناية به.
فالتوكيد وعدم التوكيد جار على مراعاة الحالة النفسية عند المتكلم لا المخاطب.
وهذه لفتة حسنة من لفتات السعد . ومَن تبعه في هذا المذهب الجزل.
الذي هو وثيق الصلة بعلم النفس وأصول البلاغة الحية.
وقد جاء في خطابهم شياطينهم : (إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزئُونَ) ، ففسروا
قولهم مع المؤمنين : " آمنا " بأنه ليس إلا استهزاء ، فكان الرد عليهم فيه قوة
وتوكيد . على غرار ما أثبتوه هم : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فأكد ذلك باسمية
الجملة . وبأن الله هو الذي يستهزئ بهم.
والاستهزاء من الله مجاز إذ لا يصح ذلك منه على وجه الحقيقة.
ولهذا فسَّروا هذه الآية بأن الله يجازيهم على الهزء . . ومعناه : أنه أمهلهم مدة ثم أخذهم مغامضة ، فسمى إمهاله إياهم استهزاءً من حيث أنهم اغتروا به
اغترارهم بالهزء فيكون ذلك كالاستدراج من حيث لا يعلمون .(2/316)
(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15).
مادة " مذ " تدور في المعاجم اللغوية حول معنى الزيادة والتكثير . . من مَدَّ
الجيش وأمدَّه : إذا زاده بما يقويه ويكثره.
ويقال : مدَّه الشيطان في الغي والضلال وأمدَّه : إذا واصله بالوساوس حتى يتصل غيه . ويزداد انهماكاً فى المعاصي.
وإسناد المد إلى الله مجاز عقلي عند الزمخشري . . لأن فاعل المد عنده هو
الشيطان . وأسْنِدَ إلى الله لأنه سببه المقدر عليه.
وقد عدمنا فيما سبق وجهه عنده.
على أنه يجوز - عنده - أن يكون مجازاً عن عدم القسر والإلجاء وإن لم
يُصرِّحَ هو بمجازيته.
وقد أنكر الزمخشري أن يراد به الإمهال - وهو رأي المفسرين - وحُجَّته أنه
يعدى بنفسه إذا كان بمعنى الزيادة - كما في الآية - ويعدى بـ " اللام " إذا
كان بمعنى الإمهال . . قال : " فإن قلتَ : ما حملهم - يعني المفسرين - على
تفسير المد في الطغيان بالإمهال وموضوع اللغة - كما ذكرت - لا يطاوع عليه ؟
قلت : استجرهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسندوا إلى الشيطان ، ولكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته . .
وإلا كان بمنزلة الأروى من النعام . ومن حق مفسِّر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه . والبلاغة على كمالها . وما وقع به التحدي سليماً من القادح.
فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم
والبلاغة على مراحل ".
*(2/317)
* المعاني التي أفادتها " مَدَّ " في القرآن :
والناظر في مواضع " مدَّ " في القرآن يخرج بالنتائج الآتية :
أولاً : أن هذه المادة يتجاذبها فيه جانبا حقيقة ومجاز.
فالحقيقة في نحو قوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ)
إذ المراد بالسبب : الحبل ، والحبل يُمَد حقيقة.
وقوله تعالى : (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ)
لأن الإمداد هنا بمعنى الزيادة وهو من معاني الكلمة في اللغة.
والمجاز في نحو قوله تعالى : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طغْيَانهِمْ يَعْمَهُونَ).
وقوله : (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا).
ثانياً : إذا استعمل القرآن هذه المادة في الحبوب فالغالب فيها أن تكون من
الإمداد . قال : (يُمْدِدكُمْ ربُّكُم) ، وقال : (وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22).
أما إذا استعملها في المكروه فالغالب فيه أن تكون من المد.
قال : (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79).
وقال : (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ).
ثالثاً : أن استعمالها في جانب الأرض والظل والمال . . يفيد معنى
البسطة والتوسع تجوزاً . فإن مد المال في قوله تعالى :
(وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا)
في معرض الامتنان يشبه فيه المال على سبيل المجاز بشيء ممدود
قد شغل جانباً كبيراً من المساحة لكثرته.
رابعاً : واستعمالها في جانب العين يفيد معنى الإطلاق والإرسال تجوزاً ،
كذلك فإن معنى : (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي ترسل النظر وتطلقه إلى
مظاهر النعيم عند الآخرين .(2/318)
والذي أراه : أن جانب المجاز فيما أسند إلى الله من معان يرى الزمخشري
فيها أن الإسناد فيها جار على المجاز العقلي ، أو يذهب المفسرون إلى تفسيرها
بالإمهال . . أن جانب المجاز في مثل هذه كقوله تعالى :
(وَيَمُدُّهُمْ فِى طغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ) أن الله يمنع عنهم ألطافه ولا ييسر لهم سبل الهداية.
لأنه علم أنهم اختاروا الغيَّ على الرشد.
ووجهه : أن يشبه منع أسباب الهداية عنهم بإمدادهم بوسائل الضلال
والطغيان . . والجامع أن كلا من الأمرين - المنع والإمداد - يترتب عليه
إغراقهم في الضلال ولجوهم فيه.
*
* العَمَه . . العمى :
و" العَمَه " مثل " العمى " ، إلا أن العمى يشمل فقد البصر . وخطل
الرأي ، بينما العَمَه خاص بضلال الرأي ومنه قولهم : سلك أرضاً عمهاء : أى لا منار فيها.
وكذلك فرق الراغب بين العمى والعَمَه فقال : العَمَه : التردد في الأمر من
التحير! يقال : عمه وعامه . والعمى يقال في افتقاد البصر والبصيرة ، ويقال
فى الأول : أعمى ، وفي الثاني : أعمى وعم.
والمادة تدور حول الحجب والتغشية ، والمتتبع لمادة " عَمَه " في القرآن
يجدها قد استعملت في معنى الضلال مطلقاً.
وذلك في المواضع الآتية :
(وَيَمُدُّهُمْ فِى طغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
(وَنَذَرُهُمْ فِى طغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).(2/319)
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72).
(لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)).
(إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4).
تلك هي مواضع استعمال مادة " عَمَه " . .
وليس المراد بها المعنى اللغوي الذي هو التردد والحيرة ، لأن هذا قد يكون وصفاً لبعض المؤمنين ، ولذلك أرى أن الكلمة هنا مراد بها أنهم سادرون في ضلالهم لا يفيقون منه.
ودليلي على ذلك القرآن نفسه حيث يقول :
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) . .
فهم سكارى لا رُشد معهم ، ولا هدى ينير لهم الطريق.
* *
* طريق المجاز فيهما :
إذا استقر ما ذهبتُ إليه فإن طريق التجوز فيه أنه من المجاز المرسل ،
والعلاقة هي الإطلاق والتقييد . فقد استعمل في مطلق ضلال بعد اختصاصه
فى اللغة بضلال التردد في الرأي والحيرة فيه.
أما مادة " عمى " فقد جاءت في القرآن حقيقة ومجازاً لغوياً على طريق
الاستعارة التصريحية الأصلية أو التبعية التصريحية ، على أن في مواضعها
موضعين قد دَق تقدير المجاز فيهما.
فتكون " حقيقة " إذا أريد بها معيَّن كقوله تعالى :
(عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2).
لأن المراد بالأعمى هنا شخص معيَّن هو عبد الله بن أم مكتوم
كما جاء ذلك في كتب التفسير .(2/320)
أو تكون في مجال التشريع كما في قوله تعالى :
(ليْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ).
وتكون " مجازاً " إذا استعْملت في شأن الكفر والضلال ، والكافرين
والضالين ، وقد مَرَّ بنا كثير من أمثلَتها في فصل " التشبيه والتمثيل " ولنذكر
ما لم نذكره هناك :
(فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَليْهَا).
(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ).
(أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23).
والآيات لم تخرج عن طريق المجاز كذلك ، فقد شبَّه ضلال القلوب بعمى
الأبصار ، والجامع أن كُلاً منهما يحول بين صاحبه وبين المنافع الشريفة ، ففى
المجاز استعارة محسوس لمعقول لقصد الإيضاح والتقرير.
وفيما تقدم مواضع حملت على عمى البصر وعلى عمى البصيرة ، وضابطهما
أن المفرد فيها " عمٍ " والجمع : عمين أو عمون ، لأنه حينئذ من العَمَه الشامل لعمى البصر وعمى البصيرة كقوله تعالى : (إنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ).
*
" صورتان دقيقتان :
وقد ورد من هذه موضعان آخران هما : (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28).
وقوله : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66).(2/321)
قال الراغب في توجيه معنى الآيتين : " وعمى عليه : أي اشتبه حتى صار
بالإضافة إليه كالأعمِى قال : (فَعَميَتْ عَليْهمُ الأنبَاءُ يَوْمَئذ) ،
(وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ).
وقال الزمخشري : " . . . ومعنى " عَمِيَتْ " : خفيت ، فإن قلتَ : ما
حقيقته ؟ قلتُ : حقيقته أن الحُجة كما جُعِلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء . لأن الأعمى لا يهتدى ولا يهدى غيره . .
فمعنى : فعميت عليكم البينة : لم تهدكم
كما لو عمى على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد ".
وما ذكره الراغب والزمخشري ليس بمقنع.
بل إن ما ذكراه لا يخلو من مآخذ
وهى - فيما ذكره الراغب - يسيرة.
لأنه قال : حتى صار بالإضافة إليه كالأعمى.
وهذا لا يحل الإشكال ، لأن القوم لم يبصروا الأنباء ، ولم يهتدوا
إلى الرحمة ، فهم العُمْىُ وليست الأنباء أو الرحمة.
وما ذكره الزمخشري فيه مجافاة للأوْلى . لأنه فسَّر الرحمة بالنبوة.
ثم جعلها - أي النبوة - عمياء من حيث لم تهدهم كما لو ضَل دليل قوم في مفازة بقوا بغير هاد.
وكما جُعِلت الحُجة بصيرة ومبصرة جُعِلت عمياء.
هذا مُحصل كلامه . . ولو كان الأمر كذلك لكان للقوم أكبر حجة يتمسكون بها على البقاء على الكفر . ما دامت حُجَّتهم عمياء.
*
* محاولة لتوجيه المعنى في الموضعين :
والذي أراه أن المسألة في الموضعين تُفهم على المجاز المرسل . الذي علاقته
الجزئية لأن القوم عُمْىٌ لا يبصرون شيئاً.
والحجَّة أو الأنباء بعض أفراد ما لا يبصرونه ، فكما يقال : رعت الإبل الغيثَ - ويراد به النبات المتسبب عن(2/322)
الغيث يقال هنا على الأنباء إذا لم تُبْصَر بأنها عمياء . .
لأنها جزء ما لا يبصره القوم.
وأولى من هذا عندى أن يُقال إن في العبارة قلباً على حد قول الشاعر :
* وَلاَ يَكُ مَوْقِف مِنَ الوداعَا *
أما ما ذكره الراغب والزمخشري فلا يسلم من المآخذ كما رأينا.
وبعد هذا يمكن أن يقال : إن هاتين الآيتين " عَمَه " و " عمى "
في القرآن مادتا مجاز.
* * *
* الاشتراء والضلالة :
(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16).
عبَّر عنهم باسم الإشارة الموضوع للبعيد.
إشارة إلى بُعدهم عن الحق الذى باعوه فكان في هذا التعبير براعة استهلال من أول مطلع ،
و " الاشتراء " افتعال من الشراء.
وهو هنا مستعار من معناه اللغوي المعروف لاستبدالهم الضلالة بالهدى.
لأنه يفيد اختيارهم للضلالة على الهدى ، والاستعارة فيه تصريحية تبعية
لجريانها في المشتق.
ولعل السر البلاغي الذي عدل من أجله عن أصل التعبير - الذي هو
الاستبدال - لأن المشترِي يكون راغباً في الشيء المشترَى . باذلاً للثمن فيه.
لأنه غير راغب فيه إذا قورن بما اشتراه.
هذا غرض . .
وغرصْ آخر : إن الشيء المشترَى ملازم لمن اشتراه.
أما الثمن المبذول فيه فمفارق له متى وقع البيع بين الطرفين صحيحاً .(2/323)
وهؤلاء كانوا زاهدين في الهدى ، ولذلك بذلوه ثمناً فيما بحبونه - وهو
الضلالة ، فبين هذا المجاز معان وخفايا مستورة لم يكن للوقوف عليها سبيل لو
عبَّر عنها بأسلوب الحقيقة اللغوية.
*
* استعمالات " شَرَى " وقانونها :
وهذه المادة - مادة " شَرَى " - وردت في القرآن خمساً وعشرين مرة
جاءت على صور المجاز في ثلاث وعشرين مرة منها.
وعلى المعنى الحقيقي في مرتين فحسب ، ولها في القرآن منهج وقانون . فلنذكره مطبقين عليه بالأمثلة :
1 - إذا خلت من تاء الافتعال كانت بمعنى " باع " ، وجاءت على هذه
الصورة في أربعة مواضع.
ثلاثة منها على المعنى المجازي.
وواحد بالمعنى الحقيقي وهي على الترتيب :
(وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102).
(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ).
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ).
وهذه هي المواضع الثلاثة التي استُعْمِلت فيها المادة استعمالاً مجازياً كما هو
ظاهر من السياق.
أما الموضع الرابعء . فهو قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف :
(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20).
" شَرَوْهُ " : باعوه . فالاستعمال هنا حقيقي وليس مجازياً . .
لأن البيع وقع بمعناه المعروف .(2/324)
2 - وإذا لم تخل من تاء الافتعال . كانت بمعنى " الشراء " لا البيع ، إلا
فى موضع واحد جاءت فيه بمعنى " البيع " وسنشير إليه عند وروده.
وهي في هذه الحالة في جميع الصور مستعملة استعمالاً مجازياً إلا في موضع واحد جاءت فيه على المعنى الحقيقي.
وهو قوله تعالى حكاية عن عزيز مصر :
(وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)
فالشراء هنا حقيقة وليس مجازاً.
وقد مضى إخبار القرآن عن إخوة يوسف.
وأن " شَرَوه " هناك بمعنى باعوه حقيقة لا مجازاً ، وكذلك فإن " اشترى "
هنا من بين أخواته وقع بمعنى الشراء حقيقة لا مجازاً.
وهذه معادلة تدعو إلى الدهش والاستغراب.
* المجاز اللغوي في " شَرَى " :
أما مجيء المادة على المجاز اللغوي فيتمثل في العشرين موضعاً الآتية :
(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ).
لما كان المجاهد يبذل نفسه في سبيل الله ويدفع بها إلى الأخطار.
والنفس أغلى شيء يمتلكه الإنسان والجود بها أسمى مراتب الجود.
ولما كان يبذل ماله مع روحه في سبيل الله ، وللمال عند الناس شأن عظيم.
والمجاهد يتحمل من المشقات في المرابطة والسهر ، وهجر المال والزوجة والولد مقبلا على ربه . حاملاً روحه في كفه . . فإن الله يثيبه على هذه الأعمال الجليلة أجراً عظيماً فليس له مأوى إلا الجنة.
فهنا نفس مبذولة . ومال مبذول . يقابلهما رضا الله وفضله لمن صحت نيته
فى الجهاد وأكرمه الله بالاستشهاد .(2/325)
صور القرآن هذه الحالة بما فيها من طرفين متقابلين بصورة البيع والشراء ،
فالمجاهد بائع نفسه وماله لله . والله مشتر تلك النفس الطاهرة وذلك المال المزكى.
المؤمن المجاهد يقدم نفسه وماله عروضاً مبيعة . والله ينعم بالرضوان والجنة ثمناً
مبذولاً.
وهذه عملية رابحة . . فالنفس لا شك ميتة . والمال زائل أو مُفارَق.
أما الجنة فلا تُنال إلا لمن عمل لها كالمجاهدين.
فالتعبير يحتمل المجاز المركب.
وهو فيه أظهر ، كما يحتمل الإفراد ،
وفي إسناد الشراء إلى الله إشعار بضمان الثمن ووفرته.
وقد صرحت بهذا نفس الآية إذ جاء فيها : (وَمَنْ أوْفَى بعَهْده منَ الله) ظ
. . لا أحد.
وإذا أخذنا باعتبار أن المجاز فيها مفرد . ففى " اشترى " استعارة تصريحية
تبعية . وقد مهدت ورشئحت لاستعارة أخرى من جنسها وهي قوله تعالى :
(فَاسْتَبْشرُواْ ببَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُم به) . . . فاكتمل بذلك شطرا الحسن
وإن هاتين الاستعَارتين لتتعانقان . فماَ دَام الله مشترياً لنفس ومال المجاهدين.
فهم - إذن - بائعون . فليستبشروا ببيعهم هذا . . ومَن أوفى بعهده من الله ؟
وتلك بقية المواضع : (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى).
(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوا الحَيَاةَ الدُنْيَا بِالآخِرَة).
(بئْسَمَا اشْتَرَوا به أنفُسَهُمْ أن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزلَ اللهُ بَغْياً).
(وَلقَدْ عَلِمُواْ لمَنَ اشْتَرَاهُ مَا لهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ).
والموضع الثالث هو الموضع الذي لم تخل فيه المادة من تاء الافتعال.
ودلت مع ذلك على البيع دون الشراء
مخالفة بذلك سنن أخواتها حسبما ذكرنا آنفاً .(2/326)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ).
(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا).
(فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
(اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ).
(وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا).
(وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
(فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا).
(لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا).
(وًيشْتَرُونَ بِهِ ثَمَمْاً قَلِيلًا).
(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ).
(وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187).
(خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
(يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44).
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
وبهذا اكتملت مواضعها الخمسة والعشرون .(2/327)
وقانون هذه المادة في القرآن يتلخص فيما يأتي :
أولاً : إذا خلت من تاء الافتعال كانت بمعنى " باع " واستعمالها حينئذ يأتى
على طريق المجاز الاستعاري إلا في موضع واحد فإنها تكون فيه حقيقة وليست
مجازاً ، وجملة هذا النوع أربعة مواضع.
ثانياً : إذا لم تخل من تاء الافتعال كانت بمعنى " الشراء " المعروف
واستعمالها حينئذ مجازي إلا في موضع واحد فإنها جاءت فيه على المعنى
الحقيقي.
ثالثاً : أن هذه المادة يتجاذبها طرفا البيع والشراء ، والحقيقة والمجاز ، فهى
بمعنى " البيع " في أربعة مواضع . وبمعنى " الشراء " في بقية المواضع ،
وهى بمعنى الحقيقة في موضعين وبمعنى المجاز في ثلاثة وعشرين موضعاً ، ولهذا
يمكن أن نطلق عليها - في القرآن - أنها مادة مجاز . . لأنه الغالب على استعمالها.
رابعاً : إذا أريد استعمالها في جانب المدح جاءت منفية إلا في موضع واحد
جاءت فيه مثبتة . وهو : (إن اللهَ اشْترَى منَ المُؤْمنينَ) لأن شرف
المعنى فيها كان من حيث إسناد الشراء إلى اللهَ تعالىَ فَأفادت كفالته بإثابة
المجاهدين ، وتكون في هذه الحال حديثاً عن المؤمنين.
أما إذا أريد استعمالها في مواضع الذم فإنها تأتي مثبتة ولا تكون حينئذ
إلا في سياق حديث عن الكافرين.
*
* التجارة والربح :
(فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16).
تقدم أن القرآن سمى تمسك الكافرين بالضلالة : " شراء " على طريق
الاستعارة التصريحية التبعية.
ولذلك ناسب أن يسمى عملهم هذا : " تجارة" ،(2/328)
ولما كان العرض البيع " الهدى " ليس متعادلاً مع الثمن المبذول " الضلالة "
كانت التجارة خاسرة.
وفي إطلاق معنى " التجارة " عليه مجاز استعاري أيضاً لكنها استعارة
تصريحية أصلية لجريانها في غير المشتق.
وإسناد نفى الربح عنها مجاز عقلي حقيقته : فما ربحوا في تجارتهم . وسره
البلاغي أن إثبات الخسارة لتجارتهم مفيد لبطلانها أساساً.
وإذا خسرت تجارتهم كانوا هم خاسرين من باب أولى.
فهذا المجاز حقق غرضين دفعة واحدة.
وفيه فوق ذلك تخييل لا تخفى عذوبته.
وإذا تأملنا صور المجاز في هذه الآية في مواطنه الثلاثة : " اشتروا " ،
" ربحت " ، " تجارة " ، ثم الإسناد إلى ضميرها . .
وجدنا المجاز فيها يتضام ويتعانق في أُلفة وإخاء.
وللزمخشري إطراء رائع في هذا . . يقول فيه :
" فإن قلتَ : هَبْ أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال ، فما معنى ذكر الربح والتجارة . كأن ثمة مبايعة على الحقيقة ؟.
قلتُ : هذا من الصنعة البديعية التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا.
وهو أن تساق كلمة مساق المجاز ، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات.
وإذا تلاحقن لم نر كلاماً أحسن منه ديباجة وأكثر ماءً ورونقاً وهو
المجاز المرشح . وذلك نحو قول العرب في البليد : كأن في أذنى قلبه خطلا.
وأن جعلوه كالحمار . ثم رشحوا ذلك دوماً لتحقيق البلادة.
فادعوا لقلبه أذنين.
وادعوا لهما الخطل ليمثلوا البلادةَ تمثيلاً يلحقها ببلادةِ الحمار مشاهدة
ومعاينة".
* * (2/329)
* المجاز في " التجارة " عقلي :
وقد أسند القرآن الحكيم أحداثاً للتجارة على سبيل المجاز العقلي في أربعة
مواضع غير هذا الموضع . واحد منها الإسناد فيه إلى صريح لفظها ، والثلاثة
الأخرى الإسناد فيها إلى ضميرها . وهي على الترتيب :
1 - (رجَالٌ لا تُلهِيهِمْ تجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذكْرِ اللهِ).
2 - (إلَا أن تَكُونَ تجَارًةً حَاضرَةً تُديرُونَهَاَ بَيْنَكُم).
3 - (يَرْجُونَ تجَارَةً لَن تَبُورَ).
4 - (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10).
والنظر في هذه الآيات يكشَف عن عدة أمور :
1 - أن الإسناد في المثال الأول إلى صريح لفظ التجارة ، وفي الأربعة
الأخرى إلى ضميرها . وفي كُلا الإسناد مجازي وسره المبالغة.
في تقرير المعنى وتأكيده.
2 - أن المواضع الخمسة - اثنين منها استعملت كلمة " التجارة " فيها فى
المعنى الحقيقي وهما آية النور ، وآية البقرة الثانية . أما الثلاثة الباقية فإن
"التجارة" فيها مجاز لغوي على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية.
وسره إبراز المعقول في صورة المحسوس.
3 - أن المواضع الثلاثة التي استعملت فيها " التجارة " في المعنى المجازي
تحتوي على مجازين في كل مثال : الاستعاري اللغوي الذي شرحناه ،
والإسنادي العقلي الذي سبقت الإشارة إليه.
وعليه . . فإن استعمال هذه المادة في القرآن لم يخل من صور المجاز فهى
إذن مادة مجاز فيه .(2/330)
* الكافرون واستيقاد النار :
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
المفسرون على أن هذا المثل ، والذي بعده بيان - معاً - لحال المنافقين ، وقد
رأينا أن الدكتور محمد عبد الله دراز يجعل هذا المثل لبيان حال الكافرين ،
والذي بعده لبيان حال المنافقين ، على طريقة اللف والنشر المرتب . .
وقد جارينا الدكتور دراز في هذا التقسيم لسبب ذكره هو هناك . .
ولسبب آخر نذكره نحن.
وهو أن عرض القرآن لقصة الكافرين كان موجزاً إذ لم يتعد الآيتين -
كما سبق آنفاً - أما عرضه لقصة المنافقين فقد كان مفصلاً إذا ما قيس بقصة
الكافرين.
وهذان المثلان - كذلك - أولهما موجز بالقياس إلى ثانيهما ، وهذا يمكن
الاستئناس به بل التمسك به عندما يقال إن المثل الأول وارد لبيان حال الكافرين.
وأياً كان الخلاف فإن هذا لا يؤثر على جوهر الموضوع . فلنأخذ في البيان :
" مثلهم " : أي قصتهم العجيبة الشأن.
ويرى الزمخشري أن المثل - هنا - مستعار استعارة الأسد للمقدام.
يريد بذلك الاستعارة التصريحية الأصلية
للحالة أو القصة أو الصفة إذا كان لها شأن أو فيها غرابة
كأنه قال : إن حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً.
وهذا التشبيه معقود بين صورة معقولة - وهي المشبه - وصورة محسوسة هى
المشبَّه به.
والفائدة فيها عائدة على المشبه شأن كل تشبيهات القرآن ، ووجه
الشبه هو الحيرة والشك والتخبط . والتورط في الظلام .(2/331)
وقد عبَّر القرآن في ثنايا هذا التشبيه بـ " الإضاءة " في حال
الإثبات ، وبـ " النور " في حال النفي دون الإضاءة ، ليفيد الذهاب بكل ما
حصل لهم من نور . وإحلال الظلام محله . ولو عبَّر بنفى الإضاء لأفاد ذلك نفى الزيادة في النور مع بقاء أصل النور لأن " إضاءة " فرط النور.
وفي : " ذهب الله بنورهم " استعارة تمثيلية . لأن الواقع أن لا نور
حقيقة ولا ظلمات.
وفي إسناد الذهاب والترك إلى " الله " تسجيل عليهم
بالضلال الذي ليس بعده هدى لأن الذاهب بالنور ، والتارك لهم في الظلمات ، هو الله الذي لا معطي لما منع . ولا مانع لما أعطى.
(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40).
*
* بين التشبيه والاستعارة :
أما قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18).
فالزمخشري يرى فيه وجهين : أن يكون تشبيهاً - وعليه المحققون . أو
يكون استعارة . وهذا مختَلف فيه . وجعله تشبيهاً أولى لذكر الشبه وهم
المنافقون . وهذا بناء على أن المحذوف - المنوى ذكره - كالمذكور.
" وهذا عند مفلقى البيان من باب التمثيل البليغ المؤسس على تناسى
التشبيه ".
وهنا ظاهرة جديرة بالتسجيل هي أن الشبه في القرآن الكريم قد يكون
محذوفاً مع حذف الوجه والأداة وبقاء المشبَّه به فحسب . ومع هذا يعتبر
الأسلوب تشبيهاً.
والبيانيون يسمون هذا " استعارة تصريحية أصلية " ،
والقول ببقاء التشبيه مع هذا الحذف لم يقولوا به خارج دائرة القرآن .(2/332)
والذى حملهم على ذلك قوة ملاحظة المحذوف.
وهذه خاصة من خصائص التشبيه القرآني.
تضاف إلى ما ذكرناه من خصائص في الفصل السابق.
وقد مهَّد القرآن لهذا الحكم بقوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18).
* *
* الكافرون . . والصيِّب :
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
وهذان المثلان - فضلاً عما فيهما من دقة تصوير وإصابة مرمى - يشتملان
على صور جزلة من المجاز اللغوي والعقلي . وضروب من التشبيه ازدان بها
الأسلوب . وقوى المعنى.
فقد قال : (ذَهَبَ اللهُ بنُورهِمْ) ولم يقل :
ذهب نورهم . . لأن الذهاب المجرد ليس مثل أن يذهب الله به.
فنحن نلمس الفرق بين أن يقال : شرب الخمر حتى ذهب عقله.
وأن يقال : شرب الخمر حتى ذهبت الخمر بعقله.
فالعبارة الثانية أقوى من الأولى . لأن الخمر ذهبت بالعقل وانتبذت به مكاناً
قصياً . فهنا ذاهب ومذهوب به.
وكذلك : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أقوى من أن يقال : ذهب نورهم.
ومنه قولهم في المبالغة : ذهبت به الخيلاء . وذهب السلطان بماله.
*(2/333)
* عبارة تنبئ عن إحساس نفسي :
وفي المثل الثاني صور من المجاز ترجمت عن مشاعر الخوف والقلق والحيرة
عند المنافقين.
فهم لفرط فزعهم يجعلون أصابعهم في آذانهم . وهذه لقطة مثيرة للانتباه فى
قصة هذا الفريق . والواقع أنهم جعلوا أطراف أصابعهم في آذانهم لأن الأذن
لا تتسع لجعل الأصابع فيها . وطريق هذا التعبير هو المجاز المرسل . وعلاقته
هنا الكلية لأن أطراف الأصابع جزؤها.
والسر البلاغي فيه أن قصف الرعد قد أطار أحلامهم . فأخذوا يتقونه بسد
الأذن حتى لا يسمعوه . وهم إزاء هذا القصف لم يكتفوا بوضع أطراف الأصابع.
بل كانوا يحاولون غرزها كلها في كل آذانهم اجتهاداً منهم ألا يسمعوه . وكان للصواعق المصاحبة للبرق والرعد أثر كبير في بلوغ خوفهم المدى.
ولم يكونوا يخافون خطراً يسيراً . وإنما كانوا يخافون الموت.
وقد جاء هذا المجاز في موضع آخر من القرآن حكاية قول عن نوح يشكو
قومه إلى ربه : (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7).
بَيْدَ أن المقام مختلف " فما في سورة البقرة كان المقام مقام خوف وفرار من
الهلاك المتوقَع.
وقد بيَّن ذلك الخوف قوله تعالى : (منَ الصوَاعق حَذَرَ الموْتِ).
والمقام في " نوح " مقام عناد ونفور عن سماع دعوة الحق . وقد
بئن هذا العناد والنفور قوله تعالى : (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا).(2/334)
وفى قوله : (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) كناية عن صرف أبصارهم عنه حتى
لا يبصروه ، فكما وضعوا أصاَبعهم في آذانهم حتى لا يسمعوه.
جعلوا ثيابهم أغشية على أعينهم لئلا يبصروه . وهو كناية عن صفة.
كما جعلوا أصابعهم في آذانهم كناية عن صرف أسماعهم عنه حتى لا يسعوه
وكان المجاز المرسل فيها من حيث إطلاق الأصابع على البعض.
وكذلك يمكن حمل الكناية الثانية على المجاز المرسل لأنهم استغشوا جزء ثيابهم لا كلها ، فقد اجتمع في هذين التعبيرين الكناية - وهي واسطة بين الحقيقة والمجاز - ثم المجاز المرسل.
* *
* إحاطة علم الله :
(وَاللهُ مُحِيط بالكَافِرِينَ) أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحَاط به المحيط.
وفي هذا التعبير مجاز.
قال العلامة أبو السعود : " شبه شمول قدرته تعالى لهم ، وانطواء ملكوته عليهم ، بإحاطة المحيط بما أحاط به فى استحالة الفوت ".
وشبه الهيئة المنتزعة من شئونه تعالى معهم بالهيئة المنتزعة من أحوال المحيط
مع الحاط.
فالمجاز هنا على ما بينه العلامة أبو السعود محتمل الإفراد والتركيب.
صُورَ فيه العقول بالمحسوس لتقريره وسرعة تصوره.
وقد استعمل القرآن هذه المادة : " أحاط " مترددة بين الحقيقة والمجاز فى
صور شتى . وجانب المجاز فيها أكثر من جانب الحقيقة.
وقد تشتمل بعض المواضع على مجازين لغوي وعقلي.
وتلك أمثلتها :(2/335)
أولاً - الصور الحقيقية :
(أ) (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49).
(ب) (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54).
(ب) (إنَّا أعْتَدنا لِلظَالِمِينَ نَاراً أحَاطَ بِهِمْ سُرّادقُهَا).
هذه المواضع الثلاثة التي استخدم القرآن فيها مادة " أحاط " في معانيها
اللغوية لا رابع لها.
لأن جهنم محيطة بالكافرين على الحقيقة.
وكذلك سرادقها.
ثانياً - الصور المجازية :
(أ) (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81).
يقول الراغب في هذا المجاز : فذلك أبلغ استعارة ، وذلك أن الإنسان إذا
ارتكب ذنباً واستمر عليه استجره إلى ما هو أعظم منه فلا يزال يرتقى حتى
يُطبع على قلبه فلا يمكنه أن يخرج عن تعاطيه.
(ب) (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ).
(جـ) (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120).
(د) (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108).(2/336)
(هـ) (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126).
(و) (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47).
(ز) (وَظنُواْ أنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ).
(ح) (بَلْ كَذبواْ بِمَا لمْ يُحِيطواْ بِعِلمِهِ).
(ط) (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84).
(ى) (إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92).
(ك) (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ).
(ل) (وَإذْ قُلنَا لكَ إن رَبَّكَ أحَاطَ بِالناسِ).
(م) (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأصْبَحَ يُقَلَبُ كَفيْهِ عَلى مَا أنفَقَ فِيهَا).
(ن) (وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا).
(س) (كَذَلِكَ وَقَدْ أحَطنَا بِمَا لدَيْهِ خُبْرًا).
(ع) (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110).
(ف) (أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا).(2/337)
(ص) (فَقَالَ أحَطتُ بِمَا لمْ تُحطْ به).
(ق) (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54).
(ر) (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا).
(ش) (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)).
(ت) (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ).
(ث) (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20).
*
* صياغة القرآن لمادة " أحاط " :
تلك هي المواضع التي استخدم القرآن فيها مادة " أحاط " استعمالاً
مجازياً ، وقد بلغت خمسة وعشرين موضعاً باعتبار أن آية " النمل " فيها
موضعان : " تحيطوا " ، و " لم تحط " . وقد ترددت هذه الصور من حيث
الصياغة بين الفعل الماضي والمضارع واسم الفاعل . وهذا أكثرها إذ بلغت صوره عشراً وكذلك الفعل الماضي.
أما المضارع فأقل الأنواع إذ لم تزد صوره عن سبع.
*
* المعاني الواردة فيها :
أما من حيث المعنى فإن هذه المادة قد استعملت - مجازاً - في الأغراض
الآتية :
1 - العلم . وهو أكثر مواضع استعمالها مثل : (وَلا يُحيطونَ بشَىْءٍ
مِنْ عِلمِهِ).(2/338)
ومثل : (وَقَدْ أحَطنَا بِمَا لدَيْهِ خُبْرًا).
ومثل : (وَأن اللهَ قَدْ أحَاطَ بِكُل شَىْءٍ علمًا).
2 - القدرة مثل : (وَإذْ قُلنَا لكَ إن رَبَّكَ أَحَاطَ بِالناسِ).
ومثل : (وَاللهُ مِن وَراهِم مُحِيطٌ).
ومثل : (وَظنُواْ أنهُمْ أُحَيطَ بِهِمْ).
3 - المنع : مثل : (إلا أن يُحَاطَ بكُمْ) . .
أي إلا أن تمنعوا وتغلبوا.
4 - الحفظ : مثل : (ألاَ إنهُ بكُلِّ شَيء مُحِيطٌ). . أي حافظ له
من جميع جهاته.
5 - الحصر والشمول مثل : (وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ)
إذ هو من إحاطة العدو وهو صفة لليوم لا للعذاب ،
والمراد : محيط بهلاكه وعذابه.
ومنه قوله تعالى : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ). . أي أهلك كله.
قال الزمخشري : " وأحيط به : عبارة عن إهلاكه وأصله من : أحاط به
العدو . لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه.
ثم استعمل في كل إهلاك.
ومنه قوله تعالى : (إلا أنُ يَحَاطُِ بْكم).(2/339)
قلت فيما سبق : " أن بعض هذه المواضع قد يحوى مجازين : لغوياً وعقلياً.
وذلك مثل قوله تعالى : (وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) . .
فقد أسند اسم الفاعل : " محيط " إلى ضمير اليوم.
وفاعل الإحاطة فى الواقع هو الله تعالى ، إذن ففى هذا الإسناد مجاز عقلي علاقته الزمانية.
وسره البلاغي المبالغة في شدة هوله حتى كأن اليوم نفسه أصبحت له إرادة
الهلاك والقصاص العادل منهم.
ومنه قوله تعالى : (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81).
*
" مواضع الحقيقة والمجاز فيها :
ومن هذا كله نستنتج :
1 - إن القرآن لم يستعمل هذه المادة في معانيها الحقيقية اللغوية إلا فى
سياق الحديث عن جهنم.
فإذا ما خرج الحديث عن جهنم فإن الاستعمال المجازي لازم لها في جميع
صورها.
2 - إن المجاز يغلب على هذه المادة إذ جاء في أربع وعشرين صورة تقدم
الحديث عنها.
أما الاستعمال الحقيقي فقد اقتصر على مواضع ثلاثة.
هي التى تحدثت عن وجهنم وسرادقها.
ولذلك يمكن القول بأن مادة " أحاط " في القرآن مادة مجاز.
*(2/340)
* الكافرون والبرق :
(يَكَادُ البَرْقُ يَخْطفُ أبْصَارَهُمْ).
تقدم مثلهم بـ " الصيب " الذي فيه ظلمات ورعد وبرق.
وكان من أثر الرعد مع الصواعق - المصاحبة له - أن جعلوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوه.
وهناك كان البرق بعد الرعد فجاء حديث القرآن هنا عن البرق.
وبعد أن بيَّن هناك أثر الرعد . والبرق كان ساطعاً قوياً حال دون أبصارهم ودون الإبصار بها.
لأنه طاقة هائلة من الضوء.
والضوء إذا كان قوياً لم تستطع معه العين الرؤية . .
يحدث هذا لو حلق أحد ببصره نحو قرص الشمس فإنه يكل بصره.
ولما كان البرق غير دائم الظهور وإنما هو يلمع ثم يختفي فيعود لامعاً.
كان المسند إليه : " يخطف " . مناسباً أيما مناسبة لظهوره السريع واختفائه الأسرع ، لأن الخاطف دأبه دائماً أن يقفز فيخطف ثم يسرع مدبراً.
ولا خطف هنا على الحقيقة ، ولذلك كانت : " يكاد " مفتاح تصور الحَدَث
كما هو في الواقع . نافية عنه كل مظنات الغلو البغيض.
والتعبير - بعد - من المجاز : إذ هو استعارة تصريحية تبعية شبه فيها أثر
البرق على أبصارهم من الضعف والكلال بـ " الخطف ".
والجامع ما يترتب على كل من إزالة ما يترتب على الشيء موجوداً.
والقرينة استحالة وقوع الخطف من البرق.
وإسناد الخطف إلى البرق مجاز عقلي علاقته السببية لأن المزيل الحقيقي
لأبصارهم هو " الله " والبرق سبب .(2/341)
وسره البلاغي في الموضعين : إبراز المعنوي في صورة المحسوس للإيضاح
والتقرير . هذا في تشبيه الإزالة بالخطف . .
لأن الخطف يفيد نزع الأبصار نفسها
من أماكنها وتركها بلا آلة بصر.
أما الإزالة فقد يقف معناها عند سلب الأثر وهو الإبصار دون آلته.
وفي المجاز العقلي صار البرق عدواً لهذا الفريق . ذا إرادة وتدبير وتربص . .
يتحين الفرص ثم يقفز في حركة سريعة وينزع أبصارهم من أماكنها ثم يولى.
وأين لهم أن يطلبوه وهم لا يبصرونه ولا يعرفون طريقه . هو في السماء وهم
على الأرض!
*
* منهج القرآن في مادة " خطف " :
وقد ذكرت مادة " خطف " في القرآن على سبيل المجاز في الصور الآتية :
1 - (تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ).
2 - (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا).
3 - (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ).
4 - (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ).
5 - (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10).
يقول الراغب في توجيه هذه الاستعمالات :
الخطف والاختطات : الاختلاس بالسرعة يقال : خَطفَ - يَخْطِفْ - وخُطِفَ يُخْطفْ .(2/342)
يعني (وَيُتَخَطَّفُ الناسُ منْ حَوْلهمْ) : أي يُقتلون ويُسلبون . .
وعلى هذا فإن المجاز ظاهر فيما عدا : " فتَخَطفه الطير " لأن الاستعمال الحقيقي هنا أقرب إلى التصوير لأن الطير يخطف الهاوي جزءاً جزءاً.
وعلى هذا أيضاً يمكن أن نقول :
أولاً : إن هذه المادة في القرآن الكريم يغلب عليها جانب المجاز إذ هو ظاهر
فى كل أمثلتها - ما عدا موضعاً واحداً - فإن الحمل على المعنى الحقيقي فيه
أقرب إلى التصور.
ثانياً : إن هذه المادة لم تستعمل فيه إلا في مقام الامتنان.
وذلك في موضعين :
أحدهما : (تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ).
وثانيهما : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ).
أو مقام الخوف والهلاك وذلك في بقية مواضعها :
(يَكَادُ البَرْقُ يَخْطفُ أبْصَارَهُمْ).
(إن نتبِع الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطفْ مِنْ أرْضِنَا).
(فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ).
(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10).
وعلى هذا - أيضاً - يمكن القول بأن هذه المادة في القرآن مادة مجاز.
وقد أسند القرآن إلى البرق في هذه الآية فعلين آخرين غير الخطف :(2/343)
(كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا).
والإسناد في كليهما مجازي علاقته السببية . وفي الآية مقابلة بين ثلاث
وثلاث : أضاء وأظلم ، لهم وعليهم ، مشوا وقاموا ، لأن المراد ب " قاموا "
وقفوا ولم يمشوا لشدة الظلام.
* وقد على " أظلم " بـ " عليهم " لأن الإظلام مضر.
والإضاءة بـ " لهم " لأنها مفيدة.
فقرن كلا منهما بما يناسبه.
* *
* ذهب وخطف :
(وَلوْ شَاءَ اللهُ لذَهَبَ بسَمْعهمْ وَأبْصَارهمْ إن اللهَ عَلى كلً شَىْء
قَدِير).
(لذَهَبَ بسَمْعهِمْ) مجاز لغوي حقيقته : لأزال سمعهم وأبصارهم.
وسره البلاغي فوقَ إبراز المعقول في صورة المحسوس.
لتسجيل الشقاء عليهم واستمرارهم في تلك الخطوب الأليمة.
لأن الذهاب هنا فيه معنى الإمساك بالشيء المذهوب به ، وفيه معنى المصاحبة على حد قولهم : ذهب السلطان بماله -
لأنه أبلغ من أذهب السلطان ماله ، ومن : ذهب ماله - لما في الصورة الأولى
من الإمساك والاستصحاب وهذا المجاز صنو المجاز السابق :
(يَكَادُ البَرْقُ يَخْطفُ أبْصَارَهُمْ) . . ولكننا إذا قارنا بينهما ظهرت لنا دقة التعبير فى القرآن الكريم عجيبة عاجبة :
فى جانب " البرق " كان اللفظ المستعار (الخطف) المفهوم من الفعل
" يخطف " ، وفي جانب " الله " كان المستعار " الذهاب " المفهوم من الفعل
" لذهب " والسر في اختلاف لفظي المستعار عجيب .(2/344)
لأن مفهوم الخطف أن يكون هناك تربص وترقب للفرصة.
فإذا ما سنحت كانت الحركة السريعة في الانقضاض للخطف.
ولا بدَّ للخاطف من التولي السريع ناجياً بنفسه وبما خطف.
والخاطف خائف وجل.
أما الذهاب في : " لذهب " فلا يقتضي شيئاً من ذلك ، فالآخذ الذاهب قد
يكون أخذه على سبيل القوة والاستعلاء - كما هنا - فلا تربص ولا ترقب ، ولا تَحين فرصة ولا انقضاض ولا فرار خشية اللحاق ولا طلب يُتوقع من المأخوذ منه لأن الآخذ قادر قوى . والمأخوذ منه عاجزٌ ضعيف ، ولأنه لا حَول له ولا قوة
يعصمانه من حَولِ وقوة الله.
لهذه الاعتبارات - والله أعلم - كان اختلاف لفظي المجاز كل واقع موقعه
لا نابٍ ولا مستكره ولا وقوع في مخالفة حس أو شرع.
وهذه خاصة من خصائص التعبير القرآني.
تنتظم الأسلوب كله من " الحمد "
فى افتتاح فاتحة الكتاب . . . إلى " الناس " في اختتام خاتمته.
* * *(2/345)
الفصل الثالث
2 - المجاز القرآني
دراسة تحليلية حول نص مختار من سورة الأعراف
قال الله تعالى يحكى طرفاً من قصة موسى عليه السلام :
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157).(2/346)
* موضوع هذه الآيات :
حكت هذه الآيات طرفاً من قصة موسى عليه السلام.
وهو طرف مثير من تلك القصة وقد اشتملت هذه الآيات على صور شتى من المجاز والمعاني والبديعِ.
إذ هي نص محكم متماسك يطالعك بمطلع مثير :
(وَلمَا سَكَتَ عَن مُوسَى الغَضَبُ)
فقد أسند السكوت إلى الغضب ، وصار الغضب فاعلاً للسكوت.
وهذا العمل يدعو إلى التأمل والتفكير . فليس الغضب ممن يتكلم حتى يُسند إليه السكوت . وليس السكوت من الأحداث التي تثبت للغضب أو تنفى عنه.
الغضب عن ذلك بمعزل.
*
* مجاز على وجوه ثلاثة :
إذن فإن في التعبير تجوزاً . وهو محتمل لثلاثة وجوه :
أ - أن يكون استعارة تصريحية تبعية . بأن يشبه زوال الغضب.
ب " السكوت " بجامع انعدام الأثر في كل.
والقرينة - إذن - هى إسناد السكوت إلى الغضب.
2 - أن يكون استعارة بالكناية.
ووجهه أن تشبه الغضب بإنسان ثائر يقذف
الحمم من لسانه ويضرب ويبطش ويصول ويجول.
ثم تحذف المشبه به . وترمز له بشيء من خواصه وهو - هنا - السكوت . وإلى هذا الرأي يميل الزمخشري فيقول :
" كأن الغضب كان يغريه على ما فعل . ويقول له : قل لقومك كذا.
وألق الألواح وجر برأس أخيك إليك . وتُرِك النطق بذلك . وقطع الإغراء . ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذى طبع سليم.
وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبيل شعب البلاغة " .(2/347)
ويميل إليه العلامة أبو السعود فيقول : " وفي هذا النظم الكريم من المبالغة
والبلاغة بتنزيل الغضب الحامل له على ما صدر عنه من الفعل والقول منزل
الآمر بذلك المغري ، ثم استعير التركيب الدال على المشبَّه به للمشبه وفى
التعبير عن سكونه بالسكوت ما لا يخفى ".
ويذهب الإمام النسفي مذهبهما فيقول موجزاً : ولما كان الغضب لشدته كأنه
هو الآمر لموسى بما فعل قيل : (وَلمَا سَكَتَ عَن مُوسَى الغَضَبُ).
3 - أن تكون استعارة تمثيلية بأن تشبه الهيئة الناشئة عن الغضب بهيئة
إغراء مغر . فإذا انقطع عنه الإغراء سكن المغري ثم استعير التركيب الدال على المشبَّه به وهو " سكت " للمشبه.
هذه توجيهات ثلاثة لتحديد نوع المجاز في الآية.
والواقع أن روعة التعبير فيها لا تتوقف على معرفة ما هو نوع مجازها . والذي أميل إليه ما اختاره المفسرون من حمل المجاز على الاستعارة المكنية لأن الغرض وصف الغضب بأنه كان حاداً قد بلغ مداه من نفس موسى عليه السلام ، حتى أصبح هو الذي يقول ويفعل ، وهذا لا يتأتي على أكمل وجه إلا في الاستعارة المكنية.
وبهذا يبدو ذوق المفسرين وكونهم أقرب إلى طببعة الأسلوب القرآني وجزالته.
وفي قوله تعالى : (وَفى نُسْخَتهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ) مجاز مرسل علاقته
اعتبار ما سيكون لأن الوصاَيا التي فيها إذا تمسك به قوم موسى هدتهم إلى
الحق . وجعلتهم أهلاً لأن يرحمهم الله.
والقرينة اعتبار أن يكون الهدى والرحمة ملتبسين بالنسخة تلبساً حقيقياً وقائمين بها.
أو العلاقة اللزومية . . لأن مَن يتمسك بتلك الوصايا لزم أن يكون مهتدياً
مرحوماً.
* * (2/348)
* بنو إسرائيل والرجفة :
(فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ).
" الرجفة " من الرجف ، والرجيف : هو شدة الحركة والاضطراب.
ويقال : بحر رجاف . والإرجاف : إيقاع الرجفة إما بالفعل وإما بالقول.
والمقصود بها في الآية حركة الجبل الشديد ، واضطرابه وعليه المختارون من
قوم موسى.
والمراد معنى الأخذ المجازي الذي هو : الهلاك والموت.
يقال : أخذته الحمى - إذا أماتته . وفاعل الأخذ بالمعنى الحقيقي الذى شرحناه هو الله تعالى . وإسناده إلى الرجفة مجاز عقلي علاقته السببية.
والقرينة استحالة وقوع الهلاك من الرجفة بغير إذن الله وإرادته وقدرته.
وسره البلاغي هو المبالغة في تصوير الهلاك حتى صارت الرجفة عدواً لهؤلاء
الناس فصرعتهم لا كفروا.
وفي إطلاق الأخذ على الهلاك مجاز لغوي على طريق الاستعارة التصريحية
التبعية والجامع ما يترتب على كل من اختفاء الميت والمأخوذ.
والقرينة استحالة أن تأخذهم الرجفة أخذاً . كلما يأخذ صاحب المتاع متاعه.
واجتماع المجازين في هذه العبارة شبيهه من كلامهم قول الشاعر :
وَتُحْيى لهُ المالَ الصوارمُ والقَنَا . . . وَيَقْتُلُ مَا تُحْيِى التبَسُمُ والجَدَا
حيث استعار الإحياء والقتل لجمع المال وتفريقه.
وأسند كلا من " تحيى " و " يقتل " إلى غير ما هو له.
وهو " الصوارم " في الأول . و " التبسم " فى الثاني.
وسره البلاغي المبالغة في تصوير المعنى.
والبيت كناية عن الشجاعة والكرم أو استعارة تمثيلية وهو الأظهر.
*(2/349)
* الحقيقة والمجاز في مادة " أخذ " :
ومادة " أخذ " في القرآن استعملت في المعنيين - الحقيقي والمجازي -
والمعنى المجازي لها فيه عدة صور :
1 - فأحياناً يأتي بمعنى الهلاك والدمار.
ويغلب في هذا النوع أن يكون إسنادها إلى الله تعالى.
أو إلى ظواهر طبيعية كالرجفة والصيحة والصاعقة والطوفان.
والإسناد إلى الله حقيقي بداهة.
أما الإسناد إلى الظواهر الطبيعية فعلي طريق المجاز العقلي.
وعلاقته - دائماً - السببية . .
ومن أمثلة هذا النوع :
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102).
(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67).
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55).
(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37).
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14).
2 - وأحياناً يكون بمعنى الابتلاء والاختبار.
والإسناد في هذا النوع لا يكون إلا لله ومن أمثلته :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42).(2/350)
(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76).
(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94).
ولعل معنى الابتلاء والاختبار واضح في هذه الآيات الثلاث.
3 - وأحياناً يكون بمعنى العقاب والمجازاة.
ومن أمثلته :
(إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16).
(قَالَ مَعَاذَ اللهِ أن نَأخُذَ إلا مَن وَجَدنا مَتَاعَنَا عندَهُ).
(مَا كَانَ لِيَأخُذَ أخَاهُ فِى ديِنِ الملِكِ).
وإنما كان الأخذ هنا بمعنى العقاب - أعنى آيتى يوسف -
لما ذكره الزمخشري من أن السارق في شريعة يعقوب يغرم مثل ما أخذ وإلا استُرِقَّ سنة.
ولهذا كان حمل الأخذ على معنى العقاب أظهر وأولى.
بل على معنى الاسترتاق.
4 - ومرة يكون بمعنى الهيمنة والسلطان.
وذلك مثل قوله تعالى : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56).
5 - وأخرى تكون بمعنى الإمساك.
ومنه قوله تعالى :
(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
(يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي).(2/351)
6 - وحيناً بمعنى التقبل . ومثاله : (هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ).
7 - وآخر بمعنى الغلبة ومثاله : (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) . .
لأن الذي ينام يغلبه النوم فيمتثل له . والله سبحانه منزه عن هذا.
8 - وبمعنى الإعداد . ومثاله قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ).
9 - وتأتي كذلك بمعنى التوثق والعهد . ومن أمثلته :
(وَإذْ أُخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ).
(وَإذْ أُخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النبيِينَ لمَا آتَيْتُكُم مًن كِتَابٍ وَحِكْمَة).
(وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21).
10 - وتأتي بمعنى اللبس والتزين . ومن أمثلته :
(حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ).
(يَا بَنِى آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلً مَسْجِدٍ).
11 - وتأتي معنى الاستحضار والاستصحاب ، ومن أمثلته :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ).(2/352)
(وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102).
(فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ).
12 - وتأتي بمعنى العمل . ومن أمثلته قوله تعالى :
(وَأمُر قَوْمَكَ يَأخُذُواْ بِأحْسَنِهَا).
(وَمَا آتَاكُمُ الرسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ).
13 - وتأتى بمعنى التخلق والانتهاج . ومن أمثلته :
(خُذِ العَفوَ).
(آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16).
14 - وبمعنى الإزالة والإذهاب . مثل قوله تعالى :
(قُلْ أرَأيْتُم إنْ أخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأبْصَاكم).
*
* صيغ مادة " أخذ " :
والحق أن هذه المادة وردت كثيراً في القرآن في صورة الثلاثى المجرد :
" أخذ " أو " يأخذ " أو " خذ " ، وفي صورة اسم الفاعل منها " آخذ "
وهما الصورتان اللتان عرضت بعض أمثلتهما مما وردت فيه مجازاً . .
وقد وردت كذلك في صورتين أخريين هما :
إحداهما : أن تدخل عليها تاء الافتعال " اتخذ " أو " يتخذ " أو "متخذ "
وهي هنا تفيد الجعل مع اختصاص المتخذ بالولاء . أو الاستئثار به.
مثال الأول(2/353)
قوله تعالى : (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74).
ومثال الثاني قوله تعالى حكاية عن زعم الكفار :
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88).
وقوله تعالى : (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ).
وقوله تعالى في التسامي بغريزة الجنس : (وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ).
وثانيتهما : أن يزاد ألف في أولها وتصبح حينئذ رباعية مختصة بالمجازاة
والعقاب.
مثل قوله تعالى : (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ).
وقوله تعالى : (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).
*
* نتائج مهمة :.
إن الدارس لمادة " أخذ " في القرآن يخرج بالنتائج الآتية :
أولاً : أنها تستعمل ثلاثية في المعنى الحقيقي والمجازي.
والاستعمال المجازي فيها أكثر وروداً.
وهي في هذه الحالة تقع مجازاً عن معان كثيرة قد أحصينا منها خمس عشرة حالة تردد بين المجاز المفرد هو الغالب عليها.
وبين المجاز المركب . . مثل قوله تعالى : (لأخَدنا منْهُ باليَمين)
لأنه تمثيل لقدرة الله(2/354)
ومثل : (حَتى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وازينَتْ).
ثانياً : إذا لم تكن ثلاثية مجردة - بأن زيدت الألف في أولها ، أو دخل
عليها تاء الافتعال - فإن المعنى يصبح مع الأول محصوراً في المجازاة والعاقبة
سواء أكانت اسماً أم فعلاً ، والمعنى مع الثانية يصبح محصوراً في الجعل
مع إضافة هذا الجعل إلى نفس المتخذ بأن يخص هو الشيء المتخذ بالولاء.
أو الاستئثار به.
ولا يخلو الاستعمال في الصورتين من المجاز.
لأن أصل المادة موضوعة لتناول الشيء المأخوذ أخذاً حسياً.
والمجاز في الأولى مرسل علاقته الإطلاق والتقييد.
فيقال : آخذه - بمعنى لامه أو عاقبه ، وسره البلاغي ما يُشعر به أصل الفعل من التناول والإمساك.
والمجاز في الثانية تمثيلي مركب وسره البلاغي ما يشعر به أصل الفعل من
تعظيم الشيء المأخوذ ومنزلته عند الآخذ.
ثالثاً : وبعد هذا يمكن القول بأن هذه المادة - في القرآن الكريم - مادة مجاز
وإن كان المجاز في بعض صورها لا يكاد يظهر لشيوع استعمال المعنى المجازي
حتى صار كالحقيقة.
*
* الإسناد المجازي لمادة " رجف " :
أما مادة " رجف " فقد أسند الله إليها أحداثاً غير ما تقدم.
وذلك فى ثلاثة مواضع هي :
1 - (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ).(2/355)
2 - (فَأخَذَتْهُمُ الرجفَةُ).
3 - (فَأخَذَتْهُمُ الرجفَةُ).
وفي إسناد الأخذ إلى الرجفة تهويل لما أنزله بالكافرين.
ومبالغة في تصوير المعنى لا يخفى أثرها.
* *
* الدعاء :
(وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ).
دعاء وتضرع من موسى عليه السلام . وتوبة وإنابة إلى الله ورغبة قوية فى
توفيقه ، والمراد بالكتابة : التقدير والإثبات.
فمعنى " اكتب " : قَدِّر وأثبت واقسم لنا هذه الأشياء.
فالتعبير عن التقدير والقسم بالكتابة مجاز لغوي على طريق الاستعارة
التصريحية التبعية شبه فيها القسم - وهو معنوي - بالكتابة ، وهي أمر
حسي ، والجامع التوثق في كل والعلاقة امتناع أن تكتب الحسنة.
واستعمال " كتب " في الدعاء مجاز مرسل علاقته الإطلاق والتقييد.
حيث أطلق الأمر وأراد به الدعاء . والقرينة امتناع أن يأمر الله آمر.
*
* مادة " كتب " في القرآن :
وقد استخدم القرآن مادة " كتب " كثيراً ويغلب المجاز على استعمالها فيه
إذا كانت فعلاً.
وقد استخدمها مجازاً في أغراض شتى.
نذكر منها ما يلي :(2/356)
1 - بمعنى الفرض . . ومنه قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
2 - وبمعنى الحلال . . ومنه قوله تعالى : (فَالآنَ بَاشرُوهُن وَابْتَغُواْ
مَا كَتَبَ اللهُ لكُمْ).
3 - وبمعنى التثبيت . . ومنه قوله تعالى : (أُوْلئكَ كَتَبَ فِى قُلوبِهمُ
الإيمَانَ).
4 - وبمعنى التقدير . . ومنه قوله تعالى : (قُل لَن يُصيبَنَا إلا مَا كَتَبَ
اللهُ لنَا).
5 - وبمعنى الجعل . . ومنه قوله تعالى : (يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83).
6 - وبمعنى التخصيص . . ومنه قوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ).
7 - وبمعنى التملى . . ومنه قوله تعالى : (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5).
8 - وبمعنى الإحصاء . . كقوله تعالى : (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12).
*(2/357)
* ملاحظات مهمة :
ويلاحَظ - هنا - أن المجاز مقصور على استعمالها فعلاً.
أما إذا استعملت صفة فإنها لا تخرج عن المعنى الوضعي.
ومن ذلك قوله تعالى : (كِرَاماً كاتِبِينَ).
وقوله : (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ).
ويلاحَظ - كذلك - أن استعمالها فعلاً ليس دائماً بمعنى المجاز.
بل قد تأتى فى المعاني الوضعية كالآية المتقدمة ، وكقوله تعالى :
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
ويلاحظ - كذلك - أن المجاز فيها متردد بين الاستعارة والمجاز المرسل ، وقد
بينا وجه الاستعارة في صدر هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها . .
أما المجاز المرسل فظاهر في قوله تعالى : (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5).
وقد قلنا : إن معنى المجاز هنا هو التملى - حسب زعمهم - والتملى صائر
إلى الكتابة فعلاقته اعتبار ما سيكون ، والقرينة امتناع إيقاع الكتابة دون
مصدر يمد بما سموه : أساطير الأولين.
*
* التوبة والرجوع الحسي :
و (هُدنا إليْكَ) : أي تبنا . من هاد يهود - إذا رجع . أو هاد يهيد.
والمعنى حركنا إليك أنفسنا وأملناها نحوك ، ويجوز على ما ذكره الزمخشري
أن يكون الفعل مبنياً للمفعول . .
أي : حركت إليك أنفسنا وأميلت .(2/358)
وفى التعبير عن التوبة بالرجوع الذي هو عدول السائر عن وجهة كان يريدها
إلى أخرى عرضت له مجاز يجوز حمله على وجهين :
الأول : أن يكون تمثيلاً شبهت فيه هيئة التائب - وهي أمر معنوي - بهيئة
الراجع ، وهي أمر حسي . وسره التقرير والإيضاح.
والجامع بين الأمرين رجوع التائب عن المعاصي والإقبال على الطاعات ورجوع السائر عن وجهته إلى أخرى.
فالعدول هو الأمر الجامع بين الأمرين.
والقرينة استحالة الرجوع المحسوس إلى الله.
لأنه غير حال في مكان دون آخر يرجع إليه فيه.
الثاني : أن يكون استعارة مفردة شبهت فيه التوبة
بالرجوع - مطلق رجوع - والجامع والقرينة كما سبق ، فهى استعارة تصريحية أصلية.
* *
* التعميم والتخصيص في الرحمة :
(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).
رحمة الله : نعمه وألطافه.
والرحمة في الأصل : الشفقة والحنان.
مشتقة من " الرحم " الذي هو موضع نمو الجنين لا يلقاه فيه من أسباب الراحة ووجوه الإنعام.
ويراد بها في جانب الله لازمها . وهو ما يترتب عليها من الإكرام والتنعيم
والإلطاف.
ولما كانت الرحمة هيئة من هيئات النفس وشعوراً وجدانياً . . فإن وصفها
بالوسع ضرب من المجاز ومعنى : " أن رحمة الله وسعت كل شيء "
أن من شأنها أن تشمل جميع الموجودات لكثرتها وسعة فضلها .(2/359)
وعلى هذا فالمجاز فيها محتمل لوجهين :
الأول : أن تكون استعارة تمثيلية شبهت فيها هيئة الرحمة وما يمكن أن تظله
فيها من المخلوقات بشيء محيط متسع ذى طاقة هائلة من الوسع.
فالهيئة الأولى تخيلية والهيئة الثانية واقعية حسية . .
وسره البلاغي إبراز المتخيل المعنوي في صورة الواقع الحسي . .
والقرينة امتناع أن تتصف الرحمة بالوسع
لأنها ليست ذات مساحة . . فتخيل إسناد الوسع إلى الرحمة هو قرينة المجاز.
الثاني : أن تكون استعارة بالكناية . شبهت فيها الرحمة بشيء ذى وسع ثم
حذف المشبه به ورُمِزَ له بخاصة من خواصه وهي " الوسع "
ومعنى التمثيل فيها أظهر.
والمعنى لا يتغير بتغيير التوجيه الاصطلاحي . فرحمة الله غير متناهية تكفي
أهل السموات والأرض وما بينهما.
وتزيد لتشمل كل شيء حتى الجمادات.
وقد استعمل القرآن هذه المادة " وسع "
تمثيلاً لبيان مقدار الرحمة أو العلم فى المواضع الآتية :
أولاً - في جانب الرحمة :
1 - (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).
2 - (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ).
3 - (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا).
4 - (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ).
وقد قامت المغفرة في هذا المثال مقام الرحمة ، لأن المغفرة
جزء من الرحمة في معناها الشامل .(2/360)
ثانياً - في جانب العلم :
أ - (وَسِعَ كُرْسِثهُ السماوات والأرْضَ) (1).
2 - (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80).
3 - (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا).
4 - (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98).
5 - (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا).
وهذا الموضع مشترك بين العلم والرحمة.
ولذلك أثبتناه في جانب الرحمة باعتبار . . وفي جانب العلم باعتبار.
ومن النظر الفاحص في هذه النصوص يتضح أن كلاً من رحمة الله وعلمه
يتخذ القرآن الكريم منهجاً واحداً للكشف عنهما وبيان مقدارهما فهما محيطان كل في موضوعة إحاطة شاملة تكاد تدرك بالحواس لشدة ظهور آثارها الدالة عليها.
*
* " واسع " . . وصفاً لله سبحانه :
وجاءت هذه المادة على صورة اسم الفاعل وصفاً للهِ على سبيل المجاز كذلك
متلوة بلفظ الحكمة مرة وبلفظ العلم سبع مرات.
وهذه مواضعها على الترتيب :
1 - (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130).
__________
(1) على القول بأن المراد من " الكرسى " هنا العلم.
وفي رأي : أن المراد به العظمة - والآية(2/361)
2 - (واللهُ يُؤْتِى مُلكَهُ مَن يَشَاءُ واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).
3 - (واللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).
4 - (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268).
5 - (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73).
6 - (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).
7 - (إن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْله واللهُ واسِعٌ عَلِيمَ).
8 - (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115).
*
* مسوغات الوصف :
تلك هي مواضع استعمال هذه المادة وصفا لله سبحانه على التمثيل المجازي
وقد حرص القرآن الكريم على أن يقرن إلى وصف الله بهذه الصفة :
" واسع " كلمات وأوصافاً أخرى تمهد لهذا الوصف المجازي وتشير إلى جهة مسوغ هذا الوصف.
وهذا المسوغ نوعان :
1 - وصف يُذكر بعده - أي بعد الوصف المجازي - وكاد ينحصر هذا
الوصف في " عليم " إلا في موضع واحد كان هذا الوصف " حكيماً ".
ولا شك أن العلم يوصف بالسعة وكذلك الحكمة لأنها بمعناه .(2/362)
2 - كلمات تتقدم عليه وكادت تنحصر هذه الكلمات في الفضل.
والفضل يوصف بالسعة فإن لم تكن " الفضل " فهى السعة والمغفرة والحكمة والمضاعفة.
هذه المعاني متقدمة أو متأخرة مهَّدت لوصف الله بالوسع.
فلم يكن هذا الوصف مستغرياً أو نابياً وإن كان يستخدم في وصف المساحات . وشتان ما بين المساحات وبين اسم " الجلالة " الموصوف في هذه الآيات.
*
* وصورتان أخريان :
هذا وقد بقى من معانيها المجازية في القرآن الكريم - أو معان كالمجازية
لأن أصلها المجاز وقد شاع استعمالها حتى أصبحت كالحقيقة اللغوية فيما
استعملت فيه من هذا النوع - بقى صورتان.
إحداهما بمعنى الطاقة ، والثانية بمعنى الفضل والسعة في الرزق.
واستعمالها في المعنى الأول : " الطاقة " جاء في خمس آيات هي :
1 - (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا).
2 - (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
3 - (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا).
4 - (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
5 - (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ).(2/363)
وإنما كانت كانت هنا بمعنى الطاقة لأنها وقعت في حَيز التكليف.
والتكليف منوط بما كان في قُدرة الإنسان وطاقته.
وفي تشبيه الطاقة بالوسع تصوير أيضاً للمعنوي بالمحسوس والمجاز فيها
يصح حمله على المركب والمفرد.
أما استعمالها في الفضل وسعة الرزق فتلك هي مواضعه وهي خمسة أيضاً :
1 - (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ).
2 - (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً).
3 - (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً).
4 - (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ).
5 - (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ).
تدل الكلمة في هذه المواضع الخمسة على الفضل والتوسعة في الرزق ،
ويؤيد هذا عطف السعة على الفضل في الآية وهو عطف تفسير.
والفضل إنما يوصف بالقِلة والكثرة ، أما وصفه بالضيق والوسع فعلي طريق المجاز لا غير.
*
* الوسع وصفاً للأرض :
ولهذا لم تأت الكلمة في القرآن - أي كلمة وسع - في المعنى الحقيقي إلا
وصفاً للأرض في قوله تعالى :
1 - (قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا).(2/364)
2 - (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ).
3 - (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ).
فإجراء - الوسع - في الآيات الثلاث وصفاً للأرض جار مجرى الحقيقة
اللغوية لأن الوسع أصيل في الأرض.
*
* موضع آخر بين الحقيقة والمجاز :
وبقى مثال واحد لاستعمال هذه المادة في القرآن الكريم يتجاذبه جانبا حقيقة
ومجاز . وهو قوله تعالى : (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47).
قال في مختار الصحاح : " أي أغنياء قادرون ، ويقال : أوسع الله عليك -
أى أغناك ".
وعلى هذا التفسير فإن جانب المجاز ظاهر في الآية.
ويمكن حمل العبارة على معنى الوسع الحقيقي - أي موسعون في البناء -
وهو الأفضل لما هو واقع مشاهَد.
وهذا هو جانب الحقيقة في التعبير.
*
* حصيلة هذه الجولة :
إذا تقرر هذا فإن النتائج التي يمكن تسجيلها حول استعمال القرآن لهذه المادة
تتلخص فيما يأتي :
أولاً : أن الاستعمال المجازي غالب عليها . أما الاستعمال في المعنى
الحقيقي فحظه فيها قليل لم يأت إلا في ثلاث آيات كانت في سياق
الحديث عن الأرض .(2/365)
وموضح رابع يتردد التعبير فيه بين الحقيقة والمجاز.
ثانياً : يمكن أن يطلق على هذه المادة بأنها في القرآن مادة مجاز وأن المجاز
ظاهر في بعض مواضعها . ويحتاج إلى روية في البعض الآخر.
* *
* مادة " تبع في القرآن " :
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) . .
فى هذه الآية شروع في بيان صفات أخرى لمستحقي رحمة الله.
وأول هذه الأوصاف إتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
و " تبعه " في اللغة : سار خلفه أو مَرَّ به فمضى معه . وكذا " أتبعه ".
والمعنى اللغوي ليس مقصوداً للآية بل المراد العمل بالشريعة التي جاء بها عليه
الصلاة والسلام والاقتداء به في قوله وفعله.
وإنما عبَّر عنه بالاتباع لتصوير المعقول بالمحسوس لأن النفس حين تتأمل هذه
الصورة ترى أن التابع ملازم للمتبوع متحر للسير معه في نفس الاتجاه الذى
يبغيه.
كما يدرك أن المتبوع رائد يسير أمام جنوده يسلك بهم أحسن الطرق إلى
أشرف الغايات.
وقد جاءت هذه المادة في القرآن الكريم - مادة تبع - فيما يزيد عن
مائة وخمسين آية ، وكثرة ورودها لا تحول دون أن نقف معها وقفة تكشف لنا عن منهج القرآن في استعمالها.
وليكن ذلك مع بعض أمثلتها لا على سبيل الاستقصاء.
والباحث يرى استعمالات القرآن لها تجرى على المنهج التالى :(2/366)
أولاً - في مقام المدح :
1 - (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38).
2 - (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ).
3 - (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا).
4 - (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ).
5 - (وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47).
6 - (ثُمَّ جَعَلنَاكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتبِعْهَا).
ثانياً - في مواطن الذم :
1 - (قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63).
2 - (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85).
3 - (وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلنَا قَلبَهُ عَن ذكرِنَا واتبَعَ هَواهُ).
4 - (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.
5 - (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ).(2/367)
6 - (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ).
7 - (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3).
*
* وقفة مع هذه المادة :
هذه النصوص المختارة في الموضعين . . استعملت فيها المادة " تبع "
استعمالاً مجازياً . ويختلف تقدير المجاز باختلاف الاعتبارات.
فمثلاً قوله تعالى : (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ) يمكن حمله على الاستعارة التصريحية
التبعية حيث شبَّه الامتثال والانقياد لما جاء به الوحي بالسير المعلوم.
ويجوز حمله على الاستعارة بالكناية . بأن يُشبِّه الهدى برائد يتقدم الركْب
على غاية شريفة . ثم حذف ورمز له بالاتباع.
ويمكن حمله على المجاز التمثيلي بأن تشبه هيئة المؤمنين في اقتدائهم بالرسول
عليه السلام من امتثال الأمر واجتناب النهي بهيئة ركب يسيرون وراء هاد لهم.
ناصح أمين.
وهذا التوجيه صالح لتطبيقه على الآية الثالثة والآية الرابعة والآية السادسة
من الطائفة الثانية . . وموطن المجاز فيها :
(وَاتبَعَ هَواهُ) عبارة مشتركة بين الثالثة والرابعة.
(واتبَعُواْ الشهَواتِ) وهي عبارة الآية السادسة .(2/368)
فالهوى والشهوات صنوان ، ومَنْ يتبعهما واقع في أسرهما.
يصرفانه كيف يشاءان . لذلك فإن حمل المجاز في هذه المواضع على المفرد بنوعيه - التصريحية والمكنية - أو التمثيلي منه رأي سديد.
* ملاحظات مهمة :
وهنا ملاحظات هامة تبدو أمام النظر :
أولاً : أن الاستعمال المجازي يغلب على هذه المادة حتى لا تكاد تجد من
بينها ما استعملت فيه في معناها الوضعي إلا نادراً.
وأن المجاز فيها يتردد بين المفرد والمركب.
ثانياً : إذا كان متعلق المادة أمراً محموداً استعملت حينئذ في مقام المدح
إخباراً عن المؤمنين . أو خطاباً لهم.
أو في سياق الحديث عما ينبغي أن يكون.
وفي هذا المقام لا تجيء إلا مثبتة.
أما في سياق الحديث عن العصاة والكافرين . فإنها لا تجيء إلا منفية
ما دام متعلقها أمراً محموداً . تحقيقاً لذمهم لما هم عليه من ضلال وكفر.
ثالثاً : إذا كان متعلقها أمراً مذموماً . فإن كان سياق الحديث عن المؤمنين
فإنها تجيء منفية . حفاظاً على صفة الكرامة والنزاهة لهم.
وإن كان في سياق الحديث عن العصاة والكافرين . فبقاؤها على الإثبات أمر مطرد . تحقيقاً لصفة الذم والتحقير.
رابعاً : وإذا كانت مخاطبة بين الكافرين فيما بينهم بعضهم لبعض.
أو فيما بينهم وبين المؤمنين . فالحال مختلف تبعاً لاختلاف معايير الفضيلة عندهم.
وهي تجرى على النحو الآتى :(2/369)
1 - إذ خوطبوا ليتبعوا ما أنزل الله من البينات والهدى تمسكوا بما وجدوا
عليه آباءهم من عقائد ضالة ونحل فاسدة قائلين : (بَلْ نَتبِعُ مَا ألفَيْنَا عَليْهِ
آباءَنَا).
2 - وإذا تدارسوا الموضع فيما بينهم بُغية الوصول إلى موقف يتخذونه قالوا : (أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24).
أو قالوا : (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40).
3 - وإذا خاطبوا الرسل أو أشياعهم المؤمنين قالوا : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا).
أو قالوا : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47).
4 - وإذا مثلوا أمام ربهم لم يستطيعوا تمويه وجه الحقيقة تمنوا لو تعاد لهم
الكرة فيؤمنوا ويتبعوا الرسل قائلين : (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ).
فهنا - كما قلنا - معايير للفضيلة مختلفة.
ولذلك إذا أرادوا إثباتها لأنفسهم جاءت الكلمة مثبتة.
والغرض من إثباتها حينئذ إثبات الفضيلة - حسب زعمهم - إلى أنفسهم.
أما حين يخاطبون المؤمنين فإثبات هذه الكلمة دليل الذم - في نظرهم - فهم
مثلاً لا يتبعون الهدى لأنهم لو اتبعوه شردوا في الأرض . ومزقوا كل ممزق ،
فالعزة عندهم في البقاء على الضلال.
والهوان في الدخول في الدين وإتباع تعاليمه.
ألا ساء ما يحكمون .(2/370)
وهم لا يتبعون الرسول ، لأنه - عندهم - رجل مسحور.
أو لأن الذين اتبعوه من الناس ما هم إلا أراذلهم وضعفاؤهم.
ولا يفيقون من سكرتهم إلا ساعة العرض على الله.
وحينئذ يتمنون العودة إلى الحياة ليتبعوا الرُسل.
5 - وإذا لم يكن متعلقها مما يُحمد أو يُذم . وليس جارياً في مخاطبات بين
الكافرين بعضهم بعضاً . أو بينهم وبين المؤمنين . فهى - إذن - تفيد ترتب
أحداث تاريخية وقعت أو ستقع.
فمن الأول . . قوله تعالى : (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ.
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ).
(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78).
(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17).
ومن الثاني . . قوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7).
ويلاحَظ هنا أن المعنى باق على مجازيته . إذ ليس المراد بالاتباع المعنى
اللغوي الذي هو : سار خلفه . إلا في قوله تعالى :
(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) فالاستعمال حقيقي فيه.
ذلك هو قانون هذه المادة في القرآن الكريم.
أو نهجها الذي تأتي عليه . . والمجاز غالب فيها.
* * (2/371)
* الرسول في التوراة والإنجيل :
(يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ).
الضمير المنصوب في " يجدونه " - وهو " هاء " الغائب - راجع إلى
الرسول المذكور قبل هذه العبارة ولمرجعه عليه اعتباران :
أن يرجع عليه باعتبار الذات : أي يجدون ذاته . وهو المعنى المتبادر إلى
الذهن من قوله تعالى : " يجدونه " . . وهذا غير مقصود.
أن يرجع عليه باعتبار آخر غير الذات - الاسم أو الصفة مثلاً - وهو المعنى
المراد . لأن " مكتوباً " يخصص عود الضمير على الاعتبار الثاني.
ولأن الذات لا توجد بين ضفاف الكتب عن طريق الكتابة.
وهذا يسلمنا إلى القول بالتجوز في التعبير.
وأنها من المجاز المرسل لأن المعنى كما نص عليه
الزمخشري : يجدون صفته.
والصفة جزء الذات . . فالعلاقة الكلية لأنه أطلق الكل وأراد الجزء ،
والقرينة استحالة أن توجد الذات بين الكتب.
وقد فسَّر القرآن نفس الصفات التي وجدوها مكتوبة فيما بين أيديهم من
الكتب السماوية وهي كونه آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر . مبيحاً لكل
الطيبات . مانعاً لكل الخبائث . واضعاً عنهم ما كانوا ينوؤون به من أثقال
وأغلال.
وهنا نسأل سؤالاً : لماذا عبَّر القرآن الكريم عن الصفات بما يصح حمله على
وجود الذات ؟
وما مغزى هذا التعبير وسمته البلاغية ؟(2/372)
والجواب : لعل السر في ذلك - والله أعلم - أن الأوصاف التي ذكرت فى
الكتب السماوية السابقة قبل القرآن بالغة الدقة في التصوير.
حتى إن القارئ عندما يتلو "نصاً فيه تلك الأوصاف يحس - وهو يتلو - بأن ذات الموصوف قد مثلت أمامه نموذجاً واضحاً.
وإن كان سراً في ضمير الغيب.
وهذا منحى له وزنه في بلاغة القول ، وفنون التعبير . فنحن نعد الكاتب
الذي يخط قصة . أو يصف واقعة وصفاً دقيقاً . ويرسم الأشخاص رسماً عادقاً.
حتى يسلب القارئ حدود الزمان والمكان ، فتجيء قصته عملاً فنياً محكماً
ووصفه شاملا.
نعد هذا الكاتب أو الواصف قد ملك من البيان قدراً كبيراً ومن البلاغة حظاً
وفيراً.
وفوق هذا وذاك بيان القرآن وبلاغة القرآن.
* *
* الطيبات والخبائث :
(وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ).
هذان وصفان للرسول ذكرا بعد وصفين آخرين هما :
(يَأمُرُهُم بالمعْرُوف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكَرِ).
وأصل الحل حل العقدة ، ومنه قوله تعالى : (واحْللْ عُقْدَةً مًن لسَانِي).
واستعماله هنا في الحل - الذي هو ضد المنع - ففى أصل هذا التعبير مجاز
ولكنه كثر استعماله حتى عار كالحقائق اللغوية . فكأن المحلل كان معقوداً ففك عقده وحل.
والطيب ما لذ حساً . فعبَّر به عن الحلال ترغيباً فيه.
والتحريم : المنع . والمراد به هنا المنع الشرعي .(2/373)
والأصل في الخبيث : القبيح وما لا يوافق النفس حساً أو عقلاً.
سمى الحرام خبيثاً من باب المجاز تشبيهاً له بالقبيح الذي تعافه النفس وتمجه الطباع . تنفيراً منه ، وتزهيداً فيه.
فقد وضع كل لفظ في موضعه اللائق به.
واستعير للحلال ما يُرغب فيه ، وللحرام ما يُنفر عنه.
* *
* " حل " في القرآن :
واستعمال مادة " حل " في القرآن له ثلاثة أنواع :
أولاً . أن يكون بمعنى الإزالة والفك ، ومثاله قوله تعالى حكاية عن
موسى عليه السلام داعياً متضرعاً : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) . .
أي أزل وفك.
ثانياً : أن يكون بمعنى الإباحة والجواز.
وهذا المعنى هو الغالب عليها وله أمثلة كثيرة ، منها قوله تعالى :
(فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ).
ومنها قوله تعالى : (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ)
وقوله : (يَا أيُهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا يَعِل لكُمْ أن تَرِثُواْ الئسَاءَ كُرْهاً).
وقوله : (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا).(2/374)
ثالثاً : أن يكون بمعنى الحلول . وهذا المعنى كثير فيها.
ومنه قوله تعالى : (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81).
وقوله تعالى : (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86).
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28).
وقد احتمل قوله تعالى : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) وجهين :
أحدهما : وأنت حلال مستباح لهم يؤذونك ويناوئونك.
وثانيهما : وأت حال نازل بهذا البلد.
* ملحظ عجيب :
ومن الملاحظات العجيبة أن القرآن استعمل " حلال " من الحل وله فيه
طريقتان :
إحداهما : أن ترد في مقام الحث . وقد اطرد القرآن وصفها بكلمة " طيب "
فى جميع صورها وهي :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا).
وقوله : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا).(2/375)
وقوله : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا).
وقوله : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا).
ثانيتهما : أن ترد في مقام الإنكار والزجر.
فتقطع عن ذلك الوصف.
وذلك فى موضعين :
الأول : قوله تعالى : (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ
هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ).
الثاني : (أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ).
*
* والسر :
ولعل سر هذا الاختلاف أن الحلال في المواضع الأولى التي حثت الناس على
الأكل مما رزقهم الله هو حلال أصيل في موضوعه فآثر القرآن وصفه بالطيب
ترغيباً فيه وطلباً له.
أما الحلال في المواضع الأخرى . فحلال مزعوم.
والإنكار مسلط عليه أن يكون ، فضلاً عن أن يوصف بالطيب.
* *
* " طاب " في القرآن :
أما مادة " طاب " فإن استعمالها في القرآن الكريم يختلف باختلاف نوع
اللفظ المستعمل فعلاً أو غير فعل.
فإن كانت فعلاً - ولم ترد فيه كذلك إلا بلفظ الفعل الماضي في ثلاثة مواضع
- فإن المعنى يختلف من موضع إلى آخر وتلك هي مواضعها فعلاً :(2/376)
ا - (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ).
ومعناها هنا : ما حل لكم.
2 - (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73).
ومعناها هنا : طهرتم من خبث الخطايا.
3 - (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4).
ومعناها هنا : سمحن أو وهبن . وعبَّر عن السماح بالطيب لأن المراعَى تَجافى أنفسِهن عما وهبنه وسمحن به فلا هن مكرهات عليه.
أما إذا كان اللفظ المستعمل منها غير فعل . فهو على نوعين :
أولاً : أن يكون مصدراً بمعنى الطيب.
وله مثال واحد هو قوله تعالى :
(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29).
فـ " طوبى " مصدر كبُشرى ، ومعنى طوبى لك : أصبتَ خيراً وطيباً.
ثانياً : ألا تكون مصدراً ولا تكون حينئذ إلا صفة في المعنى أو المعنى
والإعراب معاً.
وهذا الاستعمال يستبد بكل أمثلتها.
وتقع صفة بالمعنى المذكور لعدة أمور
هي :
1 - أن تكون صفة للرزق وذلك كثير متعدد . .
منه قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا).(2/377)
وقوله تعالى : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا).
2 - أن تكون صفة لـ " بلد " . . ومنه قوله تعالى :
(وَالبَلدُ الطيًبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ).
وقوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15).
3 - أن تكون صفة لكلام . . ومنه قوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).
4 - أو تكون وصفاً لمساكن . . ومثاله قوله تعالى :
(وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ).
5 - أو وصفاً للريح . . ومثاله قوله تعالى :
(حَتى إذَا كُنتُمْ في الفُلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طيِّبَةٍ).
6 - أو وصفاً لا يعلو الأرض من تراب . . ومثاله قوله تعالى :
(فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ).
7 - أو وصفاً للشجر . . ومثاله قوله تعالى :
(كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24).
8 - أو وصفاً للحياة . . ومثاله قوله تعالى :
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).
9 - أو وصفاً للتحية . . ومثاله قوله تعالى : (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً).(2/378)
10 - أو وصفاً للناس - مذكورين أو غير مذكورين - بأن تقوم الصِفة
مقامهم ، وذلك كثير . ومنه قوله تعالى :
(قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38).
وقوله تعالى : (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ).
هذا وقد بقى من استعماله - غير فعل - صورة واحدة تجرى مجرى الاسم
مراداً بها الحلال ويقابلها في ذلك الخبيث بمعنى الحرام والباطل.
ومن ذلك قوله تعالى : (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ).
وقوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)
*
* منهج القرآن في " طاب " :
أولاً : أن القرآن يُفرق بين استعمال هذه المادة فعلاً أو اسماً.
وفي استعماله لها فعلاً فإن كل موضع فيه قد أريد به
معنى خاص غير ما يراد بغيره منها.
أما استعماله لها غير اسم . فهى إما مصدر بمعنى الطيب ، وإما صفة فى
المعنى أو المعنى والإعراب وتقع كذلك لموصوفات متعددة.
ثانيا : أن المجاز غالب على استعمالاتها في القرآن ما دام المراد ب " الطيب "
فى اللغة ما لذَّ حساً ، ولا يمكن حملها على معانيها الحقيقية إلا إذا وردت صفة لا يوصف باللذة الحسية كالرزق لأن منه المأكول والمشروب.
أما مادة " حرم " فإن معناها اللغوي : المنع ، وعلى هذا الفهم تدور صور
المادة في القرآن الكريم مراداً بها المنع الشرعي أو القهري ، ومن معانيها أيضاً
التعظيم والحرمان .(2/379)
ولما كانت هذه المعاني قريبة جداً من المعنى اللغوي للكلمة فلنكتف بهذه
الإشارة إليها دون الخوض في ذكر الأمثلة.
فذلك لا يؤدى إلى جديد.
* *
* المعاني المرادة من " خبث " :
وأما مادة " خبث " فقد مرَّت أمثلتها مع - مادة " طاب " لأنها لم ترد
منفردة.
ولو رجعنا إلى تلك الأمثلة لبانَ أن القرآن يستعمل تلك المادة مجازاً
فى الأغراض الآتية :
1 - أن يُطلقها على الحرام والباطل.
2 - أن تأتي وصفاً لبلد.
3 - أن تكون صفة لفريق من الناس.
4 - أن تكون وصفاً لكلمة.
5 - أن تكون وصفاً لشجرة.
وإلى هنا ينتهى دور هذه المادة في القرآن الكريم.
وتفترق عن مادة " طاب " بأن " طاب " إذا جرى وصف منها على الرزق فلا يمنع ما منع من إرادة المعنى الحقيقي.
أما " خبث " إذا جاءت وصفاً للكسب أو الرزق فإنه مجاز دائماً لأن
الحرام قد يلذ حساً.
* *
* الإصر والأغلال
(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).
وهذه صفة من صفات الرسول.
فهو بعد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر
وإحلال الطيبات لهم وتحريم الخبائث.
يضع عنهم الأمور الشاقة التي كانت(2/380)
تأصرهم وتثقل كواهلهم والأغلال التي كانت تكبلهم من الحركة وحرية التصرف.
تلك صفة من صفات الرسول يجدونها مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل . فهى إذن نعمة عظيمة لأن فيها تحرير الإنسان.
وقد نص المفسِّرون على أن المراد بـ " الإصر والأغلال " هو التكاليف
الشاقة.
قال الإمام النسفي في تفسير " الإصر " : " المراد التكاليف الصعبة
كقتل النفس في توبتهم وقطع الأعضاء الخاطئة ".
وقال في تفسير " الأغلال " : " هي الأحكام الشاقة نحو بت القضاء
بالقصاص عمداً كان أو خطأ من غير شرع الدية وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم وظهور الذنوب على أبواب البيوت.
شبهت بالغل للزومها لزوم الغل ".
ويتابع النسفي كثير من المفسرين.
وفي العبارة مجاز تمثيلي شُبِّهت فيه هيئة القوم وما هم فيه من تكاليف شاقة
بهيئة قوم ينوؤون بأثقال وأحمال وقد قُيّشدوا في السلاسل والأغلال فجاء رجل وخلصهم مما هم فيه ففك أغلالهم . وأنزل أحمالهم . فذلك هو هو إنسان النور والخلاص.
هذا من حيث النظر إلى التعبير جملة . فإذا انظرنا إليه نظرة تفصيلية فإننا
نحصل على ثلاثة مواضع فيه للمجاز المفرد . وهي : " يضع " لأن الموضع فى
أخص معانيه الحط . ولا يقال إلا لحامل شىء قد أنزله.
و " الإصر " هو الحمل الثقيل حساً.
واستعماله هنا في المعنويات مجاز ، وكذلك " الأغلال "
لأن الأغلال هي السلاسل والقيود الحسية.
* * (2/381)
* " وضع " بين الحقيقة والمجاز :
أما " وضع " فقد استعملت فيه حقيقة ومجازاً.
ومن استعمالها حقيقة قوله
تعالى : (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).
وقوله تعالى : (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ).
والموضع في هذين الموضعين مراد به الإنجاب.
ومنه قوله تعالى : (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ).
وقوله تعالى : (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ).
أما استعمالها مجازاً فيأتي مراداً به عدة معان :
1 - أن يكون بمعنى الجعل . ومنه قوله تعالى :
(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7).
وقوله : (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10).
ويفيد هذا الموضع - مع الجعل والإيجاد - معنى البسطة والتهيئة.
2 - أن تكون بمعنى الخلع والإلقاء . ومثاله قوله تعالى :
(وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِنَ الظهِيرَةِ) لأن الثياب - هنا - ملبوسة وليست محمولة حتى توضع.
3 - أن تكون بمعنى البناء والإشادة . . ومثاله قوله تعالى :
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96).(2/382)
4 - أن تكون بمعنى الإزالة . . ومثاله قوله تعالى :
(وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْركَ) يعني أزلنا همومك التي كانت تثقلك.
5 - أن تكون بمعنى الظهور والبروز . . ومثاله قوله تعالى :
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ).
6 - أن تكون بمعنى التهيئة . . ومثاله قوله تعالى :
(وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14).
وكلمة " يضع " في آياتنا استعارة تصريحية تبعية حيث شبه إزالة الإصر
والأغلال وإعفاءهم من كثير من الأعمال الشاقة بالموضع ، والجامع ما يترتب
على كل من الراحة وإلغاء العناء . والقرينة حالية.
*
* استنتاجات :
إن القرآن استعمل مادة " وضع " في الحقيقة والمجاز . واستعمالها المجازي
فيه يفيد عدة أغراض متباينة فيما بينها وإن شملها هدف عام كان سبباً فى
التجوز والمشابهة.
أما الإصر فهو في اللغة عقد الشىء وحبسه وقهره.
يقال : أصرته فهو مأصور . والأصر والمآصير : محبس السفينة.
ومن معانيه . الحمل الثقيل.
واستعماله هنا في الأمور الشاقة مجاز على طريق الاستعارة التصريحية
الأصلية ، والجامع ما يترتب على كل من المشقات وقهر النفس بالعناء.
وقد زاد من روعة المجاز الترشيح له بمجاز آخر هو " يضع "
والترشيح مهيئ للنفس لتبعد بالمستعار عن معناه الحقيقي.
لأن الحمل يوضع حقيقة فهو من ملائمات المعنى المجازي . المفيد للتقوية والتأكيد .(2/383)
والمتتبع لاستعمال القرآن لمادة " إصر " يصل إلى الحقائق الآتية :
1 - أن تكون بمعنى المشقة والعناء وذلك في موضعين :
أحدهما : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ).
ثانيهما : (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا).
والإصر فيهما استعارة أصلية تصريحية - كما سبق - وقد سبقه استعارة
مرشحة في الموضعين فالترشيح في الأولى " يضع " . والترشيح في الثانية
"تحمل " . . وكلاهما من ملائمات المشبه على القول بأن الإصر من معانيه :
الحمل الثقيل.
2 - أن تكون بمعنى العهد الموثق . ومثاله قوله تعالى :
(أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي).
وتشبيه العهد بالإصر - على ما يرى الراغب - أنه يؤدى بناقضه إلى
الحرمان من الخيرات ويثبطه عنها.
والأولى أن يشبه العهد المؤكد بالإصر بمعنى الحمل الثقيل من حيث التزام
المعاهد بالوفاء بالعهد . ويكون المعنى - هنا - عظم العهد نفسه وخطورة
المسئولية فيه.
والخلاصة : أن هذه المادة لم تُستعمل في القرآن إلا مجازاً ولم تأت فيه إلا
اسماً منكراً في موضع ومعرفاً في موضعين.
أما الأغلال فهى - كذلك - استعارة تصريحية أصلية.
وتكاد تصور بجرسها وموسيقاها المعنى المراد منها.
* * (2/384)
* معاني " غل " :
1 - " أن تأتي بمعنى القيد . . ومن ذلك قوله تعالى :
(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).
ومنه قوله تعالى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30).
وقوله : (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8).
ومنه كذلك : (وَجَعَلنَا الأغْلالَ فِى أعْنَاقِ الَّذِينَ كفَرُواْ).
2 - أن تكون بمعنى الخيانة . . ومنه قوله تعالى :
(وَمَن يَغْللْ يَأتِ بمَا غَل يَوْمَ القِيَامَةِ).
3 - أن يأتي بمعنى الضغائن والأمراض النفسيه الحاقدة . . ومنه قوله تعالى :
(وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مَنْ غِل تَجْرِي من تَحْتِهمُ الأنْهَارُ).
ومنه أيضاً : (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا)
4 - أن تأتي بمعنى البخل . . ومنه قوله تعالى :
(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلولةً إلى عُنُقِكَ).
ومنه قوله تعالى : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ).
والخلاصة : أن القرآن استعمل مادة " غل " في الحقيقه والمجاز.
فإذا كانت مستعملة في معناها الحقيقي دلت على معنى القيد والتكبيل . وأظهر ما يكون ذلك في شأن أهل النار بدليل قرن الأغلال فيها بالسلاسل والسحب في قوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71).(2/385)
فالأغلال بالنسبة لأهل النار أغلال حقيقية . . أما المجاز ففيما عدا ذلك.
فإن كان الكلام وارد في وصف عام كالكفر . . فالمجاز المركب التمثيلي هو
أظهر ما يكون في توجيه العبارة . .
فمثلاً قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8).
يقول الزمخشري فيه : " مثل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى
ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ".
فهذه استعارة تمثيلية شُبِّهت فيها صورة القوم في كفرهم بصورة مَنْ غُلَّ وقُيِّدَ
وسبغ " الغل " جسمه حتى ذقنه فلم يستطع حركة.
ويكون قوله تعالى : (فَهُم مُقْمَحُونَ) . .
ترشيحاً للمجاز والقرينة حالية.
*
* ثلاث كنايات :
وإن كان الكلام في وصف خاص كالبخل فالكناية أظهر في توجيه العبارة . .
فمثلاً قوله تعالى حكاية عن اليهود دعنهم الله :
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) . .
فقولهم : (يَدُ الله مًغلُولة) ، وَقوله في الرد عديهم : (غُلت أيْديِهمْ)
وقوله أيضاً : (بَل يَدَاهُ مَبْسُوطتَان) الأظهر في هذه العبارات أن يَكون
قولهم : (يَدُ الله مَغْلولةٌ) ، وقوله : (غُلتْ أيْديهِمْ) كنايتين عن البخل.
وأن يكون قوله تعالَى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطتَانِ) كناية عن الكرم الواسع .(2/386)
والخلاصة : أن هذه العبارات يجوز اعتبارها مجازاً مركباً أو مفرداً بأن يكون
المجاز فيها استعارة بالكناية فيما يصح فيه ذلك . ويجوز جعلها من باب
الكناية حتى في عبارة اليهود : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) ، ولا يمنع
من إيراد الكناية عليه أنه يجوز فيها حمَل الكلام على المعنى الحقيقي - وهذا
قول فيه خلاف - لأنا نقول : إن الله قد صرَّح في القرآن بأن له يداً في غير هذا الموضع . وعلى ما بين السَّلف والخَلف من خلاف في هذا المجال فإن العبارة محكية عن اليهود وهم لا يراعون مثل ما نراعيه نحن المسلمين من هذه
الاعتبارات الدقيقة في مجال الاعتقاد.
هذا . . وقد بقى توجيه واحد للزمخشري في عبارة الرد التي ذكرها الله رداً
على مقولة اليهود حيث قال : (غُلتْ أيْدِيهِمْ).
والزمخشري يُجَوز أن تكون العبارة من الاستعمال الحقيقي بأن تُحمَل على
الوعيد أي أنه توعدهم بصيرورة حالهم إلى تلك الحال يوم يلقونه في الآخرة.
والأولى بالاعتبار حملها على المجاز وإنَّا لنرى اليهود مضرب المثل في البخل
بين العامة والخاصة فحق عليهم القول فبخلوا.
* *
* " النور " في القرآن :
(وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ).
وهذه صورة مجازية رائعة ، . شُبِّه فيها القرآن بـ " النور " على طريق
الاستعارة التصريحية الأصلية والجامع : الهداية والإرشاد ،
والقرينة لفظية هى قوله : (أنزِلَ مَعَهُ).
وعبد القاهر الجرجاني يجعل هذه الاستعارة أبلغ أنواع الاستعارات ويسميها
الضرب الصميم الخالص من الاستعارة . وضابطها عنده أن يكون الشبه مأخوذاً(2/387)
من الصور العقلية . وذلك كاستعارة النور للبيان والحُجة الكاشفة عن الحق
المزيلة للشك النافية للريب كما جاء في التنزيل من نحو قوله تعالى :
(وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) ، وكاستعارة الصراط للدين في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6).
ثم يقول : " واعلم أن هذا الضرب هو المنزلة التي تبلغ عندها الاستعارة غاية
شرفها ويتسع لها كيف شاءت المجال في تفننها وتصرفها ".
وقد استعار القرآن كلمة " النور " في تصرفاتها المختلفة كثيراً.
والمتتبع لوروده فيه يجده على النحو الآتى :
1 - أن يكون وصفاً لكتاب.
ولهذا عدة صور ففى سياق الحديث عن القرآن
وردت الصور الآتية :
(أ) (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ)
(ب) (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15).
(ب) (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا)
(د) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174).
(هـ) (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)
فى الآيات الخمس جاء " النور " في سياق الحديث عن القرآن الكريم ، وفى
القرآن مواضع أخرى يمكن حمل النور فيها عليه ، وسوف نشير إلى ذلك فى
مواضعه .(2/388)
2 - في سياق الحديث عن التوراة . وذلك مخصوص بموضعين :
أولهما : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ).
وثانيهما : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ).
3 - في سياق الحديث عن الإنجيل ، وذلك مخصوص بموضع واحد ،
هو قوله تعالى : (وَآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ).
مما تقدم نستنتج :
أولاً : أن القرآن قد وُصفَ بأنه نور في خمسة مواضع ، على أن وصفه
بالنور محتمل فيما يأتي من أَمثلة أخرى.
ثانياً : أن التوراة وصفت بالنور في موضعين.
ثالثاً : أن الإنجيل وصف به في موضع واحد.
رابعاً : أن سورة المائدة وحدها ورد فيها وصف الكتب الثلاثة - القرآن
والتوراة والإنجيل - بالنور.
وقد قدم القرآن ثم جيء بعده بالتوراة وأخيراً الإنجيل.
*
* سؤال وجواب :
والآن لا بدَّ من سؤال : هل لكثرة الحديث عن القرآن ووصفه بالنور فى
مواضع تفوق مواضع التوراة والإنجيل مجموعة من سر ؟
وهل تقديمه عليهما فى " المائدة " ثم تقديم التوراة على الإنجيل وزيادتها عليه بموضع . هل لكل ذلك سر بلاغي اقتضاه ؟
والجواب : نعم . . لكل ذلك سر وهو - فيما أرى والله أعلم - أن كثرة
وصف القرآن بالنور ، ثم تقديمه على التوراة والإنجيل في سورة المائدة لا للقرآن من أثر بالغ في الهدايةِ من ثلاث جهات :(2/389)
أولاً : أن فيه لكل مشكلة حلاً ، فقد شملت هدايته وتوجيهاته : العقائد ،
والعبادات ، والمعاملات . وجاء بكثير من العلوم والمعارف : بَشَّر ، وأنذر ،
وأجمل ، وفصَّل ، ورغَّب ، ورهَّب ، وشرَّع فأحكم ، وقصَّ ، وهذَّب . . وصدق الله إذ يقول : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ).
وهذه ميزة من حيث الموضوع . .
ثانياً : أن كل نبى كان يُبعث إلى قومه خاصة ومنهم موسى وعيسى عليهم
السلام . وكتاب كل نبى كان وصايا وإرشادات لأولئك القوم.
ومحمد عليه الصلاة والسلام بُعِثَ للناس عامة ، فجاء القرآن عاماً لهؤلاء الناس . وليس لشعب جزيرة العرب خاصة.
وهذه ميزة من حيث المكان . .
ثالثاً : والرسالات السابقة كانت واجب العمل بها ما دام رسولها حياً ، فإذا
قُبِضَ أُفسح المجال لرسول آخر ورسالة أخرى.
أما رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهى خالدة
إلى يوم القيامة لا يلغيها رسول بعده ولا يبطل العمل بها بحال.
وهذه ميزة من حيث الزمان . .
وهذا يُفسِّر لنا تلكما الظاهرتين وهما كثرة وصفه بالنور ثم تقديمه عليهما فى
" المائدة " ، أما تقديم التوراة على الإنجيل وزيادتها عليه بموضع ، فلأن
التوراة أسبق وجوداً من الإنجيل ، فالترتيب بينهما زمني محض.
أما الزيادة المذكورة فلأن التوراة أصل للإنجيل وهو مكمل لها.
فلذلك خصصت بزيادة موضع عليه حين وصفا بالنور.
4 - في سياق الحديث عن كتاب مفروض وجوده في معرض الجدل . . وذلك فى موضعين هما :(2/390)
أولاً : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8).
ثانياً : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ)
5 - في سياق الحديث عن الكتب التي أنزلها الله في الأمم السابقة.
وذلك في موضعين أيضاً وهما :
أولاً : (جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184).
ثانياً : (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25).
ونلاحظ الفرق بين الموضع الثالث والرابع.
إذ الكتاب في الموضع الثالث " مُنكر " وفي الموضع الرابع " مُعرف "
وسر التنكير هناك لأن الكتاب فى الثالث لا وجود له.
بل مفروض وجوده في معرض الجدل.
فهو موغل فى التنكير.
أما في الموضع الرابع فالحديث عن كتاب سبق وجوده.
والألف واللام فيه فى موضعيه لتعريف الجنس باعتبار القيد الذي هو الوصف.
وقد جاء " منيراً " جزء وصف تمثيلي للنبى - صلى الله عليه وسلم - فى قوله تعالى : (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) ،
وكون الرسول " سراجاً منيراً " تجرَيد متضمن للتَشبيه لأن الذات المجردة مخالفة للذات المجرد منها.
وتجريد الشيء من غيره متضمن للتشبيه بخلاف تجريد الشيء من نفسه لئلا يلزم تشبيه الشيء بنفسه .(2/391)
ولا شك أن التجريد المتضمن للتشبيه - كما هنا - أبلغ من التشبيه المجرد
لإفادة هذا من وجهين : التشبيه الذي تضمنه التجريد ، ثم تجريد المشبه به.
وهذا وحده في قوة الاستعارة التصريحية الأصلية.
* *
* النور للهدى والإيمان :
وإذ تركنا القرآن وهو يتحدث عن الكتب واصفاً لها بـ " النور "
وما اشتق منه من أسماء الفاعلين فإننا نراه يستعير النور للهدى والإيمان في مواضع متعددة وفي هذا النوع فإنه كثيراً ما يستعير " الظلمات " للضلال والكفر فى مقابلات عجيبة بين الأضداد والمتخالفات.
ويتضح هذا من الأمثلة الآتية :
1 - (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ).
2 - (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ).
3 - (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
4 - (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ).
5 - (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40).
6 - (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
ًَ7 - (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ).(2/392)
8 - (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
9 - (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
10 - (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا).
11 - (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ).
12 - (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا).
فى هذه النصوص ضرب الله " النور " مثلاً للإيمان والهدى . و " الظلمات "
مثلاً للضلال والكفر.
* *
ْ* منهج آخر للقرآن في استعمال النور :
وللقرآن الكريم منهج آخر في التعبير بالنور ، حيث صاغها في جمل وعبارات
ترسم صوراً حسية معبراً بها عن معان ذهنية بغية الإيضاح والتقرير ؟
من ذلك مشهدان من مشاهد التكريم خَصَّ الله بهما عباده الطائعين يوم العرض الأكبر.
أحدهما قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ)
فهذا فريق من الناس كافأه الله حُسناً . فمنحه نوراً يوم القيامة يسير على
هداه ويبدو أن المراد بالنور - هنا - نور حقيقي لا مجازي.
ومع ذلك فإن الآية لم تخل من المجاز .(2/393)
فقد أسند السعى إلى النور وليس هو فاعله الحقيقي . وهذا مجاز حكمى -
كما يسميه عبد القاهر - أو عقلي كما اشتهر عند المتأخرين.
والتقدير : يسعون بنورهم.
والعلاقة اللزومية لأن النور ملازم لهؤلاء.
والقرينة : استحالة أن يسعى النور منفرداً.
* السر البلاغي لهذا المنهج :
والسر البلاغي أن كل شيء أصبح في خدمة هذا الطريق.
حتى النور أصبح خادماً لهم ، يمهد الطريق ويسير عن أيمانهم وبين أيديهم.
فهاتان كنايتان رائعتان بديعتان.
فهو يسعى بين أيديهم وبأيمانهم لأن هاتين الجهتين هما اللتان يتلقى المؤمنون سجلات أعمالهم عن طريقهما ، كما أن الكفار يؤتون كتبهم عن شمائلهم ومن وراء ظهورهم.
إذن فهما كنايتان عما قدموا من عمل صالح . فحققوا لأنفسهم رضا الله
ورحمته ، ويجوز حمل العبارة على التمثيل . بأن مثل الله حالهم وما يلقونه من
تكريم ورضوان بقوم هذه حالهم من سعى النور أمامهم وعن أيمانهم.
وصورة أخرى مماثلة . وهي قوله تعالى : (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ).
وليس بين الصورتين إلا فرق ، واحد ففى الآية الأولى قدم : " يسعى " على
الفاعل المجازي : " نورهم " وأسند الفعل إلى صريح لفظ الفاعل.
وفي الآية الثانية قدّم : " نورهم " وجعل مبتدأ وأخر الفعل : " يسعى "
وأُسند إلى ضمير النور إسناداً مجازياً. . . وليس بعد ذلك بينهما من فرق .(2/394)
ولعل السر أن الله أراد أن يثبت صفة النور للمؤمنين والمؤمنات بكلتا
الطريقتين المعروفتين في العربية - الجملة الاسمية والجملة الفعلية - ليفيد أن
ذلك حاصل لا محالة . متجدد مستحدَث . وثابت متأصل ،
*
* محاولات يائسة :
وصورة أخرى مختلفة مع هاتين : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8).
والنور هنا صالح حمله على القرآن والإسلام . .
" مثلت حالهم بحال مَنْ ينفخ فى نورالشمس ليطفئه بفيه ".
وهذا التمثيل له دلالتان : قوة نور الله وظهور أمره حتى مثل أمامهم نوراً
حقيقياً كنور الشمس . . وهذا أحد الدلالتين.
أما ثانيتهما : فضعف كيد الكافرين . لأن كل محاولاتهم لم تكد تعدو
النفخ بأفواههم وما ذلك بمحقق لهم ما يريدون.
وكلمة : " بأفواههم " تعبير جميل رشيق . لأن المعنى تم بدونه فجاء هو
لإضافة ظلال رقيقة على المعنى العام اكتسى بها جمالاً ورواء.
فقد أفادت - أولاً - أن كيدهم للقرآن لم يعد كلمات جوفاء اتهموه بها :
أساطير الأولين - رئى من الجن - شِعر - لو نشاء لقلنا مثل هذا.
هذه الكلمات لم يكن لها نصيب من الوجود سوى التلفظ بها لم تتمكن حتى من قلوب قائليها . وهذا يدل على ضعف كيدهم.
وهى تفيد - ثانياً - أن النور كان ماثلاً أمامهم حتى قصدوه قصداً فى
مكان وجهة ، وهذا يدل على ظهور أمر الله وقوة انتصاره .(2/395)
وهى تفيد - ثالثاً - أن هذا النور لم يكن لأى عامل آخر أن يطفئه.
ريح شديدة - مثلا - أو عاصفة مدمرة . فهو قائم رغم هذه التقلبات التي لا يكاد يخلو منها وقت . فكيف يتسنى لهم أن يطفئوه بأفواههم . ؟
إنه نور قوى باهر وسيظل - هكذا -
نوراً باهراً قوياً . . ولو كره الكافرون.
وبعد هذا يمكن أن نستنتج الحقائق الآتية :
أولاً : أن القرآن الكريم يضرب " النور " مثلاً للمعاني الشريفة والصفات
الحميدة . كما يضرب " الظلمات " مثلاً للمعاني الوضيعة والصفات الذميمة.
ثانياً : أن القرآن لم يستعمل النور في تلك الأغراض إلا مفرداً اسماً أو صفة ،
أما " الظلمات " فلم يستعملها في أغراضها إلا مجموعة - لا مفردة ولا مثناة
- فهل لهذا من سر ؟
نقبتُ عن هذا السر في مظانه فلم أعثر على توجيه . لا في كتب
التفسير ولا خارج كتب التفسير . ولذلك فإنى أسجل - هنا - ما خلصتُ إليه مما ظننتُ أنه يصلح أن يكون توجيهاً لهذا الصنع.
*
* لماذا أفرد القرآن " النور " وجمع " الظلمات " :
إن النور سواء أكان المراد به كتاباً يهدى إلى الرُّشد ، أو حُجة تكشف النقاب
عن الشُبهات . أو رسولاً يدعو الناس إلى الحق . أو إيماناً يعمر به قلب المؤمن.
أو عملاً يحقق لصاحبه رضوان الله . . .
كل ذلك له مصدر واحد هو الله سبحانه وتعالى.
والقرآن على ذلك خير شاهد :
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) ،
(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).(2/396)
ولهذه الاعتبارات وَحَّد النور في القرآن تبعاً دوحدة مصدره.
وهو " الله " نور السموات والأرض.
أما الكفر والجهل والضلال فقد تعددت أسبابها ومصادرها.
فالشيطان ضال مضل . والأصنام والأوثان مضلة . والأهواء مضلة ، وأصدقاء السوء ضالون مضلون . . ولهذا تعددت الظلمات تبعاً لتعدد مصادرها . . والله أعلم.
* *
* خصائص المجاز القرآني :
أولاً : أن المجاز في القرآن بأنواعه المختلفة . سواء أكان لغوياً أو حكمياً ،
واللغوي سواء أكان استعارياً أو مرسلاً ، يؤدى وظيفة جليلة الخطر في البيان
القرآني من التوسع في ضروب التعبير . واستخدام المادة الواحدة سواء اختلفت مشتقاتها أو اتحدت في البنية في معان شتى وأغراض مختلفة.
لم يكن لها هذا الاتساع لولا فن المجاز.
ثانياً : أن المجاز في القرآن يختار الكلمات الوافية بحق المعنى والمصورة
تصويراً حسياً للمعاني كاستعارة " الطيبات " للحلال ترغيباً فيه وحثاً عليه ،
واستعارة " الخبائث " للمحرم تنفيراً عنه وتزهيداً فيه.
ثالثاً : قد رأينا التفرقة العجيبة بين مشتقات المادة الواحدة . كمادة " مرض "
فقد اختص القرآن صورها الفعلية بالمجاز إلا في موضع واحد جاءت فيه المادة
فعلا مراداً به المعنى اللغوي . وهو قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : (وَإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفين) . . وما عدا ذلك فمجاز مستعمل في مقام
الذم.
فإذا استعملت اسماً أو صفة . . فلا تجوز فيها حينئذ ، مثل :
(وَلا عَلى المريضِ حَرَجٌ) ، ومثل : (أوْ كُنتُم مَرْضَى)
وتستعمل هنا فى مقامَ التشريع .(2/397)
رابعاً : يحقق المجاز القرآني - وتدخل في ذلك كناياته - سمه هامة من
سماته البلاغية هي التصوير والتجسيم والتخييل.
وقوة المعنى وتقريره وإيضاحه
. . وهو لذلك يغلب فيه المجاز الاستعاري لتصوير المعقول بالمحسوس كما يكثر فيه المجاز المركب ، وكل مجاز فيه بالغ حد الإعجاز بحيث لو بدلت صورة بأخرى لنبا المعنى ورفضه إحكام الأسلوب كما يرفض الجسم الصحيح عضواً غريباً رُكِّب فيه.
*
* سكوت الغضب ووضع الحرب :
خذ إليك مثلاً موضعين متشابهين من مجاز القرآن . وليكونا قوله تعالى
- مصوراً هدوء ثورة موسى على قومه - :
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ).
وقوله تعالى مصوِّراً إنهاء الحرب الطاحنة : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا).
فسكوت الغضب أمكن - كما مَرَّ - حمله على المجاز المركب أو الاستعارة
المكنية . . أو الاستعارة التصربحية التبعية.
و " تضع الحرب أوزارها " استعارة مكنية كذلك أو تمثيل ، والعبارتان
تعبران عن الهدوء الذي يعقب الحركة الشديدة . فهما متشابهان
وقد اختلفت الألفاظ من عبارة إلى أخرى - فالسكوت والغضب في الأولى ، والوضع والأوزار في الثانية - كل منها موفٍ بمعناه واقع موقعه من البلاغة . فموسى إنما كان يتكلم ويتحرك فناسب ذلك السكوت بشرط أن يكون فاعله الغضب ، والحرب يُحمل فيها السلاح الثقيل والخفيف ، وهي نفسها شدة وخَطب ، فناسب ذلك الموضع . لأنه يكون في المحمول والأوزار - كذلك - لأنها أحمال.
*(2/398)
* عض الأنامل وعض الأيدي :
وكذلك إذا أجرينا ذلك بين كنايتين متشابهتين . . وليكونا قوله تعالى :
(وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ).
وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27).
كلتا العبارتين تدل على الألم والحسرة فهما - إذن - كنايتان عن صفة وقد
تفاوتتا في تصوير المعنى . لأن عض الأنامل دون عض الأيدي ، وذلك التفاوت راجع إلى تفاوت المقامين.
فالمنافقون يتحسرون عندما يرون قوة المسلمين وظفرهم وتتابُع انتصارهم ، وهم على ما هم عليه من النفاق لاحول لهم ولا قوة ، وهذا خطأ يمكن إصلاحه بأن يؤمنوا ويتبعوا الهدى.
أما الظالم فحسرته أشد وألمه أوقع ، لأنه يكون في وقت لم تبق فيه فرصة
لمستتيب ولا نفع لنادم.
ولهذا يمكن فهم المبالغة في الكناية الثانية بالعض على الأيدي دون الأنامل
فكل من العبارتين وقع موقعه من غير ما قصور أو فضول ، وهذه سمة أيضاً
من سمات الإعجاز البياني في القرآن.
*
* منهج فريد :
خامساً : للمجاز في القرآن الكريم منهج لم يُعرف لسواه ، فهو فضلاً عما
تقدم - نراه في بعض الصور يعمد إلى وصف له صلة بأمرين ، وهذا الوصف من حيث صلته بالأمرين قائم بأحدهما وواقع على الآخر.
وقيامه بأحدهما يكون عن(2/399)
طريق الحقيقة ، ويكون عن طريق المجاز . .
أما وقوعه على الآخر فعلي طريق الحقيقة.
وهذا الوصف - هنا - هو العمى ، فالكافر - وهو أحد الأمرين - يوصف به ، على طريق المعنى اللغوي بأن يكون أعمى حقيقة ، وليس هذا بمراد لنا هنا ، ويوصف به على طريق المجاز بأن يشبه جهله بالعمى ، وهذا هو المراد لنا ، وكثيراً ما شبه القرآن الكافرين بالعمى ، واستعار ذلك لهم.
أما الأمر الثاني - الذي له صلة بهذا الوصف من حيث وقوعه عليه - فهو
البينات التي جاء بها الرسل ، فهى يُعمى عنها ، ولا تعمى هي.
إذا تقرر ذلك . .
فإن في القرآن موضعين وصف فيهما الأمر الثاني بالعمى مجازاً ،
أحدهما قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66).
وثانيهما : قوله تعالى : َ (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28).
فقد أسند العمى إلى الأنباء في الأولى على أنها فاعل له ، وأوقع عليها فى
الثانية . . وكل هذا إنما هو من قبيل المجاز.
فالأنباء لا تعمى وإنما العمى يحجب رؤيتها عمن قام به ، والبينات أو الرحمة
لا تعمى وإنما يعمى عنها ما من شأنه أن يراها ،
إذن فلماذا سلك القرآن هذا المسلك ؟
إن حقيقة الموضعين أن يقال : خفيت عليكم الأنباء ، وخفيت عليكم البينة
أو الرحمة ، فلماذا إذن شُبِّه خفاؤهما بالعمى ؟
وإنما العمى صفتهم لا صفة الأنباء ولا البيِّنة ولا الرحمة ؟(2/400)
أقول باختصار - وقد سبق الحديث عن هذين الموضعين - : إن في هذا التعبير تعريضاً بهم في الموضعين ، وفيه كذلك مبالغة في وصفهم بالعمى.
أما التعريض . . فلأنهم يدركون أن الأنباء لا تعمى ، ويقياس سهل ،
يدركون أن الأعمى إنما هم لأنهم هم الذين لم يروها ، والبينة أو الرحمة لا تعمى ، وبنفس القياس السهل يدركون أن الذي أعماه جهله إنما هو هم ، لأنهم لم يفقهوا البينة أو الرحمة وقد فقهها آخرون.
وهذا هو جانب التعريض في التعبير . .
أما المبالغة : فإن وصفهم بالعمى قد فاق حد التصور حتى عَم المكان الذى
هم فيه ، وحتى أصاب ما من شأنه ألا يعمى بالعمى ، لزيادته على كل حد
معهود وقدر معروف.
* وضوح المناسبة :
سادساً : ويمتاز المجاز القرآني بوضوح المناسبة بين المستعار منه وبين المستعار
فى المجاز الإفرادى والمجاز التركيبى ، وقوة الصلة بين الصور المكنى بها وما تدل
عليه من معان كنائية . كما يمتاز بالإبداع والجزالة ، وأنه قد منح الجمادات
حياة ، والمعاني حدوداً وأبعاداً ومساحات ، وأمثلة ذلك كثيرة.
*
* الذوق في القرآن :
سابعاً : أن المجاز القرآني يجمع بين الأضداد وما هو كالأضداد ، ويؤلف بين
المتباعدات والمتباينات ، فلا تحس مع ذلك غرابة في الأسلوب ولا ضعفاً فى
المعنى.
ولنأخذ لذلك استعارة واحدة لنرى ما انتظمته من أجناس وأنواع ، وهذه
الاستعارة هي " ذاق " وما تصرف منها .(2/401)
لهذه الاستعارة شأن عظيم في القرآن الكريم ، ولم تأت هذه الكلمة في القرآن
إلا استعارة ، فلنذكر أمثلتها مكتفين من كل نوع بمثال ما لم تدع إلى الزيادة
ضرورة.
وقد استعيرت هذه الكلمة في جانب الموضوعات الآتية :
1 - مع الشجرة : (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا).
2 - مع الوبال : (فَذَاقَتْ وَبَالَ أمْرِهَا وكَانَ عَاقِبَةُ أمْرِهَا خُسْراً).
3 - مع البأس : (كَذَلِكَ كَذبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتى ذَاقُواْ بَأسَنَا).
4 - مع السوء : (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
5 - مع العذاب : (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ).
6 - مع الكنز : (فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ).
7 - مع العمل : (وَيَقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنتُم تَعْمَلونَ).
8 - مع الفتنة : (ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم به تَسْتَعْجلونَ).
9 - مع الس : (ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ)
10 - مع اللباس : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ).
11 - مع الرحمة : (ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33).(2/402)
12 - مع الخزى : (فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَ).
13 - مع الضعف : (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ).
14 - مع النعماء : (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي).
15 - مع الموت : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57).
16 - مع البرد : (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24).
وهذا هو الموضع السادس عشر وقد أوقع فيه الفعل منفياً على البرد ،
معطوفاً عليه الشراب.
* الذوق لغة وبياناً :
والذوق في اللغة وجود الطعوم بالفم ، وأصله أن يكون بطرف اللسان فيما
قَل من مأكول أو مشروب ، فإذا كثر فهو أكل أو شرب وليس ذوقاً.
فما السر البلاغي في القرآن الذي اقتضى إيقاع هذا الفعل على ما ليس
بمذوق وقد علمنا أن هذا التعبير مجاز استعاري في جميع صوره حتى في :
(ذَاقَا الشجَرَةَ) ، وفي هذا المثال مجازان استعاري ومرسل :
أما الاستعاري فإنه عبَّر عن الأكل بالذوق ، والمعروف أن آدم عليه السلام
وحواء أكلا من الشجرة ، أكلا ولم يتذوقا ، وهذا هو المجاز الاستعاري . .
أما المرسل فلأن الذوق هو ثمار تلك الشجرة وليست الشجرة نفسها.
*(2/403)
* مقام المخالفات :
ومن الملاحظات الهامة أن هذه الاستعارة لم ترد إلا في مقام المخالفات سواء
أكان ذلك حال الحياة أو بعد الموت ، فآدم وحواء خالفا ربهما بعصيان أمره ،
والكافرون المقول لهم : (ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ) مخالفون لشرائع ربهم.
والذى أذاقه الله الرحمة مخالف لربه حيث لم يشكره في السراء ولم يصبر فى
الضراء.
والذي يقال لهم : (فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) مخالفون لربهم في كنزهم
المال وعدم التصدق منه وإخراج زكاته.
ففى هذه الاستعارة معنى التهكم وهذا واضح في ما خوطب به الكافرون
أو أسند إليهم مثل : (ذُقْ إنكَ أنتَ العَزيزُ اْلكَرِيمُ) ، ومثل : (هَذَا
فَليَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) . .
ويظهرَ هذا التهكم في كل ما يُقال للعصاة يوم القيامة.
أما فيما أُسند إلى آدم وحواء فلبيان أن بدو السوءات حصل بأقل ما يكون
من الأكل بمجرد الذوق ، وهذا يبيِّن أن نصح الله لهما كان من أجل مصلحتهما وأنهما حين خالفا أسرع إليهما أثر تلك المخالفة فالحكمة كانت في امتثال أمره.
والصورة الأدبية التي أراد القرآن إيضاحها في : (فَأذَاقَهَا اللهُ لبَاسَ
الجُوع وَالخَوْف) أن الجوع والخوف محيطان بهما إحاطة اللباس بلَابسه
وتكون فائدة الإذاقة حينئذ أنهم وجدوا طعمهما المر وأحسوه كما يحس المتذوق طعم ما ذاقه من مأكول أو مشروب ، وفي هذا معنى التهكم حيث جعل طعامهم ولباسهم جوعاً وخوفاً ، وأوقع عليهما الإذاقة .(2/404)
كما يبدو التهكم مع التعجيب من شأن مَن يُعرِض بجانبه بمجرد أن يذيقه الله
الرحمة فإذا سمل منها طغى وتكبر.
فانظر إلى سحر المجاز في القرآن الكريم وروعة أثره ووظيفته الكبرى فى
التربية والتهذيب ، وهو - على كثرته وتنوعه فيه - خال من التكلف والمآخذ بل هو آية الآيات في الحُسن والجمال.
* * *(2/405)
الباب الخامس
البديع . . في القرآن الكريم
* المحسِّنات المعنوية.
* المحسِّنات اللفظية.
* قيمة البديع القرآني.(2/407)
الفصل الأول
المحسِّنات المعنوية
الظاهر أن نظرة الكُتَّاب لم تتفق على آراء محددة في فنون البديع ، ولذلك
يجد الباحث خلطاً في كتاباتهم ، وهذا الخلط له عدة مظاهر :
أولاً : لم يحددوا تحديداً دقيقاً الفرق بين المعنوي واللفظي منه ، فالخطيب
يذكر " الاطراد " ضمن المحسِّنات المعنوية ، وهو من اللفظية على الأصح.
كما ذكر ذكر المشاكلة ضمن المعنوية والظاهر أنها من اللفظي.
ثانياً : درجهم فنوناً تحت اسم " البديع " وهي ليست منه . مثل الالتفات
والكناية والإيغال والتذييل والاعتراض . . إلخ.
ثالثاً : اختلافهم في الفنون البديعية نفسها . . فقوله تعالى :
(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24).
يعده بعضهم إيهاماً ، وبعضهم تورية وآخرون يذكرونه تحت اسم
" تجاهل العارف ".
والمطابقة درج الأكثر على أنها : الجمع بين الأضداد أو ما في حكمها مثل : الليل والنهار . والصدق والكذب.
وقدامة بن جعفر يخرق هذا الإجماع ويرى أن المطابقة هي ، اشتراك المعنيين
فى لفظة واحدة بعينها ، ومثل لها بقول الأفوه الأودي :
وَأقْطعُ الهَوْجَلَ مُسْتَأنِساً . . . بِهَوْجَل عَيْرانَةٍ عَنْتَرِيسْ
فلفظ " الهوجل " في البيت اشترك في معنيين : المفازة البعيدة ، والناقة
التي بها هوج من سرعتها .(2/409)
أما المطابقة . . فهى عنده التكافؤ ، وهذا التكافؤ يطلقه ابن أبى الإصبع
على المطابقة إذا كان طرفاها مجازين وكانت الأوصاف لموصوف واحد . .
وأمثلة هذا كثيرة جداً.
رابعاً : إيرادهم فنوناً مختلفة تحت اسم واحد . فالتطريز - مثلاً - يُعرِّفه
أبو هلال بقوله : " أن يقع في أبيات متوالية من القصيدة كلمات متساوية فى
الوزن فيكون فيها كالطراز في الثوب . . ".
ثم يقول : " وهذا النوع قليل في الشعر.
وأحسن ما جاء فيه قول أحمد بن أبى طاهر :
إذَا أبُو قَاسِم جَادَتْ لنَا يَدَهُ . . . لمْ يُحْمد الأجْوَدان البَحْرُ والمطرُ
وَإنْ أضَاءَتْ لنَا أنْوَارُ غُرتِهِ . . . تَضَاءَلَ الأنْوَرانِ الشمْسُ وَالقَمَرُ
وَإنْ مَضَى رَأيُهُ أوْ جَدَّ عَزْمَتُهُ . . . تَأخرَ الماضيَانِ ت السيْفُ وَالقَدَرُ
مَنَْ لمْ يَكُنْ حَذراً مِنْ حَدِّ صَوْلتِهِ . . . لمْ يَدْرِ مَا المزعِجَانِ الخَوْفُ وَالحَذَرُ ؟
ويعرفه ابن أبى الإصبع فيقول : " أن يذكر المتكلم - شاعراً أو نأثراً -
جملاً من الذوات غير منفصلة ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة
بحسب العدد الذي قدره في تلك الجُمَل الأولى ".
ومثل له بقول ابن الرومى :
أُمُوركُمو بَنِى خَاقَانِ عِنْدِى . . . عِجَاب فِى عِجَابٍ فِى عِجَابِ
قُرُونٌ فِى رُءُوسٍ فِى وُجُوهٍ . . . صِلاَبٌ فِى صِلاَبٍ فِى صِلاَبِ
فأيهما التطريز إذن ؟(2/410)
لعل الصواب في ذلك مع ابن أبى الإصبع . لأن ما ذكره أبو هلال قد عدَّه
العلماء من فن التوشيح . وعرفوه بـ : " أن يأتي المتكلم ، باسم مثنى في حشو العجز ثم يأتي تلوه باسمين مفردين هما عين ذلك المثنى يكون الأخيرة منهما قافية بيته ، أو سجعة كلامه . . ".
والتوشيع معروف أنه أحد فروع الإطناب الذي هو من مباحث المعاني.
وهذا يقوى وجهة نظر ابن أبى الإصبع.
*
* سبب الخلط :
ولعل السر في هذا الخلط راجع للأسباب الآتية :
1 - كثرة الكاتبين في الفن البديعي.
2 - مرونة الفن البديعى نفسه.
3 - دقة علله وتداخل جهاته.
ولنعرض - الآن - نماذج من صور البديع في القرآن الكريم ثم نعقب ذلك
بفصل نتبين فيه منزلة البديع عامة ، وبلاغة البديع في القرآن خاصة.
على أننا في ذكرنا لتلك النماذج سنجعل الأساس في ضبطها ما ذكره
ابن أبى الإصبع في كتابه " بديع القرآن " لأنه حرص على التمثيل لكل فن من
فنونه بنصوص قرآنية.
أما غيره فإن التمثيل بالقرآن ليس بلازم عندهم وهذا
لا يمنع من ذكر آراء الآخرين إذا تطلب ذلك غرض هام.
1 - الطباق :
لم يعرفه ابن أبى الإصبع بل اكتفى بتقسيمه فقال : " الطباق على ضربين :
حقيقي ومجازي . . وكل من الضربين على قسمين : لفظي ومعنوي ، فما كان(2/411)
بألفاظ الحقيقة أبقوا عليه اسم الطباق . وما كان كله بألفاظ المجاز أو بعضه
سموه تكافؤاً بشرط أن تكون الأضداد لموصوف واحد . فإن كان الضدان
أو الأضداد لموصوفين والألفاظ حقيقية فهو الطباق إن كان الكلام جامعاً بين
ضدين فذين ، وإن كانت الأضداد أربعة فصاعداً كان ذلك مقابلة . . فالفرق بين الطباق والمقابلة من وجهين :
أحدهما : أن الطباق لا يكون إلا بالجمع بين ضدين فذين فقط ، والمقابلة
لا تكون إلا بما زاد على الضدين من الأربعة إلى العشرة.
" والوجه الثاني : المقابلة تكون بالأضداد وبغير الأضداد ".
والعلماء - ما عدا قدامة بن جعفر - على أن الطباق هو الجمع بين الشيء
وضده ، وابن الأثير يُصوب رأى قدامة هذا ،
ويرى أن المعنى اللغوي للكلمة ينصره.
ومثل ابن أبى الإصبع للتكافؤ بقوله تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى).
ومن شواهد التكافؤ قوله تعالى : (أوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأحْيَيْنَاهُ).
أى ضالاً فهديناه . .
وعلى هذا فلا بدَّ أن يكون في الكلام المتضمن التكافؤ استعارة ، فإن لم
تكن فيه استعارة فلا تكافؤ.
أما الطباق الحقيقي فهو على ثلاثة أقسام : طباق سلب.
وطباق إيجاب . وطباق ترديد .(2/412)
ومثل للأول بقوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا)
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6).
وقوله عزَّ وجلَّ : (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ).
ومثل للثانى بقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45).
ثم علق على هذه الآيات فقال : " فانظر إلى فضل هذا الطباق ، كيف جمع إلى
الطباق البليغ التسجيع الفصيح لمجىء المناسبة التامة بين فواصل الآي ".
قال : ومما جاءت المطابقة فيه على انفرادها من هذا القسم قوله تعالى :
(اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) . .
أى ما تنقص وما تزيد.
ومن هذا القسم قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3).
فجمع سبحانه للمؤمنين في هذا الوصف بين الفعل والترك . .
وهذا كله من طباق الإيجاب المعنوي.
والقسم الثالث - طباق الترديد - قسَّمه أيضاً إلى قسمين : طباق سلب ،
وطباق إيجاب.
وعرفه فقال : " أن يرد آخر الكلام الطابق على أوله ، فإن لم يكن مطابقاً
فهو رد الأعجاز على الصدر " .(2/413)
ومثل للموجب بقوله تعالى : (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216).
وقد جمعت هذه الآية بين المقابلة وبين طباق السلب المعنوي.
فالمقابلة بين الكراهية والحب ، والخير والشر ، والطباق بين ثبوت العلم لله ، ونفيه عن البَشر.
ولم يمثل لطباق الترديد السلبى ، وقد صرح بأن للطباق نوعاً غير ما تقدم
يجتمع فيه الطباق والتكافؤ . ومثل له بقوله تعالى :
(وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5).
فهمود الأرض واهتزازها ضدان ، لأن الهمود سكون خاص ، والاهتزاز ههنا
حركة خاصة ، وهما مجازان ، والربو والإنبات ضدان ، وهما حقيقتان ، فالأول تكافؤ والثاني طباق.
أما أبو هلال فقد ساق للطباق الآيات الآتية :
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) . .
وهو من طباق الترديد الموجب
(لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) . . أي من الكفر إلى الإيمان
وهو منَ التكافؤ - حسب ما ذكَره ابن أبى الإصبع.
وقوله تعالى : (بَاطِنُهُ فِيهِ الرحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذَابُ) . .
وهذه مقابلة بين الباطن والظاهر ، والرحمة والعذاب.
وقوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) . .
وقد جمعت هذه الآية العكس والتبديل إلى الطباق ،(2/414)
وقوله تعالى : (لا يَخْلقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلقُونَ).
وقوله تعالى : (وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3).
وهو من طباق السلب الحقيقي المعنوي.
وقوله تعالى : (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ).
ثم ذكر قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44).
فقال : " وقد تنازع الناس هذا المعنى.
قال ابن مطير : " تَضْحَكُ الأرْضُ مِنْ بُكَاءِ السَّمَاءِ ".
وقال آخر : " ضَحِكَ المزْن بِهَا ثُمَّ بَكَى ".
وقال آخر :
فَلهُ ابْتِسَامٌ فِى لوَامِع بَرْقِهِ . . . وَلهُ بُكاً مِنْ وَدْقِهِ المتَسِّربِ
وقال آخر :
لاَتَعْجَبِى يَا سَلمُ مِنْ رَجُلٍ . . . ضَحِكَ المشِيبُ بِرَأسِهِ فَبَكَى
ثم علق عليها فقال : " فلم يقرب أحد لفظ القرآن في اختصاره وصفائه
ورونقه وبهائه وطلاوته ومائه وكذلك جميع ما في القرآن من الطباق ".
وهذه لمحة نقدية بارعة لم نعثر على مثلها عند ابن أبى الإصبع.
وإن كان هو مولعاً بتحليل الأسلوب القرآني .(2/415)
وقد زاد ابن الأثير والخطيب القزويني موضعاً فيه دقة ، وهو قوله تعالى :
(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ).
قال ابن الأثير : " فإن الرحمة ليست ضد الشدة ، وإنما ضد الشدة
اللين ، إلا أنه لما كانت الرحمة من المسببات عن اللين حسنت المقابلة بينها
وبين الشدة ".
أما الخطيب . . فقد جعل هذا الموضع من الملحق بالطباق.
وعلله بما علل به ابن الأثير ، ثم قاس عليه موضعاً آخر هو قوله تعالى :
(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ).
فإن ابتغاء الفضل يستلزم الحركة المضادة للسكون ، والعدول عن لفظ الحركة إلى لفظ " ابتغاء الفضل " ، لأن الحركة ضربان : حركة لمصلحة وحركة لمفسدة ، والمراد الأولى لا الثانية ، واستبدال هذا اللفظ بذاك نوع بديعى يسمى الإرداف.
* *
* الطباق والتشبيه المسلوب :
ذلك ما ذكره العلماء من تقعيد وتصنيف لهذا الفن البديعى " الطباق " ،
والواقع أنه كثير الورود في القرآن الكريم.
وربما كان أكثر ألوان البديع وروداً فيه ، وكل ما ذكرناه من أمثلة التشبيه السلبى في القرآن داخلة في أسلوب الطباق ، وهو غير مقصور عليه بل تعداه إلى كثير من صور التعبير وذلك أن القرآن كثيراً ما يتحدث عن الإيمان والكفر في سياق واحد أو ما يشبه السياق الواحد ، والطاعات والمعاصي ، والظلمات والنور ، والنفع والضر ، والرفد(2/416)
والغى ، والجنة والنار ، والسماء والأرض ، والحسناتِ والسيئاتِ ، والحياة
والموت . . . إلى غير هذه المعاني المتقابلة ، ولذلك كان أسلوب الطباق أصيلاً فيه لم يجتلب تكلفاً أو ترفاً في الأسلوب.
بل هو من مقتضيات الأحوال إذا ما أحسنا التفكير والفهم ، يقول سبحانه : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22).
ويقول : (الَّذِي خَلقَ الموْتَ والحَيَاةَ).
ويقول : (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ).
وقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80).
وقال : َ (وَإذَا جَاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذَاعُواْ بِهِ).
وقال : (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ).
وقال : (ألمْ تَعْلمْ أن اللهَ لهُ مُلكُ السماوات والأرْض يُعَذًبُ مَن يَشَاءُ
وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلى كُلً شَيءٍ قَدِيرٌ).
* وقال : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا).
ًوقال : (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ).(2/417)
وقال : (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100).
وقال : (لهُ مُعَقِّبَاتٌ من بَيْنِ يَديْهِ وَمِنْ خَلفِهِ).
وقال : (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74).
*
* نتائج مهمة :
من تلك اْلنصوص التي ذكرناها - وهي قليل من كثير - نتبين الأمور الآتية :
أولاً . أن القرآن يستخدم أسلوب الطباق كثيراً ، وهي كثرة قد تفوق كل
ألوان ما سموه " البديع " وذلك في المجالات الآتية :
(أ) العظة والاعتبار عند ما يقص أنباء الأمم الماضية مثلاً . .
كقوله تعالى : (ذَلِكَ مِنْ أنبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَليْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ).
(ب) بيان قُدرة الله ، وذلك كقوله تعالى : (فَجَعَلنَا عَالِيَهَا سَافِلهَا).
(ب) للتمييز بين نوعين مختلفين ، كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22).
(د) في تمثيل الحقائق تمثيلاً يتضمن المدح في جهة ، والذم في أخرى . .
وذلك كقوله تعالى : (يُخْرِجُهُم مًنَ الظُلُمَاتِ إلى النُّورِ).
(هـ) فى الكشف عن سلوك قوم ضلُوا عن الحق . . كقوله تعالى :
(فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) . .
وغير ذلك كثير ، قد تتعدد أغراضه بتعدد أمثلته .(2/418)
ثانياً : أن القرآن يستخدم هذا الأسلوب في معان أساسية داخلة - لا محال -
ضمن مقتضيات الأحوال . وهو بهذا يسمو بالطباق - كما يسمو بغيره من ألوان البديع - فوق ما يعتبره البلاغيون من الحسن الإضافى إلى الدلالة الذاتية.
خاصة عندما يُجرى القرآن مقارنة بين حقيقتين مختلفتين فيكون التقابل بينهما - حينئذ - واجباً في حكم البلاغة . .
وإلا فكيف يمكن إجراء تلك المقارنة فى غياب طرفيها ؟
ثالثاً : أن الطباق في القرآن الكريم - ومثله كل فنون البديع - يؤدى دوراً
هاماً في مظاهر إعجازه ، وهو سمة عظيمة من سمات أسلوبه قد سلم - مع
كثرته - من التكلف بل هو آية الحسن ومصدر العجب ، بينما نرى كل مسرف فيه يسير ثم يكبوا ويصيب ثم يخطئ . . وإن شئت فوازن بين قوله تعالي ، وقد طابق فيه بين أرِبعة وأربعة : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10).
وبين قول الشاعر وقد طابق فيه بين خمسة وخمسة :
أزُورُهْم وَسَوادُ الليْلِ يَشْفَعُ لِى . . . وَأنْثَنِي وَبَيَاضُ الصُبْحِ يُغْرِي بِي
وازن بينهما لترى الفَرق من حيث نزاهة الألفاظ وجزالتها في القرآن ثم دقة
التعبير وشرف المعنى ، وهل أنت واجد في قولة هذا الشاعر نظيراً لتلك ؟
ولم يسلم بيت أبى الطيب المذكور من المآخذات ، قال ابن سنان ينقده : " فهذا البيت مع ما به من التكلف كل لفظة من ألفاظه مقابلة بلفظة هي لها عن طريق المعنى بمنزلة الضد : فأزورهم وأنثنى ، وسواد وبياض ، والليل والصبح ، ويشفع ويغري ، ولي وبي . وأصحاب صناعة الشعر لا يجعلون الليل والصبح ضدين ، بل يجعلون ضد الليل النهار ، لأنهم يراعون في المضادة استعمال الألفاظ ، وأكثر ما يقال : الليل والنهار ، ولا يقال : الليل والصبح ".
* * (2/419)
* شروط الطباق :
ويضع ابن سنان شرطاً لاستعمال الطباق ، لم يخالفه فيه أحد قال :
" وهذا الباب يجرى مجرى المجانس ، ولا يستحسن منه إلا ما قَل ووقع غير مقصود ولا متكلف . . فأما إذا كان مَعْنيا الكلمتين غير متناسبيين لا على جهة التضاد ولا التقارب فإن ذلك يقبح ".
فحُسن الطباق إذن يتوقف على ثلاثة أمور :
1 - عدم الإسراف فيه.
2 - تناسب المعاني بالتضاد.
3 - تناسب المعاني بالتقارب.
وكذلك يرى عبد القاهر الجرجاني :
" وأما التطبيق والاستعارة وسائر أقسام البديع فلا شُبهة أن الحُسن والقبح لا يعترض الكلام بهما إلا من جهة المعاني خاصة ، من غير أن يكون في ذلك للألفاظ نصيب ، أو يكون لها في التحسين
أو خلاف التحسين تصعيد أو تصويب ".
وعملاً بهذه القواعد حكموا بحسن كثير من النصوص ، كما عابوا كثيراً
منها.
*
2 - التورية :
التورية نمط من التعبير فيه خلابة وله أسر ، ومادة " ورى " تدور في اللغة حول الاختفاء والستر.
يقال : واريت كذا - إذا سترته . قال تعالى :
(قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا).
وتوارى : استقر ، قال : (حَتى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ) .(2/420)
وروى أن النبي عليه السلام كان إذا أراد غزواً أورى بغيره ، والورى - قال
الخليل - : " الورى الأنام الذين على وجه الأرض في الوقت ، ليس مَن
مضى ولا مَن يتناسل بعدهم فكأنهم الذين يسترون الأرض بأشخاصهم ".
والتورية في اصطلاح البلاغيين عرَّفها ابن أبى الإصبع فقال :
" أن تكون الكلمة تحتمل معنيين ، ويستعمل المتكلم أحد احتماليها ويهمل الآخر ، ومراده ما أهمله لا ما استعمله "
وقد صرَّح قبل بأنها تسمى التوجيه ، وهذا التعريف فيه طول.
وأجود منه ما ذكره الخطيب : " أن يطلق لفظ له معنيان . قريب وبعيد ،
ويراد به البعيد منهما ".
وأجود منهما ما نراه في بحوث المحدَثين : " التورية : أن يذكر لفظ له
معنيان : بعيد مراد ، وقريب غير مراد ".
والفرق بينها ويين التوجيه أن المعنيين في التوجيه في نحو قول الشاعر فى
أعور : " ليْتَ عَيْنَيهِ سَواء ".
إن تصور المعنيين في التوجيه يأتي بدرجة واحدة لا قُرب ولا بعد في أحدهما.
أما التورية . . فأحد المعنيين قريب ، والآخر بعيد . فليسا سواء في التصور ،
والمناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي ظاهرة لأن المعنى القريب غير
المراد ، يستر البعيد ويخفيه.
وقد قسَّم الخطيب - وتابعه آخرون - التورية إلى : مجردة ومرشحة.
والمجردة هي التي لا تجامع شيئاً مما يلائم المورى به - يعني المعنى القريب -
الذي يشبه المعنى الحقيقي لتبادره إلى الفهم.
ومثله من القرآن الكريم : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5).(2/421)
فـ " استوى " له معنيان ، قريب هو الاستقرار ، وهو غير مراد ، ولم يقرن
بما يلائمه.
ومعناه البعيد المراد هو الاستيلاء ، والقرينة استحالة الاستقرار الحسي فى
جانب الله.
والمرشحة هي التي قرنت بما يلائم المورى به ومثاله من القرآن الكريم :
(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47).
فقد أراد ب " الأيدي " المعنى البعيد الذي هو القدرة ، وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب الذي هو الجارحة المخصوصة ، وهو " بنيناها " لأن البناء يكون باليد ، والذي يبدو أن الآية من قبيل الاستعارة التمثيلية وإذ معناها يرجع إليها عند التحقيق.
وعلى القول المشهور بأنها تورية فإن القرينة هي استحالة الجارحة في حق الله
سبحانه.
وللتورية - كما يرى السكاكي - دور كبير في توجيه متشابهات القرآن
كقوله تعالى : (أنِ اصْنَع الفُلكَ بِأعْيُنِنَا).
وقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27).
وقوله تعالى : (وَلقَدْ خَلقْنَا الإنسَانَ وَنَعْلمُ مَا تُوَسْوسُ به نَفْسُهُ وَنَحْنُ أقْرَبُ إليْه مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ)
وقوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47).(2/422)
فما في هذه الآيات ، وما أشبهها ، من إثبات العين أو الوجه ، أو القُرب
والمكان ، كلها محمولة على التورية ، بأن يراد من الأعين : الرعاية والحفظ ،
ومن الوجه : الذات التي لا يعلمها إلا هو ، والقُرب : قُرب العلم لا قُرب المكان والملاصقة.
ومن العندية : العندية المعنوية لا عندية المكان.
وقد ذكر ابن أبى الإصبع ثلاثة مواضع أخرى كانت التورية فيها في معانٍ ليست وصفاً لله ، وهى قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام : (إنكَ لفِى ضلاَلكَ القدَيِمِ)
لأن الضلال يُحمل على ضد الهدى ويحتمل الحب ، فاستعملوه مريدين به ضد الهدى مورين به عن الحب ليعلم أن المراد ما أهملوا ، لا استعملوا.
وقوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) . .
فالبدن يُطلق على الجسد ، وعلى الدرع ، وقد استَعمله بمعنى الجسم وأهمل
معنى الدرع ومراده ما أهمل ، لأن نجاة فرعون - أي خروجه من البحر بعد
الغرق - بدرعه ، أعجب من خروجه مجرداً ،
ثم قال : " ومن التورية اللطيفة قوله تعالى بعد ذكر أهل الكتاب من اليهود
والنصارى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ).
ولما كان الخطاب لموسى عليه السلام من جانب الطور الغربي توجهت اليهود
إليه وتوجهت النصارى إلى الشرق ، وكانت قبلة الإسلام وسطاً بين القبلتين قال سبحانه وتعالى : (وكَذَلكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خياراً ، وظاهر
اللفظ يوهم التوسط مع ما يَعضده من توسط قبْلة المسلمين ، صدق على لفظ
" وسط " هنا أن يسمى تعالى به ، لاحتماله المعنيين . ولما كان المراد - والله
أعلم - أحد المعنيين الذي هو الخيار دون الآخر ، صلحت أن تكون من أمثلة هذا الباب .(2/423)
وأياً كان . . فإن التورية في القرآن الكريم لها وظيفة هامة . وهي قريبة من
المجاز ، بل كثيراً ما يُراد المعنى المجازي فيها كإرادة القُدرة من اليد ، وهذا
ظاهرٌ فيها.
وقد سبق عن السكاكي أن متشابهات القرآن من قبيل التورية.
فهى فيه إذن ذات دور هام لم تُجتلب لتأدية معنى إضافى ، أو تحسين عرضى ، فعدها من البديع فيه تسامح ، وأجدر بها أن تلحق بأقسام البيان إنصافاً ووصفاً لكل فن فى موضعه ، وإلى هذا ذهب العصام في " الأطول "
حيث قال في تعريفها :
" فالمختصر الواضح أن يقال : هوأن يطلق اللفظ على غير ما وضع له بقرينة
خفية مما يتعلق بإيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوع الدلالة ".
ثم قال : " فهو داخل في أصل البلاغة فكيف عُدَّ من البديع " ؟.
*
3 - المشاكلة :
عرفها الخطيب . وغيره ، فقال : " ذكر الشىء بلفظ غيره لوقوعه فى
صحبته ، تحقيقاً أو تقديراً ".
ومثَّل لها من القرآن بقوله : (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) . . فأطلق النفس على ذات الله.
وقوله تعالى : (وَجَزَاءُ سَيئَةٍ سَيئَة مِثْلهَا) . فسمى الجزاء سيئة.
أما وقوعه تقديراً فقد مثل له بقوله تعالى : (صبْغَة اللهِ وَمَنْ أحْسَنُ
مِنَ اللهِ صِبْغَةً) . . أي تطهير الله.
وفي الواقع فإن أسلوب المشاكلة كثير في القرآن الكريم مثل قوله تعالى :
(فَمَن اعْتَدَى عَليْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَليْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَليْكُمْ).(2/424)
وقوله تعالى : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الماكِرِينَ).
وقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أُيْدِيهِمْ).
وقوله تعالى : (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126).
وقوله تعالى : (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ).
وقوله تعالى : (إن تَسْخَرُواْ مِنا فَإنا نَسْخَرُ مِنكُمْ).
هذه بعض النصوص التي وردت على أسلوب المشاكلة
من القرآن الكريم وهى ذات ملامح بلاغية آسرة.
ولنأخذ لذلك أمثلة :
فى قوله تعالى : (وَجَزَاءُ سَيًئَةٍ سَيًئَةٌ مَثْلهَا).
على طريق المجاز المرسل الذي علاقته السببية ،
لأنه مسبب عن السيئة وهذا تعبير اقتضاه الحال
لأن فاعل السوء قمين بأن يُساء إليه ، فإطلاق السيئة على الجزاء أوقع لإقلاعه عن عمل السيئات وألم على نفسه ، لأن النفس ترهب أن تُعامَل بالسوء.
وكذلك قوله تعالى : (فَاعْتَدُواْ عَليْه).
وقوله تعالى : (فَإنا نَسْخَرُ منكُمْ) . . سمى الجزاء كذلك اعتداءً وسخرية
ليكون أوقع في نفس المعتدي فيكَف عن الاعتداء ، وفي نفس الساخر ليُقلع
عما هو فيه.
أما في نحو قوله تعالى : (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ) . . أي جازاهم على
مكرهم - فإن العدول إلى لفظ " المكر " في جانب الله لتربية الرهبة في نفوس
الماكرين لأن الويل كله لمن مكر الله عليه .(2/425)
وقوله تعالى : (وكَذَلكَ اليَوْمَ تُنْسَى) . . فيه تهكم بالمخاطب وتوبيخ على
ما قدم ، لأن الواقع ألا نسيان ولا إهمال بل جزاءً وفاقاً ، أي نعاملك اليوم
بمثل ما كنتَ تعاملنا به في الحياة الدنيا.
*
* أصالة المشاكلة في القرآن :
فأسلوب المشاكلة أسلوب أصيل في القرآن الكريم ، وهو جدير بأن يُلحَق -
كذلك - بأقسام البيان الأصيل ، لأنه من مقتضيات الأحوال ، كما نَصَّ على
ذلك العصام فيما نقلناه عنه ، فهى إما مجاز مرسل كقوله تعالى :
(وَجَزَاءُ سَيئَة سَيئَةٌ مَثْلهَا) وما جرى مجرى هذه الآية ،
وإما استعارة كقول أبى الرقعمق :
قَالُواْ اقْتَرِحْ شَيْئاً نُجِدْ لكَ طبْخَهُ . . . قُلتُ اطبِخُوا لِى جُبَّةً وَقَمِيصاً
قال الإنبابي : " وقد تلخص من كلام ابن يعقوب والحفيد أن المشاكلة واسطة
بين الحقيقة والمجاز والكناية ، وقيل : إنها دائماً مجاز مرسل علاقته المجاورة
التي هي هنا الوقوع في الصحبة ، وقيل : إنها تجامع المجاز المرسل والاستعارة
إن لوحظ علاقتهما ، وإلا فهى واسطة - قاله بعض المشايخ ".
وقد خالف عبد الحكيم القول بأن المشاكلة من المجاز فقال معلقاً عليه :
" القول بكونه مجازاً ينافى كونه من المحسِّنات البديعية ، وأنه لا بدَّ في المجاز
من اللزوم بين المعنيين في الجملة ، فتعيَّن الوجه الأول " .(2/426)
ومهما كان الخلاف فإن المشاكلة من أساليب البلاغة الأصيلة وليست محسناً
ثانوياً كما يقال عنها ، ولها فوق ما تؤديه من خدمة للمعاني وظيفة من حيث
اللفظ لا يُستهان بها ، هي : أن المشاكلة بالجُناس من حيث تماثل اللفظين ، بل
من الجُناس التام لاتفاق اللفظين في جنس الحروف وعددها وهيئتها وترتيبها.
ولا فرق بينها إلا من حيث المعنى ، وللجُناس وظيفة سنذكرها في موضعها ،
وما دامت المشاكلة شبيهة بالجُناس - بل التام منه - فإن ما يثبت له من مزايا
يثبت لها كذلك.
4 - صحة الأقسام :
عرفه ابن أبى الإصبع تحت هذا العنوان بقوله : " صحة الأقسام عبارة عن
استيفاء المتكلم جميع أقسام العتى الذي هو آخذ فيه ، بحيث لا يغادر
شيئاً".
وعرفه أبو هلال تحت عنوان : " صحة التقسيم " فقال : " التقسيم الصحيح
أن تقسم الكلام قسمة مستوية تحتوي على جميع أنواعه ولا يخرج منها جنس
من أجناسه ".
وعرفه ابن سنان فقال : " أما الصحة في التقسيم فأن تكون الأقسام المذكورة ، لم يخل بشىء منها ، ولا تكررت ولا دخل بعضها تحت بعض ".
وقد تحدث عنه آخرون كعبد القاهر في " الدلائل " ، وابن الأثير وغيرهما
وكلهم يرفعون من شأنه ، ويظهرون الاهتمام به ، وقد أفاض ابن أبى الإصبع
فى التمثيل له من القرآن الكريم وبدأ بقوله تعالى : (هُوَ الذىِ يُرِيكُمُ البَرْقَ
خَوْفاً وَطمَعاً) . . إذ ليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق ،
والطمع في الأمطار . ولا ثالث لهذين القسمين . .
ثم أخذ يبين سر تقديم الخوف(2/427)
على الطمع . فقال : " ومن لطيف ما وقع في هذه الآية : تقديم الخوف على
الطمع ، إذ كانت الصواعق يجوز وقوعها من أول برقة.
ولا يحصل المطر إلا بعد تواتره لا يكاد يختلف.
لهذا كانت العرب تعد سبعين برقة ، وتنتجع فلا تخطئ الغيث ".
والذي أراه : أن تقديم الخوف على الطمع من تقديم الأهم على المهم.
لأن متعلق الخوف الحرص على أصل الحياة ، ومتعلق الطمع الحرص على الزيادة من متع الحياة.
ومن صحة الأقسام قوله تعالى : (الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قيَاماً وَقُعُوداً
وَعَلى جُنُوبهمْ) . . فلم يترك سبحانه قَسماً من أقسام الهيَئات حتى أتى
به ، وقد جَاءَ ترتيب الهيئات على حسب الأفضلية ، فقدم الذكر قياماً عليه
قعوداً ، وقدم الذِكر قعوداً عليه رقوداً ، وفي هذا من حسن النسق وجودة
الترتيب ما فيه . ويجوز حمل التقديم فيها على مراعاة الأكثر فالأكثر ، لأن
ذكر الله قياماً أكثر من ذكره قعوداً ، وذكره قعوداً أكثر من ذكره رقوداً.
ومن صحة الأقسام قولَه تعالى : (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا).
ًفهيئَات الدعاء هنا ثلاث كهيئات الذكر هناك ، ولم يفت ابن أبى الإصبع أن
يلحظ اختلاف النظم في الترتيب في الآيتين ، فتراه يقول :
" لكن وقع بين ترتيب الآيتين مغايرة أوجبتها البلاغة.
فتضمن الكلام بها الائتلاف.
وذلك أن الذكر يجب فيه تقديم القيام لأن المراد به الصلاة - والله أعلم - والقعود لمن يسَتطيع القيام . والاضطجاع للعاجز عن القعود.
والضر يجب فيه تقديم الاضطجاع لغلبة الضعف ومبادئ الإعلال وتزيدها
وإذا أزال بعض العلة . . قعد المضطجع . وإذا زالت العلة كلها وتراجعت القوة قام القاعد . والمراد بالدعاء هنا الصلاة أيضاً ".
*(2/428)
* تعقيب :
وأقول : لقد وفق المؤلف إلى توجيه الترتيب في الآيتين توفيقاً ليس وراءه
مزيد فيما نرى.
ولكنى أرى ضرورة مناقشته في المراد بالذكر والدعاء فيهما.
فقد حمل الذكر في الأولى على الصلاة ، وهذا صواب ، ولكن ما المانع أن
يراد به مطلق ذكر . . فتدخل الصلاة فيه دخولاً أولياً ؟
أما الدعاء . . فقد حمله على الصلاة أيضاً ، والأولى - هنا - حمله على
الدعاء الحقيقي ، لأن مس الضر يلجأ منه الإنسان إلى ربه فيدعوه ليكشف عنه ضره فلو أبقاه على أصله لكان أصوب.
كما أشار إلى العدول عن " الواو " إلى " أو " وبيَّن أن السر فيها الإشارة
إلى تعداد الضرورين لتوخى الصدق في الخبر.
كما عَدَّ من صحة التقسيم قوله تعالى : (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا).
ومن صحة التقسيم كذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4).
فالآية الأولى استوعبت جميع الأوصاف المحمودة إذ وُصِفَ المؤمنون فيها
بجميع العبادات . لأن العبادات كلها نوعان : بدنية ومالية ،
والبدنية قسمان :
عبادة الباطن وعبادة الظاهر ، والمالية أيضاً قسمان :
ما يشترك فيه المال والبدن(2/429)
كالحج والجهاد ، وما ينفرد به المال كالزكاة وصدقة التطوع . . فقوله : (يُؤْمنُونَ بالِغَيْبِ) إشارة إلى عبادة الباطن ، وقوله سبحانه : (وَيُقيمُونَ الصلاةَ)
تصريح بعبادة الظاهر.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمما رَزَقْنَاهُمْ يُنفَقُونَ) إشارة إلى العباده المالية.
فاستوعبت جميع الأقسام على الترتيب فقدم عبادة الباطن على
عبادة الظاهر ، وعبادة البدن على عبادة المال.
وأما الآية الثانية فاستوفت أقسام الزمان في قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إليْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).
فإيمانهم بما أنزل على الرسول إيمان في الحال ، وبما أُنزل على الرسل من قبله
إيمان في الماضي ، وإيمانهم بالآخرة إيمان بالمستقبل ، وعبَّر عن إيمانهم بالآخرة
باليقين ليدل على قوة تصديقهم بالرسول وما أخبر به.
قال ابن أبى الإصبع : " فحصل في هذه الآية مع نهاية المدح صحة الأقسام
فى اللفظ ، والمبالغة في معنى المدح والإيغال في الفاصلة ".
ثم تعرض لنقض بيت زهير ، وهو أجمل ما جاءت فيه صحة التقسيم وأبلغه ،
وهو قوله :
وَأعْلمُ مَا فِى اليَوْم وَالأمْسِ قَبْلهُ . . . وَلكِنى عَنْ عِلم مَا فِى غَد عَمِى
داعياً للموازنة بينه وبين الآية الثانية من آيتى البقرة ، منتصراً للآية عليه
مبيِّناً ما فيه من زيادة لم يؤت بها إلا من أجل الوزن ، وهي قوله : " قبله "
ملاحظاً ما بين فاصلة الآية وقافية البيت من فروق جوهرية ، لافتاً النظر إلى
ما تضمنته الآية الكريمة من معان شريفة ، لو عددت بألفاظها الموضوعة لها
ملأت الأكوان .(2/430)
وذكر ابن الأثير لصحة التقسيم نصوصاً غير ما ذكره ابن أبى الإصبع ، فمن
ذلك قوله تعالى : ( . . فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)
قال معلقاً على هذه الآية : " وهذه قسمة صحيحة.
فإنه لا يخلو العباد من هذه الثلاثة : فإما عاص ظالم لنفسه ، وإما مطيع مبادر بالخيرات ، وإما مقتصد بينهما.
ومثَّل أيضاً بقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10).
وقال معلقاً عليها : " وهذه الآية منطبقة المعنى على الآية التي قبلها :
فأصحاب المشأمة هم الظالون لأنفسهم ، وأصحاب الميمنة هم المقتصدون ،
والسابقون هم السابقون بالخيرات ".
*
* رأي لابن الأثير :
ويعالج ابن الأثير في هذا الموضع موضوعاً مهماً لم يتنبه إليه سواه قال :
" فإن قيل : إن استيفاء الأقسام ليس شرطاً ، وترك بعض الأقسام لا يقدح فى
الكلام . وقد ورد في القرآن الكريم ، كقوله تعالى :
(لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20).
فَذكر أصحاب الجنة دون أصحاب النار ، فالجواب على ذلك أنى أقول :
هذا لا ينقض على ما ذكرته.
فإن استيفاء الأقسام يلزم فيما استبهم الإجمال فيه ، ألا ترى إلى(2/431)
قوله تعالى : (ثُمَّ أوْرَثْنَا الكتَابَ الَّذِينَ اصْطفَيْنَا مِنْ عبَادنَا)
فإنه حيث قال : " فمنهم " لزم استَيفاء الأقسَام الثلاثة ، ولو اقَتصَر على قسمين منها لم يجز ، وأما هذه الآية التي هي : (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) فإنه إنما خص أصحاب الجنة بالذكر للعلم بأن أصحاب النار لا فوز لهم ، وَلو خص أصحاب النار بالذكر لعلمَ أيضاً ما لأصحاب الجنة وكذلك كل ما يجرى هذا المجرى فإنه إنما ينظر فيه إلى المستبهم وغير المستبهم فاعرفه ".
*
5 - المذهب الكلامي :
سبق أن أبا هلال حين تعرض لهذا الفن نفى أن يكون منه شىء في القرآن
الكريم ، متابعاً في ذلك ابن المعتز ، بحجة أنه مظنة التكلف فالقرآن منزه
عنه . ولم يسلم هذا الزعم من التعليقات ، فابن أبى الإصبع يقول :
" الذي ذكره ابن المعتز أن الجاحظ سماه هذه التسمية وزعم أنه لا يوجد منه شيء فى القرآن ، والكتاب الكريم مشحون به ، منه قوله تعالى - حكاية عن الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام - : (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ). . . إلى قوله تعالى :
(وَتلكَ حُجتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلى قَوْمِه) . .
ثم ذكر تعريفه فقال :
" إنهَ احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجَة تقطع المعاند له فيه على طريقة
أرباب الكلام ".
وفي هامش الصناعتين :
" هو إيراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام ، وهو أن تكون المقدمات بعد تسليمها مستلزمة المطلوب " . .
ومؤدى التعريفين واحد كما ترى .(2/432)
ومن أمثلته في القرآن الكريم : (قُلْ إنْ كَانَ للرخْمن وَلدٌ فَأنَا أو@لُ
العَا بِدينَ).
قالَ الزمخشري : (قُلْ إنْ كَانَ للرحْمن وَلدٌ) وصَح ذلك وثبت ببرهان
صحيح توردونه وحُجة واضحة تدلونَ بها فأنا أول من يُعَظم ذلك الولد ،
وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له . .
وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفى الولد والإطناب فيه ، وأن لا يترك الناطق به
شُبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات المقدَّم في باب التوحيد . وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد ، وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالاً مثلها ، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها.
وليس في هذا الكلام اعتراض لنا - بل هو في غاية الجودة - بَيْدَ أنى
أضيف ملاحظتين :
أولاهما : أن نفى الولد مستفاد من نفى عبادته ، فالرسول إنما كان يعبد الله
وحده.
ثانيهما : أن في هذا التعبير رمياً لهم بالجهل ، فإن الرسول عليه السلام
يقول لهم : يا معشر الجاهلين : أنا أعلم منكم بالله وما يجب له ، ولو فُرِضَ أن له ولداً وصح ذلك عندى لكنت أولاكم بالطاعة والامتثال له.
ومن شواهد هذا الفن في القرآن الكريم قوله تعالى :
(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).
وقوله تعالى : (لوْ كانَ فِيهِمًا آلهَةٌ إلا اللهُ لفَسَدَتَا).
وقوله تعالى : (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ).(2/433)
وقوله تعالى : (أفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلقُ).
وغير ذلك كثير . والواقع أن ما سموه بالمذهب الكلامى دعامة أساسية فى
الأسلوب القرآني ، مثل الطباق ، لأن القرآن خاصمَ وجادصل كثيراً في سبيل
إحقاق الحق ، ودحر الباطل.
وكثيراً ما كان يُشرك العقل والإحساس والعواطف والوجدان في الخطاب ، ولذلك فإن المذهب الكلامى فيه لم يأت على الطريقة
النطقية الجافة . بل ساق لهم الحقيقة نابضة حية لا يحير في تمثيلها عقل
ولا تجمد في الإحساس بها عاطفة ، ولا يتبلد شعور.
* * *
* قياس المذهب الكلامى :
وطريقة القياس فيه سهلة واضحة . ومقدماته صادقة معتَرف بها حتى عند ألد
الخصوم . ونتائجه واضحة مسلمة إلا مَن كابر وعاند وناقض نفسه والواقع.
انظر إلى هذا الوضوح :
(لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ).
وهذه حقيقة مسلمة ثم انظر كيف استخدم القرآن هذه الحقيقة في إثبات البعث : (أوَ ليْسَ الَّذِي خلقَ السماواتِ والأرْضَ بِقَادرٍ عَلى أن يَخْلقَ مِثْلهُم).
ثم تأمل كيف وصل القرآن إلى نفى تعدد الآلهة في كلمات قصار لفتت
الأنظار إلى حقيقة كبرى لا يختلف فيها اثنان ، ثم اتخذ من هذه الحقيقة الكبرى
مبدأ للقياس : (لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَة إلا اللهُ لفَسَدَتَا).
لا فساد في السموات والأرض . هذا حق ثابت ، إذن فهو دليل التوحيد فلا
إله إلا الله.
ذلك هو دور المذهب الكلامى في القرآن . . جدلٌ حيٌّ ، ومنطق وجدان.
* * *(2/434)
الفصل الثاني
المحسِّنات اللفظية
* الجناس :
لم يعرفه ابن أبى الإصبع بمعناه العام . بل اهتم بتقسيمه ، ثم أخذ في تعريف
كل فرع من فروعه عند التمثيل لها.
وقد عرفه كثير من العلماء ، نذكر منهم ابن المعتز وقد عرفه بقوله :
" هو أن تجىء الكلمة تجانس أخرى في بيت شِعر وكلام ".
وقدامه بن جعفر : وقد عرفه بقوله :
" أن تكون في الشعر معان متغايرة قد اشتركت في لفظة واحدة وألفاظ متجانسة مشتقة ".
وأبو هلال العسكرى ، وقد عرفه بقوله :
" أن يورد المتكلم كلمتين تجانس كل واحدة منهما صاحبتها في تأليف حروفها حسبما ألف الأصمعي في كتاب الأجناس ".
وضياء الدين ابن الأثير ، وقد عرفه بقوله : " إن حقيقته أن يكون اللفظ
واحداً والمعنى مختلفاً ".
وابن سنان الخفاجى . وقد عرفه بقوله : " وهو أن يكون بعض الألفاظ مشتقاً
من بعض وإن كان معناهما واحداً . أو بمنزلة المشتق إن كان معناهما مختلقاً.
أو تتوافق صيغتا اللفظتين مع اختلاف المعنى " .(2/435)
والخطيب القزويني ، وقد عرفه بقوله : " هو تشابههما في اللفظ ".
وغير هؤلاء كثير كالرماني . ولم يخل تعريف منها من النقد ، والأقرب إلى
الصواب ما ذكره الخطيب مع اختصاره.
والأستاذ على الجندى يفضل تعريف العلوي وهو :
" اتفاق اللفظين في وجه من الوجوه مع اختلاف معانيهما ".
ولست أدرى ما الذي يحملنا على تفضيل هذا التعريف بعد ذكر تعريف
الخطيب وهو أقرب من تعريف العلوي إذ يقال :
" ما المراد بوجه من الوجوه ؟
وما أكثر الوجوه التي يشترك فيها اللفظان ولا يقال إنهما متجانسان
كاشتراك لفظين في الاسمية أو الفعلية . . . وهكذا.
وكل ما يؤخذ على الخطيب أنه أغفل اختلافهما في المعنى.
ولهم مع ذلك تقسيمات كثيرة للجناس ، لا أراها أنها تهمنا هنا بقدر ما يهمنا وروده فى القرآن . ووظيفته في جمال التعبير.
* *
* من صور الجُناس في القرآن :
ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى :
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ).
الساعة الأولى : القيامة ، والثانية : المراد بها اللحظة من الزمن ، وهذا
يسمى عندهم الجُناس التام الماثل.
وقد أثار ابن أبى الحديد جدلاً حول عد هذه الآية من الجناس وذلك فى
تعقيبه على رأى ابن الأثير بجعلها من الجُناس ، ولكن الهق أن في الآية جُناساً
لاختلاف معنى اللفظين .(2/436)
قال السيوطي : " قيل : ولم يقع منه - أي الجناس التام المتماثل - فى
القرآن سواه - أي هذه الآية المذكورة -
واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر موضعاً آخر هو قوله تعالى :
(يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44).
ومنه قوله تعالى : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80).
فالجناس بين : يسقين ويشَفين . وهذَا مَن الجناس المصحف ،
وضابطه أن تختلف الحروف في النقط.
ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73).
والجناس بين مُنذِرين ومُنذَرين . وهذا من الجناس المحرف.
وضابطه أن يقع الاختلاف في الحركات.
وقد اجتمع المحرف والمصحف في قوله تعالى : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104).
ومن الجناس قوله تعالى : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30).
وقوله تعالى : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ).
والجُناس بين الساق والساق . وكلي وكل . وهذا من الجُناس الناقص وضابطه أن يكون الاختلاف في عدد الحروف.
ومنه المذيل ، وضابطه أن تكون الزيادة بأكثر من حرف كقوله تعالى :
(وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ).(2/437)
وقوله تعالى : (وَلكنَّا كُنا مُرْسلينَ) ، و (مَنْ آمَنَ بالله) ،
و (إنَّ رَبَّهُم بِهِمْ)
ومنه المضارع . وضابطه أن يختلفا بحرف مقارب في المخرج كقوله تعالى :
(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأوْنَ عَنْهُ).
فإن اختلفا بحرف غير مقارب فهو اللاحق.
كقوله تعالى : (وَيْلٌ لَكُلً هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ).
ومنه المرفق : وهو ما تركب من كلمة وبعض كلمة كقوله تعالى :
(جُرُف هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ).
ومنه اللفظي : بأن يختلفا بحرف مناسب للآخر مناسبة لفظية كالضاد والظاء
فى قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23).
ومنه القلب : بأن يختلفا في ترتيب الحروف كقوله تعالى حكاية عن هارون
عليه السلام : (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94).
ومنه الاشتقاق : وهو أن يجتمعا في الأصل الاشتقاتي ويسمى المقتضب
كقوله تعالى : (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89).
وقوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ).
وقوله تعالى : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا).
ومنه تجنيس الإطلاق : بأن يتفقا من حيث الظاهر مع اختلاف المادة المشتق
منها . كقوله تعالى : (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168).(2/438)
وقوله تعالى : (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ).
فاأنت ترى أنهم عثروا في القرآن الكريم على أمثلة لكل فروع الجُناس
وما شاكله.
وبقى من الجُناس نوع سموه " مستوفى " وهو ما اختلف لفظا الجناس فيه
بين الاسمية والفعلية . ويقابله المماثل وهو ما اتحد طرفاه : اسمية أو فعلية.
وقد قسَّم ابن أبى الإصبع الجناس إلى قسمين كبيرين.
سمى أحدهما : جناس مزاوجة ، والثاني : جناس مناسبة . .
وفرع منهما عشرة فروع . ما بين اللفظي والمعنوي.
أما جناس المزاوجة فقد مثل له بأمثلة المشاكلة :
(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)
(فَمَنِ اعْتَدَى عَليْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَليْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَليْكُمْ).
وسبب هذه التسمية أن الله تعالى - كما قال هو - سمى جزاء السيئة سيئة.
وجزاء الاعتداء اعتداء ليكون في الكلام مزاوجة.
واشتراط المثلية في الاعتداء توخياً للعدالة.
أما ما سماه جناس المناسبة ، فقد مثل للفظي منه بأمثلة جناس الاشتقاق
وهى قوله تعالى : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا).
وقوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ).
* * (2/439)
* الجُناس يجامع فنوناً أخرى :
رأينا أن ابن أبى الإصبع قد مثل لما سماه جُناس المزاوجة بأمثلة هي بعينها
أمثلة المشاكلة.
ومنه نستطيع القول بأن الجُناس في القرآن قد يجامع المشاكلة.
كذلك فإن جُناس الاشتقاق قد جامع فيه الطباق في قوله تعالى :
(فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ).
وقوله تعالى : (واللهُ يَعْلمُ وَأنتُمْ لا تَعْلمُونَ).
وجامع الجُناس الترديد في قوله تعالى : (لا يَسْتَوِى أصْحَابُ النًّارِ
وَأصْحَابُ الجَنًّةِ ، أصْحَابُ الجَنًّةِ هُمُ الفَائِزُونَ).
والترديد هو إيراد الكلمة بعينها مرتين ، وبعضهم يخصها بالشعر ، ولكن
العلوي وابن أبى الإصبع أجازا مجيء ذلك في النثر.
ومن أمثلته عند ابن أبى الإصبع قوله تعالى : (حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
وقوله تعالى : (حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
وقوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا).
ومن العجيب أن الآية الثانية جمعت بين ثلاثة فنون من فنون البديع فى
موضع واحد باعتبارات مختلفة :
1 - الطباق حيث وقع العلم منفياً مرة ومثبتاً أخرى ، فهو من طباق السلب .(2/440)
2 - الجُناس لتماثل اللفظين " يعلمون " ، " يعلمون " : فهو من جناس
الاشتقاق.
3 - الترديد حيث تكرراللفظان وكل منهما متعلق بمعنى مختلف.
وقد - يجامع الجُناس التعطف . الذي هو إعادة اللفظة بعينها غير مشروط
اجتماعهما ومثاله قوله تعالى : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52).
فقد أعيدت الكلمة هنا أرلع مرات : " تربصون بنا " ، " ونحن نتربص
بكم " ، " فتربصوا " ، " إنَّا معكم متربصون " . ولا شك أن بين هذه
المواضع الأربعة جناس اشتقاق.
ويجامع الجناس التصدير . ومن أمثلة ذلك في الكتاب الحكيم قوله تعالى :
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10).
* *
* وظيفة الجناس :
للجناس وظيفتان ، إحداهما من حيث المعنى ، والأخرى من حيث اللفظ . .
أما التي من حيث المعنى فيقول عنها الإمام عبد القاهر في الأسرار :
" وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيساً مقبولاً ، ولا سجعاً حسناً حتى يكون المعنى هو الذى طلبه واستدعاه وساق نحوه.
وحتى لا تبغي به بدلاً ، ولا تجد عنه حولاً.
ومن هنا كان أحلى تجنيس تسمعه ، وأعلاه وأحقه بالحسن وأولاه ، ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه . . وذلك كما يُمثلون به أبداً من قول الشافعي(2/441)
رحمه الله - وقد سئل عن النبيذ - فقال :
" قد أجمع أهل الحرمين على تحريمه ".
ويقول : " واعلم أن النكتة التي ذكرتها في التجنيس ، وجعلتها العلة فى
استيجابه الفضيلة ، هي : حُسن الإفادة مع أن الصورة صورة الإعادة ".
ومعنى هذا أن الكلمة المكررة في التجنيس مع أن الصورة توهم السامع فى
أول أمرها أنها لم تأت بجديد . بل هي مكررة لمعنى سابقتها ، فإذا حصل
للسامع منها المعنى الجديد جاءه ذلك من غير مظانه ومن حيث لم يتوقعه.
وفى ذلك متعة للنفس ، وربح من غير انتظار.
وقال العلوى : " هو عظيم الموقع في البلاغة ، جليل القدر فى
الفصاحة ".
ويقول ابن السبكى : " وكفى التجنيس فخراً قوله عليه الصلاة والسلام :
" غفار غفر الله لها . وأسلم سالمها الله . وعصية عصت الله " . .
ويرى بعضَهم أنه أشرف الأنواع اللفظية ".
وأما وظيفته من حيث اللفظ فإنه يحمل السامع على الإصغاء ، كما يقول
صاحب كنز البلاغة (عماد الدين إسماعيل بن الأثير الحلبى من علماء القرن
الثامن الهجري) : " لم أر مَن ذكر فائدة الجُناس وخطر لي أنها الميل إلى
الإصغاء إليه . فإن مناسبة الألفاظ تُحدث ميلاً وإصغاءًإليه . ولأن اللفظ
المشترك إذا حُمل على معنى ثم جاء والمراد به معنى آخر كان للنفس تشوق
إليه ".
وفي هذا النص بيان للوظيفة اللفظية . وإشارة إلى الوظيفة المعنوية.
* * (2/442)
* مقومات الجمال في الجناس :
وإذا أمعنا النظر في جمال الجُناس حين يقع جميلاً أمكن أن نرجعه إلى ثلاث
أسباب :
1 - تناسب الألفاظ في الصورة كلها أو بعضها ، ومما لا شك فيه أن
التوافق في الصورة واقتران الأشباه والنظائر بعضها ببعض تميل إليه النفوس
بالفطرة . وتأنس به وتغتبط ويطمئن إليه الذوق لأنه نظام وانسجام وائتلاف.
ويخلع على النفوس راحة وبشاشة . وهدوءاً وقراراً.
2 - التجاوب الموسيقى المصادر من تماثل الكلمات تماثلاً تاماً أو ناقصاً
فيطرب الأذن ، ويهز أوتار القلوب.
3 - ذلك هو العمل الأخَّاذ الذي يسلكه " المجنس " لاختلاف الأذهان
واستمالة الأفهام.
وفي هذا يقول عبد القاهر : " . . وقد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك
عن الفائدة وقد أعطاها . . ويوهمك كأنه لم يزدك شيئاً ، وقد أحسن الزيادة
ووفاها ".
ولهذا فإن الجُناس من مقتضيات الأحوال . وموجبات البلاغة وشرط ذلك
أن لا يكون الجُناس متكلفاً.
* *
* منزلة جُناس القرآن :
وقد جاء الجناس في القرآن الكريم على أحسن صورة وأجمل موقع لا تكلف
فيه ، ولا تصنع ، ولا جور على المعنى لحساب اللفظ . .
ولا اقتسار للفظ بدون دلالة حسنة .(2/443)
سواء في ذلك التام منه أو الناقص . وسواء ما كان جُناساً خالصاً.
أو اختلط بغيره من ألوان البديع ، فليس فيه موضع نازل في معناه.
أو مستكره في لفظه بل هو - كله - جار مع طبيعة الأسلوب القرآني في قوته وجزالته ويلاغته وفصاحته.
وإن شئتَ فتأمل هذه المواضع مع ما سبق من نصوص ورد فيها الجُناس فى
القرآن الكريم : (ثُمَّ انَصرفُواْ صَرَفَ اللهُ قُلوبَهُم).
(يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلبُ فِيهِ القُلوبُ والأبْصَارُ).
(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ).
فإنك تجد فوق روعة المعنى وسحر الجرس . مناسبة بين ركني الجُناس جد
رائعة ، وهذه المناسبة لو لم يكن للجُناس وظيفة سواها لكانت كفيلة بأصالته
وحسنه : " انصرفوا - صرف " - " تتقلب - القلوب " - " الربا - يربى "
وهكذا في كل جناس أنت واجد خلابة وسحراً . وأسراً للسمع والفكر معاً.
وهل أنت واجد في هذه إلا جمالاً وحسناً.
والآن فانظر إلى سجع الناس المتكلف لترى الأصالة هنا - أي في القرآن - والزيف فيما عداه ، إلا مَن عصم الله.
* * *
2 - ائتلاف اللفظ مع المعنى :
عرفه ابن أبى الإصبع فقال : أن تكون ألفاظ المعنى المراد يلائم بعضها بعضاً
ليس فيها لفظة نافرة عن أخواتها . غير لائقة بمكانها . كلها موصوف بحسن
الجوار ، بحيث إذا كان المعنى غريباً فجاً كانت ألفاظه غريبة محضة ، وإذا كان(2/444)
المعنى مولداً كانت الألفاظ مولدة . وإذا كان المعنى متوسطاً كانت الألفاظ
كذلك ، وإذا كان متداولاً كانت الألفاظ معروفة مستعملة.
*
* ائتلاف اللفظ مع المعنى سمة للقرآن كله :
هذا ملخص ما ذكره المؤلف . ونحن إذا نظرنا إلى عنوان الباب كان القرآن
كله مثالاً له . لأن الألفاظ في القرآن مؤتلفه مع معانيها لم يند منها موضع
واحد . وعلى هذا فإن إيراد الأمثلة فيه شىء من التسامح.
هذا بالنظر إلى عنوان الباب كما قلنا.
أما بالنسبة للأحوال التي ذكرها كشرح وتعريف للباب.
فإن التمثيل واجب لبيان الأقسام الواردة في التعريف.
ولم يختص ابن أبى الإصبع بالكلام عن هذا الأصل
بل تحدث عنه كثيرون من العلماء كابن سنان وابن الأثير والعلوي.
وقد مثَّل ابن أبى الإصبع له بقوله تعالى :
(قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85).
وقد وجَّه النص بما ملخصه :
فإنه سبحانه لما أتى بأغرب ألفاظ القَسَم وهي التاء - إذ الواو والباء أعرف
منها عند العامة وهما أكثر دوراناً على الألسنة - لما أتى بها أتى بأغرب صيغ
الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار ، لأن " كان " وبقية أخواتها أعرف
عند الكافة من " تفتأ " وأكثر منها استعمالاً . .
وكذلك " حرضاً " فإنها أغرب الألفاظ الدالة على الهلاك ، فاقتضى حسن النظم أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة أو الاستعمال.
توخياً لحسن الجوار ورغبة فى ائتلاف المعاني بالألفاظ . ولتتلاءم الألفاظ في الموضع وتتناسب في النظم(2/445)
ويتضح هذا إذا ما قورن بمثله . وهو قوله تعالى :
(وَأقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيْمَانهمْ) . .
فلما كان هذا الموضع كل ما فيه من ألفاظ معروفاً مسَتعملاً
قال : " أقسموا " ، و " بالله " فلم تأت لفظة غريبة تفتقر إلى ما يشاكلها فى
الغرابة ويلائمها.
ومن أمثلته أيضاً قوله تعالى : (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ). لأن الركون إلى الظالم دون فعل الظالم نفسه.
ولذلك وجب أن يكون العقاب عليه دون عقاب الظالم ، ولهذا قال سبحانه : " فتمسكم النار " ، فالركون إلى الظالم يناسبه مس النار للراكن.
فلم يقل : "لا فقد دخلوا النار " - مثلاً - لأن المتبادر إلى الفهم أن مس النار أول ملاقاة الجسم لها.
* *
* المس والذوق :
هذا وقد جاء " المس " في غير هذا الموضع مراداً به العذاب المؤلم ولا يكون
إلا بالدخول في النار والمكث فيها ، كقوله تعالى : (ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ).
فالمعوَّل - إذن - على القرائن كما يقول ابن أبى الإصبع نفسه :
" وإذا احتملت اللفظة احتمالات صرف منها إلى ما تدل عليه القرائن ".
وحتى في هذه الآية - (ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ) - قد يبلغ ائتلاف اللفظ مع
المعنى ومع اللفظ منتهاه.
فإذا كان المس أول ملاقاة الجسم للنار ، فإن الإذاقة هى أول ملاقاة الطعوم للسان - إذن - فههنا مقابلة آسرة . . ولعل السر البلاغى
فى هذا التعبير أن إذاقة مس سقر كاف في الإيلام فما بالك بدخولها ؟
وبهذا تنتهى أمثلة ابن أبى الإصبع لهذا الباب من القرآن الكريم.
والقرآن - بعد - مشحون بهذه الصور الآسرة . فلنورد بعضها فيما يأتي :(2/446)
* ذل اليهود ومسكنتهم :
(. . وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ).
هذا إخبار من الله تعالى عن اليهود لما عصوا الله وكفروا به . وقتلوا الأنبياء
ظلماً وعدواناً ، وخلاصة هذا الإخبار أن اليهود أذلاء وضعفاء أينما كانوا
وحيثما حلوا . جزاء لهم على جرائمهم النكرة ، فلازمتهم الذلة والمهانة ، وجاء التعبير وافياً بالغرض أيما وفاء.
يقول الزمخشري : " جُعِلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم فهم فيها كما
يكون في القبة مَنْ ضُرِبت عليه . أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يُضرب الطين على الحائط فيلزمه ".
ويُفهم من هذا معنيان : الإحاطة ، واللزوم . وفي التعبير معنيان آخران ذلك
أن الضرب في نفسه مشعر بذل المضروب فاختير هنا ليناسب لفظة " الذل "
المجعولة عليهم.
والضرب من شأنه إيلام المضروب وإيجاعه . وهذا يُشعر بالأثر السيئ الذى
يجده اليهود من ملازمة الذلة والمسكنة لهم . وإحاطتهما بهم.
وهذا الضرب مجاز طريقه الاستعارة التمثيلية أو المكنية.
ويجوز حمله على الاستعارة التصريحية التبعية.
وهذا من باب مناسبة اللفظ للمعنى.
وفي قوله تعالى بعد هذا مباشرة :
(. . . . وَبَاءُوا بِغَضَب مِنَ الله) مناسبة كذلك ، فإن ضرب الذلة
والمسكنة عليهم يناسبه : (وبَاءُوا بِغَضَب مِنَ اللهِ).
* * (2/447)
* غرابة اللفظ لغرابة المعنى :
ويدخل في هذا الباب من غرابة الألفاظ لغرابة المعاني قوله تعالى :
(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51).
وقوله تعالى : (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65).
وقوله تعالى : (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22).
فـ " القسورة " الصياد أو الأسد . وهما أكثر من لفظ : " قسورة " دوراناً
على الألسن ووروداً في الاستعمال.
وهذا مناسب لغرابة نفور العصاة عن الدعوة إلى الطاعة والهدى.
و " رءوس الشياطين " لم يستعمله أحد لأنه لم يقف على حقيقته فجاء
مثالاً لثمار أغرب شجرة تنبت في أصل الجحيم.
وقسمة الإناث للهِ سبحانه والمذكور للكافرين قسمة غريبة فدل عليها بأغرب
لفظة عرفتها لغة العرب.
وهذا ميدان واسع في القرآن الكريم يظهر في حقيقته ومجازه ، وما أردنا
بما ذكرنا إلا التدليل والتمثيل.
* * *
3 - المساواة :
عرَّفها ابن أبى الإصبع بقوله : " أن يكون اللفظ مساوياً للمعاني لا يزيد
عليه ولا ينقص عنه ".
ثم يعلق عليها فيقول : " وهو من أعظم أبواب البلاغة ، بل هو بعينه نفس
البلاغة " .(2/448)
ومعروف أن المساواة من مباحث علم المعاني - وهذا هو شأن البديع - إنما هو فى معظم أبوابه مسائل منتزعة من علمي المعاني والبيان ،
وللعلماء مذهبان فى أسلوب القرآن.
فالجمهور يرى أن القرآن فيه الإطناب والمساواة والإيجاز . .
وعرفوا الأول بأن الألفاظ فيه تزيد على المعنى زيادة تؤدى فائدة.
والمساواة قد سبق تعريفها.
أما الإيجاز . . فأن تكون الألفاظ أقل من المعنى المفهوم منها ، وقسَّموا
الإيجاز إلى إيجاز حذف ، وإيجاز قصر.
وقد مثلوا للمساواة بقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90).
قال ابن أبى الإصبع في بيان المقصود من هذه الآية :
" إن الله سبحانه أراد أن يأمر بجميع المحاسن الممدوحات المنجيات ، وينهى عن جميع القبائح الموبقات المذمومات . فأخرج المعنى في لفظ هو طبقه.
وقالب هو قدره وصوره مساوية لمعناه لا تزيد ولا تنقص عن فحواه ، . ومصداق ذلك أن أي لفظة لو حذفتها من ألفاظ الآية اختل شيء من المعنى بحذفها اختلالاً ظاهراً . . .
وكذا إذا زيد في ألفاظها لفظة حصل من الاختلال بالزيادة ما حصل منها عند
النقص.
ولا معنى للمساواة غير هذا.
* *
* نقد وتحليل :
ولكن الحق أن الآية ليست من قبيل المساواة ، بل هي شاهد ناطق على
الإيجاز وهذا نلمحه من ناحيتين :(2/449)
من حيث الصناعة النحوية فإن فيها حذفاً في مواضع لا أظن أن المؤلف
يخالفنا فيها ، وتلك المواضع هي : حذف معمول " يأمر " - حذف معمول
المصدر "إيتاء " - حذف معمول " ينهى " - حذف معمول " تذكرون ".
هذه المحذوفات وإن كانت كثيرة في الأسلوب القرآني ، فإنها تنقل الآية من
شاهد المساواة إلى شاهد الإيجاز بالحذف.
ومن ناحية دلالة الكلمات أنفسها . . فإن " العدل " تحته أفراد.
وكذلك " الإحسان " و " الفحشاء " تحتهما أفراد . وكذلك " المنكر "
و " البغى " ، فهذه أسماء جوامع دالة على كثير وهذا ينقل الآية من شاهد المساواة إلى شاهد الإيجاز بالقصر.
* *
* ابن أبى الإصبع يناقض نفسه :
وكلام ابن أبى الإصبع نفسه دليل على أن الآية فيها إيجاز قصر حيث يقول :
" إن الله سبحانه أراد أن يأمر بجميع المحاسن المنجيات الممدوحات.
وينهى عن جميع الموبقات المذمومات " ، فكيف يستقيم بعد أن يقال إن الآية من قبيل المساواة ؟
ومن شواهد المساواة أيضاً - حسبما ذكروه - قوله تعالى :
(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44).
وهذه الآية كأختها شاهد إيجاز وليست شاهد مساواة.
وإنى لأعجب لابن أبى الإصبع إذ أورد هذه الآية في باب المساواة وهو نفسه
يعلِّق عليها تعليقاً واضحاً بأنها من باب الإيجاز ، فهو يقول : " فإنه سبحانه(2/450)
وتعالى أراد اقتصاص هذه القصة بأوجز لفظ وأبلغه فجاء بها كما ترى مرتبة
الألفاظ والجمل حسبما وقع ".
فمن هذا النص تعلم أن ابن أبى الإصبع قد سلك الآية في موضعها اللائق
بها من البلاغة والإيجاز وحسن النسق.
ويعدها مباشرة يقول : " فإن قيل لفظة : " القوم " زائدة تمنع الآية من أن
توصف بالمساواة لأنها إذا طرحت استقل الكلام بدونها بحيث يقال :
" وقيل بعداً للظالمين " . قلت : لا يستغني الكلام عنها ".
ثم أخذ في بيان أصالة لفظة " القوم " في موضعها هنا فوُفقَ أيما توفيق.
والذي نأخذه عليه اضطرابه في نسبة الآية إلى المساواة مرة ، والإيجاز مرة
أخرى ، وكونها من الإيجاز أمر لا يحتاج إلى دليل.
ثم أخذ يبرر هذا الخلط والاضطراب فقال :
" واعلم أن البلاغة قسمان - كما قيل - البلاغة إيجاز من غير اختلال وإطناب من غير إملال.
والمساواة معتبرة فى القسمين معاً ".
* والسؤال الآن :
كيف تكون المساواة معتبرة من قسمى الإيجاز والإطناب . .
وعلى أي أساس يمكن فهم هذا التقسيم وبين الأقسام الثلاثة حواجز وضوابط لا تسمح بالتداخل بينها ؟
إن في ما يقول ابن أبى الإصبع خروجاً عن إجماع العلماء.
ثم تورط أكثر وأكثر عندما راح يطبق فكرته الغريبة هذه على نصوص القرآن.
وهذا يظهر مما يأتي :
قال . " فما جاء من قسم الإيجاز وهو موصوف بالمساواة! قوله تعالى :
(وَلكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ).
فإن معنى هذه الجملة جاء في قوله(2/451)
تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33).
ثم قال : " لكن الأول إيجاز والثاني إطناب . . وكلاهما موصوف
بالمساواة ".
وفضلاً عن هذا الخلط والاضطراب فإننا نرى في كلامه ضعفاً حيث يرى أن
معنى الآية الثانية متفق مع معنى الآية الأولى - وظاهر أن معنى الآية الأولى
بيان أن " القصاص من القاتل " يُضعف رغبة الناس في الاعتداء بالقتل ،
فتحفظ الحياة بصون الدماء.
ومعنى الآية الثانية هو تشريع يبيح لولي القتول المطالبة بالاقتصاص من
القاتل مع الاقتصار في الدعوى على الجرم الحقيقي لا يتعداه إلى سواه.
فهل بعد هذا يقال : إن معنى الآية الأولى جاء في الآية الثانية ؟
وعلى أى أساس أيضاً يدعى الاتحاد بين معنى الآيتين ؟!
* * *
4 - الإرداف :
وهو مفرع كذلك عن ائتلاف اللفظ مع المعنى . وعرفوه فقالوا : أن يريد
المتكلم معنى فلا يُعبِّر عنه بلفظه الموضوع له ، ولا بلفظ الإشارة الدال على
المعاني الكثيرة . بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص وتابعه قريب من لفظ المعنى
الخاص قرب الردف من الرديف.
ومنه في الكتاب العزيز قوله تعالى : (وَقُضِيَ الأمْرُ) ، وحقيقة
ذلك : وهلك مَن قضى الله بهلاكه . ونجا مَن قضى بنجاته .(2/452)
وإنما عدل عن هذه الحقيقة إلى لفظ الإرادف لما فيه من الإيجاز والتنبيه على
أن هلاك الهالك ونجاة الناجى كان بأمر آمر مطاع ، وقضاء مَن لا يُرد قضاؤه ، والأمر يستلزم آمراً وقضاؤه يدل على قُدرة الآمر به ، وطاعة الأمور تدل على قدرة الآمر وقهره وأن الخوف من عقابه ورجاء ثوابه يحضان على طاعة الآمر ولا يحصل ذلك كله من اللفظ الخاص ".
ومن أمثلته أيضاً قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46).
قال : " فإن هذا الكلام عُدلَ فيه عن المعنى الخاص في موضعين توخياً
للمناسبة والتسجيع لأن المعنى الخاص في الموضعين أن يقال : لأخذناه أخذاً
شديداً وأهلكناه.
لكن هذه العبارة خالية من المناسبة لما تقدَّم هذين الموضعين وما تأخر عنهما.
ولما كانت المناسبة والتسجيع أمراً مطلوباً عدل عن اللفظ
الخاص الذي لا يعطى ذلك إلى لفظ يعطيه مع جزالة فيه ".
وأقول : إن المواضع التي ذكرها شواهد للإرداف لا تخرج عن الاعتبارات
الآتية :
1 - إيجاز القصر . . وذلك في قوله تعالى : (وَقُضِىَ الأمْرُ) وقد جرى
هذا التعبير مجرى الحكمة لإجازة لفظه ووفرة معناه.
2 - الكناية عن الصفة . . وذلك في قوله تعالى : (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) ،
وقوله تعالى : (ثُمَّ لقَطعْنَا منْهُ الوَتينَ) لأن الأولى كناية عنَ العفة.
والثانية كناية عن الهلاك.
والوتين : نياط القلب إذا قُطِعَ مات صاحبه .(2/453)
3 - الاستعارة التمثيلية . . وذلك في قوله تعالى : (لأخَذنا منْهُ بِاليَمين)
شبه حاله - سبحانه - في سيطرته عليه بحال مَن يمسك يمينه فلاَ يستطيعَ دفَعاً
ولا فوتاً.
* * *
6 - التمثيل :
وهذا مفرع كذلك عن ائتلاف اللفظ مع المعنى . وقد عرفه ابن أبى الإصبع
فقال : " هو أن يريد المتكلم معنى فلا يُعبر عنه بلفظه الخاص ولا بلفظى
الإشارة ولا الإرداف بل بلفظ هو أبعد من لفظ الإرداف قليلاً . . . ".
ومنه : (وَاسْتَوَتْ عَلى الجُوِديِّ) فإن حقيقة ذلك : وجلست على هذا
المكان ، فعدل عما فيه زيغ إلى ما لا زيغ فيه ولا ميل ولا حركة ولا اضطراب ، فإن بهذا الجلوس تسكن قلوب أهل السفينة فحصل تمام الأمن وتمام السكينة ، ولا يحصل هذا من قولنا : " جلست " ، فلذلك عدل عن لفظ الحقيقة إلى لفظ التمثيل . . هذا معنى من معاني التمثيل
وخلاصته : إيثار لفظ مكان آخر ، ليس أحدهما مجازاً.
* *
* معان آخرى للتمثيل :
ومعنى آخر مثلوا له بقوله تعالى : (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7).
فإن ألفاظ هذه الآية ومعناها تمثيل مجازي أتى به لتتبين به حقيقة أمر مراد.
لأنه لما كان هؤلاء المحدث عنهم بذلك لا ينتفعون بما يسمعون من الزواجر.
ولا يرتدعون بما يشاهدون من الآيات . .
كان امتناعهم عن ذلك بختم وغشاوة(2/454)
حالا بينهم وبين ما يسمعون وما يبصرون وما يعتقدون ، إذ لولا هذه الحيلولة
لسمعوا وأبصروا وعقلوا.
وفي هذا فإن التمثيل يكون بإيثار لفظ مجازي على آخر حقيقى كـ " الختم "
ومعنى ثالث للتمثيل عندهم.
وهو حمله على الاستعارة التمثيلية التي تشبه بها الهيئات . .
وقد نَص على ذلك كثير منهم كابن أبى الإصبع إذ يقول في توجيه
الآية المذكورة : " ويجوز أن تُضرب الجملة مثلاً لصفة أحوالهم كقولهم :
سال بهم الوادى - إذا هلكوا ، وطارت بفلان العنقاء - إذا طالت غيبته ".
ومعنى رابع للتمثيل عندهم هو أن يراد به المثل.
وهذا كثير في القرآن الكريم . .
منه قوله تعالى : (ليْسَ لهَا مِن دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ).
* * *(2/455)
الفصل الثالث
قيمة البديع القرآني
نعرض في هذا الفصل نصوصاً من القرآن الكريم ، محاولين توضيح ما فيها
مما أطلقوا عليه " بديعاً " سواء دخل عندهم في المعنوي ، أو اللفظي ، والفرق
بين ما قلناه فيهما ، وما نقوله في هذا الفصل واضح.
1 - من سورة البقرة (آيات : 26 - 27) :
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27).
جاءت في هاتين الآيتين ضروب عدة من البديع نذكرها فيما يلي :
(أ) المشاكلة : وذلك في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا . .) وهي مشاكلة من النوع الثاني الذي ذكروه في قولهم : " المشاكلة
هى ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً ".
فهى مشاكلة تقديرية . وذلك بناء على ما ذكره المفسرون.
فالزمخشري يقول :
" ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة . فقالوا : أما يستحي رب محمد
أن يضرب مثلاً بالذباب - إشارة إلى قوله تعالى : (لن يَخْلقُواْ ذُبَاباً)(2/456)
فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال - وهو فن من كلامهم بديع وطراز عجيب منه قول أبى تمام :
مَنْ مُبْلِغُ أفْنَاءَ يَعُرُبَ كُلِّهَا . . . أني بَنِيتُ الجَارَ قَبْلَ المنزِلَ
ويلاحَظ أن اللفظ " المشاكل " هنا مجازي المعنى حقيقته الترك.
فمعنى : " إن الله لا يستحيي " أي لا يترك الضرب بالبعوضة ترك مَن يستحيي أن يمثِّل بها لحقارتها . . . لأن الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يُعَاب به أو يُذَم وهو بهذا المعنى مستحيل في جانب الله.
إذن فقد اجتمع هنا لونان بديعيان : المشاكلة . . وقد تقدم شرحها.
(ب) المماثلة أو التمثيل . . وقد سبق أنهم يعتبرونه لوناً بديعياً.
وسبق كذلك أنه عندهم يُطلق على عِدَّة أمور : الاستعارة المفردة ، الاستعارة
التمثيلية ، المثل السائر.
(ب) الإبهام : وذلك بناء على ما ذكره المفسرون - كذلك - من أن " ما "
فى قوله تعالى : (مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) أن " ما " الأولى إبهامية ،
وهى التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شياعاً وعموماً.
وكون " ما " إبهامية مشروط بنصب " بعوضة " - كما هي القراءة المشهورة
- وإن رفعت " بعوضة " فإن " ما " تصبح موصولة.
(د) التوجيه : وذلك في قوله تعالى : (فَمَا فَوْقَهَا) فإن الفوقية هنا
لها معنيان ، أحدهما : فما تجاوزها في المعنى الذي ضُرِبت فيه وهو القِلة
والحقارة.
وثانيهما : فما زاد عليها في الحجم.
ولما كان أحد هذين المعنيين لم تنصب قرينة على إرادته بعينه ، وبقى الفهم
والاعتقاد شركة بينهما حصل النوع البديعي الذي يسمونه " التوجيه " ؟ وهو(2/457)
أن يكون للفظ معنيان لم تقم قرينة على إرادة أحدهما.
والمتأمل يرى أن كلا المعنيين هنا صالح للفهم والاعتقاد.
(ه) حسن التقسيم : حيث قسَّم الناس بالنسبة لضرب الأمثال بالبعوضة
وما زاد عليها في الحقارة أو ما زاد في الحجم إلى فريقين :
فريق مؤمن مُصدِّق ، وآخر كافر مُكذِّب.
(و) المقابلة : حيث طابق بين " آمنوا " و " كفروا " و " يضل "
و " يهدى " ، وقد جامعت المقابلة هنا التكافؤ حسبما يرى ابن أبى الإصبع لأن " يهدى " و " يضل " مجازيان.
(ز) التعطف : وذلك في ثلاثة مواضع " مثلاً " و " مثلاً " ، " يضل "
و " يضل " ، " كثيراً" و " كثيراً".
(ح) البيان بعد الإبهام : وذلك أنه سبحانه قال : (يُضل به كَثيراً
وَيَهْدى به كثيراً) فبئن أن فريقاً يضل به وآخر يهدى ، ولم يبين مَن المهدى
ومَنَ المضل ، َ ثم عاد فقال : (وَمَا يُضِل بِهِ إلا الفَاسِقِينَ) ليعلم مَن هو
الفريق المضل وفي هذا البيان معنى الاحتراس.
(ط) صحة التفسير : حيث فسَّر " الفاسقين " في قوله تعالى :
(وَمَا يُضِل به إلا الفَاسقينَ) بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27).
أى النزاهة : وذلك لأنه سبحانه حين أراد ذمهم لم يستعمل فيه هجين
اللفظ ، ولا قبيح المعنى ، بل سجَّل عليهم نقضهم ميثاق الله ، وترك ما أمر
الله بفعله وفسادهم في الأرض ، وأخبر عنهم بأنهم هم الخاسرون لا غيرهم.
(ك) التكافؤ : وهو - كما عرفه ابن أبى الإصبع - أن يكون ركنا الطباق
مجازيين لا حقيقين ، وأن تكون أركان المقابلة مجازية كذلك . والتكافؤ بهذا(2/458)
المعنى وارد في الآية الثانية : (يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْد ميثَاقه وَيَقْطعُونَ
مَا أمَرَ اللهُ بِه أن يُوصَلَ) ، حيث قابل بين النقض وَالتوثقَةَ ، والقطع
والوصل ، وهذه كلها أركان مجازية ، فالنقض لا يكون إلا في المركبات
الحسية ، وكذلك التوثقة ، والقطع لا يكون إلا في المتماسك الحسي وقد
استعمل هنا مراداً به الترك ، والوصل صنو القطع ، واستعمل هنا في أمر
معنوي هو : الإتيان والفعل.
(ل) الترشيح : وذلك أنه قال : (يَنقُضُونَ عَهْدَ الله) وهو الذي رشح
لإيقاع النقض على العهد ، وهو لا يكون إلا في المركب الحسى و " العهد "
معنى من المعاني ، فالذي رشح له أنهم يسمون العهد " حبلاً " على سبيل
الاستعارة.
قال الزمخشري : " فإن قلتَ من أين ساغ استعمال النقض فى إبطال العهد ؟
قلتُ : من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لا
فيه من إثبات الوصلة بين المتعاهدين "
(م) التسجيع : وهذا ظاهر من فاصلتى الآيتين : (وَمَا يُضِل به إلا
الفَاسقينَ) ، (أولئكَ هُمُ الخَاسِرُونَ) فاتحدت الفاصلتان في حرفَ النون
مسبوقاًََ بحرف مد في الموضعين.
(ن) التذييل : وذلك في قوله تعالى : (أولئكَ هُمُ الخَاسِرُونَ)
فإنه تذييل جاء مؤكداً لما فُهِم من أوصاف الفاسقين.
(س) حسن النسق : حيث جاءت الجمل مترتبة ترتيباً حسناً خالية من
عيوب النظم.
فقد بدأ - سبحانه - بأنه مطلق الإرادة يمثل بما شاء لما شاء.
والناس إزاء هذا التمثيل ضربان : مؤمن مصدِّق ، وكافر مستريب ، وفي هذا
يضل اللهُ مَن يشاء وهم كثيرون ، ويهدي مَن يشاء وهم كثيرون ، ثم بيَّن أنه
لا يضل إلا الفاسقين ، ثم شرع في بيان صفات الفاسقين فبدأ بنقضهم عهد الله ،(2/459)
وتركهم ما أمر الله به أن يؤتى ، ثم عطف عليه كونهم مفسدين في الأرض.
ثم أخبر عنهم بأنهم الخاسرون.
والمتأمل يرى أن كل جزء تقدم على آخر فإنه كالسبب فيه أو أخص منه
وما أتى بعده عام . أو حكم تقدمت مسبباته . فجاء التعبير محكم البناء ،
موصول العرى ، متلاحم الفقرات.
(ع) الانسجام : وقد عرَّفه ابن أبى الإصبع بأن يكون الكلام منحدراً
كانحدار الماء النسجم بسهولة سبك وعذوبة ألفاظ وسلامة تأليف.
حتى يكون للكلام موقع في النفوس وتأثير في القلوب ما ليس لغيره وإن خلا من البديع.
وهذا الانسجام ينطبق على آيتينا هاتين بل ينطبق على كل موضع في القرآن
الكريم فهو وصف عام له . لم يختص به موضع دون آخر.
(ت) المجاز : هكذا عدُّوا المجاز من فنون البديع ، وهو في آيتنا ظاهر فى
بعض مواضعها كالنقض في الإبطال ، والتوثق في الحفاظ على عهد الله ،
والقطع في الترك والوصل في الفعل ، ومن قبل هذا كان الاستحياء في الترك
أيضاً.
(ص) الإدماج : وهو كما عرَّفه ابن أبى الإصبع أن يدمج غرض فى
غرض أو بديع في بديع بحيث لا يظهر إلا أحد الغرضين.
وهذا قد مَرَّ بنا فى موضعين من النص الكريم :
أحدهما : دمج التكافؤ في المقابلة في قوله تعالى :
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا).
فإن " يضل " و " يهدى " مَجازيان - كماَ سبق -
وهذا تكافؤ مدمج في المقابلة .(2/460)
وثانيهما : دمج التكافؤ في المقابلة - كذلك - في قوله تعالى :
(يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)
على ما سبق بيانه.
(ق) التفصيل : وهو الواقع بعد " أما " و " أما " في قوله تعالى :
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ . . ).
ولا يقف بنا الأمر عند هذا الحد ، فإن لنا أن نصفَ النص بما يأتي :
(ر) ائتلاف اللفظ مع المعنى : لأن كل لفظ فيه قد ائتلف مع معناه . فهما
مقدران بقدر ، وموضوعان بحكمة وهذا اللون - وإن مثلوا له ببعض آيات
القرآن - فإنه وصف عام ليس له فيه موطن دون موطن بل القرآن كله موصوف بائتلاف ألفاظه مع معانيه.
(ش) حسن الجوار : وهذا مثل سابقه : وصف عام للقرآن حيث لم تقع فيه
لفظة واحدة متنافرة مع سابق عليها أو لاحق لها ، وهو ينطبق على آيتينا
باعتبارهما جزءاً من التنزيل الحكيم.
فهذه أكثر من عشرين لوناً بحثوها في ألوان البديع ، وقد جاءت في القرآن
على أحسن موقع وأجمل مطلع.
وهل ترى في هذا النص - وقد علمنا ما فيه من ألوان البديع - قصوراً فى
معناه الذي سيق من أجله ؟ أم انتصاراً للفظ على المعنى ؟
ليس في النص شىء من هذا . بل هو وافٍ بالمراد في وضوح وقوة ، وهذا هو
الفارق بين كلام معجز ، وكلام هو عرضة للخطأ والمغالاة.
* * (2/461)
2 - من سورة هود (44) :
(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44).
هذه الآية الكريمة تصور لنا في إيجاز نهاية قصة الطوفان في عهد نوح عليه
السلام ، وقد اشتملت على الألوان البديعية الآتية :
(أ) المناسبة اللفظية التامة ، بين " أقلعى " و " ابلعى ".
فقد جمع بين اللفظين وهما هنا موزونان مقفيان بزنة وقافية واحدة وهذا هو معنى المناسبة التامة.
(ب) المطابقة : بين " السماء " و " الأرض " في قوله تعالى : (يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) وقد مَرُ تعريف المطابقة فلا حاجة إلى ذكره.
(ب) الاستعارة : في قوله تعالى : " أقلعي " و " ابلعي ".
(د) المجاز المرسل : في قوله تعالى : " يا سماء " والحقيقة : يا مطر
السماء والعلاقة : المجاورة.
(هـ) الإشارة : وهي أن يدل اللفظ القليل على المعنى الكثير بحيث يكون
اللفظ لمحة دالة . وذلك في قوله تعالى : " وغيض الماء " لأن الماء لا يغيض
حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء ، فدل هذا
التركيب القليل : " وغيض الماء " على أن كل ذلك قد حدث.
(و) الإرداف : في قوله تعالى : " واستوت على الجوديِّ "
وقد مَرَّ بحث هذه العبارة.
(ز) التمثيل : وقد مَرَّ تعريفه والتمثيل له بهذه العبارة : " وقُضِى الأمر ".
(ح) التعليل : لأن " غِيضَ الماء " عِلَّة الاستواء(2/462)
(ط) صحة التقسيم : حيث استوعب - سبحانه - حالة الماء حين نقصه.
(ى) الاحتراس : من توهم متوهم أن الماء قد عم مَن لا يستحق الهلاك وقد
تحقق " الاحتراس " بالدعاء على الهالكين.
(ك) الانفصال : لأن لقائل أن يقول : إن لفظة " القوم " يستغنى عنها
للمعنى إذ لو قيل : " وقيل بُعداً للظالمين " لتم الكلام.
(ل) المساواة : لأن لفظ الآية لا يزيد على معناه ولا ينقص عنه ، وستأتي
مخالفة هذا الوجه.
(م) حسن النسق : في عطف القضايا بعضها على بعض حسبما وقعت
الأول فالأول.
(ن) ائتلاف اللفظ صع المعنى : لكون كل لفظة لا يصلح غيرها مكانها ،
وقد مَرَّ تعريفه.
(س) الإيجاز : لأن الله اقتص قصة السفينة بلفظها مستوعبة في أخصر
عبارة بألفاط غير مطولة.
(ع) التسهيم : لأن من أول الآية إلى قوله تعالى : " أقلعي " يقتضي
آخرها ، والتسهيم أن يكون في أول الكلام ما يدل على آخره لأنها تقتضيه.
(ف) التهذيب : لأن مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن كل لفظة
سهلة مخارج الحروف عليها رونق الفصاحة.
(ص) حسن البيان لأن السامع لا يتوقف في فهم معنى هذا الكلام
لوضوحه ، وصفائه.
(ق) التمكين : لأن الفاصلة مستقرة في قرارها . مطمئنة في مكانها غير
قلقة ولا مستكرهة.
(ر) الانسجام : : هو تحدر الكلام بسهولة وعذوبة سبك .(2/463)
(ش) الإبداع : وهو في مجموع الآية.
هذا خلاصة ما ذكره ابن أبى الإصبع في بديع هذه الآية.
ولنا عليها ملاحظة هامة . .
ذلك أنه وصف الآية بالمساواة وجعل المساواة فناً من فنون البديع كما جعل
الاستعارة كذلك.
ثم عاد ووصف الآية بالإيجاز ، والإيجاز والمساواة ضدان لا يجتمعان ، فإما
أن يكون الكلام مساوياً أو غير مساو بأن يكون موجزاً أو مطنباً ، أما أن
يوصف كلام واحد بعينه بأنه مساو مرة وموجز مرة أخرى فهذا شىء غير مفهوم على الإطلاق ، ونحن - إذا جاريناه على أن الإيجاز من فنون البديع - فإن الآية موصوفة به لا بالمساواة إذ هي قد اشتملت على نوعى الإيجاز :
ففيها إيجاز الحذف . ويكفي في تصور ذلك أن في الآية قد بنى الفعل
للمفعول في عدة مواضع : " قيل يا أرض " و " غيض " و " قضى الأمر "
و " وقيل بعداً ".
كما طوى ذكر السفينة وأضمر فاعل الفعل " استوت " ، وحذف معمول
" أقلعي " . . . وهذا موسوم بإيجاز الحذف.
وفيها إيجاز قصر . . لأن بعض ألفاظها قد حوى كثيراً من المعاني مثل :
" غيض الماء " و " قضى الأمر ".
وبهذا يظهر خلط ابن أبى الإصبع في عَدِّ الآية من باب المساواة مرة والإيجاز
مرة أخرى.
وكيف ساغ له ذلك وهو البلاغي الضليع والناقد الأديب ؟
لا أرى سبباً وراء ذلك إلا ولوعه بألوان البديع وكثرة محصوله منها.
* * (2/464)
3 - من سورة يوسف عليه السلام (26 - 27) :
(قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27).
* المعنى الإجمالى لهاتين الآيتين :
تكذيب يوسف عليه السلام لدعوى امراً : العزيز ، ثم تأييده فيما قال بشهادة شاهد من أهلها لفت نظر العزيز إلى قرائن الأحوال التي منها علم العزيز صدق يوسف عليه السلام وكذب امرأته هو على يوسف.
والناظر فيهما لا يجد تكلفاً في العبارات . ولا نقصاً في المعنى ، ومع هذا
فقد جاءت فيها فنون شتى من البديع لم تخرج عن سمات البلاغة الأصيلة ،
والبيان الآسر.
وتلك الفنون هي :
1 - المناقضة : وهي - هنا - مناقضة المتكلم غيره في معنى.
فقد ادعت امرأة العزيز أن يوسف عليه السلام راودها عن نفسها.
فنقض هذا المعنى فى قوله : (هِىَ رَاوَدَتْنِي عَن نفْسِي).
2 - الكناية : في قوله أيضاً : (رَاوَدَتْني عَن نفْسي) وحقيقته : طلبت
مني الفحشاء.
والمراودة : أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد ، فقد كان
يوسف عليه السلام عزوفاً عنها فأرادت أن تثنيه عن رأيه لتحقق مقصودها.
3 - النزاهة : لأن في قوله : (راوَدَتْنِي عَن نفْسِي)
بُعداً عن الألفاظ المعيبة . وفيها كذلك الاعتدال في الاتهام
ويبدو هذا جلياً إذا ما قورنت هذه(2/465)
العبارة : بعبارة امرأة العزيز : (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25).
فهي تدل على نفس حاقدة كَائدة مغيظة إذ لم تكتف بمجرد الاتهام.
بل بالغت فيه مقترحة الجزاء : إما السجن ، وإما العذاب الأليم.
4 - جُناس الاشتقاق : وذلك في قوله تعالى : (وَشَهِدَ شَاهِدٌ) لأنهما
يرجعان في اللفظ إلى أصل واحد.
5 - الاستقصاء : وهو في قوله تعالى : (مًنْ أهْلهَا) وصفاً للشاهد ،
وفي هذا مدخل عظيم الأثر في براءة يوسف عليه السلام ،
وإدانة امرأة العزيز.
6 - حسن البيان : لأن المعنى في هاتين الآيتين واضح لا يعوق عنه فهم
ولا يغرب عن طالب.
7 - حسن التفسير : لأن قوله تعالى : (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) ، والآية التي بعدها - كل هَذا تفسير للشهادة
التي أشارت إليهَا العبارة السابقة.
8 - حسن التقسيم : حيث قسَّم قرائن الواقعة إلى قسمين باعتبار ما حدث
من قَد القميص.
9 - المزاوجة : حيث زاوج بين الشرط والجزاء ، فقَد القميص من القُبُل
يترتب عليه صدقها وكذبه . وقَده من الدبر يترتب عليه كذبها وصدقه.
10 - الإيهام : حيث ساوى بين امرأة العزيز ويوسف عليه السلام في احتمال دعوى كل منهما في الصدق والكذب ، والقرائن التي أشار إليها الشاهد تخص دعواها بالكذب . وتثبت الصدق ليوسف عليه السلام.
11 - المقابلة : حيث طابق بين القُبُل والدُبُر ، والصدق والكذب .(2/466)
12 - العكس والتبديل : حيث قدم الصدق مرة وأخره مرة أخرى ، وقدم
الكذب تارة وأخره تارة أخرى.
13 - التمكين : لأن الفاصلة في الموضعين قارة في مكانها لا نافرة
ولا قلقة.
14 - التسهيم : لأن قوله في الآية الأولى : (إن كانَ قَمِيصُهُ) إلى :
(فَكَذَبَتْ) يدل على الفاصلة وكذلك القول في الآية الثانية.
15 - التسجيع : لأن الفاصلتين في الموضعين متماثلتان : " الكاذبين "
" الصادقين ".
16 - لزوم ما لا يلزم : حيث التزم في الفاصلة الياء المكسور ما قبلها وذلك
نلحظه في الموضعين.
17 - الإيجاز : ففى الآيتين لوحظ حذف بعض الكلمات منها : " قال "
قبل : (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِن أَهْلِهَا) وحذف الفاعل في " قد " في الموضعين.
وكان في هذا الحذف من الفخامة والروعة ما فيه.
18 - حسن النسق : حيث رتبت الأجزاء ترتيباً حسناً فبدأ بتكذيب يوسف
لدعوى امرأة العزيز ثم ذكر شهادة الشاهد الذي أيَّده . ثم تفصيل تلك الشهادة وما يترتب عليها في عرض حسن ونسق جميل.
19 - الانسجام : وذلك ظاهر من جزالة الألفاظ ، وجودة السبك والترتيب
المنطقي لأجزاء القضية.
20 - الافتنان : وقد عرفه ابن أبى الإصبع بأن يأتي المتكلم في كلامه بفنين
إما متضادين أو مختلفين ، وقد جاء ذلك ظاهراً في الجمع بين البراءة والإدانة ،
ثم الإدانة والبراءة في قوله تعالى حكاية عن شاهد واقعة امراً : العزيز :
(إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27).(2/467)
ففى الآية الأولى جمع بين براءة امرأة العزيز - فرضاً - وإدانة يوسف عليه
السلام ، وفي الآية الثانيهَ جمع بين إدانتها - حقيقة - ويراءة يوسف عليه
السلام.
وإلى هنا فإننا تناولنا ثلاثة نصوص من القرآن الكريم . وقد أبنا على
طريقتهم ما يحتمله النص من وجوه البديع ، هذه النصوص في جملتها تتكون
من خمس آيات : آيتان من سورة البقرة (26 - 27) ، وآية من سورة هود
(44) ، وآيتان من سورة يوسف (26 - 27).
* *
* صور البديع فيما تقدم :
وكان جملة ما ظهر لنا من فنون البديع فيها - بعد حذف المكرر - واحداً
وأربعين فناً . وهي :
1 - التمثيل
2 - المشاكلة
3 - الإبهام
4 - التوجيه
5 - حسن التقسيم
6 - المقابلة
7 - التعطف
8 - البيان بعد الإبهام
9 - صحة التفسير
10 - النزاهة
11 - التكافؤ
12 - الترشيح
13 - التسجيع
14 - التذييل
15 - حسن النسق
16 - الانسجام
17 - المجاز
18 - الإدماج
19 - التفصيل
20 - ائتلاف اللفظ مع المعنى
21 - حسن الجوار
22 - الإشارة
23 - الإرداف
24 - التعليل
25 - الاحتراس
26 - الانفصال
27 - المساواة
28 - التسهيم
29 - التهذيب
30- التمكن
31 - الإبداع
32 - المناقضة
33 - الكناية.
34 - الجُناس اللفظي
35 - الاستقصاء
36 - المزاوجة
37 - الإيهام
38 - العكس والتبديل
39 - لزوم ما لا يلزم
40 - الإيجاز
41 - الافتنان.
* *
* نتائج مهمة :
والباحث في بديع القرآن مع إطلاق القول به حتى يشمل ما هو من المعاني
والبيان يخرج بعدة نتائج :(2/468)
أولاً : أن العلماء قد اشترطوا لقبول البديع وحسنه وبلاغته شروطا منها :
ألا يكون متكلفا ولا مسرفاً فيه صاحبه ، وأن يُرسَل مع الطبع والسجية
ولا يكون على حساب المعنى.
وبديع القرآن قد تحقق فيه عدم التكلف وكونه لا على حساب المعنى.
أما الشرط الثاني - وهو عدم الإكثار - فلم يتحقق ذلك إذ أن نصوص
القرآن قد اشتملت على كثير من ألوان البديع ، وقد رأينا أن آية هود المذكورة آنفاً قد استخرج منها العلماء أكثر من عشرين فناً من فنون البديع ، ولم تزد كلماتها على سبع عشرة كلمة ، بل إن ابن أبى الإصبع قد استخرج من حرف واحد وهو " ثُمَّ " - في قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُنصَرُونَ) - قد استخرج من هذا الحرف وحده ثمانية فنون بديعية.
* *
* كثرة وجوده :
ومع هذه الكثرة في بديع القرآن لم تجد له إلا بلاغة وحُسناً ، ولم يجرؤ أحد من العلماء والنقاد بتقليل قيمة بديع القرآن ، وما رأيناهم قد استحسنوا فيما سواه ما كثر في القصيدة أو البيت لأن التاريخ والنقد الأدبيين لم يجدا مكثرا
منه أو مسرفاً فيه إلا كان خطؤه أكثر من صوابه وإجادته أقل من رداءته.
ولم يكن الإقلال منه عاصماً من التكلف فيه حتى يكون مع الإكثار عذر
لذلك التكلف . فقد أخطأ المقلُّون كما أخطأ المكثرون.
فمثلاً . . قد ورد في القرآن الكريم أسلوب مراعاة النظير فسلم وحسن ، كقوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6).
وتناول الشعراء هذا الأسلوب فأصابوا وأخطأوا .(2/469)
فقد خطأ نصيب الشاعر الكميت في قوله :
أمْ هَلْ ظعَائِنُ بِالعُليَا رَافِعَة . . . وَإن تَكَامَلَ فِيهَا الدَلُ والشَنَبُ
قال نصيب للكميت : أين الدل من الشنب ، ألا قلت كما قال ذو الرمة :
لمْيَاءُ فِى شَفِتيِهَا حَوة لعَسٌ . . . وَفِى اللثَاتِ وَفِى أنْيَابِهَا الشَنَبُ
فإن الشنب يُذكر مع اللمس ، والدل ئذكر مع الغنج.
وبمثل هذا عاب ابن الأثير قول أبى نواس يصف الديك :
لهُ اعْتِدَالٌ وَانْتِصَابٌ قَدٍّ . . . وَجِلدُهُ يُشْبِهُ وَشْىَ البرَد
كَأَنَّهَا الهِدَابُ فِى الفِرند . . . مَحْدُوبُ الظهْرِكَرِيمُ الجد
لأنه ذكر الظهر وقرنه بالجد . وهذا لا يناسب هذا ، لأن الظهر من جهة الخلق والجد من جهة النسب.
وكذلك خطأه في قوله :
وَقَدْحَلِفتُ يَمِيناً . . . مَبْرُورَة لا تَكْذِب
بِرَبِّ زَمْزَم والحَوضُ . . . وَالصَفَا وَالمِحْصَب
لأن ذكر الحوض مع الصفا والمحصب غير مناسب.
وإنما يُذكر الحوض مع الصراط والميزان.
وجاء التكرار في القرآن فعزب وراق.
كقوله تعالى : (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3).
وقوله تعالى : (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18).(2/470)
وقوله : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10).
وهو على تقاربه تجد له قوة وجزالة وأغراضه : إما المدح ، وإما التهويل وإما
للاستبعاد كما في قوله تعالى : (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ)
. . . إلى غير ذلك من الأغراض التي مرت في مبحثه الخاص.
وهذا التكرار لا يخرج عندهم عما سموه الترديد أو التعطف . أو الجُناس
والمشاكلة . . وقد جاء في الشعر وغيره من كلام الناس فلم يسلم من العيب
إلا فيما قَلَّ.
فمما عيب قول أبى الطيب :
فَقْلقْلتُ بِالسَهْم الذِى قَلقَلَ الحَشَا . . . قَلاَقِل عَيْشٍ كُلهُن قَلاَقِلُ
غَثَاثَةُ عَيْش أن تُغَثُ كرامَتِي . . . وَليْس بِغَثٍ أن تُغَثٌ المآكِلُ
قال ابن سنان معلَقاً عليهما : " فقد اتفق له أن كرر في البيت الأول لفظة
مكررة الحروف فجمع القبح بأسره في صيغة اللفظة نفسها ، ثم في إعادتها
وتكرارها ، واتبع ذلك بغثاثة في البيت الثاني وتكرار " تغث " فلست تجد
ما يزيد على هذين البيتين في القبح ".
وقال أبو تمام :
قَسَمَ الزَمَانُ رُبُوعَها بين الصَبَا . . . وَقَبُولُهَا وَدَبُورُها أثَلاْثَا
وقد أخطأ أبو تمام في ذكر " القبول " مع " الصبا " ، لأن الصبا هي القبول
لذلك عدَّه النقاد غير مفيد.
* * (2/471)
* المبالغة :
وجاءت المبالغة في القرآن قولة جزلة لا تنبو عن ذوق ولا ينكرها عقل.
مثل قوله تعالى : (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ).
ففى هذه الآية مبالغة مقبولة غير منكرة ولا نافرة تصف أثر الخوف وهذا
يصوره زوغان الأبصار لشدة الاضطراب وهذا أمر واقع ، عطف عليه أمر قريب من الواقع هو بلوغ القلوب الحناجر فإن القلب حين يضطرب تظهر آثار اضطرابه فى تهدج الصوت واضطرابه ، والصوت يكون مسموعاً بعد مروره بالحنجرة ، فلذلك ساغ هذا التعبير وقوى به المعنى وحَسُن.
ومثل قوله تعالى : (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) . .
مبالغة في صفاء الزيت.
وقوله تعالى : (إذا أخْرَجَ يَدَهُ لمْ يَكَدْ يَرَاهَا). . مبالغة في تصوير
الظلمة المحيطة به.
وجاءت هذه المبالغة على ألنسة الشعراء فأصابوا وأبعدوا في الخطأ.
قال الأعشى :
فَتىً لو يُنَادىِ الشَمْسَ ألقَتْ قِنَاعَهَا . . . أوِ القَمَرَ السارِي لألقَى المقَالِدَ
فقد غالى في تصوير المعنى فعلق تبذل الشمس على مجالسته لها ، وكذلك
(تخلى القمر الساري عن المقالد مرهون بتلك المجالسة ، وهذه مبالغة موصوفة
بالغلو.
ولم يخل كلامه من التكلف . فقد أثبت للشمس قناعاً وللقمر مقالد
وجوز في جانبهما المنادمة .(2/472)
وقال أبو نواس :
وَأخفْتَ أهلُ الشِرْكَ حَتى أنهُ . . . لتَخَافَكَ النُطفُ التِي لم تُخلقْ
وهذا البيت معيب " لما في ذلك من الغلو والإفراط الخارج عن الحقيقة ".
* *
* صحة التقسيم :
وصحة التقسيم جاء في الكتاب الحكيم على أبلغ وجه ، وأصح منهج كقوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفاً وَطمَعاً).
وقوله تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94).
الآية الأولى : تبين قسمى أثر البرق عند الناس.
والآية الثانية : تبين أقسام الناس يوم العرض ، فهم ثلاثة لا رابع لهم.
فهذه قسمة صحيحة.
وقد أخطأ بعض الشعراء عندما تناولوا هذا الفن . مثل قول البحترى :
قِفْ مَشُوقاً أوْ مُسْعِداً أوْ حَزِيناً . . . أو مُعِيناً أوْ عَاذرِاً أو عَذُولا
قال ابن الأثير : " فإن المشوق يكون حزيناً والمسعد يكون معيناً ، وكذلك
يكون عاذراً . . وكثيراً ما يقع البحترى في مثل ذلك ".
وعابوا قول أبى الطيب :
فَافْخَر فَإن الناسَ فَيكَ ثَلاَثَة . . . مُسْتَعْظِمٌ أوْ حَاسِدٌ أو جَاهِلُ(2/473)
لأن المستعظم يكون حاسداً ، والحاسد يكون مستعظماً ،
ومن شرط التقسيم ألا تتداخل أقسامه بعضها في بعض "
" وأما صحة التقسيم . . فأن تكون الأقسام المذكورة لم يخل بشىء منها ،
ولا تكررت ولا دخل بعضها في بعض ".
و مثَّل للمعيب منه بقول جرير :
صَارَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلثُهُم . . . مِنَ العَبِيدِ وَثُلثٌ مِن مَوَاليهَا
ثم علق عليه قائلاً : فهذه قسمة فاسدة من طريق الإخلال لأنه قد أَخل بقسم
من الثلاثة.
وقيل : إن بعض بنى حنيفة سُئل من أي الأثلاث هو ؟
قال : من الثلث الملغى ".
وهذه لمحة نقد بالغة الدِّقة.
* *
* الإيجاز :
وجاء الإيجاز في القرآن الكريم بقسميه : إيجاز الحذف وإيجاز القصر ، فلم
يبهم معه معنى ولا اختفى معه مراد . كقوله تعالى : (وَاسْأل القَريةَ) ،
وقوله تعالى : (وَجَاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ) ، وقوله تعالى :
(وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) ،
وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) ، وقوله تعالى : (أُولئكَ لهُمُ الأمْنُ) ،
وقوله تعالى : (إنمَا بَغْيُكُمْ عَلى أنفُسِكُم) ،
وقوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ).(2/474)
والقرآن ملىء بمثل هذه الدرر الغوالى مع قوة المعنى ووضوحه وشدة أسره
للأفهام.
وقد تناوله قوم فأصابوا وأخطأوا، فأما ما جاء في القرآن فهو أبلغ منه
وأوجز ، ولعل مضرب الأمثال في ذلك قوله تعالى :
(وَلكُمْ فِى القصَاصِ حَيَاةٌ).
فإذا قورن به قول العرب : " القتل أنفى للقتل " . فإن عبارة القرآن قد
فاقته من عدة وجوه قد عنِىَ العلماء بإفاضة القول فيها.
مع أن هذا القول المصادر عن العرب كانوا يعدونه أبلغ ما قيل في معناه.
* *
* نصوص معيبة :
على أن كثيراً من الشعراء قد أوجزوا فأخلُوا ، وشرط بلاغة الإيجاز وضوح
المعنى . . من ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود :
أعَاذلُ عَاجِلُ مَا أشْتَهِى . . . أحَبُ مِنَ الأكْثَرِ الرَائِثُ
لأنه أراد : عاجل ما أشتهى مع القِلة أحب إلى من الأكثر البطيء ، فترك
"مع القلة " وبه تمام المعنى.
ومنه قول عروة بن الورد :
عَجِبْتُ لهُمْ إذْ يَقْتُلُونَ نُفَوسَهُم . . . وَمَقْتَلهُم عِنْدَ الوَغَى كَانَ أعْذَرُ
لأنه أراد أن يقول : عجبتُ لهم إذ يقتلون نفوسهم في السلم وقتلهم فى
الحرب أعذر ، فترك " في السلم " وبه تمام المعنى كذلك .(2/475)
وكذلك قول الحارث بن حلزة :
والعَيْشُ خَيْر فِى ظِلالِ النَوْكِ . . . مِمنْ عَاشَ كدَّا
أراد : العيش الناعم في ظلال الجهل خير من العيش الشاق في ظلال
العقل . .
والوجه الذي يُقرب هذه الأمثلة الثلاثة إلى الصواب أنه يمكن أن يقال :
إن دليل الحذف فيها ما قابل المحذوف.
فقوله : " ومقتلهم عند الوغى " دليل " في السلم " المحذوف ، وإلا لخرج الكلام مخرج الآحاجى والألغاز ، ولما استحق أن يدخل في باب الأدب.
* *
* بين القرآن والناس :
ولو أننا تتبعنا سائر فنون البديع بمعناها العام لوجدنا أمثلتها في القرآن
لا تخرج عن البلاغة الأصلية مع الوفاء بحق المعنى ، وحق اللفظ.
فليس فيه إحسان في موضع وإساءة في آخر ، بل هو على وتيرة واحدة فى
جميع فنونه وطرق تعبيره ، وهذا هو الفرق الذي رمناه بين بديع القرآن وبديع
الناس فالناس - شعراؤهم وناثروهم - إذا أكثروا من استعمال البديع لم يسلم لهم منه إلا القليل ، وإذا لم يكثروا منه - وهذا شرط قبوله - فإنهم ليسوا فى مأمن من السقوط والكلفة ، كما وقع لبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبى تمام ، وكما وقع للمتأخرين منهم حينما أسرفوا وغالوا في السعى وراء البديع فضعف معه المعنى أو زال من أساسه كبديع الزمان الهمذانى وصفى الدين الحلي ، وغيرهما من عشاق البديع ومصروعيه .(2/476)
والبديع في القرآن فِطري جرى مع طبيعة الأسلوب ولم يُصرْ إليه إلى حلية
لفظ أو تزويق عبارة ، وهو فيه سمة من سمات إعجازه وحسنه سواء أكان راجعاً إلى المعنى أو راجعاً إلى اللفظ وحسنه ذاتي لا عرضي ، ولو ذهبنا ننحى ما جاء من بديع القرآن عن أصالة أسلوبه وروعة معانيه ، لذهبنا بشطر الحُسن فيه لقوة صوره وأصالة وروده فيه ، وقد تقدم لنا أن كثيراً من فنون البديع من صميم طرق التعبير في القرآن الكريم - كالمطابقة - لأنه كثيراً ما يقارن بين أنواع متضادة أو كالمتضادة ، والمشاكلة والسجع . . . وما إلى هذه الألوان الآسرة.
* *
* ملاحظتان مهمتان :
على أن هنا ملاحظتين إحداهما ترجع إلى البديع بعامة ، والثانية ترجع إلى
بديع القرآن بخاصة.
أما ما ترجع إلى البديع بعامة . . فإنه فن في حاجة إلى الإنصاف وإعادة
النظر ، ونحن هنا أمام طريقين :
إما أن نطلق كلمة " البديع " على فنون البلاغة جميعاً ، وإما أن نرد كل
حق إلى نصابه ، فنرد ما للمعاني للمعاني ، وما للبيان للبيان - مما يدرس
ضمن فنون البديع - ولو فعلنا ذلك لما بقى شىء يمكن أن يُطلق عليه بديعاً ،
لاختلاس هذه الفنون من علمي المعاني والبيان ، إلا فيما ندر.
وأما ما يتعلق ببديع القرآن . . فإن بعض الباحثين مسرف في إثبات الألوان
كما فعل ابن أبى الإصبع في كتابه الموسوم " بديع القرآن " مثل التفويف
والتنكيت والانفصال ، والتردد والاطراد ، فإن إدراك جمال التعبير في القرآن
لا يحتاج إلى أكثر من الذوق وصفاء النفس فلا داعي لكثرة التلقيب والتنويع.
والحمد لله في الأولى والآخرة . .
* * *(2/477)
قائمة المصادر والمراجع
للجزء الثاني(2/478)
1 - بديع القرآن - ابن أبى الإصبع العدوانى.
2 - البرهان في علوم القرآن - الزركشي.
2 - بحث جديد في القرآن - محمد على صبيح.
2 - البحر المحيط - أبو حيان الأندلسي.
2 - البلاغة التطبيقية - د . أحمد إبراهيم موسى.
2 - البلاغة تطور وتاريخ - د . شوقى ضيف.
2 - البيان والتبيين - الجاحظ.
2 - البيان الأدبي - د . بدوي طبانة.
2 - البيان القرآني - د . رجب البيومى.
2 - تاريخ آداب اللغة العربية - جورجى زيدان.
2 - تأويل مشكل القرآن - ابن قتيبة.
3 - تحرير التحبير - ابن أبى الإصبع.
3 - التصوير الفني في القرآن - سيد قطب.
3 - التفسير البياني - بنت الشاطئ (عائشة عبد الرحمن).
3 - تفسير جزء عم - محمد عبده (الإمام).
3 - تفسير الجواهر - طنطاوى جوهرى.
3 - التفسير الكبير - الرازى.
3 - تفسير المنار - رشيد رضا.
3 - الجامع لأحكام القرآن - الإمام القرطبى.
3 - جواهر الألفاظ - قدامة بن جعفر .(2/479)
3 - حاشية السيد على المطول - السيد الشريف.
4 - حاشية الصبان على الأشمونى - الصبان.
4 - حاشية عبد الحكيم على المطول - عبد الحكيم السيالكوتى.
4 - الحُجة في القراءات - أبو على الفارسى.
4 - حجج النبوة - الجاحظ.
4 - حول إعجاز القرآن - د . على العمارى.
4 - الحيوان - الجاحظ.
4 - خزانة الأدب - الحموى.
4 - الخصائص - ابن جنى.
4 - ديوان ابن الرومى - ابن الرومى.
4 - دائرة المعارف الإسلامية
5 - دُرة التأويل - الخطيب الإسكافي.
5 - دلائل الإعجاز - الإمام عبد القاهر الجرجاني.
5 - روح الاجتماع - جوستاف لوبون.
5 - زهر الآداب - الحصرى.
5 - سر الفصاحة - ابن سنان الخفاجى.
5 - شذرات الذهب - ابن العماد.
5 - شروح التلخيص - سعد الدين التفتازاني وآخرون.
5 - الشعر والشعراء - ابن قتيبة.
5 - الشفا في التعريف بحقوق المصطفى - القاضي عياض .(2/480)
صبح الأعشى - القلقشندى.
الصبغ البديعى - د . أحمد إبراهيم موسى.
الصناعتين - أبو هلال العسكرى.
الطراز - العلوى.
الظاهرة القرآنية - مالك بن نبى.
العِقد الفريد - ابن عبد ربه.
عقود الجمان - جلال الدين السيوطي.
علم اللغة - د . على عبد الواحد وافى.
العمدة في صناعة الشعر ونقده - ابن رشيق.
التفكير فريضة إسلامية - عباس محمود العقاد.
الفلسفة اللغوية - جورجى زيدان.
الفلك الدائر على المثل السائر - ابن أبى الحديد.
فن الإسجاع - الأستاذ على الجندى.
فن التشبيه - الأستاذ على الجندى.
فن الجُناس - الأستاذ على الجندى.
الفهرست - ابن النديم.
الكشاف - الزمخشري.
كسُف الظنون - حاجى خليفة.
الكامل - المبرد.
الكتاب - سيبويه .(2/481)
لسان العرب - ابن منظور.
اللغة بين المفرد والمجتمع - محمد عبد الرحمن أيوب.
اللغة الشاعرة - عباس محمود العقاد.
اللغة العربية وطرق تدريسها - الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد.
المثل السائر - ابن الأثير.
محاضرات في الأدب - د . سليمان ربيع.
محاضرات في البلاغة - د . محمود فرج العقدة.
المطول - سعد الدين التفتازاني.
معالم النقد الأدبي - د . عبد الرحمن عثمان.
معترك الأقران في إعجاز القرآن - جلال الدين السيوطي.
المعجزة الكبرى - الإمام محمد أبو زهرة.
مفتاح العلوم - أبو يعقوب السكاكي.
المغنى عن كتب الأعاريب - ابن هشام.
المغنى في أبواب التوحيد والعدل - القاضي عبد الجبار.
مفردات القرآن - الراغب.
المفضليات - الضبى.
المقدمة - ابن خلدون.
مقدمة تلخيص البيان - عبد الغنى حسن.
مقدمة الظاهرة القرآنية - الأستاذ محمود شاكر.
المناهج الجديدة في تفسير آيات الله المجيدة - د . عبد الغنى الراجحي(2/482)
99 - مناهل العرفان في علوم القرآن - الشيخ عبد العظيم الزرقانى.
100 - من بلاغة القرآن - د . أحمد بدوي.
101 - من حديث الشعر والنثر - د . طه حسين.
102 - المنهج الحديث - د . عبد الغنى الراجحي.
103 - الموازنة - الآمدى.
104 - الموشح - الرقدانى.
105 - النبأ العظيم - د . محمد عبد الله دراز.
106 - النحو الوافى - د . عباس حسن.
107 - نسمات من عبير الأدب - د . محمد سرحان.
108 - النقد الأدبي - أحمد أمين.
109 - النقد الأدبي - سيد قطب.
110 - النقد الأدبى - د . محمد غنيمى هلال.
111 - النقد المنهجي عند العرب - د . محمد مندور.
112 - نقد الشعر - قدامة بن جعفر.
113 - الوساطة - القاضي على بن عبد العزيز الجرجاني.
* * *(2/483)