ختم الأولياء
تأليف
الإمام الزاهد أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن
الحكيم الترمذي
المتوفى بعد سنة 318 هـ
وضع حواشيه
الشيخ عبد الوارث محمد علي
دار الكتب العلمية
الطبعة الأولى
1420 هـ - 1999 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
(مقدمة المصنف)
قال الإمام أبو عبد الله، محمد بن علي بن الحسن بن بشر، الحكيم الترمذي، رحمه الله: الحمد لله، رب العالمين وصلى الله على محمد النبي وعلى آله أجمعين.
أما بعد: فإنك ذكرت البحث في ما خاض فيه طائفة من الناس في شأن الولاية؛ وسألت عن شأن الأولياء ومنازلهم وما يلزم من قبولهم. وهل يعرف الولي نفسه أم لا؟ وذكرت أن ناساً يقولون: أن الولاية مجهولة عند أهلها. ومن حسب نفسه ولياً وهو بعيد عنها.
فاعلم أن هؤلاء الذين يخوضون في هذا الأمر، ليسوا من هذا الأمر في شيء. إنما هم قوم يعتبرون شأن الولاية من طريق العلم، ويتكلمون بالمقاييس وبالتوهم من تلقاء أنفسهم؛ وليسوا بأهل خصوص من ربهم؛ ولم يبلغوا منازل الولاية ولا عرفوا صنع الله. إنما كلامهم في الصدق، ومعيارهم في الأمور الصدق. فإذا صاروا إلى المنن انقطع كلامهم، وعجزوا عن معرفة صنع الله بالعبد. لأنهم عجزوا عن معرفته، ومن عجز عن معرفة الله تعالى كان عن معرفة صنايعه أعجز. فلذلك يصير كلامه جزافاً في العاقبة.
الفصل الأول ولي حق الله
والأولياء عندنا على صنفين: صنف أولياء حق الله، وصنف أولياء الله. وكلاهما يحسبان أنهما أولياء الله.
فأما ولي حق الله فرجل أفاق من سكرته. فتاب إلى الله تعالى، وعزم على الوفاء لله تعالى بتلك التوبة. فنظر إلى ما يراد له في القيام بهذا الوفاء فإذا هي حراسة هذه الجوارح السبع: لسانه وسمعه وبصره ويده ورجله وبطنه وفرجه. فصرفها من باله، وجمع فكرته وهمته في هذه الحراسة، ولها عن كل شيء سواها، حتى استقام. فهو رجل مؤدي الفرائض حافظ للحدود، لا يشتغل بشيء غير ذلك. يحرس هذه الجوارح حتى لا ينقطع الوفاء لله تعالى بما عزم عليه. فسكنت نفسه، وهدأت جوارحه.(1/5)
فنظر إلى حاله، فإذا هو على خطر عظيم: لأنه وجد نفسه بمنزلة شجرة قطعت أغصانها والشجرة باقية بحالها. فما يؤمنه أن يغفل عنها قليلاً فإذا الشجرة قد بدت لها أغصان كما كان بدياً، فكلما قطعها خرج مكانها مثلها. فقصد الشجرة ليقطعها من أصلها، ليأمن من خروج أغصانها، فقطعها. فظن أنه قد كفى مؤنتها، فإذا أصلها قد بدت منه أغصان؟ فعرف أنه لا يخلص من شرها دون أن يقلعها من أصلها. فإذا قلعها من أصلها استراح.
فلما نظر هذا العبد إلى جوارحه قد هدأت، التفت إلى باطنه؛ فإذا نفسه محشوة بشهوات هذه الجوارح. فقال: إنما هي شهوة واحدة، أبيح لي منها بعضها وحظر على بعضها: فأنا في خطر عظيم! أحتاج أن أحرس بصري حتى لا ينظر إلا المباح: فإذا بلغ المحظور عليه غمض وأعرض وكذلك اللسان وجميع الجوارح. فإذا غفلت ساعة عن الحراسة، رمتني في أودية المهالك. فلما وقع في هذا الخوف، ضيقت عليه المخافة جميع الأمور، وحجزته عن الخلق، وأعجزته عن القيام بكثير من أمور الله، عز وجل. وصار ممن يهرب من كل أمر، عجزاً منه وخوفاً على جوارحه من نفسه الشهوانية.
فقال في نفسه: قد اشتغل قلبي بحراسة نفسي في جميع عمري، فمتى أقدر أن أفكر في منن الله وصنائعه؟ ومتى يطهر قلبي من هذه الأدناس؟ فإن أهل اليقين يصفون من قلوبهم أموراً، أنا خلو منها! فقصد ليطهر الباطن، بعدما استقام له تطهير الظاهر. فعزم على رفض كل شهوة في نفسه لهذه الجوارح السبع، مما أطلق أو حظر عليه. وقال: إنما هي شهوة واحدة، تطلق لي في مكان وتحظر علي في مكان. فلا خلاص منها، حتى أميتها من نفسي وحسب إن رفضها إماتتها! فعلم الله صدق الرفض من عبده وماذا يريد.
فافترقت الإرادة ههنا. فمنهم من صدق الله في رفضه ليطهر مناه، ويلقاه بصدقه وطهارته لينال ما وعد الصادقين من ثواب جهدهم. ومنهم من صدق الله في رفضه ليلقاه بخالص العبودية غداً، فتقر عينه بلقائه. ففتح لهذا الطريق إليه، وترك الآخر على جهده، واقتضائه ثواب الصدق يوم لقائه.
فأما الذي فتح له الطريق إليه، فهذا الذي ذكره في تنزيله {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} فلم فتح له الطريق إليه أشرق النور في صدره، فأصاب روح الطريق، فوجد قوة على رفض الشهوات، فازداد رفضاً وهجراناً. فزيد له في الروح،(1/6)
لأنه كلما رفض شيئاً نال من ربه عطاءً من روح القربة؛ فازداد قوة. فقوي على الرفض، حتى مهر في الطريق، وحذق بصراً بالسير إلى الله تعالى. فعلم أنه إذا رفض شهوة الأكل، ينبغي له أن يرفض شهوة اللباس؛ فإذا رفضها، ينبغي له أن يرفض شهوة الشراب، فإذا رفض هذه الأشياء، رفض شهوة السمع والبصر واللسان واليد والرجل. فلا ينطق إلا بما لا بد منه، ولا يسمع إلا إلى ما لا بد منه، ولا ينظر إلا إلى ما لا بد منه، ولا يمشي إلا إلى ما لا بد منه. فيلزم العزلة حسماً لهذه الأبواب، وإماتة لهذه الشهوات. فازداد قرباً وانشرح صدره. والخطر العظيم ههنا! (والسالكون) بين معصوم ومخذول. وذلك أن من زلت قدمه في هذا الطريق، فمن ههنا زلت، ومن ههنا خذل. فاحذرك هذا الباب!
قال له قائل: وكيف ذلك؟
قال: من أجل أنه لما عمت أنوار العطاء في قلبه، واتسع قلبه وانشرح صدره فرحت نفسه بخروجها من تلك المضايق إلى فسحة التوحيد. فترك العزلة لهذه الجوارح، وأخذ ينطق بما فتح الله له من شأن هذا الطريق، ومما تراءى له من الحكم والفوائد وعلم الطريق. وخالط الناس على ذلك. فأكرم وبجل. فقبل إكرامهم وتبجيلهم. ثم أعطى على ذلك فقبل نوالهم. خدعته نفسه فانخدع لها. وموهت عليه فقبل تمويهها. وانبعثت عليه الدنيا عفواً لا صفواً!
فوثب هذا الأسد المتماوت وثبة من حينه فركب عنقه. وذلك (أنه) لما أصاب تلك اللذات، التي كانت زالت بالفطام عنها، استيقظ. فصارت (نفسه) بمنزلة السمكة، التي انفلتت من الشبكة: فهي أشد غوصاً واضطراباً لا تأمن على نفسها أن تؤخذ. فصارت النفس كذلك منفلتة من شبكة صاحبها، فهي أشد وأصعب من أن يظفر بها. فاحذر هذا الباب! فإني رأيت وعاينت كل من أفسد طريقه، وأدبر ناكصاً على عقبيه، فمن ههنا سقط وزلت قدمه. فلم يزالوا في ذل وصغار، قد نفتهم قلوب الصادقين، ومقتهم جمهور العلماء.
وذلك أنهم هراب متصنعون، لا هم يتوبون من هذا الأمر ويتطهرون ويصحون ويستقيمون في سيرهم؛ ولا تسمح نفوسهم بأن يصيروا إلى أعمال الأركان، لأن فيه مشقة وضيقاً، وقد كانوا أصابوا الروح والسعة. فلا قلوبهم مشغولة بحق الله، ولا أبدانهم مشغولة بعبادة الله. وقد عطلوا الأركان عن العبادة، وعطلوا القلوب عن السير إلى الله عز وجل، وقطع مسافة المنازل. فصاروا ضحكة الشيطان، وبرم القلوب، وثقلاً على الفؤاد. يسيحون في البلدان، يخدعون الضعفاء والجهال والنساء عن دنياهم. ويأكلون بما يبدون من الزهد،(1/7)
والسمت الحسن، وكلام الرجال. تراهم الشهر والدهر في الاحتيال والاصطياد. ويجرون المنافع بالرقى، ويباشرون الأعمال على المنى، ويتخيرونها على العمى!
فالكيس أدركه التوفيق من ربه. فثبت ههنا عندما جاشت الحكم في صدره، وراودته نفسه على مخالطة الخلق؛ تزعم له بخداعها أنه قد أصاب من القوة ما يباشر هذه الأمور. فيرجع بعقله عليها، فيقول: كيف آمنك على أمور، وأنت معروفة بالخيانة، ومعك آلة الخيانة، التي تدعى شهواتك؟ ويعزم على إلا يقضى شهواتها ومنيتها. فأيده الله تعالى، وثبت ركنه. وعزم على تجنب هذه الشهوات كلها، ما ظهر منها وما بطن. حتى إذا مر في عزمه، فاستفرغه وبلغ الغاية من ذلك (و) ظن أنه قد أماتها، فإذا هي بمكانها! وذلك أنه بلغ الغاية في روض شهوات الدنيا، وبقيت لذة الطاعات والنفس حية بمكانها.
فمن ههنا زلت أقدام طائفة منهم. فقالوا في أنفسهم. أنقعد فراغاً هكذا، نبطل أعمالنا في القعود معطلين؟ بل ننغمس في أعمال البر، فكل ما زدنا منه، ازددنا به قربة إلى الله تعالى. فيقال لهم: هذا (هو) الداء الدفين فيكم، وأنتم به جاهلون! متى وجدت نفسك لذة الطاعات وحلاوتها فأجبتها صرت مفتوناً بها. فتأمل هذا المكان، فإن فيه مسرحاً من مسارح النفس ومصيدة من مصايد الشيطان. وأعوذ بالله ممن يصير مفتوناً بالطاعة!
أما بلغك الخبر، عن جريج الراهب، حيث نادته أمه وهو في الصلاة، فآثر الصلاة على إجابة أمه - فلقي ما لقي من البلاء؟ وهكذا تكون فتنة الطاعة. وهل تكون الفتنة إلا من وجود النفس لذة الشيء؟ فكيف يطمح قلبك أن يصل إلى الله تعالى، مع شهوة النفس؟ فإن شهوة النفس هي الدنيا! إن هذا لحمق! والجهل قد يبلغ بصاحبه منازل الحمقى.
ويقال لمثل هذا المفتون، بمثل هذا القول: متى تتخلص من لحظات نفسك إلى جهدك، وأعمال برك، حتى لا تكون معتمداً عليه؟ والمعتمد على عمله متى يفلح؟ وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم ، يقول: ((إنه ليس أحد منكم ينجيه عمله. قالوا: ولا أنت، يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)).
قال له قائل: فماذا يصنع إن لم يعمل نفسه في الطاعات؟(1/8)
قال: يؤدي الفرائض، ويحفظ الحدود. فليس في هذا الشغل، أن قام به، ما يعجزه عن سائر الأشياء. وأي عبودة أشرف من هذا؟ وهل ألزم الله العباد إلا بهذا؟
قال له قائل: فهل يضره إن هو اشتغل بهذه الطاعات؟
قال: وأي ضرر بأكثر من سائر إلى الله تعالى، وقف على بعض عبيده، أو على شيء من خلقه، يلتذ به؟ أليس هذا مما يقف به عن السير؟ أرأيت لو أن أمير المؤمنين دعا بعض قواده ليقربه ويخلع عليه ويحبوه؟ فسار إليه هذا القائد؛ فلما بلغ بعض الطريق، عمد إلى موضع منزه، حلى لصدره لنزاهته، فأخذ يبني له هناك قصراً. هل يقع ذلك من أمير المؤمنين؟ واحتج (القائد) بأن قال: أبني هذا القصر، لأ تقرب به إليه. أليس هذا، عند أهل العقل، من الحمق؟ وما خطر هذا القصر، عند أمير المؤمنين؟ وأين هذا من ملكه إنما دعاك ليقربك، ويظهر مكنون ما عنده لك. فما اشتغالك بهذا؟ قال (القائد): لأزداد عنده قربة! فسمع أمير المؤمنين بذلك، فازدرى عقله، وقال: أحسب هذا إنما دعوته لأقربه بما سلف منه إلي؟ فوجد عليه من ذلك، وقال: اكتساب الجاه عندي أن تسير إلي عندما بلغتك دعوتي؛ فتنال محل القربة؛ لا باشتغالك ببناء القصر لي.
فإذا كانت هذه المعاملة، فيما بين العبيد، في الدنيا هكذا - فكيف بمعاملتك مع رب العزة على هذا السبيل.
الفصل الثاني (دعوة الحق وإجابة العبد)
إن الله تعالى دعا العباد، فقال: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} فأجابته طائفة بأن آمنوا به، وخلطوا في عمل الأركان. فقيل لهم: لكم، بما أجبتم، حياة القلوب توحيداً. ثم تقدمت طائفة أخرى، أمام هذه الطائفة؟ فأخلصوا العمل لله، وتطهروا من التخليط فقيل لهم: لكم، بما أجبتم، حياة الأركان طاعة وتسليماً. ثم تقدمت طائفة أمامها؛ فأخلصوا القلوب، وتطهروا من شهوات النفوس وأعمال الهوى. فقيل لهم: لكم، بما أجبتم، حياة النفوس الشهوانية انقياداً لما يأتي به القلب، ويرد عليه من اليقين. ثم تقدمت طائفة أخرى أمامها، تتقرب إليه. فقيل له: لكم، بما أجبتم، حياة القلوب والنفوس جميعاً!
فهذه أربع طبقات. كل طبقة إنما تعطي من هذه الحياة، التي وعد الله بها، على قدر استجابتها لدعوته. فإن موت القلوب من شهوة النفس. فكلما رفض شهوة نال من الحياة بقسطه. فيقال لهذا السائر إلى الله، عز وجل: إنك لن تنال الوصول إليه، ومعك مشيئة(1/9)
لنفسك. الوصول إليه من أعظم المشيئات! فأنت باق حتى ترفض هذا كله. وإنما تباينت أحوال الأولياء، وبعد البون هذا من أجل مشيئة الوصول إليه، والنظر إلى جهدهم. وسأبين ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى!
فالطبقة الأولى سارت قليلاً. فلما وجدت روح القربة ظنت أنها قد أصابت القوة كلها؛ فتبحبحت في شهوات النفس: من الضيافات واتخاذ الأخوان وبقبقة الكلام خالياً مما يأتي به. حتى استولت على رياسة، في قرية أو ناحية من النواحي؛ أو على طائفة من هؤلاء الزمنى، بين جهال وفتيان ونساء. فاستطابت طمح تلك الأبصار إليها، وتعظيمهم لها، وبرهم بها. فهذه ثمرة سيرها: ظاهرها تخليط، وباطنها مزبلة. فهؤلاء قتلى هذا الطريق.
الطبقة الثانية سارت قليلاً. ثم عرجت على الطاعات تلتذ بها حتى أدتها إلى العبادة الظاهرة. فبقيت وفي نفسها مكامن الفتن كالسيل والليل؛ مثل التعظيم لأمرها، والإعجاب بنفسها، والكبر والتيه والنخوة والتصنع والمداهنة والطمأنينة إلى قبول الناس لها، ورضاهم بمذهبها. فأذنها مصغية إلى ثناء الناس عليها، والفرح بمدحهم لها. وخوف سقوط منزلتها عندهم لازم لقلبها. تتراءى لهذا، وتعتذر وتتملق لهذا. عامة أمرها على الختل والمخادعة، تبقياً على أحوالها، التي هي نزهة نفسها. فإن ذكرت الآخرة وشدائدها، ذكرت أعمالها التي تعمل أركانها جهداً، فطابت نفسها. وهل تطيب نفسها إلا من ركونها إليه؟ متى عرفت هذه ربها، حتى تطمئن إلى أعمال خرجت من أركان دنسة وقلب كدر وإيمان سقيم؟
والكيس فتح له الطريق. فسار إلى الله تعالى، لا يعرج يميناً ولا شمالاً. فعف عن شهوات المعاصي، ثم عف عن شهوات الحلال، كما عف عن شهوات الحرام. ثم عف عن شهوات الطاعات، وتخير الأحوال كما عف عن الحرام. ثم عف عن كل مشيئة خطرت بباله، كما عف عن هذه الأشياء. يقول في نفسه: إن حجابي، بيني وبين ربي، نفسي، فما دامت معي مشيئة فنفسي قائمة بين يدي، تحجبني عن ربي.
فهذا عبد مسدد موفق! فما زالت به أمواج المجاهدة، ترفعه وتحفظه. فكلما وجد من عمل لذة فارقه وتحول إلى غيره، حتى مل وأجهد. فرفض العمل كله، وقعد حارساً لقلبه من لصوصية هذه النفس.
فقال له قائل: وكيف يحرسه؟ وما لصوصية النفس.
قال: إن الصدر ساحة النفس والقلب. فللقلب في هذه الساحة باب، وللنفس باب. فإذا دخل العطاء من الله في الصدر فإنما هو للقلب. وثارت النفس لتأخذ نصيباً من حلاوة العطاء، فإن أخذت بغلبتها نصيبها لم يقدر الحارس على منعها. فإذا أرادت أن تعمل أعمال البر، بما أصابت من العطاء، منعهما من العمل. فهذا موضع الزلل.(1/10)
فالجاهل بهذا الطريق لما أصابت النفس حلاوة العطاء، استقرت بصاحبها، فدعته إلى عمل الأركان، وهي خائنة لما فيها من الشهوات. فإن تركها صاحبها وما استقرت به أفسدت نصيبها من العطاء له بشهواتها. فهذا الحارس لهذا الطريق، بغاية الشغل فكيف يصل إلى عمل الأركان؟ أليس عمل الأركان، على ما وصفناه، بطالة؟ فلا تعبأن بهؤلاء البطالين، ولا يغرنك تماوتهم وسمتهم، فإن عامتهم هراب، وعبيد أباق!
فما زال ذلك دأب هذا الصادق، في سيره إلى الله تعالى. يمنع نفسه لذة الحلال، ولذة الطاعات، ولذة العطاء. ومع ذلك، يجاهد نفسه في تصفية الأخلاق الدنيئة: مثل الشح والرغبة والمذمة والجفوة والحقد، وأشباه ذلك. فإن الشح والرغبة والحقد والجفوة من قدر النفس. وهو دائب في هذا السير. فأي عبادة تفوق هذا؟ حتى إذا استفرغ مجهوده من الصدق، ولم يبق للحق قبله اقتضاء، التفت إلى نفسه فوجدها كما كانت بدياً، فيها تلك الهنات موجودة.
قال له قائل: وما تلك الهنات؟
قال: الفرح بالأحوال عند الخلق، والطلب للمنازل العلية عند الله. ومع هذا الفرح بالأحوال يطلب عندهم المنازل في مكامن نفسه، ركوناً إلى الحياة وتنسماً لروحها، ولقاء الأخوان، والبطر في المواضع التي هي مطمأن النفس من بقاع الأرض. بمنزلة سمكة يريد صاحبها أن يميتها، فيلقيها على التراب، فهي تضطرب فيه، قد أزف منها الموت. ثم يشفق عليها صاحبها، فيغطها في الماء غطاً ثم يرمي بها إلى اليبس. ثم لما أزف منها الموت، رش عليها الماء فأحياها: فهذا لعب من صاحبها بها!
فلما استفرغ هذا الصادق مجهوده من الصدق في سيره، على ما وصفت، ووجد نفسه حية معها هذه الصفات تحير وانقطع صدقه. وقال: كيف لي أن أخرج من نفسي حلاوة هذه الأشياء؟ فعلم أنه لا يقدر على ذلك، كما لا يقدر أن يبيض الشعرة السوداء.
وقال: إن هذه نفسي قد أوثقتها بالصدق مني إلى الله؛ فكيف لي إن حللت وثاقها فأبقت وهربت، متى ألحقها؟ فوقع في مفازة الحيرة. فاستوحش، وبقي وحيداً في تلك المفازة. لأنه قد ذهب أنس النفس ولم ينل أنس الخالق. فحينئذ صار مضطراً، لا يدري أيقبل أم يدبر؟ فصرخ إلى الله، يائساً من صدقه، صفر اليدين، خالي القلب من كل جهد. وقال في نجواه: قد تعلم، يا عالم الغيوب والخفيات، إنه لم يبق لعلمي بالصدق، موضع قدم أتخطى به؛ ولا لي مقدرة على محو هذه الشهوات الدنسة من نفسي وقلبي فأغثني!
فأدركته الرحمة، فرحم. فطير بقلبه، من مكانه الذي انقطع فيه، في لحظة؛ فوقف به في محل القربة عند ذي العرش. فوجد روح القربة ونسيمها وتبحبح في فضائها، وفي(1/11)
ساحات توحيده. وذلك قوله عز وجل: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض}.
ينبؤك في هذه الآية، أن وله قلبك إلى صدق نفسك وجهدك يكشف السوء عنك، ولا يجيبك إلى ما دعوته حتى تخلص دعوتك ووله قلبك إلى الله تعالى، الذي أوله القلوب، وحتى تكون مضطراً إليه.
فالمضطر (هو) الذي انقطع زاده وحمولته، وبقي متحيراً في المفازة لا يهتدي إلى الطريق. فهو محروم مغاث. ألا ترى أن الله تعالى أحل للمضطر، في مفازة الأرض، الميتة رحمة له وغياثاً؟ فالمضطر في مفاوز السير إليه أحق بالرحمة والغياث!
وقال: عز اسمه! في تنزليه {وجاهدوا في الله حق جهاده} فحقيقة الجهاد ألا يبقى للصدق موضع قدم يتخطى إليه.
ثم قال: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} والسبل هي الطرق. يعلمهم أن للأولياء طرقاً، فيها تفاوت على أقدار نفوسهم ووقائها واحتمالها لما يرد من العطاء. وإنما هداهم لسبله بصدق المجاهدة. والهدى أن يميل بقلبه، مشتق من تهادى؛ يقال في اللغة: مشى فلان يتهادى، أي يتمايل. ومنه مأخوذة الهدية، لأنها تميل بالقلب إلى صاحبها.
وإنما رحم العبد حين خلصت دعوته؛ وإنما خلصت دعوته حين صار مضطراً ولم يبق له معتمد (يعتمد عليه) ولا ملتفت يلتفت إليه. فأما دعوة رجل إحدى عينيه إلى ربه والأخرى إلى عمله، فما هو مضطر ولا خلصت دعوته. فلما أجيبت لهذا المضطر دعوته، طير من محل الصادقين، في طرفة عين، إلى محل الأحرار الكرام. ورتبت له هناك مرتبة، على شريطة لزومه المرتبة ليعتق من رق النفس، ويكشف عنه السوء، الذي وصفه الله تعالى في هذه الآية.
قال قائل: وما ذلك السوء؟
قال: الذي وصفت بدياً: مما كان يجده في نفسه، ومن تلك الهنات الدنسة، التي لم يقدر أن يمحوها عن نفسه، وإنما يمحوها عنه الله، عز وجل! فقيل له: الزم هذه المرتبة، بقرب الله تعالى! وأنت عتيق من رق النفس حتى تزايلك هذه الهنات، التي في نفسك بما يرد عليك من أنوار القربة فتحرقها فتصير من صفوته، وتصلح له. ووكل به الحق يحرسه. فإن ثبت في مركزه فقد وفى بشرط الله، وإن أخل بمركزه وهرب فهو مخذول، خدعته نفسه الأمارة بالسوء. فانظر أية نفس هذه، حيث تقدر على خدعه وهو في محل الكرام الأحرار؟(1/12)
قال له قائل: وأين محل الصادقين؟ وأين محل الكرام الأحرار؟
قال: محل الصادقين في السماء الدنيا، عند بيت العزة، فهناك محلهم لأنهم عبيد النفوس.
قال قائل: وما بيت العزة؟
قال: حيث نزل القرآن جملة واحدة، في ليلة مباركة، فوضع في بيت العزة، في سماء الدنيا، ثم نزل نجوماً في عشرين سنة، كذلك روي عن ابن عباس رحمه الله!
وأما محل الأحرار الكرام، فالبيت المعمور، في حدود عليين. فوق السماء السابعة. يلجونها ثم يتفرقون منها، على مراتبهم، في عليين إلى العرش، عساكر بعضها فوق بعض، حتى ينتهوا إلى محل الأربعين، حول العرش.
(الفصل الثالث) (ولي حق الله وولي الله)
فهؤلاء كلهم أولياء حقوق الله، وهم أولياء الله يصيرون إلى الله تعالى في مراتبهم. فيحلون بها ويتنسمون روح القرب، ويعيشون في فسحة التوحيد والخروج عن رق النفس. قد لزموا المراتب، فلا يشتغلون بشيء إلا بما أذن لهم فيه من الأعمال. فإذا صرفهم الله من المرتبة إلى عمل أبدانهم حرسهم، فيمضون مع الحرس في تلك الأعمال، ثم ينقلبون إلى مراتبهم. هذا دأبهم.
فمن لم يف منهم بما شرط عليه من لزوم المرتبة، ومضى في عمل من أعمال البر، يحسب أنه قد قوي واستغنى؛ بما ناله من نور القربة فينبغي ألا يكون معطلاً -فقد وقع في الخذلان. لأنه ترك الشرط، ومضى بهوى نفسه.
وإنما شرط عليه لزوم المرتبة، لأن هوى نفسه معه، والأدناس التي وصفت في نفسه. فكيف يجوز له أن يمضي من المرتبة إلى عمل بلا إذن؟ فإنه إذا مضى بلا إذن، لم يكن معه حراس، بل معه هواه وشهواته. فإذا عمل لله تعالى، وهواه معه، أيترك ويخلى سبيله لأنه يرجع إلى مكان القربة، فيقف مع الصفوة في المرتبة؟ إن هذا الحمق عجيب، لمن طمع في هذا! وقد لطخ الحق وعمل بهوى نفسه.
فهذا رجل مخدوع مستدرج يعمل نفسه في أنواع البر، ويزعم أنه إنما خلق للعبودية، وهذه عبودية. فيقال له: إن عبودية الأولياء أصفى من أن تخالطها هنات النفس. وكيف يكون ما تعمل عبودية، وأنت في أوحال النفس وشهواتها وخدعها وأمانيها والتفاتها إلى خيالها؟ فإن احتج بقول الله، عز وجل:(1/13)
{ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}. وقال: أفلا ترى أنه أشار إلى العمل؟ فقل له: احذر هذا ((الكيف))، الذي قاله؛ فإن ((كيف)) هو صفة العمل. أي: لننظر بأي صفة تعملون؟ ولم يقل: لننظر ماذا تعملون.
فإن أردت أن تقوم له بالعبودية، فاجتهد في خروجك من رق النفس إلى رقه، حتى تكون له عبداً، فالعبودية لعبيده، والعبادة لعبيد النفوس. ومن لم يصل إلى الله. عز وجل، في مجالس القربة، حتى تحرق تلك الأنوار جميع ما في نفسه من الأدناس - فهو بعد في الطرق، لا يدري أين هو. وإنما جرأته على الأمور، من بعض أنوار العطاء.
فكيف يخاطر المرء بنفسه، وينخدع لها، ويخالط ويباشر الأمور، التي تتدنس نفسه فيها، وتأخذ بنصيبها؟ ثم يزعم أنه ذو حظ من الله! هيهات!
فهذا رجل لم يصبر على السير، فمله. ولم يرتفع له ما أمل من الوصول إلى الله تعالى. فأقبل على النساك يتصنع بأعمالهم، وينطق بكلام الأولياء، إلى ما لا يعلمه. فكفى بهذا تردياً في آبار المهالك!
(الفصل الرابع) (المسائل الروحانية)
فيقال لهذا المسكين المتحير:
(السؤال الأول) صف لنا منازل الأولياء إذا استفرغوا مجهود الصدق، كم عدد منازلهم؟
(السؤال الثاني) وأين منازل أهل القربة؟
(السؤال الثالث) وأين الذين جاوزوا العساكر، وبأي شيء جاوزوا؟
(السؤال الرابع) وإلى أين منتهاهم؟
(السؤال الخامس) وأين مقام أهل المجالس والحديث؟
(السؤال السادس) وكم عددهم؟
(السؤال السابع) وبأي شيء استوجبوا هذا على ربهم؟
(السؤال الثامن) وما حديثهم ونجواهم؟
(السؤال التاسع) وبأي شيء يفتتحون المناجاة؟
(السؤال العاشر) وبأي شيء يختمونها؟
(السؤال الحادي عشر) وبماذا يجابون؟(1/14)
(السؤال الثاني عشر) وكيف يكون صفة سيرهم؟
(السؤال الثالث عشر) ومن الذي يستحق خاتم الأولياء، كما استحق محمد، صلى الله عليه وسلم ، خاتم النبوة؟
(السؤال الرابع عشر) وبأي صفة يكون ذلك المستحق الملك؟
(السؤال الخامس عشر) وما سبب الخاتم، وما معناه؟
(السؤال السادس عشر) وكم مجالس الملك، حتى يوصل إلى ملك الملك؟
(السؤال السابع عشر) وأين مقام الرسل من مقام الأنبياء؟
(السؤال الثامن عشر) وأين مقام الأنبياء من مقام الأولياء؟
(السؤال التاسع عشر) وأي شيء حظ كل رسول من ربه؟
(السؤال العشرون) وأي اسم منحه من أسمائه؟
(السؤال الحادي والعشرون) وأي شيء حظوظ الأولياء من أسمائه؟
(السؤال الثاني والعشرون) وأي شيء علم البدء؟
(السؤال الثالث والعشرون) وقوله: ((كان الله ولا شيء معه)).
(السؤال الرابع والعشرون) وما بدء الأسماء؟
(السؤال الخامس والعشرون) وما بدء الوحي؟
(السؤال السادس والعشرون) وما بدء الروح؟
(السؤال السابع والعشرون) وما بدء السكينة؟
(السؤال الثامن والعشرون) وما العدل؟
(السؤال التاسع والعشرون) وما فضل بعض النبيين على بعض، وكذلك الأولياء؟
(السؤال الثلاثون): ((وخلق الله الخلق في ظلمة)).
(السؤال الحادي والثلاثون): وما قصتهم هناك؟
(السؤال الثاني والثلاثون) وكيف صفة المقادير؟(1/15)
(السؤال الثالث والثلاثون): وما سبب علم القدر، الذي طوى عن الرسل فمن دونهم؟
(السؤال الربع والثلاثون) ولأي شيء طوى؟
(السؤال الخامس والثلاثون) ومتى ينكشف لهم سر القدر؟
(السؤال السادس والثلاثون) وأين ينكشف لهم؟
(السؤال السابع والثلاثون) ولمن ينكشف منهم؟
(السؤال الثامن والثلاثون) وما الإذن في الطاعة والمعصية من ربنا؟
(السؤال التاسع والثلاثون) وما العقل الأكبر، الذي قسمت منه العقول لجميع خلقه؟
(السؤال الأربعون) وما صفة آدم عليه السلام؟
(السؤال الحادي والأربعون) وما توليته؟
(السؤال الثاني والأربعون) وما فطرته؟
(السؤال الثالث والأربعون) وما الفطرة؟
(السؤال الرابع والأربعون) ولم سماه بشراً؟
(السؤال الخامس والأربعون) وبأي شيء نال التقدمة على الملائكة، حتى أوهم بالسجود له؟
(السؤال السادس والأربعون) وكم عدد الأخلاق التي منحه عطاء؟
(السؤال السابع والأربعون) وكم خزائن الأخلاق؟
(السؤال الثامن والأربعون) وقوله عليه السلام: ((إن لله مائة وسبعة عشر خلقاً)) ما تلك الأخلاق؟
(السؤال التاسع والأربعون) وكم للرسل منها؟
(السؤال الخمسون) وكم لمحمد، صلى الله عليه وسلم ؟
(السؤال الحادي والخمسون) وأين خزائن المنن؟(1/16)
(السؤال الثاني والخمسون): وأين خزائن سعي النفوس؟
(السؤال الثالث والخمسون) ومن أين يعطى الأنبياء؟
(السؤال الرابع والخمسون) وأين خزائن المحدثين من الأولياء؟
(السؤال الخامس والخمسون) وما الحديث؟
(السؤال السادس والخمسون) وما الوحي؟
(السؤال السابع والخمسون) وما الفرق بين النبيين والمحدثين؟
(السؤال الثامن والخمسون) وأين مكانهم منهم؟
(السؤال التاسع والخمسون) وأين سائر الأولياء؟
(السؤال الستون) وما خوض الوقوف؟
(السؤال الحادي والستون) وكيف صار أمره كلمح البصر؟
(السؤال الثاني والستون) وأمر الساعة أقرب من لمح البصر؟
(السؤال الثالث والستون) وما كلام الله تعالى لعامة أهل الوقوف؟
(السؤال الرابع والستون) وما كلامه للموحدين؟
(السؤال الخامس والستون) وما كلامه للرسل، عليهم السلام؟
(السؤال السادس والستون) وإلى أين يأوون يوم القيامة من العرصة؟
(السؤال السابع والستون) وكيف مراتب الأولياء والأنبياء يوم الزيارة؟
(السؤال الثامن والستون) وما حظوظ الأنبياء من النظر إليه تعالى؟
(السؤال التاسع والستون) وما حظوظ المحدثين من النظر إليه؟
(السؤال السبعون) وما حظوظ سائر الأولياء من النظر إليه؟
(السؤال الحادي والسبعون) وما حظوظ العامة من النظر إليه؟
(السؤال الثاني والسبعون) وقوله: ((إن الرجل منهم ينصرف بحظه من ربه فيذهل أهل الجنان عن نعيمهم، اشتغالاً بالنظر إليه؟
(السؤال الثالث والسبعون) وما المقام المحمود؟
(السؤال الرابع والسبعون) وبأي شيء ناله؟(1/17)
(السؤال الخامس والسبعون) وكم بين حظ محمد، صلى الله عليه وسلم ، وحظوظ سائر الأنبياء عليهم السلام؟
(السؤال السادس والسبعون) وما لواء الحمد؟
(السؤال السابع والسبعون) وبأي شيء يثني على ربه، عز وجل، حتى يستوجب لواء الحمد.
(السؤال الثامن والسبعون) وماذا يقدم إلى ربه من العبودية؟
(السؤال التاسع والسبعون) وبأي شيء يختمه حتى يناوله مفاتيح الكرم؟
(السؤال الثمانون) وما مفاتيح الكرم؟
(السؤال الحادي والثمانون) وعلى من توزع عطايا ربنا؟
(السؤال الثاني والثمانون) وكم أجزاء النبوة؟
(السؤال الثالث والثمانون) وما النبوة؟
(السؤال الرابع والثمانون) وكم أجزاء الصديقية؟
(السؤال الخامس والثمانون) وما الصديقية؟
(السؤال السادس والثمانون) وعلى كم سهم ثبتت العبودية؟
(السؤال السابع والثمانون) وما يقتضي الحق من الموحدين؟
(السؤال الثامن والثمانون) وما الحق؟
(السؤال التاسع والثمانون) وماذا بدؤه؟
(السؤال التسعون) وأي شيء فعله في الخلق؟
(السؤال الحادي والتسعون) وبماذا وكل؟
(السؤال الثاني والتسعون) وما ثمرته؟
(السؤال الثالث والتسعون) وما المحق؟
(السؤال الرابع والتسعون) وأين محل من يكون محقاً؟
(السؤال الخامس والتسعون) وما سكينة الأولياء؟
(السؤال السادس والتسعون) وما حظ المؤمنين من قوله {الظاهر والباطن والأول والآخر}.(1/18)
(السؤال السابع والتسعون) وما حظ المؤمنين من قوله: {كل شيء هالك إلا وجهه}.
(السؤال الثامن والتسعون) وكيف خص ذكر الوجه؟
(السؤال التاسع والتسعون) وما مبتدأ الحمد؟
(السؤال الموفى مائة) وما قوله: ((أمين))؟
(السؤال الحادي ومائة) وما السجود؟
(السؤال الثاني ومائة) وما بدؤه؟
(السؤال الثالث ومائة) وما قوله: ((العزة إزاري))؟
(السؤال الرابع ومائة) وما قوله: ((والعظمة ردائي))؟
(السؤال الخامس ومائة) وما الإزار؟
(السؤال السادس ومائة) وما الرداء؟
(السؤال السابع ومائة) وما الكبرياء؟
(السؤال الثامن ومائة) وما تاج الملك؟
(السؤال التاسع ومائة) وما الوقار؟
(السؤال العاشر ومائة) وما صفة مجالس الهيبة؟
(السؤال الحادي عشر ومائة) وما صفة ملك الآلاء؟
(السؤال الثاني عشر ومائة) وما صفة ملك الضياء؟
(السؤال الثالث عشر ومائة) وما صفة ملك القدر؟
(السؤال الرابع عشر ومائة) وما القدس؟
(السؤال الخامس عشر ومائة) وما سبحات الوجه؟
(السؤال السادس عشر ومائة) وما شراب الحب؟
(السؤال السابع عشر ومائة) وما كأس الحب؟
(السؤال الثامن عشر ومائة) ومن أين؟(1/19)
(السؤال التاسع عشر ومائة) وما شراب حبه لك حتى يسكرك عن حبك له؟
(السؤال العشرون ومائة) وما القبضة؟
(السؤال الحادي والعشرون ومائة) ومن الذين استوجبوا القبضة حتى صاروا فيها؟
(السؤال الثاني والعشرون ومائة) وما صنيعهم بهم في القبضة؟
(السؤال الثالث والعشرون ومائة) وكم نظرته إلى الأولياء كل يوم؟
(السؤال الرابع والعشرون ومائة) وإلى ماذا ينظر منهم؟
(السؤال الخامس والعشرون ومائة) وإلى ماذا ينظر من الأنبياء عليهم السلام؟
(السؤال السادس والعشرون ومائة) وكم إقباله على خاصته في كل يوم؟
(السؤال السابع والعشرون ومائة) وما المعية مع الخلق والأصفياء والأنبياء والخاصة، والتفاوت والفرق بينهم في ذلك؟
(السؤال الثامن والعشرون ومائة): وما ذكره الذي يقول: {ولذكر الله أكبر}.
(السؤال التاسع والعشرون ومائة) وما ذكره الذي يقول: {فاذكروني أذكركم}.
(السؤال الثلاثون ومائة) وما معنى الاسم؟
(السؤال الحادي والثلاثون ومائة) وما رأس أسمائه، الذي استوجب منه جميع الأسماء؟
(السؤال الثاني والثلاثون ومائة) وما الاسم الذي أبهم على الخلق، إلا على خاصته؟
(السؤال الثالث والثلاثون ومائة) وبماذا نال صاحب سليمان ذلك، وطوى عن سليمان، عليه السلام، وهو رسول من الرسل؟
(السؤال الرابع والثلاثون ومائة) وما السبب في ذلك؟
(السؤال الخامس والثلاثون ومائة) وماذا اطلع من الاسم: على حروفه أم على معناه؟
(السؤال السادس والثلاثون ومائة): وأين باب هذا الاسم، الخفي على الخلق، من أبوابه؟
(السؤال السابع والثلاثون ومائة) وما كسوته؟
(السؤال الثامن والثلاثون ومائة) وما حروفه؟(1/20)
(السؤال التاسع والثلاثون ومائة) والحروف المقطعة مفتاح كل اسم من أسمائه، فأين هذه الأسماء، وإنما هي ثمانية وعشرون حرفاً، فأين هذه الحروف؟
(السؤال الأربعون ومائة) وكيف صار الألف مبتدأ الحروف؟
(السؤال الحادي والأربعون ومائة) وكيف كرر الألف واللام في آخره؟
(السؤال الثاني والأربعون ومائة) ومن أي حساب صار عددها ثمانية وعشرين حرفاً؟
(السؤال الثالث والأربعون ومائة) وما قوله: ((خلق الله آدم على صورته))؟
(السؤال الرابع والأربعون ومائة) وقوله: ((ليتمنين اثنا عشر نبياً أن يكونوا من أمتي))؟
(السؤال الخامس والأربعون ومائة) وما تأويل قول موسى: ((رب، اجعلني من أمة محمد))؟
(السؤال السادس والأربعون ومائة) وما تأويل قوله: ((إن لله عباداً، ليسوا بأنبياء، يغبطهم النبيون بمقامهم وقربهم إلى الله تعالى))؟
(السؤال السابع والأربعون ومائة): وما تأويل قوله: ((بسم الله)).
(السؤال الثامن والأربعون ومائة) وما تأويل قوله: ((السلام عليك، أيها النبي))؟
(السؤال التاسع والأربعون ومائة) وقوله: ((السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين))؟(1/21)
(السؤال الخمسون ومائة): وما تأويل قوله: ((أهل بيتي أمان لأمتي))؟
(السؤال الحادي والخمسون ومائة): وقوله: ((آل محمد))؟
(السؤال الثاني والخمسون ومائة): والقائم بالحجة؟
(السؤال الثالث والخمسون ومائة) ومن أين يكلم الخلق حتى يقيم حجة الله عليهم -فإن الله تعالى قد أقام الحجة عليهم بالعبودية، وجعل للقائم بها طريقاً إلى محل خزائن الكلام-؟
(السؤال الرابع والخمسون ومائة): وأين خزائن الحجة، من خزائن الكلام، من خزائن علم التدبير؟
(السؤال الخامس والخمسون ومائة) وأين خزائن علم الله، من خزائن علم البدء؟
(السؤال السادس والخمسون ومائة) وما تأويل أم الكتاب؟ - فإنه ادخرها، من جميع الرسل، له ولهذه الأمة؟
(السؤال السابع والخمسون ومائة) وما معنى المغفرة، التي لنبينا وقد بشر النبيين بالمغفرة؟
(الفصل الخامس) (علم الأولياء وعلم الأنبياء)
فهذا وأشباه هذا، هو علم الأنبياء وعلم الأولياء. بهذا العلم يطالعون تدبيره، وبهذا العلم يقومون بالعبودية له. لأنه من كشف له الغطاء عن هذا النوع من العلم، فإنما فتح له في الغيب الأعلى، حتى لاحظ ملك الملك، بعد أن قوم ثم هذب ثم أدب ثم نقى ثم طهر ثم طيب ثم وسع ثم عوذ. فتمت ولاية الله له، وصلح في المجلس الأعلى من مجالس الأولياء، بين يديه. يناجيه كفاحاً، ويلج مجالسه سماحاً، ما له من حاجز، فيرجع من عنده مع الفناء الأكبر، فيقوم به بالعبودية محارصة.
فيقال لهذا البائس: إن كنت خلواً من هذا الذي ذكرناه، وفي عمى عنه، فما دخولك في هذا الباب حتى تكدر الماء الصافي؟ فأي جرم أعظم من جرم رجل يلتقط كلام(1/22)
الأولياء. حرفاً حرفاً. ثم يخلطه فيصوغه حكايات، ثم يرمي بها إلى قوم يتزين بذلك عندهم، فيعمى عليهم طريقهم ويفسد عليهم سيرهم؟
(فهذا البائس)، لا هو عالم بالطريق، ولا بالمكامن في الطريق، ولا بمنتهى القوم ومنازلهم؛ ومن شغله بنفسه، وانخداعه لها، وإصغائه إليها، وستره ذلك عن خلقه. فهو أبداً في الاعتذار والتزين والقصد؛ لما يعلم أنه يكسب بذلك جاهاً عند الخلق. وأعظم المصائب عنده، الوقت الذي يعمل فيه عملاً ينكس به جاهه عند الناس.
فهذا عبد نفسه. فمتى يتفرغ لعبودية ربه؟ ومتى يصلح هذا لله؟ ومتى يصفو طريقه إلى الله تعالى؟
قال له قائل: صف لنا شأن الذين وصلوا، فوقفوا في مراتبهم على شريطة لزوم حفظ المرتبة، وما سبب اللزوم؟ وصف لنا شأن الذين وصلوا فرفعت عنهم الشريطة، وفوضت إليهم الأمور. ومن ولي حق الله؟ ومن ولي الله؟
قال: إن الواصل إلى مكان القربة، رتب له محل، فحل بقلبه هناك، مع نفس فيها تلك الهنات باقية، فإنه إنما ألزم المرتبة، لأنه إذا توجه إلى عمل من أعمال البر، ينال في موضع القربة، ليعتق من رق النفس، ما زجه الهوى ومحبة محمدة الناس، وخوف سقوط المنزلة. فعمله لا يخلو من التزين والرياء، وإن دق. أفيطمع عاقل أن يترك قلبه مع دنس الرياء. والتزين فيحل محل القربة؟
(بل) يقال له: يشترط عليك، مع العتق من رق النفس، الثبات ههنا؛ فلا تصدر إلى عمل بلا إذن. فإن أذناً لك، أصدرناك مع الحراس، ووكلنا الحق شاهداً عليك ومؤيداً لك؛ والحرس يذبون عنك.
قال له قائل: وما تلك الحرس؟
قال: أنوار العصمة موكلة به؛ تحرق هنات النفس ونواجم ما انكمن منها. وكل ما ينجم من مكامن النفس، من تلك الهنات، أحرقته تلك الأنوار، حتى يرجع إلى مرتبته ولم تجد النفس سبيلاً إلى أن تأخذ بحظها من ذلك العمل. فيرجع إلى مرتبته طاهراً كما صدر؛ لم يتدنس بأدناس النفس: من التزين والتصنع، والركون إلى موقع الأمور عند الخلق.
فهذا المغرور المخدوع، لما وجد قوة المحل، ونور القربة، وطهارته، ظن أنه استولى. ونظر إلى نفسه فلم يجد فيها شيئاً في الظاهر يتحرك. ولا يعلم أن المكامن(1/23)
مشحونة بالعجائب! روي عن وهب بن منبه، رحمه الله، أنه قال: ((إن للنفس كموناً ككمون النار في الحجر؛ إن دققته لم تجد فيه شيئاً وإن قدحته أورى ناراً)).
فكان هذا نظراً من الله عز وجل! أن رحمه فنقله، في لحظة، من محل الصادقين إلى محل الصديقين: من بيت العزة، من سماء الدنيا إلى عساكر حول العرش. فذهب (هذا المسكين) لشقاء جده، فقال: أذهب فأطوف في البلاد، وأدعو الناس إلى الله تعالى. وأذهب فأعمل أعمال البر، فإنما خلقت للعبودية.
(ولكن، أيها البائس) هل أجابتك نفسك حين دعوتها، حتى يجيبك الناس؟ وهل صفا قلبك لله عز وجل! حتى تصفو عبوديتك؟ وهل خرجت من رق النفس، حتى تدخل في رق الله، عز وجل! هيهات! هيهات ما أبعدك من الصدق، فكيف من طريق الصديقين؟
قال قائل: ومن أين تلك الأنوار، التي توكل بالحراسة لهذا الذي ثبت في مركزه ولم يصدر عنه إلا بإذن؟
قال: من مجالس الحديث.
قيل: وما مجالس الحديث؟
قال: مجالس المحدثين، أهل الله ونصحاؤه. يحبون أن يصل هؤلاء إلى ما وصلوا. فيقطع لهم قطعة من النور، فيحرسهم ذلك النور، ما داموا في تلك الأمور. فكل ما نجم من هنات النفس، في الصدر، شيء، وقت مباشرتهم تلك الأمور - ثار ذلك الشعاع في صدره فخفي على القلب والنفس ذلك الناجم وبطل، فمر في أمره مستقيماً، غير ملتفت إلى أحد. ثم رجع إلى محله ومركزه نقياً.
وإن صدر عنها بغير إذن، صدر على غرور نفسه، تلذذاً بشهوة نفسه في ذلك العمل، وقلة صبره على لزوم المرتبة. فانصرف بلا حرس، فمدت النفس إليه مخالبها فأعابته، فرجع مخدوشاً محموشاً. ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسل(1/24)
الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها)) وهذا يحقق قولنا بعينه.
فهذا شأن ولي حق الله، وهو مع هذا قد يقال له: ولي الله، لأن الله قد ولي أمره ونقله إلى محل القربة.
(الفصل السادس) (ولي الله)
وأما ولي الله، فرجل ثبت في مرتبته، وافياً بالشروط كما وفى بالصدق في سيره، وبالصبر في عمل الطاعة، واضطراره. فأدى الفرائض، وحفظ الحدود، ولزم المرتبة، حتى قوم وهذب ونقى وأدب وطهر وطيب ووسع وزكى وشجع وعوذ. فتمت ولاية الله له بهذه الخصال العشر. فنقل من مرتبته على مالك الملك. فرتب له بين يديه، وصار يناجيه كفاحاً. فاشتغل به عمن سواه، ولها به عن نفسه، وعن كل شيء. فصيره في قبضته. فأي حصن أحصن من قبضته؟ وأي حارس أشد حراسة من عقله؟
فهذا قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، فيما يرويه عن جبريل عن الله، عز وجل، أنه قال: ((ما تقرب إلي عبدي، بمثل أداء ما افترضت عليه. وإنه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وفؤاده: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي ينطق، وبي يمشي، وبي يبطش)). فهذا عبد خمد عقله بالعدل الأكبر؛ وسكنت حركات الشهوانية لقبضته.
وهو قوله، فيما يروي، حيث قال موسى، عليه السلام: ((يا رب، أين أبغيك؟ - قال: يا موسى، وأي بيت يسعني؟ وأي مكان يحويني؟ فإن أردت أن تعلم أين أنا، فإني في قلب التارك الورع العفيف)).
فالتارك هو الذي تركه بجهده، وفيه بقية؛ ثم من عليه ربه بما وصفناه: فورعه هو ما عليه. ثم عفف فلا يلتفت إلى شيء. فهذا موافق لذلك.
وكلاهما وليا أمر الله بالصدق، حتى ولي الله أمرهما. فالأول خرجت له الولاية من الرحمة: فولي الله نقله من بيت العزة إلى محل منزلة القربة، في لحظة. والثاني خرجت له(1/25)
الولاية من الجود: فولي الله نقله، في لحظة، من ملك إلى ملك حتى مالك الملك. وهو قوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} فالله ولي إخراجهم من ظلمات النفس إلى نور القربة، ثم من نور القربة إلى نوره.
ثم قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ولي الله أمرهم، وولي نصرهم على نفوسهم، فتولوا أيام الدنيا نصرة حقوقه. ثم ولي أخذهم إليه، وضمهم إلى المحل بين يديه، فتولوا دعوة خلقه إليه والثناء عليه.
ثم وصف (عز وجل!) هؤلاء الأولياء، فقال: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} أي: اطمأنوا إليه وكانوا يتقون. أي: يتقون أن يطمأنوا إلى أحد سواه!
(الفصل السابع) (خصال الولاية العشر)
قال قائل: صف لنا الخصال العشر، التي تمت له ولاية الله بها: من التقويم والتهذيب، وسائر الخصال، التي ذكرت.
قال: نعم! أقامه (الله تعالى!) في المرتبة، على شريطة اللزوم لها. فلما وفر له بالشرط، ولم يبغ عملاً في محل القربة نقله- منها إلى ملك الجبروت، ليقوم بجبر نفسه ومنعها بسلطان الجبروت، حتى ذلت وخشعت، ثم نقله منها إلى ملك السلطان، ليهذب، فذابت تلك العزة التي في نفسه، وهي أصل الشهوات، فصارت بائنة عنها. ثم نقله منها إلى ملك الجلال ليؤدب. ثم نقله منها إلى ملك الجمال لينقى. ثم إلى ملك العظمة ليطهر. ثم إلى ملك الهيبة ليزكى. ثم إلى ملك الرحمة ليوسع. ثم إلى ملك البهاء ليربى. ثم إلى ملك البهجة ليطيب. ثم إلى ملك الفردانية ليفرد.
فاللطف يفرده، والرحمة تجمعه، والمحبة تقربه، والشوق يدنيه. ثم يهمله، ثم يناجيه، ثم يبسط له. ثم ينقبض عنه! فأين ما صار فهو في قبضته، وأمين من أمنائه. فإذا صار في هذا المحل، فقد انقطعت الصفات، وانقطع الكلام والعبارات، فهذا منتهى العقول والقلوب!
قال له قائل: فهل للقلوب منتهى؟ فإن ناساً يقولون: أنه لا منتهى للقلوب، لأن القلوب تسير إلى ما لا منتهى له. فكل ولي يزعم أنه قد انتهى إلى مقام لا يتقدمه أحد فهو مخطئ. ومن أين يبلغ عظمة الله، حتى يكون للقلوب منتهى؟
قال: بحق أقول لك، هذا قول أحمق، صاحب كلام ومقاييس. يتفكر في نفسه(1/26)
بأشياء ويتوهمها، ثم يقيسها من تلقاء نفسه. فأحذرك أن تصغي إليه! فإنه ينطق عن لسان الشياطين. وأنا أصف لك هذا الباب لتعرف عواره، إن شاء الله تعالى!
اعلم أن الله، سبحانه، عرف العباد أسماءه. ولكل اسم ملك، ولكل ملك سلطان؛ وفي كل ملك مجلس نجوى وهدايا لأهلها. وجعل الله لقلوب خاصته، من الأولياء، هناك مقامات، (أعني) أولئك الأولياء الذين تخطوا من المكان إلى الملك.
فرب ولي مقامه في أول ملك، وله من أسمائه ذلك الاسم. ورب ولي مقامه التخطي إلى ملك ثان وثالث ورابع. فكلما تخطى إلى ملك أعطي ذلك الاسم؛ حتى يكون الذي يتخطى جميع ذلك إلى ملك الوحدانية الفردانية هو الذي يأخذ بجميع حظوظه من الأسماء. وهو محظوظ من ربه، وهو سيد الأولياء؛ وله ختم الولاية من ربه. فإذا بلغ المنتهى من أسمائه، فإلى أين يذهب؟ وقد صار إلى الباطن الذي انقطعت عنه الصفات؟
وهل تسمى (الله) لأصفيائه، ووصف نفسه لهم، إلا ليخلو (منها)؟ فحظوظ العامة من صفاته إيمانهم بها. وحظوظ المقتصدين وعامة الأولياء المقربين، شرح الصدر لها واستنارة علم تلك الصفات في صدورهم؛ كل على قدره، وقدر نور قلبه. وحظوظ المحدثين، وهم خاصة الأولياء، ملاحظة تلك الصفات، وإشراق نور تلك الصفات على قلوبهم وفي صدورهم. ولذلك قال (تعالى): {هو الظاهر والباطن} فهل الظاهر إلا ما ظهر على القلوب؟ وإنما يظهر بصفاته على قلوب خاصة أوليائه. فإذا انتهت الصفات، صار إلى الباطن الذي لا يدري. فقد استقر القلب. وكلما علم أنه ليس وراء هذه صفة، ووجد هناك محلاً، علم أنه لا يتقدمه أحد.
فسل هذا الزاعم: ما أول أسمائه؟ وما الاسم الذي هو ولي أسمائه؟ فإن كان يعجز عن علم هذا، فكيف لا يخوض فيما هو أولى به؟- و(سله أيضاً): حدثني عن الأنبياء، كيف عرفوا مقاماتهم؟ فإن قال: (عرفوا) هذا بالنبوة، فقل: هذا عرفوه بالولاية: فإن النبوة مع البرهان، والولاية هي البرهان!
أليست السكينة حقاً من الله، ينزلها على أنبيائه وأوليائه؟ فكما صح له (= للنبي). الوحي بالروح، فكذلك يصح الحديث لهذا (= للولي) بالسكينة. وسنوضح هذا، إن شاء الله فيما بعد.
وأما قوله: فإن القلوب تصير إلى ما لا منتهى له، فليس بحجة. وذلك أن القلوب جعل لها مقامات؛ وجعل للمقامات منتهى تصير تلك القلوب إليها. والمقامات أيضاً لا منتهى إليها، ولكن عدد المقامات معلوم منتهاه.
قال (قائل): وما منتهاه (= القلب).(1/27)
قال: الواحد الفرد. فما وراء هذا، مما (لا) تضبطه العقول، هل يقدر أن يرد بشيء؟ فإنما تسير القلوب بعقولها إلى محل يعقل، وإنما يعقل ما ظهر. فإذا انتهى إلى المعلوم، ووقف على من لا يعقل عنه وراء ذلك شيء، وقد بطن عنه، فبأي اسم يدعوه؟ ومن أي ملك يظهر له ويحدثه؟
(الفصل الثامن) (خاتم الأولياء وخاتم الأنبياء)
قال له قائل: وصفت لنا الأولياء، وذكرت أن لهم سيداً، وأن له ختم الولاية، فما هذا؟
قال: نعم، فرغ سمعك، واشحذ عقلك في الافتقار إلى الله تعالى، في درك ما أريد أن أقول لك؛ لعله يرحمك فيرزقك فهمه!
اعلم أن الله، تبارك اسمه! اصطفى من العباد أنبياء وأولياء. وفضل بعض النبيين على بعض: فمنهم من فضله بالخلة، وآخر بالكلام، وآخر بالثناء، وهو الزبور، وآخر بإحياء الموتى، وآخر بالعصمة من الذنوب وحياة القلب، حتى لا يخطئ ولا يهم بخطيئة. وكذلك الأولياء، فضل بعضهم على بعض. وخص محمداً (الأصل: محمد)، صلى الله عليه وسلم ، بما لم يؤت أحداً من العالمين. فمن الخصوصية ما يعمي عن الخلق، إلا على أهل خاصته، ومنها ما ليس لأحد عنه محيص ولا محيد.
وكان الله ولا شيء! فجرى الذكر. وظهر العلم. وجرت المشيئة. فأول ما بدأ، بدأ ذكره.ثم ظهر في العلم علمه. ثم في المشيئة مشيئته. ثم في المقادير هو الأول. ثم في اللوح هو الأول. ثم في الميثاق هو الأول. ثم هو الأول يوم تنشق عنه الأرض. ثم هو(1/28)
الأول في الخطاب. والأول في الوفادة. والأول في الشفاعة. والأول في الجوار. والأول في دخول الدار. والأول في الزيارة. فبهذا ساد الأنبياء عليهم السلام. ثم خص بما لا يدفع: وهو خاتم النبوة. وهو حجة الله، عز وجل على خلقه، يوم الموقف، فلم ينل هذا أحد من الأنبياء.
قال له قائل: وما خاتم النبوة؟
قال: حجة الله على خلقه، بحقيقة قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم} فشهد الله له بصدق العبودية. فإذا برز الديان في جلاله وعظمته، في ذلك الموقف، وقال: يا عبيدي، إنما خلقتكم للعبودة، فهاتوا العبودة! فلم يبق لأحد حس ولا حركة، من هول ذلك المقام، إلا محمداً، صلى الله عليه وسلم . فبذلك القدم (الصدق) الذي له، يتقدم إلى جميع صفوف الأنبياء والمرسلين. لأنه قد أتى بصدق العبودية لله تعالى. فيقبله الله منه، ويبعثه إلى المقام المحمود، عند الكرسي. فيكشف الغطاء عن ذلك الختم، فيحيطه النور وشعاع ذلك الختم يبين عليه. وينبع من قلبه على لسانه من الثناء ما لم يسمع به أحد من خلقه؛ حتى يعلم الأنبياء كلهم أن محمداً، صلى الله عليه وسلم ، كان أعلمهم بالله، عز وجل! فهو أول خطيب، وأول شفيع، فيعطى لواء الحمد، ومفاتح الكرم.
فلواء الحمد لعامة المؤمنين، ومفاتح الكرم للأنبياء. ولخاتم النبوة بدء وشأن عميق، أعمق من أن تحتمله. فقد رجوت أنه كفاك هذا القدر من علمه!
فصار محمد، صلى الله عليه وسلم ، شفيعاً للأنبياء والأولياء، ومن دونهم. ألا ترى إلى قوله، عليه الصلاة والسلام، فيما يصف من شأن المقام المحمود: ((حتى أن إبراهيم، خليل الرحمن، يحتاج إلي في ذلك اليوم)) حدثنا بذلك الجارود عن النضر بن(1/29)
شميل، عن هشام الدستوائي، عن حماد، رفعه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم !
ألا ترى أن الله، تبارك وتعالى، ذكر البشرى في غير آية؟ فلم يذكرها إلا مع الشرط: {بشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وذكرها هنا ولم يشترط: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم} يعلمهم أن نجاة الجميع، في ذلك اليوم بهذا القدم الصدق.
وأما الحجة، فكأنه يقول للأنبياء، عليهم السلام: معاشر الأنبياء، هذا محمد، جاء في آخر الزمان؛ ضعيف البدن، ضعيف القوة، ضعيف المعاش، قليل العمر. أتى بما قد ترون: من صدق العبودة، وغزارة المعرفة والعلم. وأنتم، في قواكم وأعماركم وأبدانكم، لم تأتوا بما أتى. ويكشف الغطاء عن الختم، فينقطع الكلام، وتصير الحجة على جميع خلقه، لأن الشيء المختوم محروس. وكذلك تدبير الله تعالى لنا في هذه الدنيا: أنه إذا وجد الشيء يختمه زال الشك وانقطع الخصام فيما بين الآدميين.
فجمع الله تعالى أجزاء النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتممها له، وختم عليها بختمه. فلم تجد نفسه ولا عدوه سبيلاً إلى ولوج موضع النبوة، من أجل ذلك الختم.(1/30)
ألا ترى إلى حديث الحسن البصري، رحمه الله، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، في حديث الشفاعة، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: ((فإذا أتوا آدم، يسألونه أن يشفع لهم إلى ربه، قال لهم آدم: أرأيتم لو أن أحدكم جمع متاعه في غيبته ثم ختم عليها، فهل كان يؤتى المتاع إلا من قبل الختم؟ فأتوا محمداً، فهو خاتم النبيين)) ومعناه عندنا: أن النبوة تمت بأجمعها لمحمد، صلى الله عليه وسلم ، فجعل قلبه، لكمال النبوة، وعاء عليها، ثم ختم.
ينبؤك (هذا)، أن الكتاب المحتوم والوعاء المختوم، ليس لأحد عليه سبيل، في الانتقاص منه، ولا بالازدياد فيه مما ليس منه. وأن سائر الأنبياء عليهم السلام، لم يختم لهم على قلوبهم، (فهم غير آمنين أن تجد) النفس سبيلاً إلى ما فيها.
ولم يدع الله الحجة مكتومة، في باطن قلبه حتى أظهرها، فكان بين كتفيه، ذلك الختم، ظاهراً كبيضة حمامة. و(هذا) له شأن عظيم تطول قصته.
فإن الذي عمي عن خبر هذا، يظن أن ((خاتم النبيين)) تأويله أنه آخرهم مبعثاً. فأي منقبة في هذا؟ وأي علم في هذا؟ تأويل البله، الجهلة!
وقرأ العامة ((خاتم)) بفتح التاء. وأما من قرأ من السلف بكسر التاء، فإنما تأويله أنه ((خاتم)) على معنى فاعل، أي: أنه ختم النبوة، بالذي أعطى من الختم. ومما يحقق ذلك، ما روي في حديث المعراج، من حديث أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أبي العالية فيما يذكر من مجتمع الأنبياء في المسجد الأقصى: ((فيذكر كل نبي منة الله عليه)). فكان من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: ((وجعلني خاتماً وفاتحاً. فقال إبراهيم، عليه السلام: بهذا فضلكم محمد))!(1/31)
(الفصل التاسع) (النبوة والولاية)
فالنبوة هي العلم بالله، عز وجل، على كشف الغطاء وعلى إطلاع أسرار الغيب. و(هي) بصر نافذ في الأشياء المستورة بنور الله تعالى التام. فمن أجل هذا، قدر محمد صلى الله عليه وسلم أن يأتي بـ ((قدم الصدق)).
فإذا استوت الأقدام، أقدام الأنبياء، في صفها وسئل الصادقون عن صدقهم - احتاج الأنبياء إلى عفو الله تعالى. وتقدم محمد صلى الله عليه وسلم ، جميع الأنبياء أمامهم، يخطو بالصدق الذي أتى به، بارزاً على جميع الأنبياء، بجود الله وكرمه: بأن أعطى النبوة وختم عليها. فلم يكلمه عدو، ولا أخذت النفس بحظها منه.
وذلك قوله (تعالى) في تنزليه: {ألر تلك آيات الكتاب الحكيم}. فالألف (رمزاً) آلاؤه؛ واللام (رمزاً) لطفه؛ والراء (رمزاً) رأفته. {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس}- فقد علم سبحانه، أن قوله {أن أنذر الناس} مما يذهل عقول الصادقين المنتبهين- فقال، على إثر ذلك: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم}- أي: أنذرتكم لقائي، ووقوفكم بين يدي عظمتي، وأني أقتضيتكم صدق العبودية. {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم} وهو هذا الرجل الذي أوحينا إليه. فكما كان على لسانه الوعيد والنذارة، حتى ذهلت العقول، فله ((قدم الصدق))، الذي يدرأ عنكم بصدقه يومئذ ما فاتكم من الوقاية، وما ضيعتم من حق النبوة.
وكذلك روي لنا عن أبي سعيد الخدري في قوله: ((قدم صدق)) قال: محمد صلى الله عليه وسلم ، يشفع لهم يوم القيامة. وقول الرسول؛ عليه الصلاة والسلام: ((أن لي، في ذلك اليوم، مقاماً محموداً يحتاج الخلق فيه إلي حتى إبراهيم خليل الرحمن!)) وهذا تحقيق ما قلناه.
ثم لما قبض الله، عز وجل، نبيه صلى الله عليه وسلم ، صير في أمته أربعين صديقاً. بهم تقوم الأرض؛ وهم آل بيته. فكل ما مات واحد منهم، خلفه من يقوم مقامه. حتى إذا انقرض عددهم، وأتى وقت زوال الدنيا - ابتعث الله ولياً، اصطفاه واجتباه، وقربه وأدناه. وأعطاه(1/32)
ما أعطى الأولياء، وخصه بخاتم الولاية. فيكون حجة الله يوم القيامة، على سائر الأولياء، فيوجد عنده بذلك الختم صدق الولاية على سبيل ما وجد عند محمد صلى الله عليه وسلم ، من صدق النبوة. فلم ينله العدو، ولا وجدت النفس سبيلاً إلى الأخذ بحظها من الولاية.
فإذا برز الأولياء يوم القيامة، واقتضوا صدق الولاية والعبودية - وجد الوفاء عند هذا الذي ختم الولاية تماماً. فكان حجة الله عليهم وعلى سائر الموحدين من بعدهم؛ وكان شفيعهم يوم القيامة. فهو سيدهم: ساد الأولياء، كما ساد محمد صلى الله عليه وسلم ، الأنبياء. فينصب له مقام الشفاعة، ويثني على الله تعالى ثناءً، ويحمده بمحامد يقر الأولياء بفضله عليهم في العلم بالله تعالى!
فلم يزل هذا الولي مذكوراً في البدء: أولاً في الذكر، وأولاً في العلم: ثم هو الأول في المشيئة. ثم هو الأول في المقادير. ثم هو الأول اللوح المحفوظ. ثم الأول في الميثاق. ثم الأول في المحشر. ثم الأول في الخطاب. ثم الأول في الوفادة. ثم الأول في الشفاعة. ثم الأول في الجوار. ثم الأول في دخول الدار. ثم الأول في الزيارة. فهو في كل مكان أول الأولياء! كما كان محمد صلى الله عليه وسلم أول الأنبياء! فهو من محمد صلى الله عليه وسلم عند الأذن والأولياء عند القفا.
فهذا عبد مقامه بين يديه في ملك الملك. ونجواه هناك في المجلس الأعظم. فهو في قبضته. والأولياء من خلفه، دونه، درجة درجة. ومنازل الأنبياء بين يديه.
فهؤلاء الأربعون في كل وقت، هم أهل بيته. ولست أعني (آل بيته) في النسب، إنما هم أهل بيت الذكر. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لإقامة ذكر الله وليبوأ له مستقراً، وهو الذكر الخالص الصافي. فكل من آوى إلى ذلك المثوى فهم آله. ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أهل بيتي أمان لأمتي، فإذا ذهبوا أتاهم ما يوعدون)) وإنما صار هؤلاء الأربعون أماناً للأمة (لأن) بهم تقوم الأرض، وبهم يستسقون الغيث. فإذا ماتوا أتاهم ما يوعدون. ولو كان (النبي عليه السلام) يعني به أهل بيته في النسب لكان يستحيل أن لا يبقى منهم أحد، فيموتوا عن آخرهم، وقد كثر الله عددهم حتى لا يحصون.(1/33)
(الفصل العاشر) (علامات الأولياء)
قال له قائل: جميع ما وصفت من صفة هؤلاء هو في الباطن. فهل لهم علامة في الظاهر يعرفون بها؟ وهل يلزم تصديقهم إذا ادعوا الولاية؟ وما الفرق بين النبوة والولاية؟ وما المحدث من الأولياء؟
قال: الفرق بين النبوة والولاية، أن النبوة كلام ينفصل من الله وحياً، معه روح من الله. فيقضى الوحي ويختم بالروح. فبه قبوله. فهذا الذي يلزم تصديقه؛ ومن رده فقد كفر، لأنه رد كلام الله تعالى. والولاية لمن ولى الله حديثه، على طريق أخرى، فأوصله إليه. فله الحديث. وينفصل ذلك الحديث من الله، عز وجل، على لسان الحق. معه السكينة. تتلقاه السكينة، التي في قلب المحدث، فيقبله ويسكن إليه.
قال قائل: وما الحديث من الكلام؟ وما الفرق بينهما؟
قال: الحديث ما ظهر من علمه الذي برز في وقت المشيئة. فذلك حديث النفس، كالسر. وإنما يقع ذلك الحديث من محبة الله تعالى لهذا العبد. فيمضي مع الحق إلى قلبه، فيقبله القلب بالسكينة. فمن رد هذا لم يكفر، بل يخيب ويصير وبالاً عليه، ويبهت قلبه، لأن هذا رد على الحق ما جاءت به محبة الله، من علم الله في نفسه، فأودعه الحق وجعله مؤيداً لهذا القلب، والأول رد على الله كلامه ووحيه وروحه. فالمحدثون لهم منازل: فمنهم من أعطي ثلث النبوة، ومنهم من أعطي نصفها، ومنهم من له الزيادة حتى يكون أوفرهم حظاً في ذلك من له ختم الولاية!
قال القائل: إني أهاب القول أن يكون لأحد من النبوة شيء، سوى الأنبياء.
قال: ألم يبلغك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: ((الاقتصاد والهدى والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءاً من أجزاء النبوة)). فإذا كان المقتصد له من أجزاء النبوة ما ذكر فما ظنك بالسابق المقرب؟
قال القائل: وما الروح، وما الوحي، وما الحق، وما السكينة، وما المحبة؟
قال: الوحي والروح، ما قال الله تعالى في كتابه: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا}. (وذكر السكينة) فقال (عز اسمه): {هو الذي أنزل السكينة في(1/34)
قلوب المؤمنين} والمحبة في قوله تعالى: {يحبهم ويحبونه} والحق هو حقيقة التوحيد، الذي ورد على القلب.
قال له القائل: قد عرفت أنه مذكور كله في التنزيل. وإنما ابتغيت معرفة نفس هذه الأشياء، لا الأسماء!
قال: هيهات! أنت تحتاج إلى الصبر عن معرفة هذا، حتى إذا رقي بك طريق الإرادة، إلى محل القربة، فقربت هناك فسل حينئذ عن هذه الأشياء. فإن أولئك (أهل القربة) بحاجة إلى معرفة هذا، وهم على مكانتهم في مراتب القربة. هناك تشخص أبصارهم إلى من يعرف هذا، عند سادات الأولياء المحدثين. فإن علم هذه الأشياء عندهم. وهو الحكمة العليا، التي يقال لها: حكمة الحكمة.
قال له القائل: قد وصفت الفرق بين النبي والمحدث، فما صفة هؤلاء الآخرين من الأولياء؟
قال: إن أهل الطريق يناجون، والمحدثون يحدثون والحديث من حيث أعلمتك. والنجوى من العطاء، ترمى إليه مقالات من بعد، كأن قائلاً يقول كذا. ليس معه حراس النبيين ولا المحدثين: من الروح والسكينة وتولية الوحي. فصاحبه منه في ريب، لا يأمن أن يخالطه العدو بشيء، أو تمازجه النفس بخدعها ودواهيها. وكم من مريد غلط، استمع إلى نجواه فركن إليها، وقد مازجته النفس بدواهيها، فإذا هو ضحكة للشيطان! تحدثه نفسه بشيء، فيحسبه من الله، فركن إليها.
قال له القائل: وهل يأمن المجذوب أو المحدث أن تكون نفسه تأتي بمثل ذلك، أو عدوه.
قال: فأين الحق والسكينة؟ وكما أن النبوة من الله، فكذلك الحديث من الله، على جهة ما ذكرت لك. وكما أن النبوة محروسة بالوحي والروح، فكذلك الحديث محروس بالحق والسكينة. فالنبوة يأتي بها الوحي، والروح قرينه. والحديث يأتي به الحق، والسكينة قرينه. والسكينة مقدمة النبوة، والحديث في قلب النبي، والمحدث ثابت.
وإنما سميت (السكينة) سكينة، لأنها تسكن القلب عن الريب والحرارة، إذا ورد الحق بالحديث عن الله تعالى. وكذلك الروح يعمل عمله في القلب، إذا ورد الوحي عن الله تعالى. ألا ترى أن بني إسرائيل لما أعطوا السكينة، ووجدوا ثقلها، وعلموا أنهم يعجزون عن احتمالها على القلوب - سألوا الله تعالى أن يجعلها لهم في التابوت، فكانت تنطق من التابوت، وتسكن القلوب بنطقها، فيعملون على ذلك.
ولما أمر الله إبراهيم، عليه السلام، ببناء البيت، قرن به السكينة، حتى أتى البقعة،(1/35)
فالتوت السكينة حتى صارت بمقدار البيت. ثم نادت: أن ابن على مقدار ظلي. فالسكينة مقدار من الله، يلتوي وينتقص ويمتد بمقدار ما يريد الله. فهي حارس ما يورده الوحي ويورده الحق، وقائل ومسكن. فأي ريب ههنا مع هذا؟
(الفصل الحادي عشر) (إلقاء الشيطان ونسخ الرحمن)
قال له قائل: أفليس للعدو مع هذا سبيل؟
قال: سبيله ههنا، كسبيله في الوحي. أليس الله قد ابتلى الرسل بذلك؟ فهل ترك الله ذلك الأمر في لبس؟ أليس قد نسخ ما ألقى الشيطان، فأحكم آياته؟ وإنما كان ذلك مرة واحدة، وقال (عز وجل) في تنزيله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول الله ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} فكان ابن عباس، رضي الله عنهما، يقرؤها: {ولا محدث} ويخبر أن ذلك كان مما يتلى ثم ترك. حدثنا بذلك الجارود. وحدثنا سفيان ابن عيينة عن عمر بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما!
كما ترك قوله: ((لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى لهما ثالثاً))، أو كآية(1/36)
الرجم؛ وأشياء كثيرة. وكان قرن الرسالة والنبوة والحديث في طلق واحد، على قراءة ابن عباس، فصيرهم من المرسلين.
قال له قائل: كيف صيرهم من المرسلين؟
قال: لم أعن المرسلين (من الله) إلى الخلق؛ إنما عنيت المرسلين من الله، عز وجل (لا إلى أحد). فكل من ولي الله أمره واصطنعه واتخذه، فهو مرسل إلى الدنيا ومبعوث. ألا ترى إلى ما ذكر من أعدائه، الذين كان أعدهم عقوبة لعباده، من بني إسرائيل؟ فقال: {بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديد} وهو بعث في الشر والعقوبة. وهؤلاء بعثوا في الخير والغياث، بقوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي .. .. } أي: ما أرسلنا من نبي. فهل أرسل نبي إلى أحد؟ فلو كان كذلك فهو الرسول. وأي شيء الفرق بين الرسول والنبي؟ الرسول هو الذي يتنبأ ويرسل إلى قوم يخبرهم ويؤدي الرسالة. والنبي هو الذي يتنبأ ولا يرسل إلى أحد؛ فإذا سئل أخبرهم، وهو، في خلال ذلك، يدعو الخلق إلى الله تعالى، ويعظهم ويبين لهم السبيل في شريعة الرسول.
فالرسول له شريعة، قد أتى بها عن الله تعالى، ويدعو القوم إلى تلك الشريعة. والنبي هو الذي لم يرسل (إلى الخلق). وهو يتبع شريعة ذلك الرسول، ويدعو الخلق إلى تلك الشريعة، التي أتى بها الرسول، ويدلهم عليها وكذلك المحدث، يدعو إلى الله عز وجل على سبيل تلك الشريعة ويدلهم عليها وما يرد عليه، على لسان الحق عند الله تعالى، هو بشرى وتأييد وموعظة، ليست بناسخة لشيء من الشريعة، بل هي موافقة لها. فما خالفها فهو وسواس.
فهذا الرسول والنبي والمحدث. قد قرن ابن عباس رضي الله عنهما، في تلاوة التنزيل ذكرهم في طلق واحد، بأنهم مرسلون من عند الله تعالى وقد أخذ الله ميثاق كل واحد منهم على حدته: ميثاق الرسول برسالته؛ وميثاق النبي بنبوته؛ وميثاق المحدث بولايته. وهم كلهم يدعون إلى الله تعالى. إلا أن الرسول يقتضي أداء الرسالة بالشريعة، والنبي يقتضي الخبر عن الله، ومن ردهما فقد كفر. والمحدث، حديثه له تأييد وزيادة بينة في شريعة الرسول. فإن أنفقه على عباد الله، كان له به إلى الله تعالى وسيلة ورحمة. ومن رده خاب عن بركته ونوره، لأنه أمر رشيد، يدعو إلى الله تعالى ويدل عليه.(1/37)
كما ذكر علي، رضي الله عنه، حين سئل عن ذي القرنين، فقال: عبد ناصح الله فنصحه. وكما ذكر الله تعالى لقمان في تنزيله، فقال: {ولقد آتينا لقمان الحكمة} ثم قال: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا} وقال {هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة} أي: على معانية - ثم قال: {أنا ومن اتبعني} فالدعاة إلى الله تعالى على بصيرة هم (الدين) تابعوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، على طريق الصفاء. ومن لم يبلغ ذلك، فهو داع إلى الحق.
عدنا إلى ما كنا فيه. فقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} {ثم يحكم الله آياته} وإنما وجد الشيطان سبيلاً إلى قلبه، حتى أدرج وسوسة في الوحي، بأمنية النفس. فأمنية النفس خطرات. فإذا ابتلى بخطرة واحدة، وجد العدو سبيلاً إلى قلبه بتلك الواحدة. لأن الخطرة إذا التفت صاحبها إليها، فقد فتق الباب المغلق. فرمى العدو كلمة في ذلك الفتق فمرت الكلمة وصار الباب رتقاً، كما كان وجرت الكلمة مندرجة في كلام الله في غطاء الأمنية، مخفية مستورة عن القلب حتى إذا انتبه القلب، لما فيه، وأخذه من الذهول والفزع ما لا يحاط به وصفاً - عزاه الله بعظم المصيبة، التي حلت به، من أجل ذلك قال (تعالى): {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى .. .. } حل به هذا. فلست بأول من ابتلى بهذا.(1/38)
وإنما نبه (الله عز وجل) بما جرى، لينسخ عن لسانه كلمة الشيطان ويحكم آياته. وهل كان هذا إلا مرة واحدة؟ أفليس قد قبل (النبي عليه الصلاة والسلام) من الوحي ما جاء بعد ذلك؟ وهل اتهم نفسه وقلبه فيما كان بعد ذلك؟ بل قال: أنه قد تبين من أمري ما تبين، فكيف لي بأن لا أصدق ما يرد على قلبي بعد هذا؟ فهل وقع في ريب مما جاء به الوحي بعد ذلك، بأثر عمل الروح على قلبه حتى يصدر الوحي مقبولاً؟
وكذلك المحدث، إن حل به مثل هذا، لم يتركه الله حتى يتداركه فينسخ عن قلبه ما اندرج في حديثه، عن رمي الشيطان؛ حتى يطمأن بعد ذلك، إلى ما يرد بعد ذلك من الحديث. (وإلا) فأين عمل السكينة؟ وأين حراسة الحق، وأداؤه عن الله، عز وجل؟ فشأن المحدث، أعظم من أن يستخف بحديثه والرسول، عليه السلام، يقول: ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)) فإذا كانت الفراسة مما يتقي، وهي جزء من أجزاء الحديث، فكيف الحديث؟ حدثنا الجارود عن الفضل بن موسى عن زكريا بن زائدة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كان في الأمم قوم يتكلمون، من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يك في أمتي فعمر منهم)) يعني: عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. قوله: ((يتكلمون)) أي: عن الله تعالى. حدثنا عبد الجبار عن سفيان(1/39)
عن ابن عجلان، عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((قد كان في الأمم محدثون، فإن يك في أمة فعمر بن الخطاب)).
فالمحدث له الحديث والفراسة والإلهام والصديقية. والنبي له ذلك كله والتنبؤ. والرسول له ذلك كله والرسالة. ومن دونهم من الأولياء، لهم الفراسة والإلهام والصديقية.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: ((أن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه)). حدثنا ابن أبي بكر العمري، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي إدريس، حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المقري عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه)). ويروى عن ابن عمر أنه قال: كنا نعد السكينة تنطق. وما حذر عمر شيئاً إلا نزل. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: ((ما لقي الشيطان عمر إلا فر لوجهه)). فهل كان هذا، إلا من سلطان الحق وحراس الولاية؟ ولهذا جاء(1/40)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو كان بعدي نبي لكان عمر)). حدثنا (بذلك) سليمان بن نصر، قال: حدثنا المقري عن حيوية عن شريح.
قال له قائل: فإن ورد على قلبه شيء لا يوافق الكتاب؟
قال: إن ولاية الله تعالى تغيثه، كما أغاثت الرسول في رسالته، حتى نسخ عن قلبه وحي الشيطان. ومحال أن يكون قلب، موصوف بهذا، أن يترك مخذولاً. فلو جاز لهذا أن يدوم، لبطلت إذن الولاية. وإنما يجوز هذا التخليط، ودوام مثل هذه الأشياء لمثل هؤلاء المريدين الذين هم في هذا الطريق.
(الفصل الثاني عشر) (أهل القربة)
و(أما) من وصل إلى المرتبة، ومعه نفسه مشحونة بدواهي مكامن النفس، وألزم المرتبة على شريطة اللزوم ليهذب - فهو كالمكاتب الذي يعتق على مال: فهو عبد ما بقي عليه درهم. وأما من أعتق جوداً أو رحمة عليه، فقد صار حراً لا تبعة عليه لمن كان يملكه. وكذلك هذا (الولي) أعتق على شريطة لزوم المرتبة، فهو كالمكاتب؛ وهو عبد ما بقي عليه خلق من أخلاق النفس.(1/41)
والمجذوب أعتقه الله تعالى من رق النفس. فجذبه إليه، فصار حراً. وألزم المرتبة حتى هذب وأدب وطهر وزكى. فأعتقه الله تعالى من رق النفس بجوده، بلا تبعة، فصار حراً لم يبق للنفس فيه مطالبة بخلق من أخلاقها. فهو أيضاً مجذوب من المرتبة. وقد بين الله تعالى في تنزيله ذلك، فقال: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} فالمجتبي من اجتباه الله وجذبه، فهو من أهل اجتبائه بالمشيئة. والآخر ممن هداه الله للوصول إليه بالإنابة. فالأول من أهل مشيئته، والثاني من أهل هدايته.
ولا تخلو الدنيا في هذه الأمة، من قائم بالحجة، كما قال علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه!: ((اللهم، لا تخل الأرض من قائم بالحجة، كي لا تبطل حجج الله وبيناته)). وقال عز وجل في تنزيله: {وقل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة} أي: على معاينة: {أنا وما اتبعني} فلم يجعل الدعاء إلى الله إلا على بصيرة، ولم يجعلها إلا لتابعيه (محمد عليه الصلاة والسلام) فتابعوه، من تابعه على جميع ما جاء به من عند الله قلباً وقولاً وفعلاً: وهم أهل هذه الطبقة.
قال له قائل: فما علامة الأولياء في الظاهر؟
قال: أولها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قيل له: ((من أولياء الله؟ قال: الذين إذا رأوا ذكر الله)). وما روي عن موسى، عليه السلام، أنه قال: ((يا رب، من أولياؤك؟ قال: الذين إذا ذكرت ذكروا، وإذا ذكروا ذكرت)). الثانية أن لهم سلطان الحق، لا يقاومهم أحد حتى يقهره سلطان حقهم. والثالثة أن لهم الفراسة. والرابعة أن لهم الإلهام. والخامسة أن من آذاهم صرع وعوقب بسوء الخاتمة، والسادسة، اتفاق الألسنة بالثناء عليهم، إلا من ابتلى بجسدهم. السابعة، استجابة الدعوة وظهور الآيات. مثل طي الأرض، والمشي على الماء، ومحادثة الخضر، عليه السلام الذي تطوى له الأرض، برها وبحرها، سهلها وجبلها، في طلب مثلهم شوقاً إليهم.
وللخضر، عليه السلام، قصة عجيبة في شأنهم. وقد كان عاين شأنهم في البدء، ومن وقت المقادير فأحب أن يدركهم. فأعطي الحياة حتى بلغ من شأنه أنه يحشر مع هذه الأمة وفي زمرتهم، حتى يكون تبعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهو رجل من قرن إبراهيم الخليل، وذي القرنين، وكان على مقدمة جنده، حيث طلب ذو القرنين عين الحياة ففاتته وأصابها الخضر في قصة طويلة.
وهذه آياتهم وعلاماتهم، فأوضح علاماتهم ما ينطقون به من العلم من أصوله.(1/42)
قال له قائل: وما ذلك العلم؟
قال: علم البدء، وعلم الميثاق، وعلم المقادير، وعلم الحروف. فهو أصول الحكمة، وهي الحكمة العليا. وإنما يظهر هذا العلم عن كبراء الأولياء، ويقبله عنهم من له حظ من الولاية.
وأما شمائلهم: فالقصد، والهدي، والحياء، واستعمال الحق فيما دق وجل، وسخاوة النفس، واحتمال الأذى، والرحمة، والنصيحة، وسلامة الصدر، وحسن الخلق مع الله في تدبيره ومع الخلق في أخلاقهم.
قال له قائل: فهذا الذي يصفه بعض الناس، أن الولي لا يرى، وأنه في قباء الله تعالى، وأنه مبرقع في برقع الله تعالى، وأنه يأكل الحشيش، ولا يرى من أمر الدنيا إلا ما يستره، وأنه لا يكلم أحداً ويحسب في نفسه أنه شر على الخلق، ويمقت نفسه؟
قال: هذا قول رجل أحمق، يتوهم أشياء من تلقاء نفسه. لم يخطر بباله قط، شأن الولاية على وجهه. وهو قول رجل لم يشم من روح هذا الطريق؛ ومعه اشتغال بنفسه. وهو يحسب أنه قد بلغ المنتهى، عتاهة وبلاهة و(لا) يرى خدائع نفسه. فهو يرى نفسه (أن) شأن الولي لا يستقيم أمره حتى يهرب من الخلق، ويعتصم بالمفاوز، ويكون غامضاً لا يعرف، ويجتزئ بالدون من المعاش. هذا رجل يبتغي الولاية من طريق الجهد، والصدق. ولا يعلم أن لله عز وجل، عباداً نالوا ولايته من طريق المنة!
و(قد) يقويه أيضاً ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال، عن ربه عز وجل: ((أن أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه، وكان غامضاً في الناس. عجلت له منيته، وقل تراثه، وقلت بواكيه فيقوى على ما توهم في نفسه من هذا الحديث. أفلا يرجع إلى عقله فيعلم أن أولياء الله بينهم تفاوت؟
فإن الولي الذي يطلب غموضاً في الناس، ويخفي شأنه إنما يفعل ذلك من أجل أنه(1/43)
لم يصل إلى الله، فتحرق أنوار الوصول شهوات نفسه. وهذا مكان الضعفاء. وحق للولي الضعيف أن يفعل ذلك ويكون على حذر من الأدناس. فإنه إن لم يفعل ذلك، لم يحل محل القدس. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: ((مؤمن قوي، ومؤمن ضعيف. والمؤمن القوي أحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف. وكلاهما يحبه الله، عز وجل)). وهذا هو الذي ذكرنا.
ولو كان كما وصف من شأن الولي، لكان له الفضل على الصديق والفاروق فنعوذ بالله أن يكون كما وصف من شأن الولي وصفة الأولياء. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس الأولياء، وبعده الصديق، رضي الله تعالى عنه، وبعده الفاروق رضي الله عنه. فهل كان أحد منهم غامضاً في الناس؟ وفيما حكى الله تعالى في تنزيله فقال: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} إلى آخر الآيات، وقال: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً}. فمن سأل ربه، عز وجل، الإمامة للمتقين، هل يكون غامضاً في الناس؟ أليس الله قد أثنى عليهم وقال: هم أصحاب الغرف في عليين، فقال: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} أي: على هذه الخصال، وعلى الكون بين يدي الله تعالى بقلوبهم، فلم تقدر النفس أن تأخذهم.
والذي وصف هذا الرجل من شأن الولي، إنما قاسه على بلاء نفسه واشتغاله بها. فظن أن الولي إنما يكون أبداً هارباً من هذه الأشغال. ولا يعلم أن لله تعالى عباداً قد قطع لهم من خزائن المنن قطائع. فجاءت تلك الأنوار فطارت بقلوبهم إلى العلاء، فجالت بهم في الملكوت، ملكاً ملكاً، إلى ذي العرش حتى أحرقت جميع ما في نفوسهم من نواجم النفس. ثم مالت إلى نفوسهم فأحرقت جميع ما فيها. ثم تتبعت المكامن التي منها النواجم فأحرقتها. فصارت نفوسهم كمفازة جرداء، وقلوبهم زهر بمصباح الله تعالى! كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن فقال: ((قلبه أجرد أزهر)). وكما وصفه في حديث آخر، حيث(1/44)
قيل له: ((أي المؤمنين أفضل؟ فقال: كل مؤمن محموم القلب. قيل له: وما محموم القلب؟ قال: التقي، النقي، الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)).
وإنما يخفي شأن الولي على صنفين من الناس: على هؤلاء البله الذين قد تبلهت قلوبهم من الجهل؛ والصنف الآخر على قوم في زي الأشكال. قد تنسموا من روح هذا الطريق شيئاً، فأعماهم حسد نفوسهم عن شأنه، فصار مثلهم في ذلك، كما حكى الله تعالى، في تنزيله عن أهل عداوته، فقال: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} وقال عز وجل: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة} الآية. وإنما يكون المؤمن في عمى من شأن نفسه، حتى يلاقي طريق الرسول في حياته، أو يفتح الله لقلبه الطريق إليه حتى يصل إليه، فتقع مناجاته في مجالس الملك بين يديه.
وأين قول الله، عز وجل: {أفمن كان على بينةٍ من ربه ويتلوه شاهد منه} فهل البينة إلا لهؤلاء؟ وهل الشاهد إلا الحديث، الذي يرد على قلبه والسكينة التي تقبله؟
(الفصل الثالث عشر) (خاتم الأولياء)
قال له قائل: وما صفة ذلك الولي، الذي له إمامة الولاية ورياستها وختم الولاية؟
قال: ذلك من الأنبياء قريب، يكاد يلحقهم.
قال: فأين مقامه؟
قال: في أعلى منازل الأولياء، في ملك الفردانية، وقد انفرد في وحدانيته. ومناجاته كفاحاً في مجالس الملك، وهداياه من خزائن السعي.
قال: وما خزائن السعي؟
قال: إنما هي ثلاث خزائن: المنن للأولياء، وخزائن السعي لهذا الإمام القائد؛ وخزائن القرب للأنبياء عليهم السلام. فهذا (خاتم الأولياء) مقامه من خزائن المنن، ومتناوله من خزائن القرب: فهو في السعي أبداً. فمرتبته ههنا ومتناوله من خزائن الأنبياء، عليهم السلام، قد انكشف له الغطاء عن مقام الأنبياء ومراتبهم وعطاياهم وتحفهم.(1/45)
قال له قائل: فهل تخاف هذه الطبقة من الأولياء على أنفسهم؟
قال: خوف ماذا؟
قال: خوف الله، عز وجل.
قال: لو قسم خوفهم على أهل الأرض لوسعهم، وذلك أن خوف المنفرد لا يوصف: فكل شعرة منه بحيالها قد أخذتها هيبة الله عز وجل. وكل عرق منه قد امتلأ من عظمة الله سبحانه! وانفرد صدره وقلبه لوحدانيته. واكتنفته رحمة (الله) وشملته رأفته، فبهما يتصرف في أموره ويتبسط.
حدثنا حفص بن عمر، رضي الله عنه، حدثنا محمد بن بشر العبدي، حدثنا عمر ابن أسد التميمي عن يحيى بن كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((سيروا! سبق المفردون. قالوا: يا رسول الله، وما المفردون؟ قال: الذين اهتروا في ذكر الله. يأتون يوم القيامة خفافاً، يضع الذكر عنهم أثقالهم)) وهم الذين وصفهم في حديث آخر: حدثنا بذلك أي، حدثنا الجماني، حدثنا صفوان بن أبي الصهباء، عن بكر بن عتيق، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن جده عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن ربه، عز وجل، قال: ((من شغله ذكره عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطى السائلين)). والمشغول بذكره عن مسألته هذا محله منه ونواله، فكيف(1/46)
بالمشغول عن ذكره به؟ إن هذا الأمر أجل من أن يفهمه ((الحطاميون)) و((البلعميون)).
قيل له: وما ((الحطاميون)) وما ((البلعميون))؟
قال: من أوتي ما أوتي من آيات الله وعلم هذا الطريق {فانسلخ منها} {أخلد إلى الأرض واتبع هواه} فهو يتأكل لهذا الاسم، ويكدر هذا الماء الصافي بجهله. فهم عبيد النفوس لم يخرجوا عن رقها. وشدوا شيئاً من هذا الكلام، التقاطاً وتوهماً ومقاييس، فهم علائق الشيطان؛ يسبحون في ماء كدر، ويتلوثون في حمأة منتنة، فالماء الكدر علمهم، والحمأة مأكلتهم التي يتناولونها بذلك العلم.
قال له قائل: فهل يخاف المحدثون سوء العاقبة؟
قال: نعم، ولكن خوف ذهول وقلق. ويكون ذلك كالخطرات ثم يمضي، فإن الله تعالى، لا يحب أن يكدر عليهم منته.
قال له قائل: في أي وقت يكون ذلك أعمل فيهم؟
قال: إذا لاحظوا جلال الله، ثم لاحظوا مشيئته، وذكروا سابق علمه فيهم ذهلت منهم القلوب والنفوس. فإذا لاحظوا حظوظهم من الله تعالى التي خرجت لهم من الرأفة والرحمة والمحبة سكنوا. فذلك زمام هذه الأشياء، فلولا بهتهم في شأن العاقبة وذهولهم، لكانت النفوس في هذه الحظوظ التي نالوها، طلعة. ألا ترى الصبي العاقل؟ يبره أقرباؤه وعشيرته، وهو، على تناول برهم، منقبض عنهم: يهابهم ويحتشم من الانبساط. فإذا عاين أبويه انبسط ورفع الحشمة، واستبد واجترأ. فهل ذلك إلا بمعرفته بأبويه، وبما عاين من رأفتهم به ورحمتهم عليه، وبما أبدوا له من مكنون صدورهم من المحبة؟ فكفى بهذا لك دلالة من شأن الطفل تعتبر به!
ولولا أن مع المؤمنين نفوساً شهوانية، إذا اطلعوا على ما لهم عند مليكهم من الرأفة والمحبة والرحمة والمجد الرفيع، فاستبدوا واجترأوا وأفسدوا سبيلهم ورفضوا العبودية - لكانوا يبشرون بذلك. ألا ترى من آداب الملوك، كيف يعاملون خدمهم؟ ترى الخادم يحل من الملك، من أجل أدبه وحظوه، محل الولد؛ فيكتم ذلك عنه ويطوي خبره وينقبض له،(1/47)
كي لا يفسد ولا تنقطع عنه هيبته. فإذا أدبه، وراض نفسه، وطالت صحبته فوض إليه أموره وأفشى عنده أسراراً لم يكن يطلعه عليها قبل ذلك. وأبدى له محبته، وأنزله من نفسه منزلة الأحرار. وإنما طوى الله العواقب عن المؤمنين نظراً لهم: كي لا تستبد نفوسهم ولا يأخذها الأشر والبطر بما أعطاهم من مننه.
قال له قائل: أفيجوز أن يبشر الأولياء بحسن العاقبة؟
قال: أما أولياء الحق، فلا أحققه لأنهم لم يصلوا إليه. وإنما وصلوا إلى مكان القربة ومكن لهم على شريطة اللزوم، مخافة خيانة النفس. وأما المتصلون به، المحدثون فلا أبعده.
قال له قائل: ولم ذلك؟
قال: لما قد ذكرت: فإنه لا يرد على قلوبهم إلا ما يورده الحق وتقبله السكينة. والسكينة هي مقدار من الله. وهو الذي قدر به حدود الكعبة لإبراهيم خليل الرحمن، صلوات الله وسلامه عليه! حتى بنى على ظله. وهو الذي كانت بنو إسرائيل تعمل على كلامه من التابوت. (وقد) وصفه الله تعالى في تنزيله، فقال: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} أي: طمأنينة في قلوبهم مع طمأنينتهم بذلك من طريق الإيمان. وبالسكينة تطمئن القلوب للخير الوارد عليها. فيجوز (إذن) أن يبشروا (بحسن الخاتمة) وتطمئن قلوبهم بالبشرى.
وأين قوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.
روي عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، أنه قال: ((سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سألني عنها أحد. فتلك البشرى، هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له))، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أن رؤيا المؤمن كلام يكلمه الرب تعالى لعبده في منامه)).(1/48)
فتأتي البشرى على قلبه في اليقظة، فإن القلب خزانة الله، وروحه يسري إلى الله تعالى، في منامه، فيسجد له تحت العرش، وقلبه يسير إليه فوق العرش في الحجب، فيلاحظ المجالس، ويناجي ويبشر. وفيه توحيده وإلهامه وفراسته وسكينته، وهو أثبت وأوكد.
وإنما قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكر المنام لأن النفس مزايلة للروح في ذلك الوقت، فلا تقدر أن تلقي فيها شيئاً. والقلب الذي قد نال مجالس الحديث قد ماتت نفسه. وهو في قبضته أحصن وأوكد حراسة من الروح في منامه. ثم يرجع من حيث كان إلى عقله فيعرض عليه.
وإذا ذكر (الرسول عليه الصلاة والسلام) الرؤيا عندنا، لأن الرؤيا أعم وأكثر. والقلب الذي في قبضته قليل في الخلق، لا يبلغ عددهم عدد الأصابع. وأين قوله عز وجل: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهدٌ منه؟} وهل البينة إلا ما انكشف عنه من الغطاء؟ وأورده الحق؟ فصار على بينة من ربه. وهل الشاهد الذي يتلوه إلا السكينة، التي ذكر الله تعالى في كتابه: {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} فقد أخبر الله عز وجل، عن فعل السكينة في القلب: أن يزداد بها طمأنينة فإن الحق يقبله (القلب) والسكينة يسكن إليها.
(الفصل الرابع عشر) (البشرى)
قال له قائل: وما صفة الولي الذي هذه بشراه؟
قال: احفظ علينا حتى ينقضي ما نحن فيه!
أن الله عز وجل، خلق هذا الآدمي وله قلب (هو) وعاء لتوحيده، ونفس (هي) وعاء لشهواته. والصدر ساحة القلب والنفس. ولكل واحد منهما باب شارع إلى هذه الساحة. وللنفس مشاركة مع القلب فيما يرد على هذا القلب في هذا الصدر. فما دامت النفس حية، في غطاء الشهوات لم تؤمن من أن تلقى من حديثها في القلب، كي يأخذ بحظها من البدن (فبالنبوة) انكشف الغطاء ولم يبق هناك شيء يحتجب. فماتت النفس وحيي القلب. فإن بشرت بالنجاة، لم يكن هناك نفس تضيق (تعيق؟) وتضر وتستبد.
والأولياء الذين أخذوا من أجزاء النبوة أكبرها، وهم المحدثون، قد قربوا من الأنبياء محلاً (فإن بشروا بالنجاة لم يكن هناك نفس تضيق وتضر وتستبد. أما الذين) منعوا(1/49)
البشرى، نظراً لهم، فمن أجل ما بقي عليهم من حياة أنفسهم، لكي يقهروا هذا الخطر العظيم الذي ركبوا أهواله، (وهو) هذا الذي بقي في نفوسهم. فإذا رفع ذلك عنهم، ورفع عن قلوبهم حجاب البهاء والمجد والبهجة والجمال، فترددت قلوبهم في ملك الملك، وتراءى لهم من عظيم رحمته وسعة مغفرته، ولاحظوا عزه وجلاله وجوده - عاشوا في كنفه متبسطين إليه. فإن بشروا (حينئذ) جاز (ذلك لهم)، لأن عظمة الله قد ملأت صدورهم، ووحدانيته قد ملأت قلوبهم. وصفت أرواحهم فأخذت بقسطها من حظوة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم!
وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة من أجلة أصحابه، وعاشرهم فقال: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبد الرحمن في الجنة)). وقال في حديث آخر: ((وعبيدة بن الجراح في الجنة)). حدثنا بذلك أحمد بن عبد الله المهلبي، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، حدثنا عبد الرحمن بن حميد بن عوف، عن أبيه، عن جده: عبد الرحمن بن عوف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أبو بكر في الجنة .. .. )) وذكر مثله.(1/50)
وكان سول الله صلى الله عليه وسلم من أنصح الخلق لله تعالى في عباده، فهل بشرهم إلا بعد معرفته أنه لا تضرهم البشرى؟ وكلهم صديقون. والصديق الأكبر فيهم والفاروق والمحبوب، والشهيد والحواري والوصي والأمين. وكلهم أولياء وصديقون. فكذلك من بعدهم من المحدثين من الأولياء.
قال له قائل: هذا خبر أورده الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيهم، فليس في هذا ريب.
قال له: إني لم أحتج بهذا الحديث، لهذا الذي ذهبت إليه، إنما جئت به محتجاً أنه بشرهم. فلو علم أنه تضرهم (البشرى) لطوى عنهم الخبر.
أترى أنه لم يكن في أصحابه من أهل الجنة غير هؤلاء العشرة؟ بئس الظن هذا! إنما بشرهم وطوى عن غيرهم، لأنه لم يأمن على نفوسهم من هذا الخبر. والذين قربهم (الله) تعالى وأوصلهم (إليه) ذهبت الخيانات عن نفوسهم، وماتت شهواتهم، وحييت قلوبهم، فلم تضرهم البشرى.
ألا ترى كيف وصفهم (الله تعالى) في تنزيله فقال: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه}. فروي أن أبا قحافة نال من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعه أبو بكر، رضي الله عنه، فصك صدره حتى وقع مغشياً عليه.(1/51)
ويقال: فيه نزلت هذه الآية وفي أبي عبيدة بن الجراح. وذلك أن الجراح سبب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمل عليه ابنه، أبو عبيدة فقتله.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر لأبيه: يا أبت، لقد كنت وجدت إليك سبيلاً يوم بدر. فصفحت عنك. فقال: أما أني لو وجدت ذلك منك لما صفحت عنك!
وروي أن سرية مرت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لقوا العدو، نال بعضهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال رجل من الأنصار، لذلك العدو: لي أبوان فاذكرهما بما شئت من السب، ولا تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: فكأنما أغراه، فازداد سباً. فلم يصبر هذا الرجل، فحمل وحده عليهم، فألقى بنفسه بين أظهرهم فقتلوه. فلما رجعوا، ذكروا ذلك لرسول الله عليه السلام، كأنهم توهموا أنه ألقى بيده إلى التهلكة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((فما ظنكم برجل لقي الله غداً منيباً فغفر له)).
فهذه صفة الأولياء، وهذا شأنهم في الظاهر. ((لا يخافون في الله لومة لائم)). يحبهم ويحبونه)) ((أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين)). أهل رقة ورأفة ورحمة؛ لا رقة ملق وخداع واستمالة. أعزة على الكافرين. أهل غلظة وحمية لله عز وجل؛ لا تحاسد ولا تجبر ولا صلف ولا استبداد)). ووصف الله تعالى أنه كتب الإيمان في قلوبهم، وحببه إليهم، وزين ذلك أيضاً في قلوبهم.
ثم قال: {وأيدهم بروح منه}. (فهؤلاء) أهل لأن يبشروا.
قال له قائل: ولم ذلك؟
قال: لأن الكتاب من المنة، والكريم لا يرجع في المنة!(1/52)
(الفصل الخامس عشر) (الكتاب والروح)
قال (له قائل): وما الكتاب؟ وما الروح؟
قال: كتاب رب العالمين، في قلوب خاصته، والروح هو الحق!
قال: وما الحق؟
قال: اقتصر في السؤال على قدر طوقك لاحتماله، فإنما القلوب أوعية وكل وعاء. إنما يحتمل بقدره، فإذا حملته أكثر من ذلك انشق وفاض وكان فساداً. فليكن اقتصارك في شأن النفس حتى تطهرها فينشرح صدرك. ألا ترى إلى قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً} إلى قوله: {وكذلك يضرب الله الحق بالباطل}.
فهؤلاء أولياء الله تعالى: {كتب في قلوبهم الإيمان} وجعل لهم متعلقاً بقوله: {وأيدهم بروح منه} وأوجب لهم ((الرضى عنهم)) فقال: {رضي الله عنهم}. ووصفهم بأنهم أهل الرضى عنه فقال: {ورضوا عنه} ثم وصفهم بأنهم حزبه فقال: {أولئك حزب الله} فهم رجال الله في أرضه، الذابون عن أمره، الناصرون لحقه.
وقال (عز وجل) في آية أخرى: {ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} وإذا ذكر الله المؤمن، فإنما يذكر المستكمل الإيمان. فصيره مستمسكاً {بالعروة الوثقى لا انفصام لها}: (أي): لا ينفصل من وليها.
قال له القائل: وما العروة؟
قال: حق علي أن أؤخرها حتى أجد لها موضعاً، فإنها حكمة الحكمة!
قال له القائل: فيجري! وأحتسب تعطفاً!
قال: نعم، سل مفتقراً إلى ربك.
قال: ما العروة الوثقى؟(1/53)
قال: جلال الله تعالى، لا انفصام لها من الله. فلما أبداها في صدور الأولياء والمحدثين، وأشرق نور الجلال فيهم علقت قلوبهم به؛ فهامت في جلاله، ولهت عمن سواه، واشتغلت به. فهم المستمسكون بالعروة الوثقى، التي لا تنفصم من مبدئها. وأيدهم (الله تعالى) بروح الجلال فتعلقت بذلك التأييد بجلال الله تعالى!
وأتلفت قلوب الأولياء حتى صارت كلها على قلب رجل واحد. وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، قلوبهم على قلب رجل واحد)). وإنما صاروا هكذا، لأن قلوبهم لهت عن كل شيء سواه، وتعلقت بمتعلق واحد: فهي كقلب واحد. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام، فيما يذكر عن ربه، عز وجل: ((وجبت محبتي للذين يتحابون لجلالي ويتصافون لجلالي!)).
وهم الذين قال الله، عز وجل، عنهم في تنزيله: {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} وروح الجلال أعظم شأناً من أن يوصف. فإذا وجدت قلوبهم نسيم روح الجلال، كادت تطير من أماكنها شوقاً إليه، وهم محبوسون برمق الحياة، وصاروا في اللقاء يهش بعضهم إلى بعض؛ يطفئون حرقة الشوق باهتشاش بعضهم إلى بعض، ائتلافاً وتبسماً وتلذذاً.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ، لما ذكر العلماء: ((بروح ائتلفتم، وكتاب الله تلوتم، ومساجد الله عمرتم، أحبكم الله وأحب من يحبكم)). ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ((إذا التقى المؤمنان وتصافحا تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحاتت ورق الشجرة اليابسة)). فهذه صفة الأولياء.
حدثنا ابن أبي ميسرة، حدثنا إسماعيل بن عيسى بن سورة، حدثنا عبد الله بن الحسين، قاضي البصرة، حدثنا سعيد بن إياس الحريري، عن أبي عثمان النهدي، عن عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا التقى المسلمان كان(1/54)
أحبهما إلى الله تعالى أحسنهما بشراً بصاحبه. فإذا تصافحا أنزل الله عليهما مائة رحمة: تسعين منها للذي بدأ بالمصافحة، وعشرة للذي صوفح)). فإنما استوجب صاحب البشر والمصافحة لما في قلبه من هذه الأشياء، التي وصفنا.
وقال عز وجل، في شأن موته (الولي): {فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم}.
وحدثنا بشر بن هلال الصواف، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي الأشجعي، عن هارون الأعور، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة، رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: ((فروح)) بضم الراء، وهو الروح. ومن قرأ بفتح الراء فمرجعه إلى هذا، لأن ذلك الروح له روح يكشف عنه كرب الموت وجهده وغمه وضيقه، و((ريحان)) يدفع عنه غصة الموت ومرارته. فهذا ((للمقربين)) وهم أولياء الله. {وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين} فليس هو من المقربين في شيء.
فقد أخبر الله تعالى أنهم قد تعلقوا {بالعروة الوثقى} التي {لا انفصام لها} وهو قوله: {وأيدهم بروح منه} والتأييد هو أن يجعله لقلبه زماماً متعلقاً به.
فعبد له من الله تعالى كل هذه الحظوظ، إن بشره بفوز العاقبة ماذا يضره (ذلك)؟ وقد بينا أن البشرى إنما كانت ممنوعة من أجل الضرر، وقلب هذا (الولي) في قبضته، به ينطق به ويسمع وبه يبصر وبه يعقل فلن تضره البشرى.(1/55)
(الفصل السادس عشر) (تفكير عامة المؤمنين وتفكير خاصة الأولياء)
فسائر الموحدين بعقولهم يعقلون الأمور، وهو (الولي المقرب) بالله يعقل. فلو عقل هذا، الذي الكبر في صدره، ما قال قوله: (كيف) يعقل بالله؟ ولعلم أن الذي ذهب إليه جهل كبير. ولقد قصر بأمر الأولياء. وما أظن أنه ينجو من هذا حتى يرديه مذهبه. وهو يرى في نفسه أنه يعظم أمر الله بتحقير أمر الأولياء: فإذا هو يبني من جانب ويهدم من جانب آخر ما يبني، حتى يقتل نفسه تحت الهدم!
وهذا (المنكر) شبيه بأمر ذلك المخذول (المعطل): ما زال ينزه ربه حتى نفاه. والمخذول الآخر (المشبه): ما زال يثبت الصفات له، رداً على الآخر، حتى شبهه بخلقه. فهذا كله من ظلمة نفوس أقوام لم يتطهروا من دنس القلوب، ولم يروضوا أنفسهم حتى يتخلصوا من حجبها. وانخدعوا لها، ووجدوا شيئاً من روح هذا الطريق فقعدوا. وبسطوا بساط الطبيب (المنتحل للطب) الذي يعترض ممر الناس ببيع الأدوية، يصفها للناس بكلام منظوم، قد أعده لهم، لتأخذ دوانقهم، وهو خلو من علم الطب. فإذا تعرض له الحاذق بالطب وبعلم الطبائع (واختبره) تحير (أمامه وانقطع).
فهذه الطبقة التي يكبر في صدورهم بلوغ الأولياء هذا المحل من ربهم، فيدفعون هذا لجهلهم، لا يعلمون أن لله عباداً غرقوا في بحر جوده، فجاد عليهم، بكشف الغطاء عن قلوبهم، عن عجائب! وأطلعهم من ملكه ما نسوا في جنبه كل مذكور، حتى تنعموا به في حجبه الربانية.
قال له قائل: قد فهمت عنك ما شرحت، (ولكن) كيف عجز هؤلاء الذين دفعوا هذا الأمر، كما ذكرت؟
قال: لإعجابهم بصدقهم، وإكبابهم عليه وانقطاعهم عن منن الله تعالى. وكيف يعرفون مننه، وهم مشغولون بنفوسهم ودواهيها؟ ومتى يصلون إلى قرب الله تعالى، وهذه أحوالهم؟ فهم في غفلة عن الله، وفي عمى عظيم. إنما شغلتهم نفوسهم، فمرة مشغولون بقمع النفس وردها عما تريده، ومرة مشغولون بشهوة قد خدعتهم نفوسهم فيها، حتى دستهم في التراب وهم في غرة.
قال له قائل: مثل ماذا؟ وصف لنا منه شيئاً.
قال أحدهم: يخطر بباله شيء مما قد حظر عليه. فتنازعه نفسه. فيجاهدها حتى(1/56)
يردها، لأنه محرم عليه. فهو مشغول في ذلك. ثم تخدعه نفسه في ميلها، مما قد أذن لها فيه. فتزين له ذلك حتى تجره إلى الذي حرم عليه. فهو لا يزال كذلك، شأنه في السمع والبصر واليد والرجل والبطن، حتى إذا صارت الجوارح ذات تهمة كتمت النفس القلب ذلك. فإذا خافت النفس أن يشعر القلب بهذا، فينكر عليها ويأخذ بيدها - وثبت إلى منطق حسن، (مما) يوعظ الناس (به)، ووثبت إلى المحراب تأخذ في العبادة، وتموه على القلب وتزكي جوارحها لديه، فإذا كانوا (منكرو أحوال الأولياء) بهذه الصفة، فمتى يصلحون لمكان القربة، فضلاً عن مطالعة شأن الملكوت وقرب الله تعالى ونجواه؟
وعامة نجوى هؤلاء وسوسة وخدعة للنفس. فإذا ذكر شأن الأولياء، قدروا أحوالهم على ما يرون من أمور نفوسهم. فكذبوا نعم الله تعالى، ودفعوا مننه، وجهلوا أمره، فهذا من أعظم الفرية على الله تعالى.
قال له قائل: فإن بعضهم احتج بقوله تعالى: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} وقال: إن الأمن (من مكر الله) أول ضلال هذه الطبقة، وهذا يؤدي إلى الزندقة. وقال الله تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون} وأن الولاية والمحبة والسعادة والشقاوة غيب عند الله تعالى، لا يعلم إلا هو، وزعم أنك ناظرت يحيى بن معاذ في ذلك حتى بقي متحيراً. وأن هذه الطبقة تقدم نفسها على الأنبياء.
قال له: أما قوله تعالى: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} فهذا قول الله، لا ريب فيه ولا في قبوله. وهو أنه لا يعلم ما حاله عند الله تعالى. فإن أمن فهو خاسر جاهل. كأنه حكم على الله من غير أن يحكمه. فأما من بشره (الله) فرد بشراه فقد اجترم، كما اجترم ذلك الآخر. فهذا من هذا الوجه، وذلك من ذلك الوجه. فحق على من لا يعلم، أن لا يأمن. وحق على من أمن أن يأمن، فليس الأنبياء، عليهم السلام، كانوا(1/57)
يأمنون (من أنفسهم)، (ولكن) لما أمنوا أمنوا. والأنبياء لهم عقدة النبوة، والأولياء لهم عقدة الولاية.
(الفصل السابع عشر) (عقد الولاية وعقد النبوة)
قال له قائل: (وما عقد النبوة؟) وما عقد الولاية؟
قال: ولي الله الأنبياء: بأن أخذهم من نفوسهم إلى محل النبوة وكشف الغطاء. وولي هذا الصنف من الأولياء: بأن أخذهم من نفوسهم إلى محل الولاية وكشف الغطاء. فهؤلاء في عقدة وهؤلاء في عقدة: فلا يأمنون حتى يؤمنوا. وسائر الخلق، من الموحدين، في عقدة التوحيد، يتطلعون بقلوبهم (إلى) ما عنده. وذانك الصنفان (في عقدتي النبوة والولاية) ينجذبون بقلوبهم إليه.
فالذين عندهم ينالون مما لديه؛ وعقد قلوبهم هناك. والعامة من الزهاد والعباد والمتقين والمخلصين، ينالون مما ألقى إليهم في أرضهم: فهم أرضيون وأولئك عرشيون. هؤلاء نفسيون، وأولئك قدسيون. هؤلاء عبيد النفوس؛ وأولئك عبيد الجواد الكريم!
وهؤلاء (هم) الذين قال (عنهم) عيسى ابن مريم، عليه السلام، في خطبته: ((فلا عبيد أتقياء ولا أحرار كرماء)). فالعبيد الأتقياء. عبيد النفوس، لم يفتح لهم الباب فبقوا مع مجاهدة النفوس، فهم الأتقياء. والأحرار الكرماء: (هم) الذين أعتقوا من رق النفوس، بما فتح لهم من الملكوت. قال الله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين} فهؤلاء أهل اليقين.
قال له قائل: من أي طريق يؤمنون؟
قال: من طريق ما أخبرتك: الأنبياء، من طريق الوحي، أورده عليهم فقبلوه بالروح؛ والأولياء من طريق الحق، أوردهم على قلوبهم فقبلوه بالسكينة. ولم يقبلوا شيئاً خالف الشريعة.
وإما قبل (الأولياء) بشراه، بعد أن أعطاهم الله تعالى طهارة القلوب، وعلم التوحيد، ومعرفة الآلاء. فاطلع قلوبهم ملكاً ملكاً، وقطع لهم من كل ملك حظاً. وأوصلهم إلى نجواه ومجالسه القدسية. وأمات نفوسهم عن جميع الشهوات: دنيا وآخرة. فامتلأت قلوبهم من عظمة الوحدانية! فأنى يستفيقون لذكر النفوس؟(1/58)
فإذا أماتهم (الله تعالى فهم) لا يلتفتون إلى طلب فائدة أو علم أو حكمة حتى يكون هو الذي يفيدهم ويدلهم. ولا يلتمسون رياسة ولا ميل الخلق إلى ما جاؤوا به حتى (لا) يصير الالتفات حجاباً لهم عن خالقهم. وبعد هذه الأشياء، بشروا بفوز العاقبة.
فلو لم يكن في قلوب (الأولياء) إلا حسن الظن بعطاء (الله) لكان تحقيق ذلك: الخبر على قبولهم. فكيف بالفراسة والإلهام والحق والحكمة وروح الجلال وعجائب (مطوية) في قلوبهم؟ (فـ)كلها محقق ومصدق هذا الخبر. ثم السكينة تلقي الخبر (في القلب) فيقبله (القلب). فـ(كيف) يمكنه (الولي) رده (خبر البشرى)؟
(الفصل الثامن عشر) (منكروا أحوال الأولياء)
وهذا الذي يدفع (مثل) هذا، لا يعلم من هذه الأشياء إلا أسماءها. ولا يعلم صنع الله على القلوب. وهم مقرون بهذه الأسماء، فلو علموا ما هذه الأسماء التي ذكروها وما أفعالها على القلوب - لكانوا لا يحتجون بمثل هذه الحجج. فهم يقولون: حكمة حكمة! وفراسة، فراسة! وإلهاماً إلهاماً! وليس عندهم وراء هذا شيء. ألا ترى أنك تجد في مسائلهم أنهم يقولون: ما الفرق بين الوسوسة والإلهام؟ وليت شعري هل يعرفون قصة الإلهام وقذفه وصفته؟ من أين، وكيف، ومتى يكون؟ فكذلك هان عندهم شأن الإلهام!
وقد بلغ من سلطان الإلهام، ما بلغنا أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، نطق على المنبر، على الإلهام: ((يا سارية بن حصين، الجبل، الجبل)). فسمع الجيش كلمته في ذلك، وهم منه على مسيرة شهر، كما روي في الخبر. فانحازوا إليه، وأعانهم الله بذلك النداء. فالمحدث حديثه فيما بينه وبين ربه. فإذا صار (المحدث) إلى أمور الغيب، قذف إليه الخبر مع شعل الأنوار. فلولا أن ذلك القذف موسوم بالرحمة لذابت له الجبال، من هول السلطان الذي معه. فإذا صار (المحدث) إلى الفراسة، نظر بنور الله التام، فنفذ بصره فيما لم يخلق بعد.(1/59)
وكل هذا كان موجوداً في عمر، رضي الله عنه، ألهم حتى نادى: ((يا سارية الجبل))، من مسيرة شهر. وتفرس في الأشتر، حين دخل عليه، حدثنا بذلك يعقوب بن شيبة، قال: حدثنا بشر بن الحارث، عن سعيد بن عمر بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: ((دخلنا على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مع وفد مذحج. فنظر إلينا، حتى انتهى إلى مالك الأشتر. فصعد فيه النظر وصوبه، ثم قال: أيهم هذا؟ قلنا: مالك ابن الحارث. قال: قاتله الله! إني لأرى منه للمسلمين يوماً شراً عصيباً)).
وهذه وصمة عظيمة شديدة عند العقلاء. تدل على أنهم في صدقهم مدخولون، حسدة، بغاة؛ حب الدنيا في قلوبهم مشحون. يكبر في صدورهم أن يترأسهم أحد. فيقصدون قصد منن الله تعالى فيدفعونها. فعلماء الظاهر يدفعون كرامات الأولياء: من نحو المشي على الماء، وطي الأرض. فينكرون هذه الأخبار، ويقدرون ذلك من تلقاء أنفسهم. ويزعمون أن تلك (الكرامات) من آيات المرسلين، (الخاصة بهم وحدهم). فإن أثبتنا ذلك لمن دونهم، أبطلنا حجج المرسلين. وما أبعد ما وقفوا معه، فلم يميزوا بين الآيات والكرامات، ولم يعلموا أن الكرامات من كرمه والآيات من قدرته. فلم يقروا بالكرامات ليأسهم من هذه الكرامات، لما هم فيه من الأدناس والتخليط.(1/60)
وهؤلاء القراء، أعني المدعين للصدق، يدفعون ما وصفنا من شأن المحدثين والملهمين، الذين هم خاصة الأولياء. يقدرون ذلك من تلقاء أنفسهم، ويزعمون ((أن هذا لا يكون. وما وجدت علة (لـ) هذا الذي دهاهم، حتى أنهم أنكروا (كرامات الأولياء). إلا أنهم قدروا هذه الأمور على ما رأوا من حظوظ نفوسهم منه (الله تعالى). فإنما حظهم منه التوحيد، ثم الجهد في وفاء الصدق، ثم الصدق في الجهد حتى ينالوا شيئاً من القربة. وهم في عمى عن علم منن الله تعالى، وحظوظه لخاصته، ومحبته إياهم ورأفته لهم. فإذا سمعوا بشيء من هذا تحيروا وأنكروه.
ثم هم يروون الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء لمكانهم وقربهم من الله، عز وجل!)). و((ليتمنين اثنا عشر نبياً أنهم كانوا من أمتي))؛ ((لو أقسمت، لبررت، أن لا يدخل قبل سابقي أمتي الجنة إلا بضعة عشر منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومريم ابنة عمران)). فإذا رأوا هذه الأخبار سمحوا، وإذا صاروا إلى الإشارات وإلى المنصوص من الناس جحدوا. فهل هذا إلا من الحسد؟ فصار مثالهم في هذا، كما قال الله تعالى في تنزيله: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} كانوا يتحدثون فيما بينهم بمبعث نبي يخرج على دين إبراهيم، خليل الرحمن، صلوات الله عليه، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم ، جحدوه.
قال له قائل: أليس في هذه الأخبار ما يدل على تفضيل من دون الأنبياء على الأنبياء؟
قال: معاذ الله أن يكون كذلك! (فإنه) ليس لأحد أن يفضل على الأنبياء أحداً لفضل نبوتهم ومحلهم.
قال (له قائل): هلم فيغبطهم النبيون وليسوا بأفضل منهم؟
قال: قد فسره في الخبر، وذلك: ((لقربهم ومكانهم من الله)).(1/61)
فأما قوله (المنكر لأحوال الأولياء) محتجاً (بقوله تعالى): {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} فهل يدري قائل هذا القول، ما المكر، ليحتج به ههنا؟ وتفسير المكر أغمض من أن يفهمه صاحب هذا الكلام. فالأنبياء والرسل لم يأمنوا المكر بعد البشرى. وليس المكر عندنا ما يعقله العامة، (أعني المكر الذي) هو خوف التحويل؛ فذلك غير حاصل، (فإنه) إذا أمن وبشر أمن من المكر. وأما المكر الذي لا يجوز أمنه فأعظم شأناً من (أن يفسر أو يوضح هنا).
وأما قوله: أن هذا يؤدي إلى الزندقة، فليت شعري هل يدري ما الزندقة؟ أو سمع الناس يذكرون اسماً قبيحاً (فطفق يردده كالببغاء!) فكل من تحرك يريد التشنيع على غيره، يقول: هذا زندقة! فلو قال الآخر: بل الذي في يدك زندقة، لأنك تزعم أنك تعبد الله وأنت تعبد نفسك وهواك. ونفسك صنم بين يديك، وأنت معني بها فماذا تقول له؟
وأما قوله: {لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} فعلم الغيب عند الله. وكم من غيب اطلع عليه رسوله! فأية حجة في هذا؟ وإنما يريد أن يروج بمثل هذا على الأغبياء. وكم من غيب اطلع الله عليه أهل الإلهام حتى نطقوا به، وأهل الفراسة! ولم قال أبو الدرداء، رضي الله عنه: ((اتق فراسة المؤمن، فإنها، والله، حق يقذفها الله في قلوبهم وأبصارهم))؟ ومن أين قال سلمان رضي الله عنه، للحارث صاحب معاذ: ((عرف روحي روحك))؟ ومن أين قال أويس القرني: ((وعليك السلام، يا هرم ابن حيان؟)) قال: ((ومن أين عرفت أني هرم بن حيان))؟ قال: ((عرف روحي روحك)).(1/62)
فهذا عمل الروح، الذي ليس له من حظوظ القلب ومحله ومصيره إلى العلا شيء - فكيف بالقلوب التي وصفنا؟ أليس هذا الذي تكلم به أويس من الغيب، ولم يعرفه قط؟ أليس قد اطلع عليه؟ وقول عمر، رضي الله عنه، للأشتر: ((إني لأرى للمسلمين منه يوماً شراً عصيباً))؟ وقوله: يا سارية، الجبل!)) وهو على المنبر. ومثل هذا أكثر من أن يحصى. وقول أبي بكر، رضي الله عنه، لعائشة، رضي الله عنها: ((إني كنت نحلتك جدار نحل بالعالية. ولم تكوني حزته، وإنما هو مال الوارث، وإنما هو أخوك وأختاك)) فقالت له: يا أبت، إنما لي أخت واحدة. فقال: إني ألقي في روعي أن الذي في بطن بنت حارثة (هو) بنت: قالت: فولدت ابنة! أفليس قد حكم (أبو بكر) بما ألقى في روعه، فقال: ((فإنما هما أختاك))؟ فأثبت بالقول أن الذي في بطنها من ولده وأنها بنت. أفليس هذا غيباً قد اطلع عليه من طريق الحديث أو من طريق الإلهام؟
ويقال لهذا الزاعم: أن الغيب على وجوه. فهل علمت أي غيب هذا (الذي يعنيه الله في قوله): {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله}. وقال في آية أخرى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول}. ثم نجد في الأنبياء من ليس برسول، وقد أظهره الله على غيبه من طريق الوحي. (فهناك) غيب عنده (تعالى) يكاد يخفيه من نفسه: وهي الساعة. وغيب أظهره عند المحدثين والأولياء. فهل ميزت بين هذه الأشياء؟ أم أنت في خرف وعجرفة؟ سمعت باسم الغيب (فذهبت) تكرر آية من عرض القرآن محتجاً بها!
فما لك يا مسكين، والتعرض لحرمة الأولياء؟ أنت رجل عبد نفسه. لم تتخلص من غمة الهوى، فضلاً عن الهوى. ولكن هواك راجع إليك. فأنت، في علائق النفس والوساوس، مأسور، فاحذر أن تدخل في منازل الأولياء وكلامهم، فأنت لست من علمهم في شيء!(1/63)
(الفصل التاسع عشر) (الولاية والسعادة والمحبة)
وأما قوله: الولاية والسعادة والشقاوة غيب لا يعلمه إلا الله - أفليس قد أعلم الله تعالى كثيراً من عباده ذلك؟ وأعلم الله، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، كثيراً من عبيده بشقاوتهم وسعادتهم، مثل أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، حيث شهد لهما بالجنة؟
فإذا كانت الولاية من الله تعالى حقاً لعباده، فبشراه لهم حق (أيضاً) ولكن صاحب هذا القول خلو من هذا العلم. فهو يحسب أن الولي هو الذي يصير نفسه ولياً بصدقه. وهذا حمق! كأنه لم يتنبه لقوله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور} وقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}.
ويقال له أيضاً: أليس قد اطلع الله مريم على الغيب من أمر عيسى، عليه السلام؟ فلما تعجبت، وقالت: {أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} قيل لها: {كذلك قال ربك} فعندئذ سكتت واطمأنت. فأثنى الله عليها في تنزيله، فقال عز من قائل: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} فإنها لم تسأله آية على ما بشرت، فأثنى الله عليها وسماها في تنزيله {صديقة} أليس قد وجدت رزقاً، فقالت: {هو من عند الله} أليس قد وجدت شيئاً لا يعرف في الدنيا ذلك الوقت؟ وجدت فاكهة الصيف في الشتاء. فكان يكون ذلك ممكناً أن يكون الشيطان يحمل إليها سرقة، من عند الآدميين. فهل سبق إلى قلبها قط، إن هذا لعله من الشيطان، يريد أن يخدعها بمثل هذا؟ أليس قد اطمأنت إلى ذلك وقالت: {هو من عند الله}.
فإن قال: إن الذي خاطب مريم، عليها السلام، بمثل هذا الخطاب، من ((الغيب)) ملك. قيل له: فإنها لم تر الملك، إنما سمعت النداء، فأي شيء حقق عندها أن ذلك النداء من الملك؟ فحديث الملك، من حيث لا يرى، أبعد أم كلام الله على قلب العبد إذا ألقى إليه حديثاً؟ وهو قول داود لابنه، عليهما السلام: ((يا بني، ما أحلى شيء، وما أبرد شيء، وما ألين شيء؟ قال: أما أحلى شيء فكلام الله عز وجل، إذا قرع أفئدة الأولياء، وأما أبرد شيء، فروح الله تعالى بين المتحابين في الله. وأما ألين شيء، فحكمة الله تعالى إذا بشر بها أولياءه)). حدثني بذلك أبي رحمه الله، حدثنا إسماعيل بن صبيح(1/64)
اليشكري عن صباح بن وافد الأنصاري، عن سعيد بن طريف، عن عكرمة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما)).
ويقال له أيضاً: ما قولك في محدث، بشر بالفوز والنجاة فقال: رب، اجعل لي آية تحقق لي ذلك الخبر الذي جاءني لينقطع (الشك والاعتراض) فقال: آيتك أن أطوي لك الأرض حتى تبلغ بيتي الحرام في ثلاث خطوات. واجعل لك البحر كالأرض تمشي عليه. كيف شئت. واجعل لك التراب والجو في يديك ذهباً! ففعل هذا. هل ينبغي له أن يطمئن إلى هذه البشرى، بعد ظهور هذه الآية أم لا؟ فإن قال: لا، فقد عاند واجترأ على الله وحلت به دائرة السوء. وإن قال: نعم، فقد ذهب قوله واحتجاجه الظلماني!
ولا ينكر هذا إلا حاسد لنعم الله وتقديره، محب للدنيا، كاتم للمحبة، مظهر للزهو معجب بنفسه. وقد سترت نفسه المخادعة له هذه الأشياء، فهو لا يراها من نفسه. ويحسب أنه يذب عن الحق بقوله، وغيظه في صدره يتلظى. ولا يعلم أن هذا غيظ الغيرة والحسد، وإنه لا يصل بجهده إلى هذا. فهو يغتاظ ويحنق على من أوصله الله تعالى، من طريق المنن والمشيئة حتى يؤديه (ذلك الغيظ والحنق) إلى تكذبيه ورميه بالزندقة. فإذا هو كما قال (الله تعالى لموسى عليه السلام): ((يا موسى، لا تحسد الناس على ماء آتيتهم من فضلي فإن الحاسد عدو لنعمتي، ساخط لأمري، مضاد لقضائي)).
فهذا المسكين، في الباطن يسخط قسمة الله تعالى، ويضاد قضاءه. ويعادي نعمه. وهو يحسب أنه يذب عن الحق وينكر الباطل. ويقال له: ما قولك في عمر بن الخطاب، رضي الله عنه؟ فإنه كانت رجفة عظيمة في عهده فقال: ((ما هذا؟ ما أسرع ما أحدثتم! والله، لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم)). فبأي شيء عرف عمر، رضي الله عنه، أن هذه الرجفة معاتبة (من الله) لهم دونه؟ هل عرف هذا الأمر إلا من قبل ما وصفنا؟ وإلا فكيف استجاز أن يبرئ نفسه من الحدث والمعاتبة، فيقول: ((لأخرجن من بين أظهركم))؟(1/65)
(الفصل العشرون) (الولي والخطيئة)
قال له قائل: فما حال هذا الذي تصفه بهذه الصفة في وقت المقدور عليه من المعصية؟
قال: حاله لا يوصف.
قال: وكيف لا يوصف.
قال: لأني لو وصفت، لم أصف جزءاً من عشرة آلاف مما يحل لصاحبه هذا، إذا وقع في المقدور عليه من الخطيئة ثم انتبه منها. فكل شعرة منه تصرخ إلى الله تعالى ندماً. وكل عرق يئن إليه ألماً. وكل مفصل منه يتطاير هولاً وذهولاً. ونفسه دهشة. وقلبه هائم. فإذا لاحظ جلاله، كادت نفسه تزهق. وإذا لاحظ محبته، اشتعل ناراً فأحرقت مصارينه. ويكاد كيده يتقطع. ولكأن مصائب الدنيا كلها تراكمت على صدره. لا يطمأن إلى شيء حتى يكون الله هو الذي يرحمه فيرفه عنه ذلك. ولا يزال هذا كياً على قلبه. فمتى يزول عنه أثر ذلك الكي؟ كلما نظر إلى أثر هذا الكي، فاضت عبراته، وجعاً وحياءً، حتى يعطف الله عليه، فيطمس ذلك منه.
قال له القائل: إنك لتصف أمراً على غير سبيل ما أشار إليه يحيى بن معاذ، رحمه الله.
قال: رحم الله يحيى بن معاذ! قد عرفت مكان يحيى من هذا الأمر. كان يحيى رجلاً من أولياء الله، ممن له حظ في هذا الأمر. ولكن الله عز وجل، فتح له في الغيب من ملك الجمال؛ وملك البهجة مقرون بملك الجمال. فكان إياه يلاحظ، وعنه ينطق؛ وكذلك الشيوخ الذين صحبهم.
وصاحب هذا المحل، الأنس غالب على قلبه. والمأنوس منبسط. ويخرجه انبساطه إلى الإدلال. فإن لم يعصمه الله ويؤيده سقط. لأن الجمال يذيبه فيفقده. والبهجة تجيش فترمي به. مثله كمثل قدر فيها من كل شيء من الأطايب؛ ومن تحتها لهب النار. فإذا اشتد غليان القدر؛ جاش بما فيها فرمت بأطايبه ودسمه. وفي هذا المقام يسقم القول. ومن أراد الله به خيراً، قدمه من ملك الجمال، إلى ملك الجلال إلى ملك الكبرياء إلى ملك الهيبة، حتى يقدمه إلى ملك الملك؛ إلى ملك الفردانية. فهيهات أن يخطر ذلك الكلام ببال المقدم وذكره! وقد عرفنا ذلك القول، وهو قول سقيم، غير مقبول ممن قاله، وإن كان له حظ من الولاية.(1/66)
وأجمل لك القول: إنما انتخب الله الولي، وبلغ به هذه المنازل، وليجعله حجة على أهل الموقف، وليرى الملائكة عيب قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} لما قال: {إني جاعل في الأرض خليفة} {إني أعلم ما لا تعلمون} فأراد لمثل هذا الولي أن يجعل أحواله جلية على أعين الملائكة وحجة على الخلق، لا ليجعله عبرة في الذنوب. ثم قال له: ارفع بال الذنوب عن قلبك، فهذه وسوسة الشيطان، وإياك أن تصغي أذنك إلى هذا القول.
فأي حبيب له صدق المحبة في قلبك (وأنت) تجهد نفسك على مخالفته؟ فإن بدت منك جفوة، لا تسخو نفسك أن تستقر حتى تعتبه، ومثل هذا يقلقك في الآدميين.
وكيف تتهنى بطعام أو بشراب قبل أن تعتب الكريم الجليل؟ فإنه لو لم يرفع ذلك (ذكرى المعصية) عن قلبك، بلطف رحمته، بعد حين وبعد -ما احترقت في حبه- فكيف تجد القرار؟
(الفصل الحادي والعشرون) (الولي والأسرار الإلهية)
واعلم أن من أراد الله هدايته، واكتنفته رأفته ورحمته، ومنحه طريق محبته - فسبيله إذا فتح عليه هذا الطريق أن يرزقه خشيته.
وإنما برزت الخشية من العلم به؛ فإذا علمه القلب خشيه. وإنما ينال العلم من الفتح؛ فإذا فتح الله له، شاهد الأشياء ببصر قلبه: فعلمه، فخشيه. وإذا التزم القلب الخشية حشاه (الله) بالمحبة. فيكون بالخشية معتصماً مما كره الله سبحانه، (مهما) دق أو جل. (ويكون) بالمحبة منبسطاً في أمور، ذا شجاعة.
فلو ترك (الله العبد) مع الخشية، لانقبض وعجز عن كثير من أموره. ولو تركه مع المحبة وحدها، لاستبد وتعدى: لأن النفس تهيج ببهجة المحبة. ولكنه، تبارك اسمه! لطف به: فجعل الخشية بطانته، والمحبة ظهارته حتى يستقيم به قبله. فيرى التبسم والانطلاق والسعة في وجه (العبد) وأموره، وذلك لظهور المحبة على قلبه؛ (ومع ذلك، في داخله) أمثال الجبال خشية!
فقلبه خاشع، ووجهه منطلق. ثم يرقي (الله العبد) إلى مرتبة أخرى، وهي الهيبة والأنس. فالهيبة من جلاله والأنس من جماله. فإذا نظر إلى جلاله هاب؛ وإذا نظر إلى(1/67)
جماله انبسط وطاب. فلو تركه (مع الجلال)، لعجز عن أموره: كثوب ملقى أو جثة بلا روح. ولو تركه (مع الجمال) لجاشت نفسه وتعدت. فجعل (الله تعالى) الهيبة شعاره والأنس دثاره حتى تستقيم له نفسه!
ثم يرقيه (الله) إلى مرتبة أخرى، وهي مرتبة الانفراد: مرتبة القربة العظمى. فمكن له (عز وجل) بين يديه، ونقاه بنوره، وفتح له الطريق إلى وحدانيته، وأطلعه على بدء الأمر من قوله: {الظاهر والباطن} وأحياه بنفسه واستعمله. فبه ينطق هذا العبد، وبه يعقل، وبه يعلم، وبه يعمل. وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما يحكيه عن ربه: ((فإذا أحببت عبدي كنت فؤاده، فبي يعقل. وسمعه وبصره، فبي يسمع ويبصر. ويده فبي يبطش)).
فهذا سيد الأولياء، وأمان أهل الأرض، ومنظر أهل السماء. وخالصة الله، وموضع نظره. وسوطه في خلقه؛ يؤدب بكلامه، ويرد الخلق إلى طريقه، ويجعل منطقه قيداً لقلوب الموحدين، وفصلاً بين الحق والباطل.
فهذا من الصنف الذين اجتباهم بمشيئته: لا من الصنف الذين ولي هدايتهم بإنابتهم. فإنهم قد ذكروا في الكتاب، فقال، عز من قائل: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} فالمجتبي هو عبد قد جذب الله تعالى قلبه إليه، فلم يعان جهد الطريق، وإنما جذبه على طريق اصطفاء الأنبياء. لأن حاله هذه، خرجت له من المشيئة. فأجراه (الله) على خزائن المنن. ثم أخذ بقلبه فجذبه إليه واصطفاه. فلم يزل يتولى تربيته، قلباً ونفساً - حتى رقي به إلى أعلى درجات الأولياء، وأدناه من محل الأنبياء بين يديه.
وأما المهتدي بالإنابة، فهو عبد أقبل إلى الله تعالى يريد صدق السعي إليه، حتى يصل إليه. فبذل أصدق الجهد، فهداه (الله) إليه لما كان منه من الإنابة. فهذا عبدٌ، جهده نصب عينيه أبداً؛ وهو حجاب له عن ربه، عز وجل! وإن سبق لظنه أن هذا منة، ونطق بلسانه وتبرئ من جهده - فإن جهده نصب عينيه، لا يخرج علم ذلك من نفسه.
والمجذوب لم يعان شيئاً من هذا: فهو على اصطفاء الأنبياء، يمر إلى الله والله يذهب به. وهو لا يهتدي لشيء من الطريق، فهو صاحب الحديث والمبشر والمستعمل. فلا شيء يتعاظم عنده من هذه الأقوال.(1/68)
(الفصل الثاني والعشرون) (المهتدي والمجتبي)
وقد كان عندنا قوم يتكلمون في هذا النوع من العلم، على التوهم والمقاييس. وبلغ من جهلهم أن قالوا: إن هذا الواصل إليه (إلى الله) على طريق الجهد، أقل خطراً في السلب من هذا الذي أعطى من غير جهد. وذلك أن الذي أعطى على جهد، صير (الله تعالى) ذلك الوصول ثواباً لجهده. وإذا أثاب الله العبد على شيء لم يرجع فيه. وهذا الذي أعطي على غير جهد، هو عبد مبتلى، وامتحن بالشكر: فهو غير مأمون أن يسلب، وخطره في السلب أعظم.
فتعجبت من جهلهم حيث جعلوا الوصول إلى الله تعالى عوضاً من جهة العبد. فعرفت أنهم أصحاب مقاييس، لا يعرفون ما الوصول، ولا قدر الوصول. وهل وصل أحد إلى الله عز وجل، إلا بالله؟
فيزعمون أنهم إنما وصلوا بجهدهم. وكذبوا، والله! (فإنه) ما وصل أحد منهم إلى الله، عز وجل، إلا بالله. ولقد كذبهم غيري؛ فإن المؤمن يغار لله. فلقد ازدروا شأن الوصول، فأبلغوا في الإزدراء. لا جرم أن الله يزدري بالجاهل المتكلف! فليس من جهل وسكت، كمن جهل فتكلف. فالمتكلف ممقوت، ولا سيما في أمر الله وصنعه.
(والقول الحق) أن الصادق لما استفرغ مجهوده، بقي منقطعاً عن الصدق في مفازة الحيرة. فاضطر فجأر إلى الله تعالى، صارخاً مستغيثاً، فرحم! فإنما وصل إليه به: من حيث رحمه. فكيف يكون وصوله ثواباً لجهده؟ وقد شرحنا هذا بدياً. فهذا مرحوم بجهده، والأول ممنون عليه من جوده وكرمه. فكيف يجوز أن يظن بالله الجواد الكريم، القريب في جوده وكرمه، أن يرجع في مننه؟ ومن ههنا أخطأ هذا المتكلف: أن ظن بربه أنه أوصله إلى قربه ومكن له بين يديه ليبتليه. ويحك! هذا عبد متخذ لا مبتلى. وإنما الابتلاء في شأن النفس لا في شأن القلب.
أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً))، فالمتخذ هو المأخوذ، ومنه اشتقاقه. (فمحمد صلى الله عليه وسلم ) هو المجذوب من بين سائر الأنبياء، خصه الله بهذا فاتخذه وجذبه. والأنبياء، من قبله، أوتوا الحكمة والبيان والهداية ثم(1/69)
تنبؤا، ثم أرسل إليهم. ورسولنا صلى الله عليه وسلم ، أخذ أخذاً، فجذبه (الله إليه) على طريق الاصطفاء. ألا ترى إلى قوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى} فهل يكون الوجود إلا بعد الطلب؟ فإن الله تعالى طلبه، من بين سائر العباد، بالمنة التي سبقت له في المشيئة. فلما جاء الطلب وجده كما وصف: {ضالاً فهدى}، أي: مال به، فجذبه، فنبأه.
فكذلك شأن هؤلاء المجذوبين: يجذبهم الله إليه على طريقه. فيتولى اصطفاءهم وتربيتهم حتى يصفي نفوسهم الترابية بأنواره، كما يصفى جوهر المعدن بالنار حتى تزول ترابيته، وتبقى النفس صافية. وتمتد تلك التصفية، حتى إذا بلغوا الغاية من الصفاء أوصلهم إلى أعلى المنازل، وكشف لهم الغطاء عن المحل، وأهدى إليهم عجائب من كلماته وعلومه. وإنما يمتد ذلك، لأن القلوب والنفوس لا تحتمل مرة واحدة كل ذلك. فلا يزال يلطف بهم، حتى يعودهم احتمال تلك الأهوال، التي تستقبلهم من ملكه. فإذا وصلوا إليه احتملوا الوصول والنجوى.
وقد نجد مثال هذا في خلقه. فإن الملك يريد أن يختص بعض رعيته لقيادة أو ولاية فيدعو به. فمن تدبير الملك، أنه إذا ذهب (بالعبد) (إليه) التزم بابه. ثم يمهل (العبد وقتاً ما) حتى يعتاد الباب وقواده، وليطمئن ويهتدي إلى أمور الخدمة. ثم إذا قدم إليه تحول من مجلس إلى مجلس، حتى يسكن روعه ويخشع قلبه. ثم إذا قدم إليه، أمهل ساعات ليطمئن، ثم يكلمه. ولهم تدبير أعمق من هذا، (ما) قصدت لكم وصفه. وإنما علم الملوك هذا التدبير من مالك الملك، إذ آتاهم من ملكه. وهو أحق بالتلطف بعباده.
(الفصل الثالث والعشرون) (المدة والجذبة)
فالسبب في المدة بعد الجذب، هو الذي ذكرت. ألا ترى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، لما نبئ أجاب فرقاً ووقع كالمغشي عليه؟ فلم تزل النبوة تعمل فيه. ثم أمر بأن يصدع بأمر الله. وقبض يده عن الحرب، حتى هذبه وأدبه، في هذه السنين العشر. وسلط عليه أعداءه بألوان الأذى: من الضرب وسوء الجوار وفنون المكروه. وفي خلال ذلك يقول (له): {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين}، {فاصفح عنهم وقل سلام}، {إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر}، {وما أنت عليهم بوكيل}، {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}، {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً}، {إنك لا تهدي(1/70)
من أحببت}، {وإن كان كبر عليك إعراضهم} إلى قوله: {الجاهلين} يعني: أن من كانت له مشيئة معه مشيئة الله فذلك شعبة من الجهل، فيلزمه اسم الجهل.
فهذه الآيات تأديب من الله له، وموعظة لعبده: ليعلم أن النبوة أخذته والنفس حية تعمل عملها. فقبض يده عن (ولاية) قتل عبيده (بالعدل)، والحكم فيهم بسلطانه (سلطان الحق). فلم يوله ولاية السلطان (بالحق والعدل) حتى تمت له السنون العشر، من يوم أظهر الدعوة. وذلك تمام العدد، وهي عشرة كاملة. فلما انتهت المدة، أثنى الله عليه فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وأي خلق أعظم من خلق من ترك مشيئته ونبذها وراء ظهره حتى استقام قلبه على أخلاق الله، وهي مائة وسبعة عشر خلقاً؟ حدثني بذلك أبي، رحمه الله، حدثنا يحيى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الواحد بن زيد، قال: حدثنا راشد، مولى عثمان، قال: حدثنا مولاي عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن لله مائة وسبعة عشرة خلقاً، من آتاه بواحدة منها دخل الجنة)).
فلما زالت عنه أخلاق النفس، جاء الإذن بضرب السيف فجاءت النصرة: قال الله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} أي: في سبيل الله. ثم قال تعالى: {وإن الله على نصرهم لقدير} فوعدهم النصرة، وبوأ لهم مكان الهجرة. فأعطاه النصرة على أيدي الأنصار. وقع قطعه من الرعب تسير أمامه مسيرة شهر، فتذهل النفوس، وتجزع القلوب، وتطير الأفئدة عن أماكنها من أجله! هذا، بعدما هذبه، وأدبه، وقوم نفسه.
وإنما منعه ذلك، (في ابتداء النبوة) ليطفئ عنه نيران العجلة، ويسلب عنه مشيئاته بزجراته ومواعظه وبما يورده عليه من الأنوار. فيعظه في الظاهر ويزجر نفسه، ومع هذا يغذيه في الباطن برحمته ويزينه بأنواره. فقال عز وجل: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما(1/71)
يقولون} الآية، إلى قوله: {اليقين}، {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً} {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا}، {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت} ودعا (النبي) على قومه، فنزلت: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} وروي في الخبر أنهم أسلموا كلهم بعدما دعا عليهم.
فإنما منعه القتال (دفاعاً) ولم يعطه سلطان ذلك، من أجل هذه الأشياء. فإن هذا كله من عمل النفس ومشيئاتها. فهل يجوز، مع هذه الأشياء، سلطان الحرب حتى يهتريق دماء عبيده؟ ألا ترى إلى ما لقي موسى صلى الله عليه وسلم من قبل رجل من آل فرعون، مشرك بالله تعالى؟ ثم تاب الله عليه فقال: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} ثم قال: {رب اغفر لي}، فغفر له! ثم قال: {رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين} فعوقب بقوله: {فلن أكون} حتى إذا كان من الغد كان ما قصه الله، حيث قال: {فأصبح في المدينة خائفاً يترقب فإذا الذي استنصره} الآية، إلى قوله: {إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين} فإنما صار مريداً لأن يبطش بالذي هو عدو لهما بقوله بالأمس: {فلن أكون}، فإن هذه كلمة اقتدار. روي في الخبر، أن يوسف صلى الله عليه وسلم ، ((لو قال، عندما راودته امرأة العزيز عن نفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله لما هم بها ولسلم من السجن، ولعصم منها، ولكن قال: معاذ الله! وهي كلمة اقتدار)).
وطريق الأنبياء، عليهم السلام، أعظم من أن يوصف، روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه جاءه وفد فقرأ عليهم: {والصافات} إلى قوله: {فاتبعه شهاب ثاقب} فجعلته دموعه تجري على خده. فقالوا: يا أبا القاسم، أمن خوف الذي بعثك تبكي؟ فقال: إي، والذي بعثني بالحق، إنه بعثني على طريق مثل حد السيف، إن زغت عنه هلكت ثم قرأ: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} وهذا طريق الإيمان بالله على النبوة وكشف الغطاء والتبري من الأسباب والنزاهة من العلائق، وطريق الإسلام أوسع من السماء والأرض، وهو الشريعة!(1/72)
فهذا شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في تأديبه من لدن مبعثه إلى عشر سنين. ثم أمر بالهجرة. وابتعث له الأنصار بالتأييد والإيواء حتى رقت نبوته فاتمن على سفك الدماء وسبي الرقاب وأخذ الأموال (بالحق)! ولم يكن قبل هذا لرسول، ولا لأمة من الأمم. بل خص الله تعالى به هذا النبي وهذه الأمة، لفضل نبوته وفضل يقينها. وبنو إسرائيل لم يؤذن لهم بذلك. وإنما أمروا بالقتال من أجل الأرض المقدسة التي كانت لهم وراثة عن أبيهم إبراهيم. فإنما قاتلوا عن ديارهم وأموالهم. فلم تحل لهم الغنائم، وكانت نار القربان تأتي فتأكل غنائمهم.
وقد كان سبق من الله تعالى لهذه الأمة من اليقين حظ وافر. فتقووا على قتال المشركين، حمية لله تعالى لا لنصيب النفس. ولذلك قال (عليه الصلاة والسلام): ((نبي الحرب والملحة))، و((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) فقاتلت هذه الأمة على إقامة هذه الكلمة العليا: ((لا إله إلا الله))! لحب الله. ثم حبب إليهم الإيمان، فبفيضان المحبة غاروا له، وعملت فيهم الغيرة، والحمية لله عز وجل. فقاتلوا عن الله تعالى، وسبوا من أعرض عنه، وغنموا أموالهم، وقتلوا عبيده الأباق وبنوا إسرائيل لم يقووا على هذا الأمر. ألا ترى أنهم قالوا: {وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا}؟ فقاتلوا للديار والأموال. {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أعطيت أمتي من اليقين ما لم تعط أمة)) وذلك قوله تعالى: {أن يؤتى أحد مثل ما(1/73)
أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله} الآية.
فإذا كان الرسول عليه السلام، محتاجاً إلى التأديب والتهذيب والمدة، حتى يصلح لأمانة الله تعالى - فكيف بالأولياء؟ فمن أجل ذلك يحتاج الولي إلى مدة في جذبه، كما يحتاج المجتهد (إلى مدة) في صدقه. إلا أن هذا تصفيته لنفسه بجهده، وتصفية المجذوب يتولاه الله بأنواره فانظر كيف صنع الله بعبده، وصنع العبد بنفسه؟ أما ترى آدم، صلوات الله عليه، كيف فات الخلق وبرز عليهم بما تولاه الله من فطرته؟ وقال لسائر الخلق: كن فكان.
فالمجذوب يجذب في كل موطن في طريقه (إلى الله تعالى) ويخبر ويعرف المواطن.
(الفصل الرابع والعشرون) (المجذوب)
قال له القائل: صف لنا شأن المجذوب، من مبتدأه إلى منتهاه إلى آخر صفته وخبره.
قال: نعم، إن شاء الله تعالى! اعلم أن المجذوب في مبدأ أمره (هو عبد) صحيح الفطرة، طيب التربة، عذب الماء، زكي الروح، صافي الذهن، عظيم الحظ من العقل، سليم الصدر من الآفات، لين الأخلاق، واسع الصدر، مصنوع له، أعني: محفوظاً عليه. فإذا بلغ وقت الإنابة هداه (الله) ووفقه للخير، حتى إذا بلغ وقت كشف الفتح، فتح له. ثم أخذ بقلبه فمر به إلى العلاء، إلى المكان الذي رتب له بين يديه. ثم رجع به فصيره في قبضته. ثم جعل بينه وبين النفس حجاباً، لئلا تشارك النفس القلب في عطاياه.
ووكل أحق بنفسه ليغذوها قليلاً قليلاً، بقدر ما تحتمله النفس من العطاء الذي يرد على القلب. و(هكذا) يؤدبه (الله) ويسير به إلى المحل الذي رتب له بين يديه.
فقلب (المجذوب لا يزال بدياً) مسجوناً في القبضة (الإلهية) لا يقدر أن يصل إلى محله من الله تعالى من أجل أن النفس مشحونة بعجائب الأنوار. والنفس يسار بها قليلاً قليلاً، برفق حتى لا تعجز وتعيا. فيرد عليها من النور على قدر احتمالها من العطاء. ففي أول ما يرد عليها من العطاء ما يسكرها عن شهوات الدنيا. ثم بعد ذلك، يرد عليها من العطاء ما يسكرها عن وجود حلاوة هذا العطاء. ثم بعد ذلك، يرد عليها ما يسكرها عن وجود حلاوة القربة. ثم توصل إلى مكان القربة. فتتغذى هناك وتؤدب مع القلب جميعاً. ويؤيدها الحق: فيورد عليها الأنوار، أنوار الملك حتى يقومها ويؤدبها ويطهرها!(1/74)
قال له قائل: ما آخر تقويمها؟ أجمله لنا، فإن الوصف في هذا يطول على الامتحان والاستقصاء!
قال: إن المجذوب ملزم، موكل به الحق ليحرسه، حتى لا يقع في مهلكة فيسقط بها. والله يغذوه برحمته حتى لا تبقى في نفسه مشيئة تتحرك. فحينئذ تبدو له المشيئة العظمى، من ملك الرحمة. فيكشف له الغطاء، ويؤمر أن يقدم إلى الفخر.
قال: وما الفخر؟
قال: معرض المحدثين.
قال: وما صفته؟
قال: قبة من نور القربة، لها أربع طبقات، مرخى عليها الحجب. فيرفع الحجاب الأول أمام القبة، فتبدو له عظمة الله. فتجيئه العظمة فتكتنفه حتى يتحمل ذلك ثم يمهل حتى يقوى. ثم يعاد. ثم تتجلى له العظمة من الله، ثم تجيئه العصمة فتكتنفه فيقبله (الله) ويرضى عنه. ويأمر الله الروح الأمين، عليه السلام! أن ينادي من بطن العرش، في السماوات: بالرضى عنه. فينادي جبريل عليه السلام: (إن الله قد أحب فلاناً، فأحبوه) فيوضع له القبول في الأرض. وقد جاءت الأخبار بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يهيئوا (الله) له في كل يوم مجلساً، وفي كل مجلس نجوى!
قال له القائل: كلما طلبنا الاختصار، وقعنا في بحر!
قال: نعم، (ومع ذلك فإني) أجتهد أن أختصر لكم من كل شيء شيئاً: فما هذا الذي وصفت لكم إلا كرأس إبرة من بحر لجي، في جنب ما للعبد بين يدي (الله تعالى) من الرعاية والتنعم بوجهه الكريم، ففكر في نفسك، هل يلتفت هذا الموصوف بهذه (الصفة) إلى كلام أحد، أو ثناء أحد، أو مدح أحد؟ وهل يعبأ بمكروه؟
وأين هذا من هؤلاء الذين قد شغلوا بعذاب نفوسهم؟ فمزابل النفس في صدورهم، وعلائق الشيطان في كلامهم. تراهم الشهر والدهر في كلام مسلسل لا ينقطع. إذ ذكر العيب عابوه وذكروا عيب العيب. وإن لحظت (النفس) كذا فعيب، وإن لم تلحظ فعيب. فـ(مثل) هذا متى ينقطع؟ لو قعد أقلهم علماً، يأخذ براس هذا الجبل (ليقيسه) لقطع عمره(1/75)
ولم ينقطع هذا الجبل مقاساً وتشبيهاً. وإنما يخفى هذا على المقاييس. فليس هذا يعلم: هذا موجود!
وإنما العلم علم المنن، ثم علم الصنع والتدبير، ثم علم المقادير، ثم علم البدء، ثم علم الآلاء الذي بدأ مع المشيئة في الأحدية والفردية. فمن أخذ برأس جبل كل نوع من هذه العلوم وقع في بحر الله عز وجل، فغرق فيه وأحياه الله به! ومن أخذ برأس جبل علم النفوس وعيوبها وقع في بحر النفس فغرق فيه، وقتلته النفس!
قال له القائل: ذكرت أنه لا تبقى له مشيئة، وكيف تنقطع عنه مشيئة الوصول إليه؟
قال: لو تركه عمر نوح، عليه السلام، لم تنقطع عنه تلك المشيئة. ولكن الله لطيف بعباده، حكيم في أمره. يلطف بعبده حتى يقطع عنه المشيئة. فحينئذ تظهر نفسه من جميع المشيئات ويصح للقبول. فإنه ما دامت له مشيئة واحدة فنفسه معه. فليس للقلب أن يتقدم إلى الله تعالى، في مقام العرض ليقبله ويتخذه عبداً، بعد أن تولى سيره إليه بنفسه. ولا يكله (الله) إلى نفسه حتى يجاهد. وليس لمثل هذا القلب أن يتقدم إلى الله تعالى مع نفس فيها مشيئة. لأن تلك المشيئة شهوة، (وهي خيانة من النفس) وسوء أدب، وليس للخائن أن يقرن بالأمين حتى يتقدما إليه (إلى الله تعالى) فيقبلهما.
قال له قائل: فكيف لطف الله تعالى بعبده من هذا المقام حتى انقطعت (عنه) مشيئته؟
قال: لو ضننت (بالإجابة عن هذه المسألة) على الخلق أجمعين حتى أصيب لها أهلاً لكنت محقاً بذلك. ولكن قلبي أجده يعطف عليك؛ وأحسب أن فيك لله خشية. إذا خرجت للعبد الرحمة، من ملك الرحمة، سقاه ربه شربة يسكره بها عن هذه المشيئة!
قال (القائل): وما هذه الشربة؟
قال: شربة الحب.
قال: وما هي؟
قال: كفاك هذا! - فصار (العبد) بحال لم يعقل من هذه الأمور شيئاً. فباطنه سكر، وظاهره حيرة وبهتة. وأما المشيئة فمفقودة في هذا السكر. فإن أفاق من سكره قليلاً صرخ إلى الله تعالى، صراخ المضطر، فجاءت الرحمة فاحتملته ووضعته بين يديه.
قال القائل: ولم يصرخ؟
قال: لأنه لما أفاق من سكره قليلاً وجد ريحاً.
قال: وما ذاك الريح؟(1/76)
قال: ألم تر إلى الطفل إذا فقد أمه بكى وتحير في الوجوه وأخذته الغربة، لأنه لا يجد أمه. فلا ينام ولا ينيم. حتى إذا وجد ريح الأم تهلل وصرخ!
قال القائل: لقد جئت (يا شيخ) بمثل عظيم! فما هذا؟
قال: ويحك، إن العظيم في جلاله لما قرب هذا العبد، خرجت له الدولة من مشيئته على طريق المحبة والرأفة والتحنن عليه. فلما بلغ هذا المحل أفاق من السكر، وقد انطمست المشيئة عنه بسكره. وفيه بقية من السكر. وهو قلب غريب في مفاوز الحيرة، منفرد في تلك الفردية. و(فجأة) وجد ريح الرأفة (الإلهية) في قلبه، فصرخ إلى ولي الرأفة. فجاءت الرأفة فاحتملته. وبلغته الرحمة، فأخذته فأذته إلى مولاه. فأوصله إلى نفسه بلا مشيئة. فإن هذه أقوى المشيئات وأعظمها. ويستحيل أن تسقط عن النفس إلا من هذا الوجه، الذي لطف الله تعالى بعبده فيه.
(الفصل الخامس والعشرون) (خاتم الأولياء)
قال (له) القائل: صف لنا هذا المجذوب، الذي وجبت له الإمامة على الأولياء، وإن لواء الولاية بيده، وأن الأولياء كلهم محتاجون إليه في الشفاعة كما يحتاج الأنبياء إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
قال: (أما) صفته فهو الذي أعلمتك.
قال: فبم تقدم الأولياء فاحتاجوا إليه؟
قال: بأنه أعطى ختم الولاية: فبالختم تقدمهم، فصار حجة الله على أوليائه. وقد ذكرت في أول الكتاب سبب الختم: (وهو) أن النبوة أعطيت الأنبياء، عليهم السلام، ولم يعطوا الختم. فلم تخل تلك الحظوظ من هنات النفس ومشاركتها. وأعطي نبينا وختمت له نبوته. كالعهد الذي يكتب ثم يختم، فلا يصل أحد إلى أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه، وقد وصفت شأنه فيما تقدم.
وكذلك هذا الولي يسير به (الله تعالى) على طريق محمد صلى الله عليه وسلم بنبوته، مختوماً بختم الله. فكما كان محمد صلى الله عليه وسلم حجة على الأنبياء، فكذلك يصير هذا الولي حجة على الأولياء: بأن يقول (الله تعالى) لهم: معاشر الأولياء، أعطيتكم ولايتي فلم تصونوها من مشاركة النفس. وهذا أضعفكم وأقلكم عمراً قد أتى بجميع الولاية صدقاً، فلم يجعل للنفس فيها نصيباً ولا تلبيساً.(1/77)
وكان ذلك في الغيب من منة الله تعالى على هذا العبد، حيث أعطاه الختم لتقر به عين محمد صلى الله عليه وسلم في الموقف. حتى قعد الشيطان بمعزل، وأيست النفس فبقيت محجوبة.- فيقر له الأولياء يومئذ بالفضل عليهم. فإذا جاءت تلك الأهوال لم يك مقصراً. وجاء محمد صلى الله عليه وسلم ، بالختم فيكون أماناً لهم من ذلك الهول. وجاء هذا الولي بختمه فيكون أماناً لهم بصدق الولاية، فاحتاج إلى الأولياء.
وللختم شأن عجيب! ولله في ولد آدم عجائب، وخلقهم لأمر عظيم.- ولما عرف العاقل أن الله ولي خلق آدم بيده علم أن هذه خطة فيها أمور عظام. ولما عرف أنه سماه ((خليفة)) علم أن ههنا عجائب: فإن الخليفة له شعبة من ملك المستخلف.
(الفصل السادس والعشرون) (أولياء الزور)
قال له القائل: قد انتهت مسألتي ومحاورتي، وبقيت خلة أجلك عن ذكرها، وتحوك في صدري وتأبه نفسي تركها.
قال: هات، أجلك الحقّ
قال (المريد): أنك تجري في كلامك، حتى إذا وقفت على بعض هذه الطبقات التي تنعت كلامها، تغيرت لهم وغلظ كلامك عليهم، كأن الرحمة لهم انتسفت من قلبك، فما هذا؟
قال (الشيخ): نعم، جاد ما سألت! (اعلم) أن الله تعالى جعل الحق ليقتضي الوفاء بقيام التوحيد والانقياد للحق. فإذا وجدهم الحق معظمين له، قائمين بوفائه رجع إلى الله تعالى مثنياً عليهم. فيرجع من الله تعالى بالمدد إليهم من الأنوار حتى يزدادوا قوة على القيام بذلك. ومن وجده الحق غير معظم له رجع إلى الله تعالى يشكوه. فالرحمة تلقى الحق بين يدي الله تعالى وتراقبه. كلما جاء الحق يشكو التأذي من الخلق. حنت الرحمة في محلها بين يدي الله، حنين الوالهة فيسكن السلطان. ولولا شأن الرحمة وحنينها لثار السلطان بمجيء الحق شاكياً ودمر العباد.
فهذا شأن الله تعالى في العباد. فإذا جاء الحق يشكو معانداً ثار السلطان، بالعقوبات، واعتزلت الرحمة، فإن المعاند مبارز. ورب عبد تحل به (العقوبة) في طرفة عين، ورب عبد تطل العقوبة على رأسه إلى مدة سنين، حتى يؤذن لها فتحل به عند(1/78)
وقت ظهور فعل من الأركان، ليكون عذر الله ظاهراً في حلول العقوبة. وقد مضت العقوبة على قوم لوط عشاء، فحلت بهم عند الصبح. وكذلك حكى الله تعالى في تنزيله، فقال: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً} وكذلك فرعون وقومه، مضت العقوبة عند إجابة الله تعالى لها في وقت الغرق.
فهذا المنتبه يأخذ عن الله. فإن كنت وجدتني كذلك، فإنما وجدتني أحتذي على مثال ما حكى (الله سبحانه). فإن المؤمن إنما يعامل الخلق عن الله وبالحق؛ وهو يقتضيهم ذلك. فإن لم يجد هذا وجد في قلبه لهم من الرحمة ما يطفئ ذلك السلطان الذي في قلبه. فإن مع الحق سلطاناً، والسلطان كالنار. وإذا وجد هذا العبد من الخلق أذى للحق وجد قلبه عليهم وثار السلطان فيه، فتجيء الرحمة، التي في قلبه فتطفئ تلك الثائرة، فيلين كلامه (ولكن) إذا جاءه معاند، فهو رجل جبار (فيجب على المؤمن حينئذ أن) يجر نفسه وما فيها من الحسد والكبر، ولا يتركه يعاند الحق. فإذا عاند الحق، فكأنه بارز الله تعالى، فعندئذ يثور السلطان وتلين الرحمة. فمحال أن يستعمل الصادق في أمره الرحمة على المعاند. وكيف يقدر أن يستعمل الرحمة ونفسه جبارة عنيدة؟
وقد قال الله تعالى: {وخاب كل جبار عنيد} فهل خاب إلا من الرحمة؟ فكيف يرحم (الصادق) عبداً خيبه الله من الرحمة؟ إلا (أن يكون) عبداً يريد أن يتزين للخلق، ويتضع تكلف الرحمة فيتكلفها بالإعراض واللين والسكون؛ لا يحب أن تسقط عند الخلق مدحته. فإن للنفوس خدائع، تقول لصاحبها: متى أغلظت وأظهرت الغضب يقال إنك لست بحليم. فهو يتكلف الحلم ههنا، في هذا الموضع مُرآة وتصنعاً، إبقاء على مدحته وجاهه عند من لا يملك ضراً ولا نفعاً.
فأولياء الله وأهل صدقه ووفائه، قد طار عن قلوبهم رضى الخلق وسخطهم وقبولهم ونفيهم. وإنما شأنهم استعمال الحق في أوانه، واستعمال الرحمة في أوانها. فالحق كالنار، لأنه من السلطان وهو مقرون به. والرحمة كالماء. فإذا جاء الحق، واقتضاك النصرة وجاءت الرحمة فأطفأت سلطانه، فأنت مغرور. وإذا اقتضاك النصرة، واعتزلت الرحمة: فإن تكلفت الرحمة فكففت عن النصرة، ترفقاً كترفق النساء فأنت مراء. وصاحب هذا، لم يبلغ بعد نصرة الحق، ولا أعطي سلطانه. إنما هو رجل تابع للحق في زعم نفسه.
و(أنا) إنما أصف لك أمر رجل مستعمل: قوم الله سيرته، وأدبه، وجعل سلطان(1/79)
جيشه في استعمال الحق. أو (أصف لك) رجلاً أعظم شأناً من هذا: فهو يستعمله والحق والسلطان على مقدمته! فمتى يصل إلى ما ذكرت فيعمل ما يهوى الناس ويحسن عند المداهنين المتزينين!
والذي ذكرت شأنه (وأنكرته) هو رجل يتبع الحق فيصيبه في بعض الأمور بجهد. ومع ذلك تشاركه النفس ومزاجها قائم في الأمر. فيتكلف الرحمة. فهذا الذي يجتهد في إظهار الرحمة في فعله، وقلبه ليس على وفاق من ظاهره. فلذلك يتصنع ويرى من نفسه الخشوع والهدى. وليس ذلك خشوعاً إنما ذلك تماوت. ألا ترى أن أبا الدرداء رضي الله عنه، لما وصف الأبدال، قال: ((ليسوا متماوتين ولا متخشعين))؟ لأن ذلك التماوت (هو) خشوع النفاق. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نعوذ بالله من خشوع النفاق. قالوا: يا رسول الله، وما خشوع النفاق؟ قال: أن يخشع البدن والقلب غير خاشع)).
أما ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ((إذا غضب لم يقم لغضبه شيء؟ وكان له عرق، بين عينيه، يرى عنه الغضب. ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. وكان من أرحم الناس، وأحلم الناس، وأصبر الناس على الأذى. فإذا جاء عناد أو ظلم للحق، لم يستقر حتى ينتصر له. وقد وسع الناس بسطه وخلقه. وسار لهم أباً، وصاروا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس حياء وعلم وصبر وأمانة)). حدثنا بذلك سفيان بن وكيع، حدثنا جميع بن عمر العجلي في حديثه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم . قال صلى الله عليه وسلم : ((إنما كان يستعمل الحلم والصبر في رقة لأهله. وكان موسى، صلوات الله عليه: ((إذا غضب أخرقت قلنسوته من شدة سلطان غضبه لله وجل!)).
فالذي يرى في كلامي من التغير، عند ذكر هؤلاء المعاندين، لأن هؤلاء عندي أسوأ حالاً من أولئك المخلصين من العامة. هؤلاء أهل نفاق، ونافقوا في سبيل الله، قال الله(1/80)
تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم} وقال تعالى: {وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً}.
ولقد سميتهم يوماً مجوس هذه الطائفة، فيما جرى من كلام على رؤوس الملأ. فسألوني عن تأويله، فقلت: ما نطقت به جزافاً، لكني على بصيرة نطقت به. وذلك أن الدنيا شبهت بالمرأة الزانية، التي تتزين للرجال، وتعرض نفسها وتتبرج في زينتها. فالذي يفخر بها هو الذي ينخدع لها حتى يأخذها. من حيث لم يؤمر له في ذلك. فهذا كلام جارٍ في الحكمة، لأن المرأة إذن للرجل أن يتناولها من حيث أذن له: على رسم الكتاب والسنة. فإذا تبرجت بزينتها وفتنته حتى تناولها من حيث لم يؤذن له - فهي كالمرأة الزانية. وإنما ذكرت ما ذكرت من حال المجوس وشأنهم، لأن المجوس يتناولون محارمهم على جهة النكاح، وهو أعظم من الزنا: فقد جمعوا بين حرمتين، لأنهم يزنون بالأخت والبنت.
فرأيت هذه الطبقة، قد عمدوا إلى مذهب فشهروا فيه أنفسهم عند الناس: من ترك الفضول، وشيء من الزهد والتورع والتعبد، وحكايات ملتقطة من هنا وهناك. ثم اتخذوها علماً، لا يعرفون ما أولها وما آخرها. فنالوا به رياسة في ناحية من النواحي، حتى اتخذوا بذلك جاهاً. وتمكنوا في الرياسة واتسعوا في نعمة المأكل والمشرب والملبس والمنكح والضيافات، وغير ذلك من المرافق والنساء. فنظرت في ظواهر أمورهم وبواطنها: فوجدت الأركان معطلة من العبادة، مشغولة بالقيل والقال والبقبقة! فقلت: (هؤلاء) ليسوا بعمال (حقاً!) ونظرت إلى منازل الأولياء، فإذا قلوبهم عنها غائبة. فقلت: هم في الطريق يسيرون إليه. فوجدتهم قد تخطوا في الطريق خطوة أو خطوتين، ما بلغوا ثلاث. حتى قامت عليهم نفوسهم، بما وجدت من اللذة والفرح بالعطايا، فاستأسرتهم، فإذا هم موتى، طرحاء على مزبلة، يحسد بعضهم بعضاً ويتأكلون الناس.
نفوسهم معلقة بأحوالهم، وقلوبهم مشغولة بتعلق نفوسهم. همهم ظهورهم (لباسهم؟) وبطونهم، واصطياد الأرامل. يعمد أحدهم إلى أرملة موسرة، فيغتنم رغبتها(1/81)
فيأكل أموالها ويذرها كالمعلقة. يبوأ لنفسه، رخاء العيش والتحكم في أموال الناس، مخادعة بالتلطف. قد اتخذوا الملق ديناً، والتماوت صناعة يحتملون به دنياهم.
فلو قلت لأحدهم: الزم هذا البيت شهراً، فلا تخرج إلى الناس - لرأيت به من الضيق والنفار ما يظهر لك، من مكنون ما في صدره، إنه رجل بطال، قد ملكته نفسه. فهو يتكلم بكلام الأولياء التقاطاً وحكايات. لا تنجع فيه كلمة، ولا يوجعه أنه خلو من ذلك. فلا عمل بالأركان، ولا وصول إلى مكان، ولا سير في طريق. كلما وعظت واحداً منهم، أخذ يروغ يميناً وشمالاً. فإذا ضبطته عاند وكابر. وعاد يرد الملامة، على الخلق، ويذب عن نفسه وحاله. لا يتذلل للحق لكيلا يهتك ستر نفسه. فإذا حركته (أخيراً ..) وأقمت عليه الحجة، أبدى نفاقه، وأظهر ما نطق به مكنون ما في نفسه: من أنه يريد إبقاء حاله، وليس به شيء من هذه الأمور!
فهل يجوز أن يلان لمثل هذا في المقال؟ فإني أجري في كلامي على سبيله فإذا بلغت إلى ذكر هؤلاء تغير الكلام: فذلك حمية الحق وسنانه، يطعن الله به أهل مخادعته، المستهزئين بأمره! وإنما نسبتهم إلى المجوسية، في هذا الباب: لأنهم ملكوا هذه (الدنيا) الزانية بالعطايا من الله. فلو كانوا يملكونها بشيء من عرض الدنيا، أو بغير ذلك عن طريق علم الظاهر - لكان أيسر. ولكن ملكوها من طريق العطايا من الله تعالى. فاستعملوا تلك (العطايا الإلهية) بالاستيلاء على حطام الدنيا. فلما ظفروا بها تركوا السير إلى الله تعالى. فانظر أية فضيحة هذه؟ أليست هذه مجوسية، في هذا الطريق؟
ثم إذا خاضوا في شيء من أمور الأولياء، يقولون: الولي لا يرى، والولي لا يعرف نفسه. وشبه عليه أمره حتى لا يعجب بنفسه وأمره. وصاحب المشي على الماء وطي الأرض يأكل من نفسه. وذلك لضعفه يعطي ذلك. والعارف لا يلتفت إلى مثل هذا، إنما همه ربه فهو يسأل ربه. هذا يموه على الناس: إن لم يكن هذا لي، فاعلموا أني عارف، وممن لا يلتفت إلى هذا .. ..
والحمقى يقبلون منه حمقه هذا! فهذا قد خلا من أعمال البر لإفساد القلوب وإفساد الطريق على المريدين؛ ويلبس أمر الأولياء على أهل الإرادة، فلذلك قلت: علمهم كدر، ويتلوثون في حمأة منتنة، وتلك مأكلتهم.(1/82)
(الفصل السابع والعشرون) (دولة الخير ودولة الشر)
قال له القائل: فللخير إقبال ودولة، ثم له إدبار. وللشر إقبال ودولة: فـ(لعل وقتنا هذا) أوان ذلك. وجاء عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أنه قال: ((لا يأتي عليكم زمان إلا وبعده شر منه، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم )). فكيف يجوز أن يكون في هذا الوقت من له حظ الولاية والصديقية؟
قال: أن الولاية والصديقية ليستا من الزمان في شيء. إن الولي والصديق حجة الله على خلقه، وغياث الخلق وأمانهم، لأنهم دعاة إلى الله على بصيرة. فهم في وقت الحاجة (إليهم) أحرى أن يكونوا. وقد بعث الله الرسل في الفترة والعمى ودولة الباطل، حتى نعش الحق وزهق الباطل. فماذا يكبر في الصدور أن يكون في آخر الزمان من يوازي أولهم، لحاجة الخلق إليهم؟
أو لم يقل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في حديث كميل النخعي: ((اللهم، لا تخل الأرض من قائم بالحجة. أولئك الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدراً، قلوبهم معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في عباده وبلاده. هاهٍ، شوقاً إلى رؤيتهم؟
ومما يحقق ما قلناه، ما حدثنا صالح بن عبد الله الترمذي عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مثل أمتي مثل المطر؛ لا يدري أوله خير أم آخره)). وحدثنا الحسن بن عمر عن شقيق البصري، أخبرنا سليمان بن طريف عن مكحول عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((خير أمتي أولها وآخرها وفي وسطها الكدر)). وحدثني الفضل بن محمد، حدثنا إبراهيم بن الوليد بن سلمة الدمشقي،(1/83)
حدثنا عبد الملك بن عمر الأفريقي، عن أبي يونس، مولى أبي هريرة، عن عبد الرحمن ابن سمرة قال: ((جئت من غزوة مؤتة)) قال ذكرت قتل جعفر وزيد وابن رواحة، بكى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وما يبكيكم؟ فقالوا: وما لنا لا نبكي، وقد قتل خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل فينا. فقال، عليه الصلاة والسلام: لا تبكوا، إنما مثل أمتي مثل حديقة، قام عليها صاحبها: فاجتث رواكبها، وهيأ ساكنها، وحلق سعفها. فأطعمت عاماً فوجاً ثم عاماً فوجاً ثم عاماً فوجاً. فلعل آخرها طعماً يكون أجودها قنواناً وأطوالها شمراخاً. والذي بعثني بالحق، ليجدن ابن مريم في أمتي خلفاء عن حواريه! قال: وحدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا محمد بن السري، أخبرنا السويد عن عيسى بن موسى(1/84)
الغساني، حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال من أصحابي رجالاً ونساء يدخلون الجنة بغير حساب. ثم تلا: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}. وحدثني أبي، رحمه الله، قال: حدثنا محمد ابن الحسين، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا ابن أبي لهيعة، قال: حدثنا أيضاً أبي، حدثنا إسماعيل بن سلمة عن عبد الله بن وهب المصري عن ليث بن سعد عن أبي عجلان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((في كل قرن من أمتي سابقون)).
(الفصل الثامن والعشرون) (أهل الدين)
وأن أهل الدين صنفان: صنف منهم عمال الله تعالى، يعبدونه على البر والتقوى؛ فهم محتاجون إلى خير الزمان وإقباله ودولة الحق، لأن تأييدهم من ذلك.(1/85)
وصنف منهم أهل اليقين، يعبدون الله على وفاة التوحيد، عن كشف الغطاء وقطع الأسباب واللوذان فيها؛ غير ملتفتين إلى إقبال الزمان وإدباره، ولا يضرهم إدباره. وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن لله عباداً يغذوهم برحمته: يحييهم في عافية ويميتهم في عافية، ويدخلهم الجنة في عافية تمر بهم الفتن كقطع الليل المظلم لا تضرهم)). وقوله صلى الله عليه وسلم : ((تكون في أمتي فتن؛ لا ينجز منها إلا من أحياه الله تعالى بالعلم)) يعني: العلم بالله، فيما يروي. - وقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا يزال من أمتي أربعون صديقاً، كلما مات منهم رجل، أبدل الله تعالى مكانه آخر. منهم ثلاثون رجلاً قلوبهم على قلب إبراهيم وقوله: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من ناوأهم حتى تقوم الساعة)) وهم أهل اليقين، وحدوا الله قلبا وقولاً وفعلاً؛ وذلك بشرح الصدور، والنور الذي من الله، عز وجل، عليهم. كما قال تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه}.
قال له قائل: صف لنا هذين الصنفين، بصفة وجيزة.
قال (الشيخ): أما الصنف الأول، فإنهم عرفوا الله تعالى معرفة توحيد، واعترفوا له باللسان، وقبلوا العبودية. ثم جاءت الشهوات فغلبت على القلوب، فوقعوا في التخليط، فسقم القلب بما فيه من الإيمان. فلم تطمأن نفوسهم في شأن الرزق، ولم تنشرح صدورهم لتدبير الله تعالى في الأحوال. فهم على حفظ الجوارح حتى تستقيم لهم تقواهم؛ ويؤدون الفرائض فهذا دأبهم. وفيء صدورهم عجائب من دواهي النفس: مثل الرغبة والرهبة والحق والغل والحسد وحب النساء والعز والرياسة والتجبر وطول الأمل والاقتدار في الأمور.
والآخرون عطف الله تعالى عليهم، فقذف النور في قلوبهم: فانفلق الحجاب، وانكشف الغطاء. وهو قوله عز وجل: {قل أعوذ برب الفلق}. فشرح(1/86)
صدورهم، فهم على نور من ربهم. فنفى هذا كله من صدورهم، وطهرهم وصفى قلوبهم. فصدورهم ممتلئة من عظمة الله وجلاله. واطمأنوا إليه ووثقوا به في كل حال. ودقت أحوال الدنيا عندهم واكتساب مشيئات النفس. فأنى يلتفتون إلى الزمان وأهله؟ وماذا تضرهم الفتن وسوء الزمان؟ وإنما تقوم الأرض بهم، وهم غياث أهلها!
وقد وصف الله تعالى، في كتابه شأن الفيء. فذكر المهاجرين، فشهد لهم، ووصفهم بصدق الإيمان. فقال: {أولئك هم الصادقون} وذكر الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم (الأنصار) ووصفهم بالإيثار على أنفسهم، وبالبراءة من الشح والحسد. ثم قال: {والذين جاءوا من بعدهم} فكل من جاء على سبيلهم، من بعدهم إلى انقراض الدنيا - فهم المذكورون بالمجيء. وقد جعل الله أيديهم في الفيء شرعاً سواءً. والفيء طعمة أكرم الله به هذه الأمة، دون الأمم.
ووصف الله تعالى أيضاً السابقين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، بما أوجب الله لهم من الرضى، فجعلهم في الرضى عنهم شرعاً واحداً. أو ما جاءنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم : ((أن أهل الجنة ليرون أهل الغرف كما يرى الكوكب الدري في أفق السماء، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء فلا نبلغها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أولئك رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين؟
(الفصل التاسع والعشرون) (الأعمال والدرجات)
قال له قائل: فهل يجوز أن يكون في هذا الزمان من يوازي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؟
قال (الشيخ): إن كنت تعني في العمل فلا؛ وإن كنت تعني في الدرجات فغير مدفوع. وذلك أن الدرجات بوسائل القلوب؛ وقسمة ما في الدرجات بالأعمال. فمن الذي(1/87)
حرز رحمة الله تعالى عن أهل هذا الزمان، حتى لا يكون فيهم سابق ولا مقرب ولا مجني ولا مصطفى؟ أوليس المهدي كائناً في آخر الزمان؟ فهو في الفترة يقوم بالعدل فلا يعجز عنه. أوليس كائن في الزمان من له ختم الولاية؟ وهو حجة الله على جميع الأولياء يوم الموقف. كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم؛ آخر الأنبياء. فأعطي ختم النبوة، فهو حجة الله تعالى على جميع الأنبياء. فكذلك هذا الولي الذي هو آخر الأولياء في آخر الزمان.
قال له القائل: فأين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((خرجت من باب الجنة، فأتيت الميزان. فوضعت في كفة وأمتي في كفة، فرجحت بالأمة. ثم وضع أبو بكر مكانه فرجح بالأمة. ثم وضع عمر مكان أبي بكر فرجح بالأمة))؟
قال (الشيخ): هذا وزن الأعمال لا وزن ما في القلوب، أي يذهب بكم يا عجم؟ ما هذا إلا من غباوة أفهامكم! ألا ترى أنه يقول: ((خرجت من باب الجنة))؟ فالجنة للأعمال والدرجات للقلوب. والوزن للأعمال لا لما في القلوب. إن الميزان لا يتسع لما في القلوب. فالميزان عدله، وما في القلوب عظمته. وكيف توزن العظمة؟ وقد جاء في الخبر: ((أن العبد يتحير عند الميزان. فيقول له الملك: هل تفقد شيئاً من عملك؟ قال: بلى! شهادة أن لا إله إلا الله. قال: إنها أعظم من أن توضع في الميزان!)).
وإنما تقدم الأنبياء الخلق بالنبوة، لا بالأعمال؛ والأولياء بالصديقية، لا بالأعمال. وإنما تقدم محمد صلى الله عليه وسلم ، وسائر الأنبياء بما في قلبه، لا بالأعمال؛ فقد كان عمره يسيراً. ولو كان بالأعمال، لكان عمل عشرين سنة يدق في جنب عمر نوح. وإنما رجح ميزان أبي بكر، رضي الله عنه، بالعمل. لأنه عمل في أهل الردة ما لم يلحقه أحد. ولم يكن بعده ردة مثلها إلى يومنا هذا، فيعمل مثل عمله. فبه رد الله الإسلام على الأمة. فهذا فضل يوازي عمل الأمة ويزيد. أو لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)). فلما عمل في الردة ما عمل، كان له كعمل الأمة كلها إلى آخرها، والزيادة عمله لنفسه، وذلك رجح عمله عمل الأمة.
ثم لم يجد (أبو بكر، رضي الله عنه) مهلة حتى يبوأ الإسلام، ويمهد ويصفي، ويوضح السنن، ويمصر الأمصار. ففعل ذلك عمر، رضي الله عنه، حتى ورد الخلق بعدها على أوسع منهاج وأوضحه. فهذا عمل ليس لأحد وصول إلى مثله ولا سبيل. لأنه لم يكن(1/88)
للإسلام، إلى يومنا هذا، ردة أو عزبة كما كان بدياً في وقتهما. ألا ترى أنه لم يجيء في الخبر أنه وزن غيرهما؟ أفلم يكن في الأمة مثل عثمان وعلي، رضي الله عنهما؟ فهل ذكر أنهما وزنا مع الأمة؟ وذلك ليعلم أنهما وجدا أمراً مفروغاً منه، فلم يبق لعثمان وعلي إلا التمسك به. فجميع من (أتى) بعد أبي بكر وعمر على حياله: كل متمسك بقدره.
ألا ترى في تلك الفتن، إذا قام أحد بالعدل وطمس الجور يلحقهما بالفضل؟ وكذلك قال أنس رضي الله عنه: ((ليس لعامل زمان خير عن زمانكم إلا أن يكون مع نبي)) فهذا في وقت غربة الحق أفضل. وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((طوبى للغرباء! قيل ومن هم؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس)).
فأما تفاضل اليقين ووصول القلب إلى الله تعالى، فغير مدفوع أن يكون لمن بعدهما مثلهما أو أكثر منهما. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أن أهل الغرف ليرون في أعلى الدرجات كما يرى الكوكب الدري في الأفق، وأن أبا بكر وعمر منهم)). أفليس قد صيرهما من أهل الغرف؟ وأهل الغرف هم أهل عليين، فهم المقربون. وقد وصفهم الله تعالى في تنزيله، فقال: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} الآية. فهل أخبر في الكتاب أو في الخبر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ((أهل الغرف)) كانوا في أوائل الأمة أو في أواخرها؟ فإنما وصف أهل الغرف بما يعقل من ظواهر أمورهم، وإنما نالوها بما في باطنهم، ألا ترى أنه قال: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} فإنما يصبر على هذه الأخلاق والآداب والهيبة، من ملأ الله قلبه معرفة به وشرح صدره بنوره وأحيا قلبه به. -والصبر: الدوام والثبات على الشيء- فهل يكون ذلك إلا لمن يكون باطنه مشحوناً بما ذكرناه؟
ومما روي عن وهب بن منبه، رحمه الله، أن الملك الذي كلم عزيراً، قال له عزير: إن الله تعالى كلل حكمه بالعقل وجعله له زينة ونظاماً. فليس لزمان عنده فضيلة، ولا لقوم عنده أثرة. إنما فضيلته وأثرته لأهل طاعته، حيث كانوا ومن كانوا ومن أين كانوا)).(1/89)
وإن الله وصف هذه الأمة، في تنزيله، فقال: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا}. فذكر عن كعب عن التوراة: ((أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، صفوة الرحمن)). فجعلهم على ثلاثة أقسام: ظالم ومقتصد وسابق. ثم قال (تعالى): {ذلك هو الفضل الكبير}. وفي كل قرن سابقون إلى آخر الزمان. وحظهم الذي سبق لهم من الله واصل إليهم، في كل وقت وزمان.
فمن أدرى هذا الزاعم بقلة علمه، ألا يكون لأحد حظ مثل أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، هل آيس الله الخلق من بعدهما من ذلك؟ أو حرز رحمة إلا عنهما؟ وإنما يذهب إلى هذا الزعم من خفي عليه شأن القلوب مع الله عز وجل، وشخصت عيناه إلى حركات جوارحه. وقد عظم ذلك في عينه وأعجب به، فصار معتمده.
بل كائن في هذا الأمة من يعرف مقاماتهم وحظوظهم من ربهم، لأن معرفة ذلك إنما تعرف من بحر المعرفة. وأرواح الصديقين متقاربة وقلوبهم في المحل لديه مؤتلفة، عارف بعضها بعضاً في المقام. فإنما يعرف حظ أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، من الله (بمعرفته) بحظ نفسه من الله تعالى. وكان أبو بكر حظه من ربه، عز وجل، في ملك العظمة وعمر حظه في ملك الجلال. وعلي حظه من ربه في ملك القدس.
قال له القائل: وما تلك الحظوظ؟
قال (الشيخ): حظ أبي بكر الحياء: قال: رضي الله عنه ((إني لأدخل الكنيف فاقنع رأس حياءً من الله تعالى)) وحظ عمر الحق: ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه))؟ رضي الله عنه! وحظ علي، رضي الله عنه المحبة: ألا ترى إلى جوامع خطبه وحسن ثنائه على ربه؟ والرسول صلى الله عليه وسلم مقامه في ملك الملك بين يديه، وحظه منه وحدانيته.
ولا ينقضي الدهر حتى يأتي الله بخاتم الأولياء، وهو القائم بالحجة. فيكون مقامه(1/90)
أقرب المقامات، وحظه منه الفردية. فلم يخفف هذا على من فتح الله له في علم الغيب والمقادير والحظوظ ومقام الأنبياء، عليهم السلام!
وإنما يكبر قول هذا، على من عمي بصره عن هذا، وانطبقت عليه حجبه بالشهوات. وكيف يأمل درس هذا من لم يسقط عن قلبه حب الجاه وأحوال العزة ولذة الرياسة وخوف سقوط المنزلة عن القلوب، ولم يرفع باله عن نفسه، ولم يتخل عن مشيئاته وإرادته؟ هيهات! هذه عقبة لا يقطعها إلا من أخذ الله، عز وجل، بيده فولي شأنه حتى صيره من وراء ظهره ثم مكن له بين يديه بجوده وجلاله وكرمه.
حدثنا المؤمل بن هشام، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن غالب القطان، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: ((لم يفضل أبو بكر الناس بكثرة صومه ولا صلاته، إنما فضلكم بشيء كان في قلبه)). وحدثنا الحسن بن سوار عن المبارك بن فضالة عن الحسن. قال: ((لم يغلب عمر الناس بالعمل، إنما غلبهم بالزهد والصبر)). حدثنا عبد الله ابن عاصم، حدثنا الجماني حدثنا صالح المزني عن أبي سعد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بكثرة صوم ولا صلاة وإنما دخلوا الجنة بسلامة الصدور وسخاء الأنفس وحسن الخلق والرحمة لجميع المسلمين)).
وقد كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال الحبشي، رضي الله عنه. فوصفه رسول(1/91)
الله صلى الله عليه وسلم بما وصف: ((إن قلبه معلق بالعرش)) وأنه أحد السبعة الذين بهم تقوم الأرض)) بل ((هو خيرهم)). حدثنا بذلك داود بن عمار القيسي، عن عبد الحميد بن العزيز بن أبي داود، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . أو لم يكن بلال في الأمة حين وزنوا؟ فكيف رجحهم أبو بكر، وبلال خير السبعة الذين بهم تقوم الأرض؟ إنما ذلك ليعلم أن الوزن هناك للأعمال لا بما في القلوب والصدور. والوسائل غداً عند الله تعالى بالقلوب، والسبق لها. ومما يدل على ما قلنا، حين شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بمكائيل وعمر بجبرائيل؛ وشبه أبا بكر أيضاً بإبراهيم، وعمر بنوح، صلوات عليهم أجمعين! وقال: ((لو كان بعدي نبي لكان عمر)) رضي الله عنه، فمنزلة عمر قريبة من منزلة أبي بكر: فكيف يجوز أن يرجحه أبو بكر وهو مع جميع الأمة؟
وحدثنا رزق الله بن موسى البصري، حدثنا معن بن عيسى حدثنا مالك عن صفوان بن حكيم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن أهل الجنة يرون أهل الغرف كما يرى الكوكب الدري في أفق السماء، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل فلا يبلغها إلا هم. فقال: بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)). وتصديق ذلك قوله تعالى: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} فهذه جنة السابقين عرضها كعرض السماء(1/92)
والأرض. وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} وهذه جنة المتقين عرضها السموات والأرض، وذلك أنه إذا طويت السموات وسيرت الجبال جذبت الجنة جذباً إلى الفضاء الذي في السموات والأرض. وأما جنة السابقين فإنها تمتد في الفضاء فوق السماوات والأرض إلى حدود عليين حول العرش. فلذلك قال تعالى، عن جنة السابقين: ((عرضها كعرض السماء والأرض)) وعن جنة المتقين ((عرضها السماوات والأرض)).
قال له قائل: فالمؤمنون كلهم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
قال (الشيخ): هذا كمال الإيمان والتصديق. و(المؤمنون) هم الذين وصفهم الله في كتابه، فقال، عز من قائل: {أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم} وتصديق المرسلين، كما جاء عن أبي هريرة، رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: ((بينا رجل من بني إسرائيل يسوق بقرة إذ ركبها فقالت البقرة: إنما خلقت للحرث! فقال القوم: سبحان الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : آمنت به أنا وأبو بكر وعمر؛ وليسا في القوم)). فهل كان قولهم: ((سبحان الله))! إلا من التعجب؟ وهل التعجب إلا من سقم في التصديق؟ أولا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد لأبي بكر وعمر بالتصديق ولم يشهد لغيرهما.
فتصديق المرسلين أغمض مما يحسبونه. وإنما برز أبو بكر على جميع أصحابه بتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك سمي صديقاً. والصديق ما لم يكن له قلب الصديقين لا يصل إلى تصديق المرسلين. وهو قلب قد اصطفاه الله تعالى وطهره ومكن الصدق له هناك (في مقعد صدق عند مليك مقتدر). ألا ترى أن سارة لما قالت: {إن هذا لشيء عجيب}؟ أنكرت الملائكة قولها، فقالوا: {أتعجين من أمر الله} ومريم لما بشرت بالمسيح صدقت، فأثنى الله عليها فقال: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} وسماها في تنزيله: {صديقة}.
ختام(1/93)