قتلى القرآن
لأبي إسحاق الثعلبي
المتوفى سنة (427 هـ)
دراسة وتحقيق
د. ناصر بن محمد بن عثمان المنيع
العبيكان
الطبعة الأولى
1429 هـ - 2008 م(/)
#51#
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا الشيخ الأجل المسند شهاب الدين أبو العباس أحمد بن علاء الدين كشتغدي المغربي الصيرفي قراءة عليه: وأنا أسمع في الجمعة الثالث والعشرين من شعبان سنة تسع وثلاثين وسبع مئة قال: حدثنا الشيخ الفقيه تقي الدين أبو محمد عبد القوي بن عبد الله بن عبد القوي المغربي الفقاعي قراءة عليه: وأنا أسمع في يوم الأحد الخامس والعشرين من شعبان سنة سبعين وست مئة قال: حدثنا الشيخ علم الدين أبو الحسن علي بن أبي الفتح محمود بن أحمد بن علي المحمودي الصابوني قراءة عليه: وأنا أسمع في يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادى الأول سنة أربعين وست مئة قال:(1/51)
#52#
حدثنا الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر بن عيسى المديني الأصبهاني إجازة.
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين.
أخبرنا الشيخ الإمام العالم قاضي القضاة عماد الدين أبو صالح نصر بن عبد الرزاق الجيلي بقراءة أبي العباس أحمد ابن الجوهري في شهور سنة ثلاث وثلاثين وست مئة ببغداد مدينة السلام -أعادها الله إلى الإسلام- قال له: أخبرك الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر بن أبي عيسى المديني إجازة في كتابه فأقر به، وقال: نعم.(1/52)
#53#
قال: حدثنا الشيخ أبو الفتح عبد الرزاق بن محمد الشرابي قراءة عليه قال: حدثنا أبو سعيد سعد بن محمد بن سعيد الولي قال: حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن علي الواقدي قال: حدثنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي -رحمه الله- قال: الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم، هذا كتاب مشتمل على ذكر(1/53)
#54#
قوم هم أفضل الشهداء، وأشرف العلماء: نالوا أعلى المنازل وأدركوا أسنى المراتب، وهم الذين قتلهم القرآن؛ لما قرؤوه، أو سمعوه يتلى؛ فعلموه حق علمه، وفهموه حق فهمه.
1 - سمعت أبا محمد الخليل بن أحمد بن محمد بن مسعود المذكر -رحمه الله-: يحكى عن بعضهم قال: قال منصور ابن عمار: دخلت خربة، فرأيت شابا يصلي صلاة الخائفين، فقلت في نفسي: إن لهذا الفتى شأنا: لعله ولي من أولياء الله عز وجل فوقفت حتى فرغ من صلاته، فلما سلم سلمت عليه، فرد علي السلام فقلت له: ألم تعلم أن في جهنم واديا يقال له: {كلا إنها لظى. نزاعة للشوى. تدعو من أدبر وتولى} قال: فشهق شهقة، فخر مغشيا عليه، فلما أفاق؛ قال: زدني. فقلت: {وقودها الناس والحجارة}، وخر ميتا، فلما كشفت ثيابه عن صدره رأيت عليه مكتوبا {فهو في عيشة راضية. في جنة عالية. قطوفها #55# دانية} فلما كانت الليلة نمت، فرأيته في المنام جالسا على سرير، وعلى رأسه تاج، فقلت له: ما فعل الله تعالى بك؟ فقال: آتاني ثواب أهل بدر، وزادني. فقلت: لم؟ قال: لأنهم قتلوا بسيوف الكفار، وقتلت بسيف الملك الغفار.(1/54)
وإنما صنفت هذا الكتاب رجاء أن يرحمنا الله عز وجل بذكرهم، ويوصل إلينا بركتهم؛ فقد جاء في الحديث "عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة".
2 - سمعت أبا عمرو الفراتي الاستوائي يقول: سمعت أبا موسى عمران بن موسى بن الحصين يقول:
#56#
سمعت مسدد بن قطن يقول: سمعت أحمد بن إبراهيم الدورقي يقول: سمعت وكيع بن الجراح يقول: ((عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة)).(1/55)
وليعلم الناظر فيه أن لله تعالى عبادا اصطفاهم على خلقه، واختصهم بفضله، وهنأهم بنوره؛ فقتلهم بسيفه، وأماتهم بخوفه، وأهلهم للشهادة العظمى، فهم عند ربهم لهم أجرهم ونورهم. فكن أيها الناظر في كتابنا هذا من متبعيهم بالإحسان ومحبيهم بالقلب واللسان، تكن معهم في الجنان إن شاء الله تعالى.
3 - فقد حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن الحسن المخلدي العدل إملاء قال: أخبرني أبو العباس محمد بن إسحاق #57# ابن إبراهيم الثقفي السراج فيما قرأته عليه قال: حدثنا قتيبة ابن سعيد وأبو الأشعث أحمد بن المقدام قالا: حدثنا حماد ابن زيد عن ثابت عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، الرجل #58# يحب قوما، ولما يلحق بهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المرء مع من أحب)).
جعلنا الله سبحانه وتعالى من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، وعلى ربهم يتوكلون؛ إنه على ما يشاء قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.(1/56)
فمنهم علي بن الفضيل بن عياض -رحمه الله-
4 - أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس بن أحمد بن #59# حفص بن مسلم الحيري المزكي بقراءتي عليه قال: نا أبو عبد الله محمد بن يونس المقرئ قال: حدثني محمد بن منصور قال: حدثنا أحمد بن الليث قال: حدثنا عمر بن محمد (قال): حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن عن سهيل بن أبي عاصم قال: قلت لسلم الخواص؛ بلغك موت علي بن الفضيل كيف #60# كان؟ قال: نعم مرض مرضة، فنقه منها، وقدم رجل من أهل البصرة حسن القراءة، فأتى علي بن الفضيل قبل أن يأتي فضيلا، فبلغ فضيلا أنه قدم، وأنه قد ذهب إلى علي. قال: فأرسل إليه خلفه أن لا يقرأ عليه. قال: فقرأ عليه قبل أن يجيئه الرسول فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} قال: فخر علي، فشهق شهقة؛ خرجت نفسه معها.(1/58)
5 - أخبرني أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى بقراءتي عليه قال: سمعت أبي. رحمه الله. عودا وبدأ #61# يقول: سمعت محمد بن إسحاق السراج يقول: سمعت محمد ابن خلف الحدادي يقول: حدثني يعقوب بن يوسف، وقد لزم الفضيل، قال: كان الفضيل بن عياض إذا علم أن ابنه عليا ليس خلفه يتوق في القرآن، وحزن وخوف، وإذا علم أنه خلفه مر، ولم يقف، ولم يخوف؛ وظن يوما أنه ليس خلفه، فأتى على ذكر هذه الآية {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين}. قال: #62# فخر علي مغشيا عليه، فلما علم أنه خلفه، وأنه قد سقط تجوز في القراءة فذهبوا إلى أمه، فقالوا: أدركيه. فجاءت؛ فرشت عليه ماء؛ فأفاق، فقالت لفضيل: أنت قاتل هذا الغلام علي، فمكث ما شاء الله، فظن أنه ليس خلفه، فقرأ {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} الآية، فخر ميتا، وتجوز أبوه في القراءة، وأتيت أمه، فقيل لها: أدركيه، فجاءت، فرشت عليه ماء؛ فإذا هو ميت.(1/60)
ومنهم شيخ كوفي
6 - قال منصور بن عمار: كنت أجول في سكك الكوفة بليل، فسمعت قارئا يقرأ في جوف الليل، ويردد القرآن، ويبكي، فقمت على باب داره مستمعا، ثم صحت في شقوق بابه: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين}، فسقط فمات.(1/62)
ومنهم نفر من الجن
7 - قال خليد العصري: #63# كنت أقرأ ليلة هذه الآية {كل نفس ذائقة الموت} إلى آخرها، فجعلت أرددها، فإذا أنا بهاتف يهتف إلى كم تردد هذه الآية؟ فقد قتلت أربعة من الجن؛ لم يرفعوا رؤوسهم إلى الله تعالى مذ خلقوا.(1/62)
8 - قال أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس الحيري قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يونس المقرئ قال: حدثني محمد بن منصور قال: حدثنا أحمد بن الليث قال: حدثنا أبو حفص عمر بن حفص القشيري، قال: حدثنا علي ابن الحسين قال: سمعت منصور بن عمار يقول بينا أردت الحج؛ إذ دفعت إلى الكوفة ليلا، وكان الليل على مدلهمة، فانفردت #64# عن أصحابي. ثم دنوت إلى رواق باب دار، فسمعت بكاء رجل شيخ، وهو يقول في بكائه: إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك؛ لكني عصيتك إذ عصيتك بجهلي، وخالفتك بجهدي، فالآن من عذابك من ينقذني، وبحبل من أتصل إذا انقطع حبلك عني واذنوباه، واغوثاه بالله. قال منصور: فأبكاني والله. فوضعت فمي على شق الباب، وناديت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم {نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة}.
فأتيت عليها إلى آخر الآية، فسمعت عند ذلك اضطرابا شديدا، وخمد الصوت، فوضعت أحجارا على الباب؛ لأتعرف ذلك الموضع، فلما أصبحت غدوت إليه؛ فإذا أنا بأكفان أصلحت، وعجوز تدخل الدار باكية، وتخرج باكية. فقلت لها: يا هذه من هذا الميت منك؟ قالت: إليك عني يا عبد الله لا تجدد علي أحزاني. قال: قلت: إني أريد هذا الوجه الكريم؛ لعلك تستودعيني دعوة أنا منصور بن عمار واعظ أهل العراق. قالت: يا منصور هذا #65# ولدي. قال: قلت: فما كان صفته؟ قالت: كان من آل الرسول صلى الله عليه وسلم يكسب ما يكسبه، فيجعله أثلاثا ثلثا لي، وثلثا للمساكين، وثلثا يفطر عليه، وكان يصوم النهار، ويفطر عليه بالليل، حتى إذا كان آخر ليلة منه أخذ في بكائه وتضرعه؛ إذ تلا ذلك الرجل آية من كتاب الله عز وجل، فلم يزل حبيبي يضطرب، فأصبح، وقد فارق الدنيا.(1/63)
9 - قال: وفيما أجاز لي أبو محمد عبد الله بن حامد. قال: وأخبرني عنه أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الغازي قال: أخبرني إبراهيم بن محمد بن عبد الله (قال): حدثنا أبو بكر #66# أحمد بن محمد الأهوازي (قال): حدثنا محمد بن سعيد عن أبي سعيد الجعفي قال: سمعت منصورا يقول: كنت بالكوفة فخرجت في بعض الليالي، وأنا أظن أني قد أصبحت؛ فإذا علي ليل، فملت إلى بعض الأبواب أنتظر الصبح، فسمعت من وراء الباب كلام رجل يناجي ربه عز ويقول في مناجاته: وعزتك، وجلالك ما أدرت بمعصيتي مخالفتك وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بنكالك جاهل. ولا لعقوبتك متعرض، ولا لنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي، وبحبل من أعتصم إذا قطع حبلك عني فيا سوأتاه غدا من الوقوف بين يديك؛ إذا قيل للمخفين: جوزوا، وللمثقلين حطوا، فمع المخفين أجوز؟ أو مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما كبرت سني كثرت ذنوبي، ويلي كلما طال عمري #67# كثرت معاصي؛ فكم أتوب وكم أعود؟ أما آن لي أن أستحي من ربي.
قال منصور: فدنوت من الباب، ثم قلت: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهلكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} فسمعت للرجل اضطرابا شديدا، وظننت أنه لما به، فمضيت في حاجتي، ثم عدت عند ارتفاع النهار؛ فإذا بجنازة على الباب، وإذا عجوز تدخل وتخرج. فقلت: يا عجوز لمن هذه الجنازة؟ فقالت: إليك عني. فقلت: عزمت عليك، فإني رجل غريب. قالت: لولا أنك رجل غريب ما أخبرتك؛ هذا ولدي مر بنا في ليلتنا هذه رجل تلا آية فيها ذكر النار، فما زال ابني يضطرب حتى مات. فقلت: هكذا يكون الحذر من الله عز وجل.(1/65)
#68#
ومنهم نجاد الفقعسي
10 - أخبرنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد ابن حمدويه الحافظ (قال): حدثني محمد بن حامد (قال): حدثنا الحسين بن منصور قال: سمعت محمد بن عبد الوهاب يقول: سمعت يحيى بن يحيى يقول لعلي بن عثام: من الذي #69# من أصحاب الثوري قرأ آية أو قرئ عنده؛ فوقع في الفرات؟ قال: ذلك نجاد الفقعسي كان منزله في السواد، وكان من أصحاب سفيان الثوري؛ فقرأ آية، أو قرئ عنده آية، فخر، فوقع في الفرات، فذهب.(1/68)
ومنهم زرارة بن أوفى الحرشي
من بني الحريش بن كعب بن ربيعة، وكان يكنى أبا حاجب، وكان من سكان البصرة، وبها كانت وفاته رحمة الله عليه.
11 - أخبرنا أبو جعفر الخلقاني بقراءتي عليه (قال): حدثنا #70# أبو العباس أحمد بن هارون الفقيه (قال): حدثنا عمران بن موسى (قال): حدثنا هدبة بن خالد (قال): حدثنا أبو جناب القصاب قال: أمنا زرارة بن أوفى في مسجد بني قشير، فلما بلغ {فإذا نقر في الناقور} خر ميتا، فكنت فيمن حمله. (1/69)
#71#
12 - وقال صالح المري: رأيت زرارة بن أوفى بعد موته في منامي، فقلت: رحمك الله ماذا قيل لك؟ فأعرض عني. فقلت: ما صنع الله بك؟ فأقبل علي، وقال: عاملني بفضله، وجوده، وكرمه. قلت: أي الأعمال أفضل وأبلغ فيما عندكم؟ قال: الرضا، وقصر الأمل.(1/71)
ومنهم أعرابي بدوي رحمه الله
12 - حدثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن بن جعفر المذكر. #72# (قال): حدثنا الحاكم أبو محمد يحيى بن منصور وأبو الحسن الكازري وأبو الطيب الخياط واللفظ للحاكم قالوا: حدثنا أبو رجاء محمد بن أحمد القاضي (قال): حدثنا أبو الفضل العباس بن الفرج الرياشي البصري قال: سمعت الأصمعي يقول: أقبلت #73# ذات يوم من المسجد الجامع بالبصرة، فبينا أنا في موضع سككها؛ إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلد سيفه، وبيده قوس، فدنا وسلم، وقال لي: ممن الرجل؟ قلت: من بني الأصمع. قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم. قال: اتل علي شيئا منه. فقلت: له انزل عن قعودك. فنزل، وابتدأت بسورة والذاريات، فلما انتهيت إلى قوله سبحانه وتعالى {وفي السماء رزقكم وما تودعون} قال: يا أصمعي هذا كلام الرحمن؟ فقلت: أي والذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا إنه لكلامه: أنزله على نبيه محمد. فقال لي: حسبك. ثم قام إلى ناقته؛ فنحرها، وقطعها بجلدها، وقال: أعني على تفريقها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه، وقوسه؛ فكسرهما، وجعلهما تحت الرمل، وولى مدبرا نحو البادية، وهو يقول: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}. فأقبلت على نفسي باللوم، وقلت: لم لم تنتبه لما انتبه له الأعرابي؟
فلما حججت مع الرشيد دخلت مكة، فبينا أنا أطوف بالكعبة؛ إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق، فالتفت؛ فإذا أنا بالأعرابي نحل، مصفار، #74# فسلم علي، وأخذ بيدي، وأجلسني من وراء المقام، وقال لي: اتل علي كلام الرحمن. فأخذت في سورة والذاريات، فلما انتهيت إلى قوله تعالى {وفي السماء رزقكم وما توعدون} صاح الأعرابي، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم، يقول الله عز وجل {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون}. فصاح الأعرابي صيحة وقال: يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ ألم يصدقوه بقوله حتى ألجؤوه إلى اليمين قالها ثلاثا، وخرجت فيها نفسه، ومات. (1/71)
ومنهم أخ لمحمد بن المنكدر رحمه الله
13 - قرأت في بعض الكتب: أن أخا لمحمد بن المنكدر سمع قارئا يقرأ هذه الآية: #75# {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحسبون} فقال: هاه، فلم يزل يقولها حتى مات. (1/74)
ومنهم شاب من أهل الكوفة
14 - سمعت الأستاذ أبا القاسم الحسن بن محمد بن الحسن ابن حبيب يقول: قال حبيب العجمي؛ دخلت مسجدا بالكوفة؛ لأصلي فيه، وإذا شاب نحيف، قد نهكته العبادة، فقلت له؛ ما تشتهي؛ رجاء أن يشتهي علي شيئا. فقال: أشتهي أن أسمع عشر آيات من قراءة صالح المري، فقد سمعت مرة صوته، قال حبيب؛ #76# فأتيت البصرة، وطلبت صالحا، وأخبرته بالقصة، فخرج إلى الكوفة، ودخل المسجد، واندفع في القراءة، فقرأ {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} إلى قوله {اخسئوا فيها ولا تكلمون}، قال: فاضطرب الفتى، وجعل لا يتمالك حتى سقط، وتوفي، وكانت دار الفتى يشرع منها باب في المسجد، فإذا أنا بعجوز معها شيء من الطعام، وكانت والدته؛ فلما رأته قالت: ما أصاب ابني، فقصصت عليها القصة، فقالت: لعلك صالح المري؟! قلت: نعم، قالت: أتاك الله مناك في الدنيا والآخرة كما أتيت ابني أمنيته؛ ما زال يتمانك على الله عز وجل.
قال: فكنت فيمن جهزه، وحمله حتى دفن رحمه الله تعالى. (1/75)
ومهم أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري الزاهد رحمه الله
#77#
15 - أخبرنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا سعيد بن أبي بكر بن أبي عثمان يقول:
ورد أبو الحسن البوشنجي على أبي عثمان، فسئل أن يقرأ في مجلسه، فقرأ، فبكى أبو عثمان حتى غشي عليه، وحمل إلى منزله، فكان يقال: قتله صوت البوشنجي فحملت إليه كرابيس؛ ليفرقها على الناس في تلك الأيام قيل له: أبو الحسن البوشنجي؟ فقال: ما أشوب ما ضمنت له في قلبي بشيء من أعراض الدنيا.
#78#
ثم إن أبا عثمان رضي الله عنه توفي في تلك العلة، وخرج البوشنجي إلى العراق. (1/76)
ومنهم بعض العارفين رحمه الله تعالى
16 - قرأت في كتاب بعض مشايخنا يحكي عن ذي النون، قال: خرجت حاجا إلى بيت الله الحرام، فضللت الطريق فإذا أنا برجل مطروح على قارعة الطريق، وهو يجود بنفسه، فسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت له: تريد أن أقيم عليك؟ فقال: وما أصنع بك؟! قلت: أونسك. قال: وأي أنس لي فيك؟! قلت: أخدمك إذا أنت عليل. قال: كاف من كافي، وصاد من صادق، وعين من عالم، فمن لم يأنس به، فلا أنس له. قلت له: علمني بابا من أبواب الخير، أو شيئا أتعظ به عنك. فرفع رأسه، وقال: يا أخي احفظ نفسك من نفسك، ولا تخلها من قلبك، وإذا هممت بمعصية فارفع #79# رأسك إلى هذه الخضراء، واعلم لمن تتعرض، وعلى من تقدم، ومن تحارب؛ أما علمت أن من عصى الله تعالى فقد حاربه، انكمش على ما أنت فيه واشدد مئزرك، وارحل قبل أن يرحل بك، أما علمت أن جهنم أسهرت ليالي المريدين، وأقرحت قلوب العابدين؛ حتى مدحهم في كتابه؛ فقال عز من قائل {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون} الآية، فشهق شهقة، فمات -رحمه الله-، قال: فما رأيت شابا كان أبلغ منه. (1/78)
ومنهم شاب من أهل نيسابور
17 - سمعت بعض المذكرين يقول: قال إبراهيم الخواص: كنت أمشي في البادية، فتهت، وعدلت عن الطريق، فمشيت ثلاثة #80# أيام ولياليها؛ فإذا أنا بأشجار كثيرة، وسطها بحيرة، وإذا بقوم عليهم مرقعات؛ صورهم غير صور الآدميين فسلمت عليهم، فردوا الجواب، فسألتهم عن حالهم، وعن الموضع، فقالوا: نحن الجن، وهذا الموضع وهبه الله لنا، وقد أسلمنا على يدي النبي صلى الله عليه وسلم ونحن المسلمون.
فقلت لهم؛ فكم من هاهنا إلى الموضع الذي فارقت الطريق؟ فقالوا: مسيرة ثلاث سنين، فقلت: وهل وصل إلى هاهنا آدمي غيري؟ قالوا: بلى شاب من نيسابور جاء في سبعة أيام، ثم سألناه مسألة فأجاب، ومات عندنا، فدفناه بيننا، فقلت: أروني القبر، فمشوا إلى القبر، وأنا معهم؛ فإذا بقبر كبير، عند رأس القبر نرجس، وعند الرجل كذلك، فجلست على القبر، وقلت إيش كانت المسألة؟ قالوا: سألناه عن قوله تعالى {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون} قال: أن تخرج به منه إليه. قلنا: فما معنى العذاب؟ قال: الفراق، وشهق شهقة، فمات، قال: فزدت أنا في الجواب، قال: فأخذوا يرقصون، #81# وأنا معهم أرقص ثلاثة أيام، ثم نمت؛ فلما انتبهت إذا أنا في مسجد عائشة –رضي الله عنها- ومعي ذلك النرجس، فبقي معي سنة، ثم فقدته. (1/79)
ومنهم مسور جار عتبة رحمهما الله
18 - سمعت أبا محمد عبد الرحمن بن محمد المذكر النيسابوري يقول: قال قتادة: كان في جوار عتبة شيخ يقال له مسور، وكان لا يقوى أن يسمع القرآن من شدة خوفه، ولقد كان يقرأ عنده الحرف، أو الآية؛ فيصيح الصيحة، فما يعقل أياما، حتى أتى عليه رجل من خثعم؛ فقرأ عليه {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن #82# وفدا. ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا} فقال: أنا من المجرمين، ولست من المتقين؛ أعد علي ما تقول أيها القارئ. فأعادها عليه فشهق شهقة، فلحق بالآخرة. (1/81)
ومنهم لقمان الحكيم عليه السلام
19 - قرأت في بعض الكتب عن لقمان أنه قال لابنه: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} فانفطر، فمات، وكان في آخر حكمته.
قلت: إن لقمان وإن لم يدرك القرآن ولم يسمعه، ولم يقرأه، فإن هذه الكلمة التي قالها، ومات عنها صارت من القرآن بحكاية الله تعالى إياها عنه، والله أعلم.(1/82)
ومنهم شيخ من المهالبة وجارية له رحمهما الله
20 - أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني إجازة #83# وأخبرني أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الغازي عنه (قال): حدثنا الحسين بن محمد البلخي (قال): حدثنا أحمد بن الليث (قال): حدثنا عمر بن محمد (قال): حدثنا أبو عياش الخولاني (قال): حدثني عبد الله الخراز (قال): حدثني إسماعيل بن عبد الله الخزاعي قال: قدم رجل من المهالبة من أهل البصرة أيام البرامكة في حوائج له، فلما فرغ منها انحاز إلى البصرة، ومعه غلام وجارية، فلما صار في دجلة البصرة؛ إذا بفتى على ساحل الدجلة عليه حلة له صوف، وبيده عكاز، ومزود. قال: فسأل الملاح إلى أن يحمله إلى البصرة، ويأخذ منه الكراء.
قال: فأشرف الشيخ المهلبي، فلما رآه رق له، فقال للملاح: قرب، واحمله معك على الظلال، فحمله، وسار. فلما كان في وقت الغداة دعا الشيخ بالسفرة؛ وقال للملاح؛ قل للفتى ينزل إلينا، فأبى عليه،
#84#
فلم يزل يطلبه حتى نزل؛ فأكلوا حتى إذا فرغوا ذهب الفتى؛ ليقوم، فمنعه الشيخ حتى غسلوا أيديهم.
ثم دعا بزكرة فيها شراب، فشرب قدحا، ثم سقى الجارية، ثم عرض على الفتى؛ فأبى، وقال: أحب أن تعفيني. فقال: قد عفوناك؛ اجلس معنا وسقى الجارية، وقال: هاتي ما عندك فأخرجت عودا لها في غشاء، فهيأته، وأصلحته، ثم أخذت؛ فغنت، قال: يا فتى تحسن مثل هذا؟ قال: أحسن ما هو أحسن من هذا، فافتتح بسم الله الرحمن الرحيم {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا. أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة}، وكان حسن الصوت. قال: فزج الشيخ بالقدح في الماء. وقال: أشهد أن هذا أحسن مما سمعت! فهل غير هذا؟ قال: نعم، ثم قرأ {وقل الحق من ربكم فمن شاء #85# فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا}. قال: فوقعت من قلب الشيخ موقعا، فأمر بالزكرة؛ فرمى بها في الماء، وأخذ العود؛ فكسره، ثم قال: يا فتى فهل هاهنا من فرج؟ قال: نعم فقرأ {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}. قال: فصاح الشيخ صيحة خر مغشيا عليه، فنظروا؛ فإذا الشيخ قد ذاق الموت، وقد قاربوا البصرة. قال: فرج القوم بالصراخ، واجتمع الناس، وكان رجلا من المهالبة معروفا، فحمل إلى منزله، وأخرجوا جنازته، فما رأيت جنازة كان أكثر جمعا منها.
قال: وبلغني أن الجارية المغنية تدرعت الشعر، وفوق الشعر جبة صوف، وجعلت تقوم الليل، وتصوم النهار، فمكثت أربعين #86# ليلة، ثم مرت بهذه الآية في بعض الليل {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا}. قال: فأصبحوا؛ فأصابوها ميتة.(1/82)
ومنهم أبو جهير الضرير رحمة الله عليه
21 - قال شعيث بن الليث: حدثني الليث (قال): حدثني عمرو بن الحارث (قال): #87# حدثنا أبو محمد القيسي (قال): حدثنا صالح المري قال: أتاني مالك بن دينار يوما فقال: يا صالح اذهب بنا إلى أبي جهير يدعو الله لنا. فقلت له: قد ارتفع النهار؛ وإذا دخل بيته لم يخرج إلى أحد. قال: وكان بيته أقصى بيت بالبصرة، والصحراء يومئذ جاره، وبين يدي داره بئر، ودلو، وأحجار، ومسجد. فقلت: صل الغداة، وائتني حتى نذهب إليه. وهو في مسجده قبل أن يدخل داره. قال: فلما صليت الغداة، فإذا أنا بمحمد بن واسع؛ فسلم، وجلس. قلت له: ما جاء بك؟
#88#
قال: يا أبا عبد الله تجيء معي إلى أبي جهير يدعو الله لنا؟ فقلت له: قد وعدت مالك بن دينار يجيء، فنقوم، ونذهب. فلم ينقض كلامي حتى جاء ثابت البناني؛ فسلم، وجلس. فقلت له: ما جاء بك يا أبا محمد؟ قال: تجيء معي إلى أبي جهير يدعو الله تعالى لنا. فقلت: قد جاء هذان فيما جئت فيه، وقد وعدت مالكا يجيء؛ فنقوم. فلم ينقض كلامي حتى جاء مالك.
فقمنا خمسة لم يكن في البصرة يومئذ أفضل منهم.
قال: فأخذنا على الجبان، فكلما مررنا بروضة خضراء؛ أو مكان لطيف؛ قال مالك: أبا محمد صل لك في هذه البقعة #89# تشهد لك غدا؟ فلم يزل كذلك في صلاة حتى ارتفع الضحى، وكان يوم حار، وطريق بعيد، فأتينا منزله، وقد دخل بيته؛ فاستأذناه، فإذا امرأة من وراء الجدار: لم نر لها وجها؛ كأن حزن أهل الدنيا، وأهل الأرض عليها. قالت: وما تشاؤون؟ قلت: الشيخ. قالت: لا تصلون إليه دون الظهر؛ يخرج للصلاة؛ فترونه إن شاء الله تعال. فقال بعضنا لبعض أين نذهب؟! نقيم إلى الظهر؛ فأتينا مسجده، فمن بين قائم يصلي، وبين قارئ وذاكر لله تعالى حتى كان الظهر، فقمنا إلى البئر فاستقينا ماء، وتوضأنا، ودخلنا مسجده، فقمنا نصلي، فبينما نحن كذلك إذ خرج علينا أبو جهير، رجل ضرير كأنه شن بال يتلألأ وجهه نورا، فأذن، ثم جاء يمشي حتى قام في المحراب، فصلى ثماني ركعات وسمع حسا. قال: وجاء جيرانه نحو بضعة عشر رجلا.
#90#
قال: فخرج من المسجد فأقام الصلاة، ثم جاء يمشي، حتى قام في المحراب، فصلى بنا الظهر، ثم قعد ساعة يذكر الله تعالى، ثم قام فصلى ثماني ركعات، ثم وجه وجهه إلينا. فقام إليه محمد بن واسع؛ فسلم عليه فرحب به، ورد عليه السلام، وقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا محمد بن واسع. قال: أنت الذي يزعم أهل البصرة أنك أعبدهم؟ ألا سألت الله تعالى أن يستر ذلك عليك؟! فسكت، ثم جلس. ثم قام إليه ثابت البناني فسلم عليه، فرد عليه السلام، وقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا ثابت. قال: أبو محمد؟ قال: نعم. فرحب به، وقال: أنت الذي يزعم أهل البصرة أنك أكثرهم صلاة؟ ألا سألت ربك أن يستر ذلك عليك؟! فسكت، فجلس. ثم قام إليه حبيب أبو محمد، فسلم عليه، فرد عليه السلام. وقال له: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا حبيب؟ قال: أبو محمد؟ قال: نعم. فرحب به. وقال: أنت الذي يزعم أهل البصرة أنك مستجاب الدعوة؟ ألا سألت ربك #91# أن يستر ذلك عليك؟! فسكت، ثم جلس. ثم قام إليه مالك، فسلم عليه، فرد عليه السلام، وقال له: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا مالك. قال: أبو يحيى؟ قال: نعم. قال: بخ بخ أنت الذي يزعم أهل البصرة أنك أزهدهم؟! ألا سألت الله أن يستر ذلك عليك؟! فسكت، فجلس. ثم قمت أنا إليه، فسلمت عليه فرد علي السلام، وقال: من أنت يرحمك الله؟ قلت: أنا صالح. قال: القارئ؟ قلت: نعم. قال: فرفع يديه، فقال: الحمد لله الذي جمعكم لي، أما إني كنت أسأل الله تعالى أن يجمعكم لي، فالحمد لله الذي استجاب دعوتي، يا صالح إني إلى قراءتك بالأشواق. فقال له محمد بن واسع: يا أبا جهير إنما جئنا لتدعو الله تعالى لنا. قال: فرفع يده، ورفعنا أيدينا، وجعل يدعو ساعة. ثم قال: يا صالح اقرأ قال صالح: فذهبت أقرأ، ففتح الله تعالى علي من الصوت شيئا لم أعرفه من نفسي قط، ولا سمعت مثله من غيري. ثم #92# قرأت {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا. ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا. الملك يومئذ الحق للرحمن} قال: فزعق زعقة عظيمة مزعجة، وضرب بنفسه الأرض مغشيا عليه.
قال: فظننا أنه قد مات، فلم نزل نزلزله، ونصب عليه الماء إلى أن أفاق، فلما أفاق، ورجع؛ فكأنه لم يخلق في جسده من الروح شيء. فقال لي: يا صالح اقرأ؛ فإني لا أشبع من قراءتك. قال: فقرأت {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}.
قال: فوالله ما تممت الآية حتى مات رحمة الله عليه. قال: فظننا أنه مثل الأول، فحركناه، فإذا هو يابس.
قال: فقمنا إلى المرأة، فقلنا لها: يا هذه؟ فقالت: ما تسألون؟
#93#
قلنا: إن أبا جهير -رحمة الله عليه- قرئ عليه القرآن فمات. فقالت: ليس هذا بعجب، ولكن أخبروني أفيكم صالح القارئ؟ قلنا: وتعرفينه؟ قالت: ما رأيته قط. فقلنا: فلأي شيء تسألين عنه؟ قالت: إن أبا جهير -رحمه الله- كان كثيرا ما يقول: إني إلى قراءة صالح المري بالأشواق، واعلمي يا هذه أني إن سمعت قراءته مت، فلما قلتم لي إنه سمع القرآن فمات، ظننت أنه سمع قراءة صالح؛ فمات.
فقالت: الحمد لله الذي استجاب دعاه، وأعطاه سؤله، يا هؤلاء إن أبا جهير كان يدعو كثيرا: اللهم اخمل أمري على الناس، وهذا سرير غسله، والسرير الذي يحمل عليه موضوع، وأكفانه، وقطنه، وحنوطه، ودخنته، والمجمر، والفحم موضوع مهيأ: كان يجدد ذلك كل أيام، وليس تكلفوا شراء شيء من الأشياء، وهذا زنبيل، ومسحاة، وفأس؛ لقبره، ولنا جيران حوالينا بيوتهم فيها #94# الرجل والرجلان؛ فأعلموهم يحضرون؛ فيحفرون له قبرا بين يدي داره، وتولوا أنتم غسله، وأدخلوه قبره، ففعلنا ذلك، فغسلناه، ووضعناه على سريره، واجتمع جيرانه نحوا من عشرين رجلا، فحفروا له قبرا بين يدي داره، فأخذوا هم في حفر قبره، وأخذنا نحن في غسله. فلما فرغنا من غسله، وجئنا بأكفانه؛ فألبسناه، ووضعناه على سريره، وقد فرغ من حفر قبره، فأخرجناه، فصلى عليه محمد بن واسع، ثم دفناه رحمة الله عليه، فلما رأينا للمرأة وجها، ولا سمعنا لها بكاء، ولا حسا، وانصرفنا راجعين وتفرقنا.
قال صالح: كنت إذا لقيت محمد بن سليمان الهاشمي قال لي: يا صالح حدثني بحديث أبي جهير، فأحدثه، فلا يزال يبكي حتى تبل لحيته.(1/86)
#95#
ومنهم بعض العارفين رحمهم الله
22 - أخبرنا إمام عصره في المعاملة أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن محمد بن موسى السلمي بقراءتي عليه قال: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت أبا الحسين بن زرعان يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول:
#96#
بينما أنا في بعض طرقات البصرة؛ إذ سمعت صعقة، فأقبلت نحوها، فرأيت رجلا قد خر مغشيا عليه، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: كان رجلا حاضر القلب، فسمع آية من كتاب الله تعالى، فخر مغشيا عليه، فقلت: وما هي؟ قال: قوله {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق}. فأفاق الرجل عند سماع كلامنا، وأنشأ يقول:
أما آن للهجران أن يتصرما ... وللغصن غصن البان أن يتبسما
وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنا ... ألم يأن أن يبكى عليه ويرحما
كتبت بماء الشوق بين جوانحي كتابا ... حكى بنقش الوشي المنمنما
ثم قال: أشكال؛ أشكال؛ أشكال، وخر مغشيا عليه؛ فإذا هو ميت.(1/95)
#97#
ومنهم أسد بن صلهب
23 - أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا الجوزقي بقراءتي عليه (قال): حدثنا عبدوس بن الحسين بن منصور (قال): حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس (قال): حدثنا محمد بن عبد الكريم قال: قال أبو زيد عبد الرحمن بن مصعب: كان عندنا رجل بالكوفة يقال له أسد بن صلهب، وكان #98# من العباد، بينا هو قائم ذات يوم على شط الفرات؛ إذ سمع تاليا يتلو {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون} قال: فتمايل. قال: فلما قال التالي {لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون} سقط في الماء، فمات رحمه الله.(1/97)
ومنهم فتى من أصحاب أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
24 - قال يحيى بن أيوب: كان فتى يعجب به عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وإن الفتى انصرف ذات ليلة من صلاة العشاء، فإذا هو بامرأة قد مثلت بين يديه؛ تعرض عليه نفسها، ففتن بها؛ فاتبعها حتى أتى بابها، فوقف متفكرا؛ فخطر بباله قوله تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}، فلما تلاها خر مغشيا عليه، فنظرت المرأة، فصاحت الجارية، فاستعانتا حتى رداه إلى باب داره، فرمياه هناك، وكان له أب #99# شيخ كبير، فلما لقيه ملقى احتمله، وأدخله داره، وعالجه حتى أفاق؛ فقال له: ما الذي أصابك يا بني؟! فقال: لا تسألني. فلم يزل به أبوه حتى أخبره الخبر، وتلا الآية، فلما تلاها شهق شهقة وخرجت نفسه، فدفن، ثم أخبر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمضى عمر حتى وقف على قبره، فناداه باسمه: يا فلان {ولمن خاف مقام ربه جنتان}. فنودي من قبره: قد أعطانيهما ربي يا عمر.(1/98)