و الخطأ الرابع يتعلق بسنة احتلال الصليبيين للقدس الشريف ، فقد نقل الجابري عن الباحث أحمد الشرباصي أن الصليبيين احتلوا بيت المقدس سنة 495 هجرية (1) . و هذا غير صحيح ، لأن الصليبيين احتلوا القدس الشريف سنة 492 هجرية ،و ليس سنة 495 (2) . و لا أدري أهذا الخطأ من الجابري أم من احمد الشرباصي و لم يتنبه إليه الجابري ؟ . لكن الجابري يبقى مسؤولا عما كتبه في الحالتين .
و أما الخطأ الأخير-أي الخامس- فمفاده أن الجابري قال:إن الدولة الموحدية لما قامت جسّدت المشروع المذهبي الذي ناضل ابن حزم الطاهري من أجله (3) . و قوله هذا لا يصح إلا في بعض جوانبه، لأن المشروع الحزمي من أهم خصائصه: رفض الأشعرية ،و رفض التصوّف و العرفان الشيعي بإمامته و عصمته، و تبني منطق أرسطو ،و الدعوة إلى الاجتهاد و رفض التقليد المذهبي (4) . و أما المشروع التومرتي الذي طبقته الدولة الموحدية ، فمن خصائصه : تبني الأشعرية في أصول الدين، و تشجيع الفلسفة ، و تبني مذهب الشيعة في الإمامة و العصمة ، و تشجيع التصوف، و الدعوة إلى الاجتهاد و محاربة التقليد المذهبي عامة و المالكي خاصة (5) .
__________
(1) تكوين العقل ، ص: 288 .
(2) أنظر : ابن كثير : البداية ، ج 12 ص: 156 . و ابن العماد الحنبلي : الشذرات ، ج 5 ص: 401 .
(3) تكوين العقل ، ص: 307 .
(4) تكوين العقل ، ص: 302، 303 ، 304 ، و ما بعدها .
(5) الذهبي: السير ، ج 21 ص: 314 . و ابن خلدون : العبر ، ج 6 ص: 300 . و الناصري السلاوي : الاستقصاء ، ج 1 ص: 157 ، 157 ، 197 ، 200 . و الجابري: تكوين العقل ، ص: 320، 321 ، 322 .(18/87)
و يتبين من المقارنة بين المشروعين ، أنهما يتفقان حول نقطتين ،و هما الدعوة إلى الاجتهاد و نبذ التقليد ،و تشجيع الفلسفة . لكنهما يختلفان في ثلاث نقاط أساسية ، هي : الموقف من الأشعرية ، و الموقف من التصوّف ، و الموقف من العرفان الشيعي إمامة و عصمة . و بذلك يتبن أن ما يُفرّق بين المشروعين أكثر مما يجمع بينهما ، مما يعني أن ما قاله الجابري من أن الدولة الموحدية جسّدت المشروع الحزمي على الواقع ، من دون أن يُشير إلى نقاط التشابه و الاختلاف بين المشروعين ، هو قول غير صحيح على إطلاقه ،و لا يصح إلا في بعض جوانبه فقط .
و ختاما لهذا الفصل- أي الرابع - يتبين أن الباحثيّن محمد أركون و محمد عابد الجابري ، قد وقعا في أخطاء تاريخية كثيرة جدا ، تتعلق بتاريخ الصحابة و الفتنة الكبرى ،و الطوائف الإسلامية و قضايا متفرقة ؛ و قعا فيها لأنهما لم يلتزما بالمنهجية العلمية الصحيحة في نقد الأخبار التاريخية ،و لم يُوسعا مجال البحث للإطلاع على أكبر عدد ممكن من المصادر التراثية . و قد ناقشناهما و رددنا على أخطائهما الكثيرة ، وفق منهج أهل الحديث في نقد الأسانيد و المتون معا ،و قد التزمنا به قدر المستطاع ،و لله الحمد أولا و أخيرا .
.......................................................................................
الفصل الخامس
مقارنة بين فكر محمد أركون و محمد عابد الجابري
أولا : المقارنة من حيث الالتزام بالمنهجية العلمية
ثانيا : المقارنة من حيث التأثر بالمستشرقين
ثالثا : المقارنة من حيث الموقف من الإسلام: مصدرا و اعتقادا و مكانة
رابعا: المقارنة من جهة الأهداف و الخصائص المتعلقة بفكر الرجلين
خامسا : المقارنة بين المشروعين من حيث المضمون
الفصل الخامس
مقارنة بين فكر محمد أركون و محمد عابد الجابري(18/88)
نخصص هذا الفصل للمقارنة بين فكر الباحثيّن محمد أركون و محمد عابد الجابري ، من مختلف الجوانب الفكرية التي تناولناها بالنقد و المناقشة في الفصول الأربعة السابقة ، على أن لا نلتزم بتوثيق كل المادة العلمية التي سنستخدمها في هذا الفصل ، لأنه سبق توثيقها في تلك الفصول.
أولا : المقارنة من حيث الالتزام بالمنهجية العلمية:
نتناول في هذا المبحث المقارنة بين أركون و الجابري من حيث الالتزام بالمنهجية العلمية ، من خلال سبعة جوانب تتعلق بها ، أولها : استخدام المصادر ، فبالنسبة لأركون فإنه اخذ معظم مادته العلمية عن الإسلام و تراثه و تاريخه ، من كتب المستشرقين ، من دون الرجوع إلى المصادر الإسلامية في الغالب الأعم.و هذا عمل مرفوض علميا و منهجيا ،و مردود على صاحبه ، لذا فنحن نطالبه بأن يتحرر من قيود المستشرقين و أغلالهم،و يرجع إلى مصادرنا بموضوعية و روح علمية حيادية نقدية ، من دون خلفيات استشراقية مُبيتة .
و أما الجابري فهو أحسن حالا من أركون فيما يتعلق باستخدام المصادر ، لكنه لم يكن في المستوى المطلوب ، فقد اعتمد على مصادر قليلة بالنسبة للمواضيع التي ناقشناه و رددنا عليه فيها ؛ خاصة المتعلقة بالأخبار التاريخية ، التي لم تكن لها قيمة علمية معتبرة ، و بعضها مطعون فيه لا يصح الاعتماد عليه ،و لا يُؤخذ منه إلا بحذر و تمحيص .
و الجانب الثاني يتعلق بتوثيق المادة العلمية التي استخدماها الباحثان ، فبخصوص أركون فإنه لم يلتزم بتوثيق المعطيات و الشواهد و الروايات التي استخدمها ، فمعظمها كان بلا توثيق . و نفس الأمر يصدق على الجابري ، فإنه ذكر مادة علمية غزيرة في مؤلفاته من دون أ، يُوثقها ، لكنه مع ذلك فهو أحسن حالا من أركون في هذا الأمر .(18/89)
و أما الجانب الثالث فيتعلق بالذاتية و الموضوعية ، فبالنسبة لأركون فلم يكن حياديا في كل ما كتب تقريبا ، بل كان ذاتيا متحيزا في أكثر ما كتبه عن الإسلام و ما يتعلق به . حتى أن سمح لنفسه –لفرط تحيزه- أن يتحدى مشاعر المسلمين بلا دليل من الشرع ، و لا من العقل ، و لا من العلم ، و يُظهر انزعاجه منهم و من دينهم ، من دون احترام لهم و لا لدينهم في كثير من المواضع من مؤلفاته ، مع كثرة الدعاوى العريضة و المغالطات ، . و قد مارس ذلك باسم العلم و الموضوعية و العقلانية ،و هو بعيد عن ذلك في معظم ما كتب عن الإسلام (1) ، و قد ذكرنا على ذلك أمثلة كثيرة جدا فيما سبق أن ذكرناه .
و أما الجابري فهو أيضا لم يكن حياديا في كثير مما كتبه ، لكنه أقل ذاتية من أركون ، فهو قد مارس التحيز و التدليس و التغليط في طرح أفكاره و الانتصار لها ، و قد ذكرنا طرفا منها ، كسكوته عن أخطاء المعتزلة و أرسطو ، بدعوى الانتصار للعقلانية ، و هذا عمل ليس من الموضوعية العلمية في شيء ، فالحق أحق أن يُتبع ، و العقلانية الحقة تفرض على صاحبها الالتزام بالحق في كل الأحوال .
و الجانب الرابع يتعلق بموقف محمد أركون و عابد الجابري من منهج نقد الخبر عند أهل الحديث ، فإنهما قد اتفقا في موقفهما منه ، فطعنا فيه بلا فهم صحيح له، و بلا دراية به ، و حطّا على أصحابه بلا حق . و قد ناقشناهما و رددنا عليهما بما فيه الكفاية في المبحث الثاني من الفصل الأول .
__________
(1) بناء على كتبه التي أطلعتُ عليها .(18/90)
و أما الجانب الخامس فيتعلق باستخدام المصطلحات الحديثة المرتبطة بعلوم الإنسان و المجتمع ، فقد أكثر أركون من استخدامها ، و كانت –في الغالب الأعم- مصطلحات جوفاء ، جرها معه في كل أبحاثه-التي أطلعتُ عليها- ، فزادت من صعوبة فهم كلامه و تعقيده من دون طائل ، مما أدى بالمترجم إلى الإكثار من الشروح و التعليقات التي زادت في حجم مؤلفات اركون من جهة ،و أرهقت القارئ و شوشت عليه من جهة أخرى . كما أن معظم تلك المصطلحات لم يكن استعمالها ظروريا للفهم و الإثراء ، فقد كان يمكن الاستغناء عنها نهائيا . و كأن أركون كان يستخدمها ليُخفي بها هزالة مادته العلمية ، ويُشغل القارئ بفك ألغازها و طلاسمها من دون طائل في النهاية .
و أما الجابري فلم يُكثر من استخدام مصطلحات تلك العلوم ذات الصلة بمؤلفاته ، و قد أشار في مقدمة كتابه تكوين العقل العربي إلى انه سيستخدم جهازا مفهوميا اصطلاحيا في أبحاثه عن العقل العربي ، لكنه لم يُكثر من استخدامها بالمقارنة إلى ما فعلة أركون.
و الجانب السادس ، يتعلق بالمناهج الغربية في البحث و التحليل و الكتابة العلمية ، فبالنسبة لأركون فإنه أكثر من الإشارة إلى أنه سيستخدم المناهج الغربية في البحث و التحليل ،و ادعى أنه يُطبق المنهج التحليلي التفكيكي ، و منهج التاريخية ، و قد ذكرنا طرفا من ذلك في الفصل الثاني ،و تبين أنها مناهج محدودة قاصرة ، لا تصلح لدراسة القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة ، و أن أركون أخفق – من خلال تطبيقه لها – في الوصول إلى ما خطط له سلفا . و أما الجابري فهو أيضا استخدم بعض المناهج الغربية في مجال نُظم المعرفة ، و التحليل و التفكيك ، لكنه لم يُوفق في تطبيقها على كثير من المواضع التي ناقشناه و أظهرنا أخطاءه فيها .(18/91)
و أما الجانب الأخير –أي السابع- فيتعلق بنقد الأخبار و تمحيصها ، فبالنسبة لأركون فقد كان بعيدا كل البعد عن نقد الأخبار و تحقيقها ، فلم أعثر له على أية رواية نقدها و حققها ليُميزها من حيث الصحة و البطلان ، وفق المنهج العلمي الكامل الذي يجمع بين نقد المتون و الأسانيد معا . و هذه نقطة ضعف كبيرة-إلى جانب نقاط الضعف الأخرى- في أبحاث أركون ، لأن الذي يكتب في الإسلاميات و تاريخها ،و لا يكون ملما بذلك المنهج علما و تطبيقا و دراية ، فإن أبحاثه لا قيمة لها في غالب الأحيان .
و أما الجابري فهو أحسن حالا من أركون ، فقد عثرت له على تحقيقات و ترجيحات لبعض الروايات التاريخية ، لكنها كانت قليلة جدا ، بالمقارنة إلى الكم الكبير من الروايات التي ذكرها و اعتمد عليها من دون أن يُحققها . مع العلم بأن رواياته التي حققها كانت ناقصة من حيث النقد و التمحيص ، لأنه لم ينقد أسانيدها ،و أهملها إهمالا كليا .
ثانيا : المقارنة من حيث التأثر بالمستشرقين:
لا يحتاج الباحث إلى كبير عناء ليُدرك أن أركون متأثر بالمستشرقين تأثرا كبيرا ، لأن كتبه مملوءة بذلك ،و قد ذكرنا من ذلك أمثلة كثيرة جدا فيما تقدم من كتابنا هذا . تبين من خلالها أنه تلميذ وفي لهم ، و شديد الحب لهم و الثناء عليهم ،و كثير التنويه بأعمالهم الباطلة منها و الصحيحة .و قال بقولهم في الطعن في الإسلام و القرآن ، و السنة النبوية ، و إنكار الصفة الربانية لدين الإسلام . و هو عندما يتظاهر بنقده للمستشرقين يبقى دائما تلميذهم الحريص على مدحهم ،و المُنوه بأعمالهم ، و المُعتمد على تراثهم،و الآخذ بأفكارهم ، و المُحرّض لهم على مواصلة أبحاثهم في الطعن في الإسلام و أهله و تاريخه ، فكان تلميذا وفيا للمستشرقين ،و ابنا عاقا لأمته ،و باحثا ظالما لدين أجداده.(18/92)
و أما الجابري فهو مع اعترافه بأنه استفاد من المستشرقين في مختلف مجالات المعرفة (1) ، فإنه لم يكن سلبيا تجاههم في كل ما قالوه عن الإسلام و تاريخه ، فقد قاومهم و أخذ منهم بوعي ، خاصة فيما يتعلق بطعن هؤلاء في مصدرية القرآن و نبوة محمد –عليه الصلاة و السلام- ، فإنني لم أعثر على أثر يُشير إلى أنه تأثر بضلالات هؤلاء المتعلقة بدين الإسلام و رسوله .
ثالثا : المقارنة من حيث الموقف من الإسلام : (( مصدرا ،و اعتقادا ، و مكانة ))
نخصص هذه المقارنة لإبراز موقف أركون و الجابري من الإسلام، من حيث المصدرية ، و الاعتقاد، و الفهم، و مكانة الإسلام في فكر الرجلين . فبخصوص المصدرية المتمثلة في الكتاب و السنة ، فقد طعن أركون في مصدرية القرآن ،و شكك فيه مرارا و تكرارا ، و زعم أن أصوله –أي القرآن- الأولى قد ضاعت ، وأنه تعرّض للتحريف ،و لم يُكتب في العهد النبوي ، من دون أن يُقد م دليلا صحيحا ، مُسايرا في ذلك شيوخه المستشرقين . و قد ناقشناه في مزاعمه و شبهاته و نقضانها عليه، بتوسع في الفصل الثالث .
و أما موقفه من السنة النبوية ، فكان أسوأ من موقفه من القرآن ، فقد زعم أنه لم يُحفظ منها إلا القليل اليسير ، و الباقي مكذوب مُفتعل ، و ما هو إلا اختلاق مستمر ، متبعا في ذلك ما يقوله أساتذته المستشرقون الذين سبقوه إلى القول بتلك المزاعم ،و قد ناقشناه في شبهاته و دعاويه و نقضناه عليه في الفصلين الأول و الثالث .
و أما الجابري فموقفه من مصدرية القرآن يختلف تماما عن موقف صديقه أركون ، فلم أعثر له على ما يُشير إلى أنه طعن في مصدرية القرآن الربانية أو شكك فيها . و قد نوّه بأهميته كمصدر موثوق في التأريخ للسيرة النبوية ،و قد أشار إلى ذلك في القسم الذي خصصه للسيرة النبوية من كتابه العقل السياسي العربي .
__________
(1) التراث و الحداثة ، ص: 309 .(18/93)
لكن موقفه من السنة النبوية يختلف تماما عن موقفه من القرآن الكريم ، و يقترب كثيرا من موقف أركون من السنة النبوية ، و ذلك أنه طعن في طريقة جمع السنة و تحقيقها التي اتبعها المحدثون في جمعهم لها و تمييز صحيحها من سقيمها ، و قد ناقشناه في ذلك و رددنا عليه في الفصلين الأول والثالث .
و أما موقفهما من حيث الاعتقاد بدين الإسلام ، فإن من يقرأ ما كتبه أركون عن الإسلام ، و ما نقلناه عنه في الفصلين الثاني و الثالث من طعن في الإسلام ، و تشكيك فيه ، و هجوم عليه ، و تحريض عليه ، فإنه يحكم على هذا الرجل-أي أركون- بأنه ليس مسلما ، و ما هو إلا مستشرق يحمل اسم المسلمين ؛ لكنه يندهش من جهة أخرى عندما يجد هذا الرجل يُظهر حرسه على الإسلام ،و يقول مرارا بأنه مسلم (1) . إنه رجل متناقض مع نفسه ، عليه أن يُزيل هذا التناقض إذا كان مُخلصا فيما يكتب و يقول . و أما إذا كان متلاعبا طالبا للشهرة على طريقة خالف تُعرف ، فهو لا يُبالي بذلك التناقض و لا يهمه .
و أما الجابري فهو يختلف عن أركون من حيث الاعتقاد بدين الإسلام ، فكتبه شاهدة –خاصة المتأخرة منها- على أنه يَدين بالإسلام عقيدة ، و لم أعثر على ما ينقض ذلك صراحة كما هو حال أركون . لكنه هو أيضا متناقض مع نفسه بين اعتقاده بالإسلام ،و بين مشروعه الفكري العلماني القومي، الذي سنشير إليه قريبا إن شاء الله تعالى .
و أما من حيث فهمهما للإسلام ، فإن الرجلين لهما أخطاء كثيرة في فهم الإسلام ، ذكرنا طرفا منها في الفصل لثاني ، كان فيها أركون أكثر خطأ في فهمه للإسلام من الجابري .
__________
(1) أنظر : الإسلام ، أوروبا ، ص: 44، 45 ، 126 ، 132 ، 138 ، 140 .(18/94)
و أما مكانة الإسلام في فكر الرجلين ، فإن الإسلام عند أركون ما هو إلا تراث موروث فقد دوره العملي اليوم بحكم قانون التاريخية المزعوم . و هو ليس مصدرا للتشريع و لا للأخلاق ،و لا للمفاهيم و العقائد، و ليس هو دينا إلهيا كما يدعي المسلمون ،و لا يختلف عن غيره من الأديان كالمسيحية و اليهودية .
و هو مُعقّد جدا تجاه الإسلام ، ينزعج من كل من يمدحه أو يُنصفه، أو يُبجله و يُدافع عنه، أو يعترف بمحاسنه و خصائصه الربانية التي تميزه عن غيره من الأديان الأخرى (1) . و في مقابل ذلك نجده يفتخر بمؤلفاته ،و يمدح أعمال شيوخه المستشرقين ، و يصدق عليه قوله تعالى : {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} - سورة الزمر/45-. إنه رجل مُعقد تجاه الإسلام ، كثير الدعاوى و الافتخار بمؤلفاته الهزيلة . و إنه مسكون بهواجس و شكوك ، و خيالات و شبهات لا حقيقة و لا وجود لها إلا في فكره و في تراث شيوخه .
و أما الجابري ، فمكانة الإسلام في مشروعه الفكري تُشبه مكانته في فكر أركون في جوانب ،و تختلف عنها في جوانب أخرى ، فالإسلام عنده موروث حضاري ، اُستهلك خلال مرحلته التاريخية الممتدة من نهاية العصر الجاهلي إلى عصر النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر الميلادي و ما بعده . فهو الآن مُقوِّ م تاريخي و حضاري من المقومات الأساسية للقومية العربية (2) .
__________
(1) أنظر مثلا : تاريخية الفكر ، ص: 86، 123، 140 ، 199 . و الفكر الإسلامي ، ص: 83 ، 184، 193 .
(2) أنظر : تكوين العقل ، ص: 338 . و بنية العقل ، ص: 571 . و التراث و الحداثة ، ص: 116 ، 117 .(18/95)
و الإسلام عنده ليس مصدرا وحيدا للتلقي ،و ليس رسالة إلهية كاملة : عقيدة و شريعة ، أخلاقا و مفاهيم ، و ليس هو مشروع حياة أبدية يتوقف عليه مصير البشرية جمعاء. حتى بلغ به الأمر إلى انه قال: من مهام الفكر العربي اليوم العمل على تحويل العقيدة إلى مجرد رأي (1) .
و مع ذلك فقد عثرت على قولين للجابري وصف في أحدهما الإسلام بأنه دين و دولة (2) ،و في الثاني قال: (( لأنني اعتقد و أُؤمن بأن الإسلام دين و دنيا )) (3) . فما تفسير هذا التناقض بين ما نقلناه عنه آنفا ،و بين قوليه الأخيرين؟ . إنه توجد أربعة احتمالات لتفسيره ، أولها إنه قال ذلك من باب الاعتقاد بأن الإسلام دين و دولة ،و دين و دنيا.و ثانيها إنه قال ذلك من باب وصف الإسلام ذاته ، بأنه دين شرّع للدين و الدولة ، و للدين و الدنيا معا ، فهو يُؤمن بذلك من باب الوصف و الإقرار بشيء موجود ،و ليس من باب الاعتقاد النظري و العملي.
و ثالثها إنه قال ذلك من باب وصف الإسلام من الناحية التاريخية ، بأنه كان في عصره الذهبي دينا و دولة ،و دينا و دنيا. و آخرها-أي الاحتمال الرابع- ، إنه قال ذلك من باب التلاعب و التضليل ، و ذر الغبار في عيون منتقديه من الإسلاميين ، لإسكاتهم و التخفيف من انتقاداتهم له .
فبالنسبة للاحتمال الأول فهو مُستبعد ، لأن المشروع الجابري شهد على نفسه بأنه مشروع قومي علماني ديمقراطي ، لا يُمثل فيه الإسلام إلا مقوما تراثيا تجاوزه الزمن . و أما الاحتمالان الثاني و الثالث فهما واردان ،و يبدو لي أنه يقصد أحدهما أو هما معا.و أما الاحتمال الرابع فهو وارد ، لكن الله تعالى أعلم به .
رابعا : المقارنة من جهة الأهداف و الخصائص :
__________
(1) عن ما قلناه عنه ، أنظر : العقل السياسي ، ص: 327 . و بنية العقل ، ص: 7 ، 416، 552 . و تكوين العقل ، ص: 338 ، 67 . و التراث و المحادثة ، ص: 17 .
(2) العقل سياسي ، ص: 310 .
(3) التراث و الحداثة ، ص: 339 .(18/96)
فمن حيث الأهداف ، فإن مشروع أركون الفكري أقامه أساسا على دراسة الإسلام، تحت عنوان : نقد العقل الإسلامي ، قصد الوصول إلى جملة أهداف ، أهمها اثنان ، الأول السعي لضرب الإسلام بالإسلام، تمهيدا للإجهاز عليه نهائيا ، بواسطة جملة من الوسائل ، منها: الدعوة إلى تجديد الإسلام و عصرنته. و التشكيك في قطعيات دين الإسلام، و نشر شبهات المستشرقين و العلمانيين حوله . و تكوين نخبة علمانية من أبناء المسلمين يكونون بوقا للفكر الغربي في الشرق و الغرب معا . و التظاهر بالحرص على تجديد الفكر الإسلامي من جهة ، و العمل على طمسه و تحريفه و تفريغه من محتواه من جهة ثانية (1) .
__________
(1) أنظر مثلا : الفكر الأصولي، ص: 350. و معارك من أجل الأنسنة ، ص: 184 . و الإسلام، أوروبا ، ص: 10، 11 ، 203،(18/97)
و هدفه الثاني هو الدعوة إلى اللادينية –أي العلمانية التي هي مذهب أركون - بين المسلمين ،و علمنة الإسلام نفسه، باستخدام مختلف الوسائل الممكنة ، ، حتى أنه يزعم و يُصر على زعمه بأن في الإسلام علمانية لا تُضاد الدين ،و علمانية تفصل بين الديني و السياسي في الإسلام (1) ، من دون أن يُقدم أي دليل من الكتاب و لا من السنة ، إلا إتباع الظن و الهوى ،و التأويل الفاسد. حتى أنه كتب بحثا عنوانه: ممارسة علمانية للإسلام (2) ، لم يأت فيه بأي دليل صحيح، إلا إتباع الظن و ترديد الشبهات، مع تجاهله التام لحقيقة الإسلام الكبرى المتمثلة في أنه و العلمانية-أي اللادينية- نقيضان لا يجتمعان ، لأنه-أي الإسلام- عقيدة و منهج حياة كامل شامل للدين و الدنيا معا ، و صالح لكل زمان و مكان ، لقوله تعالى : -{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }- سورة الذاريات56-58- و{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} - سورة الأنعام/162- و{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} - سورة الأنعام/153-. لكن أركون لا يُبالي بذلك و لا يرتدع به، و لا يمل و من الدعوة إلى أفكاره و الجري وراءها .
__________
(1) أنظر مثلا : تاريخية الفكر ، ص: 214 ، 267، 294 . و الإسلام ، أوروبا ، ص: 101 ، 102 ، 203 .
(2) تاريخية الفكر ، ص: 294 .(18/98)
و هذا الرجل اعترف صراحة بأنه يدعو إلى علمنة الإسلام لمجابهة السلطات الدينية التي تخنق حرية التفكر في الإنسان ،و وسائل تحقيق هذه الحرية (1) . و هذا الرجل أمره غريب جدا ، فمن أجل ذلك أمضى حياته في تأليف الكتب لتشويه الإسلام و تحريف تاريخه ! ، إنه لا يعرف حقيقة الإسلام،و ما ذاق حلاوة الإيمان به، إنه لا يعلم أن الحرية الحقيقية لا يجدها إلا في عبادة الله تعالى على دين الإسلام عقيدة و شريعة ، فإذا فعل ذلك تخلّص من قيود مذهبيته و ظنونه و شُبهاته ،و أصبح حرا طليقا يعبد الله على بصيرة من أمره لا يخشى أحدا إلا الله تعالى .
و أما المشروع الجابري فأهدافه واضحة ، أهمها إيجاد فكر قومي عربي يقوم على العلمانية و الديمقرا طية ، و الحداثة و العقلانية الغربية ، مع عدم إحداث قطيعة مع التراث عامة و الإسلام خاصة ، لأنه –أي الإسلام- مقوم تراثي موروث-في نظر الجابري- ، من أهم المقومات التراثية ، إلى جانب اللغة العربية (2) . فمشروع الجابري علماني قومي تغريبي ، دوره الأساسي ابعاد الإسلام و إحلال مشروعها محله ، تكون فيه العلمانية هي الدين الأرضي الذي تقوم عليه الحياة ، لا يمثل فيها الإسلام إلا مقوما توراثيا ، لا دور له في توجيه الحياة ، لأن هذا الدور تقوم به العلمانية و الحداثة ، و الديمقراطية و العقلانية المزعومة ،و بذلك يتم الاستغناء عن الإسلام ،و تفريغه من محتواه الرباني العقيدي التشريعي .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 294 .
(2) أ : تكوين العقل ، ص: 7 ص: و بنية العقل ، ص: 568 .و العقل السياسي ، ص: 317 . و التراث و الحداثة ، ص: 17 ، 332 .(18/99)
و أما المقارنة من حيث خصائص المشروعين ، فهناك خصائص تجمعهما ، و أخرى تُفرقهما ، فأما التي تجمعهما فمنها : إن كلا من أركون و الجابري ألغى الإسلام من مشروعه كحل لما يُعانيه المسلمون من تخلف في جميع المجالات من جهة ، و حرصا على استخدام الإسلام لضرب الإسلام نفسه بطريقة تناسب كلا منهما من جهة أخرى . و في مقابل ذلك فإن كلا منهما انتصر لغير الإسلام بتبني مشروع فكري مُلفق متنافر ، يتخذ من العلمانية بديلا للإسلام و مناهضا له .
و منها أيضا أن كلا من المشرعين يمثل خطرا على الإسلام ، لكن مشروع الجابري أخطر من مشروع أركون ، لأن مشروع هذا الأخير- على خطورته- فهو مكشوف في هدمه للإسلام و عداوته له ، الأمر الذي يجعل المسلمين ينفرون منه ،و لا تجد كتبه استجابة واسعة بينهم في غالب الأحيان . لكن مشروع الجابري عكس مشروع أركون ، فهو مشروع كثيرا ما يُظهر عكس ما يُبطن ، و يستخدم الإسلام لضرب الإسلام نفسه، كما فعل في مسألة البيان و البرهان ، و العقل و الأخلاق، و نظام الحكم في الإسلام ، فمشروع الجابري ينتهي إلى شل الإسلام علميا و سياسيا ،و أخلاقيا و حضاريا، ليحتويه في النهاية و يجعله مقوما تراثيا ميتا.(18/100)
و منها أيضا إن كلا من المشروعين ينظر إلى القرآن على أنه يفتقد إلى المعيار الذاتي الصحيح الذي بواسطته نُميز بين الآيات المحكمات و المتشابهات ، و بما أنه يفتقد إلى ذلك حسب زعمهما ، فإن لكل إنسان أن يفهم الإسلام على هواه و كما يُريد ،و لا يصح له أن يُنكر على من يُخالفه في فهم الإسلام ، حتة و إن انتهى به فهمه إلى هدم الإسلام ،و نقض قواعده .و هذا المبدأ الخطير يندرج ضمن مبدأ التأويل الفاسد الذي قال به الباطنية و المؤولون للصفات من المتكلمين و الفلاسفة في العصر الإسلامي في فهمهم للإسلام حسب خلفياتهم المذهبية (1) . و هو المبدأ نفسه قال به الآن أركون و الجابري ، و قد رددنا عليهما في الفصل الثاني.
و منها أيضا إن كلا من أركون و الجابري تعصب لمشروعه الفكري و بشر به من جهة ، و جعل نفسه في حرج شديد و تناقض صارخ عندما أعلن كل منهما أنه يدين بالإسلام ، و هو يعمل ضده بمشروعه الفكري من جهة أخرى ! .
و من ذلك أيضا إن كلا من المشروعين جعل الإسلام توراثا فكريا موروثا استهلكه الزمن من جهة ، و سعى إلى احتوائه و ترويضه، وتقزيمه و تشويهه من جهة أخرى. كما أن كلا منهما اتخذ العقل المسلم موضوعا له، سماه أركون : نقد العقل الإسلامي ، و سماه الجابري: نقد العقل العربي ، فالموضوع واحد وإن اختلفت زوايا النظر و مجالات الطرح و التسمية .
و أما الخصائص التي تفرق بين المشروعين و تُميز بينهما ، فإن مشروع أركون يتميز بأنه مشروع تغريبي استشرافي قلبا و قالبا، ظاهرا و باطنا ، وُضع خصيصا لهدم الإسلام . و بُني أساسا على الطعن في الإسلام و التشكيك فيه، باختلاق الأكاذيب و ترويج الشبهات حوله ، و هذه حقيقة ثابتة تشهد بها كتب أركون .
__________
(1) للتوسع في مبدأ التأويل الفاسد و خطورته ، انظر كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية و المعطلة لابن قيم الجوزية .(18/101)
و إنه مشروع أكثر طمسا للحق، و جرأة على الباطل ، يطعن في دين الإسلام صراحة ،و يمدح المستشرقين علانية ،و يُحرضهم على الإسلام و أهله ، و يحثهم على المزيد من بذل الجهود لهدم الإسلام بدعوى البحث العلمي و العقلانية و تجديد الفكر الإسلامي .
و منها أيضا إنه مشروع أمضى صاحبه عقودا من عمره لإنجازه ، و روّج له بكل ما يستطيع ، فلم يُحقق ما كان يرجوه ، و لم يجد رواجا في الغرب و لا في الشرق باعتراف أركون نفسه ، عندما قال بأن دراساته عن الإسلام ظلت مجهولة أو متجاهلة من قبل معظم الباحثين ،و أن دعوته التي أطلقها في السبعينات من اجل التجديد (( المنهجي في مجال الدراسات المطبقة على الإسلام ظل بدون صدى يُذكر حتى الآن )) (1) .
فهذا الرجل يشتكي مما حدث لإنتاجه الذي لم يجد الرواج الذي كان يأمله ، ونسي أو تناسى أن سبب عدم إقبال الغرب على إنتاجه هو أنه لم يأتيه بجديد يُذكر ، و إنما أعاد إليه بضاعته القديمة التي تطعن في الإسلام و المسلمين، التي كان أركون قد أخذها عن شيوخه المستشرقين .
و لم يُقبل الشرق المسلم على إنتاج أركون ، لأنه لم يأتيه بجديد أيضا ،و إنما قدّم له بضاعة المستشرقين المسمومة ، المعروفة بأباطيلها و مفترياتها ، قدمه إلي المسلمين بلسان تلميذ وفي للإستشراق و أهله . فماذا كان ينتظر أركون من المسلمين ؟، إن رفضهم لفكره هو الرد الصحيح شرعا و عقلا و علما ، لأن فكر أركون هو فكر استشراقي قلبا و قالبا ، أقامه صاحبه على منهج المستشرقين ردد من خلاله أوهامهم و أكاذيبهم على الإسلام و أهله .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 242 . و معارك من أجل الأنسنة ، ص: 296 .(18/102)
و أما الخصائص التي تميز بها مشروع الجابري ، فمنها إنه مشروع فكري انتصر للعلمانية و القومية على حساب الإسلام ، انتصر لهما باسم البرهان و العقلانية المزعومين ، و أخّر الإسلام و علومه بدعوى البيان . منطلقا في ذلك من خلفيات قومية علمانية واضحة ، رددها الجابري مرارا ، حتى أنه دعا إلى تحويل العقيدة إلى مجرد رأي .
و منها أيضا إنه مشروع يستبطن الطعن في الإسلام بطريقة خفية ملتوية ، كتفضيله نظام البرهان على ما سماه بنظام البيان ، الذي أدخل فيه علوم الكتاب و السنة من دون أن يستثنيها منه ، الأمر الذي يعني أن علوم الشرع غير مبرهنة ، و لا تقوم بذاتها ، و لابد لها من نظام البرهان لتقوم عليه ،و بدونه لا قيام لها . و من ذلك أيضا زعمه بأن النصوص الشرعية متعارضة في مسألتي القضاء و القدر ، و الحكمة و التعليل ، و هذا ادعاء باطل يتضمن طعنا في الدين بأن آياته متعارضة ،و لا يُقدم حلا صحيحا لمسألتين من أخطر المسائل الفلسفية و أعوصها . و تلك المزاعم سبق أن ناقشناه فيها و رددنا عليه ،و بينا وجه الحق فيها .
و منا أيضا إنه مشروع قام على تراث فكري مُلفق متنافر ، يفتقد إلى الانسجام و التناغم ،و الترابط و المتانة، جمع فيه صاحبه خليطا من الأرسطية و الحزمية ، و الرشدية و الخلدونية ، و المقاصدية الشاطبية ، و أضاف إليه جانبا من الفكر الغربي الحديث ، لإيجاد مشروع علماني قومي جذوره توراثية قومية دينية ، يتقبله العرب بلا مقاومة ،و يرون فيه امتدادا لهم من العصر الجاهلي إلى يومهم هذا . فهو لم يعد إلى الإسلام و تراثه من أجلهما ،و إنما عاد إليهما ليوُظفهما في مشروعه القومي العلماني ، يكون الإسلام فيه ترسا قديما موروثا يُؤدي دورا تاريخيا مُحدد سلفا .
خامسا : المقارنة بين المشروعين من حيث المضمون :(18/103)
تبين لي من المقارنة بين فكر الرجلين من حيث المضمون ، أن الغالب على فكر أركون الفقر المدقع في مجال الإبداع و التوليد ، مع ضعف الترابط و العمق في الطرح، و كثرة الدعاوى العريضة التي يُكثر أركون من إظهارها . و مؤلفاته تكاد تكون ذات موضوع واحد ، مع كثرة التكرار للمصطلحات الجوفاء ، و قلة الشواهد و المعطيات العلمية .
و يغلب على فكره أيضا كثرة الترديد للشكوك و الشبهات ،و المفتريات و الأوهام التي أخذها من تراث المستشرقين في غالب الأحيان. مع الضعف الشديد في النقد و التمحيص للروايات التاريخية ، و غياب النَفَس الطويل في الجدال و المناقشات.
و يُلاحظ على فكره أيضا أن الخرافة تمثل جانبا أساسيا من فكره ، فهو –أي أركون- في دراساته عن الإسلام يعتمد على الخرافة اعتمادا أساسيا ، و ذلك أنه يختلق الشبهات و الظنون ، و الأوهام ، و يبني عليها فكره ، كما فعل في موقفه من مصدرية القرآن و توثيقه و تدوينه ، و مقابل ذلك كثيرا ما يزعم أن في الإسلام عناصر أسطورية ، و ينسى أو يتناسى أن الأسطورة من صميم فكره في موقفه من الإسلام !! .
و وجدناه أيضا يختلق حكاية اللامفكر فيه ، ثم يضخمها ، حتى أصبح مسكونا بها و ملكت عليه جانبا كبيرا من تفكيره ، ظنا منه أنه اكتشف أمرا خطيرا ، سكت عنه المسلمون لإخفائه عن الباحثين عن الحقيقة . و غاب عنه أنه لا يوجد في الإسلام شيء لا مُفكر فيه ،و أن الذي سُكت عنه ليس لأنه غير صحيح، أو غير مُفكر فيه، و إنما هو سُكت عنه لأنه صحيح ،و من القطعيات القائمة على الأدلة الشرعية و العقلية و التاريخية .(18/104)
و من خرافاته المتعلقة بالإسلام أيضا ، زعمه أن الإسلام إلى اليوم لم يتعرض إلى النقد و التمحيص (1) . و زعمه هذا مُضحك ، و يشهد التاريخ و الواقع على بطلانها ، لأن أعداء الإسلام منذ أكثر من 14 قرنا و هم ينقدونه و يُمحصونه و يكيدون له، فما بلغوا مرادهم منه ، كأركون و شيوخه و أمثالهم من العلمانيين و الملاحدة . و أركون يعلم ذلك جيدا ، لكنه متحيز، ينكر الشمس في رابعة النهار ، ليبقى متمسكا بخرافته في موقفه من الإسلام .
و منها أيضا خرافته المستقبلية الغريبة ، عندما تنبأ بأن الذي حدث للنصرانية الأوروبية في صراعاتها الهائجة مع العلم ، سيحدث نفس الأمر مع الإسلام ، و ربما هو على الأبواب (2) . و هذه نبوءة أركونية تدل على أن هذا الرجل إما أنه لا يعي ما يقول ، أو أنه يتعمد إطلاق مثل هذه الخرافات . و يبدو أنه بناها على خرافة أخرى أخذها عن المستشرقين ، التي تزعم أن الإسلام نسخة مُقتبسة و مُحرفة عن الديانتين اليهودية و النصرانية، و قد سبق أن ناقشناه في ذلك و نقضنا عليه خرافته.
و بما أن الخرافة تُمثل جانبا كبيرا من فكر أركون ، وجدناه يُكثر من استخدامها باسم الأسطورة و الأسطرة و يتهم بها الإسلام و تاريخه ، و يصف-أي أركون- أوهامه بالموضوعية و العلمية ، قلبا للحقيقة ،و تدليسا على القراء . و فكر هذا حاله يستحيل عليه الصمود و التأصيل ، و يجب تغيير عنوان كتابه: الفكر الأصولي و استحالة التأصيل ، إلى : الفكر الأركوني و استحالة التأصيل، لأنه فكر يقوم على الخرافة و الظنون و الأهواء !! .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 81 .
(2) الإسلام ، أوروبا ، ص: 86 .(18/105)
و أما بالنسبة لفكر الجابري فهو أكثر قوة و ترابطا ،و عمقا و إثراء بالمقارنة إلى فكر أركون ، لكنه فهو أيضا يُعاني من التفكك و التنافر على مستوى البناء الداخلي للأفكار و المفاهيم ،و قد فصلنا بعض ذلك في مبحث نظرة الجابري إلى المدرسة المغربية و الأندلسية ،و إغفاله لمدرسة أهل الحديث. كما أن دراستنا لفكره من الناحية التاريخية و المنهجية أظهرت أن فكره يتضمن كثيرا من العيوب و النقائص ،و المغالطات ،و الأباطيل ،و قد ذكرنا نماذج كثيرة من ذلك فيما تقدم من كتابنا هذا .
و ختاما لهذا الفصل أُشير هنا إلى أنه تبين لي من دراستي لفكر أركون و الجابري أنه يُوجد بينهما نوع من التكامل و التخصص على المستوى الفكري ، و تعاون و تواصل على مستوى العلاقات الشخصية ، فبخصوص التكامل الفكري بين الرجلين ، فكل منهما ركّز في دراسته للإسلام و العقل المسلم ، على جانب مغاير للجانب الذي ركّز عليه الآخر . فأركون ركّز على الجانب النظري و العقدي، و الجابري ركّز على الجانب اللغوي و الفلسفي و القومي و التاريخي ، الأمر الذي أوجد نوعا من التكامل بين المشروعين، لكنه تكامل يقوم على هدم الإسلام و تاريخه ،و لا يقوم على بنائهما .و قد اعترف أركون بأنه توجد أعمال فكرية قليلة جدا، تصب في المجالات التي كتب هو فيها ، فذكر من بينها أعمال محمد عابد الجابري (1) .
و أما على مستوى العلاقات الشخصية بين الرجلين ، فهي علاقات قوية حميمية ، وصفها الجابري بأنها علاقات صداقة، و زمالة ، و أخوة (2) . و لعلل هذه العلاقات القوية هي السبب في سكوت كل منهما على أخطاء الآخر ، فلم أعثر على أي انتقاد وجهه أحدهما إلى الآخر ، في أبحاثهما –التي أطلعت عليها- ، رغم أنها كثيرا ما تعرضت إلى مواضع متشابهة تتضمن إشكالات ، كالتي تتعلق بتاريخ القرآن ،و السنة النبوية، و نشأة الفقه الإسلامي .
......................................................................................
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 97 ، 185 .
(2) التراث و الحداثة ، ص: 32 .(18/106)
الخاتمة
توصلنا من خلال بحثنا هذا إلى نتائج كثيرة جدا ، هي مبثوثة في فصول ثانياه ، تتعلق بالأخطاء التاريخية و المنهجية في مؤلفات الباحثيّن محمد أركون و محمد عابد الجابري، منها : إن كلا منهما كانت له أخطاء منهجية كثيرة ، تتعلق بالكتابة العلمية و النقد التاريخي، ذكرناه مفصلة في الفصل الأول ، تبيّن منها أنهما أخلا كثيرا بقواعد الكتابة العلمية ،و أهملا النقد التاريخي الشامل،و إن مارسه الجابري في بعض المواضع بطريقة ناقصة.
و منها أنهما وقعا في أخطاء منهجية كثيرة تتعلق بالفهم و التعامل مع القرآن و الشريعة ،و الفلسفة و علم الكلام ، ذكرناها بالتفصيل في الفصل الثاني و ناقشناهما فيها ، و نقضناها عليهما ، كزعمهما بأنه لا يُوجد معيار واحد ثابت صحيح لفهم الإسلام على حقيقته ، و إنما هو مفتوح يستجيب لكل التأويلات و الفُهوم على اختلافاتها و تناقضاتها.
و تبين أيضا أن كلا منهما كان منطلقا –في أبحاثه- من خلفية مذهبية متعصبة ، فأركون كان مدفوعا بعلمانية متغرّبة حاقدة ، و الجابري كان مدفوعا بعلمانية قومية مُتفلسفة ، قصد الوصول إلى أهداف مُسطرة سلفا ، باستخدام مختلف الوسائل المتاحة لديهما ، على حساب الإسلام و تاريخه : عقيدة و شريعة ، أخلاقا و سياسة.
و منها أيضا أن مشروع كل منهما كان موجها أساسا ضد الإسلام ، فأركون لم يكن يُخفي ذلك عن القراء ، فقد كان يطعن في الإسلام و يُشكك فيه علانية . لكن الجابري كان مشروعه أخطر من الأول ، لأنه استخدم طرقا ملتوية لضرب الإسلام ، فشلّه علميا و سياسيا و أخلاقيا ، لتحويله إلى موروث ميت يُؤدي دورا تاريخيا حُدد له سلفا .(18/107)
كما تنبين أن كلا منهما وقع في أخطاء تاريخية كثيرة جدا و خطيرة أيضا ، كالتي تتعلق بتاريخ القرآن و السنة ،و السيرة و الفقه، و الصحابة و الفتنة الكبرى ، كانت أخطرها مزاعم أركون المتعلقة بتاريخ القرآن الكريم، و روايات الجابري المتعلقة بالصحابة و الفتنة الكبرى .
و الله ولي التوفيق ، و الحمد لله أولا و أخيرا ،و صلى الله على محمد و آله و صحبه أجمعين .
د/ خالد كبير علال - الجزائر-1427ه/2006م –
................................................................
أهم المصادر و المراجع
أهم المصادر و المراجع :
أولا : المصادر :
ابن الجوزي: المنتظم: ط 1، دار صادر ، بيروت ، 1358ه
ابن الجوزي: مناقب الإمام أحمد ، ط3 ، دار الأفاق الجديدية ، بيروت ، 1982
ابن الجوزي : الضعفاء و المتروكين ، حققه عبد الله القاضي ، ط1 بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1406 .
ابن الجوزي : الموضوعات في الأحديث المرفوعات ، ط1 ، المدينة المنورة ، المكتبة السلفية ، 1966
ابن حبان : صحيح ابن حبان ، حققه شعيب الأرناؤوط ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1993
ابن حبان : الثقات ، حققه السيد شرف الدين احمد ، ط1 بيروت ، دار الفكر ، 1975 .
ابن تيمية : منهاج السنة النبوية ، ط1 ، حققه محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة القاهرة ، 1401 .
ابن تيمية : بغية المرتاد في الرد على الفلاسفة و القرامطة ، ط 1 ، مكتبة العلوم و الحكم ، د م ن ، 1408 .
ابن تيمية : درء تعارض العقل و النقل، حققه رشاد سالم ، دار الكنوز ، الرياض ، 1391 .
ابن تيمية : الرد على المنطقيين ، دار المعرفة ، بيروت ، ص: 196 .
ابن تيمية: مجموع الفتاوى ، جمع ابن قاسم ، الرياض ، مكتبة المعارف، دت .
ابن كثير : البداية و النهاية ، منشورات دار المعارف، بيروت ، 1985 .
ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ، ط1 ، دار السلام ، الرياض ، 1414 .
ابن النديم : الفهرست ، دار المعرفة ، بيروت ، 1978 .(18/108)
ابن العماد الحنبلي : شذرات الذهب، ط1، حققه عبد القادر الأرناؤوط ،مكتبة ابن كثير ، دمشق .
ابن قتيبة- الكتاب غير ثابت إليه- : الإمامة و السياسة ، طبعة الجزائر ، موفم للنشر ،1989 .
ابن العربي أبو بكر: العواصم من القواصم ، حققه محب الدين الخطيب ، هامش ص : 209 .
ابن قيم الجوزية : المنار المنيف ، حققه عبد الرحمن المعلمي، دار العاصمة ، الرياض، 1998 .
ابن قيم الجوزية : بدائع الفوائد ، ط1 ، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة ، 1996 .
ابن قيم الجوزية : زاد المعاد في هدى خير العباد ، ط 14، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1986 .
ابن قيم الجوزية : مدارج السالكين ، ط2 ، دار الكتاب العربي ، بيروت1973 .
و ابن قيم الجوزية : طريق الهجرتين و باب السعادتين ، ط2 ، دار ابن القيم ، الدمام ، 1994 .
ابن قيم الجوزية : مفتاح دار السعادة ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، د ت
ابن قيم الجوزية : شفاء العليل ، دار الفكر ، بيروت ، 1978 .
ابن قدامة المقدسي :روضة الناظر ، ط2 ، جامعة الإمام محمد بن سعود ، الرياض ، 1399 .
ابن الصلاح : مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ، ط1 ، دار الفارابي، د م ن ، 1984 .
ابن قتيبة : تأويل مختلف الحديث ، دار الجيل ، بيروت ، 1972 .
ابن خلدون :مقدمة ابن خلدون ، ط 1، دار الكتب العلمية ، 1993
ابن خلكان : وفيات الأعيان ، حققه إحسان عباس ، دار صادر ، بيروت ،دت
ابن أبي داود : المصاحف ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1995 .
ابن رشد الحفيد : بداية المجتهد و نهاية المقتصد،دار الفكر ، بيروت ، دت .
ابن حزم :المحلى ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، د ت
ابن حزم .الإحكام في أصول الأحكام ، ط1 ، دار الحديث ، القاهرة ، 1404 .
ابن حزم : التقريب لحد المنطق ، حققه إحسان عباس، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، ص: 163 .
ابن سعد : الطبقات الكبرى ، دار صادر ، بيروت .
ابن مجاهد : السبعة في القراءات ، ط2 ، دار المعارف ، القاهرة ، 1400(18/109)
ابن النديم: الفهرست ، دار المعرفة ، بيروت ، 1978 .
ابن حجر: طبقات المدلسين ، ط1 ، مكتبة المنار ، عمان .
ابن حجر : الإصابة في معرفة الصحابة ، ط1 ، دار الجيل ، بيروت ، 1412 .
ابن حجر : تهذيب التهذيب ، ط1، دار الفكر ، بيروت ، 1984 .
ابن حجر : فتح الباري ، دار المعرفة ، بيروت ، 1379 .
ابن حجر: تقريب التهذيب ، حققه محمد عوامة ، ط1 ، سوريا دار الرشيد ، 1986 .
ابن أبي يعلى أبو الحسين: طبقات الحنابلة ، حققه محمد حامد الفقي ، مطبعة السنة المحمدية ، القاهرة ، 1962 .
ابن الأهدل : كشف الغطاء عن حقائق التوحيد ، حققه أحمد بكير ، الاتحاد العام التونسي للشغل ، تونس ، د ت .
ابن تيمية : الرسالة التدمرية ، دار الشهاب ، الجزائر ، د ت .
ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، حققه نزار رضا ، دار مكتبة الحياة ،بيروت ، د ت .
ابن حزم : الفصل في الملل و الأهواء و النحل ،مكتبة الخانجي، القاهرة .
ابن فرحون : الديباج المذهب ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، د ت .
ابن الصلاح : مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ، دار الهدى ، د ت ، الجزائر .
ابن جماعة : المنهل الروي ، ط2، دار الفكر ، دمشق ، 1406 .
أحمد بن حنبل : المسند ، مؤسسة قرطبة ، القاهرة ، د ت .
احمد بن حنبل : فضائل الصحابة ، حققه محمد عباس ، ط1 ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1983 .
الألباني ناصر الدين : سلسلة الأحاديث الضعيفة ، مكتبة المعارف ، الرياض، د ت .
الألباني : نصب المجانيق ، ط3 ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1996 .
الألباني : السلسلة الصحيحة ، مكتبة المعارف، الرياض، دت
الألباني : الجامع الصغير و زياداته ، المكتب الإسلامي ، دت .
الباقلاني : تمهيد الأوائل و تلخيص الدلائل ، ط1 ، مؤسسة الكتب الثقافية ، بيروت .
البخاري : الصحيح ،ط3، حققه ديب البغا، دار ابن كثير ، بيروت، 1987.
البخاري : خلق أفعال العباد ، دار الشهاب ، الجزائر ، دت .(18/110)
البيهقي :السنن الكبرى ، مكتبة دار الباز ، مكة المكرمة ، 1994
البيهقي : الاعتقاد ، ط1 ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، 1401 .
البيهقي : شعب الإيمان ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1410 .
الترمذي : السنن ، حققه أحمد شاكر و آخرون ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، دت .
لحاكم النيسابوري : المستدرك على الصحيحين ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
الحارث المحاسبي: مائية العقل ، ط2 ، دار الكندي ، بيروت ، ص: 205 .
الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية، المكتبة العلمية ، المدينة المنورة ، د ت .
الخلال : السنة ، ط2، دار الراية ، الرياض ، 1415 .
الدارمي : الرد على الجهمية ط2، دار ابن الأثير الكويت ، 1995 .
الذهبي : تذكرة الحفاظ ، حققه حمدي السلفي ، ط1 الرياض ، دار الصميعي ، 1415 .
الذهبي : ميزان الاعتدال ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1995 .
الذهبي : تذكرة الحفاظ ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، د ت .
الذهبي : أحاديث مختارة من موضوعات ابن الجوزي و الجوزقاني، المدينة المنوّرة ، مكتبة الدار 1404 .
الذهبي : سيّر أعلام النبلاء ، ط3 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1985
الرازي فخر الدين :المحصول في علم الأصول ، ط1 ، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض ، 1400 .
الزيلعي عبد الله : نصب الراية ، حققه يوسف البنوري، مصر ، دار الحديث ، 1357ه .
السخاوي : الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ، حقه فرانز روزنتال ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، د ت .
السجزي أبو نصر: رسالة أبي نصر السجزي إلى أهل زبيد ، حققه محمد كريم عبد الله ، ط1 ، دار الراية ، السعودية ، 1404 .
السبكي علي بن عبد الكافي: الإبهاج ،ط 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1404
الشاطبي : الموافقات ، حققه عبد الله دراز ، دار المعرفة ، بيروت .
الشوكاني: إرشاد الفحول ، ط 1 ، دار الفكر ، بيروت ، 1992 .(18/111)
الشوكاني : البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن، السابع ، دار المعرفة ، بيروت .
الضياء المقدسي : الأحاديث المختارة ، حققه عبد الملك بن دهيش ، ط1 مكة ، مكتبة النهضة الحديثة 1410 .
الطبري: تاريخ الطبري ، ط 1، المكتبة العلمية ، بيروت 1407 .
الطبري : التبصير في الدين ، ط1، دار العاصمة الرياض ، 1996 .
الطبراني :المعجم الكبير ، ط2، مكتبة العلوم و الحكم ، الموصل .
علاء الدين الكاساني: بدائع الصنائع ، ط2 ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1982 .
عبد الله بن أحمد بن حنبل : السنة، ط2، دار الكتب العلمية بيروت
عبد الرحمن بن محمد الرازي: علل الحديث ، حققه محب الدين الخطيب ، دار المعرفة ، بيروت ، 1405 .
عبد الرزاق : مصنف عبد الرزاق ، حققه حبيب الأعظمي، ط2 بيروت ، المكتب الإسلامي، 1403 .
عبد الجليل العلائي : جامع التحصيل ، ط 2 ، عالم الكتب ، بيروت ، 1986 .
العجلي احمد بن عبد الله : معرفة الثقات ، حققه عبد العليم البستوي ، ط1 المدينة المنورة ، مكتبة الدار ، 1985.
عمر بن شبة : أخبار المدينة ، دار الكتب العلمية بيروت، 1996 .
الغزالي أبو حامد : المستصفى ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1414 .
القرطبي : تفسير القرطبي ، ط 2 ، دار الشعب ، القاهرة ، 1372 .
مسلم بن الحجاج : التمييز ، حققه مصطفى الأعظمي، السعودية ، مكتبة الكوثر ، 1411
مسلم : الصحيح ، حققه فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت ، دت .
المنذري : الترغيب و الترهيب ،ط1، دار الكتب العلمية، بيروت1417 .
محمد الزنجاني: تخريج الفروع على الأصول، ط2 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1398 .
المزي أبو الحجاج: تهذيب الكمال ، ط1 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1980 .
النووي : شرح النووي على صحيح مسلم ، ط2، دار إحياء التراث العربي، 1392 .
النسائي : سنن النسائي الكبرى ، ط2، مكتبة المطبوعات الإسلامي، حلب ، 1986(18/112)
الكليني محمد بن يعقوب: الكافي ،ط3 ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، 1328ه .
الهيثمي علي أبو بكر: مجمع الزوائد و منبع الفوائد ، دار الفكر بيروت ، 1418 .
ولي الله الدهلوي :الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ، ط 3 ، دار النفائس ، بيروت ، 1983
اللالكائي هبة الله : اعتقاد أهل السنة، دار طيبة ، الرياض، 1402 .
ثانيا: المراجع :
إحسان إلهي ظهير : الشيعة و السنة ، ط1 ، دار الصحوة ، القاهرة ، 1986 .
إحسان إلهي ظهير :الشيعة و التشيع فرقا و تاريخا ، ط 4 ، ترجمان السنة ، باكستان ، 1405ه .
إبراهيم حركات : المجتمع و السياسة في عصر الراشدين ، الدار الأهلية ، بيروت، 1985 .
أبو الحسن الندوي : صورتان متضادتان ، ط1 ، القاهرة ، دار الصحوة ، 1985 .
أبو زهرة محمد : محاضرات في النصرانية، ط 3، دار الكتاب العربي، مصر ، 1961 .
بوكاي موريس: الكتب المقدسة في ضوء العلوم الحديثة ، ط4 ، دار المعارف، بيروت .
الجصاص : أحكام القرآن ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 1405 .
خالد كبير علال : الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث ، ط1 ، دار الإمام مالك ، الجزائر ، 2005
خالد كبير علال : مدرسة الكذابين ، في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه ، دار البلاغ ، الجزائر ، 2003 .
خالد كبير علال : : أخطاء ابن خلدون في كتابه المقدمة ، دار الإمام مالك ، البليدة ، الجزائر ، 2005 .
خالد كبير علال : الثورة على سيدنا عثمان بن عفان ، دار البلاغ، الجزائر ، 2003 .
جورج طرابيشي : وحدة العقل العربي الإسلامي ، ط2 ، دار الساقي ، بيروت ، 2002 .
دافيد برجماني: الكون ، ترجمة نزيه الحكيم ، سلسلة لا يف ، دار الترجمة بيروت ،دت .
السيد سابق : فقه السنة ، دار الجيل ، بيروت ، 1995 .
سامي النشار : مناهج البحث عند مفكري الإسلام ،دار النهضة العربية ، بيروت، 1984 .
شلبي رؤوف : أضواء على المسيحية ، المكتبة العصرية ، بيروت ، 1975 .(18/113)
الصالح صبحي: مباحث في علوم القرآن ، ط 25 ، دار العلم للملايين ، بيروت ، 2002 .
صديق حسن خان : أبجد العلوم ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1978 .
صديق حسن خان القنوجي : قطف الثمر ، ط 2، دار الإمام مالك ، 1414 .
طويلة عبد الوهاب : الكتب المقدسة ، ط2 ، دار السلام القاهرة 2001 .
عبد الحميد عرفان: المستشرقون و العرفان، ط2 ، المكتب الإسلامي، بيروت ، 1983 .
عبد العزيز سالم: تاريخ المغرب في العصر الإسلامي ،مؤسسة شباب الجامعة ، مصر ، د ت .
عبد العظيم الزرقاني : مناهل العرفان ، ط1، دار الفكر ، بيروت ، 1996
عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، دار الشروق ، القاهرة ، 1980 .
عبد العليم عبد الرحمن خضر : الظواهر الجغرافية بين العلم و القرآن ، ط1 ، الدار السعودية ، الرياض 1984
عجاج الخطيب : السنة قبل التدوين ، ط 1 ، مكتبة وهبة ، مصر ، 1963 .
عمر فاروخ : التبشير و الاستعمار في البلاد العربية ، المكتبة العصرية ، بيروت ، 1986 .
عمر سيليمان الأشقر : تاريخ الفقه الإسلامي، قصر الكتاب ، الجزائر ، 1990 .
عمر سليمان الأشقر : تاريخ الفقه الإسلامي ، قصر الكتاب ، البليدة الجزائر ، د ت .
عمر سليمان الأشقر : خصائص الشريعة الإسلامية ، قصر الكتاب ، البليدة ، الجزائر ، د ت .
عمر سليمان الأشقر : المدخل إلى دراسة المدارس و المذاهب الفقهية ، ط2 ، دار النفائس ، الأردن ، 1998 .
لطفي عبد الوهاب يحيى : العرب في العصور القديمة ، دار النهضة العربية ، بيروت .
ماهر عبد القادر : المنطق و مناهج البحث ، دار النهضة العربية ، بيروت ، 1985
محمد الزفزاف : التعريف بالقرآن و الحديث ، ط4 ، مكتبة الفلاح ، الكويت ، 1984 .
محمد أركون : الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ترجمة هاشم صالح ، ط 2 ، مركز الإتحاد القومي ، و المركز الثقافي العربي ، بيروت ، الدار البيضاء ، 1996 .(18/114)
محمد أركون :تاريخية فكر العربي الإسلامي- هو نفسه : نقد العقل الإسلامي- ، ترجمة صالح هاشم ، ط 3 ، مركز الإتحاد القومي ، و المركز الثقافي العربي ، بيروت ، الدار البيضاء ،1998
محمد أركون :القرآن : من التفسير الموروث ، إلى تحليل الخطاب الديني ، ط 1 ، ترجمة هاشم صالح ، دار الطليعة بيروت ، 2001 .
محمد أركون :الإسلام ، أروبا ، الغرب ، ترجمة هاشم صالح ، ط 2 ، دار الساقي ، بيروت 2001
محمد أركون :الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل ، ترجمة هاشم صالح ، ط 2 ، دار الساقي بيروت ، 2002 .
محمد أركون :معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية ، ترجمة هاشم صالح ، ط1 ، دار الساقي بيروت ، 2001 .
محمد عابد الجابري :تكوين العقل العربي ، ط8 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، د ت .
محمد عابد الجابري: بنية العقل العربي ، ط 7 ، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ، 2004 .
محمد عابد الجابري : العقل السياسي العربي ، ط6 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، 2003 .
محمد عابد الجابري : العقل الأخلاقي العربي ، ط2 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، 2001 .
محمد عابد الجابري : التراث و الحداثة - دراسات و مناقشات - ط2 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1999
محمد حسني الزين : منطق ابن تيمية ، ط1، المكتب الإسلامي، ، بيروت ، 1979 .
محمد رمضان البوطي: فقه السيرة ، دار الفكر ، الجزائر ، 1991 .
محمد طقوش : التاريخ الإسلامي الوجيز ، ط1 ، دار النفائس ، بيروت ، 2002 .
محمد أمحزون : تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة ، ط 3 ، دار طيبة ، الرياض، 1420
محمود الطحان : أصول التخريج و دراسة الأسانيد ، ط 3، مكتبة المعارف ، الرياض، 1996 .
محمود يعقوبي : ابن تيمية و المنطق الأرسطي ، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر ، د ت .
محمود الطحان : تيسير مصطلح الحديث، مكتبة رحاب ، الجزائر ، د ت .(18/115)
محمود الفضيلات : القضاء في صدر الإسلام ، دار الشهاب ، الجزائر ، د ت .
مشهور آل سليمان : كتب حذر منها العلماء ، دار الصميعي ، الرياض، 1415 .
...................................................................................................
فهرس المحتويات
المقدمة :
الفصل الأول
الأخطاء المنهجية في الكتابة العلمية و النقد التاريخي
- في مؤلفات أركون و الجابري -
أولا : أخطاء في منهجية الكتابة العلمية .
ثانيا : أخطاء في منهج النقد التاريخي .
الفصل الثاني
الأخطاء المنهجية المتعلقة بالقرآن و الشريعة و علم الكلام و الفلسفة-
- في مؤلفات أركون و الجابري-
أولا : الأخطاء المتعلقة بالنظر إلى القرآن و فهمه و التعامل معه
ثانيا : الأخطاء المتعلقة بالشريعة و الفقه
ثالثا : الأخطاء المتعلقة بأصول الدين
رابعا :الأخطاء المتعلقة بالفلسفة
خامسا : أخطاء الجابري في نظرته إلى المدرسة المغربية الأندلسية و أهل الحديث
الفصل الثالث
الأخطاء التاريخية المتعلقة بالقرآن و الشريعة و علوم أخرى
أولا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالقرآن الكريم .
ثانيا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالشريعة و السنة و السيرة .
ثالثا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بنشأة الثقافة و العلوم و تطورها .
الفصل الرابع
الأخطاء التاريخية المتعلقة بالصحابة و الفتنة الكبرى و الطوائف الإسلامية
أولا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالصحابة قبل الفتنة
ثانيا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالفتنة الكبرى
ثالثا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالطوائف الإسلامية
رابعا : أخطاء تاريخية متعلقة بقضايا متفرقة
الفصل الخامس
مقارنة بين فكر محمد أركون و محمد عابد الجابري
أولا : المقارنة من حيث الالتزام بالمنهجية العلمية
ثانيا : المقارنة من حيث التأثر بالمستشرقين
ثالثا : المقارنة من حيث الموقف من الإسلام: مصدرا و اعتقادا و مكانة(18/116)
رابعا: المقارنة من جهة الأهداف و الخصائص المتعلقة بفكر الرجلين
خامسا : المقارنة بين المشروعين من حيث المضمون
الخاتمة :
أهم المصادر و المراجع :
فهرس المحتوايات :
مصنفات للمؤلف :
1-صفحات من تاريخ أهل السنة و الجماعة ببغداد .
2-الداروينية في ميزان الإسلام و العلم .
3- قضية التحكيم في موقعة صفين - دراسة وفق منهج علم الجرح و التعديل -
4- الثورة على سيدنا عثمان بن عفان - دراسة وفق منهج علم الجرح و التعديل-
5-مدرسة الكذابين في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه .
6 - الصحابة المعتزلون للفتنة الكبرى - دراسة وفق منهج أهل الجرح و التعديل -
7- الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث -خلال القرنين:5-6 الهجريين-
8-أخطاء المؤرخ ابن خلدون في كتابه المقدمة
.(18/117)
ايضاح الإشكال .. في مقال : أحمد بن باز
سليمان بن صالح الخراشي
لقد اطلعت كغيري على المقال الذي كتبه الأخ أحمد بن باز - وفقه الله للخير - وتأملته ؛ فوجدت أنه - هداه الله - قد خلط بين عدة قضايا لعلها أشكلت عليه ، فكان الواجب أن لا يبادر بالكتابة في هذا الموضوع الذي لازال مشوشًا في ذهنه ؛ كما هو متضح من مقاله . وقد أحببت توضيح ما رأيته مشكلا على الأخ أحمد من خلال نقاط متسلسلة ونقولات علمية بعد نقل كلامه .
1 - يقول الأخ أحمد : (إن مظاهر الغلو والتطرف العملية والسلوكية هي في الحقيقة نتاج طبيعي للتطرف في الفكر والتصور العقلي ومن أخطر صور التطرف الفكري (التعميم) و(الاجمال) في اطلاق الالفاظ والمصطلحات، لا سيما حال اصدار الاحكام ومن ذلك لفظ (الكافر)، حيث اصبح يطلق على كل شخص لا يدين بدين الاسلام وهذا اصطلاح خاطئ ونصوص الكتاب والسنة شواهد بذلك ) !!! ولم يذكر شيئا من هذه النصوص التي تمنع هذا الإطلاق !!
2 - ثم يقول : (ان غير المسلم قد لا يكون بالضرورة كافرا فقد يكون ممن يتعبد الله باليهودية او النصرانية ولم يسمع بالاسلام أو سمع به سماعا مشوها ـ وهو الغالب ـ او سماعا لا تقوم به الحجة كما قال سبحانه وتعالى: «ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون» (آل عمران 113) وقوله سبحانه وتعالى: «وان من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما انزل اليكم وما انزل اليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب» (آل عمران 199). أو قد لا يكون يهوديا ولا نصرانيا ولم يسمع بالاسلام او سمع به ايضا سماعا مشوها او سماعا لا تقوم به الحجة، وهو كثير جدا فيحكم عليه بأنه من أهل الفترة ومعلوم حكمهم) .(19/1)
3 - ثم يقول : ( وقد كان لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد جاور اليهود واخدمهم فاستعملهم على خيبر وعاد مرضاهم وأكل طعامهم وباعهم واشترى منهم ومات ودرعه مرهونة عندهم، وأوصى بأهل الكتاب خيرا، بل أمر بصلة المشركين ممن لم يعاد المسلمين، فكيف بغيرهم، كما في حديث المرأة التي سألته فقالت: «ان امي قدمت عليَّ وهي مشركة أفأصلها؟»، فقال صلى الله عليه وسلم «صليها». وقبل ذلك كله فقد قال سبحانه وتعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم» (سورة الممتحنة 8)، وهل بعد البر والاقساط شيء من الاحسان؟!، بل وأباح سبحانه وتعالى الزواج من أهل الكتاب مع ما يحصل في الزواج من الرحمة والألفة والمحبة المذكورة في قوله سبحانه وتعالى: «ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة» (سورة الروم21)، كل هذا ليؤكد بقوة ان كون الانسان غير مسلم لا يعني بالضرورة كونه كافرا، ويؤكد كذلك على ان كون الانسان ايضا غير مسلم لا يعني بالضرورة استحقاقه للعداوة والبغضاء، واستحلال الدم والمال حتى ولو لم يكن معاهدا ولا ذميا وان هناك فرقا كبيرا بين من يعادي المسلمين ويحاربهم وبين من لا يعاديهم ولا يحاربهم وهو الغالب على أهل الأرض ) انتهى كلام أحمد بن باز
ايضاح الإشكال :
1- الحمد لله أن أحمد بن باز يرى كفر اليهود والنصارى ، ولم ينسق وراء الفكرة الكفرية القائلة بعدم تكفيرهم ؛ كما ينادي به بعض العصريين . وقولهم مناقض للإسلام كما بين ذلك أهل العلم في غير موضع ، وأنصح بالرجوع إلى رسالة ( الإبطال ) للشيخ بكر أبوزيد - حفظه الله - أو كتاب ( الإعلام بكفر من ابتغى غير الإسلام ) للشيخ ابن جبرين - حفظه الله - .(19/2)
2- لكن الأخ أحمد يرى أنه لا يجوز لنا أن نطلق وصف ( الكافر ) على غير المسلم ؛ لأنه قد يكون ممن لم تبلغه الدعوة أو ....... الخ كلامه ! ولكنه لم يبين لنا : ماذا نطلق عليهم ؟!
وقوله هذا مصادم لنصوص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين القاضي بأن كل من لم يدن بدين الإسلام فإنه ( كافر ) سواء بلغته الدعوة أو لم تبلغه ، وسواء كان صغيرًا أو كبيرًا ، فإنه يعامل معاملة ( الكفار ) في الدنيا ؛ بجميع ما يتعلق بهم من أحكام .
3- ولكن يبقى : هل هذا ( الكافر ) المعين ممن سيعذبهم الله عز وجل ؟ يقال في هذا : من بلغته الدعوة عذب ، ومن لم تبلغه فإنه يعامل ( في الآخرة ) معاملة أهل الفترة ؛ والراجح فيهم أن الله يختبرهم يوم القيامة ، كما دل على ذلك الحديث .
وقد وضح ابن القيم - رحمه الله - هذه المسألة خير توضيح في كتابة ( طريق الهجرتين ، ص 679 - 681 ) ؛ حيث قال : (( الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه. هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر: فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم. وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة ، وهو مبني على أربعة أصول:(19/3)
أحدها : أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وقال تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وقال تعالى: (كلما أُلقي فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء) وقال تعالى: (فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير) وقال تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يتلون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا، وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) وهذا كثير من القرآن، يخبر أنه إنما يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه، وقال تعالى: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) والظالم من عرف ما جاء به الرسول أو تمكن من معرفته بوجه وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول وعجز عن ذلك فكيف يقال إنه ظالم؟.
(الأصل الثاني) أن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها. الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد. وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.
(الأصل الثالث) أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان وفي بقعة وناحية دون أخرى كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له. فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً ولا يتمكن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما.
((19/4)
الأصل الرابع) أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل بها، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة) .
وقال سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - : ( وقد أجمع العلماء على أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الثقلين ، وأن من لم يؤمن به ويتبع ما جاء به فهو من أهل النار ومن الكفار سواء كان يهوديا أو نصرانيا أو هندوكيا أو بوذيا أو شيوعيا أو غير ذلك .
فالواجب على جميع الثقلين من الجن والإنس أن يؤمنوا بالله ورسوله ، وأن يعبدوا الله وحده دون ما سواه ، وأن يتبعوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم حتى الموت . وبذلك تحصل لهم السعادة والنجاة والفوز في الدنيا والآخرة كما تقدم ذلك في الآيات السابقة والحديث الشريف .
وكما قال الله عز وجل : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ وقال سبحانه : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ وقال عز وجل في سورة النور : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } والآيات في هذا المعنى كثيرة .(19/5)
وجميع الديانات المخالفة للإسلام فيها من الشرك والكفر بالله ما يخالف دين الإسلام الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب وبعث به محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأفضلهم . . وفيها عدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وعدم اتباعه ، وذلك كاف في كفرهم واستحقاقهم غضب الله وعقابه وحرمانهم من دخول الجنة واستحقاقهم لدخول النار إلا من لم تبلغه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم . فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى . والصحيح : أنه يمتحن يوم القيامة فإن أجاب لما طلب منه دخل الجنة وإن عصا دخل النار ، وقد بسط العلامة ابن القيم - رحمه الله - هذه المسألة وأدلتها في آخر كتابه : ( طريق الهجرتين ) تحت عنوان : طبقات المكلفين . فمن أراده فليراجعه ليستفيد منه الفائدة الكبيرة. ) . ( مجموع فتاوى ابن باز 7 / 28 - 29 ) .(19/6)
4- أنه لا يشترط في بلوغ الحجة أن يفهمها الإنسان فهما جليا كما يفهمها من هداه الله ؛ يقول الشيخ سليمان بن سحمان - رحمه الله - : ( كل من بلغه القرآن فليس بمعذور ؛ فإن الأصول الكبار التي هي أصل دين الإسلام قد بينها الله في كتابه ووضحها ، وأقام بها حجته على عباده ، وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهمًٍا جليًا كما يفهمها من هداه الله ووفقه وانقاد لأمره ؛ فإن الكفار قد قامت عليهم حجة الله مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوا كلامه ، فقال ( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) ، وقال ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ) وقال تعالى ( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) وقال ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) والآيات في هذا المعنى كثيرة . يخبر تعالى أنهم لم يفهموا القرآن ولم يفقهوه ، والله عاقبهم بالأكنة على قلوبهم ، والوقر في آذانهم ، وأنه ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم ، فلم يعذرهم الله مع هذا كله ، بل حكم بكفرهم ، فهذا يبين لك أن بلوغ الحجة نوع وفهمها نوع آخر ) . ( إجماع أهل السنة النبوية .. ، ص 112 - 113 ) .
قلت : ويندر الآن بين الكفار من لم يسمع بالإسلام أو القرآن ، ولهذا قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - : ( إن هؤلاء اليهود والنصارى كفار ؛ لأن الحجة قد قامت عليهم ، وبلغتهم الرسالة ، ولكنهم كفروا عنادا ) . ( الصحوة الإسلامية - ضوابط وتوجيهات ، ص 199 ) .(19/7)
5- أن الأخ أحمد - هداه الله - بعد أن قرر بأن غير المسلم لا يوصف بأنه ( كافر ) ! ادعى بأنه مادام الأمر كذلك فإن لنا أن نواده ولا نبغضه أو نعاديه !!! وقد سبق أن غير المسلم يوصف ( بالكفر ) ويلحقه ما يلحق الكفار من أحكام الدنيا ؛ وعلى رأسها تكفيره وبغضه وعدم مودته أو موالاته ؛ وأنه لا تناقض بين هذا وبين البر والإحسان إليه ؛ كما يعرف هذا صغار الطلبة ! ولعل الأخ أحمد قد تأثر في هذه القضية بدعاة العصرنة وتمييع أحكام الإسلام أو تلبيسها على الناس ؛ لعل الكافر يرضى عنهم أو لعلهم يظهروا بمظهر التنور والتقدم ولو على حساب دينهم !! - نسأل الله العافية - ؛ فقد ردد مثل هذه المقولة كثير منهم وعلى رأسهم الغزالي والقرضاوي والغنوشي وأضرابهم . وليت هؤلاء جميعا تدبروا قوله تعالى ( هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ) ! فأنتم تنازلتم لهم عن كثير من أحكام دينكم ولكنهم لا زالوا يبغضونكم ويقاتلونكم ويحتلون دياركم .. ! فتأمل هذا الذل وهذه المهانة .
يقول الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - مؤكدا على التفريق بين حرمة مودة الكفار وجواز الإحسان مع غير المحاربين منهم : (ومما يوضح هذا أن الله سبحانه نهى عن موادة الآباء والأبناء إن استحبوا الكفر على الإيمان ؛ حيث يقول جل شأنه : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم ....) الآية ، مع أنه أوصى بالإحسان إلى الوالدين الكافرين بقوله : ( وصاحبهما في الدنيا معروفًا ) فدل على أن الإحسان لا يستلزم المودة في القلب ) . ( الإعلام بنقد كتاب الحلال والحرام ، ص 15 ) .(19/8)
ويقول- حفظه الله - في رده على الغنامي أحد المروجين لمذهب العصرنة الخاسر : (وكون الغنامي يستثقل كراهية المسلم لكثير من الأمم الكفرية على وجه الأرض فالله سبحانه نهانا عن اتباع الكثرة إذا كانت على غير هدى.؛ قال تعالى (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) وليس معنى كراهيتهم أننا لا نتعامل معهم في تبادل المصالح المباحة ونعقد الصلح والمهادنة معهم إذا اقتضى الأمر ذلك كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما كراهيتهم تعني البراءة من دينهم وأن لا نتنازل عن شيء من ديننا لأجلهم.
وقول الغنامي إن هناك فرقاً بين النص المنزل والتفسير الذي هو من اجتهاد الفقهاء - يقصد أن القول بالولاء والبراء من تفسير الفقهاء وليس فيه نص ونقول له هذا من المكابرة الواضحة فهناك نصوص كثيرة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية توجب الولاء والبراء. وليس تفسيراً اجتهاديا للفقهاء. منها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) ثم استدل الغنامي استدلالاً خاطئاً بقول الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) الآية، على جواز موالاة الكفار ولو أنه أكمل الآية لعرف المراد منها إلا إن كان يريد أن لا يعرف أو يريد أن يغالط لأن الله قال (أن تبروهم وتقسطوا إليهم) والبر يكون بالإحسان إليهم نظير صنيعهم مع المسلمين بالإهداء إليهم وإعطائهم شيئاً من المال مكافأة لهم وليس ذلك من باب الولاء لهم والمحبة بل هو تعامل دنيوي كغيره من التعاملات المباحة معهم.
فالله لم يقل: أن تولوهم أو تحبوهم، بل قال: (أن تبروهم) والبر يكون بالعطاء والمنفعة فقط لا بالمحبة لهم ولدينهم .(19/9)
ثم ختم الغنامي استدلالاته العجيبة بأن تزوج المسلم من الكتابية تدل إباحته للمسلم على جواز موالاة الكفار لما يكون بين الزوجين من المودة. ونقول له هذه مودة زوجية طبيعية وليست مودة دينية فزوج الكتابية المسلم لا يحب دينها لأن ذلك لا يجوز له وإنما يحبها محبة طبيعية فقط) ( جريدة الوطن ، 16 / 11 / 1424 ) .
ختامًا : أسأل الله أن يوفق الأخ أحمد بن باز ، وأن يجعله كسلفه ناشرا وناصرا لدينه ، وأن يجنبه شياطين الإنس ممن يكيدون للحق ، ويستدرجون أهله إلى باطلهم ؛ لأجل عرض من الدنيا قليل .(19/10)
حكم دراسة الفلسفة
ما حكم دراسة الفلسفة علما أننا ندرسها إجباريا في الجزائر ؟
الحمد لله
أولا :
ينبغي التعريف بالفلسفة ، وأهم مبادئها قبل بيان حكم تعلمها ؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره .
قال الغزالي في الإحياء (1/22) : " وأما الفلسفة فليست علما برأسها بل هي أربعة أجزاء :
أحدها : الهندسة والحساب ، وهما مباحان كما سبق ، ولا يُمنع عنهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوز بهما إلى علوم مذمومة ، فإن أكثر الممارسين لهما قد خرجوا منهما إلى البدع ، فيصان الضعيف عنهما .
الثاني : المنطق ، وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه ووجه الحد وشروطه وهما داخلان في علم الكلام .
الثالث : الإلهيات وهو بحث عن ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته ، وهو داخل في الكلام أيضا ، والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من العلم ، بل انفردوا بمذاهب بعضها كفر وبعضها بدعة .
الرابع : الطبيعيات ، وبعضها مخالف للشرع والدين والحق ، فهو جهل وليس بعلم حتى نورده في أقسام العلوم . وبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها ، وهو شبيه بنظر الأطباء إلا أن الطبيب ينظر في بدن الإنسان على الخصوص من حيث يمرض ويصح ، وهم ينظرون في جميع الأجسام من حيث تتغير وتتحرك ولكن للطب فضل عليه وهو أنه محتاج إليه . وأما علومهم في الطبيعيات فلا حاجة إليها " انتهى مختصرا.
وجاء في "الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة" (2/1118- 1121) :
" الفسلفة: كلمة يونانية مركبة من كلمتين "فيلا" بمعنى الإيثار وجعلها فيثاغورس بمعنى محبة ، و"سوفيا" ومعناها الحكمة. والفيلسوف مشتق من الفلسفة بمعنى "مؤثر الحكمة" إلا أن المصطلح تطور وأصبح يعني الحكمة.(20/1)
ومن ثم أصبح يطلق على الفيلسوف الحكيم . وقد أطلقت الفلسفة قديماً على دراسة المبادئ الأولى ، وتفسير المعرفة عقلياً ، وكانت الغاية منها عند أصحابها البحث عن الحقيقة . والفلسفة عند أنصارها كما يعرفها د. توفيق الطويل هي "النظر العقلي المتحرر من كل قيد وسلطة تفرض عليه من الخارج ، وقدرته على مسايرة منطقه إلى أقصى آحاده، وإذاعة آرائه بالغاً ما بلغ وجه التباين بينها وبين أوضاع العرف ، وعقائد الدين ، ومقتضيات التقاليد ، من غير أن تتصدى لمقاومتها أو التنكيل بها سلطة ما ". والفيلسوف عند أرسطو أعلى درجة من النبي؛ لأنه النبي يدرك عن طريق المخيلة ، بينما الفيلسوف يدرك عن طريق العقل والتأمل. والمخيلة عندهم درجة أدنى من التأمل ، وقد تابع الفارابي أرسطو في جعل الفيلسوف فوق النبي .
الفلسفة بهذا التعريف تصادم الحكمة التي تعني في المصطلح الإسلامي السنة كما هو تعريف أكثر المحدثين والفقهاء ، وبمعنى القضاء والعلم والإتقان ، مع ضبط الأخلاق والتحكم في أهواء النفس وكفها عن المحارم . والحكيم من يتصف بهذه الصفات ، ولذلك فهي بهذا المعنى الفلسفي من أخطر الطواغيت وأشدها شراسة في محاربة الإيمان والأديان مستخدمة المنطق الذي يسهل تلبيسها على الناس باسم العقل والتأويل والمجاز الذي يحرف به النصوص.(20/2)
يقول الإمام الشافعي : "ما جهل الناس واختلفوا إلا بتركهم مصطلح العرب وأخذهم بمصطلح أرسطو طاليس ". وعلى الرغم من وجود الفلسفات في الحضارات المصرية والهندية والفارسية القديمة، لكنها اشتهرت في بلاد اليونان بل وأصبحت مقترنة بها ، وما ذلك إلا لاهتمام فلاسفة اليونان بنقلها من تراث الشعوب الوثنية وبقايا الديانات السماوية مستفيدين من صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام بعد انتصار اليونانيين على العبرانيين بعد السبي البابلي، وبما استفادوه من دين لقمان الحكيم ، فجاءت خليطاً من نزعات التأليه وإثبات ربوبية الخالق جل وعلا ، مشوبة بالوثنية ، وعلى ذلك فإن الفلسفة اليونانية إحياءً أكثر منها اختراعاً...
ويلخص ابن أبي العز شارح الطحاوية مذهب الفلاسفة في خمسة أصول للدين عندهم فيما يلي:
أن الله سبحانه وتعالى موجود لا حقيقة له ولا ماهية ، ولا يعلم الجزئيات بأعيانها ولكنه يعلمها إجماليا ، وبالتالي أنكروا خلق أفعال عباده . كما ولا يؤمنون بكتبه حيث إن الله عندهم لا يتكلم ولا يكلم ، وأن القرآن فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زكي النفس طاهر ، تعالى الله عن وصفهم علوا كبيرا ، ليست ذوات منفصلة تصعد وتنزل وتذهب ؛ إنما هي عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان . والفلاسفة أشد الناس إنكارا لليوم الآخر وأحداثه ، وما الجنة والنار عندهم إلا أمثال مضروبة لتفهيم العوام ولا حقيقة لها في الخارج .(20/3)
ولا زالت للفلسفة اليونانية روافد في كافة الفلسفات والدعوات الغربية القديمة والحديثة، بل وتأثرت بها معظم الفرق الإسلامية الكلامية، ولم يظهر مصطلح الفلسفة الإسلامية كمنهج علمي يدرس ضمن مناهج العلوم الشرعية إلا على يد الشيخ مصطفى عبد الرزاق - شيخ الأزهر- كردة فعل للهجوم الغربي على الإسلام بحجة أنه يخلو من الفلسفة. والحق أن الفلسفة جسم غريب داخل كيان الإسلام، فليس في الإسلام فلسفة ، ولا بين المسلمين فلاسفة بهذا المعنى المنحرف، وإنما في الإسلام علم محقق وعلماء محققون، ومن أشهر الفلاسفة المنتسبين للإسلام: الكندي، الفارابي، ابن سينا، وابن رشد " انتهى باختصار.
ثانيا :
صرح جهور الفقهاء بتحريم تعلم الفلسفة ، ومن كلامهم في ذلك :
1- قال ابن نجيم (حنفي) في "الأشباه والنظائر" : " تعلم العلم يكون فرض عين , وهو بقدر ما يحتاج إليه لدينه . وفرض كفاية , وهو ما زاد عليه لنفع غيره . ومندوبا , وهو التبحر في الفقه وعلم القلب . وحراما , وهو علم الفلسفة والشعبذة والتنجيم والرمل وعلم الطبيعيين والسحر " انتهى من "الاشباه والنظائر مع شرحها: غمز عيون البصائر للحموي" (4/125).
2- وقال الدردير (مالكي) في "الشرح الكبير" في بيان العلم الذي هو فرض كفاية: " : " ( كالقيام بعلوم الشرع ) غير العيني , وهي الفقه والتفسير والحديث والعقائد , وما توقفت عليه من نحو وتصريف ومعان وبيان وحساب وأصول ، لا فلسفة , وهيئة , ولا منطق على الأصح ".
قال الدسوقي في حاشيته (2/174) : " ( قوله : على الأصح ) فقد نهى عن قراءته الباجي وابن العربي وعياض ، خلافا لمن قال بوجوب تعلمه لتوقف العقائد عليه وتوقف إقامة الدين عليها . ورد ذلك الغزالي بأنه ليس عند المتكلم من عقائد الدين إلا العقيدة التي يشارك فيها العوام وإنما يتميز عنهم بصفة المجادلة " انتهى .(20/4)
3- وقال زكريا الانصاري (شافعي) في "أسنى المطالب" (4/182) : " ( وأما علم ) أي تعلم علم ( الفلسفة والشعبذة والتنجيم والرمل وعلم الطبائعيين والسحر فحرام ) " انتهى .
4- وقال البهوتي (حنبلي) في "كشاف القناع" (3/34) : " وعكس العلوم الشرعية علوم محرمة أو مكروهة ، فالمحرمة كعلم الكلام ) إذا تكلم فيه بالمعقول المحض , أو المخالف للمنقول الصريح الصحيح . فإن تكلم فيه بالنقل فقط , أو بالنقل والعقل الموافق له , فهو أصل الدين وطريقة أهل السنة ، وهذا معنى كلام الشيخ تقي الدين , وفي حاشيته : ما فيه كفاية في ذلك . ( و ) كعلم ( الفلسفة والشعبذة والتنجيم , والضرب بالرمل والشعير , وبالحصى , و ) كعلم ( الكيمياء , وعلوم الطبائعيين )" انتهى .
وينبغي أن يستثنى من التحريم دراستها لأهل الاختصاص ؛ لبيان ما فيها من الانحراف ، والرد على ما تثيره من الباطل .
ثالثا :
إذا كانت دراسة الفلسفة إلزامية ، فينبغي أن تحذر من اعتقاد شيء من باطلها ، أو الافتتان برجالاتها ، وأن تجدّ في طلب العلم الشرعي ، لا سيما ما يتصل بعلم العقيدة ، حتى يكون لديك حصانة ومنَعة من الشبهات .
نسأل الله لك التوفيق والسداد .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب(20/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
جامعة القاهرة
كلية دار العلوم
قسم الفلسفة الإسلامية
" موقف الإمام أبي حامد الغزالي من الفلاسفة "
إشراف
الأستاذ الدكتور / السيد رزق الحجر
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم
إعداد الطالب
موسى بن محمد بن هجاد الزهراني
للسنة التمهيدية للماجستير بقسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم
2003-2004م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ ، وَنَسْتَعِينُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ :
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) [آل عمران:102].
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) [النساء:1].
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) [الأحزاب:70-71].(21/1)
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ . (1) وبعد : فهذا عرض لموضوع ( موقف الإمام الغزالي من الفلاسفة ) ، مقدم لأستاذنا الفاضل ، الأستاذ الدكتور / السيد رزق الحجر ، أستاذ الفلسفة الإسلامية ، بكلية دار العلوم ، حفظه الله ورعاه . وقد قسمته:
إلى مقدمة ، وتمهيد ، وستة فصول ، وخاتمة :
التمهيد ويتضمن :
? المبحث الأول : في ترجمة الإمام أبي حامد الغزالي .
? المبحث الثاني : تجربة الغزالي حتى وصوله لليقين .
? الفصل الأول : عرض موقف الغزالي من الفلاسفة .
? الفصل الثاني : أبدية العالم .
? الفصل الثالث : صدور العالم عن المبدأ الأول .
? الفصل الرابع : الصفات الإلهية .
? الفصل الخامس : علم الله بالجزئيات المتغيرة .
? الفصل السادس : الطبيعيات وفيه مبحثان :
1- السببية .
2- المعاد .
? الخاتمة وأهم النتائج .
? المصادر والمراجع .
? الفهارس .
أسأل الله أن أكون قد وفقت في عرض هذه القضية ، ومناقشتها علمياً بما يفيد ، وأن يجزي عني أستاذي الأستاذ الدكتور / السيد رزق الحجر ، خير الجزاء ، وأن يوفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
تمهيد
المبحث الأول :
ترجمة الإمام أبي حامد الغزالي
__________
(1) - ـ هذه خطبه الحاجة كانت سبباً في إسلام الصحابي الجليل ضماد الأزدي ، رواها الترمذي وحسنه ( 1105)، والنسائي (6/89)، وابن ماجه ( 1892)، انظر تخريجها مبسوطاً في كتاب ( خطبة الحاجة ) للشيخ : محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - .(21/2)
ولد أبو حامد الغزالي محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -وقيل الغزّالي بتشديد الزاي نسبة لعمل أبيه غزالاً للصوف على طريقة أهل بلده - بقرية "غزالة" القريبة من طوس من إقليم خراسان عام (450هـ = 1058م)، وإليها نسب الغزالي. ونشأ الغزالي في بيت فقير لأب صوفي لا يملك غير حرفته، ولكن كانت لديه رغبة شديدة في تعليم ولديه محمد وأحمد، وحينما حضرته الوفاة عهد إلى صديق له متصوف برعاية ولديه، وأعطاه ما لديه من مال يسير، وأوصاه بتعليمهما وتأديبهما.
اجتهد الرجل في تنفيذ وصية الأب على خير وجه حتى نفد ما تركه لهما أبوهما من المال، وتعذر عليه القيام برعايتهما والإنفاق عليهما، فألحقهما بإحدى المدارس التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، والتي كانت تكفل طلاب العلم فيها.
ودرس الغزالي في صباه على عدد من العلماء والأعلام، أخذ الفقه على الإمام أحمد الرازكاني في طوس، ثم سافر إلى جرحان فأخذ عن الإمام أبي نصر الإسماعيلي، وعاد بعد ذلك إلى طوس حيث بقي بها ثلاث سنين، ثم انتقل إلى نيسابور والتحق بالمدرسة النظامية، حيث تلقى فيها علم أصول الفقه وعلم الكلام على أبي المعالي الجويني إمام الحرمين ولازمه فترة ينهل من علمه ويأخذ عنه حتى برع في الفقه وأصوله، وأصول الدين والمنطق والفلسفة وصار على علم واسع بالخلاف والجدل.
وكان الجويني لا يخفي إعجابه به، بل كان دائم الثناء عليه والمفاخرة به حتى إنه وصفه بأنه "بحر مغرق".
استقر المقام بالغزالي في نيسابور فترة طويلة حيث تزوج وأنجب، وظل بها حتى توفي شيخه الإمام الجويني في عام (478هـ = 1085م) فغادرها وهو لم يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره.
خرج الغزالي إلى "المعسكر" فقصد الوزير السلجوقي "نظام الملك" الذي كان معروفا بتقديره العلم ورعايته العلماء.(21/3)
واستطاع الغزالي أن يحقق شهرة واسعة بعد أن ناظر عددا من الأئمة والعلماء وأفحم الخصوم والمنافسين حتى اعترفوا له بالعلم والفضل، فارتفع بذلك ذكره وذاع صيته، وطار اسمه في الآفاق.
واختاره نظام الملك للتدريس بالمدرسة النظامية في بغداد فقصدها في سنة (484هـ = 1091م) وكان قد بلغ الرابعة والثلاثين من عمره، وقد استُقبل فيها استقبالا حافلا، وكانت له مهابة وجلال في نفوس العامة والخاصة، حتى غلبت حشمته الأمراء والملوك والوزراء.
وصرف الغزالي همته إلى عقد المناظرات، ووجّه جهده إلى محاولة التماس الحقيقة التي اختلفت حولها الفرق الأربعة التي سيطرت على الحياة الفكرية في عصره وهي: "الفلاسفة" الذين يدّعون أنهم أهل النظر والمنطق والبرهان، و"المتكلمون" الذين يرون أنهم أهل الرأي والنظر، و"الباطنية" الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالأخذ عن الإمام المعصوم، و"الصوفية" الذين يقولون بأنهم خواص الحضرة الإلهية، وأهل المشاهدة والمكاشفة.
توفي الإمام الغزالي :
في (14 من جمادى الآخرة 505هـ = 19 من ديسمبر 1111م) عن عمر بلغ خمسا وخمسين عاما، وترك تراثا صوفيا وفقهيا وفلسفيا كبيرا، بلغ 457 مصنفا ما بين كتاب ورسالة، كثير منها لا يزال مخطوطا، ومعظمها مفقود (1) .
المبحث الثاني :-
تجربة الغزالي حتى وصوله لليقين .
__________
(1) - مصادر الترجمة : إحياء علوم الدين 1/ 3-17 تهافت الفلاسفة / مقدمة د: سليمان دنيا 49 .(21/4)
يروي لنا الغزالي في المنقذ من الضلال تجربته من الشك إلى اليقين " فهو منذ ريعان عمره وحتى قبل بلوغ العشرين وحتى الخمسين يقتحم لجة كل العلوم النظرية والعملية بحثاً عن اليقين هذا الذي طال جميع أصناف الطالبين في أيامه ، الباطنية ، والفلسفة ، وعلم الكلام ، والصوفية وحتى الزنادقة لم يغربوا عن باله ، وكان في ذلك متعطشاً لدرك حقائق الأمور " غريزةً وفطرةً وضعن في جبلته لا باختياره ولا جبلته " فانحلت عنه أولاً رابطة التقليد ، وانكسرت عليه العقائد المورثة ، وتحرك باطنه إلى طلب الفطرة الأصلية ، وحقيقة العقائد العارضة لتقليد الوالدين والأستاذين ؛ ومن هنا فإن تركيز الغزالي على أن باطنه قد تحرك يعني انه حدد معياراً نفسياً ، وداخلياً لطلب الحق ، حيث تسكن النفس إلى ما تعتقد " وينكشف لها العلوم انكشافاً لا يبقى مع ريب ولا يقارنه ، إمكان الغلط ، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك (1) " .
__________
(1) - المنقذ من الضلال 21 مقدمة .(21/5)
بدأ الغزالي رحمه الله بحثه عن اليقين :- " أولاً بتفحص المحسوسات ، فلم يأمن لها ، ومن أين ذلك " وأقواها حاسة البصر ، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك ... ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة ، تعرف أنه متحرك ... " ثم انتقل إلى الضروريات العقلية وتفحصها وخلص إلى أن لا أمان معها ، " فبم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ، وقد واثقاً بي ، فجاء حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي ، فلعلَّ وراء إدراك العقل حاكماً آخر ، إذا تجلَّى كذّب العقل في حكمه ، كما تجلَّى حاكم العقل فكذّب الحس في حكمه ". وتوقفت النفس هنا وأخذت تؤيد أقوالها هذه بحالة المنام ، فأنت ترى في المنام ما تظنه صحيحاً ، ثم بعد أن تستيقظ تعلم أن لا أصل لجميع متخيلاتك ومناماتك . وقد يكون الأمر كذلك في أحلام اليقظة ، " وقد تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك ، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها ... ولعلّ تلك الحالة ما يدّعيها الصوفية أنها حالتهم ". أو كقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " الناس نيامٌ إذا ماتوا انتبهوا " (1) فلعل حياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة . فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن ، ويقال له عند ذلك : (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (2) .
وهكذا بلغت الشكوك قمتها ، ودام الأمر كذلك مدة شهرين حتى أُعضِلَ هذا الداء ولم يتيسر علاجه بنصب الأدلة . حتى شفى الله من هذا المرض ، بنور قذفه في الصدر ، أعاد الضروريات العقلية مقبولة ، موثوقاً بها على أمن ويقين .
وهكذا تحدد معيار اليقين عند الغزالي بنور إلهي ، هو مفتاح أكثر المعارف عقلية كانت أم روحية أم تجريبية . إنها معيارية نفسية دلالتها سكون النفس وانكشاف الغطاء وتثبيت العقل .
__________
(1) - قال في إحدى النسخ : ليس بحديث ولكن من كلام على بن أبى طالب رضي الله عنه .
(2) - سورة : ق 22.(21/6)
ويبدأ بتصنيف الطالبين :-
بعد خروجه من حال الشك ، وانطلاقاً مما حصله من معيار لليقين ، انحصرت عند الغزالي أصناف الطالبين في أربع فرق :
أ - علم الكلام :
بدأ الغزالي بدراسة علم الكلام ، وصنَّف فيه مؤلفات ، ووجده في نهاية الأمر " علماً وافياً بمقصوده هو غير وافٍ بمقصودي أنا ". لقد ألقى الله إلى عباده على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - عقيدة هي الحق ، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار . ثم لهج بعض المبتدعة أموراً مخالفة للسنّة وكادوا يشوشون العقيدة على أهلها ، فندب الله لهم طائفة من المتكلمين للذب عن العقيدة بكلام مرتب .
ب - الفلسفة :
وبعد الفراغ من علم الكلام ، ابتدأ الغزالي بعلم الفلسفة وحصَّل فيه أقوالهم وبراهينهم ، حتى فاقهم في فهم ما قالوه ، " فلا يقف على فساد علم من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم ، حتى يساوي أعلمهم في ذلك العلم ثم يزيد عليه ويجاوز درجته ، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة . وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساد حقاً ".
وكان اطلاع الغزالي على علوم الفلسفة ، أثناء تدريسه في بغداد ، وقد أتى على منتهى علومهم في أقل من سنتين ، ثم واظب على التفكر فيها قريباً من سنة ، حتى انكشف له ما فيها من خداع وتلبيس .
وهو يصنف الفلاسفة إلى ثلاثة أقسام :
- الصنف الأول : الدهريون ، وهم الذين جحدوا الصانع ، وهؤلاء هم الزنادقة .
- الصنف الثاني : الطبيعيون ، وهم اعترفوا نتيجة كثرة اشتغالهم بعلم التشريح ، بوجود فاطر حكيم مطلع على غايات الأمور وأبعادها .(21/7)
- الصنف الثالث : الإلهيون، المتأخرون من الفلاسفة ، أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو . هؤلاء ردّوا على الصنفين الأولين ، وإذا تتبعنا الغزالي في حكمه على الفلاسفة ، نرى أن المعيار الذي استعمله هو معيار الإيمان ، وحكم من خلاله عليهم . فالدهريون والطبيعيون زنادقة لمخالفتهم أصول الإيمان . أمَّا الإلهيون وأبرزهم أرسطو ، فإن الغزالي يُبدي اهتماماً واضحاً بهم . وهو اعترف بفضل أرسطو في ترتيب المنطق ، وتهذيب العلوم ، وتحرير ما لم يكن محَّرراً من قبل . وهو ينظر إلى أرسطو ، بأنه استبقى من رذائل الذين أتوا قبله " بقايا " لم يوفق " للنزع عنها ". وفي هذا الحكم تخفيفي على هذا الفيلسوف الذي يجب تكفيره في مسائل وتبديعه في مسائل أخرى .
ج - مذهب التعليم :
وبعد الفراغ من الفلسفة وأدلتها ، وجد الغزالي أن علمها غير وافٍ بما هو مطلوب ( اليقين ) وأن العقل ليس كاشفاً للغطاء ، وليس محيطاً بكل المُعضِلات . وكان قد سمع بمذهب التعليمية ، وأنهم يقولون أن اليقين يؤخذ من الإمام المعصوم ، فأراد الاطلاع على ما في كنانتهم . ثم جاءه أمر من الخليفة بالرد عليهم ، وكشْف حقيقة مذهبهم فألَّف في ذلك كتابه المعروف " المستظهري " الذي لامه بعضهم عليه ، لأنه قرّر فيه حججهم ورتبها ثم رد عليها ، وفي ذلك نشرٌ لمعتقدهم من حيث لا ندري . فلربما قرأ البعض ترتيب حججهم فاقتنع بها ، دون أن يقرأ الردود عليها . يجيب الغزالي على ذلك ، بأن شبهة الباطنية كانت قد انتشرت بين الناس ، وتعاظم أمرهم فكان لا بد من الرد عليهم ، وذلك لا يكون إلاً بفهم مذهبهم أولاً ، حتى نفوقهم في ذلك ، ومن ثم نبين تهافت أقوالهم .
د : الصوفية:(21/8)
بعد الفراغ من العلوم السابقة ، اقبل الغزالي على طريق الصوفية ، فوجد أن طريقتهم تتم بعلم وعمل . وكان العلم أيسر عليه ، فحصَّله من مطالعة كتب مشاهيرهم ، كالمكي ، والمحاسبي ، والجنيد ، والشبلي ، وأبي يزيد البسطامي . وظهر له كل ذلك أنه لا يمكن الوصول إلى كنه مقاصدهم إلاَّ بالعمل ، أي بالذوق والمشاهدة وتبدل الصفات والأحوال . فالفرق كبير بين أن تكون سكراناً ، وبين أن تعرف حد السكر ،وبين أن تكون شبعاناً ، وبين أن تعرف حد الشبع . لقد علم يقيناً أنهم أرباب أحوال وليسوا بأصحاب أقوال ، والمسألة ليست بهذه السهولة ، فإن الدخول في طريقتهم يقتضي التخلي عن أمور كثيرة ، والتسلح بأمور لا يمكن دخول ذلك الدهليز بدونها . وكان قد حصل معه إيمان يقيني بالله وباليوم الآخر وبالنبوّة ، وظهر عنده أنه غير طامع بأمور الدنيا ، فما باله لا يُقرَّر ؟.(21/9)
يصف لنا الغزالي أحواله ، فيرى أنها غير نافعة في حق الله تعالى ، فهو منغمس في العلائق ، ويصف لنا أعماله وأحسنها التدريس والتعليم ، وهو فيها مقبلٌ على علوم غير مهمة ، ومحرَّكها وباعثها طلب الجاه وانتشار الصيت . فلم يزل يتفكر في كل ذلك وهو متردد بين رغبات الدنيا ودواعي الآخرة ، بين وساوس الشيطان ، ومنادي الإيمان ، وقد دام الأمر قريباً من ستة أشهر . وفي نهاية المطاف ، التجأ الغزالي إلى الله التجاء المضطر ، فأجابه المجيب إذا دعاه ، وسهَّل على قلبه الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب . وأظهر هو أمر الخروج إلى مكة وهو يدبر أمر السفر إلى الشام ، وذلك مخافة أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمه البقاء في الشام فيحاولون ثنيه . وخروج الغزالي من بغداد بعد أن تخلَّى عن كل شيء ، ثم دخل إلى الشام وأقام فيها قريباً من سنتين في عزلة وخلوة ، ورياضة ومجاهدة ، معتكفاً في مسجد دمشق ، حيث يدخل إلى منارة المسجد ويغلق بابها على نفسه . ثم رحل بعدها إلى القدس ، إلى المسجد الأقصى ، ومن ثمَّ تحركت فيه داعية الحج ، فسار إلى الحجاز .
رغم كل هذه العزلة ، بقيت هواجس الدنيا تُشغِل بال الغزالي ، وتشوَّش عليه خلوته . وقد دامٍ الأمر عشر سنين ، انكشف له من خلالها أمور لا تحصى . فقد علم يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة ، وأن سيرتهم أحسن السيَر ، وأن أخلاقهم أزكى الأخلاق ، " بل لو جُمِعَ عقل العقلاء وحكمة الحكماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ، ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلاً " إلا أن الكشف الحقيقي والأهم هو ما ظهر له ، من أن طريقة الصوفية لازمة من نور النبوّة .فجميع ما يقوم به المتصوفون من حركات وسكنات، في ظاهرها وباطنها ، " مقتبسة من نور مشكاة النبوة ، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نورٌ يُستضاء به " .
الفصل الأول(21/10)
عرض موقف الغزالي من الفلاسفة
في هذا الفصل نعرض لرأي الغزالي في الفلاسفة ، وفي الفلسفة ، وإلزاماته لهم واتي بنى عليها القول بتكفيرهم في مسائل ثلاث ، هي :
1- القول بقدم العالم .
2- القول بأن العذاب في النار على الأرواح دون الأبدان .
3- القول بأن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات .
ونستعرض من خلال هذا الفصل ما عقد الغزالي رحمة الله عليه من أهم الفصول التي ألزم فيها الفلاسفة ورد عليهم بها ، وسفه أقوالهم وحط من شأنهم واستأصلهم عليهم بمعاوله :
ولنبدأ في عرض مسائله :
المسألة الأولى : القول بقدم العالم :
ذكر الغزالي للفلاسفة وأربعة أدلة على قدم العالم واعتبرها من أهم أدلتهم التي لو ذُكرت لسودت أورقاً ، وقد حذف من هذه الأدلة " ما يجري مجرى التحكم أو التخيل " (1) واقتصر " على إيراد ماله وقع في النفس " . (2)
أدلة قدم العالم عند الفلاسفة :
الدليل الأول : استحالة صدور حادث من قديم .
الدليل الثاني : دليل الزمان .
الدليل الثالث : مادة الإمكان .
الدليل الرابع : الإمكان .
و هي كالتالي :
الدليل الأول :
__________
(1) - مشكلة الصراع بين الفلسفة والدين 31 .
(2) - السابق والصفحة .(21/11)
قالت الفلاسفة باستحالة صدور حادث من قديم ؛ لأنه لو فرض القديم الذي هو الباري تعالى (1) ولم يصدر عنه العالم مثلاً ، لكان ذلك لعدم وجود مرجح يرجح وجوده ؛ لأن وجوده ممكن إمكاناً صرفاً ؛ فإن حدث العالم بعد ذلك حصل السؤال لماذا تجدد المرجح ؟ ومن الذي أحدثه ؟ ولم حدث الآن وليس من قبل ؟ هل لعجز القديم (2) عن إحداثه قبل حدوثه ؟ أم لتجدد غرضٍ ؟ أم لوجود آلة كانت مفقودة ؟ أم لأنه لم يكن مريداً لوجوده ثم حدثت الإرادة فافتقرت إلى إرادة أخرى ؟ . وهكذا يتسلسل إلى غير نهاية .
فصدور الحادث من القديم من غير تغير فيه محال ، وتقدير تغير حال القديم محال فثبت " قدم العالم لا محالة " . (3)
ويقدم الغزالي اعتراضين على هذا الدليل :
الاعتراض الأول :
أن حدوث العالم في الوقت الذي حدث فيه حصل بإرادة قديمة من شأنها تمييز الشيء عن مثله، وقدم العالم مرفوض ؛ لأن قدمه يؤدي إلى دورات لا متناهية للفلك ، مع أن لهذه الدورات سدساً وربعاً وثلثاً . (4)
الاعتراض الثاني :
__________
(1) - مع التنبه إلى أنه لم يرد عن السلف تسمية الله تعالى باسم القديم لعدم ورود النص ، فالأسماء والصفات توقيفية كما نعلم . قال في شرح العقيدة الطحاوية : وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى القديم ، وليس هو من الأسماء الحسنى.... ، فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام . وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف . شرح العقيدة الطحاوية 21 . و انظر مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الحركات الإسلامية المعاصرة منها . د / ناصر بن عبدالكريم العقل . ط1 دار الوطن بالرياض .
(2) - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
(3) - راجع تهافت الفلاسفة 90-91-92. ومشكلة الصراع بين الفلسفة والدين 33.
(4) - مشكلة الصراع 33 نقلاً عن الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي 90 .(21/12)
لابد من تجويز صدور حادث من قديم ؛ لأن في العالم حوداث لا يمكن إنكارها ، فإن استندت هذه الحوادث إلى حوادث إلى غير نهاية يُستغنى عن الصانع وهو محال فوجب استناد الحوادث إلى طرف ينتهي إلى تسلسلها وهو القديم . وقد رفض الغزالي صدور الحادث عن القديم بواسطة الحركة الدورية الثابتة المتجددة التي هي أول الحوادث . (1)
الدليل الثاني : الزمان .
فيرى الغزالي أن الفلاسفة يرون تقدم الله على العالم ويكون ذلك بإحد أمرين :
إما :
1- بالذات . أو 2- بالزمان .
زعموا أن القائل بأن العالم متأخر عن الله والله متقدم عليه ليس يخلو إما أن يريد به أنه متقدم بالذات لا بالزمان كتقدم الواحد على الاثنين فإنه بالطبع مع أنه يجوز أن يكون معه في الوجود الزماني وكتقدم العلة على المعلول مثل تقدم حركة الشخص على حركة الظل التابع له وحركة اليد مع حركة الخاتم وحركة اليد في الماء مع حركة الماء فإنها متساوية في الزمان وبعضها علة وبعضها معلول إذ يقال: تحرك الظل لحركة الشخص وتحرك الماء لحركة اليد في الماء ولا يقال تحرك الشخص لحركة الظل وتحرك اليد لحركة الماء وإن كانت متساوية. فإن أريد بتقدم الباري على العالم هذا لزم أن يكونا حادثين أو قديمين واستحال أن يكون أحدهما قديماً والآخر حادثاً. وإن أريد به أن الباري متقدم على العالم والزمان لا بالذات بل بالزمان فإذن قبل وجود العالم والزمان زمان كان العالم فيه معدوماً إذ كان العدم سابقاً على الوجود وكان الله سابقاً بمدة مديدة لها طرف من جهة الآخر ولا طرف لها من جهة الأول. فإذن قبل الزمان زمان لا نهاية له وهو متناقض ولأجله يستحيل القول بحدوث الزمان. وإذا وجب قدم الزمان وهو عبارة عن قدر الحركة وجب قدم الحركة ووجب قدم المتحرك الذي يدوم الزمان بدوام حركته (2) .
وهذه صيغة أولى للفلاسفة في قدم الزمان ، ولهم فيه صيغة ثانية هي :
__________
(1) - السابق 33-34. ...
(2) - تهافت الفلاسفة 110 .(21/13)
لو فرض العالم حادثاً ، ألم يكن الله قادراً أن يخلقه قبل أن خلقه بقدر سنة أو أكثر ؟ وإذا لم يكن جائزاً إطلاق لفظ السنين قبل حدوث الفلك يقال : إذا قدّرنا أن العالم قد دار منذ وجوده إلى اليوم ألف دورة مثلاً ، أفلم يكن الله قادراً على خلق عالم قبله ينتهي إلينا بألف ومائة دورة ؟ وعالم ثالث ينتهي بألف ومائتي دورة ؟ (1) .
واعترض الغزالي على هاتين الصيغتين :-
" فعلى الأول اعترض بأن تقدير الزمان قبل العالم هو من عمل الوهم ؛ لأن الزمان مخلوق ؛ وعجز الوهم عن تقدير تناهيه كعجزه عن تقدير تناهي الأجسام ؛ فيتوهم أن وراء العالم ملأ أو خلاء واعترض على الصفة الثانية بأنها من عمل الوهم أيضاً ، وأقرب طريق لدفعه مقابلة الزمان بالمكان ؛ فكما أنه لا يمكن تقدير خلق الفلك الأعلى في سمكه أكبر مما خلق بذراع أو ذراعين أو ثلاثة ، كذلك لا يمكن تقدير إمكانات زمنية قبل هذا العالم (2) .
الدليل الثالث :- الإمكان .
دليل الفلاسفة أنهم يرون أن العالم قبل وجوده ممكن ، أي ليس بممتنع ، وهذا الإمكان لا أول له ، حتى لا يوصف العالم قبل ذلك بامتناع الوجود فإمكانه إذن أزلي ، والموجود بهذا الإيمكان وجوده أزلي أيضاً لأن معنى كونه ممكناً وجوده أنه ليس محالاً وجوده ، ولو صح أن لإمكانه أولاً لكان قبل ذلك غير ممكن وجوده أي محالاً وجوده ولكان الله غير قادر عليه ، وبطلانه بديهي .
ويقرض عليه الغزالي بأن العالم ممكن بمعنى انه ممكن الحدوث أزلاً فلا وقت من الأوقات إلاَّ ويتصور إحداثه فيه ، واقتراض وجود لا ينتهي طرفه غير ممكن ؛ لأنه كتقدير العلم أكبر مما هو ، وتقدير خلق آخر فوقه ، وهو غير ممكن ذلك (3) .
الدليل الرابع : دليل الإمكان .
__________
(1) - مشكلة الصراع 47 .
(2) - السابق .
(3) - التهافت 118 ومشكلة الصراع 54 .(21/14)
قالوا: كل حادث فالمادة التي فيه تسبقه إذ لا يستغني الحادث عن مادة فلا تكون المادة حادثة وإنما الحادث الصور والأعراض والكيفيات على المواد. ... ممكنة له وبيانه أن كل حادث فهو قبل حدوثه لا يخلوا إما أن يكون ممكن الوجود أو ممتنع الوجود أو واجب الوجود ومحال أن يكون ممتنعاً لأن الممتنع في ذاته لا يوجد قط ومحال أن يكون واجب الوجود لذاته فإن الواجب لذاته لا يعدم قط فدل أنه ممكن الوجود بذاته. فإذن إمكان الوجود حاصل له قبل وجوده وإمكان الوجود وصف إضافي لا قوام له بنفسه فلا بد له من محل يضاف إليه ولا محل
إلا المادة فيضاف إليها كما نقول: هذه المادة قابلة للحرارة والبرودة أو السواد والبياض أو الحركة والسكون .
هذا مذهب الفلاسفة ، والاعتراض عليه أن يقال :
الإمكان يرجع إلى قضاء العقل ، فهو قضية عقلية ، وحكم عقلي . فالممكن هو الذي إذا قدّر العقل وجوده لم يمتنع . كالسواد مثلاً ، الذي يقدَّر العقل إمكانه قبل وجوده . فان طرأ على جسم يضاف إليه قيل : هذا الجسم قبل حلول السواد فيه كان ممكناً أن يسودّ . فالإمكان هنا للجسم . ولكن ما حكم نفس السواد في ذاته ؟ هل هو ممكن ؟ ولا بد من القول بأنه ممكن ، وتعقّل ذلك لا يفتقر إلى وجود شيء يضاف إليه .
كذلك القول في نفوس الآدميين فهي حادثة عند الفلاسفة ، وهي قبل حدوثها ممكنة ، دون أن يكون لإمكانها ذات ولا مادة .
ثم إن الإمكان لو استدعى الامتناع شيئاً يقال إنه امتناعه . والممتنع لا وجود له لا في ذاته ولا في مادة .(21/15)
ولو أجيب بأن الامتناع كالإمكان ، يستدعي موضوعاً يضاف إليه ، وأن السواد في نفسه ممتنع لا ممكن ، و أن النفس قديمة ، وأنه لو سلم حدوثها فهي منطبعة في مادة ، تابعة للمزاج ، فتكون في مادة كما ذهب إليه جالينوس . يردّ هذا الجواب بأن الكليات بحسب اعتراف الفلاسفة موجودة في الأذهان لا في الأعيان كاللونية والحيوانية مثلاً . ثم إن العذر بالنفوس باطل أيضاً فليس لإمكانها قبل حدوثها شيء يضاف إليه ، لأن إضافتها إلى المادة بعيدة ، وإلاّ جازت إضافتها إلى الفاعل الذي هي غير منطبعة فيه ، كما تجوز إضافتها إلى المادة التي هي ليست منطبعة فيها بعد (1) .
الفصل الثاني
أبدية العالم
الأزلية والأبدية قضيتان متلازمتان تقريباً ، إذا بحثت الأولى بحثت الثانية بشكل متماثل . فالأزلية أو القدم تعني الوجود اللامتناهي في الماضي ، والأبدية تعني الوجود اللامتناهي مستقبلاً .
وكل من تحدث في مسألة الأبدية جعلها فرعاً للمسألة الأولى ، أي الأزلية ؛ لأن الحجج والأدلة نفسها جارية فيها . قال الغزالي : " ليعلم أن هذه المسألة فرع الأولى ، فإن العالم عندهم ( أي الفلاسفة ) كما هو أزلي لا بداية لوجوده ، فهو أبدي لا نهاية لآخره ، ولا يتصور فناؤه ...". (2)
ومسألة أبدية العالم هي فرع لمسألة قدمه ، وأدلة الفلاسفة الأربعة التي ذكرت في الأزلية ، جارية في الأبدية :
أ العالم معلول ، وعلته أزلية أبدية فكان المعلول مع العلة. ويقولون: إذا لم تتغير العلة لم يتغير المعلول. وعليه بنوا منع الحدوث وهو بعينه جار في الانقطاع .
ب العالم إذا عدم فيكون عدمه بعد وجوده فيكون له بعد ففيه إثبات الزمان ؛ لأنه ملازم للحركة .
__________
(1) - مشكلة الصراع 58-59. وانظر التهافت 119-123.
(2) - مشكلة الصراع 69 .. وانظر الكلام مطولاً في التهافت 125.(21/16)
ت إن إمكان الوجود لا ينقطع. فكذلك الوجود الممكن يجوز أن يكون على وفق الإمكان (1) .
ث إذا عدم العالم بقي إمكان وجوده إذ الممكن لا ينقلب مستحيلاً وهو وصف إضافي. فيفتقر كل حادث بزعمهم إلى مادة سابقة وكل منعدم فيفتقر إلى مادة ينعدم عنها. فالمواد والأصول لا تنعدم وإنما تنعدم الصور والأعراض الحالة فيها .
والجواب عن هذه الأدلة ، ما أجيب به عليها في قدم العالم .
وللفلاسفة في أبدية العالم دليلان آخران :
الأول:
دليل جالينوس لا يظهر أن الشمس لا تقبل الانعدام ما تمسك به جالينوس إذ قال: لو كان الشمس مثلاً تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول في مدة مديدة والأرصاد الدالة على مقدارها منذ آلاف سنين لا تدل إلا على هذا المقدار فلما لم تذبل في هذه الآماد الطويلة دل أنها لا تفسد .
والاعتراض عليه : لعلها تفسد بغير طريق الذبول كما في حال البغتة . فقد يفسد الشيء بغتة . والشمس التي يقال إنها كالأرض مائة وسبعين مرة أو ما يقرب منه لو نقص منها مقدار جبال مثلاً لكان لا يبين للحس فلعلها في الذبول وإلى الآن قد نقص مقدار جبال وأكثر .
الثاني :
العالم لا تنعدم جواهره لأنه لا يعقل سبب معدم له وما لم يكن منعدماً ثم انعدم فلا بد وأن يكون بسبب وذلك السبب لا يخلوا إما من أن يكون إرادة القديم وهو محال لأنه إذا لم يكن مريداً لعدمه ثم صار مريداً فقد تغير أو يؤدي إلى أن يكون القديم(الله ) وإرادته على نعت واحد في جميع الأحوال والمراد يتغير من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم (2) .
__________
(1) - و هذا الدليل عند الغزالي لا يقوى " فإنا نحيل أن يكون أزلياً ولا نحيل أن يكون أبدياً لو أبقاه الله تعالى أبد إذاً ليس من ضرورة الحادث أن يكون له آخر ومن ضرورة الفعل أن يكون حادثاً وأن يكون له أول . انظر التهافت 125 .
(2) - التهافت بتصرف 125. وانظر مشكلة الصراع 69-17 بتصرف وحذف .(21/17)
واعترض الغزالي على ذلك كله بأن الإيجاد والإعدام بإرادة القادر ؛ فإذا أراد الله أوجد، وإذا أراد أعدم . وإذا وجب أن يصدر عن الله فعل فالصادر هو تجدد العدم ، والعدم واقع مضاف إلى القدرة ، فإذا وقع حادث بإرادة قديمة لم يفترق بين أن يكون الحادث عدماً أو وجوداً (1) .
وهكذا نرى الغزالي مرة أخرى يدحض حجج وتعلقات الفلاسفة في مسألتي القدم والأبدية بإلزامات لا يملكون معها إلا أن يسلّموا لقوله ، وهذا يدل على عمقه وسبره أغوار القوم .
الفصل الثالث
صدور العالم عن المبدأ الأول
ويرى الغزالي أن الفلاسفة اتفقت على أن للعالم صانعاً وفاعلاً " لكن هذا القول هو تلبيس على أصلهم ؛ لأنه بحسب أصلهم لا يتصور أن يكون العالم من صنع الله وفعله، وذلك من ثلاثة أوجه :
أ الفاعل بالإرادة والعلم والاختيار :
الفاعل هو من يصدر عنه الفعل بإرادته وعلمه واختياره ، وعند الفلاسفة العالم لازم من الله لزوم المعلول من العلة ، كالظل من الشخص ، والنور من الشمس ، وهو لزوم ضروري . وليس هذا من الفعل في شيء ؛ إذ لا يجوز أن يسمى كل سبب بأي وجه كان فاعلاً ، ولا كل مسبب مفعولاً ، وإلاّ أصبحت الجمادات فاعلة ، ولا تسمى فاعلة إلا بالاستعارة .
وقسمة الفعل إلى فعل بالطبع وفعل بالإرادة باطل ؛ لأن الفعل يتضمن الإرادة ضرورة.
والفعل بالطبع يسمى فعلاً مجازاً ، وتسمية الفاعل فاعلاً عن طريق اللغة هو مجاز أيضاً؛لأن من ألقى انساناً في النار فمات ، كان هو القاتل دون النار .
والخلاصة أنه إذا لم يكن الله مريداً ولا مختاراً ، لم يكن صانعاً ولا فاعلاً إلاّ مجازاً ، ولا يكفي أن يكون سبباً لوجود العالم ليكون فاعلاً له ؛ لأن المعني بالفعل ما يصدر عن الإرادة حقيقة (2) .
ب- إيجاد الموجود :
__________
(1) - الأخير 71 . التهافت من 124 - 133. بحذف يقتضيه المقام .
(2) - مشكلة الصراع 80 . وانظر التهافت 136.(21/18)
الفعل عبارة عن الإحداث ، أي إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ، والعالم عند الفلاسفة قديم ، أي موجود أزلاً . والموجود لا يمكن إيجاده ، فكيف يكون العالم فعلاً لله ؟ .
وقول الفلاسفة بأن الإيجاد لا يكون إلا لموجود ، هو عبارة عن نسبة الفاعل الموجِد إلى المفعول الموجَد ، يجاب عليه أن الفعل يتعلق بالفاعل من حيث الحدوث ، أي الخروج من العدم إلى الوجود . فالوجود غير المسبوق بالعدم ، لا يصلح أن يكون فعل الفاعل . ويجوز كون العلة والمعلول حادثين أو قديمين ، لكن معلول العلة ليس فعلاً ، ولا يسمى فعلاً إلا بالمجاز والاستعارة ، فحركة الماء بالإصبع لا تجعل الإصبع فاعلاً ؛ لأن الفاعل ذو الإصبع ،وهو المريد . وإن كان الفلاسفة لا يعنون بكون العالم فعلاً إلا كونه معلولاً بالنسبة إلى الله ، فقد ظهر أن الله ليس فاعلاً عندهم تحقيقاً ، إنما يطلق عليه اسم الفاعل مجازاً . (1)
ج صدور الواحد عن الواحد :
قالت الفلاسفة : إن الواحد لا يصدر عنه إلا شيء واحد . ولما كان العالم مركباً من مختلفات ، فلا يتصور أن يكون فعلاً لله بموجب أصلهم .
وأسباب الكثرة كما يقول الفلاسفة ، هي إما اختلاف القوى الفاعلة ، أو اختلاف المواد ، أو اختلاف الآلات ، وكل هذه الأسباب محالة على الله تعالى ، فبقي أن تكون الكثرة صادرة منه بطريق توسط العقل المجرد الأول ، الذي يعرف نفسه ويعرف مبدأه ، فيلزم عن وجوده ثلاثة أمور :
1- عقل ثان .
2- ونفس الفلك الأقصى .
3- وجرمه .
وعن العقل الثاني صدر العقل الثالث ، وهكذا حتى العقل العاشر ، العقل الفعّال الذي يلزم عنه حشو فلك القمر ، وهي المادة القابلة للكون والفساد ، وكل عقل يصدر عنه عقل آخر من حيث أنه يعقل مبدأه ، ونفس من حيث أنه ممكن الوجود .
طريقة الصدور هذه في نظر الغزالي عبارة عن تحكمات وظلمات لو حكاها الإنسان عن منام رآه لاستدل بها على سوء مزاجه .
__________
(1) - السابق والصفحة .(21/19)
والاعتراض عليها من خمسة أوجه :
الأول : إن كان في ممكن الوجود كثرة ؛ لأن إمكانه غير موجود ، ففي واجب الوجود كثرة أيضاً ؛ لأن وجوبه غير وجود .
الثاني : المعلول الأول إن كان عقله نفسه وعقله غيره عين ذاته فلا كثرة فيه ، وإن كان غيره ففي الأول الذي يعقل نفسه ويعقل غيره كثرة . والقول بأن الأول لا يعقل إلاّ ذاته هو مذهب شنيع هجره ابن سينا وسائر المحققين .
الثالث : عقل المعلول الأول ذات نفسه هل هو عين ذاته أو غيره ؟ فإن كان عينه فهو محال ؛ لأن العلم غير المعلوم . وإن كان غيره فليكن كذلك في المبدأ الأول فيلزم منه كثرة .
الرابع : أن المعلول الأول لا يكفي فيه تثليث ، فإن جرم السماء الأول يلزم عند الفلاسفة من معنى واحد ، من ذات المبدأ . وفيه تركيب من وجوه : أحدها أن الفلك الأقصى انقسم إلى نقطتين هما القطبان ، فإن كانت جميع أجزاء الفلك الأقصى متشابهة ، فلِمَ لزم تعين نقطتين من بين سائر النقط لتكونا قطبين ؟ وإن كانت الأجزاء مختلفة فما مبدأ الاختلافات ، والجوم الأقصى لا يصدر إلا من معنى واحد بسيط .
الخامس : ما الفرق بين من يقول : إن كون المعلول الأول ممكن الوجود اقتضى وجود جرم الفلك الأقصى منه ، وإن عقله نفسه اقتضى وجود نفس الفلك منه ، وإن عقله المبدأ الأول اقتضى وجود عقل منه ، وبين قائل عرف وجود إنسان غائب ، وأنه ممكن الوجود ، وأنه يعقل نفسه وصانعه فقال : يلزم من كونه ممكن الوجود وجود فلك ! إلخ .... وهذا ما لايقنع به مجنون .
وينتهي الغزالي بعد هذه الاعتراضات على مبدأ الصدور ، إلى التنصل من إقرار مذهب بدل مذهب الفلاسفة . يقول :
" نحن لم نخض في هذا الكتاب خوض ممهد ، وإنما غرضُنا أن نشوش دعاويهم وقد حصل " .(21/20)
ثم يعتبر البحث في كيفية صدور الفعل من الله بالإرادة طمعاً في غير مطمع . فلامانع أن يقال : " المبدأ الأول عالم قادر مريد يفعل مايشاء ويحكم ما يريد ، يخلق المختلفات والمتجانسات كما يريد على مايري " . (1)
الفصل الرابع
الصفات الإلهية
أهم النقاط التي دار الصراع حولها بين الغزالي والفلاسفة في هذا الموضوع خمس :
1. الله واحد .
2. ليس له صفات زائدة على ذاته .
3. لا يشارك غيره في فصل أو جنس .
4. ماهيته عين وجوده .
5. أن ليس بجسم .
1- الوحدانية :
الله واحد ، وهو واجب الوجود . وللفلاسفة على وحدانيته دليلان :
الأول :
لو كانا اثنين ، لكان وجوب الوجود مقولاً على كل واحد منهما ، ووجوب أحدهما إن كان له ذات لا يكون معه الآخر واجباً ، وإن كان له لعلة فإنه يكون معلولاً .
والمقصود بواجب الوجود ما لا علة له ، فلا بد لواجب الوجود أن يكون واحداً .
والاعتراض على هذا الدليل أن التقسيم خطأ ؛ " لم يستحيل ثبوت موجودين لا علة لهما وليس أحدهما علة للآخر فقولكم: إن الذي لا علة له لا علة له لذاته أو لسبب تقسيم الخطأ لأن نفي العلة واستغناء الوجود عن العلة لا يطلب له علة. فأي معنى لقول القائل: إن ما لا علة له لا علة له لذاته أو لعلة إذ قولنا: لا علة له سلب محض والسلب المحض لا يكون له سبب. ولا يقال فيه: إنه لذاته أو لا لذاته " (2) .
__________
(1) - مشكلة الصراع 80-82 . وانظر التهافت 134- 154.
(2) - مشكلة الصراع 102 . وانظر التهافت 160-171 . وتهافت التهافت لابن رشد 2/ 460-462.(21/21)
الثاني : إذا فرض واجبا الوجود لكانا متماثلين أو مختلفين (1) . فإن كانا متماثلين فلا يعقل التعدد والاثنينية ، كالسوادين في مكان وزمان واحد ، فإنهما سواد واحد ، وإلاّ جاز في حق كل شخص أنه شخصان . وإن كانا مختلفين كانا مركبين ، ومحال أن يكون واجب الوجود مركباً .
والاعتراض : أن المتماثلين لا يتصور تغايرهما ، لكن هذا النوع من التركيب ليس محالاً في المبدأ الأول ؛ لأنه لا برهان عليه .
ثم إن الفلاسفة ينفون الكثرة عن الله من كل وجه " ومع هذا يقولون إن الله مبدأ وأول موجود... ومع هذا فإنهم يقولون للباري: إنه مبدأ وأول وموجود وجوهر وواحد وقديم وباق وعالم وعقل وعاقل ومعقول وفاعل وخالق ومريد وقادر وحي وعاشق ومعشوق لذيذ وملتذ وجواد وخير محض. وزعموا أن كل ذلك عبارة عن معنى واحد لا كثرة فيه وهذا من العجائب " (2) . والعمدة في فهم مذهبهم رد هذه الأمور جميعاً إلى السلب والإضافة
فالباري أولٌ بالإضافة إلى الموجودات بعده . ومبدأٌ بالإشارة إلى وجود غيره منه ، وموجود بمعنى معلوم . وجوه ر بمعنى سلب الحلول في موضع عنه ، وقديم بمعنى سلب العدم أولاً ، وباق بمعنى سلب العدم آخراً ، وواجب الوجود بمعنى أن لا علة له ، وهو عقل بمعنى أنه بريء عن المادة ، وعاقل لذاته ، ومعقول من ذاته ، وخالق وفاعل وباريء بمعنى أن وجود غيره حاصل منه وتابع لوجوده ، كما يتبع النور الشمس ، والإسخان النار ، وهو غير كاره لما يفيض عنه ، وعالم بأن كماله في فيضان غيره منه ، فيكون علمه علة فيضان كل شيء ، وهو قادر بمعنى كونه فاعلاً المقدورات ، ومريد بمعنى راض ، فترجع الإرادة إلى القدرة ن والقدرة إلى العلم ، والعلم إلى الذات .
__________
(1) - قال الله تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) الأنبياء (22) .
(2) - التهافت 160- 171.(21/22)
وهو حيٌ بمعنى الفعّال الدّرّاك . وجواد إضافة إلى فعله وسلباً عن الغرض والحاجة ، وخير محض ، أي بريء عن النقص ، وعاشق ، ومعشوق ، ولذيذ ، وملتذ ، بمعنى إدراك كماله الحاصل له . (1)
هذه هي أصول الوحدانية كما أوردها الغزالي وهي الأساس في بحث باقي الصفات ؛ لأن الوحدة لا تتحقق إلاّ بنفي الكثرة ، أي بنفي الصفات الزائدة والانقسام والتركب والجسمانية .
2 - هل لله صفات زائدة على ذاته ؟
يمكن أن تنحصر الصفات كلها في ثلاث :
? العلم .
? القدرة .
? الإرادة .
ولقد اتفقت الفلاسفة والمعتزلة كما يقول الغزالي على استحالة إثبات العلم والقدرة والإرادة لله ؛ لأنها توجب الكثرة فيه ، فهي كلها ترجع إلى ذات واحدة ، وليست زائدة على الذات .
ولهم في ذلك مسلكان :
الأول : الصفة والموصوف ، إما أن يستغني كل واحد منهما عن الآخر ، فيكونا واجبي وجود ، وهو محال كما سبق وبيّن . أو يحتاج كل واحد للآخر فلا يكون الآخر واجب وجود . أو يحتاج أحدهما دون الآخر فيكون معلولاً له ، فيكون الآخر واجب وجود والمعلول يفتقر إلى سبب ، فترتبط ذات واجب الوجود بسبب .
الاعتراض :
أنه لا استحالة في قطع تسلسل العلل " بواحد له صفات قديمة لا فاعل لها كما لا فاعل لذاته ، ولكنها تكون متقررة في ذاته " (2) .
الثاني : العلم ، إن لم يكن داخلاً في ماهية الأول ، كان تابعاً للذات ، وكان الذات سبباً فيه ، فكان معلولاً ، فكيف واجب الوجود ؟ وبإثبات الذات والصفة ، وحلول الصفة في الذات ينشأ تركيب .
والتركيب يحتاج إلى مركب وهو الجسم . والأول ليس جسماً كما سيأتي بيانه .
__________
(1) - مشكلة الصراع 103 نقلاً عن مقاصد الفلاسفة للغزالي 240 . ولا يخفى ما في هذا الكلام من البطلان . وانظر التهافت : 160-171.
(2) - مشكلة الصراع 104 نقلاً عن التهافت : 130 .(21/23)
والجواب أن " الأول موجود قديم لا علة له ولا موجِد ، فكذلك يقال هو موصوف قديم، ولا علة لذاته ولا لصفته ، ولا لقيام صفة بذاته ، بل الكل قديم بلا علة . وأما الجسم فإنما لم يجز أن يكون هو الأول ؛ لأنه حادث " . (1)
3-نفي التركيب عن الله :
قالت الفلاسفة : الأول لا حدّ له ؛ لأنه تركيب فيه . ومشاركة له في الوجود ليست مشاركة في الجنس ؛ لأن الوجود في الأشياء مضاف إلى ماهيتها لا يدخل فيها . والمشاركة في كون الأول علة لغيره كسائر العلل ، هي مشاركة في إضافة لازمة لا تدخل في الماهية . كذلك المشاركة في الجوهر ؛ لأن معنى الجوهر أنه موجود لا في موضوع . والمشاركة في مقومات الماهية مشاركة في الجنس المحوج إلى المباينة بالفصل، و ليس للأول ماهية سوى الوجود الواجب (2) .
جواب الغزالي على ذلك :
أن استحالة التركيب بنيت على نفي الصفات ، وقد ورد الحديث عنه . أما انقسام الشيء إلى الجنس والفصل فليس كانقسامه إلى ذات وصفة ، فالصفة غير الذات و النوع والفصل ، ليس غير الجنس من كل جهة : " فمهما ذكرنا النوع فقد ذكرنا الجنس وزيادة. وإذا ذكرنا الإنسان فلم نذكر إلا الحيوان مع زيادة نطق " .
ثم إن كان الأول عند الفلاسفة عقلاً مجرداً ؛ فإن سائر العقول التي هي المباديء للوجود عقول مجردة . فهذه الحقيقة تشمل الأول ومعلوله الأول ، وهي حقيقة جنسية . (3)
4- ماهية الواجب نفس وجوده :
وجود الواجب عين ماهيته بحسب الفلاسفة ؛ لأنه لو كان ماهية لكان مضافاً إليها ، وتابعاً لها ولازماً ، والتابع معلول فيكون معلولاً وهو متناقض .
__________
(1) - مشكلة الصراع 105 . التهافت : 172- 183 .
(2) - السابق والإحالة .
(3) - مشكلة الصراع 105 . وانظر التهافت 184-189.(21/24)
جواب الغزالي : بأن للواجب حقيقة وماهية ، وتلك الحقيقة موجودة أي ليست معدومة. والماهية في الأشياء الحادثة لاتكون سبباً للوجود ، فكيف في القديم ؟ فالوجود بلا ماهية ولا حقيقة غير معقول (1) .
5- الأول ليس بجسم :
قالت الفلاسفة : إن الأول ليس بجسم ؛ لأن الجسم لا يكون إلا مركباً منقسماً إلى أجزاء بالكمية ، وإلى الهيولى والصورة بالقسمة المعنوية (2) . وواجب الوجود لا يقبل القسمة بهذه الوجوه .
وجواب الغزالي على ذلك :
بأنه " إذا لم يبعد تقدير موجود لا موجد له لم يبعد تقدير مركب لا مركب له وتقدير موجودات لا موجد لها إذ نفي العدد والتثنية بنيتموه على نفي التركيب ونفي التركيب على نفي الماهية سوى الوجود وما هو الأساس الأخير فقد استأصلناه وبينا تحكمكم فيه " (3) .
فمن لا يصدق بحدوث الأجسام فلا يقدر على إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم أصلاً . (4)
الفصل الخامس
علم الله بالجزئيات المتغيرة
__________
(1) - ======== 106 . ======== 190- 195.
(2) - نقلاً عن مقاصد الفلاسفة : 210 .
(3) - تهافت الفلاسفة 193- 195 .
(4) - مشكلة الصراع 106.(21/25)
من الفلاسفة من قال : الله لا يعلم إلا نفسه (1) . ومنهم من ذهب على أنه يعلم غيره كابن سينا الذي يزعم أن الله يعلم الأشياء علماً كلياً لا يدخل تحت الزمان ، ولا يختلف بالماضي والحاضر والمستقبل " ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي (2) " . وتغير حال المعلوم يوجب تغير الذات العالمة ، ككسوف الشمس مثلاً فإنه يُعلم قبل حصوله بأنه معدوم ، وحال حصوله بأنه كائن وبعد حصوله بأنه كان وليس كائناً الآن . وبما أن التغير محال على الله ، فهو بزعم الفلاسفة لا يختلف حاله في هذه الأحوال الثلاثة . وهو يعلم الكسوف وجميع صفاته وعوارضه ، علماً يتصف هو به في الأزل ، فلا يعزب عن علمه شيء ، لكن علمه بهذه الأحوال ، قبل الكسوف وحالة الكسوف وبعد الانجلاء ، على وتيرة واحدة لا يختلف ولا يوجب تغيراً في ذاته .
فجميع الحوادث منكشفة للباري ، انكشافاً واحداً متناسباً لا يؤثر فيه الزمان . وفيما يخص الأشياء المنقسمة بالمادة والمكان ، كأشخاص الناس والحيوانات فهو يعلمها بشكل كلي ، كأن يعلم الإنسان المطلق بعوارضه وخواصه وقواه . أما شخص زيد مثلاً فلا يعلم عوارضه ؛ لأنها داخلة في المحسوسات ، فلو أطاع زيد الله أو عصاه لم يكن الله عالماً بما يتجدد من أحواله بل يلزم من قول الفلاسفة أن يكون محمد قد تحدى بالنبوة ، والله لا يعلم في تلك الحالة أنه تحدى بها ؛ لأنه يعلم فقط أن من الناس من يتحدى بالنبوة ، وأن صفاته يجب أن تكون كذا ، أما النبي المعين بشخصه فلا يعرفه . " وهذه قاعدة اعتقدوها ، واستأصلوا بها الشرائع بالكلية " (3) .
واعترض الغزالي على الفلاسفة من وجهين :
__________
(1) - والله تعالى يقول : " إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " فاطر 38 .
(2) - تهافت 198.
(3) - السابق 199.(21/26)
الأول : إذا كان غرضهم نفي التغير عن الله وهو متفق عليه ، فما المانع أن يعلم الله الكسوف بأحواله الثلاثة ، قبل وجوده وحال كونه وبعد انجلائه ، بعلم واحد في الأزل والأبد لا يتغير ؟ وأن تنزل منه هذه الاختلافات منزلة الإضافة المحضة ؟ كأن يكون الشخص على يمينك ، أو قدامك ، أو إلى شمالك ، وهذه إضافات تتعاقب عليك ، والمتغير هو ذلك الشخص دونك .
وليس من الضروري أن يحصل من العلم بالكون ، والانقضاء بعده ، تغيّر . فلو خلق الله لنا علماً بقدوم زيد غداً عند طلوع الشمس ، لكنا عند طلوع الشمس عالمين بمجرد العلم السابق بقدومه ، ونعلم بعده بنفس العلم أنه قدم . والعلم الواحد كاف للإحاطة بهذه الأحوال الثلاثة . وإذا جاز أن لا يوجب العلم بالأنواع والأجناس والعوارض الكلية تغيراً ، يجوز أن لا يوجب العلم بأحوال الشيء الواحد المنقسم بانقسام الزمان تغيراً ؛ لأن الاختلاف والتباعد بين الأجناس والأنواع المتباعدة أشد من الاختلاف الواقع بين أحوال الشيء المنقسم .
الثاني : إذا جوز الفلاسفة صدور حادث من قديم ، فما المانع أن تكون العلوم الحادثة من هذا القبيل ؟ وليكن حدوث الشيء سبباً لحدوث العلم به . وإن كان الله سبباً لحدوث الحوادث بوسائط ثم يكون حدوث الحوادث سبباً لعلمه بها ، فيكون هو السبب في تحصيل العلم لنفسه بالوسائط . وإن قالوا إن كمال الله في أن يكون مصدراً لجميع الأشياء ؛ فإن كماله أيضاً في أن يعلم جميع الأشياء (1) .
الفصل السادس
الطبيعيات
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : السببية :
قال الغزالي في التهافت : " ضرورياً الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا " . (2)
وكل شيئين متغايرين ، لا يتضمن إثبات أحدهما إثبات الآخر ، ولا نفي أحدهما متضمن نفي الآخر .
__________
(1) - مشكلة الصراع : 131 . والتهافت : 198- 205 .
(2) - التهافت : 139 .(21/27)
وليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدمه عدمه ، مثل الري والشرب ، والشبع والأكل ، والاحتراق ولقاء النار ، والموت وجز الرقبة . بل يجوز عند الغزالي وقوع الملاقاة بين القطن والنار دون الاحتراق ، ويجوز انقلاب القطن رماداً محترقاً دون ملاقاة النار ، والفلاسفة ينكرون ذلك ويدّعون استحالته .
والنار ليست فاعلاً بالطبع ، لا يمكنه الكف عما هو طبعه بعد ملاقاته لمحل قابل له كما يقول الفلاسفة ، بل فاعل الاحتراق هو الله ، بواسطة الملائكة أو بغير واسطة . ولا دليل على أن النار فاعل ، سوى مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار ، لكن المشاهدة تدل على الحصول عنده لا على الحصول به . والأكمه الذي تنكشف الغشاوة عن عينه نهاراً فيرى الألوان ، يظن أن فاعل الإدارك عنده فتح البصر ، حتى إذا غابت الشمس علم أن سبب انطباع الألوان في بصره نور الشمس ، إذن من أين يأمن الخصم أن تكون علل الحوادث وأسبابها في مبادىء الوجود ، تفيض عنها عند حصول الملاقاة بينها ؟ .
وإن سلّم الفلاسفة أن الحوادث تفيض عن مبادئها ؛ فإن هذا الفيض باللزوم والطبع ، لا لا على سبيل التروي والاختيار ، كصدور الشعاع من الشمس ، فتفترق المحال في قبوله بحسب استعداداتها ، فالجسم الصقيل يقبله ويعكسه والهواء لا يمنع نفوذه ، وبعض الأشياء تلين به ،وبعضها يتصلّب ، والثوب يبيض والوجه يسود . فالمبدأ واحد والآثار مختلفة لاختلاف استعدادات القوابل ، وعلى هذا المعنى أنكر الفلاسفة وقوع إبراهيم في النار مع عدم الاحتراق ؛ لأن ذلك لا يمكن إلا بسلب الحرارة من النار ، وذلك يخرجه عن كونه ناراً ، أوبقلب ذات إبراهيم وبدنه حجراً حتى لا تؤثر فيه النار ، ولا هذا ممكن ولا ذاك .
وإذا أنكر لزوم المسببات عن أسبابها ، وأضيفت إلى إرادة مخترعها ، جاز انقلاب الكتاب غلاماً ، والرماد مسكاً ، والحجر ذهباً ؛ لأن هذا ممكن والله قادر على كل شيء ممكن .(21/28)
والجواب عن هذا : أن الله يفعل بالإرادة والاختيار ، ويمكنه أن يخلق الاحتراق عند ملاقاة القطنة النار ، أو لا يخلقه .
والممكنات التي لم تقع يخلق الله لنا علماً بأنه يفعلها . والعلم بحدوث الممكن جائز للنبي لا العامي : " فلا مانع إذن أن يكون الشيء ممكناً في مقدورات الله ، ويكون قد جرى في سابق علمه أنه لا يفعله ، مع إمكانه في بعض الأوقات ، ويخلق لنا العلم بأنه ليس يفعله في ذلك الوقت ، فليس في هذا الوقت ( أي كلام الفلاسفة ) إلا ... تشنيع محض " .
ويجوز كما قال الغزالي : أن يُلقى النبي في النار فلا يحترق ، وذلك إما بتغيير صفة النار فتقصر سخونتها على جسمها ، أو بتغيير صفة النبي بإحداث صفة في بدنه نخرجه عن كونه لحماً وعظماً ، وأن يطلي نفسه بالطلق (1) لا يتأثر بالنار ، والذي لم يشاهد ذلك ينكره ، ثم إذا كان التراب يتسحيل نباتاً ، والنبات عند الحيوان دماً ، والدم منياً ثم حيواناً ، وهذا بحكم العادة واقع في زمن متطاول ، ففي مقدور الله أن يدير المادة في هذه الأطوار في وقت قريب ، وتحصل باستعجال هذه القوى معجزة النبي . (2)
المبحث الثاني : المعاد :
قالت الفلاسفة :
إن النفس تبقى بعد الموت سرمدياً ، إما في لذة عظيمة إذا كانت كاملة زكية ، وإما في ألم عظيم إذا كانت ناقصة ملطخة . أو يتفاوت الناس في درجات الألم واللذة كما يتفاوتون في المراتب الدنيوية . والسعادة تنال بالكمال والتزكية ، والكمال يحصل بالعلم، و الزكاء بالعمل .
__________
(1) - ذرور معدني لطيف المجس . ( المنجد ) نقلاً عن مشكلة الصراع 144.
(2) - مشكلة الصراع 144 . التهافت 139- 215.(21/29)
والنفس الجاهلة المنشغلة بالبدن وشهواته في الحياة الدنيا ، تتألم في الآخرة بفوات اللذة النفسية ، وإن لم تحس بالألم في حياتها ؛ فلأن البدن يلهيها وينسيها ألمها ، كالخدر الذي لا تحس بالنار . فاللذات الجسدية حقيرة بالاضافة إلى اللذات الروحانية العقلية ، والدليل على ذلك أن الملائكة التي ليست لها اللذات الحسية هي أشرف حالاً من البهائم . كما أن الإنسان نفسه يؤثر اللذات العقلية على الحسية، فيهتم بالغلبة دون الأنكحة والأطعمة،
وبالحشمة دون قضاء الوطر ، وبلذة الثناء والإطراء دون خطر الموت .
وتزكية النفس تتم بالعمل والعبادة . فالنفس المواظبة على الشهوات تنال الأذى ، لعجزها عن الأتصال بالملائكة ، ولعجزها عن تحصيل اللذة الجسمانية المعتدلة بعد أن تستلب منها آلتها ، وهي البدن لذلك وجب الإعراض عن الدنيا ، والاكتفاء بتوسط الشرع في الأخلاق ، كالجواد الذي هو وسط بين البخل والتبذير ، والشجاعة التي هي وسط بين الجبن والتهوّر .
إذن ، السعيد من الناس من جمع فضيلتي العلم والعمل . والهالك من عُدِِِِِم هاتين الفضيلتين . ومن له فضيلة العلم دون العمل فهو العالم الفاسق الذي يتعذب مدة ثم لا يدوم لكمال نفسه بالعلم . ومن له فضيلة العمل دون العمل يسلم وينجو عن الألم ، لكنه لا يحظى بالسعادة الكاملة .
ومن مات بنظر الفلاسفة قامت قيامته .
والجواب بنظر الغزالي ، أن " أكثر هذه الأمور ليس على مخالفة الشرع . فإنا لا ننكر أن في الآخرة أنواعاً من اللذات أعظم من المحسوسات ، ولا ننكر بقاء النفس عند مفارقة البدن ، ولكنا عرفنا ذلك بالشرع ... وإنما أنكرنا عليهم من قبل دعواهم معرفة ذلك بمجرد العقل ". لكن الذي يخالف الشرع هو إنكار حشر الأجساد ، وإنكار اللذات وللآلام الجسمانية في الجنة والنار . فالجمع بين السعادتين ، الروحانية والجسمانية متحقق .والأمثال التي ضربت في ذلك لا تحتمل التأويل .(21/30)
وذهبت الفلاسفة إلى أنه لو قُدَّر بعث الأجساد ، لكان ذلك :
- إما بجمع مادة البدن التي تبقى تراباً ، وتركيبها وخلق الحياة فيها ابتداءً .
- وإما يردّ البدن الأول بجمع أجزائه،على أن النفس موجود يبقى بعد الموت .
- وإما بردِّ النفس إلى البدن ، أي بدن كان ؛ لأن الإنسان إنسان بالنفس .
وهذه الأقسام الثلاثة باطلة ، لأن استئناف الخلق بحسب القسم الأول هو إيجاد لمثل ما كان لا لعين ما كان . وجمع أجزاء البدن بحسب القسم الثاني يؤدي إلى معاد الأقطع ، ومجذوع الأنف وناقص الأعضاء ، وهذا مستقبح بحق أهل الجنة ، كما أن أجزاء البدن تندثر وتختلط بغيرها من الأبدان وتدخل في بعضها البعض . وبطلان القسم الثالث حاصل لأن الأبدان المتناهية لا تفي بالأنفس غير المتناهية ، ولأن توارد النفس على أكثر من بدن هو قول بالتناسخ ، والتناسخ باطل .
واعترض الغزالي على أوجه الاستحالة هذه :
باختيار القسم الثالث وإقراره ، شرعاً . فالنفس باقية بعد الموت ، وذلك " دلّ عليه الشرع في قوله :
( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (1)
وردّ النفس ممكن إلى أي بدن كان ، سواء كان من مادة البدن الأول أو من مادة استؤنف خلقها . فالمهم هو النفس ، لا البدن الذي يتبدل من الصغر إلى الكبر ، بالهزال والسمن وغير ذلك . والتناسخ ينكره الشرع ، أما البعث فلا ينكره ، فان سمي البعث تناسخاً فلا مشاحة في الأسماء . والله قادر على تدبير الأمور . (2)
الخاتمة وأهم النتائج
بعد هذا التطواف السريع في عرض أهم القضايا التي قررها الفلاسفة وناقشها الغزالي مناقشة ملزمة تدل على رسوخ قدمه في هذا العلم ، نستطيع الخروج بالنتائج التالية :
__________
(1) - آل عمران 169 .
(2) - مشكلة الصراع 157-159 . تهافت الفلاسفة 274 - 282 .(21/31)
? أولاً : انقلاب الغزالي على الفلاسفة في كتابه ( تهافت الفلاسفة ) بعد أن كان واحداً منهم ، وسبر أغوار علومهم ، وبذَّ أقرانه منهم فيه ، ثم انقلب عليهم مفنداً شبههم ، راداً عليهم ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليس الخبر كالمعاينة " (1) . وإن " العوان لاتعلم الخِمر " (2) .
? ثانياً : الغزالي رحمه الله يكفر الفلاسفة في ثلاث مسائل :
o قولهم بقدم العالم ، وقد بينا بطلان قولهم فيما سبق من كلام الغزالي ورده عليهم .
o قولهم : بوقوع العذاب على الأرواح دون الأبدان .
o قولهم : إن الله يعلم الكليات دون الجزئيات .
? ثالثاً : استيفاء الغزالي لحجج الخصوم ودحضها بحججٍ عقلية ونقلية ، وهذا يدل على سعة معرفته بالقوم وإحاطته بمخازيهم ونقاط ضعفهم .
? رابعاً : لجوء الغزالي إلى التصوف ولاعتقاد فيه أنه هو الطريق المخلص و(المنقذ من الضلال)! ، كما أوضحنا في رحلته من الشك إلى اليقين .
? خامساً : لم أشأ أن أبين عقيدة أهل السنة والجماعة في طيات البحث عند كل مبحث لأن الهدف تبيين آراء الغزالي فقط في رده على الفلاسفة ؛ لكون ذلك سيتطلب تطويلاً في البحث ، والغرض الاختصار على لب الأمر وهو تبيين تهافت الفلاسفة عند الغزالي .
نسأل الله تعالى أن يغفر له ويرحمه ، وأن يعلمنا ما ينفعنا ويزيدنا علماً . والله تعالى أعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أهم المراجع والمصادر
1. القرءان الكريم .
2. صحيح الجامع الصغير وزيادته : للشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني ت(1420) هـ .
3. إحياء علوم الدين . للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي ت( 505) هـ
__________
(1) - ( صحيح) رواه أحمد والحاكم والطبراني عن ابن عباس وهو في صحيح الجامع برقم ( 5374) .
(2) - مثل مشهور : أي أن المرأة التي هي نصف في النساء لا تُعلم كيف تضع الخمار على رأسها بخلاف الصغيرة .(21/32)
4. تهافت الفلاسفة : للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي ت( 505) هـ
ت : د : سليمان دنيا . دار المعارف . ط الثامنة .
5. المنقذ من الضلال : للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي ت( 505) هـ.
ت :د: سميح دغيم . دار الفكر اللبناني .
6. مشكلة الصراع بين الدين والفلسفة : د : رضا سعادة . الدار العالمية .
7. تهافت التهافت : للقاضي أبي الوليد محمد بن رشد ت ( 595) هـ . ت : د : سليمان دنيا . دار المعارف . ط الرابعة .
8. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي .
9. مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الحركات الإسلامية المعاصرة منها: د: ناصر بن عبد الكريم العقل . دار الوطن الرياض .
الفهارس
الموضوع الصفحة
المقدمة ..............................................................2
التمهيد ..............................................................4
المبحث الأول : ترجمة الإمام الغزالي ...............................4
المبحث الثاني : رحلته من الشك إلى اليقين ..........................6
الفصل الأول : عرض موقف الغزالي من الفلاسفة ..................10
الفصل الثاني : أبدية العالم ..........................................15
الفصل الثالث : صدور العالم عن المبدأ الأول ........................17
الفصل الرابع : الصفات الإلهية ..................................... 20
الفصل الخامس : علم الله بالجزئيات المتغيرة .........................25
الفصل السادس : الطبيعيات :.........................................27
المبحث الأول : السببية ..............................................27
المبحث الثاني : المعاد ..............................................29
الخاتمة وأهم النتائج .................................................31
المراجع والمصادر ..................................................32(21/33)
الفهارس ............................................................33(21/34)
يا ( بني علمان ) ..... ما قولكم في اليابان ؟!
سليمان بن صالح الخراشي
عندما يقدر لك أن تقرأ كتابات ( بني علمان ) ، أو تتحاور معهم تجد أنهم متشبعون بالنظرة الغربية للدين ، وبتاريخهم المعاصر ؛ حيث الصراع بين الدين النصراني ( المحرف ) ممثلا في الكنيسة ، والعلم المادي .. مما أدى بهم إلى تنحية الدين واستبداله ( بالعلمنة ) ... فهذه النظرة مسيطرة بشكل طاغ على ( بني علمان ) في البلاد الإسلامية ، مما أدى بهم إلى المطالبة بعزل الإسلام عن شؤن الدنيا ؛ لعلهم يصلوا إلى ما وصل إليه الغربيون !
فهم كما قال الأستاذ محمد قطب في كتابه ( التطور والثبات .. ، ص 266 ) : ( اختفت الحملة الأولى والثانية وظهرت في الأفق دعوة جديدة، هي التي ما تزال قائمة حتى اليوم، على يد أولئك "التلاميذ" المخلصين من "المسلمين!" إن أوربا اليوم متقدمة، وهي ليست متدينة! لقد طرحت الدين جانباً فتقدمت وتحضرت ووصلت إلى القوة والسلطان! ونحن متدينون (!) وفي الوقت ذاته متأخرون! فينبغي أن نسلك الطريق القويم، ننبذ ديننا -كما فعلت أوربا- فنتقدم ونتحضر ونصل إلى القوة والسلطان! وليس من الضروري أن نكفر ونلحد! إنما يجب أن نسارع إلى فصل الدين عن كل ما له علاقة بواقع المجتمع وواقع الحياة) !!
وفات هؤلاء المخذولين أن التقدم التقني المادي لا علاقة له بالأديان ولا بالثقافات ولا بالمجتمعات .. إنما هو كلأ مباح للجميع ، من بذل أسبابه حصله وظفر به ؛ كما قال تعالى ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك . وما كان عطاء ربك محظورا ) .
وما التجربة الغربية إلا أنموذج واحد من النماذج التي ظفرت بالتفوق الدنيوي حاول ( بنو علمان ) تضخيمه والترويج له ؛ لحاجة في نفوسهم !
وتناسوا أو تغافلوا عن نماذج كثيرة غير غربية متفوقة .. لم تمر بحالة ( الفصام النكد ) الذي مر به الغرب بين الدين والعلم .(22/1)
ومن هذه النماذج البارعة : نموذج ( اليابان ) الذي لا يتحدث عنه ( بنو علمان ) كثيرا !! لأنه يهدم نظرتهم القاصرة ؛ حيث استطاعت هذه البلاد أن تبز الآخرين بمن فيهم الغرب في مجال التقنية ، مع محافظتها على ( ثقافتها ) في مواجهة الغزو الفكري الغربي - كما سيأتي إن شاء الله - .
وقد أحببت في هذا المقال أن أنقل آراء بعض المطلعين ( العقلاء ) ممن تأملوا أسباب تفوق اليابان وأخذوا منها العبر ؛ لعلها تساهم في نقض النظرة التي رسخها ( بنو علمان ) في أذهان المسلمين سنين عددا ، بل حاولو تطبيقها عمليا على أرض الواقع ، فباؤا بالفشل ، وخسروا دينهم ودنياهم . فلا هم الذين سلم لهم دينهم ولا هم الذين الذين نافسوا الآخرين في تفوقهم .
أقوال العقلاء في اليابان :
يقول الدكتور نعمان السامرائي في كتابه ( في أعماق التجربة اليابانية ، ص 10 ) : ( حين أتأمل في التجربة اليابانية أجدها تطرح أكثر من قضية ؛ لعل على رأسها : أولا : لقد أثبتت اليابان بالدليل العملي أنه يمكن انتهاج سبل ووسائل مستقلة للتقدم والتنمية ، بعيدًا عن الغرب ووسائله وقيمه ونظمه ). ويقول أيضًا ( ص 99) : ( ربما كان الجانب المهم بالنسبة لنا من التجربة اليابانية هو ذلك التطور الواسع مع المحافظة على التقاليد ) .
ويقول أيضًا ( ص 16 ) : ( إن التجربة اليابانية في التنمية والتقدم فذة ومثيرة ، وهي تهمنا في الشرق الإسلامي أكثر من غيرنا ، فقد سجلت نجاحًا باهرًا دون أن تدير ظهرها للتراث والدين والنظام الاجتماعي ، وقد حافظت وما زالت على الهوية واللغة ، وهي تستخدم أصعب لغة في العالم ، بحيث يزيد عدد الحروف والصور والرموز على ثلاثة آلاف ! ، وأن الإملاء الياباني يشكل معضلة من المعضلات ، ومع كل ذلك ومع شح الموارد تقدمت ومازالت تتقدم ، على حين يطالبنا البعض بالتخلي عن الدين والتراث والهوية مقابل " شيك " بالتقدم رصيده مجرد " حلم " ليس أكثر ) !.(22/2)
إلى أن يقول ( ص 17 ) : ( إن التجربة الغربية في التنمية تجربة إنسانية واحدة ليس أكثر ، ويمكن أن يقوم إلى جانبها تجارب ناجحة ؛ كتجربة اليابان والصين ، دون أن تكون تقليدًا حرفيًا ..) .
ويقول الإداري الاقتصادي حمدي أبوزيد إن اليابان ( لم يرفض الإصلاحات بصورة كلية ، ولكن عمل على تبنيها بصورة تتناسب مع احتياجات العصر الجديد والتقاليد اليابانية الإجتماعية الموروثة ) . ( اليابان : دروس ونماذج ، ص 31) .
ويعترف الأمير طلال بن عبدالعزيز في كتابه ( حوار حول العولمة .. ، ص 35 ) : أن اليابان ( حافظت على هويتها الثقافية في الوقت الذي استطاعت فيه أن تتواءم مع النظام العالمي ) .
ويقول بول كنيدي في كتابه الاستعداد للقرن الحادي والعشرين : ( تتمثل نقاط القوة اليابانية في التماسك الإجتماعي والعرقي ، والشعور العميق بالهوية القومية والتفرد الثقافي وخضوع الرغبات الفردية لصالح الجماعة ) . ( نقلا عن عرض للكتاب في مجلة الجديد ، العدد الأول 1994م ) .
ويقول الدكتور حسين شريف في كتابه ( التحدي الياباني ، ص 16 - 17 ) : ( إن تجربة ميجي - نسبة للإمبراطور ميجي ايشن الذي أطاح بالحكم العسكري في اليابان عام 1868م - وما اتسمت به من خبرة متميزة في عملية التوفيق بين القديم والحديث قد نجحت في تحقيق الاستمرارية لعملية التكيف بالسرعة الملائمة مع الغرب مع الحفاظ في الوقت ذاته على هويتها وقوميتها ) .
ويقول ( ص 17 ) : ( أصبحت اليابان بفضل إصرارها وعزيمتها من أسرع دول العالم تطورًا بالرغم من قيامها أساسًا على تقاليدها العريقة ).
ويقول ( ص 20 ) : ( أما عن المقومات التي أدت إلى نجاح نهظة اليابان الحديثة فإنها ترجع في الأساس إلى المواءمة بين الأصالة والتحديث ، وبالتوفيق بين التقاليد اليابانية القديمة ومتطلبات العصر الحديث ) .(22/3)
ويقول السفير المصري في اليابان : عبدالفتاح شبانه في كتابه ( اليابان : العادات والتقاليد وإدمان التفوق ، ص 7 ) : ( حافظ المجتمع الياباني على تقاليده العريقة ، وأخلاقياته الشرقية ... ).
ويقول ( ص 9 ) : ( يلعب الدين دورًا رئيسًا في حياة الإنسان الياباني ، ونظرًا لاتباعه تعاليم ديانته بصدق وتنفيذها بأمانة حتى في عمله فقد تمكن المجتمع الياباني من تحقيق التفوق الاقتصادي على كافة دول العالم ) .
وماذا عن المرأة اليابانية ؟
يقول السفير المصري في اليابان : عبدالفتاح شبانه : ( مايزال المجتمع الياباني حتى اليوم يرى أن الهدف من التعليم بالنسبة للفتاة هو جعلها أكثر استعدادًا للقيام بأعباء الحياة الزوجية ) . ( مرجع سابق ، ص 21-22) .
ويقول أيضًا ( ص 23) : ( لم تحقق حركات تحرير المرأة تقدمًا كبيرًا في اليابان رغم الدعاية التي تمارسها هذه الحركات في وسائل الإعلام ، ورغم القانون الذي وضعه المحتل الأمريكي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ) .
يقول الدكتور نعمان السامرائي : ( لقد جرى استطلاع للرأي العام عام 1986م حول الأسرة ، وقد تبين أن أكثر من 90% من اليابانيين ممن شاركوا في الاستطلاع قالوا : إن تدبير أمور المنزل ورعاية الأطفال هي المجال الأول للمرأة حتى وإن كانت تعمل ) . ( ص 73 مرجع سابق ) .
ويقول السفير الأمريكي " أدوين " في كتابه ( اليابانيون ص303 مترجم ) : ( ومن الأسباب الأخرى التي تفسر عدم استجابة المرأة اليابانية بصورة أكبر لحركة التحرير النسائية أن هذه الحركة ببساطة لا تناسب أسلوب حياتها ومن ثم يكون الارتباط بهذه الحركة بمثابة فخ وقعت فيه المرأة اليابانية .. ) .
كيف صنع الإنجاز الياباني ؟
((22/4)
في حديث لمسؤول كبير في إحدى المؤسسات الأمريكية تعمل في مجال التقنية المتقدمة يقول: ( لقد هزمتنا اليابان في أي حقل يختارونه: في صناعة الراديوهات، التلفزيونات والسيارات وغيرها من الصناعات، لقد تغلبوا علينا في جودة المنتجات والأسعار المنخفضة، والآن يتغلبون علينا في مجال الإبداع.. لا يوجد دفاع ضدهم، وفي القريب العاجل ستصبح الولايات المتحدة مصدراً للغذاء والمواد الخام لليابان ومستورداً لمنتجاتها الصناعية.. إن اليابان تدفع الولايات المتحدة بسرعة هائلة إلى مجموعة العالم الثالث) .
( تبدأ القصة بعد الحرب العالمية الثانية حيث خرجت اليابان منها مهزومة محطمة، وكانت سياسة السلطات الأمريكية لليابان تهدف إلى إقالة اليابان من عثرتها وإعادة تكوينها لتصبح ضمن المعسكر الغربي، ولكن تلك السياسة لم تكن تهدف ولا تتصور أن ما تقدمه من مساعدة لليابان يمكن أن تخرج هذا العملاق مرة أخرى من قمقمه... فتساهلت الولايات المتحدة في نقل التقنية الأمريكية لليابان بل شجعت على ذلك وكانت شركة سوني شركة يابانية مغمورة وناشئة، ولكنها كانت طموحة وذات بصيرة نافذة، فتولت زمام المبادرة في بدء رحلة نقل التقنية الالكترونية لليابان، وكان ذلك عندما تمكنت من شراء رخصة تصنيع جهاز الترانزستور في اليابان من شركة بل الأمريكية مقابل 25000 دولار.(22/5)
وكان هذا شأن الشركات اليابانية الأخرى التي استخدمت نفس الاستراتيجية التي تتمثل في شراء رخص التصنيع لمنتج أمريكي ما، ثم تعمل على تقليد التصميم وتنتجه بعد أن تضيف إليه تحسينات تجعله أكثر جودة وبتكاليف أقل وأسعار أقل، واستمر اليابانيون يسلكون هذا الطريق لعدة عقود من الزمن دون أن يتنبه الأمريكيون لخطورة هذا الوضع ، ولم يدركوا ذلك إلا مؤخراً عندما اشتدت المنافسة اليابانية للمنتجات الأمريكية والأوروبية، فأخذت حكومات تلك الدول والشركات الخاصة فيها تضع القيود والأنظمة التي تحد من نقل التقنية لليابان أو تمنعها إن كان ذلك في مقدروها، ولكن ذلك التنبه جاء بعد فوات الأوان، لأن اليابان كانت قد بلغت مرحلة النضج، وتجاوزت مرحلة التقليد والتبني إلى مرحلة الأبحاث الذاتية والإبداعات الذاتية التي جعلتها مصدراً غنياً للتقنية ، وفي مركز قوي يفرض حتمية تبادل التقنيات المختلفة مع تلك الدول.
لقد استطاعت الشركات اليابانية وغيرها من المنظمات اليابانية خلال الفترة من عام 1951م وحتى مارس 1984م الدخول في عقود بلغت حوالي 42.000 عقداً لاستيراد التقنية لليابان من الخارج، وكانت تلك التقنيات تمثل خلاصة وأفضل ما توصلت إليه الدول المتقدمة، وكان للأسلوب الياباني في اختيار هذه التقنيات دور كبير في نجاح نقل التقنية. فاليابانيون لم يكونوا مهتمين بنقل أي نوع من التقنية، ولكنهم كانوا حريصون على اختيار الأفضل، وكان سبيلهم إلى ذلك يتمثل في إرسال موجات من المتخصصين اليابانيين لدراسة التقنية المرغوب نقلها بدقة وعمق فيحققون بذلك أكثر من هدف:
الأول :هو التعرف عن كثب على نوعية التقنية وخصائصها من مصادرها، وفي نفس الوقت يحاولون الحصول على ما يتعلق بها من رسومات وتصاميم ومعلومات.(22/6)
أما الهدف الثاني : فإنه يتمثل في استغلال مرحلة الدراسة هذه للتحضير لمرحلة التحسينات التي سوف يضيفونها على المنتج قبل إعادة إنتاجه وبالتالي مفاجأة المنتجين الأصليين في وقت قصير عادة بالتعديلات والتحسينات التي يضيفونها إلى المنتج فتجعله أكثر جودة وأقل سعراً، ويمهد لهم الطريق لتعزيز منافستهم وكسب الأسواق بصورة إقتحامية مذهلة... لقد كانت الكمية الضخمة من الرخص التقنية المتنوعة من أهم الأسباب التي ساعدت اليابانيين على بناء قاعدتهم الصناعية المتطورة، ومن المذهل أن ما دفعته اليابان مقابل كل هذه العقود وعلى مدى هذه السنوات القليلة لم يتجاوز مبلغ 17 بليون دولار أمريكي ، والذي يمثل جزءاً بسيطاً جداً من الميزانية السنوية للأبحاث في الولايات المتحدة الأمريكية !
لقد أثبت اليابانيون في هذا المجال مثل العديد من مجالات التنمية الأخرى بأنهم ذوو بصيرة نافذة، فقد كان أمامهم طريقان لتنمية وتطوير التقنية اليابانية: إما صنعها بأنفسهم أو شرائها من الخارج . وكان قرارهم حاسماً وهو اختيار البديل الثاني أي شراء التقنية، أما بالنسبة لبائعي التقنية فقد كانت النتيجة مدمرة، فالتقنية التي يبيعونها لليابانين تعود إلى أسواقهم في شكل أجود محدثة لهم كابوساً ومنافسة مزعجة، ولكن البائعين كانوا ينظرون إلى عملية البيع باعتبارها صفقة تجارية ومصدراً للدخل ولم يخطر في بالهم ما يمكن أن يحدثه ذلك من تطورات ومنافسة تهدد مصالحهم ومراكزهم، وهي الحقيقة التي لم يكتشفوها إلا مؤخراً مما أحدث لديهم رد فعل ليس في مواجهة اليابان فقط، ولكن كمبدأ عام في نقل التقنية لجميع الدول ، وبدأت تبرز عبارات مثل "نحن نريد الآن أن نبيع حليباً أكثر من أن نبيع بقراً"!!(22/7)
إنه واقع يجب إدراكه من قبل الدول النامية التي تطمع وتحلم في نقل التقنية من الدول المتقدمة ، فقد تعلمت تلك الدول درساً قاسياً من تجربتها مع اليابان ولن تسمح بتكرارها، بل إن اليابان نفسها أخذت تعض أصابع الندم على ما قدمته من مساعدة تقنية لكوريا الجنوبية والصين الوطنية والتي لن تكررها مع أية دولة أخرى، وما على الدول النامية إلا البحث عن الطرق الكفيلة لإرساء قواعد التقنية فيها سواء عن طريق المجهودات الذاتية أو باتباع وسائل مبدعة تخترق بها التحصينات المفروضة على التقنية في الدول المتقدمة ) . ( انتهى النقل من كتاب الأستاذ حمدي أبوزيد ، مرجع سابق ، ص 312-315).
قلت : فتبن من كل ما سبق أن الدول ( كلها ) مهما كانت ديانتها وثقافتها تستطيع أن تصل إلى التفوق الدنيوي إذا ما بذلت أسبابه المادية ، وتخلصت من معوقاته ( الداخلية والخارجية ) ، وما تجربة اليابان ( الوثنية ) عنا ببعيد ، وقل مثل ذلك في غيرها : الصين ، كوريا ، نووي باكستان ، ...الخ
خاتمة :
وإذا كانت اليابان قد اعتزت بتراثها الوثني وثقافتها .. أفلا يليق بأصحاب الدين الصحيح ، خاتم الأديان ، أن يعتزوا بما فضلهم الله به على العالم ؟؟ وألم يأن للمسلمين أن يتخلصوا من ( الأكذوبة الكبرى ) التي طيرها ( بنو علمان ) في كل مكان من ديارهم ؟؟!
وبلادنا - بلاد التوحيد - خير مؤهل لنقض هذه الأكذوبة العلمانية على أرض الواقع ، حيث لم تتورط بعد في تلك النظرة المغلوطة ، فتجمع رغم أنوف الجميع بين الدين الصحيح والدنيا اللائقة ( بنقل التقنية كما سبق )، وتحافظ على أصالتها وأخلاقها وكرامة رجالها ونسائها .... فتكون خير قائد لبلاد المسلمين يهديهم إلى طريق العزة والقوة . أسأل الله الكريم أن يهدي حكام المسلمين إلى الإعتزاز بدينهم ، وتحكيم شرع الله في بلادهم ، ومجانبة ( بني علمان ) ممن يريدون لهم أن يكونوا مجرد ( تابع ذليل ) لأعداء الإسلام .(22/8)