ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
سليمان بن صالح الخراشي
يستعمل دعاة التقريب بين أهل السنة والمبتدعة هذا المصطلح كثيراً في كتاباتهم محاولة منهم خلط الحق بالباطل وتمييع قضايا "السنة" و"البدعة" وما يترتب عليها من أحكام. ويزعمون أنه يجب أن تلتقي طوائف الأمة الإسلامية وتتآلف مع بقاء كلٍ منها على عقيدته وآرائه يعلنها على الملأ ، وينشرها مهما كانت! ما دام يصدق عليه أنه من "أهل القبلة"؛ ويعنون بهم من يستقبل القبلة في صلاته مهما كانت عقائده (كفرية) أو مخالفة للكتاب والسنة! دون تفريق.
ولا يرضون -بعد هذا- لأحدٍ أن يرد على أهل البدع أو يكشف انحرافاتهم؛ لأن هذا -عندهم- مما يفرق "أهل القبلة"!
ويجهل هؤلاء الواهمون أو يغفلون عدة حقائق تبين هذا المصطلح وما يراد به عند أهل العلم. هذه الحقائق باختصار هي:
1- أن هذا المصطلح مقتبس من حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: ( من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته). أخرجه البخاري.
2- أن المقصود من هذا الحديث -كما بين العلماء- أن المسلم المصلي لا يجوز تكفيره وإخراجه من الإسلام؛ بل يبقى على هذا الأصل؛ إلا أن يأتي بأمر مكفِّر.
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: (فيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك ) . فتح الباري (1/592).
ولهذا فقد أخرج البخاري عقب هذا الحديث ما يوضحه؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله).
فهذا الحديث متعلق بمسائل "التكفير"، وأنه لا يجوز تكفير المسلم -وإن كان مبتدعاً- بكل ذنب، ما لم تكن بدعته مكفرة.(1/1)
3- قال الطحاوي في عقيدته: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين).
قال ابن أبي العز في شرحه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا". ويشير الشيخ –رحمه الله- بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحلَّه.
والمراد بقوله: "أهل قبلتنا" من يدَّعي الإسلام، ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء، أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ: "ولا نكفرِّ أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه) . (شرح العقيد الطحاوية، ص 426-427، ط: التركي والأرنؤط).
وقال في الموضع المشار إليه (ص 432-434) : ( قوله: "ولا نكفِّر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله".
: أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين" يشير الشيخ –رحمه الله- إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
واعلم –رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير، بابٌ عظُمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه – في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.(1/2)
فطائفة تقول: لا نكفِّر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة: المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.
وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قُتل كافراً مرتداً. والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب "السنة" بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) [الأنعام: 68].
ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب. بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب؛ كما تفعله الخوارج..). انتهى كلام ابن أبي العز – رحمه الله - .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا من حكي عنه في ذلك قولان؛ كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعضهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع وفي تخليدهم، حتى التزم تخليدهم كل من يُعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يُطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والإلحاد) (الفتاوى، 7/618-619).(1/3)
وقال –أيضاً-: (قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يُكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعمل، إذا كان فعلاً منهياً عنه؛ مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان، وأما إن تضمن ترك ما أمر الله به من الإيمان؛ مثل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت؛ فإنه يكفر به). (الفتاوى، 20/90).
قال الدكتور إبراهيم الرحيلي معلقاً: (لكن ينبغي مراعاة أن لا يكون الذنب منصوصاً على الكفر به كفراً أكبر؛ كترك الشهادتين، أو ترك الصلاة.. وأن لا يكون الذنب مما ينافي الإيمان بالله). (موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع، 1/182).
وقال الشيخ سليمان بن سحمان – رحمه الله - راداً على بعض من اغتر بمقالة "عدم تكفير أهل القبلة" ليحملها على الجهمية: (وأما ما ذكرته من استدلال المخالف بقوله صلى الله عليه وسلم "من صلَّى صلاتنا.." وأشباه هذه الأحاديث، فهذا استدلال جاهل بنصوص الكتاب والسنة، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فإن هذا فرضه ومحلّه في أهل الأهواء من هذه الأمة ومن لا تخرجه بدعته من الإسلام ؛ كالخوارج ونحوهم، فهؤلاء لا يكفرون؛ لأن أصل الإيمان الثابت لا يحكم بزواله إلا بحصول مناف لحقيقته، مناقض لأصله، والعمدة استصحاب الأصل وجوداً وعدماً، لكنهم يُبَدّعون، ويضللون، ويجب هجرهم، وتضليلهم، والتحذير عن مجالستهم ومجامعتهم، كما هو طريقة السلف في هذا الصنف.
وأما الجهمية وعباد القبور: فلا يستدل بمثل هذه النصوص على عدم تكفيرهم إلا من لم يعرف حقيقة الإسلام) . (إجماع أهل السنة النبوية على تكفير المعطلة الجهمية، ص 157).(1/4)
وقال الشيخ صالح الفوزان –حفظه الله-: (الآن لما فشا الجهل واشتدت غربة الدين، ظهر ناس من الذين يتسمون بالعلم، ويقولون: لا تكفِّروا الناس، يكفي اسم الإسلام، يكفي أنه يقول: أنا مسلم، ولو فعل ما فعل، لو ذبح لغير الله، لو سب الله ورسوله، لو فعل ما فعل ، ما دام أنه يقول: أنا مسلم فلا تكفره!! وعلى هذا يدخل في التسمي بالإسلام الباطنية والقرامطة، ويدخل فيه القبوريون، ويدخل فيه الروافض، ويدخل فيه القاديانية، ويدخل فيه كل من يدعي الإسلام، يقولون: لا تكفروا أحداً، ولو فعل ما فعل، أو اعتقد ما اعتقد، لا تفرقوا بين المسلمين . سبحان الله! نحن لا نفرق بين المسلمين، ولكن هؤلاء ليسوا مسلمين؛ لأنهم لما ارتكبوا نواقض الإسلام خرجوا من الإسلام، فكلمة لا تفرقوا بين المسلمين، كلمة حق والمراد بها باطل، لأن الصحابة رضي الله عنهم لما ارتد من ارتد من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاتلوهم، ما قالوا: لا تفرقوا بين المسلمين؛ لأنهم ليسوا مسلمين ما داموا على الردة، وهذا أشد من أنك تحكم لكافر بالإسلام، وسيأتيكم أن من الردة، من لم يكفر الكافر، أو شك في كفره، فهذه المسألة وهي من لم يكفِّر الكافر أو شك في كفره فهو كافر مثله، وهؤلاء يقولون لا تكفروا أحداً ولو فعل ما فعل، ما دام أنه يقول: لا إله إلا الله، أنتم واجهوا الملاحدة واتركوا هؤلاء الذين يدعون الإسلام!! نقول لهم: هؤلاء أخطر من الملاحدة؛ لأن الملاحدة ما ادعوا الإسلام، ولا ادعوا أن الذي هم عليه إسلام، أما هؤلاء فيخدعون الناس ويدّعون أن الكفر هو الإسلام، فهؤلاء أشد من الملاحدة، فالردة أشد من الإلحاد –والعياذ بالله-، فيجب أن نعرف موقفنا من هذه الأمور ونميزها ونتبينها؛ لأننا الآن في تعمية ، فهناك ناس يؤلفون ويكتبون وينتقدون ويحاضرون، ويقولون: لا تكفروا المسلمين، ونقول: نحن نكفر من خرج عن الإسلام، أما المسلم فلا يجوز تكفيره) . ((1/5)
سلسلة شرح الرسائل، ص 213-215).
قلت: فحق – بعد هذا – أن يقال لدعاة "التقريب الموهوم" ما قاله المتنبي:
فإن الجرح ينفر بعد حين *** إذا كان البناء على فساد !
فلا لقاء ولا تآلف ولا تقارب بين الفرق الإسلامية ما لم تلتق على عقيدة السلف ومنهجهم. وأما بغير ذلك "فستبقى حزازات النفوس كما هي".
والخلاصة: أن هذا المصطلح لا يؤيد دعاوى العصرانيين ونحوهم ممن يريد أن يُلبس الحق بالباطل، ويساوي بين أصحاب الصراط المستقيم بغيرهم من المبتدعة المنحرفين. بل تبقى أحكام المبتدعة كما هي: من ارتكب منهم مكفراً كفرناه، ومن لم تخرجه بدعته عن الإسلام ناصحناه وبينا انحرافه وخطأه، وتعاملنا معه بما هو مقرر في كتب أهل العلم (انظر مثلاً: رسالة الدكتور إبراهيم الرحيلي "موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع").
وقدسئل الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-: كيف يتعامل الإنسان الملتزم بالسنة مع صاحب البدعة؟ وهل يجوز هجره؟
فأجاب: ( أقول: إن البدع تنقسم إلى قسمين: بدع مكفرة، وبدع دون ذلك، وفي كلا القسمين يجب علينا نحن أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام ومعهم البدع المكفرة وما دونها إلى الحق ببيان الحق دون أن نهاجم ما هم عليه إلا بعد أن نعرف منهم الاستكبار عن قبول الحق؛ لأن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) فندعوا أولاً هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته، والحق مقبول لدى كل ذي فطرة سليمة، فإذا وُجد العناد والاستكبار فإننا نبين باطلهم، على أن بيان باطلهم في غير مجادلتهم أمر واجب.
أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة ؛فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره: إن كان في هجره مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه..) (الفتاوى، 1/35).(1/6)
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
سليمان بن صالح الخراشي
هذه الحلقة هي الثانية من سلة (ثقافة التلبيس) التي أنوي نشرها –لاحقاً- في رسالة واحدة، فأتمنى من قارئيها –وفقهم الله للخير- أن يزودوني بما يجدونه عليها من ملاحظات أو زيادات. وقد كانت الحلقة الأولى عن مصطلح (أهل القبلة) . أما حلقة اليوم فتتحدث عن مصطلح (الإصلاح) الذي شاع ذكره وكثر تداوله في وسائل الإعلام هذه السنوات القريبة –لاسيما في بلاد التوحيد- فلا يكاد يمر أسبوع أو أسبوعان –أو شهر على أكثر تقدير!- إلا ونسمع عن ندوة تعقد عن (الإصلاح)، أو مقال يُحبر في (الإصلاح).. وهكذا. فكلٌ يدعي وصلاً بهذا (الإصلاح) مهما اختلفت المشارب أو التوجهات؛ مما أحدث ربكة في أذهان المتابعين، وعجباً كثيراً عندما يرون التباين الواضح والمتناقض بين مدعي (الإصلاح) ؛ مما أورث تساؤلاً لديهم عن: من (المصلح) الحقيقي من هؤلاء المدعين ؟! لأن (الإصلاح) مصطلح مجمل يستعمله المصلح والمفسد في آن واحد. وكما قال ابن القيم –رحمه الله-: (أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل) (شفاء العليل، 1/324).
وقال –أيضاً-: (أصل ضلال بني آدم: الألفاظ المجملة، والمعاني المشبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهاناً مخطبة) (الصواعق، 3/927).
قلت: ومصطلح (الإصلاح) في القرآن الكريم نوعان :
1- الإصلاح الصادق؛ وهو إصلاح الأنبياء والرسل وأتباعهم؛ ممن يدعو إلى توحيد الله وعبادته، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن تنتشر الطاعات والخير، وتندثر السيئات والشر.
قال الشيخ ابن سعدي في تفسيره (1/51): (الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به؛ لهذا خلق الله الخلق وأسكنهم الأرض)
ومن هذا الإصلاح الحق ما قاله شعيب عليه السلام لقومه (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت). ثم نهاهم عن الإفساد المضاد للإصلاح :(ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).(2/1)
قال ابن كثير في تفسيره (2/231): (فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك؛ كان أضر ما يكون على العباد).
وهذا الإصلاح الصادق إذا كثر حملته وظهروا وتصدروا الأمة كان ذلك أمنة –بإذن الله- أن تصيبهم العقوبة ويعمهم الهلاك؛ كما قال تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
قال الطبري في تفسيره (15/530): (يقول تعالى ذكره: وما كان ربك يا محمد ليهلك القرى التي أهلكها، التي قص عليك نبأها ظلماً وأهلها مصلحون في أعمالهم، غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربهم؛ ظلماً. ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله، وتماديهم في غيهم، وتكذيبهم رسلهم، وركوبهم السيئات).
2- الإصلاح الكاذب: وهو إصلاح المنافقين والمفسدين ممن يُلبسون على الأمة بتسمية إفسادهم إصلاحاً! كما قال تعالى عن أسلافهم (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) لكن الدعاوى لا تنفع أصحابها إن لم تكن حقيقة؛ ولذا رد الله عليهم وبين كذبهم بقوله (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
قال الطبري –رحمه الله- في تفسيره (1/289-290): (والإفساد في الأرض: العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه، فدلك جملة الإفساد.. فكذلك صفة أهل النفاق: مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربّهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا بالتصديق والإيقان بحقيقته، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا؛ فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها).
وقال في تفسير قوله تعالى (ألا إنهم هم المفسدون) (1/291): أي (المخالفون أمر الله عز وجل، المتعدون حدوده، الراكبون معصيته، التاركون فروضه)(2/2)
وذكر ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" (1/32): أن فسادهم هو: (الكفر) و(العمل بالمعاصي) و(النفاق).
وقال القرطبي في تفسير قول المنافقين (إنما نحن مصلحون) (1/204): (إنما قالوا ذلك على ظنهم؛ لأن إفسادهم عندهم إصلاح).
وقال الراغب: تصوروا إفسادهم بصورة الإصلاح؛ لما في قلوبهم من المرض؛ كما قال (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً) وقوله: (وزين لهم الشيطان ما كانون يعملون) وقوله: (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).
وقال القاشاني: (كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا –لأنفسهم خاصة- لتوغلهم في محبة الدنيا)، أي على حساب الدين.
(انظر: محاسن التأويل للقاسمي، 1/252).
وقال ابن سعدي في تفسيره (1/50): (جمعوا بين العمل بالفساد في الأرض، وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح! قلباً للحقائق، وجمعاً بين فعل الباطل واعتقاده حقاً. وهؤلاء أعظم جناية ممن يعمل بالمعاصي مع اعتقاد تحريمها، فهذا أقرب للسلامة، وأرجى لرجوعه).
وقال سيد قطب في الظلال (1/44): (والذين يفسدون أشنع الفساد ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدًا في كل زمان. يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم. ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم. والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية)
وقال الطاهر بن عاشور في تفسيره (1/284): (إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع... –إلى أن قال- فالإفساد في الأرض، منه: إفساد المساعي؛ كتكثير الجهل، وتعليم الدعارة، وتحسين الكفر، ومناوأة الصالحين المصلحين. ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع، فلذلك حذف متعلق (تفسدوا) تأكيداً للعموم) .(2/3)
قلت : فليتنبه المسلم بعد هذا إلى الفرق بين الإصلاحين ؛ حتى لا ينخدع بدعاوى أهل النفاق – لاكثرهم الله - .(2/4)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
سليمان بن صالح الخراشي
هذا المصطلح يستخدمه البعض في مجال العلم للدلالة على "ترك الميل في بحث قضية من القضايا، والوقوف موقف العدل والإنصاف"(1) ويعدون التلبس به مما يمدح به الباحث، ويدل على عدم حيفه واستجابته لعواطفه التي قد تخالف ما يظهر له من حقائق .
ولكن لو نظرنا إلى معنى هذا المصطلح في اللغة لوجدناه لا يدل على شيء من هذا. فقد جاء في لسان العرب (مادة: حيد): "حاد عن الشيء: يحيد حيداً وحَيَداناً ومحيداً وحيدودة : مال عنه وعدل". ومثله في القاموس المحيط. فلا رابط بين معناها في اللغة وما استخدمت له في مجال العلم. إلا أن يراد أن يميل الإنسان أثناء البحث عن (الهوى) الذي يصده عن الحق، كما قال تعالى (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله..) الآية، فعندها يحسن استعمال مصطلح (العدل) الذي يغني في هذا الباب، وقد أمر الله المؤمنين في كتابه بأن يتصفوا به أثناء تصديهم للحكم بين الناس أو بين الأفكار، قال سبحانه (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وقال (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فالمسلم مطالب بالعدل في ما يصدره من أحكام، وهو أن يضع الشيء في موضعه الذي وضعه الله فيه شرعاً، فيمدح ما مدحه الله ويذم ما ذمه، ويدور مع ما دل عليه الكتاب والسنة، ولو خالف بذلك عواطفه أو أهواءه، فضلاً عن عواطف وأهواء الآخرين.(3/1)
والذي يظهر أن مصطلح (الحياد) تسرب إلى المجال العلمي من المجال السياسي؛ حيث عرف هذا المصطلح حديثاً في عالم السياسة (بعد الحربين العالميتين) بمعنى عدم التحيز إلى أحد من الطرفين المتصارعين، وذلك بعد أن ذاق العالم ويلات الحربين. يقول الدكتور عبد المنعم زنابيلي في كتابه (تطور مفهوم الحياد عبر المؤتمرات الدولية، ص 5): "الحياد الإيجابي وعدم الانحياز ظاهرة من الظواهر السياسية لعالم كابد الحرب العالمية الثانية"، وهو يعني "عدم التحزب لأجل غير محدود" (ص 13)، والحياد في السياسة نشأ كما يقول الدكتور أحمد زكي بدوي في معجم المصطلحات السياسية والدولية (ص 115): "بتأثير الجو العام الذي كان يسود العلاقات الدولية بسبب الحرب الباردة، وقد تجسد بشكل عملي لأول مرة في مؤتمر باندونج".
وهذا الحياد -كما تقول موسوعة السياسة للكيالي (2/594)-: "إمكانية من إمكانيات الخيار التي يحق للدول اللجوء إليها في حال قيام نزاع مسلح لا يعنيها أو لا يتعلق بها بصورة مباشرة" ، ومن خلاله -كما يقول الدكتور زنابيلي، (ص17)-: "تهدف الدولة المحايدة .. إلى تجنيب شعبها وأرضها مختلف الاحتمالات الناجمة عن الصراعات المسلحة"، وأكثر من استعمل هذا المصطلح ودعا إليه الدول الآسيوية والأفريقية التي اكتشفت بأنها قد أصبحت مجرد دمية تحركها الدول المتقدمة في صراعاتها المتنوعة، فبادرت إلى إطلاق هذا المصطلح؛ لتحمي نفسها ومصالحها من شرور ذلك الصراع بين الكتلتين (الشرقية والغربية).
ثم استعمل هذا المصطلح في مجال البحث العلمي للدلالة على ترك الميل مع العواطف في بحث قضية من القضايا والوقوف منها –كما يزعمون- موقف الإنصاف، فأصبح الباحث (المسلم المتأثر بهذا المصطلح) يعرض المسائل العلمية عرضاً دون هوية، أو ميل للانتصار للحق أو مدافعة للباطل! ليثبت للآخرين بأنه (محايد)! أو لا يُحكم عواطفه بل عقله ! .(3/2)
ويتضح خطأ هذا المصطلح وخطورته في ذات الوقت عندما يتلبس به الباحث المسلم أثناء حديثه عن أمور الديانات والعقائد، حيث يضطره تأثره بهذا المصطلح واغتراره به إلى أن يستحيي من نصر الحق والمدافعة عنه، والفخر والفرح بالتزامه.
قد تقول: لا يلزم كل هذا؛ لأن الباحث المسلم عندما يتعرض لتلكم المسائل أو غيرها (بحياد) فإن ذلك سيوصله –حتماً- إلى الحق والصواب فيها، وهو ما يوافق الكتاب والسنة، لأن الشرع والعقل (المحايد) يلتقيان ولا يتناقضان، وبهذا نضمن قبول الآخرين لهذا الحق والصواب الذي تمحض نتيجة هذا الموقف الحيادي لا العاطفي .
فأقول: قد يكون هذا صحيحاً في المسائل الظاهرة التي يدركها العقل. ولكنه ليس بصحيح في المسائل الكثيرة المتعلقة بالإيمان والتسليم، لا سيما في مجال الغيبيات والعقائد. أو المسائل التي يتوهم المحايدون أنها تعارض العدل!؛ كأحكام أهل الذمة، وأحكام المرأة. أو المسائل التي لم تتبين حكمتها لكثير من الناس، فمثل هذه المسائل تجعل الباحث المسلم في محك خطير بين أن يرفضها وينكرها متابعة منه لما يسمى الحياد العلمي، وبين أن يقبلها ويُسلم بها استجابةً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اختار الأولى صدق عليه قوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)، وإن اختار الثانية كان من المرحومين الذي قال الله فيهم (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) .
ويتضح لك هذا بالمثال : فإن الباحث المسلم عندما يتعرض لقضية جريان الشمس من عدمه، هو بين أمرين: إما أن يمارس ما يسمى بالحياد العلمي، فيعتقد ثبوت الشمس ودوران الكواكب حولها؛ متابعة منه لما أقامه علماء الغرب من دلائل علمية –زعموا- على هذا الأمر. ويُبطل غيره ولو كان قد قرره القرآن بصراحة ووضوح، وهو أن الشمس ليست بثابتة، بل تجري؛ كما قال تعالى (والشمس تجري لمستقر لها).(3/3)
والأمثلة على هذا كثيرة لا يسعها المقام لا سيما –كما قلت سابقاً- في مسائل الغيبيات، أو في أحكام المرأة، أو أحكام أهل الذمة، حيث تتصادم النصوص الشرعية (الصريحة) مع ما يظنه المتأثرون بالحياد إنصافاً أو عدلاً! فيبقون بعدها محتارين بين ما يعلمونه يقيناً من نصوص الشريعة، وبين ما تلبسوا به من حياد كاذب خدعهم به الآخرون. وهذا ابتلاء عظيم صرفه الله عمن عظم وحيه وشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فعلى الباحث المسلم أن يتقي الله ربه، ويحذر من الانسياق وراء هذه المصطلحات المخادعة التي هي في حقيقة أمرها تؤول إلى تعظيم العقل البشري القاصر على حساب النصوص الشرعية، كما أنها تجعل من المسلم إنساناً (مادياً) (متمرداً) لا يقبل التسليم لما قاله الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم والله يقول (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم)، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد .
-----------------
[1] منهج كتابة التاريخ الإسلامي؛ للأستاذ محمد بن صامل العلياني (ص145) وقد نبه وفقه الله على خطأ استعمال هذا المصطلح وغيره من المصطلحات المشابهة .(3/4)
ثقافة التلبيس (4)
" المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
سليمان بن صالح الخراشي
التبشير " بالمجتمع المدني " هو الموضة الجديدة على ألسنة وأقلام العلمانيين والعصرانيين من ذوي " اللحى الليبرالية " ! ؛ فلا يكاد يخلو حديث أو مقال لهم دون الإشارة أو الدعوة إليه بصفته البلسم الشافي لجميع أدواء الأمة وخلافاتها ، وإنقاذها من " الماضويين " " السلفويين " ... الخ !!
وهذا " المجتمع المدني " - كما سيأتي - مخلف آخر من مخلفات و " استوكات " المجتمع الغربي العلماني المصدرة إلينا - كالعادة - ليتلقفها الأذناب ويروجوا لها تمهيدا لإدخال مجتمعاتنا ومسخها داخل المنظومة الغربية .. فلا عجب أن يحتفي به " بنو علمان " من متبعي سنن من كان قبلنا حذو القذة بالقذة ، حتى قال قائلهم : ( إن المجتمع المدني والعلمانية مطلوبان في المجتمع العربي ) ! ( المجتمع المدني والعلمنة ، محمد كامل الخطيب ،ص 31 ) .
ولكن العجب أن يتابعهم على هذا : أفراد الطائفة المخذولة المسمون " بالعصرانيين " أصحاب " اللحى " من مدعي الأسلمة !!
ويلزمهم - في نظري - أمران :
1- إما أن يكونوا يجهلون حقيقة هذا المصطلح " العلماني " ، ومصادمته الصريحة للإسلام ، ولكنهم سمعوا القوم يرددونه فرددوه تبعًا لهم كالببغاء عقله في أذنيه ! ، وهذه مصيبة ؛ أن يدعوا إلى أمر لايعلمون حقيقته .(4/1)
2- وإما أن يكونوا يعلمون حقيقة هذا المصطلح ، فهم يتبنونه عن علم ، ومع سابق الإصرار والترصد . وهذا ما أميل إليه !! واعذروني على إساءة الظن بهم ؛ لأن مقالاتهم وأحوالهم التي ظهرت وتبينت للمسلمين تؤكد ظني ، فلم يعد هناك مجال للمجاملة أو إحسان الظن .. فلا فرق بين الطائفتين " العلمانية ، والعصرانية " سوى هذه " اللحى " التي هي شعار تتطلبه هذه المرحلة ! - وإلا فالجميع - كما تبين في مواقف عديدة - بسبب تضخم الحياة الدنيا في عقولهم يأملون باستبعاد الإسلام وأحكامه عن دنياهم .. ظانين أنهم بهذا الفعل يلحقون بركب الغرب ، غير متعظين بتجارب إخوانهم في بلاد إسلامية كثيرة حكموها بعلمانيتهم وبتحجيمهم للإسلام وأهله ، فلم يخلفوا بعدهم سوى البؤس الديني والدنيوي ، متجاهلين عن عمد فشل إسقاط النموذج الغربي على الإسلام الذي لم يكن في يوم ما معارضًا لأي تقدم دنيوي مفيد .
بل إنني أرى أن أصحاب " اللحى الليبرالية " أخطر وأخبث من " بني علمان " ؛ نظرًا لإنخداع المسلمين بظواهرهم ، وخلفيتهم الشرعية . ولهذا تجد " بني علمان " قد سلموا لهم راية الإفساد ، ومكنوهم من المنابر ، وأغرقوهم بالمديح والثناء في مقالات وكلمات تجمع عندي منها الكثير .. ليس حبًا فيهم ، ولكن ليتخذوهم حصان ( بل حمار ! ) طروادة يغزون به حصون الأمة من داخلها .(4/2)
وقد أعجبتني كلمة - مناسبة لهذا المقام - قالها الشيخ سلمان العودة في رده القديم على الغزالي ؛ قال ( ص 88 ) : ( فرح بكتب الشيخ هذه كثير من أصحاب الفكر المنحرف ؛ سواء كانوا يساريين أو علمانيين ، أو غيرهم ، فطاروا بها كل مطار ، وصوروها ونشروها ، ووزعوها ونشروا مقتطفات منها في كل وسيلة . وهم يعتبرون فكر الشيخ " مرحلة مؤقتة يواجهون بها الدعاة في هذه المرحلة .. وبعدما تتجاوز المرحلة هذا الأمر سوف يتجاوز هؤلاء فكر الشيخ ، ويعتبرونه فكرا قديما عفى عليه الزمن ، وينتقلون إلى كاتب آخر يكون أكثر تحررا وانفتاحا ، ومرونة من فكر الشيخ ) .
المجتمع المدني :
لقد أحببت أن أبين - بإيجاز - لإخوتي الكرام : حقيقة هذا المصطلح الوافد الذي بدأ يشنف أسماعنا وأبصارنا صباح مساء ، لكي لا يغتر أحد " بدسمه " ويغفل عن " سمه " ، ونكون على حذر من مكر أعداء الإسلام ممن يتمنون أن يحصروه داخل المسجد ، كما حصره أسيادهم داخل الكنيسة . وليهلك - بعد هذا - من هلك عن بينة .
وسيكون هذا التوضيح والبيان بواسطة نقولات صريحة عن مفكرين متنوعين هضموا هذا المصطلح ، وجهر كثير منهم بمناقضته للإسلام واتكائه على " العلمانية " " اللادينية " :
نشأته وماهيته :
- نشأ هذا المصطلح لدى الغرب بعد صراعهم المرير مع الكنيسة وما يسمونه " الحكم بالحق الإلهي " ؛ يهدفون من خلاله إلى تنحية دينهم " المحرف " عن شؤون الحياة الدنيا ؛ لأنه يعارضها .
- يقول الدكتور كمال عبداللطيف : (من بين المفاهيم السياسية التي أصبحت تستعمل بوفرة في الكتابات السياسية العربية المعاصرة ؛ مفهوم المجتمع المدني ، ولا شك أن اتساع دائرة استعماله في حقل هذه الكتابة يندرج ضمن دائرة العناية المستجدة في الفكر السياسي العربي بالمنظومة الليبرالية) . (المجتمع المدني ، ملاحظات حول تشكل المفهوم وتطوره ، ، المجلة العربية للعلوم الإنسانية ، عدد 55 ، ص 64 ) .(4/3)
-ويقول - أيضًا - : ( اقترن المجتمع المدني بالمجال الدنيوي ، حيث يتخلص مجال السياسة من إرث العصور الوسطى المسيحي الكنسي ، أي من هيمنة المقدس ، وتصبح الدولة والقوانين والمؤسسات نتاجاً للتجربة التاريخية المستقلة عن مجال الروحي في صورته الدينية ) . ( السابق ، ص 66 ) .
- و( قد أوضح كل من جون لوك وجان جاك رو سو أهمية المجتمع المدني كمحصلة للتعاقد في تنظيم المجتمع ، انطلاقاً من شرعية المصلحة ، وضد كل وصاية سماوية) . ( السابق ، ص 66 ) .
- ( قد دخل المجتمع المدني في أوروبا حوالي عام 1400م بجملة دلالات أتى بها الخطيب والأديب الروماني ماركوس توليوس شيشرون في القرن الأول قبل الميلاد) . ( من عناوين المجتمع القادم ، سهيل عروسي ، ص 157 ) .
- لقد ( ظهرت فكرة المجتمع المدني مقابلاً ونقيضاَ للسلطة الدينية المسيحية ولنموذج الدولة الشمولية . ولقد نشأ هذا المفهوم في مناخات الصراع مع الكنيسة وأنموذج الدولة الشمولية تواصلاً مع مفهوم الديمقراطية وحرية الفرد وتشجيعاً لمبادراته باعتبار الأصل ، وحدأ من تمدد الدولة والكنيسة معاً بعد أن تم تحرير الدولة باعتبارها نشاطاً دنيوياً محكوماً بالعقل والقانون ، وبعد أن انتقلت فكرة السيادة المطلقة التي كانت للكنيسة باعتبارها تجسيداً للمسيح الذي تجسد فيه الرب ). ( مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني ، الغنوشي ، ص 54 ) .(4/4)
- ( يرتبط ظهور مصطلح " المجتمع المدني " بظهور نظريات العقد الاجتماعي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر في المجتمعات الغربية للدلالة على مجتمع المواطنين الأحرار الذين اختاروا بإرادتهم الطوعية حكومتهم ، وظل هذا المصطلح متداولاً في أوساط المفكرين الاجتماعيين وبخاصة هيغل وماركس إلى أواخر القرن التاسع عشر ، ثم انحسر عن الحياة الفكرية والسياسية وانطوى في زوايا النسيان طوال القرن العشرين ، وعاد إلى اللمعان والظهور وبقوة في العقد الأخير من القرن العشرين ، حيث شاع استعماله في أدبيات العلوم الاجتماعية ، وراج في الأوساط الأكاديمية والعلمية سواء على المستوى العالمي أو العربي ) . ( الأستاذ عبد الحميد الأنصاري :نحو مفهوم عربي إسلامي للمجتمع المدني ، ، مجلة المستقبل العربي عدد 272ص 95 ) .
- لقد ( ظهر مصطلح " المجتمع المدني " في مقابل " المجتمع الطبيعي "من ناحية ، "والمجتمع الديني" من ناحية أخرى ، وذلك في أول نشأة المصطلح في سياق نظريات التعاقد خلال الفترة الممتدة من النهضة إلى القرن الثامن عشر في أوربا وكان المصطلح محملاً بشحنه دنيوية أرضية ضد فكرة الحق الإلهي التي كانت تحكم المجتمع الأوربي) . ( السابق ، ص 96 ) .
- ( إن المجتمع المدني قد تبلور في سياق نظريات التعاقد كما نادى به فلاسفة العقد الاجتماعي إبان القرن الثامن عشر ، تعبيراً عن المجتمعات التي تجاوزت حالة الطبيعة ، وتأسست على عقد اجتماعي ) . ( السابق ، 103 ) .
- ( إن المجتمع المدني نشأ من خلال نضال المجتمعات الغربية ضد السلطة التي كانت تجمع بين المدني والكنسي بهدف الفصل بينهما ، وهو المبدأ الذي عارضه الإسلام باعتباره نظاماً كلياً شمولياً) . ( السابق ، 102 ) .(4/5)
- ( إن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة أنظمة من القيم والمعتقدات : الليبرالية والرأسمالية والعلمانية ، وهي لا تتحقق مع القيم الإسلامية) . ( السابق ، 102 ) .
- ( يقوم المجتمع المدني على قيم نسبية تسمح بالاختلاف والتنوع ، ولا توجد للمجتمع المدني قيم مطلقة .. بينما قيم المؤسسات الدينية والأحزاب الإسلامية مطلقة ، وتقوم على حراسة قيم مطلقة) . ( السابق ، 102 ) .
- ( يشكل المجتمع المدني البنية التحتية للديمقراطية ، وهو أشبه بالشرايين والقنوات التي يجري فيها السائل الحيوي للديمقراطية ، وهما وجهان لعملة واحدة هي " الحرية " . وإذا كان من المسلمات أنه لاتنمية من دون ديمقراطية ، فكذلك لاديمقراطية من غير مجتمع مدني يكون كالأب الشرعي أو الأم الحاضنة التي تضمن للديمقراطية النمو والاستمرار والازدهار) . ( السابق ، 97 ) .
- ( المجتمع المدني هو بالأساس ذلك المجتمع غير الديني ، أي المجتمع المنعتق سياسياً من السلطة المطلقة الدينية التيوقراطية). ( المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي ،توفيق المديني ، ص 45 ) .
- ( العلمانية روح المجتمع المدني) . ( السابق ، ص 67 ) .
- ( المجتمع المدني مؤسس على العقلانية والعلمانية) . ( السابق ، ص 68 ) .
- ( إن الحرية الفردية تشكل أساس المجتمع المدني) . ( السابق ، ص 68 ) .
- (إن التحرر السياسي في المجتمع المدني قد قاد إلى تحرر الإنسان من الدين) . ( السابق ، ص 69 ) .
- ( يقيم – أي المجتمع المدني – الدولة على أساس دنيوي ، ملغيًا المفهوم القديم القائم على الحكم بالحق الإلهي ) . ( مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي د / أحمد شكر الصبيحي ، ص 120) .
- ( إن المجتمع المدني قرين الفكر الغربي ) . ( السابق ، ص 17 ) .(4/6)
- ( إن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة نظم من القيم والمعتقدات : أولها : الليبرالية ، وثانيها : الرأسمالية ، وثالثها : العلمانية . وهذه القيم والمعتقدات الثلاثة بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا تتفق مع القيم الإسلامية ) . ( السابق ، ص 41 ) .
- ( كان مجرد تعبير عن انتقال مبدأ السيادة من السماء "الحكم بالحق الإلهي" إلى الأرض "الحكم على أساس العقد الاجتماعي" ) . (المجتمع المدني ، دراسة نقدية ، د/ عزمي بشارة ص 12) .
- و ( يرى مجدي حماد - أيضًا - : أن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة نظم من القيم والمعتقدات : أولها الليبرالية ، وثانيها الرأسمالية ، وثالثها العلمانية ) . ( إشكالية مفهوم المجتمع المدني ، د كريم أبوحلاوة ، ص 150 ) .(4/7)
-( ومن هنا يُعرف المجتمع المدني أو العلماني بأنه المجتمع المستقل في تنظيم حياته المدنية ـ الاجتماعية عن أية افتراضات مسبقة عن ، ولوجود الإنسان ومجتمعه . ومن هنا كذلك ينبغي أن تكون علاقات العيش الإنساني ـ الاجتماعي في المجتمع المدني محكومة بنواظم العقل ـ العلم البشري ، حسبما تقوله العلمانية ، لكن نواظم العقل متبدلة بتبدل مراحل العيش والارتقاء الإنساني ، ومتغيرة بتغير المكان والزمان وإن كانت محكومة بمبدأ أساسي هو الحفاظ على مبدأ الوجود واستمراريته ، ومن ثم الوجود الآمن والعادل . في مثل هذه الحال تكون الاعتقادات الإيمانية الأيديولوجية الفكرية شأنا خاصاً من شؤون الضمير الفردي في اعتقاداته وآرائه الفكرية والإيمانية والاجتماعية والسياسية ، وإلا فإن فرض رأي ضمير على ضمير آخر هو بداية التسلط ، ومن ثم العنف المتبادل ، فالمجتمع المدني إذن ، آو العمران على لغة ابن خلدون ، يفترض فكرة " العقد الاجتماعي " بين أطراف المجموعة الاجتماعية وبين البشر عموما ، وفي مثل هذه الحالة يمكن للحكومة أن تكون حكما ومراقبا ، وليس مجرد ممثل لأيديولوجية آو طبقة مسيطرة ) .( المجتمع المدني والعلمنة ، محمد كامل الخطيب ،ص 26 – 27 ) .(4/8)
-( ومن هنا نستطيع القول إن المجتمع المدني ترتيب جديد للمجموعات الاجتماعية لا يأخذ بعين الاعتبار رغبة أي من التنظيمات والعقائد الاجتماعية والشخصية الموروثة في فرض نفسها على المجتمع ، حتى وإن تماسست في مؤسسات ، كالدين والطائفية والعشيرة ، بل والحزب السياسي ، بل ويقاوم رغبة أو محاولة أية مجموعة اجتماعية السيطرة على باقي المجموعات باسم الصحة المطلقة لعقيدتها ، وفي المقابل تحاول العلمانية والمجتمع المدني ترتيب علاقات وحياة المجموعات سلميا ، وجعل العقل والعلم والدين والمصلحة المشتركة ، أي الاعتراف المتبادل بالمصالح وحرية الاعتقاد ووجوب الاحتكام إلى المؤسسات التمثيلية البشرية غير المقيدة بأية صفة إطلاقية دينية كانت أم دنيوية ، فالعلمانية لا تتطلب التخلي عن العقيدة والرأي بل وتعرف أن هذا غير ممكن ، لكنها تريد الامتناع عن فرض هذا الرأي بأي شكل من أشكال العنف والضغط أو الإكراه ، حتى ولو كان ذلك علي شكل ترغيب أو ترهيب ) . ( السابق ، ص 27 ) .
- ( المجتمع المدني هو نقيض المجتمع الديني كما هو معروف ) . ( السابق ، ص 29 ) .
معوقات تحقيق المجتمع المدني لدى العلمانيين :
-( دون تحقيق مجتمعات مدنية في بلداننا العربية عوائق شتى ، يحصرها بعض الباحثين في أربع نقاط :
الأولي :.....الثانية :.......
الثالثة : منظومة العلاقات والتفاعلات القائمة على الدين الإسلامي ) !! . ( الواقع العربي وعوائق تكوين المجتمع المدني ، فهمية شرف الدين ، مجلة المستقبل العربي ، ص 42 ) .(4/9)
- ( لا يختلف معظم المحللين والباحثين الاجتماعيين على أن المنظومة التربوية السائدة في المجتمعات العربية هي سبب رئيسي من أسباب تأخر المجتمعات العربية ) . (تقف منظومة تربوية متكاملة تبدأ من الأسرة وتنتهي في شبكة العلاقات السياسية أي في تلك العلاقة مابين " رب البيت " و " رب الوطن " و " رب العالمين " يجمع بينها جميعها مفهوم الطاعة الذي ينتج الولاء و التبعية ، وعندما تكون الطاعة هي القيمة الأولي في المجتمع تنتفي الإرادة ، وينحسر الاختيار الحر) . !! ( السابق ، 46، 47 ) .
حكمه :
- " المجتمع المدني " مجتمع علماني كما سبق باعتراف أهله والمعجبين به ، فهو يساوي بين الإسلام والديانات المحرفة أو البشرية ، ويهمشه ، ويبعده عن مجالات الحياة ؛ وهذا كفر لاشك فيه . وليطالع من يريد الزيادة : رسالة ( العلمانية ) للشيخ سفر الحوالي - حفظه الله - ( فصل : حكم العلمانية في الإسلام ) . وكتاب ( كسر الصنم العلماني ) للأستاذ محمد شاكر الشريف - سلمه الله - .
- ( إن مفهوم المجتمع المدني ( أوروبياً ) مرتبط بجدلية التاريخ الأوربي ، ولا يجوز ترجمة تطور هذا المفهوم على دولة الإسلام في مختلف مراحلها ذلك أن دولة الإسلام دولية موضوعية جمعت الدين والدنيا) . ( مجلة الفيصل ، العدد 202 ، العرب والمجتمع المدني ، د / عمر فوزي نجاري ، ص 19 ) .
تنبيهات :
التنبيه الأول : قال العلماني محمد كامل الخطيب :( بالنسبة للمجتمع العربي تحديداً ، فالدعوة للمجتمع المدني العلماني ، ما تزال جديدة جدة عملية التمدين ، وربما يمكن تأريخ ابتدائها بتلك الرسالة التي أرسلها إبراهيم باشا ابن محمد علي إلى متسلم اللاذقية في 24 ربيع الثاني 1248 ، ( 1809 م ) وفيها يقول :
" الإسلام والنصارى جميعهم رعايانا، وأمر المذهب ماله بحكم السياسة ، فيلزم أن يكون كل بحاله ، المؤمن يجري إسلامه والعيسوي كذلك ، ولا أحد يتسلط على أحد " .(4/10)
وبعد إبراهيم باشا ، الذي قارب العلمانية لأسباب إدارية وسياسية ، أتى المفكرون ؛ فدعا للعلمانية والمجتمع المدني كتاب ومفكرون من أمثال شبلي شميل ولطفي السيد وعبد الرحمن الكواكبي وعلي عبد الرازق وطه حسين وجبران خليل جبران وعبد الرحمن الشهبندر وسلامة موسى وقسطنطين زريق وغالبية المفكرين القوميين والماركسيين ، وربما كانت الأنظمة العربية التي تحكم باسم الفكر القومي من آثار الدعوة للمجتمع المدني والعلمانية في العصر الحديث ، على الرغم من أنها لم تستطع ممارسة وتحقيق إلا القليل القليل من سمات المجتمع المدني ، ومن العلمانية ، بل إنها ، وفي حالات كثيرة ناقضت المجتمع المدني والعلمانية في ممارساتها وسياساتها ، فمزقت المجتمع وعملت على تهديده ) .( مرجع سابق ، ص 28 – 29 ) .
التنبيه الثاني : فتن بعض الإسلاميين بالمجتمع المدني كما فتنوا قبله بالديمقراطية !! كل هذا لأجل الهرب من تسلط الدول العربية التي عاشوا فيها ؛ كمصر وتونس وغيرها ؛ فأصبحوا كما قيل : كالمستجير من الرمضاء بالنار !
والعجب أن صراخهم ملأ الفضاء دعوة وتبشيرًا بالدولة الإسلامية التي يسعون إليها ! فيما هم - في الواقع - يلمعون الأنظمة الكفرية ( الديمقراطية ، المجتمع المدني .. ) ، فماهذا التناقض ؟! ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) ؟
ألا يدل هذا على أنهم لا زالوا غير مقتنعين بالحكم الإسلامي ؟!
وأنهم لازالوا يخلطون بينه وبين " الحكم الديني " الذي وجد في الغرب ؟!
وإلا فلماذا يتجاوزونه ويجتهدون في " ترقيع " أفكار الغرب ، وجلبها لديار المسلمين ؟! أليس هذا من الخيانة والتلبيس على الأمة ؟!
والمضحك أن هؤلاء الإسلاميين عندما تبنوا أفكار الغرب زعموا أنهم سيجرون عليها بعض " التعديلات " لتكون مناسبة لنا !(4/11)
فزعم بعضهم ( كالقرضاوي ) المفتون بالديمقراطية أن ( السلطة المنتخبة لاتملك حق التشريع فيما لم يأذن به الله . لا يملك أن تحل حرامًا أو تحرم حلالا ) !! ( انظر : كتابه : الحلول المستوردة ، ص 77-78 ) . وأن ( لا مجال للتصويت في قطعيات الشرع ) !! ( انظر : فتاوى معاصرة 2/646) .
وهل سيقر لك سدنة الديمقراطية بهذا التحكم في ديمقراطيتهم ؟! إنك إن فعلت ذلك لن يكون " المعدل " ديمقراطية !! وإنما سيكون إسلاما ! فريح بالك وادع للإسلام مباشرة ! ( انظر الرد عليه تفصيلا في كتاب : القرضاوي في الميزان ) .
ثم جاء آخر من " الترقيعيين " وهو الغنوشي مبشرًا بالمجتمع المدني الذي سيخلصنا من " الدول المتسلطة " وألف كتابًا بعنوان ( مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني ) أتى فيه بما لم تستطعه الأوائل ! حيث خالف إجماع العارفين بالمجتمع المدني وأهله عندما قال ( ص 104 ) : ( لاتعتبر العلمانية فكرة مساعدة على نشأة المجتمع المدني ) !! ، وعندما زعم ( ص 108 ) : ( أن فكرة العلمانية ..ضد المجتمع المدني ) !! كل هذا لأجل تلميع صورة هذا المجتمع العلماني بين المسلمين .
قد يقول قائل : لماذا لانعذر القرضاوي والغنوشي في دعوتهم للديمقراطية والمجتمع المدني ، وهم قد عاشوا في مجتمعات جمعت بين الحكم بالطاغوت والظلم ، فبعض الكفر أهون من بعض ؟ وكفر الديمقراطية والمجتمع المدني قد يقبله العالم بخلاف الدعوة للحكم الإسلامي ؟
أقول :
1- لو سلك هؤلاء المسلك الشرعي في التعامل مع الحكام - كافرهم أو ظالمهم - لما تعرضوا لما تعرضوا له ، ولما اضطروا لقبول هذه الكفريات .( وتفصيل هذا يطول ) وقارن حالهم بحال دعاة السنة في تلك البلاد كيف أثمرت دعوتهم ، لولا أن أفسدها هؤلاء عليهم بحماقاتهم .(4/12)
2- أنهم - من واقع حالهم - غير مضطرين أبدا لهذه الكفريات كلها ، التي تقضت أعمارهم في سبيل تقريرها في بلاد المسلمين . فلوا ركزوا جهودهم على بيان أهمية الحكم بالشريعة ، وحسنوه للحكام وللناس لكان خيرا لهم ، فإن قبل منهم وإلا فهم معذورون ........ ولكن : فاقد الشيئ لايعطيه !
3- أنهم عندما دعوا لما سبق من كفريات لم يقروا بمخالفتها للإسلام ، وأنهم إنما أكرهوا عليها . بل ادعوا أنها لاتنافي الإسلام مجرين عليها تعديلاتهم الخيالية . وهذا تلبيس ومكابرة .
ماعذر الحامد والفالح والطريفي ؟!
أولئك عاشوا في بلاد متسلطة لم تحكم بالشرع ، ولم يعذروا بانحرافهم عن المنهج الشرعي في التعامل مع الولاة الذي قادهم إلى تلكم الكفريات . فماظنك بأناس يعيشون في بلاد التوحيد والدعوة ، التي يحكم فيها بالشرع ، وتظهر فيها السنة وأهلها ، والفضيلة وحماتها .. ثم يستبدلون هذا كله بالدعوة والتلميع لذلك المجتمع المدني " الكفري " ؟!
أما الحامد : فهو الدكتور عبدالله الحامد ، " الأديب " المعروف الذي جعل ديدنه في كل لقاء يعمل معه : المناداة بهذا المجتمع المدني الذي سيخلصنا من الإستبداد و .. و .. الخ الشعارات ! ( انظر لقاءه مع قناة الجزيرة مثلا ) . وقد ألف لأجل هذا كتابيه : " المجتمع المدني سر نهوضهم وانحطاطنا " !! و " نظرية المجتمع المدني في الإسلام " . ولي معه جولة قادمة - إن شاء الله - .
وأما الفالح : فهو الدكتور متروك الفالح ، أحد دكاترة جامعة الملك سعود ، ألف كتابًا " وصفيًا " بعنوان " المجتمع والديمقراطية والدولة في البلدان العربية - دراسة مقارنة لإشكالية المجتمع المدني في ضوء تريف المدن " . حاول فيه كغيره اجراء " تعديلات " و " تحكمات " على مجتمعه المدني ليتوافق مع واقعنا . ( انظر ص 151 من كتابه ) .(4/13)
وأما الطريفي : فهو عادل بن زيد الطريفي ، كاتب صحفي مغرم بالتعالم ولوك المصطلحات الغربية ، بدأ من صحيفة المحايد ، ثم انتقل إلى جريدة الوطن . كتب مقالا بعنوان " أين هو المجتمع المدني في مشروعات الإصلاح العربية ؟ " ( الوطن / 1279) : يبشر فيه الدول العربية بفوائد الأخذ بالمجتمع المدني ! ويحذرهم من " الأصولية الدينية " !! و" الانغلاق السلفوي " !! وقد رد عليه الأستاذ سعيد الغامدي - وفقه الله - .
قد يقال : عذرهم أنه يوجد في مجتمعنا " أثرة " ، وقد وقع على بعضهم " ظلم " فروا منه إلى هذه الأفكار التي تقيهم من التسلط .
فأقول : سبحان الله ! أيفر من " الظلم " إلى " الكفر " ؟!
أيفر من دولة إسلامية فيها أثرة ، لكن أعلام التوحيد والشريعة والفضيلة فيها ظاهرة مرفوعة ، أهلها مجتمعون ... إلى " مجتمع مدني كفري " ترتفع فيه أعلام الكفر والبدعة ، والتحزب والتفرق ، ويرتع فيه أرباب الخنا والرذيلة بقوانين تحميهم !!
عجبًا لكم !
أليست ( الفتنة أشد من القتل ) ؟!
ثم أقول : لو التزم هؤلاء المسلك الشرعي في التعامل مع ولاتهم لما وقع عليهم هذا الظلم . فلماذا الإثارة ومنازعة الأمر أهله ؟ وقد تبين وتأكد للعقلاء عبر التاريخ أن هذا المسلك التصادمي يفسد ولا يصلح ، والواقع شاهد .
ولو اشتغل هؤلاء بالدعوة إلى دين الله وتوحيده وناصحوا من ولاه الله أمرهم ؛ لبوركت جهودهم وأثمرت كغيرهم ممن نفع الله بهم البلاد والعباد . لكنهم أشغلوا أنفسهم فيما حذرهم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من " عدم منازعة الأمر أهله " فضروا أنفسهم وأضروا غيرهم . ثم لجؤا إلى هذه الدعوات " الكفرية " التي ظنوها تنقذهم مما هم فيه ، حتى أشربوها في قلوبهم - والعياذ بالله -
وأقول لهم أيضا : ومايدرينا أنكم لو تسلطتم علينا أن لا تظلموا ولاتستأثروا !! وحال إخوانكم في دول أخرى تمكنوا منها لا يبشر بخير !(4/14)
ختامًا : أسأل الله أن يبصر شباب الإسلام بانحرافات من يزعمون " الإصلاح " ومجابهة الظلم والأثرة وهم يقودونهم إلى " الكفر " والإنسلاخ من الدين وهم لايشعرون .. وأن يجعلهم متنبهين لما يراد بهم : لاتخدعهم زخارف الألفاظ ولا تدغدغهم الشعارات الكاذبة .
والله الموفق .(4/15)
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
سليمان بن صالح الخراشي
الاختلاف بين الناس أمر واقع ومشاهد، لا يستطيع أن ينكره عاقل، إنما يأتي التلبيس عندما يزعم البعض أن هذا الاختلاف أمر يرضاه الله عز وجل ويحبه، وأنه الغاية من خلقه بني آدم! ويحملون على هذا المعنى الباطل قوله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) ويسيئون فهم قول بعض المفسرين عند هذه الآية: "وللاختلاف خلقهم" فيظنونه يشهد لباطلهم.
وينتج عن هذا: أن لا يروا بأساً في تفرق المسلمين واختلافهم على مذاهب وفرق شتى، بل هذا عندهم من باب "التنوع" و"التعددية" اللذين يثريان الحياة الإسلامية ويزيدانها بهاء !
فتجد أحدهم يفتخر بوجود الفرق البدعية والمنحرفة في تاريخ المسلمين ، ويعد هذا دليلاً على تسامح المسلمين وقبولهم "الرأي الآخر" !
ولم يكتف بعض غلاتهم بتسويغ الاختلاف بين المسلمين، حتى ذهب يسوغ اختلاف الكافرين، ويعده –أيضاً- من باب "التعددية" التي يحبها الله عز وجل ويرضاها لعباده !! فعنده أن اليهودية والنصرانية وغيرها شرائع صحيحة ومتنوعة، جميعها موصلة إلى الله عز وجل، لا فرق بينها عنده !
فها هو من يسمى المفكر الإسلامي ! محمد عمارة يؤلف كتاباً بعنوان "الإسلام والتعددية" يقول فيه (ص 9): (وفي إطار تعددية الشرائع تحت جامع الدين الواحد جاء الحديث في القرآن الكريم عن نجاة أصحاب الشرائع المتعددة إذا هم جمعتهم جميعاً أصول:
1- الإيمان بالألوهية الواحدة.
2- والإيمان باليوم الآخر والبعث والحساب والجزاء .
3- والعمل الصالح في الحياة الدنيا.
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) !!
نعوذ بالله من الكفر والضلال.(5/1)
ففي هذا القول من هذا المفكر الجاهل إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة من تكفير كل من لم يدن بدين الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال سبحانه (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وقال (إن الدين عند الله الإسلام) وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".
قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: "فمن لم يقر باطناً وظاهراً بأن الله لا يقبل ديناً سوى الإسلام فليس بمسلم، ومن لم يقر بأن بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليس مسلم إلا من آمن به واتبعه باطناً وظاهراً فليس بمسلم، ومن لم يُحَرم التدين بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم باتفاق المسلمين" (الفتاوى 27/463-464).
وليس المقام مقام إيراد جميع الأدلة القاضية بكفر اليهود والنصارى. ( انظر : محمد عمارة في الميزان ) .
أما الآية التي استدل بها عمارة لترويج باطله فهي (تتناول من كان قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحسب، قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله: "إن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم " ) . (انظر : دعوة التقريب، للدكتور أحمد القاضي 1/49-50) .
--------------------------------------------------------------------------------
هذا عن عمارة: أما غيره فقد كان أقل جرأة وتقحماً للضلال منه ؛ لعلمه بخطورة تصحيح أديان الكفار ومذاهبهم ، فاكتفى بتسويغ الخلاف بين الفرق الإسلامية المتنوعة، مدعياً أن هذا من قبيل "التعددية" و"التنوع" المحمود!(5/2)
وخير مثال لهؤلاء: الدكتور محمد سليم العوا الذي ألف كتاباً سماه "التعددية في الإسلام" أقر فيه الاختلاف بين الفرق المنتسبة للإسلام، وسوغ لها انحرافها عن الحق بالدعاوى السابقة، ورد حديث "الافتراق" ثم قال (ص 28): (فالأخوة الذين يعولون عليه في رفض التعددية، أو في تعداد الفرق الإسلامية عليهم أن يرجعوا إلى أهل الرواية؛ حتى يقفوا على مدى صحته)! وأهل الرواية عنده هم محمد عمارة!! الذي نقل تكذيبه للحديث.
وعمارة والعوا وأضرابهما ممن لم يتشربوا العقيدة الصحيحة التي توضح لهم الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية لله عز وجل -كما سيأتي- يقعون حتمًا في هذا الخلل العقدي الخطير.
لكن ما بال من تلقى العقيدة السلفية الصافية منذ نعومة أظفاره يتابع هؤلاء على انحرافهم ، ويقع فيما وقعوا فيه ؟!
فها هو الأستاذ إبراهيم البليهي – هداه الله - في مؤتمر الحوار الوطني الأخير يثني على هذا الاختلاف بين المسلمين ويسوغه ، ويزعم أنه "هو علة وجودهم" كما يقول! ويحمل على هذا الفهم الباطل قوله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم).
وها هو الأستاذ محمد المحمود الكاتب بجريدة الرياض ( 5/6/1425) يكتب مقالاً إنشائيًا بعنوان "مسائل الخلاف : شرعية مع وقف التنفيذ " ، يقول عن الخلاف بين الأمة ( فكذلك ينبغي أن يدوم ويعمم بأقصى درجة ممكنة ) !! ثم يدعو إلى السماح بتطبيق كل خلاف مهما كان على أرض الواقع ! وفاته أن نهاية هذه الدعوة ستؤول إلى الزندقة والتنصل من أحكام الشريعة ، لكن بأسلوب يُزعم له أنه شرعي ! كما قال الشاعر الماجن :
فاشرب ولط وازن وقامر واحتجج *** في كل مسألة بقول إمام !
يعني بذلك : شرب النبيذ وعدم الحد في اللواط على رأي أبي حنيفة ، والوطء في الدبر على ما يُعزى لمالك ، ولعب الشطرنج على رأي الشافعي .
--------------------------------------------------------------------------------(5/3)
كيف أتي هؤلاء ؟!
لقد أُتُوا من عدم تفريقهم بين إرادة الله الكونية التي لا تستلزم الرضا والحب، وبين إرادته الشرعية التي تستلزم ذلك .
فالكفر والمعاصي –مثلاً- واقعة بإرادته سبحانه الكونية، ولا يستلزم ذلك محبته لها ورضاه عنها، بخلاف الإيمان والعمل الصالح فهي واقعة بإرادته الكونية، وهو مريد لها شرعاً بما يستلزم محبته ورضاه عنها.
والقرآن قد وردت فيه آيات كثيرة تدل على كل واحدة من الإرادتين والمشيئتين.
فمن آيات الإرادة الكونية قوله تعالى (وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له).
ومن آيات الإرادة الشرعية قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( إن الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه ، وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره ) . ( المنهاج 7 /72) .
وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص 79): (المحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خَلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية.
فالإرادة الشرعية: هي المتضمنة للمحبة والرضى.
والكونية: هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث).
فهؤلاء المفكرون عندما رأوا أن الله قد أراد هذا الاختلاف والتفرق بين البشر كوناً وقدراً ظنوا أن هذا مما يحبه الله ويرضاه! فرضوا به وسوغوه ، فيلزمهم على هذا تسويغ الكفر والمعاصي والرضا بها وعدم إنكارها !! لأنها واقعة بإرادة الله.
ولو فرقوا بين الإرادتين لما وقعوا فيما وقعوا فيه، ولعلموا أن وقوع الاختلاف والتفرق بين البشر كوناً وقدراً لا يستلزم الرضا به ومحبته وتسويغه ، بل هو مما يبغضه الله سبحانه وتعالى ويأمر عباده بإنكاره وعدم الوقوع فيه –كما سيأتي إن شاء الله-.(5/4)
فقوله تعالى ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) أي أراد بإرادته الكونية أن لا يقسر الناس على الايمان قسرًا ، بل جعل لهم مشيئة وإرادة ، ليكون الناس بعد ذلك فريقين : فريقًا للاختلاف وفريقًا للرحمة ، وهذا ما عناه بعض المفسرين عندما قال : " وللاختلاف خلقهم " .
وليس معناها كما يظن عمارة ومن معه أن الله أذن لهم بالاختلاف ورضيه !
قال الطبري: (إن الله جل ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل، والآخر أهل حق، ثم عقب ذلك بقوله (ولذلك خلقهم) فعم بقوله (ولذلك خلقهم) صفة الصنفين؛ فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميسر لما خلق له.
فإن قال قائل: فإن كان تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفين غير ملومين على اختلافهم إذ كان لذلك خلقهم ربهم، وأن يكون المتمتعون هم الملومين ؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم؛ إلا من رحم ربك فهداه للحق، ولعلمه وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكفار والتقي والسعيد). (15/537-538).
وسئل مالك عن قول الله (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) قال: خلقهم ليكونوا فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير (الطبري: 15/536).
وقال ابن حزم: (قد نص الله تعالى على الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به؛ وإنما أراده تعالى إرادة كون، كما أراد كون الكفر وسائر المعاصي). (الإحكام في أصول الأحكام، 5/64).(5/5)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن قوله تعالى (وما خلقت الجن الأنس إلا ليعبدون): (اللام لبيان الجملة الشرعية المتعلقة بالإرادة الشرعية؛ كما في قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقوله (يريد الله ليبين لكم) الآية، وقد تكون لبيان العاقبة الكونية؛ كما في قوله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) الآية، وهكذا كقوله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) أي خلق قوماً للاختلاف وقوماً للرحمة) (الفتاوى 4/236).
وقال أيضًا : (خلق قوماً للاختلاف، وقوماً للرحمة) الفتاوى 4/236).
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي : (قوله: (ولذلك خلقهم) أي اقتضت حكمته أنه خلقهم ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة؛ ليتبين للعباد عدله وحكمته؛ وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء) (تفسيره 3/470).
وقال الشيخ حمد العثمان عن قوله تعالى ( ولايزالون مختلفين .. الآية ) :
( وبعض الجهال يستدل بهذه الأدلة على وجوب التسليم والإذعان للاختلاف، لأن الله أراده! وهذا يلتبس على من لا يفرق بين ما أراده الله وقضاه كوناً، وما أراده وقضاه شرعاً.
فالخلاف مما قضاه الله وأراده كوناً لحكمة بالغة، حتى يتميز المتبع من المبتدع، ويقوم المتبع بمجاهدة المبتدع بالحجة والبيان.
فالخلاف كالكفر باعتبار إرادة الله له كونا، فالله لا يحبه، ولكنه سبحانه شاءه وأراده إرادة كونية قدرية ). ( دراسة نقدية لقاعدة المعذرة والتعاون ، ص 30).
--------------------------------------------------------------------------------(5/6)
ثم هذه الدعوة الباطلة التي يدعو إليها هؤلاء بتسويغهم الاختلاف بين الأمة تنافي الآيات والأحاديث الآمرة لها بعدم التفرق والاختلاف ، والمحذرة لهم من هذا الأمر الذي وقع فيه من قبلهم .
ومن ذلك قوله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة : ( لا تختلفوا ) .
( وانظر باقي الأدلة في كتاب " الاعتصام " للشاطبي ، رسالة " وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق ، للشيخ جمال بادي " ورسالة " إتمام النعمة والنعمة في ذم اختلاف الأمة ، للشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن " ورسالة " ذم الفرقة والاختلاف في الكتاب والسنة ، للشيخ عبدالله الغنيمان " ).
فالأمة الإسلامية مأمورة بتجنب الاختلاف ، فإن وقع شيئ منه ؛ فهي مأمورة بحسمه بالرجوع إلى الكتاب والسنة ، لا تسويغه ومدحه ؛ كما يظن أولئك.
قال المزني: ( ذم الله الاختلاف، وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة ) يعني قوله تعالى (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) وقوله (وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول).
--------------------------------------------------------------------------------
فإن قيل : وماذا نصنع بتفرق الأمة الحالي واختلافها إلى فرق ومذاهب شتى ؟!
فالجواب :
1 - أن لا نرضى هذا التفرق والاختلاف ، ولا نسوغه وندعي أنه أمر مشروع .
2- أن نحاول حسمه بالرجوع للكتاب والسنة بفهم السلف الصالح ، وننكر على أهل البدع والمخالفات بدعهم ومخالفاتهم ، ونناصحهم ( بالضوابط الشرعية التي بينها العلماء ) .(5/7)
3- فإن استجابوا فالحمد لله ، وإن لم ينتهوا فإننا نثبتُ على الحق والتحذير مما خالفه ، ولا نتنازل عن شيئ منه لأجل تقريب موهوم معهم . قال تعالى ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ، وقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) .
--------------------------------------------------------------------------------
هل يدخل أهل السنة في أهل الاختلاف المذموم ؟!
قد يقول قائل : وماذا عن أهل السنة المختلفين في مسائل الفقه ، هل يدخلون في أهل الاختلاف الذين ذمهم الله تعالى ؟!
فالجواب ماقاله الشاطبي رحمه الله :
( قد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال " أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضيرهم " .
يعني : لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها يقطع العذر ، بل لهم فيه أعظم العذر ، ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع ، أتى فيه بأصل يُرجع إليه ، وهو قول الله تعالى ( فإن تنازعتم في شيئ فردوه إلى الله والرسول ) فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يُرد إلى الله ، وذلك رده إلى كتابه ، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك رده إليه إذا كان حيًا ، وإلى سنته بعد موته ، وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم .
إلا أن لقائل أن يقول : هل هم داخلون تحت قوله تعالى ( ولا يزالون مختلفين ) أم لا ؟
والجواب : أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه :
أحدها : أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكور مباينون لأهل الرحمة ؛ لقوله ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) ، فإنها اقتضت قسمين : أهل اختلاف ومرحومين ، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف ، وإلا كان قسم الشيء قسيماً له، ولم يستقم معنى الاستثناء .(5/8)
والثاني : أنه قال فيها ( ولا يزالون مختلفين ) فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم ، حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت ، وأهل الرحمة مبرؤن من ذلك ؛ لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة ، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريًا لقصد الشارع فيها ، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره ، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول ، فلم يكن وصف الاختلاف لازمًا له ، ولا ثابتًا ، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والانقطاع أليق في الموضع .
والثالث : أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة ؛ وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم ، بحيث لا يصح إدخالهم في قسيم المختلفين بوجه ، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودًا من أهل الاختلاف – ولو بوجه ما – لم يصح إطلاق القول في حقه : إنه من أهل الرحمة . وذلك باطل بإجماع أهل السنة .
الرابع : أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربًا من ضروب الرحمة ، وإذا كان من جملة الرحمة ، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجًا من قسم أهل الرحمة ) . (الاعتصام 3/122-124) ( وانظر : مقدمات في الأهواء ، للشيخ ناصر العقل ،ص 32).
قلت : يعني بالرابع : مثل قول الإمام أحمد لما قال لمن ألف كتاب الاختلاف :" سمه كتاب السعة " ، ومثل قول عمر بن عبدالعزيز عندما قال : " ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا ، لأنه لو كان قولا واحدًا كان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يُقتدى بهم ، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة " .
وهذا كما قال القاضي إسماعيل : ( إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي ، فأما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا . ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا )(5/9)
قال ابن عبدالبر معلقًا : ( كلام إسماعيل هذا حسن جدًا ) .( جامع بيان العلم ، ص 395).
وقال الدكتور عبدالسلام المجيدي : ( المراد من كون الاختلاف رحمة ومن قول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله إن صح عنه : هو السعة في جواز أصل الاجتهاد ، فكما حل لهم الاجتهاد حتى اختلفوا ؛ حل لمن بعدهم ، فالرحمة في جواز أصل الاجتهاد ، وفيما أدى إليه اجتهادهم في المسائل الاجتهادية ، لا فيما أدى إليه اجتهادهم في كل مسألة ورد فيها خلاف ) . ( لا إنكار في مسائل الخلاف ، ص 154-155) .
إذًا : فليس معنى التوسعة في الخلاف التشهي بين الأقوال المختلفة ، كما يظن البعض . قال شيخ الإسلام : ( وأما قول القائل : كلٌ يعمل في دينه الذي يشتهي ، فهي كلمة عظيمة يجب أن يُستتاب منها ، وإلا عوقب ، بل الإصرار على مثل هذه الكلمة يوجب القتل ، فليس لأحد أن يعمل في الدين إلا ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دون ما يشتهيه أو يهواه ) . ( الفتاوى 22/240) ( وانظر : دراسة نقدية ..للعثمان ) .
--------------------------------------------------------------------------------
فأهل السنة – ولله الحمد – مجتمعون على أصول واحدة ، وخلافاتهم الفقهية يُرجع فيها إلى الدليل ، فإن كانت من المسائل الاجتهادية – وهي قليلة – عذر بعضهم فيها بعضًا ، ولم يُنكر عليه . وإن كانت ليست مسألة اجتهاد ، بل الدليل فيها بيّن ؛ أنكر على المخالف .
( ولمعرفة الفرق بين المسائل الخلافية التي يُنكر فيها على المخالف ، والمسائل الاجتهادية التي لايسوغ فيها الإنكار ؛ ارجع إلى هذه الرسائل المهمة : " الاختلاف وماإليه " للشيخ محمد عمر بازمول ، و " حكم الإنكار في مسائل الخلاف " للدكتور فضل إلهي ، و " حجج الأسلاف في بيان الفرق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف " للشيخ فوزي الأثري ، وبحث " الإنكار في مسائل الخلاف " للدكتور عبدالله الطريقي ، منشور في مجلة البحوث ، عدد 47 ) .(5/10)
وبهذا تجتمع الأمة على الحق وتأتلف ، وتستجيب لقوله تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ) .
أما من يريد بقاء الأمة على اختلافاتها ، ويسوغ لها ذلك ، فهو مريد لها استمرار الهوان والضعف ، سواء قصد هذا أم لم يقصده ، كما قال تعالى ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) .
والله الهادي والموفق .(5/11)
ثقافة التلبيس (6) : مصطلح التسامح
سليمان بن صالح الخراشي
كثر الحديث من بعض الإعلاميين بعد أحداث العنف التي مرت بها بلادنا عن " التسامح " ، مطالبين بنشر ثقافته بين الناس بدلا عما يسمونه " ثقافة العنف والكراهية " !
والتسامح كلمة قريبة من نفوس المسلمين ، محببة إليهم ؛ لما تحمله من معانٍ سامية جاءت نصوص شرعية كثيرة بالثناء على أهلها ؛ كحديث " رحم الله عبدا سمحًا إذا باع سمحًا إذا اشترى سمحًا إذا تقاضى " وحديث " اسمح يُسمح لك " وحديث " دخل رجل الجنة بسماحته " .. إلى غيرها من الأحاديث الصحيحة . ( انظر : صحيح الترغيب والترهيب للألباني ، 2/326 ومابعدها ) .
ولكن : قد عودنا علماء الإسلام النابهين عند الحكم على مصطلح حمال أوجه ؛ كمصطلح " التسامح " أن نستفصل من مطلقه عما يريد به ؟ فإن أراد حقًا أيدناه ، وإن أراد باطلا رددناه عليه وبينا مغالطته وتلاعبه بالألفاظ . لا سيما إذا كان مروج هذا المصطلح من غير المأمونين على دين المسلمين وأخلاقهم ! ومن متابعي دعوات الغرب وأفكارهم .
ـــــــــــــــــــــــــ
ومصطلح " التسامح " هذا قد كان له وهج عند الغربيين في فترة من تاريخهم القريب الحافل بالصراعات الدينية بين طائفتي " الكاثوليك و البروتستانت " على وجه الخصوص .
ثم جاءت الدعوة إلى التسامح من بعض مفكريهم لإنقاذ المجتمع الغربي من هذا الصراع الذي راح ضحيته ألوف من الفريقين .
ويعنون بالتسامح الذي دعوا إليه : نشر العلمانية اللادينية، وتقبل ما يسمونه التعددية مهما كانت ، وأن يُجعل الدين مجرد علاقة بين المرء وربه ، لادخل لها بشئون الحياة .
وقد أجاد الدكتور عبدالرحمن بدوي في مقدمته الحافلة لرسالة " جون لوك " عن التسامح في تتبع نشأة هذه الفكرة بين المفكرين الغربيين ، وأسبابها ، وملخصها . ( فليرجع إليها من يريد التوسع ص 7-61) .(6/1)
فإن كان للنصارى عذر في الدعوة إلى هذه الفكرة العلمانية التي تخلصهم من تسلط رجال الدين " المحرف " وطغيانهم ، فما عذر بعض أبناء المسلمين من الكتاب والكاتبات عندما يتهافتون لترويج هذه الفكرة العَلمانية التي تعارض أحكام الإسلام خاتم الأديان الذي تكفل الله بحفظه ، وجعله صالحًا مصلحًا لأتباعه إلى يوم الدين ؟!
أقوال أهل الإسلام في مصطلح " التسامح " :
قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ:"التسامح موجود في الدين الإسلامي، قال تعالى: ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيئ فاتباع بالمعروف وآداء إليه بإحسان ) ، (وأن تعفوا أقرب للتقوى ) الآية.
ليس التسامح خاصاً بما يُنشر عن دين المسيح عيسى ابن مريم، بل التسامح في الإسلام، لكن تسامح الإسلام تسامحٌ في حزم؛ أي أنه يُشرع التسامح في الموضع الذي يكون فيه التسامح خيراً.
أحياناً لا يكون التسامح خيراً، ولهذا قيد الله عز وجل العفو بالإصلاح فقال: ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) ؛ لأن العفو أحياناً لا يكون حميداً ، أحياناً يكون العفو سبباً لتسلط الأشخاص واستمرارهم في شرورهم، وإذا أُخذوا بالحزم وعوقبوا بما تقتضيه جرائمهم من العقوبة، كان في هذا خير كثير وكف أذى، ولهذا يجب ألا نحكم العاطفة في العفو عن الجناة في كل حال، بل يجب أن يكون لدينا رأفة ورحمة ، وأن يكون لدينا حزم وعزيمة وقوة.
ألم تسمعوا قول الله ـ عز وجل ـ : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) فنهى الله تعالى عن الرأفة للزاني والزانية، مع أن الرأفة مطلوبة، ومن أسماء الله الرؤوف لكن الرأفة لها محل، والحزم والأخذ بالعقوبة له محل آخر). (اللقاء الشهري (11/7 ـ 8).(6/2)
وقال الشيخ محمد بن إسماعيل معلقاً على هذه الكلمة: "اعلم ـ أخي المسلم ـ أن بعض الناس يخلطون بين لفظة (التعصب) ولفظة (التسامح) خلطاً معيباً يؤدي إلى خلل في دينهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فإذا سمعك أحدهم مثلاً تقول: "لا يجوز الترحم على اليهودي أو النصراني، لأنه لا يدخل الجنة"، اعتبر هذا تشدداً وتعصباً، وتشدق بأن رحمة الله واسعة، وَعدّ نفسه متمسكاً بسماحة الإسلام !!
ولكشف النقاب عن هذا الخلط نقول:
إن التعصب والتسامح لا يكونان إلا في المعاملة، فالتعصب: أن تعامل الذميِّ اليهودي أو النصراني بحيف، وتبخسه حقه، والشرع يأبى ذلك ولا يرضاه، والتسامح: أن تعامله بالعدل والإنصاف، وتعاشره بالمجاملة والألطاف، وأن تحسن جيرته إن كان جاراً لك، وأن تصله إن كان من قرابتك، غير أنك لا تعطيه من زكاة مالك، ولا من زكاة فطرك، لأنهما خاصتان بفقراء المسلمين، ولا بأس أيضاً بجريان بعض المعاملات الدنيوية بينك وبينه كقرض أو نحوه مما لا تعلق له بالدين، وشرط هذا كله أن لا يكون محارباً.(6/3)
ومع هذا يجب عليك أن تعتقد اعتقاداً حازماً لا تردد فيه أنه على باطل، وأنه إن مات كافراً لا يجوز الترحم عليه ولا الدعاء له بالمغفرة، قال تعالى: ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل ) من الخير ؛كصدقة، وصلة رحم، وإغاثة ملهوف ( فجعلناه هباء منثورا ) ، لا ثواب له في الآخرة، وهذه الآية تفيد أنه لا يوجد منهم ولي أو قديس كما يقولون، لأن الولاية أو القداسة نتيجة العمل الصالح المقبول، وعملهم غير مقبول، لبطلان دينهم المخالف للإسلام ( ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) . وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة، لا يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه الإمام أحمد ومسلم، فمن جوز وجود ولي منهم أو تبرك بأحد قديسيهم، فقد تخلى عن عقيدته ودينه، إذ التساهل في شيء من العقيدة لا يكون تسامحاً كما ظن المخلطون الواهمون، لكنه تنازل عنها، يلزم منه الخروج من الدين، لأنه مبني على العقيدة، فإذا فُقِدت فُقِد، فينبغي عدم إقراره على كفره، وعدم الرضا به، وبغضه ببغض الله تعالى له، وعدم موالاته وموادته قال تعالى: ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) ، وعدم التشبه به، وعدم إنكاحه المؤمنة، وعدم بداءته بالسلام، وأن يضطره إلى أضيق الطريق فهذا كله من التمسك بالدين وليس من التعصب في شيء، والتفريط فيه ليس تسامحاً، ولكنه تنازل عن حدود الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى أعلم) . ( عودة الحجاب، (1/274).
وقال الدكتور أحمد القاضي: "إن مفهوم التسامح الذي يتكئ عليه دعاة التقريب مفهوم فضفاض يتضمن حقاً وباطلاً، يحتم ضرورة الاستفصال عن المدلول المراد:(6/4)
فإن أريد بالتسامح : العفو والصفح في المعاملة، بالتنازل عن بعض الحقوق الشخصية مالية أو معنوية، أو ما يحيله الشرع الإسلامي إلى اجتهاد ولاة أمور المسلمين في معاملة الحربيين من المنِّ أو الفداء، حسب ما تقتضيه السياسة الشرعية، أو منح الذميين والمعاهدين والمستأمنين في المجتمع الإسلامي حقوقاً مدنية، وإذناً في البقاء على دينهم وعباداتهم، من غير إكراهٍ لهم على اعتناق الإسلام، فهو حقٌ جاء به الإسلام، وحفل به تاريخه، وفاق به جميع الأنظمة القديمة والحديثة، وقد شهد له بذلك الأعداء ، فهو بهذا المدلول فضيلة خلقية، ومنهجٌ نبيل في العلاقات الدولية، والتنظيم الاجتماعي، لا يثلم عقيدة، ولا يهدر كرامة، ولا يضيع حقاً.
وإن كان التسامح يعني المداهنة، وإعطاء الدنية في الدين، وتسوية المسلمين بالمجرمين، وإدانة سبيل السابقين الأولين من المؤمنين، وإباحة جناب المجتمع المسلم لجحافل المنصرين والملحدين لإشاعة الفاحشة الفكرية والخلقية في الذين آمنوا، باسم "الحرية الدينية" و"التعددية الثقافية"، و"التنوع الحضاري"، وما شابهها في زخرف القول، بحجة تحسين صورة الإسلام والمسلمين في أذهان الغربيين، فما هذا بتسامح، بل خنوع واستخذاء، ونزع للباس التقوى.(6/5)
يقول أحد دعاة التقريب: "إن التسامح يعد خطاً حضارياً يقضي بمنح الآخرين حرية التعبير عن الآراء والأفكار التي تغاير الآخرين، كما يسمح بالعيش وفقاً للمبادئ والمعتقدات التي لا ندين بها سوية، إن التسامح أصبح إذاً مسألة لا يمكن فصلها عن الحرية وحقوق الإنسان، إن التسامح يجب أن يشمل الجميع، وكل الأديان على وجه الأرض، إن العالم العربي مدعوٌ في المستقبل القريب إلى أن لا يواصل تجاهله لوجود عدة بلايين من البشر على وجه البسيطة، من الذين لا يدعون الانحدار من إبراهيم، ولا يعني ذلك أبداً أن حضاراتهم وأنماط تفكيرهم غير جديرة بالتقدير والاحترام، مثلما هو الشأن لحضارتنا ونمط تفكيرنا، بل يجب علينا إذاً نحن المسلمين أن نطبق على الآخرين ما نطالب به لأنفسنا".
هذا مؤدى مفهوم التسامح الذي ينادي به دعاة التقريب، يضفي عباءته الفضفاضة على كل مشركٍ وثني، فضلاً عن اليهودي والنصراني، ويمنحه التقدير والاحترام من جهة حضارته وعقيدته، ويتيح له أن يجهر بالسوء من القول!
إن الغرب الذي يخطب هؤلاء التقريبيون وده، لا يكف ليلَ نهار عن تشويه الإسلام في وسائل الإعلام والسخرية من أهله، ولا يعوزه للقيام بهذا الصد عن سبيل الله وجود تصرفات طائشة مرفوضة تتسم بالعنف والعدوان من بعض المنتسبين إلى الإسلام، كما لن يوقفه بالمقابل اطراح هؤلاء التقريبيين بين أيديهم في ضعة وانخذال، فتلك عقيدة راسخة، وطبيعة متأصلة في نفوسهم، منذ فجر الإسلام ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) ، ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) .(6/6)
إن كل جريمة ترتكبها مجموعة دينية أو عرقية أو ثورية في أنحاء العالم، لا تنسب في لغة الإعلام الغربي إلى الدين الذي تنتمي إليه تلك المجموعة، أو حتى الفرد، إلا حين تصدر عن مسلمين، فيقال رأساً: (الإرهاب الإسلامي) و(الإرهابيون المسلمون)، ولا يقال لجرائم الصرب الفظيعة في البوسنة وكوسوفا (إرهاب أرثذوكسي)، ولا لعمليات الألوية الحمراء في إيطاليا (إرهاب كاثوليكي)، ولا لتفجيرات الجيش السري الإيرلندي (إرهاب بروتستانتي)، ولا لأعمال القمع التي يمارسها الجيش الإسرائيلي يومياً (إرهاب يهودي)، بل لا يقال لمجازر الهنود القوميين، وهدمهم لمساجد المسلمين (إرهاب هندوسي)، ولا لعمليات الجيش الأحمر الياباني (إرهاب بوذي). كما لا توصف حملات التشويه والتشهير الإعلامي ضد الإسلام في الغرب بالتطرف وعدم التسامح. ودعاة التقريب، بحكم ثقافاتهم الغربية غالباً، يدركون هذه الحقائق جيداً ، فلا يزيدهم ذلك إلا تقرباً إلى الخصم الذي لا يمل من الابتزاز.
إن تحسين صورة الإسلام في أذهان الغربيين، والناس أجمعين، وإبراز محاسن الإسلام، لا يكون إلا بالتمسك به، والتأدب بآدابه، والدعوة إليه، ولا يكون أبداً بانتقاصه، واجتزائه، والتخلي عن شيء منه قرباناً إلى الكافرين، وموالاةً لهم من دون المؤمنين.
يقول الأستاذ سيد قطب : "إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين الأديان السماوية، يخطئون فهم معنى الآيات، كما يخطئون فهم معنى التسامح، فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله، والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي، ولا في النظام الاجتماعي" ) . ( دعوة التقريب بين الأديان، (4/1525ـ1528) .
ـــــــــــــــــــــــــ(6/7)
ويقول الدكتور محمد يحيى : (إن دعوى (التعددية) تخفي وراء مظهر التسامح والرحابة الفكرية البراق دعوةً عنصرية لفرض ثقافات وقيم وتوجهات الغرب على الثقافات الأخرى ، وبالذات على الإسلام بوصفه ديناً وعقيدة وثقافة .
وبجانب ذلك : فإن دعوة (التعددية) تسوي بين جميع الأطراف الداخلة فيها ، فلا يصبح هناك حق وباطل ، أو جيد ورديء ، أو أعلى و أدنى ، بل الكل سواء طالما أنه دخل في سياق (التعددية) ، فلا يوجد فرق بين بوذي ، وهندوسي ، ، وبهائي ، وقادياني ، ويهودي ، ونصراني ، وزرادشتي ... ومسلم ؛ لأن الجميع أديان وعقائد داخلة في (التعددية) ، فليس لأحد منها فضل على الآخر أو الحق في القول : بأنه دين الحق .
والمحصلة النهائية مرة أخرى هي علمنة الإسلام ، أي : نزع القداسة والمنزلة الإلهية عنه ، وتحويله إلى نِحلة بشرية الوضع تضاف إلى النّحَل البشرية الوضع أو " العلمانية " ! ) .
ويقول – أيضًا - : ( تفاخر العلمانية الأوروبية ويتباهى معها وكلاؤها المحليون في البلاد الإسلامية بأن أعظم إنجازاتها كانت في إحلال روح التسامح الديني محل التعصب الذي رمزوا له بمحاكم التفتيش المشهورة في التاريخ ، التي لا يذكر أحد في العادة أن الكثير من ضحاياها كانوا من مسلمي الأندلس المقهورة قبل أن يكونوا من النصارى أنفسهم ، وأياً كانت الحال فقد أقام العلمانيون وعلى مدى ما يقارب العقد من السنين في بلادنا المسلمة محاكم تفتيش خاصة بهم نصبوها على صفحات الجرائد
والمجلات وموجات الأثير ومنابر الثقافة التي سلمت لهم ، بل وجُعلت حكراً خاصاً بهم ) .
ويقول - أيضًا – في مقال بعنوان " خطاب السماحة " :
((6/8)
أصبحت الساحة الفكرية الإسلامية في بعض البلاد العربية حكراً على أنواع محددة وضيقة النطاق من الخطاب ؛ تمليها اعتبارات السياسة ، والتوجيه من أعلى ؛ خدمةً لمصالح وتوجهات لا علاقة لها بالإسلام بل على العكس : لها أوثق صلة بالتيارات العلمانية أو اللادينية . ومن أنواع الخطاب هذه ما يمكن أن نسميه بخطاب (السماحة) أو (التسامح) ، الذي اكتسب مكانة احتكارية في لغة الحديث والفكر الرسمي لأرباب ما يسمى بالمؤسسات الدينية في بلد مركزي مثل مصر ؛ التي
أقصر هذه الملاحظات عليها . ووفق هذا النوع من الخطاب نسمع دائماً مجموعة من العبارات والتوصيفات تتكرر من طراز : (الإسلام دين السماحة) ، أو (سماحة الإسلام) ، أو (الإسلام شريعة التسامح) وأشباهها . ويقترن بالإلحاح المتكرر (والممل) على أمثال هذه التوصيفات قصر الحديث في الموضوعات الإسلامية الفكرية أو الشرعية أو العقدية على المادة التي تفيد هذا التسامح أو توظف للدلالة عليها ، كما تلوي أعناق الخطب والعظات والمناسبات الإسلامية بتعسف واضح لكي يقتصر مغزاها ومعناها ومداها على إثبات هذا التسامح وفق المفهوم الذي يراه دعاة هذا الخطاب .
ويثير خطاب السماحة بهذا المعنى مشكلة أولية عندما يصبح هو الخطاب الوحيد أو الرئيس الذي يشغل الساحة الإسلامية ، ويُفرض على جمهور المسلمين . وهذه المشكلة هي ضياع سعة نطاق الفكر الإسلامي وثرائه وغناه ، والشعور بالنفور وعدم التصديق الذي ينتاب السامع لهذا الخطاب ؛ عندما يجد أن الإسلام كله قد اختزل في مفهوم واحد ، وأنه مفهوم قفز فجأة إلى السطح ، وفُرض فرضاً بفعل الظرف السياسي المشغول هو الآخر بهمٍّ وحيد ألا وهو مكافحة ما يسمى تارة بالإرهاب وتارة بالتطرف .(6/9)
والوضع الاحتكاري لخطاب السماحة هذا يؤدي في الواقع إلى إلغاءٍ للإسلام على مستويين : أولهما : هو مستوى الدعوة والفكر كما أسلفت ، عندما لا يعود هناك ما يقال للجماهير المسلمة في المنابر ووسائل الإعلام سوى كلمة واحدة هي أن
الإسلام دين التسامح ، وتختزل كل عقيدته وشريعته وتعاليمه في هذا الوصف المبهم الغامض . أما المستوى الآخر والأكثر خطورة فهو أن التسامح أو السماحة وفق المفهوم الذي يروّج له يعني في حقيقة الأمر إلغاء الدين الإسلامي نفسه ؛ من فرط
الحرص على ما يوصف بأنه حساسيات ومشاعر الآخرين (غير المسلمين) ، ويقودنا هذا إلى البحث بشكل أكثر عمقاً في محتوى هذا المفهوم كما ينشره القائلون به ضمناً وصراحة .
إن الذين يروّجون لخطاب السماحة كما أسميه ويختزلون الإسلام على سعته ؛ لا يقصدون أبداً ما يترامى إلى الذهن المسلم في معان تقترن بهذا المفهوم كما تعلمها من تعاليم دينه ؛ فليس المقصود سلوكاً شخصياً من اللين والرقة والسهولة في
التعاملات ، والبعد عن الخشونة والجلافة ، وليس المقصود البعد عن اللدد في الخصومة والتشفي والملاهاة والجدل والرفث ، وليس المقصود الحلم والأناة والصبر الجميل وحسن السياسة والكياسة في العلاقات ، وليس المقصود سعة الصدر وسعة
الرأي والجدل بالتي هي أحسن ورحابة الذهن في الفهم .
في الجملة : ليس المقصود سلوكاً وقيماً ومشاعر وتوجهات شخصية يتسم بها المسلمون في تعاملاتهم الاجتماعية على تنوعها من تجارية أو فكرية أو غير ذلك ؛ بل المقصود حسبما نقرأ ونستدل هو مسلك يراد له أن يسود على صعيد العقيدة(6/10)
والشريعة وأحكامها ، وعلى صعيد العلاقات بالذات مع غير المسلمين وليس في علاقات المسلمين بعضهم مع بعض . ومفهوم السماحة والتسامح كما يروّج له هذا الخطاب الاحتكاري المغرض يعني ببساطة : أن يتساهل المسلمون في الطرح العقدي والتشريعي ويخفّضون منه ، أو حتى يخفونه في علاقاتهم مع العقائد والأديان الأخرى ، والدول والهيئات والتيارات العالمية التي تمثلها ؛ وذلك بحجة مزعومة هي الحفاظ على السلام والوئام الدولي . فالتسامح والسماحة كما يرى أولئك هو ألا يجعل المسلم من عقيدته وشريعته بتعاليمها وأحكامها حاجزاً يعوقه عما يسمى بالتعاون الدولي ، مع عقائد وأديان أخرى حتى وإن كان ممثلو هذه العقائد أفراداً وجماعات يمارسون الاحتلال والاستيطان والتبشير والتنصير والقتل والتنكيل بالمسلمين !
والسماحة لديهم هي ألا يطرح المسلمون عقيدتهم التوحيدية في وجه عقائد غيرهم الشركية أو المنحرفة ؛ حتى ولو كان هذا الطرح لا لشيء إلا ليحفظوا أبناءهم من زيغ تلك العقائد وهي تُروّج بينهم ليل نهار بكل أدوات الاتصال من
التعامل الشخصي ، إلى البث على الأقمار الصناعية والإنترنت . والتسامح في نظرهم هو أن ينحّي المسلمون عقيدتهم وشريعتهم جانباً ، أو يبعدوهما تماماً في تعاملاتهم مع غير المسلمين من شتى الأطراف الدولية ؛ فهذا هو التحضر والمسلك التعاوني حتى ولو كان هؤلاء من غير المسلمين لا يتعاملون مع المسلمين إلا من منطلق عقيدتهم وتعاليمهم هم سواءً أكانت دينية أم دنيوية .(6/11)
وغني عن البيان أن هذا المفهوم للسماحة أو التسامح الذي يُفرض فرضاً على الساحة الفكرية الإسلامية إلى حد احتكارها ، لا ينطلق من حرص على دين أو عقيدة أو حتى تعاون مزعوم مع غير المسلمين ؛ بل هو نتاج وضع معروف من أوضاع التبعية للغرب تحرص فيه النخب العلمانية صاحبة السلطة والنفوذ على أن تُرضي الأسياد في الغرب من يهود ونصارى وملحدين ؛ بأن تضمن لهم أن الإسلام الذي يخافون منه سيظل أسيراً مقيداً لا يطاولهم في مجال العقيدة ، ولا يصاولهم في
مجال بناء الحضارة والوصول إلى القلوب والعقول . ومفهوم التسامح والسماحة بهذا المعنى الخاص الذي يُروّج به من خلال بعض الدوائر المشبوهة يصبح مفهوماً غير حضاري أو إنساني ؛ بل مجرد أداة لقمع الفكر والطرح الإسلامي وكبته وتكبيله عن
أن ينطلق ويسري ، بحجة غريبة هي أن طرح هذا الفكر والعقيدة والتمسك والاعتزاز بهما ينافي فكرة السلام العالمي والتعاون الدولي رغم أن غير المسلمين على اختلاف نحلهم لا ينطلقون في تعاملاتهم الدولية إلا من هذا السياق العقدي الخاص بهم .
وليس أدل على ما نقول به من انحراف هذا المفهوم وشذوذه من أن الذين يروّجون له يطبقونه على من يشاؤون ولا يطبقونه على المسلمين ، وكأن سماحة الإسلام قصد بها أن تسري على الكفار ولا تسري على المؤمنين ، وإذا قرأنا
الصحف وتابعنا الإعلام فسنجد أن دعاة السماحة يستقبلون حاخامات إسرائيل وكنسيي الأمريكان ؛ لكنهم عندما يختلفون مع علماء يفترض أنهم زملاء بل وأساتذة لهم يركبهم اللدد في الخصومة ويشردون بهم بين قاعات المحاكم وعسف الأجهزة الإدارية والأمنية .
ويقف كبير دعاة التسامح ليدافع عن أستاذ جامعي أنكر وحي القرآن ليقول عنه إنه مجتهد قد يصيب وقد يخطئ ؛ لكنه في الوقت نفسه يستغل منصبه المسيطر على المساجد ليفصل ويُوقِف الأئمة الفضلاء ، واصفاً إياهم بالإرهاب والتطرف ،(6/12)
لا لشيء سوى أنهم راجعوه في بعض مواقفه التي فاحت منها رائحة التحلل من الدين مثل إغلاق المساجد ، وتحويل الخطب والمواعظ بالأمر إلى ترويج أفكار العلمانيين .
ولو استعرضنا التعبير المشهور الذي راج في بعض الأوساط (الثورية) لقلنا : إن لسان حال خطاب التسامح يعلن أن (السماحة كل السماحة لأعداء الإسلام والغرب ولا سماحة للمسلمين) ، والتسامح مع حاخامات الصهاينة وقساوسة الشرق
والغرب بل حتى جزاري الصرب ؛ أما شباب الإسلام ودعاته فليس لهم إلا السجن والقتل والمنع والحظر !
إن السماحة أو التسامح من القيم الإسلامية بل والإنسانية ، وقبل كل شيء يجب ألاّ يتحول الإسلام أو يُختزل في كلمات مبهمة تُروّج ؛ لا من باب نشر الفكرة الإسلامية (على تهافت هذه الطريقة) ؛ وإنما لكي ترضى عن الإسلام جهات علمانية
هي بطبعها لن ترضى عن المسلمين إلا إذا اتبعوا ملتها ). ( مجلة البيان ، الأعداد بالترتيب : 100، 116، 134) .(6/13)
ثقافة التلبيس (7) : الإسلام دين العدل لا المساواة
سليمان بن صالح الخراشي
يخطئ بعض الكتّاب والمؤلفين والمتحدثين عندما يصفون الإسلام بأنه ( دين المساواة ) هكذا بإطلاق ، ويعدون هذا الوصف منقبة له إذ ساوى بين الناس جميعًا – كما يزعمون - .
وتجد هذا كثيرًا عند حديثهم عن موقف الإسلام من غير المسلمين ، أو موقفه من حقوق الإنسان ، أو موقفه من المرأة ..
متوهمين أن " صفة المساواة " صفة مدح في جميع أحوالها ، فيلزمهم على هذا أن يساووا بين أحكام المسلم وأحكام الكافر ، وبين أحكام الرجل وأحكام المرأة ، وهي مما جاءت الشريعة بالتفريق بينها .
وقد فعل هذا العصريون للأسف ! عندما واجهتهم النصوص الشرعية التي تمايز بين من سبق ، فأخذوا يتكلفون طريقة التخلص منها ! إما بردها ، أو التغافل عنها ، أو تأويلها ..
حتى وصل بهم الحال إلى أن جعلوا المسلم - في الدنيا - كالكافر – والعياذ بالله - . بل تجاوز بعضهم في الضلال حتى جعلهم متساوين في أحكام الآخرة ! مشاقة لله عز وجل ، واتهامًا مبطنًا له جل جلاله بالظلم في أحكامه .
ومن طالع كتاباتهم علم هذا .
فيصدق على هؤلاء قوله تعالى : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} ، وقوله تعالى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } ، وقوله {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} .
وكذلك فعلوا في أحكام الرجل وأحكام المرأة إذ ساووا بينهما ، معتقدين أنهم بهذه الطريقة ينصرون المرأة المسلمة ، محملينها ما لم يُحمّلها الله .
وماعلم هؤلاء أن المساواة المطلقة لا وجود لها إلا في أذهانهم ، وأنها مخالفة ومعاندة لقضاء الله الشرعي والقدري .(7/1)
فقد فاوت سبحانه بين مخلوقاته ، ويسر كلّ مخلوق لما خُلق له . فالشمس غير القمر ، والرجل غير المرأة ... وهكذا . وفاوت كذلك بين من أطاع أمره ممن خالفه ، فجعل لكل واحد أحكامه التي تخصه بسبب اختياره وعمله .
فلو وفق هؤلاء الكتاب لأنزلوا كل مخلوق منزلته التي أنزله الله إياها ، موقنين بأن الله لا يظلم أحدا .
ولو وفق هؤلاء لقيدوا مساواتهم تلك ولم يُطلقوها ، فقالوا مثلا : الناس متساوون في الخلقة ، أو متساوون في حب زينة الحياة الدنيا ، أو في كراهية الظلم .. الخ مما جاءت الشريعة بتقرير المساواة فيه بين الناس .
وقل مثل ذلك في قضية الرجل والمرأة ؛ فتقيد المساواة ولا تُطلق ؛ فيقال مثلا : المرأة مساوية للرجل في التكليف ، أو في الجزاء الأخروي .... وهكذا ، مما جاءت الشريعة بتقرير مساواتهما فيه .
أما الإطلاق فلا ..
لأنه يلبس على الناس ، ويعارض قضاء الله وأحكامه - كما سبق - .
ومن الأمثلة على ماسبق : مافعله الدكتور فؤاد عبدالمنعم في كتابه " مبدأ المساواة في الإسلام " من محاولة متكلفة لتحقيق هذه المساواة التي لعلها ترضي الآخرين ! فأثبت الجهاد على النساء لعلهن يساوين الرجل ! ( ص 97 ) . وادعى أن للكفار ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ! ( ص 110 ) . وتبرأ من أن يكون للرق مكان في عالمنا الإسلامي ! ( ص 147) . ... الخ تكلفاته الباردة التي دعاه غليها افتتانه بهذه المساواة المطلقة الباطلة . رغم أنه اعترف في ( ص 67 ) : ( أن فقهاء الشريعة الإسلامية القدامى لم يتعرضوا في أبحاثهم لمبدأ المساواة ) . وقد صدق ! لأن علماء المسلمين لايقولون بهذا الباطل المناقض للنصوص الشرعية .. بل يرددون كثيرًا - اتباعًا للنصوص - أن الإسلام دين العدل .
ومن الأمثلة أيضًا :(7/2)
ما فعله صاحب كتاب " الإسلام والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين " د / عبدالمنعم بركه عندما زعم أن الكفار الذميين لهم الحق في تولي الوظائف العليا في دولة الإسلام ولو كانت الوزارة ! ( 198 ، 240 ) . وأن شهادتهم كشهادة المسلم ! ( 256 ) . وأن الجزية تسقط عنهم في هذا الزمان ! ( ص 312.. ) . وأنهم يساوون المسلمين في القصاص والدية ! ( 226 ) . وأنهم وأنهم .... الخ تمحلاته وتكلفاته التي يريد من خلالها إظهار الإسلام بمظهر المساواة الباطلة .
هذان مثالان لما جرته هذه العبارة الباطلة المخادعة .
فالواجب أن تُستبدل عبارة ( الإسلام دين المساواة ) بعبارة ( الإسلام دين العدل ) ؛ لأن العدل وضع الشيئ في موضعه الذي أراده الله له ، دون مجاوزة أو نقص .
وماعلمتُ أحدًا نبه على هذه المسألة كما نبه الشيخ العلامة محمد بن عثيمين - رحمه الله - في دروسه وكتبه ‘ إذ أفاد وأجاد في تقريرها .
ومن ذلك قوله - رحمه الله - في " شرح العقيدة الواسطية " ( 1 / 180-181 ) :
( إن من الناس من يستعمل بدل العدل المساواة ؛ وهذا خطأ ، لا يقال : مساواة ؛ لأن المساواة تقتضي التسوية بين شيئين ، الحكمة تقتضي التفريق بينهما ، ومن أجل هذه الدعوة الجائرة إلى التسوية صاروا يقولون : أي فرق بين الذكر والأنثى ؟ سووا بين الذكور والإناث ، حتى إن الشيوعية قالت : أي فرق بين الحاكم والمحكوم ؟ لا يمكن أن يكون لأحد سلطة على أحد حتى بين الوالد والولد، ليس للوالد سلطة على الولد ، وهلمَّ جرّا .
لكن إذا قلنا بالعدل وهو " إعطاء كل أحدٍ ما يستحقه " : زال هذا المحذور ، وصارت العبارة سليمة ، ولهذا لم يأت في القران أبداً : " إن الله يأمر بالتسوية " لكن جاء : { إن الله يأمر بالعدل } ، { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } .(7/3)
وكذب على الإسلام مَن قال : إن دين الإسلام دين المساواة ، بل دين الإسلام دين العدل ، وهو الجمع بين المتساوين والتفريق بين المفترقين .
أما أنه دين مساواة فهذه لا يقولها مَن يعرف دين الإسلام ، بل الذي يدلك على بطلان هذه القاعدة أن أكثر ما جاء في القرآن هو نفي المساواة : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } ، { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور } ، { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } ، { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } ، ما جاء ولا حرف في القرآن يأمر بالمساواة أبدًا إنما يأمر بالعدل ، وكلمة العدل أيضا تجدونها مقبولة لدى النفوس ،
فأنا أشعر أن لي فضلاً على هذا الرجل بالعلم ، أو بالمال ، أو بالورع ، أو ببذل المعروف ، ثم لا أرضى بأن يكون مساوياً لي أبدًا ). . اهـ كلامه رحمه الله
--------------------------------------------------------------------------------
وهذه بعض الأحكام الشرعية التي يختلف فيها الرجل عن المرأة استفدتها - بتصرف - من كتاب الدكتور مروان القيسي " المرأة المسلمة بين اجتهادات الفقهاء وممارسات المسلمين ، ص 123- 134) ، ومن أراد الزيادة في هذا فعليه برسالة " الأحكام التي تخالف فيها المرأة الرجل " للأستاذ سعد الحربي ، وخاتمة كتاب " حسن الأسوة " لصديق حسن خان .
الأحكام والمسائل التي ثبت فيها التفريق بين الرجل والمرأة:(7/4)
1- الميراث: قال تعالى: ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)، وقال تعالى : (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم) .
2- الشهادة وفيها تفصيل كما يأتي:
أ- لا تُقْبَل شهادة النساء في القصاص والحدود كافةً كحد الشُّرْب وقطع الطريق والقتل بالرِّدة وكذلك التعزيز فلا بد في كل هذه من شهادة رجلين إلا الزنا واللواط وإتيان البهائم فلا يُقْبَل فيها أقلُّ من أربعة رجالٍ لقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ" .
ب- ما يَطَّلِع عليه الرجال عادة كالنَّسب والطلاق والرَّجْعة والخُلْع والولادة والنكاح والوصية والتوكيل في المال فلابد فيها من شهادة رجلين .
ج- المعاملات المالية كالبيع والقَرْض والإجارة والرهن والوديعة والإقرار والغَصْب والوقْف، وكذلك قتل الخطأ لأن حقًا ماليًا يترتب عليه، فيكفي في هذا كله رجلان أو رجل وامرأتان لقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) .
د- ما لا يطَّلِعُ عليه الرجال عادةً وتَغْلِب على النساء معرفته والاطلاع عليه فتُقْبل فيه شهادة امرأتين كعُيُوب النساء تحت ثيابهن والولادة والبَكارة والثيوبة والقرْن (انسداد مَحَل الجماع بِعَظْم) والرتق (انسداد محل الجماع بلحم) والبَرَص. ولا يصح ما رُوِي عن حُذَيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة وحدها»(7/5)
ه- الرضاعة: وتقبل فيها شهادة امرأة واحدة عدل لقوله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري من حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه «كَيْفَ وَقَد زَعَمَتْ أنها قد أرْضَعَتْكُما» وتَرجم له البخاري بقوله: «باب شهادة المُرْضِعة» .
و- رؤية هلال رمضان وتُقبل فيه شهادة رجل مسلم واحدٍ عدلٍ أو شهادة مسلمةٍ واحدةٍ على السواء.
3- العقيقة: وهي ما يُذْبح من الأنعام عند الولادة إذ يُعَق عن الذكر شاتان وعن الأنثى شاة. قال صلى الله عليه وسلم «عَنِ الغُلامِ شاتان مُكَافِئتانِ وعن الجارية شاة».
4- الجهاد بالنفس فلا يجب على المرأة، وإنما تُجاهد بِمالها وكذلك بالحج «فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله هل على النساء جهادٌ؟ قال: نعم عليهن جهادٌ لا قتال فيه: الحَج والعُمرة» .
5- زيارة القبور .
6- العورة: ففي حين أن عورة الرجل من السرة إلى الركبة فإن المرأة كلها عورة في النظر. وينشأ عن هذا الفرق تَفْرِقةٌ في اللباس. ذلك أن المرأة مأمورةٌ بسَتر جسدها كله. وفي حين أن الرجل مأمورٌ بألا يتجاوز ثوبه كعبيه والأفضل أن يكون لمنتصف ساقيه فإن للمرأة رخصةً في جر الإزار لأنه يكون أستر لهن قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ جَرَّ ثَوْبَهَ خُيَلاء، لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إليه يومَ القِيامةِ فَقَالتْ أُمُّ سَلمةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ النساءُ بِذِيُولِهِنَّ؟ قال: يُرْخِينَ شِبْرًا، فقالت: إِذَنْ تَنْكَشِفُ أقْدامُهنَّ، قال: فَيُرْخِيْنَهُ ذِراعًا لا يَزِدْنَ عَلَيه» .
7- بول الصبي والصبية: ذلك أن بول الصبي الذي لم يُجاوِز سنَتَين يكفيه النَّضْح. أما بول الصبية فلابد فيه من الغَسل، قال صلى الله عليه وسلم «بول الغُلام يُنْضَح، وبول الجارية يُغْسَل» .(7/6)
8- السفر: فلا يجوز للمرأة أن تسافر سفرًا مُعتَبَرًا عُرْفًا إلا بِصُحبَة زَوج أو مَحْرَم حتى لو كان السفر للحج. وما ذهبت إليه بعض المذاهب من جواز سفرها في رِفْقَة النساء فلا يصح، وذلك لمعارضَتِهِ للأحاديث الصحيحة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُسافر امرأةٌ إلا مع ذِي مَحْرَم ٍولا يَدْخُلُ عليها رَجَلٌ إلا ومَعَها مَحْرَم».
9- ومما تفترق به المرأة عن الرجل اختصاص الأم بقدْرٍ زائدٍ من البِرِّ عن الأبِ. فعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال:«جاء رَجَلٌ إلى رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: مَنْ أَحَقُّ الناسِ بِحُسْنِ صَحابَتي؟ قال أُمُّكْ. قال: ثُم مَن؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أبوك» . وعن المُغِيرة بن شُعْبة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ عليكُم عُقوقَ الأمهات ووأْدَ البنات» . فَخَص الحديثُ بالذكر عقوق الأمهات عِلمًا بأن عقوق الوالدين كليهما مُحَرَّمٌ.
10- ومما تفترق فيه النساء عن الرجال أنه ليس لهن وسَط الطريق، وأنه ينبغي عليهن اجتناب الرجال في الطُّرُقات قال صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ للنساءِ وَسَطُ الطريق».
11- اختصاص البنات بقدْرٍ زائدٍ في التربية عن الأنباء. قال صلى الله عليه وسلم: «من كان له ثلاثُ بناتٍ، فَصَبَر علَيهنَّ، وأَطْعَمََُنَّ وسقاهُنَّ وكساهُنَّ من جِدَتِه، كُنَّ له حِجابًا مِنَ النارِ يَومَ القِيامةِ» ، وقال صلى الله عليه وسلم «مَنْ ابْتُلِيَ مِن هذِهِ البناتِ بشئٍ، فأَحْسَنَ إليهِنَّ، كن له سِتْرًا مِن النار» .(7/7)
12- تقديم النساء على الرجال في الحضانة، ذلك أنه في حالة افتراق الزوجين عن بعضٍ فإن الأم أحق بحضانة الأولاد من الأب ما لم تتزوج، فعن عمرو بن العاص أن امرأةً قالت: «يا رسولَ اللهِ إنَّ ابْنِي هذا كان بطْنِي له وِعاءً وحِجْري له حِواءً، وثَدْيِي له سِقاءً، وزَعَم أبوه أن ينْزِعَه مِنِّي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ أحقُّ بِهِ ما لم تُنْكَحي».
13- الاغتسال في الحمامات العامة: فقد حَرَّمهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء. ومن أباحَهُ من الفقهاء للنُّفَساء والمريضة فقد استدل على ذلك بحديثٍ غير صحيح. والصواب أن دخول المسلمة الحمام العمومي لا يصح. ولو بمئزرٍ لما ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن كان يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فلا يدْخُلِ الحَمَّامَ بغيرِ إزارٍ، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخِرِ فلا يُدْخِلْ حَلِيلَتَهُ الحمام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَجْلسْ على مائدةٍ يُدارُ عليها الخَمْرُ» .
14- الملاعنة: فهي خاصة بالرجل دون المرأة. فللرجل أن يَشْهَد أربع شهاداتٍ على زوجته بالزنا. قال تعالي: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) .
وبما أنه لم يَرِدْ نَصٌّ بخصوص قذف المرأة لزوجها بالزنا فيظل الحكم كما هو ، أي أنه يُطْلَب منها إحضار ما يَكْمُل به نِصاب الشهادة وإلا جُلِدت حد القذف.
15- الوِلاية في الزواج: فليس للمرأة أن تُزوِّج امرأةً أُخْرى، ولا أن تُزَوِّج نَفْسَها قال صلى الله عليه وسلم:«لا تُزِوِّج المرأةُ المرأةَ، ولا تُزَوِّج المرأةُ نَفْسها».
16- وجوب استئذان الزوجة زوجها إن أرادت أن تصوم تَطَوُّعًا في حين لا يجب عليه أن يستأذنها إن أراد أن يفعل ذلك.(7/8)
17- التعدد في الزواج: فقد أباح الشرع الإسلامي للرجل أن يتزوج أربعاً دون أن يبيح للمرأة أن تتزوج بأكثر من رجل. ولا يصح أبدًا التساؤل عن الحكمة في ذلك؛ لأنه أمرٌ واضحٌ لا يحتاج لجواب، فاختلاط ُالأنساب أمرٌ واردٌ في تَعَدُّدِ الأزواج دون تعدد الزوجات.كما أن الفِطرة والذَّوق البشرِيَّين يَسْتهجِنانِ أشد الاستهجان تعدد الأزواج بينما يَقْبلان تعدد الزوجات.
18- ولاية أمور المسلمين ويشمل المنع من السياسة والقضاء قال صلى الله عليه وسلم «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوا أمْرَهُمُ امْرأةً».
19- التعطُّر خارج المنزل فَيَحْرُم عليها ذلك بخلاف الرجل، قال صلى الله عليه وسلم: «أيُّما امرأةٍ استَعْطَرَت ثم خرجت، فَمَرَّت على قَومٍ لِيجِدوا رِيْحَها فهي زانيةٌ، وكلُّ عَينٍ زانية» .
20- إباحة الذهب والحرير، فهو أمرٌ خاص بالنساء دون الرجال. قال صلى الله عليه وسلم: «حُرِّمَ لِباسُ الحريرِ والذَّهَبِ على ذُكُورِ أُمَّتِي وأُحِلَّ لإِناثِهِم» .
21- الحداد، فلم يُشْرَع للرجل على زوجته المتوفاة، وشُرِع للمرأة على زوجها المتوفَّى. قال صلى الله عليه وسلم:«لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤْمِنُ بالله واليوم الآخِرِ أن تَحِدَّ على مَيتٍ فَوقَ ثلاثِ لَيالٍ، إلا الزوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا».
22- العدة للمُتوفَّى عنها زوجها والمطلقة قال تعالى: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) ، وقال تعالى: ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ). وليس على الرجل عِدةٌ لكنه يمُنَع من الزواج حتى تنتهي عدة زوجته الرابعة .(7/9)
23- اتباع الجنائز، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم النساء عن اتباع الجنائز وهو ماصح عن أم عطية رضي الله عنها قولها: "نهانا رسول الله عن اتباعِ الجنائز.. " . أما الرجال فإن اتباع الجنائز في حقهم مُستَحَبٌ.
24- إنزال الميت في القبر: فهو خاص بالرجال يَتَوَلَّوْنَه.
25- اقتسام غنائم الحرب: فالمرأة ليست مُكَلفةٌ بالقتال، لكن إذا أَذِن لها الإمام واشتركت في المعركة يُرضَخ لها إن قاتلت؛ بمعني أن الإمام يعطيها عطاءً غير محدد، لكن دون أن تُعْطَي حِصةً كحِصَص المُقاتلين.
26- الختان: ففي حين أن الختان فَرْضٌ على كل مسلمٍ ذكر، فإنه ليس كذلك بالنسبة للنساء فلا يُخْتَن إلا إن ظهرت لختان بعضهن حاجة. أما إن لم تكن حاجة فلا ختان، وذلك يختلف من امرأةٍ لامرأة.
27- وثَقْب الأُذُنِ جائزٌ بحق النساء حرامٌ على الذكور؛ لأنهم ممنوعون من جَعْل الأقراط في آذانهم.
28- وفي حين أن للمرأة خَضْب يَديْها ورِجْليها بالحناء فإنه ليس للرجل أن يفعل ذلك قال صلى الله عليه وسلم «طِيْبُ الرَّجلِ ما ظَهَرَ رِيْحُه وخَفِيَ لَوْنُه، وطِيب النساء ما ظهر لونه وخَفِيَ ريحه».
29- ولا يجوز للمرأة أن تحْلِق رأسها بخلاف الرجل؛ لما في ذلك من المُثْلَة، ولما فيه من التشبُّه بالرجال وكل ذلك مُحرَّم.
30- استحقاقها المهر عند الزواج وليس ذلك للرجل.(7/10)
وبعد فإن الدارس للفروق آنفةَ الذِكْرِ بين الرجل والمرأة يجد أن تلك الفروق راجعةٌ لأسبابٍ معينةٍ اقتضاها العدل بين الجنسين، وأن المساواة بينهما في مثل هذه الحالات من التفريق تؤدي إلى الظلم. وكما هو معلومٌ أن المساواة في كثيرٍ من الأحيان تؤدي إلى الظلم، وأن العدل كثيرًا ما يقتضي التفرقة والتفريق بإعطاء كلَّ ذِي حقٍ حقَّه، وتكليف كل مُكَلَّفٍ بما يناسب قدراته ويتناسب مع طبيعته. ولذا فإن كل مساواةٍ يقتضيها العدل وتقتضيها الفطرة حققها الإسلام فعلاً بين الجنسين كالمساواة في الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف وفي الثواب والعقاب. أما التكاليف الشرعية فقد سَوَّى الإسلام بين الرجل والمرأة في كل ما من شأنه أن لا يُلْحِق ظلمًا بأحدهما بتحميله فوق طاقته. أو بتكليفه بما لا يتناسب مع طبيعته الذَّكَرِية أو الأُنثوية ؛ كإعفاء المرأة من الجهاد، والاختلاف في اللباس نظرًا لاختلاف أجساد الجنسين. وإن الفاحص لكثيرٍ من الفروق بين الجنسين في التكاليف يجد أنها من باب التنوع والاختصاص في المهام والوظائف، . فهما يكملان بعضهما بعضاً والمجتمع بحاجةٍ لكِليهما، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال:«النساء شقائقُ الرجال» ) .(7/11)
ثقافة التلبيس ( 8 ) : ( مصطلح : الإسلام السياسي ) ..
سليمان بن صالح الخراشي
من المعلوم أن الدين الإسلامي خاتم الأديان الذي ارتضاه الله لعباده ؛ كما قال تعالى : ( ورضيتُ لكم الإسلام دينًا ) قد جاء كاملا شاملا لكل نواحي الحياة : الاجتماعية والاقتصادية والسياسية .. الخ
ولكن هذا الأمر لم يرض أعداءه من الغربيين وأتباعهم اللادينيين الذين أرادوه كغيره من الأديان الأخرى المحصورة في علاقة الإنسان بربه ، وأمر الآخرة فقط ، دون أن يكون له سلطان وهيمنة على دنيا الناس . أو كما يقول أحد رموزهم - كاذبًا - : ( أراد الله للإسلام أن يكون دينًا ، وأراد به الناس أن يكون سياسة ) ! ( الإسلام السياسي ، محمد سعيد العشماوي ، ص 7 ) .
ولهذا فقد اجتهدوا في الترويج لفكرة " فصل الدين عن السياسة " وما يدعمها من شعارات ومصطلحات .
ومن تلك المصطلحات : مصطلح " الإسلام السياسي " الذي أطلقه أولئك على كل جماعة إسلامية تهتم بقضايا الأمة .
وقد بحثتُ عن مصدر هذا المصطلح ، وماقيل عنه ؛ فتحصل لي التالي :
قال الأستاذ عطية الويشي في كتابه " حوار الحضارات " ( ص 210 ) : ( أول من استخدم هذا المصطلح هو هتلر ، حين التقى الشيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين آنذاك ، إذ قال له : إنني لا أخشى من اليهود ولا من الشيوعية ، بل إنني أخشى الإسلام السياسي ! ) .(8/1)
وقال الدكتور محمد عمارة في كتابه " الإسلام السياسي والتعددية السياسية من منظور إسلامي " ( ص 5 - 6 ) : ( إنني لا أستريح كثيرًا لمصطلح " الإسلام السياسي " رغم شيوع هذا المصطلح ، وصدور الكثير من الكتابات حول هذا الموضوع وتحت هذا العنوان . وفيما أذكر ، وفي حدود قراءاتي ، فإن أول من استخدم مصطلح " الإسلام السياسي " هو الشيخ محمد رشيد رضا . لكنه استخدمه في التعبير عن الحكومات الإسلامية التي سماها " الإسلام السياسي " ويعني الذين يسوسون الأمة في إطار الأمة الإسلامية . لكن مصطلح الإسلام السياسي يُستخدم الآن ، ومنذ العقود الثلاثة الماضية وصعود المد الإسلامي والظاهرة الإسلامية ، بمعنى : الحركات الإسلامية التي تشتغل بالسياسة ، وفي هذا المصطلح " الإسلام السياسي " شبهة اختزال الإسلام في السياسة ؛ لأنه ليس هناك إسلام بدون سياسة ) .
وقال الأستاذ علي صدر الدين البيانوني المراقب العام للاخوان في سوريا :
( بالنسبة لمصطلح " الإسلام السياسي " ، إنه مصطلح ناشئ أصلاً عن الجهل بالإسلام، الذي جاء بالعقيدة والشريعة، خلافاً للمسيحية التي جاءت بالعقيدة فقط، ونادت بإعطاء ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.
إنك حين تجرّد الإسلام من بعده التشريعي، لا يبقى إسلاماً، وإنما يتحوّل إلى شيء آخر. إن الإسلام دينٌ شاملٌ لكل جوانب الحياة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. فليس هناك إسلام سياسيّ، وإسلام اقتصادي، وإسلام اجتماعي.. بل هو إسلامٌ واحد، شاملٌ لكلّ جوانب الحياة، ولذلك نرفض مقولة " الإسلام السياسي " ) . ( موقع الجماعة على شبكة الأنترنت ) .(8/2)
وفي حوار أجرته صحيفة الراية القطرية في 24 مايو 2002م مع الدكتور ساجد العبدلي، الأمين المساعد للشؤون الإعلامية في الحركة السلفية الكويتية ؛ قال عن هذا المصطلح : ( هذا المصطلح يحمل تشويها كبيرا للمقاصد الشرعية من العمل السياسي، وقد يعطي إيحاء بأن هناك إسلام سياسي وآخر دعوي وآخر خيري وهكذا، بينما الإسلام واحد ، وهو دين شامل لا يتجزأ لكل مناحي الحياة، ولم يكن المسلمون يفصلون بين العمل السياسي والدعوة في يوم من الأيام ، بل كانت جميعها كلا متكاملا. هذا المصطلح " الإسلام السياسي " نتج في جملة ما نتج عنه عن الميول التجريدية التي تركز على فهم الإسلام كدين عبادة وتكاليف عبادية أكثر من كونه نظاما سياسيا وتنظيميا للدولة واجتماعيا، أي أن النظرة صارت تشدد على الدين والمعتقد أكثر من النظام والنهج والكيانية الإسلامية المنشودة ) .
ويقول الدكتور جعفر شيخ إدريس في مقال مهم له عن هذا المصطلح :
( عبارة "الإسلام السياسي" كأختها "الأصولية" صناعة غربية استوردها مستهلكو قبائح الفكر الغربي إلى بلادنا وفرحوا بها، وجعلوها حيلة يحتالون بها على إنكارهم للدين والصد عنه. فما المقصود بالإسلام السياسي عند الغربيين؟ كان المقصود به أولاً الجماعات الإسلامية التي انتشرت في العالم العربي وفي باكستان والهند وأندونيسيا وماليزيا وغيرها تدعو إلى أن تكون دولهم إسلامية تحكم بما أنزل الله تعالى.
- ما الذي يأخذه خصوم الإسلام السياسي عليه؟
أما الغربيون فاعتبروه أولاً ظاهرة غريبة بعد سني الحكم الاستعماري الذي ظنوا أنه وطَّد الحكم العلماني على المنهاج الغربي، ووضع أسساً متينة للتبعية وضمان المحافظة على المصالح الغربية. فشق عليهم أن تنبت في بلاد المسلمين نابتة تعارض هذه العلمانية التي يرونها تعم العالم بأسره. كيف تنشأ جماعات تسير عكس هذا التيار العالمي، وتدعو إلى الرجوع إلى حكم ديني إسلامي؟(8/3)
وثانياً: لأن الرأي السائد بينهم ـ لا أقول الذي يعتقده كل واحد منهم ـ هو أن الدين ينبغي أن يكون شأناً فردياً بين العبد وربه، لا مدخل له في الحياة العامة ولا سيما السياسية منها التي يرون أن تكون متروكة لما يراه الناس، وأن تكون مبنية على المساواة الكاملة بين المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم.
وثالثاً: لأن الرأي الشائع بينهم أن النصوص الدينية محدودة بزمانها ومكانها الذي ظهرت فيه، وأنها لذلك ينبغي أن لا تفهم على ظاهرها، بل يجب أن تؤوَّل تأويلاً يجعلها متناسبة مع ثقافة العصر.
ورابعاً: لأن منهم من ظن أن الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله ـ تعالى ـ ظاهرة جديدة لم تكن في الإسلام من قبل؛ فلذلك ناسب أن توصف بالإسلام السياسي تمييزاً له عن الإسلام الديني.
وخامساً: لأنهم رأوا فيها صورة من صور استغلال الدين للمآرب السياسية.
لهذه الأسباب وأمثالها كانوا وما يزالون شديدي العداوة الفكرية والعملية للجماعات التي تتسم بما أسموه بالإسلام السياسي، يحرشون الحكومات عليها، ويدعونها لكبتها حتى لو كان ذلك على حساب الديمقراطية التي كانت سائدة آنذاك في العالم الإسلامي، التي استفادت منها تلك الجماعات. ويكتبون الكتب والمقالات، ويسخرون سائر وسائل الإعلام لحربها. ينصرهم في هذه الحرب أذنابهم المنافقون في بلاد المسلمين الذين يقتاتون على فضلات فكرهم ودعاياتهم. وقد امتدت حربهم في أيامنا هذه للدول التي تؤمن بمبدأ تطبيق الشريعة.(8/4)
ولما كان الغربيون يرون أن ما هم عليه من دين أو فكر أو ثقافة أو حتى عادات في المأكل والملبس والجد واللعب، بل وما كان لهم من تاريخ وما مارسوه من تجارب، وسائر ما ألفوا من جوانب الحياة، هو الأمر الطبيعي، وأن ما خالفه هو الشذود الذي يحتاج إلى تفسير؛ فقد اجتهد بعضهم في أن يجد تفسيراً لهذه (الظاهرة). فكان مما سلُّوا به أنفسهم أنها نتيجة لظروف طارئة هي الحكم القهري والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري الذي ابتليت به البلاد التي ظهرت فيها هذه الحركات ولا سيما العالم العربي، وأن علاجها لذلك هو الضغط على تلك الحكومات لتكون أكثر انفتاحاً وديمقراطية، ومساعدتهم على شيء من النمو الاقتصادي يحسن من أوضاع الشباب المتذمرين؛ فإذا ما حدثت هذه الإصلاحات، وزالت الأوضاع القديمة زالت بزوالها نتائجها التي من أهمها ظاهرة الإسلام السياسي.
ونقول إن ما ذكروه من أسباب ربما كان فعلاً من عوامل تشجيع ما يسمونه بظاهرة الإسلام السياسي، لكن مما لا شك فيه أنه ليس منشأها. فكل من له أدنى معرفة بدين المسلمين وتاريخهم يعلم أن قضية الالتزام بما أنزل الله في شؤون السياسة والحكم هي أمر عريق فيه: في نصوص كتابه، وسنة نبيه، وأقوال علمائه. وأن تصديق ذلك في واقعه التاريخي الذي لم يعرف شيئاً اسمه الحكم العلماني، وأن هذا الحكم إنما فرض عليه من خارجه يوم استولت جيوش الغرب على بلاده. وحتى هذه العلمانية الدخيلة لم تبلغ مبلغ علمانيتهم في مدى بُعدها عن الدين، حتى إن الكثيرين منهم لينفون أن تكون حكومة من حكومات العالم الإسلامي علمانية، ويرون أنه من الخطأ لذلك أن توضع الإسلامية (بمعنى النشاط السياسي للحركات الإسلامية) في مقابل العلمانية .(8/5)
وإذن فالقول بأنها مجرد استغلال للدين لتحقيق أهداف سياسية ليس بصحيح أيضاً: أولاً: لأن من أعظم من دعا إلى الحكم بما أنزل الله وبيَّن أنه جزءٌ لا يتجزأ عن دين الإسلام علماء أعلام لم تكن لهم أطماع سياسية، ولا كانت لهم في يوم من الأيام علاقة بالأحزاب الإسلامية السياسية؛ علماء من أمثال: الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبد العزيز بن باز.
هل استغل بعض الأفراد وبعض الجماعات الدينَ لتحقيق أهداف دنيوية سياسية أو غير سياسية؟ نعم! وقد ظل كثير منهم يفعل ذلك على مر التاريخ، ومع كل رسالات السماء. ولا أعرف كتاباً تطرَّق لهذه المشكلة وبيَّن أسبابها وأنواع مرتكبيها ونتائجها وحذر منها مثل كتاب الله تعالى. فعلى الذين يتحدثون عن هذه المشكلة أن يعلموا أنهم لم يأتوا بجديد. إن هؤلاء يدعوننا لأن نترك ديننا؛ لأن بعض الناس استغله لأسباب سياسية. ولو تابعنا منطقهم هذا لتركنا بناء المساجد؛ لأن بعض المنافقين استغل بناءها لأسباب سياسية، فاتخذها: {ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } [التوبة: 107].
وكانوا مع ذلك يحلفون بأنهم ما أرادوا إلا الحسنى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الْحُسْنَى} [التوبة: 107].(8/6)
ولو أتبعناه لتركنا الإنفاق في سبيل الله؛ لأن بعض الناس يتخذ ما ينفق مغرماً (أي غرامة) ويتربص بنا الدوائر، ولقررنا أن لا يكون لنا علماء؛ لأن بعض علماء السوء يستغل علمه لأغراض دنيوية: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 98 - 100].
وكما أن بعض الناس يستغل الدين لتحقيق أهداف سياسية فيكون انحرافه بسبب سوء قصده، فإن آخرين ينحرفون بسبب سوء فهمهم وقلة علمهم، فيحاولون تحقيق بعض الأهداف السياسية بوسائل وطرق مخالفة لدين الله وتحريفاً له وفتنة للناس عنه؛ فهل نترك العمل السياسي على أساس ديني؛ لأن بعض الناس يسيء فهم الدين؟(8/7)
يقول بعض الغربيين: (لكن المشكلة أن كل إنسان يمكن أن يدَّعي أن فهمه هو الفهم الصحيح للتوراة أو الإنجيل أو القرآن، بل يزعم بعضهم أنه [يعني القرآن] كالكتاب المقدس: العهد القديم والعهد الجديد ـ بإمكانك أن تجد فيه أياً ما تريد لتسوّغ به كل ما تريد تقريباً) ، نقول فرق بين أن يدّعي مدّع أن ما استدل به من قول يدل على ما يريد وأن يكون دالاً فعلاً على ما يريد. أما القرآن فنحن نعلم أنه ـ وهو كتاب الله ـ لا يمكن أن يدل على الشيء ونقيضه {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
يقول بعضهم: «إذا سلَّمنا بهذا فتبقى مشكلة هي أن النص بحسب معناه الذي تدل عليه ألفاظه ويدل عليه سياقه لا يتناسب مع ثقافة العصر؛ فلا بد إذن من تأويله لجعله مناسباً معها. لكن أليست هذه دعوة إلى خداع النفس؟ أنت تقرأ نصاً تقول: إنه كلام الله، وتفهمه على وجهه الصحيح، ثم تقول: إن هذا الذي فهمته لا يتناسب مع ما أريد، لذلك يجب أن أغيِّره لكي أجعله مناسباً مع ما أهوى، ثم تقول: إن هذا الذي هويت هو ما عناه الله ـ تعالى ـ بكلامه. هل يقول هذا إنسان مؤمن؟ بل هل يقول هذا إنسان أمين يحترم نفسه؟ إنك إما أن تعتقد أن ما يقوله الله هو الحق كما قاله، وإما أن تعتقد أنه ليس بالحق أو ليس بالعدل، فتقول: إنه لا يمكن أن يكون كلام الله، فتكفر بالكتاب الذي كنت تظن أنه كلام الله. أما أن تجمع بين الفهم الصحيح والتحريف فلا. وهذا الأمر المنكر خُلُقاً وديناً هو الذي حذرنا الله ـ تعالى ـ من الاطمئنان إلى ممارسيه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75].(8/8)
تأمل قوله ـ تعالى ـ: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي إنهم فهموا ما قال الله ـ تعالى ـ وتصوروه على وجهه الصحيح، ثم عمدوا إلى تحريفه وهم يعلمون أنهم محرفون له.
ثم نقول: إن الدين الحق إنما جاء لنفع الناس في دنياهم وآخرتهم، فلا يمكن أن يكون فيه ما يمنع من الأخذ بشيء هو من ضرورات العصر، أما أهواء العصر وما يشيع فيه من قيم وأفكار وعادات وتقاليد فإن الدين لم يأت لموافقتها، بل جاء لإقرار ما فيها من حق وإنكار ما فيها من باطل؛ فالمعيار هو كلام الله لا أهواء البشر.
ثم إن كثيراً مما يسمى بثقافة العصر مما يخالف الدين الحق ليس هو في حقيقته بالأمر الجديد الذي يقال إنه مما امتاز به عصرنا، وإنما هو الثقافة التي اتسمت بها الجاهلية على مر العصور. خذ مثلاً استبشاعهم للحدود ـ ولا سيما حد الزنا ـ ودعوتهم إلى تغييره. هذا الحد موجود في التوراة، لكن اليهود غيروه حتى قبل مجيء النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان الذي دعاهم إلى ذلك هو فُشُوُّ الزنا بينهم ولا سيما في أشرافهم. وهذا هو عين السبب الذي يدعو الغربيين وأمثالهم إلى استبشاع هذا الحد. إن الناس إذا فشت فيهم الفاحشة واعتادوها مات فيهم الشعور بأنها فاحشة، ودعك أن تكون جريمة تستحق هذه العقاب الأليم! ) . ( مجلة البيان ، العدد 202 ) .
تنبيه : مما يؤخذ على كثير من الإسلاميين الذين اهتموا بالجانب السياسي في الإسلام - رغم جهودهم المشكورة - أنهم في المقابل هونوا أو قل اهتمامهم بالجانب العقدي والتربوي فيه ؛ فغلبت السياسة عليهم حتى أنستهم مهمة الدعاة الأولى ؛ وهي الدعوة إلى دين الله كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ؛ دون تحريف أو زيادة . وإنكار ما يخالفه من الشركيات والبدع .(8/9)
بل - للأسف - وصل الحال ببعض المنخرطين في الهم السياسي من أبناء الإسلام أن رق دينهم ، وكثرت تنازلاتهم ومداهناتهم للآخرين ؛ حتى كادوا يستوون في أمرهم مع العلمانيين وغيرهم من المخالفين .
فلابد لعقلاء الأمة وذوي الرأي فيها أن يتنبهوا لهذا الأمر الخطير . ويعطوا كل مقام حقه ؛ دون إفراط أو تفريط . والله الموفق .(8/10)
ثقافة التلبيس ( 9 ) : قولهم بـ ( نسبية الحقيقة )
سليمان بن صالح الخراشي
تتردد كثيرًا في كتابات المعارضين والمخالفين لشريعة الإسلام عندما يُلزمون بأحكامها عبارات خطيرة ؛ مثل : " الحق المطلق لا يملكه أحد " أو " لا أحد يدعي امتلاك الحقيقة " أو " الحق نسبي " ... وغيرها من العبارات المشابهة التي اتخذها هؤلاء حلا سريعًا يلجأون إليه عندما يريدون التملص والتخلص من التزام الحق الذي جاءت به الشريعة ؛ حيث تكون الأمور فوضى لا ضابط لها ، ولاحقيقة ثابتة يعرفها الناس ويتحاكمون إليها ! بل أنت تعتقد أن هذا الأمر " حقيقة " وغيرك يعتقد خلافه " حقيقة " ، وكلاكما على صواب ، ولايُنكر أحد على أحد..! فتُمرر جميع أنواع " الكفر " أو " الشبهات " أو " الشهوات " على احتمال أن تكون هي " الحقيقة المنشودة " !!
وقد أحببتُ في هذه الحلقة أن أكشف وجوه التلبيس في هذه العبارات ، وبيان خطورتها على قائلها ، مقدمًا بذكر نماذج لمن يقول بها ، ثم تعريف بأول من قال بها ، مع بيان كيفية الرد عليها ؛ والله الموفق :
نماذج من أقوال المرددين لهذه العبارات الخطيرة !
- ( لا أحد يملك الحقيقة الملكية المطلقة ) . (الممنوع والممتنع، علي حرب، ص180) (وانظر أيضاً: كتابه: نقد الحقيقة، ص 2).
- ( يجب أن يكون واضحاً في غاية الوضوح: أن المطلق مطلق، ولكن الفهم البشري والتفسير البشري لأي جانب من جوانب المطلق هو فهم نسبي" ) .(تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها، د. محمد جابر الأنصاري، ص83).
- ( ينبني الدين على حقيقة مطلقة كلية هي الوحي ولما كانت الفلسفة تضع في اعتبارها تعددية المواقف والآراء، ونسبية الحقيقة -أي كونها موزعة من حيث الاحتمال المفتوح بين الناس جميعاً- فإن التصادم بينهما قائم لا محالة ) . (آفاق فلسفية عربية معاصرة، طيب تيزيني، ص 167)(9/1)
- ( ما بعد الحداثة هو عالم صيرورة كاملة، كل الأمور فيه متغيرة، ولذا لا يمكن أن يوجد فيه هدف أو غاية ، وقد حلت ما بعد الحداثة مشكلة غياب الهدف والغاية والمعنى بقبول التبعثر باعتباره أمراً نهائياً طبيعياً، وتعبيراً عن التعددية والنسبية والانفتاح، وقبلت التغير الكامل والدائم). (السابق، ص 322).
- ( النسبية: هي الرأي الذي يقول بأن الحقيقة نسبية وتختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن وقت إلى آخر) . (السابق، ص 329).
- ( ارتكزت التعددية بمعناها المعرفي على الفكرة القائلة بأن لا أحد يملك الحقيقة كلها، وبالتالي ليس من حق أحد مصادرة آراء وأفكار الآخرين ) . (إشكالية مفهوم المجتمع المدني، د. كريم أبو حلاوة، ص 42).
- ( لن تكون متقدماً أو صاحب أمل في التقدم؛ إذا قبلت الرأي على أنه حقيقة، والحقيقة على أنها مطلقة وليست نسبية ) . (من هنا يبدأ التغيير، تركي الحمد، ص 347).
- ( إن المنطلق الأول للبحث عن الحقيقة هو القناعة بنسبيتها ) . (البحث عن الحقيقة، عبدالله بن حمد المعجل، ص 13).
- جون ستيوارت مل ( يرى أن التسامح يمتنع معه الاعتقاد في حقيقة مطلقة). (ملاك الحقيقة المطلقة، مراد وهبة، ص 193).
- ( العلمانية من حيث هي التفكير في النسبي بما هو نسبي، وليس بما هو مطلق). (السابق، ص 228).
- ( كل مجتمع لا يعترف بالتعددية العقائدية والسياسية هو مجتمع تنقصه الأنسنة إلى حد كبير . لماذا ؟ لأن الاختلاف والتنوع في الرأي والفكر شرط من شروط تحرر الذهن من التحجر والانغلاق ) .( هاشم صالح ، معارك من أجل الأنسنة ، محمد أركون ، ص 16 ) .
- (إن اعتماد الشك في التفكير الفلسفي ، والأخذ بنسبية الحقيقة : هو التسامح بعينه ) ( محمد عابدالجابري ، قضايا الفكر المعاصر ، ص20 ) .(9/2)
- ( إن فكرة الحقيقة المطلقة تؤسس لدى حاملها شرعية امتشاق السلاح دفاعًا عنها ، ليس هذا السلاح قطعا هو الفكر ؛ فمالك الحقيقة لا يجادل ) . ( عبد الإله بلقزيز ، نهاية الداعية ، ص 70 ) .
- ويقول شاكر النابلسي معددًا مواصفات المجتمع المدني الذي يطمح إليه ! : ( إن القيم في المجتمع المدني نسبية ، وهذه النسبية تجعل القيم متغيرة غير ثابتة . لا احتكار للحقيقة في المجتمع المدني ، وعدم الاحتكار يقود المجتمع المدني إلى التسامح لا إلى التعصب ، وإلى الانفتاح لا إلى الانغلاق ) . ( صعود المجتمع العسكري ، ص 205-206) .
- وانظر : "الفكر الإسلامي والتطور" لفتحي عثمان ؛ (ص 15-16) . ومقال : ( ملاك الحقيقة وتصنيف الناس ) لمحمد بن عبداللطيف آل الشيخ ، جريدة الجزيرة ، 26/8/1425 . وانظر - أيضًا - : " التطور والنسبية في الأخلاق " للدكتور حسام الألوسي . ( وهو متطرف في الأخذ بهذا المبدأ الخطير ! ) .
أول من قال بـ( نسبية الحقيقة ) :
أول من قال بها هم السوفسطائيون - وعلى رأسهم كبيرهم الفيلسوف بروتاغوراس - الذين ظهروا في اليونان ما بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد ؛ حيث كانت اليونان تموج بمجموعة من الأفكار والمذاهب المتباينة المتنوعة ؛ فلجؤا لهذا القول في تأييد الآراء المتناقضة ؛ إما شكًا في الجميع ، أو للتخلص من جهد طلب الحقيقة .
يقول الدكتور علي سامي النشار: ( نسبية كل شيء قال بها بروتاغوراس السوفسطائي حين أراد أن ينقد أصول المعرفة "إن الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس وجود ما لا يوجد" ثم أخذ بهذا الشُكاك بعد، فطبقوها على الحد كما طبقوها على نواحي العلم كله، فلم تعد حقيقة من حقائق العلم ثابتة أو مستقرة، بل كل شيء –كما يقول هرقليطس- في تغير مستمر) . ( مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص 191 ) .(9/3)
ويقول الدكتور عمر الطباع عن السوفسطائيين: (وكانت هذه الجماعة تنكر وجود حقائق ثابتة، وتدعي أن الحقيقة نسبية). (السلم في علم المنطق للأخضري، ص7 ) .
- ( لقد عبر بروتاغوراس زعيم السوفسطائيين عن فكرهم في كتابه "عن الحقيقة" الذي فُقد ولم تصلنا منه إلا شذرات قليلة يبدأها بقوله "إن الإنسان معيار أو مقياس الأشياء جميعاً" وفي هذه العبارة القصيرة تكمن الثورة الفكرية للسوفسطائيين في مختلف ميادين الفكر. إنها تعني بالنسبة لنظرية المعرفة أن الإنسان الفرد هو مقياس أو معيار الوجود، فإن قال عن شيء إنه موجود فهو موجود بالنسبة له، وإن قال عن شيء إنه غير موجود فهو غير موجود بالنسبة له أيضاً، فالمعرفة هنا نسبية، أي تختلف من شخص إلى آخر بحسب ما يقع في خبرة الإنسان الفرد الحسية، فما أراه بحواسي فقط يكون هو الموجود بالنسبة لي، وما تراه أنت بحواسك يكون هو الموجود بالنسبة لك، وهكذا ). (مدخل لقراءة الفكر الفلسفي عند اليونان، للدكتور مصطفى النشار، ص70 -71).
فتعاليمهم - كما يقول مؤلفا " قصة الفلسفة اليونانية - ( تعاليم هدامة لكل نظام اجتماعي ؛ للدين ، للأخلاق ، لكل نظم الدولة ) . ( ص 69) .(9/4)
وللزيادة عن السوفسطائيين ؛ انظر : " تاريخ الفلسفة اليونانية " ليوسف كرم ، و " الفلسفة اليونانية : تاريخها ومشكلاتها " لأميرة مطر ( ص 115 ومابعدها ) ، و " تاريخ الفلسفة اليونانية " لماجد فخري ، و " التعريفات " للجرجاني ، و " قصة الإيمان " لنديم الجسر ( ص 36-37) ، و " فلسفة الأخلاق " للدكتور توفيق الطويل ( ص 47-49 ) ، و " مختصر تاريخ الفلسفة " للمختار بنعبد لاوي ( ص 13-14) ، و " الموسوعة الفلسفية " للدكتور عبدالمنعم الحفني ( 482 ومابعدها ) ، و " المعجم الفلسفي " للدكتور مراد وهبة ( ص 444 وما بعدها ) ، و" ربيع الفكر اليوناني " لبدوي ( 165-180) ، و" قصة الفلسفة اليونانية " ( ص 62-72) ، و مقال " السوفسطائيون " لزكي نجيب محمود ، مجلة الرسالة ، صفر ، 1353.
وفي العصر الحديث :
تلقف أصحاب المذهب " البراجماتي " هذه الفلسفة ؛ لأنها تناسب مذهبهم النفعي المصلحي المتلون :
- ( ليس من شك لدى أحد الآن أن بروتاجوراس هو الجد الأول للبراجماتيين المعاصرين؛ سواء على المستوى الفلسفي، أو على المستوى الحياتي؛ إذ لا يمكن فهم أقوال هؤلاء البراجماتيين معزولة عن آراء جدهم الأكبر ، فحينما يقول وليم جميس: "إن الحقيقي ليس سوى النافع الموافق المطلوب في سبيل تفكيرنا تماماً، كما أن الصواب ليس سوى الموافق النافع المطلوب في سبيل مسلكنا" و"أن المطلق ليس صحيحاً على أي نحو" . فهل يمكن أن نشك لحظة في أنه وأقرانه يمثلون بروتاغوراس العصر الحالي؟! لقد كان شيللر –وهو أحد كبار الفلاسفة البراجماتيين- على حق حينما كتب كتاب " why protagoras not plato معلناً أن بروتاغوراس هو جدهم الأول ) . (فلاسفة أيقظوا العالم، د. مصطفى النشار، ص 77).(9/5)
- (إن المذهب البراجماتي حين يقرر أن مقياس صحة الأفكار يتوقف على نتائجها، فهو بذلك يجعل الحقيقة نسبية غير ثابتة، أي تتغير وفقاً للظروف وأحوال الأفراد والمجتمعات ) . (تطور الفكر الغربي، لمجموعة من الباحثين، ص 424).
- البراجماتية (تعيد إلى ذاكرة التاريخ نسبية السوفسطائية التي تزعم أن الفرد مقياس كل شيء). (أعلام الفلسفة الحديثة، د. رفقي زاهر، ص 171).
- ( الفلسفة البراجماتية تتلخص اليوم في أفكار موجزة ؛ من أشهرها : .. الحقائق نسبية ، ولايمكن الوصول إلى حقيقة مطلقة ) . ( مقال : الطريق إلى العقلية الأمريكية ، محمد فالح الجهني ، مجلة المعرفة ، شوال 1425). ( وانظر : قصة الفلسفة اليونانية ، ص 71).
أقوال علماء الإسلام في السوفسطائية :
لقد عرف علماء الإسلام خطورة هذه الفكرة السفسطائية التي تخلط الحق بالباطل ، وتُشكك المسلمين في دينهم ، وتساوي بينه وبين الديانات المحرفة والباطلة بدعوى التماس الحقيقة ! ، لاسيما وهناك من المنحرفين من يُغذي هذه الفكرة وينشرها ؛ وعلى رأسهم غلاة المتصوفة أهل وحدة الوجود ، ممن يقول قائلهم ؛ وهو ابن عربي : ( فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير ، بل يفوتك الأمر على ما هو عليه ، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها ؛ فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد) . ( ابن عربي ، سميح الزين ، ص 101).
لقد قسم علماء الإسلام السوفسطائيين - كما يقول الشيخ أحمد شاهين - ثلاثة أقسام : ( العِندية ، والعنادية ، واللاأدرية : فالعندية ترى أن حقائق الأشياء تابعة لعقائد المؤمنين بها ؛ لأنهم أقيسة الحقائق . والعنادية تجزم بأن لاحقائق في الكون ؛ لا في ذاتها ولابالقياس إلى المؤمنين بها . وأما اللاأدرية فهي التي تتوقف عن الحكم في كل شيئ ؛ فهي لا تجزم بوجود ولا بعدم ) . ( " السوفسطائيون في نظر العرب " مقال في مجلة الأزهر ، م 21 ، ص 760-763) .(9/6)
ويقول الشيخ عبدالقادر بدران في حاشيته على " روضة الناظر " ( ص 246-247) : ( وهم فرقٌ ثلاث : إحداهن اللاأدرية ؛ سموا بذلك لأنهم يقولون لا نعرف ثبوت شيء من الموجودات ولا انتفاءه بل نحن متوقفون في ذلك. الثانية : تسمي العنادية نسبة إلى العناد؛ لأنهم عاندوا فقالوا لا موجود أصلاً وعمدتهم ضرب المذاهب بعضها ببعض والقدح في كل مذهب بالاشكالات المتجهة عليه من غير أهله. الثالثة : تسمى العندية نسبة إلى لفظ "عند" ؛ لأنهم يقولون أحكام الأشياء تابعة لاعتقادات الناس ، فكل من اعتقد شيئاً فهو في الحقيقة كما هو عنده وفي اعتقاده ) . ( وانظر : شرح المواقف للجرجاني ؛ ص 42-43) .
1 - وقد رد عليهم جميعًا ابن حزم في كتابه " الفِصل في الملل والأهواء والنِحل " ( 1/44-45) ؛ ويهمنا رده على فرقة " العِندية " التي يُقلدها دعاة النسبية . قال رحمه الله : ( ويقال – وبالله التوفيق- لمن قال هي حق عند من هي عنده حق، وهي باطل عند من هي عنده باطل : إن الشيء لا يكون باعتقاد من اعتقد أنه حق، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل ، وإنما يكون الشيء حقاً بكونه موجوداً ثابتاً، سواء اعتُقد أنه حق أو اعتُقِد أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان معدوماً موجوداً في حال واحد في ذاته، وهذا عين المحال.
وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق، فمن جملة تلك الأشياء التي تُعتَقد أنها حق عند من يعتقد أن الأشياء حق بطلانُ قولِ من قال إن الحقائق باطلة ، وهم قد أقروا أن الأشياء حق عند من هي عنده حق. وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء، فقد أقروا بأن بطلان قولهم حق !! مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل ألبتة، إذ حسُّه يشهد بخلافها. وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المُتَنَطِّعين على سبيل الشغب. وبالله تعالى التوفيق ) .(9/7)
2- ورد عليهم - أيضًا - ابن الجوزي في " تلبيس إبليس " ( ص 41 ) ؛ قائلا : ( قال النوبختي : قد زعمت فرقة من المتجاهلين أنه ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها، بل حقيقتها عند كل قوم على حسب ما يعتقد فيها، فإن العسل يجده صاحب المرة الصفراء مراً، ويجده غيره حلواً. قالوا وكذلك العالم هو قديم عند من اعتقد قدمه، محدث عند من اعتقد حدوثه، واللون جسم عند من اعتقده جسماً، وعرض عند من اعتقده عرضاً. وهؤلاء من جنس السوفسطائية ؛ فيقال لهم : أقولكم صحيح؟ فسيقولون : هو صحيح عندنا، باطل عند خصمنا. قلنا : دعواكم صحة قولكم مردودة ، وإقراركم بأن مذهبكم عند خصمكم باطل شاهد عليكم ! ومن شهد على قوله بالبطلان من وجه فقد كفى خصمه بتبيين فساد مذهبه ) .
3- وقال ابن قدامة رادًا على من نُقل عنه مثل هذا القول من علماء المسلمين : ( وقول العنبري: كل مجتهد مصيب . إن أراد أن ما اعتقده فهو على ما اعتقده، فمحال؛ إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقاً، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه، وهذه أمور ذاتية لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها. فهذا شر من مذهب الجاحظ، بل شر من مذهب السوفسطائية؛ فإنهم نفوا حقائق الأشياء، وهذا أثبتها وجعلها تابعة للمعتقدات). (روضة الناظر 20/419-420).
وقال - أيضًا - : ( قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب ما يروق لهواه ) . (روضة الناظر، 2/425) ، ( وانظر : المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين، ص314).(9/8)
4- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( حكي عن بعض السفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد. وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل ) . (الفتاوى 19/ 135) .
وقال عنه - أيضًا - : ( هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة؛ يعني: أن السفسطة جعل الحقائق تتبع العقائد كما قدمناه ... وأما كون آخره زندقة فلأنه يرفع الأمر والنهي والإيجاب والتحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسان إن شاء أن يوجب وإن شاء أن يحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال؛ وهذا كفر وزندقة ) .(الفتاوى 19/144 -145).
بعض أقوال المعاصرين في مقولات أهل السفسطة :
1- يقول الأستاذ بسطامي سعيد : ( هل حقائق الدين نسبية؟ .. إذا قيل إن الفكرة إما خاطئة أو صائبة بغض النظر عن الزمان الذي شهد ظهورها، قالت العصرانية ولكن إدراك حقائق الدين مسألة نسبية، فليس هناك صواب مطلق و"إن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري".
والكاتب الذي قرأت له هذا القول لا يقدم دليلاً أو حجة، بل يكتفي بالإشارة إلى أن نظرة الإنسان إلى الأشياء نظرة جزئية، وليست نظرة شاملة كاملة وإن هذه النظرة هي بحسب معارف المرء وثقافته، وبحسب اهتماماته والزاوية التي ينظر منها.
وقضية النسبية Relativism في الحق truith أو في الأخلاق ethich قضية فلسفية، تتناحر حولها الفلسفة منذ أن عرف الإنسان الفلسفة ، وكعادة الفلاسفة في مناقشة القضايا تتعقد وتتشابك الآراء، والفلاسفة وحدهم هم الجديرون بأن يغرقوا في مثل هذه المباحث، وهل استطاعت الفلسفة يوماً ما أن تحل لغزاً ؟!(9/9)
وفي بساطة نتساءل ما المقصود بأن الحقيقة نسبية ؟ إذا كان المقصود أن معرفة الإنسان قاصرة وعمله قليل، وأنى له بالعقل الذي يدرك الأشياء إدراكاً شاملاً، فهذا ليس موضع اختلاف، والبشرية بما فيها من عجز وقصور مؤهلة لإدراك قدر من المعارف تكفيها لأداء مهامها في هذا الفترة القصيرة من عمرها على الأرض.
وإذا كان المقصود أن الإنسان لا يصل إلى حقيقة، وكل ما عنده من حقائق لا يمكن القطع والجزم بها، ولا يمكن الاتفاق حولها، فأول ما يواجه هذا القول من نقد أن يُسأل ما الدليل على أن هذا القول صادق؟ فإذا قُدمت الأدلة على صدقه وأثبتت أنه حقيقة، فهو اعتراف بأن لدينا على الأقل حقيقة نطمئن إليها، وهو اعتراف ينقض ما قُدمت الأدلة لإثباته، وإذا كان القول بأن الحقيقة نسبية أمر نسبي أيضاً ولا يمكن القطع والجزم به ، فكيف يؤخذ به؟ ثم كيف يفسر من يقول إن الحقيقة نسبية ذلك القدر المشترك من الحقائق بين أفراد النوع البشري على اختلاف بيئاتهم وظروفهم وعصورهم ؟!
الأهم من ذلك أن يُسأل : هل هناك منهج صحيح للوصول إلى حقائق الدين، أم أن الدين كما هي النظرة الغربية له، لا معايير ولا مقاييس لتحديد حقائقه، بل هو مثل مسائل الآداب والفن مسألة "ذوق"، لا تقوم على منهج علمي محدد، أو معايير منضبطة ؟.
إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك.(9/10)
قد يحدث تغيير أو تبديل للنصوص، أو قد يحدث خطأً في الفهم، أو يحدث خطأ في الاستنباط، ولكن هذه مسألة أخرى ومعالجتها تكون بإثبات ما حدث من تحريف بالدليل والبرهان، أما إطلاق العموميات والقول بأن حقائق الدين مسألة نسبية يدركها كلٌ على حسب المعرفة المتاحة، ويراد من وراء ذلك رفض فكر العصور الماضية ! فقول لا تسنده حجة ولا يمكن قبوله) . ( مفهوم تجديد الدين ، ص 214-215) .
2- ويقول الأستاذ غازي التوبة : ( نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أن تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة، غير أن تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترة أبعد من العصور الحديثة ويرتبط بالعصور الوسطى.
فمن المعروف أن الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نص "الإنجيل المقدس" الذي كان ثابتاً والذي كانت تحتكر الكنيسة تفسيره، وعندما قامت حقائق علمية وكونية متعددة تناقض النص الثابت، وتناقض تفسير رجال الكنيسة له وقع التصادم المريع بين الدين ( المحرف ) والعلم، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم بحجة مخالفة النص المقدس الثابت، ولكن الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها وأمام حقائق العلم، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبة في طريق العلم والتقدم، وصار الربط منذئذ بين النص المقدس وثبات الحقيقة، وكذا بين العلم ونسبية الحقيقة.
ومنذ أن بدأ التفاعل بين الثقافتين: الغربية والإسلامية، كان أبرز صور التصادم بين نسبية الحقيقة في الثقافة الغربية وبين النص "القطعي الثبوت القطعي الدلالة" في الثقافة الإسلامية ) . ( مجلة المجتمع ، العدد 1337 .(9/11)
3- ويقول الدكتور أحمد عبدالرحمن : ( الفلسفة النسبية هي السند الفكري الأخير والمرجع النهائي، لكل التيارات المناوئة لمبدأ "الثبات الإسلامي" في العقيدة والشريعة والأخلاق والنظم، سواء كانت وضعية منطقية، أو ماركسية، أو وجودية أو براجماتية.
فالنسبية فلسفة تزعم أن الحقائق العلمية، والقيم الخلقية، والمبادئ التشريعية، والنظم الاجتماعية والسياسية، كلها تتبدل وتتغير بتغير الزمان والمكان ، فما كان حقاً بالأمس لابد أن ينقلب باطلاً اليوم أو غداً، وما كان عدلاً لدى اليونان قبل قرون من الزمان يستحيل أن يظل كذلك إلى اليوم، لا فرق في ذلك بين قانون وضعي وشريعة دينية ، وبهذا التصور الشامل للفلسفة النسبية يقرر أنصار التجديد أن الشعر المقفى، واللغة الفصحى، والعمارة الإسلامية، والشريعة الإسلامية، والعقيدة الإسلامية إلخ إلخ، كانت صالحة لعصر النبوة والراشدين، ولكنها لا يمكن أن تصلح لنا اليوم، ولا مفر أمامنا من أحد أمرين: إما نقل نظائرها الأوروبية العصرية، وإما التخلف عن العصر والفناء تبعاً لذلك!
وأحسب أن فلسفة بهذا الوصف وهذا الامتداد والتشعب في حياتنا الدينية والفكرية والتشريعية والثقافية لجديرة بأن ندرسها، ونتفهمها، ونقومها: وهذا هو ما أرجو أن أنجزه في هذه الكلمة بأقصى ما يسعني من الإيجاز.
لقد ولدت النسبية في حجر السوفسطائيين، الذين صاغوها في العبارة المشهورة "الإنسان معيار كل شيء" بمعنى أنه هو الذي يحدد الحقائق العلمية، والقيم الخلقية ، وبوسعه أن يعدلها، أو يلغيها، أو يستبدل بها غيرها، وقد تصدى لهم سقراط، مدافعاً عن موضوعية الحقيقة والقيمة واستقلالهما عن إرادة الإنسان وشهواته.
وماتت النسبية دهراً طويلاً، ثم بعثت من جديد وشاعت في الفكر الفلسفي الأوروبي الحديث...). ( أساطير المعاصرين ، ص 169 – 170 )
كيف ترد على من يردد هذه السفسطة ؟!(9/12)
من يردد هذه الفكرة إما أن يكون مسلمًا أو غير مسلم . وغير المسلم إما أن يكون ملحدًا أو غير ملحد . فالملحد تُقام عليه الأدلة البينة الدالة على وجود الله ؛ ثم إذا آمن بذلك أقيمت عليه وعلى غير الملحد من الكفار الأدلة الدالة على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ( وتراجع في ذلك الكتب المختصة بهذا ) فإذا آمن به لزمه أن يؤمن بكل ما جاء به من عند الله ؛ ومن ذلك أن الإسلام هو خاتم الأديان ، وهو الحق الذي لايقبل الله غيره . ثم يُلحق بالمسلم - كما سيأتي - .
وأما إن كان من يُردد هذه الفكرة أحد من يُظهر الإسلام ؛ فإنه يُقال له : هل تعني بهذه العبارات أن الحق قد يكون في الإسلام وقد يكون في غيره من الديانات المحرفة أو الباطلة ؟! فإن قال : نعم ! قيل له : هذه ردة صريحة وكفر بدين الله ؛ القائل ( ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) ، والمخبر بأن الإسلام هو " الحق " في عدة آيات ؛ منها قوله ( إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا ) ، وقوله ( وكذب به قومك وهو الحق ) ، وقوله ( قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولايُحرمون ما حرم الله ورسوله ولايدينون دين الحق ) ، وقوله ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ) ، وقوله ( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ) ، وقوله ( والذي أنزل إليك من ربك الحق ) ، وقوله ( وقل الحق من ربكم ) ، وقوله ( والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق ) .(9/13)
فإن قال : معاذ الله أن أقول بهذا ؟! ولكني أعني : أن لا أحد يدعي امتلاك الحق من " المسلمين " . فيقال له : ولكن هذا يناقض الفكرة التي ترددها ! لأنك حصرت الحقيقة في أهل الإسلام ! فهذا يدل على بطلان ما تُردد . ولكن تنزلا معك يقال : هل تعني بذلك أن الحق قد يكون عند أهل السنة وقد يكون عند غيرهم من أهل البدع ؛ كالصوفية والرافضة والمعتزلة ..الخ . فإن قال : نعم . قيل له : سبق أنك أقررت بأن الحق هو الإسلام ؛ فلننظر أي هؤلاء يسير على الإسلام الذي أرسل لأجله محمد صلى الله عليه وسلم دون تحريف ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أهل الإسلام يفترقون إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة . فلما سئل : من هي ؟ قال : " من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي " ، وقال : " من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد " . وماكان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه معروف معلوم ؛ قد جاءت به نصوص الكتاب والسنة وآثار الصحابة ، وما حدثت هذه الفرق إلا بعدهم باتفاق الجميع .
فإن قال : بل أنا أعني أن الحق داخل إطار أهل السنة ؛ ولكنه يختلف باختلاف أهل العلم والأشخاص . فيقال : يكفينا هذا منك ! فلماذا لا تعلنه عندما تردد تلك العبارات الموهمة ؟!
ثم الواحد من أهل السنة إن كان عاميًا سأل العلماء الثقات . وإن كان عالمًا أو طالب علم مميز بين الأدلة رجح ما يدل عليه الكتاب والسنة . مع ملاحظة الفرق بين المسائل " الاجتهادية " التي لم يتبين فيها الدليل فلا حرج من الاختلاف فيها مع نية طلب الحق لا التشهي ، وبين المسائل " الخلافية " التي تبين فيها الدليل ووضح " الحق " فلا عبرة بالمخالف ؛ مع حفظ مكانته إن كان من أهل الفضل . ( ويُراجع في هذا الكتب والرسائل المصنفة في الاختلاف ؛ كرسالة " الاختلاف وما إليه " للشيخ بازمول ) .
أسأل الله الهداية والتوفيق للمسلمين ، وأن يُجنبنا الحيرة والشك وحال أهل الريب .(9/14)
ثقافة التلبيس ( 10 ) : مصطلح : " الآخر " ..!
سليمان بن صالح الخراشي
( مع الحملة العسكرية المتصاعدة التي ابتدأتها راعية الصليب في العصر الحاضر على بعض الدول الإسلامية، والتي يُنتظر –حسب ما يخطط له الصليبيون والصهيونيون- أن تعم دول العالم الإسلامي –عرباً وعجماً- بدأ يكثر الكلام وترتفع الأصوات في وسائل النشر المتعددة بالحديث عن "الآخر"، حتى أصبح هذا اللفظ بمثابة مصطلح يتداول بين الكتاب، وفي المناقشات والحوارات، وبدأت تغزو أسماعنا مقولات: "ما الموقف من الآخر" و"العلاقة بالآخر" و"ينبغي أن لا تنفي الآخر" و"ينبغي التسامح مع الآخر"، "التعاون مع الآخر" ولابد أن يكون هناك "موقف حضاري وتعددي من الآخر" ومطلوب "القبول بالتعددية والاعتراف بالآخر" و"الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجوده، وأفكاره بعيداً عن ضغوط الإكراه وموجات النفي والإلغاء" و"إعادة الاعتبار إلى الآخر وجوداً ورأياً ومشاعر" و"اكتشاف العناصر والمفردات الداخلية والخارجية التي تضيق الهوة مع الآخر".
تلك عينة من العينات التي باتت تتردد على ألسنة الكثير من االكتاب والكاتبات . والمقصود بالآخر في هذا الكلام "غير المسلم" أي الكافر، وهذا الكلام موجه للمسلمين، ومن يطالعه يخيل إليه من النظرة الأولى أن المسلمين جماعة من المتخلفين المتوحشين الذين يعيشون حياة بعيدة عن معاني الرقي والتمدن والحضارة !! وأنهم لا ينظرون إلا لأنفسهم إما جهلاً وانغلاقاً، وإما تجبراً وكبراً، ثم يدلي كلٌ من هؤلاء الكتاب والمتحدثين برأيه في تعليم المسلمين كيف يكونون متحضرين متقدمين في تعاملهم مع "الآخر" وفي النظرة إلى "الآخرة" وموقفهم من "أفكار الآخر" ! وسأحاول بعون الله أن ألقي الضوء على هذه القضية على النحو التالي:
من "الآخر" ؟!(10/1)
كثير من المواطن المطروحة للنقاش في هذا الموضوع تذكر كلمة "الآخر" دون بيان المراد منها، وفي بعضها يبين أن المراد هو "غير الإسلامي"، ولفظ "الآخر" لغةً لا يحمل قيمة دلالية تتعدى أو تتجاوز معنى لفظ "غير" دون أن يكون في ذلك دلالة على المخالفة أو الموافقة؛ فالآخر قد يكون منا، وقد يكون من غيرنا ؛ قال الله تعالى: { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } .قال ابن جرير: "عني بذلك كل لاحق لحق بالذين كانوا صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم في إسلامهم من أي الأجناس؛ لأن الله – عز وجل- عمَّ بقوله: ( وآخرين منهم) " ؛ فهنا وصف "الآخر" بأنه منهم، مما يعني أن "الآخر" قد يراد به المخالف، كما يراد به الموافق، وعلى ذلك فإن هذا اللفظ واسع المعنى يشتمل على أنواع متعددة من الموافقة والمخالفة على تعدد درجاتها، وحينئذ لا ينبغي أن يساق الحديث عن "الآخر" مساقاً واحداً؛ بحيث يعم الجميع بحكم واحد أو موقف واحد. وقد ظهرت مواقف كثيرة قدمت فيها أوراق وبحوث أغلبها ينطلق من الحديث عن "الآخر" بغير تفريق بين أنواعه، والسلوك الذي يوصف بأنه علمي يستوجب التفصيل حتى لا يكون هناك تجاوز في الأحكام والمواقف.
أنواع "الآخر" :
"الآخر" قد يكون كافراً، وقد يكون مسلماً، والكافر أنواع: فمنه الكافر الحربي، والكافر الذمي، والكافر المعاهد.
والمسلم أنواع: فمنه المسلم الذي هو من أهل السنة والجماعة، ومنه من هو من أهل البدعة والضلالة. والبدع منها الغليظة المكفِّرة ومنها دون ذلك؛ وإزاء هذا التباين الشديد؛ فإن سَوْق الكلام عن "الآخر" سوقاً واحداً فيه ظلم كبير، وتجاوز للصواب بيقين، وهو مُوقع في أحد الأطراف: إما الإفراط، وإما التفريط، وقديماً قالوا: كلا طرفي قصد الأمور ذميم ) . ( ا.هـ من مقال الأستاذ محمد شاكر الشريف بمجلة البيان ، العدد 206 بتصرف يسير ) .(10/2)
قلتُ : ولكل ممن ذكره الأستاذ وفقه الله أحكامه التي تخصه ؛ فالتعامل مع الكافر الحربي يختلف عن التعامل مع الكافر الذمي أو المعاهد ، والتعامل مع المسلم يختلف عن التعامل مع الكافر ، والتعامل مع السني يختلف عن التعامل مع المبتدع .. وهكذا ؛ فمن الخطأ والانحراف المساواة بينهم جميعًا في أحكام واحدة .
وقد بين العلماء رعاهم الله هذه الأحكام المتعلقة بكل صنف ممن سبق ؛ فألفوا في " أحكام أهل الذمة " ، وكتبوا في " أحكام أهل البدعة " .. الخ .
أنموذج لمن يحاول " مساواة " الكافر بالمسلم عند الحديث عن الآخر :
الأمثلة كثيرة في كتابات المعاصرين ممن يخوضون بجهل وهزيمة نفسية في هذا الموضوع ؛ حيث التلبيس المتعمد وتتبع الشبهات والمتشابهات لكي يساووا " شر البرية " من أصحاب الجحيم بأهل الإيمان والإسلام ! ويتعجب المسلم لهذا الجلد والحماس في سبيل الهدف السيئ السابق ؟ هل هو لأجل إرضاء اليهود والنصارى ، والظهور أمامهم بمظهر المتمدن المتحضر ؟! فالله يقول ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) فأربعوا على أنفسكم ياقوم ؛ فإننا لم نر من الكفار وأهل الصليب خاصة - رغم مداهناتكم وتزلفكم لهم - سوى المزيد من الاستكبار والتسلط على المسلمين ( فكريًا وعسكريًا ) . فلا للأعداء أرضيتم ، ولا لدينكم أبقيتم .(10/3)
والمثال الذي أورده هنا هو كتيب لأحد مثقفي أهل اليمن ( أحمد الدغشي ) ؛ عنوانه " صورة الآخر في فلسفة التربية الإسلامية " قامت " مجلة المعرفة " عندنا بطباعته وتوزيعه مجانًا ! ؛ لعله يساهم في تحسين صورة المسلمين أمام أعدائهم بعد أحداث 11سبتمبر ( زعموا ) ! فعالجوا " التطرف " بـ " تطرف آخر " وتمييع لأحكام الإسلام إرضاء لخصومه ؛ وهيهات أن يرضوا - كما أخبر تعالى - . ولو أنهم وُفقوا لما استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ؛ ولبادروا بتبيين أحكام الإسلام " العادلة " التي تأمر بالبر والقسط مع الكافر ( غير الحربي ) مع البراءة من كفره ، وتنهى وتُشدد في أمر التعدي عليه ؛ دون أن ترفعه فوق مكانه الذي أراده الله له بسبب كفره . فكان بإمكانهم الرجوع إلى فتاوى كبار العلماء لدينا المتعلقة بهذا الموضوع ؛ أو الرجوع إلى كتابات الدعاة وأهل التربية من أهل العقيدة الصحيحة ؛ بدلا من الاقتيات من موائد العصرانيين والمداهنين .
مجمل كتيب الأستاذ اليمني يقوم على عبارة شهيرة يرددها بعض المفكرين عند حديثهم عن أحكام الكفار ؛ وهي : ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا ) ! يزعمون من خلالها أن أحكام الكفار كأحكام المسلمين سواء بسواء !
وهذه العبارة باطلة لا أصل لها كما بين العلماء ؛ وعلى رأسهم العلامة المُحدّث الألباني رحمه الله الذي بين تهافتها في مواضع كثيرة من السلسلة الصحيحة والضعيفة ، وأنها مخالفة للنصوص الشرعية الصحيحة المفرقة بين المسلم والكافر في الأحكام وفي الحال والمآل ( انظر مثلا : الضعيفة 5 /195-197) .
وقد رد الدكتور عبدالعزيز آل عبداللطيف على كتيب الدغشي السابق بمقال نُشر في مجلة " المعرفة " ( عدد شوال 1425) ؛ سأعرضه لاحقًا - إن شاء الله - .
يقول الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - :
((10/4)
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمّد وآله وصحبه.. وبعد: فقد كثر على ألسنة بعض الكتاب أنه لا تجوز تخطئة المخالف، وأنه يجب احترام الرأي الآخر، وأنه لا يجوز الجزم بأن الصواب مع أحد المختلفين دون الآخر. وهذا القول ليس على إطلاقه؛ لأنه يلزم عليه أن جميع المخالفين لأهل السنة والجماعة على صواب ولا تجوز تخطئتهم، وهذا تضليل؛ لأنه يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: هم مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" .
ويلزم على هذا القول أيضا أن المخالف للدليل في مسائل الاجتهاد لا يقال له مخطئ، ولا يردّ عليه، وهذا يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد" فدل على أن أحد المجتهدين المختلفين مخطئ، لكن له أجر على اجتهاده ولا يتابع عليه؛ لأن اجتهاده خالف الدليل، وإنما يصحّ اعتبار هذا القول، وهو عدم الجزم بتخطئة المخالف، في المسائل الاجتهادية التي لم يتبين فيها الدليل مع أحد المختلفين، وهو ما يعبر عنه بقولهم: "لا إنكار في مسائل الاجتهاد"، و"الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد".
وهذا من اختصاص أهل العلم وليس من حق المثقفين والمفكرين الذين ليس عندهم تخصص في معرفة مواضع الاجتهاد وقواعد الاستدلال أن يتكلموا ويكتبوا فيه.
ولو كان لا يخطأ أحد من أصحاب الأقوال والمذاهب لكانت كتب الردود والمعارضات التي ردّ بها العلماء على المخالفين كلها مرفوضة، ولما كان لقوله تعالى "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ" فائدة ولا مدلول؛ لأنه لا تجوز تخطئة المخالف، وهذا لازم باطل؛ فالملزوم باطل.(10/5)
وما نقرؤه وما نسمعه من اتهام للعلماء الذين يردّون على المخالفين بأنهم يحتكرون الصواب لهم، ويخطئون مَن خالفهم، وأنهم يصادرون الآراء والأفكار.. إلى آخر ما يقال؛ فهو اتهام باطل؛ فإن العلماء المعتبرين لا يحتكرون الصواب في أقوالهم، وإنما يخطئون مَن خالف الدليل، وأراد قلب الحقائق؛ فيردّون على مَن هذه صفته عملاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". وقد ردّ الله - سبحانه وتعالى - على أهل الضلال في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، وشرع لنا الردّ عليهم؛ إحقاقاً للحق، وإزهاقاً للباطل. ولولا ذلك لشاع الضلال في الأرض، وخفي الحق، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، بل شرع الله لنا ما هو أعظم من ذلك، وهو جهاد أهل الباطل بالسيف والسنان، وبالحجة والبيان؛ قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} .
وإذا كان حصل من بعض المتعالمين سوء أدب مع المخالفين، وتجاوز للحدود المشروعة في الردّ فهذا لا ينسب إلى العلماء، ولا يتخذ حجّة في السكوت عن بيان الحق، والردّ على المخالف. هذا ما أحببت التنبيه عليه {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ، وصلى الله وسلم على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه) .صالح بن فوزان الفوزان - عضو هيئة كبار العلماء جريدة الجزيرة عدد 11672/الأحد 27 رجب 1425 .(10/6)
ثقافة التلبيس ( 11 ) : قولهم:لابد من فتح المجال لجميع المذاهب في السعودية!!
سليمان بن صالح الخراشي
هذه شبهة بدأت تتردد في " السعودية " بعد ما يُسمى أحداث 11 سبتمبر ، والفتنة التي حدثت جراءها . يقوم بترديدها بعض المناوئين لمنهج هذه الدولة " الإسلامي السلفي " : من العلمانيين وبقايا المتصوفة والرافضة ، الذين استغلوا هذه الأحداث مؤازرة مع الغربيين للضغط على الدولة للتخلي عما هي عليه من تمسك بالإسلام والسلفية .
ولكي يقبل الناسُ مطالبهم ؛ فإنهم يزعمون أنه لايليق بالدولة أن تتبنى مذهبًا واحدًا - هو المذهب الحنبلي كما يقولون ! - وتحجرَ على المذاهب الإسلامية الأخرى !
فتسألهم : ماهي هذه المذاهب التي يُحجر عليها في هذه البلاد ؟
فيقولون - في خلط متعمد - : المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والشيعي والصوفي !!
فيمزجون المذاهب ( الفقهية ) لأهل السنة بمذاهب أهل البدع ( العقدية ) بدعوى أن الظلم طالها جميعًا .
فيصدقهم بعض الطيبين ويردد ما يقولون تضامنًا مع المظلومين !
ولكشف هذا التلبيس لابد من معرفة هذه الأمور :
1 - أن هذه الدولة المباركة قامت في عقيدتها على تبني الإسلام الصحيح الوارد في الكتاب والسنة ، والذي كان عليه سلف هذه الأمة ؛ ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذ ، وهو الذي قام شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبدالوهاب وتلاميذه - رحمهم الله - بتجديده والدعوة إليه ، وحمايته بالسلطان .
ولافرق في هذا بين " حنبلي " أو " حنفي " أو " مالكي " أو " شافعي " ؛ لأن الجميع من ( أهل السنة ) ، عقيدتهم واحدة .
وهذا ما أكده الشيخ محمد في رسائله وأقواله ؛ كقوله مثلا في رسالته إلى من يصل إليه من المسلمين :
( أخبركم أني ولله الحمد عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم الدين ) . ( الرسائل الشخصية ، ص 150 ) .(11/1)
أو قوله : ( وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد ؛ فنحن مقلدون الكتابَ والسنة ، وصالحَ سلف الأمة ، وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة : أبى حنيفة النعمان بن ثابت ، ومالك بن أنس ، ومحمد بن إدريس ، وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى ". ( الدرر السنية ، 97/1) .
أو قوله في رسالته إلى عبدالرحمن بن عبدالله : ( قلت لهم أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية والمالكي والشافعي والحنبلي كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم ، فلما أبو ذلك نقلت لهم كلام العلماء من كل مذهب وذكرت ما قالو بعد ما حدثت الدعوة عند القبور والنذر لها فصرفوا ذلك وتحققوه ولم يزدهم إلا نفورا ) . ( الرسائل الشخصية ، ص 38 ) .
هذا في ( العقيدة ) : لا فرق بين الجميع ( الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ) عند الشيخ ؛ كلهم أهل سنة ، أصولهم واحدة ، ودعوتهم واحدة ، وهذه البلاد السلفية لهم جميعًا .
--------------------------------------------------------------------------------
2 - أما في ( الفقه ) ؛ فكان أهل نجد - ومنهم الشيخ - كغيرهم من أهل البلاد الإسلامية الأخرى تفقهوا على مذهب من المذاهب الأربعة المنتشرة ؛ لتنضبط دراستهم .
ومع هذا فإن الشيخ وتلاميذه لا يتعصبون لغير الدليل الشرعي ؛ ولو خالف مذهب أحمد .
كذلك فإنهم لا يُنكرون على من تفقه على المذاهب الثلاثة الأخرى ؛ مادام سلفيَ العقيدة .
وهذا ما صرح به الشيخ : كما في قوله : ( وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة ، ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وقول جمهورها ) . ( الرسائل الشخصية ، ص 107) .(11/2)
قال الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله - : ( إن الشيخ – رحمة الله – ما جاء بمذهب مستقل ، وإنما هو في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وإذا ترجح عنده القول بالدليل أخذ به ولو لم يكن في مذهب الإمام أحمد ، يعني أنه لا يتعصب إلى الشخص ، وإنما يذهب إلى الحق ، فهو حنبلي ، ولكن إذا كان الدليل مع غير أحمد وفي غير مذهب أحمد فإنه يأخذ به ،لأن الإمام أحمد - رحمه الله – يأمر بهذا ، يأمر أن نتبع الدليل ، ولا نأخذ قوله ولا قول غيره ، قال رحمه الله : " عجبتُ لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان - هو سفيان الثوري رحمة الله - والله تعالى يقول: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) : أتدري ماالفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله - أي بعض قول الرسول صلى الله عليه وسلم - يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك " اهـ ؛ هذا قول الإمام أحمد ، فالشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب هو على مذهب الإمام أحمد ، إمام أهل السنة ، ولكنه لا يتعصب لمذهب أحمد ، بل متى وجد الدليل مع غيره أخذ بالقول الذي عليه الدليل ، وهذا موجود في فتاواه وفي رسائله ، موجود معروف مدون.هذا في الفقه ، أما في العقيدة فهو على عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة الأربعة ) . ( رد شبهات حول دعوة المجدد الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب ، ص 35-37) .
--------------------------------------------------------------------------------
أخيرًا : يقول الدكتور ناصر القفاري رادًا على التلبيس السابق :
((11/3)
لقد توهم بعض الناس أن تعدد المذاهب الفقهية هو تعدد في الاتجاهات العقدية، ويبدو أن هذا الوهم قديم، ففي عصر ابن تيمية رُفع إليه سؤال يطلب منه صاحبه بيان الاعتقاد في مسألة وفق مذهب الشافعي، فأجابه الشيخ: بأن مذهب الشافعي هو مذهب سائر الأئمة، ومذهب الأئمة هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وهو ما نطق به الكتاب والسنة . وفي مجلس المناظرة المعقودة بشأن الواسطية قال الحاكم الذي يحضر المناظرة : "أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد، فتقول هذا اعتقاد أحمد.." فأجابه شيخ الإسلام: بأن هذه عقيدة الأئمة وسلف الأمة التي تلقوها عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فهذه "عقيدة محمد، صلى الله عليه وسلم" . ( الفتاوى: 3/ 169 ) .<o:p> </o:p>
ولم يقتصر الأمر على مجرد توهم الاختلاف عند بعض العامة، بل تبعه في عصرنا ترويج لهذا المفهوم وإشاعة له، وبلغ الأمر أن أقيمت مراكز، وصنفت كتب، وصدرت مقالات في دوريات تتبنى هذه المفاهيم الخاطئة ؛ فمثلاً : قامت (دار التقريب ) في مصر وكان شعارها ومنهجها التقريب بين المذاهب الستة ! أي التقريب بين المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والزيدي والاثني عشري، أي إنها جعلت المذاهب الأربعة كالفرق المبتدعة المخالفة للسنة في الاعتقاد سواء بسواء !!(11/4)
وهذا تلبيس عظيم، حيث يُفتعل خلاف لا وجود له، وفرقة بين المذاهب الفقهية لا مكان لها، ويُدعى تقارب بين فرق بدعية الخلافُ معها قائم في أصول الاعتقاد ؛فيوهم الناس أن الخلاف بين الحنابلة والشافعية كالخلاف مع الرافضة، أي أن الخلاف في مسائل الاجتهاد كالاختلاف في أصول الاعتقاد، أو أنه لا اختلاف مع الرافضة في الاعتقاد، إنما هي خلافات يسيرة في أمور الفروع، أي أن ما عند الروافض من عقائد باطلة هي حق، وهذا حكمٌ على الباطل بأنه حق ، وصد لأبواب الهداية أمام المغرر بهم من الرافضة حيث يعتقدون أن ما عند السنة لا يختلف عما عندهم ؛ فيبحثون عن ضالتهم في غير السنة، أو يشكون في الإسلام ذاته إذا رأوا أن ما هم عليه فاسد في العقل، ومخالفٌ للفطَر ، وقيل لهم إن هذا بعينه هو ما عند أهل السنة ) . ( أصول الدين عند الأئمة الأربعة واحدة ، ص 51-52) .
قلت ُ : فليحذر أهلُ الإسلام من تلبيس أهل الباطل الذين يريدونَ صرفَهم عن الحق إلى باطلهم ، أو ثنيَهم عن التمسك به ، وليخبروهم أن لامكان في هذه البلاد لغير " أهل السنة " ؛ وأما غيرهم من المنافقين وأهل البدع فإنهم يعيشون فيها مكبوتين غير ظاهرين ؛ إلى أن يلحقوا بركب المؤمنين .(11/5)
ثقافة التلبيس(12) : خلطهم بين الحب الشرعي للوطن والحب الوثني !
سليمان بن صالح الخراشي
يتردد عند كثير من الكتاب هذه الأيام الحديث عن " الوطنية " ، والتغني بحب الوطن ، دون ضوابط من البعض تمنعه عن الخلط بين الحب " الشرعي " للوطن المسلم ، بالحب غير الشرعي . ولاأذيع سرًا إذا ما قلتُ بأن لفظة " الوطنية " غير محببة لدى كثيرين ؛ بسبب ارتباطها أول نشأتها بالفكرة الانعزالية التي تقيم حاجزًا بين أبناء الإسلام إذا ما اختلفت أوطانهم ، وتُطغي حبهم لأوطانهم على حبهم لدينهم ؛ حتى قال قائلهم في وطنه :
ولو أني دُعيتُ لكنتَ ديني *** عليه أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي *** إذا فهتُ الشهادة والمتابا !
وهذه " وثنية " لا " وطنية " ؛ لا أظن مسلمًا يرضاها لنفسه - والعياذ بالله - .
وللفائدة ؛ فهذه الدعوة الوطنية " الوثنية " ابتدأت - باعتراف أحد دعاتها وهو الدكتور محمد عمارة - منذ الحملة الفرنسية على مصر ؛ يقول الدكتور : ( لقد كان الناس في مصر يفكرون تفكيرًا إسلاميًا يعرف الملة ولا يعرف الوطن ولا القومية ؛ فسلكت الأفكار الوطنية أو القومية التي ألقى الفرنسيون بذورها في تربة مصر إلى عقول الناس ) ( 1 )
ثم ازدادت هذه الفكرة الوثنية اشتعالا بسبب النصارى العرب - سواء القادمين من الشام إلى مصر أ الأقباط - فنفخوا فيها ونشروها ؛ لأنها تحقق لهم مصالحهم - كما لا يخفى - . ثم سرت في معظم بلاد المسلمين - للأسف - برعاية استعمارية ؛ يستفيد منها العدو في عزل بلاد المسلمين عن بعضها البعض ، وتشتيتها من خلال هذه الدعوة الجاهلية .
ويزداد الأسف ؛ عندما نرى بوادر لهذه الدعوة تسري إلى بلادنا من خلال كتابات هنا وهناك ؛ تحاول لبس الحق بالباطل ؛ وتعيد هذه الفكرة جذَعة في بلاد التوحيد ؛ في محاولة لصرف ( المملكة العربية السعودية ) عن دورها الإسلامي العظيم المنتظر منها في قيادة المسلمين إلى كل خير .(12/1)
لذا ؛ فقد أحببت أن أنتقي ما وقفت عليه من عبارات للشيخ العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - ؛ يوضح فيها الفروق بين الحب الشرعي للوطن ، والحب الجاهلي ؛ لعل الله ينفع بها .
يقول الشيخ في شرح حديث " وإذا استنفرتم فانفروا " :
( ويجب على المسلمين أن يكون منهم جهاد في العام مره واحدة ؛ يجاهَد أعداء الله ؛ لتكون كلمة الله هي العليا ، لا لأجل أن يدافعوا عن الوطن لأنه وطن ، لان الدفاع عن الوطن من حيث هو وطن يكون من المؤمن والكافر ، حتى الكفار يدافعون عن أوطانهم ، لكن المسلم يدافع عن دين الله ، فيدافع عن وطنه لا لأنه وطنه مثلا ، ولكن لأنه بلد إسلامي فيدافع عنه حماية للإسلام .
ولهذا يجب علينا في مثل هذه الظروف التي نعيشها اليوم ؛ يجب علينا أن نُذكر جميع العامة بأن الدعوة إلى تحرير الوطن وما أشبه ذلك دعوة غير مناسبة ، وأنه يجب أن يعبأ الناس تعبئة دينية ، ويقال إننا ندافع عن ديننا قبل كل شي ؛ لأن بلدنا بلد دين وإسلام يحتاج إلى حماية ودفاع ، فلا بد أن ندافع عنه بهذه النية . أما الدفاع بنية الوطن أو بنية القومية فهذا يكون من المؤمن والكافر ولا ينفع صاحبه يوم القيامة ، وإذا قتل وهو يدافع بهذه النية فليس بشهيد ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل ليُرى مكانه أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ". انتبه إلى هذا القيد ! إذا كنت تقاتل لوطنك فأنت والكافر سواء ، لكن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ممثلة في بلدك ؛ لأن بلدك بلد إسلام ، ففي هذه الحال ربما يكون القتال قتالا في سبيل الله .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من مكلوم يُكلم في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله – أي يجرح – إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك " .(12/2)
فانظر كيف اشترط النبي صلى الله عليه وسلم للشهادة أن يكون الإنسان يقاتل في سبيل الله . فيجب على طلبة العلم أن يبينوا هذا والله الموفق ) . ( 2 ) .
وقال - رحمه الله - في شرح حديث " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " :
( ونحن إذا قاتلنا من أجل الوطن لم يكن هناك فرق بيننا وبين الكافر ؛ لأنه أيضا يقاتل من أجل وطنه . والذي يُقتل من أجل الدفاع عن الوطن فقط ليس بشهيد ، ولكن الواجب علينا ونحن مسلمون وفي بلد إسلامي ولله الحمد ونسأل الله أن يثبتنا على ذلك ، الواجب أن نقاتل من اجل الإسلام في بلادنا .
انتبه للفرق : نقاتل من أجل الإسلام في بلادنا ، فنحمي الإسلام الذي في بلادنا ؛ سواء كان في أقصى الشرق أو الغرب ، فيجب أن تصحح هذه النقطة : فيقال : نحن نقاتل من أجل الإسلام في وطننا أو من أجل وطننا لأنه إسلامي ، ندافع عن الإسلام الذي فيه .
أما مجرد الوطنية فإنها نية باطلة لا تفيد الإسلام شيئا ، ولا فرق بين الإنسان الذي يقول إنه مسلم والإنسان الذي يقول إنه كافر إذا كان القتال من أجل الوطن لأنه وطن .
وما يُذكر من أن " حب الوطن من الإيمان " وأن ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب . حب الوطن إن كان إسلاميا فهذا تحبه لأنه إسلامي ، ولا فرق بين وطنك الذي هو مسقط رأسك أو الوطن البعيد عن بلاد المسلمين كلها وطن إسلامي يجب أن نحميه .
على كل حال ؛ يجب أن نعلم أن النية الصحيحة هي أن نقاتل من أجل الإسلام في بلدنا أو من أجل وطننا لأنه إسلامي لا لمجرد الوطنية ) . ( 3 )
وقال - رحمه الله - عند حديث " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء .." :
( بقي علينا : الذي يقاتل دفاعا عن بلده ؛ هل هو في سبيل الله أو لا ؟(12/3)
نقول : إن كنت تقاتل عن بلدك لأنها بلد إسلامي فتريد أن تحميها من أجل أنها بلد إسلامي فهذا في سبيل الله ، لأنك قاتلت لتكون كلمة الله هي العليا . أما إذا قاتلت لأجل أنها وطن فقط ؛ فهذا ليس في سبيل الله ، لأن الميزان الذي وضعه النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطبق عليه ، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة ، والله الموفق ) . ( 4 )
وقال - رحمه الله - تعليقًا على عبارات " النشيد الوطني " لما سئل عنها ؛ فلم يتوقف سوى عند عبارة " عاش المليك للعلم والوطن " قائلا :
( يُنظر أولا : هل العلم وهو جماد يُخاطب بمثل هذا الخطاب ؟
ثانيا : هل مثلا يقال لله والوطن ، أو عاش المليك للعلم والوطن ؟
ما معنى هذا الكلام ؟ أما قولنا : عاش المليك فلا بأس أن ندعوا له بالعيش الحميد والحياة الطيبة ، وأن يسدد الله خطاه وأن يدله على الخير ، هذا لابأس به ؛ بل من منهج السلف الدعاء لولاة الأمور بالصلاح والسداد ، لكن العبارة الثانية : " للعلم والوطن " ما معنى للعلم والوطن ؟ هل المعنى عاش للعلم وعاش للوطن ؟ أو المعنى أقول ذلك تعظيمًا للوطن ؟(12/4)
والحقيقة إن الذي ينبغي علينا هو أن نوجه شبابنا إلى التحمس للدين ، وليس للوطن من حيث إنه وطن ، ولهذا ترك الصحابة أوطانهم في الفتوحات الإسلامية وذهبوا يسكنون الكوفة والبصرة والشام ومصر ؛ لأن وطن المسلم هو ما يستقيم به دينه ، فكوننا نربي الأجيال على الدفاع عن الوطن أو ما أشبه ذلك ، دون أن نشعرهم بأننا نحمي وطننا ، أو ندافع عن وطننا من أجل ديننا ، لأن وطننا والحمد الله – أعني بذلك المملكة العربية السعودية – هي من خير أوطان المسلمين إقامة لدين الله ، فإذا كان الإنسان يريد بالوطنية ، أي أن وطننا هو أحسن الأوطان في الوقت الحاضر ، بالنسبة لإقامة الدين ، فأنا أدافع عن وطني لأنه الوطن الذي يطبق من أحكام الشريعة ما لا يطبقه غيره ، وإن كان عندنا خلل كثير ، فهذا لا بأس ، أما مجرد الوطنية فهذه دعوة فاشلة ) . ( 5 )
قلتُ : لعل عقلاء هذه البلاد يدركون الفارق بين الدعوتين ، فيُلحون على المعنى الشرعي الذي يُبرز أن رفعة وطننا وعزه ، وسبب محبتنا - بل محبة المسلمين له - والدفاع عنه أنه مأرز الإيمان ، ومنطلق الرسالة ؛ حيث لافخر لنا بغير هذا ؛ مع عدم إغفال تواصلنا مع المسلمين في كل مكان ، ودعمنا لقضاياهم ، وتصدرنا لها ، فهذا هو - والله - خير ما يبقى لأهل هذه البلاد ، وهو الذي يُحقق ما يهدف له من يريد نشر المحبة الحقيقية للوطن ، ويجعل المسلمين يتفاعلون معه . بخلاف المعنى الضيق الذي لايزيد الأمر إلا سوء مهما بذلنا واجتهدنا ؛ لأن معظم المسلمين - ولله الحمد - لاينقادون لغير المحبة الشرعية .
مع التنبه والحزم مع كل من يريد بث المعنى الوثني الضيق للوطنية ؛ الذي لايليق بهذه البلاد ؛ وينطبق عليه قوله تعالى : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } ؟(12/5)
ومن الاقتراحات التي أراها مناسبة لترسيخ المعنى الشرعي لحب الوطن في هذا البلاد ؛ أن نتبنى شعار : ( السعودية .. وطن الإسلام ) ؛ ليكون شعارًا لحملة وطنية يتم من خلالها إبراز مكانة هذه البلاد ، ومعنى الحب الشرعي لها ، واختيار الأفراد المناسبين للقيام بها . والله الهادي ..
-----------------
الهوامش :
( 1 ) الأعمال الكاملة للطهطاوي ، 1/41
( 2 ) شرح رياض الصالحين ، 1/27
( 3 ) السابق ، 1/56
( 4 ) السابق ، 1/285
( 5 ) الباب المفتوح 41-50/ص 37(12/6)
ثقافة التلبيس ( 13 ) : عدم تكفير اليهود والنصارى ..!
سليمان بن صالح الخراشي
يمارس هذا التلبيس فريقٌ من المنافقين المؤاخين لليهود والنصارى ممن أشربت قلوبهم محبتهم حتى أداهم ذلك إلى أن يمدحوا أديانهم الباطلة ويعدوها أديانًا حقًة لا تثريب عليهم في اتباعها ، وأنهم لا يكفرون بهذا ! في مجاوزة منهم لحدود الله وأحكامه ، ووقوع في ناقض من نواقض الإسلام ، كلُ هذا طلبًا لرضاهم أو خلطًا بين تقدم بعضهم " دنيويًا " والحكم على أديانهم . وهذا ليس بمستغرب ممن قال الله عنهم ( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا ) ، ولكنه مستغربٌ من بعض من يُسمون بالمفكرين الإسلاميين ! الذين هان عندهم الوقوع في هذا الناقض في سبيل أن يحظوا بوصف " التسامح " ، أو بسبب الهزيمة النفسية التي تمنعهم من الصدع والفخر بدين الله الذي جعله خاتم الأديان .
ولتأكيد ضلال اليهود والنصارى وأنهم على دين باطل بعد نسخه بدين محمد صلى الله عليه وسلم أمر اللهُ المسلمَ أن يسأله في كل يوم، وفي كل صلاة، وفي كل ركعة، أن يهديه الصراط المستقيم الصحيح المتقبل، وهو الإسلام، وأن يجنبه طريق المغضوب عليهم: وهم اليهود وأشباههم، الذين يعلمون أنهم على باطل ويصرون عليه، ويجنبه طريق الضالين: الذين يتعبدون بغير علم، ويزعمون أنهم على طريق هدى، وهم على طريق ضلالة، وهم النصارى ومن شابههم من الأمم الأخرى، التي تتعبد على ضلال وجهل، وكل ذلك ليُعلم أن كل ديانة غير الإسلام فهي باطلة، وأن كل من يتعبد الله على غير الإسلام فهو ضال، ومن لم يعتقد ذلك فليس من المسلمين، وفعله هذا من صور الموالاة التي يُحكم على باذلها بالكفر كما ذكر ذلك أهل العلم .(13/1)
ولمعرفة بداية التشكيك في كفر اليهود والنصارى وغيرهم ، ومراحل الدعوة إلى " وحدة الأديان " يُنظر : رسالة " محمد عمارة في الميزان " ( ص 354-370 ) ، ورسالة " دعوة التقريب بين الأديان " للدكتور أحمد القاضي " 4 مجلدات " ، ورسالة الشيخ بكر أبوزيد " الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان " . وإنما أكتفي هنا ببيان أدلة تكفير اليهود والنصارى ؛ كشفًا لهذا التلبيس :
الوجه الأول : في الأدلة من القرآن على كفر اليهود والنصارى :
وهي كثيرة جداً ، سأكتفي بأوضحها دلالة:
1- قال تعالى: ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيما ).(13/2)
قال ابن كثير: (يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى حيث فرّقوا بين الله ورسله في الإيمان ؛ فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم إلى ذلك ، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية ، فاليهود عليهم لعائن الله آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم ، والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران، والمجوس يقال إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت ثم كفروا بشرعه فرفع من بين أظهرهم والله أعلم. والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض ، فمن ردّ نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً إنما هو عن غرض وهوى وعصبية ، ولهذا قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله) فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله )يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله( أي في الإيمان )ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً( أي طريقاً ومسلكاً، ثم أخبر تعالى عنهم فقال: (أولئك هم الكافرون حقاً) أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به ؛ لأنه ليس شرعياً ، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه لو نظروا حق النظر في نبوته) . قلت : وهذه الآية أعتقد أنها كافية لمن يريد الهداية .
2- قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة... ).
قال ابن كثير: (أما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى والمشركون عبدة الأوثان والنيران من العرب) .(13/3)
ففي هذه السورة تكفير لهم لعدم إيمانهم بالقرآن وهو البينة وعدم إقامتهم الصلاة والزكاة، ثم أخبر أنهم في نار جهنم ؛ فقال تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية) قلت: قد يوحي الشيطان إلى أحد أن هذه السورة في (الذين كفروا من أهل الكتاب) وهم من لم يقيموا دينهم مثلاً. فيقال: لو صح ذلك لقيل إن الله تعالى كفّرهم لأجل عدم إيمانهم بالقرآن وإقامتهم الصلاة والزكاة وهم مشتركون في هذا - طيبهم وخبيثهم - وهذا واضح ، ويقال ثانياً: إن الله تعالى قال: (من أهل الكتاب والمشركين) فيلزم أن في المشركين من يمكن أن يكون مؤمناً! وهذا ما لا يقول به عاقل .
3- قال تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم).
4- قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) الخطاب لجميع أهل الكتاب أن يدعوا اعتقادهم الشركي في المسيح وعزير ؛ فإن لم يفعلوا ذلك فهم ليسوا مسلمين.
5- قال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون).
6- قال تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم: (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً)
7- قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون).
8- قال تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً). قال ابن كثير: (يقول تعالى آمراً أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ومتهدداً لهم إن لم يفعلوا).(13/4)
9- قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً). فمن كفر برسول واحد فقد ضل ضلالاً بعيدًا .
10- قال تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام...) الآية. وقوله: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا على فترة من الرسل) قلت: فإذا كفتهم رسلهم. فلماذا يرسل الله تعالى إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم ؟!
11- قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
12- قال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس).
13- قال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) وتأمل قوله تعالى: (جميعاً) فهو تأكيد لعموم الرسالة لكي لا يُسْتثنى أحد من يهود أو نصارى .
الوجه الثاني : ما يشهد على كفرهم من السنة:
وسأكتفي منها بالأدلة الصريحة وأقلل منها اكتفاءً بما سبق من آيات القرآن :
1- قال صلى الله عليه وسلم : "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار" قال النووي في شرح مسلم)(2/188) : ( وقوله صلى الله عليه وسلم لا يسمع بي أحد من هذه الأمة أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته ، وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهاً على من سواهما ، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاباً فغيرهم ممن لا كتاب له أولى ، والله أعلم ) .
2- قال صلى الله عليه وسلم: " لو تابعني عشرة من اليهود لم يبق على ظهرها يهودي إلا أسلم" رواه مسلم . أي أنهم غير مسلمين إذا لم يتابعوه صلى الله عليه وسلم .(13/5)
3- وفي صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه : ( أن رجلاً أسلم ثم تهود. فأتاه معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو عند أبي موسى- فقال: ما لهذا؟ قال : أسلم ثم تهود . قال : لا أجلس حتى أقتله قضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ( . والشاهد: قول معاذ )قضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم) لأنه معلوم عندهم أن من أسلم من اليهود والنصارى ثم رجع إلى دينه قتل لأنه مرتد ، ولم يقل أحد أن الأديان كلها توصله إلى النجاة ! وإلا لتركه الصحابة وشأنه واختياره .
4- وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث التجلي يوم القيامة " .. ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنه السراب فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم: اشربوا فيتساقطون..." وذكر الحديث .
الوجه الثالث: أن المسلمين قد أجمعوا على كفر اليهود والنصارى(13/6)
ولم يشذ أحد منهم غير غلاة الصوفية وفرق الزندقة الذين لا يُعدون من جملة المسلمين . قال ابن حزم في مراتب الإجماع ( ص119 ) : ( واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفاراً ) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (12/496) : ( قد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع أن من بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة) ، وقال (12/499) : (نعلم أن خلقاً لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة مثل أهل الذمة والمقرين بالجزية على كفرهم) وقال (35/201) : (إن اليهود والنصارى كفار كفراً معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام) . ولقد نقل القاضي عياض - رحمه الله تعالى- الإجماع على كفر من لم يكفر الكافر، وذلك عند كلامه عن تكفير من صوب أقوال المجتهدين في أصول الدين حيث قال: "وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من النصارى واليهود، وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك" ( الشفا ، 2/603) . وقال أيضاً (2/610) : "... ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهار ما أظهره من خلاف ذلك" . وقال الحجاوي - رحمه الله تعالى - : " من لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم فهو كافر" ( كشاف القناع ،6/170) . وذكر الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- من نواقض الإسلام: "الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر" .(13/7)
وقال الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب - رحمهم الله تعالى-: "فإن كان شاكاً في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك وتردد فإنه كافر بإجماع العلماء على أن من شك في كفر الكفار فهو كافر" . ( رسالة أوثق عرى الإيمان ، ص 61) . وقال الشيخ عبدالله أبابطين في " الانتصار لحزب الموحدين والرد على المجادل عن المشركين ، ص 43 " : " قد أجمع العلماء على كفر من لم يُكفر اليهود والنصارى أو يشك في كفرهم " . هذا إجماع أهل الإسلام في قديم الدهر وحديثه استنادًا إلى نصوص الوحي.
أقوال العلماء
- سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن من لم يُكفر اليهود والنصارى ويقول عنهم "أهل كتاب" فقط ؟!(13/8)
فقالت: " من قال ذلك فهو كافر ؛ لتكذيبه بما جاء في القرآن والسنة من التصريح بكفرهم ، قال الله تعالى : ( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون .. ) الآيات من سورة آل عمران ، وقال : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم .. ) الآيات من سورة المائدة ، وقال : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة .. ) الآيات من سورة المائدة ، وقال : ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون .. ) الآيات من سورة التوبة ، وقال تعالى : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة .. ) الآيات من سورة البينة ، وقال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة . وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء . الرئيس : عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ، نائب رئيس اللجنة : عبدالرزاق عفيفي ، عضو : عبدالله بن غديان . ( فتاوى اللجنة ، 2/18) .
- ولما كتب أحدهم مقالاً في صحيفة "الشرق الأوسط" ينعى فيه على المسلمين الذين يكفرون اليهود والنصارى، ويدعي أنهم مؤمنون مثلنا! رد عليه الشيخ ابن باز –رحمه الله- بمقال نشر في فتاواه ( 8/196-201). جاء فيه: ".. وهذا الذي فعله - أي كاتب المقال- كفر صريح، وردة عن الإسلام، وتكذيب لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ".
- وسئل الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله- عن ما يبثه أحد الوعاظ بأوروبا من المتأثرين بالأفكار العصرانية من أنه لا يجوز تكفير اليهود والنصارى ؟!(13/9)
فقال: "... من أنكر كفر اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه فقد كذب الله عز وجل، وتكذيب الله كفر، ومن شك في كفرهم فلا شك في كفره هو ... - إلى أن قال- إن كل من زعم أن في الأرض ديناً يقبله الله سوى دين الإسلام فإنه كافر، لا شك في كفره؛ لأن الله عز وجل يقول في كتابه: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)". ( الصحوة الإسلامية : ضوابط وتوجيهات ، ص 196-201) . وقال أيضًا - رحمه الله - : ( لا إسلام بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - إلا باتباعه، لأن دينه مهيمن على الأديان كلها ظاهر عليها، وشريعته ناسخة للشرائع السابقة كلها قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (والذي جاء مصدقاً لما مع الرسل قبله هو محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ). وقال تعالى: )هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله). وهذا يعم الظهور قدراً وشرعاً.(13/10)
فمن بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمن به ويتبعه لم يكن مؤمناً ولا مسلماً بل هو كافر من أهل النار يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة –يعني أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أهل النار". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وبهذا يُعلم أن النزاع فيمن سبق من الأمم هل هم مسلمون أو غير مسلمين؟ نزاع لفظي، وذلك لأن الإسلام بالمعنى العام يتناول كل شريعة قائمة بعث الله بها نبياً فيشمل إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء ما دامت شريعته قائمة غير منسوخة بالاتفاق كما دلت على ذلك النصوص السابقة، وأما بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الإسلام يختص بما جاء به ؛ فمن لم يؤمن به ويتبعه فليس بمسلم.
ومن زعم أن مع دين محمد صلى الله عليه وسلم ديناً سواه قائماً مقبولاً عند الله تعالى من دين اليهود، أو النصارى، أو غيرهما ؛ فهو مكذب لقول الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام ). وقوله: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ). وإذا كان الإسلام اتباع الشريعة القائمة، فإنه إذا نسخ شيء منها لم يكن المنسوخ ديناً بعد نسخه ولا اتباعه إسلاماً ) . ( تقريب التدمرية ، ص 122-123) .
- وقال الشيخ بكر أبوزيد - وفقه الله - : " يجب على كل مسلم اعتقاد كفر من لم يدخل في هذا الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم، وتسميته كافراً، وأنه عدو لنا، وأنه من أهل النار... ولهذا: فمن لم يكفر اليهود والنصارى فهو كافر، طرداً لقاعدة الشريعة: من لم يكفر الكافر فهو كافر". ( معجم المناهي اللفظية ، ص 92 ) .(13/11)
وقال - أيضاً - ( ص 166 ) بعد أن ذكر بعض الأدلة على كفر اليهود والنصارى: "والحكم بكفر من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب؛ من الأحكام القطعية في الإسلام، فمن لم يكفرهم فهو كافر؛ لأنه مكذب لنصوص الوحيين الشريفين".
شبهة وجوابها
يحتج أهل التلبيس بآية : (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ) الآية ؛ ويزعمون أنها تشهد لقولهم الباطل ، وهذه الحجة قد رددها النصارى قبلهم ليدللوا بها على إيمانهم وعدم كفرهم ، وقد احتجوا بها في زمن شيخ الإسلام فكفانا الرد عليهم حيث قال: ( الجواب أن يقال : أولاً : لا حجة لكم في هذه الآية على مطلوبكم، فإنه يسوى بينكم وبين اليهود والصابئين، وأنتم مع المسلمين متفقون على أن اليهود كفار من بعث المسيح إليهم فكذبوه. وكذلك الصابئون من حيث بعث إليهم رسول فكذبوه، فهم كفار ، فإن كان في الآية مدح لدينكم الذي أنتم عليه بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ففيها مدح دين اليهود أيضاً، وهذا باطل عندكم وعند المسلمين. وإن لم يكن فيها مدح اليهود بعد النسخ والتبديل فليس فيها مدح لدين النصارى بعد النسخ والتبديل، وكذلك يقال لليهودي، إن احتج على صحة دينه.
وأيضاً فإن النصارى يكفرون اليهود، فإن كان دينهم حقاً لزم كفر اليهود، وإن كان باطلاً لزم بطلان دينهم فلابد من بطلان أحد الدينين فيمتنع أن تكون الآية مدحتهما، وقد سوت بينهما.
فعلم أنها لم تمدح واحداً منهما بعد النسخ والتبديل.. فأهل الكتاب بعد النسخ والتبديل ليسوا ممن آمن بالله ولا باليوم الآخر وعمل صالحًا ) ( الجواب الصحيح ، 2/62) .
توضيح أخير(13/12)
بعد أن عُلم أن كفر اليهود والنصارى أمرٌ مجمع عليه بين المسلمين ، ومن شك فيه أو خالفه فقد خرج عن الإسلام ، يحسن التنبيه إلى أمر قد يرد على أذهان بعض القراء ؛ وهو : هل يلزم من كفرهم وغيرهم أن يُعذبهم الله جميعًا في النار ؟ الجواب : لا يلزم هذا ؛ لأن أمر التعذيب مرتبط بقيام الحجة عليهم ؛ فمن قامت عليه استحق العذاب ، ومن لم تقم عليه لم يستحقه . أما في الدنيا فيُعامل الجميع معاملة الكافر ، ويُطلق عليهم بأنهم كفار .
سئل الشيخ ابن باز - رحمه الله - : " ماحكم من لم تبلغهم دعوة الإسلام ، هل هم كفار ؟ وهل مصيرهم إلى جهنم ؟ فقال : " حكمهم في الدنيا أنهم كفار ، أما مصيرهم في الآخرة فأحسن ما قيل في هذا الصنف من الناس أنهم يُمتحنون يوم القيامة ؛ فمن أطاع الأمر دخل الجنة ، ومن عصى دخل النار ؛ لقول الله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) " . ( انظر : لقاءتي مع الشيخين ، للدكتور عبدالله الطيار ، 1 /87 ) . ولزيادة التوضيح يُنظر الرابط التالي : ( ايضاح الإشكال .. في مقال : أحمد بن باز ) . والله الموفق .(13/13)
ثقافة التلبيس ( 14 ) : الوسطْ .. الغلطْ
سليمان بن صالح الخراشي
يعتقد البعض أن ( الوسط ) ممدوح في جميع الحالات ، مما يوقعهم في أخطاء - سواء بنية حسنة أو تعمد ، هذا لايهم - ، ويغيب عنهم أن هذا الاعتقاد منهم مجانب للصواب ، وأن ( الوسط ) لا يُمدح في كل القضايا ، إنما يُمدح إذا كان وسطًا بين طرفين مذمومين . أما إذا كان وسطًا بين ( حق ) و ( باطل ) ؛ فإنه يُذم كالباطل ، لأنه أصبح تلبيسًا على الناس ، وتكون النتيجة بعكس ما أراد صاحب هذا الوسط الغلط عندما أراد التقريب بين الحق والباطل بوسطيته المذمومة .
وقد أردتُ أن أذكر نماذج لمن غلطوا في فهم ( الوسط ) الصواب ، وتوهموه يصدق في كل القضايا ؛ فكانت النتيجة ضررًا على الأمة :
المثال الأول : فرقة ( السيخ ) الذين ظهروا في الهند . فمؤسس هذه الفرقة ( المدعو ناناك ) عندما رأى الخلاف بين " المسلمين " و " الهندوس " ساءه ذلك ؛ فاتخذ طريقة ( وسطًا ) بينهما ، فأحدث فرقة ( السيخ ) التي تخلط في تعاليمها بين الإسلام والهندوسية ! فأصبحت هناك فرقة ( ثالثة ) ! ثم مع الوقت أصبحت هذه الفرقة من أشد أعداء المسلمين . ( يُنظر : كتاب : السيخ العدو الخفي ، للشيخ محمد الشيباني ) .
المثال الثاني : مؤسس فرقة الأشاعرة ( أبو الحسن الأشعري ) ، رأى الخلاف قائمًا في عصره بين الحق المتمثل في أهل السنة ، والباطل المتمثل في فرقة المعتزلة ، فأراد ( التوسط ) بينهما ! فخلط بين الحق والباطل ، وكانت النتيجة : إحداث فرقة جديدة ! بل قال الإمام أبونصر السجزي في رده على الأشاعرة ( ص 177 ) : " والمعتزلة مع سوء مذهبهم أقل ضررًا على عوام أهل السنة من هؤلاء ؛ لأن المعتزلة قد أظهرت مذهبها ولم تُموه .. فعرف أكثر المسلمين مذهبهم وتجنبوهم وعدوهم أعداء " ، أي بخلاف الأشاعرة المُلبسين بخلطهم الحق بالباطل .(14/1)
المثال الثالث : حسن البنا ، الذي كان أهل السنة في عصره ظاهرين معروفين ؛ سواء تمثلوا في أنصار السنة أوغيرهم من العلماء ، وكان هناك أهل البدع ، فأراد ( التوسط ) بينهما ليؤلف بين المختلفين - في زعمه - ، فكانت النتيجة إحداث فرقة ثالثة تخلط الحق بالباطل !
والسبب .. الوقوع في ( الوسط ) ( الغلط ) .
الخلاصة
1- أن ( الوسط ) يُمدح إذا كان وسطًا بين طرفين مذمومَين .
2- ويُذم إذا كان ( وسطًا ) بين الحق والباطل . وتكون النتيجة بعكس ما أراد صاحبه ، كما قال الشاعر :
يُحللون بزعم منهمو عُقدًا ** وبالذي وضعوه زادت العُقدُ !
3- ويُذم الوسط - أيضًا - إذا كان في الأمور المتدرجة ، ضعفًا وقوة ، أو علوًا وسفلا .. مثال ذلك : لو قال أحد الطلاب : أنا سأختار الوسط فأحرص على أن يكون تقديري ( جيد جدًا ) لأنه ( وسط ) بين ( جيد ) و ( ممتاز ) ! نقول : أخطأت ؛ لأن هذا من الأمور المتدرجة . مثال آخر : مسلم يقول : أنا أتمنى أن أكون من أصحاب اليمين لأنهم ( وسط ) بين المقربين وأصحاب الشمال ! نقول - أيضًا - أخطأت .. وقس عليه .
والله الموفق ..(14/2)
ثقافة التلبيس ( 15 ) : ( مصطلح التنوير )
سليمان بن صالح الخراشي
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة للحلقات التي نشرتها بعنوان " ثقافة التلبيس " على ( هذا الرابط ) .
هذه الحلقة عن مصطلح يكثر استخدامه والوصف به في كتابات الليبراليين المعاصرين ( الملتحين وغير الملتحين ! ) ، هو مصطلح " التنوير " ، وهو مصطلح جذاب وبراق ؛ كغيره من المصطلحات المشتركة ، حمالة الأوجه ، التي تُستخدم لتمرير الأفكار ( بنوعيها ) ، فالمحق يعني بها حقًا ، والمُبطل يعني بها باطلا ؛ قال شيخ الإسلام : ( قد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من وجهة اشتراك الأسماء ، وكثيرٌ من نزاع الناس فى هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة ، التي يفهم منها هذا معنى يثبته ، ويفهم منها الآخر معنى ينفيه ) ( الفتاوى : 12/552 ) .
وهذه نقولات عن بعض العَلمانيين العرب عن هذا المصطلح ، والقصد منه ؛ ثم أتبعها بما يجليها من كلام أهل الحق - إن شاء الله - :
يقول د / عاطف العراقي في كتابه " العقل والتنوير " ( ص 14 ) : ( قد لا أكون مبالغاً إذن إذا قلت بأننا الآن في أمس الحاجة إلى السعي نحو التنوير الثقافي، التنوير الذي يقوم على تقديس العقل ، والإيمان بأن الثقافة الخالدة، إنما هي الثقافة الإنسانية التي تتخطى حدود الزمان والمكان ، وبحيث تتحرر من العادات والتقاليد والرجعية ، وتنطلق ساعية إلى تحقيق سعادة الإنسان، بما تتضمن من آداب وعلوم وفنون سامية رفيعة ، وعن طريق التنوير نستطيع إرساء نظام ثقافي عربي جديد. إن أوروبا لم تتقدم إلا عن طريق السعي بكل قوتها وابتداء من عصر النهضة نحو تحقيق مبدأ التنوير ، وبحيث وجدنا ثقافة أوروبية جديدة، تختلف في أساسها ومنهجها عن ثقافة العصور الوسطى ) .(15/1)
ويقول د / عبدالرزاق عيد ، في كتابه " أزمة التنوير " ، ( ص 5 ) : ( إن الخطاب التراثي المحدَث انكب يصفي الحساب مع كل قيم التنوير التي أنتجها الزمن النهضوي، من خلال تجريمه، وتأثيمه، وتخوينه، بوصفه زمناً استعمارياً، زمن التشوه الذاتي والغزو الثقافي، ونزعم أنه لم ينتج وعياً مطابقاً بزمنه، بل طرح إشكالات غريبة عن واقع المجتمع العربي، حيث الهجانة، والإصلاحية، والقصور، وبلغ الأمر حد تخوين الإمام محمد عبده واتهامه بوطنيته... ) .
ويقول د / مراد وهبة في كتابه " مدخل إلى التنوير " ، ( ص 7 ) : ( إن ثمة فجوة حضارية بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة ليس في الإمكان عبورها من غير مرور بمرحلتين : إحداهما : إقرار سلطان العقل ، والأخرى : التزام العقل بتغيير الواقع لصالح الجماهير. بيد أنه ليس في الإمكان تحقيق هاتين المرحلتين من غير مرور بعصرين: عصر الإصلاح الديني الذي حرر العقل من السلطة الدينية، وعصر التنوير الذي حرر العقل من كل سلطان ما عدا سلطان العقل ) .(15/2)
وقال ( ص 18-19 ) : ( الرأي الشائع والمألوف أن القرن الثامن عشر هو عصر التنوير، وهو عصر من صنع "الفلاسفة" وهو لفظ يُكتب دائماً بالفرنسية دلالة على أن التنوير، وإن كان ظاهرة أوروبية على الإطلاق، فهو ظاهرة فرنسية على التخصيص. وإن كان "الفلاسفة" قد مجدوا العقل، مثل اليونانيين، إلا أنهم تميزوا بفصل الفلسفة عن الميتافيزيقا التقليدية. فالعقلانية القديمة لم توفق في الربط بين العقل والحياة اليومية، ومن ثم انفصلت عن الوقائع العينية للحياة الحقيقية. وإذا كان التنوير معتزاً بأن يكون هو "عصر الفلسفة" ، فالفلسفة هنا، ليست هي الفلسفة بالمفهوم التقليدي، وإنما هي رؤية وضعية لنسق العالم، ولأنحاء الوجود الإنساني، فتؤسس العلوم والفنون على مبدأ العلية دون مجاوزة هذا العالم، ومن ثم يهتم الفيلسوف بالحياة في هذه الدنيا، وليس بالبحث عن الحقائق الأزلية، فيربط بين العقل والوقائع العينية. وقد تأثر فلاسفة التنوير بمفكرَين عظيمين هما: لوك ونيوتن ) .
ويقول ( ص 30 ) : ( خلاصة القول : إن مهمة التنوير الأساسية لم تكن معرفة طبيعة الإنسان، وإنما تغيير المجتمع من أجل تغيير سلوك الإنسان، على أسس عقلانية ومادية ) .
قلتُ : هذه مجرد نماذج من كلامهم تبين المقصود ، وأنه مجرد استنساخ لما حصل في الغرب بعد تسلط الدين المحرّف " الكنيسة " ، ثم الثورة عليه بعد تمهيد من يُسمون فلاسفة التنوير لذلك ، وإحلال الأفكار الوضعية محله ، والاهتمام بعلوم الدنيا . ( كان هذا في فترة سابقة ، أما الآن فعاد كثيرٌ منهم للدين – ولو كان محرفًا - ) . ولتف6اصيل ما حصل في الغرب يُنظر كتاب الشيخ سفر الحوالي " العَلمانية " ، على ( هذا الرابط ) .(15/3)
قال الدكتور محمد يحيى: ( التنوير مصطلح يطلق في الفكر الغربي على مجموعة واسعة من الكتابات ظهرت بدءاً من أواسط القرن الثامن عشر الميلادي وإلى نهايته في أوساط الفلاسفة والمفكرين في فرنسا أساساً، ثم إلى درجة أقل في بريطانيا وألمانيا. وهذه الأفكار ظهرت وسط بيئة متشابكة من ردود الأفعال على الحكومات والطبقات المستبدة ( الملكية ) في تلك الحقبة، وعلى الأفكار الكنسية المصاحبة لها والمعضدة لها، كما ظهرت متأثرة بنضوج الفكر العقلاني ( كما أسموه ) الراجع بجذوره إلى عصر النهضة الأوروبية والمزدهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر كذلك. وظهرت تلك الأفكار على أعقاب التغيرات الكبرى التي حدثت في أوروبا ومهدت لها في القرن التاسع عشر فيما عرف بعصر العلم، وعصر الثورة الصناعية، وعصر صعود الطبقة البورجوازية. وعصر الثورات الكبرى ( الأمريكية والفرنسية ) ، وعصر الفكر الحر، وعصر المذاهب الفلسفية الرئيسية ( الهيجلية والماركسية ) ، وتحدد مضمون الكم الفكري المؤسس لحركة التنوير في الأساس بالموقف من الدين وفكره ( وهو هنا المسيحية المحرفة ) ، كما رسم الفكر العقلاني الإنساني السابق على حركة التنوير والمصاحب لها، ولهذا اتسم فكر التنوير بعداء شديد ورفض للدين مسوَّغ بالعقلانية التي ترفض الغيبيات، وتجمع بين الدين وبين الخرافة والخزعبلات في وعاء واحد ) .(15/4)
أما دعاوى أهل التنوير في العالم الإسلامي ، فيقول عنها : ( ومن هنا فالتنوير السائر هو في حقيقته ليس تنويراً على الإطلاق بل محاكاة وتقليداً وجموداً على أفكار غربية سقطت حتى من سياقها التاريخي والثقافي الخاص ..وفوق هذا فالتنوير الذي يُروِّج له بعض الناس الآن ليس تنويراً بالمفهوم الذي قد يتبادر إلى الذهن ؛ من نشر للعلم والفكر والتأمل العقلي، بل هو لا يعدو ـ كما قلنا ـ إطلاق شعارات عامة غامضة موجهة كلها ضد الدين ( الإسلام ) ، في إطار خطة لا تنويرية ولا عقلية ولا علمية بل سياسية محضة، هي ما اصطلح على تسميته بسياسة مكافحة التطرف والإرهاب المزعومين والمنسوبين إلى الحركات الإسلامية وإلى دعاة الإسلام. وإذا كان من صدق في نية الحديث عن التنوير فكان يجب أن يكون كذلك عن الإسلام، وفي إطاره وخدمة لدعوته ) . ( مجلة البيان ، العدد 159 ) .
يقول الدكتور محمد السيد الجليند في كتابه " فلسفة التنوير بين المشروع الإسلامي والمشروع التغريبي " ( ص 12 – 17 ) : ( إن مصطلح التنوير -كغيره من المصطلحات العَلمانية- وفد إلينا من الغرب ضمن مجموع المصطلحات التي غزت ثقافتنا المعاصرة خلال حركة الاتصال الحديثة بين مصر والعالم الغربي -خاصة فرنسا- خلال القرنين الأخيرين.
ولقد نشأ هذا المصطلح في ظروف تاريخية عاشتها دول أوروبا شرقاً وغرباً، كانت ثقافة الشعوب في أوروبا خلالها قاصرة على ما تمليه عليهم سدنة الكنيسة ورجالها، وكانت السيطرة الثقافية واللاهوتية وتفسير الظواهر الطبيعية خاضعة لرجال اللاهوت الكنسي، لا يجوز مخالفتها، باعتبار ذلك وحياً لا تجوز مخالفته...(15/5)
ومن المعروف تاريخياً أن موقف الكنيسة وآراء رجالها كانت في العصور الوسطى تمثل الجهل والتخلف والخرافة، فلقد طلبوا من المسيحيين الإيمان والإذعان لآرائهم في تفسير الظواهر الكونية مدعين أن الدين ( الكنيسة ) يختص بتفسير هذه الظاهرة، وإن الخروج عليها كفر وإلحاد، ويكون جزاؤه الطرد من رحمة الكنيسة.
ومن المفيد أن ننبه هنا إلى أن موقف الأديان من الكون وظواهره هو الإيمان بما هو موجود على ما هو عليه في الوجود، دون أن يفرض الدين تفسيراً معيناً لهذه الظاهرة أو تلك، تاركاً ذلك كله لمنطق العلم وما يصل إليه العقل من اكتشافات وعلاقات بين الأسباب والظواهر، دافعاً للعقل أن يعمل ويكتشف القوانين ويدرك العلاقات، جاعلاً الكون كله خاضعاً لسلطان العقل بحثاً واكتشافاً وتسخيراً وتوظيفاً. ومن هنا كان الكون كله آية دالة على خالقه، وكان أكثر العلماء اكتشافاً لقوانين الكون وأكثرهم إدراكاً للعلاقات أشدهم خشية لخالق هذا الكون. هذه نقطة تحتاج إلى بسط وتفصيل أحسب أن له مجالاً آخر، ولكن أردنا أن ننبه هنا إلى السقوط الذي وقعت فيه الكنيسة بفرض آرائها على العلماء ودعوى احتكارها تفسير الظواهر الكونية، ووجوب الخضوع لتفسيراتها وقبول آرائها في تفسيرهم للظواهر الطبيعية، وترتب على ذلك ميلاد حركة التنوير الرافضة للكنيسة ولآرائها، معلنة أن ما يدعيه رجال الكنيسة باطل لاحق فيه، جهل لا يسنده علم، خرافة لا يقبلها العقل.
ولما كان رجال الكنيسة هم الممثلون للدين. فقد فتش العلماء فيما يطالبهم رجال الكنيسة الإيمان به والاعتقاد بصحته، فوجدوا أن هذه الآراء، وتلك التفسيرات، خرافة لا يقرها العقل، وجهل لا يقبله العلم، وظلام وتخلف لا يثبت أمام النقد ومنطق العلم، فأعلنوا ثورتهم على هذه الآراء وتلك الخرافات التي ارتبطت في أذهانهم بالكنيسة ورجالها.(15/6)
وبدأت قصة هذا الصراع المرير بين الكنيسة والعلماء منذ أيام كوبرنيق ، الذي أعلن عن آرائه في الطبيعيات والفلك ومركز الكون، وكلها على نقيض ما يدعيه رجال الكنيسة، وانسحب ذلك الموقف بكامله على الدين بمفهومه العام.
لم ينتبه العلماء إلى ضرورة التفرقة بين رأي رجال الكنيسة والدين الصحيح في مفهومه العام. وصار الدين عندهم -كما عرفوه من رجال الكنيسة- تجسيداً للتخلف والجهل والخرافة. وأصبح رجل الدين رمزاً لكل هذه المعاني. فهو داعية للجهل. محارب للعقل. رافض للعلم، ولا شك عندي - أن هذه الكوكبة من العلماء التي عاشت هذه المعركة كان ينقصها العلم بالدين الصحيح، الذي نزل على عيسى عليه السلام، فضلاً عن جهلهم التام بالإسلام واحتضانه للعلم، وتكريمه للعلماء، ولا شك عندي أيضاً أن رجال الكنيسة الذين أعلنوا هذه الحرب التاريخية على العلم والعلماء قد أساءوا إلى المسيحية، وأفسدوا بموقفهم هذا حركة التاريخ المعاصر. فلا انتصروا لدينهم، ولا حققوا النصر على عدوهم، بل كانوا بموقفهم هذا الباب الطبيعي الذي فتح على مصراعيه لدعاة الإلحاد والثورة على الكنيسة والدين معاً، حيث صوروا الموقف على أنه صراع بين الدين والعلم، وليس بين رجال الكنيسة والعلماء بين العقل والخرافة، بين النور والظلام بين التقدم والتخلف، وكان مفهوم التنوير يعني التحصن بمنطق العلم والعقلانية، ضد هذا الدين ورجاله، الذين يمثلون الجهل والخرافة، فكان لابد أن ينتصر العلم في مواجهة الجهل، وينتصر العقل في مواجهة الخرافة، والتقدم في مواجهة التخلف.(15/7)
وكان مصطلح التنوير هو المعبر عن نتيجة هذه المعركة التي حسمها التاريخ والواقع لصالح العلم والعقل والنور ضد الكنيسة وآرائها، ولقد صورت المعركة كلها على أنها صراع بين الدين، بمعناه العام، وكل معاني التنوير التي هي العقلانية والتقدم، وانتقلت المعركة بكل ملابساتها وظروفها إلى عالمنا العربي بدون أن يفطن دعاة التنوير في عالمنا العربي إلى أن الإسلام ليس هو الكنيسة، ولا عالمنا العربي هو أوروبا، ولا الحضارة الإسلامية هي الحضارة الأوروبية في عصورها المظلمة، فليس الدين عندنا رافضاً للعلم، ولا محارباً للعقل.
وأخذ دعاة التنوير عندنا يصورون المعركة في بلادنا على أنها صراع بين الإسلام والعلم، بين الدين والعقل، بين ضرورة التخلص من الماضي، والنهوض بالمستقبل، وكان النموذج الغربي في نظرهم هو المثل والقدوة التي ينبغي أن نحذو حذوها، ونسير في ركابها ، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلناه معهم.
وأصبحت الثنائية التناقضية بين الدين والعلم عنواناً لحركة التنوير، وملازمة لها في بلادنا، فكما رفض العلماء في أوروبا الكنيسة، وأعلنوا الحرب عليها، دليلاً على التنوير ، أخذ دعاة التنوير عندنا بنفس المبدأ، فأعلنوا الحرب على الإسلام ورجاله، لكي يعلنوا عن أنفسهم أنهم تنويريون ودعاة التنوير، وكما أعلن العلماء في الغرب أن الدين -الكنيسة- خرافة، ورجاله رموز للجهل، أخذ دعاة التنوير في بلادنا يلصقون نفس التهم بالإسلام ورجاله، ولو أنصف هؤلاء الدعاة إلى التنوير لبدأوا دعوتهم من حيث بدأ الإسلام، الذي يجعل العلم ديناً وفريضة، ويجعل حاكم العقل في عالم الشهادة ميزاناً لا يخطئ، ولو أنصفوا لفرقوا بين الإسلام والكنيسة، وبين الشرق والغرب ) .
تنبيهان :
1- مقال مناسب لهذا الموضوع ، عنوانه : ( يا بني علمان .. ماقولكم في اليابان ؟ )(15/8)
2- مدعو التنوير لدينا ، لن تجدهم - جميعًا - يواجهون الإسلام " بصراحة " ، كما فعل قدواتهم في الغرب ؛ لعلمهم بخطورة هذا وحساسيته ، لذا لجأ معظمهم إلى محاولة هدمه من الداخل ؛ بفكرتهم الماكرة : " تاريخية النص " ، التي تُعطل نصوص الكتاب والسنة ، وتُفرغها من محتواها الحقيقي ، والوصول لهدفهم بهذا الالتفاف . ( وتوضيح هذا في محاضرة للشيخ محمد المنجد " الفهم الجديد للنصوص " ، التي سينشرها موقع الألوكة بعد أيام – إن شاء الله - ) . والله الهادي ..(15/9)
ثقافة التلبيس ( 16 ) : تعظيم الفلسفة والمطالبة بتدريسها
سليمان بن صالح الخراشي
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب الأستاذ عبدالله المطيري - هداه الله - وهو أحد الصحفيين المنكفئين على كتب الفلسفة ، يقول : (لا يزال الفكر الفلسفي بعيدا عن التأثير ، ولا يحظى بمشروعية واعتراف داخل المنظومة الفكرية المسيطرة ، بل إنه، أكثر من ذلك، يواجه إقصاء حادًا ورفضًا مسبقًا ، وتُشن على متبني هذا الفكر الحروب المتتالية ..- إلى أن يقول - المشكلة العميقة في ثقافتنا هذه أن مصادر المعرفة التي يستقي منها الناس عادة معارفهم لا تحتوي مصدر العقل بمعناه الواسع والشامل والفاعل ! - إلى أن يختم - إذن تبدو الحاجة إلى الفلسفة اليوم أشد من أي وقت آخر ) .
وقبل أيام نُشر خبر يقول : ( ضمن الفعاليات التي يحتويها نادي الرياض الأدبي، اعتمد النادي تأسيس قسم "للحلقة الفلسفية" حيث تنعقد جلسات بشكل دوري لمناقشة مفاهيم وأبحاث وإصدارات فلسفية، وهي ندوة دورية تتم داخل النادي الأدبي بأعضائها التأسيسيين، وتعتبر هذه الحلقة الدورية أول نشاط فلسفي رسمي في السعودية، حيث تُستبعد "الفلسفة" من المناهج التعليمية، بما فيها التعليم العالي، وتقتصر المناهج على التحذير من الفلسفة، كما تدرس آراء تكفّر الفلاسفة مثل آراء ابن تيمية عن ابن عربي والغزالي عن ابن رشد .. يشار إلى أن الحلقة الفلسفية بدأت أنشطتها بورش حوارية " مغلقة " ) !(16/1)
تذكرت حين قرأت ما سبق مقولة واحد من أذكياء العالم ، قالها بعد أن خبر حقيقة الفلسفة ، وحقيقة معظميها - أعني أبا حامدٍ الغزالي - في مقدمة رسالته الشهيرة " تهافت الفلاسفة " ( ص 26-28) ، حيث قال : ( أما بعد فإني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء، قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، واستحقروا شعائر الدين: من وظائف الصلوات، والتوقي عن المحظورات، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده، ولم يقفوا عند توقيفاته وقيوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين بفنون من الظنون، يتبعون فيها رهطاً يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة هم كافرون، ولا مستند لكفرهم غير تقليد سماعي إلفي ؛ كتقليد اليهود والنصارى، إذا جرى على غير دين الإسلام نشؤهم وأولادهم، وعليه درج آباؤهم وأجدادهم، ولا غيرُ بحث نظري صادر عن التعثر بأذيال الشُبه، الصارفة عن صَوب الصواب، والانخداع بالخيالات المزخرفة كلامع السراب، كما اتفق لطوائف من النظّار في البحث عن العقائد والآراء، من أهل البدع والأهواء.
وإنما مصدر كفرهم سماعهم أسماء هائلة، كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وأمثالهم، وإطناب طوائف من متبعيهم وضُلالهم في وصف عقولهم، وحسن أصولهم، ودقة علومهم الهندسية والمنطقية والطبيعية والإلهية، واستبدادهم -لفرط الذكاء والفطنة- باستخراج تلك الأمور الخفية، وحكايتهم عنهم أنهم مع رزانة عقولهم وغزارة فضلهم منكرون للشرائع والنحل، وجاحدون لتفاصيل الأديان والملل، ومعتقدون أنها نواميس مؤلفة ، وحيل مزخرفة.(16/2)
فلما قرع ذلك سمعهم، ووافق ما حكي من عقائدهم طبعهم، تجملوا باعتقاد الكفر تحيزاً إلى غمار الفضلاء بزعمهم، وانخراطاً في سلكهم ، وترفعاً عن مسايرة الجماهير والدهماء، واستنكافاً من القناعة بأديان الآباء، ظناً بأن إظهار التكايس في النزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل جمال، وغفلة منهم عن أن الانتقال إلى تقليدٍ عن تقليدٍ خرقٌ وخبال. فأية رتبة في عالم الله أخس من رتبة من يتجمل بترك الحق المعتقد تقليداً بالتسارع إلى قبول الباطل تصديقاً ، دون أن يقبله خبراً وتحقيقاً ! والبله من العوام بمعزل عن فضيحة هذه المهواة، فليس في سجيتهم حب التكايس بالتشبه بذوي الضلالات، فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانةٍٍ بتراء ، والعمى أقرب إلى السلامة من بصيرةٍ حولاء ) .
قلت : هذه هي الحقيقة - وإن كانت مرّة عند البعض - ، فلم يجنِ العالم الإسلامي - بل العالم كله - من الفلسفة والتفلسف سوى المزيد من النزاعات والحيرة والتشكيكات ؛ لأنها أقحمت نفسها في جوانب كثيرة من مسائلها في مجال ليس مجالها ، مجالٍ لا يمكن التعرف عليه عن غير طريق الوحي الإلهي ؛ ولهذا ضلت وأضلت ، وقد قال تعالى منبهًا أهل الإسلام أن لا يتبعوا أثرهم : { ولا تقفُ ماليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } .
ولم يتقحم " قلة " من شبابنا هذا الطريق - للأسف - إلا محبة للتفرد والتميز على أقرانهم ، وامتثالا لمقولة " وإني لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل " .. وللأسف أن يكون هذا على حساب دين المرء وعقيدته . فليتقِ الله هؤلاء أن يكونوا ممن قال الله عنهم : ( ليحملوا أوزارهم وأوزارًا من أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء مايزرون ) .. وليُسخروا كتاباتهم وجهودهم - إن كان عندهم شيئ من حب التميز والتفرد - فيما ينفع الأمة ؛ من مجالات العلم المفيد : الرياضي والطبي والتقني ... الخ ، فهذا خيرٌ لهم في الدنيا والأخرى .(16/3)
ولبيان أن الفلسفة حشرت نفسها في أمور لا تُعرف إلا بالوحي ، يُقال :
- أهم مباحث الفلسفة - كما يقول الدكتور عرفان عبدالحميد فتاح في رسالته " المدخل إلى معاني الفلسفة " ( ص 2734باختصار ) :
( أولاً: مباحث الوجود "الميتافيزيقا" - الانطولوجيا :حيث يبحث الفيلسوف في أصل العالم وصفة هذا الأصل وعدده: هل الأصل المنشئ للموجودات عنصر واحد "المذاهب الواحدية" ، أم عنصران "المذاهب الثنائية" ، أم متعددة وكثيرة مذاهب التعدد؟
وما طبيعة هذا العنصر أو العناصر التي تقوّم بها الأشياء، أهو مادي خالص فلا شيء في الوجود غير المادة، وأن الحركة والحياة، وغيرهما مما يظن البعض أنها تشهد بوجود النفس أو الروح ليست في الحقيقة إلا وظيفة من وظائف المادة التي تتميز بطبيعتها بالتنوع والحركة والقوة والتفكير " المذهب العقلي " ، أم روحي خالص " المذهب الروحي" ؟
وهل هذه المادة الجوهرية المنشئة للأشياء قديمة أزلية أبدية فلا شيء يكون عن عدم، ولا شيء مما هو موجود ينتهي إلى العدم " المذهب الإلحادي "، فيمتنع القول بالخلق والحدوث ، بل وبالخالق المبدع المصور للأشياء أيضاً ؟ أم أن الموجودات سواء كانت من طبيعة مادية أو عقلية أو روحية لها بداية في الزمان، فهي مخلوقة حادثة خلقتها إرادة عليها، تعلم ما تفعل وتخلق ما تشاء " مذهب التأليه" ؟
وهل الموجودات في تغير متصل وسيلان دائم، يستحيل معه الدوام المطلق والمؤقت والنسبي، أم أن الأشياء والموجودات: واحد، كل ثابت، وأن التغير عرضي فيها.
وإذا كان العالم مخلوقاً لله: فما صلة الإله الخالق بالعالم المخلوق؟ هل خلقه وركز فيه قوانينه ثم تركه وشأنه .. الخ .(16/4)
ثانياً: مباحث المعرفة " الابستمولوجيا :ينصرف الفلاسفة في هذا المبحث إلى دراسة: المعرفة الإنسانية وهل هي ممكنة؟ أم ممتنعة. وإذا كانت ممكنة، فما حدود هذه المعرفة، أهي احتمالية ترجيحية، أم يقينية ومطلقة، وما وسائل اكتسابها، وما طبيعتها. وإذا كانت المعرفة ممكنة. فما مصدرها وما طبيعتها ووسيلة اكتسابها: أهي معارف مصدرها العقل الذي فيه مبادئ فطرية موروثة لم تشتق من تجربة، أم أن المعارف مصدرها الحس، أم أن مصادر المعرفة هي الحس والعقل معاً، أم أن مصدر المعرفة اليقينية لا الحس ولا العقل وإنما : الذوق الباطني والتجربة الروحية، والكشف والإلهام والبصيرة؟!
ثالثاً: مباحث القيم " الأكسيولوجيا :وفيها ينصرف الفكر إلى دراسة القيم الأخلاقية ؛ مثل : الحق والخير والجمال ، وهل هذه القيم: مبادئ ومثل مجردة، عامة غير مشخصة؛ تتجاوز الزمان والمكان؛ ومن ثم فهي: أزلية أبدية متغيرة؟ أم أن ما يسمى بالقيم المطلقة، ليست إلا عوائد وضعية، وعادات اجتماعية وانفعالات شخصية ومشاعر ذاتية ووجدانية فردية؟ وإذا كانت ثمة قيمة مطلقة، فهل هي "عينية موضوعية" ؛ بمعنى أن لها وجوداً مستقلاً عن العقل الذي يدركها؛ وأن الأشياء والموجودات لها صفات ذاتية لازمة لها، وأن مهمة العقل الكشف عنها بالرؤية المباشرة وبالحدس، أم أن هذه القيم ليس إلا معان تتبع الإرادة الإلهية فالحُسْنُ ما أمر به الله وأراده، والقبح ما نهى عنه الله ولم يرده ؛ لأن العقل عاجز عن إدراك ذلك لنفسه وبنفسه ؟ ) .(16/5)
قلت : وكل هذه المباحث الثلاثة وتفصيلاتها السابقة ، إما : قد كفانا الشرع مؤنتها ؛ فوضحها وبينها ، أو : لم يُكلفنا تطلب بعضها ، والخوض فيها ؛ لسببين : الأول : أنه غير مجدٍ ولا موصلٍ لنتيجة - كما سبق - ، بل ستظل العقول تتخالف وتتضارب فيه دائمًا وأبدًا ؛ لأنها حشرت نفسها في أمر قد حُجب عنها ، وفي خاتمة أمرها ستكون كما قال القائل : يُحللون بزعم منهمو عُقَدًا .. وبالذي وضعوه زادت العُقَدُ . السبب الثاني : أن الأولى والأجدى والأوجب أن تخوض العقول في عالم الشهادة ؛ تعتبر به ، وتكتشفه ، وتُبدع من خلاله ماينفعها في دينها ودنياها .
جنايات الفلسفة :
يقول الدكتور عبدالقادر الغامدي : ( قد عُلم وتبين أن الأوروبيين لم يتقدموا في الصناعة والعلوم التقنية ونحوها، المعاصرة إلا لما تخلوا عن فكر اليونانيين ، وخاصة منطق أرسطو، وما قام المنطق الحديث عند الأوروبيين إلا على أنقاض ذلك، يقول بوشنسكي: " الفلسفة الأوروبية الحديثة أهملت المنطق الصوري إهمالاً كبيراً، حتى لقد سقط في زاوية النسيان المهين " . وقد هاجم المنطق الأرسطي كبارُ الفلاسفة الأوروبيين المحدثين والمعاصرين الذين قدموا شيئاً في مجال العلوم الدنيوية هجوماً عنيفاً.
فقد ثار فرانسيس بيكون -أبو الحضارة الأوروبية- ضد تراثهم، وكان يرى ومن وافقه أن فكر اليونانيين هو سبب جمود العلم، لذلك كان مشروعه العلمي الذي سماه "الإحياء العظيم " في جانب كبير منه " الأورجانون الجديد " يعارض فيه منهج اليونانيين". وقال واصفاً جميع اليونانيين أنهم: "يشتركون مع الأطفال في الميل إلى الكلام والعجز عن الإنجاب ( المثمر ) بحيث كانت حكمتهم لفظية لا تثمر أية نتائج". ويقول في وصف دقيق ومشهور لفلسفة أفلاطون: "حديث عجائز عاطلين إلى شبان جاهلين" . ويرى أن هذا الوصف ينطبق على جميع الفلاسفة اليونانيين المتأخرين ) . ( عبدالرحمن بدوي ومذهبه الفلسفي .. ، ص 86-88) .(16/6)
الإسلام أطلق العقول في النافع .. وفطمها عن غير النافع ، لكن الفلاسفة وأتباعهم عكسوا الأمر :
يقول الدكتور محمد الصوياني عن الإسلام : ( في الشأن العقدي: أعيد التوحيد نقياً ، وتم نفي الصفات البشرية عن الله ؛ كالزوجة والابن والبنت والولادة.
في الجانب العبادي: جعل العبادة كلها محرمة ما لم يكن مصدرها الكتاب والسنة، وبذلك أنشئت سياج بالغة القوة للإبقاء على نقاء العبادات، والاحتفاظ بالنسخ الأصلية لكل عبادة ؛ كنتيجة للاحتفاظ بالنسخة الأصلية للقرآن والسنة.
في الجانب الدنيوي: أُطلق يد الإنسان في هذا الكون ليبتكر ويبدع ويعمر ويصنع ويخترع ويكتشف، تحت القاعدة التي غيرت وجه الكون، وأطلقت أوروبا من ظلمتها، تلك القاعدة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم : "أنتم أعلم بأمور دنياكم" وبالآيات التي تحث على العلم التجريبي عند الجاهلية والمسيحية ) . ( العقل العربي ، ص 493 ) .
ويقول الدكتور سليمان دنيا - رحمه الله - " وهو خبير بالفلسفة " : ( ومما هو جدير بالاعتبار أن الدين قد قصر أمر الاعتقاد على : معرفة مصير الإنسان، وهو البعث والحياة والآخرة. والطريق التي حملت هذه المعرفة إليه، وهو الأنبياء والكتب والملائكة. والمصدر الذي بعث إليه بهذه المعرفة، وهو الله سبحانه وتعالى، وقصر أمر الشريعة على ما به صيانة الدماء والأرواح، والعقول والأعراض، والأموال"، ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) .
أما الكون -فيما عدا ذلك- بمجالاته الفسيحة: من فلك، وطب، ورياضيات، وعلوم أحياء، وعلم طبقات الأرض، وعلم الذرة، وعلم الفضاء، والإشعاعات الكونية، وغيرها، وغيرها، فهي كلها حق للإنسان يمارسها بكل ما يملك من حرية.(16/7)
وإذا كان للدين شيء يقوله بصددها فهو الحث على طلبها، والتشجيع على معرفتها؛ فقد رفع الإسلام شأن العالم إلى مدى تنحط دونه جميع الشئون ؛ ( قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون ) . ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط ) . ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) .
نعم لم يكن شأن الإسلام في هذه الناحية شأن الكنيسة التي ادعت علم كل شيء، وحق احتكار العلم بكل شيء.
إن الإسلام ترك للناس كل شيء، وحثهم على معرفة كل شيء، لأن العلم بالكون طريق إلى العلم بخالقه، وكلما كانت المعرفة بالخلق أتم وأكمل، كانت المعرفة بالخالق أتم وأكمل كذلك.
وسنرى فيما بعد أن العلم والدين أخوان متضامنان، لا عدوان متخاصمان ) . ( التفكير الفلسفي في الإسلام ، ص 245-246) .
قلت: ولهذا ؛ عقد ابن خلدون فصلا في مقدمته عنونه بـ " في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها " .يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري : " إن ابن خلدون ، لرسوخ إيمانه الديني الأصولي ، قد هاجم الفلاسفة الميتافيزيقيين في الإسلام ؛ كالفارابي و ابن سينا ، واتفق مع الإمام الحافظ حجة الإسلام الغزالي في تخطئة الفلسفة التي تتعاطى بما وراء الوجود ، وبالميتافيزيقيا وبالغيبيات ، باعتبار أن هذه الأمور من اختصاص الدين لا من اختصاص العقل . أما العقل فمجاله الطبيعي دراسة التاريخ ، وعلم الاجتماع ، وعلوم المنطق والرياضيات ، والفيزياء ، أي باختصار : العلوم العلمية الداخلة في نطاق التجربة الإنسانية ، وقدرات العقل الإنساني " . ( لقاء التاريخ بالعصر ، ص 119 ) .
فصلٌ بديع عن أضرار الفلسفة وأهلها على الأمة :
وأختم بفصل بديع خطه قلم الشيخ عائض الدوسري في كتابه " هكذا تحدث ابن تيمية " ( ص ) ، قال فيه :
((16/8)
نعى ابن تيمية على الفلاسفة ومَن تابعهم من رُوَّاد المدارس الكلامية والعقلية إعمالهم العقل كأصل في هذا العالم الغيبي؛ إذ إنَّ هذا العالم غيب وغير مشهود، والعقل ليس من وظيفته الصعود إلى هذا العالم؛ إذ هو عالم موقوف على نزول الوحي، فأسماء الله وصفاته وسائر أمور الغيب توقيفية، ودور العقل فيها التلقي والفهم والاستيعاب، ثم العمل.
لكن الفلاسفة ومن تابعهم راموا الوصول لعالم الغيب بعقولهم المجردة، فضَلُّوا وأضَلُّوا، وأضاعوا أوقات الأمة وجهودها، وعطلوا عقولها الذكية في تسطير الأوهام، فكتبت آلاف الكتب في الفلسفة وعلم الكلام والمنطق، وعشرات الآلاف من الشروح، وتناظر الناس وتصارعوا فيما دخل عليهم منها.
وضاعت على الأمة مئات السنين وعقلها مخدر في تلك الأوراق الصفراء، تعيد وتكرر في كلام أرسطو وأفلاطون في الإلهيات، وفي الماهية والذات، والوجود والعدم، فعطل عقل الأمة عن مسرحه الحقيقي، ونقل إلى مكان ليس له إطلاقًا، فضاع العقل وضاع الدين!
يقول ابن خلدون عن الفلسفة: تصفحها كثير من أهل الملة، وأخذ من مذهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها.
ولو أن تلك الجهود الجبارة والعقول الذكية وُجِّهت إلى دراسة الهندسة والرياضيات والطب ونحوها، لعاد ذلك على الأمة بخير كبير ومنفعة عظيمة، تعود على الأمة بخير في دنياها، ولا تمس دينها بشيء؛ لأن تلك العلوم يقينية.
يقول ابن تيمية: إنَّ علم الحساب الذي هو علم بالكمِّ المنفصل، والهندسة التي هي علم بالكمِّ المتصل، علم يقيني لا يحتمل النقيض ألبتة.(16/9)
وفي المقابل يقول عن الفلسفة : " وأساطين الفلسفة يزعمون أنَّهم لا يصلون فيه - العلم الإلهي- إلى اليقين، وإنَّما يتكلمون فيه بالأولى والأحرى والأخلق، وأكثر الفضلاء العارفين بالكلام والفلسفة، بل وبالتصوف الذين لم يحققوا ما جاء به الرسول تجدهم فيه حيارى " . ومن يتأمل حقيقة الفلسفة اليونانية التي هي مصدر علوم فلاسفة الإسلام، يجد مدى تفاهة ما وصلت له في الإلهيات، فهؤلاء اليونان يعتقدون أنَّ الأفلاك آلهة تتصارع في السماء، وتلك مرحلة وثنية بدائية هي أقرب للأساطير - ميثولوجيا - منها للعقل، فما كان يدور فيها من خرافات وأساطير الأورفية، والإلياذة، والأديسا ونحوها، يدل على ذلك بوضوح تام.
ولم تختلف المدارس الفلسفية اليونانية (700 ق. م - 150م ) التي يزعم أنَّها فلسفية عن تلك الروايات والأساطير، فما اعتقده طاليس الملقب بأبي الفلسفة، وتلاميذه: انكسمدريس، وانكسمنس، وديمقريطس، وما ذهب إليه رواد المدرسة الفيثاغورسية اليونانية، ورواد المدرسة الإليائية: زينون، واكسانوفان، ورواد المدرسة الأيونية: هيروقليطس، وغيرهم في الإلهيات ليس إلا وثنية وخرافات.
وما ذهب إليه أفلاطون، وإن كانت مدرسته أقل خرافة ممن سبقها، إلا أنَّها لا تختلف كثيرًا في الإلهيات عمن سبقها، فنظرية (المُثل) و( العقول ) وغيرها ليست إلا خرافات وثنية.
صحيح أنَّه حصل التطور الكبير في الفلسفة اليونانية، وخاصة في الجانب الطبيعي على يد أرسطو الذي برع في الرياضيات إلى جانب براعته في المنطق والفلسفة، لكنه لم يختلف في تصوراته في الإلهيات عن تصورات قومه اليونان.(16/10)
والتصور الفلسفي اليوناني للعقل تصور في قمة السذاجة؛ حيث إنَّهم اعتقدوا أنَّ العقل كائن مستقل، أي: ليس حالة ذهنية مجردة، وإنما جوهر مستقل بذاته، حتى وصل بهم الأمر إلى اعتقاد أنَّ العقل الجوهر ليس إلَّا إله، ولذلك ذهب أرسطو إلى أنَّ كينونة الله هي عبارة عن ثلاثية الأبعاد: عقل، عاقل، معقول.
هذا التصور (الميثولوجي) كان موجودًا في الروايات (الأورفية) قبل وجود المدارس الفلسفية اليونانية؛ حيث كان اليونان يعتقدون أنَّ الأفلاك والنجوم والأجرام السماوية (آلهة) تُدَبِّر الكون، فالشمس، والقمر، والزهرة، وعطارد ... إلخ، ليست سوى آلهة يونانية مكونة من قسمين: هيكل الأفلاك، وعقولها.
ولذلك تطور هذا الفكر الخرافي منذ ذلك الزمن، ومرورًا بأرسطو، حتى وصل إلى الفيلسوف الغنوصي أفلوطين، الذي طوَّر نظرية (الفيض الإلهي)، وصاغها في نظريته (العقول العشرة)، أي: الأفلاك وعقولها، وأنَّها هي التي تدبر العالم، وأنَّ الله تعالى أوكل لها تنظيم العالم وتدبيره، وأما الله - تعالى عما يقولون - فقد جلس في برجه العاجي بعيدًا عن أحداث العالم، تاركًا أمر تصريف الكون الفسيح لهذه العقول (الأفلاك)، وأصبح فلك (القمر) هو المسؤول عن تدبير أمر العالم السفلي (الأرض) وما حولها.
هذه النظرية الخرافية تلقفها فلاسفة العالم الإسلامي ؛ كالفارابي وابن سينا، وفسَّروا بها (النبوة) على أنَّها قوة قُدسيَّة تستخدم قوة التخييل والقوى النفسانية لتلقي المعلومات عبر عملية (الفيض) اللاإرادي من العقول العشرة، ولذلك ذهب الفارابي وابن سينا إلى أنَّ الفيلسوف أفضل من النبي؛ لأنَّ النبي معلوماته قائمة على قوة التخييل، أما الفيلسوف فقائمة على القوة العقلية، وهذا خير دليل على الحصاد المر للفلسفات الوثنية التي توصف بأنَّها عقلية يعارض بها النقل وتقدم عليه.(16/11)
يقول ابن تيمية: فلسفة القدماء، فإنَّ فيها من التقصير والجهل في العلوم الإلهية ما لا يخفى على أحدٍ. وبيَّن ابن تيمية أنَّ العقلاء الذين خبروا كلام أرسطو وغيره من الفلاسفة في العلم الإلهي؛ علموا أنَّهم من أقلِّ الناس نصيبًا في معرفة العلم الإلهي، وأنَّهم أكثر الناس اضطرابًا وضلالًا، وكلامهم في الإلهيات ففي غاية الاضطراب.
ويقول ابن تيمية مبينًا حال الفلاسفة الذين استقوا دينهم من تلك الفلسفات:إنَّ الله قد أرسل رُسُله بالحقِّ، وخلق عباده على الفطرة، فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رُسُله وجد الهدى واليقين الذي لا ريب فيه ولم يتناقض، لكن هؤلاء - أي: الفلاسفة وأهل الكلام - أفسدوا فطرتهم العقلية، وشِرعتهم السمعية، بما حصل لهم من الشبهات والاختلاف الذي لم يهتدوا معه إلى الحق.
وإذا كان العقل ليس مكانه عالم الغيب، إذ دوره محصور في هذا العالم بالتلقي والفهم والعمل بما ينزل به الوحي؛ لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - قد تكفل ببيان دينه، وتيسير شريعته لكل مدَّكِرٍ، وقد جاء الأنبياء بالدين أبيضًا ونقيًّا وسهلًا واضحًا لعموم الناس.ولذا فلا حاجة للبشر لأن يُضيعوا أوقاتهم وأعمارهم وعقولهم في تقصي حقائق الغيب من طريق غير طريق الوحي، الذي هو المعين الصافي.
وما ضل من ضل في الأمة إلا حينما صرف عقله من محله الصحيح إلى غير محله - أي: من عالم الشهادة إلى عالم الغيب - فبدلًا من أن تذهب الجهود وتوجه العقول الذكية لعالم الطبيعة وعلومها: كالهندسة، والرياضيات، والطب، والعمران ونحوها مما ينفع الأمة، وُجِّهت العقول الذكية للفلسفة والمنطق بحثًا عن الله، وعن صفاته وحقيقته.
فلا الحياة عُمِّرت، ولا الدين حُفِظ وصِين من عبث العابثين، بل زاد فيه العبث والتحريف والأوهام، ونشبت الخلافات والصراعات الدينية بين أبناء الأمة الإسلامية، وسالت الدماء، وقُتلت الأنفس، ولم يهتد هؤلاء إلى الحق، ولا ذاقوا برد اليقين.(16/12)
يقول ابن تيمية: وهكذا كل من أمعن في معرفة هذه الكلاميات والفلسفيات التي تعارض بها النصوص من غير معرفة تامة بالنصوص ولوازمها، وكمال المعرفة بما فيها، وبالأقوال التي تنافيها؛ فإنَّه لا يصل إلى يقين يطمئن إليه، وإنَّما تفيده الشك والحيرة، بل هؤلاء الحذَّاق الذين يدَّعون أنَّ النصوص عارضها من معقولاتهم ما يجب تقديمه؛ تجدهم حيارى في أصول مسائل الإلهيات، حتى مسألة وجود الرب تعالى وحقيقته، حاروا فيها حيرة أوجبت أن يتناقض هذا كتناقض الرازي، وأن يتوقف هذا كتوقف الآمدي.
ويُبيِّن شيخ الإسلام أنَّ أرباب العقول والمناهج الفلسفية هم من أكثر الناس حيرةً وضلالًا واضطرابًا، فهذا ابن واصل الحموي أفضل أهل زمانه في المنطق والفلسفة والكلام، يقول: أضطجع على فراشي، وأضع الملحفة على وجهي، وأُقابل بين أدلة هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي شيء.
ثم يُعلق شيخ الإسلام عليه منبهًا ومشيرًا إلى اشتغاله فيما بعد فيما فيه فائدة له، قائلًا: ولهذا انتهى أمره إلى كثرة النظر في الهيئة - العمارة والهندسة - لكونه تبين له فيه من العلم ما لم يتبين له في العلوم الإلهية.
ثم يُبيّن الفرق بين إنتاج الفلاسفة العقلي وإنتاجهم الطبيعي، موضحًا أنَّ إنتاج الفلاسفة الطبيعي كالطب والهندسة والرياضيات جيِّد وصحيح، بخلاف إنتاجهم في الجانب المِيتَافِيزِيقِي الذي يزعمون أنَّه عقلي.
يقول ابن تيمية: فإنَّ الفلاسفة كلامهم في الإلهيات والكليات العقلية كلام قاصرٌ جدًّا، وفيه تخليطٌ كثيرٌ، إنَّما يتكلمون جيدًا في الأمور الحسية الطبيعية وفي كلياتها، فكلامهم فيها في الغالب جيِّد.(16/13)
وبيَّن ابن تيمية أنَّ العقلاء الذين خُبِّروا مذاهب الفلاسفة في العلم، يعلمون أنَّهم أقل نصيبًا في معرفة العلم الإلهي، وأنَّهم أكثر الناس اضطرابًا وضلالًا، أمَّا كلامهم في الحساب والعدد والرياضيات فغلطهم في ذلك قليل نادر، وكلامهم في الطبيعيات غالبه جيِّد.
فلو وُجِّهت عقول الأمة - قديمًا وحديثًا - إلى الإبداع في العالم الطبيعي، والاتباع في العالم الغيبي لكان لها اليوم شأن آخر غير الذي هي عليه الآن، لكنها - وللأسف الشديد - غلب على عقولها الذكية الابتداع في العالم الغيبي ، والاتباع في العالم الطبيعي، وأهدرت العقول والكتب في مؤلفات الفلسفة وعلم الكلام والمنطق وشروحه وحواشيه وتعليقاته، فصارت العقيدة صعبة المنال، وخاصَّة بِقِلِّةٍِ قليلة من أهل فنون المنطق والكلام ) . انتهى .
أسأل الله أن يهدي شباب المسلمين إلى ما فيه الخير لهم ولأمتهم ، وأن يصرفهم عن تضييع وتكرار الجهود فيما يضر ولا ينفع ، وأن يوفق القائمين على النوادي الفكرية والأدبية إلى ما يُحب ويرضى .
كتابان مهمان يتعلقان بالموضوع
1- موقف شيخ الإسلام من آرء الفلاسفة ، للدكتور صالح الغامدي - وفقه الله - .
2- جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية ؛ للدكتور محمد أحمد لوح - وفقه الله - . فقد عقد فصلا طويلا مهمًا ( ص 397 - 479 ) عن جناياتهم .
روابط مفيدة ، متعلقة بالمقال
موقف الغزالي من الفلاسفة
للأخ الشيخ : موسى بن محمد هجاد الزهراني - وفقه الله -
http://www.saaid.net/book/open.php?cat=89&book=1192
الأخطاء التاريخية و المنهجية في مؤلفات محمد أركون و محمد عابد الجابري: دراسة نقدية تحليلية هادفة ؛ للدكتور خالد كبير علال - وفقه الله - . وقد بين فيه أخطاء أرسطو
http://www.fustat.com/books/allal_5_8.doc
الرد على من عظم الفلاسفة الملاحدة
للشيخ سمير المالكي - وفقه الله -
http://www.saaid.net/Doat/samer/1.zip(16/14)
حكم دراسة الفلسفة
http://www.islamqa.com/ar/ref/88184
وللجنة الدائمة فتوى عن هذه المسألة ؛ يجدها القارئ في فتاواها : ( 2 / 40 ) .
الحلقات السابقة من " ثقافة التلبيس "
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/thkafa.htm
وأنقل أخيرًا : مقالا مهمًا للشيخ عبدالحليم محمود ، شيخ الأزهر - رحمه الله - عن الفلسفة ، نشره في مجلة البحوث الإسلامية قديمًا ؛ يحسن بالمهتمين الاطلاع عليه :
الفلسفة
عبد الحليم محمود
إن كثيرا من شبابنا الذين درسوا في الغرب قد فتن بالفلسفة ، كما فتن بها كثير من الذين تتلمذوا على كتب الغرب المترجمة إلى العربية ووصل الأمر إلى حد افتتان جامعاتنا في أقسامها النظرية بالفلسفة فدرسها الأساتذة في إعجاب وأيدوها .
واختلف الوضع الحاضر كثيرا عن نظرة أسلافنا إلى الفلسفة .
ولقد عارض الفلسفة جميع المحدثين وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل كما عارضها كثير من كبار المفكرين وعلى رأسهم الإمام ابن تيمية . ولقد كان للإمام ابن تيمية فضل كبير وأثر بالغ في بيان فساد علم المنطق الذي كان سائدا في الأوساط الإسلامية منذ أن كان " الكندي " و " الفارابي " و " ابن سينا " ، ولقد كتب الإمام ابن تيمية فيه كتبا من أنفس ما يكون وعلى الخصوص كتاب " الرد على المنطقيين " .
ولم يقتصر الإمام ابن تيمية على نقد المنطق وإنما عمل جهده على تسفيه كل فكرة منحرفة من أفكارهم ، ثم إنه من الذين بينوا في وضوح ( موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) . وكذلك فعل الإمام ابن حزم فقد نقد أيضا المنطق وتصدى لانحرافات الفلاسفة ، أما الكتاب الذي كان له أثر بالغ في انهيار الفكر الفلسفي فهو كتاب (تهافت الفلاسفة) وكلمة (تهافت) إنما تعني السقوط والانهيار والعنوان يعني إذن سقوط الفلاسفة وانهيارهم .(16/15)
وعلى سنة هؤلاء وعلى طريقهم سرت في هذا المقال مؤمنا بفكرة أسلافنا مقتنعا بها بعد دراسة فاحصة متأنية : فقد درست الفلسفة في أوربا ثم درستها فترة طويلة من الزمن وخرجت من كل ذلك مما خرج به أسلافنا- رضوان الله عليهم .
وإذا كان أسلافنا قد كتبوا عن الانحراف الفلسفي بأسلوبهم وعلى طريقتهم فلعله من الخير أن يتحدث الذين يسيرون على نهجهم إلى شبابنا بأسلوب ميسر بحيث يقنعهم بمنطق العصر الحاضر حتى لا يشق عليهم فهمه .
ومن أجل أن تستمر مسيرة أسلافنا في معارضة كل ما لا يلائم الجو الإسلامي كتبت هذا البحث وأرجو الله تعالى أن يهدي به وأن يهدي إليه وأن يكون عملا نافعا .
حينما نتحدث هنا عن الفلسفة فإنما نعني : البحث العقلي البحث في ما وراء الطبيعة وفي الأخلاق .
ونعني بما وراء الطبيعة : الإلهيات ، أو ما يسمى في عرف المتكلمين : العقائد .
ونعني بالأخلاق : معناها الشامل الذي يتضمن التشريع الذي يحرم المنكر ويردع الذين يفعلونه ، وقد يخالفنا هذا الباحث أو ذاك في هذا الذي نعنيه بالفلسفة ، ولكننا أحببنا أن نتفق والقارئ على اصطلاح محدود ، وفي إطار هذا الاصطلاح يسير بنا البحث .
يقول الأستاذ ( أندريه كرسن ) في كتابه : ( المشكلة الأخلاقية والفلسفية ) ما يلي : - " إن الفلسفة بمعناها الخاص قد دارت- ولا تزال تدور- حول طائفتين أساسيتين من المسائل :
(1) المسائل النظرية :
ما الكائن ؟
ما أصله ؟
ما المصير الذي ينتظره هو وما تفرع منه ؟
أفي طوق عقل الإنسان أن يضع حلولا لهذه المسائل ، أم أن ذلك في حكم المستحيل ؟
كل هاتيك المسائل تعتبر مسائل ميتافيزيقية ( ما وراء الطبيعة) .
(2) المسائل العلمية :
كيف يجب أن يكون مسلكنا في الحياة ؟
كيف نربي الناشئين تربية حسنة ؟
ماذا يجب لقيادة الدولة حتى تسير على النهج المستقيم ؟
كل هاتيك المسائل عليها تتوقف الأخلاق أو تستمد هي من الأخلاق .(16/16)
وهذا الذي ذكره الأستاذ أندريه كرسن هو رأينا الذي نسير على ضوئه في موضوعنا هذا .
إن كل من يتصفح تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام يجد مجموعة من كبار المفكرين بحثوا ، في تعمق ، الموضوعات الفلسفية هذه ، وانتجوا فيها انتاجا يتفاوت كما وكيفا بحسب شخصياتهم .
وبدأت هذه المجموعة بفيلسوف العرب : " أبو يعقوب الكندي ثم كان الفارابي وابن سينا وغيرهم .
ونتساءل الآن : لماذا كان المحدثون وكثير غيرهم خصوما للفلاسفة ؟
وما هي حكمتهم في ذلك ؟
إن موقفهم من الوضوح بمكان ، وذلك أن موضوع الفلسفة هو نفسه موضوع الدين . إن الدين : إلهيات وأخلاق تستند إلى الوحي ، والوحي معصوم ، والفلسفة إلهيات وأخلاق تستند إلى العقل ، والعقل يخطئ ويصيب ، وهو حينما يخطئ لا يعلم يقينا أنه أخطأ ، وحينما يصيب لا يعلم يقينا أنه أصاب .
ويقولون ، أو لسان حالهم يقول : " لقد ضمن الله لنا العصمة في الوحي ، ولم يضمن لنا العصمة في الآراء العقلية " .
وحينما أخذ المتفلسفون يترجمون كتب اليونان وغيرهم قال معارضو الفلسفة : " إذا كان ما عند اليونان في العقائد حقا فعندنا ما هو أحق منه وهو عقائد الإسلام ، لأنها بالأسلوب الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ونحن إذا في غنى عن عقائدهم . وإذا كان ما عندهم باطلا ؛ فنحن في غنى عن الباطل " ، وكذلك كان موقفهم من الأخلاق بمعناها العام : إن كانت أخلاق اليونان فاضلة فعندنا ما هو أفضل منها ولم تتم مكارم الأخلاق إلا في العهد الإسلامي . وإن كانت أخلاق اليونان فاسدة فنحن نعوذ بالله من كل فساد " .
وعارضوا الترجمة في الجانب الإلهي وعارضوها في الجانب الأخلاقي . . .
ولكنهم لم يعارضوها ، وإنما شجعوا عليها في جانب العلوم المادية : مثل الطبيعة ، والكيمياء والفلك . . وعارضوا التفلسف في الإلهيات والأخلاق بكل ما أتوا من قوة .(16/17)
ولكن التيار الفلسفي استمر في المجتمع الإسلامي ، وإذا كان قد تهافت في المشرق بتأثير الإمام الغزالي فإنه قد ازدهر في المغرب على لسان ابن ماجه وابن طفيل وابن رشد .
وكانت آمال وأماني فلاسفة الإسلام الوصول - عن طريق المحاولات العقلية المستمرة- إلى التوفيق بين الدين والفلسفة .
*والفلسفة في الإسلام إذن تحاول جاهدة أن تعلن في نوع من الدعاية المزخرفة أنها تتفق مع الدين فيما أتى به الدين ، وأنها لا تختلف عنه في مبادئها .
وعند كل فيلسوف في الإسلام وعند كل مؤرخ للفلسفة الإسلامية فقرات وفصول بعنوان التوفيق بين الدين والفلسفة سواء أكان هذا العنوان ظاهرا أم مستورا ، أنجحت الفلسفة في هذا أم أخفقت ؟ .
ومن أجل الإجابة على هذا السؤال نحب أن نتحدث أولا عن الجو الذي نشأت فيه الفلسفة .
إنها نشأت عند قدماء اليونان قبل الميلاد . وكانت اليونان فيما قبل الميلاد بقرون تدين بدين وثني : كانوا يؤمنون بمجموعة من الآلهة قابلة للزيادة عن طريق الزواج والتناسل . وهي آلهة تحب وتبغض وتتنازع وتتشاحن ، ويحاول بعضها أن يعتدي على الأعراض وعلى السلطان وهي في نزاع مستمر ، ثم هي تحابي من البشر من يقدم لها القرابين والأضاحي وتخذل من لم يفعل ذلك ، وكانت في مستواها الأخلاقي العام بعيدة عن الكمال والفضيلة وكان الإلف والتكرار والتعود يجعل هذا الوضع للآلهة وضعا عادية لا يثير نقدا ولا استنكارا .
بيد أنه نشأ في القرن الخامس والرابع والثالث قبل الميلاد في بلاد اليونان مجموعة كبيرة من المفكرين النابهين ، بل ومن العباقرة ، فكروا وتأملوا ونقدوا واستنكروا وانفصلوا عن الدين يعلنون ذلك في صخب أو في هدوء ، وفي كثير من الأحيان يسترون ذلك ويخفونه في نفوسهم ، ولكنهم على أي وضع كانوا ، ألفوا مذاهب آمنوا بها واعتقدوها : مذاهب بشرية لم تؤسس على وحي ولم ينزلها الله على لسان أنبيائه ورسله .(16/18)
ألفوا مذاهب تتصل بالله سبحانه وبالآخرة وبالسلوك الإنساني الذي يجب أن يلتزمه الإنسان .
إنها مذاهب مؤسسة على العقل : عنه تصدر ، ومنه تنبع ، وعليه تقوم إن العقل ينشئها ويسير معها خطوة فخطوة حتى يصل بها - في تدرج - إلى غايتها ، إنها مذاهب عقلية ، إنها مذاهب بشرية . إنها في المستوىالبشري .
وإذا كانت أسطورة الدين اليوناني هي التي دفعت هؤلاء المفكرين على ما أقدموا عليه فإن الأمر لم يكن كذلك فيما قبل .
كان الوضع فيما قبل : التفرقة بين مجالين من مجالي المعرفة :
1 - مجال المعرفة الحسية ، وهو مجال آلات المعرفة فيه الحواس ، وموضوعه المادة ، والعقل يجول فيه مستنبطا ومستنتجا ، فيؤلف فيه ويركب ويعيد تأليفه وتركيبه ، ويستخرج قوانينه وقواعده ، فتكون الحضارة ، ويكون العلم بمفهومه الغربي الحديث أو بمفهومه الكوني المادي : طبيعة وكيمياء وفلك .
2 - مجال المعرفة الروحية والأخلاقية ، وهو مجال ليست الحواس مصدره وليس العقل منشئه أو مبتدعه ، وإنما مرده إلى الوحي ينزله الله على ألسنة من يصطفيهم لحمل الرسالة من خلقه ، إنه من اختصاص الله تعالى يبينه على ألسنة رسله .
وسار الأمر على هذه الكيفية إلى العهد اليوناني القديم : فخاض الإنسان في مجال الحس - وهو اختصاصه - وخاض في مجال الروح بعقله ، وليس للعقل في مجال الغيب إلا محاولة الفهم ؛ إذ الإنشاء والابتداع في هذا المجال ليس للإنسان ، وليس من اختصاصه .
وجاءت المسيحية الصادقة الموحاة فردت الأمر إلى حالته الطبيعية : عالم الحس ، للإنسان أن يفكر فيه ويستنبط ، وعالم الروح يتفهمه الإنسان عن طريق الوحي .
ولكن التيار الفلسفي اليوناني- وقد أصبح سنة مألوفة - غزا الجو المسيحي وأخذ مكانته المرموقة بين المفكرين الغربيين فنشأ فيهم الفلاسفة ونشأت في أجوائهم الفلسفة .(16/19)
وأخذ فلاسفة الغرب يحاولون التوفيق بين المسيحية والفلسفة وكان أبرزهم في هذا المجال الفيلسوف ( توما الإكويني ) .
وإذا قرأت ( ديكارت ) تجده كأنه كان يمشي على الشوك وهو يتفلسف محاولا- ما استطاع إلى ذلك سبيلا- مداراة القساوسة وعلماء الدين والجو العام الفلسفي إذ يعلن ، في مجاملة بالغة ، أنه يؤيد الدين ولا ينحرف عنه وأنه يقدم إنتاجه ويعرضه على علماء الدين متقبلا ملاحظاتهم التي يوليها عنايته الفائقة ، كان هذا موقف ديكارت وغيره . .
*وكان الإسلام- من قبل ديكارت ومن قبل الإكويني - : يهدي للتي هي أقوم ، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ويقود الإنسانية نحو مرضاة الله تعالى ، ووضع الأمور في نصابها مبينا بأسلوب لا لبس فيه أن : العقيدة والأخلاق ونظام المجتمع والتشريع من أمر الله تعالى ، وقد شاء الله سبحانه أن يرسم للإنسانية طريقها المعصوم في كل ذلك فأرسل الرحمة المهداة ، خاتم النبيين - محمدا صلى الله عليه وسلم - : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا .
* ولكن الفلسفة اليونانية دخلت على استحياء في عهد المنصور ، وقوي جناحها في عهد المأمون ، وأصبح في الأمة الإسلامية فلاسفة .
والآن نتساءل : ما هي السمات العامة للفلسفة ؟
إنه لا يتأتى أن نحدد في صورة مقنعة موقف الإسلام من الفلسفة قبل تحديد سماتها العامة ، فما هي هذه السمات ؟(16/20)
وأول سمة من هذه السمات ، وهي أهمها ، وتعتبر كالمنبع الذي عنه تفيض السمات الأخرى- هي أن الفلسفة لا مقياس لها للتفرقة بين الحق والضلال ، بين الصواب والخطأ . فإذا اختلف فيلسوفان في أمر من أمور الفلسفة فإنهما لا يجدان مقياسا عقليا بحتا يرجعان إليه للحسم بينهما في موضوع الخلاف .
أما في العلم المادي فإن المقياس هو "التجربة" فإذا اختلف عالمان في أمر كوني رجعا إلى التجربة ، وهي تعلن في صراحة مشاهدة خطأ هذا وصواب ذاك .
ما هو ، في عالم الفلسفة ، الذي يجري مجرى التجربة في مجال العلم؟
لا شيء . . .
ما الذي يحسم الخلاف في عالم الفلسفة ؟
لا شيء . .
ما هو المرجع العقلي البحت من أجل الاتفاق في عالم الفلسفة ؟
لا مرجع .
ولقد شعر الفلاسفة بذلك : فقام اثنان من كبار عباقرة الفلسفة بمحاولة لإيجاد هذا المقياس ، وهما ( أرسطو ) في الماضي و ( ديكارت ) في العصور الحديثة .
ولقد أخفق كل منهما إخفاقا تاما كاملا .
ونبدأ الحديث عن أرسطو - ولا ننسى أننا في عالم الإلهيات : مجال الفلسفة الرئيسي - لقد فكر أرسطو وقدر ، ثم فكر وقدر ، وخرج على العالم بما يسمى ( المنطق الأرسطي ) أو ( المنطق الصوري) وأخذ هذا المنطق في عالم الفكر الفلسفي مجالا من الشهرة والعناية لا حد له . وأخذ في الجو الإسلامي شهرة ذائعة الصيت .
وتبناه جميع فلاسفة الإسلام ابتداء من ( الكندي ) في المشرق إلى ( ابن رشد ) في المغرب .
ولكن كثيرا من المسلمين ذوي الأصالة في الفكر الإسلامي أبانوا في وضوح أن المنطق الأرسطي منهار ، وأنه متهافت ، وأن الخلل في جوهره وأركانه وأنه خلل لا يصلح . وكان من هؤلاء ( ابن تيمية ) الذي كتب كثيرا في نقد المنطق ونقضه: لقد كتب في ذلك كتبا وكتب في ذلك فقرات منثورة هنا وهناك في خلال كتبه الكثيرة وفتاواه المستفيضة .
وممن كتب في نقد المنطق ونقضه: ابن حزم .
والمحدثون جميعا لا يجد المنطق عندهم ترحابا ولا قبولا .(16/21)
وقد كتبنا نحن ننبه على أن المنطق لا يحسم خلافا ولا يفصل حقا عن باطل . ومما كتبناه في المنهج الحديث والمنهج الأرسطي ما يلي: إن المقاييس هي:
أ- الاستقراء
ب- القياس
أما الاستقراء - وهو أساس المفهومات العامة والقضايا الكلية - فإنه:
1 - مبني كله على الحس: إنه استقراء محسات: إنه تتبع جزئيات ، لا تخرج عن نطاق الواقع ، أما المساتير فهو بريء منها كل البراءة ، لأنها لا تدخل في دائرة اختصاصه: فهو عاجز عن أن يخترق الحجب ليصل إلى ما وراء الطبيعة .
2 - ثم إن الاستقراء: تام ، وناقص . والتام - كما يعترف المناطقة - لا غناء فيه ولا فائدة .
أما الناقص- وهو المهم في نظرهم فإنه - في رأيهم أيضا - ظني ، وهو - لذلك - عرضة للتغيير ، في كل آونة .
" كل معدن يتمدد بالحرارة" تلك قضية من قضايا الاستقراء ، إنها قضية عامة شاملة ولكن المعادن لم تنكشف بعد بأكملها .
ومن الجائز أن يكتشف في الغد معدن لا يتمدد بالحرارة ، إنها إذن ، قضية مؤقتة ظنية ، تتبرأ من اليقين الفلسفي .
" والعلم المادي كما يقول أحد المفكرين- لا يعرف الكلمة الأخيرة في مسألة من مسائله- وإنما حقائقه كلها إضافية موقوتة . لها قيمتها . حتى يتكشف البحث عما يزيل هذه القيمة أو يغيرها " .
وهكذا قضايا الاستقراء ، إنها:
1 - خاصة بالطبيعة ، ولا شأن لها بما وراءها .
2 - ظنية ، لا تعرف اليقين .
أما القياس:
1 - فإنه مبني على الاستقراء ، إذ هو منطو دائما على كلية ، كلية استقرائية ، وما دامت قضايا الاستقراء ظنية- كما رأينا - وميدانها المحسات ، فنتائج القياس ظنية كذلك ، وميدانها المحسات .
2 - إن المناطقة لا يشترطون في مقدمات القياس ، أن تكون مسلمة صادقة في نفسها ، وإنما يشترطون أن يسلمها المتجادلون فحسب ، وقد تكون - كما يقول صاحب البصائر النصيرية: منكرة كاذبة في نفسها ، وفي هذه الحالة يكون القياس صحيحا ونتيجته باطلة .(16/22)
وإذا كان الأمر كذلك فما فائدة القياس الأرسطي؟ ما قيمته إذا كان لا يعول فيه إلا على أن تكون المقدمات مستوفية لشروط الإنتاج بحيث تستلزم النتيجة وإن لم تطابق النتيجة الواقع؟
ما قيمته إذا كان لا يحفل بصدق النتيجة أو كذبها؟
إنك إذا قلت: الكثير من العلم يؤدي إلى الاستقلال الفردي ، وكل ما يؤدي إلى الاستقلال الفردي مضر بالمجتمع ، فالكثير من العلم مضر بالمجتمع ، كان هذا قياسا صحيحا في نظر المناطقة الأرسطيين .
وإذا قلت : الكثير من العلم يؤدي إلى التماسك الاجتماعي ، وكل ما يؤدي إلى التماسك الاجتماعي مفيد للمجتمع ، فالكثير من العلم مفيد للمجتمع ، كان هذا أيضا قياسا صحيحا عند المناطقة ، ومع ذلك فالنتيجتان متعارضتان .
3 - ومع كل هذا فالقياس استدلال دوري فاسد ، ذلك أن العلم بالنتيجة في نحو قولنا: محمد إنسان ، وكل إنسان ناطق ، فمحمد ناطق" متوقف على العلم بالكبرى ، والعلم بالكبرى متوقف على العلم بالنتيجة ، لأنك لا تستطيع أن تحكم بالناطقية على جميع أفراد النوع الإنساني ، إلا إذا تأكدت من ثبوت الناطقية لمحمد ، ولو كنت في شك من ذلك ، لما استطعت تعميم الحكم على جميع أفراد الإنسان ، وإذن تكون النتيجة متوقفة على الكبرى وتكون الكبرى متوقفة على النتيجة ، وعلى ذلك يكون القياس: استدلالا دوريا فاسدا ، فلا يعول عليه .
4 - وأخيرا ، فالمفروض: أن نتيجة القياس جديدة كل الجدة ، إنها استنتاج مجهول هو النتيجة - من معلوم ، هو المقدمات .
ولكن النتيجة متضمنة في المقدمات ، إنها ليست مجهولة ، والقياس إذن لا يؤدي إلى معرفة جديدة ، أو إلى استنتاج مجهول من معلوم ، إنه- إذا أردت الدقة- استنتاج معلوم من . . معلوم .
تلك هي موازين العقل- وهي موازين لا غناء فيها ولا جدوى منها فيما يتعلق بالإلهيات . العقل إذن قاصر فيما يتعلق بالأخلاق . وهو قاصر على الخصوص فيما يتعلق بالإلهيات .(16/23)
ومن هنا كان السبب في اقتصارها على الأخلاق والإلهيات .
وإذا كانت قد تحدثت في التشريع فإن التشريع داخل في نطاق الأخلاق .
أخفق إذن منطق أرسطو . واستمر الاختلاف بين الفلاسفة كما كان من قبل . واستمر الخلاف حتى بين المناطقة الأرسطيين: الكبار منهم والمغمورين ، بل حدث الاختلاف بين تلاميذ أرسطو نفسه ، وهم أتباع مدرسة واحدة هي المدرسة الأرسطية .
ومرت العصور ، وتوالت القرون ، وجاء ( ديكارت ) ، وبدأ ( ديكارت ) يتفلسف على استحياء وعلى حذر بالغ ، فما كان جو زعماء المسيحية في الغرب إذ ذاك يوحي بالاطمئنان أو السكينة ، لقد كان جوا رهيبا يأخذ على الظنة وينكل على الشبهة ، لا يتحرى عدالة ولا يستشعر رحمة .
وأخذ ( ديكارت ) يتحسس طريقه في حيطة بالغة: مداريا ، مجاملا ، مادحا ، متواضعا . .
وذات يوم أعلن أنه عثر على المنهج المعصوم .
وأنه على أساس من هذا المنهج سيقود الإنسانية إلى الحق . .
ورأى أن هذا المنهج صالح للكشف عن الحق في الكون وفي ما وراء الكون ، في الطبيعة وفي ما وراء الطبيعة .
ولكن التجربة أظهرت خطأه في أثناء حياته .
وأن الخلاف استمر حول آرائه في الإلهيات ، وآراء معاصريه ، وآراء من قبله ، كما كان الأمر من قبل أن يولد منهجه ، وأخفق منهج ديكارت كما أخفق من قبل منهج أرسطو . .
وبقيت الحقيقة التي لا شك فيها ، وهي أن الفلسفة لا مقياس لها . هذه هي السمة الأولى . .
السمة الثانية : ما دامت الفلسفة لا مقياس لها فهي إذن ظنية ، إنها ظنية وإن عجنت بمنطق أرسطو الذي أخفق ، وهي ظنية وإن خبزت بمنهج ديكارت الذي لم ينفع في قليل ولا في كثير ، إنها ظنية لأنه لا يتأتى أن تفرق فيها- ولا مقياس- بين الحق والضلال ، وستستمر هكذا إلى الأبد .
السمة الثالثة : مادام لا سبيل إلى اليقين في موضوعات الفلسفة فإن من البدهي أن: اختلاف الآراء فيها دائم" .(16/24)
وهذا هو الواقع حينما يتصفح الإنسان الفكر الفلسفي عبر القرون ، إن الاختلاف والجدل دائم مستمر منذ أن نشأ الفكر الفلسفي ، إنهم يختلفون حتى في المدرسة الواحدة .
وانظر مثلا إلى مدرسة سقراط فستجد تلاميذه يقرون بأستاذيته في احترام بالغ ، وفي تبجيل يشبه التقديس ، فإذا جئت إلى آرائهم في الإلهيات ، أو في الأخلاق ، فستجد الاختلاف والافتراق . . الاختلاف والافتراق بينهم وبين أستاذهم ، والاختلاف والافتراق بين بعضهم وبعض . .
بل إن الأمر يصل بالشخص الواحد إلى أن يختلف مع نفسه بحسب تطور حياته ، أو اختلاف بيئته أو اختلاف ما يقرأ من مصادر ثقافته .
وكل هذا واضح عبر العصور .
ومن غرائب الأمور أن الفلاسفة يعلمون علما يقينا ، ويعلمون أن كل فيلسوف أتى من قبلهم هدم آراء سابقيه جميعا: إنه لم يعترف بوصول أحدهم للحق ، إنه يخطئهم جميعا ولو لم يكن الأمر كذلك لأخذ بآرائهم ، واكتفى بما أخبروه ، أو بما أنشأه أحدهم من قبل .
ولكنه مع علمه بأن الفلسفة دائما إلى نقد ونقض فإنه لا يأبه بهذه المعرفة ويقيم مذهبه على أنقاض مذاهب سابقيه ، فيأتي من بعده ويهدمه ويقيم مذهبا مآله السقوط وهكذا دواليك :
السمة الرابعة : وما دام الاختلاف مستمرا فإن المسائل التي هي موضوع الفلسفة تستمر هي هي ، "إن مسائل الفلسفة لم تتغير على مر الدهور " .
ما هي مسائل الفلسفة؟ إنها: معرفة الله سبحانه وصفاته ، وصلته بالعالم خلقا وتصريفا ، وصلته بالإنسان قربا وتوجيها . . والبعث وكيفيته . . . والخلق الكريم الذي يمثل الفضيلة والكمال . . . والخلق السيئ الذي يمثل الشر والفساد . . . والنبوة والصلة بالله عن طريق الوحي: إثباتا وإنكارا ، ثم: هل المعرفة ممكنة؟ وفي كل هذه الموضوعات الكبرى وغيرها مما يتصل بها اختلف الفلاسفة وما زالوا . واستمرت هذه المسائل على مدى سبعة وعشرين قرنا تقريبا مثار بحث وجدل إلى الآن . .(16/25)
لم يصل الفلاسفة في واحدة منها إلى اليقين ، ولم توضع واحدة منها موضع الاتفاق .
السمة الخامسة : إن الاختلاف في مسائل الفلسفة ليس اختلافا في الإيجاب فحسب ، وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة ما عدة حلول كلها إيجابية .
وليس اختلافا في السلب فحسب ، وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة واحدة عدة حلول كلها سليمة
إن الخلاف عام في الإيجاب وفي السلب وإنه ليصل إلى الإنكار المطلق وإلى الإثبات المطلق في كل مسألة ، وإنه ليصل بك أحيانا إلى طريق مسدود .
وإن الفكر الفلسفي ليصل بك أحيانا إلى إنكار السماء والأرض ، وما بين السماء والأرض ، ويقول لك: ليس في الوجود - يقينا- غيرك أنت وحدك .
وإن السمة الأخيرة هي سمة تؤدي إليها ، - لا مناص- السمات السابقة .
وإذا كانت السمات السابقة يسلم كل منها إلى الآخر ، فإنها جميعا تتكاتف لتؤدي إلى هذه السمة الأخيرة .
السمة الأخيرة : هذه السمة الأخيرة هي أن: " الفلسفة لا رأي لها " .
وقد تكون هذه السمة مفاجأة لبعض الناس ، كيف يتأتى أن تكون هذه الفلسفة التي ملأت الدنيا صياحا ، منذ نشأت ، ولم تكف- منذ أن نشأت للآن - عن الصياح: لا رأي لها؟
والأمر أيسر من أن يحتاج إلى استفاضة:
أما أولا: فلأن " الفلسفة لا رأي لها" . نتيجة واضحة لكل ما قدمنا .
وأما الثانية: فخذ أي مسألة من مسائل الفلسفة فستجد فيها الآراء التي تنكر ، والآراء التي تثبت ، إنك ترى الرفض والقبول في كل أمر .
والرفض فلسفة ، والقبول فلسفة .
وقد يكون الرأي توقفا على الرفض والقبول وهو فلسفة ، وقد يكون شكا في الرفض ، وشكا في القبول في آن واحد ، وهو أيضا فلسفة .
والشك إما أن يكون شكا في قيمة الآراء التي تعرض: نفيا أو إثباتا .
وإما أن يكون شكا في قيمة وسيلة المعرفة نفسها وهي الحواس والعقل .
وكل ذلك فلسفة في كل مسألة .(16/26)
وإذا تساءلت- وأنت على علم بالجو الفلسفي: جو المتاهات والوهم- ما الرأي الفلسفي في هذه المسألة أو تلك فستجد كل ما قدمناه ماثلا أمامك يثبت لك بما لا مرية فيه أنه: ( لا رأي للفلسفة ) .
وقبل أن نخلص إلى الخاتمة نذكر أمرا في منهج الفكر الفلسفي فيه عظة وفيه عبرة: إن محاورة " فيدون " لأفلاطون لها أهميتها لأكثر من وجه . منها أنها:
1 - محاورة يدور البحث فيها حول خلود النفس .
2 -وهي محاورة لا تتعارض فيها أهداف المناقشين ، وإنما تتحد وتتفق ويحب المناقشون أن يصلوا فيها إلى نتيجة محببة إلى نفوسهم وهي أن :( النفس خالدة) .
3 - إن الذين يدور بينهم الحوار فلاسفة من الذين له وزنهم واعتبارهم ، وأحدهم يسمونه " أبا الفلسفة" ويسمونه " أبا الفلاسفة" .
4 - المتحاورون ليسوا من مدرسة واحدة وإنما هم من مدرستين مختلفتين هما: مدرسة سقراط ، ومدرسة فيثاغورس ، وهما وإن كانتا متقاربتين فإنه ما من شك في أن جو سقراط العقلي يختلف عن جو فيثاغورس الروحي .
ولهذا الاختلاف فإن اتفاقهما على غاية واحدة :( إثبات خلود الروح) ومحاولتهما الاستدلال عليها له أهميته الخاصة .
5 - بيد أن الأمر الأساسي الهام الذي من أجله نتحدث في هذا الموضوع هو اتفاق المدرستين على أن " الوحي" فيما يتعلق بما بعد الطبيعة هو السفينة الأمينة الآمنة المتينة ، وأن العقل في مجال الإلهيات ، إن هو إلا عبارة عن لوح من الخشب إذا قابلته أو إذا وازنته بالوحي :(إن الوحي سفينة والعقل لوح خشب) .
لقد كان الحوار يدور بين سقراط واثنين من الفيثاغوريين هما : سيميا " و" قابس " وهما من كبار فلاسفة المدرسة الفيثاغورية .
وأخذ الجميع يجهدون ذهنهم في البرهنة على خلود النفس ويقيمون أدلة وتنقسم بعض أدلتهم إلى فروع ثم: " ويسكت سقراط ، ويسكت الجميع ، وبعد هنيهة يقول سيميا :(16/27)
إن العلم بحقيقة مثل هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا في هذه الحياة ، ولكن من الجبن اليأس من البحث قبل الوصول إلى آخر مدى العقل ، فيجب:
إما الاستيثاق من الحق .
وإما - إن امتنع ذلك- استكشاف الدليل الأقوى والتذرع به في اجتياز الحياة .
كما يخاطر المرء بقطع البحر على لوح من خشب ، ما دام لا سبيل لنا إلى مركب أمتن وآمن ، أعني إلى وحي إلهي"
وبعد ذلك يعودون إلى البحث من جديد حتى:
يقتنع قابس ، ويعلن سيمياس أنه مقتنع أيضا ، إلا أن شعوره المزدوج بعظم المسألة وبالضعف البشري يضطره إلى بعض التحفظ بإزاء هذه الأدلة على وجاهتها .
فيسلم له سقراط بحقه في هذا التحفظ ، ويزيد قائلا:
بل إن المقدمات أنفسها مفتقرة إلى بحث أوكد .
إن هناك بحر الإلهيات ، وهناك البحر المائي .
وكما أن للبحر المائي آلة عبور هي السفينة ، فإن لبحر الإلهيات آلة عبور هي "الوحي" .
فإذا استعمل الإنسان العقل في عبور بحر الإلهيات ، فإنه يكون كإنسان يستعمل لوحا من خشب في عبور البحر المائي .
ولكن المضطر- حيث لا وحي- يستمسك بلوح الخشب- كما يقول سيمياس - " ما دام لا سبيل إلى مركب أمتن وآمن ، أعني إلى وحي إلهي" .
اليهود والفلسفة
ولعل القارئ الكريم يسمح بأن أتحدث عن الجو الذي عشته في بواكير حياتي الفلسفية ، لقد كان ذلك لأول عهدي بجامعة باريس حينما ذهبت إلى فرنسا للدراسة:
وأحب أن أصف الجو الذي عشته- بتوفيق الله - أثناءه .
دخلت الجامعة ، وبدأت الدراسة في علم الاجتماع وعلم النفس ، ومادة الأخلاق ، وتاريخ الأديان .
وكانت هذه المواد يتزعم دراستها وتدريسها الأساتذة اليهود ، أو الذين تتلمذوا على الأساتذة اليهود .
وكانت هذه المواد كلها تسير في تيار محدد ، هو: أنها ( علوم مجتمع) أي أنها لا تتقيد بوحي السماء ، ولا تتقيد بالدين على أنه وضع إلهي ، فهي تدرس موضوعاتها على أنها ظواهر اجتماعية ، وظواهر إنسانية .(16/28)
وبدأنا في الدراسة نسمع مختلف الآراء في نشأة الدين ، ومختلف الآراء في تفسير النبوة وينتهي الأمر برأي الأستاذ في الموضوع .
وليس في هذه الآراء- على اختلافها وتعددها- ما يتجه إلى أن الدين وحي من السماء أو أن النبي- أي نبي - موصول الأسباب بالسماء ، وإذا انتظرنا من ذلك الأستاذ أن يصحح الوضع . فيدلي في النهاية برأيه مثبتا الألوهية والنبوة هادما للآراء الأخرى واصفا لها: بأنها ضلال .
إذا انتظرنا ذلك منه فإننا نكون واهمين ، فإنه واحد من هؤلاء العشرات من الأساتذة في هذه المواد وما شابهها المنغمسين في تيار المادية .
لقد فسرت الجامعات الأوروبية العلم على أنه القواعد التي تقوم على التجربة والملاحظة . والتزمت أن تفسر وأن تشرح علم الاجتماع وعلم النفس وجميع الظواهر في الآفاق ، وفي الأنفس ، على هذا الأساس ، والتزمت ذلك أيضا في تاريخ الأديان .
هذه العلوم بالذات وفروعها تتكاتف لتقود الإنسان متعاونة متساندة إلى الإلحاد .
إن للدين- فيما يزعمون- نشأة إنسانية اجتماعية ، - وإن للخلق - فيما يروون- نشأة إنسانية واجتماعية ، وقد تواضع الناس على سلوك معين سموه: " فضيلة " وعلى سلوك آخر سموه : " رذيلة " .
ودراسة الدين والأخلاق إذن تتجه إلى النشأة والمظاهر وعوامل التطور وظواهر التطور . . وليس للوحي في الدراسة من نصيب اللهم إلا الوصف لظاهرة نشأت في المجتمع .
وكل الظواهر والمظاهر في هذه الدراسات اعتبارية نسبية متبدلة لا تثبت على حال ، ولا تستقر على وضع ، لأنها في كل يوم تتبدل حالا بحال . .
وهذه الأفكار تتكرر في هذه المواد: تسمعها في علم الاجتماع ، وتسمعها في علم النفس ، وتسمعها في دراسة مادة الأخلاق ، وتسمعها في دراسة تاريخ الأديان ، وتسمعها في دراسة العلوم المتفرعة من كل ذلك .(16/29)
والشاب الذي انتقل من الأقسام الثانوية إلى الجامعة يتأثر بأستاذه ، فإذا كان الأساتذة متكاتفين على هدم القيم الثابتة ، والمثل العليا التي يقررها الدين ، وتقررها الأخلاق ، إ ذا كان الأمر كذلك فإن الطالب الذي يعيش في أجواء تتعاون كلها على هدم عقائده ومثله وقيمه ينتهي به الأمر- في الأغلب الأعم من الحالات- بأن تنهار هذه القيم في شعوره .
ومن هنا كانت الظاهرة التي تجدها في طلبة الجامعات في أوربا من الاستخفاف بكثير من العقائد وبكثير من القيم وينتهي الطالب بالإلحاد ، أو على أقل تقدير بالإيمان الكامن الذي لا فاعلية له ، ولا تأثير في سلوك الإنسان .
وكنت - من غير شك- أضيق بكل ما يجري في هذه الدراسات ولكن الله -سبحانه وتعالى- ألهمني التفكير في قيمة وآراء الأساتذة أنفسهم في هذه المواد . وبدأت أفصل بين عالمين من المعرفة: عالم الماديات كالطب والطبيعة والكيمياء ، وهي أمور تحكمها التجربة ولا تتعارض مع الدين ، ولا اختلاف فيها . . وعالم التفكير المجرد في الدين والأخلاق والمجتمع .
وأخذت أدرس في أناة هذا الجانب الأخير من الزاوية التاريخية ، فوجدت أنه منذ أن بدأ التفكير ، بدأ في اللحظة الأولى الاختلاف فيه ، وبدأ كل زعيم من زعمائه ينتقد الآخرين في عصره ، وكل مفكري عصره ينتقدون المفكرين في العصر السابق عليه . . وهكذا الأمر .
وما من شك في أن هؤلاء الأساتذة الذين يدرسون لنا ينتقد بعضهم بعضا في آرائهم ، ويخطئ بعضهم بعضا ، كما ينتقدون السابقين عليهم ويخطئونهم ، وسيصنع من بعدهم صنيعهم فيوجهون إليهم النقد ويخطئونهم وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .(16/30)
لقد أخذ " دوركايم " اليهودي يعمل بمعاول هدامة في كل القيم والمفاهيم الدينية والأخلاقية ، وأخذ تلميذه الأكبر اليهودي " ليفي بروهل " ينهج منهجه ويسير على طريقه في علم الاجتماع وفي علم الأخلاق وكتاب " ليفي بروهل " : " الأخلاق وعلم العادات" - مثل واضح لهذا النوع من هدم القيم ، ومحاولة القضاء على كل المثل .
فكرت إذن في اختلاف الآراء ، أو في هدم بعضها البعض في مواجهة كل ما يقوله الأساتذة وكنت أقول في نفسي- في مواجهة كل أستاذ- سيهدمك المعاصرون لك ، وسيهدمك الذين يأتون من بعدك . ولكني في مواجهة كل هذه الآراء الإلحادية- كنت أتشبث بيقين لا شك فيه . كنت أقول في نفسي: إذا كانت الأخلاق نسبية ، فهل سيأتي الزمن الذي نعتقد فيه: أن الصدق رذيلة أو أن الشهامة شر ، أو أن الشجاعة سوء ، أو أن العفة جريمة . . أو أن كذا ، أو كذا . . ثم أعود إلى نفسي فأقول: كلا . . .
- وأتساءل من جديد في مجال العقائد: هل سيأتي اليوم الذي لا نقول فيه بوحدانية الله؟ أو لا نقول فيه بإرادته وعلمه؟
- وأعود إلى نفسي وأقول: كلا . . .
- كنت أحاول دائما أن أردد أن هؤلاء القوم يسيرون في طرق لا تنتهي إلى غاية .
ما هدفهم من ذلك؟
- وما كنت أجد الإجابة عن هذا السؤال آنئذ ، لكن عرفت فيما بعد أن هذا هو المنهج اليهودي الذي رسموه بعد تفكير طويل ، والتزموا به بكل الوسائل ، أو بكل الطرق ، وهو منهج التشكيك في القيم والمثل والعقائد والأخلاق .
يستخدمون هذا المنهج في المجالات المختلفة لإفساد المجتمعات وتحللها أخلاقيا ودينيا ، ويضيفون إليه العمل على إثارة العمال على أصحاب رؤوس الأموال ، وعلى إيجاد الضغائن والفتنة بين مختلف فئات الشعوب ، والثمرة التي يعملون دائبين على الوصول إليها: أن يكون المجتمع شاكا مليئا بالفتن ، وذلك سبيلهم إلى السيطرة .(16/31)
إن اليهود يهدفون من وراء كل ذلك إلى السيطرة على العالم ، إنهم يحطمون القيم والمثل حتى لا يكون في المجتمعات قوة من عقائد ، أو قوة من خلق ، ومن أجل ذلك تكاتفوا على أن تكون لهم الكلمة الأولى في الجامعات في علم الاجتماع وفي علم النفس ، وفي مادة الأخلاق ، وفي تاريخ الأديان ، ولم يكن من السهل علي أثناء هذه الدراسة الاستمساك الواثق بالقيم والمثل التي نشأت عليها ، لولا عون الله سبحانه ، وتوفيق منه ، ولولا لطف الله لصرت كواحد من هؤلاء الألوف الذين يدرسون في الجامعات الأوروبية ثم يخرجون منها ، وقد تحطمت في نفوسهم المثل الدينية الكريمة .
- وانتهيت من هذه الدراسة ، ثم كانت المرحلة التالية هي مرحلة " الدكتوراه " . ، وبعد تجارب هنا وهناك في مجالات مختلفة من الموضوعات ، وبعد تردد بين هذا الموضوع أو ذاك- هداني الله- وله الحمد والمنة- إلى دراسة ( الحارث بن أسد المحاسبي ) ولم يكن ذلك مصادفة ، وإنما هي هداية وتوفيق من الله سبحانه وتعالى ، وهي عناية أعجز عن شكر الله سبحانه وتعالى عليها .
- وانتهيت من دراسة" الدكتوراه" وأنا أشعر شعورا واضحا بمنهج المسلم في الحياة ، وهو منهج :"الاتباع" .
إن ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول كلمة موجزة عن هذا المنهج كأنها إعجاز من الإعجاز ، إنه يقول: " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم " . وهي كلمة حق وصدق ثرية بالمعاني الطويلة العريضة ، يبرهن آخرها على أولها ، والنهي في وسطها يبرهن عليه أيضا آخرها: أي اتبعوا فقد كفيتم ، والكافي هو الله سبحانه وتعالى الذي أوحى الشرع والأصول والقواعد ، وطبق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كل ذلك وبينه ، فكان تطبيقه مقياسا وبيانا ومرجعا يرجع إليه المختلفون .(16/32)
" ولا تبتدعوا فقد كفيتم": إن الذي يبتدع هو من لا كفاية له ، ولكن الله - سبحانه وتعالى- بعد أن أكمل الدين ، وأتم النعمة ، فليس هناك من مجال ، ولا من حاجة إلى الابتداع . لقد كفانا الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- كل ما أهمنا من أمر الدين . ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) .
وبعد أن وقر هذا المنهج في شعوري واستيقنته نفسي أخذت أدعو إليه: كاتبا ومحاضرا ومدرسا ثم أخرجت فيه كتابا خاصا هو كتاب :" التوحيد الخالص ، أو الإسلام والعقل " .
وما فرحت بظهور كتاب من كتبي مثل فرحي يوم ظهر هذا الكتاب ، لأنه من خلاصة تجربتي في حياتي الفكرية .
وهذا المنهج يفترض:
1 - مقاومة الغزو الفكري :
والغزو الفكري له مجالات مختلفة: هناك الغزو الفكري في العقائد يتمثل في كل هذا التراث الضخم الذي نقل إلى اللغة العربية فيما يتعلق بما وراء الطبيعة ، وهو تراث مختلف متعارض ، بل ومتناقض ، وهو نتاج بشري بكل ما يتسم به النتاج البشري من خطأ وضلال .
2 - والغزو الفكري في نظام المجتمع:
الذي حاول أن يفرض علينا نظام المجتمعات الأوروبية . وإذا نحن سرنا في تياره ، فإننا نصبح ولا شخصية لنا ولا ذاتية ونصبح وقد فقدنا رسالتنا التي كلفنا بتبليغها للناس ونشرها وهي رسالة الإسلام التي من أجلها كانت الأمة الإسلامية ، وبدونها تصبح الأمة الإسلامية ولا مبرر لوجودها .
3 - والغزو الفكري في مجال التشريع:
وهذا الغزو الفكري في مجال التشريع توجد أسسه وأصوله بصورة مشروعة في مختلف الأقطار العربية ممثلة في كليات الحقوق التي تنفق عليها الدولة وتعتمد شهاداتها .
وكليات الحقوق هذه دراستها غزو فكري ، واستعمار فكري ودراستها: أثر من آثار الاستعمار التي لم تزل بعد أن زال الاستعمار .(16/33)
وإذا كانت الأمم الواعية تحاول جاهدة أن تتخلص من وصمة الاستعمار بما فيها من شرور ورجس وآثام فإن الكثير من الدول العربية لم تحاول أن تتخلص من وصمة الاستعمار الصارخة الواضحة الممثلة في هذه الكليات .
إن هذه الكليات تخصص عشرين ساعة في الأسبوع للقوانين الأوروبية أي للفكر الأوربي في التشريع ، وتفرض على الطالب أن يستذكره ويستوعبه ويحفظه ويتمثله ، وينجح فيه في الامتحان .
أي أنها تفرض على الطالب أن يستعمر فكره الأوربيون في مجال التشريع ، وأن يلغي ذاتيته الإسلامية في هذا المجال ، وأن يكون تابعا للأوربيين في هذا المجال ، مقلدا لهم تجره عجلتهم ، مستسلما لغزوهم ، وبينما تخصص هذه الكليات عشرين ساعة أسبوعيا للفكر الأوربي في التشريع ، إذا بها تخصص ساعتين فقط للتشريع الإسلامي .
ولو أن هذه الكليات في فرنسا أو في إنجلترا لما فعلت أكثر من ذلك . . ومنهج الاتباع: إذن يقتضينا أن ننظر في جد في أمر هذه الكليات من أجل أن نتمثل الوطنية والإسلامية والعروبة .
وبعد: فإن منهج الاتباع هو الخلاصة الجوهرية لتجاربي الخاصة بالطريق الذي ينبغي أن يسلكه المسلم في حياته وإذا سار فيه المسلم فردا أو سار فيه المجتمع مجتمعا ، فإن الله - سبحانه وتعالى- يكتب له الهدوء والطمأنينة والسعادة ، لأنه يكون في جو رباني مليء برعاية الله سبحانه وتعالى وعنايته وإن منهج الاتباع ينفي من الجو الإسلامي الانحراف الفكري: ثم إنه ييسر لنا رعاية الله تعالى وتوفيقه وحمايته ونصره ويجب نشره في جميع الأجواء الإسلامية: إنه المنهج الإسلامي .
( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .
مجلة البحوث الإسلامية - عدد : محرم - جمادى الثانية لسنة 1400هـ .(16/34)
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته ، إليكم هذا الكتاب من المؤلف ، لنشره في موقعكم للاستفادة الفردية لا التجارية ،و شكرا ، و وفقكم الله لما يحبه و يرضاه ، و السلام عليكم .
الأخطاء التاريخية و المنهجية في مؤلفات
محمدأركون و محمد عابد الجابري
-دراسة نقدية تحليلية هادفة-
الدكتور خالد كبير علال
-حاصل على دكتوراه دولة في التاريخ الإسلامي من جامعة الجزائر-
- دار المحتسب -
- طبعة أولى سنة 2008 -
............................................................
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين ، و بعد : خصصتُ كتابي هذا لموضوع الأخطاء التاريخية و المنهجية في مؤلفات الباحثيّن محمد أركون ، و محمد عابد الجابري ، و لم أخصصه لإيجابياتها ، علما بأنها قليلة جدا في مصنفات أركون ، و كثيرة في مصنفات الجابري بالمقارنة إلى الأول .
كما أنني لم أتعرض لكل الأخطاء في مؤلفات الرجلين ، فهناك أخطاء ليست بالقليلة تجاوزتها ، إما لأنها مكررة ، و إما لأن أجوبتها سترد في الرد على أخطاء أخرى ، و إما لأنها أخطاء طفيفة و أقل خطرا ، فضربت عنها صفحا .
و قد اخترتُ الكتابة في هذا الموضوع لِما رأيتُ من كثرة الأخطاء التاريخية و المنهجية في مصنفات أركون و الجابري ، مقابل الرواج الواسع-نسبيا- لمؤلفات الجابري على عِلاتها و مضارها ، و التأثير السيئ لكتب أركون -مع قلة رواجها- على عدد ليس بالقليل من المثقفين و أهل العلم من مختلف بلدان العالم ، هذا فضلا على أن الرجلين يحملان فكرا خطيرا في كثير من جوانبه ، و هو أيضا فكر متقارب ، و متداخل ، و متكامل، و متشابه في جوانب كثيرة من جهة أخرى . فرأيت من الواجب عليّ أن أقوم بذلك العمل لكشف تلك الأخطاء ، و على الله قصد السبيل .(17/1)
و عملي هذا ليس اصطيادا للأخطاء ، و إنما هو عمل علمي نقدي هادف ، ركّز على نقد مشروعين فكريين من جانبيّن ، هما : الأخطاء التاريخية و الأخطاء المنهجية المتعلقة بطريقة الفهم و الكتابة العلمية ، و هما جانبان من الأهمية بمكان ، قام عليهما قسم كبير من المشروعين لا يصح السكوت عنه .
و قد اتبعتُ في كتابي هذا منهجا علميا نقديا ، قام أساسا على النقل الصحيح ، و العقل الصريح ، و العلم الصحيح ، و التاريخ الثابت ، ملتزما في ذلك تطبيق منهج المحدثين في نقد الخبر، القائم على نقد الأسانيد و المتون معا ، في تمحيص الروايات الحديثية و التاريخية . و لم أتخل عنه إلا إذا لم أتمكن من تطبيقه ، أو لم أر في تطبيقه ضرورة . كما أنني سأردُ على الأخطاء التاريخية و المنهجية الواردة في مؤلفات أركون و الجابري ، سواء صدرت منهما ، أو من الذين نقلا عنهم من أهل العلم .
و أشير هنا إلى أنني اعتمدتُ في إنجازي لكتابي هذا ، على مؤلفات الرجلين التي تمكنت من الحصول عليها ، مع أنني أعلم بأن لهما كتبا غيرها لم أطلع عليها ، لعدم تمكني من الحصول عليها ، لكني-مع ذلك- اعتقد أن مصنفاتهما التي تحصلتُ عليها ، هي كافية لإنجاز بحثي هذا ، و للإطلاع على فكر الرجلين .
فبالنسبة لمؤلفات أركون التي اعتمدت عليها ، فقد بلغ عددها ستة كتب ، هي :
- الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ترجمة هاشم صالح ، ط 2 ، مركز الإتحاد القومي ، و المركز الثقافي العربي ، بيروت ، الدار البيضاء ، 1996 .
- تاريخية فكر العربي الإسلامي- هو نفسه : نقد العقل الإسلامي- ، ترجمة صالح هاشم ، ط 3 ، مركز الإتحاد القومي ، و المركز الثقافي العربي ، بيروت ، الدار البيضاء ،1998 .
- القرآن : من التفسير الموروث ، إلى تحليل الخطاب الديني ، ط 1 ، ترجمة هاشم صالح ، دار الطليعة بيروت ، 2001 .
- الإسلام ، أروبا ، الغرب ، ترجمة هاشم صالح ، ط 2 ، دار الساقي ، بيروت 2001 .(17/2)
- الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل ، ترجمة هاشم صالح ، ط 2 ، دار الساقي بيروت ، 2002 .
- معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية ، ترجمة هاشم صالح ، ط1 ، دار الساقي ، بيروت ، 2001 .
و أما مصنفات الجابري التي اعتمدتُ عليها ، فقد بلغ عددها خمسة ، و هي :
- تكوين العقل العربي ، ط8 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، د ت .
- بنية العقل العربي ، ط 7 ، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ، 2004 .
- العقل السياسي العربي ، ط6 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، 2003 .
- العقل الأخلاقي العربي ، ط2 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، 2001 .
- التراث و الحداثة - دراسات و مناقشات - ط2 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1999 .
و أنا في عملي هذا لا أدعي الكمال ، فإنني اجتهدتُ قدر المستطاع على استخراج أخطاء الرجلين التاريخية و المنهجية من أعمالهما العلمية ، و ناقشتها ، و بينتُ مواطن الخطأ و الخلل فيها ، انطلاقا من نظرتي الدينية ، و قناعاتي الشخصية ، و تجربتي العلمية ، فإن أصبتُ فبتوفيق من الله تعالى ، و إن أخطأت فمن نفسي و من الشيطان ، و فوق كل ذي علم عليم .
و أخيرا أسأل الله تعالى التوفيق و السداد ، و الإخلاص في القول و العمل ، و أن ينفع بعملي هذا مؤلفه و قارئه ، و كل من سعى في نشره و توزيعه ، إنه سبحانه و تعالى سميع مجيب ، و على كل شيء قدير .
د/ خالد كبير علال
06/ رجب/ 1427 - 31/ جويلية / 2006
-الجزائر-
الفصل الأول
الأخطاء المنهجية في الكتابة العلمية و النقد التاريخي
- في مؤلفات أركون و الجابري -
أولا : أخطاء في منهجية الكتابة العلمية .
ثانيا : أخطاء في منهج النقد التاريخي .
الفصل الأول
الأخطاء المنهجية في الكتابة العلمية و النقد التاريخي
- في مؤلفات أركون و الجابري -(17/3)
و قع الباحثان محمد أركون و محمد عابد الجابري في أخطاء منهجية كثيرة ، يتعلق بعضها بمنهجية الكتابة العلمية ، و يتعلق بعضها الآخر بمنهج النقد التاريخي ، نتناولها تباعا فيما يأتي إن شاء الله تعالى :
أولا : أخطاء في منهجية الكتابة العلمية :
فبالنسبة لمحمد أركون فإن أخطاءه المنهجية في الكتابة العلمية كثيرة جدا ، أذكر منها طائفة متنوعة (1) ، أولها عدم التوثيق من المصادر الإسلامية رغم توفرها ، و التوثيق من المراجع الاستشراقية المعادية -في معظمها- للإسلام و المسلمين ، و الشواهد الآتية تُثبت ذلك بوضوح ، أولها مفاده أن أركون عندما عرّف ببعض مصطلحات علم الحديث ، كمعنى الحديث ، و السنة ، و الأثر ، و الخبر ، و السماع ، و الرواية ، أحال إلى دائرة المعارف الاستشراقية المسماة بالإسلامية (2) .
و الشاهد الثاني ، مفاده أن أركون في كتابه تاريخية الفكر العربي الإسلامي ، نقل أخبارا تاريخية متنوعة عن التاريخ الإسلامي ، من دون الرجوع إلى المصادر الإسلامية ، و أحال إلى كتب استشراقية (3) . و فعل نفس الشيء في كتابه الفكر الإسلامي ، فقد أورد نصوصا و أخبارا ، من دون الرجوع إلى المصادر الإسلامية (4) .
__________
(1) سيأتي ذكر أمثلة أخرى كثيرة ، في الفصول الآتية من هذا الكتاب ، إن شاء الله تعالى .
(2) الفكر الإسلامي -قراءة علمية- ، ص: 22 ، 48 .
(3) أنظر مثلا : ص : 223 ، 224 ، 225 ، 227 .
(4) أنظر ص : 157 ، 158 .(17/4)
و الشاهد الثالث هو أن أركون لما تطرق للمرسوم الذي أصدره الخليفة العباسي القادر بالله ( ت 422ه ) المعروف بالاعتقاد القادري ، أشار في الهامش إلى كتاب للمستشرق الأمريكي جورج مقدسي عنوانه : ابن عقيل : الدين و الثقافة في الإسلام الكلاسيكي ، الصادر باللغة الإنجليزية (1) . و لم يرجع إلى المصادر التاريخية الإسلامية التي أشارت لهذا الاعتقاد ، خاصة كتاب المنتظم لعبد الرحمن بن الجوزي ( ت597ه) الذي أورد الاعتقاد كاملا في تاريخه (2) .
و الشاهد الرابع هو أن أركون زعم أن كتب الباحثين الرواد من المستشرقين ساهموا بشكل علمي في تقدم الدراسات القرآنية ، و (( تقدم معرفتنا العلمية بالقرآن )) (3) . و قوله هذا اعتراف منه بأن كتب المستشرقين هي الكتب العلمية الهامة عنده ، و هذا زعم باطل مردود عليه ، لأن المعرفة الصحيحة بالقرآن لا نجدها في مؤلفات المستشرقين و تلامذتهم ، و إنما نجدها في القرآن نفسه أولا ، لأنه يحمل تاريخه في ذاته . و نجدها أيضا في السنة النبوية الصحيحة الموافقة له ثانيا ، و في التراث الإسلامي الصحيح ثالثا .
و الخطأ الثاني - من أخطاء الكتابة العلمية- هو عدم توثيقه لأخبار و نصوص ذكرها في بعض مؤلفاته ، و الأمثلة الآتية شاهدة على ذلك ، أولها يتمثل في أنه -أي أركون- زعم أنه في القرن الرابع الهجري حدث إجماع بين المسلمين على شكل و مضمون النص القرآني ، بعد فترة طويلة من الاحتجاج و الاختلاف ، و هو لم يوثق زعمه هذا من كتب شيوخه المستشرقين ، و لا من مؤلفات المسلمين (4) . و نحن نكتفي هنا بنقل ما ادعاه أركون في الرواية التي ذكرها ، و سنرد عليه فيها و نفندها في المبحث الأول من الفصل الثالث ، إن شاء الله تعالى .
__________
(1) أركون : القرآن : قراءة ... ص: 12 .
(2) ط 1، دار صادر ، بيروت ، 1358ه ، ج 8 ، ص: 109 و ما بعدها .
(3) الفكر الأصولي ، ص: 39 .
(4) أنظر كتابه : تاريخية الفكر العربي الإسلامي ، ص: 94 .(17/5)
و المثال الثاني مفاده أن أركون أورد في كتابه معارك من أجل الأنسنة أخبارا تاريخية متنوعة عن عصر دولة بني بويه بالمشرق الإسلامي (320-447ه ) ، من دون أن يوثقها ، من مؤلفات المستشرقين ، و لا من المصادر الإسلامية (1) .
و المثال الثالث يتضمن حديثا مشهورا ،ذكره أركون بالمعنى ، و هو حديث (( اختلاف أمتي رحمة )) ، عبّر عنه بقوله : (( إن الحديث الشهير الذي يتناول الاختلاف و يرى فيه رحمة للأمة ، يُعبر بطريقته الخاصة عن فائدة الاختلاف )) (2) . هذا الحديث لم يُوثقه أركون من حيث التخريج ، و لا ذكر درجته من حيث الصحة من عدمها ، و بنى عليه فكرته التي نقلناها عنه ، و الحديث في حقيقته هو حديث موضوع لا أصل له (3) .
كما أنه ذكر حديث : (( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ))، و لم يسميه حديثا ، و إنما سماه : مبدأ من مبادئ اللاهوت الإسلامي (4) . و لم يُخرّجه من حيث التوثيق ، و لا ذكر درجته من حيث الصحة و الضعف . و هو حديث صحيح رواه أحمد بن حنبل (5) ، و الترمذي (6) و غيرهما .
__________
(1) أنظر ص : 61 و ما بعدها .
(2) تاريخية الفكر العربي ، ص: 93 .
(3) الألباني : سلسلة الأحاديث الضعيفة ، مكتبة المعارف ، الرياض، د ت ، ج 1، ص: 141 ، رقم : 57 .
(4) القرآن : من التفسير ، ص: 11 .
(5) المسند ، مؤسسة قرطبة ، القاهرة ، د ت ، ج 1 ص: 131 .
(6) الترمذي : السنن ، حققه أحمد شاكر و آخرون ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، دت ، ج 4 ص: 209 .(17/6)
و أشير هنا إلى أن عمل أركون الذي ذكرناه في الخطأ الأول ، هو عمل غير علمي تماما ، لأنه ترك المصادر التي تخص الموضوع الذي كتب فيه ، و اعتمد على مراجع استشراقية حديثة بعيدة جدا عن المواضيع التي يكتب فيها ، هذا فضلا على أنها كتب معادية -في معظمها- للإسلام و أهله ، و الإسلام و المسلمون هما أيضا يرفضان الإستشراق برجاله و تراثه رفضا تاما تقريبا . و بناء على ذلك فلا يصح علميا أن يكتب أركون -أو غيره- عن الإسلام و تاريخه معتمدا على ما كتبه عنه أعداؤه و خصومه و الكافرون به ، و يُهمل- مقابل ذلك- المصادر الإسلامية ، خاصة و أن أركون يعرف اللغة العربية ، و متخصص في الدراسات الإسلامية ، فليس له أي عذر فيما وقع فيه . التغليط و
كما أن عدم توثيقه لكثير مما كتبه عن الإسلام و أهله ، هو عمل ليس من الكتابة العلمية في شيء ، فكان عليه أن يُوثق كل ما ينقله عن غيره ، لأن من حق القارئ عليه أن يُطالبه بالتوثيق ، للتأكد من ذلك ، و للرجوع إلى الأصل للاستزادة و التوسع . كما أن عدم ذكره لدرجة الأحاديث النبوية ، هو عمل قد يُوقع في الخطأ و التدليس ، و الكذب على رسول الله -عليه الصلاة و السلام- لأن ليس كل ما رُوي في كتب السنة المعروفة صحيحا ، فما بالك إذا رُوي في كتب ليست مصنفات حديثية متخصصة ؟ .(17/7)
و الخطأ الثالث -من أخطاء منهجية الكتابة العلمية - هو استخدام أركون للمغالطات ، فقد استخدمها كثيرا و بطرق مختلفة ، و ملتوية ، أذكر منها طائفة ، أولها إنه زعم أن المستشرقيّن كلود كاهن ، و روزنتال ، كشفا في بعض كتبهما عن التاريخ الإسلامي مدى (( التلاعب بالوقائع و الشخصيات الكبرى المثالية ، بهدف دعم إيديولوجيا الكفاح ، التي تتبناها الأحزاب ، و الزمر و الطوائف المتنافسة على الأرثوذكسية ، و على السلطة ، لقد فضحا كل ذلك لدى العديد من المؤلفين ، و كتب التاريخ القديم )) (1) . و قوله هذا مغالطة مفضوحة ، ترمي إلى التضليل و التغليط و التدليس على القارئ ، و فيه أيضا مدح لأعمال هذين المستشرقيّن ، لأن الأمر الذي زعم أنهما اكتشفاه ، هو أمر معروف بالضرورة من التاريخ الإسلامي قديما و حديثا ، منذ القرون الأولى الهجرية و ما بعدها إلى يومنا هذا ، فذلك الزعم لا يُعد كشفا و لا سبقا ، و قد تنبه له علماء أهل السنة مبكرا ، و صنفوا فيه كتبا ميزوا فيها الرواة المُعَدلين من المجروحين ، و ميزوا مروياتهم في مختلف مجلات العلوم ، خاصة فيما يتعلق بالسنة و السيرة ،و تاريخ الصحابة ، و التابعين ، و مصنفاتهم في الجرح و التعديل، و العلل و التراجم شاهدة على ذلك ، و هي كثيرة جدا و مطبوعة ، و متداولة بين أهل العلم ، كالعلل لأحمد بن حنبل ، و الجرح و التعديل لابن أبي حاتم ، و الضعفاء للعقيلي ، و غيرها كثير .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 26 ، 27 .(17/8)
و هذه العملية لم تتوقف عند القرون الأربعة الأولى ، و إنما استمرت بعدها إلى يومنا هذا ، من ذلك كتاب العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي ، و منهاج السنة النبوية لابن تيمية ، و المنار المنيف لابن قيم الجوزية ، و السلسلة الصحيحة و الضعيفة لناصر الدين الألباني ، و قد أشار المؤرخ شمس الدين الذهبي (ت 748ه) إلى تلك الظاهرة مرارا في كثير من كتبه ، كسير أعلام النبلاء ، و ميزان الاعتدال في نقد الرجال .
و قد قمتُ شخصيا ببحث حول ظاهرة الكذب و التحريف في التاريخ الإسلامي خلال القرون الأربعة الأولى ، اعتمدتُ على كتب الجرح و التعديل أولا ، ثم على كتب التواريخ ثانيا ، فأحصيتُ أكثر من 300 كذاب مارسوا الكذب و التحريف على اختلاف أنواعه و أشكاله (1) .
و المغالطة الثانية هي أنه-أي أركون- كثيرا ما يُوجه انتقادات للمستشرقين في تعاملهم مع الإسلام ، منهجا و تطبيقا (2) ، مما يُوهم بأنه يُخالفهم مخالفة جذرية منهجا و تطبيقا ، و هذا مجرد وهم ، و تضليل ، و تغليط ، لأن أركون كثير المدح للمستشرقين و الالتزام بمنهجهم ، و الاعتماد على تراثهم (3) . و أما انتقاداته للمستشرقين ، فبعضها انتقادات شكلية سطحية ، و بعضها الآخر انتقادات مشبوهة ماكرة ، تتعلق بحثهم أكثر على التركيز على طرق هدم الإسلام و إثارة الشبهات حوله ، و هذا سنقيم عليه الأدلة الدامغة على صدقه في الفصول الآتية من كتابنا هذا (4) إن شاء الله تعالى . و هو-أي أركون- في حقيقته تلميذ وفي للمستشرقين و تراثهم ، و مؤلفاته شاهدة عليه، و تدينه بقوة .
__________
(1) أنظر كتابنا : مدرسة الكذابين في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه ، ط 1، دار البلاغ ، الجزائر ، ص : 47 و ما بعدها .
(2) أنظر مثلا : الفكر الأصولي ، ص: 47 ، 48 ، 198 . و الإسلام ، أروبا ، ص: 98 .
(3) سبق ذكر بعض ذلك ، وسنذكر كثيرا منه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى .
(4) سنذكر بعضها في المغالطة الثالثة الآتية .(17/9)
و المغالطة الثالثة إنه زعم فيها أن المستشرقين في دراساتهم للإسلام ، و تطبيقهم عليه للمنهجية الاستشراقية الكلاسيكية ، نقلوا (( عقائد المسلمين كما هي ، إلى اللغات الأوروبية . إنها تكتفي بالمنهجية الو صفية ، أي الخاريجية ، و الحيادية الباردة التي تلامس موضوعها مسا خفيفا من الخارج )) ، فعلو ذلك (( بحجة احترام عقائد المسلمين و مراعاتهم ، و أحيانا يقدمونها و هم يتبجحون بالموضوعية العلمية )) (1) .
و قوله هذا مغالطة مكشوفة ، و كلام باطل مردود عليه ، فمتى درس الاستشراق-في عمومه- الإسلام دراسة علمية موضوعية ؟ ، و متى قدم الإسلام لأوروبا على حقيقته ؟ . و هو الحريص على تدمير الإسلام و أهله خدمة للكنيسة و الاستشراق و الاستعمار (2) .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 198 . و الإسلام ، أوروبا ، ص: 98 .
(2) أنظر مثلا : عبد الحميد عرفان: المستشرقون و العرفان، ط2 ، المكتب الإسلامي، بيروت ، 1983، ص: 18، 20 ، 28، 29 . عمر فاروخ : التبشير و الاستعمار في البلاد العربية ، المكتبة العصرية ، بيروت ، 168ه(17/10)
و هو أيضا كلام مضحك ، لأن المعروف بين المسلمين و الشائع بينهم ، هو أن أوروبا لا تعرف الإسلام على حقيقته الناصعة ، و إنما تعرفه معرفة خاطئة و ناقصة و مشوهة ، بما أثارته حوله مؤلفات المستشرقين و الكنسيين و الشيوعيين و غرهم من أعداء الإسلام ، من شبهات و أكاذيب و تحريفات و اتهامات ، لذا تسعى كثير من المؤسسات الإسلامية إلى تعريف الأوروبيين بالإسلام الصحيح . لكن أركون يقول عكس ذلك تماما ، فهو يزعم أن الاستشراق نقل الإسلام إلى أوروبا على حقيقته ، و بحيادية و علمية ! ، فمن الذي نشر في الغرب من أن القرآن مأخوذ من التوراة و الأناجيل ، و إنه نسخة محرّفة عنها ؟ ، و من الذي نشر بينهم أن محمدا-عليه الصلاة و السلام- دجال و كذاب و دموي ؟ ، و من الذي نشر الشبهات حول شريعة الإسلام ؟ (1) ، إنهم الستشرقون شيوخ أركون هم الذين نشروا ذلك ، أمثال: برنارد لويس، و كارل بروكلمان، و جولد تسهير (2) و هو نفسه-أي أركون- ذكرا كثيرا منها في كتبه ، و سيأتي ذكر بعضها لاحقا إن شاء الله تعالى .
و واضح إنه لم يكفيه ما ارتكبه المستشرقون من جرائم في حق الإسلام و أهله ، فهو يُطالب بالمزيد من التشويه و التخريب ، لأن المنهجية الاستشراقية القديمة التي ارتكبت تلك الجرائم لم تشبع رغبته و هواه ، فهو يُطالب بتعديلها و تطويرها ، لتكون أكثر فاعلية في التخطيط و المكر و التشويه ، و التدمير و التخريب ، لأن ما حققته الطريقة الأولى تمّ (( بحيادية و علمية )) حسب زعمه !! .
__________
(1) سنذكر من ذلك شواهد كثيرة فيما يأتي من هذا الكتاب بحول لله تعالى .
(2) عبد الحميد عرفان: المرجع السابق، ص: 24، 25 .(17/11)
و المغالطة الرابعة تتعلق بالقرآن الكريم ، و هي ممزوجة بالتحريف و التضخيم ، و التغليط و التزييف ، فقال عن تاريخ القرآن : (( هنا نجد أنفسنا أمام المشكلة الضخمة للكلام الشفهي -أي القرآن- الذي أصبح نصا )) (1) . أية مشكلة ضخمة يتحدث عنها هذا الرجل ؟ ، إنها مشكلة وهمية، نبتت في رأسه من قراءته لتراث المستشرقين ، لأنه لا توجد في تاريخ القرآن الكريم أية مشكلة ضخمة و لا بسيطة تتعلق بتدوينه و حفظه ، و سنتوسع في هذا الموضوع في الفصل الثالث ، و نرد على أوهامه بالأدلة القطعية الدامغة ، إن شاء الله تعالى .
و المغالطة الأخيرة- أي الخامسة- هي زعمه بأنه لا يُوجد إسلام واحد ، و إنما يُوجد إسلامات ، بقدر الفئات الثقافية و العرقية التي تعتنقه (2) . و قوله هذا زعم باطل ، و مغالطة مكشوفة ، لأن الإسلام في أصله و حقيقته إسلام واحد ، يقوم على القرآن الكريم ، و السنة النبوية الصحيحة الموافقة له -أي للقرآن- . و أما ما أشار إليه أركون من التنوع الثقافي و العرقي ، فهو تنوّع سببه اختلاف الفهوم و التفسيرات ، في مسائل شرعية معروفة مُختلف فيها بين العلماء ، و بعضها من التقاليد و الأعراف ، التي ربما لا تخالف الشرع ، و قد تناقضه و لا تمت إليه بصلة ، و عليه فإن ما زعمه أركون غير صحيح.
و الخطأ الرابع - من أخطاء الكتابة العلمية- هو كثرة المبالغات في مؤلفات أركون ، و هي متعددة الأشكال ، فمن ذلك : المبالغة في مدح و تعظيم ما يدعو إليه ، و الحط من قيمة ما يدعو إليه مخالفوه ، فيندد باتجاهاتهم المذهبية و الدينية و الوضعية ، و يُبالغ في تمجيد فكره ، بالمنهاج النقدي التفكيكي (3) .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 146 .
(2) تاريخية الفكر العربي الإسلامي ، ص: 104 .
(3) الفكر الأصولي ، ص: 16 .(17/12)
و منها أيضا-أي المبالغات -الإكثار من استخدام المصطلحات العلمية الجوفاء بلا ضرورة ، فقد استخدم جهازا مفهوميا مصطلحيا متنوعا و ثقيلا ، جرّه معه في مؤلفاته ، و اتعب به القُراء ،و مترجم أعماله ، من ذلك قوله : (( إن الأسطورة و الميثولوجيا ، و الطقس الشعائري ، و الرأس مال الرمزي ، و العلامة اللغوية و البُنى الأولية للدلالة ، و المعنى و المجاز ، و إنتاج المعنى ، وفق السرد القصصي ، و التاريخية و الوعي و اللاوعي ، و المخيال الاجتماعي ، و التصور و نظام الإيمان و اللاإيمان ، كل ذلك يُمثل مصطلحات يُعاد بلورتها و تجديدها ، دون توقف من خلال البحث العلمي المعاصر )) (1) . هذه المصطلحات و غيرها ، هي كثيرة جدا في مصنفات أركون ، فكان يجرها معها من غير ضرورة ، و بامكانه الاستغناء عنها ، و لا مبرر لها إلا التعالم و التعاظم ، و التشويش على القارئ والتسلط على أفكاره ، و هي في حقيقتها مصطلحات جوفاء ثقيلة و هزيلة -في الغالب الأعم - ، فقيرة من حيث المعاني ، و كثيرا ما استخدمت في غير محلها ، و هذا ما سيتبين لنا بشكل واضح و دقيق ، فيما يأتي من فصول كتابنا هذا ، إن شاء الله تعالى .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 23 .(17/13)
و منها أيضا -أي المبالغات - كثرة ترديده بأنه يستخدم مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة ، في مؤلفاته ، كالمنهج السيميائي الدلالي ، و المنهج التحليلي التفكيكي ، و منهج التاريخية (1) . و هو قد طبق هذه المناهج في مؤلفاته على ما ذكره هو ، فتبين لي أنها لم توصله-في الغالب- إلا إلى الأوهام و الظنون و الأباطيل ، من ذلك أنه طبق منهج التاريخية على تاريخ القرآن الكريم ، فجاء بالطامات و الأباطيل (2) . و طبق المنهج السيميائي على سورة التوبة فلم يأت بشيء جديد صحيح ، و لا بأمر له قيمة كبيرة ؛ بل جاءت دراسة عادية تخللتها أخطاء ، كوصفه لله تعالى بالبطل المُغَيّر (3) .
__________
(1) أنظر مثلا : الفكر الإسلامي ، ص: 87 ، و ما بعدها ، 94 ، ما بعدها . و الفكر الأصولي ، ص: 48 .
(2) سيرد ذلك في الفصل الثالث بحوله تعالى .
(3) الفكر الإسلامي ، ص: 87- 105 .(17/14)
و الخطأ الخامس - من أخطاء الكتابة العلمية- إنه-أي أركون- كثيرا ما يعتدي على نصوص القرآن الكريم ، في تفسيره لها ، و تعامله معها ، يفعل ذلك بهوى ، و جهل ، ، و سنذكر من ذلك أمثلة كثيرة ، في الفصلين الثاني و الثالث من كتابنا هذا ، و نكتفي هنا بذكر مثالين فقط ، أولهما إنه زعم أن معنى قوله تعالى : (( رب العالمين )) ، كان يعنى زمن الرسول : (( رب القبائل )) (1) . و قوله هذا كذب ، و افتراء على القرآن الكريم نفسه ، لأن معنى (( رب العالمين )) ، القرآن نفسه هو الذي حدده بما يُخالف زعم أركون ؛ من ذلك قوله تعالى : (( رب السموات و الأرض و ما بينهما ))-سورة مريم/65- ، و (( قل من رب السموات السبع ))- سورة المؤمنون/86- ، و (( الله ربكم و رب آبائكم الأولين ))- سورة/الصافات /126- ، و (( رب السموات و الأرض ، و ما بينهما العزيز الغفار ))-سورة/ الزمر/75- ، و (( إن ربكم الله الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام ))- سورة/ الأعراف/54 - ، و (( ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله غلا هو ))- سورة/ غافر /62- ، و (( قال فرعون و ما رب العالمين ، قال رب السموات و الأرض و ما بينهما إن كنتم صادقين ))- سورة الشعراء/24-24- . واضح من هذه الآيات أن أركون يتعمد التحريف لأن الآيات التي ذكرناها-و غيرها- بينت بما لا يدع مجالا للشك ، بأن معنى رب العالمين هو أن الله تعالى هو رب كل المخلوقات ، و رب العالم بأسره ، و ليس هو رب القبائل على حد زعم أركون المعتدي على القرآن .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 138 .(17/15)
و المثال الثاني على اعتدائه على القرآن ، هو أنه قال أن سورة التوبة التي تحمل رقم تسعة في المصحف ، هي ليست حسب الترتيب التاريخي للنزول ، فهي (( تنتمي إلى المرحلة الأخيرة من القرآن ، و ليس إلى بداياته ، كما يُوهمنا الترتيب الرسمي )) (1) . و قوله هذا فيه اعتداء على القرآن عندما اتهمه بأنه يُوهمنا في مكان وجود سورة التوبة ، في غير مكانها حسب النزول ، لأن الحقيقة أن القرآن لا يُوجد فيه أي إيهام ، لأنه هو أصلا لم يُرتب حسب النزول في سوره ، و لا في آياته ، فهذا معروف و ثابت في علوم القرآن . و عليه فإن ما ذكره أركون عن الترتيب ليس جديدا ، و اتهامه للقرآن هو بهتان ، و تغليط ، فالقرآن الكريم مُحكم لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، كما نص على ذلك القرآن الكريم .
و إضافة إلى ما ذكرناه ، فإن من نقائص الكتابة العلمية عند أركون أن مؤلفاته كثيرا ما تفتقد إلى الترابط و وحدة الموضوع ، مع كثرة القفز على الأفكار ، و عدم الانتهاء إلى نتائج واضحة محددة موفقة من مناقشاته و شروحه (2) .
و منها أيضا إن في مؤلفاته كثرة الحشو و الاستطرادات ،و الدعاوى العريضة ، مع الفقر في المادة العلمية و الشواهد التاريخية (3) ، التي لا يحققها و لا يُمحصها -في الغالب الأعم- ، فيقبل الروايات الضعيفة لمجرد أنها توافق مذهبه ، و يرفض أو يسكت عن الروايات الصحيحة التي تخالف مذهبه ، لمجرد أنها لا توافق ما ذهب هو إليه . مع حرصه على إثارة الشكوك و الشبهات ،و ترديده للمصطلحات الجوفاء التي أثقلته هو و القراء معا (4) .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 147 .
(2) أنظر مثلا : الفصل الثاني من كتاب تاريخية الفكر العربي الإسلامي .
(3) أنظر مثلا : الفصل الرابع من كتاب الفكر الإسلامي قراءة علمية .
(4) سنذكر على ذلك أمثلة كثيرة في الفصول الآتية من كتابنا هذا ، إن شاء الله تعالى .(17/16)
و بذلك يتضح جليا أن منهجية الكتابة العلمية عند أركون لم تكن في مستوى الكتابة العلمية الموضوعية الصحيحة ، رغم كثرة اعتداده بنفسه، و افتخاره بمنهجه في الكتابة العلمية ، الذي تخللته أخطاء قاتلة ، و نقائص مشينة ، التي ستزداد وضوحا و تأكيدا في الفصول الآتية من كتابنا هذا ، إن شاء الله تعالى .
و أما الباحث محمد عابد الجابري ، فأخطاؤه في الكتابة العلمية هي أيضا كثيرة ، أذكر منها طائفة ، أولها عدم توثيق كثير من الأخبار التي أوردها في مؤلفاته- التي أطلعتُ عليها ، منها إنه ذكر أخبارا عن الشعوبية زمن الأمويين و العباسيين ، من دون توثيق لها-أي لم يذكر مصادره- (1) . و أورد أخبارا عن المفاخرات بين القبائل بلا توثيق (2) . و ذكر أخبارا كثيرة عن نشأة الفقه الإسلامي وتطوره ، و لم يُوثق معظمها (3) . و أورد أخبارا كثيرة عن المنطق الصوري ، و الترجمة في بغداد بلا توثيق (4) .و ذكر أخبارا خطيرة عن علاقة المتكلم هشام بن الحكم (ت198ه) ، بجعفر الصادق ( 148ه) ، من دون أن يُوثقها (5) . و ذكر خبرا خطيرا أيضا زعم فيه أن عليا و طلحة و الزبير-رضي الله عنهم- كانوا منافسين دائمين للخليفة عثمان -رضي الله عنه- لأنهم من بقية أهل الشورى ، و لم يذكر لنا المصدر الذي استقى منه هذا الخبر (6) .
__________
(1) تكوين العقل العربي ، ص: 57 .
(2) نفس المرجع ، ص: 58 .
(3) نفس المرجع ، ص: 96 ، 97 ، 98 ، 102 .
(4) بنية العقل العربي ، ص: 250 .
(5) نفس المرجع ، 326 .
(6) العقل السياسي العربي ، ص: 146 .(17/17)
و ذكر أيضا أن بني أمية حرموا الموالي-المسلمون من غير العرب- من حقهم في الغنيمة ، حتى و لو شاركوا في الفتح جنودا، و لم يُوثق من أين أخذ خبره هذا (1) . كما أنه أورد أخبارا و معلومات كثيرة عن اليونان بلا توثيق (2) . مع العلم أن المنهجية العلمية الصحيحة تفرض على الباحث توثيق مادته العلمية ، كما أنه من حق القارئ عليه أن يُوثق مادته ليُمكنه من العودة إليها للاستزادة ، أو للتأكد منها .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 202 .
(2) العقل الأخلاقي العربي ، ص: 257 ، و ما بعدها .(17/18)
و الخطأ الثاني هو أن الجابري أورد في مؤلفاته- التي أطلعتُ عليها- أحاديث نبوية كثيرة ، لم يُوثق معظمها (1) ، و لا ذكر درجتها لتمييز صحيحها من سقيمها ، و سأذكر منها ثمانية من باب التمثيل لا الحصر (2) . أولها إنه أورد حديثا نقله من رسائل إخوان الصفا ، مضمونه أنه ذُكر الفيلسوف أرسطو في مجلس للرسول-عليه الصلاة و السلام- فقال : (( لو عاش -أي أرسطو- حتى يعرف ما جئت به لاتبعني على ديني )) (3) . هذا الحديث نقله الجابري عن إخوان الصفا ، من دون تخريج و لا تحقيق له ، مع العلم أن الأحاديث النبوية لا تُؤخذ من أمثال تلك الكتب ، فهي لها مصادرها المتخصصة ، كالصحاح ، و المسانيد ، و السنن ، و المعاجم الحديثة ، و غيرها . و قد بحثتُ عن هذا الحديث طويلا ، في مُتون الأحاديث من الصحاح ، و السنن ، و المسانيد ، و المعاجم ، و الأجزاء الحديثية ، و في كتب الجرح و التعديل ، فلم أعثر له على أثر ، مما يعني أنه لا أصل له ، مع العلم أن متنها مُكر ، لأنه من المعروف أن المسلمين زمن رسول الله و صحابته ،و التابعين ، لم يكن لهم علم بأرسطو و لا بغيره من فلاسفة اليونان (4) .
__________
(1) قلنا معظمها ، لأنه خرّج بعضها و وثقها ، أنظر مثلا : العقل السياسي العربي ، ص: 81، 160 ، 207 .
(2) أنظر مثلا : تكوين العقل العربي ، ص: 107 ، 135 ، 178 .
(3) نفس المرجع ، ص: 200 .
(4) لأن العلوم القديمة لم تُترجم إلى اللغة العربية إلا في القرن الثاني الهجري و ما بعده ، و سنعود إلى هذا الموضوع في مواضع لاحقة من كتابنا هذا .(17/19)
و الحديث الثاني مضمونه أن النبي -عليه الصلاة و السلام- قام- أيام العهد المكي- فقال : (( من الذي يُبايعني على ماله ؟ )) ، فبايعه جماعة ، ثم قال : (( من الذي يُبايعني على روحه، و هو وصي و ولي هذا الأمر من بعدي )) ، فلم يُبايعه أحد إلا علي بن أبي طالب ، فمد يده فبايعه )) ، هذا الحديث نقله الجابري عن المتكلم الشهرسنتاني في كتابه الملل و النحل ،و لم يُوثقه من المصادر الحديثية المتخصصة (1) . و هو حديث رُوي أنه قيل بسبب نزول قوله تعالى : (( {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} - سورة الشعراء/ 214- (2) ،و هو أيضا حديث غير صحيح إسنادا و متنا ، و يرده الحديث الصحيح في سبب نزول تلك الآية (3) التي أمرت رسول الله -عليه الصلاة و السلام- بإنذار الكفار من عشيرته الأقربين ، و لم تأمره بإنذار المسلمين ، و لا مطالبتهم ببيعته ، و على ماذا يُبايعونه ؟ ، و قد آمنوا به و باعوا أنفسهم لله تعالى ، هذا فضلا على أن ذلك الحديث المروي يتضمن أدوارا مسرحية مفتعلة .
__________
(1) بنية العقل العربي ، ص: 319 .
(2) النسائي : سنن النسائي الكبرى ، ط2، مكتبة المطبوعات الإسلامي، حلب ، 1986ج5 ص: 125 ، و ما بعدها .
(3) أنظر : البخاري : الصحيح ،ط3، حققه ديب البغا، دار ابن كثير ، بيروت، 1987، ج 3 ص: 1012 ، 1298 . و مسلم : الصحيح ، حققه فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت ، دت ، ج 1 ص: 192 ، 193 . و ابن تيمية : منهاج السنة النبوية ، ط1 ، حققه محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة القاهرة ، 1401، ج7 ص: 299 ، 302 ، و ما بعدها .(17/20)
و أما الحديث الثالث فمفاده ، إن الصحابي عبد الله بن عباس- رضي الله عنه- قال : ما سأل أبو سفيان -بعدما أسلم- رسول الله -عليه الصلاة و السلام- شيئا إلا قال : نعم )) ، ثم خرّج الجابري الحديث في الهامش بقوله : (( رواه مسلم في صحيحه ، ذكره أحمد أمين : ضحى الإسلام )) (1) . و طريقته هذه في التوثيق ليست علمية ، فكان عليه أن يعود إلى المصادر الحديثية ليأخذ الحديث ، و لا يرجع إلى مرجع تاريخي غير متخصص في الحديث ، ألفه المؤرخ الأديب أحمد أمين ! . و قد بحثت عن هذا الحديث طويلا ، في صحيح مسلم ، و في باقي المصادر الحديثية الأخرى ، و في كتب التاريخ ، و الجرح و التعديل ، فللم أعثر له على أثر .
__________
(1) العقل السياسي العربي ، ص: 111 .(17/21)
و الحديث الرابع مفاده أن رسول الله -صلى الله عليه و سلم- لما كان عائدا من حجة الوداع وقف عند ماء يُعرف بغدير خم بين مكة و المدينة ، و خطب في الصحابة ، فكان مما قاله : (( من كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللهم وال من ولاه ، وعاد من عاداه ، و انصر من نصره ، و اخذل من خذله ، و أدر الحق معه حيث دار ، ألا هل بلغت )) ، هذا الحديث نقله الجابري من كتاب الملل و النحل للشهرستاني (1) . و كان عليه أن يُوثقه من المصادر الحديثية ، و يذكر درجته من حيث الصحة و الضعف ، لكنه لم يفعل ذلك . و هذا الحديث قد تنازع فيه العلماء بين منكر له ، و مصحح له ، و بين مصحح لبعضه ، فمنهم طائفة أنكرت الحديث كلية كالبخاري ، و إبراهيم الحربي ،و ابن حزم ،و عبد الله الزيلعي (2) ، و ذكره في الضعيف و الموضوعات محمد بن القيسراني،و ابن الجوزي و الجوزقاني،و مقبل بن هادي الوداعي، و ابن تبيط ،و عمر بن عثمان (3) . و طائفة أخرى حسّنت الجزء الأول من الحديث ، و هو : (( من كنت مولاه فعلي مولاه )) ، و أنكرت الجزء الثاني منه ، و قالت أن الناس زادوه ، و قال بذلك أحمد بن حنبل ،و الترمذي ،و ابن عدي ،و الذهبي (4) .
__________
(1) بنية العقل العربي ، ص: 319 .
(2) ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 7 ص: 319 . و عبد الله الزيلعي: نصب الراية ، حققه يوسف البنوري، مصر ، دار الحديث ، 1357ه ، ج 1 ص: 360
(3) انظر : القيسراني : ذخيرة الحفاظ ج 3ص: 3254، ج3 ص: 5555 .و ابن الجوزي: العلل ج 1ص: 356.و الذهبي : أحاديث مختارة من موضوعات ابن الجوزي و الجوزقاني، المدينة المنوّرة ، مكتبة الدار 1404 ج1 ص:52 . و ابن تبيط : نسخة الأشجعي في الأحاديث الموضوعة ،مصر دار الصحابة ج1ص:55.و الوداعي: أحاديث معلة ج1ص:155.عمر بن عثمان،الوضع في الحديث ،دمشق ، مكتبة الغزالي ج2 ص:102 .
(4) الذهبي : سيّر أعلام النبلاء ، ط3 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1985، ج 5 ص: 415 ..و احمد بن حنبل : فضائل الصحابة ، حققه محمد عباس ، ط1 ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1983 .و المسند ج1 ص: 152 . و ابن عدي : المصدر السابق ج 3 ص: 80 . ابن تيمية : منهاج السنةج7ص:320.(17/22)
و طائفة قليلة حسّنت الحديث كله ، كابن حبان ،و الضياء المقدسي (1) .
و قد ترجح لديّ أن موقف الطائفة الثانية هو الصحيح ، لأن الجزء الأول الذي أثبتوه من الحديث ، لا يثير أية اعتراضات ، فهو يقرر المولاة بين المؤمنين ،و هي ليست خاصة بعلي-رضي الله عنه- بل هي بين جميع المؤمنين ، فهي مولاة و ولاية حب و تعاون ، لقوله تعالى: (( و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض )) - سورة التوبة/71- . و أما الجزء الثاني الذي أنكروه و قالوا : إن الناس أضافوه ، فهو كلام منكر حقا ، يثير كثيرا من الاعتراضات ،و يتناقض مع أصول الدين و سلوكيات الصحابة مع علي . فمن ذلك أولا ، أن الجزء الثاني من الحديث يقول : (( اللهم وال من والاه ،و عاد من عاداه )) و هذا يعني أن الله تعالى يعادي طلحة و الزبير و عائشة -رضي الله عنهم- لمجرد أنهم حاربوا عليا ، و هذا كلام باطل من أساسه ، لأنه ثبت عن رسول الله -عليه الصلاة و السلام- أنه بشّر طلحة و الزبير بالشهادة و الجنة و معروف أنهما من العشرة المبشرين بالجنة،و ينطبق ذلك-أيضا- على زوجات النبي-صلى الله عليه و سلم- و من بينهن عائشة ، فهن أمهات المؤمنين بنص القرآن الكريم (( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ،و أزواجه أمهاتهم )) -سورة الأحزاب /6- .
و ثانيا أن ذلك الجزء من الحديث يجعل قتلة عثمان و طائفة السبئية الذين كانوا مع علي ، يجعلهم من الذين يواليهم الله تعالى و لا يعاديهم ، لمجرد أنهم كانوا مع علي ، رغم أنهم من القتلة و المنحرفين ، و هذا استنتاج باطل و مضحك ، سببه ذلك الجزء الباطل من الحديث .
__________
(1) ابن حبان : صحيح ابن حبان ، حققه شعيب الأرناؤوط ، ط2 بيروت، مؤسسة الرسالة، 1993ج 15 ص: 375 . الضياء المقدسي : الأحاديث المختارة ، حققه عبد الملك بن دهيش ، ط1 مكة ، مكتبة النهضة الحديثة 1410ه ،ج2ص: 105 .(17/23)
و ثالثا أن ذلك الجزء من الحديث (( اللهم وال من والاه ، و عاد من عاداه )) ، قد قلب القاعدة الإيمانية (( الحب في الله و البغض في الله )) ، رأسا على عقب و جعلها (( الحب في علي و البغض في علي )) ، و هذا كلام باطل و شرك صريح .
و يرى شيخ الإسلام ابن تيمية ، أن ذلك الجزء من الحديث ، هو كذب بلا ريب ، لأن الحق لا يدور مع معين إلا النبي ، فلو كان علي بن أبي طالب على ما وصفه ذلك الجزء من الحديث ، لوجب اتباعه في كل ما قال ،و هذا كلام غير صحيح لأن الصحابة نازعوه في مسائل فقهية كثيرة و لم يتبعوه . كما أن تلك الزيادة مخالفة لأصل من أصول الإسلام ، عندما نصت على معاداة من عادى عليا ، لأن القرآن الكريم قرر أن المؤمنين إخوة مع قتال و بغي بعضهم على بعض (1) . فيتبيّن مما ذكرناه أن الحديث لم يصح منه إلا الجزء الأول فقط ،و أن الجزء الثاني باطل .
__________
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى ، جمع ابن قاسم ، الرياض ، مكتبة المعارف، دت ، ج 4 ص: 414 .(17/24)
و الحديث الخامس مفاده أن الرسول -عليه الصلاة و السلام- سُئل عن يزيد بن عمرو بن نفيل المتحنف ، فقال : (( يُبعث يوم القيامة أمة وحده )) ، و ذكر الجابري أن هذا الحديث رواه البخاري و غيره ، و أشار في الهامش إلى كتاب البداية و النهاية لابن كثير (1) ، و لم يُخرّجه من المصادر الحديثية المتخصصة ، و لا تحقق منه من حيث الصحة و الضعف . و كان عليه أن يرجع إلى المصنفات الحديثية المتخصصة ، و لا يرجع إلى كتاب في التاريخ ، و يقول : رواه البخاري و غيره . و قد رجعتُ إلى صحيح البخاري و بحثت فيه طويلا ، فلم أعثر له فيه على أثر . و رجعت أيضا إلى البداية و النهاية ، فعثرت على ذلك الحديث المتعلق بزيد بن عمرو بن نفيل في موضعين مختلفين في الكلمة الأخيرة ، في الأول نص الحديث هو : (( يُبعث يوم القيامة أمة واحدة ))، و في الثاني يتضمن النص الذي ذكره الجابري ، لكن ابن كثير لم يشر أصلا إلى البخاري ، ففي الموضع الأول ذكر بعض رواة الحديث و ليس من بينهم البخاري ، و في الثاني لم يذكر أحدا من رواة الحديث (2) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 157 .
(2) أنظر : البداية و النهاية ، منشورات دار المعارف، بيروت ، 1985، ج 2 ص: 241 . ، ج3 ص: 9 .(17/25)
و أما الحديث السادس فمفاده أن رسول الله -عليه الصلاة و السلام-عندما سُئل عن خالد بن سنان العنسي ، قال : (( ذاك نبي ضيعه قومه)) ،و في رواية أخري أن ابنة خالد بن سنان العنسي لما سمعت النبي-صلى الله عليه وسلم- يقرآ قوله تعالى : -{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ،اللَّهُ الصَّمَدُ ،لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}-سورة الإخلاص/1-4-، قالت : (( كان أبي يقول هذا )) . فبالنسبة للرواية الأولى أشار الجابري إلى البداية و النهاية لابن كثير ، و لم يُخرّجها من المصادر الحديثية ، و لا ذكر درجتها من حيث الصحة و الضعف (1) . و هي رواية غير صحيحة تخالف الحديث الصحيح الذي ينص على أنه ليس بين الرسول محمد و عيسى -عليهما السلام- نبي (2) .
و أما الرواية الثانية فوثقها الجابري بالإشارة إلى كتابي مروج الذهب للمسعودي ، و الإمامة و السياسة ، المنسوب لابن قتيبة (3) ، و هما من المصنفات التاريخية و ليسا من المؤلفات الحديثية ، لذا فلا يصح الرجوع إليهما ، كما أنه لم يحقق تلك الرواية من جهة الصحة و الضعف . و قد بحثتُ عنها طويلا في المصنفات الحديثية فلم أعثر لها على أي أثر يُذكر، و هي رواية ظاهرة البطلان ، لأن سورة الإخلاص هي قرآن كريم ، نزلت على محمد -عليه الصلاة و السلام- فمن أين لخالد بن سنان المزعوم أن يعرف هذه السورة ، أو يصل إليها ، و قد تُوفي قبل ظهور الإسلام ؟ .
__________
(1) أنظر : العقل السياسي العربي ، ص: 391 .
(2) علي الهيثمي: مجمع الزوائد و منبع الفوائد ، دار الفكر بيروت ، 1418، ج 8 ص: 391 . و الألباني : السلسلة الصحيحة ، مكتبة المعارف، الرياض، دت ، ج 1ص: 449 .
(3) الجابري المرجع السابق ، ص: 156 .(17/26)
و الحديث السابع قال فيه الجابري : (( روى البخاري و غيره أن النبي( ص) ، قال : (( ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه)) (1) . فهذا الحديث نسبه الجابري إلى البخاري تحديدا من دون أن يُوثقه ، و قد بحثتُ عنه طويلا في صحيح البخاري ، و لم أجده ، و بحثتُ عنه أيضا في صحيح مسلم ، و المسانيد و السنن و المعاجم ، فلم أعثر عليه إلا عند البيهقي في السنن الكبرى ، و عند الطبراني في المعجم الكبير ، و لم يُرو على أنه حديث قاله رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ،و إنما رُوي كقول لبعض الصحابة قاله في وصف رسول الله ، بأنه كان في منعة من قومه (2) .
لكنني عثرت في مسند أحمد ، و سنن الترمذي ، أن الرسول-صلى الله عليه و سلم- قال عن النبي لوط-عليه السلام- في قوله تعالى: (( قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} - سورة هود/80- : (( قد كان يأوي إلى ركن شديد ، لكنه عنى عشيرته ، فما بعث الله عز وجل ، بعده نبيا إلا بعثه في ذروة -أو ثروة- قومه ))، ثم قال الراوي أبو عمر الضرير : (( فما بعث الله عز وجل نبيا بعده إلا في منعة من قومه )) (3) . فالحديث كما ذكره الجابري لا يوجد في صحيح البخاري ، و لا في صحيح مسلم ، و المصادر الحديثية التي ذكرته لم تذكره حديثا قاله رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ، و إنما قاله بعض الصحابة في وصف النبي ، أو قاله بعض الرواة في شرح الحديث .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 44 .
(2) أنظر السنن الكبرى ، مكتبة دار الباز ، مكة المكرمة ، 1994 ، ج 9 ص: 9 . و المعجم الكبير ، ط2، مكتبة العلوم و الحكم ، الموصل ، 1983، ج 19 ص: 87 .
(3) مسند أحمد ، ج 2 ص: 533 ، رقم الحديث : 10916 . و سنن الترمذي ، ج 5 ص: 293 ، رقم الحديث : 3116 .(17/27)
و أما الحديث الأخير- أي الثامن- فنصه : (( أمرتُ بحب أربعة لأن الله يُحبهم : علي ، و أبو ذر ، و سلمان الفارسي ، و المقداد )) ، ذكره الجابري و أشار إلى تاريخ الإسلام للذهبي (1) ، و كان عليه أن يُوثقه من المصادر الحديثية ،و يذكر درجته من حيث الصحة و الضعف ، مع العلم أنه حديث لا يصح ، مذكور في الضعيف (2) . كما أن متنه مُستهجن ، لأن رسول الله كان يُحب كل أصحابه ، في مقدمتهم أبو بكر و عمر (3) .
و بذلك يتبين أن الجابري في تعامله مع الأحاديث النبوية لم يلتزم المنهج العلمي الصحيح ، من حيث التخريج و التحقيق . و عمله هذا لا شك أنه يُثير في القراء إشكالات ، و اضطرا بات ، و شكوكا ، عندما يذكر أحاديث منسوبة إلى رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ، من دون تحقيق ، ولا تخريج صحيح . كما أنه من حقهم عليه أن يُنير لهم الطريق ،و لا يُبلبل أفكارهم بالأحاديث الضعيفة ، و المشكوك فيها ،و عير الموثقة .
و أما الخطأ الثالث فيتعلق باستخدام المصادر ، و الأمثلة على ذلك كثيرة جدا ، أولها عدم الرجوع إلى المصادر الأصلية ،و الاكتفاء بالمراجع الحديثة ، منها إنه ذكر قولا للجاحظ ، و أشار في الهامش إلى مرجع حديث ، هو : التاريخ الإسلامي وفكر القرن العشري ، لفاروق عمر (4) . و أورد أخبارا عن الدولة العبيدية الفاطمية بالمغرب و مصر ، من دون الرجوع إلى المصادر ، و أشار في الهامش إلى كتاب : تاريخ الدولة الفاطمية ، لحسن إبراهيم حسن (5) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 181 .
(2) الألباني: السلسلة الضعيفة ، ج 4 ص: 54 . و ضعيف ابن ماجة ، ج 1 ص: 12 .
(3) البخاري: الصحيح ، ج 3 ص: 1379 . و أحمد بن حنبل : المسند ، ج 127 . و الألباني : الجامع الصغير و زياداته ، المكتب الإسلامي ، دت ، ج 1 ص: 18 ، رقم الحديث : 177 .
(4) تكوين العقل العربي ، ص: 142 .
(5) نفس المرجع ، ص: 265 .(17/28)
و ذكر أخبارا كثيرة عن الصوفية في القرن الثالث الهجري و ما بعده ، من دون الرجوع إلى المصادر ، و اكتفى بالإشارة إلى ثلاثة مراجع حديثة ، هي : العقل و فهم القرآن (1) لحسين القوتلي ، و التصوف الثورة الروحية ، لأبي العلاء عفيفي ، و الصلة بين التصوف و التشيع ، لكامل مصطفى الشيبي (2) .
كما أنه أورد خبرا عن احتلال الصليبيين للقدس الشريف ، في القرن الخامس الهجري ،و موقف أبي حامد الغزالي (ت505ه) منه و لم يُوثقه من المصادر ، و اكتفى بالإشارة إلى مرجع حديث ، عنوانه : الغزالي و التصوف الإسلامي ، لأحمد الشرباصي (3) .
و ذكر أيضا أقوالا لبعض علماء أهل السنة في تعديلهم لجماعة من الطائفة القدرية ، و قبولهم لأحاديثهم التي رووها ، من دون أن يرجع الجابري إلى كتب الجرح و التعديل ، و اكتفى بالإشارة في الهامش إلى كتاب : نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ، لعلي سامي النشار (4) .
و المثال الثاني- من أخطاء استخدام المصادر- هو استخدامه لمصدر واحد من المصادر ، و التعبير عنه بصيغة الجمع ، كأن يقول : تقول المصادر ، تقول مصادرنا . من ذلك أنه قال : (( تحدثنا المصادر التاريخية ، أنه عندما عاد علي من البصرة ... )) ، ثم أشار في الهامش إلى تاريخ الطبري فقط ، من دون أي مصدر آخر (5) .
و عندما تعرّض للفتنة الكبرى ، و ذكر خبرا يتعلق بها ، قال : (( من ذلك ما تذكره مصادرنا التاريخية ، من أنه ... )) ، ثم أحال في الهامش إلى كتاب الإمامة و السياسة ، المنسوب إلى ابن قتيبة (6) ، دون أن يذكر مصادر أخرى ، تتعلق بالخبر الذي ذكره .
__________
(1) هذا الكتاب في الأصل هو للحارث المحاسبي ، حققه حسين القوتلي ، لكن الجابري اعتمد عليه فيما ذكره المحقق من أخبار عن التصوف و الصوفية ، في المقدمة المطولة التي وضعها للكتاب .
(2) نفس المرجع ، ص: 274 .
(3) نفس المرجع ، ص: 288 .
(4) العقل السياسي ، ص: 263 .
(5) نفس المرجع ، ص: 153 .
(6) نفس المرجع ، ص: 182 .(17/29)
و قال أيضا (( تذكر مصادرنا التاريخية أن جماعة من الصحابة كانوا في المغازي ... )) ، ثم ذكر في الهامش ما نصه : (( ابن عساكر ، ذكره أحمد أمين : فجر الإسلام )) (1) . فهو قد أشار إلى مصدر واحد باسم مؤلفه بلا ذكر لعنوانه ، و من دون الرجوع إليه أصلا ، و إنما نقل ذلك عن مرجع حديث ، فأين المصادر ، و مصادرنا ؟ .
و قال أيضا : (( من ذلك ما تذكره مصادرنا ، من أن واصل بن عطاء -المعتزلي- كان قد بعث أربعة من الدعاة إلى أطراف الإمبراطورية الإسلامية ... )) ، و لم يُوثق خبره أصلا (2) . ، فلا ذكر مصدرا ، و لا مصادر .
و طريقته هذه هي من باب التدليس و المغالطات ، لا يصح استخدامها في الكتابة العلمية عامة ، و المتخصصة منها خاصة ؛ لأنها تُسيء لصاحبها ، و تطعن في نزاهته العلمية ، و تضلل القراء ، و تُدلس عليهم .
و المثال الثالث -من أخطاء استخدام المصادر- أن الجابري اعتمد اعتمادا أساسيا على كتاب الإمامة و السياسة ، المنسوب لابن قتيبة (ت 276ه) ، عندما تناول بيعة أبي بكر ، و الفتنة الكبرى ، و هذا خطأ كبير في استخدام المصادر ، لأنه اعتمد على كتاب مجهول مؤلفه ، و يفتقد إلى الأمانة العلمية ،و قد اعتمد عليه في مواضيع حساسة و خطيرة جدا ، كُذبت حولها روايات عديدة ، وتلاعبت بها الأهواء و العصبيات (3) . و هذا الكتاب هو الذي أوقع المؤلف-أي الجابري- في أخطاء كثيرة ،و خطيرة في كتابه العقل السياسي العربي (4) .
__________
(1) العقل الأخلاقي العربي ، ص: 63 .
(2) العقل السياسي ، ص: 278 .
(3) أنظر مثلا كتابنا : الثورة على سيدنا عثمان بن عفان ، دار البلاغ، الجزائر ، 2003 . و قضية التحكيم في موقعة صفين - بين الحقائق و الأباطيل -، دار البلاغ ، الجزائر ، 2002 .
(4) سنذكر طرفا منها في الفصول الآتية من كتابنا هذا ، إن شاء الله تعالى .(17/30)
علما بأن كتاب الإمامة و السياسة غير ثابت النسبة لابن قتيبة الدينوري(ت276ه) ، و إنما هو منسوب إليه فقط ، و الصحيح أن مؤلفه مجهول ، من أهل الأهواء ، له أغراض مذهبية خفية ، منها الطعن في الصحابة ، و الرفع من شأن الرفض و التشيع ، و الدليل على ما قلته الشواهد الآتية :
أولها إن المصادر التاريخية التي ترجمت لابن قتيبة- التي اطلعت عليها- لم تذكر له كتابا عنوانه : الإمامة و السياسة ، و قد ذكر له ابن النديم قائمة طويلة جدا من مؤلفاته لا يوجد من بينتها هذا الكتاب (1) .
و ثانيها -أي الشواهد- إن في الكتاب طعنا كبيرا في الصحابة ، بطريقة خفية و ظاهرة ، و هذا يتناقض مع مذهب ابن قتيبة السني ، كما أن أمثال هذه الأخبار لا نجدها في كتب ابن قتيبة ، كالمعارف و عيون الأخبار ، أما كتاب الإمامة و السياسة فمملوء بذلك (2) .
و الشاهد الثالث هو أن مؤلف كتاب الإمامة و السياسة ، روى كثيرا من أخباره عن اثنين من كبار علماء مصر ، كسعيد بن كثير بن عفير ، و ابن قتيبة لم يدخل مصر أصلا ، و لم يأخذ عن هذين العالمين . فدلّ ذلك على أن الكتاب مدسوس عليه (3) .
__________
(1) أنظر : ابن النديم : الفهرست ، دار المعرفة ، بيروت ، 1978 ، ج 1 ص: 115 . و الذهبي : السير ، ج 13 ص: 296 و ما بعدها . و ابن العماد الحنبلي : شذرات الذهب، ط1، حققه عبد القادر الأرناؤوط ،مكتبة ابن كثير ، دمشق ، ، ج 3 ص: 318 .
(2) أنظر مثلا : طبعة الجزائر ، موفم للنشر ،1989 ، ج 1 ص: 14 و ما بعدها ، 66 ، 67 .
(3) أبو بكر بن العربي : العواصم من القواصم ، حققه محب الدين الخطيب ، هامش ص : 209 .(17/31)
و الشاهد الرابع هو إني بحثتُ في مئات المصنفات التراثية المتقدمة -عن طريق الحاسب الآلي- و لم أعثر على أي ذكر لهذا الكتاب منسوبا لابن قتيبة ، و لا لغيره ، مما يعني أنه لم يكن معروفا بين أهل العلم في العصر الإسلامي زمن ابن قتيبة ، و لا القريب منه ، و هذا يُرجح بقوة بأن الكتاب ظهر متأخرا بعد وفاة ابن قتيبة بزمن طويل .
و الشاهد الخامس هو وجود نزعة شيعية ظاهرة في كتاب الإمامة و السياسة ، و هذا أمر يتناقض مع مذهب ابن قتيبة السني ، و قد أظهر المؤلف تشيعه بتركيزه على ثلاثة أمور ، أولها الطعن في الصحابة كما سبق أن ذكرناه . و ثانيها الزعم بأن عليا -رضي الله عنه- رفض بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- لأنه كان يعتقد بأن الخلافة من حقه ، واُغتصبت منه . و ثالثها إظهار أن عليا تعرّض للتهديد من أبي بكر و عمر ، بسبب الخلافة ، وأنه كان مظلوما مُستضعفا ، حتى أنه أخرج زوجته فاطمة- رضي الله عنها- و أخذها معه ليلا إلى الأنصار يطلب منهم مساعدته ، لاسترجاع حقه المغصوب ، على حد زعم هذا المؤلف الشيعي المجهول (1) . و هذه الأخبار هي مكذوبة بلا شك ، و سنبين ذلك في الفصل الرابع من كتابنا هذا ، إن شاء الله تعالى .
و الشاهد السادس يتمثل في وجود أخطاء تاريخية فادحة ، في كتاب الإمامة و السياسة ، لا يصح أن يقع فيها مؤرخ كابن قتيبة ، لأنها ثابتة معروفة ، و قريبة منه زمنيا ، و تخالف ما ذكره هو شخصيا في كتابه المعارف ، مما يعني أن مؤلف الإمامة و السياسة ، ليس هو ابن قتيبة ، و إن مؤلفه مجهول ، ذكر تلك الأخطاء التاريخية جهلا أو متعمدا و ليس ناسيا ، لأنها ليست خبرا واحدا ، و لا هي من الأمور التي تغيب عن البال في الغالب الأعم .
__________
(1) انظر الإمامة و السياسة ، ج 1 ص: 18-19 ، 20 ، 48 .(17/32)
و سنذكر من تلك الأخطاء خمسة ، أولها إن مؤلف الإمامة و السياسة ، فرّق بين شخصية السفاح ، و بين شخصية أبي العباس ، عند قيام الدولة العباسية و جعلهما شخصيتين متنازعتين متحاربتين (1) . و هذا خطأ فادح لا يقع فيه مؤرخ يعي ما يقول ، و لعله من أغرب أخطاء مصنفي التاريخ ، و الصحيح واضح ثابت معروف ، و هو أن أبا العباس ، و السفاح هما شخصية واحدة ، هي أول خليفة عباسي : أبو العباس السفاح تولى الخلافة سنة 132 ه ، و هذا أمر ذكره ابن قتيبة في كتابه المعارف (2) .
و الخطأ الثاني هو أن مؤلف الإمامة و السياسة ، ذكر أنه لما توفي الخليفة المهدي ، خلفه ابنه هارون الرشيد (3) . و هذا خطأ فاحش لا يقوله مؤرخ يعي ما يقول ، اللهم إلا إذا كان يتعمد ذكره . لأن الصحيح الثابت المعروف هو ما ذكره ابن قتيبة في كتابه المعارف من انه لما تُوفي الخليفة المهدي خلفه ابنه موسى الهادي ، فلما تُوفي الهادي خلفه أخوه هارون الرشيد (4) .
و الخطأ الثالث هو أن مؤلف الإمامة و السياسة ذكر أن هارون الرشيد كتب ولاية العهد من بعده لابنه المأمون أولا ، ثم للأمين من بعده ثانيا ، و كان الأمين هو الذي خرج على أخيه بالسلاح (5) . و هذا خطأ فاحش أيضا ، لا يصح أن يقع من مؤرخ ، لأن الصحيح هو ما ذكره ابن قتيبة و غيره من المؤرخين ، من أن الرشيد كتب العهد للأمين ، ثم للمأمون من بعده ، فلما توفي الرشيد خلفه ابنه الأمين ، فكان هو الذي نقض العهد ، وليس المأمون ، فأبعد أخاه و أخذ البيعة لابنه موسى (6) .
__________
(1) انظر : نفس المصدر ، ج 2 ص: 218 .
(2) ابن قتيبة : المعارف ، ص : 84 .
(3) الإمامة و السياسة ، ج 2 ص: 267 .
(4) المعارف ، ص : 87 ، 88 .
(5) الإمامة ، ج 2 ص: 218 .
(6) المعارف ، ص: 88 .(17/33)
و الخطأ الرابع يتعلق بسنة وفاة الخليفة هارون الرشيد ، فذكر مؤلف كتاب الإمامة و السياسة بأنه تُوفي سنة 195ه (1) . و هذا خطأ واضح ، لأن الرشيد توفي سنة 193هجرية ، كما ذكره ابن قتيبة في معارفه (2) .
و الخطأ الأخير - أي الخامس- هو أن مؤلف الإمامة و السياسة زعم بأن النزاع بين الأخوين الأمين و المأمون ، بدأ مباشرة بعد موت الرشيد ، عندما نازع الأمين أخاه المأمون على الخلافة ، مما أدى بالمأمون إلى دخول قصر الخلافة ، و القبض على أخيه الأمين و حبسه ، لكن الأمين تمكن من الهروب من السجن ، فأرسل المأمون من قبضه و قتله ، و لم يذكر أية حروب وقعت بين الأخوين (3) . و كلامه هذا غير صحيح كلية ، و مردود عليه ، لأن الصواب ما ذكره ابن قتيبة- و غيره من المؤرخين- في كتابه المعارف ، من أن الأمين هو الذي تولى الحكم بعد الرشيد ، و ليس المأمون ، و بعد سنة تنكّر الأمين لأخيه ، و ولى ابنه موسى ولاية العهد ، و بعد عامين من وفاة الرشيد ، أرسل الأمين جيشا لمحاربة أخيه المأمون المقيم بخُراسان - وليس معه في القصر- فدخل الأخوان في حروب طاحنة ، استمرت إلى سنة 198 ه ، انتهت بقتل الأمين على أيدي جنود أخيه (4) .
__________
(1) الإمامة ، ج2 ص: 305 .
(2) المعارف، ص : 87 .
(3) الإمامة ، ج 2 ص: 306 .
(4) المعارف ، ص: 88 .(17/34)
و ختاما لموضوع كتاب الإمامة و السياسة ، أشير هنا إلى أن الجابري قد ذكر أن الشكوك تحوم حول هذا الكتاب (1) . لكنه مع ذلك نسي هذه الملاحظة-أو تناساها- و اعتمد عليه اعتمادا أساسيا ، فأخذ برواياته ، و بنى عليها أفكاره ، و هذا خطأ منهجي كبير في الكتابة العلمية . ثم أنه زعم أن الإمامة و السياسة ، هو (( هو أول محاولة سنية في الكلام في الإمامة بمنهجية أهل السنة الأوائل ، منهجية الرواية و الإسناد ، و التعبير عن الرأي من خلال عرض الوقائع ... بالإضافة إلى أن الكتاب محكوم من داخله بمنطق الرد على الشيعة )) (2) .
و قوله هذا غير صحيح جملة و تفصيلا ، قد سبق تفنيده من خلال انتقاداتنا لكتاب الإمامة و السياسة ، و هو عكس ما ذهب إليه الجابري ، فبينا أن الكتاب مخالف لمذهب أهل السنة ، في جوانب أساسية كثيرة جدا ، و لا يخدعنا بعبارته التي كان يترضى بها على الصحابة ، و هو يطعن فيهم من جهة أخرى ، فهي طريقة ماكرة اتبعها هذا المؤلف الشيعي المجهول ، كما تبين أن متن الكتاب شاهد على أنه ليس من تأليف ابن قتيبة . فالكتاب إذاً محكوم في باطنه بمنطق خطير ، هو الطعن في الصحابة ، و التلاعب بالحوادث ، و الرفع من راية الرفض .
و أشير هنا إلى أن هناك نقائص تتعلق باستخدام الجابري للمصادر ، أذكر منها اثنتين ، الأولى مفادها هو أن الجابري عندما تناول السيرة النبوية في كتابه العقل السياسي العربي ، اعتمد أساسا على كتب السيرة و التواريخ ، كسيرة ابن هشام ، و تاريخ الطبري ، و الكامل لابن الأثير ، و أهمل كلية-تقريبا- المصادر الحديثية ، كالصحاح ، و المسانيد ، و السنن ، و المعاجم ، فهي كما تحتوي على أحاديث النبي- عليه الصلاة و السلام- فهي تحتوي أيضا على كثير من السيرة و تاريخ الدعوة الإسلامية عامة ، و هي أيضا مصادر موثقة بالأسانيد ، و أكثر ثقة ، و صحة ، و دقة .
__________
(1) تكوين العقل العربي ، 105 .
(2) نفسه ، ص: 105 .(17/35)
و النقيصة الثانية هي أن الجابري عندما تناول مرحلة ما بعد السيرة النبوية ، خاصة بيعة أبي بكر ، و الفتنة الكبرى ، اعتمد أساسا على مجموعة قليلة من المؤلفات معظمها مطعون فيها ، أهمها : تاريخ الطبري ، و تاريخ اليعقوبي ، و الإمامة و السياسة لمؤلف مجهول ، و مروج الذهب للمسعودي ، و الكامل لابن الأثير ، و أهمل المصنفات الحديثية إلا نادرا ، كأن يعود أحيانا إلى صحيح البخاري . كما انه أهمل مصادر تاريخة أخرى هامة ، لم يستفد منها كما ينبغي ، كالبداية و النهاية لابن كثير ، و المنتظم لابن الجوزي ، و الاستيعاب لابن عبد البر ، و سير أعلام النبلاء للذهبي ، و الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر العسقلاني .
و أما الخطأ الرابع - من أخطاء الكتابة العلمية- فهو غياب تحقيق الروايات التاريخية - في الغالب الأعم- لتمييز صحيحها من سقيمها إسنادا و متنا ، فهو قد اعتمد على طائفة كبيرة جدا من الروايات التاريخية و الحديثية ، من دون أن يلتزم منهجا نقديا شاملا كاملا في تعامله مع معظم تلك الروايات. و سنذكر على ذلك نماذج كثيرة في مواضع لاحقة من كتابنا هذا ، إن شاء الله تعالى ، و سيتبين أنه-أي الجابري- اعتمد على أخبار كثيرة غير صحيحة ، أوقعته في أخطاء فاحشة ، تتعلق بأمور هامة و خطيرة جدا . و أما الروايات التي نقدها ، فهي قليلة جدا ، بالمقارنة إلى الروايات الكثيرة التي لم ينقدها . هذا فضلا على أن التي نقدها كان نقده لها ناقصا في الغالب الأعم، لأنه لم يجمع في نقده لها بين نقد الأسانيد و المتون معا .(17/36)
و أما الخطأ الأخير -أي الخامس- فيتمثل في أن الجابري كثيرا ما أثار شبهات ، و ذكر أخطاء ، و سكت عنها من دون تنبيه إليها ، و لا رد ، و لا تحقيق لها . من ذلك أنه ذكر كلاما مطولا لأرسطو عن السماء ، تضمن أخطاء كثيرة (1) ، سكت عنها الجابري ، فلم ينتقده فيها ، و لا نبّه إليها (2) .
و منها أنه عرض شبهات و أوهام و أباطيل الفقيه الإسماعيلي القاضي النعمان(ت351أو363ه) ، في ردوده المزعومة على أهل السنة ، و لم يرد عليه و لا شكك في مزاعمه ، بل أنه صوّبها و أقرها عندما قال عن النعمان : (( فإنه في نقضه أصول أهل السنة ، في كتابه اختلاف المذاهب )) (3) . و كلامه هذا باطل من أساسه ، فإن الرجل لم ينقض أصلا واجدا من أصول أهل السنة ، و كل ما فعله أنه أثار الشبهات و المغالطات ، و التدليسات ، و جاء بالأكاذيب من المرويات ، رأى فيها الجابري نقضا لأصول السنيين !! ، و سنرد على تلك الأباطيل و المزاعم و ننفضها ، في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى .
و منها أيضا إنه-أي الجابري - عرض فلسفة أبي نصر الفارابي في العلاقة بين الإسلام و الفلسفة ، و سكت عن أخطائه ، و أوهامه في هذا الموضوع الحساس (4) .و تعرّض لموقف المعتزلة و القدرية من بعض مسائل أصول الدين ، فشرحها و نوّه بها ، و سكت عن أخطائهم من دون أي انتقاد لهم (5) . و سنتطرق إلى بعض ذلك في موضع لاحق من الفصل الثاني إن شاء الله تعالى .
__________
(1) سنذكر بعضها في الفصل الثاني ، إن شاء الله تعالى .
(2) أنظر : بنية العقل العربي ، ص: 407 و ما بعدها .
(3) نفس المرجع ، ص: 321 و ما بعدها .
(4) انظر : نفس المرجع ، ص: 424، 425 . و تكوين العقل العربي ، ص: 242 .
(5) العقل السياسي العربي ، ص: 275 ، 279 .(17/37)
و هذه الطريقة التي مارسها الجابري ، هي -بلا شك- من نقائص الكتابة العلمية الموضوعية ، و طعن فيها . كما أنها تروّج للشكوك و الشبهات و الأخطاء ، و تبلبل أفكار القراء ، و تفتن بعضهم ، و لا تقدم لهم حلولا . و إذا أضفنا إليها الأخطاء المنهجية التي سجلناها على الجابري سابقا ، يتبين من كل ذلك أن منهجيته في الكتابة العلمية ، كانت كثيرة الأخطاء و النقائص ، الأمر انعكس سلبا على إنتاجه العلمي شكلا و مضمونا .
أخطاء منهج النقد التاريخي عند أركون و الجابري :
اقصدُ باستخدامي لمصطلح : منهج النقد التاريخي ، ذلك المنهج الشامل ، الذي يتناول أي خبر ، سواء كان نبويا ، أو بشريا ، بالنقد و التمحيص على مستوى الأسانيد و المتون معا . و هذا المنهج هو الذي أَنطلقُ منه في انتقاداتي لأراء الباحثيّن أركون و الجابري ، المتعلقة بمنهج النقد التاريخي عندهما .
فبالنسبة لأركون ، فسأذكر بعض مواقفه المتعلقة بمنهج النقد التاريخي ، عرضا و مناقشة ، و إظهارا لأخطائه فيها ؛ أولها إنه قال عن الإسناد الحديثي- يتضمن رواة الحديث- : (( كما هو الحال في عملية الإسناد المستخدم في الحديث النبوي ، هذا الإسناد الذي يضمن ليس فقط صحة النقل عن النبي ، و إنما أيضا استمرارية العمل ، و السلوك الذي توصي به هذه الأحاديث )) (1) .
__________
(1) تاريخية الفكر العربي ، ص: 125 .(17/38)
و قوله هذا فيه مغالطة ، و جهل-أو تجاهل- بمنهج النقد الحديثي عند نُقاد الحديث ، بدليل ما يأتي : أولا إن صحة الحديث عند المحدثين لا تثبت لمجرد وجود الإسناد ، و إنما وجود الإسناد المتصل ، هو شرط من شروط صحة الحديث ، ثم يُخضع هذا الإسناد لعملية النقد جرحا و تعديلا ، و هي عملية متشعبة و معقدة ، تقوم على أسس منطقية (1) صحيحة (2) . و عليه فإن وجود الإسناد لا يعني صحة الحديث ، كما أوهم بذلك أركون ، و إنما يسمح لنا بممارسة النقد و التمحيص ، وفق منهجية الجرح و التعديل .
و ثانيا إن قوله يُوحي بأن الإسناد هو أساس صحة الحديث عند المحدثين ، و هذا غير صحيح ، و افتراء عليهم ، لأن النقد عندهم يشمل الأسانيد و المتون معا . كما أن صحة الإسناد لا تعني بالضرورة صحة المتن ، و صحة المتن لا تعني بالضرورة صحة الإسناد ، فالحديث لكي يُقبل في علم مصطلح الحديث لا بد أن يصح إسنادا و متنا ، وفق منهج نقد الخبر عند المحدثين (3) .
__________
(1) سنذكرها قريبا ، إن شاء الله تعالى .
(2) أنظر : محمد محمود الطحان : أصول التخريج و دراسة الأسانيد ، ط 3، مكتبة المعارف ، الرياض، 1996 ، ص: 137 ، و ما بعدها ، و 181 ، و ما بعدها . و محمد عجاج الخطيب : السنة قبل التدوين ، ط 1 ، مكتبة وهبة ، مصر ، 1963 ، ص: 239 ، و ما بعدها .
(3) أنظر : عجاج الخطيب : نفس المرجع ، ص: 239 و ما بعدها . و ابن قيم الجوزية : المنار المنيف ، حققه عبد الرحمن المعلمي، دار العاصمة ، الرياض، 1998 ، 35 و ما بعدها ، و 42 و ما بعدها . و المنذري : الترغيب و الترهيب ،ط1، دار الكتب العلمية، بيروت1417، ج 1 ، ص: 245 ، 282 ، و ج4 ص: 250 . و النووي : شرح النووي على صحيح مسلم ، ط2، دار إحياء التراث العربي، 1392، ج 1 ص: 47 . و ابن الصلاح : مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ، ط1 ، دار الفارابي، د م ن ، 1984 ، ص: 59 .(17/39)
و أما الموقف الثاني فعبّر عنه بقوله : كانت الرؤية الخيالية للتاريخ ذات (( هيمنة واضحة لدى الكُتاب الأوائل ، من مثل الواقدي ، و أبي مخنف ، و ابن إسحاق ، و ابن عبد الحكم ... وصولا حتى الطبري ، إن رد الفعل العقلاني الأكثر وضوحا على هذه الرؤية الخيالية ، تبتدئ لدى مسكويه ، لكن أخلافه لم يُمارسوا منهجيته ، بنفس الدقة ، حتى مجيء ابن خلدون )) (1) .
و قوله هذا غير صحيح في معظم جوانبه ، و يحمل نظرة ناقصة عن منهج نقد الخبر عند المسلمين ،لأنه أولا إذا كانت الرؤية الخيالية للتاريخ موجودة لدى كثير من المؤرخين الأوائل ، و هذا معروف عند النقاد ، فإنها لم تكن وحدها هي السائدة ، فقد وُجدت إلى جانبها النظرة الحقيقية و الصحيحة للتاريخ ، فكانت النظرتان تضيقان و تتسعان من مؤرخ إلى آخر ، حسب خلفياتهم العلمية و المذهبية و السياسية ، و المصلحية (2) . و هذه النظرة المزدوجة للتاريخ ، ما تزال موجودة إلى يومنا هذا لدي كثير من المؤرخين و الباحثين ، منهم محمد أركون ، فإن في دراساته الإسلامية ، كثيرا من الخيالات و الظنون ، و الأهواء و الخرافات ، و سنبين ذلك بالأدلة الدامغة ، في مواضع لاحقة من الفصول الآتية ، إن شاء الله تعالى .
__________
(1) تاريخية الفكر العربي الإسلامي ، ص: 27 .
(2) لمعرفة طائفة من هؤلاء الخياليين ، أنظر كتابنا : مدرسة الكذابين ، في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه .(17/40)
و ثانيا فإن المؤرخ الطبري( ت309ه ) يختلف كثيرا عن محمد بن عمر الواقدي ، و أبي مخنف لوط بن يحيى ، و محمد بن إسحاق ، فإنه كان عالما ناقدا متبحرا في علوم الشريعة و التاريخ ، و لم يكن خياليا في تاريخه . و الأخبار الخيالية و المكذوبة التي أوردها في تاريخه ، ذكرها لأنه تبنى منهجا تدوينيا أقامه على أساس الحياد العلمي السلبي ، فدوّن في تاريخه أخبار كل الطوائف ، على اختلافاتها و تناقضاتها ، بلا تحقيق ، و لا نقد ، ولا تمحيص ، إلا في القليل النادر ، و هذا أمر صرّح به الطبري في مقدمة تاريخه . فهو لم يكن جاهلا بمنهج النقد التاريخي ، و لا عاجزا عن تطبيقه ، و لا كان واقعا تحت تأثير النظرة الخيالية للتاريخ (1) .
و ثانيا إن منهج نقد الخبر كان قد نشأ و تقعّد قبل المؤرخ أبي علي مسكويه المُتوفى سنة 421ه ، و قد مارسه كبار نقاد الحديث في القرن الثالث الهجري ، كأحمد بن حنبل ، و يحيى بن معين ، و البخاري ، و مسلم ، و أبي داود السجستاني ، و غيرهم كثير ، و هؤلاء كانت نظرتهم للتاريخ نظرة شرعية واقعية علمية ، و لم تكن خيالية أبدا ، و كانوا أصحاب منهج نقدي ، مارسوه بدرجات مختلفة ، في تحقيق الحديث النبوي ، و كثير من الأخبار المتعلقة بالصحابة- رضي الله عنهم- ، فأثمرت جهودهم تأسيس علم مصطلح الحديث ،- أي منهج نقد الخبر -، و تدوين المصنفات الحديثية الكبرى ، كالصحيحين ، و السنن ، و المساند ، فمارس هؤلاء منهجهم من خلال مصنفاتهم ، مع العلم أن أصول منهج نقد الخبر هي موجودة صراحة في القرآن الكريم ،و هو الذي أصله قبل أن يبدأ المسلمون في الكتابة الحديثية و التاريخية : تدوينا ، و تقعيدا ، و تحقيقا (2) .
__________
(1) سنعود إلى مقدمة الطبري التاريخية قريبا ، من هذا المبحث .
(2) أنظر كتابنا : أخطاء المؤرخ ابن خلدون في كتابه المقدمة ، دار الإمام مالك ، الجزائر ، 2055 ، ص: 59 .(17/41)
و رابعا إن أركون أغفل كبار النقاد من المحدثين و المؤرخين عاشوا في الفترة الممتدة من وفاة مسكويه(ت421ه ) ، إلى وفاة ابن خلدون سنة 808ه ، كانت نظرتهم إلى التاريخ شرعية واقعية علمية نقدية ، و ليست خيالية ، و كانوا نقادا محققين ، لهم دراية واسعة بمنهج نقد الخبر ، الذي أرسى قواعده نقاد الحديث المتقدمين ، فزاده المتأخرون إثراء و تقعيدا ، كالخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ، و ابن الجوزي (ت في الموضوعات ، و العلل المتناهية ، و تلبيس إبليس . و ابن تيمية(ت 728ه) في منهاج السنة النبوية ، و الذهبي (ت 748ه) في سيّر أعلام النبلاء ، و ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، و ابن قيم الجوزية (ت 751ه) ، في كتابه نقد المنقول - هو نفسه : المنار المنيف- ، و ابن كثير (ت 774ه) ، في البداية و النهاية . و هذه الكتب منشورة و متداولة بين أهل العلم ، و شاهدة على ما أقول ، و لا تحتاج إلى توثيق (1) .
و خامسا إن تنويه أركون بعمل ابن خلدون في منهج النقد التاريخي ، يجب أن نتناوله من جانبيه النظري و التطبيقي ، فالنظري عرضه ابن خلدون في مقدمته ، و انتقد فيه طائفة من المؤرخين ، و ركز فيه على جانب واحد من المنهج ، و هو المتعلق بنقد المتون ، و أهمل نقد الأسانيد ، فجاء عمله ناقصا مُشوّها . مع العلم أن الجانب الذي ركّز عليه لم يكن جديدا ، و إنما هو جانب معروف من جانبي نقد الخبر عند المحدثين . و أما الجانب التطبيقي المتعلق بمنهج النقد التاريخي عند ابن خلدون ، فهو عندما كتب تاريخه : العبر و ديوان المبتدأ و الخبر ، لم يلتزم فيه بمنهجه النظري الذي عرضه في المقدمة، فجاء تاريخه عاديا تقليديا كثير الأخطاء (2) .
__________
(1) للتوسع أنظر كتابنا : أخطاء ابن خلدون في كتابه المقدمة ، ص: 27 و ما بعدها .
(2) للوقوف على ذلك راجع كتابنا السابق الذكر .(17/42)
و الموقف الثالث - من مواقف أركون من منهج النقد التاريخي- هو أنه لما تعرّض لما جاء به الإسلام قال : (( هذه الرهانات التي كان قد استهدفها الناطق الأكبر و الفاعل المُرسل أي الله بالذات حسب المؤمنين أو محمد بحسب المؤرخ الناقد )) (1) . و قوله : (( محمد بحسب المؤرخ الناقد )) ، هو كلام باطل ، فيه تدليس و تغليط ، و افتراء على النقد العلمي الصحيح . فكان عليه أن يقول : بحسب المؤرخ الكافر بالإسلام ، أو بحسب المؤرخ المنكر للإسلام ، و لا يصح أن يقول ما زعمه مطلقا ، لأن النقد العلمي ليس حكرا على أحد ،و النقد العلمي الحيادي الموضوعي بريء من ذلك الزعم الباطل . كما أن الناقد الحيادي الطالب للحق يأخذ بكل الاحتمالات بجد ، ثم يتأكد من صدقها بالنقد و التمحيص ، ثم يأخذ بالصحيح منها .
فلا داع يا أركون إلى التدليس و التغليط و الاختفاء وراء النقد العلمي المزعوم ، لنشر المغالطات و الأباطيل ، و الشبهات ، فإذا كان النقد المزعوم أدى بالغالبية الساحقة من المستشرقين و أمثالهم إلى الكفر بالإسلام ، إتباعا لأهوائهم ، فإن النقد العلمي الحيادي الصحيح أدى-قديما و حديثا- بكثير من الغربيين و غيرهم إلى اعتناق الإسلام ، مما يعني أن زعمك باطل مردود عليك في احتكاره للنقد العلمي المزعوم القائم على الأهواء و الظنون . و أما أهل النقد و العلم الصحيحين فهم الذين يصدق عليهم قوله تعالى : (( و يرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق ))-سورة سبأ/6- ، و (( ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك ))-سورة الحج /54- .و أما أركون و أمثاله ، فلا علم لهم إلا الأهواء و الظنون ،و يصدق عليهم قوله تعالى : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} -سورة النجم/23- .
__________
(1) أركون : تاريخية الفكر العربي... ص: 101 . و الفكر الإسلامي ، ص: 105 .(17/43)
و أما موقفه الرابع فمرتبط بالثالث ، زعم فيه أركون أن العقل المؤمن يستحيل عليه أن يتخذ موقفا مستقلا تماما إزاء التصورات المولدة للقيم و الأحكام و السلوك ، بسبب (( انغماسه في الحس العملي المرتبط بالإيمان ، لا يتيح له أن يتخذ موقف المراقب للأمور في آن واحد ، لأنه لا يستطيع أن ينفصل عن إيمانه ، و لو للحظة من أجل أن يتخذ مسافة نقدية ، و يدرس الأمور بشكل تاريخي و علمي )) (1) .
و قوله هذا غير صحيح ، و مجازفة فيها تدليس و تغليط ، لأنه أولا إن الدراسة العلمية الموضوعية الناقدة الفاحصة ليست حكرا على أحد من أهل العلم ، و لا على طائفة منهم ، فكل منهم في مقدوره أن يكون ناقدا موضوعيا حياديا ، على اختلاف عقائدهم و مذاهبهم ، إن تجردوا للحقيقة و صدقت نواياهم ، و تغلبوا على أهوائهم و مصالحهم. لكن المعروف تاريخا و واقعا أن الحياديين من أهل العلم قليلون ، لأن معظمهم يصعب عليه التجرّد للحقيقة العلمية تجردا كاملا ، إذا ما تعارضت مع عقائدهم و مصالحهم .
مع العلم أن التجرد العلمي لا يعني بالضرورة ، أن ينسلخ الباحث كلية عن أصوله و خلفياته و قناعاته العقيدية و المذهبية ، لأنه إذا فعل ذلك فإنه لن يستطيع أن يفعل شيئا ، لأنه دخل مجال البحث فارغا ، و البحث العلمي لا يقوم على فراغ . و إنما المقصود من التجرد العلمي أن لا يقع الباحث تحت تأثير أهوائه و خيالاته و مصالحه ، و أن لا تمنعه قناعاته الفكرية من الدراسة العلمية الحيادية ، و أن لا تحول دون قوله الحقيقة ، و لو كانت ضده .
__________
(1) نفس المرجع ، 101 .(17/44)
و المسلم الحق ليس كما زعم أركون ، من أن إيمانه يعوقه عن النقد العلمي النزيه الصحيح ، فهو-أي المسلم- لا يعوقه إيمانه ، و لا يحتاج أبدا إلى الانسلاخ منه ، لأنه أكثر أهل العلم علمية ، و موضوعية ، و حرية في البحث العلمي ، لأن معه من الدواعي إلى الحيادية و الموضوعية ، و من الموانع عن الكذب و التحريف ، ما لا يُوجد عند غيره من أتباع الأديان و المذاهب المختلفة ؛ و يتمثل ذلك في كثرة النصوص الشرعية التي تأمره بالموضوعية ، و إتباع الحق ، و البعد عن الكذب و الظنون و الأهواء ،و عدم التعدي على حقوق الناس ، و قول الحق و لو كان مرا ، من ذلك قوله تعالى : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} - سورة الإسراء/36 - ، و {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} - سورة النساء/58 - و {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} - سورة الشعراء/183- ، و{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} -سورة ص/26 - ، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} -سورة المائدة/8- ، و العدل يكون في القول و العمل معا .(17/45)
فالمسلم الحق هو أكثر الناس علمية و حيادية ، و أبعدهم عن الأهواء و الظنون ، و الخيالات و الأوهام ،و ليس كما زعم أركون من أن إيمان المسلم يُؤثر سلبا في أبحاثه العلمية ؛ و إنما غير المسلم- في الغالب الأعم- هو الأقل موضوعية و علمية ، خاصة في المجالات العقدية و المذهبية ، لكثرة تأثره السلبي بأفكاره و قناعاته المذهبية ، و بأهوائه و طنونه و مصالحه الدنيوية ، أمام ضعف أو غياب الوازع و الموانع الداخلية التي تمنعه من الكذب و التعصب الباطل ، و تحمله على الموضوعية العلمية . و المستشرقون و أمثالهم معظمهم من هذا الصنف ، في تعاملهم مع الإسلام و أهله . و محمد أركون من ههؤلاء ، فكان عليه أن يدعو نفسه مع هؤلاء ، إلى الانسلاخ من عقائدهم و مذاهبهم ، في دراستهم للإسلام و تاريخه، لكي يفهموا ديننا و تاريخنا فهما صحيحا ، لكنه لم يفعل ذلك حتى مع نفسه ، فإن مؤلفاته مليئة بالتعصب و الأباطيل ، و هذا الأمر سنتوسع فيه لاحقا ، إن شاء الله تعالى .(17/46)
و أما موقفه الأخير- أي الخامس- فيتعلق بمنهج النقد عند المستشرقين ، فقال : إنهم (( يُقارعون المسلمات و الفرضيات الإسلامية ، باليقين العلموي)) (1) . و قوله هذا هو مدح و وصف لمنهج المستشرقين النقدي في تعاملهم مع الإسلام : أصولا ، و فروعا ، و تاريخا . و يتضمن أيضا طعنا في الإسلام الذي يقوم على المسلمات و الفرضيات على حد زعمه ، مقابل منهج المستشرقين الذي يقوم على اليقين العلمي ، أو العلموي حسب زعمه أيضا . و قوله هذا باطل من أساسه ، و فيه تغليط ، لأن منهج المستشرقين في تعاملهم مع الإسلام -قرآنا و سنة- يقوم أساسا على الأكاذيب و الظنون و الأهواء ، و الشكوك و الشبهات ، و هي أصول لا تمت إلى العلم ، و لا إلى اليقين بصلة ، فهم بإتباعهم لهذا المنهج الباطل المعوج ، وجدوا فيه طريقا لجحود نبوة محمد -عليه الصلاة و السلام- ، و الطعن في القرآن الكريم ، و هم الذين يصدق عليهم قوله تعالى : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} -سورة النجم/23- ، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} - سورة آل عمران/71- . و أفكارهم هذه قد تبناها تلميذهم الوفي أركون ، و نشرها في مؤلفاته بحماس و غرور ، و نحن سنرد عليها و ننقضها على صاحبها ، في الفصول الآتية من كتابنا هذا ، إن شاء الله تعالى .
__________
(1) تاريخية الفكر العربي ، ص: 253 .(17/47)
و أما قوله : (( المسلمات و الفرضيات الإسلامية )) ، فليعلم أنها مسلمات و أصول إسلامية لا تقوم على الظنون و الأهواء ، كما هو حال منهج شيوخه المستشرقين ، و إنما تقوم على يقينيات الشرع و قطعياته ، المستمدة من القرآن الكريم ، و السنة النبوية الصحيحة الموافقة له ، و القرآن نفسه هو : علم وحق ، برهان و بينة ، معجزة و آية . كما أنها تقوم أيضا على ثوابت التاريخ ، و أدلة العقول الصحيحة الصريحة . و كلامنا هذا لا يحتاج إلى توثيق ، فهو معروف ، و ثابت ، يشهد عليه القرآن الكريم ، و سيرة الرسول-عليه الصلاة و السلام- و صحابته -رضي الله عنهم- .
و أما بالنسبة إلى محمد عابد الجابري ، فسأتطرق لأخطائه المتعلقة بمنهج النقد التاريخي ، في ثلاثة مواضيع ، أولها يتعلق بمواقف الجابري من منهج نقد الخبر عند المحدثين ، منها أنه أرجع شروط الصحة المعتبرة في الحديث النبوي إلى عصر التدوين -من منتصف القرن الثاني و ما بعده- و جعلها من إبداعات العقل العربي ، و تجلياته في ذلك العصر (1) .
و قوله هذا ليس صحيحا على إطلاقه ، و ذلك أن شروط صحة الحديث ، إذا كانت قد اكتملت و تقعّدت في عصر التدوين و ما بعده ، فهي ليست من ابتكاراته كلية ، لأن بداياته و أصولها الأساسية ، تعود إلى زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- ،و صحابته و التابعين -أي قبل عصر التدوين- ، بدليل الشواهد الآتية :
__________
(1) تكوين العقل العربي ، ص: 61 ، 62 .(17/48)
أولها إن القرآن الكريم قد حث على التثبت و التحقق من الأخبار ، من خلال نقد الإسناد و المتن معا ، و ذلك في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} - سورة الحجرات/6- ، فالآية قد جرّحت الراوي و لم تعدله ، و وصفته بأنه فاسق ، ثم دعت إلى التثبت من الخبر (( فتبينوا )) دون تحديد للوسائل لتبقى مطلقة يستخدم فيها الإنسان كل ما يساعده على التأكد من صحة الخبر .و منها أيضا قوله تعالى : (( يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون في إبراهيم و ما أنزلت التوراة و الإنجيل إلا من بعده ، أفلا تعقلون، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ، فلما تحاجون فيما ليس لكم به علم ،و الله يعلم و أنتم لا تعلمون ))-سورة آل عمران/46-66-)، فالله - سبحانه و تعالى- ردّ على دعوى أهل الكتاب بمنطق التاريخ ، و مؤداه : كيف يكون إبراهيم -عليه السلام- يهوديا أو نصرانيا، و ما أنزلت توراة اليهود، و إنجيل النصارى، إلا من بعده بقرون عديدة ؟ و هذا دليل عقلي تاريخي، استخدمت فيه المطابقة الزمانية بين الدعوى و الحقيقة التاريخية. ثم نبههم الله - عز و جل - إلى ضرورة توظيف العقل في مثل هذه القضايا بقوله " أفلا تعقلون " ثم أنكر عليهم المحاجاة فيما لا علم لهم به. فيتبين من ذلك أن الخبر لا يقبل بمجرد الدعوى بل لا بد من التأكد من صدقه إذا شككنا فيه باستخدام مختلف الوسائل المتاحة، و طريقة القرآن الكريم يمكن تعميمها و تطبيقها على العديد من الروايات الحديثية و التاريخية، و هو في ذلك يعطي المثال، و يترك للعقل البشري مجال الإبداع مفتوحا.(17/49)
و الشاهد الثاني هو أن الصحابة أنفسهم كانوا يحتاطون في رواية الحديث النبوي ، و يتثبتون في قبوله ، و بعضهم يُطالب بالشاهدين ، ليقبله ممن سمعه ، خوفا من توسع الناس في روايته ، فيدخله ما ليس منه ، حدث ذلك في زمن الخلافة الراشدة و بعدها (1) .
و الشاهد الثالث ، هو أن التابعين هم أيضا كانوا يتثبتون في رواية الحديث و قبوله ، فيتأكدون منه بالترحال إلى الرواة ، و المطالبة بصحة الإسناد ، فعلوا ذلك بعد انتشار الكذب على إثر الفتنة الكبرى سنة 35ه ، و ما حدث بعدها من انقسام للأمة إلى طوائف متناحرة (2) .
و الشاهد الرابع يتضمن نموذجا لتثبت بعض الصحابة في قبول الحديث النبوي ، بالاعتماد على نقد الإسناد و المتن معا ، و مفاده هو أن الصحابية فاطمة بنت قيس لما طلقها زوجها ثلاثا ، ذهبت إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- و أخبرته بحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه إسقاط نفقتها و سكناها ، و قد كانت هي امرأة صالحة ، فلم يقبل منها عمر ، و قال : (( ما كنا لندع كتاب ربنا و سنة نبينا ، لقول امرأة لا ندري أحفظت ذلك أم لا )) (3) .
__________
(1) أنظر : ابن قتيبة : تأويل مختلف الحديث ، دار الجيل ، بيروت ، 1972 ، ص: 39 . الذهبي : تذكرة الحفاظ ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ج 1 ص: 2 . و البخاري : الصحيح ، ج 5 ص: 2305 ، رقم الحديث : 5891 . و مسلم : الصحيح ، ج 1ص: 12 ، ج 3 ص: 311 . النسائي : السنن الكبرى ، ج 4 ص: 73 .
(2) مسلم : نفسه ، ج 1 ص: 12 . و الذهبي : نفس المصدر ، ج 1 ص: 55 . و عجاج الخطيب : السنة قبل التدوين ، ص: 92 و ما بعدها .
(3) أبو داود السجستاني: السنن ، بيروت ، دار الفكر ، دت ، ج2 ص: 288 . و سنن أبي داود من تحقيق الألباني ، رقم : 2291 . و الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية، المكتبة العلمية ، المدينة المنورة ، د ت ، ص: 83 .(17/50)
و هو -أي عمر- قد رد خبرها لأنه وجده يخالف ما في الكتاب و السنة ، من خلال نقده لمتن خبرها ، الذي وجده لا يتطابق -لا حظ قانون المطابقة- مع ما هو ثابت في القرآن و السنة النبوية ،و هو لم يُجرحها و لا اتهمها في عدالتها ، و إنما رد خبرها لما وجده مخالفا لما هو ثابت في الشرع ، و علل ذلك بضعف ضبطها ، في قوله : (( لا ندري أحفظت ذلك أم نسيت )) . كما أنه يتبين من ذلك أن عملية نقد الأخبار قد ظهرت مبكرا عند المسلمين ، بالاعتماد على نقد الإسناد و المتن معا ، فعمر عندما رد الخبر رده لأن متنه يخالف الثابت في الشرع ، و ارجع ذلك إلى إمكانية أن تكون المرأة قد نسيت ، و هذا يخص الضبط ،و هو متعلق بالإسناد .
و الشاهد الخامس يتضمن هو أيضا نموذجا لتثبت بعض الصحابة في رواية الحديث النبوي ، بالاعتماد على المتن و الاحتكام إلى القرآن الكريم ، و مفاده أنه لما بلغ عائشة -رضي الله عنها- أن الصحابي عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- يذكر أنه سمع رسول الله-عليه الصلاة و السلام- ، يقول : (( إن الميت ليُعذب ببكاء أهله عليه )) ، قالت : (( لا ما قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم- قط : إن الميت يُعذب ببكاء أحد ، و لكنه قال : (( إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا ، و إن الله لهو أضحك و أبكى ، و لا تزر وازة وزر أخرى )) (1) .
و في رواية أخرى أنها -أي عائشة أم المؤمنين- لما سمعت بالحديث ، قالت : إن الصواب هو أن رسول الله -عليه الصلاة و السلام- مر بقبر فقال : (( صاحب هذا ليُعذب و أهله يبكون عليه )) ، ثم قرأت قوله تعالى : {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}- سورة الزمر/ 7- (2)
__________
(1) مسلم : المصدر السابق ، ج 2 ص: 641 .
(2) الألباني : صحيح أبي داود ، ج 2 ص: 605 .(17/51)
فهذه الشواهد المتنوعة تُثبت بما لا يدع مجالا للشك ، بأن شروط صحة الحديث لم تكن من ابداعات عصر التدوين ، على ما ذهب إليه الجابري ، و إنما هي اكتملت و تقعدت في عصر التدوين ، ثم اتسعت و تقننت أكثر فيما بعده ، و هي شروط -كما رأينا- شملت نقد الإسناد و المتن معا .
و الموقف الثاني ذكر فيه الجابري أن علماء الحديث يُميزون بين صحيح الحديث من سقيمه ، بالاعتماد على (( ضبط سلسلة رواته ،و نقدهم بالتعديل و التجريح ، و ذلك علم الإسناد )) (1) . و قوله هذا يتضمن صوابا و خطا ، فالصواب هو قوله بأن المحدثين يُميزون صحيح الأحاديث من ضعيفها ، بنقد أسانيدها . و الخطأ هو حصره نقد الحديث في الإسناد فقط ، و إغفاله لنقد المتن عند المحدثين ، و الصواب هو أن المحدثين اعتمدوا في تحقيقهم للأحاديث على نقد الأسانيد و المتون معا ، و الشواهد على ذلك كثيرة جدا ، أذكر منها ثلاثة فقط على سبيل المثال لا الحصر (2) ، أولها ما ذكره الإمام مسلم (ت261ه) ، ) من أنه كانت للمحدث ابن لُهيعة أوهام فاحشة ، منها إنه روى أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- احتجم في مسجده ، فعقّب عليه مسلم بقوله : (( و هذه رواية فاسدة من كل جهة ، فاحش خطؤها في المتن و الإسناد معا جميعا )) ، وذلك أن ابن لُهيعة مُصحّف في متنه و مُغفل في إسناده ، ثم بين أن معنى الحديث هو أن رسول الله احتجر في المسجد بخوصة أو حصير يصلي فيه ، و ليس معناه أنه احتجم فيه )) (3) .
__________
(1) بنية العقل العربي ، ص : 118 .
(2) للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : أخطاء ابن خلدون في كتابه المقدمة ، ص: 24 و ما بعدها .
(3) مسلم بن الحجاج : التمييز ، حققه مصطفى الأعظمي، السعودية ، مكتبة الكوثر ، 1411 ، ، ص: 187 .(17/52)
و الشاهد الثاني يتعلق بما ذكره الحافظ أبو داود السجستاني (ت275ه)، فإنه انتقد الواعظ غلام الخليل البغدادي(ت275ه) ، و وصفه بأنه دجال بغداد ، ثم قال إنه نقد 400 حديث رواها غلام الخليل فوجدها كلها كذب بمتونها و أسانيدها (1) .
و الشاهد الأخير-أي الثالث- يتضمن مثالين ، أولهما يتعلق بما قاله الحافظ عبد الله بن عدي الجرجاني (ت365ه) عن مرويات محمد بن سليمان بن مسمول، من أن عامتها لا يُتابع فيها ، من حيث أسانيدها و متونها (2) . و ثانيهما يتعلق أيضا بابن عدي ، فإنه عندما نقد الراوي محمد بن عبد الرحمن القسري ، قال إنه مجهول ، روى أحاديث بأسانيده كلها مناكير ، و منها ما متنه منكر (3) .
و لا يغيب عنا أن نقد الأسانيد و المتون ، تعود بداياته إلى زمن رسول الله -عليه الصلاة و السلام- و صحابته ، على ما سبق أن أثبتناه . كما أن علماء الحديث ، قد نصوا في مصنفات علم مصطلح الحديث ، على أن نقد الحديث يشمل الأسانيد و المتون معا (4) . و قد كرر الجابري نفس الخطأ في كتابه العقل الأخلاقي العربي ، عندما قال : (( حسب مقاييس الصحة و الضعف ، التي يعمل بها أهل الحديث ، و هي تخص مدى عدالة الرواة )) (5) . فقوله هذا هو ترديد لما قاله في كتابه بنية العقل العربي ، و هو غير صحيح على إطلاقه ، على ما سبق أن بيناه.
__________
(1) الذهبي: السير ، ج 13 ص: 283 .
(2) ابن الجوزي: الضعفاء و المتروكين ، ج3 ص: 69 .
(3) ابن عدي : الكامل في ضعفاء الرجال ، ج 6 ص: 257 .
(4) أنظر مثلا : الخطيب البغدادي : الكفاية في علم الرواية ، ص : 3 . و ابن الصلاح : مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ، دار الشهاب ، الجزائر ، ص: 31 .
(5) هامش ص: 523 .(17/53)
و أما الموقف الثالث فيتعلق بخبر الآحاد ، فقال الجابري : إن هذا الخبر قام على أساس سلطة إجماع الصحابة ، و إسناده لا (( يُثبتُ صحة الخبر في ذاته ، بل إنما يُثبتُ صحة نسبته إلى الرسول ، طِبقا للشروط التي يعتمدها أهل الحديث ، فهو صحيح على شروطهم ، و ليس صحيحا في نفسه )) (1) .
و قوله هذا غير صحيح ، و فيه تدليس و تغليط ، بدليل الشواهد الآتية : أولها إن شرعية الأخذ بحديث الآحاد لا تعود أولا إلى إجماع الصحابة في الأخذ به ، و إنما تعود إلى القرآن و السنة النبوية الصحيحة ، فالقرآن الكريم نص صراحة على قبول خبر الآحاد ، في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} - سورة الحجرات/6- ، فرغم أن هذا الواحد فاسق أمرنا الله تعالى بالتثبت من خبره ، و لم يأمرنا برفضه مطلقا ، فما بالك بخبر الواحد العدل الضابط ؟ .
و كذلك الحال في السنة النبوية ، فقد كان رسول الله-صلى الله عليه و سلم- يرسل الواحد ، و الآحاد من أصحابه إلى مختلف الجهات للقيام بأعمال كلفهم بها ، و يثق فيهم ، و لا يرد أخبارهم . و هذا أمر معروف و متواتر من سيرته -عليه الصلاة و السلام- لا يحتاج إلى توثيق .
__________
(1) بنية العقل العربي ، ص: 125 .(17/54)
و الشاهد الثاني هو أن علماء الحديث طلبوا الحديث الصحيح في ذاته ، بالاعتماد على نقد المتون و الأسانيد معا ، كوسيلة للوصول إلى الحديث الصحيح في ذاته ، و ليس أنهم طلبوا مجرد صحة الإسناد ، دون النظر في المتن ، لذا قالوا : إن الحديث صحيح بذاته وفق شروطهم ، و لم يقولوا : إن الحديث يصح لمجرد صحة إسناده . و لهذا هم فرّقوا بين صحة الإسناد ،و صحة المتن ، و ردوا أحاديث أسانيدها صحيحة (1) .
كما أن شروطهم - التي وضعوها - كاتصال الإسناد ، و خلو الحديث من الشذوذ و العلة على مستوى الأسانيد و المتون ، أقاموها على أسس منطقية ، و لم يُقيموها على أسس خيالية خرافية ، لذا فهم مثلا لا يقبلون الحديث المنقطع ، لأنه لا يصح عقلا أن يروي إنسان حديثا عن رجل يدعي أنه سمعه منه ، و هو لم يلتق به ، أو لم يسمع منه ، أو لم يلحق به زمنيا (2) !! .
و كذلك هم لا يقبلون الحديث الذي يُخالف القطعي من القرآن الكريم ، و السنة النبوية ، و الثابت من التاريخ . و يردون أيضا الأحاديث التي تخالف بدائه العقول ، و الواقع المشهود ، و قد كان المؤرخ الحافظ عبد الرحمن بن الجوزي يقول : (( ما أحسن قول القائل : إذا رأيت الحديث يُباين المعقول ، أو يُخالف المنقول ، أو يُناقض الأصول ، فاعلم أنه موضوع )) (3) .
__________
(1) أنظر : المنذري : الترغيب و الترهيب ، ج 1 ص: 245 ، 282 ، ج 4 ص: 250 . و الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، ج 3 ص: 98 ، 168 . و ابن جماعة : المنهل الروي ، ط2، دار الفكر ، دمشق ، 1406 ، ص : 37 .
(2) محمود الطحان : تيسير مصطلح الحديث، مكتبة رحاب ، الجزائر ، د ت ، ، ص: 76 ، و ما بعدها .
(3) السيوطي: تدريب الراوي ، ج 1 ص: 277 . و ابن قيم الجوزية : المنار المنيف ، ص: 44 ، 45 ، 79 ، 80 . و الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ، ج 3 ص: 98 . و الذهبي : السير ، ج 4 ص: 342، 343 . و للتوسع أكثر أنظر كتابنا : أخطاء ابن خلدون ، ص: 27 ، و ما بعدها .(17/55)
و الشاهد الأخير - أي الثالث- هو أن ما قاله الجابري يتضمن طعنا في منهج المحدثين ، و شكا فيما يروونه ، فأما الطعن فيتمثل في قوله بأنهم أقاموا منهجهم على نقد الإسناد دون المتن ، مما يعني أن منهجهم ناقص ، أهمل جانبا هاما في صحة الخبر ، و هو المتن .
و أما الشك فيتمثل في قوله بأن المحدثين لم يهتموا بصحة الحديث في ذاته ، و إنما اهتموا به من حيث ثبوت إسناده فقط . و هذا يعني بأنهم قد يروون المستحيلات و الخرافات و يقبلونها ، لأن أسانيدها قد صحت عندهم ، من دون نظر في متونها . و هذا افتراء على القوم ، و لا يصح في حقهم على ما قد سبق أن بيناه .
و أما الموقف الرابع ، فهو أيضا يتعلق بخبر الآحاد ، فقد قال الجابري : إن خبر الآحاد لا يُوجب العلم ، و أما كونه يُوجب العمل ، فهذا أيضا ليس بسبب (( وثاقة الإسناد ، بل بسبب تواتر الخبر بإجماع الصحابة على العمل به )) (1) . و قوله هذا فيه ثلاثة أخطاء واضحة ، أولها إن الصواب في إيجاب خبر الآحاد للعلم ، هو أنه خبر يُفيد العلم النظري ، بمعنى العلم الذي يتوقف على النظر و الاستدلال ، فإذا صح وجب الاحتجاج و العمل به (2) .
و ثانيها إنه-أي الجابري - لم يُفرق بين مشروعية الأخذ بخبر الآحاد كخبر ، و بين صحته للعمل به ، و جعل سبب العمل به هو تواتر الخبر بإجماع الصحابة على العمل به ، و هذا سبق أن بينا خطأه ، لأن مشروعية الأخذ بخبر الآحاد أصلها القرآن الكريم و السنة النبوية ، و ليس إجماع الصحابة على العمل به.
__________
(1) بنية العقل العربي ، ص: 125 .
(2) محمود الطحان : تيسير مصطلح الحديث ، ص: 21 ، 31 .(17/56)
و آخرها-أي الثالث- إنه جعل كون خبر الآحاد يُوجب العمل هو تواتره عن إجماع الصحابة على العمل به ، و ليس صحة إسناده ، و هذا غير صحيح تماما ، لأن علماء الحديث قالوا : إن حديث الأحاد يتوقف العمل به على التحقيق ، فإذا صح إسنادا و متنا ، فهو صحيح يُوجب العمل (1) .
و الموقف الخامس ، ذكر فيه الجابري أن المعتمد عند علماء الحديث في التحقيق ، هو نقد الإسناد جرحا و تعديلا ، و ليس العقل هو المعتمد في ذلك (2) . و قوله فيه تكرار لأخطائه السابقة في موقفه من منهج نقد الخبر عند المحدثين ، كما أنه -أي قوله- يتضمن خطأين واضحين ، الأول هو حصره لعمل المحدث في نقد الإسناد دون المتن ، و هذا سبق أن بيناه ، و أثبتنا خطأ الجابري في ذلك ، و تبين أن المحدثين أقاموا منهجهم على نقد الأسانيد و المتون معا .
و أما الخطأ الثاني فهو قوله : إن المحدثين أقاموا منهجهم النقدي على الجرح و التعديل -أي نقد الإسناد- ،و ليس على العقل،و هذا خطأ فادح وقع فيه الجابري ، لأن منهج المحدثين قام في أسسه و تفاصيله على ما يُوجبه العقل ، بدليل الشواهد الآتية : منها إن المحدثين عندما قسموا الخبر- في نقدهم له- إلى إسناد و متن ، فعلوا ما يُقره العقل و يُوجبه ، لأن أي خبر -مهما كان نوعه- له راو أو رواة نقلوه ، و له معنى يحمله ، و لكي يُحقق هذا الخبر تحقيقا كاملا ، فلا بد من تحقيقه إسنادا و متنا ، فإذا تخلف جانب كان التحقيق ناقصا ، و قد تتوقف الصحة على ذلك الجانب المتخلف .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 31، 32 . و محمد الزفزاف : التعريف بالقرآن و الحديث ، ط4 ، مكتبة الفلاح ، الكويت ، 1984 ، ص: 276 ، و ما بعدها .
(2) بنية العقل ، ص: 549 .(17/57)
و منها إن تحقيق الإسناد يتطلب أمورا يُوجبها العقل ، كمعرفة الرواة من حيث أعيانهم و أحوالهم ، من ضبط و عدالة ، فليس من العقل أن نقبل أخبارا رواها كذابون ، أو قوم شبه مجانين أو مجانين . كما أنه ليس من العقل أن نقبل أخبارا ذكرها أناس عن أقوام لم يلحقوا بهم ، أو رووها عن صغار لا يُميزون !! .
و منها أيضا أن تحقيق الأحاديث من حيث المتون ، يتطلب النظر في أمور كثيرة يُوجبها العقل ، منها : هل ما ذكره الرواة يتفق مع القطعيات الشرعية و العقلية ؟ ، و هل ما رووه يتفق مع المتواترات و الثوابت التاريخية ؟ ، و هل ما رووه يتفق مع قوانين الطبيعة و العمران ؟ ، و هل ما رووه يتفق مع أخلاقيات النبوة و خصائصها ؟ .
كل هذا الذي ذكرناه- و غيره- استخدمه علماء الحديث في تحقيقهم للأحاديث النبوية ، على مستوى الأسانيد و المتن معا (1) . و هو أمر شرعي بديهي ، طبيعي و عقلي لا مطعن فيه ، يُثبت قطعا بأن انتقادات الجابري للمحدثين في منهجهم النقدي -التي سبق ذكرها- كانت خاطئة في الغالب الأعم .
و الموقف السادس يتعلق بتعجب الجابري و استغرابه من ظاهرة الأحاديث و موقفه منها ، فهناك أحاديث تُنسب لأساطين الصحابة كعائشة ، و ابن عمر ، و أبي هريرة - رضي الله عنهم- ؛ و هناك أحاديث أخرى تناقضها ، تُنسب إلى نفس هؤلاء الصحابة ، و هي أحاديث مذكورة في كتب أهل السنة المعتمدة ، كالتي تمدح معاوية ، و أخرى تذمه . و علاج هذه الوضعية عنده لا تتم (( بواسطة المرويات و الأخبار ، لأن أي شيء يُروى كان يُحارب برواية مناقضة ، و بالرجوع إلي نفس السند . إن الحل الوحيد في مثل هذه الحالة هو الاحتكام إلى العقل و المنطق وحدهما )) (2) .
__________
(1) سبق أن ذكرنا بعض ذلك و توثيقه . و للتوسع أنظر : المنار المنيف لابن قيم الجوزية ، و كتابنا : أخطاء ابن خلدون في كتابه المقدمة .
(2) بنية العقل العربي ، ص: 255 ، 256 .(17/58)
و ردا عليه أقول : أولا إنه بالغ في تضخيم ظاهرة الروايات الحديثية المتناقضة وخطرها ، نعم هي حقا حدثت في تاريخنا ، و شكّلت خطرا على السنة النبوية الصحيحة ، لكنها كانت معروفة لدى علماء الحديث و نقاده ، الذين تصدوا لها بحزم و قوة باستخدام منهج نقد الخبر القائم على نقد الأسانيد و المتون معا .
و تلك الظاهرة كانت لها أسباب موضوعية كثيرة ، و لم تكن بسبب الكذب فقط ، فمن أسبابها : الخطأ و النسيان ، و النسخ في الحديث النبوي ، و الكذب المتعمد لأهداف سياسية و مذهبية و دنيوية كثيرة (1) . لذا فلا مبرر لتضخيم ظاهرة تناقض الروايات الحديثية بدعوى الكذب ، و اختلاط الأحاديث النبوية ، لأن الأحاديث الصحيحة هي الأسبق في الانتشار ،- قبل شيوع الكذب- و كانت معروفة ، و معمول بها ، و يحفظها كثير من أهل العلم (2) .
و ثانيا إن إشارة الجابري إلى وجود الأحاديث المتناقضة في كتب الحديث السنية المعتمدة ، فيها نوع من التغليط و الطعن ، و كان عليه أن يُشير إلى أن وجود تلك الأحاديث لا يعني أن علماء السنة يقبلونها على عِلاتها ، و يأخذون بالمستحيلات و المتناقضات ؛ لأن حقيقة الأمر هي أن علماء الحديث لم يشترطوا ذكر الصحيح فقط في مؤلفاتهم الحديثية ، فإن معظمهم لم يشترطوا ذلك ، فرووا الصحيح ، و الضعيف ، و حتى الموضوع ، فالصحيح يُؤخذ به ، و غيره يُدون ليُعرف ، و يُميز ، و يُتجنب ، كما هو الحال في السنن و المسانيد و غيرها (3) .
__________
(1) أنظر مثلا : محمد الزفزاف : التعريف بالقرآن و الحديث ، ص: 208 ، و ما بعدها .
(2) للتوسع في ذلك أنظر : نفس المرجع ، ص: 205 ، و ما بعدها .
(3) عمر سيليمان الأشقر : تاريخ الفقه الإسلامي، قصر الكتاب ، الجزائر ، 1990 ، ص: 92، 106 . و محمد الزفزاف : نفس المرجع ، ص: 214 ، و ما بعدها .(17/59)
و ثالثا إن الحل الذي اقترحه الجابري هو حل مُجمل يحتاج إلى تفصيل ، فإذا قصد بالاحتكام إلى العقل و المنطق ، بأن نضع منهجا عقليا لتحقيق الأحاديث على مستوى الأسانيد و المتون معا ، فهذا أمر مُتفق عليه ، و هو الذي فعله نُقاد الحديث في منهجهم الذي سبق أن ذكرناه .
و إما إذا كان يقصد بذلك وضع منهج نقدي عقلي يقتصر على نقد المتون دون الأسانيد في التحقق من الأحاديث ، و الأرجح أنه يقصد هذا الذي ذكرناه ، فهو منهج ناقص ، أخذ جانبا من منهج نقد الخبر عند المحدثين . و هو منهج غير قادر على التصدي وحده لظاهرة وضع الروايات الحديثية و التاريخية ، لأن الوضاعين للأحاديث مثلا ، هم قد استخدموا عقولهم في الكذب و التزييف في الأسانيد و المتون معا ، الأمر الذي يُحتم على المقاومين لهؤلاء الكذابين الوضاعين ، أن يتسلحوا بمنهج عقلي شامل لنقد الأسانيد و المتون معا ، لكشف أكاذيب هؤلاء التي مست الأسانيد و المتون معا ، و إلا كيف نتعامل مع أباطيلهم و أكاذيبهم المتعلقة بالأسانيد ، كاختلاق الأسانيد ،و التلاعب بالرواة ، و تركيب الطرق ؟ .
و لا يخفى عنا أن الروايات المكذوبة - الحديثية منها و التاريخية- هي على أربعة أصناف ، أولها صنف يمكن كشفه بسهولة ، من خلال الإسناد و المتن ، أو من أحدهما ، كأن يتضمن الإسناد راويا كذابا معروفا ، أو يتضمن المتن كذبة مكشوفة . و ثانيها هو صنف يصعب أو يكاد يكون مستحيلا تحقيقه إلا من المتن ، عندما يكون الإسناد صحيحا و المتن موضوعا .(17/60)
و الثالث هو صنف يصعب أو يكاد يكون نقده مستحيلا إلا من الإسناد ، و ذلك عندما يكون متنه صحيحا معقولا ، و إسناده مكذوبا . و الرابع هو صنف صعب جدا تحقيقه ، أو يكاد يكون مستحيلا تحقيقه من الإسناد و المتن معا ، و ذلك عندما يٌقدم كذاب ذكي على اختلاق حديث صحيح المتن-أي المعنى- ، و يُركب له إسنادا صحيح مختلقا ، و هذا النوع هو من أصعب الروايات تحقيقا و تمحيصا ، لا يقدر على كشفه إلا كبار النقاد الفطاحل المتضلعين في الأسانيد و المتون ، و المتبحرين في علوم كثيرة .
و بذلك يتبين جليا أن ما فعله نُقاد الحديث في تكوين منهج نقدي شامل لنقد الأسانيد و المتون معا ، كان عملا صحيحا صائبا ، في مستوى التحدي لمقاومة كثرة الكذابين و الوضاعين الذين جمعهم الكذب على رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ، و صحابته الكرام .
و أما الموضوع الثاني - الخاص بأخطاء الجابري في منهج النقد التاريخي- ، فيتعلق بموقف الجابري من النقد التاريخي عند المؤرخ ابن جرير الطبري (ت 310ه) ، فنقل نصا من مقدمة تاريخه يقول فيه الطبري : (( وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرتُ ذكره فيه ، مما شرطت أني راسمه فيه ، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه ، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين وما هو كائن من أنباء الحادثين غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم إلا بإخبار المخبرين ونقل الناقلين دون الاستخراج بالعقول والاستنباط بفكر النفوس فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يُؤت في ذلك من قبلنا وإنما أُتي من قبل بعض ناقليه إلينا وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدي إلينا )) (1) .
__________
(1) بنية العقل العربي ، ص: 549 .(17/61)
ثم قال الجابري : (( يعلن الطبري إذن بصريح العبارة ، أن التاريخ لا مجال فيه ل (( ما أدرك بحجج العقول )) ، و إنما المعول عليه فيه هو (( إخبار المخبرين ، و نقل الناقلين )) ، و إن المؤرخ غير مسئول عما ينقله من أخبار ، قد لا يقبلها العقل ، لأن العهدة في ذلك على الراوي)) (1) .
و قال أيضا : (( و يمكن أن نضيف : إن دور المؤرخ ينحصر مثل دور جامع الحديث في ضبط السند إن أمكن ، و التحقق من صدق الراوي ، باللجوء إلى منهج المحدثين : التعديل و التجريح ، و المعتمد عليه في هذا المنهج كما نعرف ليس العقل ، بل شهادة الآخرين ، أي النقل أيضا )) (2) .
__________
(1) نفسه ، ص: 549 .
(2) نفسه ، ص: 549 .(17/62)
و أقواله هذه تتضمن جملة أخطاء ، أولها إنه أخطأ في النقل ، فقد سقط من النص ما يأتي (( ...دون ما أدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس إلا اليسير القليل منه ... )) (1) . و هو نص هام جدا ، كان سببا في خطأ الجابري ، و هذا المقطع مكانه في النص الأصلي هكذا : ((وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه دون ما أدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس إلا اليسير القليل منه إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين وما هو كائن من أنباء الحادثين غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم إلا بإخبار المخبرين ونقل الناقلين دون الاستخراج بالعقول والاستنباط بفكر النفوس )) . و الغريب في الأمر أن هذا النص الناقص لم يُصحح ، و الكتاب في طبعته السابعة سنة 2004 ، و طبعته الأولى صدرت سنة 1986 ، من طبعة مركز دراسات الوحدة العربية . فالفارق الزمني بين الطبعتين 18 سنة ، و لم يُصحح ، اللهم إلا إذا كان النص الناقص سقط في الطبعة الأخيرة ، و هذا مُستبعد ، لأن تعليق الجابري يُشير إلى عدم وجود النص أصلا .
__________
(1) الطبري: تاريخ الطبري ، ط 1، المكتبة العلمية ، بيروت 1407 ، ج 1 ص: 13 .(17/63)
و الخطأ الثاني هو قوله : (( يُعلم الطبري إذن بصريح العبارة أن التاريخ لا مجال فيه ل(( ما أدرك بحجج العقول )) ، و هذا النص الذي استشهد به هنا هو جزء من المقطع الساقط من النص ، و خطأه هنا هو أنه قوّل الطبري ما لم يقله ، و قول الطبري كما جاء في النص و سياقه هو : ((وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه دون ما أدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس إلا اليسير القليل منه )) ، فالجابري لم ينقل النص كاملا ، و أخرجه من سياقه ، لأن الطبري لم يقل أن التاريخ لا مجال فيه لما أدرك بحجج العقول على ما ادعاه الجابري (1) . و إنما قال : إنه يذكر الأخبار مُسندة كما وصلته ، من دون ممارسة للنقد العقلي ، القائم على الحجج و الاستنباط الفكري ، إلا القليل اليسير منه . فالطبري لم ينكر ممارسة النقد في التاريخ ، و إنما هو أخذ على نفسه -حسب شرطه- ، بأن ينقل الأخبار كما وصلته ، من دون نقد لها في الغالب الأعم ، لكنه مع ذلك صرّح بأنه يمارس النقد أحيانا بقوله : (( إلا اليسير القليل منه )) . و هذا اعتراف منه بوجود النقد التاريخي ، و قدرته على ممارسته حين يُريد . و هذا يُخالف تماما ما ذهب إليه الجابري الذي قوّل الطبري ما لم يقله .
__________
(1) بنية العقل العربي ، ص: 549 .(17/64)
و الخطأ الثالث هو أن الجابري ربط بين قولين منفصلين للطبري من حيث الموضع و سياق الكلام ، و قوّله ما لم يُرد قوله ، فنقل عن الطبري قوله : (( ما أدرك بحجج العقول )) ، و نقل عنه قوله : (( أخبار المُخبرين و نقل الناقلين )) ، فالنقل الأول نقله من النص الذي سقط منه سابقا . و أما النقل الثاني فنقله من سياق كلام آخر للطبري ، و هو (( إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين وما هو كائن من أنباء الحادثين غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم إلا بإخبار المخبرين ونقل الناقلين دون الاستخراج بالعقول والاستنباط بفكر النفوس )) . فجاء الجابري و أخذ القولين و ذكرهما في السياق الآتي : (( يُعلن الطبري إذن بصريح العبارة ، أن التاريخ لا مجال فيه ل (( ما أدرك بحجج العقول )) ، و إنما المُعوّل عليه فيه هو (( أخبار المخبرين و نقل الناقلين )) (1) .
فبخصوص القول الأول ذكرنا أن الجابري سلّه من مكانه ، و وظفه بما يُخالف ما أراد الطبري قوله . و أما القول الثاني ، فهو أيضا سلّه الجابري من سياقه و ربطه بالقول الأول ، و وظّفه بما يُخالف ما أراد الطبري قوله . لأن الطبري أراد أن يقول : إن المصادر التي يُؤخذ منها أخبار الماضين- لمن لم يُشاهدهم و يُدرك زمانهم - لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الأخبار المروية ، و لا يمكن الوصول إليها عن طريق الاستخراج بالعقول ، و الاستنباط بفكر النفوس ، و كلامه هذا صحيح ، و لا يعني أنه رفض استخدام العقول في ذلك ،و إنما وضع الأمر في مكانه بما يُوجبه العقل نفسه . لأن العقول ليست مصدرا للتاريخ الذي لم تعاصره و تعش أحداثه ، و إنما هي وسيلة لتدوين تاريخ الماضين ، و فهمه ، و استنباط نصوصه و تفسيرها . و المؤرخ مهما أوتي من عبقرية لا يمكنه تدوين تاريخ -لم يعش أحداثه- من دون نصوص تاريخية ، لأن التاريخ لا يُستخرج من العقول .
__________
(1) نفسه ، ص: 549 .(17/65)
فإذا ما قال إنسان ما : إني سأكتب تاريخا لم أعاصره و لم أعش أحداثه ، و لم أعرفه ، من دون الرجوع إلى أية مصادر تاريخية ،و سأكتفي بعقلي فقط لاستخراج ذلك التاريخ و تدوينه . فهل في مقدوره فعل ذلك ؟ ، و هل نصدقه ؟ ، و هل الذي جاء به هو تاريخ ؟ . لا شك أنه لن يستطيع فعل ذلك ، و الذي جاء به ما هو إلا أوهام و أهواء ، و ظنون و أساطير . فهذا الذي أراد الطبري أن يقوله ، من أن تاريخ الماضين يُؤخذ من المصادر التاريخية ، و لا يُستخرج من العقول ، و موقفه هذا هو موقف عقلي صحيح ؛ فجاء الجابري و ادعى أن الطبري قال : إنه لا مجال للعقل في التاريخ . إن العقل وسيلة لفهم التاريخ و تدوينه و تفسيره ، و ليس مصدرا له ، اللهم إلا إذا أرخ الإنسان لنفسه ، أو لحوادث عاشها ، و في هذه الحالة يكون العقل وسيلة و مصدرا للتاريخ ، و مع هذا يبقى في حاجة إلى الوثائق و المصادر .
و الخطأ الرابع هو أن الجابري قال : (( و يمكن أن نظيف : إن دور المؤرخ ينحصر مثل دور جامع الحديث في ضبط السند إن أمكن ،و التحقق من صدق الراوي باللجوء إلى منهج المحدثين : التعديل و التجريح )) ، و قوله هذا كان عليه أن يُوثقه ، لأن الطبري لم يقله ، و لم أعثر على أي مؤرخ مسلم حصر عمل المؤرخ فيما قاله الجابري .(17/66)
كما أن قوله بأن عمل المؤرخ مثل جامع الحديث في ضبط الإسناد و ممارسة الجرح و التعديل ، فهو عمل لم يُمارسه المؤرخون المسلمون ، لأن كثيرا منهم كتبوا تواريخهم بلا إسناد-في الغالب الأعم- ، كالمسعودي ، و اليعقوبي ، و ابن الأثير ، و ابن الجوزي ، و الذهبي ، و ابن العماد الحنبلي ، و غيرهم . و الذين دونوا تواريخهم بالأسانيد ، فإنهم لم يضبطوا أسانيدها ، و لم يُحققوها جرحا و لا تعديلا ، كتاريخ الطبري مثلا ، فهو تاريخ مُسند لكن أسانيده غير محققة ، و كثير منها مملوء بالضعفاء و الكذابين ، مع كثرة الانقطاعات (1) .
و لا يُوجد في التاريخ الإسلامي-حسب علمي- كتاب تاريخي مُسند مُحققة أسانيده ، و لا متونه. فأين هؤلاء المؤرخون الذين اتبعوا منهج رجال الحديث في الجرح و التعديل ، عندما صنفوا تواريخهم ، على ما ادعاه الجابري ؟ . علما بأن منهج نقد الخبر عند المحدثين ، لا يقوم على نقد الأسانيد فقط ، كما زعم ذلك الجابري مرارا و تكرارا . و إنما هو منهج أقاموه على أساس نقد الأسانيد و المتون معا ، و قد بينا ذلك سابقا .
و أما الموضوع الثالث -من أخطاء الجابري في منهج النقد التاريخي- فيتعلق بمنهج النقد التاريخي عند ابن خلدون ، و سنتناوله عرضا و نقدا فيما يأتي :
أولا إنه -أي الجابري- قال : إن المؤرخين - البيان التاريخي- قبل ابن خلدون اعتمدوا كليا على النقل ، في جمع المادة و تحقيقها من حيث صدق رواتها ، فلم يكن هناك مجال للممارسة العقلية قبله (2) .
__________
(1) سنذكر نماذج كثيرة منها ، في الفصل الرابع ، إن شاء الله تعالى .
(2) بنية العقل العربي ، ص: 549 .(17/67)
و قوله هذا يتضمن ثلاثة أخطاء ، أولها إنه قال إن المؤرخين- و قد سماهم البيان التاريخي- اعتمدوا على النقل في جمع المادة التاريخية و تحقيقها جرحا و تعديلا ، و هذا غير صحيح ، لأنه لا يُوجد-حسب علمي- في كتب التاريخ المًسندة ، مؤرخ حقق أسانيد تاريخه ، فالذين كتبوا تواريخهم بالأسانيد كخليفة خياط في تاريخه ، و ابن سعد في طبقاته ،و البخاري في تاريخه و الطبري في تاريخه ، و الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ، و ابن عساكر في تاريخ دمشق ، هؤلاء كلهم دونوا تواريخهم بالأسانيد دون أن يحققوها في الغالب الأعم . فوجود الإسناد لا يعني أن الروايات محققة ، و إنما هو وسيلة للتوثيق من جهة ، و يمكننا من نقد الروايات من أسانيدها من جهة أخرى .
و الخطأ الثاني هو أنه -أي الجابري- ادعى أن مؤلفات المؤرخين قبل ابن خلدون لم يكن فيها مجال للممارسة العقلية في التدوين التاريخي . و هذا قول غير صحيح من وجهين ، الأول إننا إذا أخذنا بما قاله الجابري من أن المؤرخين قبل ابن خلدون حققوا أسانيد الروايات جرحا و تعديلا ، فهذا يتضمن حتما ممارسة للنقد التاريخي العقلي ، لأن نقد الإسناد يقوم على أسس منطقية ، و ممارسته يستلزم ممارسة عقلية عميقة ، كما سبق أن بيناه فيما تقدم .
و الوجه الثاني هو أنه إذا أخذنا بما ذكرناه من أنه لا توجد كتب تاريخية مسندة مُحققة أسانيدها ، فإنه وُجدت طائفة من كبار المؤرخين المسلمين كالذهبي ، و ابن كثير ، مارست نقد كثير من الروايات التي ذكرتها مُسندة (1) ، في كتبها غير المسندة في الغالب الأعم ؛ و بما أنها مارست نقد الأسانيد ، فإن عملها هو ممارسة نقدية عقلية بالضرورة .
__________
(1) للتوسع في ذلك راجع كتابنا : أخطاء ابن خلدون في كتابه المقدمة . و سنذكر بعضها قريبا .(17/68)
و آخرها - أي الخطأ الثالث- إنه-أي الجابري- أصدر حكما عاما يقول : إنه لم يكن للمؤرخين قبل ابن خلدون ممارسة عقلية في النقد التاريخي . و هذا قول غير صحيح على إطلاقه ، لأنه إذا كان يصدق على طائفة من المؤرخين كالطبري ، و ابن سعد ، و اليعقوبي ، فإنه لا يصدق على كل المؤرخين ، فقد وُجدت طائفة أخرى هي من كبار المؤرخين و النقاد ، كانت على دراية بمنهج النقد التاريخي ، و مارسته إسناد و متنا قبل ابن خلدون ، لكنها لم تتوسع فيه كثيرا ، و بعضهم توسع فيه أكثر من بعض ، منهم : الخطيب البغدادي(ت463ه)، و ابن الجوزي(ت597ه) ، و الشيخ ابن تيمية (1) (728ه) ، و الذهبي (ت 748ه) ، و ابن قيم الجوزية (2) (ت 751ه) ، و ابن كثير (ت774ه) . و يُعد الذهبي أكثر هؤلاء توسعا في نقد الروايات التاريخية ، فطبق عليها منهج النقد الحديثي في كتابه سيّر أعلام النبلاء ، و توسع فيه توسعا كبيرا ، إسنادا و متنا . و الشواهد على ما ذكرناه كثيرة جدا ، أذكر منها خمسة (3) ،
__________
(1) يُعد ابن تيمية من المؤرخين للفكر الإسلامي ، كما له كتب تهتم ببعض الحوادث التاريخي، منها : كتاب رأس الحسين ، و هو منشور و متداول بين أهل العلم ، و متوفر في شبكة الأنترنت بالمجان .
(2) يُعد هو أيضا من النقاد المؤرخين ، و قد كتب في السيرة النبوية ، تاريخ الفكر الإسلامي ، في كتابيه : زاد المعاد ، و الصواعق المرسلة على الجهمية و المعطلة .
(3) ذكرت منها نماذج كثيرة في كتابنا : أخطاء المؤرخ ابن خلدون في كتابه المقدمة ..(17/69)
أولها هي رواية نقدها الخطيب البغدادي مفادها أنه عندما ادعى اليهود ببغداد ( سنة 447ه) أن معهم كتابا من الرسول-صلى الله عليه وسلم-فيه أمر بإسقاط الجزية عن يهود خيبر ، بشهادة بعض الصحابة ؛ ثم حملوه إلى الوزير العباسي أبي القاسم علي(ت463 ه/1070م، فسلمه هو بدوره إلى الخطيب البغدادي فتأمله و قال : هذا مزوّر ، لأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان(ت60 ه ) و هو لم يسلم إلا في عام الفتح (سنة8ه ) ، وفتح خيبر كان في سنة 7ه .و فيه شهادة سعد بن معاذ ، وهو قد مات يوم بني قريضة قبل فتح خيبر بعامين ، فكشف بذلك تزوير اليهود للكتاب و فضحهم أمام الوزير (1) . فبنقده للمتن و اعتماده على قانون المطابقة -حسب التسلسل الزمني- تمكن الخطيب من كشف تزوير اليهود للكتاب.
و الشاهد الثاني يتضمن رواية نقدها المؤرخ ابن الجوزي ، مضمونها أن علي بن أبي طالب قال : (((( عبدت الله عز و جل ، مع رسول الله -صلى الله عليه و سلم-قبل أن يعبده رجل من هذه الأمة خمس سنين أو سبع )) ،و هذا الرواية عند ابن الجوزي باطلة ، لأن إسلام خديجة ،و أبي بكر الصديق ،و زيد بن حارثة-رضي الله عنهم- كان منذ الأيام الأولى للدعوة الإسلامية ، و ليس بعد شهور ، فما بالك بعد 5 أو 7 سنين (2) .
__________
(1) السخاوي : الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ، حقه فرانز روزنتال ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، د ت ، ص : 25 .
(2) ابن الجوزي : الموضوعات في الأحديث المرفوعات ، ط1 ، المدينة المنورة ، المكتبة السلفية ، 1966 ، ج 1 ص : 342 .(17/70)
و الشاهد الثالث يتضمن رواية نقدها الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، مضمونها أنه لما قُتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- رُوي أن السماء أمطرت دما ، و ما رُفع حجر في الدنيا إلا وجد تحته دم .و ظهرت في السماء حُمرة ثم اختفت بعد ذلك كلية (1) . فيرى ابن تيمية أن هذه أخبار غير صحيحة ، و أنكر كون السماء أمطرت دما ، لأن هذا الأمر لم يقع في قتل أحد ، فكيف يقع له فقط ؟ كما أن الادعاء بظهور الحمرة في السماء و اختفائها نهائيا فهو من الترهات (2) ؛ لأن الحمرة ما تزال و لم تختف نهائيا ، و هي سبب طبيعي من جهة الشمس فهي بمنزلة الشفق (3) .و القول بأنه ما رفع حجر في الدنيا إلا و وجد تحته دم فهو أيضا كذب بيّن (4) . و ابن تيمية في نقده لهذه الأخبار عن مقتل الحسين ، واضح أنه احتكم إلى العادة ،و السنن التي تسير عليها الظواهر الطبيعية , و هذا مظهر من مظاهر الاحتكام إلى قانون المطابقة على المستويين الاجتماعي و الطبيعي .
__________
(1) منهاج السنة ، ج 2 ص : 249-250 .
(2) الترهة هي الباطل ،و أصلها فارسي معرب . محمد بن أبي بكر الرازي : مختار الصحاح ، دار الهدى ، الجزائر ، 1990 ، ص : 57 .
(3) الشفق هو حمرة تظهر في الأفق وقت غروب الشمس . علي بن هادية : قاموس الطلاب الجديد ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، 1991، ص : 527 .
(4) ابن تيمية : المصدر السابق ج 2 ص : 249-250 .(17/71)
و الشاهد الرابع يتعلق برواية نقدها الذهبي ، مفادها أن زين العابدين علي بن الحسين اقترض مالا من الخليفة الأموي مروان بن الحكم ، فلما احتضر مروان أوصى بأن لا يُؤخذ منه -أي زين العابدين- ذلك المال . فقال الذهبي أن هذه الرواية لا تصح ، لأن إسنادها منقطع ، و متنها مردود ، لأن مروان بن الحكم لم يحتضر عندما مات ، لأن امرأته غمته بوسادة هي و جواريها فمات ، لأنها أضمرت له الشر عندما صرف الخلافة عن ابنها خالد بن يزيد إلى غيره من بني أمية (1) .
و آخرها -أي الشاهد الخامس- يتضمن رواية نقدها المؤرخ ابن كثير ، مفادها أن نهر النيل ينبع من مكان مرتفع اطلع عليه بعض الناس فرأى فيه هولا عظيما ، و جوار حسانا ،و أشياء غريبة ، و أن الذي اطلع على ذلك لا يمكنه الكلام بعد ذلك ، فقال ابن كثير إن هذه الرواية هي من خرافات المؤرخين ، و هذايانات الأفاكين (2) .
و ثانيا إنه ادعى أن التاريخ قبل ابن خلدون (ت808ه) لم يكن من العلوم الاستدلالية ، و إنما كان علم رواية و نقل ، كعلم الحدبث (3) . و قوله هذا يتضمن خطأين ، أولهما إنه ليس صحيحا بأن علم الحديث كان علم رواية و نقل ، و لم يكن علما استدلاليا ، لأن هذا العلم كان علم رواية و دراية ، قام أساسا على منهج نقدي عقلي ، محّص الروايات تمحيصا عقليا ، جمع فيه بين نقد الأسانيد و المتون معا ، على ما سبق أن بيناه .
و ثانيهما إن حكمه العام على التاريخ ، بأنه كان علم رواية و نقل فقط ، هو حكم لا يصدق على كل المؤرخين المسلمين ، لأنه وُجدت طائفة من كبار نُقاد الحديث و التاريخ ، مارست النقد التاريخي الاستدلالي البرهاني ، مستخدمة منهج نقد الخبر الحديثي ، و طبّقته على روايات تاريخية كثيرة ، ذكرنا منها طرفا آنفا .
__________
(1) سيّر أعلام النبلاء ، ج 3 ص: 479 ، ج4 ص: 390 .
(2) ابن كثير : البداية ، ج1 ص: 27 .
(3) التراث و الحداثة ، ص:319 .(17/72)
و ثالثا إن الجابري ادعى أن التاريخ منهجا و رواية تغير تماما على يد ابن خلدون ، و أصبح منهجه النقدي يقوم على طائفة من المقومات ، منها : الاحتكام إلى طبائع العمران ،و التفريق بين الخبر الشرعي الذي يكفي فيه الجرح و التعديل ، و الخبر البشري الذي لا يكفي فيه ذلك ، و لا بد من عرضه على قانون المطابقة حسب طبائع العمران البشري (1) .
و قوله هذا يتضمن مجموعة أخطاء ، أولها إن منهج النقد التاريخي عند ابن خلدون لم يتغير إلى الأحسن أصلا ، لأن منهج نقد الخبر كان موجودا قبله بشكل كامل ، ضبطا و تقعيدا ، فعمد إليه ابن خلدون فجزّأه و أخذ منه جانب نقد المتن و ضخّمه و بالغ فيه ، و أهمل جانب نقد الإسناد و قزّمه ، فشوّه بذلك منهج نقد الخبر ، و لم يأت بشيء جديد صحيح من عنده ، الأمر الذي يدل على أن ابن خلدون لم تكن له معرفة كافية بمنهج نقد الخبر ، و لم تكن له دراية تطبيقية بطريقته النقدية (2) .
و أما عمله في منهج النقد التاريخي على المستوى التطبيقي ، فإن ابن خلدون لم يُقدم لنا عملا جديدا له قيمة كبيرة ، لأن معظم الروايات التي انتقد فيها بعض المؤرخين السابقين كما ذكرها في المقدمة ، سبقه إلى نقدها نقاد آخرون (3) .و في كتابه العبر لم يلتزم فيه بتطبيق منهجه -الناقص- الذي عرضه في المقدمة ، فجاء معظم كتابه عاديا تقليديا ، فيه كثير من الأخطاء (4) .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 549 ، 550 .
(2) للتأكد من ذلك بالشواهد القاطعة أنظر كتابنا : أخطاء المؤرخ ابن خلدون في كتابه المقدمة ، ص: 9 و ما بعدها .
(3) انظر : نفس المرجع ، ص: 62 ، و ما بعدها .
(4) للتوسع أنظر : نفس المرجع ، ص: 117 و ما بعدها .(17/73)
و الخطأ الثاني هو أن ما ذكره الجابري من قواعد المنهج النقدي الخلدوني ، كقانون المطابقة ، و الاحتكام إلى طبائع العمران ، هو أمر ليس جديدا أصلا ، فقد كانت معروفة ، استخدمها بعض كبار النقاد من الحفاظ و المؤرخين المسلمين ، كالخطيب البغدادي ، و ابن الجوزي ، و ابن تيمية ، و الذهبي ، و ابن كثير ، و قد ذكرنا فيما تقدم آنفا خمسة شواهد على ذلك ، من باب التمثيل لا الحصر (1) . حتى أن المحقق ابن قيم الجوزية خصص كتابه: نقد المنقول لتمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة ، من خلال نقد المتون فقط ، أورد فيه جملة من القواعد النقدية الهامة مدعمة بالأمثلة التطبيقية ، كانت من بينها قواعد ذكرها ابن خلدون في مقدمته ، كالاحتكام إلى المشاهدة و التجربة ، مع العلم أنه عندما تُوفي ابن القيم سنة 751ه ، كان لابن خلدون نحو21 سنة ، و هو لم يشرع في تدوين العبر بمقدمته إلا سنة 776هجرية (2) .
و الخطأ الثالث يتمثل في أن الجابري لم يتنبه لخطأ ابن خلدون -إضافة إلى الأخطاء الأخرى- في تفريقه بين الخبر الشرعي و الخبر البشري من حيث النقد التاريخي ، فخص الأول بالنقد الإسنادي - الجرح و التعديل- ، و خصّ الثاني بالنقد المتني ، و هذا تفريق غير صحيح ، لأمرين أساسيين ، أولهما هو أن علماء الحديث ، أخضعوا الحديث النبوي للتحقيق إسنادا و متنا ، و لم يُخضعوه للنقد الإسنادي فقط ، و منهجهم الذي ذكرنا طرفا منه شاهد على ذلك . كما أن كبار النقاد من الحُفاظ و المؤرخين ، الذين نقدوا الروايات التاريخية ، طبقوا عليها نفس منهج نقد الخبر الحديثي ، على مستوى الأسانيد و المتون معا ، من دون أن يُفرقوا بين نقد الإسناد و المتن ، و لا بين الخبر الشرعي و الخبر البشري من حيث طريقة النقد و جوانبه (3) .
__________
(1) للتوسع أنظر : نفس المرجع ، ص: 32 و ما بعدها .
(2) نفس المرجع ، ص: 4 .
(3) سبق أن ذكرنا شواهد على ذلك .(17/74)
و الأمر الثاني هو أنه لا يُوجد فرق بين الخبر الشرعي و الخبر البشري ، من صيغة الورود ، و إنما الفرق هو في الشخص القائل أو الفاعل ، من حيث : هل القائل و الفاعل هو نبي ، أم هو إنسان عادي ؟ ، فعندما يقول المحدث مثلا : حدثنا سفيان الثوري ، قال : حدثنا الحسن البصري ، عن ابن عباس ، أن رسول الله -عليه الصلاة و السلام- قال : ... . و عندما يقول المؤرخ مثلا : حدثنا عمر بن شبة ، قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا الشافعي ، أن هارون الرشيد قال : .. . فلا يُوجد أي فرق بين المثالين من حيث طريقة و صيغة ورود الخبرين ، و نستطيع أن نُخضعهما للنقد و التمحيص ، بمنهج واحد ، هو منهج المحدثين .
كما أنه لا يغيب عنا أن مضمون الخبر من حيث الإنشاء و الإخبار ، لا تأثير له على صيغة الورود ، لأن ابن خلدون ذكر أن الغالب على الخبر الشرعي الإنشاء لا الخبر (1) -من حيث تقسيم الكلام- ، و هذا أمر لا دخل له في مبرر تقسيم الخبر إلى شرعي و بشري ، على رأي ابن خلدون ، لأن كلا من الخبرين يتضمن بالضرورة إنشاء و خبرا ، أو أحدهما ، وفي أية حالة ورد فيها إلينا الخبر ، تكون هذه الرواية خبرا ، و بمعنى آخر ، فإن هذه الرواية إما أن تُخبرنا بإنشاء و خبر ، و إما أنها تخبرنا بأحدهما . و بناء على ذلك فإن النقد التاريخي ليكون كاملا ، فلا بد من نقد الخبر بنوعيه ، إسنادا و متنا ، و ليس كما قال ابن خلدون و وافقه عليه الجابري .
و رابعا هو إن الجابري ادعى أن ابن خلدون أراد أن يجعل من التاريخ علما ، بتأسيسه على البرهان ، فنجح في ذلك باختراع منطق أو طريقة برهانية ، لتطبيقها في ميدان التاريخ ، و بذلك (( نجح ابن خلدون في اكتشاف علم جديد ، يصلح أن يكون -على الأقل من وجهة نظره- معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق و الصواب فيما ينقلونه )) (2) .
__________
(1) مقدمة ابن خلدون ، ط 1، دار الكتب العلمية ، 1993 ، ص: 29 .
(2) بنية العقل ، ص: 548 .(17/75)
و ردا عليه أقول : إن التاريخ كعلم و منهج ، كان معروفا قبل ابن خلدون ، و ليس هو الذي اكتشفه ، لأن التاريخ كعلم موضوعه الأخبار ، كان معروفا قبل ابن خلدون ، لذا وجدنا العلماء كتبوا فيه مصنفات كثيرة ، كطبقات ابن سعد ، و تاريخ البخاري ، و تاريخ الطبري ، و بعضهم سماه صراحة : علم التاريخ ، كما فعل الفقيه المؤرخ ابن خلكان (ت 665ه) ، في كتابه وفيات الأعيان ، فقد سماه علم التاريخ أكثر من مرة (1) .
و أما من حيث المنهج ، فإن المنهج التاريخي النقدي كان جاهزا كاملا ، و هو منهج نقد الخبر عند المحدثين ، أقاموه على أسس منطقية لنقد الأسانيد و المتون معا ، الحديثية منها و التاريخية على حد سواء ، لذا وجدنا طائفة من الحفاظ و المؤرخين يستخدمون هذا المنهج في نقد الروايات التاريخية ، كما فعل ابن الجوزي ، و ابن تيمية ، و الذهبي ، و ابن كثير ، و غيرهم . و عليه فإن المنهج التاريخي النقدي كان موجودا و صالحا للتطبيق على الحديث و التاريخ معا ، غير أنه لم يُتوسع في تطبيقه على التاريخ ، الأمر الذي يُثبت أن دعوى اكتشاف ابن خلدون لعلم التاريخ و منهجه دعوى غير صحيحة .
و أما دعوى الجابري بأن ابن خلدون اكتشف علما أقامه على البرهان ، فهي أيضا دعوى غير صحيحة ، لأن منهج نقد الخبر كان موجودا و مُبرهنا بطريقة منطقية محكمة . و الذي فعله ابن خلدون هو أنه جزّأ المنهج إلى قسمين ، بالغ في أحدهما ، و أنقص من الآخر ، و لم يأت بشيء جديد صحيح ، يتعلق بمكونات ذلك المنهج تحسينا و لا تطويرا.
__________
(1) و فيات الأعيان ، حققه إحسان عباس ، دار صادر ، بيروت ،دت ج 4 ص: 120 ، ج 7 ص: 123، 217(17/76)
و أما قوله بأن ابن خلدون اكتشف علما جديدا يصلح أن يكون- على الأقل من وجهة نظر ابن خلدون- معيارا صحيحا للنقد التاريخي ، فهو قول غير صحيح ، لأن ابن خلدون لم يكتشف علم التاريخ ولا منهجه النقدي ، و إنما اكتشف علم العمران البشري ، بمعنى أنه أول من اكتشفه بالنسبة إلى غيره من العلماء، و إلا فإن القرآن الكريم أشار إليه مرارا ، و ذكر كثيرا من سننه قبل أن يؤلف ابن خلدون مقدمته بأكثر من 750 سنة (1) . و هذا العلم الجديد يدرس ظواهر العمران البشري و السنن المتحكمة فيه ، و ليس هو معيارا لنقد الروايات التاريخية ، و إنما هو نفسه ميدانا لتطبيق منهج النقد التاريخي على ظواهره .
و يتبين من انتقاداتنا لموقف الجابري من منهج النقد التاريخي الخلدوني ، أن قوله بأن النظرة التاريخية الخلدونية كانت (( نظرة جديدة تماما ليس على الفكر البياني وحده ، بل على الفكر الإنساني بإطلاق )) (2) هو قول غير صحيح تماما ، فيما يتعلق بمنهج النقد التاريخي ، الذي أثبتنا بالأدلة القاطعة و الكثيرة ، بأنه كان موجودا قبل ابن خلدون ، فجاء هو و جزّأه و لم يُوفيه حقه .
و ختاما لما ذكرناه في ها الفصل ، يتبين جليا أن محمد أركون وقع في أخطاء منهجية كثيرة في ممارسته للكتابة العلمية ، لم يلتزم فيها بالمنهجية الصحيحة في دراساته عن الإسلام و أهله ، كاعتماده الأساسي على المراجع الاستشراقية ، و إهماله للمصادر الإسلامية كلية تقريبا . و عدم التوثيق أصلا ، في مواضع كثيرة من مؤلفاته . مع استخدامه للمغالطات و التدليسات ، و وقوعه في المبالغات و التهويلات في كثير من أحكامه و مواقفه .
__________
(1) أخطاء المؤرخ ابن خلدون في كتابه المقدمة ، ص: 170 و ما بعدها .
(2) بنية العقل العربي ، ص: 552 .(17/77)
و تبين أيضا إنه-أي أركون- وقع في أخطاء أخرى كثيرة ، تتعلق بنظرته إلى منهج النقد التاريخي ، و ممارسته له . فجاءت نظرته هذه ناقصة ، و مُشوّهة و خاطئة في كثير من جوانبها ، لقلة معرفته بمنهج نقد الخبر عند المحدثين ، و لتأثره بالمستشرقين ، و تعصبه لفكره ، و مبالغته في الاعتداد بنفسه .
و أما محمد عابد الجابري فتبين أنه هو أيضا وقع في أخطاء منهجية كثيرة في ممارسته للكتابة العلمية ، كعدم توثيقه لكثير من الأخبار التي أوردها في مؤلفاته . و إهماله توثيق و تحقيق أحاديث نبوية كثيرة جدا .و اعتماده الأساسي على كتاب الإمامة و السياسة في مسألتي الخلافة و الفتنة الكبرى ، مع أنه كتاب مطعون فيه ، مملوء بالأخطاء ، و مجهول مؤلفه .
و تبين أيضا أن الجابري لم يكن موفقا في نظرته إلى منهج النقد التاريخي عند المسلمين ، فوقع في أخطاء كثيرة ، في موقفه من نقد الأسانيد و المتون عند المحدثين ، و عبد الرحمن بن خلدون . فجاءت نظرته غير صحيحة في الغالب الأعم ، لمبالغته في تقزيم منهج المحدثين ، و تعظيمه لمنهج النقد الخلدوني الناقص . فاتفقت نظرته هذه مع نظرة أركون في الحط على منهج نقد الخبر عند المحدثين ، و المبالغة في مدح منهج النقد الخلدوني بما ليس فيه .
...........................................................................................
الفصل الثاني
الأخطاء المنهجية المتعلقة بالقرآن و الشريعة و علم الكلام و الفلسفة
- في مؤلفات أركون و الجابري-
أولا : الأخطاء المتعلقة بالنظر إلى القرآن و فهمه و التعامل معه
ثانيا : الأخطاء المتعلقة بالشريعة و الفقه
ثالثا : الأخطاء المتعلقة بأصول الدين
رابعا :الأخطاء المتعلقة بالفلسفة
خامسا : أخطاء الجابري في نظرته إلى المدرسة المغربية الأندلسية و أهل الحديث
................................................................................
الفصل الثاني(17/78)
الأخطاء المنهجية المتعلقة بالقرآن و الشريعة و علم الكلام و الفلسفة
- في مؤلفات أركون و الجابري-
نتناول في هذا الفصل طائفة من الأخطاء الواردة في مؤلفات الباحثيّن محمد أركون ، و محمد عابد الجابري ، التي تتعلق بطريقة النظر و الفهم ، و التعامل مع القضايا و المفاهيم المتعلقة بالقرآن و الشريعة ،و علم الكلام و الفلسفة ، نتطرق إليها تباعا بحول الله تعالى .
أولا : الأخطاء المتعلقة بالنظر إلى القرآن و فهمه و التعامل معه :
وقع كل من أركون و الجابري في أخطاء كثيرة ، في نظرتهما إلى القرآن الكريم و فهمهما له ، و تعاملهما معه ، أذكر منها طائفة ، ففيما يخص أركون فسأذكر أخطاءه في سبع مجموعات ، أولها تتضمن أخطاء تتعلق بما سماه أركون : منهج التاريخية ، و هو منهج أكثر أركون من ترديده و الاعتداد به في دراساته التاريخية عن القرآن و السنة ، و مفاده -حسب أركون- أن كل شيء في الحياة -بما فيه القرآن- محكوم بظروفه التاريخية الزمانية و المكانية التي ظهر فيها ، فلا يتجاوزها ،و لا يخرج عن قيودها الصارمة ، فكل (( شيء مشروط بتاريخيته أو بلحظته التاريخية التي ظهر فيها )) (1) .
__________
(1) أركون : الفكر الأصولي و استحالة التأصيل ، ص: 193 .(17/79)
و قوله هذا فيه جانب كبير من الصحة ، لأن الأصل في حياة البشر هو أنهم محكومون بظروف عصرهم في أفكارهم و سلوكياتهم ، لكن هذا ليس أمرا حتميا يحكم الناس بجبرية مطلقة ، فكثيرا ما يستطيع الإنسان تحدي ظروفه ،و يتفاعل معها فكريا و عمليا ، و يتجاوز زمانه ، و تعيش أفكاره و أعماله من بعده زمنا طويلا ، و هذا ما حدث على أيدي الأنبياء ، -عليهم السلام- و المصلحين و العلماء . و الغرب اليوم ما يزال يعيش على كثير من أفكار عصر النهضة ، و الثورة الفرنسية ، و الرأسمالية بعد أكثر من قرنين من ظهورها . فإذا كان ذلك واقعا معروفا ، فليس غريبا أن يتحدى الإسلام -منذ ظهوره- التاريخية التي ظهر فيها ، و يتجاوزها برسالته الربانية الخالدة التي جاء بها محمد رسول الله-عليه الصلاة و السلام- ، قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } - سورة الأنبياء/107-، و {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} -سورة آل عمران/19-، و {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} - سورة آل عمران/85- .
و أركون يستنكر الصورة الشائعة عن الإسلام في عصرنا الحالي ، من أنه لا تاريخي يستعصي على التاريخية ، و هي صورة زعم أركون أن المسلمين و المستشرقين هم الذين روجوها (1) .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 197 ، 198 .(17/80)
و قوله هذا فيه مغالطة ، و إنكار لحقيقة الإسلام ، لأن الذي نص على عدم تاريخية الإسلام ، ليس المسلمون و لا المستشرقون ، و إنما الإسلام نفسه هو الذي نص على ذلك و أكده ، فكتاب الله تعالى نص صراحة على أن محمدا رسول الله إلى العالمين ، و أنه خاتم الأنبياء و المرسلين ، و رسالته هي الرسالة الخاتمة ، من جحدها فلن يقبل الله منه . فهذه الأمور معروفة من دين الإسلام بالضرورة ، و هي التي جعلته لا تاريخيا ، يتحدى تاريخية أركون و كل التاريخيات التي ظهر فيها و عاصرته طوال أكثر من 14 قرنا ، و دين تلك هي صفاته فلا بد أن يتحدى كل التاريخيات .
و يرى أيضا-أي أركون- أن المسلمين في استشهادهم بالقرآن و الحديث ، يُخرجون المقطع المُستشهد به من سياقه اللغوي ، و من الحالة التي نُطق فيهيا لأول مرة ، إلى درجة تفتيت المضمون المعنوي للمقطع المُستشهد به ، في حين أن (( الاستشهاد يفترض زمكانا -زمان و مكان- متناغما منسجما بالخيال و بالعقل الديني )) (1) .
و قوله هذا هو أيضا غير صحيح ، و فيه أوهام ، لأن أحكام القرآن و مفاهيمه و عقائده ، هي في الأصل ثابتة مطلقة عامة ، ليست مرتبطة بأسباب النزول التي نزلت فيها ، لأن الإسلام بما أنه خاتم الرسالات و إلى البشرية جمعاء ، يستلزم حتما أن لا تكون أحكامه مرتبطة بالظروف التي ظهرت فيها : زمانا و مكانا ، بحيث تبقى ببقائها ، و تزول بزوالها ، لذا فإن، دين الإسلام خالد بأحكامه و عقائده ، و أخلاقه و مفاهيمه ، و إن زالت الظروف التي ظهر فيها .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص : 261 .(17/81)
كما أن زعمه بأن الاستشهاد بالنص يستلزم زمكانا خاصا ، هو زعم غير صحيح في الغالب الأعم ، لأن الأحكام و الأوامر و الشريعة عامة ، بعدما نزلت تجرّدت عن الملابسات الزمانية و المكانية ، التي كانت تُحيط بها ، لذا فإن من المعروف في الأصول : أن العبرة بعموم اللفظ و ليس بخصوص السبب . و مثال ذلك أسباب نزول آيات تحريم الحمر ، فالتحريم لم يكن مرتبطا بالظروف ، و إنما كان مرتبطا بفعل شرب الخمر ، فالتحريم نزل في ظروف معينة ، فزالت هذه الظروف و بقي التحريم قائما مستمرا مرتبطا بشرب الخمر ، و ليس بالظروف الزمانية و المكانية التي ظهر فيها . و نفس الأمر يُقال عن تحريم الزنا و السرقة ، و باقي الأحكام الشرعية ، اللهم إلا الأحكام التي نص الشرع على أنها كانت ظرفية ثم نُسخت ، أو أنها كانت خاصة برسول الله -عليه الصلاة و السلام .
و أما حكاية الخيال و العقل الديني ، فهذا وهم و ظن، لأن المسلم يتلقى الأحكام الشرعية من الكتاب و السنة الصحيحة ، و لا دخل لحكاية الخيال و المخيال ، و العقل الديني . اللهم إلا في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها ، فإن العالم المسلم يجتهد للوصول إلى الحكم الشرعي ، معتمدا على الشرع أولا ، ثم العقل ثانيا ، و لا يعتمد على الأوهام و الأهواء ، و الخيالات ، و هذا أمر جاء به الشرع و حث عليه ، و مارسه علماء الإسلام منذ ظهور الإسلام إلى يومنا هذا .
و مما له علاقة بموضوع التاريخية ، إنه-أي أركون- وصف مقولة : (( الإسلام صالح لكل زمان و مكان )) ، بأنها صرامة عقائدية جامدة للتصورات القديمة الموروثة عن الإسلام ، الأمر الذي جعله مستعصيا على التاريخ ، لأنه فوق الزمن و الواقع التاريخي (1) .
__________
(1) الإسلام ، أوروبا ، ص: 13 .(17/82)
و قوله هذا هو أيضا باطل ، لأن مقولة : (( الإسلام صالح لكل زمان و مكان ))، هي مقولة صحيحة من صميم الإسلام ، معروفة منه بالضرورة ، و ليس من مقولات المسلمين التي لا أصل لها ، و إنما هي مقولة استنبطوها من دين الإسلام نفسه ، لأن ختم الرسالات الإلهية بنبوة محمد -عليه الصلاة و السلام- ،و شمولية رسالته لعالمي الإنس و الجن ، يستلزم بالضرورة القول بأن : الإسلام صالح لكل زمان و مكان .
و مما ينقض مزاعم أركون أيضا ، هو أن الإسلام حاز على الصلاحية المطلقة بأمرين هامين ، الأول هو ثبات الإسلام بأصوله في العقائد و الأخلاق ، و المفاهيم و الأحكام الشرعية ، و هي التي حمته من الذوبان و التلاشي ، و هي التي أزعجت أركون أيضا عندما سماها : صرامة عقائدية جامدة ، فجعل الحق باطلا ، و الإيجابي سلبيا ، تعصبا منه على الإسلام .
و الأمر الثاني هو أن الإسلام بكثير من أحكامه العامة غير المفصلة ، و بتشريعه للاجتهاد و حثه عليه ، استطاع أن يُواكب التطورات التاريخية في كل المجالات ، و تعامل معها بمرونة و إيجابية شرعية ، و بذلك استعصى الإسلام على تاريخية أركون .(17/83)
و إضافة إلى ما ذكرناه -عن تاريخية أركون- فإن هذا الرجل متناقض مع نفسه في تعامله مع القرآن الكريم ، و إصراره على تطبيق التاريخية عليه ، فهو أولا سبق أن ذكرنا أنه زعم بأن القرآن محكوم بتاريخيته و لحظة ظهوره ، و هذا يعني أنه محكوم بالظرفين الزماني و المكاني ، لا يتجاوزهما مطلقا ، لكنه من جهة أخرى نجده يعترف بأن من خصائص القرآن الأساسية ، قابليته على توليد و إعطاء المعاني باستمرار (1) . فهذا اعتراف منه بأن القرآن من خصائصه القدرة على العطاء المستمر ، و هذه الخاصية-هي بلا شك- ، من أهم خصائصه في استعصائه على التاريخية ، و قدرته على المواكبة و الإيجابية ،و الاستمرارية و العطاء ، و هو أمر مما يُبطل محاولات أركون الرامية إلى فرض التاريخية على القرآن الكريم .
و ثانيا إنه اعترف بأن القرآن (2) يطرح على علماء العلوم الإنسانية تحديات ، عليهم أن يرتفعوا إلى مستواها ، أو يردوا عليها (3) . فهذا اعتراف خطير منه ، و كلمة حق قالها ، تُعبر عن تحدي القرآن للإنسان . و اعترافه هذا ينقض عليه زعمه بخضوع القرآن للتاريخية ، فلو كان يخضع لها ما تحدى العرب الذين نزل فيهم القرآن ، و ما استطاع أن يتحدى العالم بأسره إلى يومنا هذا . فهل كتاب هذا حاله يُقال فيه بأنه خاضع لحتمية التاريخية المزعومة ؟ .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 274 .
(2) لم يسم أركون القرآن باسمه ، و إنما سماه : الخطاب النبوي . الفكر الأصولي ، ص: 71 . و هذه هي عادته في تحريفه للمصطلحات الشرعية ،و غروره بكثرة استخدام المصطلحات .
(3) نفسه ، ص: 71 .(17/84)
و ختاما لموضوع التاريخية أقول : أولا إن القرآن الكريم أشار إلى وجود التاريخية التي تحكم التاريخ البشري ، عندما أخبرنا بأن الله تعالى أنزل كتبا و شرائع كثيرة على أقوام كثيرين في التاريخ ، لم يجعلها فيهم خالدة ، و إنما جعلها محدودة الزمان و المكان ، كقوله تعالى : -{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} - سورة المائدة/48- . ثم أشار من جهة أخرى إلى اللاتاريخية عندما ختم رسالاته السموية بنبوة رسوله محمد -عليه الصلاة و السلام- ، و جعل شريعته هي الشريعة الخاتمة الخالدة التي تصلح لكل زمان و مكان .
و ثانيا إن القرآن الكريم أشار إلى التاريخية عندما خاطب الكفار بأن الله أرسل إليهم رسوله محمدا-صلى الله عليه وسلم- برهانا و آية لهم ، فهو بشر مثلهم يأكل الطعام و يمشي في الأسواق ، لكنه مع ذلك يختلف عنهم بأنه رسوله إليهم ، قال تعالى : -{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} - سورة الكهف/110- . و أنزل عليه كتابه المعجز الذي تحداهم به بأن يأتوا بمثله ، فعجزوا عن رد التحدي ، الذي ما يزال قائما إلى يومنا هذا ، و إلى أن يقوم الناس إلى رب العالمين . و بذلك يكون القرآن الكريم قد أشار إلى التاريخية من خلال جوانب من حياة الرسول-عليه الصلاة و السلام- ،و أشار إلى اللاتاريخية في نبوته و دعوته و رسالته الخالدة ، ليُثبت بذلك صدق نبوة رسوله ، باستخدامه للتاريخية لإثبات لا تاريخية القرآن الكريم ، و نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- .(17/85)
و ثالثا فإن من مظاهر لا تاريخية القرآن إنه اخترق الزمان و المكان و المجاهيل ، فاخترق تاريخ الكون و الإنسان ، من النشأة إلى زمن الرسول-عليه الصلاة و السلام .و اخترق المستقبل عندما تكلم عن مستقبل الكون و الإنسان و مصيرهما . و اخترق المجاهيل عندما تكلم عن طبيعيات الفضاء و الأرض ،و أحوال الجنين في بطن أمه ، تكلّم عن كل ذلك بطريقة علمية معجزة مذهلة ، في زمن كانت تُسيطر عليه الخرافات و الأساطير ، و الأوهام و الظنون و التجريدات ، فلم يقع في أخطاء ذلك الزمن، و لم يكن صدى له ، و جاء بما لم يكتشفه الإنسان إلا بعد الثورة العلمية في القرن 19 و ما بعده . و قد صُنفت في ذلك الموضوع كتب كثيرة متخصصة ، و أصبح من الأمور الثابتة المسلم بها ، و قد أُنشئت له هيئة عالمية رسمية مقرها بمكة المكرمة ، تولت الاهتمام بالإعجاز العلمي في الكتاب و السنة ، على أيدي نخبة من كبار العلماء المسلمين المختصين في مختلف العلوم الحديثة .(17/86)
و من اختراقاته أيضا إنه اخترق مستقبل العلاقات بين المسلمين و أهل الكتاب ، فقد تكلم عنها القرآن الكريم صراحة في قوله تعالى : -{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} - سورة البقرة/120-، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} -سورة المائدة/51-. و قد تحقق ذلك في الماضي و الحاضر ، ابتداء من زمن النبوة إلى عصر العولمة الغربية ، مرورا بالحروب الصليبية و الاستعمار الحديث ، و النصارى هم الذين فعلوا ذلك ، و هم الذين صنعوا دولة اليهود ، و هم الذين يحمونها ،و يتعاونون معها ، و يُدافعون عنها ، و يفرضون على المسلمين شروطهم بالتعاون مع اليهود ، أمام ضعف المسلمين و سلبيتهم و خوفهم و ابتعادهم عن دينهم مصدر عزتهم . فاليهود و النصارى متعاونون فيما بينهم على ضرب الإسلام و المسلمين ، و هذا الذي نص عليه القرآن في تاريخه المستقبلي و تحقق فعليا ، الأمر الذي يُؤكد مرة أخرى على لا تاريخية القرآن التي حرص أركون على نفيها مرارا و تكرارا .(17/87)
و أما المجموعة الثانية فتتضمن أخطاء تتعلق بنظرة أركون إلى القرآن الكريم ، و العهدين القديم و الجديد -التوراة و الأناجيل- ، منها إنه دعا إلى تطبيق المنهج النقدي التاريخي الغربي على القرآن الكريم ، كما طُبق على التوراة و الأناجيل في الغرب .و أكد على ضرورة تطبيقه على كل الأديان دون استثناء أي دين ، بدعوى أنه إلهي منزل ، و غيره بشري زائل .و قال عن نفسه : إنه كان يطمح بأن يُخضع الإسلام للدراسة و الأشكلة - أي إثارة الإشكالات و الشبهات حوله- ، بالاعتماد على نتائج العلوم الإنسانية على غرار ما حدث للمسيحية في أوروبا (1) .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 22، 25 . و القرآن ، ص: 10 ، 16 .(17/88)
و قوله هذا يتضمن أخطاء و مغالطات ، منها أنه أظهر أن ما قاله كأنه أمر جديد و أنه حريص على تطبيقه ، و أن القرآن لا بد من إخضاعه للنقد كغيره من كتب الأديان الأخرى ، و كأن المسلمين منعوا و رفضوا من أن يُخضع القرآن للدراسة العلمية الموضوعية الحيادية . و زعمه هذا باطل من أساسه ، و مردود عليه ، لأنه أولا : إن القرآن الكريم هو نفسه- منذ نزوله- دعا الإنس و الجن إلى دراسته و تدبره ، و تحداهم بأن يأتوا بمثله ، و أكد لهم بأنهم لن يأتوا بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، قال تعالى : -{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} - سورة الإسراء/88-، و{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} -سورة البقرة /23-. و هذا التحدي هو في ذاته دعوة بقوة و دافعية إلى دراسته و الرد عليه و انتقاده ، دعوة منه إلى كل من استطاع إلى ذلك سبيلا ، و التحدي ما يزال قائما إلى يومنا هذا ، لم يستطع أركون و شيوخه الرد عليه ، و هو قد اعترف بذلك -من حيث لا يريد- بأن القرآن يطرح على علماء العلوم الإنسانية تحديات ، عليهم أن يرتفعوا إلى مستواها ، أو يردوا عليها (1) .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 71 .(17/89)
و ثانيا إن أركون يُغالط القراء عندما دعا إلى إخضاع القرآن للدراسة النقدية العلمية ، و كأن الأمر جديد على القرآن فلم يُدرس بعد دراسة علمية نقدية . و تناسى أن القرآن الكريم هو أول كتاب وحي خضع للنقد و التمحيص منذ أكثر من 14 قرنا ، و العملية ما تزال مستمرة إلى يومنا هذا . و ذلك أن كفار قريش و من معهم بذلوا كل ما في وسعهم للرد على القرآن ، و إثبات بشريته ، فطعنوا فيه ، و اتهموا رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ، بمختلف التهم ، و قالوا : إن القرآن سحر ، و شعر ، و أساطير الأوليين ... لكنهم فشلوا في إثبات دعاويهم و شبهاتهم ، و باءت مساعيهم بالفشل الذريع . و كذلك اليهود ، فلم يقدروا على الرد على القرآن ، و نفي مصدريته الإلهية ، فهم مع شدة عداوتهم للإسلام و المسلمين ، فلم يجدوا طريقا للطعن في القرآن الكريم ، و لو وجدوا إلى ذلك سبيلا ما تركوه ،. و التاريخ الثابت و المتواتر شاهد على أن المشركين و اليهود فشلوا في الرد على القرآن فشلا ذريعا .(17/90)
و قد استمرت تلك العملية خلال العصر الإسلامي ، فقد شن الزنادقة من أهل الذمة من يهود و نصارى و مجوس حربا شرسة على الإسلام ، و طعنوا في القرآن بمختلف الوسائل ، و كانت لهم مناظرات مع علماء الإسلام بالمشرق الإسلامي و مغربه ، لكن محاولاتهم باءت كلها بالفشل الذريع (1) . و في العصر الحديث ، دشن الغرب حملة جديدة شرسة للطعن في القرآن و إنكار مصدريته الإلهية ، قام بها المنصرون و المستشرقون و تلامذتهم ، منذ أكثر من قرنين من الزمن ، و ما تزال العملية مستمرة بوسائل جديدة ، كالفضائيات و الأنترنت ، تُشرف عليها مؤسسات كنسية ، و يهودية ، و استشراقية ، و استعمارية ، و استخباراتية ، و هذا أمر ثابت مُشاهد لا يحتاج إلى توثيق .
__________
(1) سجل ابن حزم طرفا من المجادلات و المناظرات التي كانت تجري بين المسلمين و النصارى في كتابه الفصل في الملل و الأهواء و النحل . و سجل بعض ذلك أيضا ابن تيمية في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح . و سنذكر لاحقا بعض كبار علماء النصارى الذين كانوا يطعنون في القرآن بدمشق زمن الدولة الأموية .(17/91)
و ثالثا إن أركون يضحك على القراء و يدلس عليهم ، عندما زعم أنه كان يطمح أن يقوم بنفسه بإخضاع القرآن لمنهج النقد التاريخي الغربي ، قال هذا في كتابه : القرآن : من التفسير الموروث ، إلى تحليل الخطاب الديني ، الذي أصدر طبعته العربية الأولى سنة 2001 ، مما يعني أنه لم يقم بعد بهذه المهمة ، و هذا تدليس و تغليط لأن أعماله الفكرية التي قام منذ أكثر من ثلاثين سنة ، تشهد كلها على أنها تخدم هذا المشروع ، ومنها : تاريخية الفكر العربي ، الذي كان يحمل عنوان : نقد العقل الإسلامي ، و الفكر الإسلامي ، و قراءات في القرآن ، و غيرها من الأبحاث الأركونية ، و مع ذلك لم ينجح في تحقيق ذلك المشروع المزعوم ، و أعماله التي بين أيدينا شاهدة على ذلك ، فهي مملوءة بالشكوك و الشبهات ، و الأوهام و الخرافات ، و تسفيه المخالفين ، و هي أبعد ما تكون عن الكتابة العلمية الموضوعية الصحيحة . و سنتوسع في إثبات ذلك بالأدلة الدامغة في الفصول الآتية من كتابنا هذا ، إن شاء الله تعالى .
و من أخطائه أيضا ، إنه لا يفرق بين الإسلام و اليهودية و النصرانية في نظرته إلى هذه الأديان ، فهي كلها أديان توحيدية متساوية يجب إخضاعها لمنهج واحد في دراستها . و أشار أيضا إلى أن القرآن اتهم اليهود و النصارى بتزوير كتبهم المقدسة (1) . و كلامه هذا يُوحي بأنه يرى أن ما قاله القرآن عن تزوير هؤلاء لكتبهم هو مجرد اتهام لا حقيقة .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 22، 83، 105 . و الإسلام ، أوروبا ، ص: 70 . و تاريخية الفكر ، ص : 266 .(17/92)
و كشفا لأخطائه ، و ردا عليه أقول : أولا إنه من الخطأ الفادح التسوية بين الإسلام و الديانتين اليهودية و النصرانية الحاليتين ، لأن الإسلام يختلف عنهما اختلافا جذريا أصولا و فروعا ، تاريخا و توثيقا ، و يتفوّق عليهما بعقائده و مفاهيمه ، و تشريعاته و إعجازاته في مختلف العلوم . و كتاب الإسلام المعجز وصفه الله تعالى بأنه كتاب {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} - سورة فصلت/42- ، و{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } - سورة المائد/48- .
و لإثبات ما أقول أورد المقارنة الآتية بين القرآن الكريم ، و العهدين القديم و الجديد ، أتناولها -إن شاء الله تعالى- من أربعة جوانب ، الأول يتعلق بالمتناقضات ، فبالنسبة للعهد القديم - كتب اليهود المقدسة- ، فمن متناقضاته : إن في سِفر التكوين أن الله خلق النور في اليوم الأول من أيام التكوين (1) . ثم يذكر في موضع آخر أن النور خُلق في اليوم الرابع ( الإصحاح :1/14) . و نص نفس الِسفر -أي التكوين- على أن الله تعب عندما خلق الكون ،و استراح في اليوم السابع ( الإصحاح :2/2-3) . و في سِفر أشعيا أن الرب لا يكل و لا يعيى ( الإصحاح : 40/28) .
و في سِفر التكوين أن الرب ندم و حزن عندما خلق الإنسان ، و قرر أن يمحموه من وجه الأرض ( الإصحاح : 6/6-7 ) . لكن سفر العدد ناقض ذلك ، عندما قرر أن الرب ليس إنسانا فيكذب ، ولا ابن إنسان فيندم ( الإصحاح : 23/19 ) .
__________
(1) الإصحاح : 1 /3-5 .(17/93)
و من تلك المتناقضات أيضا ، أن في سفر التكوين أن النبي لوط -عليه السلام- هو ابن أخ إبراهيم-عليه السلام- ( الإصحاح :14/12) . ثم نفس السفر -أي التكوين- يقرر في موضع آخر بأن النبي لوط هو أخ إبراهيم ( الإصحاح :14/14 ) . و في سفر الخروج أن موسى -عليه السلام- كلّم الرب وجها لوجه (الإصحاح :13/11) ، لكن نفس السفر قرر في موضع آخر نقيض ذلك ، فذكر أن الرب قال لموسى : لا تقدر أن ترى وجهي (الإصحاح : 33/20) .
و في سفر التكوين أن عدد أبناء بنيامين هو : 10 ( الإصحاح : 46/21 ) ، لكن عددهم في أخبار الأيام هو : 3 ( أخبار الأيام: 1 ، الإصحاح : 7/6 ) ، ثم نفس السفر ذكر في موضع آخر أن عددهم 5 أبناء فقط (نفسه:1، الإصحاح :8 /1-2) .
و أما الأناجيل فمن تناقضاتها : إن إنجيل متى ذكر ان المسيح -عليه السلام- قال عن يُوحنا المعمدان : إنه إيليا ( الإصحاح :11/14) ، لكن في إنجيل يُوحنا أن يوحنا المعمدان أنكر أن يكون هو إيليا (الإصحاح:1/19) . و في إنجيل متى أن يُوحنا لا يأكل و لا يشرب (الإصحاح :11/18) ، لكن في إنجيل مرقس أن يوحنا يأكل جرادا وعسلا بريا (الإصحاح :1/6) .
و منها أيضا ، أن في إنجيل متى حث على إكرام الأب و الأم (الإصحاح: 1/4) ، لكن إنجيل لوقا حث على عكس ذلك ، عندما أمر ببغض الأب و الأم ( الإصحاح :14/26 ) . و في إنجيل يوحنا أن المسيح أقام العشاء الأخير قبل يوم الفصح ، و غسل أرجل تلاميذه (الإصحاح :13/1-5 ) ، لكن في إنجيلي متى و مرقس ، أن العشاء الأخير كان يوم الفصح ، دون ذكر لغسل أرجل التلاميذ ( متى ، الإصحاح :26/12-29 . و مرقس ، الإصحاح : 14 /12-26 ) . و في إنجيل لوقا أن معجزة الصيد حدثت قبل قيامة المسيح ( الإصحاح : 5/1-11 ) ، لكن في إنجيل يوحنا أن معجزة الصيد وقعت بعد قيامة المسيح (الإصحاح :21/1-14 ) .(17/94)
تلك المتناقضات-و غيرها- هي أدلة دامعة على تلاعب الناس بتلك الكتب ، و هي شاهدة على أنها ليست من عند الله ، و هي لا وجود لها في القرآن الكريم ،و لا لأمثالها ، و لا لغيرها من المتناقضات ، فأين مزاعم أركون ؟ ،و لماذا سكت عن تلك المتناقضات ؟ .
و أما الجانب الثاني من المقارنة ، فيتعلق بالعجائب الخرافية ، ففي العهد القديم ، أن النبي حزقيال راى عند أحد الأنهار حيوانا له 4 أجنحة و 4 أوجه ( سفر حزقيال : 1/4-10 ) . و ذكر سفر اللاوين وجود طيور تمشي على أربعة أرجل(الإصحاح :11/20 ) .و في نفس السفر أن الأرانب تجتر ( الإصحاح :11/6 ) . و هذا من الكذب المفضوح، لأن الأرانب من الحيوانات القارضة ،و ليست من المجترة .
و في سفر حزقيال أن للأرض 4 زوايا ( الإصحاح : 7/2 ) . و هذا خبر غير صحيح ، لأن الأرض ليست مسطحة لكي تكون لها أربع زوايا ، و إنما هي كروية الشكل ، لا زوايا لها . و في سفر اللاوين أن حيطان المنازل هي أيضا تُصاب بمرض البرص ( الإصحاح :14/35 ) ، فهل الحيطان تمرض ؟ ! .
و في أخبار الأيام الثاني أن الملك يهودان لما ملك مملكة يهوذا ، كان له من العمر 32 سنة ، فدام ملكه 8 سنوات ، فلما مرض ومات خلفه ابنه الأصغر أخزيا ، و كان له من العمر 42 سنة ( أخبار الأيام الثاني: 20/22 ) . و هذا من المستحيلات المبكيات و المضحكات ، فكيف يكون الابن أكبر من أبيه بعامين ؟ ؟ !! ، و ذلك أن الأب تولى الحكم وله 32 سنة ، و حكم 8 سنوات ، فمات وله 40 سنة ، فخلفه ابنه و له 42 سنة .(17/95)
و أما العهد الجديد -الأناجيل- فهو أيضا يقوم على العهد القديم ، و من ثم فهو معني بتلك المتناقضات أيضا ، و مع ذلك فهو أيضا فيه عجائبه الخرافية ، لعل أهمها أن أناجيله ذكرت أن يسوع هو إله و ابن الله ، لكنه مع ذلك هو مولود ، ولدته مريم ، و اضطهده خُصومه ، حتى أنهم قبضوا عليه و نفوه و صلبوه (1) .
و أمثال تلك الغرائب و الخرافات هي كثيرة في العهدين القديم و الجديد، ذكرنا طرفا منها ، و إلا من يدرسها دراسة نقدية فاحصة موسعة ، فإنه سيجد أكثر مما ذكرناه بكثير ، و يتبين له بالأدلة القاطعة الفارق الكبير بين العهدين و القرآن الكريم ، بل أنه لا مجال للمقارنة بينهما أصلا ، و الشواهد التي ذكرناها هي كافية لإثبات ذلك بما لا يدع مجالا للشك أصلا ، فتلك الخرافات و الغرائب المستحيلات لا وجود لها في القرآن الكريم أصلا . لكن أركون يُغمض عينيه عن ذلك و لا يبالي بما يقول و لا بزعمه الباطل في تسويته للقرآن بالعهدين القديم و الجديد .
و أما الجانب الثالث من المقارنة فيتعلق بالأنبياء في العهد القديم ،و هو أيضا معتمد عند النصارى ، فإنه - أي العهد القديم- نسب إلى الأنبياء-عليهم السلام- أبشع الأعمال القبيحة التي يتنزه عنها أضعف المؤمنين إيمانا ، فمن ذلك أن نوحا -عليه السلام- سكر و تعرى (سفر التكوين :9 /21-25- ) .و لوط -عليه السلام- سكر و زنى بابنته ( سفر التكوين : 19/30-34 ) .و داود -عليه السلام- كان يرقص أمام الرب (صموئيل :2 إصحاح : 6 /14 ) ،و زنى بجارته و قتل زوجها ( صموئيل : 2 ، الإصحاح : 11 /3 ) .و سليمان -عليه السلام- كفر و عبد الأصنام ( سفر الملوك الأول ، إصحاح :11 /1-16 ) .
__________
(1) أنظر مثلا : متى ، الإصحاح : 1 /18 ) ، و يوحنا ، الإصحاح : 18 /12-13 ) .(17/96)
تلك هي بعض أحوال أنبياء بني إسرائيل في العهد القديم ، و لاشك أنها أكاذيب و أباطيل ، اختلقها فساق بني إسرائيل ، و نسبوها إلى أنبياء الله تعالى ، كمبرر لانحرافاتهم و ضلالاتهم . و إلا فإن الأنبياء معصومون مُطهرون من تلك الأعمال القبيحة ، بشهادة القرآن الكريم ، الذي لا وجود فيه لأمثال تلك الأكاذيب و الأباطيل ، و الذي عرض سيرة الأنبياء في أبهى صورة و أطهرها . لذا فإن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد (1) لمعرفة حياة الأنبياء و أخلاقهم و جهادهم في الدعوة إلى الله .
و أما الجانب الأخير- أي الرابع- من المقارنة ، فيتعلق بالتوثيق التاريخي ، فبالنسبة للعهد القديم ، فقد كُتبت أسفاره على امتداد زمن يزيد عن 9 قرون ، بلغات مختلفة ، اعتمادا على التراث الشفوي المنقول بلا أسانيد ، مع الجهل بكتابها الحقيقيين (2) .
و أما الأناجيل المعتمدة عند النصارى اليوم ، فهي قد اُختيرت من بين عشرات الأناجيل في القرن الرابع الميلادي ، و هي ليست لها أسانيد ، مع جهالة مصنفيها ، و اضطراب متونها ، فإنجيل متى مجهول مؤلفه ، و مُختلف في سنة تدوينه ، فقيل : 37 م ، و 48 م، و 62 م ، 64 م ، مع الاختلاف في لغة تدوينه (3) .
__________
(1) بالنسبة إلى الكتب الدينية ، و إلا فإن السنة النبوية الصحيحة ، هي المصدر الثاني بعد القرآن في معرفة أحوال الأنبياء عليهم السلام .
(2) عبد الوهاب طويلة : الكتب المقدسة ، ط2 ، دار السلامالقاهرة 2001 ، ص: 88 ، 89 ، 91 و ما بعدها . و موريس بوكاي : الكتب المقدسة في ضوء العلوم الحديثة ، ط4 ، دار المعارف، بيروت ، ص: 23 .
(3) عبد الوهاب طويلة : نفس المرجع ، ص: 132 و ما بعدها . رؤوف شلبي : أضواء على المسيحية ، المكتبة العصرية ، بيروت ، 1975 ، ص: 41 .(17/97)
و إنجيل مرقس مُختلف في مؤلفه ، فقيل مرقس ، و قيل بطرس . و قيل أنه دُون سنة 56م ، و 60 م ، و 65م (1) . و أما إنجيل يوحنا فمؤلفه مجهول الشخصية ، و هناك شك في نسبة إنجيله إلى يوحنا الحواري ، مع الاختلاف في سنة تدوينه ، فقيل : سنة 68م ، 70 ، 95 ، 96 ، 98 للميلاد (2) . و أما إنجيل لوقا فمختلف في جنسية مؤلفه و صنعته ، و في تاريخ تدوينه ، فقيل : سنة 53، 63، 64 للميلاد (3) .
مع العلم أن الأناجيل الحالية ما هي إلا مجرد قصص و روايات و حكايات عن جوانب من حياة المسيح-عليه السلام- فيها الصحيح و المكذوب و المستحيل . و هي مذكرات شخصية ليست من إملاء المسيح -عليه السلام- ،و لم يشهدها أصلا ، كتبها أصحابها تلبية لرغبات خاصة ، و قد فقدت أصولها و ليست لها أسانيد توثيقية (4) .
و أما القرآن الكريم فالأمر معه مُختلف تماما ، فقد ظهر في ضوء التاريخ ، و قد وصلنا متواترا حفظا و تدوينا ، فدُون زمن الرسول-عليه الصلاة و السلام- ،و جمعه الصحابة في مصحف واحد بعد وفاة رسول الله بقليل و اهتموا به اهتماما كبيرا . و سنخصص لهذا الموضوع مبحثا مطولا في الفصل الثالث ،و نرد فيه على شبهات و مغالطات أركون و تدليساته حول تاريخ القرآن الكريم .
__________
(1) شلبي : نفس المرجع ، ص: 43-44 .
(2) نفس المرجع ، ص: 47 ، 48 ، 50 ، 51 .
(3) نفس المرجع ، ص: 46 .
(4) نفس المرجع ، ص: 50-51 .(17/98)
و ثانيا إن ما ذكره أركون من أن القرآن اتهم اليهود و النصارى بتحريف كتبهم المقدسة عندهم ، فهو ليس مجرد اتهام فقط بل هو حقيقة تاريخية ثابتة ، لأن القرآن نص على ذلك صراحة ، كقوله تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} - سورة المائدة/15- ، و {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} (سورة المائدة / 41-. و (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } سورة المائدة/13 -،و {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } - سورة النساء/46 -، و {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} - سورة البقرة/75 - ، و {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } - سورة البقرة /79.(17/99)
كما أن المتناقضات و الخرافات و الأخطاء الموجودة في العهدين القديم و الجديد التي سبق ذكرها ، هي دليل قاطع دامغ على تعرضهما للتحريف على اختلاف أنواعه و أشكاله . لأنه يستحيل عقلا أن يكونا من عند الله ،و هما يحتويان على تلك المتناقضات و الخرفات و الأخطاء .
و ثالثا إن تسوية أركون بين اليهودية و النصرانية و الإسلام في مجال التوحيد ، و زعمه بأنها كلها ديانات توحيدية ، هي تسوية باطلة ، و فيها تغليط و افتراء على الحقيقة ، لأن الديانة النصرانية -الحالية- ليست توحيدية في الحقيقة ، لأنها تؤمن -و مصرة على ذلك- بوجود ثلاثة أقانيم : الأب إله ، و الإبن إله ، و روح القدس إله ، و هذه الأقانيم متساوية في الألوهية (1) . فهي ديانة تثليث لا توحيد ، فلا يمكن أن يكون التوحيد تثليثا ،و لا التثليث توحيدا ، فواحد لا يساوي ثلاثة ، و ثلاثة لا تساوي واحدا . لذلك كفر الله تعالى النصارى المثلثين في قوله سبحانه : -{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} - سورة المائدة/73- . و إذا أصر النصارى على جعل التثليث توحيدا ، فإن كل الأديان تصبح توحيدية و إن تعددت آلهتها ! .
__________
(1) محمد أبو زهرة : محاضرات في النصرانية، ط 3، دار الكتاب العربي، مصر ، 1961 ، ص: 98 و ما بعدها .(17/100)
و أما التوحيد في الديانة اليهودية-الحالية - فهو يختلف جذريا عن التوحيد في القرآن الكريم ، علما بأنه وُجد في اليهودية من قال بأن عُزير ابن الله كما قالت النصارى في المسيح عليه السلام ، لقوله تعالى : -{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} - سورة التوبة/30- . و الله في العهد القديم موصوف بصفات شنيعة لا تمت للتنزيه بصلة ، و يستحي الإنسان من ذكرها ، فقد وُصف الله بأن تعب من خلق العالم ، و استراح في اليوم السابع ، و أنه حزن لأنه خلق الإنسان ( سفر التكوين : 2/3 ، 6/6-7 ) .و أنه استأجر شفرة ليُحلق ذقنه،و ينتف شعره ( أشعيا : 7/20 ) .و أن دخانا صعد من أنفه ، و أن نارا خرجت من فمه ( سفر صموئيل الثاني: 22/9 ) .و أنه ينفخ في البوق و يسير في زوابع الجنوب( سفر زكريا :9/14 ) .و أنه يشرب الخمر ، فاستيقظ يوما كنائم جبار مخمور ( المزامير : 78/65 ) .(17/101)
و أما التوحيد في القرآن فمختلف تماما عما في العهدين القديم و الجديد -إن وُجد فيهما توحيد- ، فالقرآن فيه التوحيد المطلق ، و التنزيه الكامل ، و الأسماء الحسنى ،و الصفات العلى و المُثلى ، قال تعالى : -{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}- سورة الأعراف/180- و{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} - سورة الشورى/11-و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ،اللَّهُ الصَّمَدُ ،لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}-سورة الإخلاص/1-4-، و غيرها من آيات التوحيد و التنزيه ، فالقرآن مملوء بذلك ، لكن أركون يُغمض عينيه عن الحقيقة ،و يطمس حقائق القرآن بكل ما يستطيع ، و يسوي بينه و بين خرافات و مستحيلات العهدين القديم و الجديد و لا يُبالي ، و مع ذلك يزعم العلمية و الموضوعية ، و النقد التاريخي الحديث !! .
و أما المجموعة الثالثة فتتضمن خمسة أخطاء تتعلق بنظرة أركون إلى القرآن و التعامل معه ، أولها قوله بأنه عندما يجد مسلما يستشهد في (( محادثة ما بآية قرآنية ، أو بحديث نبوي ، كدليل قطعي على محاجته ، فإنه يُثير بذلك المشاكل النظرية ، التي يتضمنها المرور من المسلمات المعرفية للقرون الوسطى ، إلى المسلمات المعرفية للفكر الحديث ، ما هي شروط قانونية أو صلاحية هذا المرور ، من أجل الممارسة الفعالة للفكر الإسلامي المعاصر )) (1) .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 56 .(17/102)
و قوله هذا باطل من أساسه ، و فيه تغليط و تدليس ، لأنه أولا إن المسلم عندما يحتج بالقرآن و السنة الصحيحة ، يمتلك الشرعية من الله تعالى ، و ليس في حاجة إلى شرعية أخرى سواء كانت من القرون الوسطى ، أو من العصر الحديث . كما أنه-أي المسلم- لا يجد أية إشكالات و لا تناقضات تمنعه من الاستشهاد بالكتاب و السنة بالطريقة الصحيحة ، لأن دينه خاتم الرسالات ، و هو دين الله تعالى في الأرض و السماء ، لا يحده زمان و لا مكان .
و أما ما اعترض به أركون ، فهو باطل ، لا يصدر إلا عن من لا يُؤمن بالإسلام أو جاهل به ، أو مريض القلب و العقل معا ، فالكافر به عليه أن يحترم نفسه و غيره ، و لا يحق له أن يعترض على مسلم يحتج بالكتاب و السنة ، لأن لكل منهما دينه و فكره و سلوكه . و أما الجاهل بدين الإسلام ، فلا يحق له أن يتكلم أصلا ، و عليه أن يتعلم الإسلام و يفهمه فهما صحيحا أولا ، قبل أن يدخل مع المسلمين في المناقشات و المناظرات . و أما المريض فعليه أن يُصارح نفسه بشجاعة ، و يطلب لها العلاج الشافي بصدق و إخلاص ، و لا يبقى متأرجحا لا إلى هؤلاء ، و لا إلى هؤلاء .
و ثانيا إن احتجاجه بالمسلمات المعرفية الحديثة ، لرد ما سماه المسلمات المعرفية القرون أوسطية ، فهو مجرد دعوى لا حجة فيه ، لأن الصواب لا يُعرف بالأزمنة ولا هو خاصا بها ، فالعصور الوسطى كان فيها الحق و الباطل ، و العصر الحديث ، هو أيضا فيه الحق و الباطل ، و عليه فإن الحق يُعرف بالحق الذي يحمله ، و بالأدلة التي تدعمه ، و لا يُعرف بالزمن الذي ظهر فيه ، فلا دخل للزمن في إحقاقه و إبطاله .(17/103)
و الخطأ الثاني يتعلق بقوله بأن السمة الإلهية للشريعة ، لا يُمكنها أن تحيلنا في الواقع إلا إلى التصور الذي شكّله علم التفسير ، و علم الكلام ، و الفقه (1) . و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، لأن الشريعة الإلهية-كتابا و سنة صحيحة- منفصلة تماما عن ما أنتجه المسلمون من علوم و أفكار في تفسيرهم للشريعة ، فالإسلام- و هو الشريعة- يُفهم نفسه بنفسه بمحكماته ، و إرجاع متشابهه إلى محكماته ، و فهمه بما صح من سنة الرسول -صلى الله عليه و سلم- ، فالشريعة فيها قوة فهم ذاتية ، و أما ما أنتجه المسلمون من علوم في فهمهم للشريعة ، فليس هو الذي يتحكم فيها ،و إنما هي التي تتحكم فيه ، فما وافقها قبلناه ، و ما خالفها رفضناه ، و كم يُوجد في ذلك التراث من أفكار باطلة و مذاهب فاسدة ؟.
و الخطأ الثالث هو أمر مُتعمد من أركون في النظر إلى القرآن و إثارة الشبهات حوله ، فعل ذلك عندما قال : (( و هكذا مُحيت التواريخ ، و أسماء الأماكن ، و أسماء العلم ، و الأحداث الفردية من الآيات ، لنزع الصفة التاريخية عنها )) (2) .
و ردا عليه أقول : أولا إنه لا يصح أبدا استخدام كلمة (( مُحيت )) ، و إنما الصواب أن يُقال : لم تُذكر التواريخ ، و أسماء الأماكن و الأشخاص ... ، لأن عبارة : مُحيت تعني أنه كانت في القرآن تلك الأمور ثم نُزعت بالمحو ، و هذا طعن في القرآن بطريقة ماكرة ، و قول بتحريفه ، و هو زعم باطل يرده القرآن نفسه ، و التاريخ الثابت الصحيح ، و هو أيضا افتراء على الله و رسوله و المؤمنين . و إن أصر هو على استخدام تلك العبارة ، فنقول له : كان عليك أن توثق زعمك بالشواهد الشرعية و التاريخية و العقلية ، و لا تختفي وراء تلك العبارة الماكرة ، و نحن على يقين بأنك لن تظفر بذلك ، لأننا نعلم بأنها لا توجد ، و لو كانت عندك ما تخلفت في استخدامها .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 37 .
(2) الفكر الإسلامي ، ص: 72 .(17/104)
و ثانيا إن ملاحظته حول عدم ذكر التواريخ و أسماء الأشخاص و الأماكن في القرآن ، ليست ملاحظة مطلقة ، بل هي ملاحظة نسبية ، لأن القرآن الكريم لم يذكر التواريخ و لم يُكثر من ذكر أسماء الأشخاص و الأماكن ، لكنه ذكر كثيرا منها ، كأسماء الأنبياء عليهم السلام : آدم ، و نوح ، و إدريس ، و إبراهيم ، و موسى ، و محمد صلى الله عليه وسلم . و من غير الأنبياء : زيد ، و آزر ، و فرعون ، و أبو لهب . و من الأماكن : مكة ، و يثرب ، و مصر ، و بابل ، و بدر ، و حنين . و أما فيما يخص التواريخ فالقرآن لم يحدد التواريخ ، لكنه أشار إلى ما يُساعد على معرفة زمان كثير من الحوادث التي ذكرها ، و ذلك من خلال أسماء الأشخاص و الأماكن ، و ذكره لتسلسل مجيء كثير من الأنبياء من آدم إلى محمد -عليهم الصلاة و السلام .
و ثالثا إن زعمه بأن عدم ذكر التواريخ و الأسماء في القرآن ، كان للأجل نزع الصفة التاريخية عنه ، فهو زعم باطل ، لأن لا تاريخية القرآن لا تقوم أساسا على تلك الأمور ، بدليل أنه ذكر كثيرا منها ، و إنما تقوم أساسا على أن القرآن كلام الله تعالى المُعجز المُتحدى به . و الله تعالى لم يذكر فيه تفاصيل التواريخ زمانا و مكانا و أعلاما ، لأنه كتاب إيمان و هداية ، و تربية و عبادة ، و ليس كتاب تاريخ ، و على الإنسان أن يجتهد و يبحث لمعرف تفاصيل التاريخ لينتفع به ، و قد حثه القرآن على ذلك . و حتى إذا ما افترضنا بأن القرآن قد حدد تواريخ و أماكن و أشخاص كثير من الحوادث التي ذكرها ، فإن ذلك لن ينزع عنه الصفة الإلهية ، و لن يُدخله في تاريخية أركون المزعومة .(17/105)
و أما الخطأ الرابع فيتعلق بتعريف أركون لمفهوم الجاهلية في القرآن ، فزعم أن (( مفهوم الجاهلية حسبما ورد في القرآن يُطابق على الأقل في وظائفه الإيديولوجية ، مفاهيم العقلية البدائية ، و المجتمع العتيق ، و المجتمع الذي لا يعرف الكتابة و الفكر المتوحش )) (1) .
و تعريفه هذا غير صحيح ، و باطل من أساسه ، لم يُورد عليه دليلا من القرآن ، و لا من السنة النبوية ، مع ادعائه بأنه يذكر مفهوم الجاهلية في القرآن . و الحقيقة أن معنى الجاهلية في القرآن لا علاقة له مطلقا بالتطور الحضاري الدنيوي ، فقد يكون مجتمع ما متطور دنيويا ، و هو مجتمع جاهلي ، و قد يكون مجمع ما متخلف في الجانب المادي الدنيوي ، و هو ليس جاهليا ، و عليه فإن معنى الجاهلية في القرآن ليس كما زعم أركون ، و إنما معناه هو عدم عبادة الله تعالى و الالتزام بشريعته على مستوى الأفراد و الجماعات و الأمم ، و الدليل على ذلك قوله تعالى : (( أفحكم الجاهلية يبغون ، و من أحسن من الله حكما لقوم يثقنون ))-سورة المائدة/50 - ،و (( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ، حمية الجاهلية ))-سورة الفتح/26- ، و (( يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ))-سورة آل عمران- ، و (( و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ))-سورة الأحزاب /33- ، فالجاهلية في القرآن ليست مرتبطة بزمان و لا بمكان ، و لا بجنس، و إنما هي مرتبطة بالكفر و الإيمان ،و الالتزام و الانحراف ، فإذا حضر الإسلام ظاهرا و باطنا ارتفعت الجاهلية ، و إذا غاب الإسلام حضرت الجاهلية ، و قد يحدث بينهما حضور و عياب في زمن واحد .
__________
(1) تاريخية الفكر العربي الإسلامي ، ص: 99 .(17/106)
و الخطأ الأخير-أي الخامس- يتعلق بقول أركون : (( يعتز التراث المنقول و يفتخر بوجود أدبيات تُدعى بأسباب النزول ، و لكن هذه القصص و الروايات لم تُوضع حتى الآن على محك النقد التاريخي و الأدبي ، الذي لا مندوحة عنه )) (1) .
و ردا عليه أقول : أولا ليس صحيحا بأن المسلمين يفتخرون بأدبيات و أسباب النزول ، و يعتزون بها مطلقا ، و إنما الصواب هو أن العلماء المسلمين ميزوا بين المقبول منها و المردود ، و الموقوف ، و لم يقبلونها كلها من دون تمحيص (2) .علما بأن هناك كثيرا من أسباب النزول يشهد القرآن الكريم نفسه على صحتها ، كقوله تعالى : -{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } -سورة الأحزاب/37- ، و{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} - سورة المجادلة /1- ، و{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} - سورة التوبة/25- .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 242 ، هامش : 25 .
(2) ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 7 ص: 435 . و الألباني : نصب المجانيق ، ط3 ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1996 ، ص: 44 .(17/107)
و ثانيا إن قوله بأن روايات أسباب النزول لم توضع حتى الآن على المحك ، هو قول مبالغ فيه ، و غير صحيح على إطلاقه ، لأن علماء من المتقدمين تنبهوا إلى أن في أسباب النزول و أدبيات التفسير كثيرا من الروايات المكذوبة ، و حذّروا منها ، من ذلك أنه عندما كتب الراوي المفسر محمد بن السائب الكلبي (ق:2ه) تفسيرا للقرآن الكريم ، تصدى له العلماء و فضحوه ، و قالوا : إنه ملأ كتابه بالأباطيل . و قال عنه يحيى بن معين (ق3ه ) : هو كتاب ينبغي أن يُدفن . و قال عنه أحمد بن حنبل : لا يحل النظر في تفسير الكلبي . و كان الكلبي هذا كذابا روى كتابه في التفسير عن الكذاب أبي صالح مولى أم هاني ، الذي زعم أنه رواه عن ابن عباس ، و هو لم يره (1) .
و من ذلك أيضا أن أحمد بن حنبل كان يقول : (( ثلاثة علوم ليس لها أصول : المغازي ، و الملاحم ، و التفسير )) ،و في رواية أخرى (( ليس لها أسانيد )) ، لأن الغالب عليها أنها مرسلة الأسانيد و منقطعة (2) . و قد جعل أحمد بن حنبل التفسير من بين تلك العلوم التي تفتقد إلى التأصيل و الصحة ، و هو لا يقصد نفي وجود أسباب النزول و أدبياته مطلقا ، و إنما يقصد أن الغالب عليها أنها غير ثابتة ، و إلا فهو نفسه ذكر في مسنده كثيرا من أسباب النزول في مسنده بالروايات المسندة (3) .
__________
(1) الذهبي : ميزان الاعتدال ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1995 ، ج 2 ص: 431 ، ج 6 ص: 161 . و ابن أبي حاتم : الجرح و التعديل ، ج 7 ص: 270 .
(2) ابن تيمية : المصدر السابق ، ج 7 ص: 435 . و الرد على البكري ، ج 1 ص: 76 .
(3) أنظر : المسند ، ج 1 ص: 11، 16 ، 23 ، 28 ,(17/108)
و قال الشيخ ابن تيمية : (( و أما أحاديث أسباب النزول فغالبه مرسل ، ليس بمُسند )) (1) . كما أن الحافظ ابن كثير نقد كثيرا من روايات أسباب النزول في تفسيره ، و رجح فيما بينها ، و استبعد من تفسيره الإسرائيليات (2) . و بذلك يتبين أن ما ادعاه أركون غير صحيح ، و الصحيح هو أن كثيرا من كبار العلماء المسلمين تنبهوا إلى أن كثيرا من أسباب النزول هي روايات غير صحيحة ، فحذّروا منها ، و حققوا طائفة منها ، دون أن يُحققوها كلها .
و أما المجموعة الرابعة ، فتتضمن أربعة أخطاء ، وقع فيها أركون في نظرته إلى القرآن ، و موقفه منه ، و تعامله معه ، أولها النظر إلى شخصية النبي-عليه الصلاة و السلام- و تجربته الدعوية من خارج القرآن الكريم ، فزعم أن الأجيال الإسلامية حولت (( تجربة محمد البشرية المادية البشرية المحسوسة ، إلى نوع من التجربة الفوق بشرية و المتعالية )) (3) .
__________
(1) منهاج السنة ، ج 7 ص: 435 .
(2) انظر : تفسير القرآن العظيم ، ج 1 ص: 5 ، 18 ، ج 3 ص: 636 ، ج 4 ص: 133 .
(3) تاريخية الفكر ، ص: 266 .(17/109)
و قوله هذا باطل ، و افتراء و تدليس يستبطن إنكارا لنبوة محمد -عليه الصلاة و السلام - ، لأن محمدا كانت له تجربة تتكون من بُعدين ، الأول يخص الجانب البشري المحض من حياته عليه الصلاة و السلام . و الثاني يتعلق بالنبوة و الرسالة ، فهو رسول الله و خاتم النبيين ، و ليس كما زعم أركون من أن النبي كانت له تجربة بشرية مادية محسوسة فقط . فرسول الله -صلى الله عليه و سلم- كان بشرا يأكل و يتزوج و يمشي في الأسواق ، لكنه كان أيضا رسول الله يُوحى إليه ، قال تعالى : -{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} - سورة الكهف/110- ، و{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } - سورة الفتح/29- فزعم أركون باطل من أساسه ، و افتراء مُتعمد ، يُناقض أساسيات دين الإسلام بالضرورة . فلماذا أغفل ما يقوله القرآن عن النبي محمد -عليه الصلاة و السلام- ،و هوأمر معروف متوفر بين يديه ؟ ، فواضح من زعمه إنه تعمد ذلك ، ليحقق مشروعه الاستشراقي .
كما أنه كذب على المسلمين و التاريخ معا ، عندما زعم أنهم هم الذين حوّلوا تجربة النبي من البشرية المادية إلى نوع من التجربة الفوق بشرية . فهذا افتراء عليهم ، لأن القرآن الكريم هو الذي نص على نبوة محمد -عليه الصلاة و السلام- ، وسجل تجربته النبوية ،و شهد له بها ، ثم شهد له بها التاريخ و المسلمون . و نحن نقول لأركون : لماذا كثيرا ما تخفي مغالطاتك و انحرافاتك عن القراء ؟ ، لماذا لا تكون موضوعيا صريحا ، تُعلن أفكارك علانية ، من دون تغليط ولا تحريف للشرع و التاريخ ؟ .(17/110)
و الخطأ الثاني يتعلق بنظرة أركون إلى أصل القرآن و السنة النبوية ، فإنه جعلهما تراثا (1) . و زعمه هذا باطل مردود عليه ، لأن التراث يشمل كل ما خلّفه الإنسان ، من إنتاج فكري ،و أما القرآن فهو ليس من إنتاج بشر ، و إنماهو كلام الله تعالى،و السنة الصحيحة ليست كلام إنسان عادي ، و إنما هي كلام رسول الله الذي أمرنا الله تعالى بإتباعه و التمسك بهديه . و نحن لا نجبر أركون و لا غيره على الإيمان بالإسلام كما جاء به القرآن و السنة الصحيحة الموافقة له ، فهو حر في اعتقاد ما يُريد و يتحمل مسؤولياته أما الله تعالى ، لكن لا يحق له أن يُزيف الحقيقة ، و يفتري على الكتاب و السنة ، بأن يُسقط عليهما أفكاره و ضلالاته ، تحريفا للنصوص و تغليطا للقراء .
و الخطأ الثالث يتعلق بتعريف أركون لمضمون القرآن الكريم ، فوصفه بقوله : (( إن القرآن هو عبارة عن مجموعة من الدلالات و المعاني الاحتمالية المقترحة على كل البشر )) (2) .
و ردا عليه أقول : إن تعريفه هذا لمضمون القرآن ، ليس تعريفا شرعيا ، و إنما هو تعريف أركوني غير صحيح في أساسه ، لأن القرآن هو كلام الله تعالى المعجز المنزل على رسوله محمد -عليه الصلاة و السلام - ، بواسطة الملك جبريل-عليه السلام- . فهو -أي أركون - عرّف القرآن انطلاقا من هواه ، و ليس انطلاقا من القرآن و السنة الصحيحة .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 268 . و الفكر الإسلامي ، ص: 17 و ما بعدها .
(2) تاريخية الفكر العربي الإسلامي ، ص: 145 .(17/111)
كما أن القرآن الكريم ليس هو دلالات و معانٍ محتملة ، بل هو العلم ذاته ، و الحقيقة المطلقة ، ، فهو حق و برهان ، حجة و بيان ، و آيات بينات ، قال تعالى :( بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} - سورة البقرة/120- ، و-{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} - سورة العنكبوت/49-، و -{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ } -سورة الجاثية/20- ، و: { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} - سورة المائدة/15- .
و أركون قد ميّع مضمون القرآن عندما زعم أنه مجموعة من الدلالات و المعاني الاحتمالية ، في حين أن، القرآن ليس كذلك ، و إنما هو في حقيقته آيات بينات محكمات واضحات ، في أصوله العقدية و الأخلاقية ، و التشريعية . و أما آياته المتشابهات فهي من مظاهر إعجازه ، تحتمل عدة معان ليست متناقضة ، تفتح للعقل مجالا رحبا للبحث و الاستنباط و التدبر ، و هي من جهة أخرى مُحكمة بالآيات المحكمات البينات . و أما من يُخالف ذلك فهو من الذين ذمتهم آيات المحكم و المتشابه ،و ألحقتهم بمرضى القلوب الذين في قلوبهم زيغ ، قال تعالى :{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ}- سورة آل عمران/7- .(17/112)
ثم زعم بعد ذلك أن (( القرآن نص مفتوح على جميع المعاني ،و لا يمكن لأي تفسير أو تأويل أن يُغلقه ، أو يستنفذه بشكل نهائي أو أرثوذكسي )) (1) . و قوله هذا هو امتداد لما قاله سابقا ، و هو تمييع للقرآن ، و طمس لمحكماته و ثوابته و بيناته ، و هو بقوله يُغالط ، و يطعن في القرآن من خلال المبالغة في إظهار اتساعه و عمقه ، حتى أخرجه عن ثوابته و أصوله و محكماته . فقد جاء إلى قوله تعالى : -{ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ}- سورة آل عمران/7- ، و أخذ المتشابهات و عممها على القرآن و أغفل محكماته ، و لم يستح من أن الآيات التي أخذ بها هي نفسها تذمه ،و تجعله من المحرفين للنصوص الذين في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله .
__________
(1) نفسه ، ص: 145 .(17/113)
ثم زعم أيضا أنه (( لا يُوجد في الحالة الراهنة للأمور أية مشروعية روحية أو أي معيار موضوعي ، أو أي مؤلف ضخم و متميز يُتيح لنا تحديد بشكل معصوم الإسلام الصحيح )) (1) . و زعمه هذا هو حديث خرافة ، و افتراء على القرآن و السنة الصحيحة ، و على ما كان عليه الصحابة و من اتبعهم بإحسان . لأن معرفة الإسلام الصحيح توجد مشروعيته و معرفته في القرآن نفسه أولا ، ثم في السنة النبوية الصحيحة الموافقة للقرآن ثانية ، و لا نحتاج أبدا إلى معيار خارجي أو إلى كتاب ضخم و لا صغير لمعرفة الإسلام على حقيقته ، لأن معرفته تقوم على أسس من داخله ، بمشروعية منه ، أولها الأخذ بمحكمات الكتاب في العقائد و الأخلاق و الأحكام و المفاهيم ، و إرجاع المتشابهات إلى المحكمات ، قال تعالى : (( منه آيات محكمات هن أم الكتاب )) .و ثانيها تفسير القرآن بالقرآن ، قال تعالى : -{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} - سورة النساء/82 ، و - ((كتاب أُحكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير))-سورة هود/1-، و-{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} - سورة العنكبوت/49-
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 146 .(17/114)
و الأساس الثالث هو فهم الإسلام كما فسرته و بينته و طبقته السنة النبوية الصحيحة الموافقة للقرآن ، قال تعالى : -{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} - سورة الحشر/7- ، و{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } - سورة النحل/44-، و{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} - سورة الأحزاب/21- .
و الأساس الرابع هو إتباع هدي و سبيل الصحابة في تطبيقهم للإسلام و ما أجمعوا عليه ، قال تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} - سورة التوبة/100- ، و {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} - سورة النساء/115-(17/115)
و الأساس الخامس هو الفهم الصحيح للقرآن القائم على ثوابت الشرع و مقاصده ،و على صريح المعقول و العلم الصحيح ، قال تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} سورة محمد/24- و{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} - سورة ص/29 - . و هو -أي أركون - في زعمه هذا يُغالط و يُدلس على القراء ، لأنه من جهة وجد معيارا فهم به بأنه لا يُوجد معيار نفهم به الإسلام الصحيح بشكل معصوم ، لكنه من جهة أخرى نفى وجود معيار يُفهمنا الإسلام الصحيح . و بمعنى آخر هو -أي أركون- وجد معيارا فهم به زعمه الباطل ، و غيره لا يجد معيارا يفهم به الإسلام على حقيقته !! . و واضح من ذلك أن هذا الرجل ليس أنه أراد فهم الإسلام بصدق فلم يجد إلى ذلك سبيلا ، و إنما هو يُريد من وراء ذلك إثارة الشبهات ، و تشكيك المسلمين في دينهم لصرفهم عنه ، متبعا في ذلك مختلف الطرق الملتوية ، التي أخذها عن شيوخه المستشرقين .
و أما الخطأ الأخير - الرابع من المجموعة الرابعة- ، فيتعلق بخطأ أركون في تفسيره لقوله تعالى : -{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } - سورة التوبة/84-، فقال : إنه ينبغي على النبي أن يرفض الصلاة على واحد منهم ، أي من المشركين ، عندما يموت (1) .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 103 .(17/116)
و قوله هذا غير صحيح تماما ، لأن الآية تتكلم عن طائفة من المسلمين تخلفوا عن الجهاد ، و فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله -عليه الصلاة و السلام - ، و كرهوا أن يُجاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله ، و قالوا لا تنفروا في الحر ، فأنزل الله تعالى فيهم قرآنا كشفهم فيه ، و نهى نبيه عن الصلاة عليهم إن هم ماتوا ، و تفصيل ذلك في قوله تعالى : -{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ، فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ،فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } -سورة التوبة/81-84-
فالآية لا تتعلق أبدا بالمشركين على ما ادعاه أركون ، لأنهم لم يكونوا مع المسلمين في المدينة ، و الصلاة لا تكون إلا على المسلم لا على الكافر ، فأمر الله تعالى رسوله بعدم الصلاة على تلك الطائفة من المسلمين كعقاب لهم على تخلفهم و تكاسلهم عن الجهاد ، و ليس لأنهم من المشركين . و لا أدري هل أنه-أي أركون- أخطأ فيما ذهب إليه أم ، تعمد ذلك ؟ ، مع أن الآية واضحة في أنها لا تتعلق بالمشركين .(17/117)
و أما المجموعة الخامسة ، فتتضمن ستة أخطاء تتعلق بفهم القرآن و التعامل معه ، أولها إنه -أي أركون- سمى القرآن الكريم بالخطاب النبوي (1) . و عمله هذا باطل مردود عليه ، فيه تحريف و تدليس و افتراء على الله و رسوله و المؤمنين . لأن القرآن الكريم إذا كان النبي-عليه الصلاة و السلام- هو الذي جاء به، فلا يصح أن نسميه بالخطاب النبوي ، لأربعة أمور أساسية ، أولها إن الله تعالى سمى كتابه قرآنا ، و فرقانا ، و وحيا ، و ذكرا ، و نورا ، و وصفه بأنه كلامه ،و لم يسميه خطابا نبويا . و ثانيها إن رسول الله -عليه الصلاة و السلام- لم يقل للناس أن القرآن الذي جاء به هو خطابه ، و إنما قال لهم : إنه كتاب الله (2) . و الأمر الثالث هو أن الصحابة و التابعين و المسلمين من بعدهم كلهم فرقوا بين القرآن و السنة ، الأول هو كلام الله تعالى ، و الثاني هو كلام رسوله -عليه الصلاة و السلام- . و آخرها -أي الأمر الرابع - هو أن تسمية أركون لا تصح شرعا و لا عقلا ، لأنها تتضمن تدليسا و تحريفا لمصطلح شرعي تاريخي مجمع عليه ، كما أنها توحي بأنها تسمية تُعبر عن خطاب بشري ، و لا تُعبر عن خطاب إلهي . و هذا الذي أراد أركون الوصول إليه ، من تحريفه للمصطلح الشرعي ، إتباعا لأهوائه و مذهبيته ،و التزاما بمشروعه العلماني التغريبي ، الذي ستتضح معالمه أكثر فيما سيأتي من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى .
و أما الخطأ الثاني فيتمثل في قوله : (( نلاحظ أن الجماعة الجديدة الطالعة -أي جماعة المسلمين- قد بلورت مفهوم الله من جديد ليس من أجل مضامينه الخاصة الصرفة ، و إنما بالدرجة الأولى من أجل تسفيه طريقة استخدامه من قبل أهل الكتاب )) ، أي اليهود و النصارى (3) .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 30 ، 71 .
(2) أنظر مثلا : البخاري : الصحيح ، ج 1 ص: 245 ، 268 ، ج 2 ص: 980 .
(3) الفكر الإسلامي ، ص: 101 .(17/118)
و زعمه هذا باطل مردود عليه ، و افتراء على الله و رسوله و الصحابة ، لأن الذي حدد مفهوم الله في الإسلام هو الله وحده و ليست جماعة المسلمين ، حدده سبحانه في كتابه العزيز الحكيم ،و على لسان رسوله الكريم-عليه الصلاة و السلام . كما أن ذلك التحديد لم يكن -كما زعم أركون- موجها بالدرجة الأولى للرد على اليهود و النصارى في مفهوم الله عندهم ، و إنما من أجل احقاق الحق ، و إرجاع البشرية جمعاء إلى عبادة ربها عبادة صحيحة أولا ، ثم إرجاع المنحرفين من أهل الكتاب إلى الدين الحق ثانيا .
و الخطأ الثالث يتعلق بطريقة أركون في عرضه للجهاد زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- ، و موقفه منه ، فعندما علّق على سورة التوبة ،و تعرّض للجهاد زعم أنه -أي الجهاد- (( صُوّر على هيئة القتال من أجل الله )) (1) . و زعمه هذا تضمن تشكيكا و طعنا و تكذيبا للقرآن ، فهو -أي أركون- تعرّض للموضوع بطريقة تشير إلى أن الجهاد لم يكن في حقيقته جهادا في سبيل الله ، و إنما صُوّر على هيئة ذلك الجهاد ، و هذا افتراء على القرآن و السنة ، و الحقيقة التاريخية الثابتة الناصعة ، التي أغفلها أركون ، انتصارا للباطل و طعنا في الإسلام .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 98 .(17/119)
إنه استخدم فعل صُوّر بصيغة المبني للمجهول : صُوّر ، و كأن الذي فرض الجهاد غير معروف ، أو أنه لم يرد أن يذكر الحقيقة ، و هي أن الله تعالى هو الذي فرض الجهاد على رسوله و المؤمنين ، قال سبحانه : -{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} - سورة البقرة/216-، و{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} - سورة التوبة/111-. فالجهاد الذي خاضه الرسول-صلى الله عليه و سلم- و صحابته الكرام ، كان جهادا بأمر الله و من أجله ، و كان جهادا حقيقيا ليس وهما و لا خيالا . و أركون يعرف ذلك تماما ، لكنه تعمد ذلك ، و قرأ النصوص الشرعية و الحقائق التاريخية بخلفياته المذهبية الباطلة المغرضة و أسقطها عليها إسقاطا .
و أما الخطأ الرابع فيتعلق بافتراء أركون على القرآن في الاحتجاج به ، و ذلك أنه عندما انتقد الأحباري محمد بن إسحاق في طريقة كتابته للسيرة النبوية ، قال عنه : إنه كتب (( سيرة إنسان يدعوه غالبا برسول ، في حين أن القرآن قد ألح على البعد الإنساني البحت لشخصيته )) (1) .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 83 .(17/120)
و قوله هذا فيه باطل كثير ، و زعم مردود عليه ، فهذا الرجل-أي أركون- ينزعج و يتضايق ، من استخدام ابن إسحاق -و كل المسلمين- لعبارات : محمد رسول الله . فهو كأنه يريد أن يمنع الناس من إيمانهم بنبوته ، و تسميته برسول الله-عليه الصلاة و السلام - ،و يعرض عليهم بدلا فكره التغريبي . و فعله هذا ليس من العلم في شيء ، و لا يمت إلى الحيدة العلمية بصلة ، فلا يحق له أن يعترض على غيره فيما آمن به ، و يعرض عليه من جهة أخرى فكره المخالف للشرع ، فعليه أن يحترم عقائد من يُخالفه ، و لا يتدخل فيها بالتدليس و التغليط و الافتراء .
و هو أيضا قد افترى على القرآن فيما زعمه ، لأن القرآن الكريم هو الذي سمى محمدا رسول الله -عليه الصلاة و السلام - و ليس محمد ابن إسحاق ،و لا غيره من المسلمين ، قال تعالى : -{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} - سورة الأحزاب/40- ، و {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} - سورة المائدة/67- .(17/121)
و أما زعمه بأن القرآن (( ألح على البعد الإنساني البحت لشخصيته )) ، فهذا افتراء على القرآن ، و تحريف له ، لأن القرآن ألح و كرر مرارا على أن محمدا بشر رسول ، و ليس بشرا فقط ، و لا رسولا فقط ، كقوله تعالى : -{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} - سورة الكهف/110- و { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} - سورة الإسراء/93- . فالقرآن الكريم نص و أكد على محمد البشر الرسول ، و لا شك أن أركون يعلم ذلك ، لكنه أغفله ليرد على ابن إسحاق ، عندما انزعج منه بإكثاره من ترديد : رسول الله ، فأخذ طرفا من الآيات التي نصت على بشرية الرسول ، و أغفل الآيات الأخرى ، ليرد بها على ابن إسحاق ، ليس لأنه يُؤمن بتلك الآيات ، أو أنه يريد الحقيقة ، و إنما (( ليُدين ابن إسحاق الذي أرتكب-حسب رأيه- جريمة الإكثار من ترديد : رسول الله !! )) ، إنه-أي أركون- ، رجل بعيد جدا عن الموضوعية العلمية ،واقع تحت تأثير مذهبيته الفكرية ، فنعوذ بالله من ذلك.
و أما الخطأ الخامس فيتعلق بموقف أركون من الوحي و إبعاد القرآن كمصدر لمعرفة مفهومه -أي الوحي- ، فقد ادعى أنه سيزحزح بعض المسائل القديمة إلى إطار الأشكلة - أي إثارة الإشكالات و الشبهات- منها مفهوم الوحي ، فزعم أنه مفهوم معقد جدا ، و لم يُفكك بعد ، و هو مرجعية إجبارية عند اليهود و النصارى و المسلمين (1) .
__________
(1) أركون : القرآن ، ص: 27-28 .(17/122)
و ردا عليه أقول : أولا إن مسألة الوحي في القرآن و السنة ، ليست مشكلة و لا هي معقدة أصلا ، هي مشروحة و مفهومة ،و لا يُوجد أي إشكال حولها ، فالله تعالى يقول :{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} - سورة الشورى/51- ، و{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} -سورة الشعراء /193-194-، و {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} - سورة القيامة/18-، فلا يُوجد أي إشكال في موضوع الوحي من حيث الإقرار و المفهوم العام ، مع الجهل التام من حيث إدراك كنه عملية الوحي ، فهي لا يحس بها الرسول-عليه الصلاة و السلام- . و قد صحت الأحاديث عن بعض مظاهر كيفية تلقي النبي -عليه الصلاة و السلام- للوحي بعضها في صحيح البخاري (1) .
و هو أيضا مغالط و متناقض مع نفسه فيما ادعاه ، لأنه إذا كان يُؤمن حقا بفكرة الوحي التي ذكرها القرآن الكريم ، فعليه أن يفهمها من الكتاب و السنة ، فهي واضحة مفهومة منذ أكثر من 14 قرنا ، . و إما إذا كان لا يُؤمن بها أصلا ، فعليه أن يتركها كلية ، إذا كان صادقا مع نفسه ، و لا داع لإثارة الشكوك و الشبهات و الإشكالات حولها ، و الزعم بأنها معقدة ، فهو لا يُؤمن بها أصلا ، فكيف هي معقدة جدا ؟ ! . و إما إذا كان يُسلم بإمكانية الوحي من الناحية العقلية ، و لا يُؤمن بأي دين ، فليترك الأديان لحالها ، فهي لها منطقها و منطلقاتها ، و هو له منطقه عليه أن يستخدمه لمحاولة فهم مفهوم الوحي إن وجد إلى ذلك سبيلا ، بالاعتماد على فكره و خياله .
__________
(1) ج 1 ص: 4 ، ج 3 ص: 1776 .(17/123)
و أما الخطأ الأخير -أي السادس- فيتعلق بطريقة أركون في تفسيره لبعض الآيات و تعامله معها ، فعندما تكلم عن الآية الخامسة (1) من سورة التوبة ، قال : (( نلاحظ أن وصف المعارضين يُختزل إلى اسم واحد : المشركين ، فقد جرى رميهم جميعا و بكل قسوة في ساحة الشر و السلب و الموت ، من دون تقديم أي مبرر لهذه الإدانة في السياق المباشر على الأقل )) (2) . و قال أيضا : (( لقد رُموا كلية و نهائيا و بشكل عنيف في ساحة الشر و السلب ، دون أن يُقدم النص القرآني أي تفسير أو تعليل لهذا الرفض و الطرد )) (3) .
و ردا عليه أقول : إن أركون يتعاطف مع المشركين و يتعصب لهم ، و يتهم الله تعالى بأنه ظلم المشركين و قسا عليهم ، من دون تقديم أي تفسير و لا تعليل لذلك . و قوله هذا زعم باطل مردود عليه ، و فيه تدليس و تغليط ، لأنه كان عليه أولا أن ينظر إلى الموضوع من جذوره و من كل جوانبه ، لأن هؤلاء المشركين الذين تعاطف معهم و دافع عنهم ، هم الذين حاربوا الإسلام منذ ظهوره ، حاربوه بكل ما يملكون من قوة و وسائل ، و أبوا أن يُؤمنوا بدين الله تعالى ، و وقفوا في وجهه ، فهل يُوجد جرم أكبر من هذا ؟ . أليس من حق الإسلام أن يذم هؤلاء و يُزيحهم من طريقه ،و هم قد بدؤه أول مرة ؟ . و أركون يعرف ذلك جيدا ، لكن الهوى أعماه و أصمه .
__________
(1) هي قوله تعالى : (( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ... )) .
(2) أركون : القرآن ، 64 ,
(3) الفكر الإسلامي ، ص: 96 .(17/124)
و مما يُثبت ذلك ، و يُبين أن أركون مغالط و ليس موضوعيا ، أنه عندما زعم أن القرآن لم يُقدم تفسيرا و لا تعليلا في إدانته للمشركين ،أغمض عينيه عن الآيات التي ترد عليه و تُفحمه ، و كَذَب على القرآن الكريم في اتهامه له ، فالآيات التي تلت الآية الخامسة من سورة التوبة فيها رد دامغ قاطع مُفحِم على اتهامات أركون ، عندما ذكّرت بأعمال المشركين القبيحة التي يستحقون بها الإدانة و الذم و الطرد و القتال ، فارتكب أركون جريمتين ، الأولى اتهامه للقرآن بما ذكرناه عنه سابقا .(17/125)
و الثانية سكوته عن الحقيقة ، و هي الآيات التي ترد عليه و أغفلها أركون، نذكرها من الآية الخامسة إلى الآية 13 من سورة التوبة ، قال تعالى :{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ،وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ، كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ، كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ، اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ، لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ،فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون ،وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ، أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن(17/126)
تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} -سورة التوبة/ 5-13- ، فهذه الآيات واضحات بينات في ذكر أعمال و جرائم المشركين في حق الإسلام و المسلمين ، لكن أركون أغفلها و افترى على الله تعالى في نسبة الظلم إليه ،و تناسى أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد .
و أما المجموعة السابعة فتتضمن أربع أخطاء ، تتعلق بفهم أركون للقرآن و نظرته إليه ، أولها نظرته إلى الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، فقال : إن القرآن كالتوراة تماما يُقدم (( بعض المعلومات الأولية العديدة و الدقيقة قليلا أو كثيرا )) ، التي تنتسب إلى عدة علوم طبيعية و إنسانية (1) .
و ردا عليه أقول : أولا إن التسوية بين القرآن و التوراة في مجال العلوم و مقارنة الأديان ، و التاريخ ، و العقائد ، و الأنبياء ، و غيرها ، لا تصح مطلقا ، و هي أمر باطل تماما ، و لا مجال للمقارنة بينهما ، و ذلك من أربعة جوانب رئيسية على الأقل - من باب المثال لا الحصر - أولها من حيث الصحة التوثيقية لكل منهما ، فالقرآن الكريم يتمتع بالصحة التوثيقية إسنادا و متنا و كتابة ، لكن التوراة لا تتمتع بأي من ذلك (2) .
و الجانب الثاني يتعلق بالمحتوى ، من حيث المتناقضات و الأخطاء و الخرافات ، و هذه الأمور لا وجود لها في القرآن ، لكنها موجود بكثرة في التوراة و الأناجيل ، و قد سبق ذكر نماذج منها في المجموعة الثانية من هذا المبحث .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 199 .
(2) سبق تناول ذلك في المجموعة الثانية من هذا المبحث . و سنتوسع في تاريخ القرآن الكريم في الفصل الثالث ، إن شاء الله تعالى .(17/127)
و أما الجانب الثالث ، فيتعلق بالمعلومات العلمية ذات الصلة بالعلوم الحديثة ، فهذا النوع موجود بكثرة في القرآن الكريم ، يتوزع على علوم كثيرة ، كالفلك ، و الطب ، و الجغرافيا ، و الفيزياء ، و الجيولوجيا (1) .و أما التوراة فالمعلومات العلمية فيها ، قليلة جدا ، بالمقارنة إلى القرآن الكريم (2) .
و الجانب الأخير -أي الرابع- يتعلق بصحة المعلومات العلمية في القرآن و التوراة من عدمها ، و هذا أمر غاية في الأهمية أغفله أركون و ادعى المساواة التامة بينهما ، و كان عليه أن يُثبت دعواه بالشواهد لتدعيم قوله ، لكنه لم يفعل ذلك ، لأنه يعلم أنه لن يستطيع إثبات دعواه . و الحقيقة أن التوراة فيها أخطاء علمية فادحة ، سكت عنها أركون ، تتعلق بخلق العالم ، و عمر الكون ، و الطوفان (3) . و أما القرآن الكريم فقد تكلم عن نشأة الكون بطريقة علمية صحيحة معجزة ، و أشار إلى حقائق علمية كثيرة ، كتطورات الجنين في بطن أمه ، ذكرها القرآن بطريقة معجزة لم يكتشفها العلم الحديث إلا مؤخرا ، ولم يُكتشف فيه أي خطأ علمي و قد صُنفت في هذا الموضوع مؤلفات كثيرة ، و أُنشئت له هيئة عالمية تضم نخبة من كبار العلماء المسلمين المختصين في مختلف العلوم الحديثة.، ولهذا الهيئة موقع على الأنترنت فيه كثير من أعمالها العلمية بالمجان .
__________
(1) لقد صُنفت في ذلك كتب كثيرة جدا ، منها كتب عبد العليم عبد الرحمن خضر ، و كتب زغلول النجار ، و هي متوفرة على شبكة الأنترنت بالمجان ، منه مثلا : موقع إسلاميات . و موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة .
(2) راجع التوراة لترى بعينيك ، و انظر أيضا : موريس بوكاي : الكتب المقدسة في ضوء العلم الحديث ، ص:39 و ما بعدها ، 145 .
(3) للتوسع في ذلك أنظر : موريس بوكاي : نفس المرجع ، ص: 39 و ما بعدها .(17/128)
و ثانيا إنه واضح من كلام أركون أنه يُريد تقزيم موضوع الإعجاز العلمي ، و يسعى إلى طمسه و إبعاده إن وجد إلى ذلك سبيلا . لأن هذا الموضوع صخرة كأداء في طريقه الرامي إلى الطعن في الإسلام و التشكيك في القرآن و تسويته بالتوراة و الأناجيل ؛ و الدليل على ذلك الشواهد الآتية : أولها إنه عندما اعترف بأن في القرآن معلومات علمية سوى مباشرة بينه و بين التوراة ، لكي لا ينفرد القرآن بهذه الخاصية الهامة .
و ثانيها إنه زعم أن القرآن كالتوراة تماما يُقدم (( بعض المعلومات الأولية العديدة و الدقيقة قليلا أو كثيرا )) ،و زعمه هذا فيه تقزيم لما في القرآن من إشارات علمية ، عندما قال : (( بعض المعلومات الأولية ))، في حين أن الحقيقة هي أن القرآن الكريم ، فيه مئات ، بل آلاف الآيات المتعلقة بالإعجاز العلمي في مختلف العلوم ،و من أراد التأكد من ذلك فليراجع القرآن الكريم ، أو يرجع إلى الكتب و الأقراص المتخصصة في هذا المجال ، فهي كثيرة جدا ، تملأ الأسواق و مواقع الأنترنت ، منها مؤلفات العالم الجيولوجي زغلول النجار .
و الشاهد الثالث إنه -أي أركون- لكي يُقزّم موضوع الإعجاز العلمي في القرآن ، و يطمس أهميته و يُبعده من طريقه ، قال : (( لكن هذا لا يعني أبدا بأن كل اكتشافات العلم الحديث كان قد نُص عليها سابقا في القرآن كما تحاول أن تُوهم بذلك الأدبيات الإسلامية التبريرية التبجيلية المعاصرة )) (1) .
و قوله هذا غير صحيح ، لأنه عمم بأن الأدبيات الإسلامية تقول ذلك ، و نحن قد طالعنا كثيرا منها و لم نعثر على هذا الزعم المُعمم ، بل منها من يعارض التفسير العلمي في القرآن أو التوسع فيه ، خوفا من بعض الآثار السلبية التي ربما قد تترتب عن الخطأ في التفسير و المبالغة فيه. و كان عليه أن يُوثق زعمه المُعمم ، لكي نطلع عليه و نتأكد منه .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص : 199 .(17/129)
و قد طالعتُ كتبا في الإعجاز العلمي في القرآن (1) لكبار المختصين في ذلك ، كزغلول النجار ، و محمد علي البار ، و عبد العليم عبد الرحمن خضر ، فلم أجدهم يزعمون أن كل الاكتشافات الحديثة منصوص عليها في القرآن ، بل وجدتهم حريصين على عدم التسرع في التفسير ، و البعد عن لَي الآيات ، مع الالتزام بالمنهج العلمي الصحيح في التفسير . و حتى إذا قلنا بأن بعض الباحثين المسلمين قالوا بذلك ، هذا استثناء و ليس أصلا ، و عليه فلا داع لتحويل الحبة الصغيرة إلى قبة كبيرة لتقزيم موضوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، كما فعل أركون .
و أما الشاهد الأخير -أي الرابع- فمفاده أن أركون وصف ما قام به الطبيب الفرنسي موريس بوكاي ، في كتابه : دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ، بأنه تلاعبات وهمية ترمي إلى البرهنة على (( أن كل الاكتشافات العلمية كان قد أُعلن عنها في القرآن )) (2) .
و ردا عليه أقول : أولا إن أركون هو المتلاعب ، لأنه قزّم ما قام به موريس بوكاي و سماه تلاعبات ، بدعوى أنه قال : إن كل الاكتشافات أُعلن عنها في القرآن ، فهب أنه قال ذلك ، فهل هذه المقولة تجعل عمله كله تلاعبات وهمية ؟ . فهل هذه المقولة تحجب عنا العمل الهام الذي قام به في دراسته للكتب المقدسة على ضوء العلم الحديث ؟ . و هل تحجب عنا أيضا النتائج الصحيحة ، و الهامة ، و الخطيرة التي توصل إليها ؟ طبعا لا ، لكن أركون سعى جاهدا لطمس ما قام به بوكاي .
__________
(1) منها : خلق الإنسان بين الطب و القرآن ، لعلي البار . و المنهج الإيماني في الدراسات الكونية في القرآن ، و الظواهر الجغرافية في القرآن ، و هما لعبد العليم عبد الرحمن خضر ، و منها مؤلفات و أقراص لزغلول النجار .
(2) الفكر الإسلامي ، ص: 260 .(17/130)
و ثانيا إن أركون لم يُورد و لو مثالا واحدا للتلاعبات التي ادعى أن بوكاي تلاعب بها ، فكان عليه أن يُورد و لو شاهدا واحدا على دعواه لنتحقق منه . و قد درستُ كتاب موريس بوكاي ، عدة مرات ، فوجدت أن الرجل قام بعمل علمي جاد ، كان فيه موضوعيا إلى حد كبير ، و دعم ما ذهب إليه بالأدلة و الشواهد الكثيرة ، و كانت له فيه اجتهادات كثيرة أجاد في معظمها .
و ثالثا إن ما زعمه أركون بأن موريس بوكاي قال : إن كل الاكتشافات العلمية موجودة في القرآن ، فهو قول لم اعثر عليه في كتابه السابق الذكر ، بل عثرتُ على ما يُشير إلى عكس ما ادعاه أركون . فإن بوكاي أعلن صراحة اندهاشه و إعجابه بما وجده في القرآن الكريم ، من إشارات علمية كثيرة سبق بها العلم الحديث ، لكنه مع ذلك ذكر أن القرآن في أساسه ليس (( كتابا يهدف إلى عرض بعض القوانين التي تتحكم في الكون . إن له هدفا دينيا جوهريا ، و أوصاف القدرة الإلهية هي المناسبة الرئيسية في توجيه الدعوات للبشر أن يتأملوا في أعمال الخلق )) (1) .
و ذكر أيضا أن القرآن لا توجد فيه متناقضات كروايات الأناجيل ،و يتميز بطابعه الخاص ، و (( التوافق التام مع المعطيات العلمية الحديثة ... فيه مقالات ذات طابع علمي من المستحيل تصوّر أن إنسانا في عصر محمد -صلى الله عليه وسلم- قد استطاع أن يُؤلفها ، و على هذا فالمعارف العلمية الحديثة تسمح بفهم بعض الآيات القرآنية التي كانت بلا تفسير صحيح حتى الآن )) (2) .
فكلامه هذا شاهد على أن الرجل قال بوجود التوافق التام بين القرآن و العلوم الحديثة ، و أن بعض الآيات القرآنية تسمح المعارف العلمية الحديثة بفهمها فهما صحيحا ، لكنه لم يقل بأن كل الاكتشافات العلمية الحديثة أعلن عنها القرآن مسبقا ، على ما ادعاه أركون .
__________
(1) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ، ص: 436 .
(2) نفس المرجع ، ص: 285-286 .(17/131)
و رابعا تبين لي من دراستي لكتاب موريس بوكاي و موقف أركون منه ، أن هذا الأخير - أي أركون- أدان بوكاي و عمله لأنه أدرك أن عمله هو عمل خطير جدا ، يهدم مشروعه و مشروع شيوخه المستشرقين ، و يقوضهما من الأساس تقويضا ، فاركون منذ أكثر من ثلاثين سنة ، و المستشرقون منذ أكثر من قرنين من الزمن ، و هم يعملون كلهم على هدم الإسلام عن طريق الطعن في القرآن و التشكيك في مصدريته ، و تسويته بالتوراة و الناجيل ، و الزعم بأنه نسخة مُشوهة عنهما . ثم يأتي عالم فرنسي حر يدرس الكتب المقدسة على ضوء المعارف الحديثة ، و يُثبت بالأدلة الدامغة بأن القرآن لا يمكن أن يكون كلام بشر ، من جهة ، و يُثبت بالأدلة القاطعة بأن التوراة و الأناجيل- الحالية- لا يمكن أن تكون من كلام الله ، بسبب كثرة الأخطاء و المتناقضات التي تحويها من جهة أخرى . فعمل كهذا لا يمكن أن يتقبله أركون ،و لا شيوخه ، فكان لا بد من تشويهه و تقزيمه و احتوائه .
و الخطأ الثاني -من المجموعة الثانية- يتعلق بنظرة أركون إلى القرآن من الناحية المجازية اللغوية ، فزعم أن (( القرآن كالأناجيل ليست إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري . إن هذه المجازات لا يمكن أن تكون قانونا واضحا )) . و أن الوهم الكبير هو اعتقاد (( الناس بإمكانية تحويل هذه التعابير المجازية إلى قانون شغال و فعال ، و مبادئ محددة ، تُطبق على كل الحالات و في كل الظروف )) (1) .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 299 .(17/132)
و ردا عليه أقول : أولا إن ما قاله أركون ما هو إلا زعم باطل ، لا دليل عليه من الشرع ، و لا من العقل ، و لا من سيرة النبي-عليه الصلاة و السلام- و صحابته و تابعيهم ، و إنما بناه على الهوى و الظن و أسقطه على القرآن ، لأن الله تعالى نص صراحة على أن القرآن كله حق و نور ، علم و بيان ، آيات و بينات ، طبقه رسول الله و صحابته تطبيقا كاملا شاملا ، و شهد لهم الله تعالى الخيرية و العمل الصالح ، قال سبحانه :{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} - سورة آل عمران/110- ، و{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}- سورة الفتح /18-، و{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} - سورة التوبة/100- . و عليه فإن حكاية المجازات المزعومة باطلة من أساسها لا وجود لها إلا عند أركون و أمثاله .(17/133)
و ثانيا إن المجاز الأركوني المزعوم لا وجود له في القرآن الكريم أصلا ، لأن كل ما في القرآن حقائق ،و هي على نوعين ، الأول نوع واضح بيّن سماه الله تعالى : الآيات المحكمات هن أم الكتاب . و النوع الثاني يتضمن هو أيضا حقائق ، لكنه يحتمل عدة معان ، و نحتاج لفهمها إلى بحث و تدبر و علم غزير ، لمعرف معانيه ، و قد لا نصل إلى معرفته . و هذا النوع يتعلق بالآيات المتشابهات ، التي يتعلق بها الذين في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله ، و لا يعلم تأويلها إلا الله .
و ثالثا إن مسألة المجاز في القرآن لا يصح النظر إليها إلا من داخل القرآن نفسه ، و ليس من خارجه كما فعل أركون ، لأن المجاز الأركوني لا وجود له أصلا في كتاب الله تعالى . و بما أن القرآن كله علوم و حقائق ،و آيات بينات ، فإنه إذا سلّمنا بوجود المجاز اللغوي في بعض آيات القرآن ، كقوله تعالى :{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} - سورة يوسف/82-، فإن هذا المجاز يُعبر عن الحقيقة و لا ينفيها ، و إنما هو أسلوب من أساليب التعبير عن الحقيقة في القرآن الكريم ، مع العلم أنه مجاز محكوم بمحكمات الكتاب و ثوابته . و ليس هو كما زعم أركون ، بأنه مجازات عالية لا تُفهم و غير مُحكمة ، و لا محددة و لا ثابتة ، و من ثم لا يمكن الاحتكام إليه بطريقة صحيحة ، فهذا افتراء على الكتاب و السنة و التاريخ .و لا يخفى عنا أن حكاية المجاز التي أثارها أركون هنا ، هي نفسها حكاية المتشابه في القرآن ، عندما زعم أن آياته مُتشابهة لا يوجد معيار ثابت واضح لفهمها . و قد أبطلنا زعمه هذا ، و هو هنا أثارها من جديد باسم المجاز اللغوي الواسع غير المحدد .(17/134)
و رابعا إن مما يثبت بطلان ما ادعاه أركون ، و أنه كان يهدف من وراء ذلك الطعن في الإسلام ، بدافع الهوى ، و المذهبية المبيتة ، أنه هو شخصيا نقض ما زعمه حول حكاية المجاز الأركوني ، بما قاله في مواضع أخرى من كتبه ، و المتمثل في الشواهد الآتية : أولها إنه اعترف بأن في الإسلام عناصر تكوينية ثابتة ، منها : القرآن ، و الفرائض الخمس و ما يتصل بها ، و السنة النبوية (1) .
و ثانيها إنه-أي أركون- اعترف بأنه لما توقف الوحي بموت النبي أصبح القرآن (( يُرجع إليه من أجل تحديد المعايير الأخلاقية و السياسية ، و الشعائرية و القضائية ، التي ينبغي أن تتحكم منذ الآن فصاعدا بفكر كل مسلم )) (2) . فلو كان القرآن مجازات عالية غير منضبطة كما زعم أركون ، لما كان مصدرا لكل جوانب الحياة دينا و دنيا .
و الشاهد الثالث هو أن أركون وصف الإسلام بأنه دين ونظام عقائدي (3) . و الشاهد الرابع مفاده أن أركون عندما ذكر طائفة من الآيات القرآنية ، قال بعدها : (( لا يمكن أن نفهم معناها الحقيقي إلا إذا وضعناها في سياقها الأولي الذي صدرت فيه لأول مرة في مكة و المدينة (4) . و قوله هذا هو اعتراف منه ، ينسف حكاية المجازات العالية من أساسها ، لأنه أقر بأن للقرآن معان حقيقية يمكن فهماها بشروط ، لا دخل للمجاز فيها أصلا .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 20-21 .
(2) نفسه ، ص: 75 .
(3) نفس المصدر ، 79 .
(4) نفس المصدر ، ص: 205 .(17/135)
و أخيرا -أي سادسا- إن أركون بدعوى المجاز متناقض مع نفسه ، و ناقض لمشروعه ، فأما أنه متناقض مع نفسه ، فإنه إذا كان القرآن مجازات عالية غير منضبطة و لا محددة ، فكيف استطاع هو أن يفهمه بأنه مبني على المجازات العالية من جهة ؟ . و كيف استطاع أن يقدم لنا دراساته عن القرآن و الإسلام على أنها دراسات علمية نقدية تجديدية من جهة أخرى ؟ . حتى أن عناوين مؤلفاته تعبر عن ذلك ، منها : الفكر الإسلامي قراءة علمية ، و الفكر الأصولي و استحالة التأصيل . فأعماله هذه شاهدة على بطلان حكاية المجازات القرآنية .
و أما نقضه لمشروعه ، فإننا إذا سلمنا جدلا بصحة ما زعمه أركون عن المجازات العالية في القرآن ، فإن مشروعه -الذي بناه على مشروع شيوخه- سينهار لا محالة ، لأنه لا يمكن إقامة أي مشروع فكري بناء على نظرة أركون إلى المجاز في القرآن الكريم ، اللهم إلا إذا زعم أركون أنه هو و شيوخه فقط ، الذين يفهمون من القرآن حقائقه ، و غيرهم لا يفهمون منه إلا المجازات !! ، و هذا زعم لا يقوله عاقل ، اللهم إلا من أعماه و أصمه تعصبه و هواه .
و أما لماذا قال أركون بدعوى المجاز و بالغ فيه ، فيبدو لي أنه فعل ذلك ليصل إلى هدم الإسلام من أساسه ،و تقويض أركانه ، بدعوى أن القرآن ما هو إلا مجازات عالية فارغة ، لا توجد فيه حقائق ،و لا ثوابت ، و لا أصول يُفهم بها و يُقام عليها بناؤه العقائدي و الأخلاقي و التشريعي ،و ما على المطالبين بتحكيم الإسلام دينا و دنيا ، إلا التخلي عن ذلك ، لأنهم يطلبون أمرا خياليا لا وجود له في القرآن ، و من ثم لا يمكن تحقيقه على الواقع .(17/136)
و أما الخطأ الثالث فيتعلق بنظرة أركون لمفهوم العقل في القرآن ، فقد زعم أن (( كلمة عقل في القرآن تعني التأمل بشيء موجود سابقا ، لا استكشاف شيء مجهول في المستقبل ، فالعقل هنا متجه نحو ما كان قد قيل ، أو عيش سابقا و ليس نحو ما لم يُصَغ ، أو يُتبلور ، أو يُعش بعد )) (1) .
__________
(1) معارك من أجل ، ص: 258 ، هامش رقم : 16 .(17/137)
و قوله هذا زعم باطل ، فيه افتراء و تدليس ،و تقزيم للعقل في القرآن ،و للقرآن نفسه أيضا. أولا إن مفهوم العقل في القرآن واسع جدا ، عُبّر عنه بصيغة الفعل و النشاط ، باستخدام عبارات : التعقل ، و التفكر ، و التدبر ، و التفقه ، و التبصر ، و النظر ، و الاستكشاف ، و الاستنباط ، و الاستخراج ، و التأمل ، و التفكر في المستقبل ،. مما يعني أن معناه واسع و معقد ، و الآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا ، سنذكر طرفا منها قريبا .(17/138)
كما أن القرآن الكريم دعا إلى السير في الأرض و النظر فيها ، و البحث عن الكيفيات التي يقوم عليها عالم الأشياء في الكون بأسره ، و هذا أمر لكي يتحقق يتطلب عملية عقلية عميقة في كل الاتجاهات ، من ذلك قوله تعالى :{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } - سورة آل عمران/137- ، و {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} - سورة العنكبوت/20- ، و{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ،وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ،وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} -سورة الغاشية/ 17-18- ، و {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}- سورة آل عمران/191- فهناك إذاً أمر بالسير و النظر ، و البحث عن الكيفية ، و هي عملية عقلية معقدة يستلزم القيام بها-على أكمل وجه- أن يكون القائم بذلك عالما باحثا يمتلك وسائل البحث المادية و المعنوية و المنهجية ، لكي يستطيع أن يغوص في أعماق الظاهرة المدروسة الطبيعية منها و البشرية ، لاستكشاف خصائصها و معرفة خلفياتها و آثارها ، الأمر الذي يُثبت قطعا أن ما ادعاه أركون باطل عار عن الصحة تماما .(17/139)
و ثانيا إن زعمه بأن معنى العقل في القرآن يعني التأمل في الموجود مسبقا ، هو زعم باطل و مضحك ، لأن القرآن الكريم دعا إلى استخدام العقل و الفكر و التدبر في الماضي و الحاضر و المستقبل إلى يوم القيامة . كما أنه حث على التفكر و التدبر في القرآن و الطبيعة ، و النفس و المجتمع ، و الآيات الدلة على ذلك كثيرة ، منها قوله تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} - سورة النساء/82- ، و (( كتاب أنزلناه إليك مبارك ، ليدبروا آياته و ليتذكر أولو الألباب ))-سورة ص /29- ،و (( فلينظر الإنسان مما خلق ، خلق من ماء دافق ))-سورة الطارق/5- ، و -{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}- سورة فصلت/53-، و (( و لتنظر نفس ما قدمت لغد ))- سورة الحشر/18- ، و (( في أنفسكم أفلا تُبصرون ))- سورة الروم/8- ، و ((إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ))-سورة النحل /11- ، و (( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ))-سورة يوسف/2- ، و (( و له اختلاف الليل و النهار أفلا تعقلون ))-سورة المؤمنون/8- ، و (( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ))-سورة العد/4 - .
و ثالثا إن زعمه بأن كلمة عقل في القرآن تعني التأمل في الموجود سابقا ، و لا تعني استكشاف شيء مجهول في المستقبل ، هو زعم باطل أيضا ، لأن كل آيات التدبر و التعقل و التفقه و السير في الطبيعة و البحث عن الكيفيات ،و التدبر في الماضي و الحاضر و المستقبل ، و النظر في النفس و المجتمع ، و التاريخ و الطبيعة ، كان هدفها استكشاف المجهول الغائب عن الإنسان لكي ينتفع به في الدنيا و الآخرة.(17/140)
و أما الخطأ الأخير - الرابع من المجموعة السادسة- ، فله علاقة بالخطأ السابق ، عبّر عنه أركون بقوله : (( بالنسبة لبذور العقلانية الموجودة في القرآن )) . و زعمه هذا باطل مردود عليه ، يندرج ضمن نظرته التقزيمية و التشويهية و التشكيكية في نظرته إلى القرآن الكريم و تعامله معه ، فهو عندما اعترف بوجود عقلانية في القرآن و لم يجحدها ، وصفها بأنها بذور للعقلانية ، فهي ناقصة بدائية، لم تصل مرحلة النضج و الترعرع. و هذا زعم باطل ، لا يُعبر عن مضمون القرآن ،و إنما يُعبر عن هوى أركون و مذهبيته المبيتة ، لأن القرآن شاهد على بطلان زعمه ، فهو العلم المطلق ، و الحق المبين ، و النور الساطع ، و البرهان الدامغ ، قال تعالى : (( قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين ))-سورة المائدة /15 - ، و ((يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم ))-سورة النساء/170- ، و (( لقد جاءك الحق من ربك ))-سورة يونس/94 - ، و (( قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ))-سورة يونس /108- ، و (( يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ،و أنزلنا إليكم نورا مبينا ))-سورة 174- ، و (( لئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ))سورةالبقرة/145 - . و الكتاب الذي تلك هي صفاته لا يمكن إلا أن يكون علما مطلقا حاز كل صفات الكمال من قوة البرهان و كمال العقلانية و العلمية الصحيحة ،و قوة التأثير ودحض شبهات الخصوم .(17/141)
و القرآن الكريم قد أنشأ عقلانية علمية صحيحة و أكثر منها ، فأقامها على النقل الصحيح-أي الوحي - ،و العقل الفطري البديهي الصريح ، و العلم الحقيقي الصحيح ، و أبعدها كلية عن الأهواء و الظنون و الخيالات ، كقوله تعالى : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} - سورة الإسراء/36 - ، و (( إن كثيرا من الناس ليضلون بأهوائهم بغير علم )) -سورة - ، و { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} -سورة النجم/23- ، و ، و {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}- سورة النجم/28- و {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}- سورة الحج/8- ، هذا بالإضافة إلى أن تلك العقلانية أقامها القرآن على التصور الصحيح للكون الخالي تماما من الشرك و الخرافة و الكهانة ، و حث الإنسان على التدبر في الكون و اكتشاف سننه و تسخيره لصالحه ، وفق منهجية علمية موضوعية تجريبية استقرائية ، قال تعالى : -{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الجاثية/13-، و{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} - سورة الإسراء/36 - ، و{لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} - سورة يس/40-، و -{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} - سورة الفرقان/2-، و{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ،وَإِلَى(17/142)
السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ،وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} -سورة الغاشية/ 17-18- ، و{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} - سورة العنكبوت/20- و {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } - سورة آل عمران/137-، هذا فضلا عن المجادلات و الردود القرآنية الدامغة على الكفار و شبهاتهم ، كرده على الملاحدة و الدهريين في قوله تعالى : -{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} - سورة الطور/35- ، و -{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} - سورة الجاثية/24-، فهؤلاء لا علم لهم و لا حجة و لا برهان فيما يزعمون ، إلا إتباع الظن و (( وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}- سورة النجم/28- كل هذه الآيات -وغيرها كثير- أغفلها أركون ،و زعم أن القرآن فيه بذور العقلانية ، و كتم الحقيقة الناصعة الدامغة التي تُثبت أن عقلانية أركون و معها عقلانية شيوخه ، لا تصل العقلانية التي أرساها القرآن الكريم ، و دعا إليها . لأن عقلانية الغرب عقلانية قاصرة مليئة بالأهواء و الظنون و الأوهام في كثير من جوانبها ، خاصة التي تتعلق بالإسلام و أهله ، ليس هنا مجال إظهارها ، و إن كانت انتقاداتنا لأركون قد أظهرت طرفا منها ، و سيأتي ذكر طرف آخر فيما يأتي من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى .(17/143)
و من أوهامه المتعلقة بالعقلانية الغربية ، إنه زعم أن إدخال العقلانية الغربية إلى الإسلام سيؤدي في نهاية المطاف ، إلى مراجعة جذرية لمفاهيم الوحي ، و كلام الله و النص المقدس (1) . و قوله هذا وهم و تدليس ، لأن العقلانية الغربية ليست غريبة عن الإسلام و المسلمين ، فقد طبقها الغربيون في دراساتهم عن الإسلام منذ أكثر من قرنين، و أخذها عنهم الملاحدة و الشيوعيون و العلمانيون من أبناء المسلمين و طبقوها على الإسلام زمن الاتحاد السوفياتي و قبله و بعده ، و هم ما يزالون في هذا الطريق ، كأركون و أمثاله ، و مع ذلك فشلت تلك العقلانية المزعومة من أن تُثبت مطاعنها في القرآن ، الذي ما يزال شامخا يتحدى العقلانية الغربية المزعومة و العالم بأسره. و قد رأينا - فيما تقدم من كتابنا هذا- كيف تهاوت شبهات أركون و مزاعمه الواحدة تلو الأخرى ، و ستتهاوى لاحقا باقي شبهاته ، إن شاء الله تعالى .
__________
(1) الإسلام ، أوروبا ، ص: 78 .(17/144)
و قد بلغ به الافتتان بالعقلانية الغربية و الاغترار بها إلى الكلام بلا علم ، فتنبأ بأن (( الصراعات الهائجة التي حصلت بين المسيحية الأوروبية و بين العلم الحديث ، سوف تحصل مع الإسلام ، و ربما كنا قد أصبحنا على أبوابها الآن )) (1) .و قوله هذا هو نبوءة أركونية وهمية مُضحكة ، بناها على أساس نظرته الباطلة إلى الأديان التي لا يُفرق فيها بين الدين الحق و الأديان الباطلة ، بمعنى أنه لا يُفرق بين الإسلام و الديانات الأخرى ، فبما أنه حدث صراع هائج في الغرب بين المسيحية و العلم الحديث ، فإنه سيحدث نفس الشيء مع الإسلام و العلم الحديث ، و قوله هذا باطل مردود عليه ، لأن ذلك لن يحدث مع الإسلام ، في ضوء العلم الصحيح و الفهم الصحيح للإسلام . مع العلم أن القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة الموافقة له ، هما منبع العلم الصحيح ، فيحتضنانه ، و يدعوان إليه ، و يُوجهانه الوجهة الصحيحة ، و في القرآن الكريم مساحات واسعة جدا تتكلم عن العلم : موضوعا و منهجا و قانونا .
و أما المجموعة الأخيرة- أي السابعة من أخطاء أركون المتعلقة بفهم القرآن- فتتضمن خمسة أخطاء ، أولها إنه زعم أن في القرآن بعد أسطوري ، و رمزي لهما فيه أهمية كبرى حاسمة (2) .
__________
(1) نفس المصدر ، ص: 86 .
(2) الفكر الإسلامي ، ص: 109 .(17/145)
و ردا عليه أقول : أولا إن ما قاله عن القرآن هو افتراء عليه ، و تحريف له ، لأن القرآن كله علوم و حقائق ، لقوله تعالى : (( قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين ))-سورة المائدة/15- ، و (( لقد جاءكم الحق من ربكم ))سورة يونس /94- ،و (( الذي أنزل إليك من ربك الحق ))-سورة الرعد/1 - . و أما الرمزية في القرآن فهي أيضا حقائق و ليست خرافات و لا أوهام لأنها جزء منه ، و قد قال سبحانه : (( طسم تلك آيات الكتاب المبين )) -سورة الشعراء /1-2 - ،و (( طس تلك آيات القرآن و كتاب مبين ))-سورة النمل/1 - ، فالرمزية في القرآن حقائق و آيات ، و ليست خرافات إلا عند أركون .
و أما فيما يتعلق بالبعد الأسطوري المزعوم ، فهو ادعاء باطل من أساسه ، يرفضه القرآن الكريم رفضا مطلقا ، كان على أركون أن يذكر لنا أمثلة من هذا البعد الأسطوري المزعوم في القرآن ، مع العلم أن الأسطورة في اللغة العربية تعني الحكايات الباطلة التي لا أصل لها (1) . لذا فمن الأرجح أنه بقصد بالبعد الأسطوري الأخبار و القصص التي ذكرها القرآن الكريم عن الأنبياء و الأقوام السابقين ، لذا وجدنا أركون يصف ما ذكره القرآن عن زيارة إبراهيم الخليل -عليه السلام- إلى مكة من أنها تدخل في الخيال الأسطوري (2) . و زعمه هذا باطل ، يرده القرآن الكريم جملة و تفصيلا ، لأن القصص التي فيه ، وصفها الله تعالى بأنها حق ، كقوله تعالى : (( نحن نقص عليك نبأهم بالحق ))-سورة الكهف/13- ، و (( نحن نقص عليك أحسن القصص ))-سورة يوسف/3 - ، و (( إن هذا لهو القصص الحق ))- سورة آل عمران/62 - ، و (( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك )) -سورة هود/49- ، و (( و الذي أُنزل إليك من ربك الحق ))سورة الرعد/1- .
__________
(1) الرازي : مختار الصحاح ، ص: 197 . ابن هادية : القاموس الجديد ، ص: 54 .
(2) الإسلام ، أوروبا ، ص: 73، 75 . و نحن سنرد على زعمه هذا في الفصل الثالث ، إن شاء الله تعالى .(17/146)
و أركون فيما زعمه عن البعد الأسطوري في القرآن ، هو يفتري عليه ، و يقرأه بهواه و مذهبيته ، لكنه مع ذلك وجدناه في بعض كتبه ، يعترف بالحقيقة القرآنية ، عندما قال عن القرآن : (( هو الذي أقر بأفضلية القصص على الأسطورة كوسيلة لتقديم التعاليم الإلهية المتعالية ، و العلم الموثوق به كبديل لأساطير الأولين )) (1) . و بذلك يكون أركون قد رد على أركون بنفسه .
و أما الخطأ الثاني فيتعلق بنظرة أركون إلى طريقة ترتيب القرآن و انسجامه ، فزعم أن القرآن غير منسجم ، و لا متجانس في تركيبه و ترتيبه ، عندما قال : (( قد يبدو من غير المعقول أو المحتمل أن يكون الخطاب القرآني متجانسا و منسجما ، خاصة إذا ما علمنا أنه استمر على مدى عشرين عاما )) (2) ، و (( طالما عاب عليه الباحثون فوضاه )) (3) .
و زعمه هذا باطل مردود عليه ، و افتراء على القرآن و طعن فيه ، لأنه أولا إن القرآن نفسه ينقض ما زعمه أركون و يبطله ، و ذلك أن الله تعالى نص صراحة على أن القرآن الكريم مُحكم مترابط البناء ، أسلوبا و تركيبا ، معنى و لفظا ، لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، قال سبحانه : (( كتاب أُحكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير ))-سورة هود/1- ، و (( كتاب فُصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون))-سورة فُصلت/3- ، و أنه كتاب {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} - سورة فصلت/42- .
__________
(1) القرآن ، ص: 6 .
(2) نفس المرجع ، ص: 114 .
(3) الفكر الأصولي ، ص: 86 .(17/147)
و ثانيا إن قوله بأن الباحثين عابوا على القرآن فوضاه ، هو قول فيه تعميم غير صحيح ، لأن الذين قالوا ذلك في القرآن هم المفترون المتعصبون لمذهبياتهم ، و المتبعون لأهوائهم، و إلا فإن كثيرا من الباحثين -قديما و حديثا - بحثوا في تناسق القرآن و انسجامه ،و ترتيب سوره و آياته ،و أظهروا كثيرا من أسراره و إعجازه و تماسكه ، كالسيوطي في أسرار ترتيب القرآن ، و محمود الكرماني في أسرار التكرار في القرآن ، و سيد قطب في ظلال القرآن ، و فاضل السامرائي في لمساته البيانية ، و محمد الزفزاف في كتابه التعريف بالقرآن و الحديث . و قد أظهرت البحوث الحديثة حول الإعجاز العددي و الرقمي في القرآن نتائج باهرة و مذهلة حول البناء الرقمي المحكم الذي بُني عليه القرآن على مستوى سوره و آياته ، و حروفه و معانيه (1) .
__________
(1) البحوث في هذا المجال كثيرة ، منها : عبد الدائم كحيل : موسوعة الإعجاز العددي . و احمد ديدات : القرآن معجزة المعجزات . و عبد الرزاق نوفل : الإعجاز العددي في القرآن . و أنظر في الأنترنت : موقع مركز نون الذي يشرف عليه الباحث القدير بسام جرار . و موقع : موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة .(17/148)
و ثالثا ففيما يخص طريقة عرض القرآن لمواضيعه ، -و هي التي عابها أركون - ، فهي طريقة صحيحة هادفة محكمة اختارها الله تعالى لكتابه ، فهو سبحانه لم يستخدم طريقة الموضوع الواحد كما يفعل المؤلفون ، و إنما استخدم -في معظم السور- طريقة تنوّع المواضيع في السورة الواحدة ، يحكمها موضوع محوري واحد ، هو عبادة الله سبحانه و تعالى ، و ما يتصل بها من إيمان و كفر ، و صلاح و طلاح . و هذه الطريقة فرّقت الآيات المتعلقة بموضوع واحد ، لأن المقصد الأول من القرآن هو (( الهداية ، و هذه الهداية تتأتى بتلاوته و الاعتبار بما سيسرده من عظات تُنمي المعرفة بالله تعالى ، و سننه في خلقه ، و حِكمه فيما يُشرّع لهم من تشريعات ، و لو طال سرد الآيات التي تتعلق بموضوع واحد ، و لاسيما موضوع أحكام المعاملات ، لملّ القارئ لها ، أو غلب على قلبه التفكر في وقائعها ، فيفوت المقصود الأول منه ، و هو الهداية )) ،و على هذه الطريقة سار (( في سرد القصص ، فإنه قد يذكر قصة ما في عدة مواضع ، و لا يستوفيها في موضع واحد ، و لكنه إذ يُفرّق وقائع القصة ، يكتفي منها بما هو محل العبرة ، المناسب لكل موضع ذُكرت فيه )) (1) .
و الخطأ الثالث يتعلق بعدد سور القرآن ، فإن أركون عندما ذكر أن سورة التوبة المرتبة في القرآن برقم : 19 ، ادعى أنها تحتل في الواقع رقم : 115 حسب الترتيب التاريخي (2) . و هذا خطأ واضح ، لأن عدد سور القرآن 114 سورة ، و ليس 115 سورة ، ولا ندري هل تعمد أركون ذلك على عادته ، أم أخطأ فيه ، أم هو خطأ من المترجم أم من الناشر ؟ ،و إذا كان أركون تعمد ذلك فهو اعتداء على القرآن و على الإسلام و المسلمين .
__________
(1) محمد الزفزاف : التعريف بالقرآن و الحديث ، ص: 133 .
(2) الفكر الأصولي ، ص: 147 .(17/149)
و أما الخطأ الرابع فيتعلق بكلمة : رب في القرآن ، فزعم أركون قائلا : (( فالواقع أن كلمة رب -أي السيد أو المولي - لا ترد إلا في السور القرآنية الأولى أو المبكرة جدا )) (1) . و قوله هذا زعم باطل بيّن البطلان ، يدل على أن أركون إما أنه لا يعي ما يقول ، و إما أنه يتعمد الوقوع في مثل هذه الأخطاء لحاجات في نفسه ، و إلا فإن هذا أمر لا يصح الخطأ فيه ، لأن القرآن الكريم شاهد على بطلانه بوضوح ، و ذلك أن كلمة : رب ، وردت في السور المكية و المدنية معا على حد سواء ، في آيات كثيرة جدا ، فمن السور المكية : الفاتحة /2 ، و الأنعام/45، 71، 162، و أما المدنية فمنها : البقرة /131 ، و المائدة /28، و الرعد /16 ، و الرحمن /17 ، و الحشر /16 ، و آل عمران /35، 36 ، 38 ، 40 ، 41 ، و الأحقاف /15 ، و المنافقون /10 .
و الخطأ الأخير - الخامس من المجموعة السابعة و الأخيرة- يتعلق بزعم أركون بأن التصوّر النقي للإيمان لم يحدث زمن القرآن ،و إنما حدث بزمن طويل على أيدي الصوفية و العلماء ، فتظافرت جهودهم لتلغي تاريخية الخطاب القرآني أو تمحوها محوا ، و قدموا القرآن لكي(( يُتلى و يُقرأ و يُعاش ، و كأنه الكلام الأبدي المُوحى به من قبل إله متعال ٍ )) (2) .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 137 .
(2) الفكر الأصولي ، ص: 146 .(17/150)
و قوله هذا زعم باطل ، و افتراء على القرآن و التاريخ معا ، لأنه أولا أن الذي حدد التصور الصحيح و النقي للإيمان هو القرآن الكريم أولا ، و السنة النبوية الصحيحة ثانيا ، فمن القرآن قوله تعالى : -{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ،اللَّهُ الصَّمَدُ ،لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}-سورة الإخلاص/1-4- ،و{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} - سورة الشورى/11- ، و{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} - سورة الحجرات/14- ، و{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} - سورة الأنفال/2- .و من السنة قوله عليه الصلاة و السلام : (( ثلاثة من كنا فيه وجد حلاوة الإيمان ... )) (1) ، و (( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا و بمحمد رسولا و بالإسلام دينا )) (2) ، و (( عجبا لأمر المؤمن ف، أمره كله خير ، فإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له و إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له))، أو كما قال عليه الصلاة و السلام (3) ، و (( لا يُؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (4) .
__________
(1) البخاري: الصحيح ، ج 1 ص: 14 . .
(2) مسلم : الصحيح ، ج 1 ص: 62 . .
(3) نفس المصدر ، ج 4 ص: 2295 . .
(4) البخاري: المصدر السابق ، ج 1 ص: 14 . .(17/151)
و ثانيا إن الذي ألغى تاريخية القرآن الكريم و جعله صالحا لكل زمان و مكان إلى أن يرث الله الأرض و من عليها ، ليس الصوفية و لا العلماء المسلمون ، و إنما هو الله سبحانه تعالى الذي جعل دينه خالدا يتحدى االتاريخية ، و يتصف باللاتاريخية ، بفضل أصوله و تشريعاته ،و مفاهيمه و إعجازا ته ، التي اخترق بها الزمان و المكان و الغيب و الشهادة . و قد سبق أن رددنا على أركون في هذا الموضوع و أبطلنا مزاعمه حول حكاية تاريخية القرآن ، و كنا قد نقلنا عنه أنه قال بأن القرآن هو الذي محا تاريخيته ، ثم هو الآن قال خلاف ذلك ، عندما زعم أن المسلمين هم الذين محوا تاريخية القرآن و جعلوه لا تاريخيا ! .(17/152)
و ثالثا إنه افترى على الله تعالى و المسلمين و التاريخ عندما زعم -بلا لا دليل- أن المسلمين هم الذين قدموا القرآن لكي يُتلى و يُقرأ و يُعاش ، و كأنه الكلام الأبدي المُوحى به من قبل إله متعال ، و هذا كلام رجل يتعمد الافتراء و التحريف ، و إلا فإن الأمر واضح وضوح الشمس في رابعة النهار ، و ذلك أن القرآن أول ما نزل على رسول الله نص على أنه كلام الله تعالى المُوحى به إلى رسوله :{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ }- سورة العلق/ 1-2-، و {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (1) سورة الزمر ، و {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} - سورة غافر/2- ، و{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} - سورة النساء/163- و { ،وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } -سورة التوبة/ 6- . و أما المسلمون فمنذ زمن النبي -عليه الصلاة و السلام- و ما بعده ، و هم يصفون القرآن بأنه كتاب الله ، و كلام الله تعالى ، معتمدين في ذلك على القرآن و السنة ، و ما كان عليه الصحابة و التابعين (1) .
__________
(1) انظر مثلا : البخاري : الصحيح ، ج 1 ص: 53، 54 ، 245 . و مسلم : الصحيح ، ج 4 ص: 1847 . و النسائي : السنن ، ج 3 ص: 58 .(17/153)
و ختاما لما ذكرناه ، يتبين أن من أسباب كثرة أخطاء أركون- في نظرته إلى القرآن و تعامله معه-، أنه كان يفتقد إلى النزاهة العلمية في كثير مما قاله عن القرآن ، و لم يكن يُفرق بينها و بين التعصب و التحريف ، فكان يمارس التدليس و التزييف ، و الطعن في الإسلام باسم البحث العلمي الموضوعي ، في حين أن عمله هذا ليس من العلم في شيء .
و منها تأثره السلبي بالاستشراق و ثقته فيه ، و اعتماده شبه الكلي عليه ، في دراساته عن الإسلام و تاريخه و أهله ، حتى سيطرت عليه النظرة السلبية إلى الإسلام ، و أصبح همه الأكبر الطعن فيه ، و إثارة الشكوك و الشبهات حوله ، بدعوى البحث في اللامفكر فيه ، ذلك الهاجس الوهمي الذي ملك عليه تفكيره .
و منها أيضا قلة زاده في العلوم الشرعية ، و تاريخ المذهب الإسلامية (1) ، مع عدم تمكنه من المنهج العلمي النقدي الشامل الصحيح ، رغم كثرة دعاويه باستخدام المنهج العلمي الغربي المزعوم ، فوجدناه كثيرا ما يعتمد على الظنون و الأهواء و الأوهام ، و يركز على إثارة الشبهات و الشكوك بلا مبرر منطقي و لا علمي ، فجاءت أبحاثه عن القرآن خاصة و الإسلام عامة ، أبحاثا ظنية متحيزة ، تفتقد إلى الأصالة و الإبداع ، و القوة في الحجة ، و الموضوعية في الطرح .
__________
(1) سيتضح ذلك أكثر في الفصول الآتية ، إن شاء الله تعالى .(17/154)
و أما بالنسبة إلى الأخطاء المنهجية التي وقع فيها الجابري في نظرته إلى القرآن ، و فهمه له ، و تعامله معه ، فسأذكرها في مجموعتين ، الأولى تتضمن ستة أخطاء ، أولها إنه جعل القرآن الكريم من الموروث الإسلامي ، و هو أساسه المُكوّن له (1) . و خطأه هنا هو أنه لم يفرق بين القرآن الكريم ، و بين ما أنتجه المسلمون من تراث علمي في مختلف العلوم ، لأن ما أنتجه المسلمون هو نتاج بشري بغض النظر عن قيمته و أهميته العلمية ، أما القرآن فهو كتاب الله تعالى المتضمن لكلامه سبحانه لفظا و معنى ، و ليس كلاما بشريا ، لذا فإن إدراجه مع الموروث الإسلامي كجزء منه هو خطأ فادح شرعا و عقلا ، و افتراء على القرآن و الحقيقة .
و هو -أي القرآن- إن كان هو المؤسس و المنشئ للحضارة الإسلامية بتراثها المادي و المعنوي ، فهو ليس من جنسها ، و لا ثمرة لها ، و عليه فإن إدراجه فيها ، و عدم التمييز بينه و بينها هو عمل غير صحيح ، يؤدي إلى نزع الصفة الإلهية عنه ، و التسوية بينه و بين أي عمل بشري آخر .
__________
(1) تكوين العقل العربي ، ص: 66 . و العقل الأخلاقي العربي ، ص: 104 . و التراث و الحداثة ، ص: 23 .(17/155)
و كذلك السنة النبوية الصحيحة الموافقة للقرآن ، فهي ليست تراثا ، لأنه و إن كانت كلام بشر ، فإنها أيضا ليست كلام إنسان عادي ، و إنما هي كلام رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ، الذي أمرنا الله تعالى بإتباعه و الإقتداء به، و جعل طاعته شرطا للقبول و طريقا للسعادة ، قال تعالى : -{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} - سورة النساء/65- و{وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (71) سورة الأحزاب ، و {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }- سورة النور/52- و {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} - سورة النساء/80-، و عليه فلا يصح إدراج السنة النبوية الصحيحة ، ضمن الموروث الإسلامي ، كما فعل الجابري (1) ، و أركون سابقا ، و بذلك لا يصح وصف دين الإسلام بأنه تراث أو موروث حضاري .
__________
(1) تكوين العقل ، ص: 66 .(17/156)
و أما الخطأ الثاني فيتمثل في أن الجابري نقل كلاما للشاطبي مفاده أنه يجب الالتزام باللسان العربي في فهم القرآن ، و يُراعى فيه أسلوبهم في التعبير ، و كونهم أميين معا ، و لا يجوز تحميله من المعاني ما لا يتناسب مع كون العرب أمة أمية ، لقوله تعالى : -{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} - سورة الجمعة/2- ، و عليه فإن الشريعة أمية أيضا . ثم قال : (( و لما كان الأمر كذلك فيجب أن لا نلتمس في القرآن و لا في الحديث ما يخرج عن مفهوم العرب من العلوم و المعارف )) (1) .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 545 .(17/157)
و قوله هذا أكثره باطل ، يحمل بداخله فكرا مدمرا للدين ، لأنه أولا إن هناك خطأ كبيرا في فهم النصوص الشرعية المتعلقة بذلك ، لأن الآية التي ذكرها الجابري نقلها ناقصة ، و هي : (( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم )) ، و القسم الناقص الذي لم يذكره ، نورده كاملا ، و المتمثل في :{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} - سورة الجمعة/2- ،و في آية أخرى (( ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يُزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ))-البقرة /129- ، و كذلك قوله تعالى : -{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}- سورة آل عمران/164-. فهذه الآيات واضحات بينات مُحكمات ، في أن رسالة الإسلام جاءت لتخرج العرب -و غيرهم- من الظلمات إلى النور ، و تعلمهم الكتابة و الحكمة و تزكيهم ، و لم تأت لتبقيهم على أميتهم و جاهليتهم ، و إلا فلا معنى و لا فائدة من مجيء الإسلام أصلا .
و مما ينقض ما ادعاه الجابري ، هو أنه قد صحت أحاديث كثيرة حث فيها رسول الله-عليه الصلاة و السلام- على طلب العلم و تعليمه ، و الحرص عليه (1) . فهذه الأحاديث لم تأت لتكريس الأمية و إبقاء العرب على أميتهم ، و إنما جاءت لتخرجهم من ظلمات الجهل و الجاهلية ، إلى نور الإسلام و العلم .
__________
(1) أنظر مثلا : البخاري : الصحيح ، ج 1 ص: 41 . و أبو داود : السنن ، ج 2 ص: 341 . و الترمذي: السنن ، ج 5 ص: 28 . و ابن ماجة : السنن ، ج 1 ص: 81 .(17/158)
و ثانيا إنه بما أن شريعة الإسلام لم تأت للعرب الأميين فقط ، و إنما جاءت إلى بني آدم كلهم من أميين و متعلمين ، فإنه لا يصح القول بأن : شريعة الإسلام أمية ، لأمة أمية . فهذا كلام باطل و مضحك ، فيه طعن في شريعة الله تعالى ، و وصف لها بما لا يليق بها ، لأن مصدرها هو القرآن الكريم ، و هو كلام الله تعالى ، و كلامه علم و نور و هداية ، فهي شريعة ربانية عالمة ،و ليست شريعة أمية .
و ثالثا إنه لا توجد علاقة حتمية بين لسان العرب ، و بين العلوم التي جاء بها الإسلام ، فإذا كان القرآن جاء بلسان عربي مُبين ، فلا يلزم أن لا يأتي إلا بالعلوم و المعارف التي كان يعرفها العرب آنذاك ، و إلا فلا فائدة من مجيء الإسلام أصلا ، إذا كان لا يأتي بجديد ، و يترك العرب على ما كانوا عليه . لذا وجدنا الله تعالى يمن على الناس بأن أرسل إليهم رسوله ، ليعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم . و هذا الذي حدث في الواقع ، فقد جاء الإسلام بعلوم و عقائد ، و أخلاق و تشريعات ، و مفاهيم و تصورات ، لم يكن العرب يعرفونها ، فرفعهم الله بها ، و (( إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ))-سورة آل عمران /164 - ، و (( ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا ))- سورة هود/49- .(17/159)
و بما أن الله تعالى قال : -{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}- سورة فصلت/53- - ،و بما أنه تحدى عالم الجن و الإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ،و أكد على أنه لن يأتوا بمثله حاضرا و مستقبلا ، في قوله : -{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} - سورة الإسراء/88-، و قال : -{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} -سورة البقرة /23- ، دلّ كل ذلك على أن في القرآن الكريم علوما كثيرة و معجزات باهرة تتجلى مستقبلا ، و بها يتحقق التحدي ، و تقوم الحجة على الجن و الإنس معا . و قد تجلى بعض ذلك في عصرنا الحالي ، بما اكتشفته العلوم الحديثة من إعجاز علمي باهر في القرآن الكريم .(17/160)
و رابعا إن مقولة الجابري خطيرة جدا على القرآن و تعطله من داخله ، فهي مع أنها تخالف دين الإسلام بالضرورة ، فإنها تعني أن القرآن محكوم بعلوم و معارف العرب الذين نزل فيهم ، و لا توجد فيه علوم جديدة خارج ما كان يعرفه هؤلاء ، و من ثم فهو يبقى محصورا في المناخ المعرفي الذي نزل فيه ، و غير قادر على مواكبة التطورات العلمية التي حدثت بعده ، حتى قال الجابري : (( فيجب أن لا نلتمس في القرآن و لا في الحديث ما يخرج عن مفهوم العرب من العلوم و المعارف )) ، و هكذا أوجب الجابري علينا ما لم يلزمنا الشرع به ، و ألزمنا برأيه الذي هو تعطيل لدين الإسلام و علومه ، و تقزيم له ، فهي مقولة توصلنا في النهاية إلى تاريخية أركون التي تزعم أن الإسلام وليد ظروفه الزمانية و المكانية ، محكوم بها لا يمكنه تجاوزها ، و ها هو الجابري يطرحها من جديد بطريقته الخاصة الملتوية المبيتة ، رغم وضوح بطلانها و منافاتها لدين الإسلام بالضرورة .
و أما الخطأ الثالث فيتعلق بطرق الاستدلال في القرآن الكريم ، فقد زعم الجابري أن القرآن (( لا يقرر طريقة معينة في الاستدلال ، و إنما يدعو إلى الاعتبار ، و يضرب الأمثال للناس ليُحرك خيالهم و عقولهم ، و ينبهها إلى مسألة معينة )) (1) .
و ردا عليه أقول : إن في قوله هذا ما يُشير إلى وجود تناقض و تدليس ، و ذلك أنه قال : إن القرآن لا يقرر طريقة معينة في الاستدلال ، مما قد يعني أن القرآن يقرر أكثر من طريقة في الاستدلال ، لكنه عاد و نفى ذلك ، عندما قرر أن القرآن يدعو إلى الاعتبار و ضرب الأمثال ، و هي وسائل تنبيه لتحريك خيال الناس و عقولهم ، فقوله هذا ينفي وجود طرق استدلال في القرآن ، بعدما كان قوله الأول يحتمل وجود أكثر من طريقة .
__________
(1) بنية العقل العربي ، ص: 448 .(17/161)
و ثانيا إن زعمه بأن القرآن لا توجد فيه طرق استدلال ، و إنما فيه وسائل تنبيه ، هو قول غير صحيح و مخالف للقرآن ، لأن الله تعالى كما استخدم وسائل التنبيه استخدم أيضا طرق استدلال كثيرة جدا ، و هو قد أخبرنا أنه أقام الحجة على عباده ، و أيد رسوله بالبراهين و الآيات البينات ، كقوله تعالى : (( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ))-سورة النساء/165- ، و {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} - سورة الأنعام/149-، و (( يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ))- النساء /174- ، و (( الذين يُحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة ))-سورة الشورى 16- ، و (( قد جاءكم بينة من ربكم و هدى و رحمة ))-سورة الأنعام/167- ، و (( و أنزلنا آيات بينات ))-سورة المجادلة /15- ، و (( قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين ))- سورة البقرة /176- . فهذه الآيات هي دليل قاطع دامغ ، على أن الله تعالى أقام الحجة على عباده ، و لم يكتف بتحريك خيالهم و عقولهم ، و بما أنه تعالى أقام عليهم حججه ، فهذا يستلزم حتما بأنه استخدم طرقا استدلالية كثيرة ، لأن كل حجة إلا و تتضمن طريقة استدلالية أو أكثر .(17/162)
و ثالثا إن في القرآن الكريم طرقا استدلالية كثيرة يستخرجها من يتدبره ، منها استدلال الله تعالى على وجوده و صفاته و حكمته ، بخلقه للكون عامة و للإنسان خاصة ، و بإظهار بديع صنعته و جميل كرمه ، كقوله تعالى : (( هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء و الأرض ))-سورة فاطر/3- ، و (( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ))-سورة النازعات /27- ، و (( قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يُعيده ))-سورة يونس/34- ، و (( هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ))-سورة لقمان /11- ، و (( أم خلقوا السموات و الأرض بل لا يوقنون ))-سورة الطور/36 . ، و (( أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ))-سورة الواقعة /59- ، و (( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا و لو اجتمعوا له ))-سورة الحج/73 .
و منها الاستدلال على صدق الأنبياء -عليهم السلام- بالآيات و المعجزات و الكتب التي جاءوا بها ، كقوله تعالى : (( و تلك حجتنا أتيناها إبراهيم على قومه ))-سورة الأنعام/83 ، و (( لقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ))-سورة الأعراف/101- ، و (( جاءتهم رسلهم بالبينات و بالزبر و بالكتاب المنير ))-سورة فاطر/21 - .(17/163)
و منها الاستدلال على صدق نبوة رسول الإسلام ، بالقرآن الكرم ، فهو كتاب عربي معجز، تحدى به الله تعالى العرب و العالم كله ، من الإنس و الجن معا ، فهو معجزة علمية مادية باقية خالدة، إلى أن يرث الله الأرض و من عليها ، لا يوجد مثلها في العالم كله ، قال تعالى : -{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} - سورة الإسراء/88- و -{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} -سورة البقرة /23- .(17/164)
و منها أيضا الاستدلال على صدق نبوة رسول الإسلام ، من خلال شخصية محمد عليه الصلاة و السلام ، فالله تعالى خاطب قريش و من على شاكلتها ، بالمنطق و التاريخ و أقام عليهم الحجة ، فقال لهم : إن هذا النبي الذي كذبتموه و رفضتم دينه و دعوته ، لا دليل عندكم في تكذيبه ، لأنكم تعرفونه معرفة جيدة قبل النبوة ، و هو الصادق الأمين الذي لا تكذبونه ، و صاحب الخلق العظيم ، و هو الأمي الذي لا يقرأ و لا يكتب و انتم تعلمون ذلك جيدا ، و مع ذلك تحداكم بكتاب معجز ،و أن تكذيبكم له لا يقوم على أي برهان و لا حجة ، قال تعالى :{قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} -سورة يونس/16- ، و{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} - سورة الأنعام/33- ، و {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} - سورة القلم/4-، و ( فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} - سورة الأعراف/158-، و{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} - سورة العنكبوت/48- .
و منها إقامة الحجة العقلية باستخدام الاستدلال العقلي المحض ، كثقوله تعالى : (( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ، أم خلقوا السموات و الأرض بل لا يوقنون ))-سورة الطور/35- ، و (( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، فسبحان الله رب العرش عما يصفون ))-سورة الأنبياء /22 - ، و (( و ما اتخذ الله من ولد ، و ما كان معه من إله ، إذا لذهب كل إله بما خلق ، و لعلا بعضهم على بعض ، سبحان الله عما يصفون ))-سورة المؤمنون/91 - .(17/165)
و منها أيضا الاستدلال بطريق الأولى و الأنفع ، و الأصلح و الأضمن ، فالإيمان أحسن من الكفر، و الجنة أحسن من النار ،و و الإيمان أضمن للإنسان من الكفر ، كقوله تعالى-على لسان يوسف- : (( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ))-سورة يوسف/39- ، و (( ماذا عليهم لو آمنوا بالله و اليوم الآخر ،و انفقوا مما رزقناهم ))- سورة النساء/39- ، و (( آلله خير أما يشركون ))-سورة النمل/59- ، و (( الدار الآخرة خير للذين يتقون ، أفلا تعقلون ))سورة الأنعام/169- .
و منها إظهار بعض طرق الاستدلال التي استخدمها الأنبياء في مجادلاتهم لأقوامهم و إقامة الحجج العقلية و المادية الدامغة عليهم ، كما فعل إبراهيم- عليه السلام - عندما كسر أصنام قومه و أبقى كبيرهم ، و قالوا له : (( أأنت فعلت هذا بألهتنا يا إبراهيم )) ، قال لهم : (( بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ، ثم نُكسوا على رؤوسهم ، لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ))-سورة الأنبياء/ 62-65- . و كذلك قوله تعالى : (( إنما تعبدون من دون الله أوثانا و تخلقون إفكا ))-سورة العنكبوت/17- ، و (( أتعبدون ما تنحتون ))-سورة الصافات/95- ، و (( إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يُبصر ))-سورة مريم/42- .(17/166)
و منها أيضا الاستدلال بنقض المنطلق الفكري الذي ينطلق منه الكفار ، في بناء أفكارهم و عقائدهم ، من ذلك أن الله تعالى حكى عن الدهريين و الملاحدة أنهم قالوا : { مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} - سورة الجاثية/24- فرد عليهم الله تعالى بقوله : (( و مالهم بذلك من علم إن إلا يظنون ))-سورة الجاثية /24- ، فنقض دعواهم بأنهم لم يُؤسسوها على أساس صحيح من العلم و المنطق، و إنما أقاموها على الظن ، و إن (( الظن لا يُغني من الحق شيئا ))-سورة النجم/28- ، و إنهم (( إن يتبعون إلا الظن،و إن إلا يخرصون ))-سورة الأنعام/116- . و من ذلك أيضا قوله تعالى : (( و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير ))-سورة الحج/8- ، فالله تعالى أبطل جدالهم و نقضه بأن ذكر أن هؤلاء لم يُقيموا جدالهم على علم صحيح ، ولا على هداية ربانية ، و لا على كتاب رباني منير .(17/167)
و منها أن القرآن الكريم دعا إلى استخدام المنهج الاستدلالي التجريبي لدراسة الطبيعة و التاريخ ، كقوله تعالى : {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} - سورة العنكبوت/20- ،و{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } - سورة آل عمران/137-، و (( فل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ، كان أكثرهم مشركين ))-سورة الروم/42- ، فالله تعالى دعا الإنسان إلى السير في الأرض و النظر فيها ، و البحث عن الكيفية و المصير معا ، ليُقيم عليه الحجة ، و ليُعرفه بما يجهله من تاريخ الطبيعة و الإنسان معا ، و ليحثه على استغلال الطبيعة التي سخرها له . و لا شك أن هذا السير بما فيه من نظر و بحث و اعتبار و استغلال و استنتاج يتضمن منهجا علميا استدلاليا تجريبيا ، إذ بدونه لا يمكن الوصول إلى ما دعت إليه تلك الآيات و غيرها .
و بذلك يتبين أن ما زعمه الجابري من عدم وجود طرق استدلال في القرآن الكريم ، هو زعم باطل . كما أنه تُوجد في القرآن أيضا وسائل تنبيه للاعتبار و التدبر، على ما قاله الجابري ، لكنها من جهة أخرى هي أيضا كثيرا ما تضمنت طرقا استدلالية عكس ما ادعاه الجابري ، كالأمثال التي ذكرها الله تعالى في كتابه ، و عقّب عليها بقوله : (( و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون ))-سورة العنكبوت/43- . فالمثال عندما يُذكر بطريقة صحيحة و في مكانه المناسب ، يكون برهانا و حجة ، و وسيلة استدلال قوية .(17/168)
و أما لماذا أنكر الجابري وجود طرق استدلال في القرآن -على كثرتها و تنوعها- ، و سماها وسائل تنبيه ؟ ، فالجواب هو أن الرجل بموقفه هذا ، يُخطط و يُمهد لأمر خطير جدا ، سنكشف عنه لاحقا ، عندما نتناول مبحث نُظم المعرفة من هذا الفصل إن شاء الله تعالى .
و أما الخطأ الرابع ، فيتعلق بموقف الجابري من مسألة التفسير العلمي للقرآن الكريم ، فهو لا يُؤيد ذلك ، و يرى أنه يجب علينا أن لا نلتمس في القرآن ، و لا في الحديث ما يخرج عن معهود العرب من العلوم و المعارف ، و أيد موقفه بجملة اعتراضات و تحفظات ، أولها إنه عندما يقول بعض الناس : إن في القرآن ما اكتشفه العلم الحديث . فإن هذا يطرح علينا تساؤلات ، منها : أين كنتم قبل الاكتشاف ؟ ، و لماذا لم تكتشفوه أنتم (1) ؟ .
و ردا عليه أقول : أولا إن التساؤلين لا يمسان جوهر الموضوع ، و هو : هل يوجد إعجاز علمي في القرآن أم لا ؟ ، نعم يُوجد إعجاز علمي في القرآن الكريم ، فهو مليء بمئات الإشارات العلمية ،و قد صُنفت في ذلك مُصنفات كثيرة ، و أُنشأت له هيئة عالمية تتولاه . و بما أن الأمر كذلك و الإعجاز العلمي في القرآن أصبح حقيقة ثابتة مُعترف بها ، فلا يُوجد أي مبرر علمي و لا شرعي و لا عقلي لرفض ذلك و إهماله .
__________
(1) الجابري : بنية العقل ، ص: 545 ، 546 . و الجابري : القرآن و العلوم الكونية ، جريدة الاتحاد ، ركن وجهة نظر ، العدد : 10600 ، 25 جمادى الأولى ، 13 يونيو 2004 .(17/169)
و ثانيا أن التساؤلين يُجاب عنهما بأن تخلف المسلمين العلمي ، و ضعف مساهمتهم -أو انعدامها- في الاكتشافات العلمية الحديثة ، هما السببان في تأخر المسلمين من الاستفادة من الإشارات العلمية في القرآن الكريم قبل أن يكتشفها غيرهم . و هذا التخلف موضوع آخر ، لا يمنع من الاهتمام بالاعجاز العلمي في القرآن ، و مع ذلك فقد ذكر بعض المسلمين المختصين في التفسير العلمي في القرآن أنه استفاد من بعض الإشارات العلمية في القرآن ، فتوصل بفضلها إلى الكشف عن حقائق لم تكن معروفة (1) .
و الاعتراض الثاني مفاده أن العلم يتغير ، و قد تصبح حقيقة اليوم ليست حقيقة الغد ، لذا فإن ربط القرآن بكشف من الكشوف (( ينطوي على مجازفة خطيرة )) (2) . و قوله هذا فيه حق و باطل ، لأنه أولا إن العلم الحديث فيه الحقائق و شبه الحقائق ، و النظريات و شبه النظريات ، فعلى المفسر أن يعتمد أساسا على الحقائق الثابتة ، و إذا استعان بالنظريات فلا يجزم بها ، و إنما يجتهد حسب طاقته للوصول إلى الحقيقة أو الاقتراب منها ، وفق المنهجية العلمية الصحيحة .
__________
(1) صرح بذلك العالم الجيولوجي زغلول النجار عندما فسر الآيات العلمية على قناة الشارقة الفضائية ، في شهر رمضان ، من السنوات الماضية القليلة . و من يرجع إلى أبحاثه في الإعجاز العلمي ربما يجد ذلك ، و هي متوفرة على شبكة الأنترنت في موقع إسلاميات .(17/170)
و ثانيا إن المفسر للآيات العلمية في القرآن هو مجتهد ، كغيره من المفسرين المجتهدين ، فإن أصاب فله أجران ، و إن أخطأ فله أجر واحد ، و هو في تفسيره لا يربط القرآن بالكشوف الحديثة ، و إنما يُفسره بها حسب اجتهاده ، و لا يترتب عن ذلك أي ضرر على القرآن كنص مقدس محفوظ . فإذا أخطأ ذلك المفسر فهذا ليس كارثة ، و لا حراما ، و ليس جديدا في تاريخ التفسير ، فالمفسرون منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا ، فيهم المصيب و فيهم المُخطئ . و الله تعالى هو الذي أمرنا بتدبر كتابه و فهمه و تفجير معانية ، كقوله تعالى : -{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} - سورة النساء/82- و{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} سورة محمد/24-،و من يقرأ القرآن و يجتهد في تدبره و تفسيره ، ليس واجبا عليه أن يُصيب و أن لا يُخطئ ، بل عليه أن يجتهد و الأجر آت بإذن الله .
و أُشير هنا إلى أمر هام جدا ، مفاده أنه لا يمكن أن يحدث تعارض بين حقائق القرآن و حقائق العلم ، فإذا ما حدث ذلك ، فإما أننا أخطأنا في فهم القرآن ، و إما أننا أخطأنا في فهم الحقيقة العلمية ، و إما أن ما حسبناه حقيقة علمية هو ليس كذلك ، و إنما هو مجرد نظرية لم يقم الدليل العلمي القاطع على صدقها ، و إما أننا أخطأنا في فهم الأمرين معا ، لأنه لا يمكن أن يحدث تعارض حقيقي بين كتاب الله المسطور- القرآن- و كتابه المنظور -الكون- .
و أما اعتراضه الثالث فمفاده أن القرآن بيان للناس ، ذكر مظاهر طبيعية معروفة لدي الناس ، و لم تُثر فيهم اشكالات ، كتصطح الأرض ، و جريان الشمس ، و هذا فهمٌ يقوم على المشاهدة الظاهرة للشيء ، و هو يفي بالاعتبار لطرح السؤال المطلوب ، و هو : من خلق هذا ؟ ، و ليس كيف حدث هذا النظام (1) ؟ .
__________
(1) الجابري : القرآن و العلوم الكونية ، جريدة الاتحاد.(17/171)
و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، لأنه أولا أن في القرآن مظاهر طبيعية و بشرية كثيرة جدا تتجاوز ما كان يعرفه الناس زمن نزول القرآن الكريم ، فهو -أي القرآن- قد اخترق تاريخ الطبيعة و الإنسان و مستقبلهما ، و تكلم عن أعماق الأرض و السماء ، و تكلم بالتفصيل عن مراحل تكوّن الجنين في بطن أمه ، كقوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} سورة الأنبياء/30- ، و من أراد التوسع في الموضوع فالكتب المتخصصة فيه كثيرة .
و ثانيا إنه ليس في القرآن الكريم : من خلق هذا فقط ، و إنما فيه أيضا الدعوة إلى البحث عن الكيفية ، و السعي في الطبيعة لتسخيرها و الانتفاع بها ،و شكر الله تعالى عليها ، و هذا لا يتأتى إلا بالبحث و الكشف عن السنن الكونية و الاجتماعية ، و توظيفها لخدمة الإنسان . قال تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الجاثية/13- ،و {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} - سورة العنكبوت/20-، و{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ،وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ،وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} -سورة الغاشية/ 17-18-، و {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } - سورة آل عمران/137- .(17/172)
و الاعتراض الرابع مفاده أن أصحاب التفسير العلمي للقرآن يعتمدون على تأويلات و أحيانا على تحليلات غير ناجحة في الغالب ، مع العلم أن هذه الأعمال ليست ذات موضوع اليوم ، كالذي كان زمن طنطاوي جوهري في تفسيره (1) . و قوله هذا ضعيف جدا ، لأن أصحاب التفسير العلمي للقرآن من حقهم أن يجتهدوا كما يجتهد غيرهم من المفسرين ، و قد تكون محاولاتهم الضعيفة طريقا إلى الكشف عن الصحيح المجهول ، مع العلم أن كل علم له ثوابت و حقائق ، و تأويلات و ظنيات .و موضوع الإعجاز العلمي في القرآن يقوم على حقائق كثيرة جدا لا غبار عليها ، و وجود التأويلات الضعيفة لا يقدح في الأصل ، فأما{ الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} - سورة الرعد/17- .
و حالة علم التفسير العلمي للقرآن هي أحسن بكثير مما كانت عليه زمن طنطاوي جوهري ، فقد اتسعت مجالاته ،و كثرت حقائقه ، و تولاه أساتذة متخصصون أكفاء ضمن الهيئية العالمية للإعجاز العلمي في القرآن و السنة ،. و هو اليوم يُعد من الوسائل الدعوية الهامة النافعة المفيدة في الدعوة إلى الإسلام بين المسلمين و غيرهم ، و في الرد على شبهات المستشرقين كأركون و أمثاله الذين يطعنون في أصالة الإسلام و مصدريته ، و يزعمون أنه نسخة محرّفة عن التوراة و الأناجيل . و له أيضا دور كبير في مجال مقارنة الأديان . و بذلك يتبين أن تهوين الجابري من موضوع التفسير العلمي للقرآن هو أمر غير صحيح .
__________
(1) الجابري: القرآن و العلوم الكونية ، جريدة الاتحاد.(17/173)
و أما اعتراضه الخامس فمفاده أن دعاة التفسير العلمي إذا كانوا يهدفون إلى إثبات أن العلم يُزكي القرآن ، فهذا لسنا في حاجة إليه ، و لا كان القرآن في حاجة إليه ، إنها عملية إيديولوجية ، إذا قبلناها و سلمنا بها ، فعلينا نقبل توظيفا ايديولوجيا مارسه الإسماعيليون الباطنيون في استخدامهم لطبيعيات الفلسفة في زمانهم في تأويلهم للقرآن ، و قولهم أن مذهبهم هو الصحيح يشهد له القرآن و العلم مع أن العلم الحديث يحكم ببطلان تلك التي سموها حقائق العلم (1) .
و قوله هذا فيه أخطاء و تغليط و تدليس ، أولا ليس عيبا أن يسعى دعاة التفسير العلمي إلى إثبات أن القرآن سبق العلم الحديث، و أن العلم اكتشف ما في القرآن ، و ليس عيبا أن يزكي القرآن العلم ، و يزكي العلم القرآن ، لأن العملية متكاملة ، فنفسر كتاب الله المسطور بكتابه المنظور ، و العكس صحيح ، و قد قال سبحانه : -{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}- سورة فصلت/53-، فبفضل هذه الآيات الكونية يعرف كثير من الناس أن القرآن حق .
و إذا كان بعض الناس ليس في حاجة إلى أن يزكي العلم القرآن ، و إلى أن يزكي القرآن العلم ، فإن كثيرا منهم - من مسلمين و كفار- في حاجة ماسة إلى ذلك ، لأن في هؤلاء : المسلم الضعيف الإيمان ، و الملحد ، و النصراني ، و اليهودي ، و العلماني ، و المشكاك ، و المريض القلب و العقل ، فهؤلاء كلهم جاء القرآن إليهم عليه أن يُخاطب كل طائفة بما يناسبها ، و منها من لا يُقنعه إلا التفسير العلمي للقرآن لأنه يقوم على الدليل العلمي المادي الملموس.
__________
(1) نفسه .(17/174)
و الشاهد على ذلك أن أركون مثلا زعم أن (( الصراعات الهائجة التي حصلت بين المسيحية و بين العلم الحديث سوف تحصل مع الإسلام أيضا ، و ربما كنا قد أصبحنا على أبوابها الآن )) (1) . فهذا الرجل- و أمثاله- من ضحايا التغريب و العلمانية ، لو كان يعتقد أن القرآن كتاب الله المسطور ، و الكون كتابه المنظور ، و أن كلا منهما يزكي الآخر ، ما تنبأ بهده الخرافة التي ربما يقول بها كثير من الناس .
و ثانيا إن قوله بأن ذلك الفعل هو عملية أيديولوجية ، فهذا لا عيب فيه إذا كانت العملية تقوم على أسس صحيحة شرعا و علما و عقلا ، و من أجل الحق . فما المانع من أن نوظف الإعجاز العلمي في الدعوة إلى الإسلام و التعريف به ، و الرد على الطاعنين فيه ؟ . و القرآن الكريم ذاته وصف نفسه مرارا بأن فيه آيات كثيرات باهرات تحدى بها عالم الجن و الإنس معا ، و أية فائدة من وجودها إذا لم نوظفها لصالح الإسلام و هداية البشرية ؟ ، و الجابري نفسه سخر كتبه -التي أطلعتُ عليها- لخدمة مذهبيته-أيديولوجيته- التي عنوانها : نقد العقل العربي ، و هو قد صرّح بذلك شخصيا في كتابه : التراث و الحداثة .
__________
(1) الإسلام ، أوروبا ، ص: 86 .(17/175)
و ثالثا إن مثال الإسماعيلية الباطنية الذي ذكره الجابري ، هو لا يصلح لرد ما يقوم به دعاة التفسير العلمي للقرآن ، فإذا كان من حق أية طائفة أن توظف ما تراه صالحا لنشر مذهبها فلها أن تفعل ذلك، و الإسماعيليون فعلوا ذلك انتصارا لمذهبهم ، و نحن أنكرنا عليهم مذهبهم الباطل الذي حرفوا به عقائد الإسلام و شريعته ،و طعنوا به في الصحابة (1) ،و أدخلوا في الدين ما ليس منه . و لأنهم أقاموه على طبيعيات فلسفة اليونان الظنية التجريدية التي لم يقم الدليل على صدقها-في الغالب الأعم- ، و قد جاء العلم الحديث و أثبت بطلان ما ظنوا أنه حقائق على ما ذكره الجابري . لذا فلا مجال للمقارنة بين ما يقوم به أصحاب التفسير العلمي للقرآن و ما قام به الإسماعيلية الباطنية ، فدعاة التفسير العلمي للقرآن ينطلقون من الفهم الصحيح للإسلام القائم على محكمات الكتاب و السنة الصحيحة الموافقة له ، و على ما أجمع عليه الصحابة و التابعيون من جهة ، و على حقائق العلم الحديث ، التي لا مجال للمقارنة بينها و بين طبيعيات الفلسفة القديمة التي قامت أساسا على الظن و التجريد من جهة أخرى .
و ختاما لهذا الموضوع أشير هنا إلى أمر هام جدا ، مفاده أن الذين يرفضون التفسير العلمي للقرآن ، هم على أربعة أصناف على ما يبدو لي : أولها صنف من المسلمين الغيورين على القرآن يتخوفون من حدوث آثار سلبية تُسيء إلى القرآن الكريم من جراء ذلك التفسير ، بسبب الخطأ ، أو دخول غير المختصين في هذا الموضوع .
__________
(1) انظر : عبد القاهر البغدادي : الفرق بين الفرق ، ص: 281 ، و ما بعدها .(17/176)
و الصنف الثاني هو من غير المسلمين كاليهود و النصارى ، هؤلاء لا يرحبون بالتفسير العلمي للقرآن ، لأنه يهدد أديانهم و مصالحهم ، و يكشف عن زيف دياناتهم و عقائدهم و كتبهم المقدسة عند المقارنة بينها و بين العلم الحديث من جهة ، و عند المقارنة بينها و بين القرآن من جهة أخرى ، الأمر الذي يؤدي إلى قيام الحجج الدامغة عليهم على صدق نبوة محمد -عليه الصلاة و السلام- ، و بطلان عقائدهم و كتبهم . لذا فهم يتخوفون من ذلك التفسير كثيرا و يرفضونه ؛ لذا فهم يسعون إلى العمل على إبعاد المسلمين من هذا المجال بمختلف وسائل المكر و الدس ،و التدليس و المغالطات و التخويفات من مغبة ذلك التفسير .
و أما الصنف الثالث فيتمثل في بعض الفرق المنحرفة المنتسبة إلى الإسلام ، التي تطعن في صحة القرآن الكريم و تزعم أن الصحابة حرفوه ، لذا فهي تسعى إلى إبعاد المسلمين عن التفسير العلمي و الرقمي معا ، لأنه يُثبت بالأدلة الدامغة بأن القرآن الكريم لم يتعرض للتحريف ، و أن الله تعالى قد حفظ كتابه على أيدي صحابة نبيه-عليه الصلاة و السلام .
و آخرها-أي الصنف الرابع- يتمثل في الملاحدة و العلمانيين من أبناء المسلمين و غيرهم ، و هؤلاء بما أنهم خُصوم للدين عامة و الإسلام خاصة ، فإنهم لا يُرحبون بالتفسير العلمي للقرآن الكريم ، لأنه ينقض عليهم فكرهم و مذاهبهم ،و يُقيم عليهم الحجج العلمية الدامغة على صدق نبوة محمد -صلى الله عليه و سلم ، و ما يترتب عنها من التزامات .
و أما الخطأ الخامس فيتعلق بنظرة الجابري إلى دور الوحي -أي الكتاب و السنة- في التصدي للأديان و المذاهب المخالفة ، و علاقته بالعقل ، فإنه عندما عرض قول المعتزلة بأن العقل فبل ورود السمع -أي الوحي- ، و أنهم استخدموه في الرد على الطوائف ، قال : إنهم حاربوا هؤلاء بالعقل ، و هل (( ينفع معهم الشرع ،و هم لا يُؤمنون به ؟ )) (1) .
__________
(1) العقل الأخلاقي ، ص: 116 .(17/177)
و قوله هذا باطل شرعا و عقلا ، لأنه أولا أن مقولة المعتزلة (( العقل قبل ورود السمع )) ، هي مغالطة ، استخدمها المعتزلة استخداما خاطئا في جدالهم مع مخالفيهم من المسلمين و غيرهم ، لأنه لم يصبح لها - أي المقولة- مكان بعد مجيء الإسلام ، و بما أن المعتزلة ظهروا بعده و ينتسبون إليه ، كان من الواجب عليهم شرعا و عقلا ، إبعاد تلك المقولة نهائيا من مذهبهم ، و إقامة منهج عقلي يقوم في أصوله و فروعه على الشرع الصحيح أولا ، و على العقل الفطري الصريح ثانيا ، و على العلم الصحيح المشهود المجرب ثالثا . لكن المعتزلة لم يفعلوا ذلك و طبقوا في الحقيقة مقولة :(( العقل بعد ورود الشرع ))، و ليس (( العقل قبل ورود الشرع ))،فخالفوا بذلك النقل و العقل معا .
و ثانيا إن قوله -أي الجابري- : (( و هل ينفع معهم الشرع و هم لا يُؤمنون به )) ، هو قول غير صحيح في معظم جوانبه ، لأن الشرع جاء إلى كل الناس ، مؤمنهم و كافرهم ، و خاطب كل الطوائف على اختلافاتها و تناقضاتها بما يُناسبها ، فهو كلام الله الموجه إلى الإنس و الجن معا ، خاطبهم جميعا بمختلف الأدلة العقلية و العلمية و الوجدانية ، و أقام عليهم حججه البالغة الدامغة . و بناء على ذلك فمن اللازم شرعا و عقلا استخدام أدلة القرآن و براهينه في الرد على المخالفين ، ليس لأنهم يُؤمنون بالقرآن ، و إنما لأنها أدلة صحيحة استخدمها الله تعالى في الرد عليهم و إقامة الحجة عليهم ، كرده على الدهريين و المجوس، و اليهود و النصارى ، و المشركين و الصابئة ، و غيرهم من أهل الأهواء ، و في هذه الحالة ليس من حق المخالفين أن يعترضوا علينا في احتجاجنا بالقرآن ، و إنما عليهم أن يردوا على حججه و أدلته إن كانوا صادقين .(17/178)
و مما يؤُيد ما قلناه ، أن القرآن الكريم منذ بداية نزوله خاطب كفار قريش و كل الناس ، و هم لا يُؤمنون به ، و ناقشهم و جادلهم ،و رد على انحرافاتهم و ضلالاتهم . و قد أمر الله تعالى رسوله-عليه الصلاة و السلام- بمجادلة الكفار بالقرآن ، في قوله سبحانه : {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} - سورة الفرقان/52- فكان ثمرة ذلك أن آمن به كثير من الناس ، بسماعهم للقرآن و تدبره ، فالجدال بالقرآن و الرد به على المخالفين مطلوب شرعا و عقلا ، على أن يتم ذلك في إطار من الحكمة و البصيرة ، و حسن اختيار للآيات المناسبة ، التي يتطلبها المقام و الحال . فليس من الحكمة في شيء أن أخاطب الكافر بآيات الصلاة و الصوم و الحج ، لكن من الحكمة -و من الواجب أيضا- أن أخاطبه بالآيات المتعلقة بالتوحيد و إعجاز القرآن و صدقه ، و تحديه للإنس و الجن معا ، و غيرها من الخصائص التي تناسب ذلك الشخص .
و بذلك يتبين أنه لا يصح عقلا و لا شرعا ، أن يعتقد إنسان ما ، أن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى المُعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، ثم يزعم أنه-أي القرآن- لا يصلح للجدال ، و عاجز عن الرد على المخالفين من طوائف الكفار ، و يجب إبعاده من مجادلاتنا و ردودنا على مخالفينا ، فهذا كلام باطل و متناقض ، و فيه جهل و افتراء على النقل و العقل معا ، و فيه أيضا تعطيل للشرع ، و لا يصح أبدا أن يُقال أن كتاب الله لا يصلح للرد به على المخالفين .(17/179)
و ثالثا إن ما قاله الجابري هو مغالطة تتضمن أمرا خطيرا ، و هي تندرج ضمن مشروعه الذي أنجزه في إطار سلسلة : نقد العقل العربي ، فسابقا ذكرنا أنه زعم أن القرآن محكوم بمعارف و علوم المجتمع الذي نزل فيه .و ذكرنا أيضا أنه نفى وجود طرق استدلال في القرآن على قوتها و كثرتها ، و عارض التفسير العلمي للقرآن على ثبوته و أهميته ، و ها هو هنا يزعم أنه لا ينبغي استخدام القرآن في ردودنا على الكفار . و هذا كله يصب في إطار تقزيم الشرع ، و تفريغه من عناصر القوة فيه ، و إبعاده و محاصرته و تحجيمه ، و الانتقاص من دوره و مكانته ، انتصارا للقومية و العقلانية العلمانيتين المزعومتين ، اللتين يتبناهما الجابري ، و سيتضح هذا أكثر ، لاحقا إن شاء الله تعالى .
و أما الخطأ الأخير- السادس من المجموعة الأولى- ، فيتعلق بنظرة الجابري إلى نظام الحكم في الإسلام ، فادعى أن (( القرآن لم يتعرض لمسائل الحكم و السياسة ، و لا شكل الدولة )) ، و ليس هناك نظام حكم شرّع له الإسلام ، و لا توجد نظرية في الحكم نص عليها القرآن و السنة ، و لكي توجد لا بد أن يحدث إجماع بين العلماء المسلمين في العصر الحديث ، على نظرية في الحكم يُوافق عليها جميع المسلمين ، لأن إجماع الأمة مصدر للتشريع في الإسلام )) (1) .
__________
(1) العقل السياسي العربي ، ص: 308، 310 ، 324 .(17/180)
و ردا عليه أقول : إن حكمه العام الذي أصدره عن نظام الحكم في القرآن غير صحيح ، و فيه تغليط و تدليس و إغفال لمبادئ الحكم في القرآن ، لأن القرآن نص صراحة على ثلاثة أسس هي أهم أسس نظام الحكم على الإطلاق ، يجب توفرها في نظام الحكم الإسلامي الراشد العادل ، أولها إن الحكم في الإسلام يخص كل المسلمين على حد سواء ، و ليس خاصا بفرد ، و لا محصورا في أسرة، و لا جماعة ، و لا طائفة من المسلمين ، و هذا مأخوذ من قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} - سورة النساء/59- ، فأولو الأمر هم من المسلمين مطلقا ، لأن الآية قالت صراحة أن أولي الأمر من المسلمين ، من دون تمييز و لا تحديد، و كذلك قوله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} - سورة الشورى/38-، فالأمر بين المسلمين مطلقا من دون تحديد و لا تنصيص .
و الأساس الثاني هو حق الأمة في اختيار من يحكمها ، و هذا مأخوذ من قوله تعالى{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} - سورة آل عمران/159- ، و { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} - سورة الشورى/38-، فمن الذين يُشاورهم النبي-عليه الصلاة و السلام- ؟ ، و من الذين أمرهم شورى بينهم ؟ ، هم الصحابة ،و هم المسلمون ، و الأمة كلها ، فهؤلاء لهم الحق في اختيار من يحكمهم .(17/181)
و الأساس الثالث هو الشورى ، تمارسه الأمة - و هو من حقها- كوسيلة لاختيار من يحكمها ، بالاختيار الحر و الرضا ، لقوله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} - سورة الشورى/38- ، و {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} - سورة آل عمران/159-، فالأمر يتم بين المسلمين بالشورى ، و الشورى تتضمن حرية الاختيار و الرضا . و إذا كان الرسول-صلى الله عليه وسلم- قد أمره الله تعالى بمشاورة أصحابه ، و قد مارسها فعلا معهم على أرض الواقع ،كما هو ثابت من سيرته ، و هو النبي المعصوم ، فإن غيره الأمر في حقه أوجب ، لكي يُمارس الشورى مع الأمة أو مع ممثليها ، و لا ينفرد بالحكم و يتسلط به .
و بذلك يكون الإسلام قد شرّع لأساسيات نظام الحكم و ترك المتغيرات و التقنيات المتطورة للمجتهدين يتعاملون معها وفق المصالح الشرعية و الظروف المحيطة بهم ، و هذا الأمر ظهرت بوادره مبكرا ، زمن الصحابة رضي الله عنهم ، و ذلك أن طريقة اختيارهم للخلفاء الراشدين الأربعة كانت فيها كثير من الاختلافات ، لكنها كانت كلها في إطار من الشورى و الحرية و الرضا .
و ثانيا إن القرآن الكريم عندما شرّع للحياة كلها ، في مجال العقائد ، و الأخلاق ، و العبادات و المعاملات ، و التصورات و المفاهيم ، لم يستثن الجوانب السياسية منها ؛ فهي جزء لا يتجزأ من الشريعة الإسلامية ، و تشريعاتها تشمل كل جوانب الحياة دون استثناء ، لذا فلا يصح القول بأن القرآن لم يشرع للحياة السياسية ، و قد كان رسول الله -عليه الصلاة و السلام- يتولى كل شؤون الحياة من سياسية و عسكرية و غيرها ، من دون تفريق بين مختلف جوانب الحياة . و بما أننا مُطالبون شرعا بإتباعه-عليه الصلاة و السلام- فعلى الحاكم المسلم أن ينوبه في إدارة كل شؤون المسلمين من دون استثناء .(17/182)
و ثالثا إن نظام الحكم الذي نصّ عليه القرآن من خلال الأسس الثلاثة السابقة ، هو محكوم بأساسيات الشريعة و مقاصدها ، فعلى الحاكم المسلم الالتزام بالشورى ، و العدل ، و الأخوة ، و التعاون على البر و التقوى ، و تطبيق الحدود الشرعية ، و حماية الثغور ، فالحاكم في القرآن عليه مهام كثيرة جدا ، كلفه بها ، و بناء على ذلك فلا يصح القول بأن القرآن لم يتعرض لنظام الحكم و مسائله ، فقد تعرّض له من خلال تنظيمه العام للحياة ، و نصه على ثلاثة أسس هي عماد أي نظام سياسي راشد عادل من جهة ، و حثه على الاجتهاد ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و الحرص على العمل الصالح من جهة أخرى .
و رابعا إن اقتراحه باجتماع علماء المسلمين لإيجاد نظرية إسلامية في الحكم ، يُجمعون عليها ، هو أمر لا مبرر له ، لثلاثة أمور ، أولها إن أصول الحكم في الإسلام ومهامه، موجود بوضوح في القرآن و السنة . و ثانيها إن إجماعهم على ذلك يتضمن طعنا في الإسلام ، بأنه ناقص ، و أهمل جانبا هاما من حياة المسلمين ، فجاءوا هم و أكملوا ذلك النقص ، و هذا أمر باطل ، لأن الإسلام نص فعلا على نظام الحكم و مهامه ، و القرآن نص صراحة على أن الدين قد اكتمل ،و أن الله تعالى أنزل كتابه تبيانا لكل شيء .
و الأمر الثالث إن اقتراحه يكاد يكون من المستحيل تحقيقه على أرض الواقع ، لأن العلماء المعنيين بالإجماع تمنعهم من تحقيق ذلك ، ظروفهم الداخلية و الخارجية ، و انقساماتهم المذهبية و السياسية ، و تناقض مصالحهم الدينية و الدنيوية . لكن مع ذلك يبقى هذا الاقتراح يحمل جانبا مفيدا ، إذا ما تعاون هؤلاء على طرح اقتراحات و حلول ، و آليات جديدة سعيا منهم لإقامة نظام حكم إسلامي أصيل معاصر .(17/183)
و خامسا إن مما يُؤيد ما قلته و ينفي ما ذهب إليه الجابري ، إنه هو شخصيا قال كلاما يتضمن نقضا لما نقلناه عنه سابقا ، فقال : (( تلك هي المعالم الرئيسية للنموذج الذي يمكن استخلاصه من مرحلة الدعوة المحمدية عن الحاكم في الإسلام ، إسلام عهد النبوة ، إنه نموذج مفتوح بدون شك ، بمعنى أنه يقبل إضافات كثيرة ، مختلفة و متباينة ، و مع ذلك فإن اعتبار هذه المعالم الأربعة : (( و أمرهم شورى بينهم )) ، و (( شاورهم في الأمر )) ، و (( أنتم أدرى بشؤون دنياكم )) ، و (( كلكم راع ، و كلكم مسئول عن رعيته )) ، كضوابط موجهة ، أو كأصول تأسيسية يسد الباب أمام جميع أنواع التسلط و الاستبداد )) (1) . و هذا اعتراف صريح منه ، بوجود أسس نظام حكم في الإسلام مُورس زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- ، و هو كفيل بإقامة العدل و الحرية في المجتمع . لكنه مع ذلك سيعود بعد أربع صفحات من كتابه العقل السياسي العربي و يقول : (( و بعد فليس هناك نظام في الحكم شرّع له الإسلام )) (2) . و نحن قد أبطلنا زعمه سابقا ، لكن إصراره هذا يندرج ضمن مشروعه الفكري الرامي إلى تقزيم الإسلام و تحجيمه ، فبعدما فعل ذلك معه من الناحية العلمية ، ها هو الآن يفعل معه نفس الشيء من الناحية السياسية ، ليشله علميا و سياسيا ، و يتركه عالة على القومية العلمانية .
و أما المجموعة الثانية فتتضمن خمسة أخطاء تتعلق بنظرة الجابري إلى القرآن و فهمه ، أولها إنه قال : إن القرآن ذكر إن الرسالة المحمدية الخاتمة ، دعوة إلى (( الناس كافة ، و هي من جهة أخرى لا تريد إلغاء الأديان السماوية السابقة ، بل تصحيح الانحراف الطارئ عليها ، و العودة بالناس إلى الدين الأصلي دين إبراهيم )) (3) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص. 320 .
(2) نفس المرجع ، ص: 324 .
(3) تكوين العقل ، ص: 129 .(17/184)
و قوله هذا فيه بعض الأخطاء و الهفوات ، منها : استخدامه لمصطلح الرسالة المحمدية ، و هو مصطلح عام فيه جانب صحيح ، و آخر مشبوه ، مع العلم أن القرآن لم يستخدمه ، و لم اعثر له على ذكر في المتون الحديثية ، لكن استخدمه كثير من العلماء ، قديما و حديثا ، و الجانب المشبوه منه هو أنه قد يَفهم منه بعض الناس ما يقصد به الكفار في استخدامهم له ، من أن الرسالة المحمدية ، أو الدعوة المحمدية هي دين بشري جاء به محمد ، فنُسب ذلك إليه ، فقيل : الدين المحمدي ، و الدعوة المحمدية ، و الرسالة المحمدية .
و منها إنه استخدم مصطلح : الأديان السماوية ، و هو مصطلح غير شرعي لفظا و معنى ، و أما لفظا فلم يرد استخدامه في القرآن و لا في السنة حسب علمي . و أما معنى فالإسلام ينكره و لا يُقره ، لأنه لا يعترف بتعدد دين الله تعالى ، فدينه واحد ، لكنه يعترف بتعدد الرسالات الإلهية آخرها الرسالة الخاتمة التي جاء بها محمد رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ، فدين الله تعالى واحد لا يتعدد و لا يتبعض ، لقوله تعالى : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} - سورة الشورى/13- و{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } -سورة آل عمران/19- ، و{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} - سورة آل عمران/85-(17/185)
و منها أيضا قوله : (( إن الإسلام لا يريد إلغاء الأديان السماوية )) ، فاستخدامه لعبارة (( لا يُريد إلغاء )) ، فيها التباس و عدم دقة في التعبير ، يُفهم منها ما يُخالف الشرع ، لأن الإسلام بما أنه هو الوحيد دين الله تعالى ، و لا يقبل دينا غيره ، فإنه جاء بالفعل لإلغاء و نسخ و إبطال كل الديانات التي سبقته ، و التي ظهرت بعده ، من دون استثناء لليهودية و لا للنصرانية بدعوى أن أصلها الأول سماوي ، لهذا قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} - سورة البينة/6- و {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} - سورة المائدة/73-. فلإسلام إذاً قد ألغى و أبطل و نسخ كل الأديان ، بما فيها النصرانية و اليهودية -، و لا وزن لهما و لا اعتبار في ميزان الله تعالى من حيث القبول و المصداقية و النجاة يوم القيامة ، لكنه مع ذلك لم يلغ حقهما في الوجود الدنيوي و شرّع للمسلمين تشريعات في تعاملهم مع أتباع هاتين الديانتين ، مع تأكيد الإسلام على كفرهم .
و الخطأ الثاني يتمثل في أن الجابري في نظرته لكل من الإسلام و الفلسفة الإسماعيلية لم ينطلق من القرآن وفق منهج صحيح للفهم ، و ذلك عندما قال : إن الفلسفة الإسماعيلية لم (( تكن تقف ضد الإسلام ، و إنما كانت تقدم فهما خاصا يعتبر الصورة البيانية ظاهرا وراءه باطن ، و لكن مضمون الباطن الذي تقدمه الفلسفة الإسماعيلية ما كان يمكن التوصل إليه بدون توظيف واسع ، و واسع جدا للفلسفة الدينية الهرمسية )) (1) .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 211 .(17/186)
و قوله هذا فيه ثلاثة أخطاء جسيمة ، أولها إنه في نظرته إلى الإسلام لم ينطلق من محكمات القرآن و السنة الصحيحة الموافقة له . و ثانيها إنه في نظرته إلى الفلسفة الإسماعيلية الباطنية لم يعرضها على محكمات القرآن و السنة الصحيحة الموافقة له . و ثالثها إنه ادعى أن الفلسفة الإسماعيلية لم تقف ضد الإسلام ، و إنما قدمت فهما خاصا له . و هذا زعم باطل جملة و تفصيلا ، فأي إسلام يريد ؟ ، فإذا كان يقصد الإسلام القائم على محكمات القرآن الكريم ، و السنة النبوية الموافقة له ، و على ما كان عليه الصحابة الذين زكاهم القرآن الكريم و شهد لهم بالإيمان و العمل الصالح ، فهذا الإسلام يرفض تلك الفلسفة الإسماعيلية الباطنية المزعومة رفضا مطلقا ، و لا يعتبرها فهما خاصا له ، و إنما يعتبرها ضلالة من ضلالات أهل الأهواء .
و أما إذا كان يقصد الإسلام الذي لا وجود له في القرآن و لا في السنة الموافقة له ، و هو الذي زعمته الفلسفة الإسماعيلية الباطنية ، فهذا الإسلام هو الذي يتفق معها ، لكن من الخطأ الفادح-شرعا و عقلا- تسميته إسلاما ، لأن الإسلام الصحيح يرفض تلك الفلسفة بإسلامها المُزيف جملة و تفصيلا . و كل من أطلع - بموضوعية و حيادية- على خرافات الإسماعيلية في أئمتهم و تأويلاتهم ، و تشريعاتهم و موقفهم من الصحابة (1) ، فإنه سيحكم بالقطع بأن ما عليه هؤلاء ليس إسلاما ،و إنهم على ضلال . و مما يُؤيد ذلك أن الجابري نفسه اعترف صراحة بأن الفلسفة الإسماعيلية الباطنية استقت فكرها من خارج الإسلام ، كفكرة الباطن التي أخذتها من الفلسفة الدينية القديمة المعروفة بالهرمسية ،و أقامت عليها قلسفتها (2) .
__________
(1) أنظر مثلا : عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق ، ص: 281، 285، 286 . و الشهرستاني: الملل و النحل ، ج 1 ص: 226 . و الذهبي : السير ، ج 15 ص: 151 .
(2) تكوين العقل ، ص: 211 .(17/187)
و أما الخطأ الثالث فيتعلق بموضوع المحكم و المتشابه في القرآن ، فقال الجابري : (( صحيح أن القرآن يُشير إلى أن فيه آيات محكمات لا لُبس فيها في عبارتها ، و بالتالي لا تقبل التأويل ، و آيات أخرى متشابهات قد يلتبس معناها على الناس ، و كذلك أمر بإتباع المحكمات الشيء الذي يعني رد المتشابه إلى المحكم ، و لكن القرآن لم يُعين بالاسم الآيات المحكمات بل ترك ذلك لاجتهاد الناس ، فقد صار في الامكان أن يختار كل طرف نوعا معينا من الآيات و يجعلها من المحكمات يرد إليها ما يقرر في الظاهر معنى مخالفا )) (1) .
__________
(1) العقل الأخلاقي العربي ، ص: 82 .(17/188)
و قوله هذا غير صحيح ،و خطير جدا يتضمن باطلا كثيرا ، لأنه أولا إن آيات المحكم و المتشابه لم تقل أن مقياس التمييز بينها متروكا إلى اجتهادات الناس ، مما يعني أنه في مقدور كل إنسان أن يختار ما يتوافق مع هواه ، ثم يزعم أن اجتهاده أداه إلى ذلك . و إنما نصت على وجود المحكم و المتشابه معا على أن المحكم هو الأصل و الأساس ، و الذي تُرجع إليه المتشابهات ، و من يخالف ذلك فهو من الذين في قلوبهم زيغ . و بما أن الله تعالى نص على وجوب إتباع القرآن ، الذي هو بلسان عربي مُبين ، و آيات بينات ، و نهى عن إتباع الأهواء و الظنون ، دلّ كل ذلك على أن مقياس التمييز و التفريق بين المحكم و المتشابه ليس مقياسا اجتهاديا خارجيا ، و إنما هو مقياس قرآني داخلي، نعرفه بإتباع الكتاب و السنة ، لأن الله تعالى يقول : -{وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (71) سورة الأحزاب ، و {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }- سورة النور/52- و{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} - سورة النساء/80- ، و { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} - سورة الجن/23-،و هو مقياس يقوم على جملة ضوابط داخلية شرعية :(17/189)
أولها الوضوح و الإحكام ، لأن الله تعالى وصف القرآن بأنه عربي مبين ،و أن (( منه آيات محكمات هن أم الكتاب )) ، و الآيات من هذا النوع واضحة مفهومة محكمة المعنى لا تقبل التأويل ، و هي كثيرة جدا في القرآن ، كقوله تعالى : -{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} - سورة الفتح/29- ، و-{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ،اللَّهُ الصَّمَدُ ،لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}-سورة الإخلاص/1-4- و {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}- سورة الفتح /18- ، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} - سورة النساء/59-،و قد يقول بعض الناس أن قوله تعالى : (( و أولي الأمر منكم )) ، متشابه و غير محكم ، فنقول : بل هو محكم لأن الآية عامة تشمل كل مسلم تولى أمرا من أمور المسلمين ، و تصدق عليهم كلهم .(17/190)
و أما يقوله بعض أهل الأهواء و الضلال ، من أن معنى (( و أولي الأمر منكم )) هو آل البيت ، فنقول له : هذا كذب لأن الآية صريحة في أنها تعني أولي الأمر من المسلمين مطلقا من دون تخصيص ، لذا فلا يصح تخصيصها بمثل تلك الأهواء و الظنون و الأكاذيب ، و هذا أمر وضح بطلانه شرعا و عقلا .و الجابري ذكر أن معنى (( آيات محكمات ))، هو عباراتها التي لا لُبس فيها ، التي لا تقبل التأويل ، فإذا كانت لا تقبل التأويل ، فهي لا يمكن تأويلها ، و لا يصح إخضاعها لاجتهادات الناس الذين يُؤولونها حسب أهوائهم و مصالحهم ، و إذا فعلوا ذلك ، فهو عمل مرفوض شرعا و عقلا .
و الضابط الداخلي الثاني هو تفسير القرآن بالقرآن ، و ذلك برد المتشابه إلى المحكم ، لذلك سمى الله تعالى المحكمات بأنهن أم الكتاب ، بمعنى أنها الأصل الذي يُرجع إليه من جهة ، و ذم الله تعالى مرضى القلوب الزائغين الذين يتبعون متشابه الكتاب ابتغاء الفتنة و التلاعب به من جهة أخرى ، كما أنه سبحانه أمرنا إذا تنازعنا في شيء أن نرده إليه أولا ، ثم إلى رسوله ثانيا .(17/191)
و الضابط الثالث هو عدم الوقوع في الخطأ و التناقض و الاختلاف في تفسيرنا للقرآن الكريم ، فإذا حدث شيء من ذلك في فهمنا للقرآن دلّ ذلك على أن فهمنا له ليس صحيحا ، بدليل قوله تعالى :{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} - سورة النساء/82- ،و(( كتاب أُحكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير))-سورة هود/1- ، و أنه كتاب -{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} - سورة فصلت/42-، و المقياس الذي تبناه الجابري يوقع بالضرورة في التناقضات و الاختلافات و يجعل القرآن نهبا لكل من هب و دب ، لا محكمات فيه و لا متشابهات ، و إنما الأهواء هي المقاييس ، و هذا يتناقض مع القرآن الكريم المحكم ، الأمر الذي يدل على أن ما زعمه الجابري غير صحيح .
و الضابط الخامس هو فهم القرآن بالسنة النبوية الصحيحة الموافقة و المفسرة له ، و هذا أمر معروف من دين الإسلام بالضرورة ، فقد نص القرآن الكريم مرارا و تكرارا على وجوب إتباع السنة التي هي المفسرة و المبينة للقرآن الكريم ، محكمه و متشابهه ، و ليست اجتهادات الناس كما زعم الجابري .(17/192)
و الضابط السادس هو فهم القرآن من خلال ما أجمع عليه الصحابة -رضي الله عنهم- ، في التزامهم بالقرآن و فهمهم له ، لأنهم هم الذين عاصروا نزول الوحي ، و أخذوا تطبيقاته من الرسول-عليه الصلاة و السلام -، فهم المطبق الثاني للإسلام بعد رسول الله ، و هذا المبدأ الذي ذكرناه كضابط لتمييز المحكم من المتشابه ، نص عليه القرآن صراحة ، في قوله تعالى : -{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} - سورة النساء/115- ، و{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} - سورة التوبة/100-
و الضابط الأخير-أي الخامس- هو الفهم الصحيح للقرآن القائم على ثوابت الشرع و مقاصده ،و على صريح المعقول و العلم الصحيح ، قال تعالى : -{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} - سورة النساء/82- ، و{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} - سورة ص/29 -، و{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}- سورة فصلت/53- و بمعنى آخر نفهم القرآن بناء على محمكاته و ثوابته و مقاصده ، و بدائه العقول ، و صحيح العلوم على اختلاف مجالاتها .(17/193)
و ثانيا إن ما ذهب إليه الجابري فيما يخص مقياس معرفة المحكم من المتشابه هو نفس المنهج الذي ذمه القرآن الكريم في قوله تعلى : (( و أُخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ))، فالجابري وقع في المحظور الذي حذّر منه القرآن ، لأنه لم ينظر إلى القرآن من خلال مكوناته و قواعده الداخلية الشاملة ، و لم يفرق بين الفهم الصحيح للقرآن ، و بين التأويل الباطل الذي يرفضه القرآن ، فليس كل فهم للقرآن يُعد صحيحا ، فالقرآن ميز بين قراءتين ، واحدة تقرأ القرآن من داخله حسب الضوابط الشرعية التي ذكرناها ، و أخرى تقرأه قراءة خارجية انتقائية معتمدة على المتشابه حسب أهوائها و مصالحها .
و ثالثا إن مما يدل على بطلان مقياس الجابري و تهافته ، أمران : الأول إن القرآن نص مرارا على وجوب إتباعه و حذّر من مخالفته إتباعا للأهواء و الظنون ، لكن مقياس الجابري عكس الأمر تماما فجعل القرآن تابعا لاجتهادات الناس يستجيب لهم فيها كيفما فهموه ، و لا شك أن هذا أمر باطل شرعا و عقلا . و الأمر الثاني هو أن القرآن نص على أنه كتاب محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، و أنه حبل الله المتين ، لكن مقياس الجابري قلب كل ذلك ، و جعله فاقدا لتلك الخصائص ، تابعا لاجتهادات الناس يستجيب لأهوائهم و مصالحهم و تناقضاتهم كما يُريدون ، و هذه نتيجة خطيرة مدمرة للدين ، يرفضها الإسلام جملة و تفصيلا ، فدلّ ذلك على أن مقياس الجابري في فهم المحكم و المتشابه غير صحيح مخالف للشرع .
و أما الخطأ الرابع فيتعلق بسبب تحريم القرآن للخمر ، فادعى الجابري أن في القرآن نص أمر باجتناب الخمر و حرّمه من دون (( بيان المبرر أو الباعث ، أو العلة أو الحكمة ، من هذا التحريم )) ، و إنما الفقيه هو الذي بحث عن العلة ، و هو السكر معتمدا على الظن القوي (1) .
__________
(1) بنية العقل العربي ، ص: 139 .(17/194)
وقوله هذا خطأ فادح فاحش لا يجوز الوقوع فيه ، و افتراء على القرآن و السنة معا ، لأنه أولا أن القرآن الكريم -في تحريمه للخمر- تناوله في ثلاث مراحل ، في كل مرة يذكر التعليل ، و في آخرها فصّل في التعليل و الحكمة ، ففي المرة الأولى قال تعالى : (( يسألونك عن الخمر و الميسر ، قل فيهما إثم كبير و منافع للناس ، و إثمهما أكبر من نفعهما ))-سورة البقرة/219- . و في المرة الثانية قال تعالى : (( يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ))- سورة النساء/85 - .و في المرة الأخيرة-أي الثالثة- التي حُرّم فيها الخمر نهائيا ، قال فيها تعالى : -{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} - سورة المائدة /90- .
و ثانيا إن علة تحريم الخمر موجودة أيضا في السنة النبوية الصحيحة ، و ليست هي من إبداع الفقهاء كما زعم الجابري ، فقد صح الحديث أن رسول الله -عليه الصلاة و السلام- قال : (( ما أسكر كثيره فقليله حرام )) (1) ، فالحديث نص صراحة على علة التحريم ، و هي السكر ، و من قبله القرآن الكريم الذي فصل في التعليل و الحكمة . فكيف غاب هذا عن الجابري ؟ ! ، و هل نساه أم تناساه ؟ ، يبدو لي أنه تعمّد إغفال ذلك لنفي تعليل الشرع لأفعال الله تعالى و أحكامه ، تمهيدا إلى الوصول إلى نفي القياس الفقهي ، الذي سنتناوله في مبحث الفقه من هذا الفصل ، و الله أعلم بالصواب .
__________
(1) أبو داود : السنن ، ج 2 ص: 352 . و الألباني : صحيح ابن ماجة ، ج 2 ص: 245 .(17/195)
و أما الخطأ الأخير-الخامس من المجموعة الثانية- فيتعلق بسكوت الجابري عن بعض الأخطاء في فهم القرآن الكريم ، نقلها عن القاضي النعمان الإسماعيلي (ت351أو 363ه ) ، أولها إنه نقل عنه قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} - سورة النساء/59- ، ففسر (( أولي الأمر منكم )) بمعنى أئمة الشيعة المزعومين الذين يُؤمن بهم الإسماعيلية (1) . و تفسيره هذا باطل شرعا و عقلا ، لأن الآية واضحة وضوح الشمس ، لا تُوجد فيها أية إشارة فريبة و لا بعيدة ، تُشير إلى ما زعمه القاضي النعمان ، و إنما هي تشير إلى أن أولي الأمر هم من يتولون أمور المسلمين مطلقا من دون تحديد ، و الآية قالت : (( منكم )) ، أي من المسلمين عامة ،و الإسماعيليون يزعمون أن أئمتهم من آل البيت العلوي ، و هذا الرجل-أي النعمان- لم يستنطق الآية ، و لا فسرها بآيات قرآنية أخرى ،و إنما قرآها بهواه و فرضه عليها ، بناء على خلفياته المذهبية ، و هذه الطريقة في التفسير يرفضها الشرع ، و ليست من العلم في شيء ، بل هي الهوى بعينه . و مع ذلك سكت الجابري عن الرجل و تفسيره .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 321 .(17/196)
و ثانيها إنه نقل عن القاضي النعمان قوله تعالى : (( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ))-سورة النحل/43- ، و-{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} - سورة النساء/83- ، ففسر (( أهل الذكر)) ، و أولي الأمر)) ، و (( الذين يستنبطونه )) ، بأنهم أئمة الإسماعيلية (1) . و زعمه هذا باطل هو أيضا ، لا دليل عليه من تلك الآيتين ، و لا من آيات القرآن الأخرى ، و إنما قرأهما بهواه و خلفياته المذهبية غير الشرعية . فالآية الأولى تكلمت عن أهل الذكر من المسلمين مطلقا ، و هم أهل العلم و المعرفة ، و الخبرة و الدراية ، من دون أي تحديد لا بإشارة قريبة و لا بعيدة إلى ما زعمه القاضي النعمان .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 323 .(17/197)
و أما الآية الثانية فهي أيضا لا تُشير مطلقا إلى ما ادعاه النعمان ، و إنما فيها ما يُخالف ما زعمه ، بدليل الشاهدين الآتيين ، الأولى إن الآية أشارت إلى وجود جماعة من أولي الأمر زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- وبعده ، و هذا يعني أنهم أناس من المسلمين ، يتولون بعض أمورهم ، في حياة رسول الله و بعده . و هذا يُخالف ما يزعمه الشيعة الإمامية من أن أئمتهم كالأنبياء في المكانة و الطاعة ، و لا يتولون الإمامة في وقت واحد (1) . و عليه فإن علي بن أبي طالب لا يتولى الإمامة إلا بعد وفاة النبي -عليه الصلاة و السلام- ، لكن الآية أشارت إلى وجود أولي الأمر زمن رسول الله .
__________
(1) أنظر مثلا : عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق ، ص: 281 و ما بعدها . و الشهرستاني : الملل و النحل ، ج 1 ص: 226 . و محمد بن يعقوب الكليني : الكافي ،ط3 ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، 1328ه ج1 ص : 18%ر، 187، 258 . إحسان إلهي ظهير : الشيعة و السنة ، ط1 ، دار الصحوة ، القاهرة ، 1986 ، ص: 42، 49 و ما بعدها . ، ص: . و الشيعة و التشيع فرقا و تاريخا ، ط 4 ، ترجمان السنة ، باكستان ، 1405ه ، ص: 332 و ما بعدها , ، ص: .(17/198)
و الشاهد الثاني مفاده أن الآية ذكرت أن أولي الأمر يستنبطون الأحكام الشرعية استنباطا ، بالاجتهاد و النظر ، حسب ظروفهم و قدراتهم العلمية ، كغيرهم من الناس ، و هذا يتنافى مع ما يزعمه الشيعة الإمامية بأن أئمتهم معصومون من الخطأ ، و يعلمون ما كان و ما سيكون ، و يُلهمون العلم إلهاما ، فهم كالأنبياء لا يختلفون عنهم إلا في الاسم (1) . فمن كانت هذه صفاته ليس في حاجة أصلا إلى استنباط العلوم ، فهو كالرسول ، و عليه فالآية لا تخص هؤلاء الأئمة المزعومين ، و إنما تخص أولي الأمر من المسلمين مطلقا ، لذا نسبت إليهم الآية الاستنباط و لم تنسبه إلى النبي -صلى الله عليه و سلم- . و هذه الأخطاء و التدليسات سكت عنها الجابري ،و لم يُعقب عليها ! ! .
و ختاما لأخطاء الجابري المنهجية في نظرته إلى القرآن و فهمه له ، و تعامله معه ، يتبين أنه وقع في أخطاء كثيرة ، ذكرناه مفصلة ، وقع فيها لأسباب عديدة ، منها غياب النظرة الصحيحة و الشاملة لدين الإسلام . و تأثره السلبي بالفلسفة الأرسطية و علم الكلام . و انتصاره لمذهبيته على حساب الحقيقة القرآنية .
ثانيا : الأخطاء المنهجية المتعلقة بالشريعة و الفقه :
وقع الباحثان محمد أركون و محمد عابد الجابري في أخطاء منهجية كثيرة ، تتعلق بالنظرة إلى الشريعة و الفقه الإسلامي ، و موقفهما من بعض مسائل الشريعة و الفقه و أصوله ، فبالنسبة لأركون فسأذكر تسعة من أخطائه ، أولها إنه شكك في الصفة الإلهية للشريعة الإسلامية ، و نفاها حين قال : (( كان المسلمون قد تلقوا هذه القوانين و تمثلوها و عاشوها ، و كأنها ذات أصل إلهي)) ، و (( كيف حصل أن اقتنع ملايين البشر أن الشريعة ذات أصل إلهي )) ، ثم انتهى أركون إلى أن الشريعة تشكّلت تدريجيا بفضل ممارسات القضاة و اجتهادات العلماء (2) .
__________
(1) نفس المصادر و المراجع السابقة .
(2) تاريخية الفكر العربي ، ص: 296، 297 .(17/199)
و قوله هذا باطل مردود عليه ، و افتراء على الشرع و الحقيقة معا ، لأنه أولا لم يُفرّق بين الشريعة و الفقه ، في حين أن الفرق بينهما واضح كالفرق بين السماء و الأرض ، لأن الشريعة هي كلام الله تعالى و سنة رسوله-عليه الصلاة و السلام- ، و بمعنى آخر إنها تتمثل في كل ما جاء في القرآن و السنة الصحيحة ، من عقائد و أخلاق ، و أحكام و معاملات ، و تصورات و مفاهيم ، و أخبار الأنبياء و أقوامهم (1) . قال تعالى : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} - سورة المائدة/48- ، و{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} - سورة الجاثية/18 . و أما الفقه فهو ما أنتجه العلماء من اجتهادات و اختيارات من خلال تدبرهم في الشريعة و استنباط أحكامها ؛ فما صحّ منها فهو موافق للشريعة ، و ما خالفها فليس منها ، و يبقى كل من النوعين ضمن دائرة الفقه الإسلامي .
__________
(1) عمر سليمان الأشقر : تاريخ الفقه الإسلامي ، قصر الكتاب ، البليدة الجزائر ، ص: 14 و ما بعدها .(17/200)
مع العلم أن الفقه الإسلامي ليس كله اجتهادات ، بل أصوله و أبوابه الفقهية هي نصوص شرعية مأخوذة مباشرة من الكتاب و السنة . و بناء على ذلك فإننا نقول : إن الشريعة المتمثلة في القرآن و السنة الصحيحة الموافقة له ، هي شريعة إلهية خالصة ، و أن الفقه الإسلامي مُكوّن من ثلاثة أقسام : أولها أصول الأبواب الفقهية ، كالمواريث و القصاص ، و الصلاة ، و الزكاة ، هي إلهية أيضا ، لأنها أصول مأخوذة من الشرع ، لا دخل للاجتهاد في تكوينها . و القسم الثاني يتمثل في الاجتهاد الصائب ، و هذا ليس إلهيا ، و إنما هو موافق للشريعة ، فيُؤخذ به لأجل ذلك . و القسم الثالث يتمثل في الاجتهاد غير الصائب ، فلا يُؤخذ به ، لأنه لا يُوافق الشريعة ، لكنه يبقى منتميا إلى الفقه الإسلامي (1) .
__________
(1) نفسه ، ص: 14 و ما بعدها . و خصائص الشريعة الإسلامية ، قصر الكتاب ، البليدة ، الجزائر ، ص: 11 و ما بعدها .(17/201)
و ثانيا إن الشريعة الإسلامية ليست كما زعم أركون بأنها ليست ذات أصل إلهي ، و إنما هي إلهية ربانية الصفة أصولا و فروعا ، لأنها هي نفسها كلام الله تعالى ، و سنة رسوله الصحيحة ، لقوله تعالى : -{صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} -سورة البقرة/138- ، و{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (1) سورة الزمر ، و {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} - سورة غافر/2-{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} - سورة الجاثية/18 ، و {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} - سورة النساء/80-، و{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} - سورة النساء/65- ، فأركون قد افترى على القرآن و السنة و على المسلمين و التاريخ عندما زعم ذلك الزعم الباطل ، لقلة علمه ، و شدة تعصبه على الإسلام و المسلمين .
و الخطأ الثاني هو أن أركون زعم أن الرواية السنية الرسمية في نشأة الشريعة ما هي إلا وهم ، و أن روايتها من أن الشريعة تكونت تدريجيا عبر ثلاثة قرون على أيدي القضاة و العلماء المجتهدين ، مستنبطين أحكامهم من القرآن ، ثم تجمعت النصوص الفقهية -القضائية مكونة المذاهب الأربعة المعروفة ، ما هي-عند أركون- إلا رواية وهمية مخالفة لما حدث في الواقع حسب ما أثبته المستشرقون ، كجولد تزهير ، و شاخت ، إذ كانت الرواية الرسمية تهدف إلى (( إصباغ الصفة الإلهية على قانون أُنجز داخل المجتمعات الإسلامية ، و بشكل وضعي كامل)) (1) .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 296، 297 .(17/202)
و زعمه هذا يتضمن أباطيل و مغالطات ، لأنه أولا أنه زعم بأنه يذكر الرواية السنية الرسمية في نشأة الشريعة ، و هي التي ذكرناه عنه ، و هي في الحقيقة لا تمثل الرواية الرسمية السنية ، لأن الرواية السنية فرّقت بين الشريعة الإلهية ، و بين الفقه الإسلامي ، فهي لم تقل أن الشريعة تكوّنت تدريجيا عبر ثلاثة قرون ، و إنما قالت إن الشريعة متمثلة في الكتاب و السنة الصحيحة ،و إن الفقه الإسلامي هو الذي تكون تدريجيا عبر ثلاثة قرون (1) .
و ثانيا إنه قال : إن الرواية السنية الرسمية قالت أن القضاة استنبطوا أحكامهم من القرآن ، فكان الحكم النهائي مستنبطا بشكل أو بآخر من القرآن ، ثم تجمعت تلك الأحكام في المذاهب المعروفة عبر ثلاثة قرون (2) . و قوله هذا لا يمثل إلا جانبا من الحقيقة فقط ، المتمثل في اعتماد القضاة على القرآن ، لكنه لم يذكر الحقيقة كاملة التي ذكرتها الرواية السنية ، و هي أن القضاة و الفقهاء ، كما اعتمدوا على القرآن ، اعتمدوا أيضا على السنة النبوية ثانيا ، و على الاجتهاد و الرأي و القياس ثالثا (3) . و بذلك يتبين أ، أركون لم يكن أمينا في نقله للرواية السنية في نشأة الفقه الإسلامي ، و ليس الشريعة كما زعم هو ، كما أنه لم يُوثق معلوماته عن الرواية التي زعم أنه تُمثل الرواية السنية الرسمية .
__________
(1) الأشقر : تاريخ الفقه الإسلامي ، ص: 14 و ما بعدها . و المدخل إلى دراسة المدارس و المذاهب الفقهية ، ط2 ، دار النفائس ، الأردن ، 1998 ، ص: 11 و ما بعدها .
(2) تاريخية الفكر ، ص: 296 .
(3) الأشقر : تاريخ الفقه الإسلامي ، ص: 71 و ما بعدها .(17/203)
و ثالثا إن قوله بأن الرواية الرسمية -التي ذكرها هو- أضفت على القانون الذي أنجزه المسلمون الصفة الإلهية ، هو زعم باطل ، لأن علماء أهل السنة فرّقوا منذ البداية بين الشريعة الإلهية المتمثلة في الكتاب و السنة الصحيحة ، و بين اجتهادات العلماء التي كونت فيما بعد المذاهب الفقهية . و هذه المذاهب لم يزعم مؤسسوها بأنه إليهة ، و إنما قالوا صراحة : إنها اجتهاداتهم و آراؤهم ، تحتمل الخطأ و الصواب ، و نهوا الناس عن تقليدهم ، و حثوا أهل العلم على الاجتهاد و طلب الدليل . (1)
و رابعا إن قوله : إن القانون-أي الفقه- أُنجز (( داخل المجتمعات الإسلامية بشكل وضعي كامل )) ، هو قول مبالغ فيه ، و يتضمن خطأ واضحا ، لأن الفقه الإسلامي ليس كله إنتاجا بشريا أنتجه العلماء المسلمون ، و إنما هو يتكون من قسمين: قسم إلهي ، و آخر بشري قام على الإلهي ، فالفقه الإسلامي ليس كله اجتهادات و اختيارات تقوم على الرأي و القياس ، و إنما فيه أصول و أحكام مأخوذة من الشريعة مباشرة ، و هي التي تمثل الجانب الإلهي . و فيه الاجتهادات و الاختيارات التي هي تمثل الجانب البشري من ذلك الفقه . مع العلم أن الفقه الإسلامي لا يمكن أن يشمل الشريعة الإسلامية كلها ، لأنها أوسع منه بكثير .
و أما الخطأ الثالث فزعم فيه أركون أن مبادئ أصول الفقه الأربعة التي حددها الشافعي في كتابه الرسالة ، و هي : القرآن و الحديث، و الإجماع ، و القياس ، ظهرت متأخرة عن القانون (( المدعو إسلاميا ، فأدت هذه المبادئ الأربعة إلى ضبط و تقديس القانون )) (2) .
__________
(1) أنظر مثلا : ولي الله الدهلوي :الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ، دار النفائس ، بيروت ، 1983، ص: 27 و ما بعدها
(2) تاريخية الفكر ، ص: 297 .(17/204)
و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، لأنه أولا أن أصول الفقه لم تظهر متأخرة ، لأن أصلها في القرآن و السنة ، و الشافعي لم يكتشفها و لا أبدعها ، و لا أخترعها ، و إنما دونها و قعدها في كتابه الرسالة ، لكنها كانت موجودة و معروفة لدى الصحابة و التابعين ، و مدونة في الكتاب و السنة ، فقد نص القرآن الكريم على المصدريين الأساسيين في آيات كثيرة جدا ، و هما : الكتاب و السنة ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} - سورة النساء/59-، و {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} - سورة النساء/80-، و -{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} - سورة الحشر/7- و نصّ على الاجتهاد في قوله تعالى : {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} - سورة ص/29 -، و {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} - سورة النساء/82-، و{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} - سورة النساء/83-، و الاجتهاد يندرج فيه الإجماع و القياس ، لأن كلا منهما ضرب من الاجتهاد .(17/205)
و كذلك السنة النبوية ، فهي أيضا نصت على الاجتهاد و الإجماع ، في قول النبي -عليه الصلاة و السلام- : (( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب ، فله أجران ، و إذا حكم فأخطأ فله أجر واحد )) (1) ، و (( إن أمتي لا تجتمع على ضلال )) (2) . و كذلك الحال بالنسبة الصحابة -رضي الله عنهم- ، فإنهم هم أيضا مارسوا الاجتهاد قياسا زمن النبي- عليه الصلاة و السلام- ، و مارسوه قياسا و إجماعا في عصر الخلافة الراشدة (3) . و بناء على ذلك فإن أصول الفقه كانت أسبق في الظهور من الفقه الإسلامي الاجتهادي ، لكن فقه الشريعة ظهر مع أصول الفقه في وقت واحد ، مصدرهما الكتاب و السنة .
و ثانيا إن الفقه - القانون حسب أركون- هو إسلامي فعلا و قطعا ، و ليس كما زعم أركون بأنه القانون (( المدعو إسلاميا )) ، لأن هذا الفقه هو إسلامي إلهي الأصول ، مصدره الكتاب و السنة الصحيحة ، و قد صدق ابن حزم- على ما نقله عنه الشاطبي- عندما قال : (( كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا و له أصل في الكتاب و السنة ، نعلمه و الحمد لله ، حاشا القراض ، فما وجدنا له أصلا )) ، فعقّب عليه الشاطبي بقوله : (( و أنت تعلم أن القراض نوع من أنواع التجارة ، و أصل التجارة في القرآن ثابت ، و بين ذلك إقراره عليه السلام ، و عمل الصحابة به )) (4) .
و هو أيضا فقه أنتجه علماء الإسلام و المسلمين ، فهو بهذا يتصف بصفتين ، الأولى صفة إسلامية إلهية ، و الثاني صفة إسلامية بشرية ، و بذلك يكون هذا الفقه إسلاميا خالصا ، على رغم أنف أركون و أمثاله الذين يتعمدون تحريف الشرع و التاريخ .
__________
(1) الترمذي : السنن ، ج 3 ص: 615 . .
(2) الألباني: السلسلة الصحيحة ، ج 3 ص: 319 . .
(3) الأشقر : تاريخ الفقه الإسلامي ، ص: 71 ، و ما بعدها .
(4) الشاطبي : الموافقات ، حققه عبد الله دراز ، دار المعرفة ، بيروت ، ج 3 ص: 371 .(17/206)
و ثانيا إن قوله بأ أصول الفقه أدت إلى تقديس القانون الإسلامي . هو قول فيه تغليط و افتراء ، لأن مسألة التقديس لم تكن تشمل عند أهل السنة -في القرون الثلاثة الأولى- اجتهادات الفقهاء ، و إنما كانت خاصة بالشريعة فقط (1) ، لأنها كلام الله تعالى ، و سنة رسوله-عليه الصلاة و السلام - ، فشريعة الله مقدسة بذاتها .
و أما الخطأ الرابع فيتمثل في زعم أركون بأن أصول الفقه الأربعة غير قابلة للتطبيق ، لأن قراءة القرآن كانت قد أثارت اختلافا تفسيريا كبيرا ، و لأن الحديث ما هو إلا اختلاقا مستمرا (2) ، لم يصح منه إلا القليل ، الذي يصعب تحديده و حصره ، و لأن الإجماع ما هو إلا مبدأ نظري لم يحدث في الواقع إلا قليلا (3) .
و زعمه هذا غير صحيح في معظمه ، لأنه أولا إن هذه الأصول في الحقيقة ليست أربعة ، و إنما هي اثنان فقط ، لأن كلا من الإجماع و القياس يرجعان إلى الاجتهاد ، الذي هو بدوره يرجع إلى الشرع الذي أقره ، و حث عليه ، و حتى السنة النبوية ، فهي و إن كانت منفصلة عن القرآن ، فشرعيتها مأخوذة من القرآن الكريم ، الذي هو مصدر المصادر .
و ثانيا إن زعمه بأن هذه الأصول لم تُطبق على أرض الواقع ، فهو افتراء مكشوف ، فهي قد طُبقت فعلا زمن رسول الله-عليه الصلاة و السلام - ،و صحابته الكرام ، و من بعدهم ، إلى يومنا هذا ، و هذا الذي قلناه معروف بالضرورة من دين الإسلام و تاريخه ، و ما التراث الفقهي الضخم المتنوع الذي ورثناه عن أجدادنا إلا دليل دامغ على تطبيق تلك الأصول الفقهية .
__________
(1) أنظر مثلا : الدهلوي : الإنصاف ، ص: 97 و ما بعدها . و الأشقر : تاريخ الفقه ، ص: 14 و ما بعدها . و خصائص الشريعة الإسلامية ، ص: 11 ، 35 .
(2) سنرد على زعمه هذا في الفصل الثالث ، إن شاء الله تعالى.
(3) تاريخية الفكر ، ص: 297 ، 298 .(17/207)
و ثالثا إن تذرعه بالقراءات القرآنية ، هو تذرع في غير محله ، لأن تلك القراءات القرآنية المتواترة ليست متناقضة ، و هي محدودة ساعدت على إثراء المعاني لا على تناقضها (1) . و أما الأحاديث فقد حُقق قسم كبير منها ، بطريقة علمية غاية في الدقة ، على مستوى الأسانيد و المتون معا ، كالتي نجدها في الصحيحين ، و هي -أي هذه الأحاديث - عامل جمع لا عامل تفريق إذا استخدمت بطريقة صحيحة ، فكثير من المسائل الفقهية المختلف فيها تحلها الأحاديث الصحيحة (2) .
و الخطأ الخامس مفاده أن الجابري قال : بما أنه يُوجد اختلاف في أصول الفقه بين السنة و الشيعة ، كما هو الحال في الحديث النبوي ، إذ لكل طائفة أحاديثها النبوية ، مما يعني أن الشريعة التي يتحدث عنها المسلمون ليست ذات أصول واحدة ، بمعنى أنها متعددة (3) .
__________
(1) أنظر مثلا : صبحي الصالح : مباحث في علوم القرآن ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ص : 247 و ما بعدها .
(2) راجع مثلا : فقه السنة لسيد سابق ، تجد فيه نماذج كثيرة مما قلناه .
(3) تاريخية الفكر ، ص: 297 ، 298 .(17/208)
و ردا عليه أقول : إن الشريعة الإسلامية واحدة مصدرا و أصولا ، مصدرها الأساسي الوحيد هو القرآن الكريم ، و مصدرها الثانوي الوحيد ، هو السنة النبوية الصحيحة الموافقة للقرآن . و أما تعدد الكتب الحديثية عند الفرق الإسلامية ، من سنة و خوارج و شيعة ، فسببها الخلافات السياسية و الطائفية و العقدية التي وقعت بين المسلمين ، في القرون الأربعة الهجرية الأولى ، مما أدى بأهل الأهواء و المصالح الدنيوية من الفرق المنحرفة - وغيرها- إلى الكذب على رسول الله-عليه الصلاة و السلام- ،و أصحابه ، و تأسيس مذاهب باطلة اعتمادا على الأحاديث المكذوبة (1) . و بناء على ذلك فلا يصح الزعم بوجود أكثر من شريعة في دين الإسلام ، لأن ذلك القسم المكذوب لا يصح إلحاقه بالإسلام . و أما ميزاننا في ذلك فهو أن لا نقبل من تلك الأحاديث إلا ما كان موافقا للقرآن الكريم ظاهرا و باطنا ، و محققا إسنادا و متنا ، و موافقا لما كان عليه الصحابة و تابعيهم بإحسان .
و أما الخطأ السادس فيتمثل في زعم أركون بأن أصول الفقه الأربعة كانت هي (( الحيلة الكبرى التي أتاحت شيوع ذلك الوهم الكبير بأن الشريعة ذات أصل إلهي )) . و قال عن الإجماع : (( لكن أي إجماع ؟ ، هل هو إجماع الأمة كلها ، أم إجماع الفقهاء فحسب ، و فقهاء أي زمن ؟ ، و أية مدينة ؟ )) (2) .
__________
(1) أنظر مثلا كتابنا : مدرسة الكذابين في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه ، دار البلاغ ، الجزائر ، 2003 .
(2) تاريخية الفكر العربي الإسلامي ، ص: 297 .(17/209)
و قوله هذا هو الوهم الكبير ، و المغالطة المكشوفة ، و الافتراء على الشرع و المسلمين و التاريخ ، لأنه أولا أن أصول الفقه ليست حيلة و لا وهما ، و إنما هي حقيقة ثابتة شرعا و تاريخا ، و قد سبق أن أثبتنا ذلك . و بينا أن هذا الرجل -أي أركون- لا يُفرق بين الشريعة الإلهية ، و بين الفقه الاجتهادي ، إما لجهله بالشرع ، و إما أنه يتعمد ذلك تعصبا و كيدا ، و إما للأمرين معا . و قد سبق أن أثبتنا بالأدلة القاطعة بأن الشريعة إلهية خالصة ، و أن الفقه الإسلامي يتكون من قسم إلهي ، و آخر بشري ، لكن هذا الرجل ، يكرر هذه الافتراءات ربما ليُقنع بها نفسه و أمثاله من جهة ، و يدلس و يُغالط القراء من جهة أخرى .
و ثانيا إن اعتراضه على الإجماع بتلك الاعتراضات التي نقلناها عنه ، ما هو إلا اعتراض باطل ، لأن الشرع عندما أقر مبدأ الإجماع كان حكيما مراعيا للتطورات المستقبلية ، فهو أقر المبدأ ، و ترك تطبيقه حسب ظروف المسلمين ، يستخدمونه حسب أحوالهم و قدراتهم ، لذا ليس من الحكمة تخصيص الإجماع بالأمة كلها أو ببعضها ، أو بفئة منها ، لكي يبقى الإجماع صالحا لكل زمان و مكان ، و على المسلمين الاجتهاد في تطبيقه ، و ليس بالضرورة أن يكون إجماعهم كليا ، فقد يصح إجماعهم بالأغلبية ، كما أجمع غالبية الصحابة على تقديم عثمان على علي - رضي الله عنهما- في الخلافة . و بذلك يبقى الإجماع مبدأ شرعيا صالحا للتطبيق في كل الأحوال، متحديا أوهام أركون و تاريخيته المزعومة حول الإسلام .(17/210)
و الخطأ السابع يتمثل في قوله عن السنة النبوية : (( إن السنة التي أبتكرها محمد ، قد راحت تفرض نفسها بصعوبة )) (1) . و قوله هذا افتراء على الله و رسوله و التاريخ ، لأنه أولا أن القرآن الكريم أكد مرارا على أن محمدا رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ، تجب طاعته ، و من أطاعه فقد أطاع الله ، و من ثم فإن سنته ليست ابتكارا منه ، و إنما هي وحي و سلوكيات أمرنا الشرع بإتباعها . و أما افتراءه على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن رسول الله كان على يقين تام مطلق بأنه رسول الله ، يبلغ رسالته ، و أن سنته ليست ابتكارا من عنده ، و إنما هي أمر من عند الله ، و تطبيق عملي لشرعه تعالى . فجاء أركون و كذّبه ،و اتهمه بأنه ابتكر السنة من عند نفسه ، من دون أن يُقدم أركون دليلا شرعيا و لا عقليا .
و أما افتراؤه على التاريخ ، فهو شاهد على أن محمدا-عليه الصلاة و السلام- كان رسول الله حقا ، إلى البشرية جمعاء ، آمن به من آمن ، و كفر به آخرون ، قال تعالى : -{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} - سورة الأنعام/33-. و قد آمن به الصحابة و بايعوه على الموت في سبيل الله تعالى ، و ضربوا أروع الأمثلة في التحية و الجهاد و الإخلاص ، فكان ذلك شاهدا تاريخيا على أن محمدا لم يبتكر السنة من عنده ، و إنما كان رسول الله بلّغ رسالته الخاتمة .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 22 .(17/211)
و ثانيا إن قوله : (( إن السنة التي ابتكرها محمد )) ، هو قول لا يقوله مسلم ، فإذا كان هذا الرجل-أي أركون- لا بدين بالإسلام ، فليكن شجاعا و يُعلن صراحة أنه لا يُؤمن به ، كما هو حال الكافرين به ، و بذلك يكون الأمر واضحا ، و لا يكون لزعمه أي قيمة ، فهي كلمة كفر قالها كافر . و ما ذا ننتظر من كافر في موقفه من الإسلام ؟؟ . و أما و أنه يحمل اسم المسلمين ، و يقول أنه منهم و ينتمي إليهم (1) ، و يسعى إلى تجديد الفكر الإسلامي ، فلا نقبل منه ذلك ، لأن ما قاله هوطعن صريح في الإسلام ، و ما عليه إلا أن يكون شجاعا موضوعيا و يكشف عن شخصيته بصراحة ليعرفه الناس على حقيقته ، و يضعونه في المكان المناسب له ، لأن الطريق الذي اتبعه لا هو بطريق المؤمنين ، و لا هو بطريق الكفار.
__________
(1) سيأتي التطرق لذلك و توثيقه في الفصل الخامس إن شاء الله تعالى .(17/212)
و أما الخطأ الثامن فيتمثل في زعم أركون بأن النصوص التأسيسية الأولى تتمثل في القرآن ، ثم (( أُضيف إليها الحديث لاحقا بعد أن رُفع إلى مرتبتها )) ، أي إلى نصوص القرآن (1) . و قوله هذا زعم باطل و افتراء مفضوح ، و تحريف مُتعمد ، لأنه أولا أن السنة النبوية هي المصدر الثاني لدين الإسلام ، ظهرت بظهوره ، و قد نص القرآن الكريم على ذلك في آيات كثيرة جدا ، و كانت منذ بداية الوحي هي المفسرة للقرآن ، و المبينة له ، و التطبيق العملي له أيضا ، قال تعالى : -{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} - سورة النساء/65- ، و{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} - سورة النساء/80- ، و{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } - سورة النحل/44-، و { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} - سورة الحشر/7- ، و بذلك يتبين أن السنة أصل أصيل في الإسلام ،و ليست أمرا طارئا عليه كما زعم أركون .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 68 .(17/213)
و ثانيا إن السنة النبوية لم تكن غربية في عصر النبوة و الخلافة الراشدة ، لأنها من ضروريات دين الإسلام ، ظهرت معه و اكتملت باكتماله ، فلما توقف الوحي بوفاة رسول الله-عليه الصلاة و السلام- ، توقفت معه السنة النبوية . و قد كان المسلمون زمن رسول الله و صحابته في حاجة ماسة إلى السنة النبوية ، فلا إسلام دون سنة ، لذا لما توفي النبي-عليه الصلاة و السلام- ، اعتنى بها الصحابة و رجعوا إليها عندما لم يجدوا نصا في القرآن في المسائل المستجدة . مع العلم أن السنة النبوية كانت مطبقة بينهم فيما يتعلق بالعبادات ، و المعاملات التي بينها رسول الله ، و أمر بها ، و حث عليها ، و ندب إليها . (1)
و كلامنا هذا الذي ذكرناه هو من الحقائق التاريخية الثابتة ، و من الضروريات المنطقية المتعلقة بدين الإسلام ، لأنه إذا ذُكر القرآن ، فلا بد أن توجد السنة ، و إذا ذكر رسول الله ، فلابد أن توجد السنة ، و إذا قيل : الصحابة ، فلابد أن توجد السنة ، لكن مع هذا كله فإن أركون المتبع لهواه ، يُغمض عينيه ، و يغلق عقله ، يصم أذنيه ، و يزعم المزاعم المضحكة ، التي لا سند لها من الشرع ، و لا من العقل ، و لا من التاريخ ، و إذا لم تستح فاصنع ما شئت !! .
و أما الخطأ الأخير -أي التاسع- فمفاده أن أركون زعم بأن النظرية السنية فرضت بالقوة (( فكرة أن كل الصحابة معصومون في شهاداتهم و رواياتهم ))، و أنهم (( نقلوا بحرص و أمانة كلية النصوص الصحيحة و الوقائع التاريخية المتعلقة ببعثة محمد )) (2) .
__________
(1) أنظر مثلا : محمد عجاج الخطيب ، السنة قبل التدوين ، مكتبة وهبة ، القاهرة ، ص: 29 ، و ما بعدها ، و 75و ما بعدها .
(2) الفكر الإسلامي ، ص: 174 .(17/214)
و قوله هذا يتضمن كذبا مفضوحا ، و جهلا كبيرا بالدين ، و تعمدا في التحريف ، لأنه أولا افترى على أهل السنة فيما ادعاه عليهم ، و نسبه إليهم ، لأن الحقيقة هي أنهم لم يقولوا ذلك ، و نصوا على أن العصمة ليست لأحد إلا للأنبياء ،-عليهم السلام- ، و قالوا : إن الصحابة غير معصومين ، و ليست العصمة إلا للأمة إذا أجمعت على أمر ما (1) . و هم الذين رووا أن الرسول-صلى الله عليه وسلم- قال : (( كل بني آدم خطاء ، و خير الخطائين التوابون )) (2) ، و قد أمرنا القرآن بالرد إلى الله و رسوله عند الاختلاف ، قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} - سورة النساء/59- ، فلو كان الصحابة معصومين ، لأمرنا الله بالرد إليهم ، و لتحولوا كلهم إلى أنبياء ، و هذا كلام باطل مخالف لدين الإسلام بالضرورة . كما أن هناك فرقا كبيرا بين عصمة الأمة عند إجماعها على أمر ما ، و بين عصمة الأفراد ، فإن عصمتهم - أي الأفراد ، كما هو حال أئمة الشيعة- تعني وجوب طاعتهم في كل ما يقولون ،و تحولهم إلى أنبياء ، و إن اختلف اسمهم .
__________
(1) أنظر مثلا : ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 24 ، 377 . و منهاج السنة النبوية ، ج 3 ص: 408 . و الباقلاني : تمهيد الأوائل و تلخيص الدلائل ، ط1 ، مؤسسة الكتب الثقافية ، بيروت ، 1987 ، ص: 476 . ابن حزم : الفصل في الملل و الأهواء و النحل ،مكتبة الخانجي، القاهرة ، دت ، ج 3 ص: 137 .
(2) الألباني: صحيح ابن ماجة ، ج 2 ص: 418 .(17/215)
و أما عصمة الأمة فالأمر فيها مختلف تماما ، فالأمة هي شخص اعتباري فقط ، ليست شخصا حقيقيا ، و عصمتها تكمن في الأمر الذي أجمعت عليه ، مع العلم أن إجماعها نادر الحدوث ، لذلك كان اختلاف الصحابة في مجال العلم أكثر من إجماعهم عليه (1) . كما أن إجماعها -أي الأمة- على أمر ما لا يعني عصمة أفرادها ، و لا هي معصومة دائما ، و إنما هي معصومة في الأمر الذي أجمعت عليه فقط . و قد قال بعض الصحابة -عندما سُئل عن مسألة- : (( أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، و إن يكن خطأ ، فمني و من الشيطان ، و الله و رسوله بريئان منه )) (2) .
و ثانيا إن أركون لا يعرف الفرق بين العصمة و العدالة ، أو أنه لا يريد التفريق بينهما ، لأن العصمة تعني عدم الوقوع في الأخطاء و الذنوب ، و أما العدالة فتعني أن يكون المسلم بالغا عاقلا سليما من أسباب الفسق و خوارق المروءة (3) .و أهل السنة لا يقولون بعصمة الصحابة ، و إنما يقولون بعدالتهم ، فهم كغيرهم من الناس لهم أخطاء و ذنوب ، لكنهم مع ذلك فهم عدول زكاهم الله تعالى و رسوله -عليه الصلاة و السلام- ، و هم مجتهدون معذورون في أخطائهم و اجتهادا تهم (4) .
__________
(1) راجع مثلا كتب التفسير ، و الفقه ، فستجد أمثلة كثيرة ، منها : فقه السنة لسيد سابق . و تفسير القرآن العظيم لابن كثير .
(2) ابن كثير : البداية ، ج 6 ص: 74. و أحمد بن حنبل : المسند ، ج 4 ص: 279 .
(3) محمود الطحان : تيسير مصطلح الحديث ، مكتبة رحاب ، الجزائر ، ص: 145 .
(4) ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 8 ص: 514 ،ج 27 ص: 477 . و صديق حسن خان القنوجي : قطف الثمر ، ط 2، دار الإمام مالك ، 1414 ، ص: 97 .(17/216)
و ثالثا إن تشكيكه في عدالة الصحابة ، في نقلهم سيرة رسول الله و سنته ، هو أمر باطل شرعا و عقلا ، لأن الصحابة هم الذين زكاهم الله تعالى ، و شهد لهم بالإيمان و العمل الصالح و الأفضلية ، و وعدهم بالنصر و تحقق على أيديهم ، قال تعالى :{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} - سورة الفتح/29- ، و{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}- سورة الفتح /18-، و {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} - سورة النور/55-، و {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} - سورة(17/217)
التوبة/100-. و لأنهم أيضا هم الذين آمنوا بالرسول-عليه الصلاة و السلام- ،و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله ، فإذا لم ينقل هؤلاء أخبار رسول الله و سنته بأمانة كاملة ، فمن الذي ينقلها إلينا إذا ً ؟ ؟ . فهل ينقلها إلينا اليهود و النصارى و المشركون ؟ ! .
و ختاما لما ذكرناه ، يتبين أن كل شبهات أركون و اعتراضاته حول الشريعة و ما يتعلق بها ، كانت أوهاما و أباطيل ، افتراها على الإسلام و المسلمين ، أخذ معظمها عن شيوخه المستشرقين باعترافه هو شخصيا (1) .
و أما بالنسبة لمحمد عابد الجابري فهو أيضا وقع في أخطاء تتعلق بالشريعة و الفقه و أصوله ، سأذكر منها أحد عشر خطأ ، أولها إنه بالغ في تقزيم ما قدمه الإجماع للمسلمين زمن الصحابة ،و أنه أدى إلى تمييع فكرة الإجماع و استبداده بعقول الفقهاء (2) .
و ردا عليه أقول : أولا إن الإجماعات القليلة التي حدثت زمن الصحابة ، كإجماعهم بأن النبي-عليه الصلاة و السلام- لم يوص لأحد من بعده بالخلافة ، و إجماعهم على جمع القرآن الكريم ، و بيعتهم لأبي بكر ، و عمر ابن الخطاب، و عنثمان -رضي الله عنهم- ، و إجماعهم على توحيد المصحف ، هي إجماعات لها أهمية كبرى ، لا يُدانيها أي إجماع آخر على الإطلاق ، لأنها هي التي حفظ بها الله تعالى دينه ، مصداقا لقوله تعالى : -{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} - سورة الحجر/9- ، و هي من المتواترات -بعد القرآن و السنة المتواترة- التي تتحطم عندها أباطيل و خرافات أهل الأهواء و الضلال الذين يطعنون في الإسلام و الصحابة . و لو لم يكن لمبدأ الإجماع إلا هذا الدور الهام ، لكان قد أدى ما عليه على أكمل وجه ، و قدّم للأمة عملا ربما لا يُدانيه عمل آخر .
__________
(1) أنظر مثلا : تاريخية الفكر ، ص: 297 ز و سيأتي ذكر نماذج كثيرة فيما سيأتي من كتابنا هذا ، إن شاء الله تعالى .
(2) بنية العقل العربي ، ص: 135 .(17/218)
و ثانيا إن الإجماع مبدأ أقره الشرع ، و هو ضرب من الاجتهاد القائم على العلم و العمل ،و قلة حدوثه لا تقدح فيه ، لأن هذه القلة دليل على الحيوية و المرونة ، و تعدد وجهات النظر و احترامها زمن الصحابة ، الأمر الذي يعني أن ما زعمه الجابري من تضخيم لسلطة الإجماع ، و بالتالي سلطة السلف هو زعم مبالغ فيه جدا ، جعل من الحبة الصغيرة قبة كبيرة . علما بأن الشرع عندما شرّع الإجماع لم يجعله سلطة مستقلة ، و إنما هو تابع له ، قال تعالى-{ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} - سورة النساء/59-: ، و جاء في الحديث (( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )) (1) . و عليه فإن الإجماع ليس سلطة مسلطة على المسلمين ، كما صوّره الجابري ، و إنما هو ضرب من الاجتهاد يقوم على الدليل ، مع العلم أنه من المعروف في الأصول أنه لا اجتهاد و لا إجماع مع النص .
و الخطأ الثاني يتعلق بإجماع الصحابة أيضا ، و ذلك أن الجابري عندما عرض موقف القاضي النعمان الشيعي الإسماعيلي ، من إجماع الصحابة ، ذكر موقفه و سكت عن أخطائه ، و زعم أنه -أي النعمان- أبطل أصول أهل السنة . كقوله (( كيف يجوز الإقتداء بالصحابة في كل ما يقولونه و يفعلونه ، و يأمرونه و ينهون عنه )) ، و هؤلاء الذين زعموا أنهم أصحاب الرسول ، قد (( تفرقوا من بعده ، و تحاجزوا ، و اقتتلوا ، فقتل بعضهم بعضا )) (2) .
__________
(1) الأباني : الجامع الصغير و زياداته ، ج 1 ص: 114 . .
(2) بنية العقل ، ص: 322 .(17/219)
و قوله هذا يتضمن أوهاما و أباطيل سكت عنها الجابري ، لأنه أولا أن النعمان كذب على السنيين عندما زعم أنهم يرون الإقتداء بالصحابة في كل ما يقولونه و يفعلونه و يأمرونه ، فهذا بهتان كبير، لأن الشيعة الإمامية هم الذين يعبدون أئمتهم باعتقاد العصمة فيهم ، و باتخاذ أقوالهم و أفعالهم شرعا واجب إتباعه، و أما أهل السنة فلا يعتقدون العصمة إلا في رسول الله-عليه الصلاة و السلام- ، و الصحابة ليسوا بمعصومين ، فهم يخطئون و يُصيبون كغيرهم من الناس (1) .
__________
(1) سبق توثيق ذلك ، عندما رددنا على أركون في مسألة العصمة .(17/220)
و ثانيا إن الصحابة ليسوا هم الذين زعموا أنهم أصحاب رسول الله-عليه الصلاة و السلام- ، و إنما الله تعالى هو الذي شهد لهم بالصحبة و الإيمان و العمل الصالح ، و التمكين في الأرض ، قال تعالى : -{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} - سورة الفتح/29- ، و{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}- سورة الفتح /18- ، و {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} - سورة النور/55- و{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} - سورة التوبة/100- .(17/221)
و أما تفرقهم و اختلافهم فهم كما حدث فيهم ذلك ، فقد حدث فيهم خلافه أيضا ، فاتفقوا على أمور كثيرة ،و تعاونوا عليها ، و أقاموا دولة العدل ، و فتحوا العالم ،و قوضوا دولتي الفرس و الروم ، و نشروا الإسلام ، و تحقق وعد الله تعالى على أيديهم ، عندما قال : -{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} - سورة النور/55-، فدلّ ذلك على أنهم كانوا على الصراط المستقيم ،و أن الله تعالى رضي الله ، و شهد لهم بالإيمان و العمل الصالح .(17/222)
و ثالثا إن مسألة ما حدث بين الصحابة من اقتتال ، هو أمر بالغ فيه النعمان الشيعي لأن الغالبية العظمى من الصحابة لم تشارك فيه ، و الذين شاركوا فيه كانوا مجتهدين طالبين للحق (1) . و مع ذلك كانوا مؤمنين ، لأن الله تعالى أخبرنا بإمكانية اقتتال المؤمنين ، و وصفهم بأنهم إخوة و أمر بالإصلاح بينهم ، قال سبحانه : -{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } - سورة الحجرات/9- ، و بناء على ذلك فإن اختلاف الصحابة لا يمنع من الإقتداء بهم في التزامهم بالشرع ، و فيما أجمعوا عليه ، بل الله تعالى يأمرنا بذلك في قوله : -{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} - سورة النساء/115- ، و بما أن الشرع قد شهد لهم بالإيمان و العمل الصالح ، و تحقق وعده على أيديهم ، فإن الآية تشملهم قبل غيرهم في أمرها بإتباع سبيل المؤمنين .
__________
(1) أنظر كتابنا : الصحابة المعتزلون للفتنة الكبرى ، ط 1 ، دار البلاغ ، الجزائر ، 2003 .(17/223)
و أما الخطأ الثالث فيتعلق بنظرة الجابري إلى مسألة تعليل الأحكام الشرعية و الأفعال الإلهية ، و تفسيره لها ، فزعم الجابري أنها مسألة توقع في إشكال لا يقبل حلا ، و الآيات القرآنية فيه متضاربة ، فإذا قلنا : أفعال الله مُعللة صادرة عن علة ، فهذا عين الإشكال ، لأنه يعني أن (( إرادة الله ليست حرة حرية مطلقة ، بل هي موجهة لدوافع و اعتبارات ، أو بواعث و أغراض ... مما يتنافى مع الكمال المطلق ، الذي يتصف به الله )) ، هذا بالإضافة إلى أن (( هناك آيات في القرآن تفيد أن الله لا يصدر في أفعاله عن أية دوافع مهما كانت ، و أنه لا يُسأل عما يفعل ، و بالتالي فأفعاله غير مُعللة إطلاقا )) (1) .
و إذا كانت فرضية أن أفعاله مُعللة انتهت بنا إلى أنها غير مُعللة ، فهذا يعني أنها لا ترمي إلى أي هدف ، و لا تصدر عن أي حكمة ، مما يعني أيضا أنها أفعال عشوائية عبثية ، و هي صفات تناقض فكرة الكمال الإلهي ، هذا فضلا على أن الله وصف نفسه في القرآن بأنه لا يفعل العبث ، و بذلك نصل إلى القول : (( إن أفعاله لا يمكن أن تكون غير مُعللة )) ، عكس ما سبق تقريره ، و بذلك نكون إذا عللنا الأفعال و الأحكام نكون انتهينا إلى أنها غير مُعللة ، و إذا قلنا : إنها غير مُعللة انتهينا إلى أنها مُعللة ، و هذا تناقض (2) .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 159 .
(2) نفسه ، ص: 159 .(17/224)
و تحليله هذا غير صحيح ، و يتضمن مغالطة و خطأ في فهم القرآن الكريم ، لأنه أولا إن القرآن الكريم لا يوجد فيه أي تناقض في مسألة تعليل أحكام الله تعالى و أفعاله ، فهي مُعللة عل أساس حكمته و كماله و غناه ،و قدرته و إرادته المطلقتين ، و ليست معللة عن نقص و حاجة ، فالقرآن الكريم مليء بالآيات التي تُثبت أن أفعال الله تعالى و أحكامه كلها حِكم و مصالح و منافع ضمن الإرادة الإلهية الحكيمة الغنية المطلقة البعيدة عن العبث ، قال تعالى : -{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } - سورة البقرة/30- ، و{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }- سورة الذاريات56-58-، و{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} - سورة الفرقان/2- ، و -{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} - سورة المؤمنون/115-، و{وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} - سورة الأنعام/91- ، و {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} - سورة الحجر/22-، و{وَجَعَلْنَا(17/225)
مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} - سورة الأنبياء/30-، و (( و حرم الخبائث ))-سورة - و-{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} - سورة المائدة /90- .
و ثانيا إن التناقض الذي توهمه الجابري لا حقيقة له أصلا في القرآن و لا في العقل ، لأنه بما أن الله تعالى مُتصف بصفات الكمال المطلق ، و لا يتصف بأية صفة نقص ، فإنه سبحانه خلق العالم عن كمال لا عن نقص ، فبما أنه غني مُطلق ، فلا يصح أصلا افتراض حكاية الحاجة و البواعث في أفعال الله و أحكامه ، . و بما أنه أيضا حكيم خبير فلا يصح أصلا افتراض حكاية العشوائية و العبثية في أفعاله و أحكامه . و أما قوله تعالى : -{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} -سورة الأنبياء/23- فهو دليل على طلاقة الإرادة الإلهية التي تفعل ما تريد عن حكمة و غنى ، لا عن قهر و حاجة و عبثية . و عليه فإننا إذا قلنا : إن أفعال الله تعالى مُعللة فلا يُؤدي ذلك مطلقا إلى ما توهمه الجابري ، فهي معللة عن حكمة و إرادة و كمال و غنى ، و ليست مُعللة عن ضعف و نقص و حاجة ، و هذا الذي قلناه يشهد له القرآن و يُؤكده في آيات كثيرة جدا .(17/226)
و ثالثا إن الجابري عرض مسألة تعليل أحكام الشرع بطريقة غير صحيحة ، تناولها كأنها مقارنة بين مخلوق و مخلوق مثله ، و هذا خطأ منهجي فادح ، فمن أين له أن الله تعالى إذا قلنا : إن أفعاله و أحكامه مُعللة ، قال هو: كان فيها خاضعا لدوافع و بواعث و أعراض ؟ ! ، إنه ليس له في ذلك دليل من الشرع و لا من العقل ، و إنما أخطأ في ذلك لأنه قاس الخالق بالمخلوق ، و نسي أو تناسى أن الله تعالى :{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} - سورة الشورى/11-، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ،اللَّهُ الصَّمَدُ ،لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}-سورة الإخلاص/1-4- ، و أنه سبحانه عندما قال :{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }- سورة الذاريات56-58-، عقّب وراء ذلك مباشرة بقوله: { مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }- ، فهو سبحانه خلق الإنسان لغاية و حكمة و ليس عن حاجة و نقص ، و لا لعبث ، لذا نبه هذا الإنسان و حذره من أن يتصور أن الله في حاجة إلى خلقه و عبادته له ، وإنما فعل ذلك لحكم و مصالح ربانية عن كمال مُطلق و حكمة بالغة . و بذلك يتبين أن اعتراضات الجابري ليست منطقية و لا شرعية ، و في غير محلها ، لا تُتصوّر إلا في جنب المخلوق العاجز .(17/227)
و الخطأ الرابع يتعلق هو أيضا بمسألة الحكمة و التعليل ، ادعى فيه الجابري أن الأشاعرة و أهل السنة قبلهم أنكروا السببية و التعليل (1) . و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، لأن فيه خطأ واضحا ، في تعميم حكمه على أهل السنة كلهم و إلحاقهم بالأشاعرة ، و الصحيح هو أن أبا الحسن الأشعري و أتباعه هم الذين أنكروا الحكمة و التعليل في أحكام الله و أفعاله (2) .
و أما أهل السنة فأكثرهم اثبتوا الحكمة و التعليل كأئمة السلف ، و جمهور الفقهاء ، كالفقيهين الشافعيين ابي بكر القفال و أبي علي بن أبي هريرة ، و الفقيهين الحنبليين أبي الحسن التميمي ،و أبي الخطاب الكلوذاني (3) . و قد ذكر ابن قيم الجوزية أن إثبات الحكمة و التعليل هو قول جمهور أهل الإسلام ،و أكثر طوائف النظار و الفقهاء قاطبة ، إلا من ترك الفقه و تكلم بأصول النفاة (4) .
و الخطأ الخامس يتعلق بنظرة الجابري إلى القياس الفقهي و موقفه منه و ما ذكره عنه ، فقد ادعى أن العلماء القائلين بالقياس ، أقاموا مشروعيته على أساس ممارسة الصحابة له ، و إجماعهم على الحكم بالرأي و الاجتهاد في كل واقعة وقعت لهم (5) .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 160 ، 161 ، 205 .
(2) ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 8 ص: 377 ، 467 ، ج 9 ص: 287 . و دقائق التفسير ، ج 2 ص: 109 .
(3) ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 1 ص: 144 . و مجموع الفتاوى ، ج 16 ص: 498 . و دقائق التفسير ، ج 2 ص: 110 .
(4) ابن قيم الجوزية : شفاء العليل ، دار الفكر ، بيروت ، 1978، ص : 206 .
(5) ببنية العقل ، ص: 140 .(17/228)
و قوله هذا فيه خطأ واضح ، هو أن الفقهاء القائلين بالقياس لم يُقيموا مشروعيته على ممارسة الصحابة له فقط ، و إنما أقاموه أولا على الكتاب و السنة ، و احتجوا له بآيات و أحاديث كثيرة ، كقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} - سورة آل عمران/13- ،و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى}- سورة النازعات/26- ، و{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} - سورة النساء/83-، و حديث النبي-عليه الصلاة و السلام- (( (( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب ، فله أجران ، و إذا حكم فأخطأ فله أجر واحد )) (1) و ليس هنا مجال استقصائها ، فقد ذكر بعضها الموفق بن قدامة المقدسي في روضة الناظر ، و السبكي في الإبهاج في شرح المنهاج ، و الشوكاني في إرشاد الفحول (2) .
__________
(1) الترمذي : السنن ، ج 3 ص: 615 . .
(2) أنظر : روضة الناظر ، ط2 ، جامعة الإمام محمد بن سعود ، الرياض ، 1399، ص: 85 و ما بعدها . و إرشاد الفحول ، ط 1 ، دار الفكر ، بيروت ، 1992 ، ج1 ص: 296 و ما بعدها . و الإبهاج ،ط 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1404، ج 3 ص: 9 و ما بعدها .(17/229)
و قال أيضا -أي الجابري- إن القياس الفقهي كان من السلطات التي قيدت العقل العربي ، و كان عقبة في طريقه (1) . و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، لأن القياس الفقهي هو ضرب من ضروب الاجتهاد الذي أجازه الشرع و حث عليه ، فإذا استخدم بطريقة صحيحة ، و بمعنى آخر إذا كان قياسا جليا صحيحا ، فهو وسيلة من وسائل معرفة الأحكام الشرعية ، و إنتاج المعرفة الصحيحة ، و عدم استخدامه يُوقعنا في أخطاء فادحة و مُضحكة ، و الشواهد على ذلك كثيرة ، منها :
إذا قلنا : بما أن الله تعالى حرم على الابن أن ينهر والديه ، فإنه يحرم عليه أيضا لعنهما ، كان هذا قياسا صحيحا ، لكننا إذا أنكرناه نكون قد خالفنا الشرع و العقل ، و أضحكنا الناس علينا .
و الشاهد الثاني هو : إذا قال طبيب لمريض ما : لا تأخذ دم هذا الرجل ، لأنه يحمل مرض الإدز . ثم قلنا نحن : يجب على هذا المريض أن لا يأخذ الدم من أناس آخرين يحملون مرض الإدز . فقياسنا يكون صحيحا خالصا ، أما إذا أنكرناه فنكون قد أخطأنا خطأ فادحا و أضحكنا الناس على عقولنا .
و الشاهد الثالث مفاده أننا إذا قلنا : إن الشرع حرم الخمر و الأنصاب و الأزلام لأنها رجس من عمل الشيطان . ثم قلنا : إن كل شيء ثبُت أنه رجس من عمل الشيطان ، فهو حرام . يكون قياسنا هذا صحيحا ، لكننا إذا قررنا خلافه نكون قد أخطأنا .
و الشاهد الأخير - أي الرابع- هو أننا إذا قلنا : الخمر حُرم لأنه يُذهب العقل و الأموال ، و يُخرّب البيوت ، و يُفسد المجتمع ، و قياسا على ذلك قلنا : إن المخدرات هي أيضا حرام مع أنها لم تذكر في الشرع ، لأنها تفعل ما يفعله الخمر و أكثر من ذلك ، كان قياسنا صحيحا لا شك فيه . لكننا إذا قلنا : إنها حلال أو مباحة بدعوى أنها لم تذكر بعينها في الشرع ، نكون قد أخطأنا ، و خالفنا حكمة الشرع و العقل معا .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 567 ، 569 ، 570 .(17/230)
و عندما ذكر الجابري أن المنكرين للقياس ذكروا أن في الشرع أمورا لم يعرفوا لها تعليلا و لا قياسا قال : إنه لا مناص (( من أحد الموقفين ، إما التخلص من إشكالية التعليل بترك القياس ، و إما التمسك بالقياس مع الاحتفاظ بإشكالية التعليل دون حل )) ، و إما تجاوزها - أي الإشكالية- ، فيتطلب الأمر إعادة تأسيس الأصول على طريقة الشاطبي في بناء الأحكام الفقهية على مقاصد الشريعة و ليس على مجرد التعليل (1) .
و ردا عليه أقول : أولا إن مسألة التعليل سبق أن تناولناها و أثبتنا أن التعليل حقيقة شرعية و كونية ثابتة ، و من ثم فلا يصح دعوى المنكرين للقياس و التعليل بأنه توجد أحكام شرعية غير مُعللة ، لأنه بما أن الله تعالى أخبرنا في كتابه العزيز الحكيم ، بأنه سبحانه حكيم عليم ، لطيف قدير ، بديع مريد ، فعال لما يريد ، و له مُطلق صفات الكمال ، فأفعاله تعالى كلها حِكم بالغة ، و مصالح نافعة ، نعرف بعضها ، و نجهل معظمها ، و{ وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}- سورة الإسراء/85- ، و{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} - سورة طه/114-. فإذا لم نعرف لأمر ما وجها في التعليل و الحكمة ، فذلك مرده إلى : إما أننا لم نفهم النص فهما صحيحا . و إما أن النص يتناول أمرا لا يُدركه العقل ، فهو فوق طاقته . و إما أن النص لم يصل الإنسان إلى فهمه بعد . و إما أن النص الحديثي الذي نحاول فهم ليس صحيحا .
__________
(1) بنية العقل ، 163 .(17/231)
و ثانيا إن إشكالية التعليل التي توهمها الجابري سبق أن ناقشناه فيها و أثبتنا أنها وهم ، لا حقيقة لها في الشرع و لا في العقل معا . مما يعني أن اقتراحه الذي اقترحه للتخلص من الإشكالية المزعومة ، لا حاجة لنا فيه ، و غير مطلوب أصلا . لأنه لا تناقض بين التعليل و القياس الصحيح ، و مقاصد الشريعة و من ثم فلا حاجة أصلا إلى إعادة تأسيس الأصول ، على المقاصد ، لأنها هي في الأصل موجودة في الشرع ، و تقوم أساسا على الحكمة و التعليل اللذين يقوم عليهما موضوعا القياس الصحيح ، و مقاصد الشريعة ، فلا قياس و لا مقاصد دون حكمة و تعليل .
و بذلك يتبين أن طعن الجابري في القياس الشرعي مطلقا هو طعن في غير محله ، كان عليه أن لا يُعمم حكمه ، و يُفرّق بين القياس الجلي الصحيح ، المنتج المبدع ، و بين القياس المفسد للشرع و العقل معا . لكنه لم يفعل ذلك ليصل إلى ما يُخطط و يُمهد له ، من إنكار القياس مطلقا ، و الانتصار لابن جزم الظاهري و مدرسته ، ليوظف ذلك في مشروعه الذي يدعو إليه (1) .
و أما الخطأ السادس فيتعلق بموضوع مقاصد الشريعة ، فقد زعم الجابري أن فكر أبي إسحاق الشاطبي (ت790ه) ، الذي أقامه على مفهوم مقاصد الشريعة و كلياتها ، و على الطرقة التركيبية ، هي عناصر لم يكن لها حضور تأسيسي قبل الشاطبي ، و (( لا أي نوع من الحضور في حقل المعرفة البياني)) (2) ، ثم ادعى أن مفهوم الكلي كان غائبا تماما من الحقل المعرفي البياني قبل الشاطبي (3) .
__________
(1) سيتبين ذلك لاحقا في مبحث قادم من هذا الفصل ، إن شاء الله تعالى .
(2) يقصد بالحقل المعرفي البياني : علوم الشريعة ، و اللغة و الأدب ، و علم الكلام .
(3) بنية العقل ، ص: 547 .(17/232)
و ردا عليه أقول : أولا فبالنسبة لما قاله عن مفهوم المقاصد و المصالح في الشريعة ، فهو قول غير صحيح ، لأنه قد سبق الشاطبي علماء كثيرون ، أشاروا إلى موضوع المقاصد و المصالح ، و بعضهم ذكره مرارا ، و توسع فيه ، أذكر منهم تسعة علماء ، أولهم أبو بكر الجصاص (ت 370ه ) ، فإنه عندما فسّر قوله تعالى : -{يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} - سورة النساء/26- ، ذكر أن هناك رأيا يرى أن معنى ذلك هو (( بيان ما لكم فيه من المصلحة ، كما بينه لهم ، و إن كانت العبادات و الشرائع مختلفة في نفسها ، فإنها متفقة في باب المصالح )) (1) .
و ثانيهم أبو المعالي الجويني إمام الحرمين (ت 478ه) ، فإنه قال : (( و من قال و الحالة هذه ، لا أثر لهذا الاختصاص ، و أنما هو أمر وقائي ، فقد نادى على نفسه بالجهل بمقاصد الشريعة ،و قضايا مقاصد المخاطبين، فيما يُؤمرون به و يُنهون عنه )) ، و قال : (( و لما تحقق تميز الأصول بخواصها ، و تميزها بمقاصدها ،و صارت القواعد كلها في التكليف تحت ربقة واحدة ))، و قد كرر الجويني عبارة مقاصد الشرع مرارا (2) .
__________
(1) الجصاص : أحكام القرآن ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 1405، ج 3 ص: 126 .
(2) الجويني : البرهان في أصول الفقه ، ط4 ، دار الوفاء ، مصر ، 1418 ، ج 1 ص: 133 ، 206 ، ج2 ص: 24 ، 590 ، 688 .(17/233)
و الثالث هو حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (ت 505ه) ، قال : (( لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع ، و مقاصد الشرع تُعرف بالكتاب و السنة و الإجماع )) (1) . و الرابع هو الفقيه إبراهيم بن عبد الصمد المالكي التنوخي(ت بعد:526ه) ، صنّف كتابا سماه : الأنوار البديعة إلى اسرار الشريعة (2) ، و عنوانه شاهد على أن مؤلفه كان له تصوّر- على الأقل- عن حِكم الشريعة و أسرارها و غاياتها الحميدة النافعة .
و الخامس هو الفقيه علاء الدين الكاساني (ت 587ه) ، قال في كتابه بدائع الصنائع : (( لأن شرف النكاح و خطره ، لما يتعلق به من المقاصد الدينية و الدنيوية )) (3) . و السادس هو المفسر أبو عبد الله القرطبي (ت 671ه ) ، فإنه قال في تفسيره : (( هذا قول من خفي عليه مقاصد الشريعة )) (4) .
و السابع هو شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728ه) ، له أقوال كثيرة جدا في مقاصد الشريعة و أسرارها ، منها قوله : (( إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح و تكميلها ، و تعطيل المفاسد و تقليلها )) ، و قد كرر هذا في مواضع كثيرة من مصنفاته (5) . منها قوله : (( و من تأمل أصول الشريعة و مقاصدها ، تبين له أن هذا القول هو الصواب )) ،و نص على ان الشريعة اشتملت على المصالح و المحاسن ،و المقاصد التي للعباد في معاشهم و معادهم (6) .
__________
(1) أبو حامد الغزالي : المستصفى ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1414 ، ص: 179 .
(2) ابن فرحون : الديباج المذهب ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، د ت ، ج1 ص: 87 .
(3) علاء الدين الكاساني: بدائع الصنائع ، ط2 ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1982 ، ج 3 ص: 97 .
(4) القرطبي : تفسير القرطبي ، ط 2 ، دار الشعب ، القاهرة ، 1372هج 7 ص: 189 .
(5) انظر مثلا : مجموع الفتاوى ، ج 1 ص: 265 ، ج 15 ص: 312 ، ج 20 ص: 48 ، ج 30 ص: 136 . و منهاج السنة ، ج 1 ص: 551 .
(6) مجموع الفتاوى ن ج 8 ص: 179 ن ج 33 ص: 103 .(17/234)
و الثامن هو الفقيه المحقق ابن قيم الجوزية (ت751ه) ، فهو أيضا له أقوال كثيرة عن أسرار الشريعة و مقاصدها و حِكمها ، نجدها مبثوثة في مصنفاته ، من ذلك قوله : (( و هذه أسرار يعرفها من له اِلتفات إلى أسرار الشريعة ، و مقاصدها و حِكمها )) ،و قوله : (( إذا تأملت أصول الشريعة و قواعدها ،و ما اشتملت عليه من المصالح و درء المفاسد)) (1) .و قوله أيضا : (( و هذه المواضع و أمثالها لا تحتملها إلا العقول الواسعة التي لها إشراف على أسرار الشريعة و مقاصدها و حِكمها )) (2) .
و آخرهم -أي التاسع- الفقيه الأصولي العز بن عبد السلام(ت660ه) ، و هو من علماء القرن السابع الهجري ، تركناه في الأخير لأهمية ما قام به في علم مقاصد الشريعة ومصالحها ، و لاعتراف الجابري بذلك ، ليرد الجابري على نفسه ، فإنه ذكر في كتابه العقل الأخلاقي أن للعز بن عبد السلام ، كتبا بناها على فكرة المقاصد ، ثم أكد على أن العز هو (( أحد أقطاب مدرسة المقاصد ، في الفكر الإسلامي ، إن لم يكن المؤسس الفعلي لها ، فقد عاش قبل الشاطبي بنحو قرن و ثلث قرن من الزمان )) (3) .و نقل أيضا أقوالا لابن تيمية تتعلق بمقاصد الشريعة و مصالحها ، منها قوله : (( المصالح هي التي تُرجح ، و المهم في هذا الباب معرفة الأصلح ))،و على (( أن الواجب تحصيل المصالح ، و تكميلها ، و تبطيل المفاسد و تقليلها ... )) (4) .
__________
(1) زاد المعاد في هدى خير العباد ، ط 14، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1986، ج 1 ص: 216 .
(2) أعلام الموقعين ، دار الجيل بيروت ، 1973 ، ج 4 ص: 112 .
(3) العقل الأخلاقي العربي ، ص: 596 ، 599 .
(4) نفس المرجع ، ص: 617 .(17/235)
و بذلك يتبين أن ما ادعاه الجابري من أنه لم يكن للفكر المقاصدي حضور قبل الشاطبي ، هو ادعاء غير صحيح ، نقضه الجابري بنفسه ، عندما اعترف صراحة أن العز بن عبد السلام ، أحد أقطاب الفكر المقاصدي ، إن لم يكن هو مؤسسه . لكن الغريب في الأمر أن الجابري أبقى على هذا التناقض قائما في كتابيه : بنية العقل ، و العقل الأخلاقي ، فالطبعة التي عندي من كتاب بنية العقل ، هي الطبعة السابعة الصادرة في نوفمبر 2004 ، عن مركز دراسات الوحدة العربية ، ببيروت ، و الطبعة التي عندي من كتابه العقل الأخلاقي العربي ، و هي الثانية الصادرة سنة 2001 ، عن المركز الثقافي العربي بالمغرب ، الأمر الذي يعني أن طبعة بنية العقل السابعة قد صدرت بعد صدور الطبعة الثانية من العقل الأخلاقي بأكثر من عامين ! . فالمفروض أنه كان عليه أن يُزيل هذا التناقض إذا كان قد تنبه إليه .
و ربما يٌقال أن الجابري عندما قال ما ذكره في كتابه بنية العقل ، لم يكن على علم بما قام به ابن عبد السلام ، و ابن تيمية ، و ابن قيم الجوزية ، و هذا له وجه من الصحة ، لكن المفروض أنه كان عليه أن لا يُجازف و يصدر ذلك الحكم القطعي ، فهو مسئول عنه ، حتى أنه عندما اطلع علي ما كتبه هؤلاء ، فإنه لم يُغيره !! .
و أما بالنسبة لما قاله عن مفهوم كليات الشريعة من أنه كان غائبا تماما ، عن الحقل المًسمى بالمعرفي البياني قبل الشاطبي ، فهو قول غير صحيح أيضا ، فقد أشار إليه علماء كثيرون في مصنفاتهم ، منهم : أبو المعالي الجويني، فقد قال في كتابه البرهان : (( و لكنه يُنظر في كليات الشرع ، و مصالحها العامة )) ، و قال : (( و القول فيما يجوز و يُمتنع من كليات الشرائع )) ، و (( ثم التعلق بالأمثلة و الكلام في بناء القواعد و الكليات )) (1) .
__________
(1) ج 1 ص: 78 ، 248 ، ج 2 ص: 875 .(17/236)
و ثانيهم أبو حامد الغزالي ، فقد قرر أن كليات الشريعة يعود ظهورها إلى زمن الصحابة عندما قال : (( و أما الصحابة لم يكثر بحثهم ، و لم يطل في الفروع نظرهم ... فإنهم اشتغلوا بتقعيد القواعد ، و ضبط أركان الشريعة و تأسيس كلياتها )) (1) .
و الثالث هو الأصولي المفسر فخر الدين الرازي (ت 606ه) ، فقد قال في كتابه المحصول : (( و إنما يكون بالتنصيص على كليات الأحكام)) (2) . و الرابع هو الفقيه أبو المناقب محمود الزنجاني الشافعي(ت 656ه) ، فإنه قال :(( قد تقرر في كليات الشرع أن الصلاة مشروعة للخشوع )) (3) .
و الخامس هو الفقيه ابن دقيق العيد (ت702ه) ، فإنه قال : (( و غاية ما في الباب أن يكون الشرع أخرج بعض الجزئيات عن الكليات لمصلحة تخصها ، أو تعبدا يجب إتباعه )) (4) . و السادس هو تقي الدين بن تيمية ، فإنه عندما رد على ابن المطر الشيعي ، قال :(( فإن النبي يكون قد نص على كليات الشريعة التي لابد منها ، أو ترك منها ما يحتاج إلى القياس )) ، و قال أيضا : (( و منهم من يقول : النصوص قد انتظمت جميع كليات الشريعة ، فلا حاجة للقياس )) (5) .
__________
(1) الغزالي: المنخول في تعليقات الأصول ، ط2 ، دار الفكر ، دمشق ، 1400ه، ص : 495 .
(2) المحصول في علم الأصول ، ط1 ، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض ، 1400 ، ج 5 ص: 61 .
(3) محمد الزنجاني: تخريج الفروع على الأصول، ط2 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1398 ، ص: 320 .
(4) ابن دقيق العيد : شرح عمدة الأحكام ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ، ج 3 ص: 105 .
(5) منهاج السنة ، ج 6 ص: 410 ، 411 .(17/237)
و السابع هو ابن قيم الجوزية ، فإنه نص على أن القاضي إذا لم يكن فقيه (( النفس في الأمارات و دلائل الحال ، كفقهه في كليات الأحكام ضيّع الحقوق )) ، و قال أيضا : (( و من نظر في كليات الشرائع و ما فيها من الاستحباب و الزواجر عن الفواحش و الموبقات )) (1) . و آخرهم الفقيه علي بن عبد الكافي السُبكي (ت 756ه) ، قال في كتابه الإبهاج : (( إن الشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض الأحكام ، أما كلها فلا ، لأن قواعد العقائد لم تُنسخ ، و كذلك الكليات الخمس )) (2) .
و أشير هنا إلى أمر هام جدا ، مفاده أن قواعد الشريعة و كلياتها ، تنبّه إليها المسلمون مبكرا ، على ما أشار إليه أبو حامد الغزالي ، أخذوها من الآيات و الأحاديث الجامعة ، كقوله تعالى : (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ))-سورة القارعة/5- ، و قوله عليه الصلاة و السلام :(( إنما الأعمال بالنيات )) (3) ، و (( لا ضرر و لا ضرار)) (4) . فكان ثمرة ذلك أن صنف الفقهاء كتبا في قواعد الفقه و كلياته ، قبل أن يُؤلف الشاطبي (ت790ه) موافقاته بزمن طويل ، منهم : أبو طاهر الدباس الحنفي ، صنف كتابا في تلك القواعد جمع فيه عشر قواعد .و صنف أبو زيد الدبوسي الحنفي (ت430ه) كتابا سماه : تأسيس النظر ، جمع فيه 86 قاعدة فقهية (5) . و صنف محمود الزنجاني (ت656ه) كتابا عنوانه : تخريج الفروع على الأصول.و ألف العز بن عبد السلام كتابا سماه : قواعد الأحكام في مصالح الأنام .و صنف النجم الطوفي الحنبلي(ت710ه) كتابين هما : القواعد الكبرى ،و القواعد الصغرى (6) .
__________
(1) ابن قيم الجوزية : بدائع الفوائد ، ط1 ، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة ، 1996 ، ج 3 ص: 634 . و شفاء العليل ، ص: 123 .
(2) ج 2 ص: 121 .
(3) البخاري: الصحيح ، ج 1 ص: 1، 3 . .
(4) الألباني: صحيح الجامع الصغير ، ج 1ص : 1348 .
(5) الأشقر : تاريخ الفقه الإسلامي ، ص. 134 .
(6) نفسه ، ص: 134 .(17/238)
و الخطأ السابع يتعلق بموضوع الأخلاق ، فإنه -أي الجابري- زعم أن الدين في الإسلام ليس أساس الأخلاق ، ثم عاد و قال : إن الذين لا يقبلون هذه العبارة ، يقبلون القول : (( بأن الدين في الإسلام ليس وحده أساس الأخلاق ، ليس وحده مصدر الحكم الأخلاقي )) (1) .
و ردا عليه أقول : أولا إن زعمه بأن دين الإسلام ليس هو أساس الأخلاق ، هو افتراء على الشرع و الحقيقة معا ، لسبب منطقي واضح ، هو أنه بما أن أخلاق الإسلام مصدرها الكتاب و السنة ، فإن هذا يقتضي بالضرورة أنها أخلاق قائمة على الإسلام ، أصولا و فروعا ،. و بما أنها -أي أخلاق الإسلام- هي جزء من الشريعة الإسلامية التي مصدرها القرآن و السنة ، فإن ذلك يقتضي بالضرورة أن كلا من الأخلاق و باقي مكونات الشريعة مصدرهما واحد ، هو دين الإسلام .
__________
(1) العقل الأخلاقي ، ص: 103 .(17/239)
و ثانيا إن قوله الثاني هو نقض لقوله الأول تقريبا ، لأن هناك فرقا كبيرا بين القولين ، و مع ذلك فإن القول الثاني هو أيضا غير صحيح شرعا ، لأن العقل في الحقيقة لا يصح له أن يتقدم على دين الله ، و لا يُساويه ، و لا يُزاحمه ، و لا يكون ندا له ، و لا يقوم بدوره ، فالإسلام هو وحده مصدر الأخلاق ، أصولا و فروعا . و أما العقل فليس مصدرا للتشريع في الإسلام ، و إذا مارسه فيكون اجتهادا ، و هو مبدأ أجازه الشرع و حث عليه في مجاله المناسب ، بأن يكون قائما على أساس من الشرع و غاياته و مقاصده ، و بذلك يكون دين الإسلام هو أساس الأخلاق تشريعا و اجتهادا . و هذا ليس تضييقا على العقل ، و لا طعنا فيه ، و إنما هو الوضع الصحيح الذي اختاره الله تعالى للعقل ، الذي مجاله الحقيقي فهم النصوص ،و الاجتهاد في العبادات ، و الدعوة إلى الله تعالى ، و السعي لاكتشاف قوانين الطبيعة و تسخيرها لخير البشرية ، قال تعالى : -{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الجاثية/13- .(17/240)
و ثالثا إنه يجب التفريق بين قولنا : أخلاق الإسلام تتوافق مع العقل و الفطرة. و بين قولنا : إن أخلاق الإسلام أساسها العقل . فالقول الأول صحيح ،و الثاني ليس صحيحا ، يرفضه الإسلام رفضا مطلقا ، لأنه تحريف له ، و طعن فيه ، و إنكار لخصوصياته ، لأن الإسلام دين إلهي ،و ليس تشريعا أرضيا و لا دينا بشريا ، حتى يقال : إن أخلاقه أساسها العقل ! .لذا فإن دعوى الجابري تتضمن تأليها للعقل و الهوى و تقديسهما باسم الأخلاق. و قولنا هذا الذي ذكرناه ردا على الجابري ، هو من ضروريات دين الإسلام ، تشهد له نصوص شرعية كثيرة ، منها قوله تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} (57) سورة الأنعام ، و { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} - سورة يوسف/40- و{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }- سورة الذاريات56-58-، و {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }- سورة الذاريات56-58-، و {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} - سورة الجاثية/18 - و {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} - سورة الأنعام/153- .(17/241)
و الخطأ الثامن هو أيضا يتعلق بموضوع العقل أساس الأخلاق ، فزعم الجابري أن هناك إجماعا في الثقافة العربية على اعتبار العقل أساسا للأخلاق ، و هذا الإجماع يُؤسسه المعنى اللغوي لكلمة عقل (1) .
و زعمه هذا غير صحيح في معظمه ، لأنه أولا أن الثقافة التي ادعى أنه حدث فيها إجماع هي نفسها تنقض دعواه ، و ذلك أن الثقافة التي سماها عربية ، هي في أساسها ثقافة إسلامية تقوم أساسا على دين الإسلام ، و بما أن دين الإسلام ينقض دعوى الجابري نقضا ، على ما سبق أن بيناه ، فإن ذلك الإجماع المزعوم لا وجود له في التاريخ الإسلامي ، و كان عليه أن يُوثق دعواه ليدلنا على المصادر التي اعتمد عليها ،أو على المقدمات المنطقية التي تجعل ما ذهب إليه استنتاجا منطقيا صحيحا .
و ثانيا إن الجابري نفسه نقض-تقريبا- زعمه هذا ، عندما قال -في وموضع لاحق من كتابه- : (( الاعتراف بالعقل كأساس للأخلاق في الثقافة العربية قائم بما يُشبه الإجماع ، و هذا أكيد (2) ) .و قوله هذا يختلف عن الأول الذي نص على حدوث الإجماع ، و الثاني الذي فيه بما يُشبه الإجماع . و مع ذلك فإن القول الثاني صحيحه هو عكسه ، بمعنى أنه هناك ما يُشبه الإجماع في الثقافة الإسلامية على أن الإسلام هو أساس الأخلاق لا العقل ، بدليل المعطيين الآتيين : أولهما أن ما ادعاه الجابري لا يصدق إلا على الفلاسفة و المعتزلة الذين بالغوا في استخدام العقل على حساب الشريعة- خلال العصر الإسلامي- ، و هذان التياران كانا ضعيفين بالمقارنة إلى تيار علماء الشريعة.
__________
(1) العقل الأخلاقي ، ص: 104 .
(2) نفس المرجع ، ص: 122 .(17/242)
و المعطى الثاني يتمثل في أن الثقافة الإسلامية-سماها الجابري عربية- كانت هي المهيمنة على الحياة العلمية في العصر الإسلامي ، و هي المحرك الأساسي الفاعل في المجتمع و الدولة ، لسب واحد هو أن تلك الثقافة كانت تقوم على دين الإسلام و علومه و تراثه ، و بما أن الأمر كذلك ، فلا يمكن أن تكون الأخلاق في الثقافة الإسلامية تقوم على العقل .
و الخطأ التاسع يتعلق هو أيضا بمسألة العقل أساس الأخلاق ، فزعم الجابري أن القول بأن العقل أساس الأخلاق في الموروث الإسلامي يدعمه القرآن الذي دعا إلى الاعتبار و انتقد-في آيات كثيرة - الذين لا يستعملون عقولهم للتمييز بين الحق و الباطل ، و بين الخير و الشر ، كقوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} - سورة البقرة/170- و{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } - سورة البقرة/171- ، و منها أيضا تأنيب الله تعالى للمشركين لكونهم لا يميزون بين الحق و الباطل ، كقوله تعالى: { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} - سورة الأعراف/179- .(17/243)
و ردا عليه أقول : إن احتجاجه بهذه الآيات ليس في محله ، و إخراج لها عن موضوعها و سياقها ، لأنه استخدمها بطريقة ملتوية للوصول إلى ما يُريده ، و ذلك أن الله تعالى أنكر على الكفار تعطيل عقولهم ، و دعاهم إلى استخدامها استخداما صحيحا لتدلهم على ربهم و توصلهم إلى الإيمان به ، و الالتزام بشريعته في الأخلاق و العقائد ، و المعاملات و العبادات ، و في كل جوانب الحياة . فجاء الجابري و أخرجها من موضوعها و سياقها ، و أهدافها ، و زعم أنها دعوة إلى اتخاذ العقل أساس الأخلاق ، و هذا تحريف لتلك الآيات ، فالله تعالى دعا الكفار بتلك الآيات إلى استخدام عقولههم ليُؤمنوا به و يعبدوه ، و الجابري استخدمها ليُبعد الناس عن ربهم ، و يتخذوا عقولهم ، مصدرا للتشريع الأخلاقي ، بدلا من التشريع الأخلاقي الرباني . و عجبا من الجابري مما فعل ! ، فحتى الجانب الأخلاقي الذي هو من أخص خصائص الإسلام ، عمل على إبعاده منه ، لتكوين أخلاق لا دينية .
و الخطأ العاشر يتعلق هو أيضا بمسألة العقل أساس الأخلاق ، فزعم الجابري أن مما يُؤيد ذلك أن هناك أحاديث ترويها كتب الأدب و الأخلاق ، تتعلق بالعقل ، و مهما تكن درجة هذه الأحاديث فإن مضمونها العام لا يتناقض مع ما ورد في القرآن ، كما أن الإكثار منها (( معناه اعتراف المنتمين إلى الموروث الإسلامي الخالص ، بكون العقل أساس الأخلاق فعلا ، و هذا ما يهمنا )) (1) .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 111 .(17/244)
و قوله هذا غير صحيح ، لأنه أولا أن الأحاديث التي ذكرها و المتعلقة بالعقل ، قد نص نقاد الحديث على أنها كلها موضوعة-أي مكذوبة- ، و لا يصح منها حديث (1) . و من ثم فلا يصح الاعتماد عليها أصلا ، . كما أن الطريقة التي اتبعها الجابري في حكمه على تلك الأحاديث- ، ليست طريقة صحيحة ، لتمييز صحيح الأحاديث من سقيمها ، لأن تحقيقها يتم وفق منهجية نُقاد الحديث التي تجمع بين نقد الأسانيد و المتون معا ، و ليس بالاعتماد على الكثرة و القلة ، لأن الذين كذبوا أحاديث العقل و غيرها ، كان كثيرا منهم متخصصا في الكذب متفننا فيه ، فيجعل للحديث الواحد المكذوب طرقا و متونا كثيرة ، لتضليل الناس و التدليس عليهم (2) . لذا فلا يصح ما زعمه الجابري بأن كثرة تلك الأحاديث تؤيد ما ذهب إليه .
و ثانيا إن قوله بأن مما يُشير إلى صحة أحاديث العقل ، هو أنها تتفق مع القرآن ، فهو قول باطل ، لأن القرآن ينقض دعوى العقل أساس الأخلاق في الإسلام ، و هي تتنافى معه بالضرورة ، لأن الإسلام دين الله ، و الأخلاق جزء منه ، و هذا يعني بالضرورة أن أخلاق الإسلام أساسها دين الله تعالى مصدرا و تشريعا . و قد سبق أن ناقشنا الجابري في هذا الموضوع ، و نقضنا عليه دعواه .
__________
(1) ابن تيمية : بغية المرتاد في الرد على الفلاسفة و القرامطة ، ط 1 ، مكتبة العلوم و الحكم ، د م ن ، 1408 ، 247 . و الألباني : السلسلة الضعيفة ، ج 5 ص: 398 ، رقم : 2379 .
(2) للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : مدرسة الكذابين في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه ن ط1 ، دار البلاغ ، الجزائر 2003 .(17/245)
و الخطأ الحادي عشر - و هو الأخير- يتعلق هو أيضا بمسألة العقل أساس الأخلاق في الإسلام ، فزعم الجابري أن (( كون العقل يُميز بين الحسن و القبيح بصورة بديهية ، الشيء الذي يجعل منه أساس الأخلاق يقتضيه الشرع نفسه ، باعتبار أن المكلف بأداء الواجبات الدينية من صلاة و زكاة و صيام ... و اجتناب النواهي ، و الوقوع بالتالي تحت طائلة المسؤولية ،و اسحقاق الثواب و العقاب ... يجب أن يكون عاقلا بالغا )) (1) .
__________
(1) العقل الأخلاقي ، ص: 113 .(17/246)
و قوله هذا كأقواله السابقة يندرج في خانة التغليط و الاحتيال على الشرع و العقل معا ، لأن قدرة العقل على التمييز بين كثير من أنواع الحُسن و القبح بالبديهة ، لا يعني بالضرورة ما ادعاه الجابري من أن الشرع يقتضي بأن يكون العقل أساسا للأخلاق ؛ لأنه يجب الرجوع إلى الشرع نفسه ، لمعرفة ما يطلبه منا و يأمرنا به. و نحن إذا رجعنا إليه وجدناه يُعلن صراحة بأن الله تعالى أعطى للإنسان عقلا ليميز به بين الخير و الشر ، و بين الإيمان و الكفر ، و بين الجنة و النار ، كل ذلك لكي يؤمن هذا الإنسان بربه حق الإيمان ، و يعبده العبودية الصحيحة ، و يلتزم بشرعه في كل جوانب الحياة ، و{ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }- سورة الذاريات56-58- ، و {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} - سورة الأنعام/162-، و{وَالْعَصْرِ ،إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ،إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} -سورة العصر/1-3، فالله تعالى أعطى للإنسان العقل ليس ليتخذه مُشرعا و إلها ، و لا ليكون ندا و مزاحما منافسا له ، و لا ليتقدم عليه ، و إنما أعطاه العقل ليكون عبدا عاقلا مؤمنا بربه مطيعا له ظاهرا و باطنا ، في عقائده و أخلاقه ، و سياسته و اقتصاده ، وفي كل أحواله . و بناء على ذلك فإن ما زعمه الجابري من أن مبدأ العقل أساس الأخلاق هو من مقتضيات الشرع ، هو زعم باطل ، صوابه هو : إن من مقتضيات الشرع نقض دعوى الجابري و إبطالها .(17/247)
و يتبين من مناقشتنا لدعوى الجابري: العقل أساس الأخلاق في الإسلام ، أنه كان مُصرا على دعواه ، لم يترك وسيلة إلا استخدمها لإثباتها ، و قد ناقشناه فيها ، و نقضناها عليه ، لأنه أدعى أمرا معروفا بطلانه بالضرورة من دين الإسلام . و مع ذلك ظل مصرا على دعواه ليصل إلى ما خطط له في مشروعه القومي العلماني ، من تحجيم للشرع و تقزيم له ، و مزاحمته و التقدم عليه ، و تفريغه من محتواه ، حتى في مجال الأخلاق الذي هو من أخص خصائص الإسلام ، ليصل في النهاية إلى إقامة فلسفة تقوم على الهوى و المغلّفة بدعاوى العقل و العقلانية ،و القومية و العلمانية .
و ختاما لهذا المبحث يتبين أنه كانت لكل من محمد أركون و محمد عابد الجابري أخطاء منهجية كثيرة تتعلق بالشريعة و الفقه و أصوله ، ذكرنا منها طائفة متنوعة ، تبين منها أن أخطاء الرجلين كانت -في الغالب- ذات خلفيات مذهبية ترمي إلى تحقيق أهداف مُسطرة سلفا .
ثالثا : الأخطاء المنهجية المتعلقة بعلم الكلام و أصول الدين :
و قع كل من محمد أركون ، و محمد عابد الجابري في أخطاء منهجية متنوعة ، تتعلق بنظرتهما إلى قضايا من علم الكلام و أصول الدين ، و موقفهماا منها ، فبخصوص أركون فلم أعثر له على أخطاء كثيرة في هذا المجال ، لأنه ليس من اختصاصه ، و لم يركز عليه في مؤلفاته-التي أطلعتُ عليها- ؛ عكس الجابري الذي كَثُرت أخطاؤه في هذا المجال ، التي سنتناولها في موضعها المخصص لها من مبحثنا هذا ، إن شاء الله تعالى .(17/248)
و سأذكر من أخطاء أركون أربعة ، أولها إنه زعم أن علم أُصول الدين ، دُشن من قِبل أبي الحسن الأشعري (ت 324ه) ، و أبي منصور عبد القاهر البغدادي(ت 429ه) (1) .و قوله هذا غير صحيح تماما ، لأن علم أصول الدين موجودة أصوله و فروعه في القرآن الكريم بأكمل وجه و أوفاه ، سواء فيما يتلق بالله وصفاته ، أو بخلق الكون و نهايته ، أو بالإيمان و الكفر ، أو بالرسل و دعواتهم . كما أنه -أي علم أصول الدين- قد دُشن فعليا على أيدي أهل العلم في القرن الثاني الهجري بظهور الطوائف المذهبية و الفكرية ، كالمعتزلة ، و الجهمية ، و المشبهة ، و أهل السنة ، ثم أزدهر أكثر في القرن الثالث الهجري عندما اشتد النزاع الفكري حول مسائل العقيدة ، كقضية خلق القرآن ، و صفات الله تعالى ، الأمر الذي أدى إلى كثرة المؤلفات في علم أصول الدين ، فصنف المعتزلة كتبا ، منها : كتاب الحجج ، و كتاب القوالب،و كتاب الأعراض ، و هي للمتكلم أبي الهذيل العلاف المعتزلي(ت226أو235ه) (2) ، و ألف أهل السنة مصنفات أصولية ، منها : الرد على الزنادقة و الجهمية لأحمد بن حنبل ، و كتاب خلق أفعال العباد للبخاري ، و تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ، و كتاب الرد على الجهمية لأبي سعيد الدارمي ، و هذه المصنفات كلها مطبوعة و متداولة بين أهل العلم ، و هي قد أُلفت قبل أن يُصنف أبو الحسن الأشعري كتبه على مذهب أهل السنة، عندما كان ببغداد في الربع الأول من القرن الرابع الهجري (3) .
__________
(1) الفكر الأصولي و استحالة التأصيل ، ص: 129 .
(2) عبد القاهر البغدادي : الفرق بين الفرق ، ص: 123 ، 124 ، 132 .
(3) ابن العماد الحنبلي : شذرات الذهب ، ج 4 ص: 130 و ما بعدها .(17/249)
كما أن قوله بأن الأشعري و أبي منصور قد دشنا علم أصول الدين ، هو كلام غير علمي ، و لا معنى له ، لأنه إذا سلّمنا جدلا بأن الأشعري هو الذي دشّن علم أصول الدين - و هو أمر غير صحيح- ، فهذا يعني أن الأمر قد تمّ و اُنتهي منه ، فما الذي فعله أبو منصور البغدادي ؟ ! ، فهل أعاد تدشينه من جديد ؟ ! ، و بماذا ، و على أي أساس ؟ .
و إذا سلمنا مرة أخرى بزعمه -و هو غير صحيح- بأن الرجلين دشنا علم أصول الدين ، فأين المتكلمون الكبار الذين عاشوا في الفترة بين الأشعري المُتوفى سنة 324ه ، و أبي منصور المُتوفى سنة 429ه ؟ ، و ما هي أعمالهم العلمية ؟ ، و منهم : أبو عبدالله بن مجاهد صاحب الأشعري ، و أبو عبد الله بن حامد الحنبلي البغدادي(ت403ه) ، و أبو بكر الباقلاني الأشعري (1) (ت403ه) . فلماذا أغفلهم أركون ؟ .
و الخطأ الثاني يتمثل في أنه-أي أركون- عندما ذكر حديثا في العقل-لم يُوثقه- و زعم أن كل الفكر الإسلامي تأسس وتطور على (( قاعدة الإيمان المتمثل بالأصل الإلهي للعقل )) (2) . و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، و لا يصدق إلا على الفلاسفة المسلمين المشائين المتابعين لأرسطو و من تأثر بهم ، لكنه لا يصدق على عموم علماء أهل السنة ، فهم لم يقولوا بذلك ، خاصة أهل الحديث الذين بينوا أن كل أحاديث العقل مكذوبة لا يصح منها حديث ، و العقل عندهم عرض مخلوق غريزي في الإنسان (3) .
__________
(1) نفس المصدر ، ج 5 ص: 17 ، 20 ، 21 .
(2) تاريخية الفكر ، ص: 65 .
(3) ابن تيمية : درء تعارض العقل و النقل، حققه رشاد سالم ، دار الكنوز ، الرياض ، 1391 ، ج 1 ص: 50 ، ج 2 ص: 331 . و الرد على المنطقيين ، دار المعرفة ، بيروت ، ص: 196 . الحارث المحاسبي: مائية العقل ، ط2 ، دار الكندي ، بيروت ، ص: 205 . ابن قيم الجوزية : نقد المنقول ، ص: 60 . الألباني : الضعيفة ، ج 5 ص: 398 .(17/250)
و أما الخطأ الثالث فيتمثل في أنه-أي أركون- عندما أشار إلى الصراع الذي حدث بين المعتزلة و الحنابلة ، وصف موقف المعتزلة بأنه لا مؤسطر - أي عقلاني لا أُسطوري- ، و وصف موقف الحنابلة بأنه موقف إيماني أو تسليمي (1) .
و قوله هذا يتضمن أخطاء و مبالغات ، لأنه أولا أن وصفه لفكر المعتزلة بأنه غير مُؤسطر ، بمعنى أنه عقلاني ، هو وصف غير صحيح في معظمه ، لأن المعتزلة ، لم يُقيموا معظم أصولهم على العقل الصحيح الصريح ، و لا على النقل الصحيح ، و إنما أقاموه على ظنون و تجريدات ، و خاضوا في أمور بعقولهم المحدودة في مواضيع قال فيها الشرع كلمته النهائية ، كإثبات الصفات لله تعالى ، و تقديم الشرع على العقل، و هم نفوا الرؤية و كثيرا من الصفات ، و خاضوا في ما لا يُدركه العقل (2) ، و هذا خطأ منهجي كبير، فليس من العقل أن يخوض العقل في أمور لا يُدركها ، و أن يتقدم العقل على الشرع ،أو يُساويه أو يُزاحمه. تلك هي بعض جوانب عقلانية المعتزلة المزعومة ، التي زعم أركون بأنها غير مُؤسطرة ، و هي في الحقيقة كثيرا ما قامت على الظنون و الأوهام و تأويل الشرع .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 188 .
(2) أنظر مثلا : القاضي عبد الجبار المعتزلي: شرح الأصول الخمسة ، الجزائر ، موفم للنشر ، 1990 ، ج 1 :ص: 120 ، و ما بعدها ، و الشهرستاني: الملل و النحل ، ج 1 ص: 75 .(17/251)
و ثانيا إن الحنابلة- و معهم أهل الحديث- لم يُقيموا فكرهم على مجرد التسليم بلا دليل ، و إنما هو تسليم أقاموه على النقل الصحيح ، و العقل البديهي الصريح ، و احتجوا له بمختلف الأدلة الشرعية و العقلية معا . و من يطلع على رسالة الرد على الزنادقة لأحمد بن حنبل يتبين له يقينا بأن الرجل كان ملما بمقالات عصره ، متمكنا من منهج الرد الشرعي العقلي ، قوي الحجة دامغ البرهان ،. و قد سار على نهجه كثير من الحنابلة و أهل الحديث ، كما فعل أبو سعيد الدارمي في الرد على الجهمية ، و ابن خزيمة(ت311ه) ، في كتاب التوحيد ، و ابن عقيل البغدادي (513ه) ، في كتابيه : الانتصار لأهل الحديث ، و الرد على الأشاعرة الُعزال ، و منهم أيضا : الموفق بن قدامة المقدسي(ت620ه) في كتابيه : البرهان في بان القرآن ، و ذم التأويل (1) .و بلغت هذه المدرسة أوجها على يد شيخ الإسلام بن تيمية (ت728ه)،و تلامذته كالذهبي(ت748ه) ، و ابن القيم( 751ه) ،و مصنفات هؤلاء معروفة و متداولة بين أهل العلم في عصرنا الحالي .
__________
(1) للتوسع في هذا الموضوع ، أنظر كتابنا : الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث ، ص: 148 و ما بعدها .(17/252)
و أما زعمه بأن الحنابلة يقولون : ينبغي أن نتلقى القرآن بلا كيف، بمعنى دون أن نسأل : كيف نفهمه ، ؟ ، و كيف نفسره ؟ ، لأنه ليس في حاجة إلى تفسير أو تأويل ،و علينا أن نتلقاه و نتشرّبه داخليا (1) . فهو افتراء على القوم ، لأن الحنابلة و أهل الحديث يقولون : بلا كيف فيما يخص صفات الله تعالى ، و يقولون : يجب إثبات كل الصفات الواردة في الشرع بلا تكييف،و لا تشبيه ، و لا تجسيم ، ولا تأويل ، و لا تعطيل (2) . لكنهم لم يقولوا ما زعمه أركون ، و كان عليه أن يُوثقه لكي نتثبت منه ، و كيف يقولون ذلك ، و القرآن يحثهم على تدبر القرآن و فهمه ، ؟ ، قال تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} سورة محمد/24- ، و{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} - سورة ص/29 - ، و هم لو لم يتدبروا القرآن و يفهموه ما أخرجوا كنوزه في مؤلفاتهم التفسيرية ، المتقدمة منها و المتأخرة (3) .
و أما الخطأ الأخير - أي الرابع- ، فيتعلق بموضوع صفات الله تعالى ، فقد زعم أركون أنه توجد في القرآن كلمات تُؤدي إلى (( تفسيرات تجسيمية ، أو تشبيهية ، من مثل (( ثم استوى على العرش )) ، و (( علّم بالقلم )) ، و (( إنه سميع عليم )) ، تُؤخذ على حرفيتها من قبل التفسير الإسلامي التقليدي )) (4) و قوله هذا خطأ من وجهين :
__________
(1) الإسلام ، أوروبا ، ص: 188 .
(2) أنظر كتابنا : الأزمة العقيدية ، ص: 8 و ما بعدها .
(3) أنظر " أبو الحسين بن أبي يعلى : طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 51 ، 55 ، 106 ، 120 . و من تفاسيرهم المعروفة و المطبوعة و المتداولة بين أهل العم : زاد المسير في علم التنفسير لابن الجوزي . و التفسير الكبير، و دقائق التفسير ، و هما لابن تيمية . و التفسير القيم لابن القيم .
(4) أركون : القرآن ، 33 .(17/253)
الأول إنه زعم بأن في القرآن كلمات تُؤدي إلى تفسيرات تجسيمية او تشبيهية ،و هو زعم باطل ، و جهل بمنهج فهم القرآن و تفسيره ، أو هو تجاهل له ، لأن القرآن يُفسر بعضه بعضا ، و يجب فهمه بذلك المنهج ، فمسألة صفات الله تعالى ، يجب النظر إليها من خلال ثلاثة آيات ، هي قوله تعالى :{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} - سورة الشورى/11- ، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ،اللَّهُ الصَّمَدُ ،لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}-سورة الإخلاص/1-4-، و{فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} - سورة النحل/74-، فإذا قلنا : إن الله تعالى سميع بصير ، فسمعه و بصره لا يُشباهان سمع و بصر مخلوقاته مطلقا ، و إن جمع بينهم الاسم المشترك . و إذا قلنا : الله استوى على العرش ، ، فهذا الاستواء لا يُشبه استواء المخلوقين نهائيا ، إلا في الاسم ، لأن اختلاف الذات يستلزم حتما اختلاف الصفات ، و بذلك يصبح إثباتنا لذات الله تعالى و صفاته ، هو إثبات وجود لا إثبات كُنه و كيفية ؛ و يُقال نفس الشيء في باقي الصفات التي ثبتت في الشرع ، و بذلك لا يُوجد أي تشبيه و لا تجسم في آيات القرآن الكريم ، عكس ما ادعاه أركون .(17/254)
و الوجه الثاني إنه زعم أن التفسير الإسلامي التقليدي يأخذ آيات الصفات- التي سماها أركون تجسيمية - على حرفيتها ، و هذا زعم باطل ، و افتراء على السلف و أهل الحديث معا ، لأن هؤلاء صرّحوا مرارا أن صفات الله يجب إثباتها كلها و لم (( يتعرضوا لها برد و لا تأويل ، بل أنكروا على من تأولها ، مع اتفاقهم على أنها لا تُشبه نُعوت المخلوقين ، وأن الله تعالى ليس كمثله شيء ، و لا تنبغي المناظرة و لا التنازع فيها ، فإن ذلك مخولة للرد على الله و رسوله ، أو حوما على التكييف أو التعطيل )) (1) . و كان الشافعي يقول : إن الصفات نُثبتها لله تعالى ، و هي لا تُدرك حقيقتها بالفكر و الروية ، و ننفي عنها التشبيه كما نفاها الله تعالى عن نفسه ، في قوله تعالى (( ليس كمثله شيء و هو السميع البصير )) (2) - سورة الشورى/11- . و أما ما يُروى عن السلف بأن صفات الله تعالى تُمر كما جاءت ، فليس المقصود أنه تُؤخذ على حرفيتها كما زعم أركون ، و إنما المقصود أنها تُثبت كما جاءت من دون تأويل و لا تعطيل ،و لا نفي و لا تشبيه ، ولا تجسيم و لا تكييف (3) .
__________
(1) الذهبي : السير ، ج 11 ص: 376 .
(2) نفس المصدر ، ج 10 ص: 80 .
(3) أنظر كتابنا : الأزمة العقيدية ، ص: 8 و ما بعدها .(17/255)
و أما بالنسبة إلى أخطاء الجابري المنهجية المتعلقة بعلم الكلام و أصول الدين ، فهي كثيرة و متنوعة ، أذكر منا طائفة في مجموعتين ، الأولى تتعلق بالقضاء و القدر ، و صفات الله تعالى ، و تتضمن خمسة أخطاء ، أولها إن الجابري يرى أن آيات القرآن متعارضة فيما يخص مسألة القضاء و القدر ، فمنها آيات تفيد الاختيار ، كقوله تعالى : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} - سورة الإنسان/3-، و{وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} -سورة لقمان/12- و منها آيات تفيد الجبر ، كقوله تعالى : {مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} -سورة الأعراف/178- ، و{ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} - سورة النحل/36- (1) .
و فهمه هذا-لآيات الجبر و الاختيار- غير صحيح ، لأنه أولا يخالف ما نص عليه القرآن صراحة من أنه كتاب مُحكم غير متناقض لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، لقوله تعالى : كتاب أُحكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير))-سورة هود1- ، و أنه كتاب{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} - سورة فصلت/42- ، و عليه فلا يصح شرعا و لا عقلا القول بأن آيات القرآن متناقضة فيما بينها . نعم قد تكون متعارضة في عقول بعض الناس ، لكنها في الحقيقة ليست متعارضة أصلا في كتاب الله تعالى ، و ما علينا إلا البحث و التدبر فيها ، لحل إشكالاتها المُتوَهمة ، من خلال الفهم الصحيح لها ، بتفسير القرآن بالقرآن ،و بالسنة النبوية ، و بما أجمع عليه الصحابة ، و بما صحّ في بدائه العقول و العلم الصحيح .
__________
(1) العقل الأخلاقي ، ص: 81، 82 ، 86 . بنية العقل ، ص: 535 .(17/256)
و ثانيا إننا إذا انطلقنا من ذلك الفهم ، يتبين لنا جليا أنه لا يُوجد أي تناقض ، بين آيات الجبر و الاختيار ، فهي على ثلاثة أنواع ، أولها نصّ على أن الله تعالى خلق كل شيء و قدّره تقديرا ، كقوله تعالى : -{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} - سورة الفرقان/2- ، و{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ،قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} -سورة الشمس/7-10-، و عليه فإن الإنسان -مثلا- ليس له إي اختيار في خلق نفسه ، و لا في اختيار والديه و جنسه ، و ليس هو الذي جعل نفسه مُسيرا في جوانب من ذاته ، و مُخيرا في جوانب أخرى من نفسه.
و النوع الثاني- من تلك الآيات- نَص صراحة على أن الإنسان له اختيار و حرية التصرف ، و مسئول عن أعماله و سيُحاسب عليها ، فيما يتعلق بالجانب الاختياري من نفسه الذي هو حُر فيه ، كقوله تعالى : (( قد أفلح من زكاها ،و قد خاب من دساها )) -سورة الشمس/9-10 - ، و{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}- سورة المدثر/38- ، و {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} -سورة الليل/5-10- .(17/257)
و النوع الثالث -من تلك الآيات- نَصَ على أن الجانب الاختياري في الإنسان ، ليس هو فيه حرا حرية تامة ، يتصرّف فيه كما يُريد ، و إنما هو فيه مُحكم بالإرادة و المشيئة الإلهية ، فالإنسان قد يُريد أمرا ، و الله تعالى قد يُريده أيضا فتتفق الإرادتان ، فيتحقق في الواقع بإرادة و مشيئة منه سبحانه. لكن ذلك الإنسان قد يُريد أمرا ما ، الله تعالى لا يُريده ، فتختلف الإرادتان و لا يتحقق إلا ما أراده الله . لأن إرادة الإنسان محدودة و محكومة بالإرادة الإلهية المطلقة،و لا تستطيع أن تفعل كل ما تريده من الأفعال المتعلقة بالجانب الاختياري ، لذا قال سبحانه : {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ،وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}-سورة التكوير/ 28-29- ، و مثال ذلك مسألة الهداية ، فالإنسان لا يملكها لأنها بيد الله تعالى لقوله : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} -سورة القصص/56-، لكنه -أي الإنسان- يستطيع الأخذ بأسباب الهداية و وسائلها المؤدية إليها ، بمعنى أنه يستطيع أن يسعى للوصول إليها ، فإذا أخلص نيته لله تعالى ، و التزم بشرعه ظاهرا و باطنا ، سيصل إليها ،و يُكرمه الله بها ، لأنه سبحانه هو الذي وعده بها ، و الله لا يُخلف المعاد . و بذلك يتبين أن الهداية فعلا هي بيد الله تعالى ، يُكرم بها عباده المخلصين الملتزمين بشرعه ، . فلو كان الإنسان يملك الهداية لمنحها لنفسه من دون عمل ، أو قبل اكتمال شروطها ، لكنه مع ذلك يمكنه الوصول إليها باختياره و حريته ،إذا سلك الطريق الصحيح الموصل إليها . و بذلك نكون قد جمعنا بين الآيات القرآنية التي زعم الجابري أنها متعارضة ، و دفعنا عنها التعارض المُتوّهم في فهمها ، و لله الحمد أولا و أخيرا .(17/258)
و أما الخطأ الثاني فيتمثل في أن الجابري قال: إن أهل السنة تمسّكوا بمبدأ (( لا فاعل إلا الله ، كرد فعل لنفي المعتزلة للقضاء و القدر ، و قالوا أيضا بالثواب و العقاب ، الذي يعنى الاعتراف بمسؤولية الإنسان ، لأنه بدونها تسقط الحدود و التكاليف أصلا ، و يصبح الفقه غير ذي موضوع ، و هنا قامت أزمة قيّم : كيف نحتفظ بالقضاء و القدر ، و هو قيمة دينية أساسية ، و بين المسؤولية البشرية ، التي بدونها لا يبقى لأوامر الله و نواهيه ، و لا لثوابه و عقابه معنى )) (1) .
__________
(1) العقل الأخلاقي العربي ، ص: 86 .(17/259)
و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، و لا توجد أزمة قيم في المذهب الصحيح أصلا ، لأنه أولا لم يفرّق-أي الجابري- بين أهل السنة قبل انتشار المذهب الأشعري و بعده (1) ، لأن المذهب السني كان مذهبا مُهيمنا يمثل غالبية المسلمين ، قبل انتشار الأشعرية ، فلما انتشرت انقسم أهل السنة إلى طائفتين ، الأولى تمثل السنة السلف ، و هم أهل الحديث و الحنابلة ، و الثانية تمثل السنة الخلف ، و هم الأشاعرة و الماتريدية (2) . و الفترة التي ظهر فيها المعتزلة و كان لهم فيها نفوذ و نشاط قويين ، كان فيها أهل السنة جماعة واحدة فكرا و طائفة ، لكن الجابري يتكلم عن هذه الفترة ، و ينسب إلى أهل السنة فكر الأشعري الذي مازال لم يظهر بعد،ولم يعتقدونه أصلا . لذا فهم لم يقولوا بكسب الأشعري ، و لا بنفيه للحكمة و التعليل ، التي بنى عليها الأشعري الكسب و نفي التأثير (3) .الأمر الذي يعني أن قول الجابري بأن أهل السنة قالوا : (( لا فاعل إلا الله )) هو قول لا يصح نسبته إلى أهل السنة،-قبل انقسامهم- ، لكنه يصدق على الأشاعرة بعد أنقسام السنيين على أنفسهم . فأهل السنة -قبل انقسامهم- لم يقولوا : لا فاعل إلا الله ، و إنما قالوا : لا خالق إلا الله ، و أثبتوا للناس أفعالهم و أعمالهم المخلوقة ، و ميزوا بين أعمالهم الاضطرارية ، و أعمالهم الاختيارية المسؤولين عنها (4) .
__________
(1) انتشر المذهب الأشعري انتشارا واسعا في القرن الخامس الهجري و ما بهده ، و للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : الأزمة العقيدية بين ألشاعرة و أهل الحديث ، ص: 12 و ما بعدها .
(2) نفسه ، ص: 12 و ما بعدها .
(3) ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 8 ص: 377 ، 467 ، ج 9 ص: 287 . و دقائق التفسير ، ج 2 ص: 109 .
(4) انظر مثل : البخاري : خلق أفعال العباد ، ص: 113 . و ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 8 ص: 394 . و ابن قيم الجوزية : الصواعق المرسلة ، ج 4 ص: 1584 .(17/260)
و ثانيا إن أزمة القيم المُتوهّمة لا وجود لها أصلا ، في دين الإسلام ، و لا في مذهب السنة-قبل انقسامه- ، لأن موضوع إثبات القضاء و القدر في حقيقته الشرعية، لا علاقة له مطلقا بمسألة الجبر و الاختيار كما توهمها المعتزلة و المتأثرون بهم. لأن المذهب السني يُثبت للإنسان اختياره و مسؤوليته ، و قدرته على التأثير في إطار من القضاء و القدر الذي يعني أن الله تعالى قضى و قدّر في الأزل كل ما سيخلقه ، و ما سيحدث في المستقبل ، بما فيها أفعال البشر التي سيفعلونها من دون إكراه لهم ، فعل ذلك بإرادته و مشيئته ،و قدرته و علمه ، و حكمته و عدله سبحانه و تعالى ، و بناء على ذلك فإن سبق علم الله تعالى لكل ما سيحدث مستقبلا ، بما فيها أفعال الإنسان ، فإنه لا يستلزم الإجبار و الإكراه و الظلم ، و هذا الذي لم يفهمه المعتزلة و الموافقون لهم ، أو أنهم لم يُريدوا فهمه . لأن القضاء و القدر ، هو من ضروريات الربوبية و كمالاتها ، فالإله الذي لا يعلم ماذا سيحدث مستقبلا ليس بإله ، كما أن علمه بذلك لا يُعد أبدا ظلما و لا إكراها ، و إنما هو كشف لحجُب الغيب .
و لتوضيح الأمر أكثر ، أذكر مثالا رائعا لفهم العلاقة بين قضاء الله و قدره ، وبين أفعال الإنسان و حريته، و مفاده أنه لما انتشر الطاعون زمن الخليفة عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- ، و امتنع من دخول البلد الذي انتشر فيه ، قال له أحد المسلمين : (( أتفر من قدر الله ؟ ، قال : أَفِر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيتَ إن كان لك إبل هبطت واديا له عُدوتان ، إحداهما خصبة ، و أخرى جدباء ،أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، و إن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله )) (1) . و هذا مثال عملي و نظري رائع للفهم الصحيح للعلاقة بين القضاء و القدر و أفعال الإنسان .
__________
(1) البخاري : الصحيح ، ج 5 ص: 2163 ، رقم : 5397 . و مسلم : الصحيح ، ج 4 ص: 1740 ، رقم 2219 .(17/261)
و ثالثا إن نفي القضاء و القدر هو الذي يُثير مشكلة عويصة لا حل لها ،و لا تنفع مها الخزعبلات الجوفاء . لأن نفي ذلك يعني نسبة الجهل إلى الله تعالى ، بأنه لا يعلم الغيب المستقبلي ، و هذا يتنافى تماما مع صفات الله الخالق و كماله، الأمر الذي يعني تسويته بخلقه ، فالإنسان هو الذي لا يعلم الغيب ، و لا يعلم بالشيء إلا بعد حدوثه ، بل و أكثر من ذلك ، فقد أصبح الإنسان-بناء على تصوّرهم- أحسن من خالقه ، لأنه -أي الإنسان- إذا لم يعلم الغيب فهو مخلوق يتناسب ذلك مع خِلقته ، أما الله تعالى فلا يصح عقلا و لا شرعا نسبته إلى الجهل بالمستقبل .
بل و أكثر من ذلك ، فإن الإنسان يستطيع أن يقرأ المستقبل و يتنبأ به ، و يعلم بالاحتمال ما ذا سيحدث في المستقبل ، بنسبة نجاح عالية في كثير من الأحيان . لكن الإله في تصور ُنفاة القدر لا يعلم الغيب إلا بعد حدوث الفعل ، فيكون المخلوق أحسن حالا من خالقه ،و هذا بلا شك هو من الأباطيل التي أوصلنا إليها نفي المعتزلة للقضاء و القدر .(17/262)
و رابعا إن نفي القضاء و القدر ، يُثير مشكلة أخرى ، تتمثل في التصادم مع نُصوص الشرع جملة و تفصيلا ، فهي -أي النصوص- قد نصت صراحة- في آيات كثيرة - على أن الله تعالى عالم الغيب و الشهادة ، و أنه يعلم ما كان و ما سيكون ، و أنه أعطى للإنسان الحرية الكافية للقيام بعمارة الأرض، و أنه سيحاسبه عن أعماله ، في إطار من العدل و الرحمة ، و الحكمة و الإحسان ، و أنه تعالى ليس بظلام للعبيد ، قال سبحانه : {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} -سورة الرعد/9-، و {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} - سورة التوبة/78-، و {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} - سورة الكهف/49- ، فهذه الآيات-و غيرها- تنقض مزاعم نُفاة القضاء و القدر من أساسها ، فهل نترك كتاب الله تعالى ، و نأخذ بأوهام و ظنون المعتزلة في نفيهم للقضاء و القدر ؟ ! .
و الخطأ الثالث يتعلق هو أيضا بمسألة القضاء و القدر ، فقد زعم الجابري أن القول بعلم الله الأزلي ، و حرية الإنسان و اختياره ، هو فعلا تناقض ، لأن (( القول بأن لله علما قديما يلزم عنه إن الله يعلم ذلك من الأزل كل شيء بما في ذلك الأفعال التي سيأتيها الإنسان ، و إذا كان الله يعلم ذلك منذ الأزل فإن علمه يتحول في هذه الحالة إلى نوع من الجبرية ، و سيؤول الأمر في النهاية ، إلى القول إنه تعالى قدّر بسابق علمه على الإنسان أفعاله و إذا كان الأمر كذلك ، فلماذا يأمره بأشياء و ينهاه عن أشياء و هو يعلم منذ الأزل ما سيفعل ؟ ، و واضح إذاً أن القول بالعلم الأزلي في ميدان الإلهي يلزم عنه القول بالجبر و الاضطرار في ميدان البشري )) (1) .
__________
(1) التراث و الحداثة ، ص: 58 .(17/263)
و ردا عليه أقول : أولا إنني لا أدري هل الجابري لا يفهم ، أم أنه لا يُريد أن يفهم بأنه لا يُوجد أي تناقض بين علم الله الأزلي و القول بحرية الإنسان و اختياره في المجال المُختار فيه ؟ ، لأن سبق العلم لا يلزم الإجبار بالضرورة ، فبما أن الله تعالى عالم الغيب و الشهادة ، و علام الغيوب ، فعلمه بما سيحدث قبل خلقه للعالم هو من ضروريات ألوهيته و كمالها ، و لا يمكن تُصوّر إله لا يلعم الغيب ، و من زعم عكس ذلك فهو واهم مخالف للنقل و العقل معا ، فعلمه ِلما سيحدث هو علم انكشاف لا علم جبر و لا قهر فيما يتعلق بأفعال الإنسان الاختيارية ، و بما أن علمه بذلك هو علم كمال و انكشاف لا علم جبر و قهر ، فإن التناقض الذي ذكره الجابري لا وجود له أصلا في علم الله تعالى .
و حتى في علم الإنسان يمكن تصوّر ذلك ، و مثاله إذا قال المعلم : هذا التلميذ سينجح ،و التلميذ الفلاني لا ينجح ، بدون أن يعلمهما بذلك لكي لا يُؤثر فيهما بكلامه ،و أدى واجبه كاملا تجاههما ، ثم بعد الاختبار تحقق ما قاله الأستاذ ، فنجح الأول و رسب الثاني ، فهل الأستاذ هو السبب فيما حدث ؟ و هل علمه المتوقع هو السبب في ذلك ؟ ، طبعا لا ، لأن كل ما فعله الأستاذ أنه تنبأ بثقة بناء على المعطيات التي يعرفها عن التلميذين ، فالأول كان مجتهدا ، و الثاني كان كسولا ، فتنبأ بنجاح الأول، و تنبأ برسوب الثاني ، فتحقق ما توقعه ، و لم يتدخل علمه المسبق المتوقع في الرسوب و لا في النجاح ، و من ثم فلا يصح أن يرفع ولي أمر التلميذ الكسول دعوى قضائية ضد الأستاذ بتهمة أنه تسبب في رسوب ابنه لأنه كان يعلم ذلك مُسبقا ! . فالعلم المُسبق إذا لا يلزم جبرا و لا قهرا ، و إذا كان ذلك جائزا في حق البشر ، فالله تعالى أولى بأن يكون علام الغيوب من دون أكراه و لا جبر و لا ظلم للعباد .(17/264)
و ثانيا إن قوله (( فلماذا يأمره بأشياء و ينهاه عن أشياء ،و هو يعلم منذ الأزل ، ما سيفعل )) ، فهو اعتراض لا يصح ، لأن الله تعالى عالم عادل حكيم ، أفعاله كلها لا تخرج عن العدل و الحكمة و الإحسان و الرحمة ، و عليه فإن من كمال عدله و رحمته ، و إقامة حجته على عبده ، فقضى سبحانه بأن يُخرج سابق علمه إلى الواقع ، فخلق الكون و من فيه ، و حمّل الإنسان الأمانة ، ليعيش تجربة الخلافة في الأرض بنفسه ، ليُقيم عليه الحجة ،و لا يبقى له أي عُذر فيما بعد . لذا قال تعالى : {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }- سورة النساء/165-
، و مما يشهد لما قلناه ، أن الله تعالى أخبرنا أن يوم القيامة أن بعض الناس يُنكرون جرائمهم التي ارتكبوها في الدنيا ، فقال سبحانه : {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} - سورة الأنعام/24- ، فالله تعالى عندما خلق الإنسان و هو يعلم ما سيفعله هذا المخلوق الحر ، كان عادلا حكيما رحيما ، ليقطع كل أعذار الإنسان . و مع ذلك فإنه سبحانه لو حاسب الناس بناء على سابق علمه بما سيفعلونه الأرض من دون أن يخلقهم و يستخلفهم فيها ، لكان عادلا رحيما ، حكيما معهم ، لكنه مع ذلك شاء سبحانه أن يُخرج سابق علمه الأزلي إلى واقع مخلوق ليتحمل الإنسان الأمانة التي كُلف بها .
و ثالثا إن القول بالتناقض بين إثبات العلم الأزلي لله ، و القول بحرية الإنسان و اختياره ، هو طعن في القرآن الكريم ، الذي أثبت الأمرين معا في آيات كثيرة جدا ، فلو كان الأمر فيه تناقض كما زعم الجابري ما أثبت القرآن ذلك ، و هو كتاب الله تعالى المُحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، و هو المُنزه عن التعارض و التناقض .(17/265)
و أما اخطأ الرابع -من المجموعة الأولى- ، فيتعلق بمتشابه القرآن ، فقال الجابري : إن من متشابه القرآن هو الآيات التي تُفيد التشبيه ظاهريا (1) . و قوله هذا غير صحيح من وجهين ، أولهما إنه لا يصح أن يُقال أن في القرآن آيات تُفيد التشبيه ، لأنه من المفروض أن ننظر إلى آيات الصفات من خلال قواعد التنزيه ، التي ذكرها الله تعالى في القرآن ، و هي قوله تعالى : -{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} - سورة الشورى/11- ، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ،اللَّهُ الصَّمَدُ ،لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}-سورة الإخلاص/1-4- ، و{فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} - سورة النحل/74- ، فالمفروض على قارئ القرآن عندما يسمع الآيات المتعلقة بالصفات ينظر إليها من خلال تلك القواعد التنزيهية . فعندما يسمع-مثلا- قوله تعلى : (( بل يداه مبسوطتان ))-سورة المائدة/64 - ، لا يُشبهه بأيدي المخلوقات ،و لا يقول : كيف هي ؟ ، و إنما يقرأها في إطارآيات التنزيه كقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} - سورة الشورى/11- ، و بذلك تُرفع كل الإشكالات و التساؤلات التي ربما قد تخطر على عقول بعض الناس ، و من ثم فلا يصح القول بأن تلك الصفات تفيد التشبيه .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 59 .(17/266)
و ثانيهما إن آيات الصفات في القرآن ليست من المتشابه ، فهي واضحة وضوح الشمس ، من أنها صفات لله تعالى وصف بها نفسه ، يجب إثباتها له في إطار من التنزيه ، بلا تشبيه و لا تجسيم ، و لا تعطيل و لا تأويل ، من دون أية محاولة لمعرفة كُنهها . لأن ما قمنا به هو إثبات وجود لا إثبات كُنه و كيفية ، و أمر كهذا لا يصح وصفه بأنه من المتشابه ، لأن المتشابه هو ذلك الأمر الذي معناه غير مُحدد،و يحتمل عدة معان ، و هذا لا يصدق على آيات الصفات في القرآن ، كالسمع و البصر ، و الوجه ، و الكلام ، فهي صفات حقيقية تليق بالله تعالى .
و أما الخطأ الأخير-أي الخامس - فيتعلق هو أيضا بمسألة صفات الله تعالى ، و يتمثل في سكوت الجابري عن أخطاء المعتزلة و الجهم بن صفوان و تبريريها . أذكر منها أربعة أمثلة ، الأول مفاده أن الجابري قال : إن جهم بن صفوان يقول : (( لا يجوز أن يُوصف البارئ بصفة يُوصف بها خلقه ، لأن ذلك يقتضي تشبيها ، فنفى كونه حيا عالما ، و أثبت كونه قادرا فاعلا خالقا لأنه لا يُوصف بشيء من خلقه بالقدرة و الفعل و الخلق )) ، ثم قال الجابري : إن ذلك يجب أن يُفهم على ضوء قول جهم : (( إن الله لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه )) ، و قوله : (( لا يُقال : إن الله لم يزل عالما بالأشياء قبل أن تكون )) (1) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 271-272 .(17/267)
و هذه المزاعم التي نقلها الجابري عن الجهم ، هي قول على الله بلا علم ، و افتراء عليه ، و كذب على العقل و العلم معا . لأنه أولا زَعَم بأنه لا يجوز أن يُوصف الله بصفة يُوصف بها خلقه ، بدعوى أن ذلك يقتضي التشبيه حسب زعمه . و هذا كلام باطل من أساسه ، لأن الصواب هو أن نقول : لا يجوز أن نُشبّه صفات الله تعالى بصفات مخلوقاته، و ليس كما زعم الجهم- على ما نقله الجابري- ، و الفرق بين المفهومين واضح حاسم لا مجال للمقارنة بينهما ؛ و مفهوم جهم بن صفوان هو السبب في انحرافه و أخطائه و متناقضاته ،و الدليل على بطلان مفهومه بعدم اتصاف الخالق و المخلوق بصفات لها مسمى واحد ، هو أن هذا المفهوم و التعريف لا يمكن الالتزام به في التفريق بين صفات الخالق و المخلوق ، فهناك صفات تجمعهما في المعنى و الاسم بالضروة -مع اختلاف المماثلة- ، منها صفتا الوجود و الحياة ، فالإنسان موصوف بالوجود كموجود و متصف بالحياة ككائن حي ، و الله تعالى بالضرورة له وجود بما أنه موجود ، و بما أنه هو الخالق فبالضرورة أنه حي ، لأن الميت لا يخلق و لا قدرة له ،و هل يُتصوّر في العقل و العلم أن خالق ها الكون العجيب ليس حيا و لا عالما ،و لا حكيما و لا سميعا و لا موجودا... ؟ ! . و بناء على زعم الجهم فإنه يستلزم نفي أثبات الوجود لله و الحياة و القدرة ، بمعنى أنه غير موجود أصلا ، و هذا أمر باطل شرعا و عقلا ، لكنه يستلزمه زعم الجهم استلزاما ضروريا .(17/268)
و ثانيا إن ما نقله الجابري عن الجهم بن صفوان فيه تناقض صارخ ، يتمثل في أنه نفى كون الله حيا عالما ، لكي لا يُوصف بصفة يتصف بها المخلوق ، ثم أنه أثبت من جهة أخرى كونه تعالى قادرا فاعلا ، و هذا تناقض لأنه وصف الله تعالى بصفتين يتصف بهما الإنسان هو أيضا ، و هما : القدرة و الفعل ، فالإنسان قادر و فاعل بلا شك ، فله القدرة و الفاعلية في العمل و التغيير ،و هذا الذي يزعم الجهمية و المعتزلة بأنهم يدعون إليه في مقاومتهم للجبرية التي قال بها الأمويون على ما ذكره عنهم الجابري (1) .
و أما زعم الجهم-على ما نقله الجابري- بأنه (( لا يُوصف بشيء من خلقه بالقدرة و الفعل ))، فهذا حديث خرافة ، يضحك به على نفسه و على الناس ، لأن كلامه هذا الذي يجادل به يتضمن قدرة و فعلا ، و هو كلام مُخالف للنقل و العقل و الواقع ، يُغالط به و يدلس به على الناس ، و يتسلط به عليهم ليضللهم و يُروّج بينهم أوهامه . و إلا فإن كل إنسان يجد في نفسه إحساسا يقينيا بأنه حي قادر فاعل .
و ثالثا إن قول الجابري بأنه يجب فهم قول الجهم على ضوء قوله : (( إن الله لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه )) ،و (( لا يُقال : إن الله لم يزل عالما بالأشياء قبل أن تكون ))، هو قول باطل مردود على صاحبه ، و افتراء على الله تعالى ، لا دليل عليه من الشرع و لا من العقل ، و لا يصح التسليم له به ، و قد سبق أن ناقشنا هذا الموضوع و بينا بطلانه ، و أثبتنا أن صفة العلم الأزلي هي من مقتضيات الألوهية و كمالها ،و أن سبق العلم الأزلي لا يستلزم الجبر و لا القهر .
__________
(1) نفسه ، ص: 271 ، 272 .(17/269)
مع العلم بأن ما يزعمه الجهم بن صفوان ما هو إلا تشبيه لله بخلقه، رغم أنه يزعم أنه يُريد التنزيه ، لأن الذي لا يعلم الأشياء قبل حدوثها ، هو الإنسان المخلوق ، و إذا كان الله هو أيضا لا يعلمها قبل حدوثها حسب زعم الجهم ، فهذا يعني التسوية بين الخالق و المخلوق في وصفهما بالجهل و عدم علم الغيب ،و هذا هو التشبيه بعينيه ، و التعطيل بذاته ، فإله الجهمية ميت جاهل ، عاجز مُعطل ، يُشبه الجمادات !! .
و أما المثال الثاني فيتمثل في أن الجابري عندما عرض موقف الجهم بن صفوان من الصفات و نفيه لها ، و ما يتعلق بها من جبر و اختيار ، قال : إنه يجب فهم نظريته حسب ظروفه السياسية في مواجهته للأمويين ، الذين قالوا بالجبر في حكمهم للناس ، فجاء موقف الجهم رد فعل لهؤلاء ، فقال بالقدر و نفى صفة العلم و الحياة و غيرها ، لذا فإن فهم تلك الآثار في إطارها السياسي يُزيل عنها ما يبرر وصفها بالتعطيل )) (1) .
و تبريره هذا في غير محله ،و لا يرفع الخطأ عن الجهم في نظرته إلى الصفات و القدر ، لأنه أولا إن ما فعله الجهم في معارضته للأمويين هو أنه رد خطا بخطأ ، فهم قالوا بالجبر و حكموا الناس به ، و احتجوا بآيات فهموها حسب مصالحهم و أهوائهم ، و أوّلوا ما يُخالفها أو تناسوها ، و هو أصحابه ارتكبوا نفس الخطأ ، عندما تطرّفوا في موقفهم من مسألتي الجبر و القدر معا ، فنفوا الأولى ، و قالوا بالثانية تطرفا (2) ، و تمسكوا بالآيات القرآنية التي توافق فكرهم و أهواءهم ،و أوّلوا الآيات التي تخالفها أو أغفلوها . و كل منهما أخطأ في موقفه من مسألة القضاء و القدر ، و حرية الإنسان ، و لم يتخذ الموقف الصحيح منها ، و هذا أمر قد سبق أن ناقشناه و بيناه .
__________
(1) نفسه ، ص: 271 .
(2) من المعروف في كتب المقالات أن الجهم قال بالجبر ، لكن الجابري خالف ذلك و جعله من القدرية و عليه فننحن نناقشه بناء على ما ذهب إليه .(17/270)
و ثانيا إن العلم فوق السياسة ، و الخطأ هو الخطأ ، و الحقيقة العلمية فوق الظروف السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية ، و هذا لم يلتزم به الجبريون و لا القدريون ، فكل منهما ركب رأسه و هواه ، و اتبع ظنونه و أوهامه ، و جعل كلام الله و رسوله وراء ظهره ، و افترى عليهما و على الناس . و بناء على ذلك فإن المبررات التي ذكرها الجابري في موقفه من الجهم ، هي غير مقبولة شرعا ، و لا عقلا ، و لا علما .
و أما المثال الثالث فيتمثل في أن الجابري ذكر أخطاء للمعتزلي واصل بن عطاء و أصحابه ، في نفي صفات الله تعالى و إثبات القدر ، و سكت عنها و بررها كما فعل مع الجهم بن صفوان ، فقال : إن واصل بن عطاء تكلم في الصفات و قال : (( إن الله لا يُوصف بالعلم و القدرة ، و الإرادة و الحياة ، كما يُوصف البشر ، على نحو ما رأيناه عند الجهم بن صفوان ، و نفي الصفات ، و هي تؤول كلها إلى صفة العلم ، من مقتضيات القول بحرية الإرادة ،و الثواب و العقاب ، كما رأينا عند جهم كذلك .و هذا ما سيُطلق عليه فيما بعد مصطلح : التوحيد و العدل ، التوحيد معناه تنزيه الله من الصفات التي تُطلق على البشر )) (1) . و معنى ذلك عند واصل بن عطاء ، أن (( ذات الله و صفاته شيء واحد ، فلا يجوز الفصل بينهما كما هو الحال في الإنسان و صفاته ، لأن ذلك يُؤدي إلى القول بتعدد القدماء : الذات و الصفات و هذا شرك ، في حين أن الإسلام هو دين التوحيد ، و التوحيد يقتضي عدم فصل صفات الله عن ذاته )) (2) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 276 .
(2) العقل الأخلاقي ، ص: 82 ، 83 .(17/271)
و قوله هذا فيه أباطيل و مغالطات ، سبق الرد عليها فيما ذكرناه عن مسألة الصفات عامة ، و عن الجهم بن صفوان خاصة ، و لكننا مع ذلك نقول : أولا ليس صحيحا أن نفي صفة العلم من مقتضيات القول بحرية الإرادة ، و الثواب و العقاب ، لأن سبق العلم لا يستلزم الإكراه و القهر و الإجبار ، و إنما هو من ضروريات الألوهية و كمالاتها ، و هذا أمر سبقت مناقشته و تبيانه .
و ثالثا إن قول الجابري بأن التوحيد معناه تنزيه الله تعالى من الصفات التي تُطلق على البشر ، هو قول يحتمل معنيين ، الأول إن التوحيد الذي يقصده هو عدم تشبيه صفات الله تعالى بصفات مخلوقاته ، و هذا معنى صحيح موافق للشرع و العقل معا ، لكنه احتمال بعيد جدا عن النص ، و لا يكاد يحتمله . هذا فضلا على أن التوحيد عند المعتزلة هو نفي الصفات كما سبق أن ذكرناه مرارا . و المعنى الثاني يعني أن التوحيد معناه عدم وصف الله تعالى بصفات تُطلق على المخلوقين ، و منهم البشر ، و هذا هو المعنى الظاهر و المفهوم من كلام الجابري ، و الذي لا يكاد يحتمل معنى آخر ، و هذا هو الذي يتفق معه موقف المعتزلة في نفيهم لصفات الله تعالى .(17/272)
و على المعنى الثاني يكون كلام الجابري باطلا شرعا و عقلا ، فأما شرعا فإن الله تعالى وصف نفسه في القرآن الكريم ، بصفات كثيرة ، تُطلق أيضا على الإنسان ، كالسمع و البصر ، و العلم و الحياة ، و الإرادة و القدرة ، و الكلام و الحكمة ، لكنه سبحانه مخالف في ذاته و صفاته لكل مخلوقاته ، لقوله تعالى : -{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} - سورة الشورى/11- ، و (( لم يكن له كفؤا أحد )). و أما عقلا فبما أن الله تعالى موجود فلا بد له من صفات تليق به ، لأن لكل موجود لابد له من صفات تناسب ذاته ،و ليس إلا المعدوم الذي لا صفات له لأنه غير موجود أصلا ، فكيف تكون له صفات ؟ ! . و بناء على ذلك فإن الله تعالى لابد أن يتصف بصفات الكمال المُطلق ، و لا يمكن أن يكون خالقا لهذا العالم إلا إذا كان حيا مريدا ، قادرا عالما ، حكيما رزاقا ، عظيما بديعا ، سميعا بصيرا ... و هذه الصفات معظمها يتصف بها الإنسان ، اسما و معنى ، لكنها تناسب ذاته المخلوقة الناقصة ، و لا تُشبه مُطلقا صفات الله تعالى من حيث الكنه و الكيفية ، لكنها تُشبهها من حيث الاسم فقط ، و عليه فإن زعم الجابري من أن تنزيه الله هو عدم وصفه بالصفات التي تُطلق على البشر ، هو زعم باطل ، و هل يصح في العقل أن ننفي عن الله تعالى اتصافه بصفات الكمال كالعلم ، و الإرادة ، و الحياة ، و السمع ، بدعوى أن الإنسان يتصف هو أيضا بتلك الصفات ؟ ! .
و ثالثا إن قوله الأخير الذي عقّب به على واصل بن عطاء ، هو تغليط و استغفال للقارئ ، لأن الشرع لم يفصل بين ذات الله و صفاته ، و لا قال أهل السنة بذلك (1) . و عليه فإن زعمه بأن ذلك الفصل يُؤدي إلى تعدد القدماء في الذات و الصفات هو زعم غير وارد أصلا ، لأن التعدد يكون بالذوات لا بالصفات .
__________
(1) ابن أبي العز الحنفي : شرح العقيدة الطحاوية ، ص: 125، 126 .(17/273)
مع العلم أن الصواب ليس كما أراد أن يقوله هو ، من أن إثبات الصفات يُؤدي إلى تعدد القدماء ، فهذا زعم باطل و تغليط و استغفال للقارئ ، لأن الصواب هو أن إثبات الصفات لله تعالى لا يُؤدي مطلقا إلى تعدد الذوات و القدماء ، فالله تعالى وصف نفسه بصفات كثيرة ، و هو واحد أحد في ذاته و صفاته ، متصف بصفات الكمال و هي غير منفصلة عنه، فإثباتها لا يعني فصلها عن ذاته تعالى ، و إنما يعني إثباتها له على ما يليق به ،و عدم نفيها عنه ، عكس ما يزعمه واصل بن عطاء و المعتزلة الذين يغالطون الناس و أنفسهم ، فينفون صفات الله تعالى ،و يعطلونها ، ثم يزعمون أنهم لا يفصلون بين ذات الله وصفاته ، فأي صفات بقيت لكي يزعموا ذلك ؟ ! .
و أما قوله-أي الجابري- بأنه لا يجوز الفصل بين ذات الله و صفاته ، كما هو الحال في الإنسان و ذاته ، فهو مثال غير صحيح ، لأن الإنسان كفرد و ليس كجنس ، ليست صفاته الخَلقية منفصلة عن ذاته ، فهي تابعة للذات بما يليق بصاحبها ، فعندما نقول : إن هذا الإنسان مُتصف بصفات خَلقية جميلة ، لا يعني ذلك أنها منفصلة عنه ، و أنه مُتعدد الذوات ، و إنما المقصود أن ذاته متصفة بتلك الصفات . مع العلم أن المقارنة بين ذات الله تعالى و صفاته ، و بين الإنسان وصفاته ، لا تصح أصلا ، لأن الله هو الخالق الأزلي الواحد في ذاته و صفاته . لكن الإنسان كجنس هو المخلوق الحادث المتعدد الذوات و الصفات .(17/274)
و أما المثال الرابع -و هو الأخير- فيتعلق بسكوت الجابري عن شبهة الجهم بن صفوان ، في نفيه لعلم الله و شرحه لكلامه بشبهة أخرى . فالشبهة الأولى زعم فيها الجهم بأنه (( لا يجوز أن يعلم الله الشيء قبل خلقه ، لأنه لو علم ثم خلق ، أَبقي علمه على ما كان أم لم يبق ؟ ، فإن بقي فهو جهل ،فإن العلم بأن سيوجد غير العلم بأن قد وُجد ، و إن لم يبق فقد تغير ، و المتغير مخلوق ليس بقديم )) ، ثم شرح الجابري كلام الجهم بأنه يريد أن يُنزه الله من الجهل ، في حالة إذا تغير الشيء المعلوم ، و لم يتغير علمه ، و أنه يُريد أن يُنزه الله من النقص في حالة إذا ما تغير علم الله بتغير الشيء المعلوم . ثم أكد على أن (( تنزيه الله من الجهل و النقص يقتضي القول أن لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه له ، و إنما يعلمه حين خلقه )) (1) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 272 .(17/275)
و ردا عليه أقول : أولا إن ما نقله الجابري عن الجهم هو كلام جاهل بالله تعالى و صفاته ، لأن العلم الذي تصوّره هو علم الإنسان الجاهل الناقص ، الذي يتصف علمه بالزيادة و النقصان و التغير ،حسب معلومات الإنسان . أما الله تعالى و هو الخالق الأزلي العظيم علام الغيوب ، الذي ليس كمثله شيء ن و هو السميع البصير الذي يعلم السر و أخفى ، فإن علمه كامل مطلق لا يتصف أبدا بالزيادة و لا بالنقصان ، لأن هذا هو الذي دل عليه الشرع ، و يليق بالله تعالى . مما يعني أن الشبهة التي أوردها الجهم لا معنى لها ، و لا يصح نسبتها إلى الله تعالى أصلا .(17/276)
فبما أن علم الله كامل مطلق فهو لا يتأثر مطلقا بأحوال الإنسان ،و لا بما يجري في الكون بأسره ، فعلمه سبحانه غير مرتبط بحوادث المخلوقات أصلا ، فو صفة أزلية مطلقة ، تليق به سبحانه ، و لا يصح أصلا القول بأن ذاته و صفاته عرضة للحوادث ، لأن الحوادث تتعلق بالمخلوقات ، و لا تتعلق برب المخلوقات الحي الذي لا يموت ، قال سبحانه : {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} -سورة الحديد/3-، و {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} - سورة الفرقان/58-، و{ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} - سورة سبأ/3- و {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}- سورة البقرة/255- .(17/277)
و أما تعليق الجابري في شرحه لمقولة الجهم ، فهو غير صحيح ، لأن تنزيه الله تعالى من الجهل و النقص لا يقتضي نفي علم الله بالغيب ، و إنما نفيه هو الذي يقتضي الجهل و النقص ، لأنه لا يصح في الشرع و لا في العقل وصف الله تعالى بعدم العلم الأزلي ، و الإله الذي لا يعلم الغيب ليس إله و لا ربا . كما أن زعمه بأن الله يعلم حين الخلق هو قول على الله بلا علم و افتراء عليه ، و جهل به و بصفاته ، و إنكار لما ثبت في الشرع ، و تسوية لله بالإنسان ، و تشبيه له به ، لأن علم الإنسان هو الذي يحدث أثناء الفعل أو بعده . و لو كان الله تعالى لا يعلم الغيب ما أخبرنا عن تفاصيل كثيرة عما سيحدث يوم القيامة . و لا أخبر الصحابة بأنه سيمكن لهم في الأرض و قد تحقق ذلك فعلا . و لا أخبرنا بأن الروم الذين هزمهم الفرس سينتصرون في بضع سنين . و لا أخبرنا بأنه سيمكن لدينه في الأرض ، و قد تحقق ذلك فعلا .(17/278)
و أما الشبهة الثانية فإن الجابري خلّط فيها حقا و باطلا ، و ناقض فيها نفسه بما قاله في الشبهتين ، و مفادها أنه قال-لتوضيح شبهة الجهم- : (( إذا كان الله يعلم ما سيفعله الأمويون قبل أن يخلقهم ،و قبل أن يغتصبوا الحكم بالقوة ، فإننا سنكون أمام احتمالين : إما أن علمه سيبقى كما كان عندما هاجموا الكعبة مثلا ، و في هذه الحالة إما أن نقول : إن الله هو الذي أراد منهم ذلك قبل أن يفعلوه ، فيكون هو الذي حتمه عليهم ، و هذا غير معقول و لا يجوز . و إما أن يكونوا قد فعلوا ما فعلوا من تلقاء أنفسهم و بمحض إرادتهم ، و في هذه الحالة نتساءل : هل علم الله هذا الذي فعلوه أم لا ؟ ،فإذا علمه فسيكون علما مُضافا إلى علمه السابق ، و هذا لا يجوز لأن علمه كامل لا يحتمل الإضافة ، و أما إذا قلنا : إنه لم يعلمه ، فإننا سنكون قد أضفنا إليه الجهل . و إذاً فالحل المعقول الذي لا يجر إلى تناقضات و نقائض مثل تلك ، هو أن نقول : إن الله خلق العالم بما فيه الإنسان ، و أن الأمور تجري في العالم حسب سنن و قوانين ، قدرها تقديرا ، كحركة الفلك مثلا . أماالإنسان فقد خلق له أو فيه ، قدرة بها يعقل ، و إرادة و اختيارا ؛ وأكثر من ذلك بيّن له بواسطة الرسل و عن طريق العقل سبيل الخير و سبيل الشر ، و الإنسان هو الذي يختار هذه أو تلك ، فيفعل هذا أو ذاك ، هنا حين الفعل يتدخل علم الله ليحكم بالحسن أو القبح ، بالثواب أو بالعقاب )) (1) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 272 .(17/279)
و تعقيبا عليه أقول : أولا إن علم الله تعالى لا يصح وصفه بالزيادة و لا بالنقصان ، فهو علم كامل شامل أزلي ، لا يصح فيه افتراض ما افترضه الجابري، و إن كان هو نفسه اعترف في النهاية بأن علم الله كامل لا يحتمل الإضافة . كما أن قضية الأمويين ، لم يطرحها بطريقة صحيحة ، لأن ما فعله الأمويون كان بإرادة و مشيئة من الله تعالى من دون أن يُحتمه عليهم ، ولا رضي به و لا أحبه ، لأن سبق العلم لا يستلزم إجبارا و إكراها و لا قهرا ،و لا حبا و لا رضى . و كل ما يحدث في الكون هو بإرادة و مشيئة من الله و بقدر منه ، فلا يحدث في الكون ما لا يُريده ، لكنه يحدث فيه ما يُحبه و يرضاه ، و ما لا يُحبه و لا يرضاه ، فلا بد من التفريق بين الإرادة و المشيئة و بين المحبة و الرضا ، و قد فعل الله ذلك لحِكم بالغة ، منها : ابتلاء الإنسان و اختباره في هذه الدنيا ، فلو أن الله يُعاقب كل مجرم في الدنيا ،و يُجازي كل مُحسن فيها أيضا ، فلا معنى لإرسال الرسل ،و إنزال الكتب ، و ابتلاء الناس بعضهم ببعض ، و لا فائدة من خلق الجنة و النار أصلا .(17/280)
و لذلك كان ما فعله الحجاج بن يوسف في ضربه للكعبة الشريفة ، هو عمل لا يرضاه الله و لا يحبه ، لكنه يدخل في مشيئته و قدره ، و هذا أمر من ضروريات الربوبية و كمالاتها . فالله تعالى لا يرضي لعباده الكفر ، لكن الكفر موجود و هو الغالب على بني آدم ، و هو سبحانه لا يحب الظلم و الفسوق و العصيان ، لكن الأرض تموج بذلك . فهو سبحانه خالق كل شيء بإرادته و مشيئته ،و قدرته و حكمته ، قال تعالى : {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} - سورة الزمر/7-، ، و{ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا } - سورة الرعد/31- و ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} - سورة البقرة/222- ، و{ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} -سورة الروم/45- ، و { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} - سورة الشورى/ 40- ،و {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} - سورة لقمان/18- .
و ثانيا إن كل ما حدث على أيدي الأمويين -حسب مثال الجابري- تم بإرادة من الله و مشيئته ، و علمه و قدرته و حكمته من جهة ، و باختيار من الأمويين و عن وعي منهم ، و من دون إكراه و لا إجبار ، ولا رضى من الله ولا حب منه ، من جهة أخرى . و هذا الأمر الشرعي المنطقي الواضح ، هو الذي لم يفهمه الجابري أو لم يُرد فهمه ربمالخلفيات مذهبية مبيتة .(17/281)
و أما قوله : إن الله تعالى خلق الكون بما فيه الإنسان ، وفق سنن و قوانين قدرها تقديرا ، عليها سيّر الكون ، فهو كلام صحيح موافق للقرآن الكريم ، و لمذهب أهل السنة ، الذين يعتقدون أن الله تعالى قبل أن يخلق العالم قدّر مقاديره تقديرا ، بعلمه و حِكمته ،و عندما خلقه جعله يسير وفق ما قدره له في سابق علمه الأزلي (1) .
لكن الجابري أخطأ عندما استثنى أفعال الإنسان من ذلك التقدير المسبق ، عندما قال : (( حين الفعل يتدخل علم الله )) ، و هو ادعاء لا دليل عليه من الشرع و لا من العقل ، بل الشرع يرفضه رفضا ، و ينقضه نقضا . وأما إذا كان يتعلق بمسألة الجبر و الاختيار التي سبقت مناقشتها ، فقد بينا أن سبق العلم الإلهي الغيبي الأزلي لا يستلزم الجبر و الإكراه ،و لا يمنع الإنسان من ممارسة حريته و أعماله ، و تحمل مسؤولياته .
و هو أيضا قد اعترف بأمرين خطيرين نقض بهما ما بناه نقضا ، أولهما إنه أقر بأن علم الله كامل لا يحتمل الإضافة . و ثانيهما إنه اعترف بأن الحل المعقول بالنسبة لخلق العالم بما فيه الإنسان ، هو القول : إن الله خلق الكون (( وفق سنن و قوانين قدّرها تقديرا ، كحركة الفلك مثلا ))-سورة - ، و هذا يعني أن الله تعالى يعلم الغيب الأزلي ، لأنه لو لم يكن كذلك ، ما استطاع يٌقدر خلق العالم تقديرا مستقبليا . و من ثم فلا يصح شرعا و لا عقلا استثناء الإنسان من هذا التقدير المستقبلي القائم على العلم . كما أن اعترافه بهذين الأمرين هو نقض لنظرية الجهمية و المعتزلة في نفي القضاء و القدر و العلم ، التي دافع عنها الجابري مرارا و تكرارا .
__________
(1) صديق حسن خان : قطف الثمر من عقيدة أهل الأثر ، ص: 84 و ما بعدها .(17/282)
و إذا كان الجابري كثيرا ما سكت عن أخطاء الجهمية و المعتزلة ،و برر آراءهم و دافع عنها ، فإنه لم يفعل ذلك مع أهل السنة ، فقد حرص على انتقادهم ،و تحميل أقوالهم ما لا تحتمله ، و قد يُقوّلهم-أحيانا- ما لم يقولوه . من ذلك إنه عندما تعرّض لمسألة مرتكب الكبيرة ، ذكر أن أهل السنة قالوا : إنه فاسق لا يُخرجه فسقه من كونه مؤمنا ، ما دام يؤمن بالله و رسله و كتبه . و بمعنى آخر إنه مؤمن عاص إن شاء الله غفر له . ثم انتقد السنيين في ذلك و قال : إن فيه إدانة خفيفة للأمويين ،و ينطوي أيضا على التساهل في مسألة الوعد و الوعيد ، و ذلك أنه (( إذا كان الله سيغفر للمؤمن العاصي ، فمعنى هذا أنه سيخلف وعيده ، علما بأن الله توعد مرتكبي الكبائر بالعقاب الشديد )) (1) .
و أقول : إنه ذكر أن أهل السنة قالوا : إن مرتكب الكبيرة مؤمن عاص ، إن شاء الله عفر له ، ثم عاد و قال - في انتقاده للسنيين- : (( إنه إذاكان الله سيغفر للمؤمن العاصي ... )) ، فقوله هذا يُخالف ما ذكره قبل ذلك ، فهناك فرق كبير بين : إن المؤمن العاصي في حكم الله إن شاء عذبه و إن شاء غفر له ، و بين قوله : (( إذا كان الله سيغفر للمؤمن العاصي ))، فأهل السنة لم يقولوا : إن الله سيغفر لمرتكب الكبيرة ، و إنما قالوا : إنه لا يخلد في النار . و هذا يعني أنه يستحق دخول النار بذنوبه ، من دون الخلود فيه ، و مع ذلك فإن الله تعالى ربما يغفر له قبل دخولها ، علما بأن كثيرا من النصوص ذكرت أن صاحب الذنوب يدخل النار إذا كانت ذنوبه أكثر من حسناته (2) ،
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 274 .
(2) انظر : صديق حسن خان ، قطف الثمر ، ص: 132 . و ابن أبي العز الحنفي : شرح العقيدة الطحاوية ، ص: 316 و ما بعدها . و ابن قيم الجوزية : طريق الهجرتين و باب السعادتين ، ط2 ، دار ابن القيم ، الدمام ، 1994 . ، ص: 568 و ما بعدها .(17/283)
و هذا معروف من دين الإسلام بالضرورة ، كقوله تعال : {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} سورة المؤمنون /103-،و {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} - سورة الأعراف/8- .
و أما المجموعة الثانية - من الأخطاء المنهجية- المتعلقة بعلم الكلام و أصول الدين ، فتتضمن ستة أخطاء متنوعة ، أولها إنه-أي الجابري- قال : إن الشيعة كلهم قالوا بأن الإمامة بعد النبي-عليه الصلاة و السلام-كانت من حق علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- ، ما عدا الشيعة الزيدية الذين يعترفون بخلافة أبي بكر و عمر-رضي الله عنهما- (1) .
و قوله هذا يتضمن خطأ يتعلق بموقف الزيدية من الإمامة ، و هو أنه ليس كل الزيدية قالوا بصحة خلافة أبي بكر و عمر ،و ذلك أن الزيدية تتكون من ثلاث فرق ، هي : السليمانية ، و البترية ، و الجارودية ، فالأولى و الثانية قالتا : إن الإمامة شورى بين المسلمين ، و أثبتتا إمامة أبي بكر و عمر ؛ لكن الثالثة خالفتهما ، و ادعت أن الخلافة لعلي بن أبي طالب بالوصف لا بالاسم ، بعد النبي-عليه الصلاة و السلام- ، و كفرت الصحابة لتركهم بيعة علي حسب زعمها (2) . و موقفها هذا ينقض التعميم الذي أصدره الجابري ،عن موقف الزيدية من الإمامة .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 246 .
(2) أنظر مثلا : أبو الحسن الأشعري : مقالات الإسلاميين ، ج 1 ص: 18 . و ابن حزم : الفصل في الملل و الأهواء و النحل ، ج 1 ص: 455 . و الشهرستاني : الملل و النحل ، ج 1 ص: 184 . و عبد القاهر البغدادي : الفرق بين الفرق ، ص: 30 و ما بعدها . و أقول : إنني لم أتمكن من الحصول على كتب الزيدية ، لككني اعتمد على مصادر متخصصة في الفرق و المقالات .(17/284)
و الخطأ الثاني يتمثل في أن الجابري نقل عن المتكلم أبي بكر الباقلاني(ت403ه) ، إنه قال : (( ما لا دليل عليه يجب نفيه )) ، ثم عقب عليه بقوله : إن هذا المبدأ يقضي (( بإبطال كل شيء في الغائب ليس عليه دليل من الشاهد ، و واضح أن هذا المبدأ هو من الخطورة بمكان ، بالنسبة لقضايا علم الكلام . ذلك لأنه يربط عالم الغيب ، عالم الألوهية ، و البعث و الحساب ... بعالم الشهادة : الطبيعة و الإنسان ، ربط معلول بعلة ، أو على الأقل ربط مشروط بشرطه ، بحيث يُصبح عالم الشهادة شرطا في وجود عالم الغيب ، و ذلك ما يمس الدين نفسه كعقيدة ، و ليس وسائل الدفاع عنه )) (1) .
و قوله هذا يتضمن أخطاء و مبالغات ، لأنه أولا إن كلام الباقلاني صحيح لا مطعن فيه ، و هو تعبير عن مبدأ شرعي ، مُستنتج من القرآن الكريم ، كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} - سورة الإسراء/36 - ، و (( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ))-سورة البقرة/111 - ، و { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} -سورة النجم/23- ، و -{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}- سورة الحج/8- . و الباقلاني لم يكن يقصد ما ذهب إليه الجابري ، لأن تراث الرجل-أي الباقلاني- يشهد على أنه لم يكن يقصد ما ذهب إليه الجابري (2) .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 442-443 .
(2) أنظر مثلا : الباقلاني : كتاب تمهيد الأوائل و تلخيص الدلائل .(17/285)
و ثانيا إن الجابري حمّل كلام الباقلاني ما لا يحتمله ، و جعّده تجعيدا بلا دليل ، و حوّله من حبة صغيرة إلى قبة كبير ، لأن الباقلاني قال : (( ما لا دليل عليه يجب نفيه ))، من دون أن يُحدد مصدر هذا الدليل ، و إنما الجابري هو الذي حدده و حصره في الشاهد المادي ، و هذا تحريف للنص و توجيه له بطريقة غير صحيحة ، علما بأن مصادر الأدلة ثلاثة ، هي : الشرع ، و العقل ، و المشاهدة المادية ،و هذه المصادر يقول بها أبو بكر الباقلاني ، كغيره من علماء المسلمين ، و مؤلفاته التي وصلتنا تشهد على ذلك (1) . فعمل الجابري هو اعتداء على كلام الرجل ، و إخراج له من إطاره المعرفي و الزماني الذي قيل فيه . علما بأن ما ذهب إليه الجابري هو جانب تتضمنه مقولة الباقلاني ، و ليس حصرا لها ، فجاء هو و جعل الجزء كلا ، و أبعد الجوانب الأخرى . فالباقلاني قال : (( ما لا دليل عليه يجب نفيه )) ،و الجابري جعلها تقول : (( ما لا دليل عليه من المشاهدة المحسوسة يجب نفيه )) ، فتأمل ! . فمقولة الباقلاني فيها اشتراط للدليل من دون تحديد لمصدره ، و الثانية فيها اشتراط للدليل مع تحديد مصدره ، المتمثل في الشاهد المادي ، مما يعني أن مقولة الجابري لا تنطبق على مقولة الباقلاني إلا بنسبة الثلث دون الثلثين الباقيين .
__________
(1) أنظر : نفسه .(17/286)
و ثالثا إنه حتى إذا سلمنا-جدلا- بما ذهب إليه الجابري في تفسيره لمقولة الباقلاني ، فإن أدلة عالم الشهادة لا تُشكل أي خطر على دين الإسلام ، إذا اُستخدمت بطريقة صحيحة ، و وُضعت في مكانها المناسب ، لأن العقل و العلم إن لم يُثبتا الدين فإنهما لن يستطيعا نفيه . هذا فضلا على أن العلم الحديث أثبت بالأدلة الصحيحة الدامغة بأنه لا يصح القول بأن ما لا تُدركه الحواس لا وجود له ، فهذه مقولة أصبحت خرافة من خرافات تاريخ الفكر الإنساني ، لأن العلم الحديث أثبت وجود عوالم غير مرئية لم يكن الإنسان يراها و لا يعرفها، و هي اليوم من حقائق العلم الكبرى التي لا تُرى ، كعالم الذرة ، و الجاذبية ، و عالم الجراثيم و الفيروسات . علما بأن القرآن الكريم نفسه يدخل في عالم الشهادة المحسوس ، فهو دليل علمي مادي دامغ مُعجز ،شاهد على صدق نبوة محمد رسول الله- عليه الصلاة و السلام- ، فإذا استشهد به المسلم فهو يستشهد بدليل مادي ملموس . و أما فيما يخص وجود الله سبحانه و تعالى ، فالدليل على وجوده دليلان ماديان مُشاهدان ملموسان ، هما : كتاب الله المنظور ، و هو الكون و ما فيه من مخلوقات، و كتابه المسطور ، و هو القرآن الكريم ، و الكتابان مُعجزان يشهدان على وجود الله تعالى .
و أما الخطأ الثالث فيتعلق بموضوع الخوارق عند ابن خلدون و موقفه منها ، فقال الجابري : قرر ابن خلدون أن (( خرق العادة كان زمن النبي فقط ، أما بعد ذلك فقد : ذهبت الخوارق و صار الحكم للعادة كما كان ، أي صارت القوانين الطبيعية مطردة في مجال الطبيعة و القوانين الاجتماعية مُطردة في مجال العمران ... و لنقل في مجال الشريعة أيضا )) (1) .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 551 .(17/287)
و قوله هذا فيه خطأ في النقل و الفهم ،و تقويل للرجل ما لم يقله و مالا يعتقده ، لأنه أولا إن ابن خلدون لم يقل أبدا أن الخوراق كانت زمن النبي-عليه الصلاة و السم- فقط ، ثم ذهبت و صارت كالعادة ، و إنما قال : إن في زمن رسول الله ذهبت العصبية ،و كان الجهاد و الدين قائما حاكما ، و (( العادة معزولة ، حتى إذا انقطع أمر النبوة و الخوارق المُهولة ، تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد )) (1) .و نفس المعنى قاله في النص الذي نقله عنه الجابري ، فذكر فيه ابن خلدون أنه لما ذهب زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- ، و توالت القرون انحصر المدد النبوي ، بذهاب المعجزات النبوية ، و تحولت تلك الصيغة قليلا قليلا ،و (( ذهبت الخوارق ،و صار الحكم للعادة كما كان ، فاُعتبر أمر العصبية و مجاري العوائد ، فيما ينشأ عنها من المصالح و المفاسد )) (2) . و قال أيضا : (( عندما نسي الناس شأن النبوة و الخوارق ، و رجعوا إلى أمر العصبية و التغالب )) (3) .
__________
(1) ابن خلدون : تاريخ العبر و ديوان المبتدأ و الخبر ، ج 1 ص: 216 .
(2) ابن خلدون : المقدمة ، ص: 167 .
(3) العبر ، ج 3 ص: 4 .(17/288)
فهذه الأقوال شاهدة على عكس ما ادعاه الجابري ، فقوّله ما لم يقل ، و نقل كلامه نقلا ناقصا مبتورا ، لا ندري أتعمد في ذلك ، أم لا ؟ ، فابن خلدون لم يقل أبدا أن الحوارق كانت خاصة بزمن الرسول-صلى الله عليه وسلم- يم توقفت بعده . كما أنه لم يقصد بعبارة : العادة ، ما قصده الجابري ، فالعادة كما ذكرها ابن خلدون قصد بها العادات و التقاليد العصبية التي كانت سائدة زمن الجاهلية المتعلقة بالحكم ، فلما ضعف التدين ،و تطاول الزمن عادت بعض العوائد المتعلقة بالعصبية إلى الظهور من جديد ، و هذا قاله ابن خلدون صراحة . و أما الجابري فقد أعطى لمعنى العادة مفهوما فكريا عميقا ، معناه السنن و القوانين و النواميس التي تحكم الطبيعة و العمران البشري ، و حتى الشريعة . و هذا كلام لم يقله ابن خلدون و ما قصده باستخدامه لعبارة العادة التي نقلناها عنه آنفا .
و ثانيا إن مما يُبت خطأ الجابري فيما نقله عنه ، أن ابن خلدون نفسه كان يؤمن بحدوث الخوارق على أيدي أُناس عاشوا بعد رسول الله-عليه الصلاة و السلام-، فمن ذلك أنه قال : (( و عند ظهور الغلاة من الصوفية ،و جنوحهم إلى كشف حجاب الحس ، و ظهور الخوارق على أيديهم ،و التصرفات في عالم العناصر )) (1) .
و الشاهد الثاني هو أنه عندما تكلّم عن الكيميائيين قال : (( إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية ،و سائر الخوارق ،و ما كان من أمر الحلاج و غيره )) (2) . و الشاهد الثالث هو إنه عندما تكلّم عن بعض أولياء المغرب الإسلامي و أعيانه ، قال : (( و أما وقوع الخوارق فيهم ، و ظهور الكاملين في النوع الإنساني من أشخاصهم ، فقد كان فيهم من الأولياء )) (3) .
__________
(1) المقدمة ، ص: 413 .
(2) نفس المصدر ، ص: 453 .
(3) العبر ، ج 6 ص: 105 .(17/289)
و الشاهد الرابع- و هو الأخير- ، فإن ابن خلدون قال : إن الصوفية لهم واقعات يُخبرون فيها بالمغيبات قبل وقوعها ، و يترقون بهممهم و قِوى أنفسهم في الموجودات ، السفلية و تصير طوع إرادتهم (1) .
فهذه أقوال ابن خلدون نفسه تنقض ما ادعاه الجابري في حقه ، و هي شاهدة على خطأ الجابري في النقل و الفهم ،و تقويل ابن خلدون ما لم يقله . فهل تعمّد في ذلك أم أخطأ ؟ ، يبدو لي أنه تعمّد ذلك ، لأن الأمر واضح وضوح الشمس في رابعة النهار ، فعل ذلك انطلاقا من خلفيته المذهبية لخدمة مشروعه الفكري .
و أما الخطأ الرابع فيتمثل في قول الجابري بأن المعتزلة استخدموا مبدأ : العقل قبل ورود الشرع . في جدالهم لغير المسلمين ، لأنهم جادلوا في أول أمرهم الجماعات التي لم تكن أسلمت ، كالمانوية التي كانت تنشر عقائدها ،و تطعن في الإسلام (2) .
و ردا عليه أقول : أولا يجب أن لا يغيب عنا أن المعتزلة عندما قالوا بذلك المبدأ ، هو مغالطة منهم ،و قد سبق أن أن ناقشنا مبدأهم هذا . و حقيقة قولهم التقدم بين يدي الله و رسوله، لأن مبدأهم هذا لا يصح شرعا و لا عقلا - في ميزان العقل المؤمن- بعدما ظهر الإسلام ،و أظهره الله على الدين كله ، فكان من الواجب عليهم الالتزام به في كل أحوالهم مع المسلمين و غيرهم ، إن كانوا حقا عقلانيين منطقيين مع الله و أنفسهم .
__________
(1) المقدمة ، ص: 88 ، 372 ، 388 .
(2) العقل الأخلاقي ، ص: 116 .(17/290)
و أما قوله بان المعتزلة استخدموا مبدأهم لمجادلة غير المسلمين ، فهو قول غير صحيح في معظمه ، لأن المعتزلة استخدموا مبدأهم لتبرير موقفهم من الشرع نفسه ، و الله تعالى يقول : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} - سورة الحجرات/1- .كما أنهم استخدموه لتأويل النصوص و توجيهها لخدمة أصولهم ، في مسائل الصفات و القضاء و القدر و الرؤية (1) .
و ثانيا إن قوله بأن المعتزلة جادلوا في أول أمرهم غير المسلمين ، هو قول غير صحيح ، و إنما الصحيح هو عكس ذلك ، فإنهم جادلوا المسلمين قبل غيرهم ، لأن ظهورهم نفسه كان بسبب الخلافات العقدية بين المسلمين أنفسهم ، فهم الذين خرجوا من حلقة الحسن البصري بسبب الاختلاف في مسألة مرتكب الكبيرة ، ثم دخلوا في مجادلات مع مختلف الفرق الإسلامية في مسائل : الجبر و الاختيار ، و القضاء و القدر ، و الصفات الإلهية ، و الإمامة ، و هذا الأمر ذكره الجابري نفسه مرارا في بعض كتبه (2) . و نحن إذا تفحصنا كتاب شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجيار نجده موجها في معظمه للرد على الفرق الإسلامية المخالفة للمعتزلة ، و هذا أمر لا يحتاج إلى توثيق .
__________
(1) مثال ذلك تأويل القاضي عبد الجبار لصفة العلم و الرؤية ، أنظر شرح الأصول الخمسة ج 1 ص : 133 ، و ما بعدها ، و 161 و ما بعدها .
(2) أنظر : العقل الأخلاقي ، ص: 113 , ما بعدها . و العقل السياسي ، ص: 274 و ما بعدها .(17/291)
و أما الخطأ الخامس فيتعلق بمسألة الوعد و الوعيد ، فذكر الجابري أن المعتزلة قالوا : إن الله لا يخلف وعده و لا وعيده ، فلابد أن (( يُجزي المحسن بالثواب الذي وعده و يُجزي المسيء بالعقاب الذي نص عليه ، فلا يُعقل عندهم أن يُدخل الله الكافر الجنة ، و لا المؤمن النار ، بينما قال غيرهم من أهل السنة : إن الله يفعل ما يشاء )) (1) .
و قوله هذا فيه تغليط و افتراء على أهل السنة ، لأن السنيين قالوا : إن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ليس فيما يخص الوعد و الوعيد مطلقا ، و إنما قالوا ذلك بصفة عامة ، ردا على المعتزلة الذين أوجبوا على الله فعل الصلاح و الأصلح . فقال أهل السنة : إن الله فعال لما يُريد ، و لا يُوجب عليه أحد شيئا ، إلا ما أوجبه هو على نفسه ، بإرادته و مشيئته ،و عدله و حكمته ،و رحمته و لطفه (2) .
و أما فيما يخص مسألة الوعد و الوعيد ، فأهل السنة اتفقوا على خلود الكفار في النار ، و أن أي إنسان لقي ربه كافرا به عذّبه و لم يغفر له . لكنهم قالوا : إن مرتكب الكبيرة من المسلمين أمره إلى الله تعالى ، إن شاء غفر له ، و إن شاء عذّبه ، مع أنه يستحق الوعيد ، و إن دخل النار فلا يُخلد فيها . و قالوا أيضا : إن هناك نصوصا كثيرة أشارت إلى دخول مرتكب الكبيرة النار فعلا (3) .
__________
(1) التراث و الحداثة ، ص: 57 .
(2) أنظر مثلا : ابن قيم الجوزية : مفتاح دار السعادة ، دار الكتب اعلمية ، بيروت ، د ت ، ج 2 ص: 51 و ما بعدها .
(3) أنظر مثلا : ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 8 ص: 270 ، ج 14 ص: 498 . و ابن القيم : طريق الهجرتين ، ج 1 ص: 568 ، و ما بعدها . و ابن أبي العز الحنفي : شرح العقيدة الطحاوية ، ص: 316 ، و ما بعدها ، 369 . و اللالكائي : اعتقاد أهل السنة ، ج 1 ص: 162 .(17/292)
و الخطأ الأخير -السادس من المجموعة الثانية- ، يتعلق بمسألة تقبيح العقل للأشياء و تحسينها ، فذكر الجابري أن المعتزلة قالوا بقدرة العقل على التحسين و التقبيح ، و توسع في شرح موقفهم ، ثم قال : (( و أما أهل السنة فقد كانت آراؤهم في هذه المسألة و في غيرها ، عبارة عن ردود صريحة أو ضمنية على أراء المعتزلة )) ، ثم ذكر أن الأشاعرة قالوا خلاف ما ذهب إليه المعتزلة ، بمعنى أنه لا مجال للعقل في التقبيح و التحسين ،و إنما ذلك للنقل وحده (1) .
و قوله هذا يتضمن خطأين يتمثلان في التعميم و الإغفال ، فأما التعميم فإنه ذكر أهل السنة عامة دون تفريق بينهم ، لأن أهل السنة ليسوا على رأي واحد في مسألة التحسين و التقبيح ، فمنهم من قال بأن العقل يُحسّن و يُقبّح ، و منهم من خالف ذلك (2) . و أما الإغفال فإنه-أي الجابري- أغفل الطائفة السنية التي قالت بالتحسين و التقبيح العقليين من جهة ، و ذكر الطائفة السنية الأخرى التي قالت بعكس ذلك ، كالأشاعرة و من وافقهم من المذاهب السنية الأربعة من جهة ثانية . و الذين أغفلهم هم أهل الحديث و من وافقهم من المالكية و الشافعية و الحنابلة (3) .، الذين قالوا بالتحسين و التقبيح العقليين ، كأبي بكر القفال ،و أبي علي بن أبي هريرة الشافعيين ، و أبي الحسن التميمي ،و أبي الخطاب الكلوذاني ، و ابن تيمية ، و ابن القيم ،و هم من الحنابلة (4) .
__________
(1) العقل الأخلاقي ، ص: 114 و ما بعدها .
(2) ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 8 ص: 90 .
(3) نفسه ، ج 8 ص: 90 .
(4) ابن تيمية : منهاج السنة ج 1 ص: 144 . و مجموع الفتاوى ، ج 8 ص: 90 . و ابن قيم الجوزية : الصواعق المرسلة ، ج 4 ص: 1450 .(17/293)
و يتبين مما ذكرناه- في مبحثنا هذا- أن الباحثيّن أركون و الجابري ، كانت لهما أخطاء كثيرة تتعلق بعلم الكلام و أصول الدين ، معظمها هي من أخطاء الجابري . وقد ناقشناهما فيما أخطآ فيه ،و بينا وجه الصواب في ذلك . وكانت أخطاؤهما -في الغالب - أخطاء منهجية ذات خلفيات فكرية مذهبية موجهة .
رابعا : الأخطاء المنهجية المتعلقة بالفلسفة و المفاهيم و المصطلحات :
و قع كل من محمد أركون ، ومحمد عابد الجابري ، في أخطاء منهجية تتعلق بالفلسفة و المفاهيم و المصطلحات ، معظمها هي من أخطاء الجابري ، فبالنسبة لأركون أذكر من أخطائه اثنين ، أولهما إنه قال : إن الإسلام الرسمي حال دون نهوض الفلسفة ، و حدثت منافسة بين الفقهاء حراس الدولة ، الذين يُبررون أعمالها ،و يضمنون تطبيق الشريعة ، و بين التأمل الفلسفي الذي كان ينتقد أشياء أساسية تخص تفسير النصوص ،و تعظيم الأمور الدنيوية )) (1) .
__________
(1) تاريخية الفكر العربي الإسلامي ، ص: 298 .(17/294)
و قوله هذا يتضمن أخطاء و مغالطات ، لأنه أولا ليس صحيحا أن كل الدول -الإسلام الرسمي حسب أركون- في العصر الإسلامي ، حالت دون نهوض الفلسفة ، فقد وُجدت دول و خلفاء و ملوك و أمراء شجّعوا الفلسفة ماديا و معنويا ، و كان بعضهم فلاسفة ، فمن الدول التي شجعت الفلسفة : الدولة العباسية زمن هارون الرشيد(ت293ه) ، و المأمون (ت218ه9 ، و المعتصم(ت227 ه) ،و الواثق (ت 232ه ) .و الدولة البويهية (334-447ه) ، و الدولة العبيدية الإسماعيلية(297-567ه) ،و الدولة الأغلبية زمن إبراهيم بن الأغلب (ت289ه) ، و الدولة الأموية بالأندلس زمن الخليفة عبد الرحمن بن الحكم(ت239ه) ،و سلطنة بلاد الروم زمن الملك ركن الدين قلج (ت600ه) ،و دولة المغول زمن الوزير النصير الطوسي(ت 672ه) (1) .
__________
(1) أنظر : ابن النديم : الفهرست ، ج 1 ص: 139 . و السيوطي: تاريخ الخلفاء ، ص: 306، 522 . و ابن كثير : ج 13 ص: 37 . و ابن تيمية : مجموع الفتوى ، ج 13 ص: 207 . و ابن القيم : إغاثة اللهفان ، ص: 170، 196 . و إبراهيم التهامي: جهود علماء المغرب في الدفاع ، ص: 623، 627 . و أركون : معارك من أجل الأنسنة ، ص: 61، 62 .(17/295)
و ثانيا إنه ليس الفقهاء فقط هم الذين كانوا حراسا للدول القائمة خلال العصر الإسلامي ، و إنما كثيرا من الفلاسفة هم أيضا كانوا حراسا للدول التي عاصروها أو عاشوا في كنفها ، فخدموها و دعّموها ،و استفادوا منها في نشر الفلسفة و التمكين لها ، منهم : الفلاسفة الذين تولوا ترجمة العلوم القديمة إلى اللغة العربية زمن الدولة العباسية ، كيوحنا بن ماسويه ، و حنين بن إسحاق ، و إسحاق بن حنين ، و ثابت بن قرة الصابئ ،و يحيى بن البطريق (1) . و منهم أيضا : يعقوب الكندي، و الوزير أبو الفضل بن العميد (ت360ه) ،و الشاعر الضال ابن هانئ الأندلسي(ت362ه) ، و أبو علي بن سينا (ت428ه) ،و ابن رشد الحفيد(ت595ه)، و قاضي القضاة رافع الدين الجيلي(ت642ه) (2) .
و ثالثا إن الفلسفة التي دافع عنها أركون لم تكن كما زعم ، فقد كان الغالب عليها الضلال و الانحلال و السلبية ، بمنطقها الأرسطي العقيم، و إلهياتها الظنية المخالفة للشرع و العقل معا، كقولها بأزلية الكون ، و نفيها للصفات الإلهية ،و قولها بالعقل الفعال و العقول العشرة (3) . فأصبحت هذه الفلسفة خطرا على الإسلام و المسلمين،و العقل و العلم معا ، مما حتّم على علماء الإسلام التصدي لها ، لأنقاذ الدين و العقل و العلم ، من براثن هذه الفلسفة الخُرافية العقيمة المدمرة للفرد و المجتمع فكرا و سلوكا . هذه الفلسفة هي التي دافع عنها أركون و زعم أنها كانت تمارس النقد و التأمل الفلسفي ! .
__________
(1) ابن النديم : الفهرسـ ج 1 ص: 139 . و ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، حققه نزار رضا ، دار مكتبة الحياة ،بيروت ، د ت ، ص: 226 ، 295 .
(2) الذهبي : السير ، ج 16 ص: 137 . و العبر في خبر من غبر ، ج 2 ص: 334 ، 335 . و ابن النديم : الفهرست ، ج1 ص: 358 . و ابن العماد الحنبلي : شذرات الذهب ، ج 4 ص: 318، ج 5 ص: 134 .
(3) سيأتي توثيق ذلك عندما نتكلم عن أخطاء الجابري المتعلقة بالفلسفة .(17/296)
و أما الخطأ الثاني فمفاده أن أركون زعم أن الدراسات النقدية الفلسفية و الاجتماعية التفكيكية الحديثة ، قضت على الفكرة القديمة التي تُؤمّن قاعدة دينية أو عقلانية للأشياء تُؤمن للإنسان طمأنينته . ثم ادعى أنه بناء على الظروف الحالية التي نعيشها ، في ظل النزعة المادية النفعية التي تتحكم بأنظمة القيم غير المستقرة، أصبح يستحيل ((علينا الآن أن نؤسس لاهوتا معينا ، أو فلسفة مُعينة ، أو أخلاقا معينة ، أو سياسة معينة على قاعدة العهد الأنطلوجي الثابت الدائم )) (1) .
و ردا عليه أقول : إنه صحيح بأن كثيرا من الأبحاث العلمية أثبتت على مستوى الطبيعة و الإنسان ، بطلان كثير من العقائد و المذاهب و الأفكار القديمة منها و الجديدة ، لكنها لم تقض على كل ما كان يعتقده الإنسان ، من عقائد و أفكار . كما أنها- أي الأبحاث العلمية الحديثة- أثبتت حقائق علمية كثيرة كانت في خدمة الدين و دعمته بقوة ، كإثبات حدوث الكون ، و إمكانية نهايته (2) . و أثبتت أيضا الإعجاز العلمي الباهر في القرآن الكريم ،و صحة ما جاء فيه من حقائق في مختلف العلوم الحديثة (3) .
كما أنها -أي الأبحاث الحديثة- و إن كانت قد وجهت ضربات قوية و دامغة للأديان الباطلة و المحرفة ، فإنها مع ذلك لم تقض عليها على مستوى الممارسة العملية ، فهي ما تزال قائمة ، و تُؤدي وظيفتها في مجتمعاتها ، و ما تزال توفر الطمأنينة لمعتنقيها ، و هم يُضحون من أجلها ،و يموتون في سبيلها ، كحال اليهود و النصاري و الهندوس .
__________
(1) معارك من أجل الأنسنة ، ص: 36 .
(2) أنظر مثلا : عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، دار الشروق ، القاهرة ، 1980، ص :71 و ما بعدها ، 84 و ما بعدها .
(3) أنظر مثلا : موريس بوكاي : دراسة الكتب المقدسة على ضوء العلوم الحديثة .(17/297)
و ثانيا إن قوله بأنه أصبح- في عصرنا الحالي- يستحيل علينا تأسيس لاهوت أو فلسفة أو أخلاق ، أو سياسة ، تقوم على الثبات و تتصف بالدوام ، فهو زعم مُبالغ فيه جدا . لأن التغيرات التي حدثت لم تقض على كل الثوابت ، و إنما قضت على بعضها ، و حافظت على أخرى ، و جاءت بثوابت جديدة ، تُضاف إلى الثوابت القديمة ، الطبيعية منها و البشرية . و مثال ذلك : دين الإسلام ، فرغم ما تعرّض له من أخطار عسكرية و سياسية و فكرية ، فإنه ما يزال ثابتا شامخا بأصوله و فروعه و مرونته ، التي مكنته من التعامل الإيجابي مع التغيرات الحديثة ، جامعا بين الأصالة و المعاصرة الصحيحة ،و هذه حقيقة لا ينكرها إلا مكابر مُتعصب .
و هو -أي أركون- نسي أو تناسى بأنه قدم لنا فكره-في عالم المتغيرات- على أنه حقيقة ثابتة ، و هو منذ أكثر من ثلاثين سنة يسعى جاهدا لتحقيق مشروعه الفكري الذي موضوعه الأساسي : نقد العقل الإسلامي . فإذا كان كل شيء مُتغير فلا ثبات و لا استقرار و لا طمأنينة دائمة ، فلماذا هو إذاً يجهد نفسه هذا الاجهاد كله ؟ ، و ماذا عساه أن يُقدم لنا ؟ ، أيُقدم لنا الثوابت أم المتغيرات ، الحقائق أو الأوهام ؟ ،و هل يُوفر لنا الطمأنينة أم القلق ؟ . و هل توجد حقائق لكي يُقدمها لنا ،و هو يقول بعكس ذلك ؟ .(17/298)
و أما بالنسبة للجابري فإن أخطاءه المنهجية المتعقلة بالفلسفة و المفاهيم و المصطلحات كثيرة ، أذكرها في مجموعتين ، الأولى تتضمن أخطاء تتعلق بنُظم المعرفة حسب تقسيم الجابري ، و هي : نظام البيان ، و نظام البرهان ، و نظام العرفان ، ففيما يخص الأول فهو عند الجابري نظام معرفي لغوي واحد عربي أصيل ، يقوم أساسا على : مبدأ الانفصال ، بمعنى عدم الترابط في الطبيعة . و مبدأ التجويز ، بمعنى غياب السببية و عدم الاحتكام إليها . و منهج القياس الشرعي .و مبدأ الاستدلال بالشاهد على الغائب (1) . و هو نظام يعتمد على البيان الذي تحمله اللغة العربية ، و قد قننته علوم اللغة و البلاغة ،و علوم الدين و علم الكلام ،و هذه العلوم هي التي يتكون منها هذا النظام (2) .
و قوله هذا يتضمن أخطاء و مغالطات ، أولا إنه أخطأ خطأ فادحا عندما ألحق علوم دين الإسلام باجتهادات الفقهاء و مقالات المتكلمين و علوم اللغة العربية ، و أطلق عليها كلها اسما واحدا سماه : نظام البيان ، و عمله هذا لا يصح شرعا و لا عقلا ، لأن علوم الإسلام -الصرفة - هي علوم ربانية إلهية مصدرها القرآن الكريم ، و السنة الصحيحة الموافقة له، و هي علوم قائمة بذاتها تتعلق بالعقائد و الأخلاق ، و الفقه و أصوله، و العمران البشري ، و طبيعيات الكون و مفاهيمه ، و أخبار الأنبياء و أقوامهم ، و أخبار يوم القيامة و حوادثه ، فهذه كلها علوم ربانية محضة لا دخل للبشر فيها ، الأمر يُوجب أن تُسمي باسمها الشرعي نظاما و أصولا و فروعا ، و لا تُلحق بأية علوم بشرية . كما أنه يجب تمييزها أيضا عن اجتهادات علماء الإسلام في مختلف العلوم ، التي هي جهود بشرية لفهم الوحي و تطبيقه ، و لا ترقى أبدا إلى مكانة علوم الإسلام ، التي هي علوم الوحي .
__________
(1) تكوين العقل العربي ، ص: 328 . و التراث و الحداثة ، ص: 142، 309 .
(2) تكوين العقل ، ص: 244 ، 328 .(17/299)
كما أنها -أي علوم الإسلام - ليست نظاما لغويا بيانيا كما ادعى الجابري ، فليست اللغة فيها إلا مجرد وسيلة للفهم فقط ، لأن علوم الإسلام هي علوم ربانية إلهية المصدر ، يمثل فيها الجانب اللغوي البياني جانبا من جوانبها الكثيرة . كما أن عبارة : البيان لا تعني في الشرع مجرد اللغة كما صورها الجابري في نظام البيان المزعوم ، و إنما لها معان أخري نص عليها القرآن الكريم ، كقوله تعالى : (( و بينات من الهدى و الفرقان ))-سورة البقرة/185-، و (( ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات )) -التغابن /6- ، و(( ما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ))-سورة البينة/4- ، و (( و لقد أنزلنا إليك آيات بينات ))-سورة البقرة/99 - ، فعلوم الإسلام ليست بيانا بمعنى اللغة و الكلام و الألفاظ و العبارات فقط ، فهذا جانب واحد يمثل اللغة كوسيلة للفهم فقط ، و إنما هي أعظم من ذلك بكثير ، فهي كلام الله تعالى ،و كلام رسوله-عليه الصلاة و السلام - ،و هي كلها علوم و حقائق ، بيان و بينات ، هداية و أنوار ، حجج و آيات ، براهين و دلائل ، لقوله تعالى :(( قل فلله الحجة البالغة ))- سورة الأنعام/149 - ، و ((قل يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ))سورة النساء/147 -، و(( فقد جاءكم بينة من ربكم و هدى و رحمة ))-سورة الأنعام /157 - ، و (( لقد أنزلنا إليك آيات بينات ،و ما يكفر بها إلا الفاسقون ))-سورة البقرة/99 -، و (( قد جاءكم من الله نور و كتاب مُنير )) -سورة المائدة/15 - ،و (( لئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم ))-سورة القرة/145 -، فعلوم هذه صفاتها لا يصح أبدا إلحاقها بأي نظام من نُظم البشر ، فهي علوم ربانية لا تدانيها أية علوم أخرى ، لكن الجابري ألحقها بعلوم اللغة و اجتهادات الفقهاء و مقالات المتكلمين ، فقزّمها و ميعها ، و أذهب خصائصها .(17/300)
و هو قد ناقض نفسه في هذا العمل ، عندما ذكر أنه اعتمد في تصنيفه للعلوم على بُنيتها الداخلية في الثقافة العربية ، لكنه عندما تكلّم على علوم الإسلام ، سماها علوم البيان ، و ألحقها بعلوم اللغة و علم الكلام (1) ،و لم يعتمد على بنيتها الداخلية، رغم أنها تختلف عنها اختلافا جذريا ، فهي علوم الوحي ، و الأخرى من علوم البشر ، فهو إذاً قد خالف ما قاله و لم يلتزم به ، و لم يضع علوم الإسلام في مكانها الصحيح اللائق بها .
و ثانيا إن قوله بأن اللغة العربية تحمل الخطاب البياني ، فهو كلام فيه تغليط ، لأن هذه الخاصية ليست خاصة باللغة العربية و لا بما سماه الجابري نظام البيان ، فكل شعوب العالم تحمل لُغاتهم نُظمَهم المعرفية في العقائد والمذاهب ، و الأخلاق و السلوكيات الأخرى ، فلغات البشر كلها وسائل تُؤدي دورا مُتشابها ، ليس كما يُريد الجابري أن يُوهمنا به ، و يُغالطنا فيه .
كما أن قوله بأن السلطة المرجعية الأولى والأساسية التي حكمت البيان العربي هي سلطة اللغة العربية (2) . هو قول غير صحيح على إطلاقه ، فلا يصدق على علوم الإسلام ، لأنها علوم لا تمثل فيها اللغة العربية إلا وسيلة للفهم و التوضيح فقط ، لقوله تعالى : (( و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان ليبين لهم ))-سورة إبراهيم/ 4- ، فعلوم الإسلام هي وحي تُفهم بالقرآن نفسه ، و السنة النبوية الصحيحة ، فالوحي هو الذي يتحكم في اللغة و ليس العكس . مع العلم أن الدور الذي تقوم به اللغة العربية في العلوم الإسلامية ، و اللغوية و الأدبية و الكلامية ، ليس خاصا بها ، فنفس الدور تقوم به كل لغات العالم في العلوم التي تُستخدم فيها ، و عليه فلا يصح حصر دور اللغة في النظام الذي سماه الجابري بنظام البيان ، فهذا الدور موجود في كل أنظمة المعرفة دون استثناء .
__________
(1) تكوين العقل، ص: 329 . و بنية العقل ، ص: 565 .
(2) بنية العقل ، ص: 241 .(17/301)
و مما يُؤكد ما قلناه أن الجابري نفسه اعترف بذلك عندما قال : إن كلا من البيان السني ، و العرفان الشيعي و الصوفي ، تأسسا معا باعتماد (( القرآن و الحديث أولا و قبل كل شيء )) (1) . فاللغة واحدة ،و المصدر واحد أيضا ، لكن النظامين مختلفين اختلافا كبيرا باعتراف الجابري نفسه (2) .
و أما زعم الجابري بأن نظام البيان استوحى فكره من لغة العرب و بيئتهم الصحراوية (3) . فذلك لا يصدق على علوم الإسلام ، و لا يصدق على العلوم الأخرى إلا جزئيا ، فبالنسبة لعلوم الإسلام ، فإن مصدرها هو القرآن الكريم ، و هو قد تجاوز بلغته الظروف الطبيعية و الاجتماعية و الاقتصادية الصحراوية ، تجاوزها بلغته و مواضيعه المتنوعة التي تناولها ،و التي تتعلق بالعقائد و الأخلاق ، و الشرائع و التاريخ ، و المفاهيم و التصورات ،و الطبيعيات و الإلهيات ، فلغة القرآن تجاوزت لغة الصحراء ، فهي لغة دين وعلوم و حضارة . و أما بالنسبة للفقه و علوم اللغة ، فهي لا تجد مصدريتها اللغوية النهائية و الأساسية إلا في القرآن الكريم أولا ثم في السنة النبوية الصحيحة ثانيا ، و في كلام العرب ثالثا .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 415 .
(2) أنظر ما كتبه الجابري عن نظامي البيان و العرفان في كتابيه : تكوين العقل العربي ،و بنية العقل العربي .
(3) بنية العقل ، ص: 242 .(17/302)
و ثالثا إن المبادئ التي ادعى الجابري أن نظام البيان يقوم عليها ، فليس الأمر كما ادعى ، فبعضها صحيح ينطبق على علوم الإسلام ، و بعضها الآخر غير صحيح لا ينطبق عليها ، فمبدأ الانفصال -عدم الترابط في الطبيعة- لا مكان له في علوم الإسلام ، لأن القرآن الكريم نص في عشرات الآيات على أن الكون مُحكم مترابط مُقدّر بسًنن لا اضطراب فيها و لا خلل ، كقوله تعالى :{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} - سورة الفرقان/2-، و { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} - سورة النمل/88-- ،و{لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} - سورة يس/40-، و{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} - سورة الحجر/19- .(17/303)
و أما المبدأ الثاني ،و هو مبدأ التجويز ، الذي يعني إبعاد السببية و العلية ، فهو أيضا مبدأ لا مكان له في علوم الإسلام ، لأن القرآن الكريم نص في آيات كثيرة جدا على أن الله تعالى خلق العالم وفق أسباب و حِكم و سُنن ثابتة لا تتغير إلا بإذنه تعالى ، مما يعني أن مبدأ التجويز ليس مبدأ إسلاميا ، قال تعالى : (( الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا ))-سورة - ، و-{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} - سورة الحجر/22-، و {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} - سورة الأنبياء/30-، و مبدأ السببية يقوم أساسا على مبدأ عدم الانفصال الآنف الذكر ، و هما مبدآن من مبادئ بناء الكون نص عليهما القرآن في آيات كثيرة جدا ، مما يعني أن ما ادعاه الجابري لا يصدق على علوم الإسلام ، و إنما يصدق على كثير من المتكلمين النافين للسببية و الحكمة و التعليل .(17/304)
و أما مبدأ القياس فهو مبدأ أقره الشرع ، إذا كان قياسا جليا صحيحا ، مارسه الفقهاء قديما و حديثا ، و هو يقوم أساسا على العلية و قياس التمثيل ، و يُمارسه أهل العلم في مختلف تخصصاتهم بناء على المماثلة الصحيحة من عدمها ، عكس ما يُريد الجابري أن يُوهمنا به ، في هجومه على القياس و الحط من قيمته ،و قد سبق أن تناولنا هذا الموضوع في المبحث المتعلق بالأخطاء المنهجية في الشريعة و الفقه و أصوله. كما أن الجابري يُغالط كثيرا في انتصاره للقياس الأرسطي و حطه على القياس الفقهي ، و ينسى أن المنطق الأرسطي نفسه يقوم على قياس المماثلة الذي شن عليه الجابري حربا لا هوادة فيها ، في انتقاده للقياس الفقهي ،و انتصاره للبرهان (1) . فعندما يقول المنطق الأرسطي: كل إنسان فان ، و عمر إنسان ، فعمر فان . يكون قد استخدم قياس المماثلة ، فهناك مماثلة بين : كل إنسان ، و عمر إنسان ، فهي مماثلة في الإنسانية . و توجد مماثلة أخرى في الفناء ، الذي يشمل كل الناس ، و منهم عمر الذي يفنى مثلهم .
__________
(1) ذكر ذلك مرارا في كتابيه تكوين العقل ، و بنية العقل .(17/305)
و أما مبدأ الاستدلال بالشاهد على الغائب ، فهو مبدأ صحيح شرعا و عقلا ، و له مكانة هامة في علوم الإسلام ، و في علوم أخرى ، لكن الجابري بالغ في الهجوم عليه و الحط من قيمته ، انطلاقا من خلفياته المذهبية المدفوع بها (1) . فأما صحته شرعا ، فإن الله تعالى أمرنا و حثنا في آيات كثيرة على السيّر في الأرض لمعرفة أخبار الماضين و الاعتبار بها ، و هذا السيّر هو أسلوب من أساليب الاستدلال في القرآن الكريم ، يقوم على البحث عن العلل و الخلفيات ،و الآثار المادية ، لمعرفة عاقبة المكذبين و الاعتبار بهم ، بناء على الاستدلال بالشاهد على الغائب ، عن طريق الاعتماد على الآثار المادية المُشاهدة لمعرفة الماضي المجهول .
و أما عقلا و علما ، فإن المجهول يُعرف بالمعلوم و ليس بالمجهول مثله ، و علم التاريخ ،و علم الآثار ، و علم الجيولوجيا ،و علم التاريخ الطبيعي للكون ، كلها علوم تقوم على مبدأ الاستدلال بالشاهد على الغائب ، لأن الحاضر المادي المُشاهد هو مفتاح الماضي الغائب .
__________
(1) أنظر مثلا : بنية العقل ، ص: 308 . و سيتبن ذلك جليا في نهاية هذا الفصل ، بحول الله تعالى .(17/306)
و أما استخدام هذا المبدأ - الاستدلال بالشاهد على الغائب - في مسائل العقيدة المتعلقة بالله تعالى و صفاته و ملائكته ، و في مختلف القضايا الغيبية الأخرى ، فهو أمر أقره الشرع ،و له مكانته في علوم الإسلام- علوم الكتاب و السنة- ، لكنه لا يُستخدم بنفس الطريقة التي يُستخدم بها في تاريخ الكون و الإنسان ، و إنما يُستخدم بطريقة تناسب الموضوع ، بناء على قوله تعالى :{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} - سورة الشورى/11- ،و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ،اللَّهُ الصَّمَدُ ،لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}-سورة الإخلاص/1-4- ، ، و { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} - سورة المائدة/11-. فعندما نُثبت للإنسان صفات السمع و البصر و العلم و الحياة و القدرة ... نُثبتها أيضا لله تعالى على أساس أنها صفات حسنى لا تُشبه صفات المخلوقين إلا في الاسم ، لأنه تعالى ليس كمثله شيء ، فنحن هنا استخدمنا مبدأ الاستدلال بالشاهد على الغائب الذي لا نراه ، بناء على عدم المماثلة ، فالكون المُشَاهَد دليل على خالقه الذي لا نراه بأبصارنا .
و يتبين مما ذكرناه أن إلحاق الجابري لعلوم الإسلام بما سماه نظام البيان و علومه ، هو عمل باطل شرعا و عقلا ، له خلفيات مذهبية مُبيتة ، ترتبت عنه نتائج خطيرة ، منها : التسوية بين علوم الوحي و علوم البشر . و طمس أهم خصائص علوم الإسلام و هي الربانية ، و وصفها بأنها مجرد لغة و كلام و عبارات ، تفتقد إلى الدليل و الحجة و البرهان ، فليست علوما و لا حقائق . و عمله هذا هو تحريف للشرع و اعتداء عليه ، و تغليط للقراء و تدليس عليهم ،و هو عمل يرفضه الإسلام جملة و تفصيلا ، لأن علومه حقائق مطلقة ، و صفها الله تعالى بأنها نور و بيان ، هدي و برهان ، حجج و آيات .(17/307)
و أما النظام المعرفي الثاني الذي سماه الجابري : نظام البرهان ، فهو أيضا يتضمن أخطاء منهجية وقع فيها الجابري في نظرته إلى هذا النظام و موقفه منه ، فوصفه بأنه نظام برهاني عقلاني يوناني الأصل ، يعود إلى بداية الفلسفة و التفكير العلمي في اليونان قبل أرسطو بثلاثة قرون ، و هو نظام يكفي نفسه بنفسه ، قام على البرهان القائم على طبيعيات أرسطو و إلهياته ، و منهجه يقوم على الملاحظة و التجربة ، و الاستنتاج العقلي ،و يتكون من عدة علوم ، كالمنطق ، و الطبيعيات و الإلهيات.و البرهان عند الجابري و المُعتبر عنده ، هو ذلك البرهان الذي (( يقتضي الانطلاق من مبادئ و أصول يقينية ،و النظر فيما يلزم عنها من نتائج ، لزوما ظروريا يفرضه ربط المسببات بأسبابها )) (1) .
و كلامه هذا يتضمن أخطاء و مغالطات ، لأنه أولا لا يصح أن يُقال أن نظام البرهان يُوناني الأصل ، لأنه بما أن العلم قد وُجد قبل حضارة اليونان بقرون كثيرة ، و العلم هو الحقيقة ، و لا حقيقة دون برهان ، فهذا يعني أن البرهان قد عرفه الإنسان قديما في حضارات السومريين ، و الآشوريين و الفراعنة ، قبل أن تعرفه الحضارة اليونانية المتأخرة عن تلك الحضارات التي توصلت إلى حقائق علمية كثيرة ، في مجال الطب و الهندسة و الفلك ،و غيرها من العلوم ، توصلت إلى ذلك بفضل منهجها العلمي القائم على الملاحظة و التجربة ، و التأمل و الاستنتاج (2) .
__________
(1) تكوين العربي ، ص: 244، 329 . و بنية العقل ، ص: 384 ، 416 . و التراث و الحداثة ، ص: 142 ، 204.
(2) أنظر مثلا : دافيد برجماني: الكون ، ترجمة نزيه الحكيم ، سلسلة لا يف ، دار الترجمة بيروت ،دت ، ص: 8 ، 12 ، 287 .(17/308)
و ربما يُقال : إن تلك الحضارات أي القديمة- مزجت الحقيقة بالخيال ، و العلم بالأساطير ، خلافا لحضارة اليونان . و هذا اعتراض لا يصح مطلقا ، لأن كل حضارات العالم -دون استثناء- مزجت الحقيقة بالخيال ، و العلم بالخرافة ، مع اختلاف درجات المزج . و ربما كانت حضارة اليونان هي من أكثر الحضارات أسطورية في التاريخ ، فهي معروفة بكثرة آلهتها ،و شدة صراعها فيما بينها من جهة ، و فيما بينها و بين الإنسان اليوناني من جهة أخرى . و في فلاسفتها من قال بكثير من الأساطير باسم العلم و المنطق ، كما هو حال أرسطو ، ففي إلهياته و طبيعياته كثير من الأوهام و الظنون الأساطير (1) . و حتى الحضارة الحديثة تتضمن في فكرها كثيرا من الأوهام الخرافات المغلفة بالعلم و المنطق ، كخرافة الإلحاد ، و الداروينية ، و الصدفة ، و المادية التاريخية ، و المادية الجدلية في الماركسية ، و نظرية الأحوال الثلاث في علم الاجتماع.
__________
(1) سنذكر بعضها قريبا ، إن شاء الله تعالى .(17/309)
و ثانيا إنه يجب علينا أن لا يغيب عنا أن الأنبياء -عليهم السلام- كان لهم دور كبير في تعليم الناس التفكير العلمي الصحيح، الموافق للشرع الصحيح ، و العقل البديهي الصريح، و العلم المحسوس الصحيح ، قبل أن تظهر حضارة اليونان بعشرات القرون ، و قد ذكر لنا القرآن الكريم ، نماذج مما كان يدور بين الأنبياء و أقوامهم من مجادلات و مناقشات ، كان فيها منهج الأنبياء منهجا علميا قويا دامغا ، قام على البرهان القائم على اليقينيات و القطعيات العقلية و الحسية معا ، ليصل بالمكذبين إلى نتائج حاسمة دامغة ، و يُقيم عليهم الحجة البالغة ، و البرهان الساطع ، عن طريق ربط المعلولات بعللها ، و النتائج بمقدماتها ،و عن طرق مخاطبة العقول و القلوب معا . فمن ذلك قوله تعالى : -{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } - سورة إبراهيم/10- ،و {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }- سورة يوسف/39-، و {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} - سورة الصافات/125-،و{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا}- سورة مريم/42-، و قول نوح -عليه السلام -في جداله لقومه : -{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} - سورة نوح/15- .(17/310)
و ثالثا إن الجابري بالغ في مدح فلسفة أرسطو ، التي سماها البرهان و أطنب في تعظيمها ، عندما وصفها بأنها عقلانية و علمية و تجريبية ، و سكت عن أخطائها و نقائصها ، و أساطيرها و أوهامها الكثيرة و المتنوعة ، و سأذكر منها أمثلة من كتب الجابري نفسه، أولها إن أرسطو كان يقول بأزلية الكون و قدمه ، بمعنى أنه غير مخلوق (1) . و قوله هذا زعم باطل ، و رجم بالغيب ، و قول بلا علم ، ينكره القرآن الكريم الذي نص في آيات كثيرة على خلق الكون و حدوثه ،و يُبطله أيضا العلم الحديث الذي قال بحدوث الكون ، و حدد له عمرا تقريبيا (2) .
و المثال الثاني زعم فيه أرسطو أن الأجرام السموية الأزلية الحركة ، لابد أن تكون مادتها تختلف عن مادة الأجسام الأرضية المتغيرة ،باستمرار (3) . و زعمه هذا هو أيضا باطل ، و رجم بالغيب ، و قول بلا علم ، لأن العالم كله مخلوق ، ليس فيه شيء أزلي ،و أجرامه و نجومه و كواكبه ، مكوناتها متشابهة العناصر ، من حيث تركيبها الكيميائي ، لأن مادتها الأصلية الأولى واحدة ، بناء على ما ذكره القرآن الكريم و العلم الحديث ، فالله تعالى يقول : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} سورة الأنبياء/30-، و العلم الحديث يقول بذلك أيضا ، بناء على نظرية الانفجار العظيم ، و على الأبحاث العلمية التي أثبتت التشابه في البناء الكيميائي للنجوم (4) .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 407 . و ابن تيمية : درء تعارض العقل و النقل ، ج 1 ص: 397 .
(2) عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 71 و ما بعدها .
(3) بنية العقل ، ص: 407 .
(4) عبد الحميد سماحة : المرجع السابق ، ص: 64 ، 71 . و عبد العليم عبد الرحمن خضر : الظواهر الجغرافية بين العلم و القرآن ، ط1 ، الدار السعودية ، الرياض ، 1984 ، ص: 59 و ما بعدها .(17/311)
و المثال الثالث زعم فيه أرسطو أن حرارة الكواكب و ضوئها يتولدان من احتكاكها بالهواء (1) . و قوله هذا زعم باطل ،و رجم بالغيب ، و قول بلا علم ، لأن مصدر حرارة الكواكب و ضوئها ليس كما زعم أرسطو ، و إنما مصدرهما هي النجوم ، التي هي كتل ملتهبة شديدة الحرارة كالشمس مثلا ، التي تُقدر حرارتها سطحها ب : 6 ألاف درجة مئوية ، و تُقدر حرارة جوفها ، بالملايين من الدرجات المئوية ، و منها - أي الشمس- يستمد كوكبنا الضوء و الحرارة معا (2) .
و المثال الرابع زعم فيه أرسطو أن الأجسام السماوية لا تحترق ، لأنها تدور باستمرار في أفلاكها ،و مفعول الاحتراق المتولد عن الاحتكاك يقع على الهواء القريب منها ، خاصة الهواء القريب من الشمس ، الذي يُؤدي احتراقه-بالاحتكاك- إلى حرارتها و ضوئها (3) .
و قوله هذا غير صحيح ، ورجم بالغيب ، و قول بلا علم ، فكيف سمح لنفسه أن يقول ذلك بلا دليل عقلي و لا مادي ، و لم يكن له في ذلك إلا الطن و المجازفة ؟ ، فقوله باطل من أساسه ، لأن الأجسام السماوية كالنجوم مثلا ، هي أجرام ملتهبة حرارتها ذاتية ، أثبت العلم أنها مخلوقة كباقي العالم ، و سائرة إلى طريق الموت و الاندثار ، منها الشمس التي هي في طريق استهلاك طاقتها الداخلية الملتهبة (4) .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 407 .
(2) عبد الحميد سماحة : المرجع السابق ، ص: 25 ، 47 ، 48 .
(3) بنية العقل ، ص: 407 .
(4) أنظر : عبد العليم عبد الرحمن خضر المرجع السابق ، ص : 128 و ما بعدها . و عبد الحميد سماحة : المرجع السابق ، : 47 و ما بعدها ، و 74 و ما بعدها . و دافيد برجاميني : الكون ، ص: 128 و ما بعدها .(17/312)
و المثال الخامس زعم فيه أرسطو أن النجوم التي تقع خارج الكواكب السيارة السبعة ، هي كواكب ثابتة (1) . و قوله هذا غيرصحيح ، و كلام بلا علم ، و رجم بالغيب ، لأن كل ما في الكون من أجسام و كواكب ، و نجوم و مجرات ، هو في حركة دائمة منتظمة ضمن حركة الكون في اتساعه و تمدده (2) .
و المثال السادس قال فيه أرسطو أن الأرض ثابتة ، يتعاقب عليها الليل و النهار ،و الفصول الأربعة ، بسبب الفلك المحيط بها (3) . و قوله هذا غير علمي ،و ليس صحيحا ، لأن مسألة دوران الأرض حول نفسها و الشمس أصبحت من الحقائق العلمية الثابتة المحسومة ، و هي بدورانها حول نفسها يتعاقب الليل و النهار ، و بدورانها حول الشمس تتعاقب الفصول الأربعة مرة في السنة . و هذه حقائق علمية ثابتة لا تحتاج إلى توثيق ،و هي شاهدة أيضا على خطأ ما ادعاه أرسطو .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 407 .
(2) عبد العليم عبد الرحمن : المرجع السابق ، ص: 101 و ما بعدها . و عبد الحميد سماحة : المرجع السابق ، ص: 70 .
(3) بنية العقل ، ص: 407 .(17/313)
و المثال السابع-و هو الأخير- زعم فيه أرسطو أنه ليس للكواكب حركة خاصة بها حول نفسها ،و لا حول غيرها (1) .و كلامه هذا غير صحيح ، و رجم بالغيب ، و قول بلا علم ، يدل على أن أرسطو لم يحترم عقله و لا علمه ، عندما تكلم في أمور غيبية لا يُمكنه إدراكها عقلا و لا مشاهدة ، علما بأن الثابت علميا هو عكس ما ادعاه أرسطو . لأن الكواكب السيارة مثلا ، كلها تدور حول نفسها و حول الشمس (2) . و قد أشار القرآن الكريم إلى حركة الكواكب و النجوم و الكون بأسره ، قبل العلم الحديث بقرون عديدة ، و في زمن كانت فيه طبيعيات أرسطو هي المهيمنة على الفلاسفة و علماء الطبيعة ، فمن ذلك قوله تعالى : -{لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} - سورة يس/40- ، و ((و السماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ))-سورة - .
و نكتفي بتلك الأمثلة ، لأن أخطاء أرسطو العلمية كثيرة جدا (3) ،و التي ذكرناها هي كافية لإقامة الدليل الدامغ على أن فلسفة أرسطو ليست كما زعم الجابري بأنها علمية برهانية تجريبية ، و إنما هي فلسفة فيها الخطأ و الصواب ، و الحقيقة و الخيال ، و العلم و الأوهام ، و أن صاحبها لم يكن علميا و لا برهانيا و لا تجريبيا في كل ما قاله . فقد أثبتنا أنه تكلم في أمور غيبية لا يُمكنه إدراكها و لا مشاهدتها ، تكلم فيها بلا علم و لا برهان ، و لا هي مما يُستنبط بالتأمل الصحيح و الاستنتاج المنطقي .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 408 .
(2) عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 27 و ما بعدها .
(3) أنظر مثلا : بنية العقل ، ص: 407 ، و ما بعدها ، فقد ذكرها الجابري و سكت عنها . و الشهرستاني : الملل و النحل ، ج 2 ص: 457 ، 458 .(17/314)
و ربما يقول بعض الناس : إنه لا يصح أن ننتقد أرسطو في آرائه العلمية المتعلقة بالطبيعة ، باحتكامنا إلى العلوم الحديثة المعاصرة ، لأن الرجل تكلم في ذلك بناء على علوم عصره . و هذا اعتراض صحيح كتبرير و اعتذار من جهة ، لكنه خطأ من جهة أخرى ، لأن أرسطو وقع في خطأين ، الأول إنه أخطأ في أرائه المتعلقة بالطبيعة ، التي ذكرنا أمثلة منها . و هذا النوع من الأخطاء من الواجب و من حقنا أيضا أن نُنبه و نُشير إليه ، لأن أرسطو أخطأ فيما ذهب إليه .
و أما الخطأ الثاني فهو خطأ جسيم ، يتعلق بمنهج البحث و التفكير ، و الاستدلال البرهاني ، و ذلك أن أرسطو خاض في غيبيات لا يدركها عقلا و لا مشاهدة علمية صحيحة ، و تكلم فيها بلا علم و لا برهان ، و إنما خاض فيها بالظن و الرجم بالغيب و المجازفات ، و بما أنه فعل ذلك فمن حقنا أن ننتقده و نحاسبه فيما ذهب إليه . لأنه لم يحترم عقله و لا علمه ، ولا غيره من الناس . فالخطأ الثاني هذا هو خطأ منهجي يتعلق بصميم المنهج العلمي و مكوناته ، و ليس خطأ في تطبيق المنهج .(17/315)
و أما بالنسبة لأخطاء أرسطو المتعلقة بفلسفته الإلهية - ما وراء الطبيعة- فهي كثيرة أيضا ، و أبعد ما تكون عن المنهج العلمي البرهاني ، الذي ادعاه الجابري في وصفه لفلسفة أرسطو التي سماها نظام البرهان حسب زعمه . و سأذكر منها مثالين ، أولهما يتعلق بالله تعالى و صفاته ، فالله عند أرسطو و أصحابه هو علة غائية لا فاعلة ، لم يُبدع الأفلاك و لا حركتها ، لكنه شرط في حصول حركتها ، و هو يُحرك الفلك ليتشبه به ، كتحريك المعشوق للعاشق ، و الله عندهم (( لا يفعل شيئا ، و لا يُريد شيئا ،و لا يعلم شيئا ، و لا يخلق شيئا )) ،و موضوعه الوحيد تعقّل ذاته . و زعم أرسطو أ، الله إذا كان يتمتع باللذة السرمدية التي لا ننالها نحن إلا أحيانا ، فهذا (( أمر عجب ،و إذا كانت لذته أكبر و أعظم ، فهذا أعجب ، و الواقع أن له اللذة الكبرى )) (1) .
و تعليقا عليه أقول : إن أقواله هذه عن الله تعالى ، هي رجم بالغيب ، و قول على الله بلا علم ، ليس له فيها دليل من العقل الصريح و لا من العلم الصحيح ، فالرجل يتكلم و لا يعي ما يقول ، و نحن لا نناقشه في أوهامه ، لأنه ليس من العقل و لا من العلم أن نناقشه فيها ، و إنما نطالبه بالبرهان الذي ادعى الجابري بأنه خاص بفلسفة أرسطو ، و لن يجد برهانا يُوصله إلى مزاعمه الوهمية ، لأن أرسطو تكلم عن أشياء غيبية لا يمكن معرفتها إلا من طريقين ، أولهما كتاب منير من الله تعالى الكريم ،و ثانيهما قول من رسول كريم ، و هذان الطريقان لا يتوفران عند أرسطو في مزاعمه ، مما يعني أن مقالاته ما هي إلا خيالات و ظنون و أهواء ، لا تمت إلى البرهان ، و لا إلى العقلانية ، و لا إلى العلمية ، و لا إلى التجريبية بصلة ، التي زعم الجابري أنها من خصائص فلسفة أرسطو .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 412 ، 413 . و ابن تيمية : درء التعارض بين النقل و العقل ، ج 1 ص: 397 . و مجموع الفتاوى ، ج 18 ص: 230 . و رسالة في تحقيق الشكر ، ص : 104 .(17/316)
كما أن أرسطو -فيما ادعاه- لم يحترم عقله ولا علمه ، و لا تلامذته و لا من جاء بعده ، فمن الذي أخبره أن الله تعالى لم يخلق العالم ، و أنه لا يعلم ، و لا يريد و لا يفعل شيئا ، و أنه يتمتع و يلتذ باللذة الكبرى ؟ . هذه الظنون و الأوهام لا سند لها من العقل و لا من العلم ، يصدق على قائلها قوله تعالى : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} -سورة النجم/23- ، فتلك المزاعم ما هي إلا أوهام و ظنون ، خدع بها أرسطو نفسه و أتباعه من جهة ، و دلت على أنه لم يكن هو و أصحابه في مستوى العلم و البرهان من جهة أخرى ، حتى أن شيخ الإسلام ابن تيمية وصف الأرسطيين بأنهم من (( أجهل الناس ، و أضلهم ، و أشبههم بالبهائم من الحيوان )) (1) .
و أما المثال الثاني فيتعلق بالعقول ، و هي عشرة عند أرسطو و أتباعه المشائين ، أولها العقل الفعال ، و هو أول ما صدر عن الله حسب زعمهم ، ومفارق للمادة غير ممزوج بها ، و لا يموت ، و هو إلهي الجوهر مُبدع كل ما تحت فلك القمر (2) . و أما العقول التسعة المتبقية ، فهي جواهر قائمة بنفسها ، و مدبرات النفوس . و زعم المشاؤون - أي الأرسطيون- في العصر الإسلامي بأن العقول العشرة هي الملائكة ، تتصف بالقدم و الأزلية.و العقل في الإنسان هو أيضا جوهر قائم بنفسه ، و له طابع إلهي ، حتى أن أرسطو وصفه بأنه (( هو الله فينا )) (3) .
__________
(1) درء التعارض ، ج 5 ص: 65 .
(2) بنية العقل ، ص: 410 . و الشهرستاني : الملل و النحل ، ج 2 ص: 449 . و ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 9 ص: 104 . و جورج طرابيشي : وحدة العقل العربي الإسلامي ، ط2 ، دار الساقي ، بيروت ، 2002، ص: 92، 95 .
(3) الشهرستاني : الملل و النحل ، ج 2 ص: 449 ، 450 . و ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 9 ص: 104 . و درء التعارض ، ج 4 ص: 205 . و جورج طرابيشي : المرجع السابق ، ص: 92 .(17/317)
و هذه الأقوال هي أيضا رجم بالغيب ، و قول بلا علم ، و خوض في غيبيات لا يعلمها إلا الله تعالى ،و لا دليل عليها من العقل و لا من العلم .و هي تندرج في إطار الأساطير و الأوهام ، و الأهواء و الظنون ، يرفضها دين الإسلام جملة و تفصيلا ، و لا وزن لها في ميزان العلم و العقل و البرهان الذي زعم الجابري أن فلسفة أرسطو أقامته و تنتمي إليه .
و رابعا إن منطق أرسطو الذي قام عليه البرهان المزعوم ، هو منطق عقيم ، لا توليد فيه و لا إبداع ، كان وبالا على العقل البشري طيلة قرون عديدة ،فأضره أكثر مما نفعه، ثم تخلّص منه أهل العلم نهائيا تقريبا في وقتنا الحاضر ، فلا مكانة له في مناهج البحوث التطبيقية الطبيعية منها و الإنسانية معا . فهو منطق لا يحتاج إليه الذكي و لا ينتفع به الغبي ،و لا إنتاج فيه و لا إبداع ، و هذه الحقيقة اعترف بها الجابري نفسه ، فإنه مع مبالغته في مدح نظام البرهان و تعظيمه ، فإنه وصف منطق أرسطو- الذي يقوم عليه نظام البرهان- بأنه (( منطق عقيم ، إذا ما حاكمناه من المنظور المعاصر للمعرفة ... فالمنطق الأرسطي عقيم فعلا و غير صارم ، إذا قيس بمقاييس إنتاج المعرفة و اختبارها في زماننا، لكنه لم يكن كذلك في زمانه لقد كان سلاحا عقليا ضد أشكال الممارسات اللاعقلية و السوفسطائية )) (1) .
__________
(1) التراث و الحداثة ، ص: 136 .(17/318)
و أما دفاعه عنه ، فهو دفاع ضعيف جدا ، و لا مبرر له ، و يتضمن تناقضا مع نقده السابق له ، لأن الحقيقة هي أن ذلك المنطق كان عقيما مُعيقا للتفكير الفطري السليم و العلمي التجريبي المبدع ، و إيجابياته القليلة لا تغني و لا تّسمن من جوع ، و يمكن الاستغناء عنها كلية هي ومنطقها ، بالاعتماد على العقل الفطري الطبيعي في الإنسان . و أرسطو نفسه لم يمنعه منطقه من الإغراق في كثرة الأخطاء و الأوهام ، و الخيالات و الخرافات ،التي لا دليل عليها من العقل و لا من العلم . علما بأن علماء الإسلام قد رفضوه - أي المنطق الأرسطي- منذ البداية ، و أقاموا الدليل العملي على عقمه و عدم ضروريته ، بتركهم له و تفوقهم في العلوم بدونه من جهة ،و أقام بعضهم الدليل العلمي على بطلانه كابن تيمية ،و ابن القيم الجوزية ، و السيوطي ،و غيرهم من جهة أخرى (1) .
و أشير في هذا المقام إلى خطأ فادح ردده الجابري مرارا ، مفاده أن الخليفة المأمون و ابن حزم و ابن رشد و ابن خلدون و الشاطبي كانوا يسعون إلى تأسيس البيان على البرهان (2) . و بما أن البيان -عند الجابري- يشمل علوم الإسلام و اللغة ،و الفقه و علم الكلام ، و البرهان يعني فلسفة أرسطو، فمعنى ذلك أن علوم الإسلام المحضة ،و بمعنى آخر علوم الكتاب و السنة الصحيحة ، هي من البيان الذي هو مجرد أقوال و ألفاظ لا برهان فيها و لا دليل، فهي إذاً تحتاج إلى من يُبرهنها لإثبات صحتها ، و من ثم فهي تحتاج إلى نظام البرهان ليُبرهنها حسب زعم الجابري .
__________
(1) أنظر : محمود يعقوبي : ابن تيمية و المنطق الأرسطي ، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر ، ص: 23 ، 230 .
(2) تكوين العقل ، ص: 254 ، 256 . و بنية العقل العربي ، ص: 557 ، 567 .(17/319)
و زعمه ها باطل من أساسه ، مردود على أصحابه ، لأن علوم الإسلام هي علوم ربانية مُبرهنة بذاتها . و لأن البرهان الأرسطي المزعزم هو نفسه يحتاج إلى البرهان للبرهنه على صدقه ، فهو نظام خليط من الحق و الباطل ، و الأهواء و الظنون ،و الأوهام ، و قد أقمنا الدليل على ذلك آنفا . و عليه فلا يصح شرعا و لا عقلا الزعم بأن علوم الإسلام كانت في حاجة إلى إعادة التأسيس على برهان اليونان ، و الصواب هو أن علوم الإسلام كانت في حاجة ماسة إلى من يقرأها من داخلها بمنهاجها الشرعي العلمي المتعدد الطرق الاستدلالية ، يقرؤها بعقل واع مُتفتح ، و بقلب صادق خاشع . و لم تكن تلك العلوم في حاجة مطلقا إلى شقشقات و ألاعيب و أوهام المتكلمين و الفلاسفة ، و لا إلى شطحات الصوفية و خيالاتهم .
و ختاما لموضوع نظام البرهان المزعوم أشير هنا إلى ثلاثة أمور تتعلق به ، أولها يتعلق بقول للجابري وصف فيه أرسطو بأنه هو الذي تجسمت في تفكيره أعلى مراتب العقلانية (1) . و قوله هذا كلام غير علمي ، و هو زعم باطل و مُضحك ، لأن فكر أرسطو إذا كان فيه جانب عقلاني علمي في فلسفته ، كما هو حال فلاسفة آخرين ، فإن في فكره جوانب كثيرة مليئة بالأخطاء ،و ليست من العلم في شيء ، و إنما هي ظنون و أوهام و خيالات و أساطير تتعلق بطبيعياته و إلهياته ، لم يحترم فيها عقله و لا علمه و لا غيره ،و قد سبق أن ذكرنا طرفا من أخطائه و خُرافاته .
و الأمر الثاني يتعلق بقول للجابري قال فيه : (( لابد أن يكون القارئ المُلم بفكر أرسطو ، قد لاحظ أننا تعاملنا مع المنطق الأرسطي بوصفه منهجا ،و ليس بوصفه منطقا صوريا . كما تعاملنا مع فلسفته بوصفها رؤية للعالم ،و ليس بوصفها قضايا ميتافيزيقية ،و هذا ما قصدناه قصدا )) (2) .
__________
(1) التراث و الحداثة ، ص: 136 .
(2) بنية العقل ، ص: 413 .(17/320)
و قوله هذا يتضمن تغليطا و محاولة للتملص و الهروب مما قاله في مدح فلسفته أرسطو و تعظيمها ،و سكوته عن أخطائها و نقائصها و انحرافاتها المنهجية . لأن الانتقادات التي وجهناها لنظام البرهان-أي فلسفة أرسطو- هي في الأصل أخطاء علمية تتعلق بالمنهج أكثر مما تتعلق بتطبيقه و الالتزام به ، فالمنطق الصوري-أي الأرسطي- في أصله منهج ناقص عقيم ، مُعيق للفكر الطبيعي ، غير ضروري للفكر الإنساني .كما أن معظم أخطاء أرسطو العلمية المتعلقة بطبيعياته و إلهياته ، أسبابها الحقيقية و العميقة هي أخطاء منهجية محضة تتعلق بمنهج التفكير نفسه ، الذي خاض به أرسطو مجاهيل الغيب بلا دليل صحيح من العقل و لا من العلم .
و الأمر الثالث مفاده أن نظرة الجابري إلى ما سماه بنظامي البرهان و البيان و انتقاده لهذا الأخير ، هي نظرة ليست جديدة من حيث الأصل ، فقد ورثها عن سلفه من الفلاسفة المشائين وسايرهم فيها ، فهم قد سبقوه إلي تلك النظرة ، فحكى عنهم ابن قيم الجوزية ، بقوله: (( ويظن جهال المنطقيين و فروخ اليونان أن الشريعة خطاب للجمهور ولا احتجاج فيها ، و أن الأنبياء دعوا الجمهور بطريق الخطابة ، والحجج للخواص وهم أهل البرهان يعنون نفوسهم ومن سلك طريقتهم ، وكل هذا من جهلهم بالشريعة والقرآن فإن القرآن مملوء من الحجج والأدلة والبراهين في مسائل التوحيد وإثبات الصانع ، والمعاد وإرسال الرسل ، وحدوث العالم )) (1) .
__________
(1) مفتاح دار السعادة ، ج 1 ص: 145 .(17/321)
و أما النظام المعرفي الثالث الذي سماه الجابري بنظام العرفان ، فهو -كما وصفه الجابري- نظام فارسي هرمسي الأصل يقوم أساس على الكشف و الوصال و التجاذب و الدفع على مستوى الوجدان و العاطفة ، تتمثل مكوناته في : التصوّف ، و الفكر الشيعي ، و الفلسفة الإسماعيلية ، و التفسير الباطني ، و الفلسفة الإشراقية ، و الكيمياء القديمة ، و السحر و الطلاسم و التنجيم (1) .
و أقول : إن انتقادات الجابري لهذا النظام المعرفي كانت صحيحة في معظمها ، لأنه نظام يفتقد إلى المنهج العلمي الموضوعي القائم على النقل الصحيح ، و العقل الصريح ، و العلم الصحيح ، لذا كان نظاما غير صحيح في منطلقه و معظم جوانبه ، قام أساسا على الظنون و الأهواء ، العاطفة و الوجدان ، و السحر و الخرافة . لكن الذي غاب على الجابري أن في هذا النظام طائفة و هي الصوفية ركّزت على جانب من الإنسان لا يصح إغفاله ، و يجب الاهتمام به ، و هو الجانب القلبي العاطفي الوجداني ، فهذا الجانب لابد من الاهتمام به و تربيته كاهتمامنا بالعقل و الجسم ، و ربما كان أولى منهما في كثير من الأحيان. لكن الخطأ الذي وقع فيه العرفانيون و الجابري يتمثل فيما يأتي ، فالعرفانيون اهتموا بالعاطفة و الخيال و جعلوهما مصدرا لانتاج المعرفة ، و أهملوا النقل و العقل معا ، فأصبح نظامهم يفتقد إلى الاستدلالية العلمية الصحيحة ، و ليس قادرا عليها بمفرده . فلما أهملوا النقل و العقل و العلم ضلوا و أضلوا (2) .
__________
(1) تكوين العقل العربي ، 329 . و التراث و الحداثة ، ص: 142 .
(2) أنظر مثلا انتقادات ابن الجوزي للصوفية و الشيعة في كتابه تلبيس إبليس .(17/322)
و الجابري أخطأ عندما رفض نظام العرفان جملة و تفصيلا ، و لم يُميز بين الجانب الصحيح ،و الجوانب الباطلة منه ، من حيث المنطلق و الأساس ؛ أما من حيث المنهج الذي كان خاضعا له نظام العرفان ، فكان منهجا غير صحيح، كما أشار إلى ذلك الجابري في انتقاداته لهذا النظام . لكن الجابري من جهة أخرى لم يضع المنهج الصحيح للتعامل مع الجانب الصحيح من العرفان الذي أغفله الجابري انتصارا لما سماه نطام البرهان . و أما نحن فنعتقد أن الجانب الوجداني من الإنسان يجب إخراجه من نظام العرفان كلية ، و إرجاعه للشرع الذي هو دين كامل شامل يُربي الإنسان عقلا و وجدانا و جسما ، قال تعالى : -{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} - سورة الجمعة/2- و { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} - سورة الأعراف/31- و {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }- سورة الذاريات56-58-، و {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} - سورة الأنعام/162-، و أما باقي نظام العرفان فلا قيمة له شرعا و لا عقلا و لا علما ،و يجب تحذير الناس منه .(17/323)
و ختاما لموضوع نُظم إنتاج المعرفة ، أشير هنا إلى أمرين هامين ، الأول هو أن المجتمع الإسلامي في القرن الثاني الهجري و ما بعده لم يكن مضطرا و لا في حاجة ماسة إلى نظام البرهان -أي فلسفة أرسطو-،و لا إلى نظام العرفان على حد تعبير الجابري ، لكن طائفتين من المسلمين انحرفتا عن الإسلام ، فواحدة تبنت فلسفة اليونان ، و الأخرى تبنت فلسفة العرفان، فساهمتا في إفساد الفكر و تخريبه لأهداف و خلفيات مذهبية كثيرة ، أشار الجابري إلى بعضها (1) . و بناء على ذلك فإن الإسلام كدين و نظام معرفي لم يكن مطلقا في حاجة إلى نظام آخر من خارجه ، و لا المسلمون الملتزمون بدينهم الفاهمون له ، كانوا في حاجة إليه هم أيضا.
و أما الأمر الثاني فهو أن منطق أرسطو الذي بالغ الجابري في مدحه و الدفاع عنه ، لم يكن الإسلام في حاجة إليه مطلقا ، لأنه دين كامل شامل يقوم على منطق شرعي عقلي علمي فطري طبيعي ، عكس منطق اليونان الناقص القاصر العقيم ، الذي لم يكن الإسلام في حاجة إليه أصلا و لأنه أيضا مخالف للإسلام و لا يتفق معه أصولا و لا فروعا ، لأنه منطق قام في أصوله و فروعه على فلسفة اليونان الوثنية الأسطورية ، و هذا أمر اعترف به الجابري صراحة (2) .
و أما المجموعة الثانية -من أخطاء الجابري المنهجية- المتعلقة بالفلسفة و المفاهيم ، فتتضمن خمسة أخطاء ، أولها يتمثل في أن الجابري قال : (( إن المعطيات التاريخية التي نتوفر عليها اليوم تضطرنا إلى الاعتراف للعرب و اليونان و الأوروبيين بأنهم وحدهم مارسوا التفكير النظري العقلاني بالشكل الذي سمح بقيام معرفة علمية أو فلسفية أو تشريعية منفصلة عن الأسطورة و الخرافة )) (3) .
__________
(1) أنظر : تكوين العقل ، ص: 179 و ما بعدها ، 227 و ما بعدها .
(2) التراث و الحداثة ، ص: 172، 312 .
(3) تكوين العقل العربي ، ص: 17 .(17/324)
و قوله هذا غير صحيح ، لأن الأسطورة و ما يتصل بها من أوهام و ظنون و خيالات لم تنفصل عن التفكير النظري العقلاني ، عند اليونان ،و لا عند العرب ، و لا عند الأوروبيين ، و إن ضاق مجالها و اتسع من أمة إلى أخرى ، و من طائفة إلى أخرى ، و من زمان إلى آخر ، و من مذهب إلى آخر ، فاليونان مثلا كان تفكيرهم الأسطوري الخرافي جزءا كبيرا لا يتجزأ من تفكيرهم العلمي ، و هذا معروف و ثابت عنهم ، فأفلاطون و أرسطو و أفلوطين يُقال أنهم هم الذين اقترحوا على قومهم ديانة أُلوهية الكواكب التنزيهية-حسب اعتقادهم- بدلا من ديانتهم الشعبية اليونانية التشبيهية (1) ،و أرسطو كان يقول بالطبيعة الإلهية للعقول و الأجرام السماوية الأزلية (2) .
و أرسطو و أتباعه قالوا بخرافات كثيرة ، لا دليل لهم فيها من العقل و لا من العلم ، كقولهم بالعقول العشرة ، و وصفهم لله تعالى بالعجز و عدم العلم ، و قولهم بقدم العالم ، و الطبيعة الإلهية للعقل (3) . و الجابري نفسه ناقض ما قاله عندما قال : إن الفلسفة اليونانية برمتها تجد أصولها و فصولها في الأساطير الإغريقية .و قال أيضا : إن منطق أرسطو ملتحم التحاما عضويا مع إلهيات أرسطو (4) . و بما أن إلهيات أرسطو كثيرة الأساطير و الأهواء و الأوهام ، فمنطقه مُلتحم بذلك .
__________
(1) جورج طرابيشي : العقل المستقيل ، ص: 126 .
(2) علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي : أرسطو و المدارس المتأخرة ، دار المعرفة الجامعية ، الأسكندرية ، 1990 ، ص: 157 ، 191 ، 201 .
(3) سبق توثيق ذلك .
(4) التراث و الحداثة ، ص: 172 ، 312 .(17/325)
و أما المسلمون - سماهم الجابري العرب- خلال العصر الإسلامي ، ففكرهم العلمي كانت فيه كثير من الأساطير و الأوهام و الظنون و الخيالات، فالفلاسفة منهم ورثوا أساطير الفلسفة اليونانية عامة و المشائية خاصة ، و زادوا فيها من خرافاتهم ، كقولهم بأن العقول العشرة هي الملائكة ، و قولهم بنظرية الفيض (1) .
و أما الصوفية و الشيعة فتُعد الأساطير من المكونات الأساسية لفكرهم و مذاهبهم ، و هذا باعتراف الجابري نفسه (2) . و كذلك المتكلمون ، فالمعتزلة منهه -مثلا - لهم خرافات و أوهام تتفق مع مذهبهم ، كنفيهم لصفات الله تعالى ،و زعمهم بعدم قيام الصفات الاختيارية بذات الله سبحانه ، و نفيهم للقضاء و القدر (3) .
و أما الأوروبيون ، فهم عندما كسروا سلطان الكنيسة ،و انقلبوا على طبيعيات أرسطو و منطقه ، تخلصوا من الأساطير و الخرافات التي كانت تهيمن على الأوروبيين في العصور الوسطى ، و اخترعوا أساطير و أوهام جديدة في العصر الحديث في ظل الثورة العلمية ، و ألبسوها ثوب العلم و العقلانية ، و أدخلوها في منهج البحث العلمي الاستقرائي التجريبي عندهم ، كقولهم بالإلحاد ، و الصدفة ، و الداروينية ،و المادية الجدلية ، و المادية التاريخية . و أما الذين يدينون منهم بالنصرانية ، فهم أيضا لهم خرافاتهم ، كخرافة الثالوث : الأب ،و الابن ،و روح القدس .
__________
(1) ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 9 ص: 104 . منهاج السنة ، ج 1 ص: 341، 342 . و درء التعارض ، ج 1 ص: 228 . و الشهرستاني : الملل و النحل ، ج 2 ص: 172 .
(2) أنظر : تكوين العقل العربي ، ص: 179 و ما بعدها .
(3) سبق توثيق ذلك .(17/326)
و الخطأ الثاني يتمثل في سكوت الجابري عن أخطاء وقع فيها الفيلسوف أبو نصر الفارابي (ت ق: 5ه ) ، أذكر منها ثلاثة نماذج ، أولها يتمثل في أن الجابري نقل عن الفارابي بأنه قال : (( إن مرتبة الفيلسوف تفوق مرتبة النبي ، باعتبار أن الفيلسوف يتلقى الحقائق من العقل الفعال بعقله ، في حين يتلقى النبي ذلك بمخيلته بواسطة العقل الفعال أيضا ، الذي هو واسطة بين الله و الإنسان )) (1) .
و قوله هذا غير صحيح ، و رجم بالغيب ، و قول على الله بلا علم ، و افتراء على الشرع و العقل معا ، و مع ذلك سكت عنه الجابري ناقد العقل العربي ! . أولا إنه لا مجال للمقارنة بين النبي و الفيلسوف أصلا ، فالفكرة باطلة من أساسها ، لأن النبي يختلف عن البشر بالوحي ، قال تعالى : -{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} - سورة الكهف/110- فهو نبي يتلقى الوحي من الله تعالى بواسطة الروح الأمين . و أما الفيلسوف فهو ، ليس نبيا و لا ملاكا ، و إنما هو إنسان عادي لا يختلف عن عامة الناس في شيء ، لكنه استخدم حواسه و عقله في البحث كغيره من طوائف العلماء ، و وسائله في بحثه و دراسته ، كلها نسبية ، و من ثم فهو لا يختلف عن غيره من العلماء من حيث الوسائل و القدرات ، و لا يمكن أن يصل الأنبياء المعصومين في مكانتهم و علمهم .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 452 .(17/327)
و ثانيا إن حكاية العقل الفعال الذي زعمه الفارابي ، هو خرافة و وهم و خيال ، أخذها الفارابي عن سلفه من المشائين بالاعتماد على الظن و الخيال في كثير من المسائل الطبيعية و الإلهية ، باسم العلم و المنطق ، بلا دليل من النقل الصحيح ، و لا من العقل الصريح ، و لا من العلم الصحيح . و نحن إذا سلمنا -جدلا- بوجود هذا العقل الفعال المزعوم ، فلماذا لا يدركه كل الناس و يتعرفون عليه ، أو على الأقل كل أهل العلم ؟ ! ، فيصبحون كلهم فلاسفة يتفوقون على الأنبياء حسب زعم الفارابي . و إذا كان الفلاسفة يأخذون علومهم من العقل الفعال بواسطة العقل ، فلماذا فلسفتهم مليئة بالأخطاء العلمية ، و الخرافات ،و الأوهام و الظنون ، كما سبق أن بينناه فيما يخص فلسفة أرسطو ؟ ! .
و في مقابل ذلك نجد الأنبياء-عليهم السلام- أدلة صدقهم دامغة لا أخطاء فيها و لا خرافات ، أيدهم الله تعالى بمختلف الدلائل و الآيات و البراهين ، خاتمهم محمد رسول الله-عليه الصلاة و السلام- الذي أيده الله تعالى بمعجزة علمية خالدة تحدى الله بها عالم الجن و الإنس معا ، منذ أكثر من 14 قرنا ، لم يستطع أحد الرد عليه ،و لا وُجد فيه خطأ علمي واحد، و تضمن معجزات علمية مذهلة في مختلف مجالات العلوم . و هذا خلاف ما وجدناه في فلسفة أرسطو التي تزعم العقل الفعال ، فقد وجدنا فيها أخطاء علمية و منهجية كثيرة تتعلق بطبيعياته و إلهياته ، ذكرنا منها طرفا فيما تقدم آنفا .
و أما المثال الثاني -الذي نقله الجابري و سكت عنه- فمفاده أن الفارابي انتهى من عرضه الفلسفي البرهاني إلى القول بأن الفلسفة أسبق من الملة- أي الإسلام- ،و من ثم فإن الملة تابعة للفلسفة (1) .
__________
(1) بنية العقل العربي ، ص: 424 .(17/328)
هذه النتيجة عدّها الجابري نتيجة برهانية ، و هي في الحقيقة ظن و وهم ،و افتراء على الشرع و العقل معا ، ليس له فيما زعمه دليل صحيح ، لأنه أولا أن دين الإسلام ليس جديدا ، فهو دين الله تعالى في الأرض و السماء ، قبل أن يُخلق الإنسان ، عبدته به الملائكة و الجن ، قال سبحانه : -{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} -سورة آل عمران/19- ، و{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }- سورة الذاريات56-58- و {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} - سورة الشورى/13- . فالإسلام الذي جاء به محمد -عليه الصلاة و السلام- هو نسخة جديدة للدين الواحد ، الذي هو الإسلام ، و قد كان أول بشر على الأرض مسلما نبيا، و هو آدم عليه السلام- ، فزعم الفارابي بتقدم الفلسفة على الدين ، هو زعم باطل من أساسه .
و ثانيا إننا إذا نظرنا إلى المسألة من الناحية التاريخية المحضة ، فإنه ليس للفارابي دليل فيما زعمه من أن الفلسفة أسبق من الدين ، لأنه ليس له دليل تاريخي و لا عقلي يُثبت ما ادعاه ، لأن القضية كلها رجم بالغيب ،و هي تحتمل ثلاثة احتمالات ، هي : إما أن يكون الدين هو الأسبق ،و إما أن يكون التفلسف هو الأسبق ، و إما أنهما ظهرا في وقت واحد . كان على الفارابي أن يُقدم الدليل ليرجح ما زعمه ،و إن كان الاحتمال الأول هو الصحيح لأنه يتفق مع الإسلام ، و لأن الإنسان الأول لا شك أنه كان يعرف خالقه ،و هذا أساس التدين .(17/329)
و أما زعمه بأن الملة -أي الإسلام- تابعة للفلسفة لأنها أسبق من ملة دين الإسلام ، فهذا زعم باطل لا دليل عليه من الشرع و لا من العقل ، و لا من التاريخ ، و الثابت أن دين الله الذي هو الإسلام كان أسبق في الظهور من الفلسفة ، علما بأن التابعية في الحقيقة لا تتعلق بالمتقدم في الظهور و لا بالمتأخر فيه ، و إنما تتعلق بالحق و الباطل ،و بالقائل ، فبما أن الإسلام هو الدين الحق ، و هو دين الله تعالى الذي أمرنا باتباعه ، و لا يرضى من البشر غيره ، فهذا يستلزم بالضرورة إتباعه من كل الناس من فلاسفة و علماء و عوام ، و غيرهم من بني آدم. و بذلك تسقط مزاعم الفارابي ، التي هي ليست من النقل ، و لا من العقل و لا من العلم في شيء .
و أما المثال الأخير- الثالث الذي سكت عنه الجابري- فمفاده أن الفارابي زعم أن الفلسفة هي التي تُعطي البراهين لما في الملة-أي دين الإسلام- ، لأن (( الآراء النظرية التي في الملة ، و التي تُؤخذ فيها بلا براهين ، و إنما تجد براهينها في الفلسفة النظرية )) (1) .
و قوله هذا غير صحيح ، لأنه أولا ليس صحيحا أن الفلسفة المزعومة هي التي تعطي البراهين على صدق دين الإسلام ، لأن الإسلام بذاته برهان كبير ، يضم عددا لا يُحصى من الآيات و الحجج، و البراهين و الدلائل ، على صدقه ، و أنه دين الله الخالد ، و قد أثبت صدقه ، و صحته ، و رد على مُنكريه زمن رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ،و ما بعده ، من دون فلسفة اليونان و لا غيرها ، و من قبل أن يعرفها المسلمون بأكثر من 150 سنة ، لذا وصفه الله تعالى في آيات كثيرة ، بأنه علم وحق ، و هدي و نور ،و برهان و بيان ،و آيات و حجج . و من كانت هذه صفاته فلا يحتاج أبدا إلى فلسفة اليونان ولا إلى غيرها من الفلسفات و المذاهب ، لكي يُقيم الحجج و البراهين على صدقه ، فهو برهان بنفسه غني بذاته .
__________
(1) بينية العقل ، ص: 453 .(17/330)
و أما زعمه بأن الآراء النظرية التي في الملة تُوجد بلا براهين ، فهو زعم باطل ، لأن دين الإسلام ليس آراء ، و إنما هو كلام الله تعالى ،و كلام رسوله عليه الصلاة و السلام . و لأن النص الشرعي الذي هو من القرآن و السنة الصحيحة الموافقة له ، هو دليل بذاته ،و لا يحتاج إلى برهان من خارجه ، لأن الله و رسوله لا يقولان إلا الحق . وإنما أقوال الفلاسفة هي التي تحتاج إلى من يُبرهنها ، لأنها أفكار بشرية ظنية تتضمن الحق و الباطل ، و الظن و الهوى ، و الوهم و الخرافة.
و ثانيا إن ما ذكرناه لا ينفي بأن للعقل المسلم مجالا واسعا للدفاع عن دين الإسلام و التعريف به و نشره ، لأن عمله هذا ليس إيجادا للبراهين من العدم ، لأن الإسلام يحمل براهينه في ذاته ، و إنما هو إخراج لبراهين الإسلام و شرح لها و تعريف بها ، باستخدام كل الوسائل الشرعية و المفيدة الممكنة ، بما في ذلك استخدام براهين العلوم الحديثة ، لأن الشرع حث عليها و مُستخدمة في القرآن الكريم ، و بذلك نوظف براهين كتاب الله المنظور ، لخدمة كتاب الله المسطور ، لأنه لا تناقض بين الكتابين ، فالأول من كلام الله ، و الثاني من خلق الله .
و أما الخطأ الثالث- من المجموعة الثانية- فيتعلق باستخدام الجابري لبعض المصطلحات القومية العربية الحديثة و إسقاطها على أمور ليست منها ،و لا تنطبق عليها ، منها : مصطلح الفكر الديني العربي ، أطلقه على الكتاب و السنة . و مصطلح : الثقافة العربية ، أطلقه على الفقه الإسلامي ، و ما أنتجه المسلمون من علوم و تراث ، و جعله الإطار الذي تشكل فيه العقل العربي و ترعرع فيه ،و هو أيضا الإطار المرجعي الرئيسي الذي تشكل فيه هذا العقل (1) .
__________
(1) تكوين العقل ، ص: 67 ، 95 ، 102 ، 134 .(17/331)
و تعقيبا عليه أقول : إن استخدامه للمصطلحات القومية الحديثة و إطلاقها على مصطلحات إسلامية قديمة ، هو تحريف مُتعمد للتاريخ ، مرفوض شرعا و عقلا و تاريخا ، من جهة ، و هو طمس لدين الإسلام و علومه و تراثه و تاريخ أهله من جهة أخرى ، لأن دين الإسلام هو دين الله تعالى في الأرض و السماء ، ليس دينا عربيا و لا دينا أعجميا ، و علومه هي علوم إسلامية ، و شرعية ، و ربانية ، و هي علوم الوحي ، و علوم الكتاب و السنة الصحيحة ، و ليست علوما عربية ، كما زعم الجابري ، لأن دين الإسلام لا يُعرف باللغة التي يكتب بها ، و إنما يُعرف بالاسم الذي سماه الله تعالى به ،و بالمبادئ التي يحملها ، لذا كان دين كل الأنبياء- مع اختلاف لغاتهم - واحد اسمه الإسلام ، و بناء على ذلك فلا يصح مطلقا تسمية دين الإسلام بالفكر الديني العربي ، فهي تسمية فيها طمس لحقيقة الإسلام الربانية العالمية .
و أما مصطلح الثقافة العربية ، الذي كان هو الإطار المرجعي للعقل العربي المزعوم ، فهو وهم من أوهام الجابري ، التي أطلقها على عصر كانت فيه الثقافة-بإيجابياتها و سلبياتها- تقوم أساسا على الكتاب و السنة ، و على ما أنتجه المسلمون من فقه و علوم أخرى ، و في ظل حُكم قام أساسا على الشريعة الإسلامية طيلة العصر الإسلامي ، فهذه المعطيات تُبطل حكاية الثقافة العربية المزعومة من أصلها . لأن هذا المصطلح -أي الثقافة العربية- حديث النشأة ظهر منذ نحو 150 سنة أو أقل ، استخدمه القوميون العرب لأهدافهم القومية ، فشوهوا به الإسلام و تاريخ أهله ، و افتروا به على الدين و التاريخ معا .(17/332)
و الخطأ الرابع يتعلق باللغة و علاقتها بالتصورات و العقائد ،و أذكر لتوضيح ذلك مثالين ، أولهما زعم فيه الجابري أن دراسات حديثة أكدت على أن اللغة -أي لغة- (( تُحدد أو على الأقل تُساهم مساهمة أساسية في تحديد نظرة الإنسان إلى الكون و تصوّره له ككل و كأجزاء )) (1) .
و قوله غير صحيح تماما أو بنسبة 99 /100 ، لأنه أولا إذا كان الإنسان يتأثر بلغته و يُؤثر فيها هو أيضا ، فكلام الجابري غير صحيح في المجال الذي حدده ، و هو نظرة الإنسان إلى الكون و تصوّره ، لأن هذه المجال تحدده الأديان و العقائد و المذاهب على اختلافاتها و تناقضاتها ، و عليها بنى الإنسان-قديما و حديثا- نظرته إلى الله و الكون ، و الإنسان و الحياة . و بمعنى آخر إنها هي التي تُجيب الإنسان على الأسئلة الأزلية المعروفة ، و هي : من أين ؟ ، و إلى أين ؟ ، و لماذا ؟ ،و على ضوء الإجابة عليها يبني الإنسان حياته في هذه الحياة الدنيا ، و ليست اللغات هي التي تُجيبه على تلك الأسئلة .
و أما عن كيفية نشأة تلك الأديان و العقائد و المذاهب ، فهي أيضا غير متعلقة باللغات ، و ليست هي التي أنشأتها . لأن الدين إذا كان دينا ربانيا صحيحا ، فالله تعالى هو واضعه و مشرّعه ، و أما الأديان و العقائد و المذاهب الأرضية ، فهي من وضع البشر ، تابعة لمؤسسيها ، بناء على نظرتهم إلى الله تعالى ، و الكون و الحياة و الإنسان . فهذه المنطلقات هي التي تُحدد أصول تلك الأديان و العقائد و المذاهب و فروعها ، و ليست اللغات .
__________
(1) تكوين العقل العربي ، ص: 72 .(17/333)
و ثانيا إن الأمثلة على صحة ما قلناه ، و على خطأ ما ذهب إليه الجابري ، هي كثيرة جدا ، منها : إن العرب في الجاهلية كانت اللغة العربية من أهم الروابط التي تجمعهم ، لكنهم مع ذلك كانوا مختلفين في عقائدهم ، فكان فيهم : الوثني ، و اليهودي ، و النصراني ، و الدهري . و منها إن الناس في العصر الإسلامي كانت اللغة العربية هي السائدة بينهم ، لكنهم كانوا منقسمين في عقائهم و مذاهبهم ، فمع غلبة الإسلام عليهم ، فقد كان فيهم اليهود ، و النصارى ، و المجوس ، و الصابئة ، و الهندوس . و أما على مستوى المذاهب بين المسلمين ، فقد كانوا منقسمين إلى عشرات المذاهب على مستوى الأصول و الفروع ، و قد ذكرتهم كتب المقالات و الملل و النحل بالتفصيل .
ومنها أيضا حال دولة لبنان المعاصرة ، فهي مع أنها دولة عربية ، و اللغة العربية فيها هي لغة البلد ،فإن مجتمعها مُجتمع مُتعدد الأديان و المذاهب و الطوائف ، كثير الفتن و الصراعات و المتناقضات . فأين دور اللغة المزعوم في تحديد نظرة الإنسان إلى الله و الكون ،و الحياة و الإنسان في دولة لبنان ؟ ! .
و أما استشهاد الجابري ببعض الدراسات الحديثة ، فيما ذهب إليه ، فهي دراسات غير موفقة فيما ذهبت إليه ،و مبالغة فيما قالته ، لأننا لا نترك حقائق الواقع الدامغة المُشاهدة ، و نتبع تلك الدراسات التي بدو أنها كانت مدفوعة بخلفيات مذهبية عرقية قومية ، عنصرية متعصبة ، مما أوصلها إلى المبالغة بتحويل الحبة الصغيرة إلى قبة كبيرة .
و أما المثال الثاني فقال فيه الجابري : إن اللغة ليست مجرد أداة للفكر ، بل هي أيضا قالب له . ثم ذكر قولا للباحث الألماني هردر(ت1803م ) ، يقول فيه : (( إن كل أمة تتكلم كما تفكر ، و تفكر كما تتكلم )) (1) .
__________
(1) تكوين العقل العربي ، ص: 73 .(17/334)
و ردا عليه أقول : أولا صحيح أن الإنسان يتفاعل مع لغته تأثيرا و تأثرا في مجال محدود ، لكنها مع ذلك تبقى في الأصل أنها مجرد وسيلة للفكر و التفاهم بين الناس ، و آية من آيات الله تعالى ، لقوله سبحانه : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (4) سورة إبراهيم ، و{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} - سورة الروم/22-، فذلك هو دورها ، و لا دخل لها في تحديد نظرة الإنسان إلى الله و الكون ،و الحياة و الإنسان ،و ما يترتب عن ذلك من سلوكيات ، و هذا أمر سبقت البرهنة عليه .
و ثانيا إن قول الألماني هردر ليس صحيحا ، و الصواب هو : إن الإنسان يُفكر بناء على ما يعتقده ،و يتكلم بناء على ما يعتقده أيضا ،وليس بناء على لغته التي يتكلم بها. لأن ما يعتقد الإنسان هو الذي يتحكم في سلوكياته : تفكيرا ،و عملا ، و تكلما ،و ليست اللغة هي التي تتحكم في ذلك . و الدليل على ذلك أن هناك أمثلة كثيرة ، تُثبت وجود وحدة في التفكير و التصورات و العقائد ، مع تعدد اللغات . كما أنها تُثبت أيضا وجود اختلاف في التفكير و التصورات و العقائد ، مع وحدة اللغة . فأمة الإسلام-مثلا- لغاتها متعددة ،و عقائدها و تصوراتها ، و عباداتها و أخلاقها واحدة . و أمة العرب لسانها واحد ،و أديانها و مذاهبها متعددة و متناقضة .(17/335)
و أما الذين قالوا بأن اللغة هي التي تحدد تفكير الإنسان في نظرته إلى الله و الكون ، و الإنسان و الحياة ، و أنه يُفكر انطلاقا منها ، فسبب ذلك ليس لأن اللغة تفعل ذلك في الواقع ، و حددت لهم عقائدهم و تصوراتهم ، و إنما هم الذين اعتقدوا أنها تفعل ذلك . فأخرجوا اللغة من كونها وسيلة إلى عقيدة ، تتحكم-حسب زعمهم- في تصوراتهم و عقائدهم ، فعبدوها و قدّسوها ، و ضحوا من أجلها ، فصدق عليهم قوله تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} - سورة الجاثية/23- . و الدليل المادي على أنهم يعبدون أهواءهم و أنهم على خطأ فيما ذهبوا إليه ، هو أن الذين يُخالفوهم في ذلك لم يقولوا بقولهم ، و تصدوا للرد عليهم ، فلو كانت اللغة هي التي تتحكم في تفكيرهم و عقائدهم لقالوا بقولهم ، و ما ردوا عليهم . و بناء على ذلك فإن مقدسي اللغة ليست اللغة بذاتها هي التي جعلتهم يقولون بما ذهبوا إليه ، و إنما مُعتقدهم فيها هو الذي أوصلهم إلى ذلك القول .
و أما الخطأ الأخير -الخامس من المجموعة الثانية- فيتمثل في استخدام الجابري لمصطلحات غير دقيقة تحتمل أكثر من معنى ، و فيها تمويه و إيهام بالنقص ، و تغليط في الفهم ، كان فيها على الجابري أن يتفادى ذلك باستخدام المصطلحات في مكانها المناسب بدقة ، قمن ذلك ، قوله : التيارات الباطنية في الإسلام (1) . فقوله هذا يعني أن في دين الإسلام تيارات باطنية ، و هذا غير صحيح تماما ، لأن الإسلام لا توجد فيه باطنية أصلا . و الجابري أراد أن يقول : التيارات الباطنية في التاريخ الإسلامي ، أو في تاريخ الإسلام ، أو في العصر الإسلامي .
__________
(1) تكوين العقل ، ص: 157 .(17/336)
و منها ، قوله : (( عامل السلطة و طبيعتها الاستبدادية في الإسلام )) (1) . و هذا قول غير صحيح ،و خطير جدا ، يتضمن طعنا في الإسلام ، مع أنه -أي الإسلام- ليس فيه استبداد و لا طغيان ،و هو كله عدل و رحمة ، و قد طُبق زمن النبي-عليه الصلاة و السلام -،و الخلافة الراشدة أحسن تطبيق ، ثم اختل الوضع و انتشر الظلم بعد ذلك . و الجابري أراد أن يقول : عامل السلطة و طبيعتها الاستبدادية بعد الخلافة الراشدة ، أول زمن الدولتين الأموية و العباسية ، و ما بعدهما ، أو خلال العصر الإسلامي منذ قيام الدولة الأموية و ما بعدها .
و منها أيضا ، قوله : (( تتعلق بالفكر الفلسفي في الإسلام )) (2) . و قوله هذا غير صحيح ، لأنه لا يُوجد في الإسلام فكر فلسفي ، لأن دين الإسلام وحي ، إما أنه كلام الله تعالى ، و إما أنه كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، أما الفكر الفلسفي فهو كلام بشري ، لذا كان عليه أن يقول : الفكر الفلسفي في التاريخ الإسلامي ، أو في العصر الإسلامي ، أو في الحضارة الإسلامية ، أو الفكر الفلسفي عند المسلمين ، أو في تاريخ المسلمين .
و يُستنتج مما ذكرناه في مبحثنا هذا أنه كانت للجابري (3) أخطاء منهجية كثيرة ، تتعلق بنُظم إنتاج المعرفة ، و قضايا فلسفية و فكرية أخرى ، ذكرنا طائفة منها كنماذج من باب التمثيل لا الحصر ؛ تبين من خلالها أنه كان متعصبا للفلسفة الأرسطية ساكتا عن أخطائها ، مدفوعا بخلفيات مذهبية و قومية أوقعته في أخطاء كثيرة ، في موقفه من علوم الإسلام ، و فلسفة اليونان .
خامسا : أخطاء الجابري في نظرته إلى المدرسة المغربية الأندلسية و أهل الحديث :
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 103 .
(2) نفس المرجع ، ص: 63 .
(3) لأننا خصصنا معظم هذا المبحث لأخطاء الجابري ، و لم نعثر لأركون على أخطاء كثيرة في مجال الفلسفة ، لأنه لم يخض فيها ، كما فعل الجابري .(17/337)
وقع الجابري في أخطاء كثيرة تتعلق بنظرته إلى المدرسة المغربية و الأندلسية ، و مدرسة أهل الحديث ، و موقفه منهما ، فبخصوص المدرسة الأولى فإنه انتصر لها انتصارا كبيرا ، و بقوة و حماس، على مستوى رجالها و مشروعها الفكري، فرجالها هم : ابن حزم الظاهري(ت 456ه)، و ابن رشد الحفيد (ت595ه) ، و أبو إسحاق الشاطبي(ت 795ه) ، و ابن خلدون(ت808ه ) . و أما مشروعها الفكري-حسب ما قاله الجابري- فيقوم على الأسس الآتية : نقد القياس الفقهي و الصوفي معا ، نقد فكرة التجويز ، القول بمبدأ السببية و اطراد الحوادث ، نقد فكرة العادة و الإنكار على منكري الطبائع ، نقد فكرة إمكان الكرامات و العرفان الصوفي ، القول بالمقاصد في الشريعة الإسلامية ، التحرر من سلطة السلف المتجسدة في المرويات و الإجماع ، طرح مفهوم الاستقراء و الاستنتاج -أي منطق أرسطو- ، طرح مشروع فكري نقدي عقلاني ، تميز بوحدة التفكير بين أقطابه ، فكان مشروعهم بديلا عقلانيا قام على مفاهيم هي نفسها التي قام عليها الفكر الحديث في أوروبا، و لا زالت تُؤسس الفكر العلمي إلى اليوم (1) .
__________
(1) بنية العقل العربي ، ص: 552، 558، 564 ، 567 .(17/338)
و قوله هذا يتضمن أخطاء و مغالطات كثيرة ، لأنه أولا أن ما قاله عن هؤلاء من نقدهم للقياس و رفضهم له ، هو أمر غير صحيح ، و لا يصدق إلا على ابن حزم فقط ، و أما الآخرون فلا يصدق عليهم ، فابن رشد قال بالقياس الفقهي ، و خالف الظاهرية و رد عليهم بالدليل العقلي ، لأن (( الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية ، و النصوص متناهية ، و الإقرارات متناهية ، و محال أن يُقابل ما لا يُتناهى بما يُتناهى )) (1) . و أما الشاطبي و ابن خلدون فهما أيضا قالا بالقياس و احتجا به في مواضع كثيرة فيما كتباه (2) .
__________
(1) ابن رشد الحفيد : بداية المجتهد و نهاية المقتصد،دار الفكر ، بيروت ، دت ، ج 1 ص: 3 .
(2) ابن خلدون : المقدمة ، ص: 219 ، 453 ، 454 . الشاطبي : الاعتصام ، ج 1 ص: 348 ، 390 ، 493 ، 494 . و الموافقات ، ج 1 ص: 89 ، 90 ، 173 .(17/339)
و ثانيا إن ما قاله عن موقف هؤلاء من التحرر من سلطة السلف ، هو قول غير صحيح ، و فيه التباس ، لأن هؤلاء لم يرفضوا مبدأ الإجماع و لا أنكروا حدوثه ، و كانت لأقوال السلف عندهم مكانة و اعتبار ، فابن حزم الذي ادعى الجابري أنه كان (( ضد سلطة السلف مهما كان هذا السلف )) ، فكان ثورة عليهم (1) . هو ادعاء مخالف للحقيقة ، لأنه إذا كان ابن حزم قد دعا إلى الاجتهاد ،و حرم التقليد (2) ، فإنه كان أيضا يأخذ برأي السلف و يحتج به ، و قد فعل ذلك كثيرا في كتابه المُحلى (3) . و أما ابن رشد و الشاطبي و ابن خلدون ، فهم أيضا قالوا بإجماع السلف ، و جعلوه من الأدلة الشرعية ، و احتجوا به ، و بأقوال السلف في مواضع كثيرة في بعض مصنفاتهم (4) .
و ثالثا إن موضوع مقاصد السريعة ليس خاصا بهذه المدرسة التي سماها الجابري بالمغربية الأندلسية ، فإنه قد سبق أن تطرقنا إلى هذا الموضوع ، و أثبتنا بالأدلة و الشواهد المتنوعة أن مقاصد الشريعة تكلم فيها علماء كثيرون قبل الشاطبي، و لا هي من مبتكراته ،و لا هي من مبتكرات علماء المغرب أيضا .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 569 .
(2) نفسه ، ص: 569 .
(3) أنظر : المحلى ، دار الآفاق الجديدة ، ، بيروت دت ، ج 2 ص: 6 ، 47، 50، 53 ، ج 3 ص: 189 .
(4) أنظر : ابن رشد : بداية المجتهد ، ج 1 ص: 7، 10 ، 76 ، 196 . و ابنخلدون : المقدمة ، ص: 192، 263 ، 264 . و الشاطبي : الموافقات ، ج1 ص:110 ، ج 2 ص: 246 ، ج 3 ص: 42 .(17/340)
و أما مسألة القول بالسببية و اطراد الحوادث ،و إثبات الطبائع في الطبيعة ، فإن الأمر ليس كما قاله الجابري ، لأن هذه المدرسة- المغربية الأندلسية- لم يتفق ممثلوها على القول بذلك . فابن حزم الذي ذكر الجابري بأنه حمل بشدة على الأشاعرة في إنكارهم للطبائع ، و السببية في أفعال الله تعالى و مخلوقاته (1) ، لم يذكر أيضا أن هذا الرجل- أي ابن حزم- متناقض مع نفسه ، في موقفه من هذه المسألة ، لأنه قال أيضا (( و اعلم أن الأسباب كلها منفية عن أفعال الله تعالى و أحكامه ، حاشا ما نص تعالى عليه أو رسوله )) (2) . و هو هنا متناقض مع نفسه مرتين ، الأولى عندما انتقد الأشاعرة في إنكارهم للطبائع و السببية ، ثم و هو هنا يقول برأيهم. و المرة الثانية عندما أكد على أن الأسباب كلها منتفية عن أفعال الله و أحكامه ، ثم يستثني منها ما نص عليه الشرع من تلك الأسباب ، مما يعني أنه اعترف بأن الأسباب موجودة في أفعال الله و أحكامه .
و كذلك الشاطبي ، فهو لم يكن يُثبت السببية و لا الطبائع ، عكس ما ادعاه الجابري ، فهو -أي الشاطبي- كان على مذهب الأشعرية في نفي السببية و طبائع الأشياء و خصائصها ، و قد تطرق لهذه المسألة في كتابه الموافقات ، و أعلن صراحة نفيه لها ، و حاول الدفاع عن وجهة نظره باستخدام التأويل ، و تفسير النصوص على مذهبه ، لكنه لم يُوفق في ذلك (3) .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 521 .
(2) الإحكام في أصول الأحكام ، ط1 ، دار الحديث ، القاهرة ، 1404 ، ج 8 ص: 566 .
(3) الموافقات ، ج 1 ص: 196 .(17/341)
و رابعا إن قوله بأن هؤلاء أخذوا بمبدأ الاستنتاج ،و هو المنطق الأرسطي ، هو قول ليس صحيحا على إطلاقه ، لأن الأمر فيه كلام آخر كان على الجابري أن يُشير إليه ، و هو أن الشاطبي كان متحفظا في موقفه من المنطق الصوري و انتقده ، فذكر-أي الشاطبي- أن استخدامه لعبارة المقدمتين لا يعني ما يريده المناطقة ، و أعلن صراحة أن استخدام منطق آرسطو يتنافى مع الشريعة و البديهة ، و فضّل طريقة العرب في المخاطبة على ذلك المنطق . و نص صراحة على أنه لا يلتزم طريقة أهل المنطق في تقرير القضايا الشرعية ، لأنه (( لا احتياج إلى ضوابط المنطق ، في تحصيل المراد في المطالب الشرعية ، )) . مع العلم أنه- أي الشاطبي- قد ذم الفلاسفة و استهجن منهاجهم و ازدراه (1) . فهذا كلام خطير جدا سكت عنه الجابري .
و أما قوله بأن هذه المدرسة تبنت أيضا مبدأ الاستقراء منهجا ، فهو كلام غير صحيح في معظمه ، لأن هذه المدرسة هي مدرسة أرسطية مشائية صورية المنطق (2) ، لا يصح أن يُقال أنها استقرائية المنهج أيضا ، لأن أرسطو أهمل الاستقراء من منطقه ، و كان تصوره له ساذجا ، و يعتقد أنه يُستخدم مع الصغار ، و أما الكبار المتخصصون ، فيُستخدم معهم المنطق الصوري (3) .
__________
(1) اموافقات ، ج 1 ص: 51 . 52 ، ج 4 ص: 337 ، 338 ، 339.
(2) أنظر : بنية العقل ، ص: 526، 529 ، و ما بعدها .
(3) ماهر عبد القادر : المنطق و مناهج البحث ، دار النهضة العربية ، بيروت ، 1985، ص: 18 ، 144 ، 146(17/342)
و يؤيد ذلك أن ابن حزم الذي قال عنه الجابري بأنه أخذ بالاستقراء (1) ، نص صراحة على أنه لا يأخذ بالاستقراء ،و هاجمه كما هاجم القياس الفقهي ، و أفرد لذلك مبحثا في كتابه التقريب لحد المنطق (2) . و أما ابن رشد فأغلب الظن أنه كان مهملا للاستقراء على طريقة سلفه أرسطو ،و هو قد ذكر صراحة تعظيمه للمنطق الصوري (3) ، حتى أن ابن قيم الجوزية ، أطلق على ابن رشد بأنه : أسير منطق اليونان (4) .
و أما الشاطبي و ابن خلدون فأغلب الظن أنهما قالا بالاستقراء و أخذا به ، لأنهما فقيهان ،و ليسا فيلسوفين أرسطيين . و أشير هنا أيضا إلى أن الجابري عندما تعرّض لمنطق أرسطو في كتابه بنية العقل العربي ، مدحه و لم ينتقده (5) . لكنه انتقده في كتاب التراث و الحداثة ، و وصفه بأنه عقيم لا ينتج، و لا يصلح للعلم التجريبي (6) . و هو عندما شرح منطق أرسطو في كتابه بنية العقل مدحه ولم ينتقده بأنه أهمل الاستقراء . لكنه في موضع آخر من نفس الكتاب مدح الاستقراء و أعلى من شأنه ، بقوله : (( و ذلك بواسطة الاستقراء ، فإنها لعمري الطريقة العلمية حقا )) (7) .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 567، 640 .
(2) التقريب لحد المنطق ، حققه إحسان عباس، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، ص: 163 .
(3) ابن رشد : تهافت التهافت ، المكتبة العصرية ، بيروت ، 2006 ، ص: 235 .
(4) مفتاح دار السعادة ج 1 ص : 153 .
(5) ص: 415 و ما بعدها .
(6) ص : 136 .
(7) بنية العقل ، ص: 415 , ما بعدها ، 547 .(17/343)
و خامسا إن قول الجابري بأن المدرسة المغربية الأندلسية نقدت العرفان الصوفي ،و أنكرت الكرامات و الخوارق ، هو قولا يصدق على كل ممثلي هذه المدرسة ، فهو إن صدق على ابن حزم و ابن رشد ، فإنه لا يصدق على ابن خلدون و الشاطبي ، فابن خلدون قال بكرامات الصوفية ، و زعم بأن لهم واقعات يُخبرون فيها بالغيب ، و لهم تصرف في الحوادث السفلية (1) . و الشاطبي هو أيضا مدح الصوفية و أثنى عليهم ،و اعترف بأحوالهم و أقر بكراماتهم و خوارقهم (2) .
و بذلك يتبين ما ذكرناه ، أن زعم الجابري بأن المدرسة المغربية الأندلسية كانت تتمتع بوحدة فكرية بين جميع ممثليها جمعتهم تلك المبادئ التي ذكرناها ، هو زعم غير صحيح ، إذ تبين بالأدلة الدامغة بأن هؤلاء لم يتفقوا على أي مبدأ من مبادئ تلك المدرسة المزعومة ، مما يعني أنها مدرسة وهمية ، تقوم على مشروع فكري مُتوَهم مُلفق ،و مُرقع مُتناقض ، و متنافر متناثر، غير مُنسجم ، يفتقد إلى التوثيق و الصحة ، و القوة و الإحكام .
و أشير في هذا المقام إلى أربعة أمور هامة ، أولها يتعلق بسكوت الجابري عن أخطاء و نقائص و سلبيات ممثلي مدرسته التي يُبشر بها ، ففيما يتعلق بابن حزم أذكر على ذلك مثالين ، الأول يتمثل في أن الجابري ذكر قولا لابن حزم يقول فيه : إن كتب (( أرسطو في المنطق و الطبيعيات كلها سالمة مفيدة دالة على توحيد الله عز وجل و قدرته )) (3) . و قوله هذا يتضمن أخطاء كثيرة سكت عنها الجابري ، منها أن ابن حزم أصدر حكما عاما على مؤلفات أرسطو في المنطق و الطبيعة بأنها سالمة دالة على التوحيد ، و هذا غير صحيح ، و الجابري يعرف ذلك بلا شك ، لأنه هو نفسه اعترف بأن منطق أرسطو عقيم لا يُنتج معرفة في العلم التجريبي .
__________
(1) المقدمة ، ص: 88 ، 372 ، 388 .
(2) الموافقات، ج 1 ص: 338، 354 ، ج 2 ص: 276 ، 296 ، ج 3 ص: 239 .
(3) بنية العقل ، ص: 522 .(17/344)
كما أنه ليس صحيحا بأن كل كتب أرسطو في الطبيعيات سالمة مفيدة ، و إنما هي كتب فيها الخطأ و الصواب ، و مليئة أيضا بالأوهام و الأساطير ، على ما سبق أن بيناه فيما تقدم ، و ذكرنا أيضا أن الجابري هو نفسه ذكر أخطاء لأرسطو في الطبيعيات و سكت عنها.
و من أخطائه أيضا أنه زعم أن كتب أرسطو دالة على توحيد الله و قدرته ، و هذا كلام غير صحيح في معظمه ، لأن طبيعيات أرسطو مبنية على إلهيات أسطورية ، فيما يتعلق بالله و العقول العشرة ، و التوحيد عند أرسطو هو الكفر بعينه في دين الإسلام ، لأن الله عنده علة غائية للكون ليست فاعلة له ، فلا يُريد و لا يعلم و لا يخلق شيئا ، الأمر الذي جعل ابن تيمية يصف من يقول برأي أرسطو في الله بأنه من (( أجهل الناس و أضلهم ، و أشبههم بالبهائم من الحيوان )) (1) .
و أما المثال الثاني فيتمثل في أن الجابري عندما تعرض لموقف الأشاعرة و المعتزلة في قولهم بعدم تقبيح العقل و تحسينه للأشياء ،و انتقدهم فيه (2) ،و هم من المدرسة التي سماها الجابري البيان . سكت عن موقف ابن جزم الذي وافق المعتزلة و الأشاعرة فيما قالوا به ، و هو من مدرسة البرهان المزعومة التي ينتصر لها الجابري . فابن حزم أنكر صراحة التحسين و التقبيح العقليين ،و أرجع ذلك إلى الشرع وحده (3) . فكان على الجابري أن يُشير إلى ذلك ، لأن هذه القضية لها أهميتها في نظام البرهان الجابري المزعوم ، خاصة و أن الجابري قد قال بأن ابن حزم قام بنقد شامل للبيان و العرفان معا لإعادة التأسيس (4) .
__________
(1) درء التعارض ن ج 5 ص: 63 .
(2) العقل الأخلاقي ، 115 و ما بعدها .
(3) الفصل في الملل و الأهواء النحل ، ج 1 ص: 68 ، ج 3 ص: 63 ، 65 .
(4) بنية العقل ، ص: 527 .(17/345)
و أما فيما يتعلق بابن رشد ، فإن الجابري قد بالغ في مدح الرجل ، و سكت عن أخطائه و سلبياته ،و أحيانا يُبررها تبريرا ضعيفا جدا ، كموقفه من مبالغة ابن رشد في تعظيمه لأرسطو و فلسفته (1) . و ما كان له أن يفعل ذلك ، لأن البحث العلمي الموضوعي الحيادي يفرض عليه أن يعرض فكر الرجل على حقيقته ، بما له و ما عليه ، و ينقده نقدا علميا حياديا .
و أما بالنسبة للشاطبي ، فمن مواقفه التي سكت عنها الجابري موقفان ، أولهما إن الشاطبي كان على طريقة الأشعرية في نفي السببية و القول بعدم التحسين و التقبيح العقليين (2) . و مع ذلك ألحقه الجابري بما سماه نظام البرهان ، و لم يُلحقه بالبيانيين الذين قالوا بذلك حسب نظرة الجابري إليهم . كما أنني لم أعثر له على أي انتقاد وجهه للشاطبي فيما يخص هذين الموضعين .
و ثانيهما يتعلق برد الشاطبي على ابن رشد ، عندما زعم -أي ابن رشد- بأن علوم الفلسفة مطلوبة (( إذ لا يُفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها )) ، فأنكر عليه الشاطبي زعمه هذا ، بقوله : (( و لو قال قائل : إن الأمر بالضد مما قال ، لما بَعُد في المعارضة )) ، ثم رد عليه مستشهدا بأحوال السلف في فهمهم للشريعة دون فلسفة اليونان (3) .
فهذا الاختلاف الأساسي بين الرجلين دليل قوي على غياب الانسجام و وحدة الفكر بينهما ، و أنهما ينتميان إلى مدرستين فكريتين مختلفتين ، و ليس كما زعم الجابري بأنهما يكونان مدرسة واحدة ،و الذي ينقض ذلك هو الذي بيناه ، و سكت عنه الجابري ، و ما كان له أن يفعل ذلك .
__________
(1) الجابري : ابن رشد : سيرة و فكر ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2001 ، ص: 171 و ما بعدها . و هذا الكتاب تحصلت عليه بعدما أنهيت الدراسة و أرسلتها إلى النشر فاستفدت به هنا .
(2) الموافقات ، ج 1 ص: 87 .
(3) نفس المصدر ، ج 3 ص: 328 ، 376 .(17/346)
و أما الأمر الثاني فيتعلق بمشروع ابن حزم ، فقد ادعى الجابري أن ابن حزم كان يهدف بمشروعه إلى تأسيس البيان على البرهان (1) . و زعمه هذا ينقضه ما نقله هو شخصيا من أن ابن حزم قال في كتابه الفصل في الملل و الأهواء و النحل : ((و اعلموا أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه ، و جهر لا سر تحته ، كله برهان لا مسامحة فيه )) (2) . فبما أن دين الله كله برهان ، فهو ليس بيانا بالمعنى الجابري ، و من ثم لا يحتاج إلى برهان من خارجه ، و هل يحتاج البرهان الإلهي إلى برهان بشري ؟؟ . و بما أن دين الله كله برهان عند ابن حزم ، فلا يصح أن يُقال بأن ابن حزم كان يسعى إلى تأسيس البيان على برهان فلسفة اليونان ،و إن كان يُريد ذلك فعلا ، فهو متناقض مع نفسه .
و الأمر الثالث يتعلق بمشروع الشاطبي ، فقد ادعى الجابري أن الشاطبي هو أيضا كان يهدف إلى تأسيس البيان على البرهان (3) ، بمعنى تأسيسه على منطق أرسطو . و زعمه هذا غير صحيح ، ينقضه الشاطبي بنفسه ، فإنه نصّ صراحة على أن (( البرهان قائم على البيان ، و أن الدين قد اكتمل قبل موت الرسول ))-عليه الصلاة و السلام- ، و أن الله تعالى (( أنزل القرآن برهانا في نفسه على صحة ما فيه )) (4) . فدين الإسلام عند الشاطبي براهان بذاته لا يحتاج إلى برهان اليونان ،و لا إلى عرفان الصوفية و الشيعة ، و لا إلى كلام المتكلمين . و كلامه هذا ينسف جانبا كبيرا من مشروع الجابري المزعوم .فلماذا أغفل الجابري ما قاله الشاطبي ؟ ، فهل لم يتنبه إليه أم أنه سكت عنه ؟ .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 567 .
(2) تكوين العقل ، ص: 293 .
(3) بنية العقل ، ص: 547 ، 567 .
(4) الموافقات ، ج 3 ص: 90 ، 377 .(17/347)
و أما الأمر الرابع- و هو الأخير- ، فيتعلق بأهمية ما جاءت به المدرسة المغربية الأندلسية ، فأدعى الجابري أن المشروع الذي قدمته المدرسة الحزمية و الرشدية ،و الخلدونية و الشاطبية ، قام على أُسس علمية عقلانية ، هي نفسها التي قام عليها الفكر الحديث في أوروبا ،و ما تزال تُؤسس التفكير العلمي إلى اليوم (1) .
و قوله هذا فيه حق و باطل ، لأنه سبق أن ناقشنا أسس هذه المدرسة المزعومة ، و بينا أن ممثليها لم يتفقوا كلهم على أي مبدأ من المبادئ التي قال الجابري أنها تقوم عليها مدرستهم ، فمنهم من قال بالاستقراء ، و منهم من نفاه ، و منهم من قال بالسببية ، و منهم من نفاها ، و منهم من قال بالكرامات ، و منهم من أنكرها ...إلخ . كما أن مبادئ هذه المدرسة ليست هي نفسها التي قام عليها الفكر الأوروبي الحديث ، و ليست هي التي أسست الفكر العلمي الحديث، لأن مدسرسة الجابري هي في أصلها أرسطية مشائية ، بناء على أعمال ابن رشد الفلسفية ، و هي ليست استقرائية تجريبية ، .و نحن نعلم أن العلم الحديث بأوروبا قام أساسا على أنقاض طبيعيات أرسطو و منطقه ، فما هو العمل الايجابي المباشر الذي قدمته له المدرسة الجابرية المزعومة ؟ ، مع العلم أن المدرسة المغربية الأندلسية الجابرية ، إذا نزعنا منها فلسفة أرسطو انهارت من أساسها ، و هي بالفعل منهارة ، بحكم أن فلسفة أرسطو باطلة في معظمها .
و أما بالنسبة لموقف الجابري من أهل الحديث ، فإنه أخطأ في حقهم من جانبين ، أولهما إنه أغفلهم إغفالا تاما كمدرسة فكرية سنية قائمة بذاتها و أصولها ، و فروعها و تراثها ، فلم يجعل لها مكانا متميزا في النظم المعرفية التي ذكرها ، و لا ميزها في النظام الذي سماه البيان ، وأدخل فيه المعتزلة و الأشاعرة ،و أهل اللغة ، فهو و إن كان ألحقهم به ، فلم يُميزهم فيه كما ميز غيرهم.
__________
(1) بنية العقل العربي ، ص: 564 .(17/348)
و الجانب الثاني هو أنه أغفلهم أيضا إغفالا شبه تام تقريبا ، على مستوى علمائهم ، و جماعتهم ،و فكرهم. فكان نادرا ما يذكر بعض علمائهم ، كابن تيمية مثلا ، كان يذكرهم عندما يستدعي سياق الكلام ذلك ، فيكون ذكره لهم عرضيا مُقتضبا (1) . و أما إغفاله لهم كجماعة و طائفة ، فإنه عندما تكلم عن أهل السنة في العصر العباسي قال : (( بل أيضا لدي أهل السنة أنفسهم ، مُعتزلة و أشاعرة )) (2) . و قوله هذا يتضمن ثلاثة أخطاء ، أولها إنه أدخل المعتزلة في أهل السنة ، و هم ليسوا منهم . و ثانيها إنه جعل الأشاعرة من أهل السنة زمن العصر العباسي دون أن يحدده زمنيا ، لأن الأشاعرة لم يكن لهم وجود في العصر العباسي الأول (132-232 ه) ، و لا كان لهم وجود جماعي في عصر الأتراك( 232-322ه) ، و لم يكن لهم نفوذ إلا في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري و ما بعده (3) .
و الخطأ الثاني هو أنه-أي الجابري- لم يذكر أهل الحديث من بين أهل السنة ، رغم أنهم كانوا يمثلون قطب أهل السنة ، في القرن الثاني و الثالث و الرابع للهجرة ، و كان علماؤهم هم أعلام المسلمين كالإمام مالك ، و الليث بن سعد ، و الشافعي ، و أحمد بن حنبل ، و إسحاق بن راهويه ، و البخاري ، و مسلم ، و ابن قتيبة ، و ابن خزيمة ، و الطبري ، و غيهم كثير .
__________
(1) سنفصل ذلك ، و نوثقه قريبا .
(2) العقل السياسي ، ص: 303 .
(3) أنظر كتابنا : الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث ، ص: 13 و ما بعدها .(17/349)
كما أنه أغفلهم كطائفة صاحبة مذهب مُتميز ، فلم يهتم بأصولهم ،و لا بمواقفهم العلمية من قضايا عصرهم ، و أدرجهم- من دون أن يذكرهم- مع الذين سماهم أهل البيان ، عندما ادعى أن جميع المفكرين البيانيين ، كانت تُؤطرهم الرؤية البيانية التي شيدها المتكلمون (1) . و زعمه هذا غير صحيح بالنسبة لأهل الحديث ، فهو لا يصدق عليهم ، لأنهم كانوا معارضين للمعتزلة و أمثالهم منذ البداية ، معارضة عقائدية منهجية ، و ردوا عليهم بمنهج مغاير لمنهجهم ، مغايرة أساسية ، الذي من أسسه : تقديم الشرع على العقل مع عدم إهمال العقل و وضعه في مكانه المناسب . و الاعتماد على الكتاب بلا تأويل صوفي و لا شيعي ، و بلا تأويل كلامي و لا فلسفي ،و فهمهما من داخلهما ،و بما أجمع عليه الصحابة و التابعين . و إثبات كل الصفات الإلهية التي أثبتها الشرع ، بلا تأويل و لا تعطيل ،و بلا تجسيم و لا تشبيه و لا تكييف ،و إنما هو الإثبات و التنزيه . و تبني منهج شرعي عقلي علمي في مسائل العقيدة و المفاهيم و التصورات للرد على مخالفي أهل السنة ، يقوم على : نقد منهج المتكلمين و إبطاله شرعا وعقلا . و الاحتكام إلى منطق العقل و الإيمان في استخدام الأمثلة النظرية و الواقعية في الرد على المخالفين . و إظهار مغالطات كثير المتكلمين في تعاملهم مع الشرع والعقول . و قد طبق هذا المنهج أعلام أهل السنة في القرن الثالث الهجري و ما بعده ، كأحمد بن حنبل في كتابه الرد على الزنادقة ، و البخاري في خلق أفعال العباد و الرد على الجهمية ، و ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ، و الدارمي في الرد على الجهمية ، و الطبري في التبصير في الدين ، و غيرهم كثير (2) .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 549 .
(2) الخلال : السنة ، ط2، دار الراية ، الرياض ، 1415 ، ج 1 ص: 547 ، 559 . و الدارمي : الرد على الجهمية ط2، دار ابن الأثير الكويت ، 1995، ص: 18 ، 22، 33 ، 34، 44 ، 45، 46 ، 47، 67 ، 138، 139 ،153، 154 ، ..و ابن قتيبة : تأويل مختلف الحديث ، ص: 83-84 ، 252 . عبد الله بن أحمد بن حنبل : السنة، ط2، دار الكتب العلمية بيروت، ص: 13 . الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ، ج 7 ص: 64 . ابن خزيمة : كتاب التوحيد، ط6، شركة الرياض، 1418 ، ص: 58، 59، 94 ، 135 ، 257-258 . و الطبري : التبصير في الدين ، ط1، دار العاصمة الرياض ، 1996، ص: 147 ، 212 . و ابن قيم الجوزية : اجتماع الجيوش الإسلامية ، ص: 96، 98 ، 99-100 . البخاري : خلق أفعال العباد ، دار الشهاب ، الجزائر ، دت ، ص: 16 ، 17 . ابن تيمية : درء التعارض ، ج 1 ص: 356 ، ج 2 ص: 163 .(17/350)
فهذه الأسس -و غيرها- شواهد دامغة على أن أهل الحديث منذ القرن الثاني و ما بعده كانوا يمثلون مدرسة فكرية و حركية ، لهم منهج عقدي مّغاير لمنهج المعتزلة و المتأثرين بهم .
و أما بالنسبة لمواقفهم العلمية من قضايا عصرهم ، فإن الجابري أغفلهم أيضا عندما تعرّض لموضوع السببية ، ذكر أن المعتزلة و الأشاعرة ، و أهل السنة قبلهم أنكرو السببية (1) . فلم يذكرهم -أي أهل الحديث- باسمهم ، و أخطأ في تعميم حكمه على السنيين كلهم ، لأن أهل الحديث و السنيين عامة لم ينفوا السببية ، و اثبتوا الحكمة و التعليل، و الأسباب و الطبائع ، و أما الذين نفوها فهم الأشاعرة (2) .
و عندما تطرق لموضوع القضاء و القدر ، و خلق أفعال العباد ، ذكر موقف المعتزلة ، و أهل السنة الذين مثلهم أبو الحسن الأشعري ، فنسب موقفهم إليه (3) ، و أغفل ذكر أهل الحديث ، الذين تميزوا بموقفهم قبل الأشعري و بعده ، و قالوا : إن كل شيء بقدر ، و أن أفعال العباد مخلوقة لله ، و أعمالهم واقعة باختيارهم و إرادتهم ،و هي أفعال حقيقة ، فخالفوا بها المعتزلة و الأشاعرة معا (4) .
__________
(1) بنية العقل العربي ، ص : 205 .
(2) ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 4 ص: 192، ج 8 ص: 467 ، ج 9 ص: 287 . و ابن القيم : شفاء العليل ، ص: 188، 206 .
(3) العقل الأخلاقي العربي ، ص: 83 .
(4) أنظر مثلا : اللالكائي : اعتقاد أهل السنة ، ج 2 ص: 334 ، 535 . و ابن القيم : الصواعق المرسلة ، ج 2 ص: 724 . و ابن أبي العز الحنفي : شرح العقيدة الطحاوية ، ص: 249 ، 436 . وأبو بكر الإسماعيلي : اعتقاد أئمة الحديث ، ص: 60 .(17/351)
و عندما تعرض لمسألة التقبيح و التحسين ، و موقف المعتزلة و الأشاعرة منها ، أغفل موقف أهل الحديث منها (1) . و هم قد قالوا بالتحسين و التقبيح العقليين ، فخالفوا الأشاعرة ،و وافقوا المعتزلة في ذلك (2) .
كما أنه -أي الجابري- أغفل كثيرا من الأعمال العلمية القيمة التي أنجزها علماء أهل الحديث المتأخرين ، في الرد على مخالفيهم ،و لم يُوليها الاهتمام الذي تستحقه . فمن هؤلاء : هبة الله اللالكائي(ت 418ه) ، له كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة .، و أبو نصر السجزي (ت 444ه) له رسالة في الحرف و الصوت ، و أبو الوفاء بن عقيل له كتاب الرد على الأشاعرة العزال ، و الموفق بن قامة المقدسي (ت 620ه) له كتاب مناظرة في القرآن ، و ذم التأويل ، و تقي الدين بن تيمية له كتب كثيرة في مذهب أهل الحديث و أهل السنة و الرد على مخالفيهم منها : منهاج السنة النبوية ، و درء تعارض العقل و النقل ،و الرد على المنطقيين .و منهم أيضا ابن قيم الجوزية ، له كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو الجهمية و المعطلة ، و الصواعق المرسلة على الجهمية و المعطلة (3) ، و كل هذه الكتب التي ذكرناها مطبوعة و متداولة بين أهل العلم .
و أشير هنا إلى أن الشيخ تقي الدين بن تيمية ، هو من أكثر علماء أهل الحديث و الحنابلة من صنف مصنفات كثيرة في نقد المذاهب و الطوائف الإسلامية ، و قد تميزت مؤلفاته بالجدة و الابتكار ، و التوليد و العمق ، و الالتزام بالنقل الصحيح و العقل الصريح ، على منهاج السلف الصالح .
__________
(1) العقل الأخلاقي ، ص: 93، 94، 95 و ما بعدها .
(2) ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 8 ص: 90 . و منهاج السنة ، ج 1 ص: 144 . و ابن القيم : الصواعق المرسلة ، ج 4 ص: 1450 .
(3) عن الكتب التي ذكرناها أنظر : الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث ، ص: 148 و ما بعدها .(17/352)
لكن الجابري لم يهتم بتراث ابن تيمية و لا بفكره إلا نادرا ، و لم يُوليه ما يستحق من اهتمام ، رغم العلاقات القوية بين فكر ابن تيمية،و بين الموضوعات الفكرية التي تطرق إليها الجابري ، فهو في الفصل الثاني من القسم الرابع -من كتابه بنية العقل- الذي خصصه لمشروع إعادة البناء أفرد مساحات واسعة لأعلام مدرسته ، فابن حزم تناول فكره ، من صفحة: 514 إلى 528 ، و ابن رشد من صفحة : 529 إلى 536 ، و الشاطبي من صفحة: 538 إلى 547 ، لكنه لم يُفرد لابن تيمية مكانا كالذي أفرده لهؤلاء ، و إنما خصص صفحة و نصف ليُشير إلى العلاقة الفكرية التي تربط بين ابن حزم و ابن تيمية ، و بين ابن رشد و ابن تيمية (1) .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 536-537 .(17/353)
و في الفصل الثاني عشر من كتابه تكوين العقل العربي ، أفرد لابن حزم 4 صفحات ، و لابن تومرت و ابن باجة لكل منهما 3صفحات ، و لابن رشد 8صفحات ، ولابن تيمية ثلث صفحة ضم 6 أسطر (1) . و عندما تعرّض لموضوع المنطق الأرسطي في كتابه تكوين العقل ، أشار في سطر واحد إلى أن ابن تيمية نقد ذلك المنطق (2) . و عندما تعرض بتوسع لنفس موضوع المنطق الأرسطي ، شرحا و مدحا (3) ، لم يُخصص لعمل ابن تيمية في نقده مكانا ، رغم أهمية ما قام به ابن تيمية في نقض منطق أرسطو . و قد أظهرت دراسات متخصصة أن عمل ابن تيمية للمنطق الصوري ، كان نقدا علميا عميقا شاملا ، لم يُسبق إليه بذلك المنهج ،و بتلك الكيفية (4) . و في الفصل العشرين من كتابه العقل الأخلاقي خصص مطلبا عرض فيه كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي و الرعية ، لابن تيمية ، عرضه في 3 صفحات (5) .
__________
(1) تكوين العقل العربي ، ص: 293- 306، 307-3-9 ، 309-311، 312- 319 ، 322 .
(2) ص: 254 .
(3) بنية العقل ، ص: 415 و ما بعدها .
(4) أنظر : سامي النشار : مناهج البحث عند مفكري الإسلام ،دار النهضة العربية ، بيروت، 1984،ص: 187 و ما بعدها . و محمد حسني الزين: : منطق ابن تيمية ، ط1، المكتب الإسلامي، ، بيروت ، ص:43 و ما بعدها . و محمود يعقوبي : ابن تيمية و المنطق الأرسطي ،أنظر مثلا ص: 35 و ما بعدها. .
(5) ص : 616-618 .(17/354)
و أشير هنا إلى أمرين هامين ، أولهما إن الجابري أغفل انتقادات ابن تيمية الكثيرة التي وجهها لابن حزم و ابن رشد معا ، منها إنه انتقد ابن حزم في عدة مواضع من مؤلفاته (1) .، فانتقده في إنكاره للقياس ، و مبالغته في الأخذ بالظاهر ، و في نفيه لصفات الله تعالى ، و وصفه بأنه من النفاة المُخلطين المضطربين الذين في كلامهم الحق و الباطل . و فضّل مذهب الأشعري على مذهب ابن حزم في مجال الصفات الإلهية (2) .
__________
(1) لكنه مع ذلك كان ابن تيمية يعترف لابن حزم بالصواب و الفضل في المسائل التي يُصيب فيها ، أنظر مثلا : دقائق التفسير ، حققه السيد الجُليند، ط2 ، مؤسسة علوم القرآن ، دمشق ،1404 ، ج 2 ص: 169 . مجموع الفتاوى ، ج 26 ص: 80 ، ج 33 ص: 15 . و درء التعارض ، ج 3 ص: 34 .
(2) أنظر مثلا : مجموع الفتاوى ، ج 26 ص: 80 . و الفتاوى الكبرى ، ج 2 ص: 380 . و درء التعارض ، ج 3 ص: 24 ، 34 ، ج 4 ص: 133 .(17/355)
كما أنه انتقد ابن رشد انتقادا لاذعا في مواضع كثيرة من مصنفاته ، انتقده فيها أكثر مما انتقد ابن حزم . فذكر ابن تيمية أن ابن رشد يميل إلى باطنية الفلاسفة ، و أنه أسوأ من المعتزلة ، في صفات الله تعالى. و أنه من الجهمية نُفاة الصفات ،و في كلامه و أصحابه المشائين خطأ كثير ،و تقصير عظيم ، فيه من التناقض ما لا يُحصى ، و كان يُخفي عكس ما يُظهر ، متذبذبا في مسألتي المعاد و أزلية الكون ، و قد يميل إلى القول بقدمه. و كان فيه تعصب مفرط للفلاسفة بالباطل ، مع عدم معرفته بتحقيق مذاهبهم . و كان دائم التعصب لأرسطو مغاليا في تعظيمه (1) . و هذه الانتقادات كان على الجابري أن يعرضها ، و يتعامل معها بموضوعية ، و لا يسكت عنها ، لأنها انتقادات خطيرة تقوض جانبا كبيرا من مشروع الجابري الذي تُمثّل فيه الرشدية قُطبه .
__________
(1) درء التعارض ، ج 1ص: 85، ج 3 ص: 221 ، 837 ، ج 5 ص: 206 ، ج 9 ص: 197 . و مجموع الفتاوى ، ج 4 ص: 164 ، ج 6 ص: 518 . و مناهج السنة ، ج 1 ص: 356 .(17/356)
و أما الأمر الثاني فيتمثل في أن الجابري أدعى أن ابن تيمية في نضاله استلهم ظاهرية ابن حزم ،و طريقة ابن رشد التي اقترحها في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة (1) . و قوله هذا غير صحيح ، فمع أن ابن تيمية قد استفاد مما كتبه العلماء من قبله ، كالباقلاني ، و القاضي أبي يعلى الفراء ، و ابن حزم ، و ابن رشد ،و ابن الجوزي ، فإن منهجه الفكري يختلف اختلافا كبيرا مع ابن حزم ، و جذريا مع ابن رشد ، لأن منهج ابن تيمية هو منهج أهل الحديث و الحنابلة الذي ذكرناه سابقا،و هو قد صرّح بأنه على ذلك المنهج عشرات المرات في مصنفاته ،و ربما مئات المرات . و هو يُخالف ابن حزم في الصفات و الظاهرية ، و في موقفه من فلسفة أرسطو و منطقه، و قد سبق أن ذكرنا طرفا من انتقاداته له. و أما بينه و بين ابن رشد فلا مجال للمقارنة بين الرجلين منهجا و تفكيرا و سلوكا ،و الانتقادات اللاذعة التي وجهه إليه ،و أشرنا إليها آنفا شاهدة على ما أقول ، و على مدىعمق الهوة بين الرجلين .
__________
(1) تكوين العقل ، ص: 322 .(17/357)
و أشير في هذا المقام إلى أن الجابري لم يكتف بإغفال أهل الحديث كمدرسة مستقلة بفكرها و رجالاتها و تراثها، و إنما ألحقهم أيضا بالذين سماهم البيانيين ، و عمم عليهم أحكامه التي أصدرها عليهم . لذا وجدناه يقول بأن ابن تيمية ناضل من أجل البيان باسم المذهب الحنبلي (1) . و قوله غير صحيح ، لأن ابن تيمية و أهل الحديث لم يجاهدوا من أجل ذلك البيان ،و إنما جاهدوا من أجل نظام آخر ، كان الجابري قد أغفله عندما ألحقه باليان ،و الحقيقة أنهم جاهدوا من أجل نظام الوحي ، الذي هو نظام الكتاب و السنة الصحيحة ، و لم يُجاهدوا من أجل ذلك البيان المزعوم ، و كيف يُجاهدون من أجله ؟ ، و هم قد خاضوا صراعا طويلا متعدد الجبهات في مقاومة العناصر التي قال الجابري أنها كانت تُمثل نظام البيان و العرفان و البرهان ، إنهم قاوموا المعتزلة ، و الشيعة ، و الصوفية ، و الأشاعرة ، و الفلاسفة ، من أجل نظام الوحي ، القائم على الكتاب و السنة الصحيحة الموافقة له (2) .
و أما لماذا أغفل الجابري مدرسة أهل الحديث كمدرسة فاعلة مستقلة بذاتها و رجالاتها و تراثها ، فيبدو لي أنه فعل ذلك لأمرين هامين ، أولهما إن مدرسة أهل الحديث كانت تمثل نظاما رابعا مغايرا للنظم الثلاثة التي ذكرها ، و استقلاليتها هذه تُفسد عليه حساباته المذهبية المبيتة سلفا .
__________
(1) نفسه ، ص: 322 .
(2) للتوسع في الإطلاع على ما قام به أهل الحديث في الانتصار لمذهبهم و مقاومة معارضيهم أنظر مثلا كتابينا : صفحات من تاريخ أهل السنة و الجماعة ببغداد . و و الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث .(17/358)
و ثانيهما إن الخصائص الإيجابية التي نسبها الجابري إلى المدرسة المغربية الأندلسية و افتخر بها ، هي في الأصل خصائص موجودة أصلا في مدرسة أهل الحديث ، التي تتصف بتلك الخصائص و بأكثر منها، كقولهم بالتقبيح و التحسين العقليين ، و إثباتهم للسببية و الحكمة و التعليل ، و قولهم بحرية الإنسان و مسؤوليته عن أفعاله في إطار إثبات القضاء و القدر ، و قولهم بالاستقراء كمنهج للبحث العلمي ، و جمعهم بين النقل الصحيح و العقل الصريح ، و دعوتهم إلى الاجتهاد و نبذ التقليد المذهبي (1) . فهذه الخصائص- وغيرها- التي تتميز بها مدرسة أهل الحديث ، لو اعترف بها الجابري فإنها ستنقض عليه مشروعه الفكري الذي ادعى أن مدرسته المغربية الأندلسية انفردت بها ، و الله تعالى أعلم بالصواب .
و ختاما لهذا الفصل-أي الثاني- يتبن مما ذكرناه ، أن الباحثيّن محمد أركون و محمد عابد الجابري قد وقعا في أخطاء منهجية كثيرة تتعلق بنظرتيهما و موقفيهما من قضايا تتعلق بالقرآن الكريم و الشريعة و الققه ، و علم الكلام و أصول الدين ، و الفلسفة و ما يتصل بها ، و قد ذكرنا على ذلك أمثلة كثيرة جدا . تبين منها أنها لم تكن أخطاء في المعلومات فقط ، و إنما كانت أخطاء منهجية في الأساس ، ذات خلفيات مذهبية متعصبة في معظمها ، أوقعت الرجلين في أخطاء فادحة .
الفصل الثالث
الأخطاء التاريخية المتعلقة بالقرآن و الشريعة و علوم أخرى
أولا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالقرآن الكريم .
ثانيا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالشريعة و السنة و السيرة .
ثالثا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بنشأة الثقافة و العلوم و تطورها .
...................................................................................
الفصل الثالث
الأخطاء التاريخية المتعلقة بالقرآن و الشريعة و علوم أخرى
__________
(1) سبق توثيق ذلك .(17/359)
و قع الباحثان محمد أركون و محمد عابد الجابري ، في أخطاء تاريخية كثيرة ، تتعلق بالقرآن و الشريعة ،و السنة و السيرة النبويتين ، ونشأة الثقافة و العلوم و تطورها خلال العصر الإسلامي ، كان فيها أركون أكثر خطأ و خطرا من الجابري .
أولا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالقرآن الكريم :
لقد عثرتُ على أخطاء تاريخية كثيرة تتعلق بالقرآن الكريم ، وقع فيها محمد أركون ، ليس من بينها ما يخص الجابري (1) ، لذا سنفرد مبحثنا هذا لأخطاء أركون ، التي منها قوله : (( صحيح أن النبي كان قد أمر بكتابة بعض الآيات في حياته )) (2) . و زعم أيضا : إنه يطيب (( للتراث المنقول أن يذكر أنه في حالات معينة ، فإن بعض السور قد سُجل كتابة فورا على جلود الحيوانات ، و أوراق النخيل ، أو العظام المسطحة )) (3) .
__________
(1) إلا خطأ واحدا يتعلق بتاريخ القرآن وافق فيه أركون ، سنذكره لا حقا من هذا المبحث ، إن شاء الله تعالى .
(2) الفكر الإسلامي ، ص: 190 .
(3) تاريخية الفكر ، ص: 288 .(17/360)
و قوله هذا زعم باطل مردود عليه ، و افتراء مُتعمد لا دليل له فيه ، تنقضه الشواهد التاريخية الصحيحة و الضعيفة معا ، أولها من القرآن الكريم ، و مفاده أن الله تعالى يقول: -{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} - سورة الحجر/9- ، فالله تعالى تكفل بحفظ كتابه ، و من مظاهر ذلك ، حفظه في الصدور و تدوينه في الكتب . كما أنه سبحانه كثيرا ما وصف القرآن الكريم بأنه كتاب ، كقوله : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} - سورة البقرة/2-، و{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } - سورة المائد/48- ، و ليكون القرآن كتابا كما وصفه الله تعالى لابد أن يُدون في كتاب . و بما أن الله تعالى وصف كتابه بأنه (( كتاب أُحكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير))-سورة هود1-، و-{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} - سورة فصلت/42- ، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } - سورة المائد/48- ، فهذا يستلزم أنه ليكون محكما لا يأتيه الباطل أبدا ، فلابد أن يكون محفوظا في الصدور و مدونا و مرتبا في السطور . و بصفة عامة فإن الحفظ الكامل للقرآن الكريم الذي تولاه الله تعالى بنفسه ، لا يتم في الواقع حقيقة ، و بطريقة صحيحة كاملة مأمونة كما وعد الله تعالى ، إلا بحفظه في الصدور و تدوينه في الكتب ، و بما أن الله تولى ذلك و وعده الحق ، فهذا يعني بالضرورة أن القرآن الكريم قد حُفظ و دُوّن بالفعل وفق الطريقة التي ذكرناها ، ولله الحمد.(17/361)
و الشاهد الثاني يتمثل في حرص رسول الله-عليه الصلاة و السلام- على تدوين الوحي و التزامه به ، فقد صح الحديث أن الصحابي زيد بن ثابت كاتب الوحي-رضي الله عنه- قال : (( كنتُ جار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فكان إذا نزل الوحي أرسل إليّ فكتبتُ الوحي)) (1) . فهذا شاهد حديثي تاريخي صحيح على أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان حريصا ملتزما بتدوين القرآن الكريم كلما نزل عليه ، و ليس كما زعم أركون بأن النبي كان قد أمر بكتابة بعض الآيات .
و الشاهد الثالث مفاده أنه صحّ الحبر بأن كاتب الوحي الصحابي زيد بن ثابت قال : (( كنا عند رسول الله نُؤلف القرآن من الرقاع...)) (2) . فهذا يعني أن القرآن كان مكتوبا بين أيديهم في الأوراق و القراطيس و الجلود، و كان الصحابة يُرتبون سُوره و آياته (3) . و واضح أيضا أن الصحابي يقصد القرآن كله و ليس بعضه ، لأنه لم يقل : كنا نؤلف بعض القرآن ، أو آيات و سور منه ، و إنما قال : كنا نؤلف القرآن . كما أنه لا معنى من القيام بذلك العمل من أجل ترتيب بعض القرآن ، و ليس كله . و بما أنه قال :كنا نُؤلف- أي نُرتب- القرآن من الرقاع ، فهذا يعني بالضرورة أن القرآن كان مكتوبا مّدونا بين أيديهم .
__________
(1) الحديث صححه الهيثمي في مجمع الزوائد ، ج 8 ص: 578 . ابن أبي داود : المصاحف ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1995 ، ص: 3 .
(2) أحمد بن حنبل : المستند ، ج 5 ص: 184 . و الحاكم : المستدرك على الصحيحين ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1990 ، ج 2 ص: 249 . و الألباني : صحيح الترمذي ، ج 3 ص: 254 ، رقم : 3099 .
(3) ابن حجر : فتح الباري ، دار المعرفة ، بيروت ، 1379 ، ج 9 ص: 11 .(17/362)
و أما الشاهد الرابع فمفاده أنه صحّ الخبر أن الصحابي عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- قال : (( كانت المصاحف لا تُباع ، كان الرجل يأتي بورقه عند النبي-صلى الله عليه وسلم- فيقوم الرجل فيحتسب فيكتب ، ثم يقوم آخر فيكتب، حتى يفرغ من المصحف)) (1) . فهذه الرواية تُثبت أن القرآن الكريم كان مكتوبا كله -أي الذي نزل- ، و أن الصحابة كانوا حريصين على تدوينه ، و أن المصاحف كانت منتشرة بينهم .
و الشاهد الخامس مفاده أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه- قال : كان مما يأتي عليه الزمان أنه عليه الصلاة و السلام كانت تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا من كان يكتب ، فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السور التي تذكر كذا و كذا )) (2) . فالحديث شاهد على حرص رسول الله على كتابة القرآن و وضع آياته في مكانها المناسب .
__________
(1) الحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى ، ج6 ص: 16 . و رجال الحديث هم : محمد بن عبد الله بن بزيع ، و الفصل بن العلاء البصري ، و جعفر الصادق ، و والده محمد الباقر ، و علي بن الحسين زين العابدين ، و ابن عباس . و هؤلاء كلهم ثقات ، فالإسناد صحيح ، و عن الثلاثة الأولين أنظر : ابن حجر : تهذيب التهذيب ، ط1، دار الفكر ، بيروت ، 1984، ج 1 ص: 486 . و أبو الحجاج المزي : تهذيب الكمال ، ط1 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1980 ، ، ج 23 ص: 243 . و أما الباقون فهم ثقات معرفون .
(2) الحديث صححه الترمذي ، السنن ، ج 5 ص: 372 ، رقم : 3086 .(17/363)
و الشاهد السادس يتمثل في حديث صحيح بقول فيه النبي -عليه الصلاة و السلام- : (( لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن ،و من كتب عني غير القرآن فليمحه )) (1) . فهذا الحديث يتضمن اعترافا بأن القرآن كان مكتوبا ، و فيه أمر من النبي-عليه الصلاة و السلام- بكتابة القرآن ، و حرص منه على الالتزام بكتابته ،و الإشراف عليه و متابعته. كما أنه -عليه الصلاة و السلام- لم يقل بعض القرآن ، و إنما قال القرآن مطلقا .
و أما الشاهد السابع فيتعلق باهتمام النبي-صلى الله عليه وسلم- بكتابة القرآن و حرصه عليه ، منذ العهد المكي و ما بعده ، و الأمثلة الآتية تُثبت ذلك . أولها إنه كان لرسول الله كُتاب وحي في العهد المكي ، مهم : عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، و أبو بكر الصديق، و عمر بن الخطاب ، و عثمان بن عفان-رضي الله عنهم (2) . فلو لم يكن رسول الله يُدون القرآن و يحرص على تدوينه ، ما اتخذ كُتابا للوحي منذ العهد المكي - مرحلة الضعف و المحنة- ، و لاكتفى بحفظه في الصدور ، و بما أنه لم يكتف بذلك و اتخذ كتابا للوحي دل ذلك على أنه كان يُدون القرآن و حريصا على تدوينه منذ المرحلة المكية .
و المثال الثاني يتمثل في حادثة إسلام عمر بن الخطاب ، فإنه وجد صحيفة عند أخته مكتوبا فيها بعض سور القرآن الكريم ، فقرأها و كانت سببا في إسلامه (3) . فهذه الحادثة تُشير إلى أن القرآن كان يُكتب منذ العهد المكي ، وأن الصحابة الأوائل كانوا يهتمون بذلك .
__________
(1) مسلم : الصحيح ، ج 4 ص: 2298 ، رقم : 3004 .
(2) ابن حجر : فتح البارئ ، ج 9 ص: 22 . و ابن كثير : البداية ، ج 5 ص: 339، 340 .
(3) ابن سعد : الطبقات الكبرى ، دار صادر ، بيروت ، ج 3 ص: 267 .(17/364)
و المثال الثالث يتمثل في أن رسول الله-عليه الصلاة و السلام- عندما هاجر إلى المدينة مع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ، أخذ معه أدوات الكتابة ، من قلم و رقاع ، و عندما أدركهم سراقة بن مالك في مطاردته لهما ، و أراد سراقة الرجوع ، سال رسول الله بأن يكتب له كتابا ، فأمر النبي عامر بن فهيرة بأن يكتب له ذلك ، فكتب له ما أراد (1) . فهذه الحادثة دليل على أن رسول الله كان حريصا على تدوين القرآن عند نزوله ، حتى و إن كان مهاجرا فارا بدينه من الكفار ، لأنه لم يحمل معه أدوات الكتابة إلا ليدون القرآن في أي مكان نزل عليه .
و المثال الثالث يتمثل في أن الصحابي رافع بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه- ، عندما لقي رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بالعقبة أعطاه ما أُنزل عليه من القرآن في العشر سنين التي خلت ، فقدم به رافع إلى المدينة (2) . فهذا الخبر شاهد على أن القرآن الذي كان قد نزل على رسول الله ، كان مكتوبا ، لأنه لو لم يكن مُدونا فلا معنى أن يُعطيه له الرسول ليأخذه معه إلى المدينة ، و ما ذا يُعطيه ، و المحفوظ لا يُعطى ؟ ، كما أن رافعا ليس في مقدوره أن يحفظ القرآن كله في مدة بيعة العقبة القصيرة . و لماذا يُتعب نفسه لحفظه في هذه المدية القصيرة ، و رسول الله و الصحابة الأوائل يحفظونه ،و هم سيُهاجرون إلى المدينة قريبا ؟ ، فكان يكفيه حفظ بعض السور أو كتابتها و يأخذها معه ريثما يأتي هؤلاء . و بناء على ذلك فإن معنى : أعطاه ما أُزل عليه ، هو أن النبي -عليه الصلاة و السلام- أعطاه كل ما أُنزل عليه من القرآن مكتوبا مُدونا .
__________
(1) البخاري: الصحيح ، ج 12 ص: 249 ، رقم : 3616
(2) ابن حجر : الإصابة في معرفة الصحابة ، ط1 ، دار الجيل ، بيروت ، 1412 ، ج 2 ص: 444 .(17/365)
و المثال الأخير-أي الرابع- مفاده أنه لما جُمع القرآن كله في بداية عهد أبي بكر الصديق ، من الرقاع و القراطيس و العظام ، لم يحدث أي إشكال فيما يخص القرآن المكي (1) . مما يعني أنه كان مكتوبا منذ المرحلة المكية ، أو أنه دُون من جديد أيضا ، أو أن الأمرين حدثا معا .
و أما الشاهد الثامن فمفاده أنه لما جُمع القرآن في بداية خلافة أبي بكر-رضي الله عنه- ، جُمع كله اعتمادا على المحفوظ و المكتوب معا ، و لم يحدث أي نقص في القرآن المُدون (2) . الأمر الذي يعني أنه لما تُوفي الرسول-عليه الصلاة و السلام- ترك القرآن كله مكتوبا محفوظا .
و الشاهد التاسع يتمثل في أنه لا يُوجد في أمهات كتب الحديث و القرآن و التاريخ (3) دليل يُناقض ما ذكرناه ، يقول بأن رسول الله-عليه الصلاة و السلام- كان يكتب بعض القرآن و يترك بعضه ، على ما ادعاه أركون ، و نحن نتحداه بأن يأتي لنا بدليل مُعتبر يُؤيد ما ادعاه .
__________
(1) سيأتي توثيق ذلك لاحقا .
(2) سنوثق ذلك قريبا .
(3) المقصود كتب أهل السنة المعتبرة ، التي أطلعت عليه ، و هي كثيرة جدا .(17/366)
و الشاهد العاشر يتمثل في كثرة كُتاب الوحي ، فقد اتخذ النبي-عليه الصلاة و السلام- كُتابا كثيرين ليكتبوا له الوحي ، أشهرهم : زيد بن ثابت ، و أُبي بن كعب ، و الخلفاء الأربعة ، و أبان بن سعيد بن العاص ، و عثمان بن خالد بن سعيد ، و عبد الله بن الأرقم ، و عبد الله بن رواحة ، و قد قُدر عددهم الإجمالي بأربعين كاتبا (1) . فهذا العدد الكبير دليل قاطع على حرص رسول الله على تدوين القرآن كله ، فعندما يغيب واحد أو بعضهم يخلفهم الحاضرون ، و لو لم يكن حريصا لاتخذ واحدا أو اثنين أو حتى ستة ، و بما أنه اتخذ ذلك العدد الكبير من كتاب الوحي دل على أن عملية التدوين كانت مُنظمة ، و شاملة للقرآن كله ،و أن عملية النسخ عن الأصل كانت جارية يُمارسها كُتاب الوحي ، و غيرهم ،و الشاهد الرابع الذي سبق ذكره يُؤيد ما قلناه هنا .
و أما الشاهد الأخير-أي الحادي عشر- فيتمثل في كثرة الصحابة القراء الذين تخصصوا في قراءة القرآن و حفظه ،و فهمه و مدارسته، فقد كان عددهم كبيرا ، بدليل أنه قُتل منهم في حادثة بئر معونة زمن النبي : 70 رجلا من القراء . و قُتل منهم في معركة اليمامة سنة 11 هجرية ، نحو 500 رجل (2) .و هذا العد الكبير من القراء يخص الذين استشهدوا ، و لا يخص الأحياء ، و هم كلهم تكونوا زمن رسول الله -عليه الصلاة و السلام - ، مما يدل على أن النبي كون عددا كبيرا من المختصين في القرآن حفظا و فهما و تدريسا ، و هذه العملية تستلزم وجود القرآن كله مكتوبا مدونا في مصاحف كثيرة جدا ، للقيام بعملية التحفيظ و الإقراء و المدارسة .
__________
(1) ابن كثير : البداية ، ج 5 ص: 339 ، و ما بعدها . و ابن حجر : الفتح ، ج 9 ص: 22 . و صبحي الصالح : مباحث في علوم القرآن ، ص: 69 .
(2) ابن كثير : فضائل القرآن ، ص: 32 . و البخاري: الصحيح ، ج 4 ص: 1500 ، 1720 .(17/367)
و بذلك يتبن مما ذكرناه أن ما ادعاه أركون زعم باطل مردود عليه ، لم يكن له فيه دليل من العقل،و لا من التاريخ ، و افترى على المصادر عندما زعم أنها ذكرت أنه في حالات معينة كُتبت بعض السور عند نزولها . فهذا افتراء على القرآن و الحديث و التاريخ ،و ليس لأركون فيما ادعاه إلا و الظن و الهوى ،و الشواهد التي ذكرناها هي أدلة قاطعة على بطلان زعمه .
و أما الخطأ الثاني فيتعلق بجمع القرآن زمن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- ، زعم فيه أركون أن أبا بكر فكّر بتجميع (( أكبر عدد من السور و كتابتها من أجل حفظها ،و تم بذلك تشكيل أول مصحف في حالته البدائية )) (1) .
و قوله هذا زعم باطل و افتراء على الشرع و التاريخ معا ، فليس أبو بكر هو الذي فكر في تجميع بعض القرآن بلا سبب . و هو لم يفكر في تجميع أكبر عدد من القرآن ، و إنما أمر بجمع القرآن كله ، و هو لم يأمر بكتابة بعض القرآن ،و إنما أمر بجمعه كله ، لأنه كان مكتوبا كله زمن النبي . و ليس هو أول من شكل مصحفا للقرآن ، لأن المصاحف كانت منتشرة بين الصحابة كما سبق أن ذكرناه ، و إنما هو أول من شكل مصحفا كاملا مجموعا من النسخ القرآنية الأصلية التي دُونت بين يدي رسول الله عليه الصلاة و السلام - . فأركون مُخطئ و واهم فيما ادعاه ، و الدليل على ما قلته المعطيات الآتية :
__________
(1) تاريخية الفكر العربي ، ص : 288 .(17/368)
إنه لما قتل كثير من القراء في معركة اليمامة سنة 11هجرية ، اقترح عمر بن الخطاب على أبي بكر -رضي الله عنهما- ، أن يجمع القرآن خشية أن يضيع كثير منه ، بذهاب القراء ، فمزال به حتى أقنعه بذلك ، ثم أقنع هو أيضا زيد بن ثابت بأهمية ذلك العمل ، و قال له : (( فتتبع القرآن فاجمعه )) (1) ، فلم يقل له : اجمع بعض القرآن ، كما زعم أركون . و إنما أمره بجمع كل القرآن ، فقام زيد و تتبع جميع القرآن ، من الرقاع و الأكتاف ، و صدور الرجال ، فجمعه كله إلا آيتين افتقداهما ، كان يحفظهما و يسمعهما من رسول الله ، فوجدهما عند الصحابي خزيمة الأنصاري ، فألحقهما بالقرآن المجموع ، و الآياتان هما : -{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} - سورة التوبة/128- ، ثم سلّم المصحف إلي أبي بكر ، فبقي عنده ، ثم انتقل إلى عمر بن الخطاب فبقي عنده ، فلما استشهد انتقل المصحف إلى ابنته حفصة أم المؤمنين-رضي الله عنها- (2) .
__________
(1) البخاري : الصحيح ، ج 4 ص: 1720 ، رقم : 4402 .
(2) نفسه ، ج 4 ص: 1720 . و مسلم الصحيح ، ج 4 ص: 1914 ، رقم : 2465 .(17/369)
و قد جمع زيد بن ثابت القرآن كله معتمدا على المكتوب و المحفوظ معا ، حتى أنه عندما افتقد آيتين من سورة الأحزاب -و كان يحفظ القرآن كله- كان يسمعهما من رسول الله ، لم يكتبهما حتى وجدهما عند خزيمة بن ثابت الأنصاري ، و ألحقهما بسورتهما في المصحف (1) . و هذا يعني أنه وجدهما مكتوبتين و ليس محفوظتين ، لأنه هو نفسه كان يحفظ القرآن كله (2) ، و هو شيخ القراء و كُتاب الوحي ،و قال أنه افتقدهما ،و كان يسمعهما من النبي-عليه الصلاة و السلام- ، فلم يقل أنه لا يعرفهما و لا يحفظهما، و إنما قال افتقدهما ، مما يعني أنه افتقدهما مكتوبتين ، فلما وجدهما مكتوبتين عند خزيمة الأنصاري ، أخذهما ، فهو افتقدهما مكتوبتين لا محفوظتين ، فلما وجدهما مكتوبتين ألحقهما بالمصحف الإمام (3) .
و مما يؤكد ذلك و يزيده إثباتا ، أنه قد صحّ الخبر عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- إنه قال : (( أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر ، إن أبا بكر أول من جمع القرآن بين اللوحين )) (4) .فهذه شهادة منه لأبي بكر بأنه جمع القرآن كله ، لأنه قال : جمع القرآن ، و لم يقل بعضه ، فقوله عام يشمل كل القرآن الكريم .
__________
(1) البخاري : المصدر السابق ، ج 4 ص: 1488 ، رقم : 3823 ، 1720 ، رقم : 4402 .
(2) نفس المصدر ، ج3 ص: 1386 ، رقم : 3599 . و مسلم : المصدر السابق ، ج 4 ص: 1914 ، رقم : 2465 .
(3) البخاري: نفس المصدر ، ج 4 ص: 1720 . و ابن حجر : الفتح ، ج 9 ص: 14 .
(4) ابن كثير : فضائل القرآن ، ص: 32 .(17/370)
ثم لما جمع زيد-رضي الله عنه- القرآن كله كتبه في أوراق على شكل كتاب و ربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء (1) . فعملية جمع القرآن تمت بطريقة مُنظمة و مُتقنة ، و لم تتم كما زعم أركون بأن زيد بن ثابت جمعه بطريقة بدائية ، لأن تلك الطريقة هي أحسن ما كان معروفا عندهم ، و وصف أركون لها بأنها بدائية أراد منها الطعن في العملية برمتها ، علما بأن المهم في العملية هو الحرص و الدقة في التدوين و التنظيم ، و ليس التزيين و نوعية المادة .
و يُلاحظ على عملية جمع القرآن أمور هامة جدا يجب أن لا تغيب عنا ، منها إن عملية الجمع تمت بإجماع من الصحابة كلهم ، فلم تحدث أية معارضة ، و لا احتجاج ، و لا استدراك على ما جمعه زيد بن ثابت . كما أنها تمت بأمر من خليفة المسلمين ، و تحت رعايته و إشرافه ،و قد خصص لها صحابيا جليلا متخصصا في القرآن الكريم رسما و حفظا و إقراء و خبرة ، هو زيد بن ثابت - رضي الله عنه- ، المشهود له بالكفاءة و الصلاح .
و منها أيضا أنها تمت بعد وفاة رسول الله -عليه الصلاة و السلام- بمدة قصيرة ، في نفس السنة التي تُوفي فيها سنة 11 هجرية . في ظل وحدة الأمة و تماسكها و التفافها حول الخليفة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه- .
__________
(1) ابن حجر : الفتح ، ج 9 ص: 16 . و السيوطي : الإتقان في علوم القرآن ، ج 1 ص: 164 . و صبحي الصالح : مباحث في علوم القرآن ، ص: 74 .(17/371)
فالرسول -عليه الصلاة و السلام- ترك القرآن كله محفوظا في الصدور ، و مكتوبا في السطور ، و مجموعا عند كثير من أصحابة في مصاحف خاصة بهم . لكنه لم يتركه مجموعا كاملا في كتاب واحد عنده ، اعتمادا على النُسخ الأصلية التي كتبت بين يديه ، و هي عملية ليست صعبة و لا مكلفة ، فكانت تكفي منه كلمة واحدة لجمعه ، فيُجمع في طرفة عين ، لكنه لم يأمر بذلك ! . فلماذا إذاً فعل الصعب و ترك السهل ؟ ، و لماذا لم يأمر بجمعه في كتاب واحد يبقى عنده ؟ . لا شك أن رسول الله لم يترك ذلك نسيانا و لا إهمالا ، وإنما يبدو أنه فعل ذلك لجملة أمور ، منها إن الحاجة في زمانه لم تكن داعية إلى جمعه كله في كتاب واحد . و إنه عليه الصلاة و السلام لم يكن متخوفا على القرآن من الضياع ، لأن الله تعالى تكفل بحفظه ، و لأنه -أي الرسول- كان يعلم أنه تركه محفوظا مكتوبا عند صحابته الكرام الأمناء الأوفياء الذين شهد لهم الله و رسوله بالإيمان و العمل الصالح .
و منها أيضا يبدو أن الله تعالى أراد أن يُكرم صحابة رسول الله -عليه الصلاة و السلام - بأن يُشركهم في حفظ كتابه بعد وفاة رسوله ، رفعا لمكانتهم ،و تعبيرا عن رضاه عنهم ، و إبرازا لمكانتهم في حفظ الدين ، و الله تعالى أعلم بالصواب .
و أما الخطأ الثالث فيتعلق بما قام به عثمان-رضي الله عنه- في توحيد المصحف الشريف ، فقد زعم أركون أن عثمان اتخذ (( قرارا نهائيا بتجميع مُختلف الأجزاء المكتوبة سابقا ،و الشهادات الشفوية التي أمكن التقاطها من أفواه الصحابة الأول ))، فأدى ذلك إلى تشكيل نص متكامل فُرض نهائيا بأنه المصحف الحقيقي لكل كلام الله (1) .
__________
(1) تاريخية الفكر العربي ، ص: 288 .(17/372)
و قوله هذا زعم باطل مردود عليه ، و فيه افتراء مُتعمد لا دليل له عليه من التاريخ و لا من الاستنتاج العقلي، لأنه أولا كان عليه أن يُوثق زعمه ، و هذا لم يفعله . و كان عليه أيضا أن يذكر الروايات الصحيحة (1) في هذا الموضوع ، فعثمان عندما قرر توحيد المصحف لم يكن ذلك عملا فرديا و بلا سبب ، و إنما هو فَعل ذلك عندما حدث خلاف بين المسلمين في القراءات و الحروف ، جاء حذيفة بن اليمان-رضي الله عنه- إلى عثمان و أخبره بما حدث من خلاف بين المسلمين حول القرآن عندما شهد فتح أرمينيا سنة 25 هجرية ، و طلب منه الإسراع لوضع حل قبل أن يختلف المسلمون في الكتاب اختلاف اليهود و النصارى . فجمع عثمان الصحابة الذين كانوا بالمدينة ، و طرح عليهم المشكلة ، و تشاور معهم فيها ، و اقترح عليهم بأن يجمع الناس على مصحف واحد ، فلا تكون فرقة و لا اختلاف ، فوافقوه و قالوا له : نِعم ما رأيت (2) .
__________
(1) كل الروايات التي سنذكرها حول توحيد عثمان المصحف و ما يتعلق بها ، هي روايات صحيحة الأسانيد ، بناء على ما ذكره مؤلفو الكتب التي سأذكرها .
(2) البخاري : الصحيح ، ج 4 ص: 1908 ، رقم : 4702 . و ابن حجر : الفتح ، ج 9 ص: 18 . و السيوطي : الإتقان ، ج 1 ص: 165-166 .(17/373)
فكوّن عثمان لجنة لتوحيد المصحف بموافقة من الصحابة ، فكان على رأسها : زيد بن ثابت ، و سعيد بن العاص ، و عبد الله بن الزبير ، و الحارث بن هشام- رضي الله عنهم- ، ثم أرسل عثمان-رضي الله عنه- إلى حفصة أم المؤمنين طلب منها أن تُرسل إليه المصحف الإمام لينسخوا منه ثم يرده إليها ، فأرسلته إليه ، فنسخوه في المصاحف و ردوه إليها . ثم أمر عثمان بإرسال المصاحف المنسوخة إلى الأقاليم ،و أمر بإحراق كل ما عداها من المصاحف الأخرى ، فوجد عمله هذا قبولا و إعجابا و ارتياحا ، عند المسلمين ، و اثنوا عليه و لم ينكروا فعله . و كان علي -رضي الله عنه- يقول عن حرق عثمان للمصاحف: (( لو لم يصنعه عثمان لصنعته ))، و قال أيضا عن عثمان : (( فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعا )) (1) .
و بذلك يتبين أن ما قام به عثمان كان قرارا جماعيا ولم يكن فرديا ، و أن عمله في الصحف كان توحيدا للمصحف و ليس جمعا له ، فلم تحدث أية عملية جمع جديدة من المكتوب و لا من المحفوظ ، لأن القرآن كان مجموعا كله مُسبقا في المصحف الإمام ، ثم نُسخت منه المصاحف التي أُرسلت إلى الأقاليم ، فكانت هذه المصاحف منسوخة نسخا كاملا من المصحف الإمام الذي أُرجع إلى حفصة ، و لم تحدث فيها أية زيادة و لا نقصان . الأمر الذي يثبت قطعا أن أركون لم يكن موضوعيا عندما زعم أن عثمان قام بتجميع مختلف الأجزاء المكتوبة سابقا ،و الشهادات الشفوية التي أمكن التقاطها من أفواه الصحابة الأولين . فزعمه هذا كله باطل ، تنقضه الروايات الصحيحة التي ذكرناها . و نحن نتحداه مرة أخرى بأن يأتي لنا بروايات تاريخية صحيحة تثبت مزاعمه و أوهامه .
__________
(1) البخاري : الصحيح ، ج 3 ص: 1291 ، ج 4 ص: 1906 . ابن كثير : فضائل القرآن ، ص: 39 و ما بعدها . ابن حجر : الفتح ، ج 9 ص: 18 . السيوطي : الإتقان ، ج 1 ص: 165 ، 166 . ابن أبي داود : المصاحف ، ص: 15 .(17/374)
و ثالثا إن زعمه بأن هناك (( مُشكلة صحة النص المُشكل في ظل الخليفة عثمان ، و النقد التاريخي الخاص به )) (1) . هو زعم باطل لم يذكر دليلا على صدقه ،و تنقضه الحقائق التاريخية التي ذكرناها سابقا ، التي بينت أنه لم تحدث فيها أية مشكلة تتعلق بصحة النص ، فقد تمت بإجماع من الصحابة و بموافقة منهم . فأركون يتعمد إثارة الشكوك الشبهات، و يتعلق بالأوهام و الظنون من دون دليل صحيح .
كما أن قوله بأن المصحف استغرق 25 سنة بعد وفاة النبي لكي اكتمل زمن عثمان (2) . فهو غير صحيح ، لأن المصحف اُكتمل متنا و حفظا و تدوينا-من دون جمع- ، زمن رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ، فعندما توفي تركه كاملا ، من دون جمع ، فجمعه أبو بكر ، و وحده عثمان (3) -رضي الله عنهما- ، فالجمع الذي حدث زمن أبي بكر ، و التوحيد الذي تم زمن عثمان ، لم يكن لهما أي تأثير في محتوى القرآن و متنه ، من حيث الزيادة و النقصان . فالذي حدث هو أمر شكلي خارجي تنظيمي توثيقي يصب في خدمة النص و الحفاظ عليه ،و لم يكن له أي تأثير سلبي على محتوى النص ، لكن أركون يُغمض عينيه عن الحقيقة ،و يسعى لتحويل الإيجابيات إلى سلبيات ليطعن في القرآن ،و يُذهب عنه خصائصه الإيجابية التوثيقية التي يمتازبها عن الكتب المقدسة المحرفة .
كما أن التاريخ الذي حدده لاكتمال النص-حسب زعمه- ،و هو 25 سنة ، هو تاريخ غير صحيح ، لأن النبي-عليه الصلاة و السلام- توفي سنة 11 هجرية ، و عثمان شرع في توحيد المصحف سنة 25 للهجرة ، فيكون الفارق الزمني 14 سنة و ليس 25 سنة .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 125 .
(2) تاريخية الفكر ، ص: 288 .
(3) سبق توثيق ذلك .(17/375)
و أخطأ أيضا عندما قال : إن بعد موت النبي ببضع سنوات (( راح عثمان يُشكل نسخة رسمية للوحي- المصحف- )) (1) . فهذا خطأ واضح ، فيه إغفال لما ما قام به أبو بكر الصديق ، و فيه خطأ في استخدام عبارة : بضع ، لأن البضع في اللغة العربية هو العدد ما بين : 3-9 (2) ، و عليه فإن عثمان يكون قد شكّل المصحف حسب زعم أركون ما بين 3 إلى 9 سنوات من وفاة الرسول-عليه الصلاة و السلام- ، و هذا كلام غير صحيح تماما ، لأن عثمان شرع في توحيد المصحف بعد 14 سنة من وفاة رسول الله، و ليس بعد3 أو 9 سنوات من وفاته .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 190 .
(2) مختار الصحاح ، ص: 43 .(17/376)
و أما قوله بأن الوثائق التي تُفيد في عمل تاريخ نقدي للنص القرآني قد دُمرت باسمرار (1) . فهو قول مبالغ فيه جدا ، و فيه خطأ كبير ، لأنه لا توجد أية وثائق ذات قيمة إلا المصاحف التي أمر عثمان بإحراقها ، و هذه المصاحف التي أمر بإحراقها كانت للصحابة ، و لا تختلف مطلقا عن المصحف الإمام في محتواها ، لأن مصدرها واحد هو رسول الله -صلى الله عليه و سلم- ، فأخذوا عنه القرآن حفظا و كتابة و قراءة . و إنما الذي كان حادثا هو أن بعض الصحابة كانت لهم شروح لبعض الآيات كتبوها في مصاحفهم للشرح فقط ، و ليس إدخالا لها في متن القرآن لأنه كان محفوظا مُميزا لديهم لا يختلط عليهم ، كما أنه حدثت اختلافات بين المسلمين في القراءات من حيث الشكل و التنقيط و النطق (2) ، مما استدعي تدخل الخليفة عثمان لوضح حل للمشكل ، فوحد المصحف رسما و قراءة ، و قد وافقه على ذلك الصحابة و استجابوا له عندما أمرهم بحرق المصاحف . و لو كان المصحف الإمام يخالف مصاحفهم ما استجابوا له ، و لخالفوه و تحدوه ، و بما أنهم ما فعلوا ذلك ، دل الأمر-قطعا- على أن القرآن كان واحدا بينهم ، و أن المصاحف التي أحرقت لم تكن تختلف عن المصحف الإمام مُطلقا . لكن أن أركون يترك الروايات الصحيحة الواضحة ،و يتعلق بالأوهام و الظنون و الشكوك و الشبهات و يُثيرها بلا دليل من العقل و لا من التاريخ .
و أُشير هنا إلى أمر هام جدا ، مفاده أن عملية توحيد المصحف زمن عثمان -رضي الله عنه-تمت في ظروف اجتماعية و سياسية عادية حسنة للغاية ، بموافقة من الصحابة و برضى من المسلمين ،و بأمر من الدولة و بإشراف منها ،و بتدوين من لجنة مُختارة متخصصة تولت نسخ المصحف الإمام ، و عملها هذا لم يكن تدميرا للنص القرآني كما زعم أركون ،و إنما هو عملية نسخ و نقل و حفظ للمصحف الإمام .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 126 .
(2) صبحي الصالح : المرجع السابق ، ص: 79 ، 85 ، 255 و ما بعدها .(17/377)
و أما الخطأ الخامس فيتعلق بزعم أركون بأن للقرآن مرحلتين ، الأولى شفوية زمن النبي ،و الثانية مكتوبة مغلقة ناجزة نهائية تمت زمن التدوين الرسمي (1) . و زعمه باطل من أساسه ، يتضمن تغليطا و تحريفا للتاريخ ، لأن القرآن الكريم لم تكن له إلا مرحلة واحدة فقط ، كان فيها محفوظا في الصدور ، و مكتوبا في السطور ، و مفتوحا و مُغلقا بيد الرسول-عليه الصلاة و السلام - ، و أما جمعه زمن أبي بكر ، و توحيده زمن عثمان ، فهو عمل لا يُمثل مرحلة جديدة ، و إنما عمل شكلي تنظيمي تكميلي للمرحلة الأولي .و الأدلة على كلامنا هذا سبق أن ذكرناها فلا نعيدها هنا .
و زعم أيضا أن النص القرآني الشفوي دُوّن كتابة في ظروف تاريخية لم (( تُوضّح حتى الآن ، و لم يُكشف عنها النقاب )) (2) . و زعمه هذا وهم و خيال ، و افتراء مُتعمد ، لأن القرآن الكريم له مرحلة واحدة كان فيها محفوظا و مدونا زمن رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ، و تاريخه معروف ثابت موثق في ظروف عادية للغاية ، ذكرنا طرفا منها ، و هي موجودة في الكتب المتحصصة بعلوم القرآن و تاريخه ، علما بأن القرآن الكريم هو أول و أهم مصدر لتاريخ القرآن ، فالقرآن يُؤرخ لنفسه ،و يحمل تاريخه في ذاته ، ثم تأتي بعده السنة النبوية الصحيحة الموافقة له ، ثم تأتي فيما بعد مصادر ثانوية أخرى .
و أركون يتعمد إثارة الشكوك و الشبهات ليُروّج لها و يبنى عليها أوهامه ، انطلاقا من خلفياته المذهبية للوصول إلى أهداف مُسطرة سلفا ، كمقارنته بين الأناجيل و القرآن ، فقال إنه إذا كانت الأناجيل دٌُونت فيما بين 70 - 100 سنة ، من موت المسيح ، فإن القرآن أيضا له مرحلة شفوية عندما دًوّن بعد 30 سنة حسب التراث المعروف على حد زعمه (3) .
__________
(1) الفكر الأصولي، ص: 131 ، 205 ، 337 .
(2) نفس المرجع ، ص: 41 .
(3) تاريخية الفكر العربي ص: 173 .(17/378)
و زعمه هذا باطل مردود عليه ، و هو لا يمل من تكراراه ، علما أنه لا مجال للمقارنة بين الأناجيل و القرآن الكريم متنا و إسنادا و توثيقا ، فإذا كانت الأناجيل دُونت ما بين 70-100 سنة ، من وفاة المسيح-عليه السلام- و ليست لها أسانيد ، فإن أمر القرآن الكريم يختلف تماما ، فهو قد حُفظ و دُون كله زمن رسول الله-عليه الصلاة و السلام- ،و و صلنا بالتواتر مكتوبا و محفوظا و مُسندا . أما حكاية الثلاثين سنة ، فهي خرافة من خرافات أركون الذي لا يمل من التعلق بالأوهام و نفخها ، لأنه سبق أن ذكرنا أخبارا و روايات صحيحة تؤكد قطعا بأن القرآن دّود كاملا زمن رسوله الله ، و جُمع زمن أبي بكر في نفس السنة التي تُوفي فيها النبي-عليه الصلاة و السلام - في سنة 11 للهجرة ، و وُحّد مصحفه زمن عثمان سنة 25 هجرية ، فبينه و بين وفاة رسول الله 14 سنة ، و ليس 30 سنة ، و سابقا كان قد زعم أن المصحف كان قد استغرق 25 سنة بعد وفاة النبي لكي اكتمل زمن عثمان . فلماذا هذا الاختلاف ؟ ، أم أنه لا يعرف الحساب ؟. نعم إنه يعرف الحساب ، لكنه يتعمد التحريف ،و التغليط و الافتراء ، ليصل إلى ما خطط له سلفا .(17/379)
و أما قوله : (( هنا نجد أنفسنا أمام المشكلة الضخمة للكلام الشفهي الذي أصبح نصا )) (1) . فهذا من تهويلاته و تضخيماته التي لا يمل من تكراراها ، لأنه لا توجد أية مشكلة في كلام الله تعالى من حيث تاريخه و توثيقه ، و من حيث فهمه ، فالقرآن لما نزل على قلب رسول الله- عليه الصلاة و السلام- دُون مباشرة في السطور و حُفظ في الصدور , و لم تحدث أية مُشكلة لديهم من حيث نظرتهم إلى كلام الله ، و أنما الكفار هم الذين تعجبوا كيف ينزل الله كلامه على بشر منهم ، فرد عليهم الله تعالى في آيات كثيرة ،و بين تهافت اعتراضاتهم ، ليس هنا مجال ذكرها. و ها هو أركون اليوم يتعجب كما تعجب هؤلاء ، و يختلق مشكلة مفتعلة جعلها ضخمة ، و هو يعرف الرد القرآني عليها ، لكنه مُتبع لهواه ، لا يريد إتباع الحق الذي ذكره القرآن .
و أما الخطأ السادس فيتعلق بزعم أركون من أن تشكل القرآن أثار احتجاجات و معارضات ، فادعى أن القرون الهجرية الأولى كانت (( قد شهدت اعتراضات و احتجاجات ، وصلت إلى مسألة تشكل النص القرآني ))، و (( يمكن أن نضرب مثلا على ذلك ، اثنين من القضاة اللذين أدانتهما السلطة العباسية في القرن الرابع الهجري لأنهما احتجا على بعض قراءات النص الرسمي المُشكل ، بعض القراءات فقط )) (2) .
و ردا عليه أقول : أولا إن عبارة : تشكل النص القرآني ، هي عبارة مجملة يجب تفصيل المراد منها ، لأنه إذا كان المقصود منها تشكل القرآن مضمونا و قراءة ، فهذا قد تم نهائيا على يدي رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ، فهو قد تُوفي و ترك القرآن كاملا محفوظا مكتوبا ، معروفة قراءاته، و هذا الجانب لم يطرأ عليه أي تغيير إلى يومنا هذا .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 146 .
(2) تاريخية الفكر العربي ، ص: 289 .(17/380)
و أما إذا كان المقصود بتشكل القرآن : جمعه و توحيده ، و تمييز قراءاته الصحيحة من الشاذة ، فهذا أمر صحيح حدث بعد وفان الرسول-عليه الصلاة و السلام- ، و هو أمر لا يمس مضمون القرآن و متنه أصلا ، و إنما يصب في خدمة النص و حفظه ،و تسهيل قراءته و التعامل معه و الانتفاع به . و واضح من كلام أركون أنه قصد المعنى الثاني بعبارة : تشكل النص القرآني ، ليطعن به في المعنى الأول الذي يخص متن القرآن و مضمونه و قراءاته الصحيحة . و عمله هذا فيه تغليط و افتراء مُتعمد ليصل إلى ما خطط له سلفا ، و هو الطعن في القرآن الكريم . و هذا هو ديدنه ، فيأتي إلى الجانب الإيجابي فيطعن فيه و يلفه بالشبهات و الشكوك ، ثم يُوجهه حسب هواه ،و هذا هو الذي حدث في مسألة تشكل القرآن بالمعنى الثاني ، فبدلا من أن يكون ما حدث للقرآن من جمع و توحيد ، و تمييز للقراءات ، هو عمل يخدم المتن و يزيد في حفظه و تنظيمه ، جعله أركون عملا سلبيا ، و اتخذه وسيلة للطعن في القرآن و التشكيك في متنه ،بلا دليل من التاريخ و لا من العقل .(17/381)
و ثانيا يجب علينا في نظرتنا إلى القرآن و ما يتعلق به مضمونا و شكلا و تاريخا ، أن نحتكم دوما و قبل كل شيء إلى المتواترات و اليقينيات ، و الثوابت الشرعية و التاريخية ، و لا ننساق وراء الأهواء و الظنيات ، و المكذوبات من الأحاديث و الروايات التاريخية . و بناء على ذلك فإننا نقول : إن الله تعالى قد تكفل بحفظ كتابه حفظا كاملا . و أن القرآن الكريم ، قد دُون و حُفظ كله زمن رسول الله . و أنه جُمع زمن أبي بكر ، و وُحد زمن عثمان بموافقة و إجماع من الصحابة كلهم ، من دون أية معارضة منهم ، و لا من باقي المسلمين . و بناء على هذه اليقينيات و المتواترات و الثوابت الشرعية و التاريخية ، فإن كل ما يُروى من طعن في القرآن ، فهو إما أنه مكذوب ، و إما أنه خطأ من صاحبه ، و إما أنه ليس مما يُطعن به في القرآن ، و إنما اُستخدم فقط للطعن فيه من باب التغليط و التدليس و التحريف .(17/382)
و أما ما يُروى عن الصحابي عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- ، من أنه أنكر كون سورتي المعوذتين من القرآن ،و أنه اعترض على توحيد المصحف زمن عثمان ،و أبى حرق مصحفه (1) . فبخصوص موقفه من المعوذتين ، فقد أنكره بعض العلماء كابن حزم ، و النووي ، و قالوا : إن ذلك باطل مكذوب عليه ، ليس بصحيح (2) . و موقفهما هذا صحيح ، تؤيده الشواهد الثابتة الآتية : أولها إن نسبة ذلك لابن مسعود ، هو طعن في القرآن نفسه ، و تشكيك فيه ، و رد له و تكذيب له ، لأنه بما أن المعوذتين موجودتين في القرآن الكريم الذي تولى الله حفظه ،و وُحفظ و دُوّن زمن- النبي عليه الصلاة و السلام- ،و جُمع و وُحد زمن الصحابة بإجماع منهم ، فهذا يعنى بالضرورة الشرعية و التاريخية أن من ينكر المعوذتين أو غيرهما من سور القرآن ، فإنه يطعن في القرآن و يُكذبه من جهة ، لكن القرآن نفسه يُكذب الطاعن فيه ،و ينقض شبهاته و مزاعمه من جهة أخرى . و بناء على ذلك فإن القرآن ينقض ما نُسب لابن مسعود و يُبطله . و بما أن الأمر كذلك فلا يصح نسبة ذلك إلى ابن مسعود المعروف بعلمه و صلاحه و طول صحبته للنبي و كبار الصحابة .
__________
(1) أنظر مثلا : عبد العظيم الزرقاني : مناهل العرفان ، ط1، دار الفكر ، بيروت ، 1996 ، ج 1 ص: 197 . و ابن أبي داود : المصاحف ، ص: 58 و ما بعدها . و صبحي الصالح : مباحث عي علوم القرآن ، ص: 25
(2) النووي : المجموع ، ط1، دار الفكر بيروت ، 1996، ج 3 ص: 350 . و ابن حزم: المحلى ، ج 1 ص: 13.(17/383)
و أما إذا قيل : ربما يكون ابن مسعود قد اخطأ فيما صدره عنه و قاله ، فهذا أمر مُستبعد جدا ، بل لا يصح أن يصدر عنه ، لمكانته و علمه ، و لأن هذا الأمر ليس مما يُنسى أو يُغلط فيه ، و لا يُتذكر بعد نسيانه و الخطأ فيه . فأين كان هو عندما كان الرسول-عليه الصلاة و السلام - ،و الصحابة يقرؤون المعوذين في الصلاة و خارجها مدة سنين طويلة ؟ ! . و أين كان هو عندما وجدها زيد بن ثابت مكتوبة و وضعها في المصحف الإمام عند أول جمع له ؟ ! . و أين ... و أين ؟ .
و الشاهد الثاني هو من السنة النبوية الصحيحة ، فقد ثبت أن رسول الله-عليه الصلاة و السلام- كان يقرآ بالمعوذتين في الصلاة ،و قال عنهما : (( آيات أنزلت الليلة ، لم يثر مثلها: قل أعوذ برب الفلق ، و قل أعوذ برب الناس )) (1) . فهذا دليل دامغ على بطلان ما نُسب لابن مسعود، لأنه لا يُعقل أن تنزل المعوذتان بمكة ،و يظل المسلمون يقرؤونهما في العهدين المكي و المدني و ابن مسعود لا يعرف أنهما من القرآن ! .
و الشاهد الثالث هو الإجماع ، فقد سبق أن ذكرنا أن الصحابة أجمعوا على ما قام به أبو بكر في جمعه للقرآن، كانت المعوذتان من المجموع ، دون أن تحدث أية معارضة و لا احتجاج ، و لا إنكار من ابن مسعود ،و لا من غيره من الصحابة ، فدلّ ذلك على أن المعوذتين من القرآن و أن ابن مسعود لم يكن ينكرهما .
و الشاهد الرابع يتمثل في أن الصحيح المروي عن ابن مسعود في موقفه من المعوذتين ، ينقض ما نُسب إليه من إنكاره كونهما من القرآن ، و هو أن قراءة عاصم الصحيحة المعتمدة ، من بين القراءات السبع ، هي مروية عن علي بن أبي طالب و ابن مسعود (2) - رضي الله عنهما- . و هي تحتوي على المعوذتين ،و من أكثر القراءات انتشارا في العصر الحديث ، فدلّ ذلك على بطلان ما نُسب لابن مسعود .
__________
(1) مسلم : الصحيح ، ج 1 ص: 558 .
(2) ابن مجاهد : السبعة في القراءات ، ط2 ، دار المعارف ، القاهرة ، 1400 ، ص: 70 .(17/384)
و الشاهد الخامس مفاده أن انفراد عبد الله بن مسعود بانكار كون المعوذتين من القرآن الكريم ، مخالفا بذلك القرآن ، و السنة الصحيحة ،و إجماع الصحابة ، هو دليل دامغ على بطلان ما نُسب إليه من إنكار كون المعوذتين من القرآن ، فلو كان الأمر كما زُعم لقال ذلك صحابة آخرون .
و أما ما يُروى عن ابن مسعود من القراءات الشاذة المُحرفة للقرآن ن كقراءته {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ نملة} ، بدلا من (( إن الله لا يظلم مثقال ذرة )) - سورة النساء/40- ، فهي قراءة مكذوبة عليه ، لأنها تخالف المصحف الإمام البكري العثماني ، الذي أجمع عليه الصحابة ، من بينهم ابن مسعود . و قد بحثتُ (1) في القراءات العشر المعتمدة ، فلم أعثر فيها على شيء من تلك القراءات الشاذة المحرفة للقرآن .
و لأنها أيضا -أي القراءات الشاذة- تخالف قراءة عاصم الصحيحة المعتمدة من بين القراءات السبع و العشر معا ، و هي قراءة مروية عن علي و ابن مسعود- رضي الله عنهما- ، و لا يُوجد فيها شيء من تلك القراءات الشاذة المزعومة (2) .
و أما ما رُوي عن ابن مسعود من معارضتة عندما وَحّد عثمان المصحف ، و رفض إحراق مصحفه ، فإن الأمر مُجمل يحتاج إلى تفصيل من جانبين ، أولهما إن ابن مسعود لم يكن يطعن في صحة القرآن ، و لا في صحة عملية توحيده ، التي تمت زمن عثمان (3) ، بدليل أنه لم يعترض على جمع القرآن زمن أبي بكر ، و لا أنكر شيئا منه ، و هذا المصحف هو الذي نُسخت منه المصاحف العثمانية . و لأنه أيضا أن قراءته الصحيحة المروية عنه و عن علي ،- رضي الله عنهما- هي قراءة عاصم المعتمدة الموافقة للرسم العثماني .
__________
(1) بحثت في كتابيّ : النشر في القراءات العشر لابن الجزري : و السبعة في القراءات لابن مجاهد .
(2) أنظر مثلا : ابن مجاهد : السبعة في القراءات ، ص: 70 .
(3) الزرقاني : مناهل العرفان ، ج 1 ص: 197 .(17/385)
و أما الجانب الثاني فيتعلق بموقف ابن مسعود من اللجنة التي تولت عملية النسخ و التوحيد ، فقد رُوي أنه اعترض على تعيين زيد بن ثابت رئيسا لها ، لأنه كان يرى أنه أولى منه للقيام بتلك المهمة (1) . لكنه عاد و رضي بما جرى ، بعدما تبين له صحة ما قام به عثمان و من معه من الصحابة (2) .
و بالنسبة لمثال القاضيين اللذين ذكرهما أركون و قال إنهما احتجا على بعض قراءات النص الرسمي ، فأدانتهما السلطة العباسية في القرن الرابع الهجري ، فهو مثال غامض كان على أركون أن يُوضحه و يُوثقه ، فيذكر أسماء القاضيين ،و المصادر التي تكلمت عنهما و فيما قاما به . لكنه لم يفعل ذلك ،و ترك الأمر غامضا مُلغزا و كأنه تعمد ذلك للتمويه و التغليط ، و التضخيم و المبالغة فيما ذهب إليه ، و التشويش على القارئ ، فقد بحثتُ عنهما و لم أعثر لهما على أي ذكر واضح ثابت . لكنني عثرت على حادثتين مرتبطتين بموضوع قراءات القرآن الشاذة ، حدثتا لقارئين ببغداد في القرن الرابع الهجري، و استتابهما العلماء في مجلسين عُقدا لهما. و يبدو لي أن أركون يقصد هذين القارئين . الأول هو : القارئ محمد بن أحمد بن شنبوذ البغدادي(ت328ه) ، قرأ بالقراءات الشاذة المنسوبة إلى الصحابيين ابن مسعود و أُبي بن كعب- رضي الله عنهما- ، فأنكر عليه الناس و العلماء القراءة بالشواذ، و رُفع أمره إلى القضاء سنة 323ه ، فعُقد له مجلس ناظره فيه العلماء ، كان من بينهم : شيخ القراء ابن مجاهد، و القاضي أبو الحسين عمر بن محمد ، فانتهى المجلس باستتابة ابن شنبوذ ، فتاب عما صدر منه ،و أعلن أنه سيقرأ بمصحف عثمان ،و كتب في ذلك محضر وقع فيه الحاضرون بخطوطهم (3) .
__________
(1) نفسه ، ج 1 ص: 197 . و النسائي : السنن ، ج 8 ص: 134 ، رقم : 5063 .
(2) الذهبي : السيّر ، ج 1 ص: 488 .
(3) ابن العماد الحنبلي : شذرات الذهب ، ج 4 ص: 150 . و صبحي الصالح : مباحث في علوم القرآن ، ص: 251 .(17/386)
و الثاني هو : القارئ أبو بكر بن مِقسم البغدادي(ت354 ه) ، إنه لم يكن يلتزم بالقراءات الصحيحة ، و كان يقرأ وفق ما بدا له أنه صحيح في اللغة ، و لو خالف بذلك القراءات الصحيحة القائمة على الرسم العثماني ، فظهرت منه قراءات منكرة ، خالف بها الإجماع و تفرّد بها ، و هي لا تجوز عند الجميع ، فكان يقرأ قوله تعالى : {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا } - سورة يوسف/80-، هكذا : (( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيبا )) ،و زعم أنه لو قرأنا (( نجيبا )) لكان قويا. فلما أظهر ذلك أنكر عليه العلماء و عقدوا له مجلسا بحضور شيخ القراء ابن مجاهد ، فناقشوه في الأمر ، و استتابوه ، فأظهر التوبة عما صدر منه (1) .
و قبل الرد على أركون ، أشير هنا إلى أن القراءات الشاذة هي القراءات المخالفة للمصحف الإمام -أي العثماني-، التي لم تتوفر فيها شروط الصحة و هي : موافقة القراءة للمصحف العثماني. و موافقة القراءة للغة العربية و لو بوجه. و صحة الإسناد ، و قد اشترط بعض العلماء تواتره و ليس صحته فقط (2) .
و بناء على ذلك يتبن أن القراءات التي أظهرها ابن شنبوذ و ابن مِقسم هي قراءات مخالفة للمصحف الإمام المتواتر المجمع على صحته، لأنها لم تتوفر فيها شروط الصحة . لكن أركون زعم أن الرجلين (3) احتجا على بعض فراءات النص الرسمي ، و الحقيقة أنهما خالف الإجماع المتواتر ، و حرّفا القرآن ، و أهملا الصحيح من القراءات و تمسكا بالضعيف الشاذ غير الصحيح .
__________
(1) ابن كثير : البداية ، ج 11 ص: 311 . و ابن العماد الحنبلي : نفس المصدر ، ج 4 ص: 286 . و صبحي الصالح : نفس المرجع ، ص: 251 .
(2) صبحي الصالح: نفس المرجع ، ص: 255 .
(3) إن صح أنه يقصد ابن شنبوذ و ابن مِقسم .(17/387)
و أما الخطأ السابع فيتعلق بزعم أركون بأن هناك مشاكل تاريخية تخص تشكّل القرآن ، و أدعى أن المسلمين نزعوا الصفة التاريخية عن كيفية تشكل المصحف، و طمسوا المشاكل المتعلقة بذلك (1) .
و ردا عله أقول: إن هذا الرجل لا يمل من تكرار أوهامه و مفترياته ، و تضخيمها و نفخها و تجعيدها ، ليُوهم القارئ على أنها حقائق ، من دون أن يٌقدم أي دليل علمي صحيح من الشرع ، و لا من العقل ، و لا من التاريخ . و حكاية التاريخية المزعومة سبق دحضها في المبحث الأول من الفصل الثاني. و أثبتنا أيضا أن القرآن شُكل نهائيا في حياة رسول الله -عليه الصلاة و السلام ، تدوينا و حفظا و قراءة ، ثم جمعه الصحابة و وحدوه بإجماع منهم و بطريقة علمية صحيحة ساهمت في حفظه و تنظيمه ،و لم تمس أبدا مضمون القرآن. الأمر يُثبت أن المسلمين دونوا من تاريخ القرآن جانبين هامين ، الأول هو الجانب الإلهي المتعلق بالوحي زمن النبي-صلى الله عليه وسلم- ، فقد سجلوا لنا تاريخ النزول و التدوين ،و ساهموا بأنفسهم في تدوينه وحفظه بين يدي رسول الله . و الجانب الثاني هو الجانب البشري المحض بعد وفاة النبي-عليه الصلاة و السلام- ، فجمعه الصحابة و وحدوا مصحفه ، و ساهم العلماء المسلمون في تنقيطه و تقسيم آياته ، و تحديد و ضبط قراءاته الصحيحة وفق منهج علمي صحيح (2) .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 264 .
(2) أنظر مثلا : صبحي الصالح : مباحث في علوم القرآن .(17/388)
كما أنه لا توجد أية مشاكل تتعلق بتاريخ القرآن طمسها المسلمون على حد زعم أركون ، و كان عليه أن يذكر لنا شواهد موثقة إن كان صادقا فيما يقول . و الحقيقة الثابتة تاريخيا ، هي أن المسلمين سجلوا كل ما يتعلق بالقرآن الكريم من روايات صحيحة و ضعيفة و موضوعة ، و الدليل على ذلك أن كتاب المصاحف لأبي بكر بن أبي داود ، هو كتاب متخصص في تاريخ القرآن ، مضمونا و تاريخا ، ضم في طياته روايات كثيرة فيها الصحيح و الباطل ، و لو كان المسلمون طمسوا المشاكل التي توهمها أركون ما دونوا الروايات الباطلة التي تقدح في القرآن و تطعن فيه . و من أراد التأكد من ذلك فليراجع الكتاب فهو مطبوع و متداول بين أهل العلم ، و موجود على شبكة الأنترنت بالمجان .
و أما زعمه بأننا اليوم لا نستطيع العودة إلى النص القرآني المفتوح لأن المسلمين الأوائل أغلقوه بشكل نهائي )) (1) . فهو زعم باطل يندرج ضمن طريقة أركون في التغليط و التلاعب بالمصطلحات ، و الافتراء على الشرع و التاريخ و العقل . و هو إما أنه لا يعي ما يقول ، أو أنه يتعمد ذلك ، لأن القرآن الكريم لا يوجد فيه نص مغلق و آخر مفتوح ، فهو كتاب واحد كان مفتوحا محفوظا مدونا زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- ، فلما توفي اكتمل و انغلق نهائيا إلى الأبد مضمونا و قراءة ، هذه حقيقة تاريخية ثابتة متواترة لا شك فيها . أما ما قام به الصحابة من جمع و توحيد للمصحف ، فهو لم يمس المتن مطلقا زيادة و لا نقصانا ، و إنما صب في خدمته . و أما حكاية أركون من أن المسلمين أغلقوا القرآن المفتوح فهي خرافة من خرافات أركون التي لا يمل من تكراراها ، و إذا لم تستح فاصنع ما شئت .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 213 .(17/389)
و أما زعمه بأن مشكلة المصحف الرسمي المُغلق أثار (( الكثير من المناقشات و المجادلات بعد موت النبي مباشرة )) (1) . فهو افتراء مفضوح و مُتعمد ، لأن المتواتر تاريخيا أنه لم يحدث أي خلاف بين الصحابة حول متن القرآن و مضمونه ، بعد وفاة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ،و أن الحرص عليه هو الذي دفع أبا بكر و الصحابة إلى جمع كل القرآن بطريقة علمية منظمة ، من دون حدوث أي خلاف و لا معارضة من احد.
لكن الأمر الذي حدث و تشبث به أركون و نفخه و جعده ، و أخرجه من إطاره ،و وَظّفه بطريقته الملتوية ، التي حولته إلى مشكلة تتعلق بالنص القرآن ، هو اختلاف عادي للغاية في وجهات النظر بين عمر و أبي بكر و زيد بن ثابت -رضي الله عنهم-، في شرعية جمع القرآن في مصحف واحد ،و هو عمل لم يفعله رسول الله ، ثم سرعان ما اتفقوا على جمع القرآن بعدما تبين لهم أهميته و فائدته . هذا هو الذي حدث حول القرآن بعد وفاة النبي-عليه الصلاة و السلام- ،و لا يُوجد غيره ، و إن كان عند أركون غيره فليأتنا به إن كان صادقا . فذلك الذي حدث ليس خلافا على مضمون القرآن و متنه ، كما أراد أن يُصوّره أركون ، و إنما هو خلاف حول طريقة لصيانته و الحفاظ عليه ، فهو خلاف إيجابي و حرص مُبكر لصيانته ،و فيه إحساس بالمسؤولية تجاه كتاب الله تعالى ،و أمة الإسلام، لكي لا تقع فيما وقع فيه أهل الكتاب . لكن أركون لا يُعجبه ذلك ، فجاء إلى هذه الحادثة الإيجابية العظيمة ، و زعم أنها أثارت الكثير من المناقشات و المجادلات التي تتعلق بالنص الرسمي المُغلق حسب زعمه ، ليصل إلى ما خطط له سلفا من الطعن في القرآن بكل الوسائل المتاحة أمامه ، انطلاقا من خلفياته المذهبية العلماينة التغريبية الحاقدة و الفاقدة للموضوعية و الحياد العلميين .
__________
(1) الإسلام أوروبا ، ص: 79 .(17/390)
و من أوهامه أيضا أنه زعم أن المسلمين في القرن الرابع الهجري فُرضت عليهم نسخة واحدة من القرآن ، بعدما حدث إجماع بينهم على ذلك ، بعد فترة طويلة من الاحتجاج و الخلاف على شكل و مضمون النص القرآني)) (1) . و قوله هذا وهم و خرافة ، لأن القرآن كان نسخة واحدة مضمونا وقراءة في حياة النبي-عليه الصلاة و السلام- ، و ما بعده إلى يومنا هذا . و نحن نطالب أركون بتوثيق زاعمه، لنتأكد منها و نحققها ، لأن حادثة الإجماع التي ادعاها ما هي إلا وهم و خيال ، و لا وجود لها في التاريخ ، فقد بحثت عنها طويلا و لم أعثر لها على أثر و لا على خبر . و أركون نفسه اعترف -ضمنيا- بما قلتُه ، و ناقض نفسه أيضا ، عندما ذكر مرارا بأن القرآن الرسمي المُغلق هو النص الوحيد الذي فُرض على المسلمين منذ زمن عثمان (2) . لكن أركون لا يُبالي بمتناقضاته ، المهم عنده أنه يُغالط و يُحرّف ، بلا ملل و لا كلل، ليطعن في مضمون القرآن و مصداقيته و مصدريته .
و أما الخطأ الخامس فيتعلق بموقف أهل السنة و الشيعة الإمامية من المصحف العثماني ، فذكر أركون أن هؤلاء السنة و الشيعة أجمعوا على صحة المصحف العثماني (3) ، بعدما حدثت بينهم مناقشات و صراعات عنيفة انتهت باتفاقهم على ذلك (4) .
و إحقاقا للحق أقول : إن ما قاله أركون غير صحيح ، و تنقضه شواهد كثيرة ، تُثبت أن الإجماع الذي حكاه أركون لا وجود له في الماضي و لا في الحاضر ، لأن أهل السنة و إن أجمعوا على صحة ما في المصحف العثماني ، فإن الشيعة الإمامية ، لم يقولوا بذلك ، بدليل الشواهد الآتية :
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 60، 94 .
(2) الفكر الأصولي ، ص: 213 . و الإسلام أوروبا ، ص: 79 .
(3) نفس الشيء قاله الجابري ، فذكر انه لا يُوجد خلاف حول القرآن بين السنة و الشيعة ، إلا في التأويل . بنية العقل العربي ، ص: هامش ص : 321 .
(4) تاريخية الفكر ، ص: 289 . و القرآن ، ص: 12 .(17/391)
أولها إن علماء الشيعة الإمامية قالوا صراحة بتحريف القرآن الكريم-المصحف العثماني- ، منهم : محمد بن يعقوب الكليني ،و المفيد ، و محسن الكاشاني ، و المجلسي ، و نعمة الله الجزائري ، و المعاصر آية الله الخميني ، الذي قال ذلك صراحة في كتابه كشف الأستار بأن الصحابة حرّفوا القرآن (1) .
و الشاهد الثاني هو أن علماء الشيعة ألفوا كتبا كثيرة خصصوها لموضوع تحريف القرآن بدون لف و لا دوران ، منهم : أحمد بن محمد البرقي ، له كتاب التحريف ، و علي بن الحسن ، له كتاب التنزيل من القرآن و التحريف ، و حسن بن سليمان الحلي له كتاب التنزيل و التحريف ، و محمد بن الحسن الصيرفي ، له كتاب التحريف و التبديل (2) . و من متأخريهم المُحدثين : الميرزا حسين النوري الطبرسي (ت1320ه ) ، له كتاب شامل مفصل حول موضوع تحريف القرآن ، سماه : فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب ، ثم ألف آخر خصصه للرد على بعض الشبهات حول كتابه فصل الخطاب . و منهم أيضا : الهندي ميرزا سلطان أحمد ، له كتاب تصحيف كاتبين و نقض آيات كتاب مُبين ، و الهندي محمد مجتهد اللكنوي ، له كتاب : ضربة حيدرية ، موضوعه تحريف القرآن (3) .
__________
(1) الكليني : أصول الكافي ، ج 1 ص: 228 ، 239 ، ج 2 ص: 619 . و إحسان إلهي ظهير : الشيعة و السنة ، ص: 77 . و فيصل نور : الشيعة و السنة ، مقال على الأنترنت في موقع فيصل نور .
(2) إحسان إلهي ظهير : الشيعة و السنة ، ص: 123 ، 124 .
(3) نفسه ، ص: 124 ، 125 .(17/392)
و الشاهد الثالث يتمثل في حادثة تاريخية وقعت بين السنة و الشيعة الإمامية ببغداد سنة 398 هجرية ، مفادها أنه عندما حدث بين الطائفتين نزاع اتجهت جماعة من الشيعة إلى الشيخين السنيين القاضي أبي محمد الأكفاني، و أبي حامد الإسفراييني الشافعي ، و معهم مصحف ادعوا أنه مصحف ابن مسعود ، فجمع القاضي الفقهاء و القضاة و الأعيان ،و عرض عليهم ذلك المصحف ، فوجدوه يُخالف المصحف العثماني ، فأشار أبو حامد الإسفراييني بحرقه ، فحُرق بحضور الشيعة ، فغضبوا غضبا شديدا ، و سبوا من فعل ذلك و دعوا عليه ، فأدى ذلك إلى حدوث فتنة مُدمرة الطائفتين (1) .
فهذه الحادثة أظهرت عكس ما زعمه أركون من حدوث إجماع بين السنة و الشيعة حول المصحف العثماني ، فهي أثبتت بأن المصحف الذي أطهره الشيعة يخالف المصحف العثماني ، مما جعل أهل السنة يحرقونه . و ليت المؤرخين ذكروا لنا محتواه بالتفصيل لنطلع على ما فيه و نقارنه بالمصحف الإمام البكري العثماني الموجود عندنا .
__________
(1) ابن كثير : البداية ، ج 11 ص: 339 .(17/393)
و الشاهد الرابع يتمثل في أن القول بتحريف القرآن الكريم عند الشيعة الإمامية هو من ضروريات مذهبهم ، الذي لا يثبت إلا بالقول بتحريف القرآن ، لأن اعتقادهم بالأئمة الاثنى عشر المعصومين ، الواجب الإيمان بهم و طاعتهم ، و الكافر من لم يُؤمن بهم . و اعتقادهم بأن أئمتهم يعلمون ما كان و ما سيكون ،و تكفيرهم للصحابة و لكل من لا يعتقد بمذهبهم (1) ، هو أمر مخالف للقرآن و مناقضا له تماما ، لا يثبت إلا بضرورة القول بتحريفه-أي القرآن-. و هذا أمر قد صرّح به عالم الشيعة المعروف بالسيد عدنان ، عندما قال : (( إن القول بالتحريف و التغيير من المسلمات عند الفرقة المحقة-أى الاثني عشرية- ،و كونه من ضروريات مذهبهم ،و به تظافرت أخبارهم)) (2) .
و الشاهد الأخير -أي الخامس- ، يتمثل في شهادات بعض علماء أهل السنة ، على أن الشيعة الإمامية يقولون بتحريف القرآن الكريم ، منهم : أبو محمد ابن حزم الأندلسي ، في كتابه الفصل في الملل و الأهواء و النحل (3) .و الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن (4) .و ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح البارئ ، الذي قال فيه : زعم الروافض- منهم الشيعة الإمامية- أن كثيرا من القرآن (( ذهب لذهاب حملته ،و هو شيء اختلقه الروافض، لتصحيح دعواهم أن التنصيص على إمامة علي و اسحقاقه الخلافة عند موت النبي- صلى الله عليه وسلم- كان ثابتا في القرآن و أن الصحابة كتموه ،و هي دعوى باطلة )) (5) .
__________
(1) أنظر : الكليني : الأصول من الكافي ، ج 1 ص: 145 ، 187 ، 258 . و أبو الحسن الندوي : صورتان متضادتان ، ط1 ، القاهرة ، دار الصحوة ، 1985 ، ص: 55 .
(2) فيصل نور: الشيعة و السنة ، على شبكة الأنترنت بموقع فيصل نور .
(3) ج 4 ص: 139 .
(4) ج 2 ص: 127 .
(5) فتح الباري ، ج 9 ص: 65 .(17/394)
و من شهادات السنيين المعاصرين : إحسان إلهي ظهير ، فقد أشارا إلى قول الشيعة الإمامية بتحريف القرآن في كثير من كتبه ، التي منها : الشيعة و القرآن ، و الشيعة و السنة ،و هما كتابان مطبوعان ومتداولان بين أهل العلم ،و هما على شبكة الأنترنت بالمجان (1) . و منهم أيضا : الشيخ أبو الحسن الندوي ، فقد أشار إلى قول الشيعة بتحريف القرآن في كتابه: صورتان متضادتان لنتائج جهود الرسول الأعظم عند السنة و الشيعة الإمامية (2) .
و بناء على ما ذكرناه ، فهل كان أركون يجهل قول الشيعة الإمامية بتحريف القرآن ، عندما ادعى أن السنيين و الشيعة أجمعوا على صحة المصحف العثماني؟ ، أعتقد أنه لم يكن يجهل ذلك ، لأنه من المستبعد جدا أن لا يطلع على قول الإمامية بتحريف القرآن و هو قد أطلع على بعض أمهات مصنفاتهم التي نصت صراحة على التحريف ، منها كتاب الكافي في الأصول للكليني (3) .
و إذا كان الأمر كذلك فلماذا قال أركون بالإجماع على عدم التحريف؟ ، اعتقد أن أركون لم يقل ذلك طلبا للحق، و لا دفاعا عن القرآن ، لأنه سبق أن طعن فيه و أنكر حقائقه مضمونا و تاريخا ، و إنما قال ذلك لأمر خطير جدا ، خطط له مسبقا ، مفاده أنه إذا قلنا: إن السنة و الشيعة لم يُجمعوا على صحة المصحف العثماني ،و إن طائفة منهم تقول بتحريفه ، سَهُل بعد ذلك معرفة مصدر الروايات التي ذكرت أن القرآن تعرّض للتحريف ، فيُقال مباشرة : إن تلك الروايات هي من مفتريات الطائفة التي تطعن في الصحابة و القرآن و تقول بتحريفه.
__________
(1) عن الكتاب السنة و الشيعة أنظر ص: 65 و ما بعدها.
(2) ص : 92 .
(3) أشار إليه في بعض كتبه التي رجعت إليها .(17/395)
و أما إذا قلنا بالرأي الذي قال به أركون من أن كلا من أهل السنة و الشيعة اجمعوا على صحة المصحف العثماني ، فإنه يَصعُب علينا الطعن في الروايات التي ذكرت أن القرآن الكريم تعرّض للتحريف من جهة ، و يسهُل القول بصحتها من جهة أخرى ، بدعوى أنها ظهرت في وسط إسلامي محض مُجمع على القول بعدم تعرض القرآن للتحريف ، و بما أنها ظهرت فيه ، فهي إذا تُعبر عن الحقيقة و ليست من مفتريات الطائفة التي تطعن في القرآن ، لأنه لا وجود لها أصلا في المجتمع الإسلامي . و بذلك يستطيع أركون أن يعتمد علي تلك الروايات للطعن في القرآن الكريم ، و إثارة الشكوك و الشبهات حوله ، و الطعن أيضا في الإجماع الذي زعم أنه حدث بين السنة و الشيعة ، و الله تعالى أعلم بالصواب .
و قولنا هذا الذي ذكرناه عن عدم إجماع السنة و الشيعة على صحة المصحف العثماني هو حقيقة تاريخية و واقعية لا نستطيع نفيها ، و علينا أن نعترف بها أحببنا أم كرهنا ، أحزنتنا أم أفرحتنا ، علما بأن ذلك لا يضر القرآن الكريم شيئا ، لأن القرآن شاهد على صحته بنفسه ، بأنه محفوظ مُعجز ، مُحكم لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، و أن الله تعالى تولى حفظه . و أما الروايات المكذوبة التي قالت بتحريف القرآن ، فهي روايات مكذوبة باطلة قطعا ، لأن القرآن ينقضها و يُدحضها ، و لأن الروايات الحديثية و التاريخية الصحيحة تردها و تكذبها و تُبطلها . و لأن العقل يحكم بعدم صحتها لأنها تُخالف القرآن و التاريخ و العلم الحديث الذي أثبت وجود الإعجاز العلمي و الرقمي و التاريخي الدامغ في القرآن ، مما يعني أنه كتاب معجز محفوظ لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه (1) .
__________
(1) سبق التطرق إلى ذلك و توثيقه .(17/396)
و أما الخطأ التاسع فيتعلق بنظرة أركون إلي العلاقة بين القرآن و التوراة فيما يخص القصص القرآني فإنه ادعى بأنه توجد مؤثرات خارجية في القصص القرآني ، أتته من مصدر موثوق و صحيح هو التوراة ،و بالتالي (( إدانة الأخطاء و التشويهات ،و الإلغاءات و الإضافات، التي يُمكن أن توجد في النسخة القرآنية بالقياس إلى النسخة التوراتية )) (1) .
و ردا عليه أقول : إن هذا الرحل يتعمد الافتراء و التغليط ، لا يعي ما يقول ، أو أنه يتعمد ذلك . و قوله زعم باطل شرعا و تاريخا ، عقلا و علما ، و هو قول لا يقوله مسلم أبدا ، و إنما هو قول من لا يدين بالإسلام قديما و حديثا بلا دليل و لا برهان . و بناء على ذلك فعلى أركون أن يُعلن صراحة موقفه الحقيقي المعادي لدين الإسلام . فعليه أن يفعل ذلك إن كان موضوعيا مع نفسه و صادقا معها ،و إلا فإن كلامه المزعوم شاهد على أن قائله لا يدين بالإسلام .
و ثانيا إننا لا نمنعه من البحث و حرية الفكر ، لكننا نطالبه فقط بأن يلتزم بالموضوعية و الحياد العلمي ، و أن لا يقول إلا الحق و لا يتبع أهواءه و ظنونه ،و أوهامه ، لأن الكلام الذي نقلناه عنه لا يمت إلى العلم ، و لا إلى العقل ، و لا إلى الشرع ، و لا إلى التاريخ بصلة أبدا ، بدليل الشواهد و المعطيات الآتية :
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 143 .(17/397)
إن القرآن الكريم قد حسم مسألة العلاقة بينه و بين التوراة و الإنجيل غير المحرفيّن حسما نهائيا واضحا لا لُبس فيه ، و أكد على أنها علاقة وحي رباني جاء لإنقاذ البشرية ،و لتصحيح و تقويم الانحرافات التي كانت عند أهل الكتاب ،و يُنقذهم مما هم فيه من ظلال ، فالله تعالى الذي أوحى لموسى و عيسى -عليهما السلام - ، هو نفسه الذي أوحى إلى محمد رسول الله خاتم الأنبياء و المرسلين-عليه الصلاة و السلام- ، و ليست هي علاقة اقتباس و لا تأثر . و أكد صراحة على أن التوراة و الأناجيل الحالية قد تعرضت للتزوير و التحريف ،و أن القرآن الكريم هو كتاب إلهي مُصدق لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه. قال تعالى : -{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} - سورة النساء/163- ، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} - سورة المائدة/15- ، و {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} (سورة المائدة / 41-.(17/398)
و (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } سورة المائدة/13 -،و {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } - سورة النساء/46 -، و {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} - سورة البقرة/75 - ، و {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } - سورة البقرة /79 .
و ثانيها إن التاريخ الصحيح و الضعيف معا قد حسم مسألة العلاقة بين القرآن و التوراة و الأناجيل حسما نهائيا على مستوى التاريخ ، و ذلك أن تاريخ السيرة النبوية -بصحيحها و ضعيفها -شاهد على أنه لم تكن هناك أية علاقة أخذ و لا تأثر و لا تأثير بين القرآن و تلك الكتب ، و قد سعت قريش جاهدة باتهام النبي-صلى الله عليه وسلم- بأنه يأخذ من أهل الكتاب ، ففشلت في ذلك فشلا ذريعا ، و قد سجل الله تعالى دعواها و رد عليها ردا مفحما ، و تحداها بالقرآن . و كذلك اليهود في المدينة ، فهم مع شدة عداوتهم للإسلام و نبيه و المسلمين ، فإنهم لم يجرؤوا على اتهام رسول الله بأنه يأخذ عنهم ، و هو أقوى سلاح في أيديهم لوكا الأمر كما زعم أركون ، و بما أن قريشا و اليهود عجزوا في إثبات تلك العلاقة الموهومة المزعومة ، مع حرصهم عليها ، و شدة عداوتهم للإسلام ، دلّ ذلك على أن زعم أركون الذي أخذه عن شيوخه المستشرقين ، هو زعم باطل و خرافة من خرافاته .(17/399)
و الشاهد الثالث يتمثل في أنه لا مجال للمقارنة بين القرآن الكريم و بين التوراة و الأناجيل ، من حيث الصحة و القبول في العقائد و المفاهيم، و التصورات و القصص و الشرائع ، فقصص القرآن الكريم عن الأنبياء قصص نظيفة مثالية رائعة ، مقبولة شرعا و عقلا ، و لا تُثير أية اعتراضات يأباها العقل ، خلاف قصص الأنبياء في كتب اليهود المقدسة-العهد القديم- ، فقد وصفتهم بأقبح الأوصاف ، لا يتصف بها الرجل العادي من المؤمنين ، فزعمت أن نوحا سكر و تعرى ، و أن لوطا سكر و زنا بابنتيه، و أن داود رقص أمام الرب ، و زنى بجارته و قتل زوجها ، و أن سليمان كفر وعبد الأصنام (1) . فهل يصح في العقل أن يرتكب الأنبياء تلك القبائح ، و هم القدوة الذين أرسلهم الله تعالىإلى البشر ليبلغوهم رسالاته ؟ ! .
و ثالثا إن زعمه بأن التوراة مصدر موثوق صحيح ، هو زعم باطل و مُضحك، و قول بلا علم و لا برهان ، يدل على أن صاحبه بعيد جدا عن الموضوعية العلمية . لأن الثابت علميا أن التوراة الحالية لم تكتب زمن موسى-عليه السلام - ، و إنما كتبت على امتداد ثلاثة قرون على الأقل ، بعد موت موسى-عليه السلام- بفترة زمانية طويلة جدا ، مع افتقادها للأسانيد ،و جهالة كُتابها الحقيقيين ، و وجود ثلاثة نُسخ مختلفة فيما بينها (2) . و أما مضمونها فهو أيضا مرفوض شرعا و عقلا و علما ، لأنها مملوءة بالمتناقضات و الخرافات ،و الأخطاء العلمية سبق ذكر طرف منها في المبحث الأول من الفصل الثاني (3) .
__________
(1) سبق توثيق ذلك في المبحث الأول من الفصل الثاني .
(2) عبد الوهاب طويلة : الكتب المقدسة ، ص: 91 و ما بعدها . و موريس بوكاي: الكتب المقدسة في ضوء العلم الحديث ، ص: 29 .
(3) للتوسع في ذلك أنظر : موريس بوكاي: نفس المرجع ، ص: 39 و ما بعدها .(17/400)
ذلك هو حال التوراة التي وصفها أركون بأنها مصدر موثوق صحيح ، أما القرآن المعجز الذي تحدى الله به عالم الجن و الإنس ، و الذي دُوّن و حُفظ زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- ، فهو حسب أركون مشكوك في مصدريته و أصالته و مضمونه . و زعم باطل ، لا يمت إلى العلم ،و لا إلى الموضوعية العلمية بصلة .
و أما قوله بأن هناك شيء واحد أساسي يُميز القرآن عن التوراة و الأناجيل ، و هو محافظته على لغته الأصلية -أي العربية- ، في حين أن الكتب الأخرى تُرجمت مُبكرا جدا إلى اللغة الإغريقية أو كُتبت بها (1) . فهو كلام فيه صواب قليل ، و تعصب كبير ، و افتراء كثير ، كل ذلك منعه من أن يعترف بالفوارق الأساسية الكثيرة و العميقة التي يمتاز بها القرآن الكريم على التوراة و الأناجيل و باقي الكتب المقدسة ، مع إقرارنا بأن من تلك الخصائص بقاؤه مكتوبا باللغة العربية التي نزل بها إلى يومنا هذا ، كما أشار إلى ذلك أركون ، و أما الخصائص الأخرى التي أغفلها أركون فمنها:
إن القرآن الكريم ظهر في فترة كان فيها تاريخ البشرية قد دخل دائرة الضوء ، و خرج من دائرة الظلام تقريبا ، و كُتب و حُفظ زمن النبي -عليه السلام- ،و وصل إلينا بالتواتر حفظا و تدوينا و إسنادا و إجماعا (2) .
و أما التوراة و الأناجيل فهي على العكس من ذلك تماما ، فلا أسانيد لها ، و لا لها أصول موحدة ، و لا يُعرف كُتابها على الحقيقة ، و لا تواريخ تدوينها . و ظهرت كلها في فترات مظلمة من تاريخ البشرية عُرفت بالتاريخ القديم ، غلبت عليها الفتن و الحروب و الخرافات و الأساطير (3) .
__________
(1) الإسلام أوروبا ، ص: 81 .
(2) سبق توثيق ذلك مرارا .
(3) رؤوف شلبي: أضواء على المسيحية ، ص: 21 و ما بعدها .(17/401)
و منها أيضا أن القرآن الكريم كتاب معجز مضمونا و لغة و تركيبا ، بشهادة القرآن نفسه ، و قد تحدى الله تعالى به عالم الجن و الإنس معا ،و حكم عليهم- منذ نحو15 قرنا- بأنهم لن يستطيعوا الإتيان بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، و الواقع يشهد على صدق القرآن في تحديه للجن و الإنس معا ، فلا أركون و لا شيوخه ، و لا أمثاله ، استطاعوا الرد على تحدي القرآن ، و ذهبت كل شبهاتهم و شكوكهم ،و تحريفاتهم هباء منثورا ، و لم تصمد أبدا أمام البحث العلمي المحايد النزيه. و في العصر الحديث أثبت التفسير العلمي للقرآن وجود جانب هام من جوانب الإعجاز في القرآن ، يتعلق بالعلوم الحديثة و علم الأعداد ، أذهل العلماء المختصين بذلك الإعجاز . و هذا أمر لم نجده في أي كتاب من كتب البشر القديمة ، الدينية و العلمية مها ، و قد سبق أن ذكرنا نماذج من بعض كتب أرسطو فيها أخطاء و أوهام علمية كثيرة . كما بينت دراسات علمية حديثة وجود أخطاء علمية و مستحيلات في التوراة و الأناجيل (1) ، هذا فضلا عن كثرة متناقضاتها و خرافاتها وعجائبها المستحيلة (2) .
ومنها أيضا أن في القرآن الكريم التوحيد الخالص الكامل المطلق لله تعالى في صفاته و أفعاله ، فهو سبحانه منزه عن النقائص و الشبيه و المثيل ، له الصفات المُثلى و الأسماء الحسنى ، و الايات في ذلك كثيرة جدا . و أما العهد الجديد و القديم ، فإن الأولى-أي الأناجيل- فلا يُوجد فيها توحيد أصلا ، فهي كتب تتضمن ديانة تثليثية وثنية. و أما الثانية -أي العهد القديم- فتوحيدها بعيد جدا عن القرآن الكريم ، فقد وصفت الله تعالى بالنقائص و الصفات القبيحة ،و زعمت أنه يتعب و يحزن ، و يندم و يشرب الخمر،و يُحلق ذهنه و يخرج الدخان من أنفه (3) .
__________
(1) أنظر : موريس بوكاي : المرجع السابق ، ص: 39 و ما بعدها ، و 104 و ما بعدها .
(2) سبق ذكر بعض منها .
(3) أنظر : المبحث الأول من الفصل الثالث .(17/402)
تلك هي بعض الخصائص و الفوارق الأساسية التي يتميز بها القرآن عن كل الكتب المقدسة ، ذكرنا بعضها للرد على أركون ، و إلا فإن خصائصه كثيرة جدا . و هو -أي أركون- مع تحيزه و إخلاله بالمنهج العلمي الموضوعي ، فإنه اعترف بأمر خطير و هام جدا ، نقض به مزاعمه السابقة عندما قال : (( و لهذا السبب أقول بأن البحث التاريخوي الأكاديمي أنهك نفسه من دون جدوى ، من اجل تقليص الصحة الإلهية للخطاب القرآني ، و ذلك عن طريق الإكثار من ربطه بالمرجعيات القديمة )) (1) . فهذا اعتراف صريح بفشل دراسات المستشرقين و تلامذتهم في سعيهم الحثيث لإنكار الصفة الإلهية للقرآن الكريم ، و تفسيره تفسيرا بشريا ، بدعوى أنه مُقتبس من كتب اليهود و النصارى ، لكنهم فشلوا في ذلك فشلا ذريعا ، كما فشل من قبل إخوانهم و أمثالهم في العهد النبوي و ما بعده.
و أما الخطأ العاشر فيتعلق بمدى توافق معطيات القرآن الكريم مع التاريخ ، فقد زعم أركون أن الروايات التاريخية القرآنية أحدثت أنواعا من الخلط و الحذف ، و الإضافة و المغالطات بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس (2) .
و زعمه هذا باطل من أساسه ، و افتراء مُتعمد لا دليل له فيه ، لأنه أولا أن القرآن الكريم ليس كتابا في التاريخ ، و إنما هو في الأساس كتاب دين ، فيه الإيمان و الهداية و التربية و أخبار الأنبياء و الحلال و الحرام ،و العقائد و المفاهيم ، لكنه مع ذلك أشتمل على كثير من الحقائق العلمية و التاريخية ، ذكرها الله تعالى لتؤدي وظائفها المُحددة لها ، من دون التزام بذكر الزمان و المكان ،و تفاصيلها التاريخية المتعلقة بها ، لكنها مع ذلك فهي حقائق صحيحة لا شك فيها ، و ليست خلطا و لا حذفا كما ادعى أركون.
__________
(1) القرآن ، ص: 100 .
(2) الفكر الإسلامي ، ص: 203 .(17/403)
و أما زعمه بأن الروايات التاريخية القرآنية أحدثت مغالطات ، فهو زعم باطل لا دليل عليه ، و هو عندما أطلق على الآيات القرآنية لفظ : الروايات القرآنية ، يُغالط و يُحرف ، بمخالفته للقرآن نفسه ، فهي آيات و ليست روايات ، لقوله تعالى : (( كتاب أُحكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير))-سورة هود1- . و هو المغالط أيضا عندما اتهم القرآن بأنه أحدث- بما ذكره من أخبار- مغالطات لا تتفق مع الواقع التاريخي المحسوس ، من دون أن يُقدم لنا مثالا واحدا صحيحا على صدق دعواه ، و نحن نتحداه بأن يٌقدم لنا مثالا واحدا صحيحا يُدعم به دعواه ، علما بأن الدعوى لا يعجز عنها أحد، ففي إمكان أي إنسان أن يدعي ما يُريد ، لكنه ليس في إمكانه إثبات كل ما يدعيه . و بناء على ذلك فنحن نطالب أركون بأن يُعطي لنا مثالا واحد يُدعم به زعمه ، على أن يحتج علينا بالحقائق لا بالأوهام و الشبهات و لا بأخبار العهدين القديم و الجديد ، فهي كتب ليست لها قيمة تاريخية علمية ، لأنها تفتقد إلى التوثيق العلمي ، و مملوءة بالمتناقضات و الخرافات ، و المستحيلات و التحريفات (1) .
و ثانيا إنه-أي أركون - عندما سُئل : هل زار النبي إبراهيم -عليه السلام- مكة ، مع أن القرآن يؤكد ذلك ، و الواقع التاريخي ينفيه ؟ ، أجاب بقوله : إن زيارة إبراهيم إلى مكة تُعتبر حقيقة لا تُناقش بالنسبة للوعي الأسطوري ، أو المنغمس في الخيال الأسطوري ، لكن ذلك (( لا يعني شيئا يُذكر بالنسبة للوعي التاريخي الحديث الذي يضبط الوقائع ضبطا تاريخيا محققا )) (2) .
__________
(1) أنظر : المبحث الأول من الفصل الثاني .
(2) الإسلام أوروبا ، ص: 75 .(17/404)
و ردا عليه أقول: أولا إن زعمه هذا دعوى بلا دليل ، أقامها على الظن و الهوى ، لا على العلم و الموضوعية و الحياد العلمي ، لأن مسألة زيارة إبراهيم الخليل-عليه السلام- إن كان القرآن أكدها ، و هي حقيقة لا شك فيها ، و لم تذكرها كتب اليهود و النصارى و غيرها ، فإن ذلك ليس دليلا على عدم حدوث الزيارة ، لأمرين أساسيين ، أولهما إن تلك الكتب لم تُدوّن إلا بعد أكثر من 10 قرون من زيارة إبراهيم -عليه السلام- إلى مكة المكرمة . و لأنها أيضا أنها كُتب تفتقد إلى التوثيق العلمي و مليئة بالأباطيل و الخرافات و الأخطاء العلمية ، بسب التحريف الذي تعرّضت له ، و كتب هذه حالتها لا يصح شرعا و لا عقلا و لا علما الاحتجاج بها أصلا .
و الأمر الثاني هو أن عدم ذكر حادثة ما في الكتب التاريخية ، لا يعني بالضرورة أنها لم تحدث ، و إنما قد يعني ذلك أنها سقطت بسبب النسيان و الغفلة . أو أنها أُهملت لعدم أهميتها عند الكاتب. أو أنها أُسقطت عمدا لأنها ليست في مصلحة الذين دوّنوا تلك الكتب ، و لا شك أنه ليس في مصلحة اليهود و لا النصارى أن يذكروا في كتبهم زيارة إبراهيم -عليه السلام- إلى مكة ، ليُقيم بيت الله الحرام ،و يترك بها ذريته ليكون منها محمد خاتم الأنبياء و المرسلين -عليه الصلاة و السلام .
و بناء على ذلك فإنه لن يصح زعم أركون في إنكاره للزيارة إلا إذا أقام الدليل المادي القاطع على عدم حدوث الزيارة ، و هذا لن يظفر به أبدا ، لأن الزيارة حقيقة و ليست وهما و لا خرافة ، و لا يُوجد في التاريخ الصحيح ما يُخالفها . و أما دعوى أركون فهي الخرافة التي يرفضها البحث العلمي الموضوعي الصحيح ، لأنه لم يُقمها عليه ،و إنما أقامها على الظن و الهوى .(17/405)
ثم أشار بعد ذلك إلى أن العقائد الدينية تُحاول حماية حقائقها من مناهج النقد و البحث التاريخي ، لأن (( الحقائق الدينية لا تتطابق مع الحقائق الواقعية من تاريخية ، أو فلكية ، أو فيزيائية ، أو غيرها ))، لذا فإن العلماء من كل الأديان ، بما فيها الإسلام ، يُحاولون منع تطبيق المنهجية التاريخية على النصوص المقدسة (1) .
و ردا عليه أقول : أولا إن أركون متناقض مع نفسه هنا ، مع ما نقلناه عنه سابقا عندما زعم أن التوراة هي مصدر موثوق صحيح ، ثم هو هنا يُعمم حكمه على كل الكتب الدينية بما فيها التوراة ، بأنها تضم حقائق دينية لا تتطابق مع حقائق التاريخ و الفلك و الفيزياء ، فأين صحة التوراة الموثوق فيها ؟ . فهذا دليل على أن أركون قال كلامه السابق ليطعن في القرآن ،و يُساير شيوخه المسشرقين في اتهاماتهم الباطلة للقرآن الكريم ، لأن كلامه هذا ينقض عليه دعواه السابقة .
__________
(1) نفسه ص: 75 .(17/406)
و ثانيا إن ما نقلناه عنه هنا ، لا يصدق مطلقا على الإسلام رغم أنف أركون الذي يحرص دائما على تسوية الإسلام بالأديان الباطلة ، ليطمس حقائقه معتمدا على أوهامه و ظنونه ، . فالإسلام هو دين العلم الذي أقام المنهج العلمي الصحيح المتعدد الطرق الاستدلالية حسب طبيعة كل علم ، و هذا سبق أن فصلناه في الفصل الثاني عندما رددنا على دعوى الجابري من أن القرآن ليست فيه طرق استدلال ، فلا داع لإعادته هنا . كما أنه قد سبق أن بينا أيضا أن التفسير العلمي للقرآن أثبت بالأدلة القاطعة أن القرآن يتضمن إعجازا علميا باهرا في مختلف العلوم الحديثة ، مما ينقض دعوى أركون بأن حقائق القرآن تخالف حقائق العلم ، و أن علمائه يُحاولون منع تطبيق المنهجية العلمية عليه ، كغيرهم من علماء الأديان الأخرى . و افتراء على الحقيقة لأن علماء المسلمين المختصين في مختلف العلوم هم الذين أنشؤوا هيئة عالمية للإعجاز العلمي في القرآن و السنة ، و هل من يفعل ذلك يخاف من تطبيق المنهج العلمي على القرآن ؟ ! . و هل من يفعل ذلك يستطيع إثبات ما يريد تحقيقه إذا كانت حقائق القرآن تتناقض مع الحقائق العلمية حسب زعم أركون ؟ ! .
و ثالثا إن الإسلام نفسه يدعوا إلى تطبيق المنهج العلمي على القرآن نفسه ،و على التاريخ و الطبيعة أيضا ، كقوله تعالى : -{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} - سورة النساء/82-، و{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} - سورة العنكبوت/20- ، و {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } - سورة آل عمران/137-.(17/407)
و أشير هنا إلى أمر هام جدا ، مفاده أن كثرا من الكشوفات الأثرية الحديثة أطهرت صدق ما أخبر به القرآن الكريم عن الحضارات و الأمم السابقة ، حتى أنه ظهر حاليا علم جديد يُسمى الإعجاز التاريخي في القرآن ، ما يزال في بداياته الأولى و له مستقبل واعد وطريف ، و مُبشر بنتائج باهرة ، لو يجد العلماء المخلصين الأكفاء المتخصصين في الآثار و اللغات القديمة و المتفرغين له . و من تلك الكشوفات التي أظهرت ما أخبر به القرآن بطريقة مُعجزة ، اكتشاف مدينة إرم ذات العماد، و ما حل بقوم لوط من عذاب و دمار ، و نجاة جثة فرعون الخروج ، و ذكر القرآن لهامان ، و غيرها من الكشوفات الأثرية (1) .
__________
(1) للتوسع في ذلك أنظر : موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة ، على شبكة الأنترنت . و على موقع إسلاميات .، على نفس الشبكة .(17/408)
و فيما يتعلق بهامان فإن التوراة و الأناجيل لم تذكر أنه كان معاصرا لموسى-عليه السلام- ، و إنما ذكر شخصا بهذا الاسم كان مع أحد ملوك الفرس عاش بعد موسى بفترة طويلة . لكن القرآن ذكر صراحة أن هامان كان مع فرعون زمن نبي الله موسى-عليه السلام- ، و من المُقربين منه، و هو الذي أمره بأن يبني له صرحا ، قال تعالى : {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} - سورة القصص/38-، و عندما اُكتشف حجر رشيد بمصر سنة 1799م و حُلت طلاسم اللغة الهيروغليفية الفرعونية القديمة ، و عُرف تاريخ الفراعنة ، تمكنا من التعرّف على حجر فرعوني هو الآن في متحف هوف بالنمسا ، مكتوب عليه اسم هامان ، و أنه كان من المقربين من فرعون ، و كان مسؤولا عن عمال مقالع الأحجار . و هذا وصف مُطابق تماما لما ذكره القرآن ، في وقت كان فيه تاريخ الفراعنة مجهولا تماما لم يُعرف إلا بعد اكتشاف حجر رشيد سنة 1799م (1) . فهذا التوافق العجيب ، إعجاز مُذهل يزيد المؤمنين إيمانا ، و يهدي الضالين الموضوعيين إلى الدين الحق ، و يزيد المتعصبين ضلالا و بعدا عن الحق ، لأنهم يرفضون الحق ،و يتبعون أهوائهم و ظنونهم و مصالحهم الدنيوية الزائلة ، و لا يظرون في النهاية إلا أنفسهم .
__________
(1) هارون يحيى : معجزات القرآن ، ص: 58 و ما بعدها .(17/409)
و أما الخطأ الأخير -أي الحادي عشر- فيتمثل في أن أركون زعم أننا ((لا نعرف متى بدأ المسلمون يستخدمون النص القرآني كنص عبادي في الصلوات، و الطقوس ،و لا كيف تطوّر ذلك على مدار التاريخ )) (1) . و قوله هذا غير صحيح ، و فيه تعمد في التضليل و التدليس ، و الإغفال لحقائق التاريخ الثابتة المعروفة ، و ذلك أن المسلمين مروا بمرحلتين في العهد المكي في قراءتهم للقرآن في الصلاة ، فالمرحلة الأولى كانت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء و المعراج سنة 10 أو 11 هجرية ، و في هذه المرحلة كان المسلمون يقرؤون القرآن في الصلاة و خارجها ، وهي ليست الصلوات الخمس ،و إنما تتمثل في قيام الليل الذي كان يقومه النبي -عليه الصلاة و السلام- و أصحابه الكرام ، بدليل قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ،أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتيلا ) -سورة المزمل/1-4- و {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } - سورة المزمل/20-، و هذه السورة-أي المزمل- هي سورة مكية من أوائل ما نزل من القرآن ، و تأتي في المرتبة الثالثة في النزول ، و قد اسمرت هذه المرحلة نحو 10 سنوات. و أما المرحلة الثانية فبدأت بفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء و المعراج، و قراءة القرآن فيها واجب ، و لا صلاة إلا بقراءة القرآن (2) .
__________
(1) القرآن ، هامش ص : 155 .
(2) ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ، ط1 ، دار السلام ، الرياض ، 1414 ، ج 4 ص: 262، 365 . و محمد رمضان البوطي: فقه السيرة ، دار الفكر ، الجزائر ، 1991 ، ص: 108 . و السيد سابق : فقه السنة ، دار الجيل ، بيروت ، 1995، ج 1 ص: 102 .(17/410)
و بذلك يتبين أن أركون كان معتمدا فيما ادعاه من باطل ، مع أن الأمر واضح ثابت ، و معروف مُدوّن في كتب السيرة و التاريخ ، و التفسير الفقه .
و قبل إنهاء مبحثنا هذا أُشير إلى ثلاثة أمور هامة جدا ، أولها إن أركون في طعنه في القرآن الكريم ،و إثارة الشكوك و الشبهات حوله هو يسير على خُطى أسلافه من القدماء و المُحدثين الطاعنين في القرآن ، و ذلك أن قريشا هي أول من طعن في القرآن الكريم، و سعت جاهدة للرد عليه و إبطاله ،و إيجاد تفسير بشري له ، فعجزت و فشلت فشلا ذريعا ،و استسلمت في النهاية. ثم لما انتصر الإسلام ، و أظهره الله تعالى على الدين كله ، طعن فيه أهل الذمة ، منهم : النصراني يُوحنا الدمشقي(ت 133ه ) ، كان من رجال الكنيسة الشرقية ، و عاش في البلاط الأموي بدمشق ، و كان يُتقن اللغة العربية ،و له معرفة بالعلوم الشرعية ،و الفلسفة اليونانية ، صنف كتابا سماه : ينبوع المعرفة ، ملأه بالطعن في الإسلام ما أشبع به غليله و حقده و تعصبه على الإسلام و رسوله و أتباعه ، فشكك في أن يكون الإسلام امتدادا لحنفية إبراهيم- عليه السلام- ، و ادعى أن الإسلام هو هرطقة مسيحية يقوم على عقيدة النساطرة ، في القول ببشرية المسيح ، و قال أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كانت معرفته بالعهدين القديم و الجديد ضعيفة ، و وقع على ذلك مصادفة ، و أنه أخذ عن الراهب الأريوسي بحيرى . و زعم أيضا أن القرآن نتاج لأحلام اليقضة ، لأن الرسول تلقاه و هو نائم (1) .
__________
(1) عبد الرحمن محمد عبد المحسن : الغارة التنصيرية على أصالة القرآن الكريم ، ص: 19 و ما بعدها .(17/411)
و بتلك الأباطيل و الأساطير و المغالطات وضع يُوحنا الدمشقي أساسيات الجدل المسيحي ضد الإسلام، و قد سار على طريقته من جاء بعده من النصارى الطاعنين في القرآن إلى يومنا هذا . و منهم أيضا : تيودور أبو قرة ، و هو من تلاميذ يُوحنا الدمشقي ، و عبد المسيح الكندي (ت ق: 4ه )، صنف رسالة عن الإسلام ، طعن فيها في القرآن الكريم و النبي-عليه الصلاة و السلام- ، و قد نشرها المنصرون في العصر الحديث ، لتعليم النصارى أساليب مجادلة المسلمين حول القرآن و الرسول (1) -صلى الله عليه وسلم- .
و أما المحدثون الطاعنون في القرآن مضمونا و تاريخا ، فهم كثيرون جدا، على رأسهم المستشرقون ، و هؤلاء لهم حركة فكرية استشراقية عالمية ، لها من العمر أكثر من 200 سنة ، و تملك قدرات بشرية و مادية هائلة . ركزت أساسا على الدراسات الإسلامية عامة ، و القرآنية خاصة ، متبعة طريقة يُوحنا الدمشقي مع الاختلاف في الوسائل و الإمكانات و الظروف ، فكتبوا في مصادر القرآن و تاريخه ، و أرجعوه إلى الوسط الوثني العربي ،و اليهودي النصراني ، و الزرادشتي و الهندي القديم، فعلوا كل ذلك لنفي الصفة الإلهية عن القرآن . و من المستشرقين الذين كتبوا في ذلك الموضوع : سانت كلير ، و سايدر سكاي، و ويلم وير ، و آرثر جفري، و إبراهام جيجر ، وفسنك (2) .
و أما الذين كتبوا منهم في تاريخ القرآن فمنهم :بواتيه ، له كتاب تاريخ القرآن ، و إدوارد سل ، له كتاب التطور التاريخي للقرآن ن أصدره سنة 1898/ ، و اليهودي جولد تزهير ، له كتاب: تاريخ النص القرآني ،أصدره سنة 1860م (3) .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 23 .
(2) نفس المرجع ، ً: 73، 78، 80 .
(3) نفس المرجع ، ص: 75 .(17/412)
و هؤلاء هم على طريقة كفار قريش ،و يُوحنا الدمشقي و أمثاله، و قد أعياهم البحث من أن يصلوا إلى حقائق لتأييد مزاعمهم ، فلم يصلوا إلا إلى الأوهام و الظنون ،و الخرفات و الأساطير في إنكارهم لنبوة محمد -عليه الصلاة و السلام- ،و طعنهم في القرآن الكريم ، فباؤوا بفشل ذريع و إخفاق تام. لأن القرآن الكريم لا يقبل التفسير البشري أبدا ، فهو كما تحدى الأقدمين و أعجزهم ، فهو ما يزال يتحدى المعاصرين و يُعجزهم، و سيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض و من عليها. و هؤلاء المستشرقون هم شيوخ أركون الذين سار على نهجهم و دربهم في طعنه في القرآن و إثارة الشكوك و الشبهات حوله ، و قد ذكرنا على ذلك أمثلة كثيرة جدا ، تبين منها أن الرجل أعاد تكرار أباطيل شيوخه و أسلافه .
و أما الأمر الثاني فيتعلق بطبيعة فكر أركون ، فإنه كثيرا ما كان يصف الإسلام بالأسطورية ، و يصف فكره هو بالعلمية ، لكن الأمر الهام الذي تبين لي هو أن فكر أركون تُمثل فيه الأسطورة جانبا كبيرا ، فوجدته فكرا مبنيا على كثير من الظنون ، و الأوهام و الخرافات ، يرد بها الحقائق الشرعية و التاريخية ، و العقلية و العلمية . و نحن وصفنا فكره بذلك بناء على مناقشاتنا له ، وردودنا عليه ، و دحضنا لمزاعمه .
و الأمر الأخير-أي الثالث- يتعلق بالمنهج الذي اتبعه أركون فيما كتبه عن القرآن الكريم ، فقد تبين لي مما كتبه أركون عن القرآن أنه منهج تميز بخصائص سلبية كثيرة ، منها إنه أغفل و أبعد القرآن و السنة من أن يكونا مصدرين أساسيين في أبحاثه عن القرآن . و إنه أغفل و أبعد الأخبار التاريخية الصحيحة التي تتعارض مع ظنونه و خلفياته المذهبية . و إنه أكثر من المبالغات ، و المفتريات و التقزيمات من دون أي سند علمي صحيح . و إنه كان سلبيا تجاه شيوخه المستشرقين في موقفهم من القرآن من جهة ، و متهجما هو عليه و مُثيرا حوله الشبهات و الشكوك ، من جهة أخرى .(17/413)
تلك هي بعض خصائص منهج أركون الذي طبقه على القرآن و علومه و تاريخه ، و هو منهج قد انتقده القرآن و ذمه ،و فضح أهله منذ أكثر من 14 قرنا ، في قوله تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} - سورة آل عمران/71-، فهذه الآية وحدها فضحت منهج اليهود و النصارى و الذين على شاكلتهم قديما وحديثا ، فهؤلاء يُلبسون الحق بالباطل ، و يكتمون الحق و هم يعلمون أنه حق . و من ذلك أيضا قوله تعالى : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} -سورة النجم/23- ،و هذا ينطبق على أركون و شيوخه في دراساتهم عن الإسلام ، فهم في ذلك مُتبعون لأهوائهم و ظنونهم ، يُجادلون في القرآن بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير ، مصداقا لقوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}- سورة الحج/8-. فهذه الآيات و غيرها تنطبق تماما على أركون و شيوخه في منهجيتهم غير العلمية في تعاملهم مع القرآن مضمونا و تاريخا ، و هم بإصرارهم عليه يُجسدون الدليل المادي على صدق القرآن الكريم في انتقاده و فضحه لهم من جهة ، و يشهدون على أنفسهم على صدق ما قاله القرآن فيهم من جهة أخرى .
و استنتاجا مما ذكرناه في مبحثنا هذا ، يتبين جليا أن أركون وقع في أخطاء تاريخية كثيرة تتعلق بالقرآن الكريم مضمونا وشكلا و تاريخا ، ذكرنا منها نماذج كثيرة جدا ، ناقشناه فيها و نقضناها عليه ، كانت أسبابها -في الغالب- سوء النية و الخلفيات المذهبية المغرضة ، و الإنحراف المنهجي .
ثانيا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالشريعة و السنة السيرة :(17/414)
عثرتُ على طائفة من الأخطاء التاريخية المتعلقة بالشريعة الإسلامية ،و السنة النبوية ، و السيرة المطهرة ، وقع فيها الباحثان محمد أركون و محمد عابد الجابري ، هي في معظمها من أخطاء أركون . ففيما يخص الأخطاء المتعلقة بالشريعة ، فهي كلها من أخطاء أركون ، أولها إنه زعم أن القُضاة في النصف الأول من القرن، الأول الهجري كانوا يستوحون أحكامهم من الأعراف المحلية قبل الإسلام، و من أرائهم الشخصية ، و أما (( الرجوع إلى القانون القرآني فلم يحدث إلا بشكل متقطع، و ليس بشكل منتظم كما حاولت الرواية الرسمية أن تشيعه )) (1) .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 297 .(17/415)
و قوله هذا زعم باطل ،و دعوى بلا دليل من الشرع و لا من العقل و لا من التاريخ ، و كان عليه أن يُوثقها من مصادرنا إن كان صادقا فيها ، لكنه لم يفعل ذلك لأنه ليس له بين يديه إلا الدعاوى و المغالطات و الشبهات التي أخذها عن شيوخه. مع العلم أن الثابت شرعا و تاريخا أن القضاء في العهدين النبوي و الراشدي كان مصدره القرآن أولا ، و السنة النبوية ثانيا ، و الاجتهاد القائم عليهما ثالثا (1) . فالشريعة الإسلامية كانت هي مصدر القضاء ، و هو جزء أساسي لا يتجزأ منها ، أما حكاية الأعراف المحلية فهي لم تكن أصلا في القضاء و لا فرعا منه أبدأ (2) ، لكنها ربما وُجدت في حالات فردية تتعلق باجتهادات القاضي تندرج ضمن ما يعُرف بالعرف عند الفقهاء . و هذا يُخالف تماما ما ذهب إليه أركون الذي حوّل الحبة الصغيرة جدا إلى قبة كبيرة جدا ، جعل الاستثناء الاجتهادي النادر إلى قاعدة أساسية عامة يقوم عليها القضاء في صدر الإسلام .
__________
(1) محمود الفضيلات : القضاء في صدر الإسلام ، دار الشهاب ، الجزائر ، د ت ، ص: 100 .
(2) أنظر : نفس المرجع .(17/416)
و زيادة في إبطال زعمه أورد الشواهد الآتية : أولها إن القرآن الكريم تكلم عن القضاء أمرا و تشريعا و تطبيقا في آيات كثيرة جدا ، كقوله تعالى : {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} - سورة البقرة/188- ، و-{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} - سورة النساء/65- ، و{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} - سورة النساء/105 ، و { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} - سورة المائدة/44-، و، { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } - سورة المائدة/48- و، و{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} - سورة النساء/58 - ، و-{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} - سورة الجاثية/18 ، هذا فضلا عن آيات الأحكام التفصيلية المتنوعة المتعلقة بالتجارة و الحدود و الميراث . فالقرآن إذاً هو المصدر الأساسي الأول للقضاء في الإسلام و تاريخه .(17/417)
و الشاهد الثاني هو من السنة النبوية ، فقد كان النبي-عليه الصلاة و السلام- هو القاضي الأول في زمانه بأمر من الله تعالى ، فكان يحكم بين المسلمين و يُطبق عليهم الشريعة الإسلامية في مختلف جوانب الحياة . و كانت له أفضيات كثيرة جدا ، دونتها كتب الحديث و السيرة و الفقه (1) . كما أنه كان للنبي-عليه الصلاة و السلام- قضاة عينهم على النواحي و الأقاليم ، منهم : عمر بن الخطاب ، و علي بن أبي طالب ، و مُعاذ بن جبل (2) - رضي الله عنهم - . و من أقواله في القضاء أنه عليه الصلاة و السلام كان يقول : (( لا يحكم أحد بين اثنين و هو غضبان ))، و (( و إذا تقاضى إليك اثنان فلا تقضي للأول حتى تسمع كلام الآخر ، فسوف تدري كيف تقضي)) (3) .
و الشاهد الثالث يتعلق بالقضاء زمن الخلفاء الراشدين ، فقد توسع القضاء في زمانهم ، و اُستحدثت فيه أشياء كثيرة ، لكنه مع ذلك ظل قضاء إسلاميا صرفا ، يقوم أساسا على القرآن و السنة أولا ، و ما أجمع عليه الصحابة ثانيا ، و على الاجتهاد الفردي ثالثا (4) .
و الشاهد الرابع يتمثل في الدليل العقلي، ومفاده أنه بما أن المجتمع في النصف الأول من القرن الأول الهجري كان مجتمعا إسلاميا يقوم أساسا على القرآن و السنة النبوية ، تشريعا و تطبيقا ، فلا يصح عقلا و لا شرعا الزعم بأن القضاة المسلمين أهملوا التشريعات القضائية الموجودة في القرآن و السنة ،و اعتمدوا على اجتهادا تهم الخاصة ،و الأعراف المحلية القديمة .
__________
(1) للتوسع أنظر : محمود الفضيلات : المرجع السابق ، ص: 45 .
(2) أحمد بن حنبل : المسند ، ج 1 ص: 156 . و خليفة بن خياط : تاريخ خليفة خياط ، ج 1 ص: 14 . و محمود الفضيلات : نفس المرجع ، ص: 74 و ما بعدها .
(3) الترمذي: السنن ، ج 3 ص: 618 . و الألباني : الجامع الصغير و زياداته ، ج 1 ص: 44 ، 1360 .
(4) محمود : الفضيلات : المرجع السابق ، ص: 172، 204 ، 218 ، 259 .(17/418)
و أما الشاهد الأخير -أي الخامس- ، فيتمثل في قول لأركون ينقض زعمه الذي نقلناه عنه سابقا ، يقول فيه : إنه لما توقف الوحي بوفاة النبي أصبح القرآن (( يُرجع إليه من أجل تحديد المعايير الأخلاقية ، و السياسية ، و الشعائرية ، و القضائية ، التي ينبغي أن تتحكم منذ الآن فصاعدا بفكر كل مسلم )) (1) . فهذا رد دامغ من أركون على نفسه ، و هو كاف وحده لدحض ما ادعاه سابقا ، لكن الرجل لا يعي ما يقول ، أو أنه يتعمد الوقوع في المتناقضات و لا يُبالي بها من أجل الوصول إلى ما يُريد . و خلاصة ما ذكرناه هي أن القضاء في صدر الإسلام كان قضاء إسلاميا محضا قائما أساسا على الكتاب و السنة .
و الخطأ الثاني زعم فيه أركون أن عملية المرور من مرحلة المجازات القرآنية إلى (( مرحلة إنجاز القوانين الصارمة الواضحة التي هي الشريعة الإسلامية )) تمت في مناخ أُسطوري (2) .
و قوله هذا وهم و خرافة ، لا دليل عليه من الشرع و لا من التاريخ ، لأن القرآن الكريم كله حقائق بمجازاته و تشبيهاته و بمختلف أساليبه التعبيرية ، على ما سبق أن بيناه في الفصل الثاني . و لأن الشريعة هي أيضا حقائق ثابتة على مستوى النصوص و التطبيق ، و تاريخها معروف موجود في القرآن و السنة ،و كتب الفقه و التاريخ (3) .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 73 .
(2) تاريخية الفكر ، ص: 299 .
(3) أنظر مثلا : محمد الزفزاف: التعريف بالقرآن و الحديث ، ً: 250 و ما بعدها . و عمر سليمان الأشقر : تاريخ الفقه الإسلامي ، ص:35 و ما بعدها . و محمود الفضيلات : القضاء في صدر الإسلام ، ص: 47 و ما بعدها .(17/419)
و كذلك الفقه الإسلامي (1) فتاريخه معروف ومُدوّن ظهر مُبكرا زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- ، عندما كان الصحابة يطبقون الإسلام ظاهرا و باطنا ، ثم ازدهر أكثر زمن الخلافة الراشدة و ما بعدها ، عندما توسعت الدولة الإسلامية ، و كثُرت المشاكل و القضايا ،و ازدهرت الحركة العلمية بشكل كبير على أيدي الصحابة و تلامذتهم و من جاء بعدهم (2) . كل ذلك تم في ظروف بشرية عادية للغاية ، و في مناخ اخوي إيماني لا مجال فيه للمناخ الأسطوري الذي توهمه أركون من دون دليل من الشرع و لا من العقل و لا من التاريخ .
و أما الخطأ الأخير-أي الثالث- فيتمثل في زعم أركون بأن القانون- أي الفقه الإسلامي- اُستلحق بالشريعة (3) . و قوله هذا باطل شرعا و تاريخا ، لأن الفقه الإسلامي أو القانون كما سماه أركون مُكون من فقهين ، هما : فقه الشريعة ، و فقه الاجتهاد ، الأول جزء لا يتجزأ من الشريعة ، و بمعنى آخر من دين الإسلام ، ظهر بظهوره لأنه جزء منه. و الثاني هو فقه بني على فقه الشريعة ، و اُستنبط منها ، و بمعنى آخر هو ثمرة لها ، و هو التراث الفقهي الإسلامي الذي أنتجه علماء الإسلام . و هو أيضا قد ظهر مُبكرا زمن النبي -عليه الصلاة و السلام- ، على أيدي أصحابه ، ثم اتسع مجاله فيما بعد (4) .فالفقه الإسلامي لم يُستلحق بالشريعة كما زعم أركون ،و إنما هو ثمرة أصيلة لها ، و لولاها ما ظهر هذا الفقه ، و علماء الأمة يُفرقون جيدا بين الشريعة كدين ، و بين الفقه كاجتهاد مُستنبط منها (5) .
__________
(1) أركون لا يُفرق بين الشريعة و الفقه الإسلامي ، و قد سبق أن تناولنا هذا الموضوع في الفصل الثاني ،و رددنا فيه على أركون .
(2) أنظر نفس المراجع السابقة .
(3) الفكر الأصولي ، ص: 23 .
(4) أنظر : عمر سليمان الأشقر: تاريخ الفقه الإسلامي ، ص: 55 و ما بعدها .
(5) أنظر مثلا : الأشقر : تاريخ الفقه ، ص: 71، 75 و ما بعدها .(17/420)
و أما الأخطاء التاريخية المتعلقة بالسنة النبوية ، فهي من أخطاء أركون و الجابري معا ، فمن أخطاء الأول أنه زعم بأنه حسب المعلومات و الوثائق المتوفرة لدينا فإن الخليفة عمر بن عبد العزيز المتوفى سنة 99ه/717م ، هو أول من استخدم مصطلح السنة بمعنى الحديث النبوي ، و كان ذلك في سنة 80ه/700م (1) .
و قوله هذا غير صحيح تماما و يتضمن أخطاء تاريخية ، لأنه أولا قال: إن الحليفة عمر بن عبد العزيز استخدم عبارة : السنة سنة 80 هجرية . و هذا غير صحيح لأن الذي كان يحكم الدولة الأموية في هذه السنة هو الخليفة عبد الملك بن مروان (65-86 ه) ، و عمر بن عبد العزيز لم يتول الخلافة إل في سنة 99ه . كما أنه -أي أركون- أشار إلى أن عمر بن عبد العزيز توفي سنة 99ه/717م ، و هذا غير صحيح ، فقد مات سنة 101ه/719م (2) .
وثانيا إنه ليس عمر بن عبد العزيز هو أول من استخدم مصطلح السنة بمعنى الحديث النبوي، فهذا مصطلح استخدمه النبي نفسه-عليه الصلاة و السلام- ، فقد ورد استخدامه في أحاديث كثيرة (3) ، منها قوله عليه الصلاة و السلام : (( فمن رغب عن سنتي فليس مني )) (4) .
و أما استخدامه زمن الصحابة فقد كان منتشرا بينهم ، بدليل رسالة عمر بن الخطاب في القضاء ، التي ورد فيها مصطلح السنة بمعنى الحديث النبوي ، و هي رسالة صحيحة الإسناد ذكرتها مصادر إسلامية كثيرة (5) .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 22 .
(2) ابن العماد الحنبلي: الشذرات ، ج 2 ص: 5 .
(3) أنظر مثلا : ابن ماجة : السنن ، ج1 ص: 16 . و مالك ابن أنس: الموطأ برواية محمد بن الحسن ، ط1 ، دار الفكر ، دمشق ، 1413 ، ج 2 ص: 184، 427 .
(4) البخاري: الصحيح ، ج 5 ص: 1949 .
(5) أنظر مثلا : ابن تيمية: منهاج السنة ، ج 6 ص: 71 . و الدارقطني: السنن ، ج 4 ص: 206 ، 207 . الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ، ج 10 ص: 449 . و الألباني : مختصر إرواء الغليل ، ج 1 ص: 521 .(17/421)
و بذلك يتبين أن ما ادعاه أركون غير صحيح ، مضمونا و توثيقا ، فعجبا منه كيف يقول : (( و في هذه الحالة الراهنة لمعلوماتنا و الوثائق التي نمتلكها ، نجد أول استخدام لتعبير سنة النبي لم يحصل إلا عام 80ه/700م)) (1) . ثم هو لا يذكر لنا أي مصدر من المصادر المزعومة ، و لا يُوثق دعواه . مع أن الحقيقة أن المصادر المتوفرة تخالف زعمه تماما ، و قد ذكرنا بعضها. فلا هو ذكر وثائقه المزعومة ، و لا وثق دعواه ، و لا استثنى المصادر التي تخالف زعمه .
و الخطأ الثاني زعم فيه أركون أن الحديث النبوي ما هو إلا اختلاق مستمر ، ما عدا بعض النصوص القليلة التي يصعب تحديدها و حصرها (2) . و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، لأن الحديث الصحيح هو الأصل ، و الضعيف هو الاستثناء ، و ليس كما زعم أركون عندما قلب الوضع . لأن الأحاديث الضعيفة و المكذوبة لم تظهر و لم تنتشر إلا بعد انتشار الأحاديث الصحيحة بين المسلمين ، بدليل الشواهد الآتية :
أولها إن السنة النبوية كانت منتشرة بين المسلمين منذ زمن النبي-عليه الصلاة و السلام - لأنها هي المُفسرة للقرآن و المطبقة له على أرض الواقع، و كان المسلمون في حاجة ماسة إليها ، لذا نص القرآن الكريم في آيات كثيرة على وجوب إتباع السنة النبوية و الالتزام بها.
و الشاهد الثاني هو أن السنة النبوية كانت منتشرة بشكل واسع زمن الخلافة الراشدة ، بسب حب المسلمين لها و حاجتهم الماسة إليها ، و حث القرآن الكريم على وجوب إتباعها ، و إكثار بعض الصحابة من التحديث بالسنة النبوية في مجالس العلم و غيرها (3) .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 22 .
(2) تاريخية الفكر العربي ، ص: 297 .
(3) محمد عجاج الخطيب : السنة قبل التدوين ، ص: 75 و ما بعدها .(17/422)
و الشاهد الثالث يتمثل في أن السنة النبوية كان كثير منها مدونا في صحف و رقاع شخصية في القرن الأول الهجري ، ثم زاد عددها عندما أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتدوين الحديث النبوي (1) . و بناء على الشواهد التي ذكرناها فإنه بما أن السنة النبوية هي المفسرة للقرآن و المطبقة له، و الشرع أمر بالالتزام بها ، و حاجة المسلمين إليها ماسة ، فإن ذلك يعني -بالضرورة- أن السنة الصحيحة كانت معروفة و مطبقة و منتشرة بين المسلمين بكثرة قبل الفتنة الكبرى(35-41ه) و بعدها .
و بناء على ذلك فإنه لا يصح شرعا و لا عقلا و لا تاريخا القول بما زعمه أركون من أن الحديث النبوي كان اختلاقا مستمرا لم يصح منه إلا القليل الذي يصعب تمييزه و حصره .و إنما الصحيح هو عكس ما زعمه أركون تماما من أن السنة الصحيحة هي الأصل و الأكثر انتشارا و تداولا . ثم لما انتشر الكذب على الرسول-عليه الصلاة و السلام - تصدى له علماء الحديث و بذلوا جهودا كبيرة مضنية لتنقية السنة و تمييز صحيحها من سقيمها ، وفق منهج علمي نقدي كامل جمع بين نقد الأسانيد و المتون معا (2) . و هذا أمر أغفله أركون معتمدا على التقزيم و الإغفال ،و التغليط و التدليس ،و التحريف و التهويل .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 329 و ما بعدها .
(2) نفس المرجع ، ص: 219 و ما بعدها ، 239 و ما بعدها .(17/423)
و الخطأ الثالث زعم فيه أركون أن الأحاديث النبوية كانت تُثار و تُستحضر طبقا لحاجيات (( اللحظة و الوسط مشفوعة بإسناد مُتغير لن يستقر قبل القرن الرابع الهجري)) (1) . و قوله هذا فيه خطأ كثير و صواب قليل ، جعله يُحوّل الحبة الصغيرة إلى قبة كبيرة ، لأن الأصل في الأحاديث النبوية هو الصحة و الانتشار بين المسلمين و ليس العكس ، فلما انتشر الكذب تولى علماء الأمة مهمة الحفاظ على السنة و تنقيتها و تحقيقها. لكن أركون أغفل ذلك و ضخم دور الكذابين في إفساد الحديث النبوي ، و هذا عمل ليس من المنهج العلمي الموضوعي في شيء .
وأخطأ أيضا عندما عمم حكمه على الأسانيد و زعم أنها لن تستقر قبل القرن الرابع الهجري .و هذا غير صحيح لأن أسانيد الأحاديث الصحيحة كانت ثابتة معروفة لدى أهل العلم ،ولم تتعرض للتغيير و لا للتحريف.و ليس صحيحا أنه لم تستقر قبل القرن الرابع الهجري ، لأن كثيرا من الأحاديث النبوية كانت مستقرة متنا و إسنادا في الصحف و الدفاتر الشخصية في القرن الثاني الهجري، و في النصف الثاني منه بدأت في الاستقرار على مستوى المؤلفات ، كموطأ الإمام مالك . ثم في القرن الثالث الهجري استقرت السنة النبوية الصحيحة في دواوين السنة الكبرى ، كمسند أحمد بن حنبل ، و صحيح البخاري، و صحيح مسلم ، و سنن أبي داود (2) .
و أما الخطأ الأخير -أي الرابع- زعم فيه أركون أن الجميع -عموما- يعترفون للشافعي بأنه (( فرض للمرة الأولى الحديث النبوي على أساس أنه المصدر الثاني الأساسي ليس فقط للقانون و التشريع ،و إنما أيضا للإسلام بصفته نظاما مُحددا )) (3) .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 264 .
(2) عمر سليمان الأشقر: تاريخ الفقه الإسلامي ، ص: 86 و ما بعدها .
(3) تاريخية الفكر ، ص: 75 .(17/424)
و قوله هذا غير صحيح ،و فيه تغلط و تدليس ، ، و هو افتراء مكشوف ، لأن كون السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام هو من المعروف بالضرورة من دين الإسلام ، منذ زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- إلى زمن الشافعي و ما بعده. لأنه لا إسلام دون سنة نبوية . و أما عمل الشافعي فهو ليس اكتشافا و لا فرضا و لا تأسيسا للمصدر التشريعي الثاني في الإسلام، لأن السنة كانت معروفة منذ العهد النبوي بأنها المصدر الثاني بعد القرآن الذي هو نفسه نصّ على ذلك في آيات كثيرة . فجاء الشافعي وصنف كتابا جمع فيه مصادر التشريع المعروفة ، على رأسها الكتاب و السنة و رتبها و احتج لها ، علما بأن الاحتجاج المتعلق بالسنة ليس جديدا لأنه معروف موجود في القرآن و السنة النبوية.
و أما أخطاء الجابري التاريخية المتعلقة بالسنة النبوية ، فمنها إنه ادعى أن (( بعض علماء الإسلام قد أجازوا وضع الحديث في مجال الترغيب و الترهيب أي في مجال الأخلاق)) (1) . و قوله هذا غير صحيح، و كان عليه أن يُوثقه ،و يذكر لنا بعض هؤلاء الذين سماهم علماء الإسلام لنتأكد من ذلك ، فربما كانوا من الكذابين المحسوبين على العلماء الذين يتعمدون الكذب على النبي-عليه الصلاة و السلام- في كل المجالات و ليس في الأخلاق فقط ، لأن كلامه الذي قاله عنهم هو طعن وقدح فيهم ، و هو مرفوض عند علماء أهل السنة الذين أجمعوا على أن من تعمد الكذب-أي الوضع- على النبي-عليه الصلاة و السلام- فليتبوأ مقعده من النار بناء على الحديث الصحيح المروي في هذا الباب . سواء كان الحديث المكذوب يتعلق بالعقائد و الشرائع ، أو بالأخلاق و الفضائل ، أو بالترغيب و الترهيب (2) .
__________
(1) العقل الأخلاقي ، ص: 535 .
(2) محمد الزفزاف : المرجع السابق ، ص: 265 . و محمود الطحان : تيسير مصطلح الحديث ، ص: 88 ، 89 .(17/425)
و يبدو أن الجابري أخلط بين وضع الحديث الموضوع ، و بين رواية الحديث الضعيف ، فعلماء الحديث أجازوا رواية –و ليس وضع- الأحاديث الضعيفة ليُميزوها و يختبرونها و يُحذروا الناس منها ، لكنهم لم يُجيزوا ذلك في الأحاديث الموضوعة-المكذوبة- (1) . و أما بالنسبة للعمل به فإن بعض كبار العلماء كيحيى بن معين، و البخاري و مسلم و ابن حزم لم يُجيزوا العمل بالضعيف مطلقا ، لكن كثيرا من علماء الحديث كأحمد بن حنبل ،و ابن عبد البر، و عبد الرحمن بن مهدي أجازوا العمل بالضعيف في فضائل الأعمال فقط بشروط ثلاثة هي : أن يكون الحديث الضعيف غير شديد الضعف . و أن يندرج الحديث الضعيف تحت أصل من أصول الشريعة المعمول بها. و أن لا يُعتقد عند العمل به بأنه ثابت عن الرسول-صلى الله عليه وسلم- (2) .
و بناء على ذلك فإن الجابري أخطأ فيما قاله، و يبدوا أن الأمر قد أختلط عليه بين جواز العمل بالضعيف في فضائل الأعمال ، و بين ما قاله من إحازة بعض علماء الإسلام جواز وضع الحديث في الأخلاق و الفضائل .
و أما الخطأ الثاني فيتمثل في أن الجابري ذكر أن أبا سفيان بن حرب لما أسلم ، كان النبي-عليه الصلاة و السلام- يُعامله معاملة سيد القبيلة طيلة حياته عليه الصلاة و السلام . حتى أن بعض المصادر نقلت عن ابن عباس أنه قال: (( ما سأل أبو سفيان رسول الله شيئا إلا قال: نعم)) . و أشار الجابري في الهامش إلى أن مسلما هو الذي روى هذه الرواية ، نقلها عنه أحمد أمين في كتابه ضُحى الإسلام (3) .
__________
(1) سليمان الأشقر: تاريخ الفقه الإسلامي ، ص: 106 . و محمود الطحان : نفس المرجع ، ص: 64 .
(2) نفس المرجع ، ص: 107 . و نفسه ، ص: 64-65 .
(3) العقل السياسي ، ص: 111 .(17/426)
و قوله هذا غير ثابت ، فالقول الذي رواه عن ابن عباس لم أعثر له على أثر في صحيح مسلم ،و لا في الكتب الحديثية الأخرى ، و لا في مصنفات الجرح و التعديل، و لا في كتب التراجم و التواريخ . كما أن الطريقة التي أتبعها في توثيقه لتلك الرواية غير سليمة ، فكان عليه أن يرجع إلى المصادر المتخصصة ، خاصة و أنها متوفرة ، أو على الأقل يرجع إلى المراجع الحديثية المتخصصة . و عدم رجوعه إلى تلك المصادر هو الذي أوقعه في هذا الخطأ .
و الخطأ الأخير –أي الثالث- يتعلق بطريقة ذكر الجابري لحديث موضوع مذكور في مؤلفات الشيعة ، مفاده أن النبي-عليه الصلاة و السلام- قال لعلي: (( لولا أن يقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك اليوم مقالا ...)) ، ثم قال أن المصادر السنية هي أيضا ذكرت هذا الحديث (1) .
و طريقته هذه –في العرض- تتضمن إشارة إلى أن أهل السنة هم أيضا يأخذون بذلك الحديث أو يُسلِمون به ، لكن الحقيقة هي أن أهل السنة كثيرا ما يذكرون الأحاديث الضعيفة و الموضوعة في كتبهم ، ليس لأنها صحيحة و يأخذون بها ، و إنما يذكرونها لتُعرف، و لتُميز ،و ليُعتبر بها ، و لتُحقق ،و ليُحذر منها، و قد يأخذون ببعضها في الفضائل بشروط (2) ...إلخ .
و أما الحديث الذي ذكره الجابري فلا يُوجد في الصحاح و لا في السنن ،و لا في مسند أحمد ، و قد رواه الطبراني في المعجم الكبير ،و ليس فيه زيادة الشيعة : (( ترثني و أرثك )) (3) .و أما الحديث من حيث الصحة و الضعف ،فهو حديث موضوع (4) .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 331 .
(2) محمود الطحان: تيسير مصطلح الحديث ، ص: 64 . و الأشقر : تاريخ الفقه ، ص: 106 .
(3) الطبراني : المعجم الكبير ، ج 1 ص: 320 .
(4) عبد الرحمن بن محمد الرازي: علل الحديث ، حققه محب الدين الخطيب ، دار المعرفة ، بيروت ، 1405ه ج 1 ص: 313 .(17/427)
و أما الأخطاء التاريخية المتعلقة بالسيرة النبوية فمنها أربعة ، هي من أخطاء أركون ،أولها يتمثل في زعمه بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لما كان في المدينة أحاط نفسه بمجلس من 10 أعضاء سمتهم (( المصادر القديمة بالمهاحرين الأول )) كلهم من قريش ، وهم : أبو بكر ، و عمر ، و عثمان ، و علي ، و طلحة ، و سعيد بن زيد، و ابن عوف ، و ابن أبي وقاس ، و الزبير ، و أبو عبيدة (1) .
و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، لأن الذين سموا بالمهجرين السابقين الأولين ليسوا هؤلاء العشرة ، فقط، فعددهم أكبر من ذلك بكثير ، فهو يشمل كل المسلمين الذين هاجروا إلى المدينة ، و هم من قريش و من غيرها من القبائل . و الذي سماهم بذلك الاسم هو الله تعالى في القرآن الكريم ، و لست المصادر القديمة على حد زعم أركون ، و قد وصفهم الله بذلك في قوله : -{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} - سورة التوبة/100- .
__________
(1) تاريخية الفكر العربي ، ص: 175 .(17/428)
و أما زعمه بأن النبي أحاط نفسه بهؤلاء العشرة بالمدينة ، هو قول غير صحيح ، و يستبطن انتقادا لرسول الله –عليه الصلاة و السلام- ، لأن الصحيح هو أن النبي أحاط نفسه بكل الصحابة دون استثناء ، بشهادة القرآن الكريم الذي قال لرسول الله : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} - سورة آل عمران/159- ، فكانوا كلهم حوله ، و كان هو لهم أبا و أما ،و كانوا هم يقولون له : (( بأبي أنت و أمي يا رسول الله )) (1) .
و الخطأ الثاني يتمثل في أن أركون ذكر مرارا أن النبي أمضى عشرين سنة كاملة بمكة و المدينة في الدعوة إلى الإسلام (2) . و تحديده للدعوة بعشرين سنة هو تحديد غير صحيح ، لأن الدعوة استمرت 23 سنة ، و هذا من التاريخ المتواتر ، لأن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- نزل عليه الوحي و له 40 سنة ، و تُوفي له 63 سنة (3) . و لا أدري لماذا أركون مصر على أن الدعوة دامت عشرين سنة ؟ ! . فهل يندرج ذلك ضمن طريقته في التغليط و التحريف ؟ .
__________
(1) البخاري : الصحيح ، ج 6 ص: 2447 .
(2) أنظر مثلا : تاريخية الفكر ، ص: 220 ، 280 ، 285 .
(3) أنظر مثلا : ابن كثير : فضائل القرآن ، ص: 15 .(17/429)
و أما الخطأ الثالث فيتمثل في أن أركون زعم أن الأمة المثالية التي حلم بها المسلمون لم تتحقق مطلقا بشكل محسوس في التاريخ (1) . و قوله هذا غير صحيح ، و فيه تحريف للتاريخ، لأن الأمة الإسلامية تحققت فعلا على أرض الواقع ، زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- و في الخلافة الراشدة ، بشهادة القرآن الكريم ، لقوله تعالى : -{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} - سورة آل عمران/110- ، و {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} - سورة النور/55-، و قد استمرت في العطاء و الخيرية إلى حدوث الفتنة الكبرى سنة 35 هجرية ، و ما بعدها ، لأنها و إن كانت تضررت كثيرا ، فإنها استمرت في الدعوة و العطاء و الإبداع بنسب مختلفة ، و قد كانت لها فترات ارتفعت فيها درجة الوحدة و العطاء و التعاون و الخيرية ، كما هو الحال زمن السلطان عماد الدين زنكي(ت541 ه) ،و ابنه نور الدين محمود (ت569ه ) ،و الناصر صلاح الدين الأيوبي(ت 589ه) (2) .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 18 .
(2) أنظر مثلا : محمد طقوش : التاريخ الإسلامي الوجيز ، ط1 ، دار النفائس ، بيروت ، 2002 ، ص: 196 و ما بعدها .(17/430)
و الخطأ الأخير –أي الرابع – زعم فيه أركون أنه لم يصح من السيرة النبوية إلا مقاطع متفرقة مُعترف بصحتها (1) . و قوله هذا زعم باطل، و افتراء مُتعمد عكسه هو الصحيح ، و ما صح من السيرة أكثر بكثير مما لم يصح منها ، بدليل الشواهد الآتية :
أولها القرآن الكريم ، فهو المصدر الأساسي للسيرة ، سجل كل مراحلها و محطاتها الكبرى و كثيرا من تفاصيلها ، من غزوات و حوادث متنوعة تتعلق بالسيرة و الدعوة في العهدين المكي و المدني.
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 144 .(17/431)
كقوله تعالى : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ،وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ،وَ وَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} –سورة الضحى/6-9- و{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }- سورة الشرح /1- و{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ }- سورة العلق/ 1-2- ، و{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} - سورة الأنفال/30-، و {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} - سورة التوبة/40-، و{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} - سورة التوبة/100-، و {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} - سورة آل عمران/123-، و{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} - سورة التوبة/25-، و{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ،وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} -سورة النصر/1-2- ، فالقرآن الكريم هو(17/432)
المصدر الأساس و الأول للسيرة النبوية ، سجل منها شيئا كثيرا ، هو وحده كاف لرد زعم أركون .
و الشاهد الثاني يتمثل في حوادث السيرة النبوية ، القولية و الفعلية و التقريرية التي دونتها كتب الحديث المحققة كصحيحي البخاري و مسلم ،و الكتب الأخرى التي يغلب عليها الصحيح، كمسند أحمد بن حنبل ، و سنن الترمذي ، و ابن ماجة ،و أبي داود ، و غيرها (1) .
و أما الشاهد الأخير-أي الثالث- فيتمثل في بعض كتب التاريخ التي أرخت للسنة النبوية ، و معطم ما فيها صحيح، لأن مؤلفيها من النقاد المحققين ، كثيرا ما نقدوا الروايات و محصوها ، كما فعل ابن كثير في جزء السيرة من تاريخه، و الذهبي في الجزء الأول من كتابه تاريخ الإسلام .و في عصرنا الحالي قام بعض النقاد المحققين بتحقيق السيرة النبوية وفق منهج أهل الحديث ، منهم : أكرم ضياء الدين العمري ، و محمد ناصر الدين الألباني، و أعمالهما مطبوعة و متداولة بن أهل العلم .
__________
(1) الأشقر : تاريخ الفقه ، 95 و ما بعدها .(17/433)
و أما أخطاء الجابري المتعلقة بالسيرة النبوية ، فعثرت منها على خطأين ، أولهما يتعلق بنظرة الجابري إلى الدعوة الإسلامية فتساءل: هل كانت تمثل مشروعا سياسيا معينا منذ بدايتها ،و هو الذي حققته على أرض الواقع بإنشاء الدولة و غزو الروم و الفرس و غيرهم ؟ ، ثم شكك في ذلك و تحفظ من الأخذ بالروايات التي ذكرت أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان قد بشر المسلمين منذ أن كان بالمدينة ، . ثم قال : إننا إذا أخذنا بتلك الروايات فإن الدعوة المحمدية ستفقد جوهرها ، بمعنى (( كونها دعوة دينية أولا و أخيرا )) ،و لأنها أيضا صوّرت الرسول-صلى الله عليه وسلم- كقائد عسكري أسس إمبراطورية (1) . ثم قال : (( و ليس في القرآن قط ،و هو المرجع المعتمد أولا و أخيرا ، ما يُفيد أن الدعوة المحمدية دعوة تحمل مشروعا سياسيا معينا )) ، ثم ذكر آية الإذن بالقتال {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} - سورة الحج/39-، و{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} - سورة الحج/41-، ثم قال : (( و لكن التمكين و النصر هنا هما للدين و ليس لمشروع سياسي يمكن الحديث عنه بمعزل عن الدين )) (2) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 21 ، 22 ، 23 .
(2) نفسه ، ص: 23 .(17/434)
و قوله هذا غير صحيح، ، لأنه أولا إن طريقة تشكيكه في الروايات الحديثية التي ذكرها حول الانتصار السياسي للإسلام ،و بنى عليها موقفه هي طريقة غير علمية في قبول و رد الروايات ، فإنه قال: من الجائز أن تلك الروايات نُسبت إلى الرسول-عليه الصلاة و السلام- بعد قيام دولة الإسلام ، و نُسبت إليه على طريقة العرب في التجويز في الكلام (1) . و ليس هكذا تُحقق الروايات و تُمحص لأن احتمال صحتها يبقى جائزا و واردا أيضا ، بأنها لم تُنسب إلى النبي و إنما قالها فعلا. لذا كان عليه إن أراد الوصول إلى الحقيقة ، أن يجمع تلك الروايات و يحققها إسنادا و متنا على طريقة أهل الحديث ، و لا يعتمد على مجرد الاحتمال ،و الترجيح النظري بلا مرجح حقيقي .
و ثانيا إن نظرته إلى الإسلام كدين و دولة هي نظرة ناقصة ، ليست نابعة من صميم دين الإسلام ، و لا أدري هل غابت عنه ، أم لا يعتقدها ، أم تعمد إغفالها ؟ . و حقيقة الإسلام إنه دين رباني عالمي يشمل كل جوانب الحياة دون استثناء ، فهو دين و دنيا ، و سيف و مصحف، صلاة و اقتصاد، عبادة و سياسة ، لذا فنحن إذا وصفنا الإسلام بذلك ، لا نفقده جوهره ،و إنما نضعه في مكانه الصحيح اللائق به الذي يستحقه .
و أما قوله بأن تلك الروايات صوّرت الرسول-صلى الله عليه و سلم- كقائد عسكري أسس إمبراطورية ، فهو قول فيه تغليط ، لأن محمدا –عليه الصلاة و السلام- كان رسولا نبيا، و قائدا عسكريا ، و مربيا مرشدا ، و سياسيا محنكا ،أسس دولة توسعت كثيرا على أيدي أصحابه ، فكانت دولة النبوة و الخلافة الراشدة ،و لم تكن إمبراطورية كما وصفها الجابري.
__________
(1) نفسه ، ص: 23 .(17/435)
و أما قوله بأنه لا يُوجد في القرآن ما يُفيد بأن الدعوة و الإسلامية كانت تحمل مشروعا سياسيا معينا ، فهو قول غير صحيح، لأن في القرآن الكريم آيات كثيرة نصت صراحة على أن الإسلام يحمل مشروعا عالميا معينا يقوم على أساس دين الإسلام ، في مختلف جوانب الحياة من دون استثناء ، و هو مشروع لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع ، دون مشروع متكامل الجوانب سياسيا و عسكريا، و اقتصاديا و اجتماعيا ، و إيمانيا و أخلاقيا . و الآيات التي تؤيد ما قلناه كثيرة ، منها قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } - سورة الأنبياء/107- و {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} - سورة الأعراف/158-{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} -سورة التوبة/33- و-{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} -سورة النور/55-،و الآيات الأولى تتضمن التمكين بالضرورة ،و الآيات الأخيرة نصت صراحة على التمكين السياسي و الأمني ، و الاجتماعي و العسكري، و الإيماني و الأخلاقي ، الذي سيتحقق على أيدي الصحابة بفضل من الله تعالى و توفيق منه .(17/436)
و هذه الآيات الأخيرة (( وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا ... )) لم يذكرها الجابري عندما ذكر آيات الإذن بالقتال و التمكين ، و هي{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} - سورة الحج/39- ، و{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} - سورة الحج/41-، و هي- التي ذكرناها- تبين أن ما ذكره الجابري من أنه ليس (( في القرآن قط ما يُفيد أن الدعوة المحمدية تحمل مشروعا ... )) ، هو قول غير صحيح ، يبدو أنه قال بذلك ليصل إلى علمنة الإسلام و تفريغه من مشروعه السياسي ، بطريقة ملتوية ظاهرها الحرص على الإسلام و الحفاظ عليه .
و رابعا إن تعليقه على قوله تعالى : {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} - سورة الحج/41-، هو تعليق غير صحيح فيه تغليط ، لأن الآية صريحة في أن التمكين للمؤمنين و الدين معا، و ليس للدين فقط كما زعم الجابري. كما أن التمكين للدين يستلزم التمكين للمؤمنين، و هو تمكين لمشروع إسلامي شامل لكل جوانب الحياة ، لأن الآية قالت صراحة : {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} - سورة الحج/41- ،و هذا كله لا يتحقق على أرض الواقع إلا بوجود مشروع إسلامي عملي شامل يقوم أساسا على التمكين السياسي و العسكري للمؤمنين ،و هو الأمر الذي تحقق على أرض الواقع في العهدين المدني و الراشدي .(17/437)
و أما قوله : (( و لكن التمكين و النصر هما للدين ، و ليس لمشروع سياسي يمكن الحديث عنه بمعزل عن الدين )) ، فهو قول ينطوي على نوع من التناقض ، لأن الجابري كان قد شكك في كون الدعوة و الإسلامية كانت تحمل مشروعا سياسيا منذ بدايتها ، ثم هو هنا يقول ما نقلناه عنه ، و يعترف بأن المشروع الذي بشر به الإسلام هو مشروع سياسي لا ينفصل عن الدين ! . و المهم في الأمر أن الإسلام كان يحمل مشروعا سياسيا عالميا ، يقوم على الدين ،و لا معنى للتكلم عن مشروع سياسي بمعزل عن دين الإسلام ،كما حاول الجابري أن يُوهمنا بذلك .
و أما الخطأ الأخير-أي الثاني- ، فيتمثل في أن الجابري قال : إن مرحلة الجهر بالدعوة بمكة امتدت (( ما بين ست و سبع سنوات من السنة الرابعة إلى الثالثة عشر للبعثة )) (1) . و قوله هذا فيه خطأ في الحساب ، لأن عدد السنوات من السنة الرابعة على السنة الثالثة عشر للبعثة ، إما أنه يساوي 10 سنوات إذا كانت السنتان الأولى و الأخيرة كاملتين ،و إما أنه 9 سنوات أو نحوها إذا كانت السنتان الأولى و الأخيرة ناقصتين . و على التقديرين فإن مدة المرحلة الجهرية لم تمتد ما بين 6-7 سنوات كما قال الجابري ، حسب الإطار الزمني الذي حدده من السنة الرابعة إلى السنة الثالثة عشر للبعثة .
ثالثا: الأخطاء التاريخية المتعلقة بنشأة الثقافة و العلوم في العصر الإسلامي:
عثرتُ على أخطاء كثيرة تتعلق بنشأة الثقافة و العلوم و تطورها ، خلال العصر الإسلامي، و قع فيها الباحث محمد عابد الجابري ، من بينها خطأ واحد فقط لأركون ، يتمثل في قوله : (( نجد في الواقع أن القصاصين المؤلفين ، قد ظهروا في مجتمع الفتوحات على هيئة الممثلين الفاعلين من أجل تشكيل جماعة العلماء – رجال الدين - )) (2) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 34 .
(2) تاريخية الفكر ، ص: 84 .(17/438)
و قوله هذا غير صحيح تماما ، لأن جماعة العلماء ظهرت مُبكرا في المجتمع الإسلامي و قبل الفتوحات ،و قبل ظهور القصاصين . فإنها تكونت على يدي رسول الله-عليه الصلاة و السلام- ، فهو الذي رباها و علماها ، و أشرف عليها و رعاها ، و حثها على طلب العلم و الصبر عليه، مما أدى إلى ظهور حركة علمية نشطة في العهدين النبوي و الراشدي (1) ، كان على رأسها علماء كبار الصحابة كأبي بكر و عمر ، و علي و ابن مسعود ، و أبي موسى الأشعري و أُبي بن كعب، و زيد بن ثابت و عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنهم- ،و هم الذين نشروا علوم الكتاب و السنة و العربية ، و على أيديهم تكوّن جيل علماء التابعين (2) .
و أما اخطاء الجابري المتعلقة بنشأة الثقافة و العلوم فهي كثيرة ، أذكر طائفة منها في ثلاث مجموعات ، الأولى تتعلق بما سماه الجابري : الثقافة العربية قبل عصر التدوين و خلاله (3) ،و تتضمن ستة أخطاء ، أولها يتعلق ببداية الثقافة العربية ، فادعى أنها بدأت في التكوين انطلاقا من نقطة ما داخل العصر الجاهلي، و هذا أمر مجمع عليه ضمنيا على الأقل ، و قد امتدت تلك الثقافة على نحو 150 سنة قبل الإسلام حسب غالبية الأقوال ، و بدايتها كانت بسيطة تماما ، يبدو أنها بديهية لا تحتاج إلى برهان (4) .
__________
(1) أنظر مثلا : محمد عجاج الخطيب : السنة قبل التدوين . و عمر سليمان الأشقر : تاريخ الفقه الإسلامي .
(2) عمر سليمان الأشقر: تاريخ الفقه الإسلامي، ص: 73 .
(3) يبدأ عصر التدوين حسب الجابري من منتصف القرن الثاني الهجري إلى منتصف القرن الثالث الهجري .التراث و الحداثة ، ص: 142 .
(4) تكوين العقل العربي ، ص: 36 ، 47 .(17/439)
و قوله هذا زعم لا دليل عليه، و رجم بالغيب ، و تعلق بأوهام ،و تدليس على القراء و تغليط لهم، لأنه أولا لم يُوثق زعمه بدليل تاريخي و لا عقلي ، عندما حدد بداية تكوّن الثقافة العربية المزعومة ، عند نقطة ما من تاريخ الجاهلية تعود إلى 150 سنة قبل الإسلام. و نحن لا نسلم بهذا التحديد و لا بالإجماع أو شبهه الذي ادعاه الجابري ، لأنه لم يذكر دليلا يُثبتُ أو يُرجح زعمه ، مما يعني أنه في إمكان أي باحث آخر أن يُرجع تلك البداية إلى 20 قرنا قبل الإسلام ،أ و يُرجعها آخر إلى 20 يوما قبل ظهور الإسلام . الأمر الذي يعني أن طريقة الجابري ليست علمية ،و لا تعتمد على المعطيات التاريخة الموثقة و الثابتة ، و إنما تعتمد على التخمين و الرجم بالغيب ،و هذا أمر لا يعجز عنه أحد.
و هو بذلك الفعل يكون قد غالط و دلّس ، عندما حدد وهمية تبدأ منها الثقافة العربية المزعومة ، و زعم أنها فكرة بدائية تماما و بسيطة تبدوا أنها بديهية لا تحتاج إلى برهان. و زعمه هذا تغليط مُتعمد ، لأن الفكرة البديهية هي تلك الفكرة التي تقوم على خصائص ثابتة تاريخيا ، و هي لا تتوفر فيما يخص نشأة الثقافة العربية التي تقوم على فكرة محددة وهميا. لكن مع ذلك قبلها الجابري بلا برهان ،و هو صاحب نظام البرهان المدافع عنه و المتحمس له.
و الخطأ الثاني زعم فيه الجابري أننا (( لا نعرف شيئا عن الثقافة العربية قبل عصر التدوين إلا ما قد تم تدوينه في عصر التدوين نفسه )) (1) . و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ،و فيه مبالغة شديدة ، لأنه أغفل مصدرين هامين لتلك الثقافة لا يدخلان في عصر التدوين الذي حدده الجابري من منتصف القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للهجرة ، أولهما المصدر القرآني فهو قد دُون زمن الرسول-عليه الصلاة و السلام- ،و قد سجل لنا أخبارا كثيرة متنوعة عن المجتمع العربي قبل الإسلام و أثناء نزول القرآن .
__________
(1) التراث و الحداثة ، ص: 142 .(17/440)
و المصدر الثاني يتمثل في المصادر الأثرية في الجزيرة العربية قبل عصر التدوين ،و المتمثلة في النقوش و المسكوكات و العمائر و غيرها (1) .
و أما الخطأ الثالث فيتمثل في زعم الجابري بأن (( الثقافة العربية قد تأسست في عصر التدوين بجمع اللغة العربية و تقنينها و تدوينها (2) . و قوله هذا غير صحيح في معظمه، لأن الثقافة المسماة عربية هي في الأصل قامت أساسا على القرآن الكريم ، و بدونه تسقط كلية ، فلا حضارة عربية و لا إسلامية ، و لا ثقافة إسلامية و لا عربية ، مما يعني أن الجزء الأساسي و الأهم من تلك الثقافة قبل عصر التدوين ، تأسس على القرآن فبل عصر التدوين بنحو 150 سنة . لكن الجابري أغفل هذه الحقيقة الشرعية و التاريخية الكبرى الدامغة ! ،و لا أدري أنسيها أم تناساها ؟ .
و الخطأ الرابع ادعى فيه الجابري أن عصر التدوين هو الإطار المرجعي للثقافة و الفكر العربيين في مختلف مجالاتها (3) . و قوله هذا غير صحيح في معظمه أيضا ، لأن الثقافة التي دُونت في عصر التدوين معظمها إسلامية المصدر ، كالفقه و التفسير ، و علوم القرآن و السيرة ،و علوم اللغة العربية ، و هذه العلوم مصدرها الأساسي و الأول القرآن الكريم ، و هو لا يدخل في مدونات عصر التدوين ، لأنه دُون زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- ، لذا فإن المصدر المرجعي لتلك العلوم هو القرآن و ليس مؤلفات عصر التدوين. علما بأن هناك جانب من تلك الثقافة يجد إطاره المرجعي في عصر التدوين ، كالمصنفات الحديثية التي صُنفت فيه،و مؤلفات العلوم القديمة التي تُرجمت في هذا العصر .
__________
(1) أنظر مثلا : لطفي عبد الوهاب يحيى : العرب في العصور القديمة ، دار النهضة العربية ، بيروت ص: 121 و ما بعدها .
(2) التراث و الحداثة ، ص: 159، 162 .
(3) تكوين العقل ، ص: 59 . و التراث و الحداثة ، ص: 142 .(17/441)
و أما الخطأ الخامس فيتمثل في أن الجابري وصف عملية التدوين بأنها (( كانت في الحقيقة عملية إعادة بناء ذلك الموروث الثقافي في الشكل الذي يجعل منه تراثا ، إي إطارا مرجعيا لنظرة العربي إلى الأشياء ، إلى الكون و الإنسان ، و المجتمع و التاريخ)) (1) . و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، لأنه إذا كان يصدق على الطوائف التي أسست عقائدها و أفكارها على المؤلفات التي صُنفت في عصر التدوين ، فإنه لا يصدق على المسلمين الذين يأخذون دينهم و مفاهيمهم و سلوكياتهم من القرآن الكريم مباشرة ، لأن القرآن ليس من مدونات عصر التدوين .
و الخطأ الأخير- أي السادس من المجموعة الأولى- ، يتمثل في أن الجابري قال : إن الثقافة العامية كانت رائجة في بلاد العرب قبل عصر التدوين ، فلما دُونت أصبحت ثقافة عالمة (2) . و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ،و يتضمن خطأين واضحين ، أولهما إن مقياس التمييز بين الثقافة العامية و العالمة ليس مقياسا واحدا ، و إنما هو مجموعة مقاييس ، من بينها مقياس التدوين، الذي هو ليس مقياسا حاسما ، و لا يكفي وحده ، و ليس ضروريا أيضا ، لذا فإن الثقافة إذا توفر فيها المختصون ، و تميزت بالموضوع و العمق و التقنين ، فهي ثقافة عالمة حتى و إن لم تُدوّن . و إذا دُونت و لم يتوفر فيها ما ذكرناه فهي ثقافة عامية و إن دُونت ، لأن مهمة التدوين بالدرجة الأولى تقييد العلم و حفظه . و مثال ذلك السنة النبوية الصحيحة ، فقد كانت علما و ثقافة عالمة قبل تدوينها ، فلما دُونت بقيت علما كما كانت قبل تدوينها ، و أصبحت علما مدونا محفوظا مُقننا .
__________
(1) تكوين العقل ، ص: 61 .
(2) تكوين العقل ، ص: 184 . و بنية العقل العربي ، ص: 14 .(17/442)
و الخطأ الثاني هو أن الجابري أغفل علوم القرآن و ثقافتها ، فنحن حتى إذا أخذنا بمقياسه فإنه لا ينطبق على علوم الإسلام قبل عصر التدوين ، لأنها تقوم على القرآن ، و هو ليس من مدونات ذلك العصر . و قد كان لتلك العلوم-قبل التدوين- شيوخ و طلاب متفرغون ، و لها مراكز علمية معروفة ، كالكوفة و البصرة ، و مكة و المدينة ، و فيها تخصصات و عمق في البحث ،و لبعض علمائها صُحف يُدونون فيها علومهم (1) ، فهذه العلوم لم تكن ثقافة عامية ،و لا يمكن أن تكون كذلك .و بناء على ما ذكرناه يمكننا أن نقول: إن الثقافتين العامية و العالمة كانتا رائجتين ببلاد المسلمين قبل عصر التدوين ، و خلاله و بعده .
و يُلاحظ على الجابري-فيما قاله عن الثقافة العربية و عصر التدوين- انه أغفل الإسلام كمنطلق أساسي وحيد ، و كبداية حقيقية لتك الثقافة ،و تجاوزه و تخطاه ،و جعله جسرا عبر عليه إلى عصر التدوين ، مع أن الحقيقة الكبرى و العظمى هي : إنه لا حضارة إسلامية ، و لا عربية ، و لا عربية إسلامية ،و لا إسلامية عربية، من دون الإسلام ، فإذا سحبناه سقط كل شيء و أنهار كلية . و مع ذلك فإن الجابري ترك الإسلام و تعلق بنقطة وهمية من العصر الجاهلي ثم قفز بها و جعّدها إلى عصر التدوين ، الذي جعله الإطار المرجعي لكل الثقافة المسماة بالعربية التي من مكوناتها الإسلام ، الذي أصبح جزءا لا يتجزأ منها . و عمله هذا هو عملية طمس و تلاعب ، و تقزيم و تحريف للإسلام و حقائق التاريخ.
و أما المجموعة الثانية فتتعلق أخطاؤها بالعقل و التفكير العلمي في عصر التدوين ، و تتضمن خمسة أخطاء ، أولها يتمثل في أن الجابري ادعى أن تنصيب العقل في الإسلام بدأ على يد الخليفة المأمون(ت218ه) ، عندما شرع في ترجمة الفلسفة اليونانية (2) .
__________
(1) أنظر مثلا : محمد عجاج الخطيب : السنة قبل التدوين ، ص: 348 و ما بعدها .
(2) تكوين العقل ، ص: 229-235 .(17/443)
و قوله هذا زعم باطل ، و فيه تغليط ، لأن الذي فعله المأمون ليس تنصيبا للعقل المسلم في دين الإسلام و لا في تاريخه ، و إنما هو تنصيب للعقل اليوناني الفلسفي القائم على الشرك و الوثينة ،و الضلالات و الأساطير ، التي تقوم عليها فلسفة اليونان في الطبيعيات و الإلهيات ، و التي برمتها تجد أصولها و فصولها في الأساطير اليونانية ، باعتراف الجابري نفسه (1) .
و أما العقل في الإسلام فقد نُصب رسميا عند نزول أول آية من القرآن الكريم ، بقوله تعالى : -{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ...}- سورة العلق/ 1-2- ، فهذا هو العقل المسلم الذي نصبه الإسلام ، ثم نمى و ترعرع في أحضانه ، برعياية من الوحيين –الكتاب و السنة- ، حتى أصبح عقلا كاملا ناضجا متنزنا ، قائما على النقل الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح ، لا مجال فيه للأوهام و الخرافات و الضلالات ، و تجلى ذلك واصحا في كبار علماء الصحابة و التابعين الذين قامت على أيديهم الحركة العلمية قبل عصر التدوين (2) .
و في مقابل ذلك يجب أن لا يغيب عنا أن العقل اليوناني الوثني الذي نُصب باسم الإسلام على حد زعم الجابري ، كان في –عمومه- حربا على الإسلام ، تخريبا وإبعادا و احتواء . و لم يكن الإسلام مضطرا أبدا إلى تبني ذلك العقل الوثني و فلسفته (3) ، و قد عاش المسلمون بالإسلام و للإسلام أكثر من 150 سنة من دون العقل اليوناني و فلسفته .
__________
(1) التراث و الحداثة ، ص: 312 .
(2) عمر سليمان الأشقر : تاريخ الفقه الإسلامي ، ص: 73 .
(3) سنتطرق لهذا الموضوع في المجموعة الثانية من أخطاء الجابري من هذا المبحث .(17/444)
و أما الخطأ الثاني فيتمثل فيما ادعاه الجابري من أن التفكير العلمي عند العرب بدأ بتدوين اللغة العربية و تقنينها (1) . و قوله هذا غير صحيح تماما ، لأنه أولا إن التفكير العلمي ليس مرتبطا بتدوين اللغة ارتباط ضرورة ، و إنما هو مرتبط أساسا بالتكوين النفسي و العقلي للإنسان من داخله . و التفكير العلمي في العصر الإسلامي ، كوّنه الإسلام نفسه ، قبل عصر التدوين بأكثر من 150 سنة . و ذلك أن الإسلام كوّن المسلمين تكوينا شاملا كاملا متوازنا جمع بين الروح و العقل و الجسد ، و أولى القرآن الكريم التفكير العلمي أهمية كبرى ، فحث عليه و أرشد إليه ،و حذّر من الابتعاد عنه ،و الانسياق وراء الظنون و الأهواء (2) . و نفس الأمر فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – مع الصحابة ، فقد كونهم تكوينا علميا فطريا صحيحا ، عندما أبعدهم عن الخرافات و نهاهم عن السحر و الشعوذة و الكهانة (3) . و عندما مات ابنه إبراهيم في يوم حدث فيه كسوف للشمس و قال بعض الناس : إنها كسفت لموت إبراهيم ، أنكر عليهم قولهم ،و قام في الناس و قال لهم : إن الشمس و القمر لا ينكسفان لموت أحد، و لكنهما آيتان من آيات الله)) (4) . فأعطاهم درسا عمليا في التفكير العلمي الصحيح ،و البعد عن التفكير الأسطوري في تعليل الظواهر الطبيعية .
__________
(1) التراث و الحداثة ، ص: 262 .
(2) سبق التوسع في ذلك عندما تطرقنا إلى طرق الاستدلال في القرآن في الفصل الثاني .
(3) أنظر مثلا : ابن أبي العز الحنفي: شرح العقيدة الطحاوية ، ص: 502 و ما بعدها .
(4) البخاري: الصحيح ، ج 1 ص: 353 . .(17/445)
و ثانيا إن وجود العلوم و العلماء من الصحابة و التابعين قبل عصر التدوين ، هو دليل قاطع على أن هؤلاء كان لهم تفكير علمي صحيح ، كان سائدا بين أهل العلم قبل عصر التدوين ، لأنه لا علوم و لا علماء بدون تفكير علمي . و عملية تدوين اللغة العربية و تقنينها هي نفسها دليل دامغ على وجود التفكير العلمي قبل عصر التدوين ، لأن الذين جمعوها و نظموها و قننوها ، ما كان في مقدورهم فعل ذلك، دون تفكير علمي صحيح ، فجاء تدوينهم للغة العربية و العلوم الأخرى ثمرة لذلك التفكير و ليس العكس ،و بمعنى آخر أنه كان موجودا قبل التدوين ، فلم يظهر معها ،و لا هي أوجدته .
و الخطأ الثالث يتمثل في أن الجابري ادعى أن الإطار المرجعي الحق للعقل العربي ليس العصر الجاهلي و لا العصر الإسلامي الأول، و إنما هو عصر التدوين ، لأن ما نعرفه عن ما قبل عصر التدوين إنما تم بناؤه في عصر التدوين (1) .
و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، لأن ذلك العصر ليس إطارا مرجعيا للقرآن و علومه ، و من ثم ليس هو إطارا مرجعيا للعقل المسلم الذي يأخذ دينه و شريعته و ثقافته و مفاهيمه من القرآن الكريم . و إنما هو-أي عصر التدوين- إطار للطوائف التي تأخذ فكرها و مذاهبها من المصنفات التي دُونت في عصر التدوين . كما أنه ليس صحيحا بأن ما نعرفه عن العصر الجاهلي و صدر الإسلام إنما تم بناؤه في عصر التدوين ، لأننا نعرف أشياء كثيرة جدا عن العصر الجاهلي و عن صدر الإسلام من القرآن الكريم و الآثار المادية المتبقية إلى اليوم .
__________
(1) تكوين العقل ، ص: 68 .(17/446)
و ثانيا إنه من الخطأ القول بأن العقل العربي يجد مرجعيته في العلوم التي دونت في عصر التدوين ، لأن معظم هذه العلوم ، كالفقه و السيرة ، و العقائد و الأخلاق ،و اللغة العربية ، تقوم أساسا على القرآن الكريم و تجد مرجعيتها النهائية فيه . و بما أن القرآن الكريم دُون زمن الرسول-عليه الصلاة و السلام- ، و ليس هو من مدونات عصر التدوين ، فهذا يعني بالضرورة أن تلك العلوم و معها عصر التدوين نفسه تجد مرجعيتها النهائية في القرآن الكريم ،و من ثم فإن العقل المسلم- العربي حسب الجابري- يجد إطاره المرجعي الحق في القرآن الكريم و ليس في غيره .
و الجابري عندما جعل عصر التدوين هو المرجع الحق للعقل العربي فيما يتعلق بالعصر الجاهلي و صدر الإسلام ، يكون قد جعل العرب يعيشون جاهليتين ، الأولى جاهليتهم قيل الإسلام ، و الثانية جاهليتهم في العصر الإسلامي الأول ، مع الاختلاف في طبيعة كل جاهلية و خصائصها و ظروفها ، علما بأن الجاهلية الثانية خيال لا وجود لها في الواقع ،و إنما دعوى الجابري تؤدي إلى القول بها و الاعتقاد بوجودها .(17/447)
و أما الخطأ الرابع فيتمثل في قول الجابري بأن الواقع (( التاريخي يُؤكد بما لا مجال للطعن فيه ، أن أول عمل علمي منظم مارسه العقل العربي هو جمع اللغة العربية ،و وضع قواعد لها)) (1) . و قوله هذا غير صحيح أيضا ، لأن أول عمل علمي منظم قام به العقل المسلم- العربي عند الجابري- هو تدوين القرآن الكريم، فقد استمرت عملية تدوينه منذ نزوله طيلة 23 سنة ، فاتخذ له النبي-عليه الصلاة و السلام- كتبة كثيرين لتدوينه ،و اهتم به الصحابة اهتماما كبيرا ،و تعاونوا في تدوينه و ترتيبه و حفظه تحت إشراف رسول الله-صلى الله عليه و سلم- ؛ فلما توفي جُمع القرآن و وُحد على أيدي الصحابة زمن الخلافة الراشدة ،و تمت العملية على أيدي لجنة متخصصة في رسم القرآن و قراءاته و تاريخه . فكان ذلك أعظم عمل علمي في التاريخ الإسلامي على الإطلاق ، تم على أيدي الصحابة زمن رسول الله و ما بعده . حدث ذلك قبل تدوين اللغة العربية بأكثر من 120 سنة ، فالفارق كبير جدا بين التدوينين ، من حيث المهمة و الأهمية ، و الأشخاص الذين تولوا المهمة ،و من حيث الظرفين الزماني و المكاني. لكن الجابري أغفل العمل الأول و ما ترتب عنه ، و لا أدري أنسيه أم تناساه؟ .
و الخطأ الأخير –الخامس من المجموعة الثانية- ، يتعلق بالبداية الزمنية لدراسة تكوّن العقل العربي عند الجابري ، الذي اتخذ عصر التدوين بداية لدراسة تكوّن ذلك العقل. لكنه عندما درس العقل السياسي العربي بدأه بالدعوة الإسلامية ، بدعوى أن موضوع العقل السياسي هو الممارسة السياسية المنظمة ،و ليس إنتاج المعرفة المقعدة المقننة . علما بأن الممارسة السياسية في الحضارة العربية الإسلامية بدأت مع ظهور الإسلام (2) .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 72 .
(2) العقل السياسي ، ص: 18 .(17/448)
و قوله هذا صحيح فيما يخص العقل السياسي ، لكنه غير صحيح فيما يتعلق بتكوّن العقل الإسلامي-العربي حسب الجابري- ، لأنه سبق أن بينا أن هذا العقل يجد مصدريته و مرجعيته الأساسية و النهائية في العهد النبوي نظريا و عمليا أولا ، ثم يجدهما في العهد الراشدي عمليا أيضا . لكن ذلك لا يمنع من وجود مرجعيات جزئية جانبية ظهرت فيما بعد ، كما هو حال الفلسفة اليونانية و الباطنية ، اللتان يدخلان في التطورات الفكرية التي طرأت على العقل الإسلامي ، الذي يبقى دائما يجد مصدريته و مرجعيته النهائية في الإسلام .
و أما التعليل الذي قدمه فهو ضعيف جدا ، و لا يصح و غير مُقنع ، لأنه إذا كان مُبرر الممارسة السياسية هو الذي جعله يبدأ دراسة العقل السياسي العربي من بداية الدعوة الإسلامية ، فإن نفس المبرر يجعله أيضا يبدأ في دراسته لتكوّن العقل العربي العلمي و الأخلاقي و الاقتصادي ، من نفس الفترة أيضا . لأن هذا التكوّن يجد مرجعيته العملية و العلمية النظرية في العهد النبوي أيضا و يبدأ ببدايته،و المتمثلة في الكتاب و السنة .
و يتبين مما ذكرناه- من أخطاء المجموعتين- ، أن الجابري قام بعملية اغتيال و سطو ، و تشويه للعقل الإسلامي، فسماه العقل العربي بدلا من الإسلامي، و اختلق له بداية وهمية في العصر الجاهلي ، بدلا من بدايته الإسلامية الحقيقية ، الصحيحة الثابتة ، و ربطه بإطار فكري متأخر سماه عصر التدوين ، بدلا من إطاره المرجعي الإسلامي المتقدم عن عصر التدوين بأكثر من 150 سنة . و ربطه أيضا بمرجعية بشرية بدلا من مرجعيته الربانية المتمثلة في القرآن و السنة النبوية الصحيحة .(17/449)
و أما أخطاء المجموعة الثالثة- و هي الأخيرة – فتتعلق بموضوع ترجمة الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية في عصر التدوين ، و تتضمن ثلاثة أخطاء ، أولها يتمثل في أن الجابري ادعى أنه لما انتشرت أُطروحات الفكر المانوي و الشيعي الغنوصي ، و أراد المأمون التصدي لهما ، لم يكن هناك سلاح آخر إلا سلاح العقل الكوني المتمثل في الفلسفة اليونانية ، فسعى إلى تنصيبه بترجمة الفلسفة إلى اللغة العربية (1) .
و قوله هذا يتضمن خطأ كبيرا ، يتمثل في الجزم الذي أصدره بأنه لم يكن هناك أمام المأمون سلاح آخر للرد على المانوية و الشيعة الغنوصية ، إلا سلاح الفلسفة اليونانية . فهذا حكم غير شرعي ، و لا علمي ، و لا عقلي ، و هو حتمية لا دليل عليها ، إلا المبالغة و محض التحكم . فقد كان في مقدور المأمون و غيره من أهل العلم أن يردوا على الفلسفة المانوية و الشيعية الغنوصية و ينقضونها ،و يردوا أيضا حتى على الفلسفة اليونانية ، باستخدام النقل الصحيح-أي الشرع- ، و العقل الصريح، و العلم الصحيح . فلا داع للمبالغة في تعظيم الفلسفة اليونانية الوثنية المزعومة ، التي تقوم في كثير من جوانبها على الأوهام و الظنون ، و الأساطير و المنطق العقيم . فهل فلسفة هذا حالها يصح أن يٌقال فيها أنها كانت السلاح الوحيد الذي كان في مقدور المأمون استخدامه للرد على المذاهب التي كان يتخوف منها ؟ ! .
__________
(1) تكوين العقل ، ص: 225 ، 229 ، و ما بعدها .(17/450)
و أما الخطأ الثاني فيتمثل في زعم الجابري بأن المأمون و أمثاله من الفلاسفة الذين ساروا على طريقته في استخدام الفلسفة كسلاح ، كانوا يسعون إلى (( تأسيس البيان على البرهان )) (1) . و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، لأنه أدخل علوم الوحي – الإسلام- ، في نظام البيان المزعوم ، و هذا لا يصح شرعا و لا عقلا .كما أن المعتزلة و الفلاسفة الذين استخدموا الفلسفة اليونانية استخدموها للانتصار لأفكارهم و مذاهبهم ، و الإسلام بريء من ذلك لأنه لم يكن مضطرا أبدا إلى الاستعانة بالكلام المعتزلي الفارغ و لا إلى فلسفة اليونان الخرافية العقيمة ، و لا لغيرها من المذاهب و الفلسفات لينتصر بها. فهو الوحي المعصوم الحجة بذاته ،و البرهان الساطع الدامغ ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، فدين الإسلام له علومه و طبيعياته ،و منطقه و إليهياته.
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 225 ، 256 ، 256 ، 266، 299 و ما بعدها .(17/451)
و أما القول بأن المأمون ترجم الفلسفة اليونانية لنصرة البيان ، فهذا قول مشكوك فيه و غير ثابت تاريخيا ،أو على الأقل لم يكن هو السبب الوحيد في ترجمة تلك الفلسفة إلى اللغة العربية، بدليل الشاهدين الآتيين : أولهما إن قسما كبيرا من الفلسفة اليونانية كان قد تُرجم إلى اللغة العربية قبل أن يشرع المأمون في ترجمة الفلسفة اليونانية سنة 215 هجرية (1) . فقد تُرجمت كتب قديمة كثيرة إلى اللغة العربية قبل ذلك التاريخ ، و أخرى قد صُنفت باللغة العربية في الفلسفة ، من ذلك أن الكيميائي جابر بن حيان(ت200ه) ، ألف نحو 300 كتاب في الفلسفة شرحا و نقدا ، منها: كتاب المنطق على رأي أرسطو ، و شرح إقليدس ، و مصطحات أرسطو (2) . فلماذا تُرجمت هذه الكتب –و غيرها- قبل المأمون ؟ ، علما بأن جابر بن حيان كان شيعيا باطنيا (3) .
و الشاهد الثاني هو إنه مما يُضعف زعم الجابري ، أن المعتزلة أنفسهم كانوا عقلانيين- حسب زعمهم - على رأسهم المأمون الذي ألحقه الجابري بالفلاسفة . الأمر الذي يعني أنهم –أي المعتزلة- لم يكونوا في حاجة إلى منطق أرسطو و لا إلى فلسفته. و هم كانوا قد دخلوا في نزاعات مذهبية حادة مع خُصومهم مبكرا ، عندما تكونوا زمن الحسن البصري (4) و ما بعده ، قبل ترجمة الفلسفة اليونانية ، مما يعني أنهم كانوا قد تضلّعوا في المنطق و الجدال ، قبل التعرف علي فلسفة اليونان . و هم و إن ساهموا في ترجمتها فقد ظلوا محافظين على مذهبهم منهجا و تطبيقا ، و لم ينتموا إلى الفلاسفة ، بل خاصموهم و ردوا عليهم ،و هذا أمر أشار إليه الجابري مرارا في كتابيه تكوين العقل العربي ،و بنية العقل العربي .
__________
(1) محمد طقوش : التاريخ الإسلامي الوجيز ، ص: 169 .
(2) ابن النديم: الفهرست ، دار المعرفة ، بيروت ، 1978 ، ج 1 ص: 502، 503 .
(3) نفسه ، 501 و ما بعدها .
(4) عنهم أنظر : عبد القاهر البغدادي : الفرق بين الفرق .(17/452)
و الخطأ الثالث –الأخير من المجموعة الثالثة- يتمثل في قول نقله الجابري عن المستشرق كارل بكر ، مفاده أن الإسلام لما حاربته الفلسفة العنوصية استعان بالفلسفة اليونانية للرد عليها (1) . و هذا القول ذكره الجابري من دون أي تعليق مما قد يعني أنه موافق له ، و هو يندرج ضمن فكرته التي ذكرناه في الخطأ الثاني من هذه المجموعة . و ذلك القول فيه تغليط، و افتراء على الشرع ، لأن دين الإسلام لم يستعن بالفلسفة اليونانية مطلقا ، و إنما الذين استعانوا بها ،و استفادوا منها هم المتفلسفة و المعتزلة و المتأثرون بهم . و أما الممثلون الحقيقيون للإسلام و هم أهل السنة من السلف و أهل الحديث و من سار على نهجهم فلا يصدق ذلك عنهم ، لأنهم كانوا خصوما للفلسفة اليونانة طيلة العصر الإسلامي ، و قاوموها بشدة ،و بمختلف الوسائل العلمية و العملية ، لأنها كانت تمثل خطرا داهما على الدين و العقل معا (2) .
__________
(1) تكوين العقل ، ص: 225 .
(2) أمثلا : ابن قتيبة : أدب الكاتب ، ص: 4 . و الذهبي: السير ، ج 17 ص: 15 ، ج 23 ص: 143 . و ابن كثير : البداية ، ج 2 71 ، ج 11 ص: 224 . و ابن الجوزي : المنتظم ، ج 10 ص: 194 . و ابن حجر : الفتح ، ج 12 ص: 202 .(17/453)
و أُشير في هذا المقام إلى أمر هام جدا يتعلق بترجمة العلوم القديمة إلى اللغة العربية خلال عصر التدوين ، و مفاده أن عملية الترجمة صاحبتها نقائص و سلبيات كثيرة ، على مستوى الدوافع و الخلفيات و المظاهر و الآثار . فمن ذلك أولا أن ترجمة تلك العلوم إلى اللغة العربية لم تكن ضرورية ؛ و إن كان الإسلام لا يحرم على أهله الانتفاع بما عند غيرهم من خيرات و محاسن ، و تجارب مفيدة و علوم نافعة ، لكن مع ذلك فإن ترجمة تلك العلوم أرى (1) أنه لم يكن من الضروري على المسلمين ترجمتها ، فقد عاشوا بدونها نحو قرنين من الزمن . و لو لم تترجم تلك العلوم إلى اللغة العربية لنمت و ترعرعت العلوم الطبيعية و الرياضية في المجتمع الإسلامي نموا محليا طبيعيا ، لأنها علوم ضرورية لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات البشرية . و قد كانت أصولها قائمة في المجتمع الإسلامي ، نشأت في ظل الإسلام نحو قرنين من الزمن ، استجابة لأمرين أساسين ، أولهما إن الإسلام يحث على كل العلوم النافعة ،و يدعوا إلى النظر في الأفاق و الأنفس ،و في كل مظاهر الكون لاكتشاف قوانينه و تسخيره لخدمة الإنسان ، هذا فضلا على أن بعض عباداته و أحكامه لا بد لها من رياضيات و فلك ، كالمواريث و أوقات الصلاة و الحج .
__________
(1) قد يُخالفني بعض الباحثين فيما أراه ، من أن ترجمة العلوم القديمة لم تكن أمرا ضروريا ، لكنني أرى ذلك ، و قد ذكرت دليلي لتدعيم ما ذهبت إليه . وا أقول إن الأمر لم يكن ضروريا ، مع أن المجتمع الإسلامي كان في حاجة إلى العلوم الطبيعية ، و كان أمامه إما الاكتفاء بما عنده من تلك العلوم و تطويرها محليا ، و إما أن يُترجم كتب العلوم القديمة المتعلقة بتلك العلوم لينتفع بها . فالأمر إذا لم يصل إلى حد الضرورة ،و كان فيه اختيار بين طريقين .(17/454)
و ثانيهما أن الحاجة لتلك العلوم حاجة ماسة ، تجعل نشأتها في المجتمع الإسلامي - الواسع المتنوع الأعراق و الأجناس- أمرا ضروريا دون ضرورة إلى ترجمة العلوم القديمة .
و ثانيا إن تلك الترجمة- في عمومها- تمت بطريقة خاطئة و ناقصة ، واكبتها سلبيات كثيرة ، منها أن الحاجة لترجمة علوم الأوائل لم تصدر عن حاجة داخلية حقيقية تمثل قاعدة عريضة في المجتمع ، و إنما صدرت عن رغبة أفراد قليلين من رجال السياسة ، كالخليفة المنصور ، و هارون الرشيد و المأمون ، و هذا الأخير أشهرهم ، و أكثرهم توسعا فيها (1) .
__________
(1) للتوسع في موضوع الترجمة أنظر مثلا : ابن النديم : الفهرست .(17/455)
كما أن عملية الترجمة لم تتم بأمر من علماء الأمة ، و لا بإشراف منهم ،و لا تمت على أيدي مسلمين سنيين ملتزمين أتقياء متخصصين في الترجمة و علوم الأوائل ، و إنما معظم الذين تولوها هم من أهل الذمة من يهود و نصار و غيرهم (1) . .و نحن لا نثق في هؤلاء ،و من حقنا أن لا نثق فيهم ، لقوله تعالى : ((-{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} - سورة البقرة/120- و -{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} -سورة المائدة/51- ، و كما تعلم هؤلا اللغة العربية ليُترجموا إليها العلوم القديمة ، كان في مقدور المسلمين أيضا تعلم اللغات القديمة ليُترجموا علومها إلى اللغة العربية . و مما يبين أن نوايا هؤلاء المترجمين لم تكن خالصة ، أنهم ترجموا أمورا تتناقض مع الإسلام كلية ، و تدمر المجتمع الإسلامي تدميرا ، و لا يجوز ترجمتها شرعا ، على رأسها إلهيات اليونان المليئة بالضلالات و الشركيات ؛ فلو تولى الترجمة مسلمون أتقياء ما ترجموا ذلك .
__________
(1) أنظر مثلا : ابن النديم : الفهرست ، ج 1 ص: 339 و ما بعدها ، 414 و ما بعدها .(17/456)
و منها أيضا أن تلك العلوم تُرجمت دون تمحيص و تمييز بين صحيحها من سقيمها ، وهذا خطأ فادح صاحب عملية الترجمة ؛ فكان من اللازم أن تُترجم العلوم الضرورية النافعة ، كالطب و الهندسة ، مع الشروح و المقدمات و التنبيهات و التحذيرات ؛و أن لا تُترجم العلوم الضارة المعارضة للشرع ، ككتب السحر و الشعوذة ،و إلهيات اليونان و منطقهم (1) .
و قد يرى بعض الناس في ترجمة العلوم القديمة إلى اللغة العربية عملا حضاريا إيجابيا ، و هذا رأي وجيه فيه جانب كبير من الصحة ، لو أن العملية تمت بطريقة صحيحة و على أيدي أمينة ، و بما أنها تمت بطريقة خاطئة مليئة بالنقائص و السلبيات فعدمها أولى من ترجمتها .
و ختاما لهذا الفصل-أي الثالث- يتبين مما ذكرناه ، أن الأخطاء التاريخية المتعلقة بالقرآن و الشريعة ،و السنة و السيرة ، هي في معظمها من أخطاء أركون ، خلاف الأخطاء التاريخية المتعلقة بنشأة الثقافة و العلوم في العصر الإسلامي ، فغالبيتها كانت من أخطاء الجابري .و قد تبين - من خلال الأمثلة الكثيرة التي ذكرناها- أن أسباب تلك الأخطاء يعود بعضها إلى النقص في الإطلاع على الروايات التاريخية ،و بعضها الآخر سببه الاتجاهات و الخلفيات المذهبية التي كانت تتدخل في تفسير الحوادث و المفاهيم و توجهها توجيها مذهبيا متعصبا .
...............................................................
الفصل الرابع
الأخطاء التاريخية المتعلقة بالصحابة و الفتنة الكبرى و الطوائف الإسلامية
أولا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالصحابة قبل الفتنة
ثانيا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالفتنة الكبرى
ثالثا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالطوائف الإسلامية
رابعا : أخطاء تاريخية متعلقة بقضايا متفرقة
..........................................................................
__________
(1) أنظر مثلا : صديق حسن خان : أبجد العلوم ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1978 ، ج 1 ص: 258 و ما بعدها . و ابن النديم : الفهرست ، ج 1 ص: 679 .(17/457)
الفصل الرابع
الأخطاء التاريخية المتعلقة بالصحابة و الفتنة الكبرى و الطوائف الإسلامية
عثرتُ على أخطاء تاريخية كثيرة جدا ، وقع فيها الباحثان محمد أركون و محمد عابد الجابري، تتعلق بالصحابة و الفتنة الكبرى ،و الطوائف الإسلامية على اختلافها ، كانت غالبيتها من أخطاء الجابري ، سنذكره تباعا حسب مباحث هذا الفصل ، إن شاء الله تعالى .
أولا: الأخطاء التاريخية المتعلقة بالصحابة قبل الفتنة :
فبالنسبة لأخطاء أركون التاريخية المتعقلة بالصحابة ، فمنها ثلاثة أخطاء ، أولها يتمثل في أن أركون زعم بأن كلمة الصحابة لم ترد في القرآن ،و الواقع أنها (( سوف تُشكل لاحقا ،و تُمجد، و تُزين ، و تُعظم )) (1) . و قوله هذا غير صحيح تماما ، مخالف للقرآن و السنة و التاريخ ، لأنه أولا أن كلمة الصحابة بمعنى أصحاب النبي-عليه الصلاة و السلام- ، موجودة فعلا في القرآن الكريم ، وردت فيه بصيغة المفرد في قوله تعالى : {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} - سورة التوبة/40- ، و إذا كان القرآن قد وصف أبا بكر بأنه صاحب الرسول-صلى الله عليه وسلم- ، فإن الذين آمنوا به عليه الصلاة و السلام و كانوا معه ، هم أيضا أصحابه بالضرورة .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 139 .(17/458)
و ثانيا إن مصطلح الصحابة بمعنى أصحاب رسول الله ، ورد في السنة النبوية عدة مرات ، منها قوله عليه الصلاة و السلام :(( ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني )) ،و قوله : (( اللهم أمض لأصحابي هجرتهم... )) (1) .
و أما زعمه بأن كلمة الصحابة مُجدت و زُينت و عُظمت لاحقا ، فهذا زعم باطل ، لأن الذي مدح الصحابة و عظمهم ، و زكاهم و شهد لهم بالرضوان و العمل الصالح هو الشرع الحكيم ،و ليس المسلمون هم الذين شهدوا لهم بذلك ، فقد كانوا متبعين لا مبتدعين . من ذلك قوله تعالى: -{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}- سورة الفتح /18-، و{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} - سورة الفتح/29- ، و {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} - سورة التوبة/100- .
__________
(1) البخاري: الصحيح ، ج 1 ص: 435 ، رقم : 1233 ، ج 3 ص: 1057 ، رقم : 2729 .(17/459)
و أما الخطأ الثاني فيتعلق بموضوع الخلافة بعد وفاة النبي-عليه الصلاة و السلام- ، ادعى فيه أركون أن حادثة السقيفة كانت مناقشة كبرى حاسمة ، قسمت الوعي الإسلامي و مزقته، و كانت فيها قبيلة بني هاشم و بني أمية موجودتين على الساحة مستعدتين لخوض الصراع بسبب الخلافة . ثم تعقدت المسألة أكثر بدخول الأنصار الصراع ، و هم قبيلة أخرى لهم طموحاتهم السلطوية أيضا. ثم قال : (( إننا لا نستطيع أن نُخفي إلى الأبد هذه الحقائق السوسيولوجية- التاريخية التي ضمنها أو ضدها سوف تشق الفكرة الإسلامية طريقها )) (1) .
و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، و يتضمن أباطيل و مغالطات ، أولا إن الذي حدث في سقيفة بني ساعدة و بيعة أبي بكر الصديق-رضي الله عنه- ، هو أول تجربة شورية –ديمقراطية بلغة العصر- ناجحة حققها الصحابة بعد وفاة رسول الله-عليه الصلاة و السلام- ، و أدت إلى توحّد المسلمين حول خليفة واحد ، و تكوين دولة الخلافة الراشدة ، التي فتحت العالم وأطاحت بدولتي الفرس و الروم ، و تحقق فيها وعد الله تعالى عندما قال : -{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} - سورة النور/55- . فهذه الحادثة جمعت المسلمين قلبا وقالبا ، و لم تقسمهم و لا مزقتهم ،و أما الخلافات التي حدثت في الفتنة الكبرى و ما أنجر عنها من تمزق و انقسامات بين المسلمين ، فلا علاقة لها بما حدث في السقيفة (2) .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 145 ، 282 ، 284 .
(2) سنتطرق إلى ذلك لاحقا .(17/460)
و ثانيا إن الذي حدث في السقيفة هو اختلاف تنوّع لا اختلاف تناقض و تضاد، و لا اختلاف تناحر و تصادم و تآمر ، و إنما اختلفت آراؤهم حول موضوع الخلافة ثم اتفقت في النهاية-بعد التشاور- على اختيار أبي بكر خليفة ، و هو الذي مدحه الله تعالى بأنه كان : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} - سورة التوبة/40-، فتمت على يديه وحدة المسلمين المادية و المعنوية معا .و أما ما يُروى من امتناع بعض الصحابة من بيعة أبي بكر ، كعلي و بني هاشم ، فهي روايات مكذوبة وضعتها الطوائف المذهبية و السياسية المنحرفة التي ظهرت في الفتنة الكبرى و ما بعدها (1) .
و ثالثا إن أركون يُمارس –كعادته- التضخيم و التجعيد ، و يبني عليها أوهامه و ظنونه بلا أدلة صحيحة ، ليصل إلى ما خطط له سلفا . و مسألة السقيفة هي في الحقيقة حادث اختلاف عادي طبيعي و قع بين الصحابة فعالجوه بسرعة و حكمة من دون إي صراع و لا عنف ، بدليل أنهم مباشرة بعد بيعتهم أبي بكر دخلوا في حرب المرتدين و هزموهم ، و شرعوا في الفتوحات الإسلامية. ثم لما تُوفي أبو بكر خلفه عمر بن الخطاب من دون أن يحدث أي خلاف حول مسألة الخلافة ، فهذه أدلة دامغة تُبطل مزاعم أركون حول حادثة السقيفة و ما ترتب عنها .
__________
(1) سنعود إلى هذا الموضوع لاحقا ، إن شاء الله تعالى .(17/461)
و أما الخطأ الأخير-أي الثالث- فيتعلق بمكانة الصحابة رضي الله عنهم ، فقد ذكر أركون أن كتب التراجم السنية بالغت في تصوير الصحابة شخصيات مثالية ، حجبت (( الحقيقة التاريخية المتعلقة بكل شخصية من الشخصيات المُترجم لها )) ، فدخلت بذلك عناصر أسطورية زائدة على سيرهم ؛ كانت ترمي إلى تشكيل شخصيات نموذجية مُقدسة (1) .
و قوله هذا فيه حق و باطل ، فأما الحق فإنه قد رُويت فعلا روايات كثيرة مكذوبة نُسبت إلى بعض الصحابة ، لكنها لم تكن كلها مدحا ، فبعضها مبالغ في المدح ، و بعضاها الآخر مبالغ في الذم و القدح ، حسب الاتجاهات المذهبية للكذابين الذين رووا التاريخ (2) . و أما ما قاله عن كتب التراجم السنية فذلك لا يُمثل إلا جانبا من الحقيقة ، و قد سكت أركون عن الجانب الآخر . لأن الغالب على تلك الكتب أنها تُدوّن كل ما يصلها من أخبار عن الصحابة من دون تمييز لصحيحها من سقيمها ، و هذه الظاهرة نجدها واضحة في كتب التراجم التي ترجمت للصحابة ، كتاريخ دمشق لابن عساكر ، و الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر، و الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر العسقلاني .
__________
(1) تاريخية الفكر العربي، ص: 17 .
(2) للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : مدرسة الكذابين في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه ، ص: 47 و ما بعدها .(17/462)
و أما الباطل الموجود في كلام أركون فيتمثل في عدم تفريقه بين الروايات المثالية الصحيحة و المثالية المكذوبة ، فشكك فيها كلها، انطلاقا من خلفيته المذهبية المتعصبة التي ترفض مبدأ مثالية الصحابة أصلا ، بناء على نزعته العلمانية التغريبية الاستشراقية في موقفها من الإسلام و رسوله و تاريخه .و هذا موقف غير علمي تماما . لأن مثالية الصحابة و خيرتهم ثابتة شرعا و تاريخا ، فأما شرعا فإنه توجد نصوص كثيرة شهدت للصحابة بالإيمان و العمل الصالح ،و زكتهم و وصفتهم بأنهم خير أمة أُخرجت للناس، و قد سبق أن ذكرنا طرفا منها آنفا. و أما تاريخا فمصنفات التاريخ شاهدة على مواقفهم المثالية العظيمة في إيمانهم بالإسلام ،و جهادهم في سبيله بأموالهم و أنفسهم ،و صبرهم على الأذى و الفقر و العوز في العهدين المكي و المدني.
و أما أخطاء الجابري التاريخية المتعلقة بالصحابة فتتوزع على موضوعين ، أولهما خاص بجماعة الصحابة الفقراء المستضعفين زمن الدعوة الإسلامية بمكة و المدينة و ما بعدها ، فذكر الجابري أن هذه الجماعة كانت تتكون من الصحابة الفقراء و المستضعفين بمكة ، كعمار بن ياسر، و أبي ذر ، و المقداد بن الأسود، و خباب بن الإرث ،و يبدوا أن هذه الجماعة تحلّقت حول علي بن أبي طالب بمكة ، فكان حليفهم ،و يحمل قضيتهم بمكة و ما بعدها ،و هم قد بقوا معه و مع النبي بمكة تسومهم قريش أشد العذاب، و لم تكن لعلي قبيلة توجهه . فكانت تلك الجماعة هي جماعة العقيدة في الإسلام ، على رأس المؤمنين الصادقين ،و هناك حديث يقول : (( أُمرت بحب أربعة ، لأن الله يحبهم ، علي ، و أبي ذر ، و سلمان ،و المقداد )) (1) .
__________
(1) العقل السياسي العربي ، ص: 152 ، 181 ، 182 .(17/463)
و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، و يتضمن أخطاء كثيرة ، نذكرها من خلال مناقشتنا للجابري و ردنا عليه ، أولا إن الاستضعاف كان يشمل كل الجماعة المسلمة بمكة ، و لم يكن خاصا بطائفة منهم ، مع اختلاف درجاته و أشكاله، من مسلم إلى آخر حسب ظروفه و خُصوصياته ، بدليل قوله تعالى –عندما وصف المسلمين بالاستضعاف- : {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} - سورة الأنفال/26- و أما في العهد المكي فلم يبق هناك جماعة المستضعفين ، بدليل قوله تعالى (( فآواكم و أيدكم بنصره ،و رزقكم من الطيبات )) .(17/464)
و أما زعمه بأنه يبدو بأنه وُجدت جماعة كان علي حليفها و زعيمها ، و يجمل قضيتها فهو استنتاج باطل و حديث خرافة ، ليس له دليل عليه إلا الظن ،و كان عليه أن يُدعمه بالشواهد إن كان صادقا في زعمه، و الشواهد الآتية تُبطل دعواه : أولها من القرآن الكريم ، فهو شاهد على أن المسلمين كانوا جماعة واحدة مع النبي و حوله –عليه الصلاة و السلام- و ليس حول علي و لا حول غيره من الصحابة ، قال تعالى: -{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} - سورة الفتح/29-، و {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} - سورة آل عمران/159- .
و الشاهد الثاني يتمثل في أن زعمه بوجود جماعة الفقراء المستضعفين الملتفة حول علي ، يعني وجود جماعة أو أكثر كانت تقابل جماعة المستضعفين ، ضمن جماعة المسلمين العامة ، و هذا كلام خطير ، يتضمن طعنا في رسول الله ،و تفريقا و تقسيما لجماعة المسلمين بمكة التي شهد لها القرآن و التاريخ أنها كانت جماعة واحدة مؤمنة مجاهدة ، فزعمه هذا هو نفسه شاهد على بطلان نفسه ،و نحن نطالبه بتوثيق زعمه الباطل المرفوض شرعا و تاريخا .(17/465)
و أما الشاهد الثالث فيتمثل في أن عليا في العهد المكي كان صغيرا ما يزال بلعب مع الأطفال ،لأنه عندما نزل الوحي على رسول الله كان لعلي من العمر مابين: 5-10 سنوات (1) . فهل يصح في العقل أن طفلا يحمل قضية جماعة من الكبار ،و يقودهم في ظروف صعبة؟ ! ، و هل في مقدور طفل قيادة هؤلاء ؟ ! ، و هل يصح في العقل أن جماعة من الكبار المستضعفين يلتفون حول طفل ضغير ليقودهم و يحمل همهم ؟ ! ، و ما عسى أن يُقدمه الطفل لهؤلاء ؟ ، و ما ذا في مقدوره أن يُقدمه لهم ؟ ، و هل يصح في العقل أن صحابيا كعمار بن ياسر كان عمره نحو 43 سنة (2) عند بداية الدعوة الإسلامية ، يلتف حول طفل ؟ ! . هذه التساؤلات لا تحتاج إلى إجابات لأنها واضحة معروفة .
و ثانيا إن وصفه لجماعة المستضعفين الفقراء بمكة بأنهم كانوا جماعة العقيدة ، هو وصف فيه تفريق لجماعة المؤمنين الذين شهد لهم القرآن بأنهم كانوا جماعة واحدة حول نبيهم . و وصفه لهم يكن خاصا بالمستضعفين ،و إنما هو كان يشمل كل المؤمنين لأنهم كلهم كانوا جماعة العقيدة و الجهاد ،و القرآن قد شهد لهم بذلك . علما بأنه لا توجد علاقة ضرورة بين صدق الإيمان و العقيدة ، و بين الأوضاع المادية و الاجتماعية للأفراد ؛ فإذا كانت طائفة صغيرة من فقراء مكة قد أسلمت ، فقد قابلتها طائفتان أخريان ، الأولى تمثل العدد الكبير من المستضعفين بمكة الذين لم يُسلموا رغم فقرهم و ضعفهم . و الثانية تمثل العدد القليل من الأغنياء الذين أسلموا مع مكانتهم و غناهم و جاههم .
__________
(1) الذهبي: تاريخ الإسلام ، ص: 1 ص: 490 . و ابن العماد الحنبلي: الشذرات ، ج 1 ص: 222 .
(2) الذهبي: السير ، ج 1 ، ص: 426 .(17/466)
كما أن قوله بأن (( الدعوة الإسلامية التف حولها في البداية الفقراء و المستضعفون )) (1) . هو قول غير صحيح على إطلاقه ، لأن المسلمين كلهم كانوا بمكة قلة مستضعفين، لقوله تعالى : {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} - سورة الأنفال/26- ، فالمسلمون كانوا قلة من الفقراء ، و قلة من الأغنياء ،و قلة و من الميسورين و متوسطي الحال . و مما يبطل زعم الجابري أن الأوائل الدين دخلوا في الإسلام كانوا من الأغنياء و المسيورين و أصحاب المكانة في المجتمع القرشي ، و هم : خديجة ، و أبو بكر ، و طلحة ، و الزبير ، و عثمان ،و الزبير بن العوام ، بالإضافة إلى علي و زيد بن حارثة فهما أيضا لم يكونا من الفقراء ،و لا من المستضعفين ، لأنهما كانا يعيشان في بيت النبي-عليه الصلاة و السلام- . علما بأن الإيمان يتعلق أساسا بما في القلوب ، من صدق و إخلاص و استعداد للإيمان ،و لا يتعلق أساسا بما في الجيوب من أموال .
و أما قوله بأن عليا لم تكن له قبيلة توجهه ، فهذا قول يتضمن تدليسا و تغليطا ، لأن عليا كان صغيرا في العهد النبوي، و لم يدخل أصلا لعبة القبيلة ، لأنه كان يعيش مع النبي-عله الصلاة و السلام- في بيته ،و هو الذي رباه و رعاه و وجهه، و مع ذلك فإنه قد استفاد من قبيلته بني هاشم في حمايتها لرسول الله .
__________
(1) التراث و الحداثة ، ص: 113 .(17/467)
كما أن قوله بأن جماعة المستضعفين بقوا مع علي و(( مع النبي في مكة تسومهم قريش أشد العذاب )) (1) ، هو كلام غير صحيح في معظمه ،و يتضمن باطلا كثيرا ، لأنه أولا أن جماعة المستضعفين كانت مع النبي و حوله و لم تكن مع علي و لا حوله . و ثانيا إن عليا لم يكن من المستضعفين ، لأنه كان صغيرا ،و يتمتع بحماية قبيلته له. و ثالثا لا تصح التسوية بين ظروف جماعة المستضعفين و ظروف علي بن أبي طالب التي تختلف من حيث العمر و القبيلة و المكانة في العهد المكي. و رابعا إنه لا تصح التسوية بين المستضعفين و علي من حيث اضطهاد قريش لهم ، فهو قد سوى بينهم عندما قال : بقوا مع علي و مع النبي تسومهم قريش أشد العذاب. و هذا لا يصح، لأنه عندما كان المستضعفون تسومهم قريش أشد العذاب ، كان علي صغيرا ،و يتمتع بحماية قبيلته له ، لذا لا يُعرف لعلي أنه تعرّض للاضطهاد و التعذيب في العهد المكي (2) .
و أما الحديث الذي ذكره الجابري (( أُمرتُ بحب أربعة ...)) ، فهو حديث ضعيف (3) . كان على الجابري أن يتأكد منه من حيث الصحة و الضعف ، لأنه حديث يُستخدم في المناظرات و المفاضلات التي تجري بين أهل السنة و الشيعة . كما أنه حديث تترتب عنه أمور لها أهميتها في النظرة إلى الصحابة . لكن الجابري وظّفه فيما ذهب إليه ، و لم يبال أهو حديث صحيح أم ضعيف ! .
__________
(1) اعقل السياسي ، ص: 152 .
(2) بناء على المصادر التي أطلعتُ عليها .
(3) الألباني: سلسلة الأحاديث الضعيفة ، ج 54، ج 5 ص: 190 ، ج 7 ص: 129 . و الجامع الصغير و زياداته ، ج 1 ص: 319 ، 349 .(17/468)
و أما بالنسبة للأخطاء التاريخية المتعلقة بحالة الفقر التي تميزت بها جماعة المستضعفين حسب ما ذكره الجابري ، فسنذكرها من خلال الوضع المادي لثلاثة من كبار هذه الجماعة ، و هم : عمار بن ياسر ، و المقداد بن الأسود، و علي بن أبي طالب رضي الله عنهم . لكننا قبل التفصيل فيها يجب أن لا يغب عنا أن جماعة الفقراء المستضعفين تحسن حالهم في العهد المدني ، بدليل قوله تعالى : (( ... فأواكم و أيدكم بنصره، و رزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون))-سورة الأنفال /26- . ثم تحسن حالهم أكثر زمن الخلافة الراشدة ، عندما كَثُرت الغنائم و تعدد مصادر الدخل . لكن الغريب في الأمر أن الجابري لم يُبال بهذه التغيرات و التحسنات التي طرأت على وضعية تلك الجماعة ،و ظل يُكرر أن جماعة المستضعفين كانت فقيرة مستضعفة في العهد المكي و ما بعده (1) ! .
فبالنسبة لعمار بن ياسر- رضي الله عنه- ، فقد ذكره الجابري من بين الفقراء المستضعفين ، و قال إن عطاءه السنوي –كغيره من المستضعفين- كان هزيلا بالمقارنة إلى ما كان يأخذه كبراء بني هاشم و أشراف قريش بما فيهم الطلقاء، الذين لم يلتحقوا بالإسلام إلا بعد الفتح ، لأن عمر بن الخطاب كان يُوزع العطاء على (( أساس القرابة من النبي مع اعتبار السابقة في الإسلام )) (2) .
__________
(1) سبق توثيق ذلك .
(2) العقل الأخلاقي ، ص: 62 .(17/469)
و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، لأنه أولا كان عليه أن يوثق أخباره ،و يذكر طريقة تقسم العطاء بالأرقام و الأصناف للمقارنة فيما بينها، و للتأكد منها في المصادر التي أستخدمها و في غيرها ، لكنه لم يفعل ذلك . كما أن قوله بان عمارا كان من المستضعفين في العهدين المدني و الراشدي هو قول غير صحيح كان عليه أن يُوثقه . ففي العهد المدني فإن القرآن شاهد على أن لم يعد فيه مستضعفون، لقوله تعالى : فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} - سورة الأنفال/26- . و أما في العهد الراشدي فقد كانت لعمار مكانة مرموقة ، حتى أن عمر بن الخطاب ولاه إمارة الكوفة ، و كان يخدمه بنفسه ، و ذلك أنه عندما كان عمار بمدينة حمص كتب إلى عمر بأنه يُريد الحج ، و سأله أن يبني له داره بالمدينة قبل قدومه ، فبناها له عمر و شارك بنفسه في بنائها (1) .
و ثانيا إن الجابري عّكّس طريقة عمر بن الخطاب في تقسيم العطاء ، فذكر أنه وزع العطاء على أساس القرابة من النبي مع اعتبار الإسلام ،و الصواب هو أنه وزّع العطاء على أساس السابقة في الإسلام أولا مع مراعاة القرابة من الرسول-عليه الصلاة و السلام- ثانيا .و ليس صحيحا بأن عمر بن الخطاب قدّم الطلقاء على السابقين الأولين من المستضعفين (2) . و إنما قسم العطاء على عموم الصحابة كالآتي :
1-المهاجرون الذين شاركوا في غزوة بدر لهم 5 آلاف درهم سنويا .
2- الأنصار الذين شاركوا في غزوة بدر لهم 4 آلاف درهم سنويا .
3- المهاجرون قبل الفتح، لهم 3 آلاف درهم سنويا .
4- المهاجرون بعد الفتح لهم ألف درهم سنويا .
__________
(1) ابن الأثير : أسد الغابة ، ج 1 ص: 808، 810 . عمر بن شبة : أخبار المدينة ، دار الكتب العلمية بيروت، 1996، ج 1 ص: 150 .
(2) ابن الأثير : الكامل في التاريخ ، ج 1 ص: 350 و ما بعدها .(17/470)
و ألحق الحسن و الحسين و سلمان الفارسي بأهل بدر و أعطى كلا منهم 5 آلاف درهم سنويا. و حتى الأولاد و النساء فرض لهم عطاءهم السنوي بما يكفيهم . علما بأنه زاد في عطاء العباس و علي و أمهات المؤمنين لقرابتهم من النبي-عليه الصلاة و السلام- (1) .
و بذلك يتبين أن ما قاله الجابري من أن عطاء عمار كان هزيلا بالمقارنة إلى بني هاشم و أشراف قريش و حتى الطلقاء ، كان فيه حق وباطل ،و تدليس و تغليط ، لأنه ليس صحيحا بأن عطاء الطلقاء و كل أشراف قريش كان أكبر من عطاء عمار و أصحابه السابقين المستضعفين ، بل كان عطاء عمار أكبر من عطاء الطلقاء ،و أكبر من معظم أشراف قريش . و حتى بنو هاشم لم يكن كل أفرادهم يأخذون أكبر من عمار و المهاجرون الأولون ،لأن الحسن و الحسين و هما أبناء فاطمة –رضي الله عنهم- كان عطاؤهما يساوي عطاء عمار و المهاجرين الأولين الذين شهدوا بدرا ، و قد رُوي أن عمر بن الخطاب أوصل عطاء عمار إلى 6آلاف درهم (2) .
__________
(1) نفسه ، ج 1 ص: 350 و ما بعدها .
(2) الذهبي : السير ، ج 1 ص: 622 .(17/471)
كما أن قوله بأن عطاء المستضعفين كان هزيلا ، يتضمن تدليسا و تغليطا واضحين ، لأن السابقين الأولين من المهاجرين الذين شهدوا بدرا ، كانوا الأولين في سلم العطاء ،و زاد عن عطاء السابقين الأولين من الأنصار . و عليه فلا يصح أبدا القول بأن عطاء المستضعفين كان هزيلا ، و هم على رأس القائمة ، و حتى و إن كان عطاؤهم أقل من عطاء العباس و علي و زوجات النبي-عليه الصلاة و السلام- ، فهو لم يكن عطاء هزيلا على حد زعم الجابري ، بحيث لا يكفي صاحبه ،و لا يسد حاجته ، و كيف يكون كذلك و هو أكبر عطاء في سلم التقسيم ؟ ! ،و إذا كان كما زعم الجابري فهذا يعني أن الغالبية الساحقة من الصحابة و المسلمين كانوا فقراء وليس عماربن ياسر و أصحابه فقط ، لأن عطاءهم كان هزيلا ، بحكم أن الفئة الأولى الأكثر نصيبا كان عطاؤها هزيلا ! ! . و هذه نتيجة باطلة لأن مقدماتها كانت باطلة .
و أما الصحابي المقداد بن الأسود(ت 33ه) –رضي الله عنه- ، الذي جعله الجابري من الفقراء المستضعفين ، فقد تحسنت ظروفه المادية و أصبح من الميسورين ، بل من الأغنياء ، فقد كانت له أملاك متنوعة ، و عند وفاته أوصى للحسن و الحسين لكل منهما 18 ألف درهم ،و أوصى لأمهات المؤمنين لكل واحدة منهن 7 آلاف درهم (1) . و حتى الجابري اعترف بأن المقداد بن الأسود الذي كان من المستضعفين ، بنى دارا بمكة و جعل أعلاها شرفات ، و جصصها من الداخل و الخارج (2) .
__________
(1) نفس المصدر ، ج 1 ص: 389 .
(2) العقل السياسي ، ص: 145 .(17/472)
و أما علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- ، فقد أدعى الجابري أن عليا لم يكن من أصحاب الأموال ،و لم يكن له(( حظ من الغنيمة سوى ما كان يناله من العطاء و كان يُوزعه على الفقراء )) (1) . و قوله هذا غير صحيح ، لأنه أولا لم يُوثق لنا دعواه ،و لم يفصل لنا مقدار ما كان علي يأخذه من العطاء هو و أسرته ،وكان عليه أن يفعل ذلك ليثبت ما ادعاه . لذا فنحن نقول: كان علي يأخذ مبلغا كبيرا جدا من العطاء قُدر بأربعين ألف دينار سنويا (2) . و هذا المبلغ الكبير يبدو أنه مجموع ما كان يأخذه علي من عطائه و عطاء أفراد أسرته الكبيرة ، التي كانت تتكون عند استشهاده من : 4 زوجات ، و 11 سرية أم ولد ، و 31 ولدا-14 ذكرا ، 17 أنثى- ، هذا سوى الخدم و العبيد (3) . فهل يُعقل أن رجلا يُعيل أسرة تتكون من أكثر من 44 فردا ، يُقال أنه يُوزع عطاءه على الفقراء و هو ليس ما أصحاب الأموال ؟ ! . و هل يُعقل أن رجلا تزيد أسرته عن 44 فردا ، يٌقال بأنه كان يُوزع عطاءه على الفقراء ؟ . فبماذا كان يُعيل عائلته إذا كان يُوزع عطاءه على الفقراء ؟ .
__________
(1) نفس المصدر، ص: 146 ، 152 .
(2) أحمد بن حنبل : المسند ، ج 1 ص: 159 . و فضائل الصحابة ، ج 1 ص: 539 . و ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 7 ص: 481 . و ابن كثير : البداية ، ج 7 ص: 333 .
(3) أنظر : الطبري : تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 163 . و ابن كثير : البداية ، ج 7 ص: 353 ، 356 . و ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 7 ص: 483 . و الذهبي: الخلفاء الراشدون ، ص: 398 .(17/473)
و ثانيا إذا كان علي لا مال له ، و يُوزع ماله على الفقراء ، فكيف أستطاع أن يجمع أموالا تركها لورثته عندما تُوفي ،و بعضها أوصى به في وصيته قبل وفاته ؟ ! ،و منها أنه ترك الضياع و النخيل و المزارع و الأوقاف ، و ترك ورثته من أغنياء قومهم و مياسيرهم .و تشهد وصيته التي كتبها سنة 39ه ، أنه كان يملك الأراضي و الآبار ،و الزروع و الرقيق (1) . فهل يصح في العقل أن رجلا يعول أكثر من 44 فردا من أسرته ، و يتصدق على الفقراء ،و يموت و يترك لورثته أموالا جعلتهم من أغنياء قومهم ، ثم يٌقال أنه لم يكن من أصحاب الأموال على حد زعم الجابري ؟؟ !! .
و مما يُثبت ذلك أيضا أن الجابري نفسه اعترف بما قلناه و ناقض به نفسه فيما ادعاه ، عندما قال : إن الثروات تكدست في أيدي كبراء بني هاشم (2) . و بما أن عليا هو ثاني كبراء بني هاشم بعد العباس -رضي الله عنهما- فهذا يعني أن الأموال تكدست بيديه هو أيضا ، و إلا ما كان في مقدوره إعالة أكثر من 44 فردا ، و التصدق على الفقراء ، و توقيف الأوقاف ، و ترك ورثته أغنياء .فهل رجل هذا حاله يٌقال أنه لم يكن من أصحاب الأموال ؟! .
و بذلك يتبين أن الجابري لم يكن موضوعيا حياديا عندما ذكر ما كان يملكه كبار الصحابة الأغنياء من أموال ، كالزبير ، و طلحة ، و ابن عوف ، و عثمان بن عفان-رضي الله عنهم- ، ذكر ذلك بشيء من التهويل و التضخيم ،و كأنهم امتلكوها بطريق غير شرعي (3) . لكنه من جهة أخرى لم يتعرض إلى ما كان يملكه علي من أملاك متنوعة ، و زعم أنه كان يُوزع عطاءه على الفقراء ، مما يُشعر بأنه ما كان يملك شيئا إلا الضروري من الحياة ، و هذا خلاف الواقع الذي لم يذكره الجابري الجابري .
__________
(1) عمر بن شبة : أخبار المدينة ، ج 1 ص: 136 ، 138 ، 140 و ما بعدها . و ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 7 ص: 481 و ما بعدها .
(2) العقل السياسي ، ص: 62 .
(3) نفس المرجع ، ص: 145 ، 146 .(17/474)
و أما الموضوع الثاني ، فيتعلق بمسألة الخلافة و ما حدث حولها من اختلاف و اتفاق بعد وفاة النبي-عليه الصلاة و السلام-، و قد تضمن أخطاء كثيرة وقع فيها الجابري ، سنذكرها تباعا فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
أولها إنه ادعى أن عليا تأخر في بيعته لأبي بكر الصديق احتجاجا منه ، لأنه كان (( يرى نفسه أحق الناس بخلافة النبي )) (1) . و قوله هذا غير صحيح ، لأنه أولا أن المصادر التي اعتمد عليها في ذلك الموضوع الخطير و الهام ، كانت قليلة جدا و مطعُون فيها أيضا ، كتاريخ الطبري ، و الإمامة و السياسة المنسوب لابن قتيبة ، فالأول مؤلفه ثقة ، لكن المادة التي جمعها فيه مطعون فيها ، لأنه دوّن فيه الغث و السمين ،و الصحيح و المكذوب، و روى عن كل من هب ودب من الصادقين و الكذابين ،و لم يُحقق ورواياته . و كتاب هذا حاله ، لا يصح أخذ رواياته إلا بعد تحقيقها إسنادا و متنا . و أما كتاب الإمامة و السياسة فلا يصح الاعتماد عليه ، لأن مؤلفه مجهول ، و أخباره ليست لها قيمة علمية ، و قد سبق أن أثبتنا ذلك بالأدلة القاطعة في الفصل الأول من كتابنا هذا .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 99 .(17/475)
و في مقابل تلك الكتب فاتته مصادر تاريخية و حديثية هامة جدا ، إما أنه أهملها ، أو أنه لم يعتمد عليها اعتمادا أساسيا ، منها : البداية و النهاية لابن كثير ، و تاريخ الإسلام للذهبي ، و الطبقات الكبرى لابن سعد، و تاريخ خليفة خياط لخليفة بن خياط ، و الجامع الصحيح للبخاري ، و الجامع الصحيح لمسلم ، و المسند لأحمد بن حنبل ،و غيرها من المصنفات الحديثية التي هي و إن كانت مصنفات حديثية فإنها قد تضمنت أخبارا تاريخية كثيرة هامة ، تتعلق بتاريخ الصحابة . و نحن لا نقول أن كل ما في تلك الكتب من أخبار هي صحيحة و إنما نقول : إن تلك المصنفات هي أكثر قيمة، و صحة ، و أهمية ، و موضوعية فيما ترويه من أخبار (1) ، بالمقارنة إلى المصنفات التي اعتمد عليها الجابري و قد أشرنا إليها آنفا .
و ثانيا إن مما يُبطل زعم الجابري بأن عليا كان يرى أنه أحق بالخلافة هو أن القرآن الكريم قد حسم مسألة الخلافة حسما نهائيا لا كلام بعهده ، عندما جعلها شورى بين المسلمين بالاختيار ، و لم يجعلها في بيت ، و لا في قبيلة، و لا في شخص أو أشخاص مُعينين ، و ذلك في قوله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} - سورة الشورى/38-، و{ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} - سورة النساء/59-، و بناء على ذلك فإن كل الروايات الحديثية و التاريخية التي تخالف ما نصت عليه هاتان الآيتان فهي باطلة ، حتى و إن عدد الكذابون طرقها إلى آلاف الطرق .
__________
(1) بالنسبة للصحيحين فهما أصح الكتب بعد القرآن الكريم .(17/476)
و مما يُبطل ذلك أيضا أنه قد ثبُت في السنة النبوية و التاريخ معا أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- تُوفي و لم يُوص بالخلافة لأحد من الصحابة من بعده. و لا يُوجد حديث صحيح فيه النص على إمامة علي المزعومة ،و قد أجمع أهل الحديث على بطلان ما يُروى من أحاديث في إمامته (1) . و من ثم فلا يصح أن يُقال: إن عليا كان يرى أنه أحق بالخلافة من غيره ، بما أن الشرع قد حسم مسألة الإمامة حسما و جعلها شورى بين المسلمين .
و ثالثا إن مما يُبطل دعوى الجابري أيضا ، أنه قد صحت أخبار تاريخية دلت على أن عليا لم يكن يعتقد أنه أحق بالخلافة ،ولا أنه هو الإمام المنصوص عليه شرعا الواجب طاعته ، أذكر منها الشواهد الآتية : أولها إنه ثبت في صحيح البخاري و غيره ، أنه في الأيام الأخيرة قبيل وفاة رسول الله –عليه الصلاة و السلام- قال العباس لعلي : إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت ، فاذهب بنا إلى النبي-صلى الله عليه وسلم – فلنسأله فيمن هذا الأمر ؟ ، إن كان فينا علمنا ذلك ،و إن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا. فقال علي: لا و الله ، لئن سألناها رسول الله-صلى الله عليه و سلم- فمنعناها ، لا يُعطيناها الناس من بعده أبدا ،و إني و الله لا أسألها رسول الله-صلى الله عليه و سلم (2) - .
__________
(1) أنظر : ابن كثير : البداية ، ج 5 ص: 263 . الضياء المقدسي : الأحاديث المختارة ، مكتبة النهضة الحديثة ، مكة المكرمة ، 1410 ، ج 2 ص: 263 . و ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 8 ص: 362 . و السيوطي: تاريخ الخلفاء ، ص: 7 .
(2) بخاري: الصحيح ، ج 4 ص: 1615 ، ج 5 ص: 2311 . و أحمد بن حنبل : المسند ، ج 1ص : 263 . و الطبري : تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 229 .(17/477)
و الشاهد الثاني يتمثل في خبر-إسناده حسن- مفاده أن علي بن أبي طالب يوم الجمل( سنة 36ه) اعترف أمام جيشه بأن النبي-عليه الصلاة و السلام- ، لم يعهد إليه في الإمارة شيئا ،و أن عمله هذا اجتهاد منه و رأي اختاره (1) .
و الشاهد الثالث هو أنه صحّ الخبر أن عليا- رضي الله عنه- كان يقول أمام الناس في الكوفة : (( خير الناس بعد الرسول-صلى الله عليه و سلم- : أبو بكر و عمر )) (2) . فتفضيله لأبي بكر و عمر على نفسه في الخيرية دليل قوي على أنه لم يكن يرى أنه أحق بالخلافة منهما .
و الشاهد الرابع يتمثل في أنه تواترت الأخبار عن أعيان آل البيت كابن عباس ،و الحسن ، و الحسين ، و ابن الحنفية ، و محمد الباقر ، و جعفر الصادق –رضي الله عنهم- بأنهم كانوا يُوالون أبا بكر و عمر ،و يُفضلونهما عن علي بن أبي طالب ، .و قالوا بأن الرسول-صلى الله عليه و سلم- لم يُوص بالخلافة لأحد من بعده (3) . فلو كان علي يعتقد أنه أحق بالخلافة من أبي بكر و عمر ،و أنهما اغتصبا حقه ، لقال آل البيت بقوله ، و ما شهدوا بالذي نقلناه عنهم .
__________
(1) أنظر : الخلال : السنة ، ج 1 ص: 289 ، 291 . و عبد الله بن احمد بن حنبل : السنة ، ج 2 ص: 570 ، 578 . و الذهبي: تاريخ الإسلام ، ج 1 ص: 160 . و ابن حجر الهيثمي : الصواعق المحرقة ، ج 1 ص: 269 ، 570 .
(2) الخلال : نفسه ، ج 1 ص: 289 ، 291. و عبد الله بن أحمد : نفس المصدر ، ج 2 ص: 578 .
(3) اذهبي: السير ، ج 4ص: 401 . و ابن تيمية : منهاج السنة ج 7 ص: 396 . و الهيثمي : الصواعق المحرقة ، ج 1 ص: 162 و ما بعدها . و البيهقي : شعب الإيمان ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1410 ، ج 1 ص: 197 .(17/478)
و أما الروايات الحديثية التي نقلها الجابري عن الشهرستاني ،و التي يحتج بها الشيعة ، في دعواهم بالنص على إمامة علي و أولاده ، كالحديث المزعوم الذي يقول لعلي : (( أنت وصيّ ،و ولي هذا الأمر من بعدي )) (1) ، فهي أحاديث كلها باطلة لأنها تخالف القرآن الكريم ، و السنة النبوية الصحيحة ، و الروايات الصحيحة المروية عن علي و آل البيت –رضي الله عنهم- التي ذكرنا طرفا منها .
و أما لخطأ الثاني –من أخطاء الموضوع الثاني- فيتمثل في أن الجابري رجّح الروايات التي تقول إن عليا امتنع فعلا عن بيعة أبي بكر ، معتمدا على رواية قال إنها تشهد بالصحة لمعظم الروايات التي كان قد ذكرها ، و هذه الرواية نقلها الجابري من كتابي الإمامة و السياسة ،و تاريخ الطبري ، فرواية الإمامة و السياسة مفادها أن أبا بكر لما كان على فراش الموت ، ندم على ما فعله مع علي، و قال : (( فليتني تركت بيت علي ، و إن كانوا قد أغلقوه على الحرب ))، و رواية الطبري مفادها إن أبا بكر قال : (( و ددتُ إني لم أكشف بيت فاطمة ،و إن كانوا قد غلقوه على الحرب )) (2) .
__________
(1) بنية العقل ، ص: 310 .
(2) العقل السياسي ، ص: 101 .(17/479)
و موقفه هذا غير صحيح منهجا و تطبيقا ، لأنه أولا رجّح روايات ضعيفة برواية لم يُحققها و لا أثبت صحتها ، فلا يصح ترجيح الضعيف بالضعيف ، فكان عليه أن يُبت صحة الرواية التي رجّح بها ، لكنه لم يفعل ذلك . و هي رواية غير صحيحة إسنادا و لا متنا ، فمن حيث الإسناد فإن رواية كتاب الإمامة و السياسة إسنادها غير صحيح لأن من رجاله : أبو عون عمرو بن عمرو بن عون الأنصاري (1) ، و الثاني هو مؤلف كتاب الإمامة و السياسة ، الأول مجهول (2) ،و المؤلف هو أيضا مجهول. و أما رواية الطبري فإسنادها لا يصح أيضا ، و من رجاله : علوان بن داود البجلي ، و يحيى بن عبد الله بن كثير (3) ، الأول مُنكر الحديث ،و انفرد بأحاديث لا يُتابع عليها . و الثاني ضعّفه النسائي (4) .
و أما متنها فهو لا يصح أيضا ، بدليل الشواهد الآتية : أولها إنه توجد روايات أخرى صحيحة ذكرت أن عليا بايع أبا بكر طواعية من دون إكراه من أحد ، و لم تذكر حكاية أبي بكر و بيت علي أصلا . و هذه الروايات سنذكرها قريبا إن شاء الله تعالى.
و الشاهد الثاني هو أنه سبق أن ذكرنا روايات صحيحة عن علي بن أبي طالب و آل بيته-رضي الله عنهم- فيها مدح لأبي بكر الصديق ، و تفضيل له ،و اعتراف بأسبقيته و خلافته ، فلو كان أبو بكر فعل ببيت علي ما زعمته تلك الرواية لذمه هؤلاء و حطوا عليه ،و لانتقدوه و ما سكتوا عنه .
__________
(1) كتاب الإمامة و السياسة ، ج 1 ص : 5 ، 8 . مع العلم أن المؤلف ذكر الإسناد كاملا في البداية ، ثم كرر بعضها فيما بعد .
(2) ابن حجر : اللسان ، ج 4 ص: 372 . و الذهبي : الميزان 5 ص: 338 . و المغني في الضعفاء ، ج 2 ص: 487 .
(3) تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 335 .
(4) العقيلي: الضعفاء ، ج 3 ص: 419 ، 619 . و ابن حجر : لسان الميزان ، ج 4 ص: 189 .(17/480)
و الشاهد الثالث يتمثل في أن ذلك الفعل المنسوب لأبي بكر لا يليق أن يصدر من رجل عظيم كأبي بكر الصديق الذي شهد له القرآن و السنة و التاريخ بالإيمان و الإخلاص ،و الشهامة و الشجاعة ،و الأخلاق الحسنة ، فذلك الفعل المنسوب إليه ليس من أخلاقه ، و لا من أخلاق المسلم ،و لا من شيم الرجال الأحرار النزهاء الشرفاء .
و أما الروايات الصحيحة (1) التي تُثبت بيعة علي لأبي بكر طواعية من دون إكراه ، فأولها رواية ذكرت أنه عندما بايع المسلمون أبا بكر البيعة العامة بالمسجد ، تخلف علي و الزبير – رضي الله عنهما- فلما لم يرهما أبو بكر أرسل إليهما ، فلما حضرا كلمهما أبو بكر و أنبهما فبايعاه طواعية من دون إكراه (2) .
و الرواية الثانية ذكرت أنه لما تأخر علي و الزبير عن بيعة أبي بكر العامة في المسجد ، طلبهما أبو بكر ، فلما حضرا أخبراه بأنهما غضبا لأنهما أُخرا عن المشورة يوم السقيفة ، ثم بايعاه و أبلغاه بأنهما يريان أنه-أي أبو بكر- هو أحق الناس بالخلافة ، و أنه لصاحب الغار ، و أنهما ليعرفان شرفه و خيره ،و لقد اَمَره رسول الله-صلى الله عليه و سلم- أن يُصلي بالناس (3) .
__________
(1) صححتها المصادر التي رجعتُ إليها ، و سنذكرها عند ذكر كل رواية إن شاء الله تعالى .
(2) عبد الله بن أحمد : السنة ، ج 2 ص: 154 . البيهقي : السنن ، ج 8 ص: 183 . و ابن كثير : البداية ، ج 5 ص: 261 . و الذهبي : الخلفاء الراشدون ، ص: 6 . و السيوطي: تاريخ الخلفاء ، ص: 69 .
(3) الذهبي : نفس المصدر ، ص: 8 . و ابن كثير : نفس المصدر ، ج 5 ص: 262 . و السيوطي: نفس المصدر ، ص: 152 .(17/481)
و الرواية الثالثة مفادها أنه لما تُوفي رسول الله –عليه الصلاة و السلام- بليال قليلة صلى أبو بكر بالناس صلاة العصر ، فكان علي من بين الذين صلوا خلفه ، فلما انقضت الصلاة ، التقيا وخرجا معا من المسجد يمشيان و يتبادلان الحديث و يضحكان (1) . فهذه الحادثة دليل دامغ على أن الرجلين ما كانا متخاصمين ، و قد حدثت بعد أيام قليلة من وفاة رسول الله و بيعة الناس لأبي بكر ، فلو كان أبو بكر قد اعتدى على بيت علي ، أو أن عليا قد اعتزله و أحس أن أبا بكر قد شن عليه حربا على حد زعم الجابري (2) ، ما حدث ذلك اللقاء الأخوي الودي بين الرجلين .
و الرواية الرابعة مفادها أنه لما بايع الناس أبا بكر البيعة العامة بالمسجد ، ذهب أبوا سفيان إلى علي بن أبي طالب ،و حاول إثارته على أبي بكر و قبيلته تيم ، باستخدام النعرة القبلية ، فرده علي بحزم و قوة ، و قال له : (( لطالما عاديت الإسلام و أهله يا أبا سفيان ، فلم يضره ذلك شيئا ، إنا وجدنا أبا بكر لها أهلا )) (3) .
و بذلك يتبين أن عليا قد بايع أبا بكر عندما بايعه الناس البيعة العامة ، بالمسجد ، بايعه من دون إكراه ، و لم يتأخر عن بيعته أياما ، و ولا شهرا ، و لا ستة أشهر ،و إنما تماطل هو و الزبير لأنهما غضبا عندما لم يُستشارا يوم السقيفة ،و ليس لأن عليا كان يرى أنه أحق بالخلافة من كل الناس على ما ادعاه الجابري ، و لا أن أبا بكر اغتصبها منه . و أما لماذا لم يُستشارا في حادثة السقيفة ؟ ، فالأمر واضح ،و هو أنهما لم يكونا حاضرين لأن الأمر تم بسرعة في سقيفة بني ساعدة ، و لم يحضره معظم الصحابة و ليس فقط علي و الزبير (4) .
__________
(1) البخاري : الصحيح ، ج 3 ص: 1036 ، 1370 . و أحمد بن حنبل : المسند ، ج 1 ص: 8 .
(2) العقل السياسي ، ص: 101 .
(3) السيوطي : المصدر السابق ، ص: 67 .
(4) أنظر مثلا : ابن كثير : البداية و النهاية ، ج ص: 5 ، 246 و ما بعدها .(17/482)
و أما ما يُذكر أن عليا تأخر 6 أشهر لكي بايع أبا بكر الصديق ، فهو لا يصح ، و الصحيح هو أنه بايعه مرتين ، الأولى بايعه مع الناس في البيعة العامة ،و الثانية جدد له البيعة بعد 6 أشهر عندما توفيت زوجته فاطمة-رضي الله عنها- ، و ذلك عندما اختلف أبو بكر مع فاطمة في مسألة ميراث النبي –عليه الصلاة و السلام- ، فعندما خالفها في رأيها و تغضّبت عليه بعض الشيء ، سايرها زوجها علي بن أبي طالب ، فلما توفيت و كان بعض الناس قد تكلموا في علي جدد البيعة لأبي بكر-رضي الله عنهما (1) .
و أشير هنا إلى أن الجابري اتخذ مواقف غير صحيحة من مسألة ببيعة علي لأبي بكر الصديق ، فمنها إنه قال: إن عليا امتنع فعلا عن مبايعة أبي بكر (2) .و موقفه هذا غير صحيح سبق إبطاله و نقضه بالروايات الصحيحة التي ذكرناها آنفا .
و منها أيضا-أي المواقف- إنه قال : لو افترضنا أن الشيعة هم الذين وضعوا روايات امتناع علي من بيعة أبي بكر ، فإنه يمكن الاعتراض عليها بأن يُقال : (( لو وضع الشيعة تلك الروايات لكان في مضمونها ما يُفيد أن النبي-ص- قد أوصى لعلي بالأمر من بعده ، لأن نظرية الشيعة تقوم كلها على الوصية ، و خلو الروايات المذكورة من احتجاج علي بالوصية ، مثله مثل احتجاج المهاجرين على الأنصار بحديث (( الأئمة من قريش )) ، و إذن ليس من مصلحة الرواة الشيعة أن يضعوا روايات من جنس الروايات التي ذكرنا )) (3) .
__________
(1) نفس المصدر ، ج 5 ص: 262 ، 286 .
(2) العقل السياسي ، ص: 101 .
(3) نفسه ، ص: 101 .(17/483)
و موقفه هذا غير صحيح ، لأنه أولا إن بعض الروايات التي ذكرها الجابري عن امتناع علي من بيعة أبي بكر تتضمن في باطنها القول بالنص ، و ذلك عندما ذكرت أن عليا قال إنه أحق بالخلافة ، من كل الصحابة . فلماذا ادعت ذلك؟ ، و الثابت شرعا أن القرآن الكريم جعل الخلافة شورى بين المسلمين ،و لم يخصها بفرد ، و لا بجماعة ، و لا بأسرة ، و لا بقبيلة . أليس ذلك الادعاء يتضمن الإشارة إلى النص المزعوم ؟، هذا فضلا على أن بعض المصادر التي اعتمد عليها الجابري ، كتاريخ اليعقوبي ،و مروج الذهب للمسعودي، قالت بالنص على علي ،و كل من اليعقوبي و المسعودي يُؤمنان بالوصية،و إمامة علي على مذهب الشيعة الإمامية ،و هذا أمر واضح في كتابيهما .
و بما أن تلك الروايات -التي ذكرت أن عليا امتنع من بيعة الصديق- تخالف القرآن الكريم ،و السنة الصحيحة ، و الأخبار التاريخية الثابتة، كما سبق أن بيناه ، فهي إذن روايات مكذوبة بلا شك ، افتراها الرواة الذين يطعنون في الصحابة عامة ،و في أعيانهم خاصة ، و هي روايات تصب في تيار الشيعة المعروف عنهم طعنهم في الصحابة ،و هم يختلقون و يروون كل ما يطعن فيهم من قريب و من بعيد ، من دون تمييز لها من حيث تعلقها بالنص و الإمامة أو بغيرهما ، لأنها كلها تخدم فكرهم (1) . و قد يتعمد بعضهم ذكر الروايات غير الصريحة في النص على الإمامة ، لكي تنتشر بين السنيين و تجد بعض القبول لديهم ، و لا تُثير الرفض المطلق لها ، لكنها تُثير فيهم الشك و البلبلة و الحيرة ، و بذلك يكون هذا النوع من الروايات قد أدى وظيفته المحددة له .
__________
(1) لتوسع في ذلك أنظر كتابنا : مدرسة الكذابين في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه .(17/484)
و ثانيا لقد غاب عن الجابري أن الشيعة ليسوا صنفا واحدا ، عندما قال: يجب أن تتضمن رواياتهم الإشارة للنص و الإمامة . لأن الشيعة الأولى كانت فيها عدة اتجاهات ، منها اتجاه يُفضل أبا بكر و عمر على علي بن أبي طالب .و اتجاه يُفضل عليه الخلفاء الراشدين الثلاثة الذين سبقوه –الصديق ، عمر ، عثمان- . و اتجاه لا يفضل عليا إلا على عثمان .و اتجاه يُفضل عليا على جميع الصحابة بما فيهم الخلفاء الذين سبقوه ،و يرى أنه أحق بالخلافة منهم ، كما حال معظم الزيدية . و اتجاه يُفضل عليا على جميع الصحابة و يقول بالنص على إمامته و آل بيته من بعده ،و يطعن في الصحابة ،و هذا الاتجاه مثله مؤسس الرفض عبد الله بن سبأ ،و من سار على نهجه (1) .
و بذلك يتبن أن الروايات التي ذكرها الجابري و استبعد كون الشيعة هم الذين وضعوها بدعوى عدم تضمنها النص على إمامة علي بن أبي طالب ، هي روايات من وضع بعض تلك الاتجاهات الشيعية سواء التي قالت بالنص أم التي لم تفل به .
و أما موقفه الأخير- أي الثالث- فيتعلق بدعوى الجابري بأن الروايات التي ذكرت أن عليا و بعض الصحابة امتنعوا من بيعة أبي بكر حتى أجبرهم على البيعة ، هي روايات تحمل على (( الاعتقاد في أنها روايات مُحايدة تنقل وقائع جرت بالفعل )) (2) . و قوله هذا غير صحيح مضمونا و منهجا ، فأما مضمونا فقد سبق أن توسعنا في مناقشة الجابري في ترجيحه لروايات امتناع علي من بيعة أبي بكر ،و بينا بطلانها و أثبتنا الصحيح مكانها.
__________
(1) أنظر مثلا : عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق، ص: 30 و ما بعدها . و الشهرستاني: الملل ، ج 1 ص: 189، و ما بعدها ، 204 و ما بعدها .
(2) العقل السياسي ، ص: 101 .(17/485)
و أما منهجا فإنه ارتكب خطأ منهجيا كبيرا يتعلق بطريقة تمحيص الروايات ، فالطريقة التي اتبعها ناقصة ، كان عليه أن يجمع كل الروايات المتعلقة ببيعة الصحابة للصديق ، و ينقدها إسنادا و متنا ، لكنه لم يفعل ذلك . علما بأننا إذا لم نستخدم منهجنا هذا لا نستطيع تمييز صحيح الروايات من سقيمها تمييزا صحيحا كاملا يطمئن إليه القلب و يقبله العقل .
و من قصوره المنهجي أيضا أنه اعتمد –أساسا- في مسألة بيعة علي لأبي بكر على كتابين هما : الإمامة و السياسة ، و تاريخ الطبري ، الأول لا يصح الاعتماد عليه أصلا ، في موضوع حساس كالذي نحن بصدده ، لأن مؤلفه مجهول مُغرض ،و لأنه أيضا مملوء بالأخطاء ، و هذا أمر أثبتناه في الفصل الأول. و أما تاريخ الطبري فهو كتاب جمع بين الغث و السمين ،و الصحيح و الموضوع،و بين الرواة الصادقين و الكذابين ، من دون أي تحقيق في الغالب الأعم.لذا فلا يصح الاعتماد عليه إلا بعد تحقيق رواياته إسنادا و متنا ، و هذا أمر لم يفعله الجابري .
و أما الخطأ الثالث – من المجموعة الثانية- فيتمثل في أن الجابري ادعى أن المصادر (( تسكت تماما عن علي بن أبي طالب زمن أبي بكر ، و كأنه لا وجود له ، مما يحمل على الاعتقاد أنه كان-بلغة السياسة المعاصرة- يؤدي ثمن موقفه من بيعة أبي بكر )) (1) .
و قوله هذا غير صحيح تماما ، لأنه أولا اعتمد أساسا على مصدرين أو ثلاثة فيما يتعلق بأعمال علي و أحواله زمن خلافة أبي بكر ، ثم ادعى أن المصادر سكتت عنه تماما ! ، فهذا خطأ منهجي كبير وقع فيه الجابري ، لأن هناك مصادر أخرى كثيرة لم يرجع إليها الجابري ، فيها ذكر لبعض أعمال علي و علاقته بأبي بكر أيام خلافته، سنذكرها قريبا في مكانها المناسب إن شاء الله تعالى . كما أن عدم ذكر المصادر لشخص ما لا يعني بالضرورة أنه مغضوب عليه .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 104 .(17/486)
و ثانيا إن الشواهد على خطأ ما ادعاه الجابري كثيرة ، أولها أنه صحّ الخبر أن بعد وفاة النبي-عليه الصلاة و السلام- بليال صلى أبو بكر بالناس صلاة العصر ، كان علي من بين المصلين خلفه ، فلما انقضت الصلاة خرج أبو بكر و علي يمشيان معا و يتبادلان الحديث ، فوجد أبو بكر الحسن بن علي يلعب مع الأولاد، فحمله و قال: (( يا بابي شبه النبي، ليس شبيها بعلي )) ، فضحك علي بن أبي طالب (1) . فلو كان الرجلان متخاصمين متغاضبين ، و متنافرين متعاديين ، ما حدث بينهما الذي ذكرناه، فالعلاقة بينهما كانت علاقة أخوية حميمة ، يصليان معا، و يمشيان و يمزحان معا. علما بأن هذا تم بعد بيعة أبي بكر الذي بُويع يوم السقيفة في اليوم الذي توفي فيه رسول الله -عليه الصلاة و السلام (2) - .
و الشاهد الثاني يتمثل في الخبر الصحيح الذي مفاده أنه بعد وفاة النبي-صلى الله عليه و سلم- بشهرين و أيام خرج أبو بكر إلى ضاحية ذي القصة بالمدينة المنورة مع الجند ، شاهرا سيفه لمقاتلة المرتدين ، فاعترضه بعض الصحابة و نصحوه بالرجوع إلى المدينة ، كان من بينهم علي بن أبي طالب ، الذي نصحه بالعودة ،و قال له : (( إلى أين يا خليفة رسول الله ، أقول لك ما قاله رسول الله –صلى الله عليه و سلم- يوم أحد : لَم ْ سيفك ،و لا تفجعنا بنفسك ، و ارجع إلى المدينة ، فوالله لئن فُجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا ، فسمع منه أبو بكر و رجع (3) .
__________
(1) البخاري: الصحيح ، ج 3 ص: 1036، 1370 . و أحمد بن حنبل: المسند ، ج 1 ص: 8 .
(2) ابن كثير : البداية ، حوادث سن 11هجرية ، ج 6 ص: 692 .
(3) نفس المصدر ، ج 6 ص: 707 . و السيوطي: تاريخ الخلفاء ، ص: 75 .(17/487)
فهذه الحادثة دليل دامغ على أن عليا بايع أبا بكر قبل وفاة فاطمة-رضي الله عنها- ،و أنه كان شديد الحب له ، و على علاقة جيدة معه ، و مخالطا له ، و لم يكن كما زعم الجابري بأن عليا كان مهمشا و مغضوبا عليه زمن خلافة أبي بكر . فلو كان علي مفارقا لأبي بكر ، كارها و مخاصما له ، ما فعل معه ما ذكرناه ، و لحثه على الخروج لعله يُقتل فيتخلص منه . لكن الذي حدث هو عكس ذلك تماما .
و الشاهد الثالث يتضمن أعمالا لعلي (1) حدثت في خلافة أبي بكر ، أولها إنه لما ارتدت العرب و خاف أبو بكر أن تتعرض المدينة لأي خطر محتمل من هؤلاء ، عيّن جماعة من الصحابة لحماية المدينة ليلا ، كان من بينهم علي بن أبي طالب كلفه بحماية نقب من أنقاب المدينة (2) .
و العمل الثاني مفاده أن علي بن أبي طالب كان أيام خلافة أبي بكر كاتبا له-أي لأبي بكر- (3) . و العمل الثالث مفاده أنه لما أراد أبو بكر غزو الروم شاور جماعة من الصحابة كان من بينهم علي بن أبي طالب ، فوافقه على ذلك (4) . و العمل الرابع مفاده أن الصحابة الذين كان أبو بكر يستشيرهم ، و الناس يأخذون عنهم الفقه في زمانه ، كان من بينهم : علي بن أبي طالب ، و عمر بن الخطاب (5) -رضي الله عنهما- .
__________
(1) لا نلتزم في ذكر هذه الأعمال بذكر الصحيح فقط، لأننا في صدد الرد على الجابري الذي زعم أن المصادر سكتت عن علي زمن خلافة أبي بكر . لذا نحن سنذكر كل ما وجدناه في المصادر بغض النظر عن الصحة من عدمها.
(2) ابن كثير : المصدر السابق ، ج 6 ص: 301، 311 . و الطبري : تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 255 .
(3) ابن الأثير : الكامل في التاريخ ، ج 2 ص: 268 .
(4) اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي ، ج 2 ص: 133 .
(5) ابن الجوزي: المنتظم ، ج 4 ص: 74 ، 75 . و ابن عبد البر: التمهيد ، ج 5 ص: 315 . و البيهقي : شعب الإيمان ، ج 4 ص: 375 . و اليعقوبي: نفس المصدر ، ج 2 ص: 138 .(17/488)
و أما الشاهد الأخير-أي الرابع- فيتمثل في مواقف علي وآل بيته من أبي بكر و خلافته ، وهي مواقف كلها مدح و ثناء و اعتراف باستقامة أبي بكر و صحة خلافته ، فمن ذلك أن عليا ترضي علي أبي بكر و شهد له للاستقامة في خلافته ،و السير على سنة النبي-عليه الصلاة و السلام- و العمل بها. و كان يقول أمام الناس : (( خير الناس بعد الرسول-صلى لله عليه و سلم- أبو بكر و عمر )) (1) .
و منها أيضا أن كبار آل بيت علي كانوا على طريقته في موقفه من أبي بكر ، و منهم : محمد النفس الزكية ، و زين العابدين ، و محمد الباقر، و جعفر الصادق، هؤلاء- و غيرهم- أثنوا على على أبي بكر و شهدوا له بالفضل ،و فضلوه على علي بن أبي طالب و اعترفوا بخلافته ، و فال محمد الباقر : (( أجمع بنوا فاطمة-رضي الله عنهم- على أن يقولوا في الشيخين أحسن ما يكون من القول))، و قال زيد العابدين علي بن الحسين : (( أعلم و الله أن البراءة من الشيخين ، البراءة من علي )) ، كما أنه سماه الصديق ، و عندما أنكر عليه بعض الرافضة تسميته بذلك ، قال له زين العابدين: (( ثكلتك أمك ، قد سماه رسول الله و المهاجرون و الأنصار ،و من لم يسمه صديقا فلا صدق الله عز وجل قوله في الدنيا و الآخرة، اذهب فأحب أبا بكر و عمر رضي الله عنهما )) (2) . فلو كان علي مُهمشا ، و مغضوبا عليه ، و مسكوتا عنه ، و مُضيق عليه ، و مأخوذ حقه ، زمن خلافة أبي بكر ، ما قال علي و آل بيته ما نقلناه عنهم في موقفهم من أبي بكر الصديق .
__________
(1) عبد له بن أحمد : السنة ، ص: 570، 578 . و الخلال : السنة ، ج 1 ص: 289 ، 291 . و الذهبي: تاريخ الإسلام ، ج 1 ص: 160 . و ابن حجر الهيثمي: الصواعق المحرقة ، ج 1 ص: 69 . و الألباني : ظلال الجنة ، ج 2 ص: 317 .
(2) ابن حجر الهيثمي: الصواعق ، ج 1 ص: 155 و ما بعدها ، و 164 و ما بعدها . و ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 7 ص: 396 .(17/489)
و بذلك يتبن من الشواهد الأربعة التي ذكرناها أن ما ادعاه الجابري من أن المصادر سكتت تماما عن علي في خلافة أبي بكر ، و كأنه غير موجود لأنه مغضوب عليه ، لموقفه من بيعة أبي بكر ، هو ادعاء باطل تنقضه تلك الشواهد التي ذكرناها ، و التي تثبت عكس ما ذهب إليه تماما .
و أما الخطأ الأخير –الرابع من المجموعة الثانية- فيتعلق بموضوع الخلافة عند أهل السنة ، فقد ادعى الجابري أن أهل السنة لم تكن لهم أصول منهجية في التكلم في مسألة الإمامة للرد على الشيعة القائلين بالنص ، فسلكوا مسلك أهل الحديث في معارضة نظرية الشيعة ، فلجئوا إلى التاريخ لإثبات أن الخلافة بالاختيار ليس بالنص ،و التاريخ عندهم هو سيرة السلف الأول التي تقوم مقام النص عند غيابه ، لقد لجأ الشيعة إلى الرأي لإثبات وجود النص ، و لجأ أهل السنة إلى الأثر لإثبات الاختيار (1) .
__________
(1) تكوين العقل ، ص: 104 .(17/490)
و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، لأنه أولا إن القول بالاختيار في الإمامة القائمة على الشورى ، هو عند أهل السنة لا يقوم على التاريخ فقط، و إنما يقوم أساسا على الكتاب و السنة ، لأنه من بديهيات الشرع التي كانت معروفة لدى المسلمين في العهدين النبوي و الراشدي ، لأن القرآن نص على ذلك صراحة ، في قوله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} - سورة الشورى/38- ، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} - سورة النساء/59-، فالصحابة في موقفهم من الخلافة تصرّفوا بناء على هذه الآيات ، التي نصت على أن كل أمور المسلمين- من بينها الإمامة- هي شورى بينهم ، و عليه فإن مسالة الإمامة محسومة بنص القرآن على أنها شورى بين المسلمين و ليست خاصة بشخص ، و لا بأسرة ،و لا بقبيلة ،و لا بجماعة ، مما يعني أن القول بالنص في الإمامة –كما يدعي الشيعة- هو قول باطل بنص القرآن الذي لا تصمد أمامه كل الروايات الحديثية و التاريخية التي تدعي النص في الإمامة على علي و آل بيته ، لأنها روايات باطلة يردها القرآن أولا ، و السنة الصحيحة الموافقة له ثانيا ،و الروايات التاريخية الصحيحة الموافقة لهما ثالثا (1) .
__________
(1) سبق توثيق ذلك في مسألة بيعة علي لأبي بكر .(17/491)
و أما الأحاديث الصحيحة التي اعتمد عليها أهل السنة في القول بالاختيار في الإمامة ، فمنها قوله عليه الصلاة و السلام: (( عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ ))، و (( الأئمة من قريش ، ما أقاموا الدين و إذا استرحموا رحموا ،و إذا حكموا عدلوا ،و عاهدوا أوفوا )) (1) . فهذه الأحاديث تتضمن الإخبار عما سيحدث ،و تقرير مبدأ الاختيار و التداول على السلطة فيما يخص من يتولى الخلافة ، و حتى حديث (( الأئمة من قريش))، فهو و إن حصر الخلافة في قريش فإنه يتضمن أيضا مبدأ الاختيار و التداول على السلطة بين قريش ، لنكه مع ذلك لم يحصرها فيها على التأبيد، فهو حصر مؤقت مشروط بإقامة الدين و العدل ، و إلا خرجت منهم الخلافة ، التي هي في الأصل شورى بين المسلمين مطلقا بنص القرآن الكريم. علما بأن قريشا –بعد و فاة رسول الله- كانت أولى القبائل و أجدرها بتولي الخلافة لمكانتها الدينية و التاريخية ، و الاقتصادية و القبلية ، فتلك الأولوية هي أولوية ظرفية استثنائية محكومة بالشورى و إقامة الدين و العدل .
__________
(1) البخاري: الصحيح ، ج 3 ص: 1289 . و ابن حجر العسقلاني: تلخيص الحبير ، ج 4 ص: 42 . و الألباني : صحيح التغيب و الترهيب ، ج 2 ص: 273 .و الجامع الصعير و زياداته ، ج 1 ص: 453 .(17/492)
و ثانيا إن قول الجابري بأنه لا مانع من افتراض تدخل العوامل السياسة في عصر التدوين ، من أن تتدخل في إعادة صياغة المناقشات التي دارت في اجتماع السقيفة للرد على الشيعة في مسألة الإمامة ، فقُدم المحضر بطريقة تحمل على الإقناع بأن خلافة أبي بكر كانت بالاختيار و إجماع الصحابة ، و أنه لا أحد ذكر الوصية و أشار إليها منهم ، و إنما اعتمدوا في ذلك على السوابق في اختيار أبي بكر (1) . فهو مجرد افتراض نظري يحتاج إلى أدلة لإثباته ، لأنه ليس كل ما هو ممكن عقلا بالضرورة أنه حدث في الواقع . و كان عليه أيضا أن يفترض عكس ما ذهب إليه ، بأن يفترض أن الشيعة في عصر التدوين هم الذين اخترعوا حكاية النص على الإمامة للرد على السنيين في قولهم بالاختيار ،وليس أهل السنة هم الذين فعلوا ذلك . فكل من الاحتمالين وارد من الناحية النظرية ، كان من المفروض على الجابري أن يكون موضوعيا فيفترضهما معا بالتساوي . علما بأن موقف السنيين يُؤيده القرآن الكريم، و هو ليس من مدونات عصر التدوين ، مما يعني أن موقفهم هو الصحيح ، و أن موقف الشيعة غير صحيح لأنه يخالف القرآن ، و بما أن تلك الروايات تخالف القرآن و السنة الصحيحة الموافقة له ،و تخالف أيضا الروايات التاريخية الثابتة الموافقة لهما-أي الكتاب و السنة- ، فهي مكذوبة بلا شك .
__________
(1) تكوين العقل ، ص: 107 .(17/493)
و ثالثا إنه قال : إن حديث (( الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم ملك بعد ذلك )) ، يعني أن الحكم بعد الخلفاء الراشدين مُلك دنيوي ، و هو (( يجعل الخلافة بعد الخلفاء الراشدين غير ذي موضوع ، إلا إذا كان المقصود هو بيان الكيفية التي سارت عليها الخلافة زمن الراشدين . و في هذه الحالة سنكون أمام تاريخ لواقع مضي ، و ليس أمام نظرية للحاضر و لا للمستقبل )) لأن الحديث حكم على الحاضر و المستقبل بعد الخلفاء الراشدين ، بأن الخلافة ستكون ملكا عضوضا . ثم قرر الجابري بأن نظرية الخلافة عند أهل السنة هي اسم بلا مسمى ، إذا أخذنا بها بمعنى التشريع للكيفية التي يجب أن يكون عليها الحكم (1) .
و معنى كلامه أنه يُريد أن يقول : إن الخلافة الراشدة لا تتكرر بعد زوالها ، لأن الحديث نص على أنها لا تتكرر ، فلا فائدة من السعي لمحاولة إحيائها من جديد ،لأنها ماتت و محكوم عليها بعدم التكرار بعدما عاشت 30 سنة .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 309 .(17/494)
و ردا عليه أقول : إن الحديث ليس كما فهمه الجابري و وجهه كما يُريد ، و كان عليه أن يفهمه فهما بلا مبالغة ، و في إطار النصوص الشرعية الأخرى . فهو حديث فيه إخبار بما سيحدث مستقبلا ، و هو من أحاديث دلائل النبوة ، و الواقع التاريخي شهد له بالصحة إلى يومنا هذا ، فمنذ زوال الخلافة الراشدة سنة 40 هجرية ، لم تتكرر إلى يومنا هذا على امتداد 14 قرنا تقريبا . لكنه مع ذلك لا يتضمن تيئسا و حكما أبديا بعدم تكرار خلافة النبوة ، لأنه لم ينص على التأبيد المطلق بعدم تكراراه ، و لأن القرآن الكريم و السنة الصحيحة يُبشران بتكرارها ، فالقرآن يقول : -{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} - سورة النور/55- ، فهذا وعد إلهي مشروط يتحقق في أي زمان و مكان إذا تحققت شروطه في أي مجتمع مسلم .
و أما من السنة النبوية ، فمنها حديث صحيح يتضمن بشارة مستقبلية بأن خلافة النبوة ستتكرر مستقبلا بعد خلافة الملك ، و نص الحديث هو (( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله ان تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة )) (1) .
__________
(1) أحمد بن حنبل : المسند ، ج 4 ص: 273 . و علي الهيثمي: مجمع الزوائد ، ج 5 ص: 341 . و الألباني : السلسلة الصحيحة ، ج 1 ص: 34 .(17/495)
و ختاما لمبحثنا هذا يتبن أن الباحثين محمد أركون و محمد عابد الجابري وقعا في أخطاء تاريخية فادحة تتعلق بالصحابة ، فأركون ذكرنا له ثلاثة أخطاء ، كان فيهيا مجازفا مبالغا ، قليل البضاعة في العلوم الإسلامية و التاريخ . و أما الجابري فكانت أخطاؤه كثيرة جدا ، ذكرنا طرفا منها ، و رددنا عليه فيها بشيء من التفصيل ، تبين منها انه لم يلتزم فيها بالمنهجية العلمية الصحيحة في نقده للروايات التاريخية .و لم يكن حريصا على توسيع مجال بحثه للإطلاع على مختلف المصادر الحديثية و التاريخية ، و اكتفي –في الغالب- بمصدرين أو ثلاثة مطعون فيها كلها ، ففاتته بذلك روايات صحيحة كثيرا ما خالفت ما ذهب إليه .
ثانيا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالفتنة الكبرى (35-41ه) :(17/496)
و قع الباحث محمد عابد الجابري في أخطاء تاريخية كثيرة جدا تتعلق بموضوع الفتنة الكبرى و ما نتج عنها ، أذكرها في ثلاث مجموعات ، الأولى تتعلق بأسباب الثورة على الخليفة الشهيد عثمان بن عفان- رضي الله عنه- ، و تتضمن أربعة أخطاء ، أولها يتمثل في أنه ادعى أن الفقر و الحاجة هما اللذان حركا الثورة على عثمان و قريش ، فكان العامل الاقتصادي هو المحرك لها ، الذي أحدث صراعا طبقيا بين الفقراء و الأغنياء بسبب سوء توزيع الثروة ، مما أدى إلى تكدس الثروات من غنائم و خراج الفتوحات ، بيد فئة قليلة في المركز ، مقابل اتساع حجم العامة في الأمصار و المدن و الأرياف؛ فأحدث ذلك تفاوتا واسعا و عميقا بين الأغنياء و الفقراء . و قد زاد في حدة ذلك الوضع توقف الفتوحات و ازدياد النمو السكاني، و هجرة الأعراب إلى الأمصار . و قد كان عامل عثمان على الكوفة سعيد بن العاص يقول عن الأراضي الزراعية بسواد الكوفة : (( إنما السواد بستان قريش )) . و مما يدل على فقر العامة أنه عندما دخل الثوار إلى المدينة ناقمين على عثمان ، تدخل علي بن أبي طالب و أخذ ما في بيت المال و وزعه عليهم (1) .
و قوله هذا غير صحيح تماما تقريبا ، فيه أخطاء كثيرة جدا ،و صواب قليل جدا ، لأنه أولا إن قوله هذا تغلب عليه المزاعم و الدعاوى ، و يفتقد إلى الشواهد و الأدلة التاريخية الصحيحة ؛ علما بأن الدعاوى لا يعجز عنها أحد ، و هي في متناول كل إنسان ، عكس الحقائق التي هي ليست في متناول أي إنسان . و بناء على ذلك فإننا نرى أن الجابري لم يٌقدم فيما ذهب إليه دليلا صحيحا واضحا ، و بالغ في توجيه النصوص لخدمة ما أرتأه ،و أغفل نصوصا أخرى تخالف ما ذهب إليه ، سنذكرها قريبا إن شاء الله تعالى .
__________
(1) العقل السياسي ، ص : 141 ، 143 ، 146 . 147 ، 148 ، 150 ، 184 . و التراث و الحداثة ، ص : 113 ، 116 .(17/497)
و أما الشواهد التاريخية التي ذكرها لإثبات ما قاله ، فهي ثلاثة شواهد سق ذكرها و توثيقها في قوله السابق ، نعيدها هنا للرد عليه ، أولها يتمثل في قوله بتوقف الفتوحات في خلافة عثمان ، مما أدى إلى قلة الغنائم و تفاقم الأزمة الاقتصادية . و هو لم يُحدد الفترة التي توقفت فيها الغنائم ، لكنه يقصد- في أغلب الظن- توقفها في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان عندما ظهرت المعارضة ،و لا يقصد السنوات السابقة عندما كانت الفتوحات و الغنائم كثيرة ، و المعارضة لم تظهر بعد. و بناء على ذلك فإن التعليل الذي قدمه الجابري غير صحيح ، لأن فتوحات المسلمين و مغازيهم لم تتوقف حتى في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان ، و كانت لهم فتوح و مغاز و غنائم في سنوات : 30 ، 31 ، 32 ، 33 ، 34 للهجرة (1) . علما بأن الجابري قد ناقض نفسه عندما ذكر في كتابه العقل السياسي أن الفتوح قد توقفت (2) . ثم ذكر في كتابه العقل الأخلاقي العربي أنه عندما قُتل عثمان كانت جماعة من الصحابة في المغازي (3) .
و الشاهد الثاني يتمثل في ذكر الجابري لمقولة عامل الكوفة سعيد بن العاص ، التي تقول : (( إنما السواد بستان قريش ))،و هذه المقولة لم يُوثقها الجابري ،و لا حققها ، و لا ذكر لها إسنادا (4) . لكنني عثرتُ عليها منسوبة إلى سعيد بن العاص في الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد ، و في تاريخ الطبري مذكورة مرتين، و في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني مذكورة مرتين أيضا (5) . فهل صحيح أن سعيدا قال تلك المقولة ؟ .
__________
(1) أنظر : الطبري: تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 607 ، 608 ، 618 ، 620 ، 625 ، 627 ، 628 ، 629 ، 630 ، 633 ، 634 .و ابن قتيبة : المعارف ، ص: 43 .
(2) ص : 143 .
(3) ص: 63 .
(4) أنظر العقل السياسي ، ص : 184 .
(5) الطبقات الكبرى ، ج 5 ص: 32 . و تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 637 ، 641 – 642 . و كتاب الأغاني ، ج 12 ص: 167 ، 168 .(17/498)
أولا ففيما يخص أسانيد تلك الروايات فهي لا تصح ، لأن الرواية الأولى التي ذكرها أبو الفرج الأصفهاني من رجالها : علي بن مجاهد، و محمد بن إسحاق ، و مخلد بن حمزة بن بيض ، و عامر الشعبي ، فالأول متروك مُتهم بالوضع و الكذب (1) .و الثاني ضعيف مُتهم بالكذب و يروي عن المجهولين (2) . و الثالث يبدو انه مجهول ، فلم أعثر له على ذكر في كتب التراجم و الجرح و التعديل. و الرابع و هو عامر الشعبي لم يكن شاهد عيان لما روى لأنه ولد سنة 31ه ، و سعيد بن العاص تولى إمارة الكوفة ما بين : 28-34هجرية ، فكان للشعبي 3سنوات .
و أما الرواية الثانية التي ذكرها الأصفهاني ، فمن رجالها : عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ، و الشهاب الزهري ، الأول متروك ضعيف ، قال فيه بعض النقاد: ساقط لا يُحتج به، مُتهم بالكذب (3) . و الثاني ثقة لكنه لم يكن شاهد عيان للخبر ، لأنه ولد سنة 50 هجرية ، و سعيد بن العاص تولى إمارة الكوفة مابين : 28-34هجرية ، فخبره هذا مُرسل ،و مراسيل الزهري ضعفها أكثر المحدثين (4) .
__________
(1) المزي : تهذيب الكمال ، ج 5 ص: 184 . و ابن حجر : تقريب التهذيب ، ج 1 ص: 405 .
(2) سبق توثيقه .
(3) ابن الجوزي : الضعفاء و المتروكين ، ج 2 ص: 169 . و ابن عدي: الكامل في الضعفاء ، ج 5 ص: 159 .
(4) عبد الجليل العلائي : جامع التحصيل ، ط 2 ، عالم الكتب ، بيروت ، 1986 ، ص: 90 .(17/499)
و أما رواية ابن سعد فقد رواها بلا إسناد و اكتفى بقوله: قالوا (1) . لذا فهي غير مقبولة ، لأنها فقدت شرطا أساسيا من شروط صحة الخبر . و أما رواية الطبري الأولى فإسنادها غير صحيح ، لأن فيه : محمد بن عمر الواقدي ، و هو متروك كذاب ، ليس بثقة (2) . و أما روايته الثانية فهي الأخرى إسنادها لا يصح ، لأن فيه : شعيب ،و سيف بن عمر التميمي ، فالأول مجهول ،و الثاني ضعيف متروك (3) .
__________
(1) الطبقات الكبرى ، ج 5 ص: 32 .
(2) الذهبي : السير ج 3 ص: 184 .و ابن الجوزي : الضعفاء و المتروكين ، حققه عبد الله القاضي ، ط1 بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1406 ، ج 3 ص: 87 .
(3) سبق توثيقه في الفصول السابقة .(17/500)
و أما بالنسبة للمتن فإن مما يُرد به على ما رواه ابن سعد و الطبري و أبو الفرج الأصفهاني ، ثلاثة روايات ، أولها أنه رُوي أن سعيد بن العاص كان جالسا مع جماعة من أهل الكوفة ، فقال حبيش بن فلان الأسدي : ما أجود طلحة بن عبيد الله – رضي الله عنه- ، فقال سعيد : إن من له مثل النشاستج (1) لحقيق أن يكون جوادا ، و الله لو أن لي مثله لأعاشكم الله به عيشا رغيدا . فقال عبد الرحمن بن حبيش : و الله لوددت أن هذا الملطاط (2) لك – أي لسعيد - ، فغضبت الجماعة و قالت له : فض الله فاك ،و الله لقد هممنا بك ، فقال أبوه حبيش : هو غلام فلا تجاوزوه . فقالوا : يتمنى له سوادنا ! فقال الأب : و يتمنى لكم أضعافه . فنهض الأشتر النخعي ،و ابن الكواء ،و عمير بن ضابئ و غيره إلى الغلام ، فقام أبوه ليمنع عنهم ، فضربوهما ضربا مبرحا ،و اختلط الأمر على سعيد بن العاص (3) .
فهذا الخبر صريح بأن السواد كان لأهل الكوفة ، لأن الأشتر و أصحابه اعترضوا على الغلام عندما تمنى أن يكون السواد لسعيد ، لكي يرده عليهم . و سعيد نفسه قد تمنى أنه لو كانت أرض الملطاط ملكه لرده على أهل الكوفة ،و لجاد به عليهم . فكيف إذن يطمع في أخذ سوادهم ، و يزعم خصومه أنه كان يقول عن سوادهم : هو بستان قريش ؟ .و هذا الخبر و إن كان رواه ابن الأثير بلا إسناد فهو يصلح للرد به على ما رواه ابن سعد بلا إسناد أيضا ، و على ما رواه الطبري بإسناد غير صحيح ,، و يذلك نرد الضعيف بالضعيف .
__________
(1) هو أرض كثيرة الدخل تقع في العراق ، كان عثمان بن عفان ، قد أطعها لطلحة . ياقوت الحموي : معجم البلدان ، بيروت دار الفكر، د ت، ج 5 ص: 286-287 .
(2) هو منطقة فزراعية واسعة ، كانت للأكاسرة على جانبي الفرات . نفس المصدر ، ج5 ص: 16 ، 192 .و ابن الأثير : الكامل ، ج3 ص: 31 .
(3) ابن الأثير : نفس المصدر ، ج 3 ص: 31 .(18/1)
و الرواية الثانية هي أنه رُوي أن سعيد بن العاص كان يدعوا إخوانه و جيرانه كل جمعة ، فيصنع لهم الطعام ، و يخلع عليهم الثياب الفاخرة ،و يأمر لهم بالجوائز الواسعة ،و يبعث إلى عيالهم بالبر الكثير .و كان أيضا يرسل مولى له في كل جمعة إلى مسجد الكوفة ، و معه صُرر فيها الدنانير ، فيضعها بين المصلين ، فكثر المصلون ليلية كل جمعة بمسجد الكوفة (1) . فهل من كانت هذه أخلاقه في إحسانه لأهل الكوفة ، يقال عنه أنه ظلمهم وأخذ غلال سوادهم ؟ إنه من المستبعد جدا أن يظلم سعيد بن العاص أهل الكوفة و تلك أخلاقه في الإحسان إليهم . و هل يتركه أهل الكوفة يفعل بهم ذلك ،و هم المعروفون بالخشونة و الشغب و القلاقل ؟ ! .
و الرواية الثالثة هي أن أخلاق سعيد بن العاص التي اشتهر بها بين الناس ، كالسخاء و الصدق ،و الحلم و الجهاد (2) ، تأبى عليه أن يظلم رعيته و يأخذ حقها ظلما و عدوانا ، لذا فإنه من المرجح جدا ، أن تلك المقولة التي رُوّجت عنه هي من اختلاق خصومه .
__________
(1) أبو الحجاج المزي : تهذيب الكمال ، ج 10 ص: 506 .
(2) الذهبي: السير ، ج 3 ص: 445 . و ابن كثير: البداية ، ج 8 ص: 84 .(18/2)
و أما الشاهد الثالث الذي ذكره الجابري فيتعلق بالخبر الذي يقول بأن الثوار لما دخلوا المدينة تدخل علي بن أبي طالب و وزع عليهم ما في بيت المال من أموال . و هو خبر أشار الجابري في الهامش إلى أنه أخذ الخبر من كتابي الإمامة و السياسة ، ج 1ص: 35 ، و تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 66 . لكنني رجعتُ إلى الكتابين و بحثتُ فيهما طويلا عن الخبر ، فلم أعثر له علي أي ذكر فيهما .و نحن إذا افترضنا- جدلا- بأننا وجدناه ، فإننا لا نقبل رواية الإمامة و السياسة ، لأن مؤلفه مجهول مُغرض مطعون في أمانته العلمية (1) ، و لا نقبل روايته إلا إذا صحت من طريق آخر .و أما رواية الطبري فهي أيضا لا نقبلها إلا بعد تحقيقها إسنادا و متنا ، لأن الطبري لم يُحقق رواياته على كثرة تناقضاتها و ضعف رواتها (2) .
و حتى إذا افترضنا –جدلا- أننا عثرنا على تلك الرواية و إسنادها كان صحيحا ، فهي لا تدل بالضرورة على ما ذهب إليه الجابري من أن توزيع الأموال على الثوار هو دليل على انتشار الفقر ، لأن توزيعها عليهم لا يعني بالضرورة أنهم كانوا فقراء مُعوزين، لأن العوام في حالة الثورات و الاضطرابات يتطلعون إلى المزيد و نهب كل ما يقع تحت أيديهم ،و إن لم يكونوا في حاجة إلى ما أخذوه . هذا زيادة على أنني لم أعثر –في المصادر الكثيرة التي اطلعتُ عليها - على أية رواية تُشير بصراحة إلى أن الثائرين على عثمان كانوا يُعانون من الفقر و الحاجة ، و لا كانوا يُطالبون بالغذاء و الكساء ،و لا بالزيادة في العطاء و الأرزاق.
__________
(1) سبق إثبات ذلك في الفصل الأول .
(2) سبق تناول ذلك .(18/3)
و ثانيا إن الوضع الاقتصادي في خلافة عثمان بن عفان –رضي الله عنه- ليس كما زعم الجابري ، فقد كان وضعا جيدا ، عاش فيه معظم الناس حياة رغد و رفاهية ، لا فقر فيها و لا عوز ، بدليل الشواهد الآتية (1) :
أولها إن عثمان لما تولى الخلافة زاد للناس في عطائهم عما كانوا يأخذونه زمن عمر بن الخطاب (2) . الذي كان قد فرض العطاء لكل فئات المجتمع ، من كبار وصغار ، و رجال و نساء، و موال و عبيد (3) . فإذا كان هذا هو حال الناس زمن عمر ، فلا شك أن وضعيتهم الاقتصادية قد تحسنت أكثر زمن عثمان عندما زاد في أُعطياتهم عما كانوا يأخذونه من قبل .
و الشاهد الثاني يتمثل فيما رُوي من أن عثمان عندما كَثُر كلام الناس فيه سنة 34هجرية ، خرج و خطب فيهم ، فكان مما قاله لهم : إنه لم يحرمهم حقوقهم ، و ما قصّر في إيصالها إليهم . فلم يعترض عليه أحد و لا كذبه،و لا اشتكى إليه فقره و حاجته (4) . و هذه الرواية و إن كانت ضعيفة ، لأن من رجالها محمد بن عمر الواقدي ، فإننا نستخدمها كشاهد مساعد ضعيف ، لنرد به الروايات الضعيفة التي استخدمها الجابري ،و أغفل الروايات الضعيفة التي تخالفها ،و عليه فنحن نرد الضعيف بالضعيف لنمنع مخالفنا من الاحتجاج بها ،و نذكّره بأن هناك روايات تُخالف الروايات التي احتج بها ،و ما عليه إلا أن يجمع كل الروايات و يحققها إسنادا و متنا إن أراد الاحتجاج بأي منها .
__________
(1) إننا في هذه الشواهد سنعتمد على الروايات الصحيحة و الضعيفة ، نستخدم الصحيحة لإبطال زعمه ، و نستخدم الضعيفة كأدلة مساعدة لأنه تجاهلها من جهة ، و نرد بها الروايات الضعيفة التي استخدمها الجابري من جهة أخري ، فنرد الضعيف بالضعيف .
(2) الطبري : تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 591 .
(3) ابن الأثير : الكامل ، ج 1 ص: 350 و ما بعدها .
(4) أنظر : الطبري : المصدر السابق ، ج 2 ص: 645 .(18/4)
و الشاهد الثالث مفاده أنه في خلافة عثمان ،و بالأخص سنة 30هجرية ، كَثُرت أموال الغنائم و الخراج و أتت من كل جهة ، حتى ضاق بها عثمان ذرعا و اتخذ لها خزائن ؛ فلما كثرت قسمها على الناس ، فكان يأمر للرجل الواحد بمائة ألف بدرة-كيس من النقود- ، في كل بدرة أربعة آلاف أوقية (1) . فهذه الرواية نصت صراحة على أن عثمان قسم الأموال الكثيرة على الناس عامة دون استثناء .
__________
(1) السيوطي: تاريخ الخلفاء ، ص: 156 . و ابن عساكر : تاريخ دمشق ، ج 29 ص: 258 .(18/5)
و الشاهد الرابع يتضمن رواية حسنة الإسناد (1) رواها شاهد عيان هو الحسن البصري ، يقول فيها : (( أدركتُ عثمان على ما نقموا عليه ، قلّ ما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيرا يقال لهم : يا معشر المسلمين اغدوا على أعطياتكم فيأخذونها وافرة ، ثم يقال لهم : اغدوا على أرزاقكم فيأخذونها وافرة ، ثم يقال لهم : اغدوا على السمن والعسل ،و الأعطيات جارية ، والأرزاق دارة ، والعدو متقى ، وذات البين حسن ، والخير كثير ، وما من مؤمن يخاف مؤمنا ، ومن لقيه فهو أخوه . و قد كان من إلفته ونصيحته ومودته قد عهد إليهم أنها ستكون أثرة (2) فإذا كانت فاصبروا . قال : الحسن فلو أنهم صبروا حين رأوها لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير بل قالوا : لا والله ما نصابرها . فوالله ما وردوا ، وما سلموا والأخرى كان السيف مغمدا عن أهل الإسلام ، فسلوه على أنفسهم ، فوالله ما زال مسلولا إلى يوم الناس هذا و أيم الله إني لأراه سيفا مسلولا إلى يوم القيامة)) (3) .
__________
(1) رجالها هم : البخاري ، و موسى بن إسماعيل ، و مبارك بن فضالة ، و الحسن البصري ، و هم كلهم ثقات .الذهبي : الكاشف ، ج 2 ص: 238، ج 3 ص: 3012 . و علي الهيثمي: مجمع الزوائد ، ج 9 ص: 93 . 94 . 110 .
(2) الأثرة هي تفضيل الإنسان نفسه على غيره . ابن هادية : قاموس الطلاب الجديد ، ص: 11 .
(3) ابن كثير : البداية ، ج 7 ص: 214 . و الهيثمي: مجمع الزوائد، ج 9 ص: 93 ، 94 . و الطبراني: المعجم الكبير ، ج 1 ص: 97 .(18/6)
و هذه الرواية رواها ثقة كان فيها شاهد عيان للسنوات الأخيرة من خلافة عثمان- رضي الله عنه-، فيها وصف دقيق هام لجانب من الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و الأمنية الجيدة التي كانت سائدة في مدة خلافة عثمان عامة و المتأخرة منها خاصة (1) ، كانت فيها الأعطيات والأرزاق متوفرة ، تُوزع على كل الناس دون استثناء ، في جو ملؤه الإخاء و الرخاء ، و الأمن و الأمان . فهل يصح بعد هذا الوصف الشامل الرائع ، الزعم بأن المجتمع الإسلامي زمن عثمان كان يُعاني من الظلم و الفقر ،و الجوع و العوز ، على ما ادعاه الجابري ؟ ! .
و الشاهد الخامس يتمثل في رواية صحيحة الإسناد (2) ذكرها ابن عساكر في تاريخه مفادها أنه في زمن عثمان كانت المرأة تذهب إلى بيت المال فتحمل وقرها ،و تقول :(( اللهم بدّل ، اللهم غيّر )) ، فلما قُتل عثمان –رضي الله عنه- قال الشاعر حسان بن ثابت-رضي الله عنه- :
قُلتم بدّل فقد بدّلكم به × سنة حرىّ و حربا كاللهب
ما نقمتم من ثياب خلفة × و عبيد و إماء و ذهب (3)
__________
(1) لأن الحسن البصري كان له من العمر عندما قُتل عثمان 14 سنة ، و هو قد شهد يوم الدار . ابن العماد الحنبلي: الشذرات ، ج 2 ص: 48 .
(2) رجال الإسناد هم : ابن عساكر ، أبو القاسم السمرقندي، و أبو الحسين بن النقور ، و محمد بن عبد الله بن الحسين الدقاق ، و محمد بن هارون الحضرمي ، و سوار بن عبد الله العنبري القاضي ، و عبد الرحمن بن مهدي، و حماد بن زيد ، و يحيى بن سعيد ، و سعيد بن المسيب ، و هؤلاء كلهم ثقات سمعوا من بعضهم . أنظر : الذهبي: السير ، ج 11 ص: 543 ، ج 15 ، ص: 25 ، ج 16 ص: 564 ، ج 18 ص: 373 و ما بعدها ، ج 20 ص: 29و ما بعدها . و المزي: تهذيب الكمال، ج 12 ص: 238 .
(3) تاريخ دمشق ، ج 39 ص: 474 . و ابن كثير : البداية ، ج 7 ص: 194 .(18/7)
فهذه الرواية هي أيضا شاهدة على الرخاء الاقتصادي و العدل الاجتماعي ، زمن خلافة عثمان بن عفان ، حتى أنها قالت المرأة و لم تقل الرجل ، و هي أضعف منه .كما أنها قالت المرأة مطلقا من دون تحديد لمكانتها الاجتماعية ، فكانت تذهب إلى بيت المال و تملأ وقر بعيرها بما تحتاجه من خيرات ، فلما زالت خلافة عثمان حلب الناس الدماء .
و ثالثا إن الجابري لم يُفرق بين الفقر و العوز ، و بين التنافس على متاع الدنيا و التكالب و التهالك عليها ، لأن الذي حدث هو أن الثائرين على عثمان لم يكونوا فقراء و لا معوزين، و إنما كانوا يُطالبون بالمزيد من ملذات الدنيا المادية منها و المعنوية . لذا لم نعثر على ما يُشير إلى أن الثوار كانوا يُطالبون بالخبز ،و لا بزيادة الأرزاق و الأعطيات ، و إنما كانوا يُطالبون بتغيير الولاة ،و الحد من نفوذ بني أمية ،و مطالب أخرى ليست من بينها المطالبة بالخبز لإشباع البطون (1) . و لو كانت ثورة هؤلاء بسب الفقر و الجوع ، لكانت ثورتهم ثورة عارمة تشمل كل الأمصار التي خرج منها الثوار أولا ، ثم تشمل الأقاليم الأخرى ثانيا بحكم أن سبب الثورة يشملهم كلهم ، لكن ذلك لم يحدث .و إنما خرجت طوائف من الثوار من مصر و الكوفة و البصرة نحو المدينة ، في زي الحجاج و أخفوا نواياهم المبيتة عن الناس (2) .
__________
(1) أنظر مثلا : الطبري : تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 647 و ما بعدها .
(2) نفس المصدر ، ج 2 ص: 652 و ما بعدها .(18/8)
و رابعا إن قول الجابري بأن سوء توزيع الثروة أدى إلى تمركزها بأيدي الأغنياء في المركز دون الأمصار ، هو قول غير ثابت و ضعيف جدا ، و فيه تضخيم و تغليط ، بدليل الشاهدين الآتيين : أولهما إنه من الثابت تاريخيا أن الفتوحات الإسلامية شارك فيها كل المسلمين القادرين على حمل السلاح ، على اختلاف قبائلهم و أجناسهم و لغاتهم ،و كانت الغنائم من مصادر الدخل الأساسية للدولة و للناس زمن عثمان (1) ، فكان للمقاتلين أربعة أخماس (4/5 ) الغنائم ، و الخُمس المُتبقي يُرسل إلى الخليفة ليُصرفه بالعدل و فق المصلحة الشرعية .و بما أن الأمر هكذا فلا يُوجد سوء توزيع للثروة ، و لا تمركز لها بأيدي فئة من الناس دون غيرها.
و الشاهد الثاني يتمثل في أنه سبق أن بينا و أثبتنا بالشواهد المتنوعة أن عثمان-رضي الله عنه- سار على طريقة عمر في تقسم العطاء و زاد عليه ، ففرض للمسلمين ما يكفيهم من الأعطيات و الأرزاق من دون حرمان لأية فئة من الناس ، فعم الرخاء و كَثُرت الخيرات ، و انتشر الأمن و الأمان . و بما أن الأمر هكذا فلا يصح ما ادعاه الجابري من وجود سوء توزيع للثروة و تمركزها بيد الأغنياء في المركز-أي المدينة- من دون الأمصار .
و أما الخطأ الثاني –من المجموعة الأولى- فمفاده أن الجابري ادعى أن عثمان كان يتصرف في بيت المال كأنه يتصرف في ماله منعا و عطاء ، و هذا سلوك معروف في الأغنياء الأسخياء ، فهم يُنفقون من أموالهم و أموال غيرهم بغير حساب . و يُضاف إلى ذلك أن (( النص الشرعي الذي يُحدد طريقة صرف الخمس يسمح بمثل هذا التصرف (( لله و للرسول و لذي القربى ...)) ،و قد صار أمره إلى الإمام ، وجدنا أنفسنا أمام وضع يَحُث ُ الباحث على تصديق ما يُروى في هذا الشأن عن عطاء عثمان من بيت المال لذويه و أقاربه )) (2) .
__________
(1) إبراهيم حركات : المجتمع و السياسة في عصر الراشدين ، الدار الأهلية ، بيروت، 1985 ، ص: 190 .
(2) العقل السياسي ، ص: 142 .(18/9)
و زعمه هذا غير صحيح ، لأنه أولا لم يحقق الروايات التي ذكرها كشواهد على ما ادعاه ، خاصة و أنه اعتمد أساسا على كتابين مطعون فيهما ، الأول كتاب الإمامة و السياسة و مؤلفه مجهول مُغرض، و الثاني هو تاريخ اليعقوبي، لابن واصح اليعقوبي ، و هو متعصب لمذهبه الشيعي و كتابه معظم أخباره بلا أسانيد ،و مملوء بالطعن في الصحابة (1) ، و هي-أي الروايات- تتفق مع مذهبه ،و تتناقض مع تزكية القرآن و السنة للصحابة ، و مع روايات تاريخية أخرى تخالف ما ذكره اليعقوبي (2) .فكان على الجابري أن يُحقق الروايات التي ذكرها إسنادا و متنا ، و يُقارنها بالروايات التي تخالفها ، لكنه لم يفعل ذلك ، و هذا خطأ منهجي يرفضه المنهج العلمي النقدي التمحيصي الشامل .
و ثانيا إن ذكره للآية و فهمه لها كانا ناقصين ، لأن الآية ليست كما ذكرها هو ، و إنما هي هكذا {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} - سورة الأنفال/41-
و أما فهمه الناقص للآية فهو واضح ، فهي خاصة بخمس الغنائم ، و ليست خاصة بكل أموال المسلمين في بيت المال. كما أنها حددت مجالات صرف الخُمس ، و هي ستة : لله ،و للرسول ،و لذوي القربى ، و اليتامى ، و المساكين ، و ابن السبيل . لكن الجابري لم يذكر إلا الثلاثة الأولين فقط ، فلماذا أغفل الباقين ؟ .
__________
(1) أنظر مثلا : ج 2 ص: 118 و ما بعدها .
(2) سيأتي ذكر بعضها قريبا .(18/10)
و تلك الآية لم تعط للإمام حرية التصرف في أموال الخمس حسب هواه ، و إنما عليه أن يُوزعها وفق أوامر الشريعة التي حددت مجالات الصرف ، و يجب فهمها في إطار روح الشريعة و مقاصدها و نصوصها ، التي تأمر بالعدل و الإحسان و إيصال الحقوق إلى أهلها . لكن الجابري وجّه الآية توجيها غير صحيح ، لتتفق مع فكرته الخاطئة حول العامل الاقتصادي المُحرك للثورة ،و المتعلقة أيضا باتهام عثمان بالانحراف عن الشرع في التصرف بأموال المسلمين و التلاعب بها .
و بذلك يتبين أن تلك الآية ليست كما قال الجابري بأنها تحث الباحث على التصديق بما يُروى عن عثمان في تصرّفه في بيت المال. بل هي على العكس من ذلك ، تجعلنا لا نصدق بما رُوي عن عثمان في تصرفه مع خمس الغنائم ، فهو صحابي جليل و خليفة راشد ، مشهود له بالجنة ، لا يُخالف الشرع الذي أمره بتوزيع الخمس على ستة أقسام ، فيُعطل القسمة و يجعلها قي قسم واحد هو : قسم ذوي القرى ! .(18/11)
و الجابري عندما اتهم عثمان بذلك معتمدا على كتابي الإمامة و السياسة ، و تاريخ اليعقوبي ، أغفل رواية ذكرها الطبري تخالف ما ادعاه هو-أي الجابري- ، و مفادها أن عثمان عندما اتهمه الثوار بإعطاء أقاربه الأموال من بيت المال ، دافع عن نفسه ، و أعلن أمام الناس أنه لا يستحل أموال المسلمين ، و أنه لم يتصرف في الخمس إلا بما أمر به الشرع ،و لا يأكل إلا من ماله (1) . فهذه الرواية و إن كان في إسنادها ضعف لأن من رجالها سيف بن عمر التميمي و هو ضعيف ، فإنها أولى من روايات المؤلف المجهول ، و اليعقوبي المتحيز . و هي أيضا ترد ما ادعاه الجابري في اتهامه لعثمان ، و كان عليه أن لا يغفلها و يتصرف معها بطريقة علمية. علما بأن هذه الرواية هي التي تتفق مع أخلاق الصحابي الجليل عثمان بن عفان المشهود له بالجنة ، و هو من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار الذين رضي الله عنهم و رضوا عنه ، بشهادة القرآن الكريم .
و أما الخطأ الثالث –من المجموعة الأولى-، فيتمثل في أن الجابري نقل خبرا عن اليعقوبي من دون اعتراض و لا تحقيق ، و ذكره بطريقة تُفيد الإثبات لا الشك ، عندما قال : إن عثمان منع بعض كبار الصحابة أعطياتهم ، كما فعل مع عبد الله بن مسعود (2) .
__________
(1) الطبري : تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 651 .
(2) العقل السياسي ، ص: 142 .(18/12)
و زعمه هذا غير ثابت ، لأن هناك مصادر أخرى ذكرت ما يُخالف ذلك ، منها : البداية و النهاية لابن كثير ، و سير أعلام النبلاء ، و الخلفاء الراشدون ، لشمس الدين الذهبي ، التي ذكرت أن ابن مسعود هو الذي تخلى عن عطائه طواعية ، بعدما أصبح غنيا ،و قد مات و ترك خلفه ثروة (1) . لكن الذهبي ذكر رواية أخرى توافق ما ذكره اليعقوبي من أن عثمان هو الذي حرم عبد الله ابن مسعود من عطائه ، لكنها غير صحيحة الإسناد ، لأنه مُنقطع (2) . و بذلك يتبين أن ما قاله الجابري غير ثابت و خلافه هو الثابت ، فكان عليه أن يجمع الروايات و يحققها قبل أن يُدون ما نقلناه عنه .
و الخطأ الأخير –الرابع من المجموعة الأولى- يتعلق بعمال عثمان على الأمصار ، فقد ادعى الجابري أن مما زاد في تأزم الأوضاع زمن عثمان ، هو أنه جعل (( جُل عماله من بني أمية قبيلته )) (3) . و زعمه هذا غير صحيح ، و لا يثبت أمام الحقائق التاريخية ، لأن عثمان كما استعمل من أقاربه ، فقد استعمل أكثر منهم من قبائل أخرى ، و قد أحصيتُ من ولاته عشرين واليا، و هم : عبد الله بن الحضرمي ،و القاسم بن ربيعة الثقفي ، و يعلى بن منية ،و الوليد بن عقبة ،و سعيد بن العاص ،و عبد الله بن سعد بن أبي سرح ،و معاوية بن أبي سفيان ، و عبد الله بن عامر بن كريز ،و محمد بن أبي بكر، و أبو موسى الأشعري ،و جرير بن عبد الله ،و الأشعث بن قيس ، ،و عتبة بن النحاس ،و السائب بن الأقرع ،و سعد بن أبي وقاص ، و خالد بن العاص المخزومي، و قيس بن الهيثم السلمي ، و حبيب بن اليربوعي ،و خالد بن عبد الله بن نصر ،و أمين بن أبي اليشكري (4) .
__________
(1) البداية ، ج 7 ص: 175 . و السير ، ج 1 ص: 497 . و الخلفاء الراشدون ، ص: 220 .
(2) أنظر : سير أعلام النبلاء ، ج 1 ص: 498 .
(3) العقل السياسي ، ص: 146 .
(4) الطبري : المصدر السابق ، ج2 ص: 693 .و الذهبي : السير ، ج 3ص: 482 .و خليفة خياط : تاريخ خليفة خياط ، ج1 ص: 156 ، 157 .(18/13)
فهؤلاء هم ولاته الذين أحصيتهم ، لا يوجد منهم من أقاربه إلا خمسة من عشرين واليا ، ، و هم : معاوية بن أبي سفيان ،و الوليد بن عقبة ،و سعيد بن العاص ،و عبد الله بن سعد بن أبي سرح ،و عبد الله بن عامر بن كريز . فهل يصح – بعد هذا – أن يُقال أن عثمان خصّ أقاربه بالإمارة دون غيرهم من الناس ؟ . و ربما يقال أنه أكثر من أقاربه في السنوات الأخيرة من خلافته ، لذلك تألّب عليه المشاغبون . و هذا ادعاء غير صحيح ،و مبالغ فيه جدا ، لأنه إذا رجعنا إلى وُلاّته في السنة الأخيرة من خلافته ( سنة :35 ه) وجدنا ثلاثة فقط من أقاربه ، و هم : معاوية على الشام ،و عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر ، و عبد الله بن كريز على البصرة . و باقي ولاته – في تلك السنة – من غير أقاربه، و عددهم تسعة ، و هم : قيس بن الهيثم السلمي على خراسان ، و القاسم بن ربيعة الثقفي على الطائف ،و يعلى بن منية على صنعاء ،و أبو موسى الأشعري على الكوفة ، و جرير بن عبد الله على قرقيسيا ،و الأشعث بن قيس على أذربيجان ،و عتبة بن النحاس على حلوان ،و السائب بن الأقرع على أصبهان (1) . ألا ترى أن عثمان قد اتخذ عمالا من مختلف القبائل ، و أن ولاته من أقاربه هم ثلاثة مقابل تسعة ليسوا من أقاربه ؟ فهذا يثبت أن الناقمين عليه افتروا عليه عندما اتهموه بأنه حابى أقاربه ،و خصّهم بالولايات دون غيرهم من الناس ، فصدّق الجابري بذلك و ردده في كتابه العقل السياسي العربي من دون تحقيق له .
__________
(1) الطبري : المصدر السابق ج 2 ص: 605 ، 693 .(18/14)
و أما ما أشار إليه الجابري من أن عمال عثمان من قبيلته كان فيهم من طُعن في سلوكهم ،و كانوا محلا للانتقاد (1) .فإنني أُشير هنا إلى أن معظم الاتهامات الموجهة إلى هؤلاء هي اتهامات باطلة (2) ، افتراها الرواة الكذابون رؤوس الفتنة لتثوير الناس على عثمان و عماله ، و تحقيق أهدافهم الدنيوية المبيتة سلفا. و قد كان عمال عثمان من أقاربه كلهم في مستوى لا بأس به من الأخلاق و الحزم، و الشجاعة و العدل بين الرعية ، عكس ما كان يُروجه عنهم خُصومهم من الأكاذيب و الاتهامات .
فالوليد بن عقبة بن أبي معيط ، كان قد استعمله أبو بكر و عمر على الصدقات ، ثم ولاه عثمان على الكوفة ما بين : 25- 29هجرية ، رُوي أنه كان خلالها عادلا مع رعيته ، أفاض عليها الخيرات،و لم يكن على داره باب .و عندما عزله عثمان تفجع عليه الأحرار و العبيد ، و قد عزله عندما شهد عليه بعض الناس أنه شرب الخمر ، فأقاله و أقام عليه الحد (3) . فهذا الرجل ارتكب ذنبا بشربه للخمر ، فحدّه عثمان و عزله من منصبه ، لكنه ذنب لا يُلغي أعماله الصالحة ، و حب الناس له .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 146 .
(2) لقد جمعتها و حققتها ، تبين أن معظمها لا يصح، و للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : الثورة على سيدنا عثمان بن عفان ، ص: 14 و ما بعدها .
(3) أنظر : الطبري : التاريخ ، ج 2 ص: 72، 621 ، ج 3 ص: 221 . و ابن كثير : البداية ، ج 7 ص: 151 . و البخاري: الصحيح ، كتاب فضائل الصحابة ، ج 3 ص: 1405 . و مسلم : الصحيح ، ج 3 ص: 1331 .(18/15)
و أما سعيد بن العاص فقد عينه عثمان واليا على الكوفة خلفا للوليد ، من سنة 29 إلى 34هجرية ، كانت له فتوحات في أذربيجان ،و جرجان ، و طبرستان ، و غيرها من البلدان ، و كان موصوفا بالحكمة و العقل ، و حسن السيرة و السريرة ، كثير الجود حسن الأخلاق (1) .
و أما عبد الله بن سعد بن أبي سرح والي مصر ، كأن قد أسلم في العهد المكي ثم ارتد عن الإسلام ، لكن النبي –عليه الصلاة و السلام- قبل توبته و رجوعه إلى الإسلام يوم فتح مكة . و قد ولاه عمر ابن الخطاب صعيد مصر ، ثم ولاه عثمان مصر كلها ، فكانت سيرته مستقيمة أثناء ولايته عليها ،و حقق انتصارات جهادية مشهورة ، منها فتح إفريقية سنة 27هجرية ، و الانتصار على الروم في معركة ذات الصواري سنة 34 هجرية. و أما الاتهامات التي وجهها إليه رؤوس الفتنة ، فقد تتبعتها و حققتها فلم تصح ، و ليس هنا مجال الخوض فيها (2) .
و أما والي البصرة عبد الله بن عامر بن كريز ، فهو ابن خال عثمان ، ولاه البصرة سنة 29 إلى استشهاد عثمان سنة 35هجرية . و قد كانت له فتوحات ، و عُرف بالسخاء و الكرم، و العدل و الرفق، و الحلم و الشجاعة ، و حب رعيته له (3) . و لم أعثر على أية اتهامات وجهها إليه رؤوس الفتنة الثائرين على عثمان و ولاته .
__________
(1) الذهبي : السير ، ج 3 ص: 443 . و ابن كثير : البداية ، ج 8 ص: 84 . و ابن العماد الحنبلي : الشذرات ، ج 1 ص: 65 . ابن حجر : الإصابة ، ج 3 ص: 107 . و ابن عساكر : تاريخ دمشق ، ج 21 ، ص: 142 .
(2) أنظر كتابنا : الثورة على سيدنا عثمان ، ص: 31 و ما بعدها .
(3) الذهبي: السير ، ج 3 ص: 19 . و ابن عبد البر: الاستيعاب ، ج 3 ص: 932 ، 933 . و ابن عساكر: تاريخ دمشق ، ج 29 ص: 249، 261 . و ابن كثير : البداية ، ج 8 ص: 88 .(18/16)
و أما والي الشام معاوية ابن أبي سفيان فلم أعثر على أي خبر يُشير إلى أن رعيته اشتكت منه أو ثارت عليه ، مما يعني أنه كان عادلا في رعيته محبوبا لديها مُتحكما فيها ، لذا لم يكن مع الثائرين وفد من الشام ، لأن الوفود الثائرة خرجت من مصر و الكوفة و البصرة .
و أُشير هنا إلى أن الجابري نقل عن الطبري أن عثمان أعطى لواليه على مصر : عبد الله بن سعد بن أبي سرح خُمس الخُمس الذي أُخذ من غنائم فتح إفريقية سنة 27هجرية (1) . و هذا النص المنقول صريح بأن عثمان أعطى ذلك المال لعبد الله بن أبي سرح و هو من أقاربه ، لكنه نص ناقص تصرّف فيه الجابري حتى أخرجه عن حقيقته و سياقه النهائي ، و لا أدري هل فعل ذلك نسيانا أم تعمدا ؟ . علما بأن النص الذي نقله يتفق مع فكرته في اتهام عثمان بسوء توزيع الثروة و محاباة أقاربه .
و أما النص كما هو عند الطبري ، فيقول على لسان عثمان : (( و قالوا : إني أعطيت ابن أبي سرح ما أفاء الله علي ، وإني إنما نفلته خمس ما أفاء الله عليه من الخمس فكان مائة ألف وقد أنفذ مثل ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فزعم الجند أنهم يكرهون ذلك فرددته عليهم وليس ذاك لهم ، أكذالك ؟، قالوا : نعم ... )) (2) . فالجابري تصرّف في النص حتى أخرجه من سياقه و حقيقته ،و وجهه كما يُريد ، فأغفل دفاع عثمان عن نفسه ، و تراجعه عن إعطاء خُمس الخُمس لعبد الله واليه على مصر ،و توزيعه على الجند ،و اعتراف الناقمين عليه بذلك . فتدبر ذلك ؟ ! ، إن عمل الجابري هذا ليس من الموضوعية العلمية في شيء ، و هو يندرج في التحريف و التغليط .
و بما أنه تبين لنا أن الروايات التي ذكرها الجابري في أسباب الثورة على عثمان غير صحيحة ، و أن الأسباب التي ذكرها ليست هي الأسباب الحقيقية في الثورة عليه ، فما هي الأسباب الحقيقية العميقة و المؤثرة في الثورة عليه ؟ .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 141 .
(2) تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 651 .(18/17)
لقد تبين لي من دراستي للفتنة الكبرى أن أسبابها الحقيقية الرئيسية العميقة و الحاسمة تتمثل في أربعة أسباب (1) ، أولها الحسد و الغيرة و الأنانية من بعض الناس خاصة رؤوس الفتنة كالأشتر النخعي، و محمد بن أبي حُذيفة ،و محمد بن أبي بكر ، هؤلاء و أمثالهم دفعتهم أنانيتهم و حسدهم لبعض الرجالات المتنفذين في الدولة من الأموييين و غيرهم ، إلى العمل ضدهم و تأليب الناس عليهم ، لإسقاط دولتهم ، و هذا الأمر أشارت إليه الرواية الصحيحة التي ذكرها الحسن البصري في وصفه للمجتمع في نهاية خلافة عثمان (2) .
و السبب الثاني يتمثل في التكالب على الدنيا و التناحر علي حُطامها ، طلبا للمزيد و التوسع في ملذاتها ، من دون أن يكون ذلك عن فقر و حاجة ، و إنما كان ذلك عن شبع و بطنة ، و وفرة للثروة ، و عدل في التوزيع .
و السبب الثالث يتمثل في العصبية القبلية ، و ذلك أن كثيرا من القبائل غير القرشية ، يبدو أنه استثقلت احتكار قريش للسلطة ، و رأت في ذلك إنقاصا من مكانتها و تأخيرا لها ؛ فسعت جاهدة لتغيير ذلك الوضع ، مستخدمة مختلف الوسائل المتاحة لها ، فوجدت في زمن خلافة عثمان الفرصة مواتية لها لتحقيق أهدافها ؛و قد كانت القبائل اليمنية على رأس المعارضين الذين ثاروا على عثمان ،و هذا أمر أشار إليه الجابري نفسه (3) .
__________
(1) هذا لا يمنع من وجود أسباب أخرى ثانوية لم تكن حاسمة ، استغلها دعاة الفتنة في الثورة على عثمان .
(2) سبق ذكرها و توثيقها .
(3) أنظر : العقل السياسي ، ص: 152، 172 .(18/18)
و آخرها –أي السبب الرابع- يتمثل في الكيد و المكر اللذين قام بهما أعداء الإسلام و المسلمين ، لإفساد الدين ، و تسميم الفكر الإسلامي ،و تفريق المسلمين ، و قد قامت بذلك العمل الماكر الحركة السبئية بزعامة عبد الله بن سبأ اليهودي المتمسلم ، التي نشرت بين المسلمين الرفض ،و حكاية الوصية ،و أن عليا هو الوصي ، وأن الصحابة ظلموه .و قد واصلت نشاطها بعد مقتل عثمان ،و بلغ الأمر ببعض أتباعها إلى تأليه علي بن أبي طالب ، الذي تصدى لهم بحزم وأحرقهم بالنار (1) .
و أما المجموعة الثانية فتتعلق بموقف الصحابة من الفتنة الكبرى و دورهم فيها ، و تتضمن سبعة أخطاء ، أولها يتمثل في أن الجابري ادعى أن المصادر تُشير بوضوح إلى أن بعض الصحابة كعمار و علي ، و طلحة و الزبير ، حرضوا الثوار على عثمان ،و كان لهم تنظيم مركزي بالمدينة ،و لهم اتصالات بالثائرين في الأطراف . و عندما حاصر الثوار المدينة امتنع عمار من الخروج -عندما أمره عثمان- إلى الثوار لردهم ، و قال: (( و الله لا أردهم عنه )) (2) .
__________
(1) الطبري: تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 647 . و ابن كثير : البداية ، ج 7 ص: 186 . و ابن عساكر: المصدر السابق ، ج 29 ص: 10 . ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، ص: 73 . و ابن حجر:اللسان ، ج3 ص: 289 .و ابن عساكر : تاريخ دمشق، ج29 ص: 10 . و ابن تيمية : منهاج السنة النبوية ، ج 3 ص: 459.و الذهبي: ميزان الاعتدال ، ج 4 ص: 105 .و ابن حجر : لسان الميزان، ج 3 ص: 289 .
(2) العقل السياسي ، ص: 183 .(18/19)
و قوله هذا لا يصح، لأنه اعتمد على رواية إسنادها غير صحيح ، لأن من رجاله : محمد بن عمر الواقدي (ت207ه) ، و هو ليس بثقة، متهم بالكذب و التحريف و التدليس ، و معروف برواية المناكير عن المجهولين ، و كان حاطب ليل في مؤلفاته ، خلّط فيها الغث و السمين ،و الخرز بالدر الثمين ، لذا طرحه العلماء و لم يحتجوا به، حتى قال الشافعي عن مؤلفاته : كُتب الواقدي كذب (1) . و من كانت تلك هي أخلاقه و منهجيته، فلا يصح الأخذ عنه و لا الاعتماد عليه في أمر خطير كالذي نحن بصدده ، خاصة و أن الواقدي كان يتشيع ، يُمارس التقية و يُخفي التشيع و يُظهر التسنن (2) . مع العلم أن الرواية التي ذكرها الجابري تتوافق مع مذهب الواقدي، لأنها تطعن في الصحابة .
و يُلاحظ على الجابري أنه في ذكره لتك الرواية قال: إن المصادر تُشير ... ، و لم يذكر إلا مصدرا واحدا فقط ، هو تاريخ الطبري (3) . و هذا خطأ منهجي واضح في الكتابة العلمية ، لأنه يتضمن تغليطا للقراء. كما أن الرواية التي ذكرها لم يُحققها إسنادا و لا متنا ، و بنى عليها استنتاجاته الخطيرة ، التي تطعن في كبار الصحابة المشهود لهم بالإيمان و العمل الصالح .
__________
(1) الذهبي: السير ، ج 9 ص: 469 . و ابن أبي حاتم : الجرح و التعديل ، ج 8 ص: 20 .
(2) ابن النديم : الفهرست ، ج 1 ص: 144 .
(3) العقل السياسي ، ص: 183 .(18/20)
و الخطأ الثاني ادعى فيه الجابري أن المصادر أجمعت على أن الصحابيين طلحة و الزبير كانا المحركيّن المباشريّن للثورة على عثمان ، و أنهما كانا وراء الرسالة التي أُرسلت باسم الصحابة إلى الأمصار تدعو المجاهدين إلى القدوم إلى المدينة )) ، لاسترجاع الحقوق و إنقاذ الإسلام من عثمان بن عفان ، و مطلعها : (( من المهاجرين الأولين و بقية الشورى ، إلى بمن بمصر من الصحابة و التابعين و بعد ، فإن كتاب الله قد بُدل و سنة رسوله قد غُيرت ... )) . ثم عندما واجه زعيم الثوار الأشتر النخعي الصحابي طلحة بن عبيد الله بتلك الرسالة لم ينكرها (1) .
و زعمه هذا غير ثابت ، و فيه تغليط و تضخيم لما ذكره ، لأنه أولا ادعى أن المصادر أجمعت على ما ذهب إليه ، و لم يذكر إلا مصدرين ، هما: الإمامة و السياسة المجهول مؤلفه ، و تاريخ الطبري ، فهما إذاً مصدران اثنان فقط ، فأين المصادر التي قال أنها أجمعت على ما ادعاه ؟ ! . و حتى أنه لو استخدم أربعة أو خمسة مصادر فلا يصح القول بأن المصادر أجمعت على ما ذهب إليه ، لأن المصادر التي تناولت الفتنة الكبرى كثيرة ، تتوزع على كتب التواريخ و التراجم ، و الحديث و الجرح و التعديل ، و الأدب .
و أما زعمه بأن طلحة و الزبير كانا المحركيّن للثورة على عثمان ، فهو زعم يحتاج إلى إثبات ، علما بأن الروايتيّن اللتين ذكرهما لا يُوجد فيهما تصريح بأن طلحة و الزبير –رضي الله عنهما- كانا المحركيّن للثورة . فالرسالة الأولى و مطلعها : ((من المهاجرين الأولين و بقية الشورى )) ، ليست صريحة بأنهما هما اللذان كتبا الرسالة ، فهي على فرض صحتها-جدلا- ، فيُحتمل أن يكون بعض الناس كتبها على لسان الصحابة أو على لسان بعضهم .
__________
(1) نفس المرجع ، ص: 150(18/21)
و ثانيا إن استنتاجاته التي بناها على رواية كتاب الإمامة و السياسة ، هي استنتاجات باطلة ، لأن الرواية ذاتها غير صحيحة إسنادا ، و تردها روايات أخرى متنا ؛ فمن حيث الإسناد فهو غير صحيح ، لأن من رجاله : المؤلف ، و المخول بن إبراهيم ، و أبو حمزة الثمالي (1) . الأول مجهول مُغرض مطعون فيه ، لا يصح الاعتماد عليه فيما دوّنه في كتابه الإمامة و السياسة . و الثاني يبدو أنه مجهول الحال والعين ، فلم أعثر له أي ذكر في كتب الجرح و التعديل، و التراجم و التواريخ. و الثالث ضعيف متروك ليس بشيء ، شيعي يُؤمن بالرجعة (2) . و الرواية التي رواها تتفق مع مذهبه في الطعن في الصحابة و الحط من مكانتهم . و أما متنا فتوجد روايات كثيرة تخالف ما ذهب إليه الجابري في اعتماده على رواية الإمامة و السياسة و تاريخ الطبري ؛ و تلك الروايات نصت صراحة على براءة كبار الصحابة من التآمر على عثمان و كتابتهم للرسائل ضده ، و سنذكرها قريبا إن شاء الله تعالى .
__________
(1) الإمامة و السياسة ، ج 1 ص: 42 ، 52 .
(2) ابن حجر : التقريب ، ج 1، ص: 132 . و العقيلي : الضعفاء ، ج 1 ص: 172 .(18/22)
و أشير هنا إلى أن الطبري ذكر روايتين في تاريخه فيهما تصريح بأن الصحابة بالمدينة كتبوا إلى الصحابة بالأمصار دعوهم إلى العودة من الجهاد لإنقاذ الإسلام و الجهاد من أجله عندهم بالدينة (1) . الأولى إسنادها لا يصح ، لأن من رجاله : محمد بن عمر الواقدي ، و هو ضعيف مُتهم بالكذب ،و يروي المناكير عن المجهولين ،و يُمارس التقية (2) .و الرواية الثانية من رجال إسنادها : عبد الرحمن بن يسار المدني ، و محمد بن إسحاق بن يسار ، و عمرو بن حماد بن طلحة الكوفي ، و جعفر بن عبد الله المحمدي . الأول هو الذي روى الخبر ، لكنه لم يكن شاهد عيان فيما رواه ، فهو من الطبقة الثالثة ، كان عليه أن يُصرح عمن سمعه، و عليه فإن الخبر مُرسل (3) . و الثاني مُتهم بالكذب مشهور بالتدليس عن الضعفاء و المجهولين ، رُمي بالتشيع ، و الثالث كان رافضيا (4) ، فالخبر موافق لمذهبه ، و هو يصب في خدمة التشيع و الرفض . و أما الراوي الرابع فيبدو أنه مجهول الحال ، فلم أعثر على جرح و لا على تعديل يتعلقان به . و بذلك تكون رواية الطبري الثانية غير صحيحة هي أيضا .
__________
(1) ج 2 ص: 644 ، 662 .
(2) سبق توثيق ذلك .
(3) ابن حجر: التقريب، ج 1 ص: 370 . و البخاري: الصحيح ، ج 3 ص: 1395 .
(4) عن الثاني و الثالث أنظر: ابن الجوزي: الضعفاء، ج 3 ص: 41 . و ابن حجر : التقريب، ج 1 ص: 476 . و الذهبي : المغني في الضعفاء ، ج 2 ص: 483 . و ابن حجر: طبقات المدلسين ، ط1 ، مكتبة المنار ، عمان ، ج 1 ص : 51 .(18/23)
وأشير هنا إلى أن الأشرار الثائرين على عثمان هم الذين كانوا يكتبون الرسائل باسم الصحابة و زوجات النبي-عليه الصلاة و السلام-، ، و ليس الصحابة و أمهات المؤمنين هم الذين كتبوها . لكنني لا أدري هل الجابري تنبه إلي ذلك و أغفله ، أم لم يتنبه إليه ؟ .و الذليل على ما قلته هو أنه قد صحّ الخبر (1) بأنه لما استشهد عثمان- رضي الله عنه- و أنكرت عائشة أم المؤمنين قتله ، قال لها مسروق بن الأجدع : (( هذا عملك أنتِ كتبتِ إلى الناس تأمرهم بالخروج إليه )) فقالت : (( لا و الذي آمن به المؤمنون ،و كفر به الكافرون ، ما كتبتُ إليهم بسوداء في بيضاء ، حتى جلستُ مجلسي هذا )) ، ثم قال سليمان الأعمش –أحد الرواة- : إنهم كانوا يرون أنه كُتب علي لسانها )) (2) . و في رواية أخرى (3)
__________
(1) رجاله كلهم ثقات ، و هم : أبو معاوية الضرير ،و سليمان الأعمش ،و خيثمة بن عبد الرحمن ،و مسروق بن الأجدع . انظر : الذهبي : السيّر ج 9 ص: 93،و ابن حجر : النقريب ، ج 1 ص: 254،و تهذيب التهذيب ، ج10ص: 100،و المزي: تهذيب الكمال، ج8 ص: 370 .
(2) ابن سعد : الطبقات ، ج 3ص: 82 .
(3) يبدوا أنها صحيحة الإسناد ، على ما قاله محقق كتاب السنة للخلال ، ج2ص: 340 .و هو قد أشار إلى أنه لم يتوصل إلى معرفة عائشة بنت عمرة أم الحجاج الجدلية ( نفسه ، ج2 ص: 340 ) ، لكن يبدوا أنها صحابية ،-فهي ثقة -، لأن ابن حجر ذكرها في كتابه الإصابة في معرفة الصحابة ج 8ص: 44 . و الرواية في النهاية تتقوى بالرواية الصحيحة السابقة الذكر ..(18/24)
أن الأشتر النخعي جاء إلى عائشة – رضي الله عنها- و قال لها : (( ما تقولين في قتل عثمان ؟ ، فقالت : معاذ الله أن آمر بسفك دماء المسلمين ، و استحلال حرماتهم و هتك حجابهم)) ، فقال لها الأشتر : (( كتبتن إلينا تأمرننا ، حتى إذا قامت الحرب على ساق ، أنشأتن تنهيننا )) ، فحلفت عائشة بقولها : (( لا و الذي آمن به المؤمنون و كفر به الكافرون ، ما كتبتُ إليهم سوداء في بيضاء في أمر عثمان إلى يومي هذا )) (1) . و هذا يعني أن رؤوس الفتنة كانوا يُزوّرون الكتب على لسان زوجات رسول الله –عليه الصلاة و السلام- و ينسبونها إليهن ، ليستخدموها كوسيلة فعالة في تحريض الناس على عثمان و ولاته ،و إعطاء شرعية لأعمالهم التخريبية ، بدعوى أن الصحابة هم الذين شجّعوهم عليها ،و يُوافقونهم عليها
و يزيد ذلك تأكيدا و توضيحا الروايات الآتية ، أولها أنه رُوي أن محمد بن أبي حذيفة –لما حل بمصر- كان يُزوّر الكتب على ألسنة زوجات النبي-صلى الله عليه و سلم- ، فكان يُرسل أناسا إلى طريق المدينة ، ثم يُقدمون بالكتب و عليهم آثار السفر ، فيتلقاهم و معه الناس ، و يُنزلهم المسجد و يقرؤون عليهم الكتب –المزوّرة- ،و فيها الشكاية من عثمان و الطعن فيه ، فيضج الناس بالبكاء و الدعاء (2) .
و ثانيها أنه رُوي أن جماعة السبئية و أعوانهم من رؤوس الفتنة ، كانوا يُزوّرون الكتب في عيوب ولاتهم ،و يُرسلونها إلى الأمصار ،و يتبادلونها فيما بينهم ، لينشروا سمومهم و مكرهم بين أكبر عدد ممكن من الناس (3) .
__________
(1) أبو بكر الخلال : السنة ، ج2 ص: 340 .
(2) ابن حجر: المصدر السابق، ج 6 ص: 11 .
(3) الطبري : التاريخ ج 1 ص: 647 .(18/25)
و ثالثها أنه رُوي أن الأشرار لما ، عادوا إلى المدينة ذهبوا إلى علي بن أبي طالب و طلبوا منه أن يذهب معهم إلى عثمان ، فلما رفض الذهاب معهم قالوا له : لِمَ كتبتَ إلينا : فقال :و الله ما كتبت إليكم كتابا قط . فنظر بعضهم إلى بعض ثم انصرفوا (1) .
و هذه الشواهد التاريخية –الصحيحة منها و الضعيفة- أغفلها الجابري ، و تمسك بروايات أخرى ضعيفة ، ضخمها لتخدم فكرته المبيتة سلفا . و هذا عمل ليس من الموضوعية العلمية في شيء ، فكان عليه أن يجمع كل الروايات فيُقارن بينها و يُحققها إسنادا و متنا ليُميز صحيحها من سقيمها ، لكنه لم يفعل ذلك ، و اكتفى بأخذ ما انتقاه بدون معيار نقدي صحيح .
و أما الروايات التاريخية الصحيحة و الضعيفة التي تنقض مزاعم الجابري في اتهامه للصحابة بالتآمر على عثمان و التحريض على قتله من جهة ، و تُثبتُ دفاعهم عنه من جهة أخرى ، فسأذكر منها 12 رواية ، أولها إنه صحّ الخبر أن عائشة أم المؤمنين ،- رضي الله عنها- أنكرت قتل عثمان ،و نفت أية مشاركة لها في قتله ،و أنكرت أيضا أن تكون أرسلت كتبا إلى الأشرار ليثوروا على عثمان و يقتلونه ،و قد تبيّن أن رؤوس الفتنة هم الذين زوّروا تلك الكتب و نسبوها للصحابة .
__________
(1) نفس المصدر ، ج2 ص: 656 .(18/26)
و ثانيها أن عائشة لما سُئلت عمن قتل عثمان بن عفان ، قالت ، : (( قُتل مظلوما ، لعن الله من قتله )) (1) . و ثالثها أنه صحت الروايات عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أنه أنكر قتل عثمان ، و نفى أن يكون له أي دور في قتله ، من ذلك أنه قال يوم مقتل عثمان : (( اللهم لم أقتل و لم أمال )) (2) . و كان يقسم بالله بأنه لم يقتل عثمان ، و لا أمر بقتله، و لا رضي به،و قد نهى عنه فلم يُسمع منه.و ذكر ابن كثير أن ذلك ورد عن علي من عدة طرق تُفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث (3) .وكان هو و عائشة يلعنان (4) قتلة عثمان (5) . و قد صح! الخبر أنه قال : (( و الله ما قتلت عثمان ،و لا أمرتُ بقتله ،و لكن غُلبت )) (6) .
__________
(1) هذا الخبر صحيح الإسناد ، على ما ذكره الهيثمي . مجمع الزوائد ، ج 9 ص: 97 .
(2) الخلال : السنة، ج 2 ص: 328 .
(3) البداية ، ج 7 ص: 193 .
(4) الخبر صحيح ، و رجاله : عبد الله بن أحمد بن حنبل ، و أبوه أحمد ، و محمد بن الحنفية ،و أبو معاوية ، الضرير، و أبو مالك الأشجعي، و سالم بن أبي الجعد ، و الثلاثة الأوائل ، ثقات ،و الباقون هم أيضا ثقات . انظر : الذهبي: السيّر، ج3 ص: 249، ج6 ص: 184، 249، ج5 ص: 108 .
(5) عبد الله بن أحمد : فضائل الصحابة ، ج1 ص: 455 .
(6) رجاله هم : عبد الرزاق بن همام ،و معمر بن راشد، و عبد الله بن طاوس ، و أبوه طاوس، الأولان ثقتان مشهوران ،و الأخيران هم أيضا ثقتان . انظر: ابن حجر: تهذيب التهذيب، ج 5 ص: 234 . و التقريب ، ج 1 ص: 281 . ابن كثير : البداية ، ج 7 ص: 193 .(18/27)
و الرواية الرابعة أنه صحّ الخبر (1) عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنه- أنه كان ينهي عن قتل عثمان ،و يُعظم شأنه (2) . و الرواية الخامسة مفادها أنه صح الخبر (3) أن الصحابي عبد الله بن سلام- رضي الله عنه- كان ينهي الأشرار عن قتل عثمان،و يقول لهم : لا تقتلوا عثمان ، فوالله لئن قتلتموه لا تصلوا جميعا أبدا )) (4) . و عندما قتلوه قال لهم (5) : (( يا أهل مصر ، يا قتلة عثمان قتلتم أمير المؤمنين ، أما و الله لا يزال عهد متلوف، و دم مسفوح )) (6) .
و الرواية السادسة (7) مفادها أنه لما حوصر عثمان في داره كان معه 700 شخص ليدافعوا عنه ، كان من بينهم كثير من الصحابة و أبنائهم ، كعبد الله بن عمر،و الحسن بن علي ،و عبد الله بن الزبير ، لكن عثمان أمرهم بعدم القتال (8) .
__________
(1) الخبر صحيح على ما قاله محقق تاب السنة للخلال ، ج 2 ص: 329 .
(2) نفسه ج 2 ص: 329 .
(3) صححه محقق كتاب السنة للخلال ، ج2 ص: 335 .
(4) نفسه ، ج 2 ص: 335 .
(5) الخبر صححه الهيثمي. مجمع الزوائد ، ج9 ص: 93 .
(6) الهيثمي : مجمع الزوائد ، ج 9 ص: 93 .
(7) صحيحة حسب المحقق . الخلال : نفس المصدر السابق، ج 2 ص: 334 .
(8) نفسه ، ج2 ص: 334 .(18/28)
و السابعة -صححها المحقق- مفادها أنه لما حوصر عثمان بن عفان أرسل الأنصار الصحابي زيد بن ثابت -رضي الله عنه- إلى عثمان يُخبروه أنهم مستعدون للدفاع عنه بالسيف ، فأبى عثمان القتال من أجله (1) . و الرواية الثامنة (2) مفادها أن صفية أم المؤمنين –رضي الله عنها- خرجت لترد عن عثمان ، فلقيها الأشتر النخعي فضرب وجه بغلتها حتى مالت ، فقالت صفية لمولاها كِنانة : (( ردوني لا يفضحني هذا الكلب )) ، فلما رجعت وضعت خشبا بين منزلها و منزل عثمان ليُنقل عليه الطعام و الشراب )) (3) ، فموقفها هذا مثال رائع لدفاع أمهات المؤمنين عن الخليفة الشهيد عثمان بن عفان .
و أما الرواية التاسعة فمفادها أنه لما جاء الثوار إلى المدينة ، أنكر عليهم طلحة و الزبير و علي –رضي الله عنه- مجيئهم ،و أرسلوا أبناءهم لحماية عثمان بن عفان ،و عندما سمعوا بأن عثمان اًعتدي عليه في المسجد و أُخذ إلى بيته ذهبوا إليه يعودونه (4) .
و الرواية العاشرة مفادها أن لما قدم وفد مصر إلى المدينة و اقتربوا منها ، أرسل إليهم عثمان جماعة من الصحابة ليردوهم ، فخرج إليهم علي ، و محمد بن مسلمة ، و سعيد بن زيد ، و زيد بن ثاب ، و كعب بن مالك ، و غيرهم من الصحابة ، فاتصلوا بهم و أقنعوهم بالرجوع ، فسمعوا منهم و عادوا إلى مصر (5) .
__________
(1) نفسه ، ج2 ص: 333 .
(2) صحيحة الإسناد ،و رجالها : علي بن الجعد،و زهير بن معاوية، و كنانة مولى صفية ؛ و هؤلاء ثقات . انظر: ابن حجر: التقريب، ج 1ص: 398.و الذهبي: تذكرة الحفاظ، ج 20 ص: 342 .و العجلوني: معرفة الثقات ، ج 2 ص: 228 .
(3) علي بن الجعد : مسند ابن الجعد ، ج1 ص: 390 .
(4) الطبري : التاريخ ، ج 2 ص: 653، 645 .
(5) نفس المصدر ، ج 2 ص: 658 .(18/29)
و الرواية الحادية عشر مفادها أن عدة مصادر ذكرت أن الخليفة عثمان أوصى للزبير بن العوام بأن يتولى رعاية أولاده و حفظ أموالهم بعد وفاته (1) . فلو كان الزبير ضد عثمان ،و يُؤلب الناس و يُحرضهم عليه ،و لو لم يكن محل ثقة عند عثمان ، ما أوصى بأن يتولى الزبير رعاية أولاده و حفظ أموالهم من بعده . و بما أنه فعل ذلك ،و لم يُوص لأحد غيره ، دلّ ذلك على أن العلاقة بين الصحابيين الجليلين كانت حسنة و قوية ،و أن عثمان كان يثق في الزبير ثقة كبيرة .
و أما الرواية الأخيرة –أي الثانية عشرة- فمفادها أن الأشرار الثائرين لما قدموا إلى المدينة ، ذهب وفد مصر إلى علي ، و اتصل وفد البصرة بطلحة ، و ذهب وفد الكوفة إلى الزبير ، فلم يستجب لهم و لا واحد من هؤلاء الثلاثة ،و صاحوا بهم و طردوهم . فخرجوا من المدينة مخذولين ، و بعد 3 مراحل اجتمعوا و اتفقوا على العودة إلى المدينة ، فدخلوها و معهم الكتاب المزعوم و حاصروا عثمان ، فأنكر عليهم طلحة و الزبير و علي عودتهم ، فلم يستجيبوا لهم (2) .
و بذلك يتبين-مما ذكرناه- أن اتهام الجابري لأعيان الصحابة بتأليب الناس على عثمان و المشاركة في قتله ، هو اتهام باطل ، تنقضه الروايات التي الكثيرة التي ذكرناها ،و التي أثبتت أنهم لم يُشاركوا في قتله ،و لا في التأليب عليه، و لم يرضوا بقتله . لكن السؤال الذي يفرض نفسها علينا هو : بما أن هؤلاء الصحابة لم يُشاركوا في قتل عثمان، فلماذا لم يمنعوا الأشرار من قتله ؟ .
__________
(1) أنظر : البيهقي : السنن الكبرى ، ج 6 ص: 282 . و ابن الأثير : أسد الغابة في معرفة الصحابة ، ج 1 ص: 378 . و ابن عساكر: تاريخ دمشق ، ج 18 ص: 379 . و ابن حجر : الإصابة في معرفة الصحابة ، ج 2 ص: 565 .
(2) الطبري : المصدر السابق، ج 2 ص: 653 . و ابن كثير : البداية ، ج 7 ص: 174 .(18/30)
أولا إن أهم سبب حال دون الصحابة من منع الأشرار من قتلهم لعثمان-رضي الله عنه- ، أنه هو شخصيا-أي عثمان- منعهم من القتال عنه ،و قد كان معه 700 رجل من الصحابة و أبنائهم ،و قد طلبوا منه قتال الأشرار فلم يأذن لهم بقتالهم (1) ، لكي لا تُسفك الدماء بسببه ؛ لأنه كانت معه أحاديث نبوية- صحيحة- أوصاه فيها رسول الله –عليه الصلاة و السلام- بالصبر و عدم عزل نفسه إذا طُلب منه ذلك ، فقال له في الحديث: (( إن الله لعله يُقمصك قميصا ، فإن أرادوك على خلعه ، فلا تخلعه )) ،و في حديث آخر ، أن رسول الله عهد إليه عهدا حثّه على التمسك به ، لذا عندما حاصروه أصر على موقفه و صبر على البلاء (2) . كما أنه ربما كان يأمل أن الأشرار سيرفعون عنه حصارهم دون قتال .
و ثانيا يبدو أن الصحابة الكرام كانوا يرون أن الأمر سينفرج و لا يطول ، و سيرفع الأشرار حصارهم عن عثمان بن عفان، و لا يصل بهم الأمر إلى ارتكاب جريمة قتل عثمان بن عفان خليفة المسلمين .
و ثالثا أنه واضح من الروايات الصحيحة –التي سبق ذكرها- أن عملية قتل عثمان تمت بالحيلة و المكر ، و ذلك أن مجموعة المجرمين الذين قتلوه تسوّروا عليه الدار ،و لم يأتوها من بابها ، في غفلة من الصحابة –و من معهم- الذين كانوا يحرصونه ، من الذين يحاصرونه، فلم ينتبهوا للقتلة إلا بعد تنفيذ جريمتهم ، و إلا ما كانوا يتركوهم يدخلون عليه ليقتلوه ، و قد كانت معه طائفة من أبناء الصحابة و غيرهم.
__________
(1) سبق توثيق ذلك ،و أنظر أيضا : الخلال : السنة ، ج 2 ص: 338، 334 .
(2) نفس المصدر ، ج 2 ص: 326، 327 .(18/31)
و رابعا أن الأشرار كانت لهم شوكة في المدينة ،و هم في نحو 2000 فرد أو أكثر ، مقابل أهل المدينة الذين ربما لم يكن فيهم العدد الكافي للتصدي لهؤلاء ، لأن أهلها كانوا في الحج و الثغور، الأمر الذي مكّن الثائرين من الإسراع في ارتكاب جريمتهم قبل أن تصل الإمدادات من الأقاليم لنجدة الخليفة (1) .
و أما الخطأ الثالث –من المجموعة الثانية- فيتعلق برواية نقلها الجابري من تاريخ الطبري ،و الكامل في التاريخ لابن الأثير ، و شرح نهج البلاغة للمتكلم الشيعي المعتزلي ابن أبي الحديد (2) ، و مفادها أن عمار بن ياسر-رضي الله عنه- في معركة صفين سنة 37هجرية ، كان يُحرض على القتال و يُشيد بقتل عثمان ، و يقول : (( انهضوا معي عباد الله إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم ظالم، إنما قتله الصالحون ... قالوا قُتل إمامنا مظلوما ، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا )) (3) .
__________
(1) ابن كثير: البداية ، ج7 ص: 197 .
(2) مصدر تلك الرواية هو الطبري ذكرها مُسندة ، و أوردها ابن الأثير بلا إسناد ج 3 ص: 186 . و أما ابن أبي الحديد فهو متأخر عاش في القرن السابع الميلادي ، نقلها من المصادر السابقة له و هو مجروح مطعون فيه بسب الاعتزال و الرفض .
(3) العقل السياسي ، ص : 183 .(18/32)
و هذه الرواية أخطأ فيها الجابري لأنه ذكرها و اعتمد عليها من دون أي شك و لا تحفظ ، و أثبتها بطريقة الإثبات و الإقرار ، و هي رواية لا تصح إسنادا و لا متنا . فأما إسنادا فإن الطبري ذكرها مسندة ، و ابن الأثير أوردها بلا إسناد (1) ، و أما كتاب شرح نهج البلاغة ، فهو كتاب أدب متأخر صُنف في القرن السابع الهجري ، علما بأن أصله و هو كتاب نهج البلاغة ، لا تصح نسبته إلى علي بن أبي طالب ، فهو كتاب صُنف في القرن الخامس الهجري بلا أسانيد (2) و مملوء بالمتناقضات (3) مؤلفه الشريف المرتضي (ت436ه) مطعون فيه بسب الرفض و الغلو فيه (4) . و شارحه ابن أبي الحديد هو أيضا مجروح بسبب الرفض و الاعتزال (5) ،و الرواية التي ذكرها تتوافق مع مذهبه في الرفض و التشيع ، فهي إذاً لا تصح من حيت الإسناد .
__________
(1) الكامل في التاريخ ، ج 3 ص: 186 .
(2) لا توجد أسانيد في نهج البلاغة ،فأنظر مثلا ص: 192، و ما بعدها . نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ط 1 ، دار المعرفة ، بيروت ، 2005 .
(3) أنظر مثلا : ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 4 ص: 24 . و مشهور آل سليمان : كتب حذر منها العلماء ، دار الصميعي ، الرياض، 1415 ، ج 2ص : 253، 254 .
(4) الذهبي: السير ، ج 17 ص: 588 .
(5) ابن كثير : البداية ، ج 13 ، 199 . و صلاح الدين الصفدي: الوافي بالوفيات ، دار إحياء التراث العربي ، 2000 ، ج 18 ص: 47 و ما بعدها. .(18/33)
و أما رواية الطبري المُسندة فمن رجالها : أبو مخنف لوط بن يحيى ، و هشام بن الكلبي ، و مال بن أعين الجُهني (1) . الأول شيعي مُتهم بالكذب ، متروك يروي عن المجهولين و الكذابين (2) . و الثاني هو أيضا شيعي مُتهم بالكذب ، يروي الأخبار الموضوعة (3) . و الثالث مجهول (4) .
و أما متنها فيقطر دما و حقدا و عصبية على الخليفة الشهيد عثمان بن عفان ، فادعت أنه لم يُقتل مظلوما ، و هذا كذب و افتراء ، و كلام باطل شرعا و تاريخا ، فأما شرعا فقد صحت أحاديث عن رسول الله-عليه الصلاة و السلام- نصت على أن عثمان يُقتل شهيدا ومظلوما (5) . و أما تاريخا فقد سبق أن ذكرنا الروايات الصحيحة على أن عثمان كان خليفة راشدا عادلا في رعيته ، و فر لها الرخاء الاقتصادي و الأمن الاجتماعي ، فقتله كان جريمة في حقه و حق الأمة الإسلامية. و حتى إذا افترضنا أنه ارتكب أخطاء ، فهي أخطاء اجتهادية لا تُوصل إلى قتل خليفة المسلمين ؛ لذا كان قتله و بالا على الأمة الإسلامية إلى يومنا هذا .و عندما لم يُقتص من رؤوس الأشرار قتلة عثمان ، استمروا في ضلالهم و فسادهم و مكرهم ، حتى قتلوا عليا و فرقوا الأمة شيعا و أحزابا .
__________
(1) الطبري : التاريخ ، ج 3 ص: 98 .
(2) الذهبي: السير ، ج 7 ص: 320 . و ابن حجر : اللسان ، ج 5 ص: 508 .
(3) الذهبي : نفس المصدر ، ج 10 ص: 101 ، 102 . و ميزان الاعتدال ، ج 7 ص: 89 . و ابن حجر : لسان الميزان ، ج 6 ص: 196 .
(4) ابن حجر : التقريب ، ج 1 ص: 225 .
(5) سبق ذكر بعضها .(18/34)
و أما الخطأ الرابع –من المجموعة الثانية- فيتمثل في أن الجابري ذكر رواية من كتاب الإمامة و السياسة ، مفادها أنه في معركة صفين سنة 37 هجرية عندما طلب معاوية التحكيم –حادثة رفع المصاحف- و أظهر علي قبوله، تدخل عمار بن ياسر و أنكر عليه قبوله للتحكيم ، و كان مما قاله له : (( ما لك يا أبا الحسن ؟ ، شككتنا في ديننا ،و رددتنا على أعقابنا بعد مائة ألف قُتلوا منا و منهم . أفلا كان هذا قبل السيف ،و قبل طلحة و الزبير و عائشة )) (1) .
و هذه الرواية لا تصح إسنادا و لا متنا ،و لم يتنبه إليها الجابري ، اللهم إلا إذا كان تعمد في ذكرها ،و في الحالتين فهو مسئول عن الخطأ الوارد فيها. فمن حيث الإسناد فليس فيه رواة إلا المؤلف (2) ،و هو مؤلف مجهول مطعون فيه (3) ،و إسناد هذا حاله لا يُقبل . و أما متن الرواية فهو يحمل شاهدين على ضعفه و استبعاده و تعرضه للتحريف ، الأول إنه ذكر أن عمارا قال ما نقلناه عنه عندما رفع أهل الشام المصاحف (4) ،و هذا خطأ فادح لأن عمارا كان قد قُتل قبل رفع المصاحف (5) . و الخطأ الثاني يتمثل في أن مؤلف الإمامة و السياسة –الذي نقل عنه الجابري- زعم أنه عندما أنكر عمار على علي قبول التحكيم ، نادى في الناس و دخل المعركة فقتل (6) . و هذا خبر غير ثابت تخالفه روايات أخرى ، لأنه عندما رفع أهل الشام المصاحف و وافق علي على التحكيم توقف القتال نهائيا (7) . فكيف يُزعم بأن عمارا قُتل بعد ذلك ؟ ! .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 183 .
(2) أنظر : الإمامة و السياسة ، ج 1 ص: 186 .
(3) سبق توثيق ذلك في الفصل الأول .
(4) أنظر : العقل السياسي ، ص: 183 . و الإمامة و السياسة ، ج 1 ص: 171، 186 .
(5) أنظر : الطبري : التاريخ ، ج 3 ص: 98 . و ابن كثير : البداية ، ج 7 ص: 288 .
(6) ج 1 ص: 187، 188 .
(7) أنظر : الطبري : المرجع السابق ، ج 3 ص : 101 و ما بعدها . و ابن كثير : المرجع السابق ، ج 7 ص: 291.(18/35)
و الخطأ الخامس يتعلق بما قاله الجاري: (( من ذلك ما تذكره مصادرنا التاريخية من أنه اجتمع أناس من أصحاب الني-ص- فكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله و سنة صاحبيه )) ، كان من بينهم عمار بن ياسر و المقداد بن الأسود ، ثم تواصوا على إيصاله إلى عثمان و كانوا عشرة ، فلما اقتربوا من دار عثمان بقي عمار وحده ، فدخل على عثمان و أعطاه الكتاب، فلما رآه أهل الدار ضربوه حتى فتقوا بطنه و غُشي عليه ، فجروه و طرحوه على الباب ، فأخذه بعض الناس إلى أهله (1) .
و خبره هذا لا يصح إسنادا و لا متنا ، نقله الجابري من كتاب الإمامة و السياسة، فأما إسنادا فلم يذكر له مؤلف الكتاب رواة ، و لا يُوجد في الإسناد إلا المؤلف نفسه (2) ،و هو مجروح لأنه مجهول و مطعون فيه . علما بأن الجابري قال: (( من ذلك ما تكره مصادرنا التاريخية )) ، و هو لم يذكر إلا كتابا واحدا مطعون فيه ، هو الإمامة و السياسة ، فأين المصادر الأخرى ؟ ،و هذا خطأ في منهجية الكتابة العلمية .
و أما متنا فهي تحمل شواهد على بطلانها و تلاعب الرواة بها ، أولها إن هذه الرواية نفسها-التي ذكرها الجابري- زعمت أن عثمان أعطى خُمس غنائم لمروان بن الحكم (3) . و هذا خبر غير ثابت تخالفه روايات أخرى نصت على أن الذي أُرسل إلى عثمان من غنائم فتح إفريقية هو أربعة أخماس الخُمس و ليس الخُمس ، لأن والي مصر كان قد نفّله عثمان خُمس الخمس ، فأخذه و أرسل إليه الباقي الذي يساوي أربعة أخماس الخمس . هذا فضلا على أن المصادر التي أطلعتُ عليها لم تذكر أن عثمان أعطى ذلك المال لمروان بن الحكم (4) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 182 .
(2) الإمامة و السياسة ، ج 1 ص: 48 .
(3) نفسه ، ج 1 ص: 48 .
(4) أنظر مثلا : الطبري : التاريخ ، ج 2 ص: 597 . و ابن كثير : ج 7 ص: 152 . و الذهبي : الخلفاء الراشدون ، ص: 185 .(18/36)
و الشاهد الثاني إن تلك الرواية نفسها ذكرت أن عثمان عطل تطبيق حد شرب الخمر على واليه على الكوفة الوليد بن عقبة . ثم عادت و قالت أنه أخره ، ثم ذكرت في النهاية أنه أمر بتطبيق الحد عليه بعد التأخر الذي حصل (1) . و قوله هذا فيه تلاعب و تغليط و افتراء على عثمان ، لأن هناك فرقا بين تعطيل الحد و تأخيره ، علما بأن الصحيح هو أنه لم يحدث تعطيل و لا تأخير ، لأنه صحّ الخبر بأن عثمان طبقه عليه مباشرة عندما جيء به و شهد عليه شاهدان بأنه شرب الخمر ، و شهد ثالث بأنه رآه يتقيأ ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها)) ،و طبق عليه الحد الشرعي (2) . فلم يُحاول الدفاع عنه ، و أكد ما قاله الشهود ، فأين التعطيل و التأخير المزعومان ؟ ! .
و الشاهد الثالث هو إن تلك الرواية نفسها ذكرت أن عثمان ترك المهاجرين و الأنصار و لم يستعملهم في شيء (3) .و هذا زعم باطل، سبق تفنيده و بينا أن عثمان استعمل ولاة من الصحابة و غيرهم ،و من أقاربه ، و من مختلف القبائل الأخرى ، و من الصحابة الذين استعملهم ، أبا موسى الأشعري ، و سعد بن أبي وقاص ،و جرير بن عبد الله (4) .
و الشاهد الرابع هو إن تلك الرواية نفسها ذكرت أن عثمان ترك المهاجرين و الأنصار ،و أصبح لا يُشاورهم و استغنى برأيه عن رأيهم (5) . و هذا زعم باطل ،و كلام مُضحك ، لا داعي للبحث له عن الشواهد و المؤيدات من المصادر الأخرى ، لأن الكتاب نفسه ذكر مرارا و تكرارا أن عثمان كان يستشير الصحابة و يستنجد بهم ،و الرواية نفسها ذكرت أن عثمان عندما خرج إلى المسجد، التقى بعلي و استشاره و اشتكى إليه ما يُلاقي من الثائرين عليه (6) .
__________
(1) الإمامة و السياسة ، ج 1 ص: 48، 51 .
(2) مسلم : الصحيح ، ج 3 ص: 1331 . و أبو داود : السنن ، ج 1 ص: 48 .
(3) الإمامة و السياسة ، ج 1 ص: 48 .
(4) سبق توثيق ذلك عندما تطرقنا لموضوع عمال عثمان .
(5) الإمامة و السياسة ، ج 1 ص: 48 .
(6) نفسه ، ج 1 ص: 48 .(18/37)
و هذا المؤلف المجهول إما أنه جاهل لا يعي ما يقول ، و إما أنه ماكر مُخادع يتلاعب بالتاريخ و يُحرفه لخدمة مذهبيته و عصبيته ،و يضحك به على القراء ، حتى أنه روى أن عمارا عندما أخذ الكتاب إلى عثمان ، ضربه أهل الدار حتى فتقوا بطنه . و هل من فُتق بطنه يبقى على قيد الحياة ؟! .
و أما الخطأ السادس- من المجموعة الثانية- فيتمثل في أن الجابري قال: إن طلحة و الزبير خرجا إلى مكة-بعد قتل عثمان- ليس للمطالبة بدم عثمان ، و إنما للثورة على علي بن أبي طالب طلبا للخلافة ، و اعتمد في ذلك على رواية قال قيها : (( تروي مصادرنا التاريخية في هذا الصدد ، أن سعيد بن العاص سأل طلحة و الزبير و هم جميعا في طريقهم إلى البصرة لإعلان الثورة على علي بن أبي طالب : إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر . ، قالا : لأحدنا ، أيا أختاره الناس ، قال: بل اجعلوه لولد عثمان ، فإنكم تطلبون دمه ، قالا : ندع شيوخ المهاجرين –يقصدان نفسيهما- و نجعلها لأبنائهم ، قال: لا لا )) ، فرجع سعيد و معه رجال قومه و حلفائهم من ثقيف ،و مضى الباقون. ثم وثّقها بالإشارة إلى تاريخ الطبري (1) .
و قوله هذا غير صحيح ، لأن الرواية التي اعتمد عليها لا تصح إسنادا و لا متنا ، فأما إسنادا فمن رجاله : أبو الحسن المدائني ، و أبو عمرو ، و عتبة بن المغيرة بن الأخنس (2) . الأول ثقة إذا حدث عن الثقات (3) . و الثاني يبدو أنه مجهول ، فلم أستطيع التعرف عليه رغم البحث الطويل . و الثالث مجهول الحال لا العين ، فلم أعثر له على جرح و لا على تعديل في مصنفات الجرح و التعديل ،و لا في التواريخ و التراجم، و ليس له ذكر أيضا في المتون الحديثية المعروفة ، لذا يترجح لدي أن الإسناد لا يصح .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 153 .
(2) الطبري : تاريخ الطبري ، ج 3 ص: 9 .
(3) صلاح الدين الصفدي: الوافي بالوفيات ، ج 22 ص: 29 .(18/38)
و أما متنها فترده الشواهد الآتية : أولها إن نفس تلك الرواية وردت في الطبقات الكبرى لابن سعد، و في تاريخ دمشق لابن عساكر ، نصت على أن الصحابيين طلحة و الزبير خرجا للمطالبة بدم عثمان (1) ،و ليس فيها ما ذكرته رواية الطبري من أن طلحة و الزبير أخبرا سعيد بن العاص بأنهما إذا انتصرا سيكون الأمر لمن اختاره الناس منهما . فعدم وجود هذه الزيادة عند ابن سعد، و ابن عساكر ، يكفي لرد الزيادة الواردة في تاريخ الطبري ، التي قد تُشير إلى تلاعب الرواة برواية الطبري ، و يُقوي ذلك المرجحات الثلاثة الآتية : أولها إننا إذا افترضنا-جدلا- أن طلحة و الزبير خرجا طلبا للخلافة ، فهما ليس غبيين لكي يُفصحان لسعيد بن العاص عن نيتهما المُبيتة ، و هما يعلمان أن سعيدا من بني أمية ، و من قبيلة عثمان و عصبيته .و إن افتضاحهما يعني الانتحار السياسي و العسكري معا ، و الأخلاقي أيضا . لذا فليس من الحكمة ولا من المصلحة أن يُقدم طلحة و الزبير على ما زعمته رواية الطبري ، الأمر الذي يُشير إلى أن تلك الزيادة مُقحمة في الرواية .
__________
(1) الطبقات الكبرى ، ج 5 ص: 34 . و تاريخ دمشق ، ج 21 ص: 117 .(18/39)
و المرجح الثاني هو أن الرواية زعمت أن سعيدا و قومه و حلفاءهم رجعوا عندما سمعوا بالأمر ، لكنها ذكرت أن ابني عثمان : أبان و الوليد ، لم يرجعا مع أقربائهما و قبيلتهما ، و واصلا السير مع طلحة و الزبير (1) ، و إن كان الجابري لم يشر إلى وجود ولدي عثمان مع طلحة و الزبير و جيشهما. و الذي يعنينا هنا هو أنه غير معقول و مُستبعد جدا ، أن يسمع ولدا عثمان بأن طلحة و الزبير يطلبان الخلافة لنفسيهما ،و لا يطلبان دم أبيهما عثمان ، ثم لا يرجعان و يبقيان معهما ويخوضان معهما معركة الجمل !! . و هل يُعقل أن يتركهما قومهما الذين رجعوا من بني أمية و ثقيف ؟! . و ربما يٌقال : إنهما ربما لم يسمعا بالأمر . و هذا احتمال مُستبعد جدا ، يكاد يكون غير وارد أصلا ، لأن الأمر قد شاع بين الأمويين و ثقيف ،و هما أولى بالسماع ، و بما أن الأمر قد شاع بين هؤلاء الذين رجعوا فهذا يعني أن الأمر قد انكشف للجميع .
و المرجح الثالث هو أنه من الثابت أن الناس الذين خرجوا مع طلحة و الزبير و على رأسهم عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- خرجوا للمطالبة بدم عثمان الشهيد المقتول ظلما ، فلو حدث ما زعمته رواية الطبري من انكشاف أمر طلحة و الزبير ، لعاد معظم الجيش و ليس الأمويون و حلفاؤهم فقط ، لأن ما زعمته تلك الرواية هو خيانة عظمى . و بما أن الجيش لم يعد دلّ ذلك على أن ما زعمته رواية الطبري غير صحيح .
__________
(1) الطبري : المصدر السابق ، ج 3 ص: 9 .(18/40)
و أما الشاهد الثاني فيتضمن أربع روايات صحيحة الإسناد ، الأولى ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده ، و مفادها أن الصحابيين طلحة و الزبير-رضي الله عنهما- خرجا إلى البصرة طلبا لدم عثمان (1) . و الرواية الثانية ذكرها الطبري في تاريخه ، و مضمونها أن طلحة و الزبير و عائشة-رضي الله عنهم- ذهبوا إلى البصرة للمطالبة بدم عثمان المقتول ظلما (2) .
و الرواية الثالثة ذكرها ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ، و مفادها أن المحدث عمر بن شبة (ت262ه) ، قال : (( إن أحدا لم ينقل أن عائشة و من معها نازعوا عليا في الخلافة ، و لا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة ، و إنما أنكروا على علي منعه-أي تأخيره القصاص- من قتل قتلة عثمان ،و ترك الاقتصاص منهم)) (3) .
و آخرها –أي الرابعة- ذكرها الحافظ شمس الدين الذهبي في سير أعلام النبلاء ، و مفادها أن طلحة بن عبيد الله ، قال –عندما قُتل عثمان- : (( كان مني شيء في أمر عثمان ، مما أرى كفارته إلا سفك دمي و طلب دمه )) (4) .
__________
(1) المسند ، ج 1 ص: 165 . و الرواية صححها الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة ج 3 ص: 33.و الهيثمي في مجمع الزوائد ، ج 7 ص: 27 .
(2) تاريخ الطبري ، ج 3 ص: 34-35 . و الرواية حقق إسنادها الباحث محمد أمحزون في كتابه : تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة ، ط 3 ، دار طيبة ، الرياض، 1420 ،ج 2 ص: 90 .
(3) فتح الباري ، ج 13 ص: 56 .
(4) ج 1 ص: 34 .(18/41)
و الشاهد الثالث يتضمن أربع روايات ضعيفة الأسانيد ، نذكرها كأدلة ضعيفة مساعدة تتقوى بالروايات الصحيحة السابقة من جهة ، و نرد بها الضعيف الذي احتج به الجابري من جهة أخرى . الأولى رواها الطبري في تاريخه، ومفادها أن عمران بن حُصين وأبا الأسود الدؤلي سألا طلحة و الزبير عن سبب خروجهما إلىالبصرة ، فقالا : الطلب بدم عثمان (1) . و الرواية الثانية رواها الطبري أيضا مفادها أن طلحة و الزبير قالا أنهما خرجا للمطالبة بالاقتصاص من (( قتلة عثمان ، فإن هذا إن تُرك كان تركا للقرآن ،و إن عُمل به كان إحياء للقرآن )) (2) .
و الرواية الثالثة ذكرها الطبري في تاريخه ، و مفادها أن رجلا سأل الزبير : يا أبا عبد الله ما هذا ؟ ، قال: عُدي على أمير المؤمنين رضي الله عنه ، فقُتل بلا تِرة و لا عذر ، قال : و من ؟ ، قال: الغوغاء من الأمصار ونزاع القبائل وظاهرهم الأعراب والعبيد، قال : فتريدون ماذا ؟، قال : نُنهض الناس فيُدرك بهذا الدم لئلا يُبطل فإن في إبطاله توهين سلطان الله بيننا أبدا، إذا لم يفطم الناس عن أمثالها لم يبق إمام إلا قتله هذا الضرب... )) (3) .
و أما الرواية الأخيرة –أي الرابعة- فقد ذكرها خليفة بن خياط في تاريخه ، و مما جاء فيها أن طلحة بن عبيد الله-رضي الله عنه- كان يقول –أثناء معركة الجمل- : (( اللهم خُذ لعثمان مني اليوم حتى ترضي)) (4) .
__________
(1) ج 3 ص: 14 .
(2) تاريخ الطبري ، ج 3 ص: 29 .
(3) تاريخ الطبري ، ج 3 ص: 29 .
(4) تاريخ خليفة خياط ، ج 1 ص: 43 .(18/42)
و أُشير هنا إلى أمرين هامين ، أولهما أن الروايات الصحيحة و الضعيفة التي ذكرناها ردا على الجابري و المتعلقة بالخطأ السادس ، منها ما رواه الطبري ، لكن الجابري سكت عنها و أهملها ، وتمسك برواية ضعيفة بنى عليها اتهامه للصحابيين الجليلين طلحة و الزبير . و عمله هذا ليس من الموضوعية ،و لا من المنهجية العلمية المستقيمة في شيء .و كان عليه أن يجمع كل تلك الروايات و يُحققها إسنادا و متنا ،و لا يُمارس الانتقاء بطريقة غير علمية .
و الأمر الثاني مفاده أنه قد تبين لي أن طلحة و الزبير –رضي الله عنهما- لم يُخرجهما سبب واحد ، و إنما أخرجتهما أربعة أسباب أساسية ، أولها إيمانهما بضرورة القصاص من قتلة عثمان الشهيد المقتول ظلما ، و هذا موقف يُشاركهم فيه عامة المسلمين .و السبب الثاني هو التكفير عما يكون صدر منهما من بعض التهاون في حق عثمان و الانتصار له، و هذا السبب أشار إليه الذهبي فيما يتعلق بطلحة (1) .و السبب الثالث يبدو أنهما رأيا أن عليا تأخر في تنفيذ القصاص في قتلة عثمان ، بعد مرور أربعة أشهر من استشهاد عثمان . و رغم أن هذا التأخر له ما يبرره، فيبدو أنهما –أي طلحة و الزبير- رأيا ضرورة التحرك سريعا لتنفيذ القصاص .
و آخرها-أي السبب الرابع- هو أنهما ربما رأيا أن عليا لا يمكّنه وضعه الذي هو فيه ، من تنفيذ القصاص ، فدفعهما ذلك إلى الخروج إلى مكة و البصرة لجمع العساكر ، و بها يتمكنان من المطالبة بدم عثمان ،و كسر شوكة هؤلاء القتلة .
__________
(1) الخلفاء الراشدون ، ص: 288 .(18/43)
و أما إذا قيل : لماذا لم يطالب طلحة و الزبير-رضي الله عنهما- بما عزما عليه في المدينة ؟ فيقال : إن خطتهما التي رسماها لا يمكن تطبيقها في المدينة ، لأنهما يعلمان أن عليا ليس في مقدوره تنفيذها ، لأن قتلة عثمان هم من حوله يمثلون جيش المدينة . و لأنهما –أيضا- كانا على علم بأن عليا لا يوافق على خطتهما ، و قد رُوي أنهما طلبا منه تنفيذ القصاص ، فاعتذر لهما بأنه عاجز عن تنفيذه . و طلبا منه –أيضا- أن يولي أحدهما على الكوفة ،و الآخر على البصرة ، ليأتيانه بالعساكر فيستعين بها على قتلة عثمان ، فقال لهما أنه سينظر في الأمر ، ثم في النهاية لم يوافق على ما اقترحاه عليه (1) . و إذا قيل لماذا لم يخبر طلحة و الزبير عليا –رضي الله عنهم- بخطتهما ؟ فالجواب واضح وهو أنهما كان يعلمان أن عليا لا يوافقهما على ما خططا له و عزما على تنفيذه ،فإن أخبراه فخطتهما ستفشل .
__________
(1) ابن كثير : المصدر السابق ج7 ص: 229-230 ، 245 .(18/44)
و أما الخطأ الأخير –السابع من المجموعة الثانية- فيتعلق بموقف طلحة بن عبيد الله من الثائرين على عثمان ، فقد ادعى الجابري أن طلحة كان يُحرض هؤلاء على عثمان، و نقل عن الطبري أن عثمان لما رأى ما يقوم به طلحة ضده ، دعا الله بقوله : (( اللهم اكفني طلحة بن عُبيد الله ، فإنه حمل علي هؤلاء و ألبهم )) (1) . و الجابري لم يذكر الرواية كاملة ،و إنما استل القول من سياقه دون إتمام للخبر، لذا يجب ذكره كما ورد عند الطبري ، و نصه : (( قال محمد وحدثني إبراهيم بن سالم عن أبيه عن بسر بن سعيد قال وحدثني عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال دخلت على عثمان رضي الله عنه فتحدثت عنده ساعة فقال يا ابن عياش تعال فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على باب عثمان فسمعنا كلاما منهم من يقول : ما تنتظرون به ، ومنهم من يقول : انظروا عسى أن يراجع . فبينا أنا وهو واقفان إذ مر طلحة بن عبيد الله فوقف فقال : أين ابن عديس ؟ فقيل : ها هو ذا ، قال : فجاءه ابن عديس فناجاه بشيء ، ثم رجع ابن عديس ، فقال لأصحابه : لا تتركوا أحدا يدخل على هذا الرجل ولا يخرج من عنده قال : فقال لي عثمان هذا ما أمر به طلحة بن عبيد الله . ثم قال عثمان : اللهم اكفني طلحة بن عبيد الله فإنه حمل علي هؤلاء وألبهم ، والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا وأن يسفك دمه إنه انتهك مني ما لا يحل له ، سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -يقول : لا يحل دم امرىء مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه فيُقتل ، أو رجل زنى بعد إحصانه فيرجم ، أو رجل قتل نفسا بغير نفس. ففيم أُقتل ؟ ...)) (2) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 150 .
(2) تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 668-669 .(18/45)
و يتمثل خطأ الجابري فيما نقلناه عنه أنه اعتمد على رواية غير صحيحة ، بنى عليها فكرته ،و كان عليه أن يُحققها فبل اعتماده عليها ، و هي رواية لا تصح إسنادا و لا متنا ، فأما إسنادا فمن رجاله محمد بن عمر الواقدي ، سماه الطبري محمد ، و هو نفسه محمد بن عمر الواقدي ، و هو ضعيف متهم بالكذب ، ملأ كتبه بالأباطيل و الرواية عن المجاهيل ،و ذكر ابن النديم أنه كان شيعيا يُظهر التسنن و يُمارس التقية (1) .و هذا الخبر الذي رواه يتفق مع تشيعه ، لأن فيه طعنا و اتهاما خطيرا لصحابي جليل مشهود له بالجنة ، لذا فروايته مرفوضة من حيث الإسناد .
و ثانيا إن متن تلك الرواية ترده الشواهد الأربعة الآتية : أولها إن الخبر نفسه تقريبا ورد بإسناد صحيح في أكثر من مصدر ، هذا نصه :(( حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن سهل قال :كنا مع عثمان وهو محصور في الدار ، وكان في الدار مدخل من دخله سمع كلام من على البلاط ، فدخله عثمان فخرج إلينا وهو متغير لونه فقال : إنهم ليتواعدونني بالقتل آنفا قال قلنا يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين . قال : ولِمَ يقتلونني ؟ سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول : " لايحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إسلام ،أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس " فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط ، ولا أحببت أن لي بديني بدلا منذ هداني الله ، ولا قتلت نفسا ، فبم يقتلونني ؟ )) (2) .
__________
(1) سبق توثيق ذلك .
(2) أبو داود : السنن ، ج 2 ص: 577 .و الألباني: صحيح ابن ماجة ، ج 2 ص: 77 .(18/46)
فهذا الخبر لا يُوجد فيه أي ذكر و لا إشارة إلى طلحة بن عبيد الله ، و قد ورد بإسناد صحيح مغاير لإسناد رواية الطبري الضعيف ، و رجاله هم : محمد بن عمر الواقدي ، و إبراهيم بن سالم عن أبيه ، و بسر بن سعيد ، و عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة . أما رجال الرواية الصحيحة المخالفة لرواية الطبري فهم : سليمان بن حرب ، و حماد بن زيد ، و يحيى بن سعيد ،و أبو أمامة بن سهل . و بما أن إسناد الرواية الثانية صحيح ، و إسناد الثانية-أي رواية الطبري- لا يصح فهذا يعني أن الأولى قد تكون تعرّضت للتحريف و التلاعب .
و الشاهد الثاني يتمثل في أن الحديث النبوي الذي ورد في الروايتين ذكرته عدة كتب حديثية بطرق صحيحة لا يُوجد من بين رجالها عبد الله بن عياش (1) الذي كان شاهد عيان حسب رواية الطبري؛ مما يعني أن هذا الحديث قد يكون أقحم في رواية الطبري إقحاما ، خاصة و أن المناسبة بينه و بين سياق رواية الطبري ضعيفة ، عكس الرواية الثانية التي فيها المناسبة بينها و بين الحديث قوية جدا و صريحة فيما يتعلق بالقتل .
و الشاهد الثالث مفاده هو أنني بحثتُ في مصنفات التراجم و التواريخ، و الجرح و التعديل ، و لم أعثر على أي خبر يُشير إلى أن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة كان مع عثمان في الدار ، إلا ما رواه الطبري عن محمد بن عمر الواقدي و نقله عنه ابن الأثير (2) ، و حتى الطبري نفسه لم يذكر هذه الشخصية في حوادث الفتنة الكبرى إلا مرة واحدة . و تفرّد الواقدي المطعون فيه بهذه الرواية هو أمر يُوحي بأن الرواية قد تكون تعرّضت للتحريف و التلاعب على يد الواقدي ، خاصة و أنها تتفق مع مذهبه في الطعن في الصحابة .
__________
(1) أنظر مثلا : البحاري: الصحيح ، ج 6 ص: 2521 . و مسلم : الصحيح ، ج 3 ص: 1302 . و الترمذي : السنن ، ج 4 ص: 19 .
(2) الكامل في التاريخ ، ج 3 ص: 64 .(18/47)
و الشاهد الرابع يتمثل في أن رواية الطبري تتضمن عبارات تُوحي بأنها مدسوسة ، منها قول عثمان في دعائه على طلحة : (( إني لأرجو أن يكون منها صفرا ، و أن يُسفك دمه ، إنه انتهك مني ما لا يحل)) ، فالراوي يُريد أن يُظهر للناس بأن دعوة عثمان قد اُستجيبت عندما دعا على طلحة ، لأننا نعلم أن طلحة قُتل في معركة الجمل سنة 35هجرية ، انتصارا لعثمان و ليس كما تريد الرواية .
و أما أخطاء المجموعة الثالثة فتتضمن أربعة أخطاء متفرقة لها علاقة بالفتنة الكبرى ، أولها يتعلق بالصحابي أبي ذر الغفاري-رضي الله عنه- ، مفاده أن الجابري ذكر رواية من كتاب أنساب الأشراف للبلاذري ، تقول : إنه لما أكثر أبو ذر من انتقاداته لوالي الشام معاوية بن أبي سفيان ، اشتكى هذا الأخير إلى عثمان ، فأمره بإرساله إليه ، فبعثه إليه في حالة مُهينة ، فلما وصل المدينة ، قال لعثمان : (( تستعمل الصبيان و تحمي الحمى ، و تقرّب الطلقاء ، فنفاه إلى الربذة خارج المدينة ، فلم يزل بها حتى مات )) (1) .
و يتمثل خطأ الجابري هنا في أنه اعتمد على رواية غير صحيحة ، بنى عليها موقفه من دون أن يُحققها ، و الدليل على أنها غير صحيحة ، هو أنه أولا أن الرواية التي ذكرها ليس لها إسناد ،لأن البلاذري رواها من دون إسناد عندما ترجم لأبي ذر الغفاري (2) . و رواية خطيرة كهذه لا يصح قبولها من دون إسناد ، لأن الإسناد شرط أساسي من شروط صحة الخبر.
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 181 .
(2) أنساب الأشراف ، ح 5 ص: 53 .(18/48)
و ثانيا إن متنها هو أيضا لا يصح ، لأن التصرفات التي نسبتها إلى عثمان في تعامله مع أبي ذر هي تصرفات تتنافى مع الشرع ،و مع أخلاق عثمان الخليفة الراشد المشهود له بالجنة ، و الذي هو من السابقين الأولين من المهاجرين الذين رضي الله عنهم و رضوا عنه ، لقوله تعالى : -{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} - سورة التوبة/100- . فتلك التصرفات المنسوبة إلى عثمان لا تصدر عن عوام المؤمنين ، فكيف تصدر عن صحابي جليل خليفة راشد ؟ ! .
و لأنها أيضا تُوجد روايات أخرى صحيحة الأسانيد تنقض ما ذكرته رواية الجابري ، و تُثبتُ بصراحة أن عثمان لم يُسئ لأبي ذر ،و لا نفاه ،و لا عامله بقسوة ، و إنما أبو ذر هو الذي اختار المقام بالربذة ، بمحض إرادته من دون إكراه من أحد.و هي أربع روايات صحيحة ، أولها ما رواه الحافظ شمس الدين الذهبي ، عن سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن هلال ، عن عبد الله بن الصامت ، أن أبا ذر الغفاري-رضي الله عنه -استأذن الخليفة عثمان -رضي الله عنه- في الخروج إلى الربذة فأذن له (1) .و ثانيها ما رواه ابن سعد ، قال : أخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، أنه لما استقدم عثمان أبا ذر من الشام إلى المدينة ، اقترح عليه أن يبقى عنده ، فأبى و قال له : لا حاجة لي في دنياكم . ثم قال له : (( ائذن لي حتى أخرج إلى الربذة )) فأذن له عثمان بالخروج إليها (2) .
__________
(1) الذهبي : سيّر أعلام النبلاء ج 2ص: 60ن 67 .
(2) ابن سعد : الطبقات الكبرى ج 4ص: 227 .(18/49)
و الثالثة رواها أيضا ابن سعد ، و فيها : أخبرنا عفان بن مسلم ، و عمرو بن عاصم الكيلاني ، قالا : حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن هلال ، قال حدثنا عبد الله بن الصامت ، أن أبا ذر استأذن الخليفة عثمان للخروج إلى الربذة ، فأذن له ،و زوّده بما يحتاج إليه (1) . و الرابعة رواها ابن حِبان ، و قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا ابن شميل ، حدثنا شعبة ، حدثنا عمران الجوني ، أنه سمع عبد الله بن الصامت يقول : لما استقدم عثمان أبا ذر من الشام إلى المدينة ، و دخل عليه و كلمه ، و أعلن له السمع و الطاعة ، استأذنه في أن يأتي الربذة ، فأذن له عثمان بالخروج إليها (2) .
فهذه الروايات الأربع ذات الأسانيد صحيحة (3) ، تبين بجلاء أنه لم يحدث أي إكراه ،و لا إهانة من عثمان لأبي ذر -رضي الله عنهما- ، و لا فيها أنه منع الناس من أن يكلّموه ؛ بل فيها المشاورة و السمع و الطاعة ،و الإجلال و الإكرام .
__________
(1) نفس المصدر ج 4 ص: 232 .
(2) صحيح ابن حبان ، حققه شعيب الأرناؤوط ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1993ج 13 ص: 301 .
(3) -أنظر: ابن أبي حاتم: المصدر السابق ج 3ص: 230، ج4ص: 144ج5ص: 84 ج6ص: 250 ،ج7ص: 30،ج9ص: 295 .و ابن حبان : الثقات ، حققه السيد شرف الدين احمد ، ط1 بيروت ، دار الفكر ، 1975 ج4ص: 147 ،ج5ص: 30 .و صحيح ابن حبان ج13ص: 301.و ابن حجر: تقريب التهذيب ، حققه محمد عوامة ، ط1 ، سوريا دار الرشيد ، 1986 ، ج 1 ص: 308 .و الذهبي: ميزان الاعتدال ج 7ص: 77و ما بعدها .و تذكرة الحفاظ ، حققه حمدي السلفي ، ط1 الرياض ، دار الصميعي ، 1415ه ،ج 1ص: 379، 380، 392 .و احمد بن عبد الله العجلي : معرفة الثقات ، حققه عبد العليم البستوي ، ط1 المدينة المنورة ، مكتبة الدار ، 1985 ، ج2ص: 328.(18/50)
و هناك رواية صحيحة ذكرها ابن سعد و البخاري ، فيها اقتراح و تخيير و ترج ، من عثمان لأبي ذر –عندما جاءه مشتكيا- بالاعتزال و البعد عما هو فيه ، فاختار الخروج إلى الربذة ؛ و ليس فيها أنه أهانه و نفاه إلى الربذة .و موجز الرواية هو أن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر –رضي الله عنه- فقلت له : ما أنزلك منزلك هذا ؟ فذكر له أنه لما استقدمه عثمان من الشام إلى المدينة ، كثر الناس عليه بها كأنهم لم يروه قبل ذلك ؛ ثم قال له أبو ذر : (( فذكرت ذاك لعثمان، فقال لي : إن شئت تنحيت فكنت قريبا . فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ، و لو أمّروا علي حبشيا لسمعت و أطعت ... )) (1) .
و لا تناقض بين ما قررناه هنا ،و بين ما ذكرناه سابقا ، من أن أبا ذر هو الذي أستأذن عثمان للخروج إلى الربذة ، و لم يجبره على الخروج إليها ؛ لأن ما ذكرته رواية البخاري و ابن سعد هو تصوير لجانب ما جرى بين الرجلين ، و هو يندرج ضمن السياق العام لما جرى بينهما . فيبدو أن أبا ذر لما شكا لعثمان ما لقيه من مضايقات – من جراء إقبال الناس عليه – ناقشه في الأمر و اقترح عليه حلولا ، الأمر الذي جعل أبا ذر يفكر في الأمر جيدا ،و يتخذ قرارا نهائيا بالخروج إلى الربذة ، فأستأذن عثمان للخروج إليها ، فأذن له و توجه إليها . و مما يؤكد هذا الاحتمال هو أن الروايات الصحيحة السابقة الذكر ، قد نصت صراحة على أن عثمان لم ينف أبا ذر إلى الربذة ،و إنما هو الذي خرج إليها طواعية ، بعدما استأذن عثمان في الخروج إليها .
__________
(1) البخاري: الصحيح ، ج 2 ص:509 .و ابن سعد : الطبقات ج 4 ص: 226 .(18/51)
و مما يزيد في إثبات أن أبا ذر خرج إلى الربذه باختياره دون إكراه من عثمان ، أنه جاء في حديث صحيح الإسناد ، أن أم ذر قالت : ما سيّر عثمان أبا ذر إلى الربذة ، و لكن رسول الله –صلى الله عليه و سلم- قال له : (( إذا بلغ البناء سلعا فاخرج عنها –أي عن المدينة- )) (1) . فلأبي ذر أمر من النبي -عليه الصلاة و السلام- بالخروج من المدينة إذا كثر عمرانها ، جاء متزامنا مع رجوعه إلى المدينة ،و إقبال الناس عليه على إثر خلافه مع معاوية بن أبي سفيان ، في قضية بيت المال و اكتناز الأموال . فكل ذلك جعل أبا ذر يدرك أن أمر الرسول بالخروج من المدينة قد حان أوانه ، دون أن يكرهه عثمان عليه .و في هذا الأمر يقول الحافظ ابن عساكر : (( و لم يُسيّر عثمان أبا ذر ، و لكنه خرج هو إلى الربذة ، لما تخوّف الفتنة التي حذره النبي- صلى الله عليه و سلم- ، فلما خرج عُقيب ما جري بينه و بين أمير المؤمنين عثمان ، ظن –بضم الظاء- أنه هو الذي أخرجه )) (2) .
__________
(1) الحاكم النيسابوري : المستدرك على الصحيحين ج 3ص: 387 .و الذهبي: سيّر أعلام النبلاء ج 2 ص: 72
(2) تاريخ دمشق ، دم ، دن ، دت ، ج 66 ص: 202 .(18/52)
و أما ما رواه الحافظ عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، أن الرسول -عليه الصلاة و السلام- قال لأبي ذر : (( كيف بك إذا أخرجوك من المدينة ؟ قال : آتي الأرض المقدسة . قال: فكيف بك إذا أخرجوك منها ؟ قال : آتي المدينة . قال : كيف بك إذا أخرجوك منها ؟ قال: آخذ سيفي فأضرب به ، قال : فلا و لكن اسمع و أطع و إن كان عبدا )) ، ثم تضيف الرواية أن أبا ذر لما خرج إلى الربذة وجد عبدا يصلي بالناس ، فصل خلفه ، وأقره في مكانه عندما أراد الانسحاب حين أحس به (1) . فهذا الحديث ظاهر إسناده صحيح ، لأن رجاله ثقات معروفين .و فيه تصريح بأن أبا ذر يخرج – بضم الياء و تسكين الخاء و فتح الراء- من المدينة . لكن يجب فهمه في إطار الحديث الصحيح الآنف الذكر ، و الروايات الصحيحة السابقة ، و عليه فيمكن القول أن هذا الحديث فيه إخبار بأن أبا ذر سيجد معارضة في المجتمع ، من جراء دعوته لمذهبه المتشدد ، عندما أوجب على الناس الزهد ، و حرّم على الأغنياء كنز الأموال و إن أدوا زكواتها (2) . فمقاومة بعض الناس له ،و عدم موافقة كثير من الصحابة له في موقفه هذا ، هو نوع من المقاومة و الإخراج له ، لكنه ليس إخراجا فيه الظلم و الحيف و الإهانة ، كما زعمته الروايات المغرضة الباطلة ، لذا أمره رسول الله – عليه الصلاة و السلام-بالعزلة و الخروج و عدم المقاومة دفعا للفتنة ، لأن مذهبه إن صلح له و للزهاد ، فإنه لا يصلح لعامة الناس . كل ذلك دفعه إلى اختيار العزلة و الخروج من المدينة إلى الربذة بإرادته ، دون إكراه من عثمان . و هذا هو الذي صرّحت به رواية عبد الرزاق ، فعندما ذكرت الحديث ، قالت أن أبا ذر خرج إلى الربذة ،و لم تقل أنه أُخرج أو نُفي إليها .
__________
(1) مصنف عبد الرزاق ، حققه حبيب الأعظمي، ط2 بيروت ، المكتب الإسلامي، 1403 ،ج 2 ص: 381 .
(2) ابن تيمية : منهاج السنة ، ج6 ص: 272 و ما بعدها(18/53)
و أما الخطأ الثاني فيتعلق باليهودي المتمسلم عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء ، أحد أقطاب رؤوس الفتنة و الضلال ، و ذلك أن الجابري قال : إن روايات سيف بن عمر التميميي عن عبد الله بن سبأ ، ذكرت أنه جاء إلى المدينة مع الثوار (سنة35ه) ، ثم اختفى نهائيا ، و لا تعود رواياته-أي سيف - تذكره (1) .
و قوله هذا غير صحيح تماما ، لأن الطبري ذكر ابن سبأ في موضعين أثناء معركة الجمل سنة 36هجرية ، باسم عبد الله بن السوداء برواية سيف بن عمر (2) .و أشار إليه باسم جماعته الحركية المعروفة بالسبئية ، فذكرها في سنة 35، و 36 ، و 37 هجرية عدة مرات برواية سيف بن عمر التميمي ، منها قوله : (( فتذمرت السبئية و الأعراب ))، و (( صاحت السبئية )) ، و ذكر أن أصحاب الجمل أجمعوا على المطالبة بدم عثمان و قتال السبئية (3) .
و ذكرها أيضا باسم السبئية برواية الأخباري الشيعي أبي مخنف لوط بن يحيى ، ذكرها في سنتي 43 ، 66 هجرية (4) . مما يُشير إلى أن جماعة عبد الله بن سبأ لم يتوقف نشاطها بعد مقتل علي بن أبي طالب ، و إنما واصلته و كانت معروفة باسمها الحركي : السبئية .
و الخطأ الثالث –من المجموعة الثالثة- يتعلق بموقف علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- من قضية رفع المصاحف و التحكيم في موقعة صفين سنة 37 هجرية ، فقد ذكر الجابري أن عليا قبل التحكيم مجبرا ، بسبب ضغوط تيار واسع من جيشه كان يرغب في تجنب الحرب ، فكان الخوارج قد قبلوا التحكيم أولا ، ثم رفضوه و اتهموا عليا بالكفر ثانيا (5) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 176 .
(2) تاريخ الطبري ، ج 3 ص: 32 ، 39 .
(3) انظر تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 702، ج 3 ص: 4 ، 9 ، 40 ، 43 ، 59 ، 60 .
(4) نفس المصدر ، ج 3 ص: 184 ، 443 ، 655 .
(5) العقل السياسي ، ص: 122 ، 154 ، 256 .(18/54)
و هو هنا قد أخطأ ، لأنه اعتمد على رواية مشهورة ، لكنها غير صحيحة إسنادا و لا متنا ، فمن حيث الإسناد إنه اعتمد على نصر بن مزاحم فيما ذكره عن موقعة صفين في كتابه وقعة صفين ،و على الطبري في روايته المشهورة عن وقعة صفين (1) . فالأول قال فيه علماء الجرح و التعديل : شيعي ، كثير الخطأ ، مضطرب الحديث ، كذاب متروك، رافضي مغال ، ليس بثقة و لا بمأمون (2) .
و الثاني –أي الطبري- هو ثقة لكنه اعتمد على الأخباري أبي مخنف لوط بن يحيى ، الذي قال فيه نقاد الحديث : إنه شيعي مُحترق صاحب أخبارهم ، و أخباري تالف لا يُوثق به، و ضعيف ليس بشيء و لا بثقة (3) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 122 ، 257 . و تاريخ الطبري ، ج 3 ص: 101 و ما بعدها .
(2) العقيلي : الضعفاء ، ج 4 ص: 300 . و ابن حجر: اللسان ، ج 6 ص: 157 .
(3) ابن حجر: نفس المصدر ، ج 4 ص: 492 .(18/55)
و أما متنا فهي رواية تحمل وجهة نظر الشيعة ، تخالفها وجهة نظر الخوارج الذين يرون أن عليا رفض الموافقة على التحكيم ، لكنه أُجبر على قبوله بسبب ضغوط اليمنيين على رأسهم الأشعث بن قيس (1) . فكل طرف يُحمل الطرف الآخر المسؤولية ،و يزعم أن عليا لم يقبل الصلح ، لكي لا يُظهره بأنه كان يرد الصلح مع أهل الشام ،و إنما أُجبر على الموافقة ، إما بضغوط من الخوارج و إما بضغوط من الشيعة اليمنية . لكن الصحيح ليس كما قاله الشيعة و لا الخوارج ، و إنما هو ما صحّ في الخبر من أنه لما أرسل أهل الشام بمصحف إلى علي ، و دعوه إلى الاحتكام إليه و قالوا له : بيننا و بينكم كتاب الله : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} - سورة آل عمران/23-، قال علي : نعم أنا أولى بذلك ، بيننا و بينكم كتاب الله ، فجاءه القراء –أي الخوارج فيما بعد- و أنكروا عليه فعلته (2) . فعلي-رضي الله عنه- قبل التحكيم من تلقاء نفسه ، تماشيا مع ما يُوجبه الشرع ، من الرجوع إلى الكتاب و السنة عند التنازع ، من دون أي ضغوط من الشيعة اليمنية ، و لا من القراء الخوارج .
__________
(1) أبو إسحاق إطفيش : الفرق بين الإباضية و الخوارج، د ن ، د م ن ، د ت ، ص : 7 ، 8 . و سليمان بن داود بن يُوسف : الخوارج هم أنصار الإمام علي ، دار البعث ، الجزائر ، 104 ، 105 .
(2) البخاري: الصحيح ، كتاب التفسير ،ج3 ص: 1832 . و ابن كثير : البداية ، ج 7 ص: 291 . و أحمد بن حنبل : المسند ، ج 3 ص: 485 . و محمد أمحزون : تحقيق مواقف الصحابة ، ج 2 ص: 216-217 .(18/56)
و أما المقولة التي ذكرها الجابري ، و نسبها إلى الحسن البصري في تأنيبه لعلي عندما قبل التحكيم ،و التي تقول : (( لم يزل أمير المؤمنين علي رحمه الله يعرف النصر ، و يُساعده الظفر حتى حَكّمَ ، فَلِمَ تُحكّم و الحق معك ؟ ، ألا تمضي قُدما ، لا أبا لك و أنت على الحق)) (1) . فهي مقولة أشار الجابري إلى أنه أخذها من كتاب الكامل لأبي العباس الُمبرد (2) ، من دون أن يُحققها . و قد بحثتُ عنها في كتب التواريخ و التراجم ، و الرجال و الأدب فلم أجدها إلا عند المُبرد في الكامل ذكرها بلا إسناد (3) . لذا فنحن لا نقبلها لأنها رواية فقدت شرطا أساسيا من شروط صحة الخبر من جهة ، و لأنها تتعلق بأمر له أهميته من جهة ثانية ، و لأنها وردت في كتاب أدب و لغة من دون توثيق من جهة ثالثة .
و أما الخطأ الأخير – الرابع من المجموعة الثالثة- فيتعلق بالصحابي عبد الله بن عباس –رضي الله عنه- ، فذكر الجابري –نقلا عن الطبري- أنه لما كان عبد الله بن عباس واليا على البصرة لعلي و حدث بينه و بين أبي الأسود الدؤلي نزاع ، كتب هذا الأخير إلى علي يتهم ابن عباس بالإنفاق على نفسه من بيت المال ؛ فكتب إليه علي يطلب منه أن يُخبره بما حدث ، فنفى ابن عباس أن يكون صرف شيئا من بيت المال ، فشدد علي الخناق عليه ، فغضب و جمع ما في بيت مال البصرة ، ثم دعا أخواله ، فاجتمعت معه قيس كلها و حمل المال تحت حمايتهم ، و ذهب به حتى وصل مكة و استقر بها (4) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 191 .
(2) نفسه ، ص: 191 .
(3) الكامل للمبرد ، ج 1 ص: 244 .
(4) العقل السياسي ، ص: 211 .(18/57)
و الجابري قد أخطأ هنا في اعتماده على هذه الرواية من دون تشكيك و لا تحقيق لها ، فهي رواية لا تصح إسنادا ، و مُستنكرة و مُستبشعة متنا . فأما إسنادا فإن الطبري قال في إسنادها : (( حدثني عمر بن شبة قال : حدثني جماعة عن أبي مخنف عن سليمان بن أبي راشد ، عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود، قال ... )) (1) .و إسناده هذا فيه مجاهيل و ضعيف ، فأما المجاهيل فهم الجماعة الذين حدث عنهم عمر بن شبة ، فلا نعرف عنهم شيئا ، فهم مجهولو الذوات و الأحوال . و منهم أيضا سليمان بن أبي راشد ، و عبد الرحمن بن عبيد ، فهم في عداد المجهولين على ما يبدو ، فقد بحثت عنهما طويلا في كتب، و الجرح و التعديل التواريخ و التراجم ، فلم أعثر على أي جرح و لا تعديل يتعلق بهما . و أما الضعيف فهو أبو محنف لوط ، قال فيه نقاد الحديث : : إنه شيعي مُحترق صاحب أخبارهم ، و أخباري تالف لا يُوثق به، و ضعيف ليس بشيء و لا بثقة (2) ، و رجل هذا حاله لا تُقبل روايته ، خاصة و أنها تتعلق بخبر يتفق مع مذهبه ، و فيه طعن في ابن عباس و العباسيين من بعده ،و هو يندرج ضمن العداء القائم بين العباسيين و العلويين في صراعهم المرير على الملك .
و أما متنا ، فهو متن مُستبعد تماما و مُستنكر جدا ، لأن عبد الله بن عباس الصحابي الجليل القدر ، المشهود له بالإيمان و العلم و العمل الصالح ، لا يٌقدم على ذلك العمل الذي هو خيانة للمسلمين في أموالهم و أماناتهم ،و هو عمل لا يصدر عن عوام المؤمنين فكيف يصدر عن خواصهم ؟ ! . لذا فهو اتهام باطل افتراه بعض رواة الخبر المجروحين الذين أشرنا إليهم في نقدنا للإسناد .
__________
(1) الطبري : التاريخ ، ج 3 ص : 154 .
(2) ابن حجر: نفس المصدر ، ج 4 ص: 492 .(18/58)
و ختاما لما ذكرناه ، يتبين أن أخطاء الجابري المتعلقة بالصحابة و الفتنة الكبرى كانت كثيرة جدا ، ذكرناها في المبحثين السابقين ، فما هي الأسباب التي أوقعته في ذلك ؟ . تبين لي مما ذكرناه في ردودنا عليه ، أن الأسباب التي أوقعته في تلك الأخطاء ، تعود أساسا إلى أربعة أسباب رئيسية ، أولها عدم تبني الجابري لمنهج تاريخي نقدي تمحيصي يجمع بين نقد الأسانيد و المتون معا ، في تعامله مع الروايات الحديثية و التاريخية .
و السبب الثاني يتمثل في عملية الانتقاء التي مارسها الجابري في تعامله مع الأخبار من دون تحقيق في الغالب الأعم ، فكان يأخذ الرواية التي ينتقيها و يترك الروايات التي تخالفها ، مع عدم توسيع مجال البحث عن الروايات في مختلف المصنفات .
و السبب الثالث يتمثل في مبالغة الجابري في تضخيم دور عاملي القبيلة و الغنيمة ، في صنع حوادث الفتنة الكبرى على حساب عوامل أخري ، معتمدا على روايات غير صحيحة في معظم الأحيان .
و آخرها-أي السبب الرابع- يتمثل في إهمال الجابري لمصادر تاريخية و حديثية هامة و كثيرة ، ذكرنا طائفة منها في ردودنا على أخطائه الحديثية و التاريخية . و في مقابل ذلك وجدناه يعتمد اعتمادا أساسيا على كتابين مطعون فيهما ، هما : الإمامة و السياسة لمؤلف مجهول ، و تاريخ الطبري للطبري ، و قد استخدمهما بلا نقد و لا تمحيص في الغالب الأعم .(18/59)
و لكن العجيب و الغريب في الأمر أن الجابري مع كثرة أخطائه ،و خطورة أفكاره و أرائه المتعلقة بالصحابة و الفتنة الكبرى ، فإنه قال كلاما خطيرا جدا و غير مسؤول تماما ، عندما ذكر أنه كتب كتابه العقل السياسي العربي (1) بطريقة تُبرئ الكاتب ،و تُحمل القارئ مسؤولية فهم ما يُريده .و إنه حاول الاقتصار على عرض المادة و النصوص ، فكان دوره دور المهندس ، يبني من دون أن يتدخل ، لا كصاحب نظرية ،و لا كصاحب تأويل مسبق .و قال أيضا : إنه جمع في كتابه العقل السياسي مادة تجعله مقبولا عند كل التيارات الفكرية ، لأن كلا منها ستجد ما يُعبر عن مطامحها ثم قال : (( إن آراء القارئ لا تُلزمني ، ما دام الكتاب حمال أقوال يضع القارئ في حرج مع نفسه ، حتى و لو كان القارئ هو المؤلف نفسه )) (2) .
و ردا عليه أقول : إن كلامه هذا مرفوض جملة و تفصيلا ، لأنه لا يصح شرعا و لا عقلا أن يكتب مؤلف ما كتابا يطرح فيه آراءه و يرد فيه على مختلف التيارات ، ثم يقول في النهاية بأنه غير مسؤول عما كتبه ، فمن المسؤول إذاً ؟ و من الذي يتجمل تبعات ما كتب ؟ . إنه هو المسؤول الوحيد عن كل ما كتبه فيه ، و لا ينفع الفرار ، و لا الاختفاء ، و لا التملص ، سواء اعترف بذلك أم لا .
و ثانيا إن كتابه العقل السياسي لم يكن حمال أقوال فقط ، كما زعم الجابري ، و إنما كان أيضا حمال كثير من الآراء و التحليلات ،و الأخطاء و الشكوك ، و الشبهات و الاتهامات ، و الدعاوى و المطاعن التي طعن بها في أعيان الصحابة ، بلا دليل صحيح .
__________
(1) هو الذي تناول فيه بتوسع تاريخ صدر الإسلام ،و تاريخ الصحابة و الفتنة الكبرى .
(2) التراث و الحداثة ، ص: 339 .(18/60)
و ليس صحيحا بأن دوره في كتابه العقل السياسي كان كدور المهندس ، فإنه في الحقيقة قد تعدى ذلك بكثير ، ليقوم بدور الناقد المحلل ، و المذهبي المتحيز ، و المُتهِم بلا دليل صحيح ، كاتهامه لبعض كبار الصحابة بالظلم و التآمر و الانحراف عن الشرع ، فكانت له بذلك جرأة على الباطل تجاوز بها دور المهندس و الباحث المحايد معا .
و ليس صحيحا أيضا ، ما ادعاه الجابري بأن كتابه العقل السياسي كان مقبولا عند كل التيارات ، فهو إن كان مقبولا عند العلمانيين و المنحرفين و الطاعنين في الصحابة ، فهو مرفوض عند المؤمنين الصادقين فيما يتعلق بالأخطاء الكثيرة المتعلقة بالإسلام و الصحابة و الفتنة الكبرى .
ثالثا : الأخطاء التاريخية المتعلقة بالطوائف الإسلامية :
يتضمن هذا المبحث طائفة من الأخطاء التاريخية المتعلقة بالطوائف الإسلامية ، وقع فيها الباحثان محمد أركون و محمد عابد الجابري ، أكثرها من أخطاء هذا الأخير . فبالنسبة لأخطاء أركون فأولها يتمثل في قوله بأن محنة خلق القرآن (( حصلت ضد المذهب الحنبلي ،و زعيمه أحمد بن حنبل )) (1) .
__________
(1) أركون : القرآن ، ص: 11 .(18/61)
و قوله هذا غير صحيح جملة و تفصيلا ، و كلام بلا علم ، لأنه أولا لم يُوثق قوله ،و كان عليه أن يُوثقه ، لأن المنهجية العلمية تفرض ذلك عليه .و هو قول لا أساس له من الصحة ، لأن محنة خلق القرآن فرضها المعتزلة بزعامة الخليفة المأمون ، على أهل السنة كلهم من دون استثناء ، لذا وجدناه يمتحن علماء أهل السنة من محدثين و فقهاء ، و قضاة و أعيان ، من دون تفريق . و قد فرضها عليهم ببغداد و العراق و مصر و غيرها من الأقاليم ، و مات بسببها طائفة من علماء أهل السنة ، كأحمد بن نصر الخُزاعي ، و البويطي ، و نُعيم بن حماد (1) . و عُذب بسببها آخرون أشد العذاب ، كأحمد بن حنبل ، و محمد بن الحكم المصري ، و أبو جعفر هارون الإبلي المصري (2) .
و ثانيا إنه عندما فرض المأمون على أهل السنة القول بخلق القرآن سنة 218هجرية ، لم يكن أحمد بن حنبل قد اُشتهر بعد، وإنما المحنة هي التي شهرت به عندما صمد فيها. كما أن مذهبه لم يكن تكوّن أصلا ، و لا طائفته الحنبلية قد ظهرت بعد ،و إنما تمّ ذلك بعد وفاة أحمد(ت241ه) ، على أيدي تلامذته و أتباعهم (3) . و بناء على ذلك فلا يصح ما ادعاه أركون ، لأن زعمه يعني أن المأمون فرض المحنة على جماعة لم تظهر بعد إلى الوجود .
__________
(1) ابن كثير : البداية ، ج 10 ، ص: 305، 335 .
(2) القاضي عياض : ترتيب المدارك، ج 1 ص: 269 ، 359 .
(3) أنظر : أبو الحسين بن أبي يعلى : طبقات الحنابلة ، حققه محمد حامد الفقي ، مطبعة السنة المحمدية ، القاهرة ، 1962 ، ج 1 ص: 7 . و الذهبي: السير ، ج 14 ص: 298 . و ابن الجوزي: مناقب الإمام أحمد ، ط3 ، دار الأفاق الجديدية ، بيروت ، 1982 ، ص: 512 . و بدر الدين الحنبلي: مختصر فتاوى ابن تيمية ، ص: 14 . و ابن كثير : البداية ، ج 11 ص: 278 .(18/62)
و الخطأ الثاني يتعلق بقوله : إن جابر بن زيد(ت93أو 103ه) هو من مؤسس المدرسة اللاهوتية القانونية الخارجية (1) . و قوله هذا غير ثابت و فيه تعميم لا يصح ، فبخصوص التعميم فإن جابرا ليس هو مؤسس المدرسة الخارجية عامة ، و إنما هو مؤسس المدرسة الإباضية على ما يقوله الإباضيون .و أما الخوارج فهم عدة فرق ، و لهم مؤسسون كثيرون ، كنافع ابن الأزرق(ت65ه) مؤسس طائفة الأزارقة ، و نجدة بن عامر(ت169ه) زعيم طائفة النجدات ، و زياد بن الأصفر زعيم الصفرية (2) .
و أما القول غير الثابت ، فهو قوله بأن جابر بن زيد من مؤسسي المدرسة الخارجية ، و يقصد الإباضية ، مسايرا ما يقوله الإباضيون . فهو هنا تكلم بلسانهم ،و لم يتكلم بلسان الباحث الموضوعي المُحايد ، لأن دعوى الإباضية غير ثابتة ،و غير مُسلم بها تاريخيا ، لأنه يُوجد ما يناقضها . لذا كان عليه أن يُشير إلى ما قاله هو و الإباضية ،و يذكر ما يخالفه من الأقوال ،و يُحقق في الأمر إن استطاع إلى ذلك سبيلا .
__________
(1) الفكر الإسلامي ، ص: 23 .
(2) الشهرستاني: الملل و النحل ، ج 1 ص: 137، 141 ، 159 .(18/63)
و بناء على ذلك فنحن نقول: إنه صحّ الخبر (1) بأن جابر بن زيد قد تبرأ من الإباضية ، و من خوارج النهر (2) .و قد عدّه السنيون منهم ، فوثقوه ،و شهدوا له بالعلم و الاستقامة ،و رووا حديثه و فقهه في مصنفاتهم ،و ترجموا له في مؤلفاتهم (3) .و بما أن الرجل هذا هو حاله ، فلا يصح للإباضية الانتساب إليه،و لا لغيرهم أن ينسبه إليهم.
و أما الخطأ الأخير –أي الثالث- فيتعلق بأهل السنة ، فقال : إن السنيين مثلا احتكروا (( كليا مفهوم الإسلام لصالحهم ))، لكثرتهم و سيطرتهم السياسية ، لكننا (( لا نستطيع إطلاقا أن نقول بأنهم مُتفوقون من الناحية اللاهوتية –الدينية- على بقية المذاهب و الفرق التي ظهرت في القرون الهجرية الخمسة الأولى ، فهم معنيون بالاعتراضات نفسها من الناحية التاريخية .و الخلل نفسه في المصادر ،و الضياع الأبدي نفسه للوثائق الأولى ، مثلهم في ذلك مثل بقية الطوائف أو المذاهب)) (4) .
__________
(1) رجاله هم : عبد الصمد بن عبد الوارث، و همام بن سعيد، و ثابت البناني ، و هؤلاء كلهم ثقات. ابن حجر: التقريب، ج 1 ص: 132 ، 356، 547 . و الذهبي : الكاشف ، ج 1 ص: 653 .
(2) ابن سعد : الطبقات الكبرى ، ج 7 ص: 182 . و المزي: تهذيب الكمال ، ج 4 ص: 434 . و ابن كثير : البداية ، ج 9 ص: 95 .
(3) أنظر مثلا : المزي: نفس المصدر ، ج 436، 437 .و ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 25 ص: 15 ، 18 . و ابن كثير: نفس المصدر ، ج 9 ص: 14 .
(4) الإسلام ، أوروبا ، ص: 98-99 .(18/64)
و قوله هذا فيه تغليط ،و افتراء على الحقيقة ، لأن قول أهل السنة بانهم يحتكرون الإسلام لصالحهم ، هذا نابع من اعتقادهم بأنهم على الحق ،و هذا ليس خاصا بهم ، فكل فرقة من الفرق تدعي أنها على حق و صواب ، و غيرها على باطل و انحراف ، و هذا يصدق أيضا على أصحاب الأديان الأخرى فيما بينهم. و الإنسان يستطيع أن يُميز بين الحق و الباطل ، إذا تسلّح بالعلم و الإخلاص ، و الموضوعية و الحياد ، لكن أركون ليس من هذا الصنف ليستطيع التمييز بين الحق و الباطل ، لذا زعم أن المذهب السني –الذي كان عليه الصحابة و السلف الصالح- لا يختلف عن المذاهب الأخرى ،و هذا افتراء على الحقيقة ، لأن المذهب السني هو المذهب الوحيد الذي ينسجم تمام الانسجام مع القرآن الكريم ، في أصول الدين و فروعه ، كمسألة الصحابة ،و الصفات ، و الإيمان ،و غير ذلك، و أما المذاهب الأخرى فلا تقوم أساسا على القرآن ،و إنما تقوم على روايات و أقاويل شيوخها أولا ، و ثم تنظر في القرآن و تتعامل معه من خلال تلك الأقوال و الروايات ثانيا ، مُستخدمة التأويل البعيد و الفاسد ،و التحريف المتعمد للنصوص الشرعية ،و الانتقاء المُبيت في التعامل معها . و بناء على ذلك فإن هذه المذاهب باطلة لأنها لا تنبع من القرآن و لا تتفق معه .(18/65)
و أما حكاية الضياع الأبدي للوثائق الأولى ، فكان عليه أن يذكر لنا أمثلة ، لأن كلامه هذا مُجمل فيه حق و باطل، و يحتمل عدة تأويلات ، فكان عليه أن يُحدد لنا بدقة ما يُريد ، لكنه لم يفعل ذلك جريا على طريقته و عادته في التغليط وإثارة الشكوك و الشبهات . و لكننا مع ذلك نقول: إذا كان يقصد النُسخ الأصلية التي كتبها أصحابها و لم تصلنا بنسخها الأصلية ،و لا منسوخة عن الأصل ، فهذا صحيح بأنه ضياع.و أما إذا قصد الُنسخ الأصيلة التي وصلتنا محفوظة في الصدور ، و موثقة و منسوخة في الكتب ، فهذا ليس ضياعا أبدأ ،و إنما هو الوسيلة الوحيدة المأمونة للمحافظة على القرآن و السنة و التراث الفكري الإسلامي ، و أغلب الظن أن أركون يقصد المعنى الثاني ليصل إلى الطعن في مصدرية القرآن و السنة ، و التراث العلمي الإسلامي .
و أما أخطاء الجابري التاريخية المتعلقة بالطوائف الإسلامية ، فسأذكر منها ستة أخطاء ، أولها إنه ادعى أن محمد الباقر و ابنه جعفر الصادق، هما من أئمة الشيعة الإمامية ، و يُعد جعفر الصادق الإمام الشيعي الأكبر الذي كان مسالما لأهل السنة ، و هو الذي أشرف على تنظيم الفكر الشيعي ،و صياغة قضاياه صياغة نظرية للرد على السنيين و المعتزلة و غيرهم . و كان والده محمد الباقر يحصر الإمامة في ذرية جده الحسين ،و عليه فهو الإمام بعد أبيه زين العابدين (1) .
__________
(1) تكوين العقل العربي، ص: 63، 220 . و بنية العقل ، ص: 319 ، 320 ، 326 . و العقل السياسي ، ص: 246 .(18/66)
و ردا عليه أقول: بداية يجب أن لا يغيب عنا أن معنى الإمام عند الشيعة الإمامية لا يعنى مجرد عالم يفتي للناس و يصلي بهم ،و يُؤلف الكتب ، و إنما الأمر عندهم أكبر من ذلك بكثير ،و هم يذكرون ذلك في مصنفاتهم . فالأئمة الاثنى عشر الذين يُؤمنون بهم ، هم في درجة الأنبياء أو أكثر ، فهم معصومون من الخطأ ،و كلامهم شرع و مقدس يجب الأخذ به، و هم يعلمون ما كان و ما سيكون ، و الإيمان بهم واجب ،و من أنكر إمامتهم أو إماما واحد منهم فهو كافر (1) .
و أما ما قاله الجابري عن الباقر و جعفر و جده زين العابدين ، فهو قول غير ثابت و لا يصح تاريخيا ،و الجابري عندما قال ذلك لم يكن حياديا و لا موضوعيا ، لأنه أولا تكلم بلسان الشيعة الإمامية المُصَدِق لها فيما ادعته ، و لم يتكلم بلسان أهل السنة ،و لا بلسان الباحث المحايد، و لا بلسان الباحث الشاك المرتاب فيما يكتب ، فكان ناقلا لما قالته الشيعة بلا شك و لا نقد و لا تمحيص ، و بما أنه تكلم بلسانهم فنقول له : إن ما ذكرته غير ثابت تاريخيا و لا يصح، و هناك شواهد كثيرة تخالفه و تنقضه.و أما إذا زعم أنه تكلم بلسان الباحث المُحايد، فنقول له: هذا غير صحيح ، لأن كلامك الذي قلته شاهد عليك ، بأنك نقلت كلامهم من دون نقد و لا تشكيك ، و لا ذكر لموقف أهل السنة ،و لا لرواياتهم و أخبارهم عن آل البيت .
__________
(1) الكليني: الكافي من الأصول ، ج 1 ص: 185، 187 ، 258 .(18/67)
و ثانيا إن الشواهد الصحيحة و الضعيفة التي تنقض ما ذكره الجابري كثيرة جدا ، منها إن حكاية الإمامة و الأئمة هي حكاية مُختلقة، لأنه لا وجود لها في القرآن أصلا ، و من ثم لا يمكن أن يكون آل البيت يُؤمنون بها لأنها مُختلقة و لا وجود لها في القرآن الكريم . و الشاهد الثاني هو أنه لو كان محمد الباقر و ابنه جعفر و باقي آل البيت على مذهب الشيعة الإمامية ، لذكر ذلك عنهم أهل السنة في مصنفاتهم ،و لَما جعلوهم من علماء أهل السنة ، و لَما استشهدوا بهم في الحديث و الفقه و العقائد، و لا ما حدثوا عنهم ، و لَما اثنوا عليهم الثناء الحسن (1) .
__________
(1) أنظر مثلا :ابن كثير: تفسير القرىن العظيم، ج 1 ص: 23 ، ج 4 ص: 22 . و البداية و النهاية ، ج 9 ص: 360 . و ابن حجر: الفتح ، ج 2 ص: 262 . و البيهقي : الاعتقاد ، ط1 ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، 1401 ، ص: 107 . والذهبي: السير ، ج 6 ص: 256، 270 و ما بعدها . و تذكرة الحفاظ، ج 1 ص: 124 ، 125 . و ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 2 ص: 245 ، 473 .(18/68)
و الشاهد الثالث هو أنه لو كان آل البيت يقولون بالإمامة و الوصية ، ما نقل عنهم أهل السنة عكس ذلك تماما ، فقد صحت الأخبار بأن عليا-رضي الله عنه- ما قال بالإمامة و لا ادعى الوصية ، و هذا أمر سبق إثباته و توثيقه . و نفس الأمر رُوي عن كبار آل البيت ، فمحمد الباقر لم يكن على مذهب الإمامية و لا على طريقتهم ،و كان يُعظم الشيخين (1) . و ابنه جعفر الصادق ذكر الذهبي أنه كان يقول: (( من زعم إني إمام معصوم مُفترض الطاعة ، فأنا منه بريء )) ، و (( إنا و الله لا نعلم كل ما يسألوننا عنه ،و لغيرنا أعلم منا )) (2) .و ذكر ابن حجر الهيثمي أن عمر بن علي بن الحسين-أخ الباقر- أنكر أن يكون النبي-عليه الصلاة و السلام- أوصى لعلي ثم لأبنائه كالحسن و الحسين إلى محمد الباقر . و قال عن والده زين العابدين : (( فوالله ما أوصى أبي بحرفين اثنين ، فقاتلهم الله )) (3) ،و يعني الشيعة الذين يكذبون علي آل البيت .
__________
(1) ابن كثير: البداية ، ج 9 ص: 160 .
(2) سير أعلام النبلاء، ج 6 ص: 260 .
(3) ابن حجر الهيثمي : الصواعق المحرقة ، ج 1 ص: 164 .(18/69)
و أما الشاهد الرابع فيتمثل في أنه لو كان آل البيت يقولون بالوصية و الإمامة كما يزعم الشيعة الإمامية ، لأنكروا على الصحابة بيعتهم للشيخين أبي بكر و عمر ، و لأنكروا أيضا خلافتهما ،و لَما أثنوا عليهما الثناء الحسن ؛ فعلي بن أبي طالب اعترف بإمامة الشيخين ،و صحّ عنه أنه كان يُعلن أما الملأ أن أفضل الناس بعد الرسول-صلى الله عليه و سلم- أبو بكر و عمر (1) . و كانت الشيعة السياسية الأولى التي كانت مع علي في الجمل و صفين، تفضل الشيخين على علي نفسه (2) . و رُوي أن محمد الباقر قال (( أجمع بنوا فاطمة-رضي الله عنهم- على أن يقولوا في الشيخين أحسن ما يكون من القول (3) .و قال أيضا : (( ما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا يتولاهما )) (4) . و رُوي أن جعفر الصادق لما أثنى على الشيخين ، قيل له : لعلك قلت ذلك تقية ، قال : أنا إذا من المشركين ،و لا نالتني شفاعة محمد)) (5) -عليه الصلاة و السلام- .
__________
(1) سبق توثيق ذلك .
(2) ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 4 ص: 132 .
(3) ابن حجر الهيثمي: المصدر السابق، ج 1 ص: 155 .
(4) ابن كثير : البداية ، ج 9 ص: 360 .
(5) ابن حجر الهيثمي: المصدر السابق ، ج 1 ص: 165 .(18/70)
و ذكر شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية أن النقل ثابت و متواتر عن جميع آل البيت من بني هاشم و التابعين من ولد الحسن و الحسين ،و غيرهما أنهم كانوا (( يُوالون أبا بكر و عمر ،و كانوا يُفضلونهما على علي )) (1) . وذكر المحقق الفقيه محمد بن علي الشوكاني اليمني أنه لما رأى الشيعة يسبون الصحابة ،و يكذبون عليهم ، ألف كتابا سماه إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي، ذكر فيه إجماعهم-أي آل البيت- من ثلاثة عشر طريقا على عدم ذكر الصحابة بسب أو ما يُقاربه ، فعل ذلك لكي يذب عن أعراض الصحابة الذين هم خير القرون ، و اقتصر على أقوال أئمة آل البيت ليكون ذلك أوقع في نفوس من يكذب على الصحابة (2) . و الشاهد من كلامه هو أنه لو كان الصحابة أنكروا إمامة آل البيت المزعومة ،ما اتخذ آل البيت ذلك الموقف منهم –أي من الصحابة - .
و الشاهد الأخير-أي الخامس – هو أنه لو كان آل البيت على مذهب الشيعة الإمامية لما أنكروا على الرافضة أقوالهم فيهم ،و لما اتهموهم بالكذب عليهم . فكان جعفر الصادق يغضب من الرافضة و يمقتهم ، إذا علم بأنهم يتعرضون لأبي بكر بالذم ، فكان ينكر ذلك ظاهرا و باطنا (3) .و كان أخ الباقر عمر بن زين العابدين ينكر على الشيعة القائلين بالوصية و يدعوا عليهم بقوله : قاتلهم الله (4) .
__________
(1) منهاج السنة ، ج 7 ص: 396 .
(2) الشوكاني : البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن، السابع ، دار المعرفة ، بيروت ، ج 1 ص: 233 .
(3) الذهبي: السير ، ج 6 ص: 255 . و ابن حجر الهيثمي: الصواعق المحرقة ، ج 1 ص: 162 .
(4) االهيثمي: نفس المصدر ، ج 1 ص: 164 .(18/71)
و أما بالنسبة للذين يكذبون على آل البيت ، فقد ذكر ابن تيمية أن (( الكذب على هؤلاء-أي آل البيت- في الرافضة أعظم الأمور ، لاسيما على جعفر بن محمد الصادق، فإنه ما كُذب على أحد ما كُذب عليه ، حتى نسبوا إليه كتاب الجفر و البطاقة ، و اختلاج الأعضاء، و جدول الهلال ،و أحكام الرعود ...)) (1) . و ذكر الناقد المحقق ابن قيم الجوزية عن بعض العلماء أن الرافضة-أي الشيعة الإمامية- و ضعت من فضائل علي و أهل بيته نحو 300 ألف حديث موضوع-أي مكذوب- ، ثم قال : إن هذا غير مُستبعد ، فلو تُتبع ما عند الرافضة من تلك الروايات لوُجد الأمر كذلك (2) .
و أما الخطأ الثاني فيتعلق ببداية تدوين العلوم عند المسلمين ، فعندما ذكر الجابري ما قاله أهل السنة عن ذلك ، أشار إلى أن الشيعة يدّعون بأنهم هم أول من دوّن العلوم، إذ تعود بداياته إلى زمن علي بن أبي طالب و ما بعده ، و ذكروا أن سلمان الفارسي أول من صنف في الآثار ،و أن أبا ذر الغفاري هو أول من صنف في الحديث و الآثار بعد المؤسسين ، و أن ابن أبي رافع المُتوفى في أول خلافة علي سنة 35 هجرية ، ألف كتابا عنوانه : السنن و الأحكام و القضايا ،و بذلك يكون هو الأقدم في التأليف بالضرورة . ثم ادعى الجابري أن الذهبي تكلم عن بداية العلوم عند السنة ، و سكت عن تدوين العلوم عند الشيعة سكوتا(( ليس صادرا عن سهو أو عن دافع شخصي ، بل هو في الحقيقة سكوت من جانب السلطة المرجعية المعرفية ، و الإيديولوجية ، التي ينتمي إليها الذهبي،و هي السلطة التي تُحد العقل المعرفي الإيديولوجي لأهل السنة كافة)) (3) .
__________
(1) منهاج السنة النبوية ، ج 2 ص: 464 .
(2) نقد المنقول ، ص: 105 .
(3) تكون العقل العربي ، ص: 64 .(18/72)
و قوله هذا خطأ من وجهين ، أولهما إنه صدّق ما نقله عن الشيعة من دون دليل و لا تحقيق ،و كذّب ما قاله أهل السنة من دون دليل و لا تمحيص أيضا .و ثانيهما إنه اتهم الذهبي بلا حجة و لا برهان ، و كان عليه أن يتحقق أولا مما ادعاه الشيعة قبل أن يأخذ برأيهم ، لأن ما قاله هؤلاء هو مجرد دعوى و ليس دليلا ، و الدعوى لا يعجز عنها أحد .و لكنه سايرهم و بنى على دعواهم فكرته غير الثابتة تاريخيا . علما بأن الذين نقل الجابري عن الشيعة بأنهم كانوا من أوائل الشيعة المؤلفين ، هو ادعاء غير ثابت تاريخيا ، بل و لا يصح ، لأن أبا ذر و سلمان و أبا رافع-رضي الله عنهم- هم كغيرهم من الصحابة الأجلاء ، كانوا كلهم على منهاج واحد ، لا رفض فيه و لا سبئية ، و تراجمهم موجودة في مصنفات أهل السنة ، تشهد على أنهم ما كانوا يؤمنون أصلا بفكرة الإمامة و لا الوصية و لا العصمة ،و إنما كانوا كعلي و آل بيته-رضي الله عنهم- لم يدعوا الإمامة و لا العصمة ، و كانوا يتولون الشيخين (1) .
و أما سكوت الذهبي فليس سببه ما زعمه الجابري من أنه أخفى الحقيقة لدوافع مذهبية ،و إنما هو دوّن ما وجده عن هؤلاء من دون خلفيات مذهبية ، لأنه عندما ترجم لأبي ذر و سلمان و أبي رافع ، وجدناه يذكرهم على أنهم صحابة أجلاء ، كغيرهم من الصحابة الكرام ،و لم يُترجم لهم على أنهم من الشيعة الإمامية ، كما يدعي الشيعة ، و إنما ذكر عنهم ما تيسر له من أخبارهم (2) .
__________
(1) سبق إثبات ذلك و توثيقه .
(2) أنظر مثلا : السير ، ج 1 ص: 505 و ما بعدها ، و ج 2 ص: 16 ، 46 .و تذكرة الحفاظ ، ج 1 ص: 17.(18/73)
و أُشير هنا إلى أن التدوين الذي قصده الذهبي هو التدوين المتعلق يتصنيف الكتب المنظمة الموجهة للعلماء و المتداولة بين أهل العلم ، و لم يقصد التدوينات الشخصية من مذكرات و تعليقات و صحف خاصة ، فهذا النوع من التدوين كان منتشرا بين علماء الصحابة و أهل العلم في زمانهم،و بعضه يعود إلى زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- ، كالصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- (1) .
و بذلك يتبن أن الجابري لم يكن موضوعيا و لا حياديا في موقفه من مسألة بداية التدوين عند السنة و الشيعة ، فصدّق ما نقله عن الشيعة بلا دليل و لا تحقيق ، و كذب السنيين بلا دليل و لا برهان، و اتهم الذهبي بلا حجة و لا بيان .
و الخطأ الثالث يتمثل في أن الجابري عندما نقل ما ادعاه الشيعة عن بداية التدوين عندهم ، كان مما نقله عنهم أنه قال :(( و ابن أبي رافع المُتوفى في أول خلافة علي حوالي 35 هجرية ، و قد ألف كتابا بعنوان : السنن و الأحكام ،و بذلك يكون أبو رافع ، و قد كان مولى للرسول ، هو أقدم في التأليف بالضرورة )) (2) .
و الجابري أخطأ هنا عندما لم يُفرق بين الأب و الابن ، فذكر: ابن أبي رافع، ثم قال: و بذلك يكون أبو رافع ... و هذا غير صحيح ، لأن الأب هو أبو رافع أسلم مولى النبي-عليه الصلاة و السلام- ، تُوفي في خلافة علي ،و قيل في زمن عثمان .و أما الابن ، فهو عبيد الله بن أبي رافع، كان كاتبا لعلي بن أبي طالب ،و هو من الطبقة الثالثة ، حتى أن الشهاب الزهري المولود سنة 50هجرية ، قد روى عنه (3) .
__________
(1) محمد عجاج الخطيب : السنة قبل التدوين ، ص: 348 و ما بعدها .
(2) تكوين العقل ، ص: 64 .
(3) ابن عبد البر : الاستيعاب، ج 1 ص: 27 ، 529 . و ابن الأثير : أسد الغابة ، ج 1 ص: 25 . و ابن سعد: الطبقات الكبرى ، ج 4 ص: 73 . و الذهبي: الكاشف ، ج 1 ص: 679 . و ابن حجر: التقريب ، ج 1 ص: 370 .(18/74)
و أما الخطأ الرابع فيتمثل في أن الجابري ادعى أن محمد بن الحنفية – من أبناء علي من غير ولد فاطمة- هو الذي (( قدّم الأساس و الإطار لنظرية الإمامة الشيعية بمختلف تلويناتها)) (1) .و قوله هذا غير ثابت تاريخيا و لا يصح ، لم يُوثقه و لا حققه ، و كان عليه إن يُوثقه و يُمحصه . و مما ينقض ما ادعاه الجابري من موقف ابن الحنفية من الإمامة ، هو أنه قد صح عنه-أي ابن الحنفية- أنه كان يعتقد بأفضلية الشيخين أبي بكر و عمر على أبيه علي ،و ينهي عن الطعن فيهما (2) . فلو كان يُؤمن بالإمامة على طريقة الشيعة الإمامية ، لأنكر خلافة الشيخين و ما فضلهما على علي ، و لقال أنهما اغتصبا الإمامة، و خالفا الشرع ، و ارتدا عن الإسلام لأن من لم يُؤمن بأئمة الشيعة الإمامية فهو كافر (3) . و لو كان ابن الحنفية يُؤمن بما زعمه الجابري ، لما وثّقه أهل السنة ،و لما دونوا حديثه و فقهه في مصنفاتهم (4) . و بما أنهم فعلوا ذلك ، فهذا دليل قوي على بطلان ما زعمه الجابري .
و الخطأ الخامس يتمثل في أن الجابري جعل المعتزلة من أهل السنة ، عندما قال: (( بل أيضا لدي أهل السنة أنفسهم معتزلة و أشاعرة )) ،و قال : (( و لدى أهل السنة خاصة معتزلة و أشاعرة )) ،و قال أيضا: إن ابن حزم أراد تأسيس نظام معرفي (( يُؤسس فكر أهل السنة معتزلة و أشاعرة )) (5) .
__________
(1) العقل السياسي ، ص: 231 .
(2) البخاري: الصحيح ، ج 3 ص: 1132 ، رقم : 3468 . و ابن حجر الهيثمي: الصواعق المحرقة ، ج 1 ص: 162 .
(3) سبق ذكر ذلك و توثيقه ، من كتاب الكافي للكليني .
(4) أنظر مثلا : البخاري: الصحيح ، ج 1 ص: 61، ج 4 ص: 1917 . و أبو داود : السنن ، ج 1 ص: 63، 223 . و ابن قدامة المقدسي : المغني ، ج 6 ص: 561، 663 .
(5) العقل السياسي ، ص: 303 . و التراث و الحداثة ، ص : 187 .(18/75)
و كلامه هذا غير صحيح تماما فيما يتعلق بالمعتزلة ، و لا أدرى هل تعمد ذلك أم لا ؟! . و قد كرر ذلك ثلاث مرات ، و الرد عليه لا يحتاج إلى بحث و لا إلى توثيق ، لأن الأمر واضح ثابت متواتر ، من أن المعتزلة ظهروا كطائفة عندما اعتزل واصل بن عطاء حلقة شيخه الحسن البصري المتوفى سنة 110هجرية ، و ألتف حوله أصحابه ، ثم تميزت كل طائفة بفكرها و مذهبها ، و بمنهجها و جماعتها ،و دخلتا في مناظرات و مجادلات كثيرة ، بلغت أوجها في محنة خلق القرآن المشهورة ،و فيها كفّر كل منهما الآخر (1) . فالذي قاله الجابري غير صحيح تماما .
و أما الخطأ الأخير-أي السادس- فيتمثل في أن الجابري ادعى بأن قضية خلق القرآن التي خاض فيها المتكلمون و تناقشوا حولها انتهت بهم إلى (( تكريس حل وسط يقول بأن القرآن قديم بمعانيه ، مخلوق بألفاظه و حروفه )) (2) .
__________
(1) أنظر مثلا : ابن كثير : البداية و النهاية ، ج 10 ص: 272 و ما بعدها .
(2) بنية العقل ، ص: 106 .(18/76)
و قوله هذا قير صحيح ، و لم يحدث في التاريخ هذا الحل الوسط المزعوم ، لأن الخلاف حول مسألة خلق القرآن ظل قائما بين أهل السنة و المغتزلة دون أي حل وسط ، فالمعتزلة قالوا القرآن مخلوق ،و أهل السنة قالو القرآن كلام الله غير مخلوق . لكن الأمر الخطير الذي حدث بعد ذلك أن السنيين اختلفوا فيما بينهم حول حقيقة كلام الله تعالى ، و انقسموا إلى السنة السلف ،و مثّلهم الحنابلة و أهل الحديث ، و إلى السنة الخلف ، و مثّلهم الأشاعرة و الماتريدية ؛ فقال السلف أن القرآن كلام الله حقيقة حرفا و صوتا ، و أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ، فيتكلم بما شاء و متى شاء .و قال الخلف أن القرآن ليس كلام الله على الحقيقة ، و إنما هو حكاية و عبارة عنه ، هو كلام نفسي واحد لا يتعدد و لا يتبعض ، و ليس بصوت و لا بحرف ، فإذا تكلم به بالعبرية كان توراة ، و إذا تكلم به بالسريانية كان إنجيلا ، و إذا تكلم به بالعربية كان قرآنا. و ظل الخلاف قائما بين الطائفتين علميا و عمليا طيلة العصر الإسلامي إلى يومنا هذا (1) .
و بذلك يتبين أن مسألة كلام الله تعالى لم تُحسم ،و لم يحدث فيها أي اتفاق بين جناحي أهل السنة المتنازعين،و ما تزال تثير بينهم الخلافات و المنازعات إلى يومنا هذا ، عكس ما ادعاه الجابري من المتنازعين انتهوا إلى تكريس حل وسط بينهم .
رابعا : أخطاء تاريخية أخرى متفرقة :
__________
(1) أنظر مثلا : عبد الرحمن سفر الحوالي: منهج الأشاعرة في العقيدة ، الدار السلفية ، الجزائر .(18/77)
نخصص هذا المبحث- الأخير من هذا الفصل – لأخطاء تاريخية متفرقة ، وقع فيها الباحثان محمد أركون و محمد عابد الجابري ، فبخصوص أخطاء أركون فسنذكر منها ستة أخطاء ، أولها إنه نقل قولا للمستشرق ب كرون و وافقه عليه ، بقوله : (( إن النقد الأكبر تعمقا و جذرية في هذا الاتجاه ، كان قد اُستعيد مؤخرا من قبل ب كرون ، الذي يُلاحِظ بحق أن تاريخ الإسلام الأولي أو البدائي ، قد خُرّب و أُفسد إلى الأبد بسبب احتدام الظروف الاجتماعية و السياسية و الثقافية ، التي تكوّن فيها ، و رُوي ثم دُون و سُجل )) (1) .
و قوله هذا فيه حق و باطل ، و مبالغة شديدة حوّلت الحبة الصغيرة إلى قبة كبيرة ؛ فأما الحق الذي في كلامه ، فهو أن في تاريخ صدر الإسلام و الدولة الأموية حوادث خطيرة أثرت تأثيرا سلبيا كبيرا على ذلك التاريخ ، كالفتنة الكبرى و ما انجر عنها ،و تحوّل الحكم من خلافة إلى وراثة ، و مقتل الحسين و عبد الله بن الزبير ، و ثورة ابن الأشعث ، فأدت هذه الحوادث الخطيرة إلى انقسام الأمة على نفسها ،و دخولها في نزاعات مذهبية و سياسية و حروب دامية فيما بينها ، فأدى ذلك إلى انتشار الكذب و تحريف التاريخ لتحقيق مكاسب مذهبية و سياسية و قبلية عصبية ، حتى تحول الكذب عند كثير من الرواة إلى صناعة تخصصوا فيها (2) .
__________
(1) تاريخية الفكر العربي الإسلامي ، ص: 83، 84 .
(2) للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : مدرسة الكذابين في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه .(18/78)
و أما الباطل في كلامه ، فيتمثل في أنه نسي أو تناسى أن تاريخ الدعوة الإسلامية كلها مُسجل بخطوطه الكبرى وبكثير من التفاصيل-فيما يتعلق ببعض الحوادث- في القرآن الكريم ، أولا ، و في السنة النبوية الصحيحة ثانيا ، و في السيرة النبوية الصحيحة ثالثا ، و في التاريخ الصحيح الثابت و المتواتر رابعا. كما أنه تناسى أن تاريخ صدر الإسلام قبل الفتنة كان في عمومه صحيحا معروفا لدى الناس و منتشرا بينهم ، قبل ظهور دواعي الكذب السياسية و المذهبية و المصلحية ؛ فلما حدثت الفتنة ، و انقسمت الأمة ، و كَثُر الكذب بين الناس ، هب علماء الإسلام للحفاظ على السنة النبوية و تنقيتها مما شابها من كذب و تحريف ، فوضعوا منهجا نقديا علميا كاملا صارما ، لتمييز صحيح السنة من سقيمها بنقد الأسانيد و المتون معا (1) ؛ و بفضله حُققت السنة النبوية ، و كثير من الروايات التاريخية المتعلقة بالصحابة ، غير أنه ما تزال روايات كثيرة جدا عن تاريخ صدر الإسلام تنتظر التحقيق العلمي وفق ذلك المنهج ،و الأمر ليس صعبا لو يجد من يتفرغ له و يتولاه . و بذلك يتبن أن ما ادعاه أركون و صاحبه هو زعم باطل عندما أدعيا أن تاريخ الإسلام الأولي قد خُرب و أُفسد إلى الأبد . فهذا كلام باطل مردود عليهما له خلفيات مذهبية حوّلت الحبة الصغيرة المُعبرة عن حقيقة تاريخية ، إلى قبة كبيرة معبرة عن أكاذيب كثيرة ، لا حقيقة لها في الواقع .
__________
(1) أنظر : عجاج الحطيب : السنة قبل التدوين ، ص: 219 و ما بعدها .(18/79)
و أما الخطأ الثاني فيتعلق بالسنة التي أظهر فيها الخليفة المأمون فكرة خلق القرآن ، فقال أركون : إن تلك الفكرة لم (( تُعلن رسميا إلا في عام 213ه /827م )) (1) .و هذا خطأ بالنسبة للتاريخ الهجري ، و أما الميلادي فصحيح ، و الصواب في التاريخ الهجري هو أن المأمون أظهر فكرة حلق القرآن في ربيع الأول سنة 212 ه/827م ،و فرضها على الناس بالقوة سنة 218ه/833م (2) .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 73 .
(2) أنظر : ابن العماد الحنبلي : الشذرات ، ج 3 ص: 57 ، 81 . و ابن كثير : البداية ، ج 10 ص: 708 ، 714 .(18/80)
و الخطأ الثالث يتمثل في قول أركون بأن المغرب الإسلامي خضع بشكل مُبكر للنسخة المالكية للعقل الإسلامي (1) . و قوله هذا غير صحيح ، لأن المذهب المالكي لم يُهيمن على العقل الإسلامي بالمغرب إلا في منتصف العصر الإسلامي تقريبا ، بعد عدة قرون من المنافسات و الصراعات مع المذاهب الأخرى التي دخلت المغرب الإسلامي ، و لم يتمكن من الانفراد به انفرادا تاما إلا بعد زوال الدولة الموحدية سنة 668هجرية .و قبل ذلك كان الوضع مختلفا عن ذلك ، ففي القرن الثاني الهجري هيمن على المغرب المذهب الأوزاعي و الصفري و الإباضي ، و في القرن الثالث انتشر المذهب المالكي ،و دخل في نزاع مع المذاهب الأخرى . و في نهاية نفس القرن –أي الثالث- انتشر المذهب الشيعي الإسماعيلي ، و فرضته الدولة العُبيدية بالقوة على بلاد المغرب ، فتعرض المالكية لمحن كثيرة من قتل و تشريد و تعذيب ، على أيدي العُبيديين . ثم تغير حالهم زمن الدولة الزيرية التي انتصرت للمذهب المالكي نحو سنة 434هجرية ، ففرضته على الرعية ، و تعصبت على المذاهب الأخرى ، ثم ازداد قوة و انتشارا في زمن الدولة المرابطية(453-541ه ) ، فتبنته تلك الدولة و انتصرت له بقوة . ثم تغير حاله زمن الدولية الموحدية ( 541-668ه) ، التي حاربت المذهب المالكي بحرق كتبه و منع الاشتغال به، و مطاردة علمائه ، و الدعوة إلى المذهب الظاهري في الفروع على طريقة ابن حزم الأندلسي (2) . ثم لما زالت دولة الموحدين تغير حال المذهب المالكي و فرض سيادته على كامل بلاد المغرب تقريبا .
__________
(1) تاريخية الفكر ، ص: 92 .
(2) عن ذلك أنظر : الذهبي: العبر في خبر من غبر ، ج 60 . و السير ، ج 21 ص: 314 . و السلاوي الناصري: الاستقصاء ، ج 74، 75 ، 125 ، 177، 194، 200 . و عبد العزيز سالم: تاريخ المغرب في العصر الإسلامي ،مؤسسة شباب الجامعة ، مصر ، د ت ، ص: 447 و ما بعدها .(18/81)
و أما الخطأ الرابع فيتمثل في قول أركون: (( و أنا أقلد حرفيا عبارة جميلة ذات بُعد أنطلوجي للحكيم المسلم عبد القادر الجرجاني الذي يقول: نازعت الحق بالحق للحق )) (1) , و قوله هذا يتضمن خطأين ، الأول خطأ في النسبة إلى بلد هذا الرجل ، فهو ليس عبد القادر الجرجاني ،و إنما هو عبد القادر بن أبي صالح الكيلاني أو الجيلاني ، نسبة إلى بلد جيلان أو كيلان بالعراق ، و ليس الجرجاني نسبة إلى جرجان ببلاد فارس (2) . و ثانيهما إنه قال سينقل كلام الجيلاني حرفيا ، لكنه لم يلتزم بذلك ، فنقله ناقصا بلا توثيق ، و قوله الكامل هو : (( الناس إذا وصلوا إلى القضاء و القدر أمسكوا إلا أنا فانفتحت لي فيه روزنة ، فنازعت الحق بالحق و للحق )) (3) .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 293 .
(2) عبد المنعم ماجد و علي البنا : الطلس التاريخي للعالم الإسلامي، ط2 ، دار الفكر العربي ، الخريطة رقم : 7 ، 8 . و ابن العماد الحنبلي : الشذرات ، ج 6 ص: 303-331 .
(3) ابن قيم الجوزية : مدارج السالكين ، ط2 ، دار الكتاب العربي ، بيروت1973 ، ج 1 ص: 99 ، 199 . و ابن تيمية : مجمدوع الفتاوى ، ج 2 ص: 458 ، ج 8 ص: 306 .(18/82)
و الخطأ الخامس يتعلق هو أيضا باسم شخصية علمية مشهورة ، قال عنها أركون : (( و في مفهوم مقاصد الشريعة الذي اُشتهر به أبو إسحاق الشيرازي (ت790ه) )) (1) . و هو هنا أخلط بين شخصيتين ، الأولى هي التي أرادها : أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الخمي المالكي الشاطبي الأندلسي المتوفى سنة 790هجرية .و الشخصية الثانية هي : أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروز أبادي الشيرازي الشافعي المُتوفى سنة 476هجرية (2) . فهو أراد أن يقول: أبو إسحاق الشاطبي (ت790ه)، و ليس أبو إسحاق الشرازي(ت 476ه9 ، فهناك فارق واضح بين الرجلين في المذهب ،و الاسم ، و البلد، و سنة الوفاة ،و لا يتفقان إلا في الكنية و الاسم فقط .
و أما الخطأ الأخير-أي السادس- فيتعلق بمسألة خلق القرآن ، فقد ادعى أركون أن المعارضين للمعتزلة في تلك المسألة الممثلين للموقف الأرثوذكسي ، و يقصد أهل السنة ، قالوا : إن القرآن (( مُزامن لله عز وجل ، بمعنى أنه سرمدي مثله ، و ليس حادثا أو مخلوقا في لحظة ما ... لقد وُجد منذ الأزل كالله ، لأنه كلام الله ،و لا يمكن فصل كلامه عنه )) (3) .
و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، و لا يمثل موقف أهل السنة من مسألة خلق القرآن ، و كان عليه أن يُوثق كلامه الذي ادعى أنه يُمثل الموقف الأرثوذكسي ،و يقصد به أهل السنة ، لكنه لم يفعل ذلك و حرمنا من إمكانية التحقق منه .
__________
(1) الفكر الأصولي ، ص: 7 .
(2) ابن العماد الحنبلي : الشذرات ، ج 5 ص: 323 .
(3) اسلام ، أوروبا ، ص: 188 .(18/83)
و أما موقف أهل السنة من تلك المسألة ، فهم قالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق ، و لم يقولوا أنه قديم ، و هو كلام الله حقيقة بحروفه و معانيه ، منه بدأ و إليه يعود، و هو من علم الله و كلامه و أمره . و علمه و كلامه صفتان لله ليستا مخلوقة ، . و فرّقوا بين الخلق و الأمر ، فالقرآن من أمر الله و علمه و أمره و ليس من خلقه ، لقوله تعالى : { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}- سورة الأعراف/54- و (( بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} - سورة البقرة/120- (1) ، و بناء على ذلك لا يُوصف القرآن بالخلق و لا بالحدوث ، لأن الذي يُوصف بذلك هو المخلوق، و هذا لم يُبينه أركون . كما أنه أخطأ عندما زعم أن أهل السنة يقولون بأن القرآن مزامن لله و سرمدي مثله ، فهذا لم يقله أهل السنة، فالله عندهم هو الأزلي السرمدي الوحيد بذاته ، و صفاته تابعة لذاته ، و ليست منفصلة عنه ،و لا هي ذواتا مغايرة له . فهو سبحانه لم يزل متكلما بماء شاء ، و متى شاء (2) .
و أما أخطاء الجابري فسنذكر منها خمسة أخطاء ، أولها إنه زعم أن الشواهد و القرائن تُؤكد كلها أن (( الأمويين لم يُحاولوا توظيف الدين و لا ما يمت إليه بصلة في إطفاء الشرعية على حكمهم ، باستثناء فكرة القضاء و القدر التي تعني أنهم انتصروا على خُصومهم بالقوة ، و أن هذا الانتصار كان مسألة حتمية )) (3) .
__________
(1) أنظر مثلا : ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 3 : 144 ،و ج 6 ص: 313 . و اللالكائي : اعتقاد أهل السنة، دار طيبة ، الرياض، 1402 ، ج 1 ص: 151 .و ابن أبي العز الحنفي: شرح العقيدة الطحاوية ، ص: 168 . و ابن كثير : البداية ، ج 10 ص: 33 . و صديق حسن خان : قطف الثمر ، ص: 71، 72 . و أبو الحيسن بن أبي يعلى : طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 414 .
(2) انظر نفس المصادر .
(3) العقل الأخلاقي ، ص: 141-142 .(18/84)
و قوله هذا غير صحيح ،و غريب جدا أن يصدر من الجابري ، و نحن لا نتوسع في البحث لإحضار الشواهد التاريخية للرد عليه ، و لكننا سنرد عليه بكلامه هو شخصيا ، فيرد الجابري على نفسه. علما بأنه لا يُعقل أن تظهر دولة تحكم المسلمين مباشرة بعد العهدين النبوي و الراشدي ،و لا تستخدم الدين استخداما واسعا و أساسيا في قيامها و ضمان استمرارها . مع أن كل الدول التي شهدها العصر الإسلامي استخدمت الدين استخداما أساسيا ، كالدولة العباسية، و العُبيدية ، و المرابطية ، و الموحدية ، و المملوكية ،و غيرها كثير ، فما بالك بالدولة الأموية التي قامت في زمن هيمن عليه الإسلام و عاش فيه الصاحبة و التابعون ؟ ! .
و أما رد الجابري على نفسه ، فمن ذلك أنه قال : إن معاوية بن أبي سفيان أكد شرعية قريش في الحكم بحديث (( الأئمة من قريش )) ، ثم قال الجابري: (( ثلاثة ثوابت بنى عليها معاوية دولته ،و ستكون نفسها التي سيعتمدها الخلفاء الأمويون من بعده: المجالدة ،و المواكلة ، و الشرعية القرشية )) (1) . .و قال أيضا : إن حديث (( الأئمة في قريش )) الذي رواه معاوية ، أراد به تذكير الأمويين بأن الخلافة شرعا في قريش و ليس في غيرهم ،و يُؤسس به أيضا شرعية الحكم الأموي (2) . فكلامه هذا صريح لا يحتاج إلى تعليق ،و شاهد على أن الجابري نقض به كلامه السابق .
__________
(1) العقل الإسلامي ، ص: 206، 207 .
(2) نفس المرجع ، ص: 208 .(18/85)
و أما الخطأ الثاني فيتمثل في قول الجابري : (( لقد تحدث المحاسبي نفسه عن فتنة الأمين و المأمون في كتابه المكاسب ، و ذكر أنها استمرت 18 سنة على فترات متقطعة ، و في مختلف بقاع الدولة )) (1) . و قوله هذا يتضمن خطأ فادحا واضحا ،يتعلق بمدة الحرب الأهلية بين الأخوين الأمين و المأمون ، فإنه ذكر أنها استمرت 18 سنة ، و هذا غير صحيح تماما ، و لا ادري هل هو خطأ من الجابري أم هو من المحاسبي لم يتنبه إليه الجابري ؟ . و الصواب هو أن الأمين بدأ حكمه سنة 193 إلى 198 هجرية ، ثم خلفه المأمون إلى سنة 218 هجرية ، و الحرب بينمها بدأت سنة 194 إلى سنة 198هجرية (2) . فمدة حكم الأمين 5 سنوات ، فكيف يُقال : إن الحرب الأهلية استمرت بين الأخوين 18 سنة ؟ ! ،و هي في الحقيقة دامت 4 سنوات فقط .
و الخطأ الثالث يتمثل في قول الجابري : (( العصر العباسي الأول ،و يمتد من تأسيس هذه الدولة –أي العباسية- عقب سقوط الأمويين سنة 132هجرية ، إلى بدء خلافة المتوكل سنة 230هجرية ... أما العصر العباسي الثاني فيمتد من سنة 232 هجرية سنة تولي المتوكل الخلافة...)) (3) .و كلامه هذا يتضمن تناقضا واضحا يتعلق بسنة بداية خلافة المتوكل ، فذكر أنها بدأت سنة 230 ، ثم عاد و قال أنها بدأت سنة 232 ، فهذا تناقض واضح ، فإما أنه تولى الخلافة سنة 230، و أما سنة 232 ، فلا يمكن الجمع بين السنتين . علما بأن الصواب هو أنه تولى الخلافة سنة 232 ،و ليس 230 هجرية (4) .
__________
(1) العقل الأخلاقي، ص: 539 .
(2) ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب ، ج 2 ص: 431، 440، 460 ، ج 3 ص: 81 .
(3) تكوين العقل ، ص: 289 .
(4) ابن كثير : البداية و النهاية ، ج 10 ص: 310 ، 350 .(18/86)