ثبات عقيدة السلف
وسلامتها من التغيرات
تأليف
عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن للعقيدة الإسلامية الصافية النقية المتلقاة من الكتاب والسنة مكانةً عاليةً ورفيعةً في الدين، بل إن منزلتها فيه منزلة الأساس من البنيان، والقلب من الجسد، والأصل من الشجرة، قال الله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء? [إبراهيم: 24].
فهذا شأن العقيدة، شأنٌ عظيم، ومكانة عالية، ومنزلة رفيعة، أمرها مستقرٌ في نفوس أهلها، وكامنٌ في قلوب أصحابها، فمنها ينطلقون، وعليها يُعولون، ولأجلها يناضلون، سما قدرها في نفوسهم، وعلت مكانتها في قلوبهم، فتمكنت منها القلوب، واستقرت في النفوس، فترتب على ذلك وانبنى عليه صلاحٌ في السلوك، واستقامةٌ في المنهج، وتمامٌ في الأعمال، ودأبٌ على الطاعة والعبادة، ولزوم أمر الله تبارك وتعالى، وكلما كانت العقيدة أعظم تمكناً في نفوسهم، وأقوى استقراراً في قلوبهم، كان ذلك دافعاً لهم لكل خير، معيناً لهم على كل فلاحٍ وصلاحٍ واستقامةٍ.
ومن هنا عظمت عنايتهم بها، وزاد اهتمامهم بها اهتماماً وعناية مقدمة على كل اهتمامٍ وعنايةٍ، هي عندهم أهم من طعامهم وشرابهم ولباسهم وسائر شؤونهم؛ لأنها هي حقيقة قلوبهم، قال الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ? [الأنفال:24].
فهي حياة قلوبهم حقيقة، وأساس نماء أعمالهم، واستقامة سلوكهم، وحسن نهجهم وطريقهم، ولهذا عظمت عنايتهم بها علماً واعتقاداً، وما يتبع ذلك ويترتب عليه من جد واجتهادٍ واستقامةٍ ومحافظةٍ على طاعة الله تبارك وتعالى.(1/1)
إن العقيدة الإسلامية الصحيحة الصافية النقية هي أهم المهمات، وآكدُ الواجبات، والعنايةُ بها ينبغي أن تُقدم على كل عنايةٍ واهتمام، وعندما نتأمل سيرة سلفنا الأخيار – رحمهم الله وأسكنهم الجنة، وجزاهم عن المسلمين خير الجزاء – نرى عظم عنايتهم بالعقيدة، وشدة اهتمامهم بها، وأنهم يقدمونها في الاهتمام والعناية على كل الأمور، فهي أعظم مطالبهم، وغاية مقاصدهم، وأنبلُ وأشرفُ أهدافهم، وقد تنوعت عنايتُهم بالعقيدة عبر مجالاتٍ مختلفةٍ وجهودٍ متنوعة، ومن عنايتهم بها وهو من أسباب حفظها وثباتها وبقائها، تأليفهم فيها المؤلفات النافعة، والكتب المفيدة التي تُقررُ العقيدة، وتُبينها وتوضحها وتذكر شواهدها ودلائلها، وتذُبُ عنها كيد الكائدين، واعتداء المعتدين، وتعطيل المعطلين، وتحريف الغالين، ونحو ذلك مما قد يُحاك حولها وتُستهدف به، فقام السلفُ – رحمهم الله – في هذا المجال العظيم بجهود ضخمة، وأعمال كبيرة، خدمة للعقيدة، ونصرة لها، وقياماً بالواجب العظيم تجاهها، وكتبوا فيها بياناً وتوضيحاً، واستشهاداً واستدلالاً مئات الكتب، بل الآلاف بين مطول ومختصر، وبين شامل لجميع أبوابها، ومختص في جانب من جوانبها، بين مُؤصل للحق والصواب، وراد على المخالف المرتاب، ثم اللاحق منهم يأخذ العقيدة عن السابق واضحةً وضوح الشمس في رابعة النهار، بينة لا لبس فيها ولا غموض؛ لصحة شواهدها، وسلامة دلائلها وقوتها، ووضوحها وبيانها، فتوارثها المؤمنون المتبعون جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، كل جيل يأتي يتعاهدها تعاهداً عظيماً، ويرعاها رعاية كبيرة ثم يؤديها إلى من بعده كما هي دون تغييرٍ أو تبديل أو تحريف أو نحو ذلك، فيأتي الجيل الذي بعدها فيعتني بها عناية أسلافه، ويهتم بها اهتمام من قبله فيحافظ عليها، وهكذا توارثتها القرون جيلاً بعد جيل، ولا تزال طائفةٌ من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على الحق منصورةً لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم(1/2)
إلى أن تقوم الساعة.
وموضوع هذه الكلمة هو عن ثبات هذه العقيدة، عقيدة السلف الصالح – رحمهم الله – وسلامتها من التغييرات عبر عمر مديد وزمان طويل، بقيت سالمةً متماسكةً، فالعقيدة التي عند أهل السنة الملتزمين بالكتاب والسنة في هذا الزمان، هي العقيدة التي دعا إليها النبيُ عليه الصلاة والسلام، وهي العقيدة التي كان عليها الصحابةُ ومن تبعهم بإحسان، وتناقلوها فيما بينهم، وتوارثوها إلى أن وصلت إلى زماننا هذا صافية نقية.
نعم ضل عنها أقوامٌ، وانحرف عنها أناسٌ كثيرون، تفرقت بهم السبُل، وحادوا عن الجادة الصحيحة والطريق المستقيم، وقد أشار النبيُ الكريم عليه الصلاة والسلام إلى أن هذا سيقع وسيكون، فقال: " إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنن الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة " (1)، وقال في الحديث الآخر: " وستفترق هذه الأمةُ على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة " (2)، فرقةٌ واحدةٌ سلم لها دينها، واستقام لها منهجها، وصح لها معتقدها؛ لأنها أخذته من نبعه الصافي، ومعينه الذي لم يشبه أي كدر، أخذته من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فكان حظهم في الاعتقاد وسائر شؤون الدين السلامة والعلم والحكمة والرفعة، وكانوا أحق بها وأهلها؛ لأنهم أخذوها من مصدرها ومنبعها؛ كتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، سلمهم الله فلم تخطفهم الأهواء، ولم تتلقفهم الشُبُهات، ولم يميلوا إلى عقولهم أو آرائهم أو أذواقهم أو مواجيدهم، أو نحو ذلك طلباً لمعرفة الاعتقاد الصحيح، وإنما عولوا على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) 1. رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676).
(2) 2. رواه أحمد (4/102)، وأبو داود (4597)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (203).(1/3)
وما من شك أن هناك أسباباً متعددة كانت داعيةً لبقاء هذه العقيدة وسلامتها واستقرارها في نفوس أهلها بتوفيق من الرب سبحانه وتعالى، فهو الموفق وحده والمان، بيده الفضل يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فتوفيق الله وتسديده وهدايته وإعانته لهم هو أعظم أمر تحققت به سلامتهم، وكان به بقاءُ هذه العقيدة في نفوسهم، والله خيرٌ حافظاً، وهو أرحم الراحمين.
ولهذا يلزم كل مسلم أن يُقوي صلته بالله، وأن يسأله دائماً الإعانة والتوفيق والسداد والسلامة؛ لأن الأمر بيده تبارك وتعالى: ?وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ? [هود:88].
لا شك أن هناك أسباباً كثيرةً بعد توفيق الرب جل وعلا وحفظه سبحانه كانت سبباً لثبات هذه العقيدة وبقائها واستقرارها في نفوس أهلها، وسبباً لسلامة أهلها من التغير والتلون والانحراف، ولا شك أيضاً أن من النافع للمسلم والمفيد له في حياته أن يقف على الأسباب التي بها ثبات العقيدة وسلامتها؛ ليتعاهدها في نفسه، وليرعاها أحسن الرعاية مستعيناً على ذلك كله بالله وتبارك وتعالى.
وقد تلخص لي من خلال التأمل والنظر لكلام أهل العلم – رحمهم الله – في هذا الباب العظيم أسباباً كثيرةً أدت إلى ثبات العقيدة في نفوس أهلها وأصحابها، وإلى بقائها وسلامتها من التغير والانحراف، وأوجز ما تيسر لي من ذلك في النقاط التالية:(1/4)
أولاً: اعتصامُ أهلها بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإيمانهم بجميع ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، واعتقادهم الكامل بأن ما في الكتاب والسنة لا يجوز ترك شيء منه، بل الواجب على كل مسلم الإيمانُ والتصديقُ بكل ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فآمنوا بجميع النصوص المشتملة على الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته، وأنبيائه، واليوم الآخر، والقدر، ونحو ذلك، آمنوا بها إيماناً مُجملاً ومفصلاً؛ إيماناً مُجملاً بكل ما أخبر الله تبارك وتعالى به من أمور الإيمان، وإيماناً مفصلاً بكل ما بلغهم علمه من ذلك في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ? [الحجرات:15]، هذا شأنهم مع جميع نصوص الكتاب والسنة، سلموا بالجميع، وآمنوا بالجميع، وشأنهم كما قال بعض السلف: " من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغُ، وعلينا التسليم "، ومن كان معتصماً بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، معولاً عليهما، معتمداً عليهما، فإنه بإذن الله تبارك وتعالى سيكون حليفه الثابت والسلامة والاستقامة والبعد عن الانحراف.(1/5)
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: " جماعُ الفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق السعادة والنجاة وطريق الشقاوةِ والهلاك؛ أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب إتباعه، وبه يحصل الفرقان والهدى والعلم والإيمان، فيصدق بأنه حقٌ وصدقٌ، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطلٌ، وإن لم يعلم هل هو وافقه أو خالفه؛ لكون ذلك الكلام مُجملاً لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده، ولكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه أو تكذيبه، فإنه يُمسك فلا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه دليلٌ، والنافعُ منه ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - " (1).
هذه خلاصة طريقة أهل السنة والجماعة – رحمهم الله – في هذا الباب العظيم، يُعولون على الكتاب والسنة، وبهذا التعويل نالوا السلامة والثبات، وكما قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في مقام آخر؛ بل كان كثيراً ما يقول: " من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - " (2)، ويقول بن أبي العز في شرحه للعقيدة الطحاوية: " كيف يُرام الوصول إلى علم الأصول بغير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - " (3)، أي أن هذا غير ممكن، وغير متأت، فإذاً تعويلهم رحمهم الله على ما جاء في كتاب الله، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، واعتمادهم على ما جاء فيهما كان سبباً عظيماً لثبات عقيدتهم، ولم يكن أحدٌ من أهل السنة والجماعة رحمهم الله يُنشئ اعتقاداً من قِبَل نفسه، أو يأتي باعتقادٍ أو دين من رأيه وذوقه وفكره، والذين يفعلون ذلك هم أهل الأهواء، ولهذا يُفارقهم الثبات ويكثر فيهم التنقل والتلون، كما سيأتي بيانُ ذلك.
__________
(1) 1. مجموع الفتاوى لابن تيميه (13/135-136).
(2) 1. انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم (ص:90).
(3) 2. شرح العقيدة الطحاوية (ص:18).(1/6)
أما أهل السنة فإنه لم يكن أحدٌ منهم ينشئ شيئاً من الاعتقاد من قبل نفسه، بل جميعهم يُعولون ويعتمدون على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وهنا أنقل كلمةً رائعةً غايةً لشيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله يقول فيه: " ليس الاعتقاد لي، ولا لمن هو أكبر مني (1)، بل الاعتقاد يُؤخذ عن الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وما أجمع عليه سلفُ الأمة، يُؤخذ من كتاب الله، ومن أحاديث البخاري ومسلم وغيرهما، من الأحاديث المعروفة، وما ثبت عن سلف الأمة " (2).
ويقول أيضاً رحمه الله: " اعتقاد الشافعي رضي الله عنه واعتقاد سلف الإسلام، كمالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة رحمة الله عليه، فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد والقدر ونحو ذلك موافقٌ لاعتقاد هؤلاء، واعتقاد هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة " (3).
إذاً هذا الأصل أو النقطة الأولى من أسباب ثبات هذه العقيدة في نفوس أهلها: الاعتماد على الكتاب والسنة، وبدون الاعتماد عليهما لا سبيل إلى الثبات، ولا إلى السلامة والاستقامة.
__________
(1) 3. أي: ليس شأني أن آتي باعتقاد من نفسي أنشئه وأخترعه، ولا أيضاً من هو أكبر مني كالإمام أحمد والشافعي ومالك وغيرهم من أئمة الدين، لم يكن أحدٌ منهم ينشئ اعتقاداً من قبل نفسه.
(2) 4. مجموع الفتاوى (3/203).
(3) 1. مجموع الفتاوى (5/256).(1/7)
ثانياً: اعتقادهم أي السلف – رحمهم الله – أن الكتاب والسنة مشتملان على المعتقد الحق لا نقص فيهما بأي وجه من الوجوه، فإن المعتقد الحق بينٌ تمام البيان، وواضحٌ كامل الوضوح في كتاب الله وسُنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الله تعالى: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ? أي: عقيدة وعبادة وسلوكاً، ?وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً? [المائدة: 3].
فالكتاب والسنة بُين فيهما كلُ ما يحتاج إليه الناسُ مما يتعلق بالاعتقاد، وما يتعلق بالعبادة، وما يتعلق بالمعاملة والأخلاق والسلوك، بل كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إنه لم يكن نبيٌ قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، ويُنذرهم شر ما يعلمه لهم " (1).
فلما آمن أهل السنة إيماناً كاملاً، واقتنعوا اقتناعاً تاماً بأن دينهم اعتقاداً وعبادةً وسلوكاً بُين في القرآن والسنة غاية البيان، التزموا تمام الالتزام، وعولوا كامل التعويل على ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يحتاجوا أن يرجعوا في هذا الباب إلى غير ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فثبتوا تمام الثبات على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فتحقق لهم بذلك السلامةُ التامةُ الكاملة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين جميع الدين؛ أصوله وفروعه، باطنه وظاهره، عِلمَه وعملَه، فإن هذا الأصل هو أصلُ أصول العلم والإيمان، وكل من كان أعظم اعتصاماً بهذا الأصل كان أولى بالحق علماً وعملاً " (2).
ويقصد بهذا الأصل أي التعويل التام، والاعتماد الكامل على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهما قد بين فيهما الدين كله عقيدةً وعبادةً وسلوكاً.
__________
(1) 2. صحيح مسلم (1844).
(2) 3. مجموع الفتاوى (19/155).(1/8)
ولقد بُين فيهما الدقائق اليسيرة المتعلقة بالآداب، كآداب قضاء الحاجة، وآداب الطهارة، وآداب المعاملة ونحو ذلك، فهل من الممكن أن تُبين فيهما هذا الآداب الدقيقة، ويُترك الاعتقاد دون أن يُبين ؟!
هذا مُحالٌ كما قال الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله: " مُحالٌ أن يكون النبيُ - صلى الله عليه وسلم - بين للأمة كل شيءٍ حتى الخراءة ولا يكون بين لهم التوحيد ".
ولهذا فالقرآن والسنة مشتملان على الخير كله، والهدى كله، والرشاد جميعه في العقيدة والعبادة والمعاملة والأخلاق، وحظ الإنسان من السلامة والاستقامة بحسب حظه من الاعتماد على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، كما قال مالك رحمه الله: " السنة سفينةُ نوح، من ركبها نجا ومن تركها غرق " .
ثالثاً: من أسباب ثبات العقيدة في نفوس أهلها؛ أن أهل السنة بناء على ما سبق فقد استقر في نفوسهم أنهم في حال وقوع أي نزاع أو خلاف أو نحو ذلك لا يُعولون على شيء، ولا يرجعون إلى شيء إلا إلى كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهم يعلمون علم اليقين أن النزاع والخلاف ونحو ذلك لا يتم حله ورفعُ الإشكال فيه إلا بالاعتماد على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الله تعالى: ?فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً? [النساء: 59].(1/9)
وما من شك أن من كان هذا شأنه معولاً في الأمور التي قد يقع فيها خلافٌ بين الناس على كتاب ربه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فإن حليفه الثبات والسلامة وعدم الاضطراب والتذبذب، فهم دائماً يُعولون في أمور النزاع وفيما يختلف فيه الناس على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ومن المعلوم والمتقرر أن كل نزاع يقع أو خلاف يوجد لا حل له بين الناس إلا بالاعتماد على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الآراء متباينةٌ، والعقول مختلفةٌ، ووجهات النظر متباعدةٌ، فلا مجال لحل النزاع، ورفع الخلاف إلا إذا عاد الجميعُ عودةً صادقةً ورجعوا رجوعاً حميداً إلى كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
فهذا سببٌ عظيمٌ من أسباب ثبات أهل الحق على الحق.
رابعاً: سلامة فطرتهم، والفطرة نعمةٌ من الله عز وجل، ومنةٌ منه تبارك وتعالى على عباده، وهو جل وعلا تفضل على عباده ومن عليهم بأن خلقهم جميعهم على الفطرة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهودانه أو يُنصرانه أو يُمجسانه " (1)، فخلقهم على الفطرة، وأهل السنة بقيت فطرتهم سالمةً لم تتغير، حفظها الله لهم من التغير والتبدل والانحراف، وبقية الناس تلوثت فطرهم، ولحقها من الانحراف ما لحقها، بين مُقل ومستكثر.
وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: " خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم " (2)، وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى: ?وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ? [الزخرف: 37]، فالشيطان وجنده صرفوا الناس وحرفوهم عن فطرهم.
__________
(1) 1. صحيح البخاري (1385).
(2) 2. صحيح مسلم (رقم: 2365).(1/10)
ولهذا فإن من أسباب الثبات أن يجتهد الإنسان في المحافظة على سلامة فطرته ?فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ? [الروم: 30]، وسلامة الفطرة مرتبطةٌ بسلامة المصدر، فإذا كان صاحبُ الفطرة السليمة مستنداً ومعتمداً على كتاب ربه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فإن فطرته لا تتبدل، وإن سلم فطرته للأهواء المردية والشبهات المفسدة والآراء المنحرفة والتكلُفات البعيدة ونحو ذلك انحرفت فطرته.
خامساً: صحة عقولهم؛ فأهل السنة والجماعة أحسنُ الناس عقولاً، وأسلمهم رأياً وفكراً ومنهجاً، لهم عقولٌ راجحة، ليس فيها غلوٌ أو جفاء كما هو الشأن في غيرهم من أهل الأهواء والبدع، فأهل السنة ليس عندهم في العقول غلوٌ كما يُرى واضحاً في أرباب الكلام والمتفلسفة ومن لف لفهم، وسار على منهجهم مِمن يُنحي الكتاب والسنة جانباً، ويعتمد تمام الاعتماد على عقله وفكره ورأيه، فما رآه صحيحاً بعقله اعتمده، وما رآه بخلاف ذلك تركه، وإن كان قاله الله أو قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن المعول عنده والعبرة على ما توصلت إليه العقول والآراء.
ومن المعلوم أن عقول الناس ليست على عقل رجل واحد، ولهذا لما كان الاعتماد على العقل عند فئاتٍ من الناس، كان ذلك سبباً لكثرة الانحراف وكثرة الآراء والمذاهب؛ لأن العقول مختلفةٌ، وكما قال بعض السلف: " لو كانت الأهواء هوى واحداً لقيل إنه الحق، ولكنها أهواء "، وكذلك نقول: لو كانت العقولُ عقلاً واحداً لقيل إنه الحق، ولكنها عقولٌ مختلفةٌ.(1/11)
فهذا جانب منحرفٌ في العقل، وهو جانب الغلو في العقل ورفعه فوق مكانته، وهناك جانبٌ آخر في العقل منحرفٌ وهو جانب الجفاء، وهذا يكثر في ضُلال المتصوفة وجهالهم الذين ينحون عقولهم جانباً، ثم يدخلون باسم التصوف إلى أمور يُسمون بعضها بالجذب أو الشحط أو الجنون أو نحو ذلك فيقعون في أنواع قبيحة من الانحرافات لا يقبلُها عقل ولا يرتضيها فكرٌ ويأنف منها كلُ إنسان، يقعون فيها بسبب تنحيتهم الكاملة للعقل.
وأهل السنة رحمهم الله أهل توسط واعتدال، فلا يتجاوزون بالعقل حده، ولا يُنحونه ويُلغونه، بل يضعون العقل في حدوده وأُطُرِه المحددة، وكما أن سمع الإنسان له حدٌ معين لا يمكن أن يتجاوزه، وكذلك بصره وسائر حواسه، فكذلك العقل.
فالعقلُ له حدٌ معين، فمن حاول أن يُقحم عقله في غير حدوده ومجاله يضلُ كما ضل أقوامٌ كثيرون.
ولهذا صحت عقول أهل السنة والجماعة وسلمت من الانحراف؛ لأنهم أعملوها في حدودها المعينة، ولم يهملوها ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ? [آل عمران: 191] فهم أولوا الألباب الصحيحة والعقول الراجحة، وضعوا عقولهم في حدها المحدود ومجالها المعين، دون غلو أو جفاء، أو إفراطٍ أو تفريط، أو زيادة أو نقصان، فهذا أمر عظيم كان من أسباب ثبات هؤلاء على الحق.
سادساً: من أسباب ثبات عقيدتهم في نفوسهم وسلامتها؛ أن نفوس أهل السنة اطمأنت بهذه العقيدة غاية الطمأنينة، يشعر كل واحد منهم براحةٍ في قلبه، وطمأنينةٍ في نفسه، وأُنسٍ وسعادةٍ، بل وفرحٍ ولذةٍ بهذا المعتقد الحق الذي أنعم الله تبارك وتعالى عليه به، وهذا أمرٌ لا يجده أيُ صاحب هوى، وهيهات أن يجده، والله تبارك وتعالى يقول: ?الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ? [الرعد:28].(1/12)
ففي نفوسهم طمأنينة تامة، وراحة عظيمة بهذا المعتقد الحق، الذي تلقوه من كتاب ربهم، وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وفي هذا يقول ابن القيم – رحمه الله – في كتابه الصواعق المرسلة: " سكونُ القلب إلى شيء ووثُوقه به، وهذا لا يكون إلا مع اليقين، بل هو اليقينُ بعينه، ولهذا تجد قلوب أصحاب الأدلة السمعية – يعني أهل السنة – مطمئنة بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته واليوم الآخر، لا يضطربون في ذلك ولا يتنازعون فيه " (1).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: " وأما أهل السنة والحديث فما يُعلم أحدٌ من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قطُ عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفُتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين " (2).
ويقول عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: " واعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى منها لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا، ولا عُلم به ولله الحمد، وإنما تكون لمن له فسادٌ في العقد، أو إصرارٍ على الكبائر، وإقدام على العظائم " (3).
فهذا من الأسباب العظيمة التي أدت إلى ثبات أهل الحق، مطمئنةً بالحق نفوسهم، ساكنةً به قلوبهم، مرتاحةً تمام الارتياح.
فلماذا عنه يعدلون؟ ولماذا لغيره يطلبون وهم به مطمئنون غاية الاطمئنان، مرتاحون غاية الارتياح؟
__________
(1) 1. الصواعق المرسلة (2/741).
(2) 2. مجموع الفتاوى (4/50).
(3) 3. نقله ابن القيم في الجواب الكافي (ص:198).(1/13)
سابعاً: من أسباب ثباتهم على الاعتقاد الحق: ارتباطهم بفهم السلف الصالح؛ الصحابة ومن اتبعهم بإحسان، فهم مع الأمور المتقدمة يُعولون في فهم النصوص ومعرفة دلالتها على ما جاء عن الصحابة ومن اتبعهم بإحسان؛ لأن الأفهام قد يجنحُ بعضها وقد ينحرف، لكن من أخذ الدين غضاً طرياً من النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة مع زكاء في القلب، وصحة في العقل، وحُسن رغبة وصدق، من كان هذا شأنه كان حقيقاً بالعلم والسلامة والحكمة ولهذا يرتبط أهل السنة والجماعة غاية الارتباط بفهم الصحابة للنصوص والأدلة، يقول السجزي رحمه الله في كتابه (الرد على من أنكر الحرف والصوت) واصفاً أهل السنة: " هم الثابتون على اعتقاد ما نقله إليهم السلف الصالح رحمهم الله عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أصحابه رضي الله عنهم فيما لم يثبت فيه نصٌ في الكتاب ولا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم رضي الله عنهم أئمة، وقد أُمرنا بإقتداء آثارهم واتباع سنتهم، وهذا أظهر من أن يُحتاج فيه إلى إقامة برهان، والأخذ بالسنة واعتقادها مما لا مرية في وجوبه " (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: " ولا تجدُ إماماً في العلم والدين، كمالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، ومثل الفضيل وأبي سليمان ومعروف الكرخي وأمثالهم، إلا وهم مُصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مُقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مُقتدين بعمل الصحابة، وهم يرون أن الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب " (2).
__________
(1) 1. الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص:99).
(2) 2. شرح العقيدة الأصفهانية (ص:128).(1/14)
ويقول الآجري – رحمه الله – في كتابه الشريعة: " علامةُ من أراد الله عز وجل به خيراً سلوك هذه الطريق، كتاب الله عز وجل وسنن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسنن أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان رحمة الله تعالى عليهم، وما كان عليه أئمة المسلمين في كل بلد، إلى آخر ما كان من العلماء؛ مثل الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل والقاسم بن سلام، ومن كان على مثل طريقتهم، ومجانبة كل مذهبٍ لا يذهب إليه هؤلاء العلماء " (1).
ويقول ابن قتيبه – رحمه الله – كلمة جميلة في هذا الباب: " ولو أردنا – رحمك الله – أن ننتقل عن أصحاب الحديث، ونرغب عنهم إلى أصحاب الكلام، ونرغب فيهم؛ لخرجنا من اجتماعٍ إلى تشتت، وعن نظام إلى تفرق، وعن أُنسٍ إلى وحشةٍ، وعن اتفاق إلى اختلاف " (2).
وهذا يوضح أنه لا يُمكن أن يكون الثباتُ إلا بالارتباط التام بفهم السلف الصالح رحمهم الله، والله تبارك وتعالى يقول: ?وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً? [النساء: 115].
__________
(1) 3. الشريعة (1/301).
(2) 4. تأويل مختلف الحديث (ص:16).(1/15)
ثامناً: من أسباب ثباتهم على الحق واستقامتهم عليه: توسطهم رحمهم الله واعتدالهم، كما قال الله تبارك وتعالى: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً? [البقرة:143] أي: شهوداً عدولاً، فكانوا وسطاً لا غُلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، ولا زيادة ولا نقصان، وتوسطهم هو لزومهم للحق واستقامتهم وثباتهم عليه، ومجنابتهم للطرق المنحرفة، سواء ما كان منها مائلاً إلى الغلو أو إلى الجفاء، فتوسطوا في الحق واستقاموا عليه، وثبتوا عليه بتثبيت الله تبارك وتعالى لهم، فكان هذا سبباً عظيماً من أسباب ثباتهم، وخيار الأمور أوسطها، لا تفريطها ولا إفراطها، وكلما كان الإنسان متوسطاً معتدلاً كان أحرى بالحق وأولى به.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " إن دين الله بين الغالي والمقصر، فعليكم بالنمرقة الوسطى؛ فإن بها يحلق المقصر، وإليها يرجع الغالي ".
والتوسط لا يكون أبداً إلا بلزوم الحق وعدم الزيادة فيه أو النقص منه، فمن كان كذلك كان أولى بالحق، وأبعد من الانحراف، وأحق بالثبات والسلامة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " القصدَ القصدَ تبلغوا " رواه البخاري (1)، وقال عليه الصلاة والسلام: " عليكم هدياً قاصداً، فإنه من يشاد الدين يغلبه " رواه أحمد (2) .
قال ابن القيم رحمه الله: " فدينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً، وهي الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط، والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف والأوساط محميةٌ بأطرافها فخيار الأمور أوساطها " (3) .
__________
(1) 1. صحيح البخاري (رقم:6463).
(2) 2. المسند (5/350-361)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم:4086).
(3) 3. إغاثة اللهفان (1/201).(1/16)
تاسعاً: من أسباب ثباتهم على الحق وسلامتهم من الانحراف والتغير: عدم تقديمهم لعقولهم وأذواقهم على ما جاء في الكتاب والسنة، وهذا أمرٌ أيضاً سبقت الإشارة إلى جانبٍ منه، وأنقل هنا كلاماً لأبي المظفر السمعاني، نقله عن التيمي في كتابه الحجة، وابن القيم في كتابه الصواعق، وهو كلامٌ عظيمٌ متين في هذا الباب، يقول فيه السمعاني: " وكان السببُ في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والإتلاف، وأهل البدع أخذوا الدين من عقولهم، فأورثها التفرق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قل ما تختلف، وإن اختلفت في لفظةٍ أو كلمةٍ فذلك الاختلاف لا يضُرُ في الدين، ولا يقدحُ فيه، وأما المعقولات والخواطر والآراء فقل ما تتفق، بل عقلُ كل واحد أو رأيه وخاطره يُري صاحبه غير ما يرى الآخر " (1).
فهذا من أسباب ثباتهم: أنهم لا يقدمون عقلاً أو رأياً أو وجداً أو ذوقاً، أو نحو ذلك على كتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.
وأما أهل الأهواء فإنهم يُقدمون هذه الأمور على الكتاب والسنة، منهم من يُقدم العقل، ومنهم من يُقدم الرأي، ومنهم من يُقدم الذوق والوجد، ومنهم من يُقدم الحكايات والمنامات، ومنهم من يُقدم ما تهواه نفسه على ما أمره به ربه تبارك وتعالى، يتفاوتون ولكل واحد منهم منهجه وطريقه ومسلكه، أما أهل السنة فقد سلِموا من هذه الآفات كلها، وثبتوا على كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فكان ذلك سبباً عظيماً من أسباب ثباتهم، ومن أخذ من المنهل الأول والمعين الصافي وجد بقية الموارد كدِرة.
__________
(1) 1. مختصر الصواعق (ص518).(1/17)
عاشراً: حسن صلتهم بالله وشِدة ارتباطهم به واعتمادهم عليه، وهذا أمرٌ أشرتُ إليه في التقديم والتمهيد؛ لأن التوفيق بيده سبحانه وتعالى، فحسُنت صلتهم بالله، وقوي اعتمادهم عليه، يسألونه ويستعينون به، ويدعونه، ويطلبون منه الثبات، متبعين في ذلك نهج نبيهم صلوات الله وسلامه عليه.
وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم إني أسألُك الهُدى والسداد "، ويقول في دعائه: " اللهم إني أسألك الهُدى والتُقى والعفافَ والغنى "، ويقول في دعائه: " اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خيرُ من زكاها، أنت وليها ومولاها "، ويقول في دعائه: " اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، واجعل الموت راحةً لي من كل شر "، ويقول في دعائه: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم "، ويقول في دعائه: " اللهم لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، اللهم إني أعُوذُ بعزتك، لا إله إلا أنت أن تُضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون "، ويقول في دعائه: " اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك "، ويقول في دعائه: " اللهم اهدنا فيمن هديت "، ويقول في دعائه: " اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين " (1).
__________
(1) 1. وهذه الأدعية كلها عند مسلم في صحيحه، إلا الثلاثة الأخيرة، فالأول والثاني عند أحمد (6/301)، (1/200)، والثالث عند النسائي (رقم: 1305).(1/18)
وأتباعه صلوات الله وسلامه عليه يلزمون نهجه، ويرتبطون بالله تبارك وتعالى كل وقت وحين، يسألونه الثبات والسداد والإعانة والتوفيق، لهذا وفقهم الله وأعانهم وسددهم، وحفظهم وكلأهم برعايته وعنايته، وحفظه سبحانه وتعالى والتوفيق بيده وحده.
ثم إن هذا الارتباط منهم بالله تبارك وتعالى أورثهم صلاحاً في العبادة، واستقامةً في السلوك والأخلاق، ولهذا فإن من فوائد العقيدة الحميدة وآثارها العظيمة أنها تنعكس على عمل الإنسان وسلوكه قوةً ورفعةً ونماءً وزكاءً، وهذا من بركة العقيدة الصحيحة، ومن منافعها وفوائدها العظيمة، أما العقيدة المنحرفة فإن لها شؤماً على صاحبها، ولهذا يتبعُ فساد العقيدة فسادُ العمل وفسادُ السلوك، وهذا من شُؤم الاعتقاد، ومن يتتبع وبخاصة رؤوس الباطل ودعاة الضلال يجد هذا واضحاً جلياً فيهم، لا يرى فيهم عنايةً بالعبادة واهتماماً بها ومحافظة عليها ولا يرى أيضاً فيهم الخُلق الواضح الكامل البين، وإن وجد فيهم شيءٌ من ذلك، فما عند أهل السنة والحق والاستقامة من ذلك أعظمُ وأعظمُ.
وهذا من آثار الاستقامة على العقيدة والارتباط بالله تبارك وتعالى.(1/19)
حادي عشر: يقينهم التام بهذا المعتقد الذي استقاموا عليه، وبعدُهم عن تعريضه للخصومة والجدل، وهذا جانبٌ غايةٌ في الأهمية للثبات على المعتقد الحق؛ أن يكون صاحبه مقتنعاً به، وأهل السنة لديهم قناعة تامة وثقة كاملة بما هم عليه من دين ومعتقد، ولهذا لم يحتاجوا كغيرهم إلى عرض ما عندهم على آراء الرجال وعقولهم، بينما صاحب الهوى والبدعة تجده يتنقل بين الرجال، يسألهم ويستشيرهم فيما هو عليه من دين؛ لأنه من شك منه وعدم ثقة واطمئنان، أما صاحب السنة فهو على يقين تام، لا يقبل في عقيدته خصومةً ولا جدلاً، فهو مقتنعٌ بها غاية الاقتناع، مطمئنٌ بها غاية الاطمئنان لأن ارتباطه بها ارتباطٌ بكتاب ربه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسنة نبيه الذي لا ينطق عن الهوى، فهو مطمئنٌ غاية الاطمئنان، وواثقٌ غاية الثقة بما عنده من معتقد، لم يحتج في شيء منه إلى عرضه على جدلي أو مُخاصمٍ أو نحو ذلك، بل هو ماضٍ في عقيدته على وتيرةٍ واحدة، وعلى طريق واحد من أول أمره إلى نهايته، لا تردد ولا اضطراب، ولا تنقل ولا ارتياب.
أما أهل الباطل فشأنهم آخر، قال الله تعالى: ?مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ? [الزخرف:58]، فتجدهم يضطربون ويرتابون، ويعرضون ما عندهم على آراء الرجال وعقولهم، ويُكثرون التنقل في الدين.
وأنقل هنا في هذا المقام جملةً من الآثار عظيمة النفع عن السلف رحمهم الله تعالى:
قال حذيفة لأبي مسعود: " إن الضلالة حق الضلالة، أن تعرف ما كنت تُنكر، وتُنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله، فإن دين الله واحدٌ " (1).
وقال عمر بن عبد العزيز: " من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل " (2).
__________
(1) 1. الإبانة لابن بطة (2/505).
(2) 2. الإبانة (2/503).(1/20)
وقال أيضاً رحمه الله: "من عمل بغير علم كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح، ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت خطاياه، ومن كثرت خصومته لم يزل يتنقل من دين إلى دين" (1).
وقال معن بن عيسى: " انصرف مالكٌ يوماً من المسجد وهو متكئٌ على يدي، فلحقه رجلٌ يقال له أبو الجويرية – كان يتهم بالإرجاء – فقال: يا أبا عبد الله اسمع مني شيئاً أُكلمك به وأحاجك وأُخبرُك برأيي، قال: فإن غلبتني؟ قال: فإن غلبتك اتبعتني، قال: فإن جاء رجلٌ آخر فكلمنا فغلبنا؟ قال: نتبعه، قال مالك: يا عبد الله، بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بدين واحد، وأراك تتنقل من دين إلى دين " (2).
أصبحت القضيةُ إذاً عند هؤلاء تنقلاً من شخصٍ إلى شخص، ومن رأيٍ إلى آخر، وهو معنى قول عمر بن عبد العزيز المتقدم: " من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل ".
وقال مالكٌ: " كان ذلك الرجل (3) إذا جاءه بعض هؤلاء أصحاب الأهواء قال: أما أنا فعلى بينة من ربي، وأما أنت فشاكٌ، فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه، قال مالك: وقال ذلك الرجل: يلبسون على أنفسهم ثم يطلبون من يُعرفهم " (4).
يعني بدينهم، يلبسون على أنفسهم أي: أهل الأهواء بالشكوك والظنون، ونحو ذلك، ثم يطلبون من يُعرفهم بدينهم، ويُزيل عنهم الشكوك التي اعترتهم، فيأتون يعرضون ما عندهم من آراء وأهواء على عقول الرجال.
وقال إسحاق بن عيسى الطباع: " كان مالك بن أنس يعيبُ الجدال في الدين ويقول: كلما جاءنا رجلٌ أجدل من رجل أردنا أن نرد ما جاء به جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " (5).
وقال الحسن البصري رحمه الله: " رأسُ مال المؤمن دينه، حيثما زال زال دينه معه، لا يخلفه في الرجال ولا يأتمن عليه الرجال " (6).
__________
(1) 3. الإبانة (2/504).
(2) 4. الإبانة (2/508).
(3) 1. يشير إلى أحد أئمة السلف لم يُسمه.
(4) 2. الإبانة (2/509).
(5) 3. الإبانة (2/507).
(6) 4. الإبانة (2/509).(1/21)
فهذا شأنُ أهل السنة لا يعرضُ أحدٌ منهم دينه ومعتقده على عقول الرجال وأهوائهم وآرائهم، وإنما يلتزم بما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، على ضوء ما كان عليه سلف الأمة .
وقال ذكوان: " كان الحسن البصري ينهى عن الخصومات في الدين، وقال إنما يُخاصم الشاكُ في دينه " (1).
أما من ليس عنده في دينه شكٌ فليس له أي حاجة إلى شيءٍ من هذه الخصومات.
وقال هشام بن حسان: " جاء رجلٌ إلى الحسن البصري، فقال: يا أبا سعيد تعالى حتى أُخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرتُ ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه " (2).
أي: اذهب وابحث عن دينك، أما أنا فواثقٌ بديني، مُطمئنٌ له، عارفٌ به، لست بحاجة إلى هذه الخصومات والجدل.
وقال أحمد بن سنان: " جاء أبو بكر الأصم إلى عبد الرحمن بن مهدي فقال: جئتُ أناظرك في الدين، فقال: إن شككت في شيءٍ من أمر دينك فقف حتى أخرج إلى الصلاة، وإلا فاذهب إلى عملك، فمضى ولم يثبت " (3).
وهذا فيه أن أهل السنة مشغولون بما هم عليه من حق، وبعبادة الله تبارك وتعالى، فقال له: إن شككت في شيء من أمر دينك فقف حتى أخرج إلى الصلاة، أي: أنا مشغول بطاعة الله، أريد أن أُصلي، فقف حتى أخرج إلى الصلاة فلا شأن لي بك، وإلا فاذهب إلى عملك، فمضى الرجل ولم يثبت.
هذه جملةٌ من النقول المفيدة، نقلتها من كتاب الإبانة لابن بطة العُكبُري رحمه الله: وهو كتاب عظيمٌ في بابه، وجميع هذه النقول عن السلف رحمهم الله توضح متانة الدين عندهم، وقوته في نفوسهم، وشدة رعايتهم وعنايتهم به، وعدم تعريضهم له إلى خصوماتٍ أو جدل، أو رأي منحرف، أو نحو ذلك، فكان ذلك من أعظم أسباب ثباتهم على الحق.
__________
(1) 5. الإبانة (2/519).
(2) 6. الإبانة (2/509).
(3) 2. الإبانة (2/538).(1/22)
ثاني عشر: اعتقادهم – أي السلف – أن مسائل الاعتقاد من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، واليوم الآخر، ونحو ذلك من الأمور التي جاءت بها الرُسل واتفقت كلمتهم عليها، جميعها أمورٌ ثوابت، لا يدخلها نسخٌ أو تبديل، أو نحو ذلك؛ لأن العقيدة ليست مما يدخلها النسخ، ولهذا فإن كلمة الأنبياء متفقةٌ عليها من أولهم إلى آخرهم، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الأنبياءُ إخوةٌ من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد " (1).
ثالث عشر: وضوحُ عقيدتهم – أي أهل السنة – ويُسرُها وبُعدُها عن الغموض، بينما العقائد الأخرى تراها يكتنفُها أنواعٌ من الغموض وعدم الوضوح، وكثير من الشبهات.
أما عقيدة أهل السنة والجماعة فهي واضحةٌ وضوح الشمس في رابعة النهار، وهي تكتسب وضوحها من وضوح منبعها ومصدرها.
وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه (الصواعق) في بيان هذه العقيدة الحق ووضوحها لوضوح مصدرها، يقول: " مثل ضوء الشمس للبصر، لا يلحق إشكال، ولا يغير في وجه دلالتها إجمال، ولا يعرضها تجويز واحتمال، تلج الأسماع بلا استئذان، وتحل من العقول محل الماء الزُلال من الصادي الظمآن، فضلها على أدلة العقول والكلام كفضل الله على الأنام، لا يُمكن أحدٌ أن يقدح فيها قدحاً يُوقعُ في اللبس، إلا إن أمكنه أن يقدحَ بالظهيرة صحواً في طلوع الشمس " (2).
__________
(1) 3. صحيح مسلم (4/1837).
(2) 1. الصواعق المرسلة (3/1199).(1/23)
فالذي يريد أن يقدح في العقيدة الصحيحة السليمة المأخوذة من الكتاب والسنة مثله مثل رجلٍ يأتي إلى الناس في وسط النهار، ويقول لهم: أريد أن أثبت لكم الآن أن الوقت ليلٌ وليس بنهار، هذا مثل لِمَن يأتي ويريد أن يُشكك في صحة العقيدة الصحيحة السليمة المأخوذة من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والأمر كما قال الله تبارك وتعالى: ?فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ? [الحج:46].
رابع عشر: في ثبات أهل العقيدة وسلامتهم من الانحراف، اعتبارهم واتعاظهم بحال أهل الأهواء، وقديماً قيل: " السعيد من اتعظ بغيره "، فأهل الأهواء الذي تركوا الكتاب والسنة، أورثهم هذا التركُ تذبذباً وانحرافاً، وتنقلاً واضطراباً، وبُعداً عن الاستقرار والثبات، ولا تجدُ لصاحب هوى ثابتاً واستقراراً، وإنما هم دائماً وأبداً في تنقل، وأنقل هنا نقولاً عن أهل العلم في وصف حال أهل الأهواء:
قال شيخ الإسلام: " أهل الكلام أكثرُ الناس انتقالاً من قول إلى قول، وجزماً بالقول في موضع، وجزماً بنقيضه وتكفير قائله في موضع آخر، وهذا دليلُ عدم اليقين، فإن الإيمان كما قال فيه قيصر لما سأل أبا سفيان عمن أسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: هل يرجع أحدٌ منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب لا يسخطهُ أحدٌ " (1).
فهذا فيه عبرة وعظة من حال أهل الأهواء أنهم لا قرار لهم ولا ثبات، وأنهم دائماً وأبداً في تنقل واضطراب.
__________
(1) 1. مجموع الفتاوى (4/50).(1/24)
ومما وصف به أهل العلم أهل الأهواء، وبينوا فيه حالهم قول أبي المظفر السمعاني فيما نقله عنه التيمي وابن القيم، قال: " وأما إذا نظرت إلى أهل البدع رأيتهم متفرقين مختلفين، شيعاً وأحزاباً، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يُبدعُ بعضهم بعضاً، بل يرتقون إلى التكفير، يُكفرُ الابن أباه، والأخ أخاه، والجار جاره، وتراهم أبداً في تنازع وتباغض واختلاف، وتنقضي أعمارهم ولم تتفق كلماتهم " (1).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيميه في وصفه لأهل الأهواء: " وأيضاً المخالفون لأهل الحديث، هم مظنةُ فساد الأعمال، إما عن سوء عقيدة ونفاق، وإما عن مرض في القلب وضعف إيمان، ففيهم من ترك الواجب، واعتداء الحدود، والاستخفاف بالحقوق وقسوة القلوب ما هو ظاهرٌ لكل أحد، وعامة شيوخهم يُرمون بالعظائم، وإن كان فيهم من هو معروف بزهدٍ وعبادة، ففي زهد بعض العامة من أهل السنة وعبادته ما هو أرجح مما هو فيه، ومن المعلوم أن العلم أصلُ العمل، وصحة الأصول توجبُ صحة الفروع " (2).
وقال إبراهيم النخعي:"كانوا يرون التلون في الدين من شك القلوب في الله عز وجل" (3).
وقال مالك بن أنس: " الداءُ العُضال، التنقل في الدين "، وقال: " قال رجل: ما كنت لاعباً به، فلا تلعبن بدينك " (4).
__________
(1) 2. مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (ص:518).
(2) 3. مجموع الفتاوى (4/53).
(3) 4. الإبانة لابن بطة (2/505).
(4) 5. الإبانة (2/506).(1/25)
فمن ينظر إلى حال أهل الأهواء يجدُ أن حالهم في حقيقة الأمر لعبٌ بالدين، تنقلٌ، آراءٌ، عقلياتٌ، أفكارٌ، أشياء من هذا القبيل متنوعة ومختلفة، لا ثبات لهم ولا قرار، حتى إن أحد أهل السنة جاء إلى أحد كبار رؤوس علماء الكلام في حيرة وشك واضطراب، فسأله: ماذا تعتقد؟ قال: أعتقدُ ما يعتقده المسلمون – أي مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - - فقال له: وأنت مُطمئنٌ بذلك ومُنشرح الصدر؟ قال: نعم، قال: أما أنا فوالله ما أدري ما أعتقد؟ والله ما أدري ما أعتقد؟ والله ما أدري ما أعتقد؟ وبكى حتى أخضل لحيته (1).
وذلك لأن المسألة أصبحت جدلاً وحواراً وما إلى ذلك، فالذي ينظر في حال أهل الأهواء يجد فيهم العظة والعبرة، وكما قدمت: السعيد من اتعظ بغيره، فصاحب السنة يحمد الله على السنة، ويسأله تبارك وتعالى أن يثبته عليها.
خامس عشر: من أسباب ثباتهم على الاعتقاد الحق: اتفاقُ كلمتهم وعدمُ تفرقهم، أما أهل الأهواء فقد فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً، كل حزب بما لديهم فرحون، قال قتادة: " لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع، ولكنه كان ضلالاً فتفرق " (2)، ومثل هذا فقل في سائر أهل البدع، أما أهل السنة فكلمتهم متفقة، وأمرهم مجتمع، وليس عندهم تفرقٌ أو اختلاف في دين الله، فهم على جادة سوية وصراطٍ مستقيم، يتعاهدون ذلك، ويتواصون به، ويصبرون عليه.
__________
(1) 1. انظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص:246).
(2) 2. تفسير الطبري (3/178).(1/26)
قال أبو المظفر السمعاني: " ومما يدل على أن أهل الحديث على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولها إلى آخرها، قديمها وحديثها، وجدتها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار، في بيان الاعتقاد على وتيرةٍ واحدةٍ ونمطٍ واحدٍ، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون عنها، قلوبهم في ذلك على قلب واحد، ونقلهم لا ترى فيه اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ قال الله تعالى: ?أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً? [النساء:82]، وقال تعالى: ?وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً? [آل عمران:103] " (1).
فهذا أيضاً من الأسباب العظيمة التي أدت إلى ثبات أهل السنة على الحق، واستقامتهم على العقيدة الصحيحة، وسلامتهم من الانحراف والتلون والتغير.
وهذا الأمر هو آخر النقاط التي أردتُ بيانها، لكنني أقف عنده وقفة أوضح فيها بعض الجوانب من الاعتقاد التي تُبين اتفاق أهل السنة والجماعة على العقيدة، وسيرهم فيها على وتيرة واحدة من أولهم إلى آخرهم، إذا نظرت في كلامهم في هذا الزمان، ونظرت في كلامهم أول الأزمان، في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، تجد ما عندهم شيئاً واحداً؛ لأنه مأخوذٌ من مشكاة واحدة.
__________
(1) 3. مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (ص:518).(1/27)
فقد قال الإمام مالك رحمه الله: " ما لم يكن ديناً زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلن يكون اليوم ديناً، ولن يكون ديناً إلى قيام الساعة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها ".
فأنت إذا نظرت إلى عقيدتهم في هذا الزمان، وفي جميع الأزمان الماضية، تجدها عقيدةً واحدةً، أضرب على ذلك بعض الأمثلة:
فمثلاً: إذا جئت إلى جانب التوحيد والإخلاص، إخلاص العمل لله تبارك وتعالى، تجدهم كلهم من أولهم إلى آخرهم دعاةً إلى التوحيد، كلهم يدعون إلى إخلاص العمل لله، كلهم يُحذرون من الشرك بالله وصف شيءٍ من العبادات لغير الله.
لا ترى فيهم من يدعو إلى شيء من الشرك أو المخالفة للتوحيد، كما يفعله كثيرٌ من أهل الأهواء، يدعون إلى أشياء من هذه الانحرافات، ويُسمونها بغير أسمائها؛ فيسمون أنواعاً من الشرك توسلاً، أو شفاعةً، أو نحو ذلك.
مثال آخر: أنهم جميعاً متفقون على الحث على السنة، والنهي عن البدع والأهواء، لا ترى فيهم إلا الداعية للسنة، المحذر من البدع، لا تجد فيهم من يحسن الأهواء ويرغب في البدع، أو من يحاول أن يُبين أن للبدع محاسناً، أو نحو ذلك، هذا لا يوجد في أهل السنة، وإنما الجميع من أولهم إلى آخرهم يُحذرون من البدع والأهواء، ويدعون الناس إلى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
مثالٌ ثالث: إيمانهم بأسماء الله تبارك وتعالى وصفاته؛ تجدهم من أولهم إلى آخرهم على وتيرة واحدة، يُثبتون لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأسماء والصفات، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النقائض والعيوب، ولا يُحرفون ولا يُعطلون ولا يُكيفون ولا يُمثلون، وقاعدتهم في ذلك كما أخبر الله: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? [الشورى: 11]، فكلهم في هذا الباب على وتيرة واحدة.(1/28)
أما من سواهم فتجد فيهم المحرفُ أو المعطلُ أو المكيفُ أو الممثلُ، أو غيرُ ذلك من الطرق مع اختلاف عريض لدى كل أهل مذهب من هذه المذاهب.
مثال أخير: اتفاق منهجهم في طريقة الاستدلال، وهذا أمر سبق أن أوضحته، فطريقتهم في الاستدلال واحدة، ومعتمدهم فيها واحد، وهو كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي ختام هذه الكلمة أتوجه إلى الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يُلحقني وإياكم بالصالحين من عباده، وأن يمن علينا وعليكم بلزوم السنة واتباع أثر سلف الأمة، وأن يُجنبنا الأهواء والبدع، وأن يمنحنا صحة في الاعتقاد، وسلامةً في الإيمان، واستقامة في السلوك، وحُسناً في الآداب والأخلاق، وأن يُوفقنا جميعاً بتوفيقه، وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل، وأن يجعلنا هداةً مهتدين، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله ونبيه محمد،
وعلى آله وأصحابه أجمعين (1).
الفهرس
الموضوع الصفحة
المقدمة 2
لماذا العناية بالعقيدة الصحيحة 2
أسباب ثبات العقيدة في النفوس 4
أولاً: الاعتصام بالكتاب والسنة 5
ثانياً: اعتقاد السلف أن الكتاب والسنة مشتملان 7
ثالثاً: الرجوع إلى الكتاب والسنة في حال الخلاف 8
رابعاً: سلامة الفطرة 9
خامساً: صحة عقولهم 9
سادساً: يجب الاطمئنان لهذه العقيدة 10
سابعاً: الارتباط بفهم الصحابة ومن تبعهم 11
ثامناً: التوسط والاعتدال 13
تاسعاً: عدم تقديم العقل على النقل 13
عاشراً: حسن الصلة بالله 14
الحادي عشر: اليقين التام بهذا المعتقد 15
الثاني عشر: الاعتقاد بأن الإيمان بالله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر مما جاء به الوحي 18
__________
(1) * هي في الأصل محاضرة ألقيت في 7/3/1420هـ ، وقد فُرغت من الشريط وأجريت عليها تعديلات يسيرة، وفضلتُ أن تبقى بأسلوبها الإلقائي كما كانت في المحاضرة، والله وحده الموفق.(1/29)
الثالث عشر: وضوح العقيدة وبعدها عن الغموض 18
الرابع عشر: الاتعاظ بحال أهل الأهواء قديماً 19
الخامس عشر: اتفاق الكلمة وعدم التفرق 21
الخاتمة 23
الفهرس 24(1/30)