فهرس المراجع
أحكام القرآن - للإمام الشافعي - جمع الحافظ (أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ت 458هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ.
أحاديث في ذم الكلام وأهله - للإمام أبي الفضل المقري - تحقيق: د/ ناصر الجديع، ط(1)، دار أطلس، الرياض، 1417هـ - 1996م.
أخبار أبي حنيفة وأصحابه - (للقاضي أبي عبد الله حسين بن علي الصميري ت 436هـ) ط (2)، دار الكتاب العربي، بيروت.
الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة (الموضوعات الكبرى) للعلامة (علي القاري)، تحقيق محمد الصباغ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1391هـ.
أصول الدين عن الأئمة الأربعة واحدة - (د.ناصر القفاري)، ط (1)، دار الوطن، الرياض 1414هـ.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - للإمام ابن تيمية، تحقيق د.صلاح الدين المنجد، ط (1)، دار الكتاب الجديد، بيروت 1396هـ.
الأنساب - للسمعاني (أبي سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي ت 562هـ)، تعليق عبد الله عمر البارودي، دار الكتب العلمية، بيروت.
الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة - للإمام الحافظ ابن بطة (أبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري ت 387هـ)، تحقيق - رضا بن نعسان معطي، ط (2)، دار الراية - الرياض 1415هـ.
الإحكام في أصول الأحكام - (سيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي ت 631هـ)، تعليق عبد الرزاق عفيفي، ط (1)، مؤسسة النور، الرياض - 1387هـ.
الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به - (للقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني ت 404هـ)، تحقيق محمد زاهد الكوثري، ط(2)، مؤسسة الخانجي، مصر، 1382هـ.
الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء - للإمام ابن عبد البر (أبي عمر يوسف بن عبد البر الأندلسي ت 463هـ)، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ط (1)، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب 1417هـ.(1/1)
تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - للإمام (شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي ت 748هـ)، تحقيق د.عمر بن عبد السلام، ط (1) دار الكتاب العربي، بيروت، 1415هـ.
تاريخ مدينة دمشق - للحافظ ابن عساكر (أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي ت 571هـ)، تحقيق محبب الدين العمروي، دار الفكر، بيروت.
تذكرة الحفاظ - (للإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي)، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك - للقاضي عياض (أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي ت 544هـ)، تحقيق د.أحمد بكير محمود، - دار مكتبة الحياة - بيروت - 1387هـ.
تفسير القرآن العظيم - للإمام (أبي الفداء إسماعيل ابن كثير القرشي، ط (1)، دار المعرفة، بيروت، 1407هـ.
تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة - (علي بن محمد بن عراق)، مراجعة عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله الغماري، 1375هـ.
تهذيب الأسماء واللغات - (لأبي زكريا محي الدين بن شرف النووي ت 676هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت.
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد - للشيخ (سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب)، المكتب الإسلامي، بيروت، 1397هـ.
الجامع الصحيح - للإمام البخاري (محمد بن إسماعيل البخاري ت 256هـ) مع شرحه فتح الباري.
الجامع الصحيح - للإمام الترمذي (محمد بن عيسى الترمذي ت 279هـ)، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط (1)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1356هـ.
الجامع الصحيح للإمام مسلم (مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ت 261هـ) بتحقيق فؤاد عبد الباقي، ط (1)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1375هـ.
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي - للإمام (ابن القيم الجوزية)، دار الكتب العلمية - بيروت.(1/2)
الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة - للإمام (أبي القاسم إسماعيل بن محمد الأصفهاني ت 535هـ)، تحقيق محمد ربيع المدخلي، محمد أبو رحيم، ط (1)، دار الراية الرياض - 1411هـ.
الحدائق في علم الحديث والزهديات - (لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي ت 597هـ)، تحقيق مصطفى السبكي، ط (1)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ.
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء - للحافظ أبي نعيم (أحمد بن عبد الله الأصفهاني ت 430هـ)، المكتبة السلفية - مصر.
درء تعارض العقل والنقل - للإمام (ابن تيمية)، تحقيق د. محمد رشاد سالم، ط (1)، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض.
ذم الكلام وأهله - للإمام (أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي الأنصاري)، تحقيق عبد الله الأنصاري، ط (1)، مكتبة الغرباء، المدينة المنورة، 1319هـ.
الزهد - للإمام (أحمد بن حنبل ت 241هـ)، دار الكتب العلمية - بيروت.
الزهد - للإمام (وكيع بن الجراح ت 197هـ)، تحقيق عبد الرحمن الفرايوائي، مكتبة الدار - المدينة المنورة - 1404هـ.
سلسلة الأحاديث الصحيحة - للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة - للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
السنة - لأبي عاصم (الحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك ت 287هـ)، تحقيق وتخريج - الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط (1)، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400هـ.
سنن أبي داود - للحافظ (أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275هـ)، تحقيق محمد محي الدين، دار الباز، مكة المكرمة.
سنن الدارمي - (لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ت255هـ)، عناية محمد أحمد دهمان، دار إحياء السنة النبوية، بيروت.
السنن الكبرى - للحافظ (أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ت 302هـ) تحقيق د.عبد الغفار سليمان وسيد كسروي، ط (1)، دار الكتب العلمية، بيروت 1411هـ.(1/3)
سنن النسائي المجتبى - للحافظ النسائي، ط (1) مكتبة مصطفى الحلبي، مصر، 1383هـ.
سير أعلام النبلاء - للإمام الذهبي (محمد بن أحمد الذهبي ت 748هـ)، د.شعيب الأرناؤط، ط (2)، مؤسسة الرسالة، بيروت 1402هـ.
شرح جوهرة التوحيد - (إبراهيم بن محمد البيجوري ت 1277هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ.
الشريعة - للإمام (أبي بكر محمد بن الحسين الآجري ت 360هـ)، تحقيق د. عبد الله الدميجي، ط (1) دار الوطن، الرياض.
الضعفاء الكبير - (لأبي جعفر محمد بن عمرو العقيلي المكي ت 322هـ)، تحقيق عبد المعطي قلعجي، ط (1)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1402هـ.
طبقات الحنابلة - (للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى)، دار المعرفة، بيروت.
طبقات الشافعية الكبرى - (تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي السبكي ت 771هـ)، تحقيق: عبد الفتاح الحلو، ومحمود الطناجي، دار إحياء الكتب العربية - القاهرة.
طبقات الفقهاء - (لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي ت 393هـ)، تحقيق دار إحسان عباس، دار الرائد العربي، بيروت، 1978م.
عقود الجمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان - (لشمس الدين محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي ت 942هـ)، مكتبة الإيمان، المدينة.
العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية - (لأبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني (إمام الحرمين) ت 478هـ)، تحقيق د.أحمد حجازي السقا، ط (1)، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1398هـ.
العلم - (لأبي زهير بن حرب النسائي ت 234هـ)، تحقيق الشيخ الألباني، دمشق.
الفرق بين الفرق - (للعلامة عبد القاهر بن طاهر البغدادي ت 249هـ)، تحقيق محمد محي الدين، دار المعرفة، بيروت.
الفقيه والمتفقة - (للخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت ت 463هـ)، تحقيق إسماعيل الأنصاري، دار إحياء السنة، بيروت، 1395هـ.
القاموس المحيط - للفيروز آبادي (مجد الدين محمد بن يعقوب ت 817هـ)، ط (2) مؤسسة الرسالة، بيروت، 1407هـ.(1/4)
اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة - (للسيوطي ت911هـ)، بيروت، 1395هـ.
لسان الميزان - للحافظ (أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت 852هـ)، ط (1) مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1390هـ.
المؤطأ - للإمام مالك بن أنس، تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية، بيروت.
مجمع الزوائد ومنبع الفوئد - للحافظ الهيثمي (نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي ت 807هـ)، مؤسسة المعارف، بيروت، 1406هـ.
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي، تصوير، ط (1)، 1398هـ.
المحصول في علم أصول الفقه - (فخر الدين محمد بن عمر الرازي ت 606هـ)، ط (1)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ.
المختصر المحتاج إليه من تاريخ الحافظ أبي عبد الله محمد بن سعيد بن يحيى ابن الدبيثي - اختصره الإمام الذهبي، ط (1)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ.
مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر (للعلامة محمد بن مكرم المعروف بابن منظور ت 711هـ، تحقيق روحية النحاس ومحمد مطيع الحافظ، ط (1)، دار الفكر، بيروت، 1411هـ.
المدخل إلى السنن الكبرى - للحافظ أبي بكر البيهقي (أحمد بن الحسين البيهقي ت 458هـ) تحقيق د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، بيروت.
المستدرك على الصحيحين في الحديث - للحافظ الحاكم (أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري ت 405هـ) وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي، دار المعرفة، بيروت.
مسند الإمام أحمد بن حنبل - للإمام (أحمد بن حنبل الشيباني ت 241هـ)، ط (2)، دار الكتب العلمية، بيروت 1398هـ.
مشيخة ابن الجوزي - (للحافظ ابن الجوزي)، تحقيق محمد محفوظ، ط (1)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1400هـ.
المصنوع في معرفة الحديث الموضوع (الموضوعات الصغرى) - للعلامة (علي القاري الهروي المكي ت 1014هـ)، تحقيق عبد الفتاح أبو عدة، ط (4)، مكتبة الرشد، الرياض، 1404هـ.(1/5)
معجم البلدان - للعلامة (شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت الحموي)، دار صادر، بيروت.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع - (عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي ت 487هـ)، تحقيق مصطفى السقا، ط (3)، عالم الكتب، بيروت، 1403هـ.
المغني في الضعفاء - للإمام الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت 748هـ) تحقيق نور الدين عتر، ط (1)، دار المعارف، سوريا.
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين - للإمام (أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ت 330هـ)، تحقيق محمد محي الدين، ط (2)، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1389هـ.
الملل والنحل - (لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ت 548هـ)، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، 1404هـ.
مناقب الإمام أحمد بن حنبل - للحافظ (أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ت 597هـ)، تحقيق د.عبد الله التركي، ط (1)، مكتبة الخانجي، مصر، 1399هـ.
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم - (للحافظ ابن الجوزي)، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، 1358هـ.
المنجد في اللغة والأعلام - ط (27)، المكتبة الشرقية، بيروت.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال - للإمام الذهبي، تحقيق علي البجاوي، ط (1)، دار المعرفة، بيروت، 1382هـ.
النهاية في غريب الحديث والأثر - للإمام (مجد الدين المبارك بن محمد (ابن الأثير) ت 606هـ)، أنصار السنة المحمدية - لاهور - باكستان.
نواسخ القرآن - للحافظ (أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي)، تحقيق محمد أشرف الملباري، ط (1)، المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، 1404هـ.(1/6)
فصل: في ذكر أحمد بن محمد بن حنبل - رضي الله عنه -
أحمد بن محمد بن حنبل هو شيخ الأئمة ومزكي الأمة، وأوحد الملة رفيع القدر والهمة، صيرفي الأخبار وقدوة العلماء في معرفة الآثار، إليه في فنونها الرَّد والقبول، وله في عيونها الغُرر والحجُول، إمام الأنام مفتي الأمة في الحلال والحرام، في علم الحديث بحر زخار، وفي علم الفقه سماء مدرار، وفي الزهد والتقوى الحسن البصري، وفي الرقائق والدقائق ذو النون المصري(1)
__________
(1) ذو النون بن إبراهيم المصري، أبو الفيض، ويقال ثوبان بن إبراهيم وذا النون لقب، الزاهد المشهور، توفي سنة 245هـ.
(ر: ترجمته في تاريخ بغداد 8/393، وحلية الأولياء 9/331، وسير أعلام النبلاء 11/ 532).(2/1)
، وفي الورع سفيان الثوري، مالك أزمة العلوم في عصره، القائم بإحياء الدين ونصره، عزَّ بمكانه التقى، وتحصَّن في جنابه الهدى، واعتدل ميْل الإسلام برأيه، وانهزم خيل الباطل من حججه وآيه، أقوى من ضرب في عصره عن بيضة الدين بالحسام المرهف، وأعلم ]130/ب[ من تمكّن في وقته في شاهق الملة الحنيفية من الشعب الأشرف، مشاهده في الذب عن حريم السنة مشهورة، ومآثره في جمع الحديث مأثورة، وآية صبره في نصره السنة على جبينها مسطورة، تفسيره للقرآن در منظوم، ومسنده للحديث روض مرهوم(1)، وسائر تصانيفه في أنواع العلوم وشيٌ مرقوم، مسائله في الفقه جنة عالية، قطوفها دانية، ورَدُّه على الزنادقة دعوى التناقض على القرآن روضة زاهرة زاهية، ومقاماته في تمهيد قواعد السنة ظاهرة بادية، أبقى لنفسه بذلك ذكراً سائراً وشرفاً شاهراً، سحب بمكانه أذيال الفخر على السحائب، وجاز به أعلى المراتب والمناصب، رضيت حكمته الحكماء واختص بثمرة قوله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(2)، سار فضله في البدو والحضر مسير الشمس والقمر، شجرته في النسب خليلية الأصول والأغصان، إسماعيلية الفروع والقضبان، ربيعية الأوراق والأفنان، شيبانية الأعراق والقنوان، دهلية الأخلاق في جميع الشأن، فهو إمام الأئمة للإسلام بمدينة السلام، عليه أفضل التحية والسلام.
وختمي بالسلام على إمام
بنى في قمة العلياء بيتاً
وإني كلما أَمَّمْت قصداً
نجيحاً صُغت في معناه بيتاً ]131/أ[
الفصل الأول: في نسبه وحليته ومولده ووفاته - رضي الله عنه -
__________
(1) الرِّهمة، بالكسر: المطر الضعيف الدائم، يقال: روضة مرهومة. (ر: القاموس المحيط ص1441).
(2) سورة فاطر /28.(2/2)
هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حَيَّان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن [شيبان بن ذهل](1) بن ثعلبة بن عُكابة بن [صعب](2) بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هِنْب بن [أفصى](3) بن دُعْمِيِّ بن جديله بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بن أدِّ بن أُددَ بن الهُمَيْسَع بن حمل بن النبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام -.
يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزار بن معد، ولد نزار مضرَ وإياداً وربيعةً وانماراً. قال: وكان يقال: مضر وربيعة الصريحان.
ويروى عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا مضر وربيعة، فإنهما كانا مسلمين، ولا تسبوا قيسا فإنه كان مسلماً"(4).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد مضر بن نزار، وإليه دفع أبوه حجابة الكعبة، وأحمد بن محمد بن حنبل - رضي الله عنه - من ولد ربيعة بن نزار على ما ذكره أصحاب التواريخ.
__________
(1) في ص (ذهل بن شعبان) والتصويب من مناقب الإمام أحمد ص 38،39 للحافظ ابن الجوزي الذي قال - بعد أن ذكر عدة روايات في نسب الإمام أحمد -: وقد بان بهذه الروايات أن أحمد رضي الله عنه من ولد شيبان بن ذهل بن ثعلبة، لا من ولد ذهل بن شيبان، وذهل بن ثعلبة هو عم ذهل بن شيبان، وقد غلط أقوام فجعلوه من ولد ذهل بن شيبان. اهـ وبنحو ذلك ذكره الخطيب في تاريخ بغداد 4/413، و الذهبي في سير الأعلام 11/178،179.
(2) في ص (مصعب)، والتصويب من مناقب الإمام أحمد ص38 لابن الجوزي.
(3) في ص (قصي) والتصويب من حلية الأولياء 9/162، وتاريخ بغداد 4/413، 414، ومناقب الإمام أحمد ص38 لابن الجوزي.
(4) ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري 7/164 وقال: رواه الزبير بن بكار مرفوعا، وله شاهد عن حبيب من مرسل سعيد بن المسيب. اهـ(2/3)
قال الحسين بن أحمد الأسدي الطبري: أحمد بن محمد بن حنبل نسبه من بني شيبان، أصله بصري خطته بمرو(1) ويُعَد في البغداديين(2).
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: أحمد بن محمد بن حنبل خطته بمرو ويعد في البغداديين.
قال أحمد: حُمِلت من مرو، وأمي بي حامل ]131/ب[(3).
وقال أحمد: وُلدتُ في سنة أربع وستين ومائة في أولها في ربيع الآخر(4).
وجيئ به حملاً من مرو، وتوفي أبوه محمد بن حنبل وله ثلاثون سنة، فوليته أمه وجده حنبل ابن هلال ولي سَرَخْس(5).
قال الأصمعي: أحمد بن محمد بن حنبل من دُهَل، وكان أبوه قائداً ومات والد أحمد ولم يره، مات وهو حمل(6).
قال أحمد: طلبت العلم وأنا ابن ست عشرة سنة، فخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة، فحممت فرجعت إلى أمي ثم ماتت(7).
وتوفي أحمد - رحمه الله - في يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين، وكان سنُّه من يوم وُلد إلى أن توفي [سبع] وسبعون سنة(8).
__________
(1) الخطة - بالكسر- الأرض والدار يختطها الرجل في أرض غير مملوكة ليتحجرها ويبني فيها، وذلك إذا أذن السلطان لجماعة من المسلمين أن يختطوا الدور في موضع بعينه ويتخذوا فيها مساكن لهم، كما فعلوا بالكوفة والبصرة وبغداد. (ر: اللسان - مادة "خطط").
(2) الخطيب في تاريخ بغداد 4/415.
(3) ابن عدي في الكامل ص189.
(4) الخطيب في تاريخ بغداد 4/415، و الذهبي في سير الأعلام 11/179.
(5) أبو نعيم في الحلية 9/163، و الخطيب في تاريخ بغداد 4/415، وابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ص37.
(6) الذهبي في سير الأعلام 11/179.
(7) ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد 48،49، و الذهبي في سير الأعلام 11/185.
(8) الخطيب في تاريخ بغداد 4/422، والمزي في تهذيب الكمال 1/466. وفيه عن عبد الله ابن الإمام أحمد أن عمر الإمام أحمد بن حنبل حين توفي ثمان وسبعون سنة.(2/4)
وخرج إلى سفيان بن عيينة سنة سبع وثمانين، وقد مات فضيل وهي أول سنة حجّ، وخرج سنة ثمان وسبعين إلى عبد الرزاق وجاءه موت سفيان ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي سنة ثمان وتسعين(1)، وحجّ خمس حجج، منها ثلاثة راجلاً، أنفق في أحد هذه الحجج ثلاثين درهماً(2).
قال أحمد: سمعت أمي تقول: لما قدمنا نهروان في مجيئنا من خراسان من مرو، فإذا بأعرابي على جسر نهروان على ناقته فقال لي: يا امرأة احفظي ما في بطنك فسيكون له شأن. فلما أن قدمت بغداد وضعته ]132/أ[.
وقال أحمد: وقع لي الخروج إلى خراسان فراودت نفسي بالخروج حتى دخلت همدان ليلاً، فلم أجد موضعاً آويه، وكان شتاءً والمساجد كلها مغلقة- قال: فأبصرت ضوء نار فأخذت نحوه، فإذا بأتون حمام فدخلت الأتون فإذا بأسود يوقد الأتون، فسلمت عليه فردَّ سلاماً خفياً، ولم يكلمني ولا قال لي اجلس، وما زلت واقفاً حتى جلست من غير أمره ولم يكلمني، فما زال حتى فرغ من عمله، ثم ردَّ باب الأتون وتمسَّح وأكل فلم يقل لي:كُلْ، فلما فرغ قلت: رأيت عجباً. قال: أي شيء رأيت؟ قلت: دخلت هذا المكان وأنا غريب وأنت أهلي، فلم تقل لي اقعد ولا كلّمتَني ولا سألتني. قال: يا هذا أنا رجل مملوك وليس الأتون لي فأتحكم فيه وآمر فيه، وأما الطعام فأنا رجل قد رُسمت بعمل ما وبطعام ما، فإن أطعمت الطعام غيري أخاف التقصير في العمل فيكون عليَّ من الله مطالبة. قال أحمد: فقلت هذا الذي أزعجني إلى هاهنا، فرجعت من همدان ولم يكن لي فائدة أكثر من هذا.
أعقب أحمد ابنين، أبا عبد الرحمن عبدَ الله، وأبا الفضل صالحاً.
فأما صالح فهو أكبر أولاده، وكان لأحمد الحسن والحسين توأمين ماتا بالقرب من ولادتهما، والحسن ومحمد، وعاشا من السِّن نحو الأربعين.
__________
(1) ابن الجوزي في المناقب ص46، و الذهبي في سير الأعلام 11/183.
(2) المرجعين السابقين ص362، 11/183.(2/5)
وسعيد بن أحمد ولي قضاء الكوفة(1).
الفصل الثاني: في علمه وورعه وزهده
صنف أحمد في القرآن ]132/ب[ التفسير(2)، وهو مائة ألف حديث وعشرون ألفاً، والمسند، وهو ثلاثون ألفاً، والناسخ والمنسوخ، والمقدم والمؤخر في كتاب الله تعالى، وجوابات القرآن، والتاريخ، والرد على الجهمية، وفضائل الصحابة، والمناسك الكبير والصغير، وكتاب الزهد، والرد على الزنادقة في دعواهم التناقض على القرآن، وحديث شعبة … وغير ذلك من التصانيف(3).
قال حرملة: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: خرجت من العراق وما خلفت بها أتقى ولا أورع ولا أفقه من أحمد بن حنبل(4).
__________
(1) ابن الجوزي في المناقب ص381-383، و الذهبي في سير الأعلام 11/332، 333.
(2) قال الإمام الذهبي معلقاً على نسبة كتاب التفسير إلى الإمام أحمد: "فتفسيره المذكور شيء لا وجود له، ولو وجد لاجتهد الفضلاء في تحصيله، ولاشتهر، ثم لو ألف تفسيرا لما كان يكون أزيد من عشرة آلاف أثر، ولاقتضى أن يكون في خمسة مجلدات، فهذا تفسير ابن جرير الذي جمع فيه فأوعى لا يبلغ عشرين ألفاً، وما ذكر تفسير أحمد أحد سوى أبي الحسن بن المنادي في تاريخه. اهـ (ر: سير الأعلام 11/328).
(3) ذكر كتبه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ص248، و الذهبي في سير الأعلام 11/327-330.
(4) الخطيب في تاريخ بغداد 4/419، وابن الجوزي في المناقب ص145، والمزي في تهذيب الكمال 1/451، و الذهبي في سير الأعلام 11/195.(2/6)
وقد صنف جماعة من الأئمة مناقب أحمد، مثل: عبد الرحمن بن أبي حاتم(1)، والحسين بن أحمد الطبري، وأبو يعلى بن الفرّاء، والحاكم النيسابوري، وابن منده الأصبهاني(2)، والخطيب أبوبكر بن ثابت البغدادي، وأبو نعيم الأصفهاني، وعبد الله بن محمد الأنصاري، وغيرهم(3).
وكان الشافعي يقول لأحمد: أنتم أعلم بالحديث(4)، فإن كان الحديث صحيحاً فاعلموني إن شاء أن يكون كوفياً أو بصرياً أو شامياً حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً(5).
__________
(1) الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم، صاحب الجرح والتعديل، الإمام الحافظ المشهور توفي سنة 327هـ (ر: ترجمته في سير أعلام النبلاء 13/263).
(2) هو محمد بن إسحاق بن منده، الحافظ الإمام، له تصانيف كثيرة، توفي سنة 395هـ (ر: ترجمته في سير أعلام النبلاء 17/28).
(3) من العلماء الذين ألفوا في ترجمة الإمام أحمد ومناقبه وفضائله:
- ... أبو الحسن أحمد بن جعفر بن المنادى (ت336هـ).
- ... أحمد بن الحسين البيهقي (ت458هـ).
- ... أبو علي الحسين بن أحمد البناء (ت471هـ).
- ... شيخ الإسلام عبد الله الأنصاري الهروي (481هـ).
- ... القاضي أبو الحسن بن أبي يعلى (ت526هـ).
- ... أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (597هـ).
(4) في رواية البيهقي زاد (والرجال مني).
(5) أبو نعيم في الحلية 9/106، 170، وابن عبد البر في الانتقاء ص75، و البيهقي في مناقب الشافعي 1/476، وفي المدخل ص172،173، وابن أبي حاتم في آداب الشافعي ومناقبه ص94،95، و الذهبي في سير الأعلام 11/213.(2/7)
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: زرت أحمد بن محمد بن حنبل، فلما دخلت عليه بيته قام إلي واعتنقني وأجلسني في صدر مجلسه، وجلس بين يدي فقلت: يا أبا عبد الله، أليس يقال صاحب ]133/أ[ البيت أو المجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم يَقْعد ويُقعد من يريد. قال: قلت في نفسي: خذ إليك يا أبا عبيد فائدة. ثم قلت: يا أبا عبد الله لو كنت آتيك على حسب ما تستحق لأتيتك كل يوم. فقال: لا تقل ذلك فإن لي إخوانا ما ألقاهم في كل سنة إلا مرة، أنا أوثق بمودتهم ممن ألقى كل يوم. قال: قلت هذه أخرى يا أبا عبيد. فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله. فقال قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن يمشى معه إلى باب الدار ويؤخذ بركابه. قال: قلت: يا أبا عبد الله، من عن الشعبي؟، قال: ابن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي. قال: قلت يا أبا عبيد هذه ثالثة. قال: فمشى معي إلى باب الدار وأخذ بركابي(1).
قال عبد الوهاب الورَّاق: ما رأيت مثل أحمد. قالوا له: وإيش الذي بان لك من فضله وعلمه؟ قال: رَجُل سُئِل ستين ألف مسئلة فأجاب فيها بأن قال حدثنا وأخبرنا(2).
قال أبو زرعة: حزرنا حفظ أحمد بن محمد بن حنبل بالمذاكرة، وكان يزيد على سبعمائة ألف حديث(3).
قال أحمد: كُلِ الطعام مع الإخوان بالسرور، ومع الفقراء بالإيثار، ومع أبناء الدنيا بالمروءة(4).
قال الشافعي لأحمد: ما تقول في العائد في هبته؟ فقال: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه. فقال الشافعي: فمن أخبرك أن الكلب حُرِّم عليه العود في قيئه؟! فقال: أما علمت أن مثل السوء لغيرنا ]133/ب[ قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ}(5).
__________
(1) ابن الجوزي في المناقب ص152،153، وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 1/259.
(2) ابن الجوزي في المناقب، 184، 185.
(3) المرجع السابق ص162.
(4) المرجع السابق ص261.
(5) سورة النحل/60.(2/8)
ولما ضُرب أحمد ومرض أمره الطبيب بأن تشوى له دجاجة فشويت في دار ابنه صالح فلم يأكلها وقال: إن ابني يأخذ عطاء الخليفة(1).
الفصل الثالث: في ثناء الناس عليه
قال الشافعي: أحمد إمام في ثمان خصال: في الحديث، والفقه، واللغة، والقرآن، والفقر(2)، والزهد(3)، والورع، والسنة(4).
وقال المزني: أحمد بن حنبل، أبوبكر يوم الردّة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم صفين(5).
قال قتيبة بن سعيد: لولا الثوري مات الورع، ولولا أحمد بن حنبل أُحدث في الدين. فقيل له: تقيس أحمد بالثوري ؟، قال: أقيس أحمد بعلية التابعين، إن أحمد قام في الأمة مقام النبوة(6).
قال إسحاق بن إبراهيم: أحمد بن حنبل حجة بين الله وبين عبيده في أرضه(7).
__________
(1) ابن الجوزي في المناقب 330، وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 1/10،11، وبنحوه في سير الأعلام 11/272 للذهبي.
(2) لفظ (الفقر) في الشرع: يراد به الفقر من المال، ويراد به فقر المخلوق إلى خالقه كما قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّه} (ر: مجموع الفتاوى 11/196 للإمام ابن تيمية).
(3) الزهد المشروع: هو ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله. (ر: مجموع الفتاوى 10/21 للإمام ابن تيمية).
(4) نقله القاضي ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 1/5، و المقدسي في مناقب الأئمة ص131.
(5) البيهقي في مناقب الشافعي 2/357، و ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ص164، والذهبي في سير الأعلام 11/201، و المقدسي في مناقب الأئمة الأربعة ص145.
(6) الخطيب في تاريخ بغداد 4/147، و ابن الجوزي في المناقب ص112، و المقدسي في مناقب الأئمة ص141، و الذهبي في سير الأعلام 11/195.
(7) الخطيب في تاريخ بغداد 4/417، و ابن الجوزي في المناقب ص156، و المقدسي في مناقب الأئمة ص141.(2/9)
قال هلال بن العلاء: ثلاثة أشياء لا بد للناس منها: فقه الشافعي، فإنه ما ترك كتاباً من الكتاب والسنة، ومحنة أحمد بن حنبل والسياط تأخذه، لولا ذلك لذهب الدين، وغريب الحديث لأبي عبيد، فإن أصحاب الحديث كانوا يكتبون الحديث ولا يدرون ما هو حتى جاء أبو عبيد ففسَّره(1).
سئل بشر بن الحارث عن أحمد بن حنبل ؟ فقال: أنا أُسْأل عن أحمد؟! إن أحمد أُدخل الكيرَ فخرجت ذهبه حمراء(2).
قال حسين بن حبيب: حدثني محمد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وكان في مسجد ]134/أ[ الخيف فقلت: يا رسول الله كيف بشر الحافي(3) عندكم ؟ قال: أنزل وسط الجنة هو وأحمد بن حنبل(4).
قال أبو الحسن التميمي: سمعت أبي عن جدي يقول: لما توفي أحمد بن حنبل جهدت أن أصل إلى قبره سبعة أيام فلم أقدر فلما خفَّ الناس وصلت(5)، وإذا عنده حلقتان فتقدمت إلى إحداهما فرأيت أبا بكر المروزي - غلام أحمد - فقلت: شيخكم بما كان يأمركم بالعبادة أم بالمعاش ؟ قال: كان يأمرنا بالعبادة.
__________
(1) ابن الجوزي في المناقب ص167، والمزي في تهذيب الكمال 1/463، و المقدسي في مناقب الأئمة ص154 بنحوه.
(2) ابن الجوزي في المناقب ص156، والمزي في تهذيب الكمال 1/454، و الذهبي في سير الأعلام 11/197، و المقدسي في مناقب الأئمة ص134.
(3) هو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن المروزي، كان زاهداً، عالماً ربانياً، توفي سنة 227هـ (ر: ترجمته في حلية الأولياء 8/336، وتاريخ بغداد 7/67).
(4) بنحوه ذكره ابن الجوزي في المناقب ص572.
(5) ذكره ابن الجوزي في المناقب ص508.(2/10)
ثم تقدمت إلى الحلقة الأخرى فإذا عبد الله ابن أحمد فسألته فقال: كان يأمرنا بالعبادة والمعاش، فأعجبني اختلافهما، فرأيت فيما يرى النائم خلقاً عظيماً وجلبة فسألت عنها، فقالوا: أحمد بن حنبل يزور رب العزّة، فوصلت إليه وعلى رأسه تاج من ذهب وفي رجليه نعلان من ذهب وهو في زلال من نور، فقلت: يا شيخ كنت تنهى عن مثله ؟ فقال: هذا زي أولياء الله إذا زاروا ربَّهم. فقلت: يا أبا عبد الله سألتُ المروزي: بما ذا كان يأمركم شيخكم فقال: كان يأمرنا بالعبادة. فقال: صدق أبوبكر رضيت له بما رضي الله لنبيهصلى الله عليه وسلم حيث قال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقا}(1). فقلت: وسألت عبد الله فقال: كان يأمرنا بالعبادة والمعاش، فقال: صدق، رضيت له بما رضي الله لنبيه داود عليه السلام إذ قال: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْد]134/ب[ وَاعْمَلُوا صَالِحاً}(2) فأمره بهما جميعاً(3).
وأورد الحافظ أبو نعيم في كتاب حلية الأولياء قال: بعث أمير المؤمنين عشرين حازراً ليحزروا كم صلّى على أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فحزروا ألف ألف وثلاثمائة ألف سوى من كان في السفن(4).
قال أبو زرعة الرازي: بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس عليه حيث صلي على أحمد بن حنبل - رحمه الله -، فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة ألف، وصلى عليه محمد بن عبد الله بن طاهر(5).
__________
(1) سورة طه /132.
(2) سورة سبأ /11.
(3) قال الإمام الذهبي في تعليقه على المنامات التي روئيت للإمام أحمد ونقلها ابن الجوزي وابن البناء وغيرهما - قال: وليس أبو عبد الله ممن يحتاج تقرير ولايته إلى منامات، ولكنها جند من جند الله، تسر المؤمن، ولا سيما إذا تواترت. اهـ (ر: سير الأعلام 11/353).
(4) أبو نعيم في الحلية 9/180، و ابن الجوزي في المناقب ص504،505.
(5) ابن الجوزي في المناقب ص505، والذهبي في سير الأعلام 11/340، والمقدسي في مناقب الأئمة الأربعة ص157.(2/11)
قال الخطيب أبوبكر في تاريخ بغداد: لما صلوا على جنازة أحمد بن حنبل كان الجَمْع كثيراً، فأمر المتوكل أمير المؤمنين أن يمسح الموضع، وكانوا صلوا عليه في الصحراء، فمسحوا وقدروا أنه صلى عليه ألف ألف وستون ألفا دون من كان على السور ودون النساء والصبيان، فأسلم يوم مات أحمد بن حنبل عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس(1).
وأورد الخطيب أبوبكر في تاريخ بغداد: قال علي بن المديني: أيَّد الله هذا الدين برجلين لا ثالث لهما، بأبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم الرِّدة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة(2).
وقال ابن عدي الحافظ: جميع الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدور على هذين الرجلين، يعني أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فما قبلاه فهو المقبول وما ردَّاه فهو المردود.
__________
(1) تاريخ بغداد 4/423، و أبو نعيم في الحلية 9/180، و ابن الجوزي في المناقب ص419، والمزي في تهذيب الكمال1/468، و الذهبي في سير الأعلام 11/343، وقال الذهبي: هذه حكاية منكرة (أي قصة إسلام عشرين ألفا من اليهود والنصارى في يوم وفاة الإمام أحمد)، تفرد بنقلها هذا المكي عن هذا الوركاني، ولا يُعرف، ثم العادة والعقل تُحيل وقوع مثل هذا: وهو إسلام ألوف من الناس لموت ولي الله، ولا ينقل ذلك إلا مجهول لا يعرف، فلو وقع ذلك لاشتهر، ولتواتر لتوفر الهمم والدواعي على نقل مثله، بل لو أسلم لموته مائة نفس لقضى من ذلك العجب، فما ظنك؟! ا.هـ. وبنحو ذلك ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام 18/143.
(2) تاريخ بغداد 4/418، و الذهبي في سير الأعلام 11/201.(2/12)
جاء يحيى بن معين إلى أحمد بن حنبل ]135/أ[ وهو مريض فسلَّم عليه، فلم يرد السلام، وكان أحمد قد حلف بالعهد أن لا يكلّم أحداً ممن أجاب في الفتنة حتى يلقى الله، فما زال يعتذر ويقول: حديث عمار وقال الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان}(1) فحوَّل أحمد وجهه إلى الجانب الآخر فقال يحيى: لا تقبل عذراً، فخرجت بعده وهو جالس على الباب فقال: إيش قال أحمد بعدي ؟ قلت: قال: يحتج بحديث عمار وحديث عمار: مررت بهم وهم يسبونك فنهيتهم فضربوني، وأنتم قيل لكم نريد أن نضربكم. فسمعت يحيى بن معين مُسِّر: يا أحمد غفر الله لك، فما رأيت والله تحت سماء الله أفقه في دين الله منك(2).
وقد رثاه المتقدمون والمتأخرون ما حكى لي أبو طاهر الأصبهاني قال: سمعت الإمام أبا المظفر محمد بن أبي العباس الأبيوردي الأموي(3) قال: رأيت عبد الله بن أحمد في المنام يقول: لم لا تقول فطال ما نصرتم السنة. فلما أصبحت قلت:
سقى الأوْطَف الساري ضريح ابن حنبل
ورفَّ به روض من الزهر أَغْيَدُ
ففيه النهى والعلم والحلم والتقى
__________
(1) سورة النحل /106.
(2) ذكره ابن الجوزي في المناقب ص474، 475 وقال ابن الجوزي: إذا ثبت أن القوم أجابوا مكرهين فقد استعملوا الجائز، فلمَ هجرهم أحمد؟. فالجواب من ثلاثة وجوه:
أحدها: أن القوم توعدوا ولم يضربوا فأجابوا، والتواعد ليس بإكراه، وقد بان هذا بما ذكرناه من حديث يحي بن معين.
والثاني: أنه هجرهم على وجه التأديب ليعلم تعظيم القول الذي أجابوا عليه، فيكون ذلك حفظاً لهم من الزيغ.
والثالث يقال: إن معظم القوم لما أجابوا قبلوا الأموال وترددوا إلى القوم وتقربوا منهم، ففعلوا ما لا يجوز، فلهذا استحقوا الذم والهجر. اهـ
(3) أبو المظفر الأموي العنبسي اللغوي، شاعر وقته، وصاحب التصانيف، موصوف بالدين والورع، توفي سنة 557هـ (ر: ترجمته في وفيات الأعيان 4/444، سير الأعلام 19/283 للذهبي).(2/13)
وتحت صفيح القبر مجدٌ وسُودد
أعيد به الإسلام غضاً فلم يزل
يرفع من بنيانه ويشيد
وما الردة الأولى وقد قل عربها
عتيق وبيض الهند في الهام تغمد ]135/ب[
بأدهى من الأخرى التي شَبَّ نارها
وقد كاد أنوار الشريعة تخمد
رمى أحمد الغاوي بها فرقة الهدى
فأطفاها شيخ الأئمة أحمد
ولم يثنه عن نصرة الدين موطن
به الدم يمريه الحسام المهنَّد
فولوا شلالاً والفرائص ترعد
وساوره أعداؤه ثم أحجموا
وقوَّم در الملحدين بحجة
يقوم لها الجهمي طوراً ويقعد
فغضبته لله أودت ببدعة
لو انتشرت عنهم لما كان يعبد
وكل حديث لم يصححه مظلم
على ناقليه طرقه حين يُسندُ
هو الربعي المحضُ ليس يعبه
من المضريين الثناء المخلد
سأهدي إليه كل يوم قصيدة
تُلَذُّ بأفواه الرواة نشد
محبَّرة سنية أموية
تغور بها هوج المطايا وتنجد
ومن كان لا يصفيه في الله وُدُّه
ولا يتقرى هديه فهو ملحد ]136/أ[
الفصل الرابع: في ذكر أصحابه
في أصحابه كثرة، والمشهورون منهم: ابناه، صالح وعبد الله، وأبو بكر المروذي.
- أما صالح فهو أكبر أولاده(1)، ولي القضاء بطرسوس، ثم ولي بعده القضاء بأصبهان، ولد سنة ثلاث ومائتين، ومات بأصبهان ودفن بقرب قبر حُمَمَة الدَّوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان سنة ست وستين ومائتين، وله ثلاث وستون سنة، وكان له أولاد: زهير وأحمد، وكان لأحمد بن صالح ولدٌ سماه محمداً وكناه بأبي جعفر، حدَّث عن عم أبيه.
- عبد الله(2)، ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين، سمع المسند من أبيه وهو ثلاثون ألف حديث، والتفسير وهو مائة ألف حديث وعشرون ألفاً، سمع منها ثمانين ألفاً، والناسخ والمنسوخ، والتاريخ، مات سنة تسعين ومائتين وصلى عليه زهير ابن أخيه، ودفن ببغداد في مقابر باب التين.
__________
(1) انظر ترجمته في مناقب الإمام أحمد ص381 لابن الجوزي.
(2) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 9/375، مناقب الإمام أحمد ص383 لابن الجوزي، سير أعلام النبلاء 13/516.(2/14)
وقال: صحَّ عندي أن بها نبيًّا مدفونا(1)، وكان سنه يوم توفي: سبع وسبعون سنة، ويكنى أبا عبد الرحمن، حدّث عن أبيه وعبد الأعلى بن حماد(2) وكامل بن طلحة ويحيى بن كثير في خلق كثير.
روى عنه أبو القاسم البغوي وعبد الله بن إسحاق المدائني ومحمد بن خلف في آخرين.
- أبو بكر المَرُّوذِي(3) - رحمه الله -، أحمد بن محمد بن الحجاج، أبوبكر المروذي كان ]136/ب[ فاضلاً ورعاً، وهو الذي غسَّل أحمد بن حنبل، وروى عنه مسائل كثيرة(4).
قال الخلال: خرج المروذي إلى الغزو، فشيَّعه الناس إلى سامرا، فجعل يردّهم فلا يرجعون قال: فحزروا فإذا هم بسامرا سوى من رجع نحو خمسين ألف إنسان فقيل له: يا أبا بكر احمد الله فهذا عَلمٌ قد نشر لك. قال: فبكى ثم قال: ليس هذا العلم لي وإنما هذا عَلم أحمد بن حنبل(5).
وكان يقول: قليل التقوى يهزم كثير الجيوش.
مات في جمادى الأولى سنة خمس وسبعين ومائتين، ودفن قريباً من قبر أحمد بن حنبل - رضي الله عنهما -.
قال إسحاق بن داود: لا أعلم أحداً أقوم بأمر الإسلام من أبي بكر المروذي وأصحابه(6).
قال أبوبكر بن صدقة: لاتُخْدَعن عن المروذي، فإني ما علمت أحداً كان أذب عن دين الله منه(7).
__________
(1) ر: تاريخ بغداد 9/376، وطبقات الحنابلة 1/188.
(2) عبد الأعلى بن حماد النرسي الباهلي البصري، أبو يحيى، لا بأس به، مات سنة 237هـ.
(ر: التهذيب 6/93، والتقريب1/464 لابن حجر).
(3) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 4/423، وفي طبقات الحنابلة 1/56، وفي مناقب الإمام أحمد ص611 لابن الجوزي، وسير أعلام النبلاء 11/330.
(4) الخطيب في تاريخ بغداد 4/423.
(5) الخطيب في تاريخ بغداد 4/424، و ابن الجوزي في المناقب ص611.
(6) تاريخ بغداد 4/423.
(7) تاريخ بغداد 4/423.(2/15)
لما مات المروذي أغفا إنسان عند قبره، فانتبه من نومه فزعاً، فقيل له: أي شيء القصة ؟ قال: رأيت أحمد بن حنبل راكباً فقلت: إلى أين يا أبا عبد الله؟ فقال: إلى شجرة طوبى نلحق أبا بكر المروذي. ذكر ذلك كله الخطيب أبوبكر في تاريخ بغداد(1).
ذكر طرف من محنته
قال أبوبكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروذي ]137/أ[: كنت بين يدي أحمد بن حنبل فإذا بداق يدق الباب فقلت: من هذا ؟ فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرجت فإذا أنا بأعرابي بدوي فقال لي: أها هنا منزل أحمد بن حنبل ؟ فقلت: نعم. فقال: استأذن لي عليه. فاستأذنت له فقال: ليدخل. فدخل الأعرابي فسلَّم على أبي عبد الله وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام. فقال له: من أين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: كنت نائماً بالمدينة بين القبر والمنبر، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي فقال لي: يا أعرابي تمضي لي في حاجة وأضمن لك على ربي الجنة؟ فقلت: نعم يا رسول الله. قال: تمضي إلى العراق وتسأل عن أحمد بن حنبل، وتقرأ عليه السلام مني وتقول له: إن الله سيبتليك بمحنة فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.
قال المروذي: ما كان بعده إلا ثلاثة أيام حتى أخذ الشيخ(2).
__________
(1) تاريخ بغداد 4/424،425، و ابن الجوزي في المناقب ص611.
(2) ذكر القصة ابن الجوزي في المناقب ص558،559 وفيه: قال أبو بكر المروزي: وكان بين منصرف الأعرابي وبين المحنة خمسة وعشرون يوماً. اهـ(2/16)
قال الربيع: قال لي الشافعي بمصر: خذ كتابي هذا فامض به وسلّمه إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل وآتني بالجواب. فَشَخَصَ الربيع إلى بغداد ومعه الكتاب فصادف أحمد بن حنبل فصلى معه الفجر، فلما انفتل من المحراب سلَّم إليه الكتاب وقال له: هذا كتاب أخيك الشافعي من مصر. فقال له أحمد: نظرت فيه ؟ فقال: لا. فكسر أبو عبد الله الختم، فقرأ الكتاب فتغرغرت ]137/ب[ عيناه بالدموع فقال له الربيع: أي شيء فيه يا أبا عبد الله ؟ فقال: يذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال له: اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل واقرأ عليه مني السلام، وقل له إنك ستمتحن، وتدعا إلى خلق القرآن، فلا تجبهم فسيرفع الله لك علماً إلى يوم القيامة. فقال له الربيع: البشارة يا أبا عبد الله. فخلع عليه قميصه الذي يلي جلده، فأخذه الربيع وخرج إلى مصر، وسلّم جواب الكتاب إلى الشافعي فقال له: إيش دفع إليك ؟ فقال: القميص الذي يلي جلده. فقال له الشافعي: ليس نفجعك به، ولكن بُلَّه وادفع إلي الماء حتى أتبرك به(1)
__________
(1) ذكر القصة ابن عساكر في تاريخ دمشق 7/270،271، و ابن الجوزي في المناقب ص551-553، وابن كثير في البداية والنهاية 10/331. وهي حكاية باطلة نص الإمام الذهبي على عدم صحتها فقال في ترجمة الربيع في سير أعلام النبلاء 12/587،588: ولم يكن صاحب رحلة، فأما ما يروى أن الشافعي بعثه إلى بغداد بكتابه إلى أحمد بن حنبل فغير صحيح. اهـ
ويؤيد كلام الذهبي أن الخطيب البغدادي لم يترجم للربيع في تاريخ بغداد مع التزامه ترجمة كل من ورد بغداد، مع أن الربيع كان من العلماء المشهورين. كما أن الشافعي - رحمه الله- قد لقي من هو أكبر وأفضل من الإمام أحمد ولم يتبرك به - كالإمام مالك وسفيان بن عيينة رحمهم الله.
يضاف إلى ما سبق أن أسانيد هذه الحكاية الباطلة فيها انقطاع، ورواة لا يعرفون، وبعضهم متهمون كأبي عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، قال عنه الذهبي في سير الأعلام 17/252: "وفي الجملة ففي تصانيفه - محمد السلمي- أحاديث وحكايات موضوعة". اهـ (انظر: التبرك، أنواعه وأحكامه ص384،386 د. ناصر الجديع).(2/17)
.
قال أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: ما ثبتني في الأمر الذي نزل بي ما ثبتني أعرابي لقيني في رحبه مالك بن طوق،(1) قال لي: يا أحمد إن يقتلك الحق تمت شهيداً، وإن تعش تعش حميداً(2).
قال أبوبكر أحمد بن كامل في تاريخه: ضرب المعتصم أحمد بن حنبل في المحنة في القرآن سنة سبع وعشرين ومائتين.
أدرك أحمد سبعة من الخلفاء، وطلبه المأمون فمات قبل أن يصل إليه، وضربه المعتصم، ومنعه الواثق من الخروج وجعل داره ]138/أ[ عليه حبساً، وأخرجه المتوكل - رحمه الله- وخلع عليه وأكرمه ورفع المحنة في القرآن.
- لما حمل أحمد بن حنبل إلى المعتصم وكلموه في القرآن استدل بقول الله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}(3) قال: فإن يكن القول من الله فإن القرآن كلام الله، واستدل بقوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر}(4) قال: وقد فرَّق بين الخلق والأمر، واستدل أيضاً بقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(5) فلو كان قوله: {كُنْ} مخلوقاً لاحتاج إلى قول آخر، وذلك القول إلى آخر، فيتسلسل ولا يتحصل.
__________
(1) رحبة مالك بن طوق: تقع بين الرقة وبغداد، على شاطئ الفرات وتبعد عن بغداد مائة فرسخ، وعن الرقة نيفاً وعشرين فرسخاً. (ر: معجم البلدان 3/34 ياقوت الحموي).
(2) الذهبي في سير الأعلام 11/241،459، وابن كثير في البداية والنهاية 10/332
(3) سورة السجدة /13.
(4) سورة الأعراف /54.
(5) سورة النحل /40.(2/18)
قال: وكان يقول: اعطوني آية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى آخذ به. فقال له ابن أبي دؤاد - لعنه الله - ما تقول في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّا}(1) ؟ فقال أحمد: الجعل في القرآن على وجوه، هاهنا ليس معناه الخلق إنما معناه: أنزلناه بلسان العرب، قال الله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَج}(2) قال ابن عباس: "غير مخلوق".
وكلامه من علمه، وعلمه من صفته، وصفته غير مخلوق(3).
فلما مدوه ليُضرب انحل سراويله، فحرَّك شفتيه فارتفع السراويل من بعد انخفاضه، وانعقد من بعد انحلاله(4)، وأخذ المعتصم الصفار وكان ]138/ب[ ينتبه في الليل مذعوراً، وربما سُمِعَ يقول: ما لي ولأحمد، كأنه يُعذَّب إلى أن مات(5).
قال عبد الله بن محمد الهروي(6) فيه:
ديني حديث المصطفى وشريعتي
آثار من تبعوه بالإحسان
وإمام العوام لله الذي
دفنوا حميد الشأن في بغدان
جمع التقى والزهد في دنياهم
والعلم بعد طهارة الأردان
خَصْم النبي وصيرفي حديثهِ
ومُفْلق أعرافها بمعان
حَبْر العراق ومحنة لذوي
الهوى يدرى ببغضته ذوو الأظغان
عرف الهدى فاجتاب ثوبي نصره
وسخا بمهجته على عرفان
متجرداً فوق السياط تنوشه
أيدي سياط أئمة العدوان
__________
(1) سورة الزخرف /3.
(2) سورة الزمر /28.
(3) خبر الإمام أحمد مع المعتصم، أورده أبو نعيم في الحلية 9/197-204، و ابن الجوزي في المناقب ص397، و الذهبي في سير الأعلام 11/243.
(4) أبو نعيم في الحلية 9/195،206، والذهبي في سير الأعلام 11/255،256 وقال الإمام الذهبي معلقاً: هذه حكاية منكرة، أخاف أن يكون داود- يقصد داود بن عرفة - وضعها. اهـ وذكر القصة بإسناد آخر وقال: وهذه الحكاية لا تصح، وقد ساق صاحب "الحلية" من الخرافات السمجة هنا ما يستحيا من ذكره. اهـ
(5) بنحوه في كتاب محنة الإمام أحمد بن حنبل ص115 للحافظ تقي الدين عبد الغني المقدسي (ت600هـ) تحقيق: د. عبد الله التركي.
(6) تقدمت ترجمته(2/19)
ورعى حفيظة عُصبة صحبتهم
لله عاصِمة من الإيهان
عرضت له الدنيا فأعرض سالماً
عنها كفعل الراهب الخمصَان
وأبى على الغاوين مَا قد موَّهوا
من زخرف ورموه من هذيان
هانت عليه نفسه في دينه
ففدى الإمامُ الدينَ بالجثمان
ومنها:
لله ما لقي ابن حنبل صابراً
عزماً وتبصرة بلا أعوان
فعلى ابن حنبل أحمد بن محمد
وعلى الذين تلوه في البلدان
صلى الإله وصَبَّ فوق عظامهم
صَوْبَ الربيع يسح في تهتان(1) ]139/أ[
تم الكتاب بحمد الله ومنه، فالله ينفع الكافة من المسلمين به بمنه وكرمه. آمين.
__________
(1) ذكر بعض هذه الأبيات ابن الجوزي في المناقب ص526 مع بعض الاختلافات اللفظية.(2/20)
فصل: في ذكر مالك
أما مالك فإنه لممالك الفضائل مالك، ولمسالك التقوى والورع سالك، إمام دار الهجرة بالاتفاق، ومفتي الحجاز بالإطباق، فقيه الأمةوسيد الأئمة، زكي الطبع والهمة، أول من صنف كتابا في الإسلام، جمع فيه شرائع الحلال والحرام، ونظم عقود الشرع فيه أحسن نظام، بين فيه عيون الدلائل، وفنون المسائل في الأحكام، فغدا كتابه غرة في جبين الدين، ودرة في تاج الفضل واليقين.
وسار في البدو والحضر مسير الشمس والقمر، وصار حجة على الأنام وقدوة يأتم بها أولو الأحلام،فمالك جم المناقب والفضائل، يم المواهب والفواضل، اتسع في الفضل مجاله، وفاض في الأفضال سجاله، واتسق في التقوى قوله وفعاله، وأصبح قريع(1) عصره، وفريد دهره ومصره، علما سار بذكره الركبان وتعطر بنشره /115] ب[ الزمان، جمع بين فصاحة البيان وسماحة البنان.
نظم من جواهر الكلام عقداً يزان بمثله نحر الإسلام، وصاغ من تبر(2) الشريعة تاجا، وفتح للسنة البيضاء رتاجا(3)، وقسم ميراث النبوة بين الأمة الهادية وبَرَّد بماء الحياة عليل الأنفس الصادية، خص بالمناقب الشريفة المبيَّنة، والمراتب المنيفة المتينة، وشرف بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة"(4)، كان مجلسه محفوفا بالهيبة والسلطان، ومكنونا بالحجة والبرهان، كما قال فيه عبد الله بن المبارك إمام خراسان رحمه الله:
يأبى الجواب فما يكلم هيبة
والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقاروعز سلطان التقى
__________
(1) أي سيد عصره (ر: القاموس المحيط ص968).
(2) التبر: الذهب والفضة أو فتاتهما قبل أن يصاغا. (ر: القاموس المحيط ص454).
(3) الرَّتج: الباب العظيم (ر: المرجع السابق ص243).
(4) سيأتي تخريجه (ر: ص 174).(3/1)
فهو المطاع وليس ذا سلطان(1).
]الفصل الأول: في ذكر نسبه وحليته](2)
فهو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، وأصبح في حمير، وجده حليف لبني تيم في قريش.
قال الزبير بن بكار(3): عداد مالك في بني تيم في آل عبد الرحمن بن عثيم ابن عبيد الله بن أخي طلحة بن عبيد الله، كان مالك فقيه أهل المدينة ومفتيهم ومحدّثهم، وكانت له بالمدينة الرئاسة العظيمة عند السلطان والعامة(4).
قال الشافعي رضي الله عنه: كان مالك شديد البياض إلى الشقرة طويلا، عظيم الهامة أصلع، ولد /116]أ[ سنة خمس وتسعين، وقيل سنة ثلاث وتسعين من الهجرة، ومات سنة تسع وسبعين ومائة عن أربع وثمانين سنة، ودفن بالبقيع(5).
قال الواقدي(6): هو ابن تسعين سنة، أخذ العلم عن ربيعة ثم أفتىمعه عند السلطان.
__________
(1) ذكر الأبيات أبو نعيم في حلية الأولياء 6/318،319، وابن عبد البر في الانتقاء ص89 وعزاه إلى عبد الله بن سالم الخياط، والقاضي عياض في ترتيب المدارك 1/167، والذهبي في سير الأعلام 8/113 وعزاه إلى مصعب بن عبد الله.
(2) ليست في (ص) ولعلها سقطت من الناسخ بدليل قوله فيما سيأتي: الفصل الثاني، وبدليل ما سبق في ترجمة الإمام أبي حنيفة.
(3) الزبير بن بكار بن عبد الله القرشي الأسدي المكي، من أحفاد عبد الله بن الزبير بن العوام، عالم بالأنساب وأخبار العرب، وثقه الدار قطني والخطيب وأثنى عليه، وله تصانيف منها: (نسب قريش وأخبارها)، ولي قضاء مكة وتوفي فيها سنة 256هـ. (ر: تاريخ بغداد 8/467، البداية والنهاية 11/24 لابن كثير، الأعلام 3/42 للزركلي).
(4) نقله القاضي عياض في ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك 1/102،106.
(5) المرجع السابق 1/112.
(6) أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي، الأسلمي، المدني، القاضي، متروك مع سعة علمه وإمامته في المغازي والسيرة، مات سنة 207هـ. (ر: تاريخ بغداد 3/3، الميزان 3/663).)(3/2)
وقال مالك: كل رجل كنت أتعلم منه ما مات حتى يجيئني ويستفتيني(1).
كتب إلي أحمد بن خلف الشيرازي أبو بكر من نيسابور على يد والدي، وحدثني عنه أبي رضي الله عنه قال: أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الضبي قال: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر، وهو الحارث بن عثمان بن عبيد، من ولد تيم بن مرة بن كعب، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرة بن كعب.
الفصل الثاني: في علمه وزهده وورعه
كتب إلي الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي الأندلسي رضي الله عنه على يد والدي قال: أنبأنا القاضي أبو الحسين محمد بن حمود ابن عمر المعروف بابن الدليل، قال: أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد الواسطي البندار ببيت المقدس قال: أنبأنا أبو حفص عمر بن علي العقلي الخطيب قال: ثنا محمد بن إسحاق البغدادي قال: ثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، قال: ثنا علي بن عبد الله قال: ثنا سفيان بن عيينة.
وأخبرني أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي ببغداد مناولة، قال: أنبأنا أبو عبد الله أحمد بن أحمد بن سليمان المقري الواسطي قال: ثنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري، قال: أنبانا محمد بن عبد الرحمن ابن العباس قال: أنبأنا محمد بن هارون أبو عبد الله الحضرمي /116] ب[ قال: ثنا محمد ابن عمر بن صفوان قال: ثنا ابن عيينة عن ابن جريج، قال ثنا أبو الزبير قال: ثنا أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسل: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يلتمسون عالما، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة".
وفي رواية: "يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم"(2)
__________
(1) نقله المزي في تهذيب الكمال 27/119 قال الواقدي: مات بالمدينة سنة تسع وسبعين ومئة، وهو ابن تسعين سنة.
(2) أخرجه أحمد 2/299، والترمذي وحسَّنه (ح2680)، وابن حبان في صحيحه6/20، والبيهقي في السنن الكبرى 1/386، والحاكم 1/91 وصححه ووافقه الذهبي.
قال الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه لمسند الإمام أحمد: إسناده صحيح (15/135-137 رقم 7967).(3/3)
قال ابن عيينة: كانوا يرونه مالك بن أنس(1).
قال عبد الرزاق: هو مالك بن أنس. وكذلك قال يحيى بن معين(2).
قال مطرف بن عبد الله: أخبرني زيد بن داود رجل من أصحابنا من أفضلهم، قال: رأيت في المنام القبر انفرج فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد،وإذا الناس يتقصفون - يعني عليه - فصاح صائح: مالك بن أنس، فرأيت مالك بن أنس جاء حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه شيئا، وقال: "اقسم هذا على الناس، فإذا هو مسك يعطيه الناس"(3).
وكان مالك لا يتحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو على الطهارة(4).
وكان شديد البياض إلى الشقرة، طويلا عظيم الهامة، أصلع، يلبس الثياب العربية الجياد، ويكره حلق الشارب، ويعيبها ويراه من المثلة، ولا يغير شيبه(5).
__________
(1) ابن عبد البر في التمهيد 1/84، والذهبي في سير أعلام النبلاء 8/56،57.
(2) ابن عبد البر في الانتقاء ص19،22، والقاضي عياض في ترتيب المدارك وتقريب المسالك 1/83.
(3) الحافظ ابو نعيم في الحلية 6/317، والمزي في تهذيب الكمال 27/118، والذهبي في سير الأعلام 8/62.
(4) الحافظ أبو نعيم في الحلية 6/318، والمزي في تهذيب الكمال 27/110، والذهبي في سير الأعلام 8/96.
(5) القاضي عياض في ترتيب المدارك 1/112، والذهبي في سير الأعلام 8/69.(3/4)
قال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلاة والجمعة والجنائز، ويعود المرضى ويقضي الحقوق /117]أ[ ويجلس في المسجد، ثم ترك الجلوس في المسجد، وكان يصلي ثم ينصرف إلى منزله، وترك حضور الجنائز وكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، فلم يشهدالصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحدا يعزيه، ولا يقضي له حقا، وإنما كان يخلفه عن المسجد، لأنه سَلِسَ بوله، فقال عند موته: كرهت أن آتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على غير طهارة، فيكون ذلك استخفافا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكرهت أن أخبر الناس بعلتي فتكون شكوى من الله عز وجل(1).
ولا يرى لمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفيء شيئا(2)، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما كلم في ذلك فيقول: ليس كل إنسان يقدر يتكلم بعذره(3).
الفصل الثالث: في ثناء الناس عليه
قال الشافعي رضي الله عنه: ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صواباً من موطأ مالك بن أنس(4).
أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في التفسير، وهو عبد الملك بن عبد العزيز(5)، ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني إمام أهل اليمن، أصله بصري يكنى أبا عروة، ثم موطأ مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة يكنى أبا عبد الله صنف في الفقه والسنة وبوَّب.
__________
(1) ابن خلكان في الوفيات 4/136، والذهبي في سير الأعلام 8/64.
(2) ابن عبد البر في الانتقاء ص73.
(3) ابن خلكان في الوفيات 4/136، والذهبي في سير الأعلام 8/64.
(4) القاضي عياض في ترتيب المدارك 1/191، وأبو نعيم في الحلية 6/329، وابن عبد البر في التمهيد 1/76، والذهبي في سير الأعلام 8/111، وقال الذهبي معلقاً: هذا قاله قبل أن يؤلَّف الصحيحان. اهـ
(5) ابن جريج: عبد الملك بن عبد العزيز، رومي الأصل، ولد بمكة، كان إمام أهل الحجاز في عصره، وأول من صنف التصانيف بمكة وتوفي بها عام 150هـ.
(ر: تاريخ بغداد 10/400)، سير الأعلام 6/325.(3/5)
قال الشافعي: ليس في الأرض كتاب بعد القرآن أصح من موطأ مالك(1).
وقرأه عليه الشافعي حفظا، وصار الموطأ لتواطؤ أهل الحرمين على صحته، ثم تصنيف السفيانين ابن عيينة بمكة والثوري بالكوفة، ثم صنف بعد ذلك صاحبا مالك بن أنس، عبد الله بن المبارك بالمشرق، وعبد الله بن وهب بالمغرب، فأكثرا وأحسنا.
قيل: لما حج الرشيد دخل المدينة فقيل له ] /117ب[: قد صنف مالك بن أنس كتابا في الشرائع والآثار، فأنفذ إليه يستحضره الكتاب، فقال مالك: هذا كتاب قد جمعت فيه السنن والآثار ثم يسومني حمله إليه، لا فعلت ذلك. فقيل له: إنه جبار ولا نأمنه عليك. قال: فإذا أذل نفسي ولا أذل علمي، فقام إليه، فقال: يا أمير المؤمنين حدثني نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العلم يؤتى ولا يأتي"(2)، ونزل عليه جبريل وعنده ابن أم مكتوم، بقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(3)فرأى الكآبة في ابن أم مكتوم، وعرج ثم هبط في أسرع من طرفة عين بقوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَر}ِ(4)فهذا جبريل قطع هذه المسافة لهذا الحرف، وأنت تسومني أن أحمل كتابا جمعت فيه سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والآثار ؟! فقال: لا يا أبا عبد الله، بل نأتيك في بيتك فنسمعه منك.
__________
(1) البيهقي في مناقب الشافعي 1/507.
(2) ذكره العلامة علي القاري في المصنوع في معرفة الحديث الموضوع (ح198) و في الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة (ح300)، قال القاري: هو من قول مالك للمهدي حين دعاه لسماع ولديه منه، وقاله لهارون حين التمس منه خلوة للقراءة. اهـ
(3) سورة النساء /95.
(4) سورة النساء /95.(3/6)
وأمر أن تسرج الدواب فقال: يا أمير المؤمنين حدثني نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع"(1) أفتؤثر ظهور الدواب على أجنحة الملائكة؟! فقال: لا يا أبا عبد الله بل نمشي معك مشيا، وقام فسايره إلى داره،وجلس على السرير، وقال: هات يا أبا عبد الله. فقال: يا أمير المؤمنين حدثني نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العالم إذا اختص بعلمه الخاص دون العام، لم ينتفع بعلمه الخاص ولا العام"(2) فتأذن بإقامة النداء بحضور الناس لسماعه معك، فأمر بإقامة النداء من أحب أن يستمع كتاب مالك ابن أنس مع أمير المؤمنين فليحضر،فلما حضر الناس قال: هات يا أبا عبد الله. فقال: يا أمير المؤمنين حدثني نافع عن ابن عمر أن رسول الله /118]أ[ صلى الله عليه وسلم قال: "من تواضع للعلم رفعه الله" (3)وإني أشتهي أن تستوي مع الناس. فنزل عن السرير واستوى معهم ثم قرأ الكتاب عليهم، فلما فرغ قال: إني أعلق هذا الكتاب على أستار الكعبة، وأنادي من حاد عنه جلدته جلد المفتري. فقال: يا أمير المؤمنين إني قد قلت فيه برأيي واجتهدت، ولا أبريء نفسي من الخطأ والغلط، فدع الناس واجتهادهم. فقال: بماذا
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 4/239، 5/196، والترمذي (ح2682)، والدارمي (ح342)، وأبو داود (ح3641،3642) عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
(2) أورده العلامة علاء الدين الهندي في كنز العمال 10/242 وعزاه إلى الديلمي عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3) لم أقف على من أخرجه بهذا اللفظ في كتب السنة، وإنما ورد بلفظ (من تواضع لله رفعه الله) عن عمر بن الخطاب مرفوعاً، أخرجه الإمام أحمد 1/44، والبزار في مسنده (ح3580)، قال الهيثمي في المجمع 8/82: رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح. وبنحوه أخرجه مسلم 4/2001، والترمذي (ح2029)، ومالك في الموطأ 2/1000 عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.(3/7)
سميته ؟ قال: بل أنت أولى به. فقال: أسميه بفعل أمير المؤمنين وتوطيته للخلق، هو كتاب الموطأ توطأت فيه للعلم والرعايا(1).
جاء رجل إلى المزني فسأله عن شيء من الكلام فقال: إني أكره هذا،بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي، لقد سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: سئل مالك عن الكلام والتوحيد فقال مالك: محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد، التوحيد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"(2)، فما عُصم به المال والدم حقيقة التوحيد"(3).
قال أبو المعافي بن أبي رافع المزني رحمه الله:
ألا إن فقد الحلم في فقد مالك
ولا زال فينا صالح الحال مالك
يقيم طريق الحق والحق واضح
ويهدي كما تهدي النجوم الشوابك
فلولاه ما قامت حقوق كثيرة
ولولاه لانسدت علينا المسالك
عشونا إليه نبتغي فضل رأيه
وقد لزم الغي اللجوج المماحك
فجاء برأي مثله يقتدي به
كنظم جمان زينتها السبائك(4)
وكتب إلي الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي على يد والدي رحمه الله من بغداد /118]ب[ لنفسه:
إذا قيل من نجم الحديث وأهله
أشار ذوو الألباب يعنون مالكا
إليه تناهى علم دين محمد
فوطأ فيه للرواة المسالكا
ونظم بالتصنيف أشتات نثره
وأوضح ما قد كان لولاه حالكا
ووقت درس العلم شرقا ومغربا
تقدم في تلك المسالك سالكا
وقد جاء في الآثار من ذلك شاهد
على أنه في العلم خص بذلكا
__________
(1) ذكر القصة أبو نعيم في الحلية 6/332، والذهبي في سير الأعلام 8/63،64 مختصراً.
(2) أخرجه البخاري (ر: فتح 3/262)، ومسلم 1/51 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) الإمام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في ذم الكلام 4/283، والذهبي في سير الأعلام 10/26.
(4) أورد الأبيات مع بعض الاختلافات ابن عبد البر في الانتقاء ص89، والقاضي عياض في ترتيب المدارك 1/246،247، والمزني في تهذيب الكمال 27/118،119.(3/8)
فمن كان ذا طعن على علم مالك
ولم يقتبس من نوره كان هالكاً
وأنشد أبو الحسن عمران بن موسى المغربي الطولقي لنفسه من قصيدة:
حتى إذا ختموا منها بعالمها
أضاء للعلم نجم غير منكدر
بمالك وضحت سبل العلوم لنا
فلاح غامضها كالشمس للبصر
هو الإمام الذي اخترت مذهبه
وما تخيرته إلا على خبر
ذكر محنة مالك رضي الله عنه
سُعي بمالك إلى جعفر بن سليمان وقالوا: إنه لا يرى أيمان بيعتكم بشيء. فغضب جعفر فدعا به وجرده فضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلع كتفه، وارتكب منه أمرا عظيما، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة، وكأنما كانت السياط حُلِياًّ حُلِّي به(1).
قال ابن وهب: ضرب جعفر بن سليمان مالكَ بن أنس في طلاق المكره فلما ضرب حُلِقَ وَهُلَّ على بعير فقيل له: نادِ على نفسك. فقال: ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي، وأنا أقول طلاق المكره ليس بشيء. فبلغ جعفر بن سليمان أنه ينادي على نفسه بذلك فقال: أدركوه، اتركوه(2).
الفصل الرابع: في ذكر أصحابه /119]أ[
أما أصحاب مالك ففيهم كثرة، لكنني أقتصر على ذكر أربعة:
منهم: المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي(3)، مات بعد مالك بسبع سنين، يكنى أبا هاشم.
ومحمد بن إبراهيم بن دينار(4)، كانت الفتيا تدور بعد مالك - أي بالمدينة - [على] محمد بن دينار، توفي في سنة اثنتين وثمانين ومائة بعد مالك بثلاث سنين.
قال الشافعي: ما رأت في فتيان مالك أفقه من محمد بن دينار.
__________
(1) القاضي عياض في ترتيب المدارك 1/228، وابن عبد البر في الانتقاء ص87،88، والذهبي في سير الأعلام 8/80.
(2) أبو نعيم في الحلية 6/316، والذهبي في سير الأعلام 8/96.
(3) ر ترجمته في ترتيب المدارك 1/282، والانتقاء ص100.
(4) ر: ترجمته في ترتيب المدارك 1/291، والانتقاء ص100،101.(3/9)
وعبد العزيز بن أبي حازم(1) كان مفتي أهل المدينة وفقهائهم.
وأبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي(2)، تفقه بمالك وعبد العزيز بن أبي حازم وابن دينار والمغيرة والليث بن سعد، وصنف الموطأ الكبير، والموطأ الصغير،وكان مالك يكتب فيه إلى أبي محمد المفتي.
وقال مالك: عبد الله بن وهب إمام، وصحبه عشرين سنة، وكان أسن من ابن القاسم بثلاث سنين، وعاش بعده خمس سنين.
والذي جلس في حلقة مالك بعد وفاته عثمان بن عيسى بن كنانة(3)، وكان مالك يحضره لمناظرة أبي يوسف عند الرشيد، توفي بعد مالك بسنتين. وقيل: بثلاث.
فصل: في ذكر محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه
__________
(1) عبد العزيز بن ابي حازم سلمة بن دينار، الفقيه، مولى اسلم، وثقه ابن معين، توفي سنة 182هـ (ر: ترتيب المدارك 1/286، الانتقاء ص101).
(2) عبد الله بن وهب، المصري الإمام الحافظ الفقيه، توفي عام 197هـ (ر: ترجمته في التذكرة ص304، التهذيب 6/71، سير الأعلام 9/223).
(3) عثمان بن عيسى بن كنانة، كان فقيهاً من فقهاء المدينة، توفي بمكة سنة 185هـ.
(ر: ترجمته في الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء ص102، ترتيب المدارك 1/292).(3/10)
الشافعي، صدر الصدور، وبدر البدور، والماء المعين والدر الثمين، والحق اليقين، الذي جاء به الروح الأمين(1)، والغيث والجود والبحر والطود(2)، هو سيد السادة المعروف في قريش بالسيادة، وله بين الأشراف صدر الوسادة، كلامه شفاء الأسقام ودواء الآلام، وتصانيفه درر مرصوعة، وسرر مرفوعة، وأكواب موضوعة /119]ب[ وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، جمع أشتات الفضائل ونظم أفراد المناقب، وبلغ في الدين والعلم أعلى المراتب، إن ذكر التفسير فهو إمامه، أو الفقه ففي يديه زمامه، أو الحديث فله نقضه وإبرامه، أو الأصول فله فيها الفصوص والفصول، أو الأدب وما يتعاطاه من العربية العرب فهو مبديه ومعيده، ومعطيه ومفيده، وجهه للصباحة، ويده للسماحة، ورأيه للرجاحة،ولسانه للفصاحة، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، والمصباح الزاهر في الظلمة، في التفسير ابن عباس، وفي الحديث ابن عمر، وفي الفقه معاذ، وفي القضاء علي، وفي الفرائض زيد، وفي القرآة أبي، وفي الشعر حسان، وفي كلامه بين الحق والباطل فرقان.
زادت مناقبه على المدح التي
ارتادها بعد الفصاحة والحجى
إن قلت أمدحه وأذكر فضله
قال المديح قصرت عن فلك الدجى
__________
(1) إن في هذا غلواً وإطراءً زائداً عن الحد، لا ينبغي من المؤلف عفا الله عنا وعنه، فإن الروح الأمين هو جبريل عليه السلام وقد جاء بالقرآن الكريم وهو الحق اليقين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
(2) الطود: الجبل، أو عظيمه، وجمعه: أطواد وطِوَدة. (ر: القاموس المحيط ص378).(3/11)
شجرته في النسب مُطَّلَبية الطلع، مَنَافية الأصل والفرع، قرشية الخيم(1) والطبع، بسقت في قراره المجد والعلا، أصلها ثابت وفرعها في السما، فهو الإمام الزكي والهمام الرضي والسيد الألمعي، أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، قد أوتي رجاحة وحلما وفصاحة وحكما ودارية وفهما، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "يملأ عالم قريش الأرض علماً"(2)
ولله درُّه ما أغزر بحره، وأعجب سحره، وأضوأ بدره وأتم قدره، وما أنا فيما أثني عليه وأوجه من المدح إليه إلا كنسيم سرى على ريحان، وخيطٍ مُدَّ وسط در ومرجان.
الفصل الأول: في نسبه /120]أ[ وسنه وحليته ووقاره
هو(3) أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع ابن السائب بن عبيد الله بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لوئ بن غالب بن فهر بن مالك ابن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهَمَيْسَع بن يشخب بن بيت بن سلامان بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن [صلى الله عليهما وسلم].
قال أبو عبد الله الزبير بن بكار في كتاب نسب قريش(4) عن بعض أهل العلم، قال: هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل بنو عبد مناف، فهاشم والمطلب يد وهما البدران، وعبد شمس ونوفل يد وهما الأبهران، وكانت العرب تسمي هاشما والمطلب وعبد شمس ونوفلا أقداح النضار، فإن دهمهم غيرهم اجتمعوا فصاروا يدا واحدة.
__________
(1) الخِيَم: السجية والطبيعة. (ر: القاموس المحيط ص1428).
(2) سيأتي تخريجه (ر: ص 208).
(3) ذكر هذا النسب الإمام الشافعي في مسنده ص374، وفي الرسالة ص7، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد2/57، وأبو نعيم في حلية الأولياء 9/67، والبيهقي في مناقب الشافعي 1/76 وغيرهم.
(4) كتاب (نسب قريش وأخبارها ) طبع جزء منه باسم (جمهرة نسب قريش).(3/12)
فمات هاشم بغزة من الشام، وهلك المطلب بردمان(1) من اليمن، وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف وكان يسمى الفيض، وهلك عبد شمس بمكة فقبر بالحجون، وكان[نوفل](2) أكبر من هاشم، ومات نوفل بسلمان(3) من طريق العراق، وكان أصغر ولد عبد مناف - قال: فولد هاشم بن عبد مناف عبد المطلب وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدعى شيبة الحمد، وهو أول من سن دية النفس مائة من الإبل فجرت في قريش، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وله يقول حذافة بن غانم /120]ب[:
وشيبة الحمد الذي كان وجهه
يضيء ظلام الليل كالقمر البدر
كهولهم خير الكهول ونسلهم
كنسل الملوك لا تبور ولا تحري
أساقي الحجيج تم للخير هاشم
وعبد مناف ذلك السيد الفهر
ملوك وأبناء الملوك وسادة
تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر
متى تلق منهم جارحا في شبابه
تجده على إجراء والده يجري
هم ملكوا البطحاء مجدا وسؤددا
وهم نكلوا عنها غواة بني بكر
وهم يغفرون الذنب ينقم مثله
وهم تركوا رأي السفاهة والهجر
وولد عبد المطلب عبد الله، وولد عبد الله القمر الزاهر والنجم الباهر النبي المصطفى والرسول المجتبى أبا القاسم محمدا سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
وولد عبد شمس حبيب بن عبد شمس، وهو أكبر ولده وبه كان يكنى،وولد غيره جماعة من الأولاد.
وولد نوفل بن عبد مناف عديا، وهو أكبر ولده، وولد عشرة من الأولاد.
وأما عمرو فلا عقب له.
__________
(1) رَدْمان: موضع باليمن، مذكور في رسم غَزَّة، وهو حصن بسَرْوحمير، وفيه قصر وَعَلان. اهـ (ر: معجم ما استعجم من أسماء والبلدان والمواضع 2/649 البكري الأندلسي).
(2) في (ص) بياض، والمثبت من المحقق بدلالة السياق.
(3) سَلمان: ماءٌ على طريق مكة من العراق، مركز قضاء السلمان (محافظة المثنى). (ر: معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع 3/751 للبكري، المنجد في الأعلام ص 362).(3/13)
وأما المطلب بن عبد مناف فولد عشرة، وولد المطلب جماعة من الأولاد منهم: هاشم بن عبد المطلب، وولد هاشم عبد يزيد بن هاشم، وولد عبد يزيد بن هاشم عبيدا، وولد عبيد السائب، أسر يوم بدر، وكان السائب(1) يُشَبَّه بالنبي صلى الله عليه وسلم.كذا ذكره ابن بكار(2).
قال القاضي أبو الطيب(3): [شافع بن](4) السائب الذي ينسب إليه الشافعي - قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهم مترعرع، [وأسلم أبو السائب يوم بدر](5)، فقيل له: لمَ لمْ تسلم /121]أ[ قبل أن تفتدى؟ فقال: ما كنت أحرِّم المؤمنين طمعًا لهم فِيَّ(6).
وقد ولد الشافعي الهاشمان؛ هاشم بن أبي طالب وهاشم بن عبد المطلب.
وأمه أزدية،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الأزد جرثومة العرب"(7)
__________
(1) جد الإمام الشافعي، قال البيهقي: فالسائب بن عبيد صحابي، وابنه شافع صحابي، وأخوه عبد الله بن السائب صحابي. (ر: الإصابة في تمييز الصحابة 3/60،61).
(2) ذكره بنحوه الحافظ ابن حجر في فتح الباري 7/162-164، وفي الإصابة في تمييز الصحابة 3/60.
(3) هو القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري.
(4) في ص (السائب الذي...) والتصويب من تاريخ بغداد. و شافع بن السائب رضي الله عنه معدود في صغار الصحابة. (ر: أسد الغابة 2/317، والإصابة 2/11 لابن حجر).
(5) في ص (وهو مترعرع فقيل له) والإضافة من تاريخ بغداد.
(6) ذكره الخطيب في تاريخ بغداد 2/58، والبيهقيي في مناقب الشافعي 1/79،80، والمزي في تهذيب الكمال 24/360، والذهبي في سير الأعلام 10/9، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (ح 5301).
(7) ذكره الخطيب في تاريخ بغداد 2/58، والمزي في تهذيب الكمال 24/360.
والجرثومة: جمعها جراثيم، ومعناه (الأصل). (ر: النهاية في غريب الحديث 1/254، لابن الأثير.(3/14)
ولد الشافعي رضي الله عنه محمد بن إدريس الإمام بغزة، قرية من قرى الشام، قريبة من بيت المقدس، وقيل: باليمن، وقيل بعسقلان(1).
ونقل إلى مكة بعد سنتين ونشأ بها وكتب العلم بها وبمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، دخل بغداد وأقام بها سنتين، وصنف الكتب القديمة، ثم عاد إلى مكة وأقام بها مدة، ثم دخل بغداد وأقام بها أشهرا.
قال الزعفراني: قدم علينا الشافعي بغداد سنة خمس وتسعين ومائة، فأقام عندنا سنتين، ثم خرج إلى مكة، ثم قدم علينا سنة ثمان وتسعين ومائة، فأقام عندنا أشهرا ثم خرج، وكان يخضب بالحناء، وكان خفيف العارضين رضي الله عنه،ولم يصنف في الدخول الثاني شيئا، ثم خرج إلى مصر وصنف الكتب الجديدة هناك، وأقام بها إلى أن مات(2).
ولد سنة خمسين ومائة، ومات في آخر يوم من رجب وهو يوم الجمعة قبل الصلاة، ودفن في ذلك اليوم بعد العصر سنة أربع ومائتين، وله أربع وخمسون سنة(3).
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الجمع بين روايات ولادة الإمام الشافعي: والذي يجمع بين الأقوال، أنه ولد بغزة عسقلان - لأن عسقلان هي الأصل في قديم الزمان، وهي وغزة متقاربتان، وعسقلان هي المدينة. ولما بلغ سنتين حولته أمه إلى الحجاز ودخلت به إلى قومها، وهم من أهل اليمن لأنها كانت أزدية فنزلت عندهم، فلما بلغ عشراً خافت على نسبه الشريف أن ينسى ويضيع فحولته إلى مكة. (ر: توالي التأسيس بمعالي محمد بن إدريس ص51،52) بتصرف.
(2) أبو نعيم في الحلية 9/68، والخطيب في تاريخ بغداد 2/68، والبيهقي في المناقب 1/220، والمزي في تهذيب الكمال 24/375، والذهبي في سير الأعلام 10/50،85.
(3) الخطيب في تاريخ بغداد 2/70، والمزي في تهذيب الكمال 24/376.(3/15)
قال ابن عبد الحكم: لما أن حملت أم الشافعي به رأت كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقض بمصر، ثم وقع في كل بلد منه شظية، فتأول أصحاب الرؤيا أنه يخرج عالم يخص علمه أهل مصر، ثم يتفرق في سائر /121]ب[ البلدان(1).
الفصل الثاني: في علمه وزهده وورعه
توفي الشافعي في آخر رجب سنة أربع ومائتين(2)، وترك من الأولاد أربعة:
أبا عثمان، وفاطمة وزينب من أم واحدة، وابنه أبا الحسن من جاريته المسماة دنانير(3).
وجعل ولاية ولده [إلى] أبي الحسن، وولاية القيام بوصاياه ودوره الموقوفة إلى أبي الحسن أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي،وعبيد الله بن إسماعيل بن مقَرِّط الصرّاف، وهما وصياه بمكة وبمَا لَهُ من تركة وولد وغيره.
وأوصى بمصر في أمر ولده وإنفاذ وصيته إلى عبد الله بن عبد الحكم القرشي ويوسف، وإذا خرج إلى مكة فوصيه ووليه أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي وعبيد الله بن إسماعيل.
قال محمد بن المنذر الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول لأبي عثمان بن الشافعي: إني لأحبك لثلاث خلال، لأنك رجل من قريش، وأنك ابن أبي عبد الله، وأنك من أهل السنة(4).
تصانيفه: الأم، الرسالة، مختلف الحديث، المسند الأم، رسالة في إثبات النبوة والرسالة، أحكام القرآن، اختلاف العراقيين في الرد على محمد بن الحسن، قوله القديم ببغداد، قوله الجديد بمصر،خلاف علي وابن مسعود في الفرائض، اختلاف مالك والشافعي(5).
__________
(1) الخطيب في تاريخ بغداد 2/59، والحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب 9/24، والذهبي في سير الأعلام 10/10 وقال الذهبي معلقاً على القصة: "هذه رواية منقطعة". اهـ
(2) الخطيب في تاريخ بغداد 2/59، و البيهقي في المناقب 2/297،298، والذهبي في سير الأعلام 10/76 وغيرهم.
(3) البيهقي في المناقب 2/306-309.
(4) البيهقي في المناقب 1/77، وابن حجر في توالي التأسيس ص45.
(5) ذكر كتبه البيهقي في مناقب الإمام الشافعي 1/237-257، والحافظ ابن حجر في توالي التأسيس ص147-157.(3/16)
رواة كتبه /122]أ[:
رواة كتبه القديمة: أحمد بن حنبل، وأبو علي الزعفراني، والحسين بن علي الكرابيسي، [وأبو ثور إبراهيم(1) بن خالد].
ورواة كتبه الجديدة: المزني، وأبو يعقوب البويطي، والربيع المرادي صاحب الأم، والربيع الجيربي، وسمع هو من مالك بن أنس، وإبراهيم بن سعد، وسفيان بن عيينة، وداود بن عبد الرحمن، وعبد العزيز الدراوردي، ومسلم بن خالد الزنجي، وأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني في آخرين.
قال المزني: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النوم فسلم علي وصافحني وخلع خاتمه فجعله في أصبعي، وكان لي عم ففسرها لي فقال: أما مصافحتك لعلي أمان من العذاب، وأما خلع خاتمه في أصبعك فسيبلغ اسمك ما بلغ اسم علي في الشرق والغرب(2).
قال الشافعي رضي الله عنه: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين(3).
__________
(1) في ص (أبو ثور وإبراهيم بن خالد) وهو خطأ، والصواب ما أثبته، وهو: أبو ثور،إبراهيم بن خالد الكلبي، أحد الأئمة فقهاً وعلماً وورعاً، توفي سنة 224 بمكة. (ر: التهذيب 1/118).
(2) الخطيب في تاريخ بغداد 2/60، والبيهقي في مناقب الشافعي 1/148، 149،150، والحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب 9/24.
(3) الخطيب في تاريخ بغداد 2/62،63، والمزي في تهذيب الكمال 24/366، وابن حجر في توالي التأسيس ص50، والذهبي في سير الأعلام 10/11 وقال الذهبي معلقا على الخبر: في إسناد الخبر الأقطع (أحمد بن إبراهيم الطائي) مجهول. اهـ(3/17)
وكان يختم في كل ليلة ختمة، فإذا كان شهر رمضان ختم في كل ليلة منها ختمة، وفي كل يوم ختمة، وكان يختم في شهر رمضان ستين ختمة، وفي كل يوم ختمة(1).
قال الشافعي: فارقت مكة وأنا ابن أربع عشرة سنة، لا نبات بعارضي من الأبطح إلى ذي طوى /122]ب[ فرأيت ركبا فحملني شيخ منهم إلى المدينة، فختمت من مكة إلى المدينة ست عشرة ختمة، ودخلت المدينة يوم الثامن بعد صلاة العصر، فصليت العصر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذت(2) بقبره، فرأيت مالك بن أنس رحمه الله متزرا ببردة متشحا بأخرى، يقول: حدثني نافع عن ابن عمر عن صاحب هذا القبر - يضرب بيده قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلما رأيت ذلك هبته الهيبة العظيمة(3).
__________
(1) أبو نعيم في الحلية 9/134، والخطيب في تاريخ بغداد 2/63، والرازي في مناقب الشافعي ص127، والبيهقي في المناقب 1/279،280، والذهبي في سير الأعلام 10/36،90. قال محقق السير: "وهدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الواجب الاتباع، فإنه لم يأذن لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث وقال صلى الله عليه وسلم: "لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث" أخرجه أبو داود (ح1394) والترمذي (ح2950) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده صحيح. اهـ
(2) اللَّوْذُ بالشيء: الإستتار، والإحتصان به، والإلتجاء، والإحاطة، وجانب الجبل وما يطيف به، ومنعطف الوادي. (ر: القاموس المحيط ص 431، الصحاح 2/570) وبهذه المعاني فإنه يتضح المعنى الصحيح للجملة، في أن الإمام الشافعي - بعد أدائه في المسجد النبوي - فإنه انعطف وتوجه واستتر بقبر النبي صلى الله عليه وسلم للسلام عليه، ويدل على هذا المعنى سياق الكلام بعده.
(3) رحلة الشافعي بقلمه، رواية تلميذه الربيع بن سليمان الجيزي ص8، طبعة المطبعة السلفية سنة 1350هـ القاهرة.(3/18)
قال الشافعي: وقدمت على مالك وقد حفظت الموطأ فقال لي: احضر من يقرأ لك. فقلت: أنا قارئ، فقرأت الموطأ حفظا، فقال: إن يك أحد يفلح فهذا الغلام.
قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول في قوله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوع} الآية(1)، فقال: معناه - والله أعلم - الخوف: خوف العدو، والجوع: جوع شهر رمضان، ونقص من الأموال: الزكوات، ومن الأنفس: الأمراض، والثمرات: قيل: موت الأولاد، وبشر الصابرين: على أدائها(2).
قال يونس بن عبد الأعلى(3): قال لي محمد بن إدريس في قوله عز وجل: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ}(4) قال: هي منسوخة بالفرائض، كانت المرأة تقيم سنة ينفق [عليها](5)، فإن خرجت قبل السنة لم يكن لها نفقة /123]أ (6) [.
قال الشافعي: ما نسخ من القرآن فهو على ثلاثة أوجه: منه ما نسخ حكمه ونسخ رسمه، ومنه: ما نسخ حكمه وثبت رسمه، ومنه: ما نسخ رسمه وثبت حكمه.
فأما الذي نسخ رسمه وثبت حكمه مثل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة}، ولولا أن يقول الناس زاد عمر في القرآن لجعلتها بين الدفتين(7).
__________
(1) سورة البقرة /155.
(2) أخرجه البيهقي في أحكام القرآن 1/39.
(3) يونس بن عبد الأعلى، أبو موسى الصدقي المصري الفقيه، توفي سنة 264هـ (ر: التذكرة ص527، الميزان 4/481).
(4) سورة البقرة /240.
(5) ساقطة من (ص) واثبتناها من أحكام القرآن.
(6) كتاب الأم 5/205 للشافعي، و البيهقي في أحكام القرآن 1/252.
(7) أخرجه الإمام مالك في الموطأ 2/824، وابن الجوزي في نواسخ القرآن ص115، 116.(3/19)
وأما الذي نسخ حكمه وثبت رسمه فمثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}(1) فكان الحكم في هذه الآية إذا توفي الرجل وترك إمرأته وجب عليه أن يوصي لها بنفقة سنة، ولا تحل للأزواج حتى تنقضي سنتها فنسختها آية العدة، {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ}(2) الآية، فحلت للأزواج في مضي أربعة أشهر وعشر، ونسخ الوصية لها آية الميراث: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}الآية(3).
وأما الذي نسخ رسمه، ونسخ حكمه فمثل ما روى الزهري عن أبي أمامة بن سهل عن رجل أنه قام من الليل يستفتح سورة كان قد حفظها، فلم يذكر منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"نعم تلك سورة قد نسخت البارحة من صدور الرجال /123]ب[ ومن كل شيء كانت فيه"(4).
وقال الشافعي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء}َ(5) هو خاص يراد به العام، ومثله قوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}(6) فمن فعل ذلك فقد أتى الاختيار، ومن تركه ما كان إثما ولم يحرم عليه ذلك ما ملك، ولا أبطل عليه الطلاق لمخالفة الأمر، فإن ابن عمر ذكر أنه اعتد بما مضى من طلاقه في الحيض(7).
__________
(1) سورة البقرة /240.
(2) سورة البقرة /234.
(3) سورة النساء /12.
(4) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار 3/418، وابن الجوزي في نواسخ القرآن ص110-112، ر: الرسالة 106، 110 للإمام الشافعي، قواطع الأدلة في أصول الفقه 3/97-102 للإمام أبي المظفر منصور السمعاني، تحقيق: د. عبد الله الحكمي، ونواسخ القرآن ص108-115 لابن الجوزي).
(5) سورة الطلاق /1.
(6) سورة النور /32.
(7) البيهقي في أحكام القرآن 1/175.(3/20)
قال يونس بن عبد الأعلى: ما كان الشافعي يأخذ في شيء إلا ويقول: هذه صناعته، وإذا أخذ في أيام العرب يقول: هذه صناعته(1).
وعن حرملة قال: قال الشافعي: ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم معرفة لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس(2)،(3).
قال محمد بن مسلم بن وارة الرازي: قدمت من مصر فدخلت على أحمد بن حنبل - رحمه الله- فقال لي: من أين جئت ؟ قلت: من مصر، قال: أكتبت كتب الشافعي ؟ قلت: لا. قال: ولم؟ ما عرفنا ناسخ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخها، ولا خاصها من عامها، ولا مجملها من مفسرها حتى جالسنا الشافعي - رحمه الله-.
قال ابن وراة: فحملني ذلك أن رجعت إلى مصر فكتبتها(4).
وعن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي - رحمه الله- يقول: لو كان الكفاءة في النسب لم يكن أحد من خلق الله كفوا لبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد زوَّج صلى الله عليه وسلم ابنته أبا العاص بن الربيع(5).
قال الشافعي: أصحاب الحديث وفد الله.
__________
(1) الذهبي في سير الأعلام 10/75.
(2) أرسطوطاليس بن نيقوماخوس، ويقال اختصاراً: أرسطو، فيلسوف يوناني وثني مشهور، مؤسس مذهب (فلسفة المشائين) له مؤلفات عديدة، توفي سنة 322 ق.م. (ر: الموسوعة العربية 1/117، المنجد في الأعلام ص34).
(3) الذهبي في سير الأعلام 10/74 وقال معقِّبا: هذه حكاية نافعة، لكنها منكرة، ما أعتقد أن الإمام تفوّه بها، ولا كانت أوضاع أرسطوطاليس عُرِّبت بعد البتة، رواها أبو الحسن علي بن مهدي الفقيه، حدثنا محمد بن هارون، حدثنا هُميم بن هَمَّام، حدثنا حرملة، ابن هارون مجهول. اهـ
(4) البيهقي في مناقب الشافعي 1/262، والذهبي في سير الأعلام 10/55.
(5) أبو نعيم في الحلية 9/107، والبيهقي في المناقب 2/161.(3/21)
وعن حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي ] 124/أ [ يقول: سميت ببغداد ناصر الحديث(1).
وعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: كنت عند مالك بن أنس وهناك سفيان بن عيينة ومسلم بن خالد الزنجي، إذ أقبل رجلان أحدهما متعلق بصاحبه، فقال لمالك: يا أبا عبد الله أنا رجل أبيع القماري،وإني بعت من هذا الرجل اليوم قمريا، وحلفت له بالطلاق الثلاث أنه لا يهدأ من الصياح، فوزن لي ثمنه وقبضته وانصرف، فلما كان بعد ساعة أتاني فقال: زعمت أنه لا يهدأ من الصياح وقد سكت وهدأ، فرد علي دراهمي، وقد حنثت في يمينك، فقال مالك: هو كما يقول: قال: نعم. قال: بانت امرأتك، ووجب عليك رد الدراهم. فقاما من عند مالك فقال الشافعي: ما قال لكما مالك؟ فأخبراه بالمسئلة وبفتيا مالك، فقال الشافعي للبائع: ما أردت بقولك: إنه لا يهدأ على مر الزمان أو أردت أن كلامه أكثر من سكوته؟ فقال: يا أبا عبد الله قد علمت أنه ينام ويأكل ويشرب، وإنما أردت أن كلامه أكثر من سكوته. فقال الشافعي: لا رد عليك، أمسك عليك امرأتك. فرجعا إلى مالك فقالا له: إن رأيت أن تنظر في مسئلتنا. فقال مالك: إن كان السؤال ما سألتما فإن الجواب عنه ما سمعتما. قالا: فإن الشافعي زعم أنه لا شيء عليه. فدعاه مالك وصاح عليه وقال: من أين قلت؟ فقال: حديث فاطمة بنت قيس لما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم بن حذيفة يخطبانني فأيهما أحب إليك ؟ فقال: "إن معاوية ] 124/ب[ صعلوك لا مال له، وإن أبا جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه في أهله"(2)، وكان أبو جهم ينام ويستريح، فإنما خرج كلامه صلى الله عليه وسلم على الأغلب من الشيء،
__________
(1) أبو نعيم في الحلية 9/128، و الخطيب في تاريخ بغداد 2/68، والمزي في تهذيب الكمال 24/374، والمقدسي في مناقب الأئمة ص109، والذهبي في سير الأعلام 10/47،87.
(2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ 2/580، والشافعي في الرسالة ص309،310، ومسلم في صحيحه 2/1114.(3/22)
كان الشيء إذا كثر كان كمداومته. قال فأعجب ذلك مالكا، وبقي متحيرا، فقال له مسلم بن خالد: أفت والله، فقد آن لك أن تفتي. وهو ابن خمس عشرة سنة(1).
وعن حرملة قال: سئل الشافعي عن رجل وضع تمرة في فيه، فقال لامرأته: إن أكلتها فأنت طالق، وإن طرحتها فأنت طالق؟ فقال الشافعي: يأكل نصفها ويطرح نصفها(2).
وقال بعض الخلفاء للشافعي: لأي عِلَّةٍ خلق الله الذباب؟ فأطرق ثم قال: مذلة للمملوك يا أمير المؤمنين، لقد سألتني وما عندي جواب، فأخذني من ذلك الزمع(3)، فلما رأيت الذبابة قد سقطت منك بموضع لا يناله من معه عشرة الآف سيف وعشرة الآف رمح انفتح لي منها الجواب.
قال الشافعي رحمه الله: العلوم ثلاثة: علم الأبدان،وعلم الأديان، وعلم الديوان، فأما علم الأبدان فالطب، وأما علم الأديان فالفقه، وأما علم الديوان فالحساب(4).
قال الشافعي: العجب ممن يتعشى ببيض وينام كيف يعيش؟! ومن يخرج من الحمام ثم لا يأكل كيف يعيش ؟! وممن يحتجم ثم يأكل كيف يعيش /125]أ[؟!(5).
وكان الشافعي جالسا مع الحميدي ومحمد بن حسن، يتفرسون الناس فمر رجل فقال محمد بن الحسن: يا أبا عبد الله انظر في هذا. فنظر إليه وأطال فقال ابن الحسن: أعياك أمره ؟ قال: أعياني أمره، لا أدري خياط أو نجار. قال الحميدي: فقمت إليه فقلت له: ما صناعة الرجل ؟ قال: كنت نجارا وأنا اليوم خياط(6).
وأيضا قال الشافعي: الوراق يأكل من دية عينيه(7).
__________
(1) ذكر القصة البيهقي في المناقب 2/235-239.
(2) أبو نعيم في حلية الأولياء 9/143، والذهبي في سير الأعلام 10/53.
(3) الزَّمَعُ: شِبهُ الرِّعدة تأخذ الأسنان، والدَّهَشُ، والخوف. (ر: القاموس المحيط ص 937).
(4) البيهقي في المناقب 2/114، 115.
(5) أبو نعيم في الحلية 9/143، والبيهقي في المناقب 2/118، 119.
(6) أبو نعيم في الحلية 9/139، والبيهقي في المناقب 2/130، 131.
(7) البيهقي في المناقب 2/123.(3/23)
وقال أيضا الشافعي: لو يعلم الناس ما في الكلام لفروا منه كما يُفر من الأسد(1).
وقيل للشافعي: قد أوتيت لسانا وبيانا فلم لا تناظر أهل الكلام؟ قال: لأني إذا ناظرت في الفقه فأكثر ما يقال لي أخطأت،وكذلك أقول لهم أخطأت، وفي الكلام يقال لي: كفرت(2).
قال عبد الله بن عبد الرحمن الزجاج: رأيت الشافعي بنصيبين قبل أن يدخل مصر، فلم أره آكلا بنهار ولا نائما بليل(3).
قال يونس بن عبد الأعلى: كان الشافعي إذا أخذ في التفسير كأنه شهد التنزيل(4).
__________
(1) أبو نعيم في الحلية 9/111، والذهبي في سير الأعلام 10/16، 18.
(2) البيهقي في مناقب الشافعي 1/460، والذهبي في سير الأعلام 10/28، وبنحوه ابن أبي حاتم في آداب الشافعي ص185.
وقد اتفق السلف الصالح - رحمهم الله تعالى- وتواترت النصوص عن الأئمة في ذم علم الكلام والنهي عنه، والتحذير منه، وتجهيل أهله والتحذير منهم. وإليك نصيحة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل في ذلك فقال: "عليكم بالسنة والحديث، وما ينفعكم الله به، وإياكم والخوض والجدال والمراء، فإنه لا يفلح من أحب الكلام، وكل من أحدث كلاما لم يكن آخر عمره إلا إلى بدعة، لأن الكلام لا يدعو إلى خير، ولا أحب الكلام ولا الخوض ولا الجدال، وعليكم بالسنن والآثار والفقه الذي تنتفعون به، ودعوا الجدال وكلام أهل الزيغ والمراء، أدركنا الناس ولا يعرفون هذا، ويجانبون أهل الكلام، وعاقبة الكلام لا تؤول إلى خير، أعاذنا الله وإياكم من الفتن، وسلَّمنا وإياكم من كل هلكة. اهـ
(ر: الإبانة الكبرى 2/539 للإمام الحافظ ابن بطة).
(3) البيهقي في المناقب 1/237،284، وفي أحكام القرآن 1/19، وابن حجر في توالي التأسيس ص58، والذهبي في سير الأعلام 10/81.
(4) البيهقي في أحكام القرآن 1/19، 20، وفي المناقب 1/284، والذهبي في سير الأعلام 10/81، والمقدسي في مناقب الأئمة ص121.(3/24)
قال الشافعي: المراء في العلم يقسي القلب، ويورث الضغائن(1).
وقال: الغربة ذلة، فإن تبعتها قلة، وردفتها علة، فيا لها من نفس مضمحلة.
وللشافعي - رحمه الله -:
أريد من الإخوان كل مواتي
وكل غَضِيض الطرف من عثراتي
يساعدني في كل أمر أريده
ويحفظني حيّاً وبعد وفاتي
فمن لي بهذا ليت أني وجدته
أقاسمه مالي ومن حسناتي ]125/ب[
تصفحت إخواني فكان أقلهم
على كثرة الإخوان أهل ثقات(2)
وقال:
لا تأس في الدنيا على فائت
وعندك الإسلام والعافية
إن فات أمرٌ كنت تسعى له
ففيهما من فائت كافيه(3)
وقال الشافعي: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نَبُلَ مقداره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن نظر في اللغة رقَّ طبعه، ومن لم يصُنْ نفسه لم ينفعه علمه(4).
وقال الشافعي في ذم الكلام:
لم يبرح الناس حتى أحدثوا بدعاً
في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل
حتى استخف بدين الله أكثرهم
وفي الذي حُمِّلوا من حقه شُغُل(5)
قال علي بن سهل: لما قرأ الرشيد كتاب الولاية للأمين والمأمون بمكة سكت الناس، فقام شاب فقال: يا أمير المؤمنين:
لا قصَّرا عنها ولا بَلَغَتْهما
حتى يطول بها لديك طوالها
فبكى هارون الرشيد وأبكى الناس وقال: من هذا الفتى ؟ فقالوا: هذا فتىً يقال له محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله- (6).
__________
(1) البيهقي في المنافب 2/150، 151، وفي المدخل 202 (رقم 239).
(2) ذكر الأبيا ت البيهقي في المناقب 2/79، وابن حجر في توالي التأسيس ص141.
(3) البيهقي في المناقب 2/66.
(4) الخطيب في الفقيه والمتفقه 1/36 والبيهقي في المدخل ص324 (رقم511) من طريق المزني عنه، وأبو نعيم في الحلية 9/123 من طريق الربيع عنه، والرازي في مناقب الشافعي ص70، والذهبي في سير الأعلام 10/24.
(5) أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في ذم الكلام 4/310.
(6) البيهقي في مناقب الشافعي 1/157، 2/85.(3/25)
قال الشافعي: لما رجعت إلى مكة وقد شاطرني مالك جميع ماله وصلحت حالي بهدايا جاءتني من دق خراسان وقباطي(1) مصر، خرجت العجوز - يعني أمه - فضمتني إلى صدرها فلما هممت بالدخول فقالت لي العجوز: أين ]126/أ[ عزمت ؟ فقلت: إلى المنزل. فقالت لي: يا سبحان الله تخرج من مكة بالأمس فقيراً لا مال لك، وتعود إليها مثرياً تفتخر على بني عمك بذلك. فقلت: فما أصنع؟ قالت: تضرب فارتك(2) هذه بالأبطح، وناد في العرب تشبع الجائع وتحمل المنقطع وتكسو العاري، وتربح ثناء الدنيا وثواب الآخرة. ففعلت ما أمرتني العجوز، وسار بذلك الرجال على آباط الإبل، وبلغ ذلك مالكاً فأرسل إلي يستحثّني على ذلك الفعل، ويعدني أنه يحمل إلي في كل عام مثله، وما دخلت مكة إلا ومعي بغلة وخمسون ديناراً، فوقعت المقرعة من يدي فناولتني إياها أمة على كتفها قربة فدفعته إليها فما بِتُّ تلك الليلة إلا مديناً، وأقام مالك يحمل إلي كل عام مثل ما كان دفع، فلما مات مالك ضاق بي الحجاز وخرجت إلى مصر، فعوضني الله تعالى عبد الله بن عبد الحكم فأقام بالكفاية(3).
وقال الشافعي: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم هو المسمّى أو غير المسمّى فاشهد بأنه من أهل الكلام ولا دين له(4).
__________
(1) نوع من الثياب القبطية المصرية (ر: القاموس المحيط ص880).
(2) الفارة: يقال للبرذون والحمار والدابة. (ر: المصباح المنير ص471).
(3) رحلة الشافعي ص28، 29.
(4) البيهقي في المناقب 1/405، وأبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام 4/296، وابن عبد البر في الانتقاء ص79، وابن تيمية في مجموع الفتاوى 6/187.(3/26)
قال الزعفراني: قال الشافعي: حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف عليهم في العشائر والقبائل، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة(1).
وقال الشافعي: لأن يلقى اللهَ عز وجل العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام(2).
وتكلم الشافعي رضي الله عنه بمكة في ]126/ب[ قوله صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك عقيل لنا من دار"(3) وكان إسحاق بن راهويه حاضراً فقال إسحاق: ثنا يزيد عن الحسن وأنبا أبو نعيم وعبده عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنهما لم يكونا يريانه، وعطاء وطاووس لم يكونا يريانه. فقال الشافعي لبعض من عرفه: من هذا؟ قال: هذا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ابن راهويه الخراساني. فقال الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم، ما أحوجني أن يكون غيرك في [موضعك](4) فكنت آمر بعرك أذنيه، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول قال عطاء وطاووس، وهل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟!(5).
__________
(1) أبو نعيم في الحلية 9/116، والبيهقي في المناقب 1/462، والحافظ ابن حجر في توالي التأسيس ص64، والرازي في مناقب الشافعي ص23،24، والذهبي في سير الأعلام 10/29 وغيرهم. قال الذهبي: لعل هذا متواتر عن الإمام. اهـ
(2) أبو نعيم في الحلية 9/111، 112، وابن بطة في الإبانة الكبرى 2/534، وأبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام 4/291، والبيهقي في المناقب 1/452، وابن حجر في توالي التأسيس ص64.
(3) الحديث أخرجه البخاري (ر: فتح 3/450)، ومسلم 2/984، وأبو داود (ح2910) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
(4) في ص (موضع)، والتصويب من مناقب الشافعي للبيهقي، وسير الأعلام للذهبي.
(5) البيهقي فيي المناقب 1/214،215، والرازي في مناقب الشافعي ص100، والذهبي في سير الأعلام 10/69.(3/27)
قال الشافعي: إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزاهم الله خيراً فهم حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا فضل(1).
وقال الشافعي: العشرة(2) أشكال(3) لهم أن يغيّر بعضهم على بعض، والمهاجرون الأولون والأنصار أشكال لهم أن يغيّر بعضهم على بعضٍ، فإذا ذهب أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم فحرام على تابعٍ إلاّ اتّباعٌ بإحسان حذواً بحذو(4).
__________
(1) أبو نعيم في الحلية 9/109، والبيهقي في المدخل ص391 (رقم 689)، وفي المناقب 1/477.
(2) المراد بهم العشرة المبشرون بالجنة رضي الله عنهم.
(3) الشَّكْلُ: الشَّبَه، والمثل، وما يوافقك ويصلح لك، تقول: هذا من هواي ومن شكلي، وجمعه: أشكال، وشكول، والأشكال: حلي من لؤلؤ أو فضة يشبه بعضه بعضاً، يُقَرَّط به النساء، الواحد: شَكْلٌ. اهـ (ر: القاموس المحيط 1317).
(4) البيهقي في المناقب 1/443،444.(3/28)
سئل الشافعي عن صفات الله تعالى ؟ فقال: لله تعالى أسماءٌ وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة أن القرآن نزل به وصح عنده بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه العدل، وجب عليه القبول والمعاني التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يُدرك حقيقة ذلك بالفكر والرؤية، فلا يكفر ]127/أ[ بالجهل بها أحدٌ إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، فإن كان الوارد بذلك خبراً يقوم في الفهم مقام المشاهدة في السماع وجبت الدينونة على سامعه بحقيقته والشهادة عليه، كما عاين وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم مِثل {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}(1) {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه}(2) {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه}(3) {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك}(4). ومثل ما جاء في الأخبار: "حتى يضع الرب فيها قدمه"(5) "وأنه يضحك من عبده المؤمن"(6). ولكن نثبت هذه الصفات وننفي التشبيه كما نفى عن نفسه تعالى ذكره فقال:(7) {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(8).[الفصل الثالث: في ثناء الناس عليه](9)
__________
(1) سورة المائدة /64.
(2) سورة الزمر /67.
(3) سورة القصص /88.
(4) سورة الرحمن /27.
(5) أخرجه البخاري (ر: فتح 8/594، ومسلم 4/2187 عن أنس رضي الله عنه.
(6) أخرجه البخاري (ر: فتح 6/39)، ومسلم 3/1504 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) سورة الشورى /11.
(8) ورد النص في جزء الاعتقاد المنسوب للشافعي من رواية أبي طالب العشاري، ونقله الموفق ابن قدامة في ذم التأويل ص124، وابن أبي يعلى في الطبقات 1/283، وابن القيم في اجتماع الجيوش ص165، والذهبي في سير الأعلام 10/79، والمقدسي في مناقب الأئمة ص120، 121.
(9) إضافة يقتضيها السياق بدليل ما سبق وما سيأتي في تقسيم المؤلف، ولعلها سقطت من الناسخ.(3/29)
قال بلال الخواص: كنت في تيه بني إسرائيل فإذا رجل يماشيني فتعجبت، ثم ألهمت أنه الخضر فقلت له: بحق الحق من أنت ؟ فقال: أخوك الخضر. فقلت له: أريد أن أسألك. فقال: سل. فقلت: ما تقول في الشافعي ؟ فقال: هو من الأوتاد. قلت: فما تقول في أحمد بن حنبل ؟ قال: رجل صدّيق. قلت: فما تقول في بشر بن الحارث ؟ فقال: لم يُخْلِفْ بعده مثله. فقلت: بأي وسيلة رأيتك ؟ قال: ببرك أمك(1).
__________
(1) أبو القاسم القشيري في الرسالة القشيرية ص31، وابن الجوزي في المناقب ص188. قلت: إن الأئمة رحمهم الله في غنى عن هذه الأساطير والخرافات الصوفية في إثبات فضائلهم ومناقبهم وكراماتهم، فإن الخضر عليه الصلاة والسلام من أنبياء الله الكرام، لم يكتب الله له ولا لغيره من الخلق الخلود في الدنيا. قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} سورة الأنبياء /34، وقال صلى الله عليه وسلّم: "أرايتكم ليلتكم هذه ؟ فإن على رأس مئة سنة منها لا يبقى على ظهر الأرض ممن هو اليوم عليها أحد" أخرجه البخاري 1/58، ومسلم 4/1965.
وقد أجمع المحققون من العلماء كالإمام البخاري والإمام إبراهيم الحربي والقاضي ابن العربي والإمام ابن تيمية وابن القيم والحافظ ابن حجر وغيرهم كثير - أجمعوا على أن الخضر عليه الصلاة والسلام قد مات منذ أمد بعيد.
وأما ما يروى في بقاء الخضر من الروايات فيقول الإمام ابن القيم في كتابه المنار المنيف ص67: "والأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته كلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد". اهـ وبمثله ذكره ابن الجوزي والحافظ ابن كثير والحافظ ابن حجر.
(ر: للتوسع: المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن القيم، الزهر النضر في نبأ الخضر للحافظ ابن حجر).(3/30)
وقد روى أبو هريرة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسبّوا قريشاً فإن عالمها يملأ الأرضعلماً"(1) وفي رواية قال: "عالمها يملأ طبق الأرض".
فأجمعت الأمة على أن هذا في الشافعي رضي الله عنه ]127/ب[ فما خرج من قريش فقيه وإمام يبلغ علمه جميع البلاد والأكناف والأطراف، يمناً وحجازاً وشاماً وعراقاً والثغور وخراسان وما وراء النهر إلا الشافعي رضي الله عنه(2).
قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: إني لأدعو لمحمد بن إدريس في صلاتي منذ أربعين سنة، فما كان فيهم - يعني الفقهاء - أتبع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه(3).
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي فإني أسمعك تكثر من الدعاء له؟ فقال لي: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما عِوض(4).
قال الفضيل بن زياد: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما أحد أمسك في يده محبرة وقلماً إلا وللشافعي في عنقه مِنَّة(5).
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية 9/65، و الخطيب في تاريخ بغداد 2/60،61، والبيهقي في مناقب الشافعي 1/26، وذكره الذهبي في سير الأعلام 10/82 وقال: في إسناده النضر بن حميد، قال فيه أبو حاتم: متروك الحديث. اهـ. قلت: كما في الجرح والتعديل 8/476، 477.
(2) ذكر ذلك أبو نعيم والخطيب البغدادي، ونقله البيهقي في المناقب 1/29، 30 مطوّلاً.
(3) ابن عبد البر في الانتقاء ص129، والبيهقي في المناقب 2/254.
(4) ابن عبد البر في الانتقاء ص125، والمزي في تهذيب الكمال 24/371، والمقدسي في مناقب الأئمة ص108.
(5) ابن عبد البر في الانتقاء ص129، والبيهقي في المناقب 2/255، والذهبي في سير الأعلام 10/47، وابن حجر في توالي التأسيس ص57.(3/31)
وقال أحمد: يروى في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله يمن على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يَسُنُّ لهم أمر دينهم"(1) وإني نظرت في مائة سنة فإذا هو رجل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن عبد العزيز، وإني نظرت في المائة الثانية فإذا هو محمد بن إدريس الشافعي(2).
قال المزني: سمعت الشافعي يقول في معنى قول الله تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}(3) قال: إن عدتم إلى الذنب عُدْنا إلى المهل لتتوبوا.
وللشافعي رضي الله عنه ]128/أ[:
يا ناظري بالكسوة البالية
تحت ثيابي همة عالية
وإنما الناس بآدابهم
والمال في أيديهم عارية(4)
سئل إسحاق بن راهويه عن وضع الشافعي هذه الكتب وإنما كان عمره قصيراً ؟ فقال إسحاق - رحمه الله -: إنما عجَّل الله عز وجل عقله لقلة عمره(5).
قال أحمد بن حنبل: ما زالت أقفيتنا في أيدي أصحاب الرأي، حتى جاء الشافعي فانتزعها من أيديهم(6).
قال إسحاق بن راهويه: لقيني أحمد بن حنبل بمكة فقال: تعال حتى أريك رجلاً لم تر عيناك مثله. قال: فأقامني على الشافعي(7).
__________
(1) أخرجه ابو داود (ح4291) و الخطيب في تاريخ بغداد 2/61،62، والبيهقي في المناقب 1/53،54، والحاكم 4/522 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال الحافظ ابن حجر بعد ذكره للحديث في توالي التأسيس ص48: إسناده قوي. اهـ
(2) ابن عبد البر في الانتقاء ص126، و الخطيب في تاريخ بغداد 2/62، وأبو نعيم في الحلية 9/97، والبيهقي في المناقب 1/55،56، والمزي في تهذيب الكمال 24/365، والذهبي في سير الأعلام 10/46، والحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب 9/25.
(3) سورة الإسراء /8.
(4) أبو نعيم في الحلية 9/131 مع بعض الاختلافات اللفظية.
(5) البيهقي في المناقب 1/258.
(6) أبو نعيم في الحلية 9/98، والبيهقي في المناقب 1/224.
(7) ابن عبد البر في الانتقاء ص124،125، والبيهقي في المناقب 2/251.(3/32)
وعن هلال بن العلاء قال: منَّ الله عز وجل على هذه الأمة بأربعة، بالشافعي لفقهه في زمانه، وبأبي عبيد القاسم بن سلاّم(1) فسّر غرائب حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وبيحيى بن معين(2) نفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة(3).
وعن الحسين بن محمد الكرابيسي قال: ما رأيت مجلساً أنبل من مجلس الشافعي، كان يحضره أهل الحديث وأهل الفقه والشعر، وكل يتعلم منه ويستفيد.
وقال أيضاً: ما رأيت مثل الشافعي، ولا رأى الشافعي مثل نفسه(4).
وعن أبي ثور قال: لو لم يقدم علينا الشافعي للقيت الله ضالاً(5).
وعن أبي عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد المعروف بغلام ثعلب قال: سمعت ثعلباً يقول: الشافعي إمام في اللغة(6).
وعن أبي عبد الله نفطويه قال: مثل الشافعي في العلماء مثل البدر في نجوم السماء(7).
وعن الربيع قال: كان الشافعي يناظر الناس على قدر أفهامهم، ولو ناظرهم على فهمه ما فهموا ]128/ب[ عنه(8).
وعن البويطي قال: سمعت الشافعي يقول: لَوَدَدْت أنه يعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعد من أهل العلم(9).
__________
(1) القاسم بن سلام الهروي الخزاعي، إمام في التفسير والحديث واللغة والفقه، توفي سنة224هـ (ر: ترجمته في تاريخ بغداد 12/403، و سير الأعلام 10/490).
(2) يحيى بن معين، الإمام الحافظ المتقن، كان بصيراً بعلل الحديث، توفي سنة 233هـ.
(ر: ترجمته في تاريخ بغداد 14/177).
(3) البيهقي في المناقب 2/277، 278، 279.
(4) البيهقي في المناقب 2/264، 266، والذهبي في سير الأعلام 10/46.
(5) البيهقي في المناقب 1/221، 222.
(6) المرجع السابق 2/51.
(7) المرجع السابق 2/281.
(8) البيهقي في المناقب 1/78 بنحوه.
(9) ابن عبد البر في الانتقاء ص138،139، والمقدسي في مناقب الأئمة ص112 بنحوه.(3/33)
وعن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي - وحضر ميتاً فلما سجَّينا عليه نظر إليه - فقال: اللهم بغناك عنه وفقره إليك اغفر له(1).
قال إسحاق بن راهَويْه: الشافعي إمام(2).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلاً قط أعقل وأكمل من الشافعي(3).
قال الحسن بن علي القراطيسي: كنت عند أبي ثور فجاء رجل فقال: أصلحك الله، فلان يقول قولاً عظيماً. قال: وما سمعته يقول؟ قال سمعته يقول: الشافعي أفقه من الثوري. قال: هو عندي أفقه من الثوري ومن النخعي.
قال يونس بن عبد الأعلى: رأيت الشافعي عند عبد الله بن وهب فلما قام قال لي ابن وهب: ما رأيت رجلاً أيقظ ولا أفهم برد الجواب ولا أعظم مروءة من هذا - يعني الشافعي-. وقد لقي ابن وهب مالكاً والليث وابن أبي ذئب والماجشون وغيرهم.
وكان الحميدي إذا جرى عنده ذكر الشافعي قال(4): حدثنا سيد الفقهاء(5). قال: وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: ما رأت عيني قط مثل الشافعي(6).
قال الحسين بن علي الكرابيسي(7)
__________
(1) ذكره البيهقي في مناقب الشافعي 2/179، وابن أبي حاتم في آداب الشافعي ومناقبه ص85.
(2) البيهقي في المناقب 2/261، والرازي في المناقب ص21، والذهبي في سير الأعلام 10/47، وابن حجر في توالي التأسيس ص57.
(3) البيهقي في المناقب 2/185،251، وابن حجر في توالي التأسيس ص55، وابن كثير في البداية والنهاية 10/253.
(4) في (ص) زاد "قال" وهو خطأ من الناسخ.
(5) البيهقي في المناقب 2/269، والمزي في تهذيب الكمال 24/374.
(6) البيهقي في المناقب 2/272.
(7) أبو علي الحسين بن علي الكرابيسي، كان متكلما عارفا بالحديث، له تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه، مات سنة خمس وقيل ثمان وأربعين ومائتين.
(ر: طبقات الفقهاء ص102 للشيرازي).(3/34)
: بِتُّ مع الشافعي ثمانين ليلة كان يصلي نحو ثلث الليل، لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوّذ بالله منها، وسأل النجاة لنفسه ولجميع المسلمين، وكأن جُمع له الرجاء والرهبة(1).
قال أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي ]129/أ[ - وكان رجلاً ورعاً عفيفاً صائناً- رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله أكتب رأي أبي حنيفة؟ قال: لا. قلت: يا رسول الله أكتبُ رأي مالك؟ قال: لا تكتب من رأي مالك إلا ما وافق حديثي. قلت: أكتب رأي الشافعي؟ فرفع رأسه وانتهرني وهو غضبان وقال: لا تقل رأي الشافعي فإنه ليس برأي، ولكنه ردَّ من خالف سنتي(2)
__________
(1) ذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 2/63، والمزي في تهذيب الكمال 24/367، والبيهقي في مناقب الشافعي 2/158، و الذهبي في سير الأعلام10/35، وأبو عبد الله المقدسي في مناقب الأئمة الأربعة ص105.
(2) أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء ص105،107، و أبو نعيم في الحلية 9/100، و البيهقي في المناقب 1/272، و الذهبي في سير الأعلام 10/43.
قال محقق السير معلقًا: "ومتى كان المنام حجة عند أهل العلم ؟ فمالك وأبو حنيفة وغيرهما من الأئمة العدول الثقات اجتهدوا، فأصاب كل واحد منهم في كثير مما انتهى إليه اجتهاده فيه وأخطأ في بعضه، وكل واحد منهم يؤخذ من قوله ويرد، فكان ما ذا؟. اهـ
قلت: فإن الأئمة المجتهدين كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم لم يقل واحد منهم لأتباعه: اتبعوني وخذوا بجميع أقوالي واتركوا النظر في الدليل، وإنما ثبت عن كل واحد من الأئمة قوله: "إذا خالف قولي قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم فالحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم واضربوا بقولي عرض الحائط"، وجميعهم أصحاب فضل وعلم واجتهاد، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، فالموفق للخير من والى هؤلاء الأئمة، وعرف فضلهم، وقدّر جهودهم ولم يعتقد العصمة فيهم.(3/35)
.
قال أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري صاحب التصانيف الكثيرة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ببغداد في المحرم سنة ست وتسعين وثلثمائة فقلت: يا رسول الله ما تقول في صحيح البخاري؟ قال: كله صحيح أو جيد لو أدخل الشافعي فيه(1).الفصل الرابع: في ذكر أصحابه
فمن أصحابه المكيين عبد الله ابن الزبير الحميدي القرشي المكي الإمام، مات بمكة سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين(2).
ومن أصحابه بالعراق: الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
__________
(1) قال الحافظ الخطيب البغدادي: فترك البخاري الاحتجاج بالشافعي، إنما هو لا لمعنى يوجب ضعفه، لكن غَنِيَ عنه بما هو أعلى منه، إذ أقدم شيوخ البخاري مالك، والدَّراوَرْدي، وداود العطار، وابن عييينة، والبخاري لم يدرك الشافعي بل لقي من هو أسن منه، كعبيد الله ابن موسى، وأبي عاصم ممن رووا عن التابعين، وحدَّثه عن شيوخ الشافعي عدة، فلم ير أن يروي عن رجل عن الشافعي عن مالك.
قال الخطيب: والبخاري يتَّبع الألفاظ بالخبر في بعض الأحاديث ويراعيها، وإنا اعتبرنا روايات الشافعي التي ضمَّنها كتبه، فلم نجد فيها حديثاً واحدا على شرط البخاري أغرب به، ولا تفرد بمعنى فيه يشبه ما بيناه - وهو أن البخاري لم يرو حديثاً نازلاً وهو عنده عالٍ، إلا لمعنى ما يجده في العالي - ومثل ذلك القول في ترك مسلم إياه، لإدراكه ما أدرك البخاري من ذلك، وأما أبو داود فأخرج في (سننه) للشافعي غير حديث، وأخرج له الترمذي، وابن خزيمة، وابن أبي حاتم. ا.هـ (نقله الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 10/56).
وقال الحافظ ابن كثير: "وإنما لم يخرِّج له - أي الإمام الشافعي - صاحبا الصحيح لنزول إسناده عندهما، وإلا فجلالته وإمامته مجمع عليها. (ر: مناقب الإمام الشافعي ص140).
وقد سبق التعليق على أن الرؤى والمنامات ليست من طرق العلم وإثبات الأدلة عند أهل العلم.
(2) ر: ترجمته في الانتقاء ص163، طبقات الشافعية الكبرى 2/140.(3/36)
وفي أصحابه المكيين والعراقيين والمصريين كثرة، فأما المشاهير بالرواية، فأبو إبراهيم المزني إسماعيل بن يحيى(1)، وأبو يعقوب البويطي(2)، والربيع بن سليمان المرادي(3) والربيع بن سليمان الجيزي(4).
قال الشافعي: لسان أبي يعقوب كلساني، وأما الربيع فإنه يؤدي كما سمع، وأما المزني فإنه يغلب الجن ]129/ب[ بالفقه(5).
وعن الربيع قال: كنا مع الشافعي فأقبل المزني فقال: قد جاءكم من لو ناظر الشيطان لقطعه، فالتفت فإذا المزني(6).
وعن عصام الرازي قال: سمعت المزني يقول: إذا قال الرجل والله لا أضرب اليوم أحداً، فضرب نفسه لا يحنث لأنه إنما أراد غيره من الناس. قال: وهذا يدخل في اللغة على القدرية في قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}(7) والله خالق الأشياء كلها أعمال العباد وغيرها، ولم يعن نفسه إنما أراد سواه.
وقال رجل للمزني: يا أبا إبراهيم إن فلاناً يبغضك. قال: ليس في قُرْبه أُنْسٌ ولا في بُعْدِه وَحْشه(8).
__________
(1) كان زاهداً عالما قوي الحجة، توفي عام 264هـ (ر: طبقات الشافعية الكبرى 2/93، سير الأعلام 12/492).
(2) يوسف بن يحي البويطي، المصري الفقيه، حمل إلى بغداد في أيام المحنة وأريد على القول بخلق القرآن فامتنع من الإجابة إلى ذلك، فحبس حتى مات عام 231هـ (ر: تاريخ بغداد 14/299، طببقات الشافعية الكبرى 2/162، سير الأعلام 12/58).
(3) هو الحافظ الإمام، محدث الديار المصرية، توفي عام 270هـ (ر: طبقات الشافعية 2/132، مناقب الشافعي 2/358 للبيهقي، وسير الأعلام 12/587).
(4) أبو محمد، الأزدي مولاهم، المصري، كان رجلاً فقيهاً صالحاً، توفي سنة 256هـ (ر: ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى 2/132).
(5) البيهقي في المناقب 2/339.
(6) البيهقي في مناقب الشافعي 2/356.
(7) سورة الزمر /62.
(8) البيهقي في مناقب الشافعي 2/355.(3/37)
قال أبو الحسن الحذاء المصري: رأيت فيما يرى النائم المزني فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: ما نفعنا تلك المناظرات، لولا الصوم والصلاة لكنا من الهالكين.
وعن الفريابي قال: كنا نتناظر بين يدي المزني، وكان يستمع إلى المناظرة حتى نتوهم أنه لا يعرف في الفقه شيئاً، ثم يتكلم بعد ما حفظ على المتناظرين.
وعن أبي سعيد محمد بن عقيل قال: قلت للمزني ما تقول في قول الله عز وجل: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(1) فلم يقبل منه الإيمان، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمِّه أبي طالب حيث عرض عليه الإيمان فقال: "يا عم إن ]130/أ[ آمنت أشهد لك عند الله"(2). وهذا في الموت، وفرعون في الموت ما الفرق بينهما؟ قال: فقال المزني: كان فرعون خرج من مفاخرة الدنيا ويئس من الحياة فلم يقبل منه الإيمان، وأبو طالب بعد في مفاخرة الدنيا ولَمْ ييئسْ من الحياة فيقبل منه الإيمان.
وكان إذا فاتته صلاة في جماعة قضى خمسا وعشرين صلاةً(3) ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الواحد بخمس وعشرين درجة"(4).
__________
(1) سورة يونس /91.
(2) قصة وفاة أبي طالب وعرض النبي صلى الله عليه وسلّم الإسلام عليه، أخرجها البخاري (ر: فتح 8/341) و مسلم 1/54،55.
(3) البيهقي في مناقب الشافعي 2/350.
(4) أخرجه البخاري (ر: فتح 2/131) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه مسلم (1/449،450) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(3/38)
القسم الرابع: في ذكر الأئمة(1)
فصل: في ذكر أبي حنيفة رضي الله عنه
أما أبو حنيفة فله في الدين المراتب الشريفة والمناصب المنيفة، سراج في الظلمة وهاج، وبحر بالحكم عجَّاج(2)، سيد الفقهاء في عصره، وراس العلماء في مصره، له البيان في علم الشرع والدين، والحظ الوافر من الورع المتين، والإشارات الدقيقة في حقيقة اليقين، مهد ببيانه قواعد الإسلام، وأحكم بتبيانه شرائع الحلال والحرام، وصار قدوة الأئمة الأعلام، سبق الكافة منهم إلى تقرير القياس(3) والكلام(4)
__________
(1) إضافة من المحقق بدلالة تقسيم المؤلف في المقدمة.
(2) أي ممتلئ، يقال: طريق عاجٌّ: ممتلئ. (ر: القاموس المحيط ص 253).
(3) إن الإمام أبا حنيفة -رحمه الله- لم يفتق الكلام في القياس، فغن أصل القياس في النصوص الشرعية وفي اجتهادات الصحابة وعملهم، ولكن تميز أبو حنيفة بتأصيل القياس والإكثار من استعماله حتى اشتهر به، فعن المزني قال: سمعت الشافعي يقول: الناس عيال على أبي حنيفة في القياس اهـ ذكره ابن حجر الهيثمي في الخيرات الحسان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان ص 70.
(4) إذا كان المراد بـ (الكلام) الرأي والاجتهاد والقياس فهذا معنى صحيح ولكن لا يعبر عنه بـ (الكلام) لأنه إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى علم الكلام المذموم، ويشهد له كلام الإمام الشافعي آنفاً وفيما سيأتي، وأما إذا كان المراد به (علم الكلام) - المنهي عنه باتفاق السلف - فهذا غير صحيح، فقد تواترت نصوص عن الإمام أبي حنيفة في النهي عن علم الكلام وذمه منها:
قال الإمام أبو حنيفة لأحد أصحابه لما سأله عن العرض قال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريق السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة. وقال أيضاً: لعن الله عمرو بن عبيد، إنه فتح للناس الطريق إلى الكلام، فيما لا يعنيهم من الكلام. وقال محمد بن الحسن: كان أبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام (ر: ذم الكلام ق194/ب، ق196/ب للإمام الهروي، أحاديث في ذم الكلام وأهله ص 85-88 انتخبها الإمام أبو الفضل المقري تحقيق د/ ناصر الجديع).(4/1)
، وغدا إماما تعقد عليه الخناصر ويشير إليه الأكابر والأصاغر،انتشر مذهبه في الآفاق، وعُدّ من الأفراد بالاتفاق، فضله وافر، ودينه ثابت، وعَلَمُه في مراده للمجد ثابت، اسمه النعمان وأبوه ثابت.
[الفصل الأول](1): في نسبه وحليته
عن عمر بن حماد بن أبي حنيفة قال: أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي.
فأما زوطي فإنه ]111/أ[ من أهل كابل، وولد ثابت على الإسلام، وكان زوطي مملوكا لبني تيم الله بن ثعلبة فأعتق، فولاؤه لبني تيم الله بن ثعلبة ثم لبني قفل، وكان أبوحنيفة خزازًا، ودكانه معروف في دار عمر بن حريث بالكوفة.
وقيل: ثابت والد أبي حنيفه من أهل الأنبار، وقيل: أصل أبي حنيفة من ترمذ، وقيل: أصله من نَسَاء، والله أعلم. ذكر ذلك الصيمري(2) في مناقبه(3).
__________
(1) في ص (فصل)، وما أثبته موافق لتقسيم المؤلف في المقدمة وقوله: (الفصل الثاني) فيما سيأتي.
(2) هو أبو عبد الله الحسين بن علي بن جعفر القاضي الصيمري، من كبار الفقهاء، مات سنة 436هـ (ر: ترجمته في الفوائد البهية ص87، والجواهر المضيئة1/314، وشذرات الذهب 3/256، و سير أعلام النبلاء 17/615).
(3) أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص221 للصيمري، ونقله الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 13/324،325، والذهبي في سير أعلام النبلاء 6/394.(4/2)
إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة يقول: أنا إسماعيل بن حماد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان من أبناء فارس الأحرار، والله ما وقع علينا رق قط، ولد جدي في ثمانين، وذهب ثابت إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو صغير، فدعا له بأن يبارك فيه وفي ذريته، ونحن نرجو من الله أن يكون قد استجاب ذلك لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فينا، قال: والنعمان بن المرزبان أبو ثابت هو الذي أهدى إلي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الفالوذج في يوم النيروز(1)، فقال: نَوْرِزُونا كل يوم. وقيل: كان ذلك في المهرجان(2) فقال: مَهْرِجُونَا كل يوم(3)
__________
(1) النيروز: أول يوم من السنة الشمسية الإيرانية، معرَّب (نَوْروز)، من أعياد الفرس المشهورة. (ر: القاموس المحيط ص 677، والمعجم الوسيط ص 962).
(2) المهرجان: احتفال الاعتدال الخريفي، وهي كلمة فارسية مركبة من كلمتين: الأولى: مِهْر، ومن معانيها الشمس أو المحبة، والثانية: جان، ومن معانيها الروح أو الحياة. (ر: القاموس المحيط ص 890، المنجد ص 26).
(3) ذكره الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص2، والخطيب في تاريخ بغداد 13/326، والذهبي في سير أعلام النبلاء 6/395، والمقدسي في مناقب الأئمة الأربعة ص75،76.
قلت: الخبر غير صحيح، فإن راوي الخبر هو إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، الكوفي القاضي، حفيد الإمام، ضعفه ابن عدي، وقال عن صالح جزرة: ليس بثقة (ر: الكامل في ضعفاء الرجال 1/314 لابن عدي، ميزان الاعتدال 1/866 للذهبي، تهذيب التهذيب 1/354، لسان الميزان 1/398 لابن حجر).
ووالده حماد بن أبي حنيفة، ضعفه ابن عدي أيضاً، وغيره من قبل حفظه (ر: الكامل في الضعفاء 2/252، لسان الميزان 2/346 لابن حجر).
ومما يدل على بطلان الخبر ما قد يفهم منه إقرار علي رضي الله عنه لعيدي النيروز أو المهرجان، وهذا غير صحيح - وحاشاه رضي الله عنه من ذلك- فمن المعلوم من الدين أن الإسلام قد ألغى أعياد الجاهلية كلها وأبدلها بعيدي الفطر والأضحى المباركين، لما رواه أنس رضي الله عنه قال: كان لأهل المدينة يومان يلعبون فيهما، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما هذان اليومان؟" قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله: "إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر" أخرجه أبو داود (ح 1134)، وأحمد (3/103)، والنسائي (ح 1556)، والحاكم (1/294) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: ولا يُعان المسلم المتشبه بهم في ذلك، بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد، مخالفة للعادة في سائر الأوقات، غير هذا العيد لم تقبل هديته، خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم، مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد، أو إهداء البيض واللبن والغنم في الخميس الصغير الذي في آخر صومهم، وكذلك أيضاً لا يهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد، لاسيما إذا كان مما يستعان به على التشبه بهم كما ذكرناه. اهـ (ر: إقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 2/509، لابن تيمية تحقيق: د. ناصر العقل).(4/3)
.
قال البرتي القاضي: سمعت أبا نعيم يقول: كان أبو حنيفة جميلا، حسن الوجه، حسن اللحية، حسن الثوب(1).
قال أبو يوسف: كان أبو حنيفة ربعة من الرجال ليس بالقصير، ولا بالطويل، وكان أحسن الناس منطقا، وأحلاهم نغمة وأبينه عما تريد(2).
قال عمر(3) بن جعفر بن إسحاق بن عمر بن حماد بن أبي حنيفة: إن أبا حنيفة كان طويلا تعلوه سمرة، وكان لباسا حسن الهيئة كثير التعطر، يعرف بريح الطيب إذا أقبل، وإذا خرج من منزله قبل أن تراه(4).
ولد أبو حنيفة سنة ثمانين، قال أبو حنيفة: حججت مع أبي سنة ست وتسعين، ولي ست عشرة سنة، وإذا أنا بشيخ قد اجتمع الناس عليه فقلت ]111/ب[ لأبي: من هذا الرجل؟ فقال: هذا رجل قد صحب محمدا صلى الله عليه وسلم يقال له عبد الله بن الحارث بن جَزْءٍ(5)
__________
(1) الصيمري (المرجع السابق نفسه) ص2، والخطيب في تاريخ بغداد 13/230.
(2) الصيمري ص3، والخطيب في تاريخ بغداد 13/330،331، والذهبي في سير الأعلام 6/399، والمقدسي في المناقب ص72.
(3) في كتاب الصيمري ص3 النسخة المطبوعة، ورد السند كالآتي: قال ثنا محمد بن جعفر ابن إسحاق بن عمر بن حماد بن أبي حنيفة.
(4) الصيمري ص3، والخطيب في تاريخ بغداد 13/131، والذهبي في سير الأعلام 6/399، 400.
قال ابن حجر الهيثمي: ولا تنافي بين كونه ربعة وبين كونه طويلاً، لأنه قد يكون مع كونه ربعة أقرب إلى الطول ا.هـ. (ر: الخيرات الحسان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان ص32).
(5) عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي السهمي رضي الله عنه، له صحبة، سكن مصر، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث حفظها، مات سنة 86هـ.
(ر: الإصابة في تمييز الصحابة 4/50 لابن حجر).(4/4)
، فقلت: أي شيء عنده؟ قال: أحاديث سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: قدمني إليه حتى أسمع منه، فتقدم بين يدي فجعل يفرج عني الناس حتى دنوت منه فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تفقه في دين الله كفاه الله همه ورزقه من حيث لا يحتسب"(1).
وعن أبي حنيفة قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الدال على الخير كفاعله، والله يحب إغاثة اللهفان"(2)
__________
(1) أخرجه الصيمري في أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص4، وفي إسناده: أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس الحماني، قال عنه ابن عدي: ما رأيت في الكذابين أقل حياء منه. اهـ (ر: الكامل في الضعفاء 1/199).
وقال عنه الحافظ ابن حجر في لسان الميزان 1/269-272 في ترجمة ابن الصلت: كذاب، فلهذا يدلسه بعضهم فيقول ثنا أحمد بن عطية، وبعضهم أحمد بن الصلت، وقد أورد الحافظ ابن حجر ما رواه ابن الصلت عن أبي حنيفة وقال الحافظ معقِّباً: هذا كذب، فابن جزء مات بمصر ولأبي حنيفة ست سنين، وقد وقع لنا هذا الحديث من وجه آخر وهو باطل أيضا. اهـ وقد نقل ذلك أيضا العلامة الصالحي في عقود الجمان في مناقب أبي حنيفة النعمان ص57،58.
(2) أخرجه الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص4 بالإسناد السابق وفيه: أحمد بن محمد بن الصلت الكذاب.
وأما متن الحديث فيقول العلامة الصالحي: قوله صلى الله عليه وسلّم: "الدال على الخير كفاعله". قال شيخنا أبو الفضل في تبييض الصحيفة: متن الحديث من غير هذا الطريق صحيح ورد من رواية جمع من الصحابة، وأصله في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"، وأما قوله صلى الله عليه وسلّم: "إن الله تعالى يحب إغاثة اللهفان": قال شيخنا (السيوطي): متنه صحيح ورد من رواية جمع من الصحابة، وصححه الحافظ الضياء المقدسي في المختارة من حديث بريدة رضي الله عنه.
ثم قال الصالحي معقّبا: ومدار هذه الأحاديث الثلاثة على أحمد بن محمد الصلت بن المغلس الحِمَّاني الكوفي، اتهمه أئمة الحديث بوضع الأحاديث. اهـ (ر: عقود الجمان ص55،56، للصالحي بتصرف يسير).(4/5)
.
قال أبو بكر بن هلال: وقد أدرك أبو حنيفة من الصحابة أيضا عبد الله بن أبي أوفى، وأبا الطفيل عامر بن واثلة وهما صحابيان(1).
__________
(1) أورده الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص4.
قال الحافظ ابن حجر في فتاويه: "أدرك الإمام أبو حنيفة - رحمه الله- جماعة من الصحابة لأنه ولد في الكوفة سنة ثمانين من الهجرة، وبها يومئذ من الصحابة عبد الله بن أبي أوفى فإنه مات سنة ثمان وثمانين أو بعدها، وقد روى ابن سعد بسند لا بأس به أن الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه، وكان غير هذين من الصحابة في البلاد أحياء، وقد جمع بعضهم جزءاً فيما ورد من رواية أبي حنيفة عن الصحابة، لكن لا يخلو إسناد منها من ضعف، والمعتمد على ما أدركه ما تقدم وعلى رؤيته لبعض الصحابة ما رواه ابن سعد، فهو بهذا الاعتبار من طبقة التابعين، ولم يثبت ذلك لأحد من أئمة الأمصار المعاصرين له كالأوزاعي بالشام، والحمادين بالبصرة، والثوري بالكوفة، ومالك بالمدينة الشريفة، والليث بمصر، والله أعلم". اهـ
نقله العلامة محمد بن يوسف الصالحي في كتابه عقود الجمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ص50.(4/6)
قال الشيخ الإمام أبو إسحاق الشيرازي(1) في كتاب الفقهاء: قد كان في أيام أبي حنيفة أربعة من الصحابة، أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أو فى الأنصاري، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وسهل بن سعد الساعدي، وجماعة من التابعين كالشعبي والنخعي وعلي بن الحسين وغيرهم، ولم يأخذ أبو حنيفة منهم وقد أخذ عنه خلق كثير، توفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة،ورأى أنس بن مالك سنة خمس وتسعين، وسمع منه، ومات ببغداد وهو ابن سبعين سنة(2).
أخبرني أبي قال: أنبأنا أبو نصر أحمد بن يوسف الطبري قال: ثنا أبو مسعود أحمد بن محمد البجلي سنة تسع وعشرين وأربعمائة قال: أنبأنا أبو أحمد مسلم بن الحسن بن الحسن بن مسلم المروزي قال: ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عمرويه المذكر قال: ثنا أحمد بن الصلت بن المغلس قال: ثنا بشر بن الوليد قال: ثنا أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي عن أبي حنيفة قال: ]112/أ[ سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"(3)
__________
(1) هو إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروزآبادي، أبو إسحاق، الفقيه الشافعي، الأصولي، له مصنفات عديدة منها: (التنبيه) و (المهذب) في الفقه الشافعي، توفي ببغداد سنة 476هـ. (ر: طبقات الشافعية 4/215، سير الأعلام 18/452).
(2) طبقات الفقهاء ص86 للشيرازي.
(3) في إسناده: أحمد بن الصلت بن المغلس الكذاب، المتهم بوضع الأحاديث، وقد تقدمت ترجمته.
وأما متن الحديث فقد روي عن جماعة من الصحابة منهم علي، وابن مسعود، وأنس، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وجابر، وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم.
(انظر أحاديثهم في مجمع الزوائد 1/119، 120 للهيثمي، والعلل المتناهية 1/54-66 لابن الجوزي)، قال أبو علي الحافظ النيسابوري: صح عندي عن النبي صلى الله عليه وسلم في "طلب العلم فريضة على كل مسلم" - إسناده اهـ (ر: المدخل ص242 للبيهقي).
وقال الحافظ المزي: روي من طرق تبلغ رتبة الحسن، وقال السيوطي: وعندي انه بلغ رتبة الصحيح. لأني وقفت له على نحو خمسين طريقا، وقد جمعتها في جزء. اهـ (ر: عقود الجمان ص254،255 للصالحي، المقاصد الحسنة ص276 للسخاوي).
وقال الشيخ الألباني: فيحمل أن يرتقي الحديث إلى درجة الحسن كما قال المزي. (ر: سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/416، ح416).(4/7)
.
الفصل الثاني: في ذكر علمه وورعه وزهده
سأل رجل أبا حنيفة: بم يستعان على الفقه حتى يحفظ ؟ قال: بجمع الهم. قال: قلت: وبم يستعان على جمع الهم ؟ قال: بحذف العلائق. قال: قلت: وبم يستعان على حذف العلائق؟ قال: بأخذ الشيء عند الحاجة ولا تزد(1).
وقال أبو يوسف: سمعت أبا حنيفة يقول: إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من الثقات أخذنا به، فإذا جاء عن أصحابه لم نخرج عن أقاويلهم، فإذا جاء عن التابعين زاحمناهم(2).
قال المزني: سمعت الشافعي رضي الله عنه: يقول: الناس عيال على أبي حنيفة في القياس والاستحسان(3).
قال يزيد بن هارون: كتبت عن ألف شيخ حملت عنهم العلم، ما رأيت والله فيهم أشد ورعا من أبي حنيفة ولا أحفظ للسانه(4).
قال أبو يوسف: سمعت أبا حنيفة يقول: لولا الفرق من الله أن يضيع العلم ما أفتيت أحدا، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر(5).
قيل: كان حفص بن عبد الرحمن شريك أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة تجهز عليه، فبعث إليه دفعة متاعا وأعلمه أن في ثوب كذا عيبا فإذا بعته فبيِّن، فباع حفص المتاع ونسي أن يبين العيب ولم يعلم ممن باعه، فلما علم أبو حنيفة بذلك تصدق بثمن المتاع كله(6).
__________
(1) الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص8.
(2) المرجع السابق ص11، وذكره الإمام ابن عبد البر في الانتقاء في فضائل الأئمة ص266، وأبو عبد الله المقدسي في مناقب الأئمة الأربعة ص71.
(3) الصيمري ص12، والخطيب في تاريخ بغداد 13/346، والمزي في تهذيب الكمال 29/434، والذهبي في سير أعلام النبلاء 6/403، وقال الإمام الذهبي معلقا على كلام الإمام الشافعي: قلت: الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه. اهـ
(4) الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص30،33.
(5) الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص34، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه2/168.
(6) المرجع السابق ص34، والخطيب في تاريخ بغداد13/358.(4/8)
قال الفيض بن محمد الرقي: لقيت أبا حنيفة ببغداد فقلت له: إني أريد الكوفة، فلك حاجة ؟ قال: إيت ابني حمادا فقل له: يا بني إن قوتي في الشهر [درهمان](1) فمرة للسويق، ومرة للخبز، وقد حبسته عني فعجِّله عليَّ(2).
وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت ]112/ب[:
كفى حزنا أن لاحياة نيئة
ولا عمل يرضي به الله صالح(3)
وكان أبو حنيفة قد جعل على نفسه أن لا يحلف بالله في عرض حديثه إلا تصدق بدرهم، فحلف فتصدق، ثم جعل على نفسه أن لا يحلف بالله إلا تصدق بربع دينار فتصدق بربع دينار، فجعل على نفسه إن حلف يتصدق بدينار، وكان إذا حلف صادقاً في عرض الكلام تصدق بدينار، وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها.
وكان إذا اكتسى ثوبا جديدا أكسى بقدر ثمنه لشيوخ العلماء، وكان إذا وضع بين يديه الطعام أخذ منه فوضعه على الخبز، حتى يأخذ منه بقدر ما يأكل فيضعه على الخبز ثم يعطيه لإنسان فقير، فإن كان في الدار في عياله إنسان يحتاج إليه دفعه إليه، وإلا أعطاه مسكينا(4).
وكان يقول: جعلت عملي أثلاثا: ثلثا لنفسي،وثلثا لوالدي، وثلثا لابني حماد.
قال مسعر (5): رايت أبا حنيفة يجلس للناس جميع النهار فقلت: متى يتفرغ هذا لعبادة ربه؟ فتعاهدته يصلي العشاء مع الناس ودخل داره، فلما تفرق الناس خرج إلى المسجد فصلى إلى قريب من الصبح، فتعاهدته ليالي وكان ذلك دأبه(6).
__________
(1) في ص (درهمين) والصواب ما أثبته.
(2) الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص35،36.
(3) الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص36.
(4) الخطيب في تاريخ بغداد 13/358 عن وكيع بن الجراح، ونقله الموفق في مناقب أبي حنيفة 1/284.
(5) مسعر بن كدام بن ظهير الهلالي العامري، أبو سلمة، أحد الأعلام، من ثقات أهل الحديث، توفي بمكة 155هـ. (ر: حلية الأولياء 7/209، تهذيب التهذيب 10/102).
(6) الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص42، والخطيب في تاريخ بغداد 13/356.(4/9)
قال: ورأيته ليلة يصلي فأخذت كفا من حصى فوضعته على ذيل أبي حنيفة وهو ساجد ومضيت إلى داري، فلما رجعت سحرا فوجدته وإذا الحصى على ذيله بحاله، فعلمت أنه قد زجى الليل كله في سجدة واحدة(1).
الفصل الثالث: في ثناء الأئمة عليه ومدح الناس له
قال الشافعي رحمه الله: سئل مالك بن أنس ]113/أ[ هل رأيت أبا حنيفة وناظرته ؟ فقال: نعم رأيت رجلا لو نظر إلى هذه السارية وهي من حجارة، فقال إنها من ذهب لقام بحجته(2).
وروي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: من أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك، ومن أراد الجدل فعليه بأبي حنيفة، ومن أراد التفسير فعليه بمقاتل بن سليمان(3).
وقال الشافعي: من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة(4). وقال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر(5) في ذكر فقهاء الأمصار: وأما أبو حنيفة فهو أصل الرأي بالكوفة، وكان ذكيا فهما، معتمدا في فقهه على علماء بلده، وكان أبصر الناس بالقياس(6).
وكان ابن المبارك(7) يمدحه ويثني عليه بالشعر وغيره.
__________
(1) الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص42،43.
(2) الشيرازي في طبقات الفقهاء ص86، والخطيب في تاريخ بغداد 13/238، والبيهقي في المدخل ص170، والذهبي في سير الأعلام 6/399.
(3) الشيرازي في طبقات الفقهاء ص86، والخطيب في تاريخ بغداد 13/346.
(4) المرجعين السابقين.
(5) الإمام ابن عبد البر النمري الأندلسي القرطبي المالكي، حافظ المغرب، وصاحب التصانيف، مات سنة 463هـ (ر: سير الأعلام 18/153).
(6) للإمام ابن عبد البر كتاب (الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء) ذكر فيه فضائل الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي رضي الله عنهم.
(7) أبو عبد الرحمن، عبد الله بن المبارك المروزي، الإمام الحافظ شيخ الإسلام، فخر المجاهدين، قدوة الزاهدين، توفي عام 181هـ. (ر: تاريخ بغداد 10/152، وسير الأعلام 8/378).(4/10)
قال عبد الله بن المبارك: كان أبو حنيفة آية. فقال له قائل: في الشر يا أبا عبد الرحمن أو في الخير ؟ فقال: اسكت يا هذا فإنه يقال غاية في الشر، آية في الخير، ثم تلى هذه الآية: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}(1).
وقال عبد الله بن المبارك: رأيت أعبد الناس، ورأيت أورع الناس، ورأيت أعلم الناس، ورأيت أفقه الناس، فأما أعبد الناس فعبد العزيز بن أبي روّاد(2)، وأما أورع الناس فالفضيل بن عياض(3)، وأما أعلم الناس فسفيان الثوري، وأما أفقه الناس فأبو حنيفة - ثم قال - ما رأيت في الفقه مثله(4).
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:
وجدت أبا حنيفة كل يوم
يزيد نبالة ويزيد خيرا ]113/ب[
وينطق بالصواب ويصطفيه
إذا ما قال أهل الجور جورا
يقايس من يقايسه بلب
فمن ذا تعلمون له نظيرا
كفانا موت حماد وكانت
مصيبته لنا أمرا كبيرا
فرد شماتة الأعداء عنا
وأفشى بعده علما كثيرا
رأيت أبا حنيفة حين يؤتى
ويطلب علمه بحرا غزيرا
إذا ما المعضلات تدافعتها
رجال القوم كان بها بصيرا(5)
قال مساور الوراق(6)
__________
(1) الخطيب في تاريخ بغداد 13/336، وابن حجر الهيثمي في الخيرات الحسان ص75.
(2) عبد العزيز بن أبي روَّاد، صدوق، عابد، ربما وهم، مات سنة 159هـ. (ر: التقريب 1/509، والتهذيب 6/302 لابن حجر).
(3) فضيل بن عياض، شيخ الحرم المكي من العباد المشهورين، أخذ عنه الإمام الشافعي وغيره، ولد بسمرقند ثم استقر بمكة وتوفي بها عام 187هـ (ر: التذكرة 245، الطبقات 5/500).
(4) ذكره الخطيب في تاريخ بغداد 13/342،343، والموفق في مناقب أبي حنيفة 1/282، والمزي في تهذيب الكمال 29/430.
(5) ذكر الأبيات الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص83،84، و الخطيب في تاريخ بغداد 13/350، والمزي في تهذيب الكمال 29/441، وابن عبد البر في الانتقاء ص207، وأبو عبد الله المقدسي في مناقب الأئمة ص78.
(6) مساور بن سوار الوراق الكوفي، صدوق، من السابعة.
(ر: تهذيب التهذيب 10/94، والتقريب ص527).(4/11)
:
إذا العلماء يوما قايسونا
بمسألة من الفتيا طريفه
أتيناهم بمقياس صحيح
ورأي من طراز أبي حنيفه
إذا سمع الفقيه بها وعاها
وأثبتها بحبر في صحيفه(1)
وقال صدقة المقابري - وكان صدقة مجاب الدعوة -: لما دفن أبو حنيفة في مقابر الخيزران سمعت صوتا في الليل ثلاث ليال:
لقد زان البلاد ومن عليها
إمام المسلمين أبو حنيفه
فما بالمشرقين له نظير
ولا بالمغربين ولا بكوفه
ويأتيكم بإسناد صحيح
كأيات الزبور على الصحيفه
ومن يأخذ من الشكاك علما
كمن يخري ويستنجي بليفه(2)
يعني ثم سمعت الهاتف يقول:
ذهب الفقه فلا فقه لكم
فاتقوا الله وكونوا خلفا
مات نعمان فمن هذا الذي
يُحيَى الليل إذا ما سجفا(3)
الفصل الرابع: في ذكر أصحابه
__________
(1) أورد الصيمري الأبيات ص85 كالآتي:
إذا ما أهل مصر بادهونا
بداهية من الفتيا لطيفة
أتيناهم بمقياس صحيح
صليب من طراز أبي حنيفة
إذا سمع الفقيه به وعاه
وأثبته بفقه في صحيفة
وذكر الأبيات كما أوردها المؤلف الحافظ ابن عبد البر في الانتقاء ص200 مع بعض الاختلافات اليسيرة في بعض الكلمات.
(2) أورد بعض هذه الأبيات الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص85 ونسبها إلى الإمام عبد الله بن المبارك.
(3) ذكر الأبيات الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص89.(4/12)
قال ابن عبد البر: كان لأبي حنيفة أصحاب جلة رؤساء في الدنيا، ظهر فقهه على أيديهم، أكبرهم: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري(1)،لجده صحبة ذكر في الصحابة، كان قد روى الحديث وكتبه، ثم لازم أبا حنيفة فغلب عليه رأيه، وكان قاضي القضاة لثلاثة خلفاء: للمهدي(2)، والهادي(3)، والرشيد(4)، ولا أعلم قاضيا كان إليه تولية القضاة في الآفاق من المشرق والمغرب إلا أبا يوسف هذا في زمانه، وأحمد ابن أبي دؤاد(5) - لعنه الله - في زمانه.
لم يزل أبو يوسف ببغداد بعد مقدمه من جرجان إلى أن مات بها سنة اثنتين وثمانين ومائة في خلافة هارون الرشيد.
قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه سمعت أبا يوسف القاضي رحمه الله يقول: إن للعيون جنايا بالغدوات ما ليس لها بالعشيات.
__________
(1) انظر ترجمته في أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص90 للصيمري، وتاريخ بغداد 14/242، طبقات الفقهاء ص134 للشيرازي.
(2) هو أبو عبد الله محمد بن المنصور عبد الله، تولى الخلافة العباسية سنة 158 وتوفي سنة 169هـ (ر: البداية والنهاية 10/147 لابن كثير، الجوهر الثمين في سير الخلفاء والملوك والسلاطين ص95 لابن دقماق).
(3) هو أبو محمد موسى بن المهدي محمد، بويع له بالخلافة بعد أبيه سنة 169هـ، ومات سنة 170هـ (ر: المرجعين السابقين 10/152، ص98).
(4) هو أبو جعفر هارون بن محمد بن عبد الله، بويع له بالخلافة بعد أخيه الهادي سنة 170هـ، توفي سنة 193هـ (ر: المرجعين السابقين 10/159، ص100).
(5) هو القاضي الجهمي رأس المعتزلة أبو عبد الله، أحمد بن فرج بن حريز الإيادي البصري، عدو إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، كان داعية إلى خلق القرآن، مات منكوبا في عهد المتوكل سنة 240هـ. (ر: سير الأعلام 11/169، شذرات الذهب 2/93، ميزان الاعتدال1/97).(4/13)
ومنهم: أبو عبد الله زفر بن الهذيل العنبري(1) من أصحاب أبي حنيفة، كان أبو حنيفة يفضله، ويقول: إنه أقيس أصحابه، وكان ذا عقل ودين وفهم وورع، وكان ثقة في الحديث.
قال أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري(2): هلك زفر بالبصرة سنة أربع وخمسين ومائة.
وقال الشيخ الإمام أبو إسحاق الشيرازي في كتاب الفقهاء: ولد زفر سنة عشر ومائة، ومات سنة ثمان وخمسين [ومائة](3)، ومات وله ثمان وأربعون سنة، وكان قد جمع بين العلم العبادة(4).
ومنهم: محمد بن الحسن الشيباني(5) الفقيه، أبو عبد الله ]114/ب[ مولى لبني شيبان، أخذ عن أبي حنيفة وعن أبي يوسف،وكتب الحديث وكان فقيهاً عالما شهما نبيلا.
وقال الشافعي: سمعت من محمد بن الحسن وقر بعير، وما رأيت رجلا سمينا أفهم منه، وكان إذا تكلم خيل أن القرآن نزل بلغته(6).
قال أبو عمر: أصله من الشام وولد بالجزيرة، وولاه الرشيد قضاء الرقة فأقام بها مدة ثم عزله، ثم أخرجه مع نفس إلى الري وولاه قضاءها، فمات بها هو والكسائي النحوي علي بن حمزة في يوم واحد، فرثاهما اليزيدي بشعر حسن فقال:
تصرمت الدنيا فليس خلود
وما قد ترى من بهجة سيبيد
لكل امرءٍ كأس من الموت منهل
__________
(1) انظر ترجمته في أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص103 للصيمري، وفيات الأعيان 2/317، سير الأعلام 8/38، شذرات الذهب 2/243، الجواهر المضيئة 2/207، الفوائد البهية ص75.
(2) هو هبة الله بن الحسن الرازي الطبري اللالكائي، الإمام الحافظ، من أئمة أهل السنة، صاحب التصانيف الكثيرة ومنها: شرح اصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، توفي سنة 418هـ (ر: تاريخ بغداد 14/70، والبداية والنهاية 2/24).
(3) ساقطة من (ص) بدليل السياق، وأثبتها من طبقات الفقهاء للشيرازي.
(4) طبقات الفقهاء ص135.
(5) انظر ترجمته في أخبار أبي حنيفة واصحابه ص120، وتاريخ بغداد 2/172، وسير أعلام النبلاء 9/134، والجواهر المضيئة 3/22، والفوائد البهية ص163.
(6) الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص123،124.(4/14)
وما إن لنا إلا عليه ورود
ألم تر شيبا شاملا ينذر البلى
وإن الشباب الغض ليس يعود
سيكفيك ما أفنى القرون التي مضت
فكن مستعدا فالفناء عتيد
أَسيتُ على قاضي القضاة محمد
فأذريت دمعي والفؤاد عميد
وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا
بإيضاحه يوما وأنت فقيد
وأوجعني موت الكسائي بعده
وكادت بي الأرض الفضاء تميد
وأذهلني عن كل لهو ولذة
وأرق عيني والعيون هجود
هما عالمانا أوديا وتخرما
وما لهما في العالمين نديد]115/أ[
فدمعي متى يخطر على القلب خطرة
لذكراهما حتى الممات جديد(1)
ومحمد بن الحسن هذا هو الذي ظهر على يديه مذهب أبي حنيفة بما صنف وألف في ذلك، وهلك بالري سنة تسع وثمانين ومائة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
ومنهم: داود الطائي(2) كان من أصحاب أبي حنيفة، ثم غلب عليه الزهد فاشتغل به.
قال عمر بن ذر: لو كان داود الطائي في الصحابة لبرز عليهم.
__________
(1) ذكر القصة مطولة والأبيات الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص126-129 مع بعض الاختلافات اللفظية ودون ذكر البيت الآتي:
وأذهلني عن كل لهو…
(2) أبو سليمان، داود بن نصير الطائي الكوفي، الإمام الفقيه، القدوة، الزاهد، ولد بعد المائة بسنوات، ومات سنة 162هـ وقيل: سنة 165هـ. (ر: ترجمته في طبقات ابن سعد 6/367، حلية الأولياء 7/335، تاريخ بغداد 8/347، سير أعلام النبلاء 7/422).(4/15)
وقال محارب بن دثار: لو كان داود الطائي في الأمم الماضية لقص الله علينا من خبره(1).
__________
(1) الصيمري في أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص113، والقولان المنسوبان إلى عمر بن ذر ومحارب بن دثار في فضل داود الطائي فيهما غلو ظاهر ومبالغة مكروهة ومخالفة لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" أخرجه البخاري (ر: فتح الباري 7/3)، ومسلم 4/1963، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" أخرجه البخاري (ر: فتح الباري 7/21)، ومسلم 4/1967، وقد تقدم في العقيدة الذي ذكرها المؤلف، أن العلماء قد أجمعوا على أن أفضل الناس الأنبياء والرسل، وأفضل الناس بعد الرسل والأنبياء عليهم السلام أصحابهم، وأفضل أصحابهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس} (ر: ص120).(4/16)
القسم الثالث
في جمل الاعتقاد
وهي أربعة فصول:
الفصل الأول: في إثبات العلم بالذات والأسماء والصفات
جمل الاعتقاد المجمع عليها نقلها الخَلَفُ عن السلف، أجمع عليها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأئمة الأمصار من الفقهاء وأصحاب الحديث وأرباب الورع والتقوى المصنفين في علم الكتاب والسنة(1)
__________
(1) حرص سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى- على تلقين تلامذتهم وأبنائهم العقيدة الصحيحة بأدلتها من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح، وتدوينها في كتبهم وشرحها أو اختصارها أو نظمها شعرا، حرصاً منهم على الدعوة إلى الحق وتمييزاً لعقيدة الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة عن سائر الفرق المبتدعة أهل الأهواء والبدع، ومن فضل الله عز وجل أن تلك المؤلفات مطولة ومختصرة محفوظة مشتهرة عند أهل الحق ومن تلك المؤلفات:
كتاب (السنة) للإمام أحمد بن حنبل، ولأبي داود السجستاني (275هـ) ضمن كتابه (السنن)، ولابن أبي عاصم (ت287هـ)، و (العقيدة الطحاوية) للإمام أبي جعفر الطحاوي (321هـ)، و (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ) للإمام أبي القاسم اللالكائي (ت418هـ) وغير ذلك كثير ولله الحمد والمنة.
قال الإمام أبو المظفر السمعاني: إنك لو طالعت جميع كتبهم - يعني أئمة أهل السنة- المصنفة من أولهم إلى آخرهم قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد، وقولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافاً ولا تفرقاً في شيء وإن قلَّ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد. اهـ (ر: الحجة في بيان المحجة2/224،225 للإمام الأصفهاني)، وبنحو ذلك ذكره الشيخ عدي بن مسافر الأموي الهكاري في كتابه: اعتقاد أهل السنة والجماعة ص42-45 بتحقيق حمدي السلفي و تحسين الدوسكي.(5/1)
، حجازاً ويمناً وشاماً وعراقاً وفارس(1) وخراسان(2) وما وراء النهر(3) وثغور الشام(4) وأذربيجان(5) واران(6) وديار ربيعة ومضر(7)
__________
(1) فارس أو بلاد العجم وتسمى حالياً: (إيران) وهي بلاد واسعة.
(2) خراسان كلمة مركبة من (خور) أي: شمس، و(أسان) أي: مشرق، كانت مقاطعة كبيرة من الدولة الإسلامية تتقاسمها اليوم إيران الشرقية الشمالية (نيسابور)، وأفغانستان الشمالية (هراة وبلخ)، ودولة تركمانستان (مرو) (ر: المنجد في الأعلام ص267، معجم البلدان 2/350 لياقوت الحموي).
(3) بلاد ما وراء النهر: اسم أطلقه المسلمون على البلاد الواقعة شرق نهر (جيحون) بخراسان، ويسمى حالياً (نهر امودريا) وتشمل مدن بخارى وسمرقند وطشقند، وتسمى بلاد تركستان التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي سابقاً. (ر: المنجد ص631، ومعجم البلدان 5/45).
(4) ثغور الشام: هي الحصون التي شيّدها الخلفاء على الحدود بين بلاد المسلمين وبلاد البيزنطيين شمالي سوريا في القرن التاسع الميلادي، منها: طرسوس، أدنه، رعش، ملطية. (ر: المنجد ص497).
(5) أذربيجان: كانت من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وقد أصبحت جمهورية مستقلة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وتقع على سواحل بحر قزوين (الخزر) وعاصمتها: باكو. (ر: المنجد ص2).
(6) أرَّان: بلاد واسعة، تقع بين أذربيجان وأرمينية والكرْج وجبال القوقاز وبحر الخزر، ونهاية حدها الشمالي باب الأبواب (الدَّرْبَندْ)، ومن أهم مدن أرَّان: جَنْزَه (كَنْجَة) و بَرْدَعَة. (ر: معجم البلدان 1/136، صبح الأعشى 4/402).
(7) ديار ربيعة: هي البلاد الواقعة بين الموصل وراس العين في شمالي ما بين النهرين، أطلق عليها هذا الاسم نسبة إلى ربيعة بن معد بن عدنان.
أما ديار مضر: فمنطقة في الجزيرة العربية ما بين النهرين تشمل بلاد الفرات من سميساط إلى عانة، كانت قاعدتها الرقة (ر: المنجد ص293)، ومعجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع ص381،568،569 عبد الله البكري الأندلسي).(5/2)
- أجمعوا أن الواجب على المكلف أن يعلم بقلبه ويقر بلسانه أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له(1) قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}(2) وقال تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراًً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ}(3) وقال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(4) وقال تعالى: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(5).
- وأن الله تعالى حيٌّ، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}(6).
- وأنه تعالى قادرٌ، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(7).
- وأنه تعالى عالم، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}(8)، وقال: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى}(9)، وقال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(10).
- وأنه مريدٌ، قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(11) وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم}(12).
- وأنه سميع بصير قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(13).
__________
(1) قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } الأنبياء/25، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } النحل/36، فكل رسل الله وأنبيائه عز وجلّ كانوا يدعون أقوامهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
(2) سورة البقرة /162.
(3) سورة الصافات /4.
(4) سورة الأنبياء /22.
(5) سورة المؤمنون /91.
(6) سورة البقرة /255.
(7) سورة البقرة /20.
(8) سورة الأنعام /73.
(9) سورة الرعد /8.
(10) سورة الحديد /3.
(11) سورة البقرة /185.
(12) سورة النساء /26.
(13) سورة الشورى /11.(5/3)
- وأنه متكلم، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}(1) وقال: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}(2).
- وأنه باق لم يزل ولا يزال ]100/ب[ قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}(3).
- وأن له حياة وقدرة وعلماً وإرادة وسمعاً وبصراً وكلاماً وبقاءً، قال الله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِِهِ}(4) وقال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}(5) وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}(6).
- وأنه موصوف بهذه الصفات على الحقيقة من غير مجاز من غير تكييف ولا تمثيل.
- وأن له أسماءً كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}(7) الآية.
- وأنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو وصفه نبيه صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه الثقات العدول مما جاء في الأخبار الصحيحة(8)
__________
(1) سورة النساء /164.
(2) سورة الأعراف /143.
(3) سورة الرحمن /27.
(4) سورة النساء /166.
(5) سورة التوبة /6.
(6) سورة الفتح /15.
(7) سورة الأعراف/180
(8) نقل الأئمة - رحمهم الله تعالى- إجماع الصحابة والتابعين وأئمة السلف المحققين على ما ذكره المؤلف بأنهم يصفون الله عز وجلّ بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، ومن العلماء الذين نقلوا الإجماع على ذلك الإمام الحافظ أبو القاسم اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة3/432، والإمام أبو إسماعيل عبد الرحمن الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث ص3-7، والإمام ابن تيمية في مواضع من كتبه: الفتوى الحموية ص16-30، الرسالة التدمرية، منهاج السنة 2/532، مجموع الفتاوى 4/524، 5/26، وغيرها كثير، والإمام الذهبي في مختصر العلو للعلي الغفار ص159، وغيرهم من الأئمة رحمهم الله جميعاً.
وقسم أهل السنة صفات الله عز وجل إلى قسمين:
صفات ذاتية قائمة بذات الله العلية أزلاً وأبداً، كالحياة والعلم والوجه واليد.
صفات فعلية تتعلق بمشيئته عز وجل إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها، كالاستواء والنزول والمجيئ.
(ر: الفقه الأكبر ص301 للإمام أبي حنيفة، مجموع الفتاوى 5/99، 6/172، 268، ومجموعة الرسائل والمسائل 1/369 لابن تيمية، العلو ص174 للذهبي، شرح العقيدة الطحاوية ص127،128).(5/4)
، لا مدخل للعقل والقياس في إثبات صفاته وأسمائه، بل طريق إثباتها التوقيف لا غير(1).
- وأنه تعالى لم يزل كان موصوفاً بصفاته، مُسمًى بأسمائه، لم يستفد صفةً ولا اسماً من بعد، بل كان بذاته وصفاته وأسمائه الحسنى فيما لم يزل، كَهُوَ الآن فيما لا يزال(2).
- وأن ما ورد من الأخبار الصحيحة بنقل العدول الثقات تجرى على ظاهرها، ويؤمن بجميعها، ويوكل معانيها(3)
__________
(1) خلافاً لبعض المعتزلة الذين زعموا أن أسماء الله وصفاته ليست توقيفية، فأجازوا إطلاق الأسماء والصفات على الله عز وجل بالعقل والقياس.
(ر: مقالات الإسلاميين ص197 لأبي الحسن الأشعري، الفرق ببين الفرق ص183، 337 للبغدادي، لوامع الأنوار البهية 1/125)
(2) خلافاً للجهمية والمعتزلة وبعض الرافضة الذين زعموا أنه تعالى صار قادراً على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه. (ر: شرح العقيدة الطحاوية ص127-145، مقالات الإسلاميين 1/238، الفرق بين الفرق ص335).
(3) قوله: "ويوكل معانيها إلى الله تعالى" ليس قول السلف ولا مذهبهم، فإن السلف يؤمنون بأسماء الله وصفاته وبما دلت عليه من المعاني والأحكام، أما كيفيتها فيفوضون علمها إلى الله، وإن ظواهر نصوص الصفات عند السلف معلومة باعتبار المعنى، ومجهولة باعتبار الكيفية التي عليها. كما قال الإمام مالك وشيخه ربيعة وغيرهما في الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. اهـ كذلك قال ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وغيرهما من السلف: إنا لا نعلم كيفية ما أخبرنا الله به عن نفسه، وإن علمنا تفسيره ومعناه. اهـ
فمن زعم أن السلف يؤمنون بألفاظ نصوص الأسماء والصفات ويفوضون معانيها فقد جهل على السلف، فإن السلف كانوا أعظم الناس فهماً وتدبراً لآيات الكتاب وأحاديث النبي. صلى الله عليه وسلم.
(ر: درء تعارض العقل والنقل 1/206-208، نقض التأسيس 3/147، الفتوى الحموية الكبرى ص306-321 للإمام ابن تيمية، الإكليل في المتشابه والتأويل في مجموع الفتاوى13/307-311، تقريب التدمرية ص76-83 لابن عثيمين).(5/5)
إلى الله تعالى، من غير تمثيل ولا تكييف ويقال: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}(1).
ولا يقال فيها كيف(2) ؟ ولِمَ؟ ولا يقاس شيء منها بصفات المخلوقين، ولا تضرب لها الأمثال قال الله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(3). يكفي في جميع ذلك التصديق والتسليم والتنزيه مع الإثبات حسب مورده في الكتاب والسنة.
- وأجمعوا أن القرآن كلام الله عز وجل ووحيه وتنزيله غير مخلوق(4)، ولا محدث ]101/أ[ ولا مجهول، ولا مربوب، وأنه قرآن واحد، وهو باق لعينه تكلم الله به على الحقيقة، وأنه في صدورنا محفوظ، وفي ألسنتنا مقروء، وفي مصاحفنا مكتوب، وفي آذاننا مسموع، وهو الكلام الذي تكلم به(5)
__________
(1) سورة آل عمران /53.
(2) إن معنى قول السلف (بلا كيف) أي بلا كيف يعقله البشر، فليس المراد من قولهم (بلا كيف) هو نفي الكيف مطلقاً، فإن كل شيء لا بد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد هو نفي العلم بالكيف، إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه. (ر:شرح العقيدة الواسطية ص21 للهراس).
(3) سورة النحل /74.
(4) خلافاً للمعتزلة الجهمية الذين زعموا أن القرآن الكريم مخلوق محدث. (ر: شرح الأصول الخمسة ص528 للقاضي عبد الجبار المعتزلي).
(5) لما ظهر الخوض في صفات الله عز وجل وفي كلام الله خاصة من قبل الزنادقة وفرق المبتدعة، وظهرت فتنة المعتزلة في القول بخلق القرآن الكريم، احتاج أهل السنة والجماعة إلى تعريف القرآن الكريم تعريفاً جامعا شاملاً يظهرون فيه معتقدهم في صفات الله تعالى عامة وفي صفة الكلام خاصة - ومنه القرآن الكريم- ويخالفون بذلك أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة.
قال عمرو بن دينار (من خيار أئمة التابعين) -رحمه الله-: أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم فمن دونهم منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، منه خرج وإليه يعود. (أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية رقم 344، والنقض على المريسي ص116، والبيهقي في السنن10/205 وإسناده صحيح).
فالقرآن الكريم: هو كلام الله عز وجلّ بحروفه ومعانيه، منزَّل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم، غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، معجز بسورة منه، متعبد بتلاوته، تكفل الله بحفظه، ناسخ لما سبقه من الكتب السماوية.
(ر: شرح الطحاوية ص121،122، التحبير في علم التفسير 39،40 للسيوطي).(5/6)
{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(1). قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}(2) وقال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}(3) وقال: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ}(4) وقال: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}(5) وقال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}(6) وقال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه}(7) وقال: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}(8) وقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}(9) وقال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}(10).
فمن قال إنه مخلوق فهو كافر، قال الله تعالى:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}(11) ففرَّق بينهما. وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنْسَان}(12) ففرَّق بينهما، قال في القرآن {عَلَّمَ} وفي الإنسان {خَلَقَ}.
وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(13) فلو كان قوله "كن" مخلوقة لاحتاج إلى قول آخر، وذلك القول إلى آخر، فيتسلسل ولا يتحصّل، [ومن قال به فهو ضال(14)].
__________
(1) سورة فصلت /42.
(2) سورة العنكبوت /49.
(3) سورة البروج /22.
(4) سورة عبس /13.
(5) سورة الطور /2.
(6) سورة الواقعة /79.
(7) سورة التوبة /6.
(8) سورة الإسراء /106.
(9) سورة العلق /1.
(10) سورة القيامة /18.
(11) سورة الأعراف /54.
(12) سورة الرحمن /2،3.
(13) سورة النحل /40.
(14) في ص (ومن قال ضال)، والتصويب من المحقق.(5/7)
- وأن القرآن موجود بين المسلمين [لا يرفعه](1) الله عنهم إلا إذا شاء كما روي في الخبر،.قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو"(2) أراد به المصحف.
- والمراء في القرآن كفر كما جاء في الخبر(3)،ولا يجوز القول في القرآن بقياس ولا رأي ومعقول إلا بما جاء في القرآن أو صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيه شيء، قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه}(4).
- وأن القول بالرأي في القرآن(5)
__________
(1) في ص (لا يرفع) والتصويب من المحقق.
(2) أخرجه البخاري (ر:فتح الباري6/133)، و مسلم 3/1490،1491 عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3) أخرجه الإمام أحمد 2/300، وأبو داود (ح4603)، وابن بطة في الإبانة 2/611، و اللالكائي في شرح الأصول ح (ح182)، والحاكم 2/223 عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، والألباني في صحيح الجامع الصغير (ح6687).
(4) سورة الأنعام /68.
(5) التفسير بالرأي: هو ما يعتمد فيه المفسر في بيان المعنى على فهمه الخاص واستنباطه بالرأي المجرد.
قال الإمام ابن تيمية: فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" ولهذا تحرّج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم".
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغةً وشرعاً فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم (من السلف) أقوال في التفسير - ولا منافاة - لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه. اهـ
(ر: مقدمة التفسير ضمن مجموع الفتاوى 13/370-375 باختصار، وشرح مقدمة التفسير ص140-150 لابن عثيمين، وانظر تفسير الطبري 1/78،79، التفسير والمفسرون 1/255 وما بعدها د. محمد الذهبي، مباحث في علوم القرآن ص352 للقطان.(5/8)
مذهب كفار قريش حيث جعلوا القرآن عضين(1)، فقال بعضهم: ]101/ب[ سحر(2)، وقال بعضهم: شعر(3)، وقال بعضهم: أساطير الأولين(4)، وقال الوليد: إن هذا إلا قول البشر(5). فأخبر الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه شكا منهم، قال الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}(6) وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ}(7) وقال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَاب}(8) وقال تعالى: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}(9).
- وأنه سبحانه يحيي ويميت، ويبدئ ويعيد، يفعل ما يشاء إذا شاء كما شاء، لا اعتراض عليه في فعله ولا حجر عليه في أمره.
- وأن الإيمان والإسلام اسمان(10)
__________
(1) قال تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } سورة الحجر/91.
(2) قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } سورة الزخرف/30.
(3) قال تعالى: {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } سورة الصافات/36.
(4) قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } سورة النحل/24.
(5) قال تعالى: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ } سورة المدثر/24، 25.
(6) سورة الفرقان /30.
(7) سورة ص /29.
(8) سورة العنكبوت /45.
(9) سورة فصلت /1-4.
(10) للسلف - رحمهم الله- في هذه المسألة: هل الإيمان والإسلام اسمان لمعنى واحد أم لمعنيين ؟ قولان هما:
الأول: التفريق بين الإسلام والإيمان، وأنهما لمعنيين، وقال بهذا القول جماعة من الصحابة والأئمة منهم ابن عباس، والحسن البصري، وأبو حنيفة، وابن سيرين، ومالك، وأحمد، وابن تيمية.
الثاني: عدم التفريق بينهما، وأنهما لمعنى واحد، وقال به جماعة من السلف منهم الإمام البخاري، والمروزي، وابن مندة، وبعض الحنفية والشافعية والمالكية.
والراجح - والله أعلم- القول الأول في التفريق بين الإسلام والإيمان، وأن بينهما تلازماً، فإذا اقترنا في كلام الشارع فسِّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال القلبية، وإذا افترقا دخل أحدهما في الآخر.
(ر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4/812 للالكائي، الإيمان لابن منده 1/311، شرح السنة 1/10 للبغوي، مجموع الفتاوى 7/357، وما بعدها لابن تيمية، شرح العقيدة الطحاوية ص390-394).(5/9)
بمعنىً واحد إذا جمع بينهما، فالمؤمنون هم المسلمون، والمسلمون هم المؤمنون، قال الله تعالى في الجمع: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(1).
وقال في التفرقة: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}(2). وفي خبر مأثور: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب"(3).
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحدٌ، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه ثم قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام. قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. فعجبنا له وهو يسأله ويُصدّقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. قال: صدقتَ…"(4).
__________
(1) سورة الذاريات /35.
(2) سورة الحجرات /14.
(3) أخرجه أحمد 3/135، وابن بطّة 2/796، وابن عدي في الكامل 5/207، والعقيلي في الضعفاء 3/250عن أنس رضي الله عنه.
قال الهيثمي في المجمع1/57: رواه أحمد وأبو يعلى بتمامه، والبزار باختصار، ورجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة، وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعفه آخرون. اهـ
قلت: ضعفه الإمام البخاري وقال عنه: "فيه نظر" (ر: الضعفاء للعقيلي وابن عدي) وضعفه الألباني (ر: شرح العقيدة الطحاوية ص390،494).
(4) أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه (ر: فتح1/114،115)، ومسلم 1/38، والترمذي (ح2610) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(5/10)
- وأن الإيمان الشرعي قول وعمل ومعرفة بنص الخبر،(1) وله شُعب وأجزاء، يزيد بالطاعة ]102/أ[ وينقص بالمعصية(2)، قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإيمان قول منقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول، واتباع الرسول"(3).
قال الله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(4) إلى غير ذلك من الأخبار والآيات.
- ولا نكفر مسلماً بارتكاب صغيرة ولا كبيرة ما دام عارفاً بالله موحّداً له(5)
__________
(1) الأحاديث الصحيحة في إثبات أن الإيمان قول وعمل كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلّم: "الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" أخرجه البخاري (ر:فتح1/51)، ومسلم 1/63 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وخالف في ذلك الجهمية والأشعرية والماتريدية القائلون إن الإيمان بالقلب، وخلافا للمرجئة القائلين إن الإيمان بالقلب واللسان فقط، وخلافا للكرامية القائلين إنه باللسان فقط. (ر: مقالات الإسلاميين 1/338).
(2) خلافا للخوارج والجهمية والمعتزلة والمرجئة والأشاعرة والماتريدية (ر: مقالات الإسلاميين 1/219،221، الملل والنحل 1/88، مجموع الفتاوى 7/223،257 لابن تيمية، أصول الدين ص252 للبغدادي).
(3) أورده العلامة يحي بن أبي الخير العمراني في كتابه الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار ص760، ولم اقف على من ذكره سواه.
وقد كتب في حاشية المخطوطة التعليق الآتي: "في ثبوته نظر ولعله موضوع". اهـ
(4) سورة الأنفال /2.
(5) خلافا للخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة في الدنييا، وأنه في الآخرة مخلد، وخلافا للمعتزلة الذين يجعلونه في منزلة بين المنزلتين (الكفر والإيمان) في الدنيا، وفي الآخرة مخلد في النار.
(ر: مقالات الإسلاميين 1/168، 2/167، الملل والنحل 1/45،48).(5/11)
. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن مثل هذا الدين كمثل شجرة ثابتة، الإيمان أصلها، والزكاة فرعها، والصيام عروقها، والصلاة ماؤها، والتآخي في الله عز وجل نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكف عن محارم الله عز وجل ثمرها، لا تكمل هذه الشجرة إلا بثمرة طيبة، وكذلك الإيمان لا يكمل إلا بالكف عن محارم الله عز وجل"(1).
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام عشرة، أسهم وقد خاب من لا سهم له، شهادة أن لا إله إلا الله سهم وهو الملة، والثانية الصلاة وهي الفطرة، والثالثة الزكاة وهي الطُهرة، والرابعة الصوم وهو الجُنَّة، والخامسة الحجّ وهي الشريعة، والسادسة الجهاد وهي العروة، والسابعة الأمر بالمعروف وهي الوفاء، والثامنة النهي عن المنكر وهي الحُجَّة، والتاسعة الجماعة وهي الأُلفة، والعاشرة الطاعة وهي العصمة"(2).
الفصل الثاني: في ذكر الأفعال وما جاء من الوعد والوعيد في المآل
__________
(1) أورده السيوطي في ذيل اللالئ المصنوعة 1/135، وابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة 2/233،234 وعزاه إلى الحاكم من مرسل حميد الطويل وقال ابن عراق: لم يبين علته مع إرساله، وهو من طريق محمد السلمي النيسابوري، وأظنه ابن أشرس، وهو متروك متهم، وشيخه حمزة بن شداد الحزري ما عرفته، والله أعلم. اهـ
(2) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط والكبير 11/344، وقال الهيثمي في المجمع 1/42: رواه الطبراني وفي إسناده حامد بن آدم، مشهور بوضع الحديث.(5/12)
- وأجمعوا على أن العباد بجميع أفعالهم وصفاتهم وحركاتهم وسكناتهم مخلوقون لله عز وجل (1)، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}(2).
- وأنّ الله قدّر الخير وأمر به وأحبَّه، وقدَّر الشرّ وقضاه ولم يأمر به ولم يحبه، وأن المطيع إنما يثاب على الطاعة باختياره وإيثاره الطاعة على المعصية تفضّلاً من الله ومنًّا.
- وأن ]102/ب[ العاصي إنما يعاقب على المعصية باختياره وإيثاره المعصية على الطاعة حكمةً من الله وعدلاً.
- ولا يكون من المطيع طاعة إلا بتوفيق الله له بلا قهر، ولا من العاصي معصية إلا بخذلان الله له بلا جَبْر(3)، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}(4)، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}(5) وقال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(6) وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً}(7) وقال: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ}(8) وقال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَات}(9) وقال: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}(10) وقال: {جَزَاءً وِفَاقاً}(11).
__________
(1) خلافا للقدرية الذين زعموا أن الله عز وجل غير خالق لأفعال العباد، وأن العباد خالقون لأفعالهم محدثون لها. (ر: شرح الأصول الخمسة ص323 للقاضي عبد الجبار، مقالات الإسلاميين 1/298).
(2) سورة الصافات/96.
(3) خلافا للجهمية الجبرية الذين زعموا أن العباد مجبورون على أفعالهم، لا قدرة لهم، ولا إرادة، ولا اختيار. (ر: مقالات الإسلاميين 1/338، الملل والنحل 1/85).
(4) سورة الإنسان/30.
(5) سورة السجدة /13.
(6) سورة التوبة /51.
(7) سورة يونس /99.
(8) سورة الأنعام /46.
(9) سورة النساء /160.
(10) سورة سبأ /17.
(11) سورة النبأ /26.(5/13)
- وأجمعوا أن الموت حق، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}(1).
- وأن المؤمنين إذا دُلُّوا في حفرتهم يسألهم منكر ونكير(2).
- وأن عذاب القبر حق، والإيمان به واجب وكذلك نعيمه(3)، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}(4)، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المسلم إذا سُئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ…}(5) الآية".
- وأن القيامة حق، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}،(6) وقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}،(7) وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً …}(8) إلى آخر السورة، وقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}،(9) وقال: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}(10) إلى غير ذلك من الآيات البينات القاهرة.
__________
(1) سورة العنكبوت /57، سورة الأنبياء /35، سورة آل عمران /185.
(2) أخرجه البخاري (فتح الباري 3/205،232، و مسلم 4/ 2200، وأبو داود (ح4751) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) خلافا للخوارج والمعتزلة (ر: مقالات الإسلاميين 2/116، شرح الأصول الخمسة ص730).
(4) سورة إبراهيم /27.
(5) أخرجه البخاري (: فتح 3/232، 8/378، و مسلم 4/2201، والترمذي (ح3120)، وأبو داود (ح4750) عن البراء بن عازب رضي الله عنهما.
(6) سورة التغابن /9.
(7) سورة طه /55.
(8) سورة القيامة /36.
(9) سورة الزمر /68.
(10) سورة يس /78،79.(5/14)
- وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
- وأنه تعالى يحيي العظام وينشئ الأجساد كما ]103/أ[ كانت ويدخل فيها الأرواح يجمعهم إلى موقف القيامة كما قال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}(1).
- وأجمعوا أن الحساب حق، كما قال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ}(2) وقال: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}(3) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار.
- وأن الميزان حق(4)، كما قال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}(5).
- وأن الصراط حق، كما جاء في الخبر الصحيح أنه جسر ممدود على متن جهنّم، أحدّ من السيف وأدقّ من الشعر، وأن الناس يجوزون عليه، وأن عليه عقبات. روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يضرب الصراط بين ظهراني جهنّم، فأكون أنا وأمتي في أول من يجوز، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، فدعاء الرسل يومئذ اللهم سلّم، اللهمّ سلِّم"(6).
__________
(1) سورة النازعات /13.
(2) سورة الصافات /24.
(3) سورة الانشقاق /8.
(4) خلافا للخوارج والمعتزلة أهل الأهواء والبدع الذين أنكروا الميزان والصراط والحوض، وأولوها بتأويلات باطلة. (ر: مقالات الإسلاميين 2/164،165، وفتح الباري11/467،13/538).
(5) سورة الأنبياء /47.
(6) أخرجه البخاري (ر: فتح 13/419)، ومسلم 1/163-165، 169،171، وأحمد 2/293، 6/110، والطبراني في الكبير 9/230 عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم أجمعين.(5/15)
- وأجمعوا أن الحوض حق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن حوضي لأبعد ما بين أيلة وعدن، والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد النجوم، وهو أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، والذي نفسي بيده إني لأذود عنه الرجال، كما يذود الرجل الغريبة من الإبل عن حوضه" قال: قيل يا رسول الله: وهل تعرفنا يومئذ؟ قال: "نعم تردون عليّ غُرًّا محجّلين من آثار الوضوء، ليس لأحد غيركم"(1).
- وأجمعوا أن الشفاعة حق، قال الله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}(2) وقال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}(3) كما جاء في التفسير أنه الشفاعة(4).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي"(5) وقال صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"(6) وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، فآتي الفحْص، - يعني قدام العرش- فأخر ساجداً فيقول ]103/ب[ ربي عز وجل: يا محمد ارفع رأسك، سل تعط واشفع تشفّع"(7).
__________
(1) أخرجه مسلم 1/217، 218، وابن ماجة (ح4302) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
(2) سورة الإسراء /79.
(3) سورة الضحى /5.
(4) قاله الحسن وأبو جعفر الباقر -رحمهما الله- (ر: تفسير ابن كثير 4/559).
(5) أخرجه البخاري (ر: فتح 13/447) ومسلم 1/188، 198 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) أخرجه أبو داود (ح4739)، والترمذي (ح2435) وحسَّنه، وأحمد 3/213، وابن أبي عاصم في السنة2/399، والحاكم 1/69 عن أنس رضي الله عنه، وصححه الحاكم ووافقه الإمام ابن كثير في تفسيره 1/488، والألباني في تحقيقه لكتاب السنة لابن أبي عاصم.
(7) أخرجه البخاري (ر: فتح 13/473)، ومسلم 1/181، وابن ماجه (ح4312) عن أنس رضي الله عنه.(5/16)
- وأجمعوا أن الجنة والنار حق وهما مخلوقتان(1)، وقد رآهما النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج(2)، قال الله تعالى في حق الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}(3) وقال في حق النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}(4) وقال تعالى: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}(5) وقال في فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً}(6) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار الواردة في ذلك.
- وأجمعوا أن نعيم الجنة لا يبيد ولا يفنى، وأهلها لا يموتون(7)، قال الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}(8).
- وأجمعوا أن المؤمنين يرون ربهم عز وجل في القيامة، وفي الجنة عياناً بأعين رؤوسهم من غير تكييف(9)، قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(10) وقال صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته ولا تضارون"(11). وهذا تشبيه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي.
__________
(1) خلافا للجهمية وطوائف من المعتزلة الذين أنكروا خلقهما، وأن الله ينشئهما يوم القيامة. (شرح العقيدة الطحاوية ص476، مقالات الإسلاميين 2/168).
(2) أخرجه البخاري (ر: فتح 6/318)، والترمذي (ح2603) عن عمران بن حصين، ومسلم 4/2096، والترمذي (ح2602) عن ابن عباس رضي الله عنهم.
(3) سورة آل عمران/133.
(4) سورة البقرة/24، وآل عمران /131.
(5) سورة البقرة/35، والأعراف/19.
(6) سورة غافر/46.
(7) خلافا للجهمية وبعض أهل البدع. (ر: مقالات الإسلاميين 2/168، الملل والنحل 1/87).
(8) سورة التوبة /100، التغابن/9، الطلاق/11، الجن/23، البينة/6.
(9) خلافا للخوارج والمعتزلة والرافضة وبعض المرجئة. (ر: مقالات الإسلاميين 1/265، الفرق بين الفرق ص336، و شرح العقيدة الطحاوية ص129).
(10) سورة القيامة /23.
(11) أخرجه البخاري (ر: فتح 2/52)، ومسلم 1/439، والترمذي (ح2551) عن جرير ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه.(5/17)
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة}(1): "الزيادة: النظر إلى الله عز وجل"(2).
إلى غير ذلك من الآيات مثل قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ}(3)، والأخبار الصحيحة الواردة في ذلك. اختصرنا على هذا القدر كراهية التطويل.
- وأجمعوا أن كل ما في القرآن من خبر عن نبيٍّ أو عن المعاد أو عن أمة من الأمم أو عن المسيح فعلى ظاهره، لا رَمْزَ في شيء من ذلك ولا باطن ولا سرّ، وكذلك كل ما فيه من أمور الجنة، من أكل وشرب وجماع والحور العين والولدان المخلدين ولباس، وعذاب النار بالزقوم والحميم والأغلال، ]104/أ[ وغير ذلك. والصراط والميزان والحساب كله حق، إلا أنه لا ذبح هناك ولا موت ولا إيلام في الجنة، ولا طبخ بنار على مثل ما هو في الدنيا، فمن خالف شيئاً من هذا فقد خرج عن الإسلام بخلافه القرآن والسنة والإجماع.
- وأن الله يبعث الأرواح والأجساد ويجمع بينهما كما قال: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}(4).
- وأجمعوا أن قوماً يخرجون من النار بعد ما امتحشوا(5)، ويدخلون الجنة كما جاء في الخبر الصحيح المدوّن في الصحيحين(6)، وآخر أهل الإسلام خروجاً يعطى في الجنة مثل الدنيا كلها عشر مرات(7).
الفصل الثالث: في بيان الرسالة والنبوة
__________
(1) سورة يونس /26.
(2) أخرجه مسلم 1/163، وأحمد 4/332، والترمذي (ح2552) عن صهيب رضي الله عنه.
(3) سورة الأحزاب /44.
(4) سورة يس /78،79.
(5) أي احترقوا، والمَحْشُ: احتراق الجلد وظهور العظم (ر: النهاية في غريب الحديث 4/302 لابن الأثير).
(6) أخرجه البخاري (ر: فتح 11/445)، عن أبي هريرة، ومسلم 1/167-173 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
(7) أخرجه مسلم 1/173-178 عن ابن مسعود، وأبي سعيد الخدري، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم أجمعين.(5/18)
- وأجمعوا على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله وخاتم أنبيائه لا نبي بعده،(1) إلا أن عيسى بن مريم - عليهما السلام - سينزل قبل يوم القيامة متبعاً شريعة محمد صلى الله عليه وسلم(2).
- وأنه قد كان قبل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنبياء ورسل على جميعهم الصلاة والسلام. قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض}(3) وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ}(4) وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}(5).
- وأنّ الله تعالى كلّم موسى واتخذ إبراهيم ومحمداً خليلين - صلّى الله عليهما وسلّم- قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}(6) وقال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}(7) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبرأ إلى كل ذي خلة من خلته، وإن صاحبكم خليل الله"(8) يعني نفسه صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أخرجه البخاري (ر: فتح 6/495)، ومسلم 3/1471، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (ر: فتح 6/490،491)، ومسلم 1/135-137، والترمذي (ح3448) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وللتوسع يراجع كتاب: (التصريح بما تواتر في نزول المسيح) لجامعه محمد أنور شاه الكشميري.
(3) سورة البقرة /253.
(4) سورة الرعد /38.
(5) سورة النساء /165.
(6) سورة النساء /164.
(7) سورة النساء /125.
(8) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/166،167، والترمذي (ح3655) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.(5/19)
- وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى اليوم وإلى الأبد ]104/ب[، روحه عند الله حي عالم معظم، وكذلك سائر الأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون"(1)
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان 2/44، وأبو يعلى في مسنده (ح3425) والبيهقي في حياة الأنبياء ص72 عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
قال الهيثمي في المجمع 8/211: رواه أبو يعلى والبزار، ورجال أبي يعلى ثقات.
وقال المناوي في فيض القدير بعد ما عزاه إلى أبي يعلى: وهو حديث صحيح.
ووافقه الشيخ الألباني في سلسلة الصحيحة (ح621) وقال معلّقاً على الحديث: "ثم اعلم أن الحياة التي أثبتها هذا الحديث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إنما هي حياة برزخية، ليست من حياة الدنيا في شيء، ولذلك وجب الإيمان بها، دون ضرب الأمثال لها ومحاولة تكييفها وتشبيهها بما هو المعروف عندنا في حياة الدنيا، هذا هو الموقف الذي يجب أن يتخذه المؤمن في هذا الصدد: الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيسة والآراء كما يفعل أهل البدع الذين وصل الأمر ببعضهم، إلى ادعاء أن حياته صلى الله عليه وسلّم في قبره حياة حقيقية! قال: يأكل ويشرب ويجامع نساءه!!. وإنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى. ا.هـ (ر: سلسلة الصحيحة 2/190،191).
وللتوسع يراجع: الصارم المنكي في الرد على السبكي ص213،214 لابن عبد الهادي، الروح ص62 لابن القيم، شرح نونية ابن القيم 2/150 وما بعدها لابن عيسى.(5/20)
وقد قال تعالى في حق الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(1) والشهداء دون الأنبياء بدرجتين، قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء}(2) فإذا كان الشهداء أحياءً، فالنبيون وهم فوقهم بدرجات أولى وأحرى، إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة الواردة في ذلك.
- والأنبياء نفوسهم وبلاغهم حجج على الخلق أحياءً وأمواتاً، وأنهم لم يكونوا ضلالاً ضلال كفر قط، فمن طعن في واحد منهم طعناً أو ردَّ عليه قولاً أو فعلاً أو عاب عليه شيئاً أو اتهمه تهمةً فقد خلع الإسلام خلعاً وانسلخ عن الدين انسلاخاً، برهان ذلك إجماع أهل الإسلام كلهم على إعلان الأذان في كل مسجد في الدنيا وفيه: (أشهد أن محمداً رسول الله) وعلى القول في كل صلاة أو تطوع: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله)، وإجماع الأمة من أولها إلى آخرها على دعاء أهل الكفر إلى: (قول لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله). وقول الله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول}(3) فسماه الله رسولاً بعد موته وإلى يوم القيامة، فلو لم تكن روحه قائماً حيّاً عند الله تعالى لكان الأذان كذباً، والتشهد هدراً وتسليماً على معدوم، ولكان الصواب أن يقال: أشهد أن محمداً كان رسول الله(4)، وأجمعت الأمة على إنكار هذا القول(5)
__________
(1) سورة آل عمران /169.
(2) سورة النساء /69.
(3) سورة النساء /59.
(4) ذكر نحوه الإمام أبو القاسم الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة1/169-171، والعلامة ابن حزم في الفصل في الملل والنحل1/162-164.
(5) نسب الإمام أبو نصر السجزي في كتابه (الرد على من أنكر الحرف والصوت ص196)، والعلامة ابن حزم في (الفصل 1/161) هذا القول إلى الأشاعرة.
وقد أنكر القشيري نسبة هذا القول إلى الأشعري وأصحابه في رسالته شكاية أهل السنة (ضمن طبقات الشافعية 2/279-282).
ولم يرد هذا القول في كتب الأشاعرة أو كلام أئمتهم، بل قد ورد عن أئمتهم عكس ذلك بإثبات نبوة الأنبياء بعد موتهم كما صرح به الباقلاني في الإنصاف ص63، فلعله نقل عن بعض الأشاعرة أو أنه لازم قولهم بفناء الأعراض، والله أعلم.(5/21)
وتضليل ]105/أ[ قائله وإخراجه من جملتهم، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله ملائكة يبلغونه منا السلام"(1) فمِنَّا على روحه المقدس المقرب في الجنة الآن عند ربه الحي العالم أطيب صلاة وأكثره عدد ما خلق ربنا ويخلق، وهذا القول في كل نبي ورسول، اللهم صلّ على روح محمد في الأرواح، وعلى جسد محمد في الأجساد، وأن جميع ذلك حق وصدق، لا على وجه المجاز والرمز، والتأويل على ظاهره.
- وأجمعوا على أن الملائكة حق، والجن حق، قال الله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً}(2) وقال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}(3).
- وأجمعوا على أن دين الإسلام الذي جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على كل من بلغه من جن وإنس، قال الله تعالى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}(4) وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(5) وقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ …} الآية(6).
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 1/387،441، والنسائي (ح8994)،وأبو يعلى في مسنده (ح5213)، والحاكم 2/421 عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلّم: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبلغوني عن أمتي السلام".
وهو حديث صحيح كما ذكر المؤلف، فقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي وابن القيم في جلاء الأفهام ص54.
(2) سورة فاطر /1.
(3) سورة الحجر /27.
(4) سورة الأنعام /19.
(5) سورة الذاريات /56.
(6) سورة الجن /2.(5/22)
- ولم يبعث الله قبل محمد نبياً إلا إلى قومه خاصة، هكذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثتُ إلى الأحمر والأسود"(1) وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاس}(2).
- وأن جميع ما صحَّ من الأخبار من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم حق وصدق، وأنه هاجر من مكة إلى المدينة وتوفي صلى الله عليه وسلم وقُبِر بها.
- وأجمعوا على أن الحفظة الكرام حق، قال الله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ …}(3) الآية، وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ}(4) الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار"(5).
- وأجمعوا على أن إيتاء الكتب المكتوب فيها أعمال العباد حق، قال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ ]105/ب[ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}(6) وقال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه}(7) الآية.
- وأجمعوا على أن النبوة غير مكتسبة بل هي باصطفاء الله للعبد وتخصيصه إياه، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاس}(8).
ومعنى النبوة: أن ينبئ الله عز وجل من يشاء من عباده بوحي يعلمه به ما يكون قبل أن يكون.
__________
(1) أخرجه البخاري (ر: فتح 1/435،436)، ومسلم 1/371 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2) سورة سبأ /28.
(3) سورة ق /17.
(4) سورة الانفطار /10.
(5) أخرجه البخاري (ر: فتح 2/32)، ومسلم 1/439 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) سورة الإسراء /13،14.
(7) سورة الحاقة /19.
(8) سورة الحج /75.(5/23)
وتفسير الرسالة: هو أن يرسل الله من شاء من عباده بما يشاء إلى من يشاء من خلقه(1)، وذلك يكون إما بواسطة ملَكٍ أو إلهام أو رؤية في المنام أو سماع كلام من وراء حجاب، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}(2) وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}(3).
- وأجمعوا على أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ربنا ليلة المعراج، كما أخبر عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث فيه صحيح يجرى على ظاهره ولا يؤول(4)
__________
(1) اختلف العلماء في تعريف النبي والرسول والفرق بينهما على أقوال عديدة، لا تخلو من الاعتراض عليها، ولعل أرجح الأقوال في ذلك وأسلمها من الاعتراض ما ذكره الإمام ابن تيمية في كتابه النبوات ص255،256: قال: "فالنبي: هو الذي أوحى الله إليه وأخبره بأمره ونهيه وخبره، ويعمل بشريعة رسول قبله بين قوم مؤمنين بها. وأما الرسول: فهو الذي ينبئه الله ثم يأمره أن يبلغ رسالته إلى من خالف أمره".
(2) سورة الشورى /51.
(3) سورة الشعراء /193.
(4) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "رأيت ربي عز وجلّ" أخرجه الإمام أحمد 1/285، وابنه في السنة (ح1167) وابن أبي عاصم في السنة (ح433)، قال الهيثمي في المجمع: 1/78: رجاله رجال الصحيح.
وللسلف - رحمهم الله- في (مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلّم لربه عز وجل في الدنيا) خلاف قديم مشهور على ثلاثة أقوال هي:
1- إنكار رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا 2- إثبات الرؤية 3- التوقف في المسألة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قد اتفق أئمة المسلمين على أن أحدا من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا، ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، مع أن جماهير الأمة اتفقوا على أنه لم يره بعينه في الدنيا، وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وأئمة المسلمين.
ولم يثبت عن ابن عباس ولا الإمام أحمد وأمثالهما أنهم قالوا إن محمداً رأى ربه بعينه، بل الثابت عنهما إما إطلاق الرؤية، وإما بتقييدها بالفؤاد، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه. اهـ"
فعلى هذا يمكن الجمع بين القولين الأولين والأدلة، أن من نفى وأنكر الرؤية فيحمل على الرؤية العينية البصرية، وأما من أثبت الرؤية فيحمل على إثبات الرؤية القلبية، وهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "رآه بقلبه". (أخرجه مسلم 1/158) - والله أعلم.
وبهذا يتبين لنا خطأ المؤلف - عفا الله عنا عنه- في زعمه الإجماع على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا ليلة المعراج.
(ر: للتوسع: صحيح مسلم 1/158 وما بعدها، الشريعة 3/1541 للآجري، شرح أصول الاعتقاد3/512 للالكائي، الحجة في بيان المحجة 2/252 للأصبهاني، مجموع الفتاوى 3/386، 6/507 لابن تيمية، فتح الباري 8/608، رؤية الله تعالى ص138-174 د. أحمد آل حمد، فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 2/128).(5/24)
.
- وكل ما صحّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عن الله عز وجل قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}(1)، فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وقبول قوله واجب على الكافة، فمن خالفه أو ردَّ عليه خلع ربقة الإسلام من عنقه، قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ …}(2) الآية.
والدين لازم أن يعرف كل واحد منه ما يخصه، فعلى جميع البالغين المميزين معرفة الطهارة والصلاة والصيام، وما يحرم أكله وما يحل من ذلك، وما يحرم إتيانه وما يحل، وعلى أهل الأموال معرفة الزكاة، وعلى المستطيع ]106/أ[ للحج معرفة الحج، وعلى من أراد النساء معرفة ما يحل من التسري والنكاح وما يحرم، وعلى أهل البيع معرفة ما يحل من البيوع [وما يحرم](3)، وعلى الأمراء والولاة معرفة الأحكام وسياسة الجيوش وحكم الغزو والمغانم.
وفرض على كل أحد أن يحفظ أم القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"(4)، ويحفظ معها [شيئاً](5) من القرآن.
الفصل الرابع: في ذكر الإمامة والخلافة والأئمة والخلفاء
- أجمعوا على أن أفضل الناس الأنبياء والرسل، وأفضل الناس بعد الرسل والأنبياء عليهم السلام، أصحابهم، وأفضل أصحابهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(6).
__________
(1) سورة النجم /3،4.
(2) سورة النساء /65.
(3) ليست الكلمة موجودة في الأصل، ولعلها سقطت من الناسخ بدليل سياق الكلام، والله أعلم.
(4) أخرجه البخاري (ر: فتح 2/236،237)، ومسلم 1/595 عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(5) في ص (شيء) والصواب ما أثبته.
(6) سورة آل عمران /110.(5/25)
- وأفضل الصحابةِ المهاجرين العشرةُ الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأفضل العشرةِ الخلفاءُ الأئمة الأربعة، وأفضلهم أبوبكر الصدّيق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم علي المرتضى - رضي الله عنهم -(1).
قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ …}(2) نزلت الآية في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حيث أنفق ماله بمكة ونصر النبي صلى الله عليه وسلم(3)، وهو أول من آمن من الرجال.
وقد وردت في فضائل الأربعة الآيات الكثيرة، قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم …} إلى آخر الآيتين(4)، وقال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار …}(5) الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختارني من العالمين، واختار لي أصحاباً، واختار لي من أصحابي أربعة هم خير أصحابي: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي"(6) - رضي الله عنهم أجمعين -، وقد جاء مثل ذلك من الأخبار الصحيحة ما لا يعد كثرةً ولا يحصى ]106/ب[.
ثم اختلفوا في أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه كان نصّاً أو إجماعاً على قولين:
__________
(1) خلافا للرافضة والخوارج والنواصب (ر: مقالات الإسلاميين 2/163).
(2) سورة الحديد /10.
(3) أسباب نزول القرآن ص431 لأبي الحسن الواحدي، تفسير القرطبي 17/240.
(4) سورة الفتح /29،30.
(5) سورة التوبة /100.
(6) أخرجه الحافظ اللالكائي في شرح الأصول (ح2334)، والطبراني في المعجم الكبير 17/140 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
قال الهيثمي في المجمع 10/18: رواه البزار، ورجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف. اهـ(5/26)
أحدهما:- أنه كان نصاً، لأنه أقامه مقامه في الصلاة مرة مرضه، ولما عرض عليه غيره أبى وقال: "يأبى الله ذلك والمسلمون"(1) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة الصحيحة.
والقول الثاني:- وعليه أكثرهم، أن الإجماع من الصحابة انعقد على خلافته(2)، قال علي رضي الله عنه (رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟!(3).
__________
(1) أخرجه أبو داود (ح4660)، وأحمد 4/322، والحاكم 3/641 وابن أبي عاصم في السنة2/553 عن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه.
وقال الألباني في تعليقه على كتاب السنة: إسناده صحيح.
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكره للخلاف الوارد في خلافة الصديق، هل ثبتت بالنص الجلي أو الخفي-: فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم له بها وانعقدت بمبايعة المسلميين له واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله وأنه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعاً، لكن النص دل على رضا الله ورسوله بها، وأنها حق، وأن الله أمر بها وقدّرها وأن المؤمنين يختارونها، وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد.
وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضى الله ورسوله بذلك كان ذلك دليلاً على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة فإن ذلك لا يحتاج فيه إلى عهد خاص. (ر: منهاج السنة 1/139-141، ومجموع الفتاوى 35/47-49).
(3) أخرجه ابن سعد في الطبقات 3/183، والآجري في الشريعة 4/1722،1840، والخلال في السنة 1/273 عن الحسن عن علي رضي الله عنهما.(5/27)
وقال صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر وزيري، يقوم في الناس بعدي مقامي، وعمر ينطق على لساني، وعثمان مني وأنا منه، وعلي أخي في الدنيا والآخرة"(1).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختارني، واختار لي أصحاباً، فجعل لي منهم وزراء وأنصاراً وأصهاراً، فمن سبّهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً"(2).
وقال صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً من بعدي، من أحبّهم فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه"(3).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي(4) –رضي الله عنهم-.
__________
(1) أخرجه العقيلي في الضعفاء 2/130 في ترجمة سليمان بن شعيب بن الليث بن سعد، قال عنه العقيلي: حديثه غير محفوظ ولا يتابع عليه ولا يعرف إلا به.
وفي الميزان 2/211 قال ابن يونس عنه: روى مناكير.
(2) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 2/483، واللالكائي في شرح الأصول (ح2341)، والبيهقي في المدخل ص113 عن عبد الله بن عوين بن ساعدة رضي الله عنه، وقال الهيثمي في المجمع10/20: رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه اهـ. وضعفه الشيخ الألباني (ر: ضعيف الجامع الصغير ح1536، وكتاب السنة لابن أبي عاصم).
(3) أخرجه الترمذي (ح3862)، وأحمد 5/54، وابن حبان (ح2284)، واللالكائي في شرح الأصول (ح2346)، وأبو القاسم الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة2/370 عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. وضعفه الألباني (ر: ضعيف الجامع الصغير ح1259، وفي شرح العقيدة الطحاوية ص471).
(4) أخرجه الحافظ الآجري في الشريعة4/1769، 1770، وأبو نعيم في الحلية5/203، والإمام اللالكائي في شرح الأصول(ح2332) عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد فيه ضعف.(5/28)
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب أبابكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب عليًّا ]107/أ[ فقد استمسك بالعروة الوثقى"(1).
روى مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله استخلف علينا بعدك رجلاً نعرفه، ونُنهي أمرنا إليه فإنا لا ندري ما يكون بعدك، فقال: "إن استعملت عليكم رجلاً فأمركم بطاعة الله عز وجل فعصيتموه، كانت معصيته معصيتي ومعصيتي معصية الله عز وجل، وإن أمركم بمعصية الله عز وجل كانت لكم الحُجَّة عليَّ يوم القيامة، ولكني أكِلُكُم إلى اللهعز وجل"(2).
- ولا تجوز الخلافة إلا في الرجال البالغين العاقلين من قريش(3)
__________
(1) أخرجه الإمام الآجري في الشريعة 4/1772، 1773، وابن أبي زمنين في أصول السنةص268، واللالكائي في شرح الأصول رقم (2333)، والحافظ أبو القاسم إسماعيل الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة 2/369 منسوبا إلى أيوب السختياني، وليس من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم أقف على من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل الناسخ قد أخطأ في نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن المؤلف قد وهم في ذلك.
(2) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 13/160، وذكره علاء الدين الهندي في كنز العمال 11/631 ح33078 وعزاه إلى ابن عساكر والخطيب.
(3) لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان" أخرجه البخاري (ر: فتح 13/114)، ومسلم 3/1452 عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وقد خالف في ذلك الخوارج والمعتزلة وأبو المعالي الجويني من الأشاعرة، فأجازوا أن يكون الإمام غير قرشي، أما الرافضة فقد قصروا الإمامة في علي وذريته. (ر: فتح الباري 13/118).
وهذا الشرط - القرشية- خاص بالإمامة العظمى، عندما تتوحد الأمة، ويتولى أمر المسلمين جميعاً خليفة واحد، قال القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 4/7: إذ أجمعت الأمة على أن جميع الولايات تصح لغير قرشي ما خلا الإمامة الكبرى، فهي المقصودة بالحديث قطعاً. اهـ(5/29)
من ولد فهر بن مالك خاصةً، ولا يجوز أن يكون في الناس إمامان(1)، ولا يحل البقاء دون بيعة إمام البتة إلا ثلاثة أيام(2).
__________
(1) لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" أخرجه مسلم 3/1480 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك، فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق. (ر: مجموع الفتاوى 34/175،176، وبنحوه في نقد مراتب الإجماع ص216 لابن تيمية).
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحدا من العلماء ذكر أن شيئاً من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم. اهـ
(ر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية 7/239، وبنحو ذلك ذكره العلامة الشوكاني في كتابه السيل الجرار 4/512 مطولاً، والعلامة الصنعاني في كتابه سبل السلام 3/499، وانظر كتاب معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة ص27-34 عبد السلام بن برجس).
(2) لقوله صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" أخرجه الإمام مسلم 3/1478 عن ابن عمر رضي الله عنهما.(5/30)
- وأجمعوا على الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا"(1).
وروي عن أبي سعيد أنه قال: "مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها"(2).
وينتهون إلى ما روي عن عمربن عبد العزيز(3) وقد سئل عما شجر بينهم فقال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(4).
وسئل بعض العلماء من التابعين عن ذلك فقال: أقول ما قال موسى عليه السلام لفرعون حين قال له: {مَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى}(5).
__________
(1) أخرجه ابن أبي زمنين في أصول السنة ص266، واللالكائي (ح210، 2351)، وابن عدي في الكامل7/2490 عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال الهيثمي في المجمع 7/226: وفيه مسهر بن عبد الملك وثقه ابن حبان وغيره وفيه خلاف. ا.هـ. وقد حسَّن الألباني الحديث وقال: روي من حديث ابن مسعود وثوبان وابن عمر وطاووس مرسلاً، وكلها ضعيفة الأسانيد ولكن بعضها يشد بعضاً. (ر:سلسلة الصحيحة 1/42 ح34، صحيح الجامع ح559).
(2) أخرجه ابن الجوزي في كتاب الحدائق في علم الحديث والزهديات 1/474، وقال المحقق: عزاه القاريء في الأسرار المرفوعة: 308 لأبي نعيم في الطب، ثم قال: وهو ضعيف.
(3) عمر بن عبد العزيز: أحد أئمة التابعين، الخليفة الأموي الصالح المشهور، ولي الخلافة عام 99هـ وتوفي عام 101هـ وله أخبار كثيرة في العدل والزهد. (ر: الحلية 5/253، سير أعلام النبلاء 5/114، البداية والنهاية 9/192).
(4) سورة البقرة /134،141.
(5) ذكره الباقلاني في كتابه (الإنصاف) ص69 معزواً إلى العلامة جعفر بن محمد الصادق رحمه الله تعالى، والآية التي استدل بها في سورة طه الآية (52).(5/31)
وروي عن محمود بن الورقاء أنه قال: كنت أتشيع وأكثر ذكر معاوية رضي الله عنه ما كان بينه وبين علي كرم الله وجهه، فرأيت فيما يرى النائم كأني دخلت دارا فإذا معاوية فيها جالس وعليه جبة سلقى، وعليه منديل قد أرخى طرفيه ]107/ب[ على منكبيه فلما بصر بي رفع رأسه إلي وقال: هل تقرأ كتاب الله ؟ قلت: بلى. قال: اقرأ هذه الآية: {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(1).
- فنترحم على جميع الصحابة ونحبهم وننتهي إلى قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(2).
قال أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني: أنشدني الشافعي رحمه الله من قيله:
شهدت بأن الله لا شيء يره
وأشهد أن البعث حق وأُخلِصُ
وأن عرى الإيمان قول مبين
وفعل زكي قد يزيد وينقص
وأن أبا بكر خليفة ربه
وكان أبو حفص على الخير يحرص
وأُشهد ربي أن عثمان اضل
وأن عليا فضله متخصص
أئمة حق يهتدى بهداهم
لحا الله من إياهم يتنقص
فما لعتاه يشهدون سفاهة
وما لسفيه لا يحيص ويخرص(3)
__________
(1) سورة سبأ /25.
(2) سورة الحشر /10.
(3) أورد الأبيات الإمام ابو القاسم اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 7/1391 ونسبها إلى المزني صاحب الإمام الشافعي، ولعل اسم الشافعي قد سقط من مخطوطة كتاب اللالكائي، فقد ذكر الأبيات البيهقي في مناقب الشافعي 1/440،441 من طريق الربيع بن سليمان عن الشافعي - رحمه الله تعالى-.(5/32)
قال محمد بن يزيد المستملي: كنت أسأل أحمد بن حنبل عن الخلفاء الراشدين المهديين، فيقول: دع هذا، فَلَزََزْتُه(1) يوما إلى حائط فسألته عن الخلفاء الراشدين المهديين كأنه حَزْمٌ عليه، فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم(2).
- وأجمعوا على أنه لا يحكم لأحد بجنة ولا نار، بل هو موكول إلى مشيئة الله عز وجل، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ...}(3) الآية.
- وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشرة من أصحابه بالجنة، هم خير الناس وأفضلهم الخلفاء الراشدون، ويجب على المسلمين مدحهم والثناء عليهم والدعاء لهم ]108/أ[ ولجميع الصحابة لما بذلوا من وسع النفس والمال في إقامة الحق ونصرة الدين رضي الله عنهم أجمعين(4).
- وطاعة السلطان عندهم واجبة على الرعية، فتجب الصلاة معه وخلف كل بار وفاجر، فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء فعليه دونهم(5).
- وبلاد المسلمين دار الإسلام، مادام شعار الإسلام من الأذان والإقامة والصلوات ظاهرا(6)
__________
(1) لزَّه: شده وألصقه (ر: القاموس المحيط ص673).
(2) أورده الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/1391.
(3) سورة الجن /26،27.
(4) خلافا للرافضة والخوارج والنواصب والمعتزلة الذين لم يسلم الصحابة رضي الله عنهم من سبهم والتعرض لهم بعيبهم وتنقصهم والطعن فيهم.
(5) خلافا للخوارج والمعتزلة الذين يرون الخروج على السلطان الجائر أو الفاجر، وأنه لا تجوز الصلاة خلف الإمام الفاجر. (ر:مقالات الإسلاميين1/337، 2/140، الملل والنحل 1/106).
(6) يدل على ذلك قول أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار". أخرجه البخاري (ر: فتح 2/89،90) ومسلم 1/288 واللفظ له.
قال الإمام ابن تيمية: وكون الأرض دار كفر أو دار إيمان أو دار فاسقين ليس صفة لازمة لها، بل هي صفة عارضة بحسب سكانها، فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون هي دار أولياء الله في ذلك الوقت، وكل أرض سكانها الفساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت، فإن سكنها غير ما ذكرنا، وتبدلت بغيرهم فهي دارهم. اهـ (ر: مجموع الفتاوى 18/287. وانظر: فقه السياسة الشرعية ص246-250 خالد العنبري).
وبهذا نعلم مدى غلو وضلال هؤلاء الذين يصفون الدول الإسلامية التي لا تحكم بما أنزل الله بأنها دار كفر أو جاهلية، ثم يعلنون على أهلها الجهاد، ويستبيحون الدماء والأموال بل والأعراض، فمن يفعل ذلك منهم فهم من الخوارج الذين أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم باستمرار خروجهم على المسلمين إلى زمن الدجال. والله أعلم.(5/33)
.
- وكل مسلم مالك لماله، فهو أحق به من غيره.
- وكل حي مخلوق فله أجل هو بالغه، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}(1) وسواء مات حتف أنفه أو قتل فهو عند انتهاء أجله الذي كتب له،وكذلك رزق الخلق بيده وهو قوام الحياة وغذاء النفس يرزقهم من حيث شاء كما شاء سواء تناوله العبد من حل أوحرام إلا في المأثم.
ومن دينهم واعتقادهم قول الحق، وفعل العدل، ولزوم الجماعة، وقيام الليل للصلاة، وقراءة القرآن، وطلب العلم من أهله، وجمع السنن الصحيحة وكتب الحديث من العدول الثقات، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح، والسعي في مصالح المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجانبة الكذب والزور، وكل مسكر ورياء وشبهة وخيانة وريبة وغيبة وتهمة، ومقارنة العلماء الربانيين والصلحاء المتقين(2). هذا دينهم واعتقادهم ذكرته على وجه الاختصار وحذفت الأسانيد للأخبار كراهية الإكثار.
واتفق أهل العلم أن أحدا لم يجمع جمل الإيمان بالله وبرسوله كما جمعه الشافعي رضي الله عنه في قوله الموجز: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء ]108/ب[ عن رسول الله على مراد رسول الله(3).
__________
(1) سورة يونس /49.
(2) وبنحوه أورده الإمام أبو عثمان إسماعيل الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث ص112-114، وأبو القاسم إسماعيل الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة 2/528-530.
(3) أورده الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 4/2، 6/354.(5/34)
قال الشيخ الإمام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري(1) - رحمه الله -: التوحيد على وجهين(2):
__________
(1) أبو إسماعيل الهروي، شيخ الإسلام، إمام في التفسير، والحديث، والوعظ، من ذرية أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، له مؤلفات كثيرة منها (ذم الكلام). توفي سنة 481هـ (ر: المنتظم 9/44 لابن الجوزي، سير الأعلام 18/503 للذهبي).
(2) لقد دلّ استقراء القرآن الكريم - عند السلف- أن توحيد الله عز وجل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، توحيد الألوهية، توحيد الأسماء والصفات.
ومن السلف - رحمهم الله- من يقسم التوحيد إلى قسمبن: فيجعل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات قسما واحداً يسميه بـ(توحيد المعرفة والإثبات)، ويسمي توحيد الألوهية (توحيد الطلب والقصد)، وهذا التقسيم الأخير هو ما ذهب إليه الإمام أبو إسماعيل الأنصاري.
ومن السلف الذين نقل عنهم تقسيم التوحيد إلى ما ذكرنا: الإمام أبو حنيفة في الفقه الأبسط ص51، والإمام أبو جعفر الطحاوي (ت321هـ) في عقيدته المشهورة بالطحاوية، والإمام ابن بطّة (ت387هـ) في كتابه الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، والإمام الحافظ ابن مندة(ت395هـ) في كتابه التوحيد، والإمام ابن تيمية وابن القيم والمقريزي وغيرهم.
(ر: النقول عن الأئمة في ذلك: كتاب القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد ص34 وما بعدها د. عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر).(5/35)
الأول منهما: إفراد الله عز وجل بالربوبية والأولية، ونفي الشركاء والشبه عنه، وإثبات البينونة(1)، ومعرفته بأنه لا يكافأ في قدر، ولا ينازع في أمر، ولا يشابه في صفة، ولا يدافع في حكم، وأنه صمد صفاته ممتنعة عن التكييف، وقدره عن الإدراك(2).
وضد هذا التوحيد هو الشرك الأكبر(3)
__________
(1) بمعنى أن الله عز وجل بائن عن خلقه.
(2) وهذا هو توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، أو ما يسمى بتوحيد المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي الخبري، وهو التوحيد المبني على اعتقاد أن الله عز وجل واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وواحد في ذاته وأسمائه وصفاته لا نظير له.
وتوحيد الربوبية لا يكفي العبد في حصول الإسلام بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الإلهية، فقد كان المشركون الأولون مقرين بتوحيد الربوبية –كما أخبر الله عز وجل عنهم ذلك في آيات كثيرة – ولكن إقرارهم هذا لم ينفعهم شيئاً، ولم يخرجهم من كفرهم وشركهم ولم يصبحوا موحدين لله عز وجل.
(ر: مدارج السالكين 1/34 لابن القيم، شرح العقيدة الطحاوية 79-84 لابن أبي العز الحنفي، تيسير العزيز الحميد ص17-20).
(3) إن الشرك الأكبر على نوعين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
فالشرك إن كان شركا يكفّر به صاحبه، وهو نوعان: شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية، فأما الشرك في الإلهية فهو: أن يجعل لله ندا - أي: مثلاً في عبادته، أو محبته، أو خوفه، أو رجائه، أو إنابته، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف} وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب، لأنهم أشركوا في الإلهية. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} وقال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقال تعالى: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}…
وأما النوع الثاني: فالشرك في الربوبية - فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل، فمن شهد أن المعطي أو المانع، أو الضار أو النافع، أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته.
(ر: مجموع الفتاوى 1/91،92، 3/272)، وللتوسع يراجع: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص152-154 للإمام ابن القيم، تجريد التوحيد ص27،28 للإمام المقريزي،، تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص43-46 للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب).(5/36)
من إلحاق شريك، أو تشبيه بشيء من خلقه قال الله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ …}(1) الآية، نفى عن نفسه الشبه وقدسها منه، فإلحاق التشبيه به بعد ذلك محال، وتقديسه بعد تقديسه فضل، فإن تقديس من لا يقبل العيب من العيب عيب، وإنما يقدس الله عز وجل من الشبه بقدر عزته وتعالي صفته، لا يمتزج فيخلص أو يقبل الشبه فيقدس، لهذا لم يرد في خبر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في صفة وصف بها الله عز وجل بلا مثل ولا تشبيه أو بلا كيف، لأن إثبات الصفة تقديس فلا يحتاج إلى التقديس قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ}(2) فمن شبه الله أو صفة من صفاته بخلقه أو بصفات خلقه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، ومن أنكر صفة ]109/أ[ أثبتها الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم له فقد كفر بالله وبرسوله.
فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ …} الآية. الكاف لتشبيه الصفات، والمثل تشبيه الذوات، فنفى التشبيهين كليهما عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أو ليس له مثل ولا كهو شيء، فمذهبنا إثبات الصفات من غير إفراط، ونفي التشبيه من غير تعطيل، والتمسك بالظاهر من غير تخليط، قال الشافعي - رحمه الله -: الظاهر أملك. والله أعلم.
__________
(1) سورة الشورى /11.
(2) سورة النحل /17.(5/37)
وأما الوجه الآخر:- فإخلاص العمل لله، وإقامة الوجه له، ونفي المراءاة والتسميع عن عبادته، ثم إفراده بالثقة والخوف والرجاء والتفويض والمحبة(1).
وضد هذا التوحيد هو الشرك الأصغر(2)
__________
(1) وهو توحيد الألوهية أو توحيد العبادة: وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة لا شريك له، وهو الذي خلق الله الجن والإنس من أجله قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وهو الذي أرسل الله به الرسل قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }، وهو التوحيد الذي أنكره المشركون ووقعت فيه الخصومة بين الرسل وأقوامهم.
(ر: مجموع الفتاوى 1/23 لابن تيمية، مدارج السالكين 1/215 لابن القيم).
(2) قلت: ضد هذا التوحيد شرك ينقسم إلى قسمين:
الأول: الشرك الأكبر: وهو أن يصرف العبد شيئاً من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، وهو شرك في الألوهية، مخرج من الملة، وصاحبه مخلد في النار. وقد تقدم بيانه من كلام الإمام ابن تيمية.
الثاني: الشرك الأصغر: وهو ما أشار إليه الإمام أبو إسماعيل الأنصاري في كلامه، وعرفه الإمام ابن القيم بقوله: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله تعالى، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا، وقد يكون شركاً أكبر بحسب قائله ومقصده. ا.هـ (ر: مدارج السالكين 1/344).
والشرك الأصغر لا يخرج صاحبه من الملة ولا يخلد في النار، بل هو كبيرة من الكبائر، يحبط العمل الذي قارنه.(5/38)
، قال الله تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}(1)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك"(2).
وقال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك"(3).
وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص وهو يشير بأصبعيه في الدعاء فقال: "أحِّد أحِّد يا سعد"(4).
وقال صلى الله عليه وسلم للرجل - الذي قال له: ما شاء الله وشئت -: "أجعلتني لله ندا ؟! قل ما شاء الله"(5).
وقال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(6).
__________
(1) سورة الكهف /110، والآية تحتمل نوعي الشرك: الأكبر والأصغر.
(2) أخرجه مسلم 3/1513،1514، والترمذي (ح2382) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه الطيالسي ح1896، وأحمد 2/34، 86، وأبو داود (ح3251)، والترمذي (ح1535) وحسنه، والحاكم 1/18، 4/297 - وصححه ووافقه الذهبي- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4) أخرجه النسائي (ح1208)،، وأبو داود (ح1499)، والحاكم 1/536 - وصححه ووافقه الذهبي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد 2/420،520 والترمذي (ح3557) عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.
(5) أخرجه الإمام أحمد 1/214،224،283،347، والبخاري في الأدب المفرد (787)، وابن ماجة (ح2117)، وأبو نعيم في الحلية 4/99، والطبراني في الكبير (13005،16006) وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الشيخ الألباني: إسناده حسن (ر: سلسلة الصحيحة 1/216 ح139).
(6) سورة يوسف /106.(5/39)
(1) قال الشيخ الإمام أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني(2) رحمه الله(3): قد اختلف مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة وامتنع على ]109/ب[ أهل الحق اعتقاد فحواها وإجراؤها على موجب ما يبتدر أوهام أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها والتزم هذا النهج في آي الكتاب وما يصح في سنن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وذهب أئمة السلف إلى انكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها(4)
__________
(1) في ص زاد عبارة (الفصل الثاني) ولا معنى لها، ولعل الناسخ كتبها سهواً فآثرنا حذفها.
(2) إمام الحرمين، من أئمة الشافعية والأشعرية، له تصانيف كثيرة في تقرير مذهب الأشاعرة، قال عنه ابن تيمية: ولكن أبو المعالي وأتباعه ينفونها - أي نصوص الصفات- ثم لهم في التأويل والتفويض قولان، فأول قولي أبي المعالي التأويل كما ذكره في الإرشاد، وآخرهما التفويض كما ذكره في الرسالة النظامية.اهـ (ر: درء التعارض 3/381). ونقل عنه الرجوع عن مذهب الكلام في آخر عمره، توفي سنة 478هـ.
(ر: تبيين كذب المفتري ص 278 لابن عساكر، طبقات الشافعية 5/165 للسبكي، سير أعلام النبلاء 18/468، منهج إمام الحرمين في دراسة العقيدة- د. أحمد آل عبد اللطيف).
(3) ذكر الجويني نص كلامه - الذي نقله المؤلف - في كتابه (الرسالة النظامية) نسبة إلى الوزير (نظام الملك) الذي كان في عهد الجويني، وقد طبعت الرسالة باسم (العقيدة النظامية) بتحقيق محمد زاهد الكوثري، ثم طبعت بتحقيق د. أحمد السقا.
(ر: النص في العقيدة النظامية ص32-34).
(4) لقد سبق التعليق على ذلك وبيان أن التفويض ليس مذهب أئمة السلف، (ر: ص95) فالتفويض عند أهل الكلام: هو صرف اللفظ عن ظاهره مع عدم التعرض لبيان المعنى المراد منه، بل يترك ويفوض علمه إلى الله تعالى بأن يقول: الله أعلم بمراده.
وقد نسب بعض العلماء هذا المذهب - خطأً - إلى السلف، ومن هؤلاء العلماء: الإمام البيهقي، والغزالي، وابن الجوزي، والنووي، والرازي، وابن حجر، والسيوطي وغيرهم. ومن ذلك عرف واشتهر عند أهل الكلام ومقلديهم أن التفويض مذهب السلف وأن مذهب الخلف التأويل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد. (ر: درء التعارض 1/205، "موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة" 2/832-851 د.سليمان الغصن، "علاقة الإثبات والتفويض بصفات رب العالمين". د. رضا بن نعسان معطي، "مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات عرض ونقد" - لأحمد بن عبد الرحمن القاضي).(5/40)
إلى الرب تعالى.
والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك [أن](1) إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها(2)
__________
(1) ساقطة من (ص) وأضفناها من الرسالة النظامية.
(2) إن دعوى الجويني وما أسنده إلى الصحابة رضي الله عنهم من أنهم لا يدركون معاني الصفات ويفوضون معانيها إلى الله - دعوى باطلة وغير صحيحة، فقد كان الصحابة يدركون معانيها على ما يليق بذات الله وصفاته، ولم يكونوا يفوضون إلا في معرفة حقيقتها وكيفيتها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن: آيات الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالتها وبيانها، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلّم أحاديث كثيرة توافق القرآن، وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم. (ر: الإكليل في المتشابه والتأويل ضمن مجموع الفتاوى 13/307). وقال في موطن آخر: يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن كما بيَّن لهم ألفاظها فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} يتناول هذا وهذا....، وقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل} وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وكذلك قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} وعقل الكلام متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك.(ر: مقدمة التفسير ضمن مجموع الفتاوى 13/331) - باختصار-.
وقال في موضع آخر: "فمن قال عن جبريل ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، وعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين والجماعة: أنهم كانوا لا يعرفون شيئاً من معاني هذه الآيات - يعني آيات الصفات -، بل استأثر الله بعلم معناها، كما استأثر بعلم وقت الساعة، وإنما كانوا يقرؤون ألفاظا لا يفهمون لها معنى، كما يقرأ الإنسان كلاما لا يفهم منه شيئاً، فقد كذب على القوم، والنقول المتواترة عنهم تدل على نقيض هذا، وأنهم كانوا يفهمون هذا كما يفهمون غيره من القرآن، وإن كان كنه الرب عز وجل لا يحيط به العباد، ولا يحصون ثناءًا عليه، فذاك لا يمنع أن يعلموا من أسمائه وصفاته ما علمهم سبحانه وتعالى، كما أنهم إذا علموا أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، لم يلزم أن يعرفوا كيفية علمه وقدرته، وإذا عرفوا أنه حق موجود لم يلزم أن يعرفوا كيفية ذاته". (ر: مجموع الفتاوى 17،425، درء تعارض العقل والنقل 1/201-205 في الرد على دعوى الجويني).(5/41)
، وهم صفوة الإسلام والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه [منها]،(1). فلو كان تأويل هذه [الآي](2) الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها حقٌ كاهتمامهم بفروع الشريعة، وإذ تصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع(3)، وكانوا رضي الله عنهم ينهون عن التعرض للغوامض، والتعمق في المشكلات، والإمعان في ملابسة المعضلات، والاعتناء بجمع الشبهات، وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات،ويرون صرف العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى، وكف الأذى، والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة، وما كانوا ينكفون رضوان الله عليهم أجمعين عما تعرض له المتأخرون عن عيٍّ وحَصَر وتبلد في القرائح - هيهات - كانوا أذكى الناس قرائح وأذهانا وأرجحهم إيمانا، ولكنهم استيقنوا ]110/أ[ أن اقتحام الشبهات داعية الغوائل وسبل الضلالات، وكانوا يحاذرون في حق عامة المسلمين ما هم الآن به مبتلون وإليه مدفوعون.
ولما قال صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة، الناجية ما أنا عليه وأصحابي"(4)، ونحن على قطع نعلم أنهم ما كانوا يرون الخوض في الدقائق ومضايق الحقائق، ولا كانوا يدعون إلى التسبب إليها بل يشتدون على من يفتتح الخوض فيها، والذي يحقق ذلك أن أساليب العقول لا يستقل بها إلا الفرد الفذ الذي يثنى عليه بالخناصر ويشير إليه الأصاغر والأكابر، ثم هو على اغترار وأخطار إن لم يعصمه الله، فكيف يسلم من مهاوي الافتكار الغر الغبي؟!!
__________
(1) في ص "فيها"، والتصويب من الرسالة النظامية.
(2) ساقطة من (ص) وأضفناها من النظامية.
(3) زاد في الرسالة النظامية قوله: "فحق على ذي دين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب تبارك وتعالى".
(4) تقدم تخريجه (ر: ص 67).(5/42)
فإذا تصرم عصر الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان على الانكفاف عن التأويل كان قاطعا بأنه الوجه المتبع، إذ لو كان الخوض في ذلك واجبا أو سائغا مسوغا لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، إذ نقلوا إلينا آداب الاستنجاء وما في بابه، وإذ اتفقوا على ما ذكرنا تبين أن الحق الصريح ما كانوا عليه.
وعد سيد القراء وإمامهم أبي بن كعب رضي الله عنه الوقوف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } من العزائم، ثم ابتداء له بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}(1)
__________
(1) سورة آل عمران /7. وللرد على استدلال الجويني بهذه الآية على مذهب التفويض، قال الإمام ابن تيمية: "وإنما كان لفظ التأويل في عرف السلف يراد به ما أراده الله بلفظ التأويل في مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَق} [سورة الأعراف /53] فتأويل الكلام الطلبي - الأمر والنهي- هو نفس فعل المأمور به، وترك المنهي عنه….
وأما تأويل ما أخبر الله عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر عنها، وذلك في حق الله هو: كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره، ولهذا قال مالك وربيعة وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
وكذلك قال ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وغيرهما من السلف يقولون: إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وإن علمنا تفسيره ومعناه…
وأما من قال: إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد به لا يعلمه إلا الله، فهذا ينازعه فيه عامة الصحابة والتابعين والذين فسروا القرآن كله، وقالوا إنهم يعلمون معناه.
كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية وأساله عنها. وقال ابن مسعود: ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيم أنزلت. (ر: درء التعارض1/206-208 باختصار، و مجموع الفتاوى 17/400،419، 5/35،36).(5/43)
.
ومما نقل من كلام إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه حين سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة(1).
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/325،326، واللالكائي 3/398 رقم 664، والصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث 17،18، والدارمي في الرد على الجهمية ص104، وابن عبد البر في التمهيد7/151، والبيهقي في الأسماء والصفات ص408. قال الحافظ ابن حجر في الفتح 13/406: إسناده جيد، وصححه الذهبي في العلو ص103.
ولقد سبق بيان كلام الإمام ابن تيمية أن مقتضى كلام الإمام مالك - رحمه الله- لا ينصر دعوى من قال بالتفويض في إدراك معنى الآيات، فالاستواء معلوم المعنى، وإنما المجهول هو الحقيقة والكيفية، ولذلك فقد ورد عن السلف أربع عبارات في تفسير الاستواء: العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار (ر: صحيح البخاري مع الفتح 8/175،13/405، تفسير الطبري1/428-431، التمهيد 7/131 لابن عبد البر، مجموع الفتاوى 5/518-520). ولو كان معنى الاستواء مجهولاً عندهم كما يزعمه المفوضة لما فسروه بذلك، ولما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول. (ر: موقف المتكلمين 2/888-910 د. سليمان الغصن).(5/44)
وكذلك روي عن أم سلمة رضي الله عنها(1)، فليجر آيات القرآن والأخبار الصحيحة الواردة في الصفات ]110/ب[ على ما ذكرنا، ونقتصر منها على التصديق والتسليم مع التنزيه، فهو الطريق الأسلم والمنهج الأقوم(2).
وهو مذهب الفقهاء الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين(3)
__________
(1) أخرجه اللالكائي في شرح الأصول 3/397 رقم 663، قال الإمام ابن تيمية: وقد روي هذا الجواب - يعني جواب مالك السابق - عن أم سلمة رضي الله عنه موقوفا مرفوعا، لكن ليس إسناده مما يعتمد عليه، ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك. اهـ (ر: مجموع الفتاوى 5/365).
(2) ورد النص في الرسالة النظامية المطبوعة ص34 كالآتي: فلتجرى آية الاستواء والمجيء وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي}، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك} وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وما صح من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه، فهذا بيان ما يجب لله تبارك وتعالى. اهـ
(3) عفا الله عنا وعن المؤلف - رحمه الله تعالى-، فقد تبيَّن لنا مما سبق من الأدلة أن التفويض ليس مذهب السلف، وإنما مذهب السلف ومنهم الأئمة الأربعة رضي الله عنهم: إثبات ما دلت عليه النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة من صفات اللهعز وجل، وفهم ما دلت عليه تلك النصوص، إثباتاً يليق بذات الله عز وجل من غير تمثيل ولا تكييف، وتنزيها بلا تحريف ولا تعطيل، وأن السلف يفوضون كيفية تلك الصفات إلى الله عز وجل لأنها مجهولة لهم، ولا يحيط بها علمهم.
فإن معتقد أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته ترتكز على ثلاثة أسس رئيسة هي:
الإيمان بما وردت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة من أسماء الله وصفاته إثباتاً ونفياً.
تنزيه الله عز وجل عن أن يشبه شيء من صفاته شيئاً من صفات المخلوقين. قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
اليأس وقطع الطمع عن إدراك كيفية اتصاف الله عز وجل بتلك الصفات. قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}.
(ر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات - للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، الصفات الإلهية في الكتاب والسنة - د. محمد أمان الجامي).(5/45)
.
فصل:
على العبد أن يمتثل أوامر مولاه وإن لم يعلم كميتها، والثاني: أن يصدق أخبار مولاه وإن لم يعلم كيفيتها، والثالث: أن يعتقد الحكمة والصواب في جميع أفعاله وإن لم يعرف مائيتها، وهذه القاعدة توجب امتثال أوامر الله من غير سؤال عن عللها، ويوجب تصديق أخباره وإن لم يوقف على أصولها، وأن يعتقد الحكمة في جميع أفعاله وإن لم يوقف على أصولها.(5/46)
القسم الثاني: نص الكتاب المحقق "منازل الأئمة الأربعة"
بسم الله الرحمن الرحيم] 89/ب[
الحمد لله على نعمه الباطنة والظاهرة وأياديه المتواترة المتظاهرة، والصلاة على خاتم النبيين محمد ذي المفاخر الفاخرة والمناقب الشاهرة والفضائل الباهرة، وآله وعترته الطاهرة، وصحابته الأنجم الزاهرة، ما ضحكت أصداف الرياض من بكاء السحب الهامية(1) الهامرة.
يقول العبد المذنب الفقير إلى رحمة الله تعالى يحيى بن إبراهيم بن أحمد بن محمد السلماسي - ختم الله له بالحسنى عمله -: إني آنست من جماعة من أبناء العصر وانشاء هذا الزمان والدهر، تعاطي علم الوعظ والتذكير، والتصدي للإرشاد والتبصير، قد اقتصروا من العلم على مجرد الرواية، وعدول عن منهج الديانة والدراية، حفظوا كلمات ملفقة مزخرفة، وحكايات مخترعة مؤلفة، من تأليف من لَمْ يقتبس من مشكاة الكتاب والسنة، ولم يرد على مشارع الشرع والملة، أكثرها منكر من القول وزور، وصاحبها بروايتها مطالبٌ مأزور، من غير اقتداء بإمام ناصح، ولا اهتداء بشيخ صالح، ولا استناد إلى أصل من الأصول، ولا مناسبة للشرع المنقول، ولا استبصار بمسالك المعقول، ولا تمسك بقضيات العقول، قد لهجوا بإنشاد الأبيات، واعتكفوا على إنشاء الإشارات المؤذنة بفساد النيات، تركوا ما أمر الله تعالى به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واشتغلوا بإيراد الرمز ]90/أ[ والمضمر دون الواضح المظهر، وأضربوا صفحاً عن ذكر الوعد والوعيد، وشرح ما بينه الله تعالى في القرآن المجيد، من ذكر الموت والمعاد وما أعدَّ الله في الدار الآخرة للعباد من النعيم المقيم والعذاب الأليم، فبهذا بعث رُسُلَه وأنزل كتبه أفلا يعقلون ؟! ألا يسمعون قوله ؟! ألا يتلون ؟!: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ
__________
(1) سحابة هموم: صبوب للمطر (ر: القاموس المحيط ص1512).(6/1)
الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}(1).
قد نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فهم عنه معرضون، وللفتنة والبلاء متعرضون، عن الهوى ينطقون، وما يضرهم ولا ينفعهم يتعلمون، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون، يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون، يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق فسوف يعلمون، بالجبت والطاغوت يؤمنون، وبالحق والصدق يكفرون، ويدّعون الإيمان والتوحيد وغير الله يعبدون، وإذا قيل: السُّنة كذا ينكرون، وإذا ذُكِّرُوا لا يذكرون. وإذا يتلى عليهم القرآن والحديث يستكبرون، وما لا يرضى من القول يُبيِّتون، ومع الله إلهاً آخر يَدْعون، والوصول إلى الدرجات العالية والمقامات السامية يَدَّعون، تالله فهم إلى نار جهنّم يُدَعُّون، وهم عن صلاتهم ساهون، ويشهدون الجماعة والجمعة كسالى، يعملون ]90/ب[ ما يشتهون، يُنفقون ولا يُنفقون إلا وهم كارهون، ويحكمون ولكن حكم الجاهلية يَبْغُون، ويَعِدُون ويخلفون ولا يَفُون، رضوا من دينهم بتحسين الملابس وتزيين المراكب، وتكثير المجالس وتعظيم المواكب، يتأنقون في لبس العمائم ويترفعون على الناس ترفع النعائم، يتملقون بين يدي كل غاشم وظالم، ولا يتحاشون من ارتكاب الفواحش والمظالم، كما قال بعضهم:
زمانك ذا زمانُ بَني الغَرَامَة
وما هذا زمان الاستقامة
رضوا بالطيلسان(2) إذا اكتسوه
وتفخيم البرانس والعمامة
كذا دَجَجُ البيوت لهن ريش
ولكن لا يطرن مع الحمامة(3)
__________
(1) سورة يس /1-6.
(2) الطيلسان: جمعه طَيَالس وطَيَالسة، وهو كساء أخضر يلبسه الخواص من المشايخ والعلماء، وهو من لباس العجم. (ر: المصباح المنير ص375، المنجد ص469).
(3) لم أقف على قائل هذه الأبيات.(6/2)
خالطوا الطغاة المرقَة وحَالَفُوا العُتَاة الفسقة، ينادمونهم ليلاً ونهاراً، ويسامرونهم سراً وجهاراً لا يرجون لله وقاراً، دأبهم الاستخفاف واللمز، ودينهم الاستهزاء والهَمْز، الغيبة والوقيعة في أهل الدين مذهبهم وشعارهم، والاستهانة بأحكام الله ملبسهم ودثارهم، قصارى هممهم جمع الحطام والاختطاف من السحت الحرام، فإذا ذُكِّروا بالكتاب والسنة وما فيها من بيان طريق النار والجنة، وما أمر الناس به من اتخاذ العدة والجُنَّة(1)، من الخطاب الشامل لجميع الناس قالوا: هذا من علم العوام والصبيان أين أنتم عن حقائق العرفان ؟!، يتكلمون في الله تعالى وفي صفاته وأسمائه بما لم يأذن به الله في أرضه وسمائه ]91/أ[ ولا فيما أنزل الله على أنبيائه، ونسوا قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِِِ}(2)، لَوْ رُوجع أحدهم في فرض من فرائض الأعيان لعجز عن الجواب فيه والبيان، ولَوْ سُئِل عن خبر من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لأنكره ورمى بالبهتان، يفتخرون بمخالطة الظلمة وينتصرون بالعَميدِ(3) والشِّحْنَة(4)، ويقطعون مجلس وعظهم بمدحهم والثناء عليهم رغبةً فيما يرون من الحطام لديهم، يزعمون أنهم أعلم الناس وأفقه الأنام، ويرتكبون فواحش الآثام، يستنكفون من التوقف عن الجواب فيما لا يعلمون فيجيبون بما يجهلون، يَضِلون ويُضِلُّون، كأنهم في عداد ما ذكرهم الله تعالى داخلون: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}(5) {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا
__________
(1) الجُنَّة، بضم الجيم: كل ما وقى، وما استتر به من السلاح، وجمعه الجُنن. (ر: القاموس المحيط ص1532).
(2) سورة الأعراف /180.
(3) العميد: رئيس العسكر (ر: القاموس ص385).
(4) الشِّحنة: العداوة، وشِحْنَةُ البلدِ: من أقامهم السلطان لضبط البلد كالشرطة. (ر: القاموس ص1560).
(5) سورة الفرقان /44.(6/3)
وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}(1)، يحسبون أن الحكمة في جمع القراطيس أم كثرة الترحل إلى أصحاب الكراريس، أم الترأس على التمويه والتلبيس، ألا إنها هي لسان الوراثة إذا جاشت عن جوارحها بيعت فأمرعت، وبنفعها أينعت، ولمعين عين المعاني أوضحت فأشبعت، ولقد أخبرني أبي قال: أنبا القاضي أبو الحسن بُندار بن علي بن أحمد قرأه عليه بتبريز في داره قال: ثنا علي بن الحسن بن خارجة بن أحمد قال: ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الأزهر قال: ثنا إبراهيم بن محمد بن الهيثم قال: ثنا محمد بن صباح قال: ثنا الحسن بن عَرْفه قال: ثنا بشر بن مروان الفلسطيني قال: ثنا عبد الله بن يزيد الدمشقي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى ]91/ب[: أيها الزهاد المراءون، وأيها العُبَّاد المنافقون، كم تخادعون الله ورسوله، وكم تبهرجون الناس بما تقولون دون ما تفعلون، لا تبيعوا دينكم بدنياكم فتنقلبوا خاسرين، من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني، وهو غداً يوم القيامة في زمرة النادمين"(2).
__________
(1) سورة الحجر /3.
(2) حديث موضوع، في إسناده متّهم بالوضع، وهو عبد الله بن يزيد بن آدم الدمشقي، تابعي. قال الإمام أحمد: أحاديثه موضوعة، وقال الجوزجاني: أحاديثه منكرة.
(ر: الجرح والتعديل 5/933 لابن أبي حاتم، وأحوال الرجال ص163 للجوزجاني، والمغني في الضعفاء 1/363، وفي اللسان 3/378 للذهبي) وفي الإسناد من لم أقف على ترجمته في كتب الرجال، كما لم أقف على من أخرج الحديث سوى المؤلف فيما بحثت في كتب الحديث، والله أعلم.(6/4)
ثم يثيرون الفتن بين العوام ويوقعون الخلاف بين الأنام، بتحريف مقالات أرباب المذاهب وأصحاب المناصب، ويُخيِّلون إليهم أن بين الأئمة وفقهاء الأمة خلافاً في المعتقد والأصول، يطلبون بذلك إثارة الفضول، طلباً للتقدم والرئاسة، وادِّعاءً للفهم والكياسة، وتنافساً على ازدحام الجهال عليهم، وتسوقاً عندهم لاجتذاب ما لديهم، حتى تشوَّشت قلوب العوّام، ووقع بينهم الخلاف بل القتال بما يوردونه من زخرف الكلام، وصارت طوائف الأنام من المتبعين في الفروع مذاهب الأئمة الأعلام الفقهاء السادة الكرام، يلعن في الاعتقاد بعضهم بعضاً ويبدي كل واحد لصاحبه عداوة وبغضاً، ظناً منهم أنهم اختلفوا في الأصول حسب اختلافهم في الفروع، لقلة معرفتهم بأحوالهم، وعدم الوقوف على أقوالهم، لم يقرؤا العلم على انتقاد، ولم يطالعوا تصانيف الجهابذة العارفين بالانتقاد، بل تلقفوا من أفواه بعض المبتدعة كذباً وباطلاً، وطالعوا من تصانيفهم ما يصير الإنسان به عن الصراط السوي عادلاً(1)، ولم يعلموا أن الخلاف في التوحيد يؤدي إلى الكفر والتلحيد، إنما الخلاف [المحمود](2) في فروع الشرع وفصوله، لا في قواعد أحكامه وأصوله، والفقهاء الأئمة الذين ]92/أ[ اشتهر عنهم في الفروع الاختيار، وظهر لهم الاجتهاد والاختبار، وكثر لهم الأَتْبَاع والأَشْيَاعُ، وحُقَّ على العوام لهم الاتّباع، وتعطَّر بذكرهم الأقطار والأصقاع، وبرَّز في تمهيد أقوالهم الأصحاب من الحواضر والبوادي، وانعمرت بمناظرتهم المجالس والنوادي، أربعة أبوحنيفة بالكوفة، ومالك بدار الهجرة، والشافعي بمكة حرم الله، وأحمد بمدينة السلام، رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل الجنة منقلبهم ومقتضاهم.
__________
(1) عدل عَنْه يَعْدِل عَدْلاً وعدولاً: حاد ومال. (ر: القاموس المحيط ص1332).
(2) في (ص): المحمودة، والصواب ما أثبته.(6/5)
فهم وإن اختلفت عنهم العبارات فقد اتفقت منهم الاعتقادات، كل واحد منهم مزكي الأمة وإمام الأئمة، محكم تعديله وجرحه، مسلَّم قبوله وطرحه، لا يخالف أحدهم صاحبه إلا في فرع مختلف فيه، لا يفسقه ولا يغويه، مثل لقطة الحرام وتوريث ذوي الأرحام.
فأما الكلام في صفات ذي الجلال والإكرام، وما يتعلق بأسمائه الحسنى وصفاته المباينة لصفات الأنام، فلا خلاف في ذلك بينهم، ولا يؤثر تفرق عنهم، يوجب كذبهم ومَيْنَهم(1)، بل كلمتهم فيها متفقة وأقوالهم متسقة، سلكوا سبيل الاتباع دون الابتداع، فيما نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم - وَرَوَوْا، وتمسكوا بقوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا…}(2).
__________
(1) المَيْن: الكذب (ر: القاموس المحيط ص1595).
(2) سورة البقرة /137.(6/6)
فرأيت من الواجب أن أذكر من اتفاقهم في المعتقد فصولاً، وأورد من ذلك فصوصاً ونصوصاً، وأبيّن عموماً وخصوصاً، وأنثر طرفاً من طرف مطارفهم، وأذكر نتفاً من تحف مآثرهم ومعارفهم، لينتهي الناس عن ذكرهم بما ليس فيهم، ويتيقنون ]92/ب[ أن الدين عند الله الإسلام، وهو دين واحد أصله من عهد أبينا آدم عليه السلام إلى أيام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت راسخ، لم يتعقب مبانيه ناسخ، إنما وقع النسخ في شرائع الأنبياء - عليهم السلام - في الكيفيات والكميات من العبادات، لا في أمهات الأحكام من الصلاة والزكاة والحج والصيام، رحمةً من الله تعالى بعباده ولطفاً ومنًّا منه وعطفاً، وتخفيفاً عنهم لاختلاف الأزمنة والقوى، وتحقيقاً للامتحان والبلوى، إذ الدنيا مثل دار المرض، والناس فيها كأصحاب الأمراض، والرسل هم الأطباء، والشرائع هي الأدوية التي يزول بها الداء، ثم الأدوية تختلف باختلاف العلل والأسقام، فلهذا اختلفت الأحكام لاختلاف الأزمنة والأيام، وقد أنبأ الله تعالى في محكم التنزيل ومبرم معانيه فقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}(1) والله تعالى الموفق لسلوك سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقد قسّمت هذا المختصر أربعة أقسام وفصَّلتها فصولاً:
الفصل الأول: في بيان الحجج، وهي أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
الفصل الثاني: في ذكر مقدّمات يحتاج الناظر في هذا المختصر إليها، وهي أربعة فصول:
الأول: في بيان الأمة.
الثاني: في ذكر الأئمة. الثالث:
في بيان الاتباع وترك الابتداع.
الرابع: في ذكر كمال الدين وحقائق اليقين ]93/أ[.
الفصل الثالث: في جمل الاعتقاد، وهي أربعة فصول:
الأول: في إثبات العلم بالذات والأسماء والصفات.
__________
(1) سورة الشورى /13.(6/7)
الثاني: في ذكر الأفعال، وما جاء الوعد والوعيد به في المآل.
الثالث: في الرسالة والنبوة، وبيان ما أوتي الرسل من المعجزات والقوة.
الرابع: في ذكر الإمامة والخلافة.
الفصل الرابع: في ذكر الأئمة الأربعة، وقد أوردت لكل واحد منهم أربعة فصول: الأول: في ذكر مولده ونسبه وحليته ووفاته.
الثاني: في ذكر علمه وورعه وزهده.
الثالث: في ذكر ما جاء من مدح الأئمة له والثناء عليه.
الرابع: في ذكر أصحابه، وذكرت لكل واحدٍ أربعةً من الأصحاب، ثم عقبت ذكر كل إمامٍ بذكر طرفٍ من محنته على سبيل الاختصار دون الإكثار.
والله أسأل التوفيق لما يقرب إليه ويزلف لديه إنه القادر عليه.
القسم(1) الأول: في بيان حجج الشريعة
]الفصل الأول: في الركن الأول[(2)
أركان علم الشريعة أربعة:
الأول: نَصُّ الكتاب المنزل على النبي المرسل صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقّ}(3)، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}(4).
__________
(1) في (ص): الفصل، والمثبت من المحقق بدلالة تقسيم المؤلف في المقدمة ودفعاً للتكرار والاشتباه.
(2) إضافة من المحقق، ولعلها سقطت من الناسخ بدلالة ما سيأتي.
(3) سورة الجاثية /29.
(4) سورة الأعراف /3.(6/8)
والكتاب قد جمع علم الأولين والآخرين، وتضمّن ثمرة كتبه التي أولاها أوائل الأمم، وصار خزانة لأنواع الحكم، قال الله تعالى: {يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}(1). وضمّنه تعالى الحجج الواضحة والبراهين اللائحة ]92/ب[ والدلائل الساطعة على ما خص به من الإيجاز والإعجاز، بحيث عجز عنه الفصحاء، وأذعن له البلغاء وتبلد منه الشعراء، وتحيَّر فيه الحكماء، فهو عذب المسموع، سهل الموضوع، باللفظ الجزل ومتشابه الرصف، وتلاحم أجزاء الأول بالآخر، واتفاق قرائن الأوسط بالطرفين، ينظم أبهة الفخامة إلى رقة الحلاوة، ويجمع رصانة الجزالة ومهابة الجلالة إلى بهجة الرشاقة ومحبة القبول، له مبادئ بديعة ومخالص مجيبة ومقاطع غريبة، يزيده مرور الليالي والأيام جِدَّة وطراوة، وتكسبه كرور الشهور والأعوام رونقاً وطلاوةً، ولا يمجه السمع [ولا ينبو](2) عنه القلب والطبع، لا يبليه كثرة الدرس والقراءة، ولا تخلقه شدة التلاوة والإعادة، يقص أخبار الأمم السالفة ويعبّر عن أنباء الملل وعقائد النحل، ويترجم عن الجلود المتمزقة والرمم البالية والأيام الخالية، جمع خير الدنيا والآخرة بما انتظم من الجواهر الفاخرة، قال الله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(3)، وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}(4)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(5)، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}(6)، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(7)، وهو وإن كان كما قال
__________
(1) سورة البينة /2،3.
(2) في (ص) (ينبوا) والصواب ما أثبته.
(3) سورة يس /12.
(4) سورة الأنعام /38.
(5) سورة القصص /51.
(6) سورة العنكبوت /51.
(7) سورة فصلت /42.(6/9)
تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(1). لا يُخلي الناظر فيه من نورِ ما ]94/أ[ يريده ونفع يوليه.
كالبدر من حيث التفت رأيته
يهدي إلى عينيك نوراً ثاقباً
كالبحر يقذف للقريب جواهراً
جوداً، ويبعث للبعيد سحائباً
كالشمس في كبد السماء وضوئها
يغشي البلاد مشارقاً ومغارباً(2)
__________
(1) سورة لقمان /27.
(2) هذه الأبيات من الكامل للشاعر أبي الطيب المتنبي المتوفى سنة 354هـ: ديوانه بشرح أبي البقاء العكبري 1/130 ضبط وتصحيح مصطفى السقا وزميلاه، درا المعرفة، بيروت.(6/10)
لكن محاسن أنواره لا تثقبها إلا البصائر الجلية، وأطناب ثماره لا يقطفها إلا الأيدي الزكية، ومنافع شفائه لا تنالها إلا النفوس النقية والقلوب التقية، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}(1). ثم إنه تعالى إنما جعل حجج الكتاب الأوضح دون الأدق الأغمض، لما أراد من تفهيم كافة البشر فإنهم مخاطبون به إلى يوم القيامة، فهو القول الفصل والميزان العدل، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}(2). {مُتَشَابِهاً}: يعني يشبه بعضه بعضاً في الجزالة والفصاحة، {مَثَانِيَ}: ثنَّى فيه القصص، فتضمنت القصة في الإعادة زيادة فائدة(3)، ولا غرو ان تكرر ذلك كذلك وقد قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}(4). والقرآن مجمل ومفصل ومحكم ومتشابه، وقد كثرت أقاويل المفسرين(5)
__________
(1) سورة الواقعة /79.
(2) سورة الزمر /23.
(3) قال الإمام سعيد بن جبير في قوله تعالى: "كتاباً متشابهاً": يشبه بعضه بعضاً، ويصدّق بعضه بعضاً، ويدل بعضه على بعض. وقال في قوله تعالى: "مثاني":تثنى فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج. (ر: تفسير ابن جرير الطبري 23/210، وتفسير ابن كثير4/55).
(4) سورة الإسراء /88.
(5) إن الله تعالى وصف القرآن بأنه محكم، وبأنه متشابه، وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه، فالإحكام الذي وصف به جميع القرآن هو: الإتقان والجودة في اللفظ والمعنى، وكمال الصدق والعدل.
والتشابه الذي وصف به جميع القرآن هو: تشابه القرآن في الكمال والإتقان والإئتلاف، فلا يناقض بعضه بعضاً في الأحكام، ولا يكذب بعضه بعضاً في الأخبار.
أما الإحكام الذي وصف به بعض القرآن فهو: الوضوح والظهور، بحيث يكون معناه واضحاً بيناً لا يشتبه على أحد، وهذا كثير في الأحكام والأخبار.
وأما التشابه الذي وصف به بعض القرآن فهو: الاشتباه، أي خفاء المعنى بحيث يشتبه على بعض الناس دون غيرهم، فيعلمه الراسخون في العلم دون غيرهم.
وبهذا يعلم أن وصف القرآن جميعه بالإحكام، ووصفه جميعه بالتشابه لا يتعارضان، والجمع بينهما أن الكلام المحكم المتقن يشبه بعضه بعضاً في الكمال والصدق.
وأما وصف القرآن بأن بعضه محكم وبعضه متشابه فلا تعارض بينهما أصلاً، لأن كل وصف وارد على محل لم يرد عليه الآخر، فبعض القرآن محكم ظاهر المعنى، وبعضه متشابه خفي المعنى.
فالراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، وإذا كان من عنده فلن يكون فيه اشتباه يستلزم ضلالاً أو تناقضاً، ويردون المتشابه إلى المحكم فصار مآل المتشابه إلى الإحكام.
والتشابه الواقع في القرآن الكريم نوعان: حقيقي ونسبي:
فالتشابه الحقيقي: ما لا يعلمه إلا الله - عز وجلّ - مثل حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، فإنا - وإن كنا نعلم معاني تلك الأخبار- لا نعلم حقائقها وكنهها.
وأما النسبي: فهو ما يكون مشتبهاً على بعض الناس دون بعض، فيعلم منه الراسخون في العلم والإيمان ما يخفى على غيرهم، فهذا النوع يسأل عن بيانه لأنه يمكن الوصول إليه، فقد قال عزّ وجلّ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}. (ر: الرسالة التدمرية ص31-36 للإمام ابن تيمية، تقريب التدمرية ص88-95 للشيخ محمد العثيمين، ويراجع أقوال العلماء في المحكم والمتشابه: تفسير الطبري 3/130-134، وتفسير ابن كثير 1/344-347، والبرهان في علوم القرآن 2/68 للزركشي، والإتقان 3/3 للسيوطي).(6/11)
في تعبير المحكم والمتشابه، فنحن نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه، ونقول كما قال الله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا ]94/ب[ يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ}(1).
الفصل الثاني: في الركن الثاني
والركن الثاني للإسلام نص السنة الصحيحة(2)
__________
(1) سورة آل عمران /7.
(2) السنة في اللغة: الطريقة والسيرة حسنة كانت أو سيئة. وفي الاصطلاح يختلف معناها عند كل من المحدثين والأصوليين والفقهاء، وإن كانوا يتفقون على أنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فالسنة عند المحدّثين هي: "ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أوصفة خُلُقية أو خَلْقية، سواء كان قبل البعثة أو بعدها"، إذ غرضهم معرفة ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم في أحواله كلها سواء أفاد حكماً شرعياً أم لم يفد.
والسنة عند الفقهاء: "هي ما ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم من حكم هو دون الفرض والواجب"، لأن الفقهاء عنوا بالبحث عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوباً أو حرمة أو إباحة. وأما عند الأصوليين فهي: "ما نقل عنه صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل أو تقرير"، لأنهم عنوا بمصادر الشريعة والأدلة الشرعية، فنظروا إلى السنة من جهة كونها مصدراً أو دليلاً تثبت الأحكام وتقررها. (ر: منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد 1/82،83 عثمان بن علي حسن).
وهذا التعريف هو المراد في قول المؤلف - رحمه الله- في بيانه لأركان مصادر علم الشريعة، وإن كانت الأدلة والآثار التي أوردها المؤلف تدل على معنى أوسع وأشمل للسنة - التي تقابلها البدعة - فالسنة في تعريف السلف - رحمهم الله- هي كما يقول الحافظ ابن رجب: والسنة هي الطريق المسلوك، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو صلّى الله عليه وسلّم وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة، ولهذا كان السلف قديماً لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك .اهـ (ر: جامع العلوم والحكم ص249).
ويقول الإمام ابن تيمية: ولفظ السنة في كلام السلف يتناول السنة في العبادات وفي الاعتقادات، وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات، وهذا كقول ابن مسعود وأُبيُ بن كعب وأبي الدرداء - رضي الله عنهم-: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة. اهـ (ر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص77).(6/12)
بنقل العدول الثقات، قال الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(1). جاء في التفسير أن الحكمة السنةُ(2). وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(3)، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(4). وجاء في معنى قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}(5)، قيل: لَزِمَ السنة والجماعة(6)، عن سعيد بن جبير(7). وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}(8)، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(9).
__________
(1) هذه الآية جزء من ثلاث آيات وردت في القرآن الكريم: أ- سورة البقرة/129 ب- سورة آل عمران/164، ج- سورة الجمعة /2.
(2) قاله الحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وأبو مالك وغيرهم. (ر: تفسير الطبري 1/557، والإبانة 1/345 لابن بطة، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة1/71 لللالكائي، وتفسير ابن كثير1/190).
(3) سورة الحشر /7.
(4) سورة النساء /80.
(5) سورة طه /82.
(6) أخرجه الإمام ابن بطة في الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (رقم 78،87)، والإمام اللالكائي في شرح الأصول (رقم 72) وفي إسناده عبد الله بن خراش الشيباني. ذكره الذهبي في ترجمة عبد الله بن خراش، وذكر عن البخاري أنه منكر الحديث (ر: الميزان 2/413).
(7) هو الإمام الحافظ المقرئ المفسر أبو محمد سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الكوفي، من خيار التابعين وأئمتهم، ثقة ثبت، قتله الحجاج سنة 94هـ بسبب خروجه مع ابن الأشعث (ر: الحلية: 4/272، الطبقات 6/256، سير أعلام النبلاء4/321).
(8) سورة النساء /65.
(9) سورة النور /63.(6/13)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (1). وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحيا سنتي فقد أحياني، ومن أحياني كان معي في الجنة" (2). وفي رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل طيباً، وعمل في سُنَّةٍ، وأَمِنَ الناس بَوَائِقَهُ دخل الجنة". فقال رجل: يا رسول الله إن هذا اليومَ في الناس لكثير. قال: "وسيكون في قرون بعدي"(3).
وغير ذلك في الآثار والأخبار الواردة فيها، فإن الكتب مشحونة بها فاقتصرت على هذه الإشارة، ولم أذكر الإسناد لئلا يطول بذكره الكتاب.
__________
(1) أخرجه أبو داود ح4607، والترمذي ح2676، وابن ماجه ح42،43 عن العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعاً. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الشيخ الألباني (ر: صحيح سنن ابن ماجه1/13 ح40،41).
(2) عزاه صاحب كنز العمال (ح19981) إلى الترمذي، وقد أخرجه الترمذي (ح2678) عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: "… ومن أحيا سنتي فقد أحَبَّني، ومن أحبني كان معي في الجنة".
قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، وتعقبه الألباني بأن في إسناده: علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. (ر: حاشية مشكاة المصابيح 1/62).
وأخرجه اللالكائي في شرح الأصول (ح8) وابن بطة في الإبانة (ح51) من طريق أخرى فيه راويان مجهولان، فسنده ضعيف.
(3) أخرجه الترمذي ح2520، والحاكم 4/104 وصححه ووافقه الذهبي، قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث إسرائيل. اهـ
وقال الألباني - بعد ذكر استغراب الترمذي -: "وعلته أبو بشر راويه عن أبي وائل وهو مجهول، وصححه الحاكم من هذا الوجه ووافقه الذهبي فوهما" (ر: حاشية مشكاة المصابيح 1/64، ضعيف الجامع ح5476).(6/14)
وعن الأوزاعي(1) قال: كان يقال خمس كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في ]95/أ[ سبيل الله(2).
وقال سفيان الثوري(3): إذا بلغك عن رجل بالمشرق صاحب سنة وآخر بالمغرب فابعث إليهما بالسلام وادع لهما، ما أَقَلَّ أهل السنة والجماعة(4). قال أبوبكر بن عَيَّاش(5): السنة في الإسلام، أعز من الإسلام في سائر الأديان(6).
__________
(1) هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، شيخ الإسلام، وعالم أهل الشام، ثقة فقيه جليل، توفي ببيروت سنة 157هـ. (ر: طبقات ابن سعد 7/488، الحلية6/135، سير أعلام 7/107، تهذيب التهذيب 6/238).
(2) أبو نعيم في الحلية 6/142، واللالكائي في شرح الأصول (رقم 48)، والبغوي في شرح السنة 1/209.
(3) هو الإمام المعروف: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، العالم الزاهد والفقيه العابد، ت 177هـ. (ر: طبقات ابن سعد 6/371، الحلية 6/356، سير أعلام 7/229).
(4) اللالكائي في شرح الأصول (رقم 50).
(5) هو أبوبكر بن عيَّاش بن سالم الأسدي الكوفي، المقرئ الفقيه المحدث، وفي اسمه أقوال أشهرها شعبة: ثقة عابد، ساء حفظه بعد كبره، وكتابه صحيح، ت 193هـ. (ر: الحلية 7/303، سير أعلام 8/495، تهذيب التهذيب 12/34، والتقريب 2/399).
(6) أبو نعيم في الحلية 7/303، و اللالكائي في شرح الأصول (رقم 54).(6/15)
وقال قتيبة(1): إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث مثل يحيى بن سعيد(2)، وعبد الرحمن بن مهدي(3)، وأحمد بن محمد بن حنبل(4)، وإسحاق بن راهَويه(5) - وذكر قوماً آخرين- فإنه على السنة، ومن خالف هؤلاء فاعلم أنه مبتدع(6).
وقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه}(7)، فكأن(8) علامة حبه إياهم اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم(9).
__________
(1) هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف الثقفي، مولاهم البَلْخي البَغلاني، شيخ الإسلام، المحدث الإمام الثقة، راوية الإسلام. ت 240هـ (ر: طبقات ابن سعد 7/379، تاريخ بغداد 12/464، 470، سير أعلام 11/13، تهذيب التهذيب8/321).
(2) هو أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان التميمي البصري الأحول الحافظ، أحد الأئمة الثقات، قال عنه الإمام أحمد: "لم يكن في زمانه مثله" ت 198هـ (ر: طبقات ابن سعد 7/293، تهذيب التهذيب 11/216).
(3) عبد الرحمن بن مَهْدِي بن حسان، الإمام الناقد المجود، سيد الحفاظ، أبو سعيد العنبري، مولاهم البصري اللؤلؤي، قال ابن المديني: "لو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني لم أر مثل عبد الرحمن" ت 198هـ (ر: طبقات ابن سعد 7/297، الحلية 9/63، سير أعلام 9/192، تهذيب 6/279).
(4) ستأتي ترجمته مفصلة إن شاء الله تعالى.
(5) إسحاق بن رَاهَوَيْه، أحد الأعلام، كان إماماً في الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد، ت 238هـ. (ر: الحلية 9/234، سير أعلام 11/358، تهذيب 1/216).
(6) أخرجه اللالكائي في شرح الأصول (رقم 59).
(7) سورة آل عمران /31.
(8) في رواية اللالكائي (وكان).
(9) أخرجه اللالكائي في شرح الأصول (رقم 68) عن الحسن رحمه الله تعالى.(6/16)
وعن عطاء(1) في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}(2)، قال: "أولي الفقه وأولي العلم، وطاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة"(3).
وعن ميمون بن مهران(4) في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(5): "ما دام حيًّا فإذا قبض فإلى سنته"(6).
قال الشافعي: الكتاب والسنة أو العَسْلى(7) والزنار(8)
__________
(1) هو عطاء بن أبي رباح، أبو محمد القرشي، مولاهم المكي، الإمام مفتي الحرم، من ثقات التابعين، ت 110هـ (ر: طبقات ابن سعد 5/467، سير أعلام 5/87، التهذيب7/199).
(2) سورة النساء /59.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره (5/147-149)، والدارمي (رقم225)، واللالكائي في شرح الأصول (رقم 71،75)، والبيهقي في المدخل ص214 مختصراً.
(4) هو أبو أيوب ميمون بن مهران الجزري الرَّقي، الإمام الحجة، عالم الجزيرة وفقيهها، ثقة فقيه، ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، ت 117هـ (ر: طبقات ابن سعد 6/288، الحلية 4/82، سير أعلام 5/71، تهذيب التهذيب 10/390).
(5) سورة النساء /59.
(6) أخرجه الطبري في تفسيره (5/151)، وابن بطة في الإبانة (رقم 58،59،85،86)، واللالكائي في شرح الأصول رقم: (76)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم 2/187.
(7) العَسْل: يقال: عَسْلاً له، أي تعساً له (ر: القاموس المحيط ص506).
(8) الزُنَّار: على وزن تفاح، حبل يشده النصارى على وسطهم، يقال: تزنر النصراني، أي شدّ الزنار على وسطه. (ر: القاموس ص308، المصباح المنير ص256).
ومعنى كلام الإمام الشافعي -والله أعلم- أن المسلم عليه أن يتمسَّك ويعمل بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يفعل ذلك فالتعاسة والخيبة له، ولبس الزنار أي الخروج من الإسلام والدخول في النصرانية، ويدَّل على صحة هذا المعنى ما رواه الحميدي قال: سأل رجل الشافعي بمصر عن مسألة فأفتاه وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ قال: أرأيت في وسطي زناراً ؟! أتراني خرجت من الكنيسة؟! أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم وتقول لي: أتقول بهذا ! أروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول به !!. اهـ (ر: المناقب 1/474 للبيهقي، الحلية 9/106 لأبي نعيم، وبنحوه في طبقات السبكي 2/138).(6/17)
.
وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة فقبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير(1)، وكانت طائفة منها أجادب(2) أمسكت الماء، فنفع الله [بها](3) الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها إنما هي قيعان(4) لا تُمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فَقُهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"(5)
__________
(1) الكلأ والعشب والحشيش كلها أسماء للنبات، لكن الكلأ يطلق على النبت الرطب واليابس معاً، والعشب للرطب فقط، والحشيش مختص باليابس، وفي الحديث ذكر العشب بعد الكلأ من باب ذكر الخاص بعد العام. (ر: صحيح مسلم بشرح النووي 15/46، فتح الباري1/176).
(2) أجادب: جمع جَدَب وهي الأرض الصلبة التي تمسك الماء فلا ينضب منها، وقيل: هي الأرض التي لا نبات فيها، مأخوذ من الجَدْب وهو القحط. (ر: صحيح مسلم بشرح النووي 15/46، فتح الباري 1/176، والنهاية في غريب الحديث 1/242 لابن الأثير).
(3) في "ص" (به)، والتصويب من رواية الصحيحين.
(4) قيعان: جمع قاع وهو الأرض المستوعبة الماء التي لا تنبت، ويجمع أيضاً على أقوع وأقواع. (ر: صحيح مسلم بشرح النووي 15/46، فتح الباري 1/177).
(5) أخرجه البخاري (ر: فتح الباري 1/175) ومسلم 4/1787 في كتاب الفضائل. والحديث يبين لنا أقسام الناس تجاه نصوص الوحي، حيث شبه النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين بالغيث العام، وشبَّه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث:
فالمثل الأول تندرج تحته طائفتان هما:
الأولى: العالم العَامِل المُعَلِّم، فهو بمنزلة الأرض الطيبة، شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها.
الثانية: الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله، أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أدَّاه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به.
والمثل الثاني يندرج تحته أيضا طائفتان هما:
الأولى: من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلّمه، ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم "من لم يرفع بذلك رأساً" أعرض عنه فلم ينتفع به ولا نفع.
والثانية: من لم يدخل في الدين أصلاً، بل بلغه فكفر به، ومثالها من الأرض الصَّماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به، وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم "ولم يقبل هدى الله الذي جئت به". (ر: فتح الباري: 1/177 بتصرف يسير، وقارن ما ذكره ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية في اجتماع الجيوش الإسلامية ص16 وما بعدها).(6/18)
.
الفصل الثالث: في الركن الثالث
الركن الثالث ]95/ب[ من أركان الشريعة الإجماع(1) المقطوع به، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}(2). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"(3).
__________
(1) الإجماع في اللغة: العزم المؤكد والاتفاق
وفي الاصطلاح: اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر من العصور على أمر من الأمور. (ر: الإحكام لابن حزم 4/659، والإحكام للآمدي1/195).
(2) سورة النساء /115، وأول من استدل بهذه الآية على حجية الإجماع هو الإمام الشافعي - رحمه الله -، فإن الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة من جهة أن مخالفتهم مستلزمة لمخالفة الرسول، وأن كل ما أجمعوا عليه فلا بد أن يكون فيه نص عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم. (ر: أحكام القرآن 1/39 للبيهقي، والمستصفى 2/299 لأبي حامد الغزالي، ومجموع الفتاوى 7/38، 19/178 لابن تيمية).
(3) أخرجه ابن ماجه (ح3950) وابن أبي عاصم في السنة (ح84) عن أنس مرفوعاً بلفظ: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة" قال الألباني: صحيح له شواهد. (ر: تخريج كتاب السنة1/41، صحيح الجامع ح1848، حاشية مشكاة المصابيح ح173).
ومن شواهده: ما أخرجه الترمذي (ح2167) والحاكم 1/115 عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: "إن الله لا يجمع أمتي - أو قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم - على ضلالة".
وأخرجه أبو داود (ح4253) من حديث أبي مالك الأشعري بنحوه، وأخرجه الحاكم 1/116 من حديث ابن عباس بنحوه.(6/19)
وقال صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية" (1)، وقال صلى الله عليه وسلم: "من جاء إلى أمتي وهم جميع يريد أن يفرق بينهم فاقتلوه كائناً من كان"(2)، وقال صلى الله عليه وسلم: "يد الله على الجماعة، فإذا شذ الشاذ منهم اختطفته الشياطين كما يختطف الشاذة ذئب الغنم"(3)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 2/306، ومسلم 3/1476 (كتاب الإمارة ح53)، واللالكائي في شرح الأصول رقم (141) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه اللالكائي في شرح الأصول ح(143) عن أسامة بن شريك رضي الله عنه مرفوعاً، وفي سنده مجالد بن سعيد وهو ضعيف. (ر: تقريب التهذيب2/229)، وبلفظ مقارب له أخرجه النسائي فيي السنن الكبرى 2/293 وفي المجتبى7/85 عن أسامة، وقد صححه الشيخ الألباني بشواهد أخرى (ر: صحيح سنن النسائي ح3756).
ومن شواهده ما رواه عرفجة رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه ستكون هنات وهناتٌ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان" أخرجه أحمد 5/23،24، ومسلم 3/1479 (كتاب الإمارة ح59)، وأبو داود ح (4762)، والنسائي في السنن الكبرى 2/292 والمجتبى 7/84.
(3) أخرجه الطبراني في الكبير 1/153، وابن أبي عاصم في السنة ح(81)، واللالكائي في شرح الأصول ح(144) كلهم من طريق زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك رضي الله عنه مرفوعاً.
قال الهيثمي في المجمع 5/221: رواه الطبراني وفيه عبد الأعلى بن أبي مساور وهو ضعيف. اهـ ووافقه اللألباني في تخريج كتاب السنة وقال: "ولكن الحديث صحيح له شواهد…".(6/20)
، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أمتي لا تجتمع على الضلالة، وإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم"(1).
وقال صلى الله عليه وسلم - في خبرٍ طويل-: "من أراد بحبوحة(2) الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"(3).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يأمرني بالجماعة، وإنه من خرج شبراً من الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"(4)
__________
(1) أخرجه ابن ماجه ح (3950)، وابن أبي عاصم في السنة ح (84)، وابن بطة في الإبانة ح(118)، و اللالكائي في شرح الأصول ح (157) كلهم من طريق معان بن رفاعة عن أبي خلف المكفوف عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً. وفي إسناده: معان بن رفاعة وهو ليّن الحديث، وأبو خلف المكفوف اسمه: حازم بن عطا وهو متروك، ورماه ابن معين بالكذب. (ر:تقريب التهذيب على الترتيب 2/258،417) قال الألباني في تخريجه لكتاب السنة: "إسناده ضعيف جداً".
(2) بُحْبُوحة المكان: وسطه، بضم الباءين، يقال: تبحبح: إذا تمكن توسط المنزل والمقام. (ر: النهاية في غريب الحديث 1/98 لابن الأثير).
(3) أخرجه الإمام أحمد 1/18،26، والترمذي ح (2165)، وابن ماجه مختصراً ح(2363)، وابن أبي عاصم في السنة ح(87،88،899،902)، وابن بطة في الإبانة ح(113،114،115)، وابن منده في الإيمان ح(1086،1088) و اللالكائي في شرح الأصول ح (155)، والحاكم في مستدركه 1/114 كلهم من طرق عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي والألباني (ر: تخريج كتاب السنة لابن أبي عاصم، وصحيح الجامع الصغير ح(6170).
(4) أخرجه الإمام أحمد 4/130،202، 5/344، والترمذي ح(2863،2864) في سياق طويل، وأخرجه الحاكم 1/117،118، و اللالكائي في شرح الأصول رقم (157) مختصراً كلهم من طرق عن الحارث الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وقال الهيثمي في المجمع 5/220: رواه أحمد، ورجاله ثقات رجال الصحيح خلا علي بن إسحاق السلميي وهو ثقة. وذكر ابن كثير الحديث في تفسيره 1/61 وقال: "حديث حسن".(6/21)
.
وقال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}(1)، وحبل الله عز وجل (القرآن)(2) (3).
الفصل الرابع: في ذكر القياس(4)
__________
(1) سورة آل عمران /303.
(2) قاله قتادة والسدي والضحاك وعبد الله وغيرهم (ر: تفسير ابن جرير الطبري 4/30،31، وتفسير ابن كثير 1/397).
(3) ويراجع للاستزادة من أدلة حجية الإجماع ما يأتي: المستصفى من علم أصول الفقه 2/298-321 لأبي حامد الغزالي، الإحكام في أصول الأحكام 1/200-225 للآمدي، كتاب الفقيه والمتفقه 1/155-166 للخطيب البغدادي.
(4) القياس في اللغة: التقدير والمساواة.
وفي الاصطلاح: قال ابن تيمية: إن لفظ القياس لفظ مجمل، يدخل فيه القياس الصحيح والقياس الفاسد، فالقياس الصحيح هو الذي وردت به الشريعة، وهو: الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين. الأول قياس الطرد، والثاني قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله. اهـ
(ر: مجموع الفتاوى 20/504،505، وذكر الأصوليون عدة تعاريف أخرى ر: المستصفى 3/481 للغزالي، والإحكام 3/190 للآمدي).
ومما ينبغي أن يعلم أن القياس ليس من مصادر تلقي العقيدة عند أهل السنة والجماعة، حيث إن أمور العقيدة توقيفية تنبني على النصوص الشرعية الصحيحة ولا مجال للاجتهاد فيها، أما القياس - وهو نوع من الاجتهاد- فإنه يدخل في باب الأحكام والمعاملات.
وقد جاء في كتاب فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، ما نصه: "اعلم أن أصول الشريعة ثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع، والأصل الرابع هو القياس بالمعنى المستنبط من هذه الأصول، ثم القياس مظنون الإفادة، ولا يحصل به اليقين عند الجمهور، فلا تثبت به العقائد، وأيضا لا يعتبر عند معارضة واحد من الثلاثة إياه باتفاق الأئمة الأربعة، ولا يحتاج إليه عند وجود واحد من الثلاثة، فحجته ضرورية عند فقدان الأدلة الثلاثة للعمل في النازلة، وإن كان هو أيضاً منصوباً من قبل الشارع". اهـ
(ر: فواتح الرحموت 2/3 عبد العلي الأنصاري، مطبوع بذيل كتاب المستصفى لأبي حامد الغزالي الطبعة الأولى – المكتبة الأميرية- بولان – مصر- 1322هـ).(6/22)
قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}(1)، فأمرنا بالاعتبار، وحقيقة الاعتبار في اللغة: هو حمل الشيء على غيره، واعتباره به إما في حكمه أو في قدره أو في صفته.
وروى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله؟" قال: أجتهد رأيي، قال: "الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله"(2). وقد روي في ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم أيضاً ما صار إجماعاً منهم يطول بذكره الكتاب(3)، والله الموفق للصواب.
]96/أ[القسم الثاني: في ذكر المقدمات، وهي أربعة فصول:
الفصل الأول: في بيان الأمة
اسم الأمة يقع(4) على [ثلاثة](5) وجوه ينتظم مرة وينفصل أخرى:
__________
(1) سورة الحشر /2.
(2) أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده(ر: منحة المعبود 1/286)، وأحمد 5/230،236،242، وأبو داود ح(3592،3593)، والترمذي ح(1327،1328) والبيهقي في السنن 10/114 وفي المدخل ص208 وابن عبد البر في جامع بيان العم 2/55،56.
قال الإمام البخاري في التاريخ الكبير 2/277: لا يصح، ولا يعرف إلا بهذا، مرسل. اهـ وقال الترمذي: ليس إسناده عندي بمتصل.
وقال ابن حزم في الإحكام 6/1011،1012: "وأما خبر معاذ فلا يحل الاحتجاج به لسقوطه" وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة ح(881) وقال: حديث منكر. وأطال الشيخ - رحمه الله- في دراسة الحديث وبيان علله فراجعه.
(3) للاستزادة من أدلة حجية القياس يراجع: المستصفى: 3/545 وما بعدها، الإحكام للآمدي 4/24 وما بعدها، المحصول للرازي 2/246، أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها ص65 وما بعدها د/ عبد العزيز الربيعة.
(4) قال الإمام النووي: لفظة الأمة تطلق على معان:-
منها: من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن بما جاء به وتبعه فيه.
ومنها: من بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم وكافر. (ر: تهذيب الأسماء واللغات 2/11 باختصار).
(5) في ص (ثلاث) والصواب ما أثبته.(6/23)
أولها: أمة الدعوة، وهي التي بُعِث إليها المبلغ فلزمتها الحجة من مجيبٍ مقرٍ أو عصي مُصِرّ، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ…}(1)، وفي الخبر: أنا حظكم من الأنبياء، وأنتم حظي من الأمم(2).
والثانية: أمة الإجابة، وهي التي شهدت له بالبلاغ والأمانة، فمنعت دمها ومالها واستوثقت ذمتها من صدق صادق ومداج(3) منافقٍ، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}(4).
والثالثة: أمة الاتِّباع، وهي التي أطاعت أمره واقْتصَّت أثره، قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(5) وهي الفرقة الناجية من الثلاث وسبعين فرقة من هذه الأمة(6)
__________
(1) سورة الرعد /30.
(2) أخرجه ابن حبان (ر: موارد الظمآن ح2304)، والبزار (ر: كشف الأستار ح2847).
قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير أبي حبيبة الطائي، وقد صحح له الترمذي حديثاً وذكره ابن حبان في الثقات. ا.هـ. (ر: المجمع 10/71)
قلت: أبو حبيبة الطائي مقبول (ر: تقريب التهذيب 2/410).
(3) مَدَج فلان: أرخى السِّتر (ر: القاموس المحيط 239)
(4) سورة الأنبياء /92، سورة المؤمنون /52.
(5) سورة الأعراف /181.
(6) يشير المؤلف - رحمه الله- إلى حديث مشهور محفوظ صححه كثير من العلماء المحققين مثل الترمذي والحاكم وابن تيمية والذهبي وغيرهم، ورواه عدد من الصحابة منهم: أبو هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأنس بن مالك، وابن مسعود، وغيرهم رضي الله عنهم. بألفاظ متقاربة، فقال صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة"، قيل: من هي يا رسول الله ؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" وفي بعض الروايات: "هي الجماعة".
أخرجه أبو داود (ح 4596،4597)، والترمذي (ح 2640،2641)، وابن ماجه (ح3991،3992،3993)، وابن حبان (ح 6214)، والحاكم (1/128، 2/480)، وأحمد (2/332، 3/120،145، 4/120)، وغيرهم، وصححه الشيخ الألباني (ر: سلسلة الأحاديث الصحيحة ح203،204،1492 للشيخ الألباني).(6/24)
.
الفصل الثاني: في ذكر الأئمة
اعلم أن الإمامة هي: التقدم في معنىً بالناس إلى معرفته حاجة، أو قضى عليهم الخوض فيه وارتكابه وإن كان بهم عنه غِنىً(1).
والأئمة على ضربين: أحدهما: أئمة الهدى والدَّلالة، والثاني: أئمة الرَّدى والضلالة.
فأما أئمة الهدى فهم الذي قال الله تعالى فيهم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}(2)، وقال عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}(3).
وهم: المتبعون الكتاب والسنة والمتمسكون بآثار سلفهم الذين أمروا بالاقتداء بهم، كما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بمن تقدّمه من الأنبياء والمرسلين فقال ]96/ب[ تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه}(4)، وقال في حق هذه الأمة: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}(5).
__________
(1) أورد هذا التعريف الإمام أبو نصر عبيد الله السجزي في كتابه: (رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت ص205) تحقيق: د. محمد باكريم، وعرّف الراغب الأصفهاني الإمام بأنه: "المؤتمُّ به إنساناً كأن يَقْتَديَ بقوله أو فعله، أو كتاباً أو غير ذلك، محقاً كان أو مبطلاً" (ر: المفردات ص24).
وتطلق الإمامة في الاصطلاح على معان ثلاثة هي:
الإمامة الكبرى وهي الخلافة أو الملك أو رئاسة الدولة.
الإمامة الصغرى وهي إمامة الصلاة.
العالم المقتدى به. (ر: أحكام الإمامة والائتمام في الصلاة ص62 د/ عبد المحسن المنيف).
والمقصود هنا من هذه المعاني: المعنى الثالث.
(2) سورة السجدة /24.
(3) سورة القصص /5.
(4) سورة الأنعام/90.
(5) سورة التوبة/100.(6/25)
فعلامة المُتَّبِعين أن يعرفوا علم التفسير وعلم الحديث وعلم التّفقه عليهما، وعلم الوعد والوعيد للتقوى والورع، وعلم السِّير والمبتدأ للاعتبار، سمعوا العلم من الثقات والعدول، وقرءوا على الأئمة المعروفين بالسنة، ورووا عن الشيوخ الموسومين بالتقوى، ونقلوا من الكتب الصحيحة والأصول المعروفة المشهورة، إذ لا يجوز الاعتماد على كل كتاب ولا الرواية عن كل أحد، فقد وضعت الملاحدة(1) والزنادقة(2)
__________
(1) المُلحد لغةً: المائل عن الحق، ويطلق على من أنكر الخالق عز وجل والنبوة والدين والبعث، ويُسمَّى أيضاً بالدهري والمادي والشيوعي والوجودي، ويطلق الإلحاد أيضا على الشرك بالله.
(ر: القاموس المحيط ص404، المفردات ص448، الفصل 1/47 لابن حزم، الملل والنحل 2/3،235 للشهرستاني، ذيل الملل والنحل ص92 محمد سيد كيلاني).
(2) قال الإمام ابن تيمية: فلفظ الزندقة لا يوجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كما لا يوجد في القرآن وهو لفظ أعجمي معرّب، أخذ من كلام الفرس بعد ظهور الإسلام وعرِّب. وقد تكلم به السلف والأئمة في توبة الزنديق ونحو ذلك.
فأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في قبول توبته في الظاهر، فالمراد عندهم المنافق: الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وإن كان مع ذلك يصلي ويصوم ويحج ويقرأ القرآن، وسواء كان في باطنه يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً أو وثنياً، وسواء كان معطلاً للصانع وللنبوة، أو للنبوة فقط، أو لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقط، فهذا زنديق، وهو منافق، وما في القرآن والسنة من ذكر المنافقين يتناول مثل هذا بإجماع المسلمين. ا.هـ. (ر: بغية المرتاد ص338 لابن تيمية، القاموس المحيط ص1151).
فعلى هذا يمكن التفريق بين الملحد والزنديق، بأن الملحد من أظهر كفره وإلحاده، والزنديق من أبطن كفره وأظهر الإسلام.(6/26)
والجهمية(1) والمشبهة(2) والمعطلة(3) أخباراً باطلة على ما يشتهون وخلطوها بالأخبار الصحيحة حتى اشتبهت على كثير من الناس إلا من كان عارفاً بطرق الصحيح، وعالما بالأصول المتقنة من تصانيف الأئمة المشهورين.
والضرب الثاني: أئمة الضلالة، وهم الذين قال الله فيهم: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ}(4)، وقال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}(5).
__________
(1) الجهمية: هم أتباع جهم بن صفوان السمرقندي الضال المبتدع، تلميذ الجعد بن درهم، قُتِل سنة 128هـ خارجاً على السلطان، وكان يقول بإنكار صفات الله عز وجل، وبخلق القرآن الكريم، وبالإرجاء، حيث زعم بأن الإيمان: المعرفة في القلب، وبالجبر في أفعال العباد، وبأن الجنة والنار تفنيان. (ر: مقالات الإسلاميين 1/338، الملل والنحل 1/109، سير أعلام النبلاء 6/26، ميزان الاعتدال 1/426).
(2) المشبهة: وهم صنفان: صنف شبّهوا ذات الباري عز وجل بذات غيره، مثل الروافض الغلاة كالسبئية والمغيرية ونحوهم، وصنف شبّهوا صفاته عز وجل بصفات غيره، مثل الكرامية والهشامية الرافضة.
(ر: مقالات الإسلاميين 1/290، الفرق بين الفرق ص225-227، الملل والنحل ص105).
(3) المعطلة: هم الذين عطّلوا الله عز وجل عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله. (ر: الجواب الكافي ص153 لابن القيم).
أو أنهم: الذين أنكروا ما سمى الله تعالى ووصف به نفسه إنكاراً كلياً أو جزئيا،ً وحرفوا من أجل ذلك نصوص الكتاب والسنة، وهم أربع طوائف: 1- الأشاعرة والماتريدية 2- المعتزلة 3- غلاة الجهمية والباطنية 4- غلاة الغلاة من الفلاسفة والجهمية والباطنية.
(ر: تقريب التدمرية ص25-36 لابن عثيمين – باختصار).
(4) سورة التوبة /12.
(5) سورة القصص /42.(6/27)
وهم قوم أجلاف زعموا أنهم لمن قبلهم أخلاف، وادعوا أنهم أكثر منهم في المحصول في حقائق المعقول، وأهدى إلى التحقيق وأحسن نظراً منهم في التدقيق، وعابوا المتقدمين من السلف بأنهم لم يكونوا قوامين بطرق الجدال، فأبدلوا من الطيب خبيثاً ومن القديم حديثاً، وعدلوا عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه به ]97/أ[.
فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ}(1)، فوعظ الله عز وجل عباده بكتابه وحثهم على اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}(2).
وروى عبد الله بن مسعود قال: خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاًّ ثم قال: "هذا سبيل الله"، ثم خطَّ خطوطاً يميناً وشمالاً ثم قال: "هذه سُبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}(3) (4).
قال ابن مسعود(5): "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"(6).
__________
(1) سورة البقرة /231.
(2) سورة النحل /125.
(3) سورة الأنعام /153.
(4) أخرجه الطيالسي في مسنده ح(244)، وأحمد 1/435،465، وابن وضاح في البدع ص31 وابن أبي عاصم في السنة ح(17)، والدارمي 1/67، والحاكم 2/239،318 وصححه ووافقه الذهبي والألباني (ر: ظلال الجنة في تخريج السنة 1/13).
(5) هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(6) أخرجه وكيع في الزهد (رقم 315)، وعنه أحمد في الزهد ص162، والدارمي في المقدمة (1/69 ح211)، وابن وضاح في البدع ص10، والطبراني في الكبير 9/168، و اللالكائي في شرح الأصول 1/86، والبيهقي في المدخل (ص186 رقم 204)، وقال الهيثمي في المجمع 1/181: رجاله رجال الصحيح.
ورواه ابو خيثمة في العلم (رقم54) وصحح الألباني إسناده.(6/28)
فجاءت هذه الطائفة والشرذمة فخالفت ذلك ودعوا الناس إلى غيره، كما قال تعالى: {شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}(1)، وأخذوا كلام الفلاسفة المعطلة وكلمات أهل الزيغ والضلالة، فأوردوها وسموها تحقيقا وأصولاً، يتكلمون في صفات الله بآرائهم ويقيسون الدين بأهوائهم(2)، ويدّعون من الدرجات ما لم يبلغوها ومن الكرامات ما لم يدركوها، لو روجع أحدهم في آية من القرآن لم يحفظها، أو سُئِل عن واجب من الشرع لم يعلمه، أو فريضة من الدين لم يفهمها، أو طولب بمعرفة سيرة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والأئمة المهديين والمشائخ المتقين وجدته من الجاهلين، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ}(3).
فينبغي للمؤمن أن يتفقد ]97/ب[ أحوالهم، ويعرف أئمة الهدى من أئمة الضلالة بما ذكرت من سماتهم. والله يعصمنا من الزلل ويوفقنا لصالح القول والعمل.
الفصل الثالث: في ذكر الاتباع وترك الابتداع
اعلم أن الدين مبني على أصلين: على الشرع المنقول، وعلى قضيات العقول(4)، فالنقل والعقل أصلان يتصلان مرة وينفصلان أخرى.
__________
(1) سورة الشورى /21.
(2) هذا منهج المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية ومن سار على منهجهم في تقديم العقل على النقل وتأويل النصوص الشرعية تأويلاً فاسداً.
(3) سورة الأعراف /169.
(4) العقل يقع بالاستعمال على أربعة معان: الغريزة المدركة، والعلوم الضرورية، والعلوم النظرية، والعمل بمقتضى العلم.
(ر: إحياء علوم الدين 1/85،86 لأبي حامد الغزالي، ومجموع فتاوى ابن تيمية 9/287،305،16/336، و درء تعارض العقل والنقل 1/89، منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد 1/158-16 عثمان بن علي).(6/29)
اعلم أن العقل لا يهتدي إلا بالشرع، والشرع لا يتبيَّن إلا بالعقل، وذلك أن الإنسان لا يدخل تحت خطاب الشرع إلا بوجود العقل فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: رفع القلم عن [ثلاثة](1)، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق (2). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قسم الله العقل ثلاثة أجزاء، فمن كن فيه كمل عقله، ومن لم يكنَّ فيه فلا عقل له، حسن المعرفة بالله، وحسن الطاعة له، وحسن الصبر على أمره"(3).
__________
(1) في ص (ثلاث) والتصويب من نص الحديث.
(2) أخرجه أحمد1/116، 118، 140، وأبو داود (ح 4399، 4400، 4401، 4402، 4403)، والترمذي (ح1423)، والحاكم2/59، 4/389 عن علي رضي الله عنه بلفظ مقارب. قال الترمذي: حديث حسن غريب، وصححه الحاكم.
وأخرجه أحمد 6/100، وأبو داود (ح4398). عن عائشة رضي الله عنها.
قال الألباني: حديث صحيح روي عن جماعة من الصحابة. (ر:إرواء الغليل 2/4،5).
(3) حديث موضوع، أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 1/21، 3/323، وابن الجوزي في الموضوعات 1/172، والسيوطي في الدر المنثور 1/159 وفي اللآلئ المصنوعة 1/66، وابن عراق في تنزيه الشريعة 1/175.
قال أبو الفتح الأزدي: لا يصح في العقل حديث، قاله أبو جعفر العقيلي، وأبو حاتم بن حبان، نقل ذلك الإمام ابن القيم وقال: أحاديث العقل كلها كذب (ر: المنار المنيف في الصحيح والضعيف ص66،67 لابن القيم).
وقال الشيخ الألباني: ومما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح فيها شيء، وهي تدور بين الضعف والوضع. (ر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة1/13).(6/30)
قال بعض العلماء(1): معرفة الله تعالى أن يعلم أن الله خالق العالم بما فيه، وهذه المعرفة للكفار أيضاً، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}(2) وحسن المعرفة أن يوحّده وينفي عنه التشبيه في الذات والتعطيل من الصفات، فيصفه بما وصف به نفسه من الصفات وبما وصفه به رسول اللهصلى الله عليه وسلم، ولا يمثله في صفاته وذاته بالمخلوقات، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ]98/أ[ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(3).
والطاعة الانقياد لأمره، وحسنها اجتناب الرياء والشرك الخفي، قال الله تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}(4).
والصبر على أمره السكون تحت حكمه، وحسن الصبر الرضى بقضائه، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}(5)، وقال تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ}(6)، وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(7)، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}(8) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثر أهل الجنة البُله"(9)
__________
(1) لعله الإمام أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني المتوفى سنة 489هـ، فقد نقل بعض معنى كلامه المذكور الإمام الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد التيمي الأصبهاني في كتابه (الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة) في مواضع متفرقة انظر: 1/314-322، 2/115،116.
(2) سورة لقمان /25.
(3) سورة الشورى /11.
(4) سورة الكهف /110.
(5) سورة الرعد /19.
(6) سورة العنكبوت /43.
(7) سورة ق /37.
(8) سورة آل عمران /190.
(9) أخرجه ابن عدي في الكامل 3/313 في ترجمة سلامة بن روح عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً.
قال ابن عدي: وهذا الحديث بهذا الإسناد منكر، لم يروه عن عقيل غير سلامة. اهـ
وقال الهيثمي في المجمع 8/82، 10/267: رواه البزار وفيه سلامة بن روح، وثقه ابن حبان وغيره، وضعّفه أحمد بن صالح وغيره، وروايته عن عقيل وجادة.(6/31)
وعليون لأولي الألباب.
إلا أن العقل لا يهتدي إلا بالشرع كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ}(1). والعقل لا مدخل له في إيجاب ولا حظر وإنما خلقه الله تعالى لإدراك العلوم كسائر الحواس.
ثم الأصل الثابت: الشرع المنقول الذي شرعه الله تعالى على لسان الأنبياء عليهم السلام وأمر العقلاء باتباعه، قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد}(2).
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}(3)، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}(4) الآية، ولم يقل فردوه إلى مجرد العقول.
قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا َذَكَّرُونَ}(5) وقال تعالى مخبراً عن نبيه يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوب}(6) وقال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا}(7) ]98/ب[، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(8)، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ}(9).
__________
(1) سورة المائدة /16.
(2) سورة الكهف /110، سورة فصلت /6.
(3) سورة الأنبياء /25.
(4) سورة النساء /59.
(5) سورة الأعراف /3.
(6) سورة يوسف /38.
(7) سورة البقرة /137.
(8) سورة الزمر /18.
(9) سورة الأعراف /157.(6/32)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"(1).
وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (2)، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}(3) وقال تعالى: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ}(4)، فبيّن سبحانه أنه لا يعذب قبل بعثة الرسل، فَعُلم أن وجوب الأشياء بالسمع، وأن الشرع كالأمير والعقل كالوزير، يأمر الأمير فينفذ الوزير أمره ويتبع حكمه، والعقل جُعل آلة للتمييز كالميزان للموزون.
والحجة هي أمر من وجب الإذعان لطاعته، وإنما يُعرف ذلك الأمرُ بالعقل، ويتوجَّه على من رزق العقل دون من حُرِمه.
__________
(1) أخرجه البخاري (ر: فتح الباري 1/11)، ومسلم 1/51-52 وأحمد 1/11،19، والترمذي (ح2606،2607)، وأبو داود (ح1556) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) سورة الإسراء /15.
(3) سورة طه /134.
(4) سورة غافر /50.(6/33)
فلما استقر في العقل وجود الباري سبحانه وتعالى وكونه آمراً مفترض الطاعة، وثبت فيه وجوب القبول من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد قيام الأدلة بصدقه ونبوته وامتناع الكذب عليه، لم يبق للعقل أكثر من تأمل الأوامر والمصير إليها، فالشرع حاكم على العقل والعقل ليس بحاكم عليه، والعقل أيضاً كالمرآة التي جعلت لرؤية الأشياء في مقابلتها إذا كانت غير صدية، وقيل: العقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمدّه، وقيل: الشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما يتعاضدان ولكون الشرع عقلاً من خارج سلب الله تعالى اسم العقل من الكافر في غير موضع من القرآن فقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ ]99/أ[لا يَعْقِلُونَ}(1)، ولكون العقل شرعاً من داخل قال في صفة العقل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(2)، ولكونهما متحدين قال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}(3) أي نور العقل ونور الشرع ثم قال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}(4) فجعلهما نوراً واحداً.
واعلم أن العقل بنفسه من غير شرع لا ينفع، فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة والدال على مصالح الدنيا والآخرة، ومن عدل عنه فقد ضلَّ سواء السبيل.
__________
(1) سورة البقرة /171.
(2) سورة الروم /30.
(3) سورة النور /35.
(4) سورة النور/35، قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره قال: يعني بذلك إيمان العبد وعمله، وقال السدي: نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه، وقوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يرشد الله إلى هدايته من يختاره. (ر: تفسير الطبري 18/143، تفسير ابن كثير3/302، وفتح القدير 4/34).(6/34)
فالشرع وأحكامه من وجه دواء للآلام وشفاء للأسقام، تولى إيجاده من له الخلق والأمر، يفيد الحياة الأبدية والسلامة الدائمة كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ… }(1) {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ}(2) وقال تعالى: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}(3) وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}(4).
ومن وجه ماءٌ مطهر مزيل للأنجاس، قال تعالى في صفة القرآن: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}(5) جاء في التفسير(6): أنزل من السماء كتاباً فاحتمله قلوب الرجال على قدر عقولها.
وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(7).
ومن وجه نور وسراج مزيل للظلمة كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}(8) الآية. وكما قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية(9).
ومن وجه الطريق المستقيم كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً}(10).
ومن وجه معتَصمٌ كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً}(11)، فوجب اتباع الشرع على كافة الأنام.
فإن قيل: إذا أمرتم بالاتباع فهو تقليد والتقليد حرام، قال الله تعالى في ذم التقليد: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}(12).
__________
(1) سورة الأنعام /122.
(2) سورة فصلت /44.
(3) سورة يونس /57.
(4) سورة الإسراء /82.
(5) سورة الرعد /17.
(6) بنحوه في تفسير الطبري 13/134، وتفسير ابن كثير 2/526.
(7) سورة الأحزاب /33.
(8) سورة المائدة /115.
(9) سورة النور/35.
(10) سورة الأنعام /151.
(11) سورة آل عمران /103.
(12) سورة الزخرف /22،23.(6/35)
الجواب: أن التقليد قبول قول الغير من غير حجة، وقول الله ]99/ب[ تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم نفس الحجة. قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}(1).
الفصل الرابع: في كمال الدين
اعلم أن الله عز وجل أنزل كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تبياناً لكل شيء وقال تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}،(2) ثم أمره أن يبيِّن لهم ما فيه مما يحتاجون إليه وتجب معرفته عليهم فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(3)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(4)، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بيَّن لأمته ما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم، وبين لهم ما فيه صلاح أولاهم وأخراهم، أنزل الله تعالى عليه في حجة الوداع يوم الجمعة بعرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}(5)، وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ألا هل بلغت ؟! اللهم اشهد"(6). وقال سلمان: "علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة"(7)، فثبت أنه بيّن جميع الواجبات، إذ تأخُّر البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والكمال لا يقبل الزيادة.
__________
(1) سورة النساء /165.
(2) سورة الأنعام /59.
(3) سورة النحل/44.
(4) سورة المائدة/67.
(5) سورة المائدة /3.
(6) أخرجه البخاري ح4403 (ر:فتح 8/106)، ومسلم 3/1307 عن أبي بكر رضي الله عنه.
(7) أخرجه الإمام مسلم 1/223، والترمذي (ح16).(6/36)
وقيل لبعض علماء السلف(1): ما التوحيد؟ فقال: "من المحال أن تظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه بيّن الاستنجاء وترك بيان التوحيد(2).
التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والدين اسم لما أقامه الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ثم الأثر الصحيح عن مَرْضيٍ من السلف مأمون على عقدة الدين ]100/أ[ عالم بالاختلاف بصير بالقياس قادر على الاستنباط.
__________
(1) هو الإمام مالك بن أنس - رحمه الله تعالى-.
(2) سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى. ر: ص 180.(6/37)
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله عز وجل قد تكفل بحفظ هذا الدين الذي أنزله على خاتم أنبيائه ورسله نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(1) فهيّأ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أصحاباً - هم صفوة الخلق وخيرته بعد الأنبياء - وجعلهم وزراء له وأنصارا وأتباعاً، فحملوا الأمانة من بعده صلّى الله عليه وسلّم، فأدّوها ورعوها حق رعايتها، وجاهدوا في الله حق جهاده، وسار التابعون لهم بإحسان على طريقتهم ومنهجهم إلى يوم الدين.
ولما نشأت البدع وظهرت الفرق التي حذرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم وأمرنا بالتمسك بما كان عليه صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، فقد سخر الله من عباده الصالحين في كل مكان وزمان من يدعون إلى السنة ويبينونها للناس، ويردون على البدعة ويحذرون منها.
قال الإمام أبو القاسم اللالكائي: ثم إنه لم يزل في كل عصر من الأعصار إمام من سلف أو عالم من خلف قايم لله بحقه وناصح لدينه فيها، يصرف همته إلى جمع اعتقاد أهل الحديث على سنن كتاب الله ورسوله وآثار صحابته، ويجتهد في تصنيفه، ويتعب نفسه في تهذيبه رغبة منه في إحياء سنته وتجديد شريعته، وتطرية ذكرهما على أسماع المتمسكين بهما من أهل ملته، أو لزجر غال في بدعته، أو مستغرق يدعو إلى ضلالته، أو مفتتن بجهالته لقلة بصيرته اهـ(2).
__________
(1) سورة الحجر /9.
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/26.(7/1)
ومن هؤلاء العلماء الذين بذلوا مهجهم ونذروا أوقاتهم لهذا الواجب العظيم، الإمام الواعظ أبو زكريا يحيى بن إبراهيم الأزدي السلماسي الذي بيّن في كتابه – الذي بين أيدينا- منازل الأئمة الأربعة، أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد رضي الله عنهم أجمعين - اتفاق المعتقد عند الأئمة الأربعة الكرام، المقتدى بهم في الإسلام، والمعتمد على أقوالهم وفقههم بين الأنام.
فإن اعتقاد هؤلاء الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة الأعلام هو ما نطق به الكتاب والسنة، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ولم يكن بين هؤلاء الأئمة - ولله الحمد والمنة - خلاف في المعتقد وأصول الدين، وإنما وقع الخلاف بينهم في بعض فروع الشريعة وجزئياتها.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن اعتقاد الشافعي فأجاب - رحمه الله - بقوله: اعتقاد الشافعي - رضي الله عنه -، واعتقاد سلف الإسلام، كمالك، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، هو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض، وأببي سليمان الدارمي، وسهل بن عبد الله التستري، وغيرهم، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة - رحمه الله -، فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد والقدر ونحو ذلك، موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقاد هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة اهـ(1).
وإن في بيان وحدة معتقد الأئمة الأربعة، وإيضاح مجمل اعتقادهم وموافقته للسنة والمأثور عن سلف الأمة، إقامة للحجة على كل من يتبع مذاهب هؤلاء وهو على غير طريقتهم. وأمر آخر هو أن بيان معتقد هؤلاء الأئمة الأعلام من مصادرها المعتبرة هو تزييف وإبطال للآراء المنسوبة للإمام وهو منها بريء(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى 5/256، وبنحوه في منهاج السنة 2/106، وكتاب الإيمان ص350،351.
(2) أصول الدين عند الأئمة الأربعة واحدة، د. ناصر القفاري، ص34.(7/2)
هذا هو موضوع الكتاب الذي بين أيدينا والذي عقدت العزم - مستعينا بالله - على تحقيقه ودراسته والتعليق عليه وإخراجه، بحول الله وقدرته وتوفيقه.
وقد قسمت البحث في دراسة الكتاب وتحقيقه إلى قسمين كالآتي:
القسم الأول: دراسة المؤلف وكتابه، ويشتمل على ثلاثة مباحث هي:
المبحث الأول: التعريف بالمؤلف
المبحث الثاني: دراسة الكتاب
المبحث الثالث: منهجي في التحقيق
القسم الثاني: نص الكتاب المحقق.
ثم وضعت فهارس متنوعة للبحث إعانةً لقارئيه، سائلا الله العظيم أن يتقبل مني هذا العمل، وسائر أعمالي وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وألا يحرمني ووالدي أجرها إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
وكتبه
محمود بن عبد الرحمن قدح
القسم الأول: دراسة المؤلف والكتاب
اسمه ونسبه ونسبته:
هو يحيى بن أبي طاهر إبراهيم بن أحمد بن محمد الأزدي السَّلَمَاسي. فأمَّا نسبته (الأزدي) فهي نسبة إلى قبيلة (الأزَدْ) من أعظم قبائل العرب وأشهرها، تنتسب إلى الأزد بن الغوث بن نَبْت بن مالك بن كهلان من القحطانية(1).
وأما (السلماسي) فهي نسبة إلى مدينة (سَلَماس) - بفتح أوله وثانيه - وهي مدينة مشهورة بأذربيجان(2)، خرج منها جماعة من العلماء منهم:
- موسى بن عمران بن موسى بن هلال أبو عمران(3).
__________
(1) ر: معجم قبائل العرب القديمة والحديثة 1/15-18 عمر رضا كحالة، إصدار مؤسسة الرسالة، بيروت 1398هـ - 1978م ط2.
(2) سلماس: بينها وبين أرمية يومان، وبينها وبين تبريز ثلاثة أيام، وهي بينهما، وقد خرب الآن معظمها، وبين سلماس وخُوَيَّ مرحلة. (ر: معجم البلدان 3/270 ياقوت الحموي، تحقيق: فريد عبد العزيز الجندي)، وفي المنجد في الأعلام ص 362: سلماس: منطقة في أذربيجان شمال غربي بحيرة أرميا، يسكنها خمسون ألف نسمة، فيها قرى كان يسكنها الأرمن والسريان والكلدان واليهود مع أكثرية من الشعية. ا هـ.
(3) ر: معجم البلدان 3/270.(7/3)
- أبو القاسم حريز بن أحمد بن حريز السلماسي، أحد الأئمة المشهورين بالفضل، وكان حسن الاعتقاد، فصيح اللسان، مات في شوال سنة 436هـ(1).
- أبو حفص عمر بن يوسف بن الحسن السلماسي.
- أبو الحسن المظفر بن الحسن بن المهند السلماسي.
- أبو محمد الحسن بن جعفر بن داود السلماسي، توفي سنة 419هـ.
- أبو عبد الله الحسين بن جعفر بن محمد بن جعفر بن داود ابن الحسن السلماسي، كان ثقة، توفي سنة 446هـ.
- أبو نصر محمد بن الحسن بن محمد بن جعفر بن داود السلماسي، ابن عم أبي عبد الله بن السلماسي، كان صدوقا، مات سنة 444هـ.
- أبو طاهر المحسن بن جعفر بن محمد بن جعفر بن داود ابن الحسن السلماسي، كان ثقةً، مات سنة 436هـ(2).
2- كنيته ولقبه:
أجمعت المصادر التي ذكرت المؤلف على أن كنيته (أبو زكريا)، ولكن لم تذكر تلك المصادر أسماء أو عدد أولاده.
وقد اشتهر المؤلف بلقب (الواعظ)(3) لأنه كان يعقد مجلس الو عظ والتذكير في دمشق وبغداد، وكان له القبول التام(4)، ولعلَّ المؤلف - رحمه الله - كان مأذونا له بالوعظ من قبل الخليفة أو الولاة، "فقد كان معه علمان أسودان من أعلام الخليفة، ينصبهما على كرسيه وقت وعظه"(5).
3- ولادته ونشأته:
__________
(1) اللباب في تهذيب الأنساب 2/126 عز الدين ابن الأثير الجزري، والأنساب 3/275 للسمعاني.
(2) ر: الأنساب 3/275، 276 للسمعاني.
(3) أورد لقبه الحافظ ابن عساكر، وابن الجوزي، وابن الدبيثي، والذهبي.
(4) ابن الجوزي في مشيخته ص147، والمنتظم 10/164.
(5) تاريخ دمشق 64/45 لابن عساكر.(7/4)
قال الحافظ ابن عساكر عن المؤلف - رحمهما الله -: وكان مولده في ما ذكر سنة أربع وسبعين وأربعمائة(1)، وبدأ بسماع الحديث سنة إحدى وثمانين(2)، واستجاز له أبوه من مشايخ بغداد سنة نيف وثمانين (3)اهـ.
ويبدو لنا من ترجمة المؤلف وسيرته ورحلاته - فيما سيأتي - أن ولادة المؤلف ونشأته كانت في مدينة (سلماس) التي ينتسب إليها.
4- طلبه للعلم ورحلاته فيه:
__________
(1) وقع تصحيف في النسخة المطبوعة من تاريخ دمشق 64/44في تاريخ ولادة المؤلف وأنها كانت سنة (أربع وتسعين وأربعمائة )!!! وهذا مخالف لسياق الكلام المذكور بعده، ولذلك فقد رجعت إلى مخطوطة تاريخ دمشق، نسخة الظاهرية فوجدت الخطأ فيها، ثم رجعت إلى نسخة أخرى بالمغرب في خزانة ابن يوسف بمراكش (توجد مصورة ميكروفيلم عنها بالجامعة الإسلامية تحت رقم 4180) فوجدت الصواب فيها وهو ما أثبته، حيث صحفت كلمة "سبعين" إلى "تسعين"، وتأكد لي صحة ذلك بالرجوع أيضا إلى مختصر تاريخ دمشق 27/200 للعلامة ابن منظور، فقد ذكر أن ولادة المؤلف كانت سنة أربع وسبعين وأربعمائة.
(2) أي: سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
(3) تاريخ دمشق 64/44،45.(7/5)
لقد كانت أسرة المؤلف - فيما يبدو لنا - أسرة خير وفضل، وبيته بيت علم وصلاح، فأبوه من المهتمين بالحديث وروايته، مما ساهم في نشأته العلمية وتكوينه في وقت مبكّر، فحببته أسرته في العلم والعلماء، ودفعت به إلى حلق العلم، فأقرأته القرآن، وحثته على سماع الحديث وكتابته وتحمله، "فبدأ المؤلف في سماع الحديث سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وكان في السابعة من عمره حينئذ(1)، واستجاز له أبوه من مشايخ بغداد سنة نيف وثمانين)، حيث ذكر ذلك الحافظ ابن عساكر في تاريخه من مناقب المؤلف - رحمه الله -(2).
وبهذه العناية المبكرة من والد المؤلف، وبما كان له من الهمة والإقبال الكبير والجد والاجتهاد في طلب العلم، فإنه لم يكتف بالأخذ عن مشايخ بلده أو ممن استجاز له والده، وإنما جدّ في السعي والرحلة لطلب العلم، فانتقل من بلده وفارق أهله، وهجر مصالحه ومنافعه رغبة في التزود من معين العلم والمعرفة، والسماع عن ثقات المشايخ وأئمة العلم في مختلف البلدان.
__________
(1) يجوز - عند جمهور المحدّثين - تحَمُّل الصبي للرواية، ولا تجوز الرواية عنه إلا بعد التمييز (ر: النكت على مقدمة ابن الصلاح 3/461-471 للإمام بدر الدين الزركشي، تحقيق د. زين العابدين بن محمد).
(2) ر: تاريخ دمشق 64/45.(7/6)
فذكر الحافظ ابن عساكر(1) أن المؤلف ارتحل لطلب العلم وسماع الحديث إلى الموصل(2) وإلى خُوَيّ(3)، وإلى مَرَنْد(4).
5- شيوخه وتلاميذه:
بينّا فيما سبق أن المؤلف قد طلب العلم في سن مبكرة، وسافر وارتحل لطلب العلم والسماع من المشايخ، ومن كانت هذه حالته وهمته العالية لا بُدَّ أن يتتلمذ على عدد كبير من المشايخ وعلماء عصره، وقد أورد الحافظ ابن عساكر بعض شيوخ المؤلف وهم:
- سمع من أبيه أبي طاهر إبراهيم بن أحمد السلماسي.
- وسمع من أبي الوفاء خليل بن شعبان بن إبراهيم
- وسمع بالموصل من أبي بكر محمد بن القاسم بن الشهرزوري، وهو من مشايخ ابن عساكر.
- ومن أبي القاسم نصر بن محمد بن أحمد بن صفوان الموصلي.
- وسمع بخُوَيّ من أبي عبد الله محمد بن الهادي بن أحمد بن بعون الدقوقي.
- وسمع بمرند من أبي الفضل نعمة الله بن محمد العبدوي المرندي، من مشايخ ابن عساكر.
- وسمع من جماعة من شيوخ أذربيجان، وغيرهم(5).
أما عن تلاميذه فقد تتلمذ عليه وسمع منه عدد من العلماء الأجلاء ومنهم:
__________
(1) المرجع السابق 64/45.
(2) الموصل: مدينة مشهورة تقع شمال العراق.
(3) خُوَيّ: بلفظ تصغير (خو) - من أيام العرب - وهو واد من وراء نهر أبي موسى، بلد مشهور من أعمال أذربيجان، حصن كثير الخير والفواكه، وينسب إليها الثياب الخوية (ر: معجم البلدان 2/466 لياقوت الحموي). وقال عنها القزويني: أهلها أهل السنة، والجماعات على مذهب واحد، ليس بينهم اختلاف المذهب (ر: آثار البلاد ص527).
(4) مرند: بفتح أوله وثانيه، من مشاهير مدن أذربيجان، بينها وبين تبريز يومان. (ر: معجم البلدان 5/129).
(5) ر: تاريخ دمشق 64/45.(7/7)
- الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن الشافعي المعروف بابن عساكر المتوفى سنة 571هـ، الذي قال عنه: سمعت منه جزءاً خَرَّج له عن شيوخه، ولم أجد نسخته عندي، وعلقت عنه أشياء يسيرة، ثم أخرج الحافظ ابن عساكر حديثاً سمعه من المؤلف بإسناده، وقال عقب الحديث: هذا إسناد مظلم، وحديثه منكر(1).
- الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي المتوفى سنة 597هـ، وقد أورده ابن الجوزي في مشيخته الذي ضمّ تراجم شيوخه الذين تتلمذ عليهم، وقد سمع منه ابن الجوزي شيئاً من الحديث بقراءة ابن ناصر، وأخرج له ابن الجوزي حديثاً سمعه من المؤلف بإسناده في يوم الثلاثاء ثالث ذي القعدة من سنة ثمان وأربعين وخمسمائة(2).
- الإمام المحدّث الحافظ، أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد ابن علي بن عمر السَّلاَميُّ البغدادي، المعروف بابن ناصر، المتوفى سنة 550هـ(3)، وهو المراد في كلام ابن الجوزي السابق أنه سمع من المؤلف شيئاً من الحديث بقراءة ابن ناصر.
- أبو الحسن بن المُقير، وهو آخر من روى عن المؤلف السلماسي بالإجازة(4).
6- مؤلفاته وأقوال العلماء فيه:
ذكر الحافظ ابن عساكر أن المؤلف صنف كتابين هما:
- الكتاب الأول سماه (باب المدينة).
__________
(1) المرجع السابق 64/45،46.
(2) مشيخة ابن الجوزي ص145،146، الشيخ الحادي والخمسون - لأبي الفرج ابن الجوزي.
(3) ر: ترجمته في المنتظم 10/163 لابن الجوزي، وسير أعلام النبلاء 20/265 للذهبي.
(4) تاريخ الإسلام 37/415،416 للإمام الذهبي.(7/8)
قال الحافظ ابن عساكر عن هذا الكتاب: وصنف كتاباً سماه (باب المدينة) افتتحه يحيى بن إبراهيم، ذكر فيه أحاديث في فضل علي لم يسمع، تقرَّب بذلك إلى الرئيس أبي الفوارس بن الصوفي ونفق(1) عنده بذلك، وقفت على ذلك الكتاب فأبان عن قلة معرفة منه بالحديث، وكثرة نفاق في الاعتقاد(2) اهـ.
وبسبب هذا الكتاب ونقد الحافظ ابن عساكر له ولمؤلفه، فإن المؤرخين والعلماء الذين ترجموا للمؤلف في كتبهم - كالإمام الذهبي والحافظ ابن حجر - قد تابعوا ابن عساكر في نقده ذلك، ما عدا ابن الجوزي - الذي كان معاصرا لابن عساكر - وابن الدبيثي في تاريخه، حيث لم يشيرا إلى الكتاب المذكور في ترجمتهما للمؤلف، فقد قال الإمام الذهبي تبعا لابن عساكر في كتابه (المغني في الضعفاء): يحيى بن إبراهيم السلماسي، معروف، صنف في مناقب علي كتاب (باب المدينة) أبان فيه عن جهل وهوى(3) اهـ.
وأعاد الإمام الذهبي ترجمة المؤلف في كتابه (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) مضيفاً بأنه روى عنه - أي المؤلف - أبو القاسم ابن عساكر وغيره(4).
وقال الحافظ ابن حجر تبعاً للذهبي وابن عساكر في كتابه (لسان الميزان): يحيى بن إبراهيم السلماسي، شيخ معروف متأخر، له مصنف في مناقب علي رضي الله عنه، أبان فيه عن جهل وهوى، روى عنه أبو القاسم ابن عساكر وغيره اهـ(5).
__________
(1) في النسخة المطبوعة من تاريخ دمشق (له)، وأشار محقق النسخة في الحاشية أن رسمها بالأصل (معف)، فرجعت إلى مخطوطة تاريخ دمشق وصوبت الكلمة كما أثبتها.
(2) تاريخ دمشق 64/45.
(3) المغني في الضعفاء 2/729 رقم الترجمة (6922).
(4) ميزان الاعتدال في نقد الرجال 4/360 رقم الترجمة (9449).
(5) لسان الميزان 6/240 رقم الترجمة (846).(7/9)
قلت: لم أقف على الكتاب المذكور فيما بحثت فيه من فهارس المخطوطات والمكتبات المعروفة، ولعل المؤلف - عفا الله عنا وعنه - قد كتب هذا الكتاب في بداية حياته العلمية، أو تحت ظروف قاهرة ألجأته إلى ذلك، مع أن ذلك ليس عذراً للمؤلف فيما كتبه وأخطأ فيه في كتابه (باب المدينة) حسب قول ابن عساكر، ولكن الذي يهمنا معرفته أن المؤلف - عفا الله عنا وعنه - قد رجع عن خطئه ذلك، وأعلن أن اعتقاده في الصحابة جميعا وفي علي خاصة - رضي الله عنهم - خاصة هو اعتقاد السلف أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والأئمة العلماء ومنهم الأئمة الأربعة الأعلام، فقد صرّح بذلك في كتابه الثاني -الذي بين أيدينا- حيث يقول المؤلف السلماسي: وأفضل الصحابة المهاجرين العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة، وأفضل العشرة الخلفاء الأئمة الأربعة، وأفضلهم أبوبكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى - رضي الله عنهم -.
قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ…} نزلت الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث أنفق ماله بمكة، ونصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول من آمن من الرجال، وقد وردت في فضائل الأربعة الآيات الكثيرة، قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم...} ثم ذكر المؤلف بعض الآيات والأحاديث الواردة في فضائل الصحابة - ثم قال: وأجمعوا على الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا"، وروى عن أبي سعيد أنه قال: مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها.(7/10)
وينتهون إلى ما روي عن عمر بن عبد العزيز وقد سئل عما شجر بينهم فقال: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.
وسئل بعض العلماء من التابعين عن ذلك، فقال: أقول ما قال موسى عليه السلام لفرعون حين قال له {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ثم قال المؤلف: فنترحم على جميع الصحابة، ونحبهم وننتهي إلى قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ثم قال المؤلف أبو زكريا السلماسي - وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشرة من أصحابه بالجنة، هم خير الناس، وأفضلهم الخلفاء الراشدون، ويجب على المسلمين مدحهم والثناء عليهم، والدعاء لهم ولجميع الصحابة لما بذلوه من وسع النفس والمال في إقامة الحق، ونصرة الدين رضي الله عنهم أجمعين اهـ.
وقال المؤلف في نهاية ذكره لجمل الاعتقاد: هذا دينهم واعتقادهم - أي الصحابة والتابعون وأئمة الأمصار من الفقهاء وأصحاب الحديث في كل زمان ومكان - ذكرته على وجه الاختصار وحذفت الأسانيد كراهية الإكثار اهـ(1).
وبهذا يتبين أن المؤلف - غفر الله لنا وله- قد رجع إلى الحق والصواب، وعقيدة السلف خاصة في الصحابة وفي علي - رضي الله عنهم -، وأن المؤلف لا يقول في علي إلا ما قاله الصحابة والتابعون والأئمة فيه رضي الله عنه.
__________
(1) ر: النص المحقق ص 128-137.(7/11)
بقي أن نشير إلى أن تلك الملحوظة التي ذكرها ابن عساكر لا تحط من مكانة المؤلف، ولا تقلل من شأنه، ولا تمنع من الاستفادة من علمه في الجوانب والكتب الأخرى للمؤلف - كما فعل ابن عساكر نفسه في التتلمذ والأخذ عن المؤلف مع نقده إياه - وقلَّ أن نجد عالماً لا يخطئ، فكما قال الإمام مالك - إمام دار الهجرة -: كلٌّ يؤخذ من كلامه ويرد عليه، إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم(1).
أما الكتاب الثاني للمؤلف فهو منازل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - رضي الله عنهم أجمعين، وهو الكتاب الذي بين أيدينا وقمنا بتحقيقه ودراسته - ولله الحمد والمنة. وقد قال الحافظ ابن عساكر عن هذا الكتاب الثاني: ووقعت له على كتاب صنفه في فضل الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، ما به بأس(2).
ويظهر لنا - والله أعلم - من ترتيب كلام ابن عساكر عن كتابي المؤلف، أن كتاب (باب المدينة) ألفه أبو زكريا السلماسي أولاً، ثم ألف من بعده كتابه الثاني وهو (منازل الأئمة الأربعة)، وهذا يؤكد ما ذكرناه من قبل في رجوع المؤلف إلى عقيدة السلف وثباته عليها ودفاعه عنها والدعوة إليها، ويؤيد ذلك أيضا ما ذكره الحافظ ابن عساكر في نهاية ترجمة المؤلف بأنه كان يذهب مذهب أحمد بن حنبل في الأصول، وينتحل مذهب الشافعي في الفروع وتلك شهادة مهمة وتزكية عالية من الحافظ ابن عساكر لشيخه السلماسي، ونسأل الله عز وجل للجميع الرحمة والمغفرة في الدنيا والآخرة.
7- أقوال العلماء الأخرى فيه:
__________
(1) رواه الإمام ابن عبدالبر في جامع العلم 2/19، وأبو شامة في المختصر المؤمل ص 66.
(2) ر: تاريخ دمشق 64/45.(7/12)
- قال عنه الحافظ ابن عساكر: قدم دمشق سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ونزل دويرة السميساطني، وعقد مجلس التذكير، … وكانت معه كتب كثيرة، وسماعه فيها قليل(1)، وكان له نظم ونثر، وكان ذا ثروة(2).
- وقال عنه الحافظ ابن الجوزي: أبو زكريا الواعظ السلماسي، سمع الحديث، وقدم إلى بغداد، فوعظ بها، ووقع له القبول التام، ثم غاب عنها نحوا من أربعين سنة، ثم قدم بعد الأربعين وخمسمائة، فطلب أن يفتح له الجامع ليعظ فلم يجب إلى ذلك، فسمعنا منه شيئاً من الحديث، ثم رحل عن بغداد(3).
- قال عنه الحافظ الذهبي: والواعظ الكبير أبو زكريا يحيى بن إبراهيم السلماسي(4).
8- عقيدته ومذهبه الفقهي:
لقد كان المؤلف أبو زكريا السلماسي - رحمه الله - على عقيدة أهل السنة والجماعة، عقيدة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، التي تلقوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أدل على ذلك من كتابه الذي بين أيدينا، الذي أوضح فيه عقيدة السلف الصالح بأدلتها من الكتاب والسنة وأقوال السلف رحمهم الله تعالى.
ومما يؤكد سلامة عقيدة المؤلف - رحمه الله - شهادة تلميذه الإمام الحافظ ابن عساكر بقوله عن المؤلف: وكان يذهب مذهب أحمد بن حنبل في الأصول، وينتحل مذهب الشافعي في الفروع. اهـ(5).
__________
(1) كلام الحافظ ابن عساكر بأن سماع المؤلف السلماسي في كتبه قليل، فيه نظر، فإن المؤلف - رحمه الله - قد ذكر في كتابه الذي بين أيدينا جملة من المصنفات الحديثية والتأريخية وغيرها - وهي كثيرة - وقد صرح المؤلف السلماسي بسماعه لتلك الكتب. (ر: ص 31، 32) في مصادر المؤلف في الكتاب.
(2) تاريخ دمشق 64/44،45.
(3) مشيخة ابن الجوزي ص147، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 10/164 لابن الجوزي، تاريخ الإسلام 37/415،416 للذهبي.
(4) سير أعلام النبلاء 20/270.
(5) تاريخ دمشق 64/45.(7/13)
فالانتساب إلى الإمام أحمد في الأصول هو انتساب إلى السنة(1)، فالإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة بلا منازع(2).
وانتساب المؤلف في الفروع الفقهية إلى الإمام الشافعي تأكيد على اتفاق الأئمة الأربعة في العقيدة وأصول الدين وإجماعهم عليها، وأن اختلافهم لم يكن إلا في أمور محدودة من فروع الشريعة لا في أصولها.
وفاته:
عاش المؤلف ستة وسبعين عاماً قضاها في طلب العلم والرحلة إليه ثم تعليمه، ووعظ الناس وتذكيرهم ونصحهم وإرشادهم وتبصيرهم بأمور دينهم، وفي رواية الحديث، في بغداد ودمشق وسلماس وغيرها.
__________
(1) قال الإمام أحمد: أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة …الخ (ر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/156 للالكائي)، وقال الإمام ابن تيمية: ولفظ السنة في كلام السلف، يتناول السنة في العبادات، وفي الاعتقادات، وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات، وهذا كقول ابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبي الدرداء - رضي الله عنهم -: "اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة". اهـ. (ر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص77 لابن تيمية تحقيق: د. صلاح الدين المنجد).
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وصار الإمام أحمد علماً لأهل السنة الجائين بعده من جميع الطوائف، كلهم يوافقه في جمل أقواله وأصول مذاهبه، لأنه حفظ على الأمة الإيمان الموروث والأصول النبوية ممن أراد أن يحرفها. (ر: مجموع الفتاوى 12/439).(7/14)
وقد مات المؤلف بعد رجوعه إلى بلده سلماس بيسير(1)، حيث توفي في شهر شعبان(2) سنة خمسين وخمسمائة من الهجرة النبوية(3)، رحمه الله رحمة واسعة، وأدخله فسيح جناته، وشملنا وإياه بمغفرته ورضوانه آمين.
المبحث الثاني: دراسة الكتاب
(1) اسم الكتاب:
الاسم المثبت على غلاف الكتاب هو (منازل(4) الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين).
(2) توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف:
إن نسبة الكتاب للمؤلف - رحمه الله تعالى - ثابتة قطعا بأدلة عدة:
- أن الحافظ ابن عساكر - وهو من تلاميذ المؤلف كما ذكرنا - قد اطلع عليه وقرأه ونسبه للمؤلف، قال الحافظ ابن عساكر: "ووقعت له على كتاب صنفه في فضل الأئمة الأربعة أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، ما به بأس. اهـ.(5)
- ذكر اسم المؤلف على غلاف الكتاب مقرونا باسم الكتاب.
- تصريح المؤلف باسمه ونسبه في مقدمة الكتاب.
- إن الشيوخ الذين روى عنهم المؤلف في الكتاب هم من شيوخه الذين ذكروا في ترجمته عند الحافظ ابن عساكر في تاريخه، وأبي الفرج ابن الجوزي في مشيخته، وتوضيح ذلك بالآتي:
__________
(1) ر: تاريخ دمشق64/45.
(2) ر: المختصر المحتاج إليه من تاريخ ابن الدبيثي 1/385 إختصار الإمام الذهبي، تاريخ الإسلام 37/415،416 للذهبي.
(3) مشيخة ابن الجوزي ص174، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 10/164 لابن الجوزي، المختصر المحتاج إليه من تاريخ ابن الدبيثي 1/385، تاريخ الإسلام 37/416 للذهبي، وتذكرة الحفاظ ص1292 للذهبي، وسير أعلام النبلاء 20/270،291.
(4) المنزلة: الدار والمكانة والمرتبة، جمعها: منازل، يقال: له منزلة عند الأمير: مكانة، وهو رفيع المنازل: المراتب. (ر: المعجم الوسيط 2/915 من إصدارات مجمع اللغة العربية بالقاهرة).
(5) ر: تاريخ دمشق 64/45.(7/15)
قال المؤلف في الكتاب(1): ولقد أخبرني أبي رضي الله عنه قال: أنبا القاضي أبو الحسين بندار بن علي بن أحمد قرأه عليه بتببريز في داره، قال: نبا علي بن الحسن بن خارجة بن أحمد … الخ.
ويتفق هذا الإسناد مع ما رواه الحافظ ابن عساكر عن المؤلف فقال: حدثنا أبوبكر السلماسي أنا أبي أبو طاهر، أنا القاضي أبو الحسين بندار بن علي البيروتي، نا أبو الحسن علي بن خارجة… الخ(2).
كما يتفق مع الإسناد الذي ذكره الحافظ ابن الجوزي فقال: أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم بن أحمد السَّلَمَاسي، من لفظه في يوم الثلاثاء ثالث ذي القعدة من سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، قال: أخبرني أبي، قال أنا أبو نصر أحمد بن محمد القارئ… الخ(3).
(3) موضوع الكتاب:
لقد أوضح المؤلف في مقدمته موضوع كتابه فقال: فرأيت من الواجب أن أذكر من اتفاقهم - يعني الأئمة الأربعة - في المعتقد فصولاً، وأورد من ذلك فصوصاً ونصوصاً، وأبيِّن عموماً وخصوصاً، وأنشر طرفاً من طرف مطارفهم، وأذكر نتفاً من تحف مآثرهم ومعارفهم.
فالموضوع الأساسي للكتاب هو بيان عقيدة الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - رضي الله عنهم - واتفاقهم على هذه العقيدة، مع ذكر نبذة من سيرتهم ومناقبهم وفضائلهم.
وقد قسَّم المؤلف - رحمه الله - كتابه إلى أربعة أقسام كالآتي:
القسم الأول: في بيان حجج الشريعة. وجعل تحته أربعة فصول هي:
الفصل الأول: نص الكتاب المنزل.
الفصل الثاني: نص السنة الصحيحة.
الفصل الثالث: الإجماع.
الفصل الرابع: القياس.
وقد بيَّن المؤلف في هذه الفصول المراد بأركان الشريعة الأربعة وحجيتها من الكتاب والسنة وأقوال السالف الصالح.
القسم الثاني: في ذكر مقدمات يحتاج الناظر في هذا المختصر إليها.وجعل تحته أربعة فصول هي:
الفصل الأول: في بيان الأمة.
الفصل الثاني: في ذكر الأئمة.
__________
(1) ر: ص 48، 49.
(2) ر: تاريخ دمشق 64/45.
(3) ر: مشيخة ابن الجوزي ص145.(7/16)
الفصل الثالث: في بيان الاتباع وترك الابتداع.
الفصل الرابع: في ذكر كمال الدين وحقائق اليقين.
وقد أوضح المؤلف في هذه الفصول بإيجاز معنى كلمة "الأمة" وأنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أمة الدعوة، وأمة الإجابة، وأمة الاتباع.
ثم بيّن - رحمه الله - تعريف الإمامة، وأن الأئمة على قسمين: أئمة الهدى والدلالة، وأئمة الردى والضلالة، وذكر علامات كل نوع من الأئمة وصفاتهم، وما يُمَيِّز بعضهم عن بعض بأدلة الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح.
وفي الفصل الثالث الحث على التمسك بالسنة واجتناب البدعة، وبيَّن المؤلف أن النقل الصحيح والعقل الصريح لا يتعارضان، بل هما (أي النقل والعقل) متصادقان، متعاضدان، متناصران، يصدق أحدهما الآخر، ويشهد أحدهما بصحة الآخر، كما وضح المؤلف الفرق بين الاتباع والتقليد.
وفي الفصل الرابع ذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة على كمال هذا الدين وشموله لما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ودنياهم.
القسم الثالث: في جمل الاعتقاد. وجعل تحته أربعة فصول هي:
الفصل الأول: في إثبات العلم بالذات والأسماء والصفات.
الفصل الثاني: في ذكر الأفعال وما جاء من الوعد والوعيد في المآل.
الفصل الثالث: في بيان الرسالة والنبوة.
الفصل الرابع: في ذكر الإمامة والخلافة والأئمة والخلفاء.(7/17)
وقد أبان المؤلف - رحمه الله - في هذه الفصول الأربعة عقيدة أهل السنة والجماعة، عقيدة السلف التي أجمع عليها الصحابة - رضي الله عنهم - ونقلها عنهم التابعون لهم بإحسان من الأئمة والعلماء في جميع البلدان، هذه العقيدة الصحيحة التي عرضها المؤلف ببعض أدلتها من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح قد شملت أصول العقيدة الإسلامية وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وما يتعلق بهذه الأصول من مسائل الإمامة، والتفضيل بين الصحابة - رضي الله عنهم -، ومعرفة ما لهم من الحقوق، والكف عما شجر بينهم - رضي الله عنهم -، مما يتميز به أهل السنة والجماعة عن غيرهم من أهل البدعة والفرقة.
القسم الرابع: في ذكر الأئمة. وجعل تحته أربعة فصول هي:
فصل: في ذكر أبي حنيفة رحمه الله تعالى
فصل: في ذكر مالك رحمه الله تعالى
فصل: في ذكر الشافعي رحمه الله تعالى
فصل: في ذكر أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
وقد أورد المؤلف لكل واحد من الأئمة الأربعة ذكر مولده ونسبه وحليته ووفاته، ثم ذكر علمه وورعه وزهده، ثم ذكر ما جاء في مدح الأئمة له والثناء عليه، ثم في ذكر أصحابه، وطرف من محنته على سبيل الاختصار دون الإكثار.
(4) سبب تأليف الكتاب:
لقد أشار المؤلف - رحمه الله - إلى سببين لتأليف كتابه وهما:
أ- انتشار البدع والانحراف في العقيدة بسبب جهل بعض الوعاظ والمذكرين وبُعْدِهِمْ عن الكتاب والسنة، وتكالبهم على متاع الدنيا، وإثارتهم للفتن بين الناس - حيث زعموا أن بين الأئمة خلافاً في المعتقد والأصول - طلباً منهم للتقدم والرياسة وادّعاء الفهم والكياسة.
ب- الدفاع عن الأئمة الأربعة وبيان اتفاقهم وإجماعهم في العقيدة، وأنهم لم يختلفوا في الأصول، وإنما وقع الخلاف بينهم في فروع الشريعة لا في أحكامه وأصوله، لينتهي الناس عن ذكر الأئمة بما ليس فيهم وليتيقنوا أن الدين عند الله الإسلام وهو دين واحد.(7/18)
(5) منهج المؤلف في الكتاب وأسلوبه:
أ- إن المؤلف التزم في كتابه الإيجاز والاختصار، وحذف الأسانيد للأخبار، كراهية الإكثار.
ب- اعتماده على الكتاب والسنة وآثار الصحابة وأقوال الأئمة في الاستدلال على المسائل والأمور التي يوردها في كتابه، وخاصة في مسائل العقيدة.
ج- استوفى المؤلف في عرضه لعقيدة الأئمة الأربعة جميع مسائل العقيدة في التوحيد والإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والصحابة، والإمامة، وغيرها.
د- اقتصر المؤلف على ذكر سيرة الأئمة الأربعة ومناقبهم لشهرتهم وانتشار مذهبهم وكثرة أتباعهم، وبيان أن عقيدتهم هي عقيدة الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان من الأئمة في جميع البلدان.
هـ- ذكر المؤلف أنه راعى في ترتيب الأئمة - في كتابه - ترتيب زمانهم، لا تقديم الأفضل، فأبو حنيفة أدرك الصحابة - رضي الله عنهم - فهو من التابعين، ومالك كان بعده وأدركه، والشافعي أدرك مالكاً، وأحمد أدرك الشافعي - رضي الله عنهم أجمعين(1).
(6) أسلوب المؤلف في الكتاب:
إن أسلوب المؤلف يغلب عليه طابع السجع في أسلوب سهل غيرمعقد مع ما فيه من جزالة في الألفاظ وإحكام في الصياغة.
مصادر المؤلف في الكتاب:
لقد ذكر المؤلف بعض المصادر والمراجع التي اعتمد عليها في كتابه، وتلك من الممميزات التي تذكر له فتُشكر، وقد أورد تلك المراجع بعد إتمام كتابه فقال المؤلف:
فصل في ذكر سفيان الثوري رضي الله عنه.
فأما سفيان الثوري فكان مفتي عصره، وإمام أئمة مصره، علماً وورعاً وزهداً، وفصاحة ورجاحة وتقوى، وتفننا في جميع علوم الشرع - رضي الله عنه - إلا أنه لم يبق الآن من ينتسب إليه وإلى مذهبه ويناظر فيه.
__________
(1) ر: المخطوطة ورقة 139/ب.(7/19)
فاقتصرت على ذكر هؤلاء الأربعة المشهورين - رضي الله عنهم أجمعين -، وما أوردته في هذا المختصر من الأخبار والآثار فمن: كتاب (الموطأ) لمالك، ومن (مسند الشافعي)، ومن (مسند أحمد بن حنبل)، ومن الجامعين الصحيحين (البخاري) و(مسلم)، ومن (سنن أبي داود)، و(جامع أبي عيسى الترمذي)، و (سنن النسائي)، وما فيه من مناقب الأئمة الأخيار. فمن الكتب المصنفة في مناقبهم من تصانيف عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، ومن (تاريخ بغداد) للخطيب أبي بكر بن ثابت، ومن (حلية الأولياء) للحافظ أبي نعيم، ومن (شعار الصالحين) لأبي سعد، ومن (تاريخ نيسابور) للحاكم، ومن (رسالة الأستاذ أبي القاسم القشيري)، وغير ذلك من الكتب المشهورة، ومن (تصانيف أبي عبد الرحمن السُّلمي)، (وأبي بكر البيهقي)، ومن غير ذلك، وكلها مسموعة لي، وإنما تركت ذكر إسنادها إيثاراً للاختصار، وراعيت في ترتيب الأئمة ترتيب زمانهم، لا تقديم الأفضل، فأبو حنيفة أدرك الصحابة - رضي الله عنهم - فهو من التابعين، ومالك كان بعده وأدركه، والشافعي أدرك مالكاً، وأحمد أدرك الشافعي رضي الله عنهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. اهـ(1)
تلك بعض المصادر التي ذكرها المؤلف بعد تمام كتابه، وهناك مصادر أخرى اعتمد عليها المؤلف وذكرها في ثنايا كتابه وهي:
أخبار أبي حنيفة وأصحابه - للقاضي أبي عبد الله الحسين بن علي بن جعفر الصيمري.
طبقات الفقهاء - للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروزآبادي.
نسب قريش وأخبارها - للعلامة الزبير بن بكار بن عبد الله الزبيري القرشي المكي.
تصانيف الإمام الحافظ أبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي، ومن تلك المصنفات: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة )، و(السنن).
__________
(1) ر: المخطوطة ورقة 139/أ، 139/ب.(7/20)
وقد نقل المؤلف من أقوال الإمام اللالكائي ومصنفاته في مواضع متعددة من كتابه.
الأحاديث والآثار والأخبار التي يرويها المؤلف بإسناده عن أبيه أبي طاهر إبراهيم بن أحمد السلماسي غالباً، أو عن غيره من العلماء والمحدثين من شيوخه.
قيمة الكتاب العلمية:
تبرز أهمية الكتاب وقيمته العلمية من خلال موضوعه الذي يوضح عقيدة الأئمة الأربعة، وهي عقيدة السلف التي أجمع عليها الصحابة - رضي الله عنهم -، والتابعون لهم بإحسان من الأئمة الأعلام، فإن الأئمة الأربعة قد علا شأنهم، وعظم مقامهم، واشتهر إخلاصهم واجتهادهم في فقه الكتاب والسنة، فأصبحوا المقتدى بهم في الإسلام، والمعتمد على أقوالهم وفقههم بين الأنام، واعترفت الأمة لهم بالعلم والفضل والإمامة، فانتشر مذهبهم في سائر المعمورة.
وإن في بيان وحدة معتقدهم، وإيضاح مجمل اعتقادهم وموافقته للكتاب والسنة والمأثور عن سلف الأمة: إقامة للحجة على كل من يتبع مذاهب هؤلاء الأئمة وهو مخالف لهم في العقيدة.
"فمن قال: أنا شافعي الشرع، أشعري الاعتقاد، قلنا له: هذا من الأضداد لا بل من الارتداد، إذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد، ومن قال: أنا حنبلي في الفروع، معتزلي في الأصول، قلنا: قد ضللت إذًا عن سواء السبيل فيما تزعمه، إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد"(1).
__________
(1) من كلام الإمام شيخ الحرمين أبي الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي المتوفى سنة 532هـ في كتابه (الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاما لذوي البدع والفضول) ونقله الإمام ابن تيمية -رحمه الله-(ر: مجموع الفتاوى 4/176،177).(7/21)
كما أن بيان معتقدهم فيه إبطال للآراء المكذوبة المنسوبة إلى هؤلاء الأئمة أو أحدهم، وفيه رد على من زعم أن العقيدة السلفية ابتدعها ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله -، بل إن العقيدة السلفية هي عقيدة الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء والأئمة المعتبرين.
ولم يسبق أحد من العلماء المؤلف في كتابته في هذا الموضوع المهم، وهو جمع عقيدة الأئمة الأربعة خاصة - فيما أعلم، والله أعلم.
وقد اطلع الحافظ ابن عساكر على الكتاب وقال عنه: ووقعت له - أي للمؤلف - على كتاب صنفه في فضل الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، ما به بأس(1).
بذلك تتضح لنا أهمية الكتاب - خاصة أنه لم يسبق طباعته من قبل - والحاجة ماسة إلى نشره بين الناس، لتقوم به الحجة، وتتضح به المحجة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
(9) المآخذ على الكتاب:
إن هذا الكتاب على الرغم من قيمته العلمية التي قد بيَّناها، فإنه عمل وجهد بشري معرّض للخطأ والنقص والنسيان، ووجود بعض المآخذ أو الملحوظات على الكتاب لا تقلل من قيمته أو تحط من منزلة مؤلفه - رحمه الله تعالى -، ولكنه واجب النصيحة التي أمرنا بها النبي صلى الله عليه وسلّم أن تكون لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
ومن أهم هذه الملحوظات ما يأتي:
- أن المؤلف لم يلتزم - بما أورده في مقدمته - بذكر فصول ونصوص من عقيدة الأئمة الأربعة تدل على اتفاقهم في العقيدة وعدم اختلافهم، فإن العقيدة التي ذكرها المؤلف لم ينقل في تأييدها عن الأئمة الأربعة إلا نصوصاً يسيرة، وقد كان الواجب عليه أن يفي بما التزم به بالتركيز على نقل أقوال الأئمة الأربعة التي يستدل بها على اتفاقهم في المعتقد.
وأسأل الله عز وجل أن يعينني على إكمال هذا النقص ببحث مستقل في جمع أقوال الأئمة الأربعة في العقيدة، والله المستعان.
__________
(1) ر: تاريخ دمشق64/45.(7/22)
- خطأ المؤلف - عفا الله عنا وعنه - في نسبته مذهب التفويض في صفات الله عز وجل إلى السلف والأئمة الأربعة رضي الله عنهم، مع أن المؤلف قد أتى بالمنهج الصحيح الذي عليه السلف في إثبات صفات الله عز وجل وأسمائه، كما أنه نقل أقوالا صريحة للأئمة في إثباتهم لصفات الله عز وجل ومعرفة معانيها وتفويض كيفيتها إلى الله عز وجل، وقد قمت - بتوفيق الله وعونه - بالتعليق على ذلك في موضعه من الكتاب.
- إيراده لبعض الأحاديث والأخبار الضعيفة والمكذوبة دون بيان حالها، مع أن في الأحاديث والآثار الصحيحة التي أوردها المؤلف ما يغني عنها.
- استرساله في مقدمة الكتاب وإطالة الكلام فيها، إلى حد الزيادة عن بعض فصول الكتاب نفسه، علماً بأنه قد التزم في كتابه الإيجاز والاختصار. والله أعلم.
المبحث الثالث: منهج التحقيق
أولاً:- وصف المخطوطة.
لقد اعتمدت في تحقيق الكتاب على نسخة فريدة للمخطوطة، على الرغم مما بذلته من جهد ووقت ومال في سبيل الحصول على نسخة أخرى للكتاب، فقد اطلعت على معظم فهارس المخطوطات الموجودة بمكتبات العالم، وسافرت إلى تركيا وغيرها من البلدان، ولكن لم أوفق في العثور على نسخة أخرى للمخطوطة، كما أن د/ رمضان ششن لم يذكر نسخة أخرى للكتاب في تعريفه بالمخطوطة ضمن كتابه: مختارات من المخطوطات العربية النادرة في مكتبات تركيا(1).
- أما النسخة الفريدة للمخطوطة، فهي نسخة خطية ضمن مجموع يحتوي على عدة كتب بمكتبة (فاتح) تحت رقم 4445/2 ضمن المكتبة السليمانية بمدينة إستانبول بتركيا.
__________
(1) ر: الكتاب المذكور ص214 إعداد د. رمضان ششن، منشورات وقف إيسار - إستانبول، سنة 1977م. وقد ذكر د. رمضان عن المخطوطة أنها كتبت في القرن التاسع وأنها في مكتبة فاتح تحت رقم (4445/2).(7/23)
- عدد الأوراق والأسطر: إن النسخة الفريدة للمخطوطة تقع ثاني الكتب الموجودة ضمن المجموع المشار إليه سابقاً، وتأتي بعد كتاب (فضائل الخلفاء الراشدين) للإمام ابن قدامة المقدسي.
وتتكون النسخة الفريدة من (51) ورقة، تبدأ من الورقة رقم (89) وتنتهي بالورقة رقم (139) من المجموع. وتحتوي كل صفحة من النسخة على ما بين (22 إلى 25) سطراً في المتوسط، ويتراوح عدد الكلمات في السطر الواحد ما بين (8 إلى 10) كلمات تقريبا.
- وصف الصفحة الأولى والأخيرة:
كتب في أعلى الصفحة الأولى عنوان الكتاب واسم مؤلفه كالآتي:
(كتاب فيه منازل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين).
تأليف الشيخ الإمام القاضي أبي زكريا يحيى بن إبراهيم بن أحمد ابن محمد السلماسي الفقيه - رحمه الله تعالى -.
وأما الصفحة الأخيرة فقد كتب في نهايتها (تم الكتاب بحمد الله ومنِّه فالله ينفع الكافة من المسلمين به بمنه وكرمه).
- اسم الناسخ وتاريخ النسخ:
لقد كتبت النسخة بخط نسخ واضح جيد، وقد كتب الناسخ اسمه في نهاية المخطوطة كالآتي:
(كتبه الفقير إلى الله تعالى داود بن سليمان بن عبد الله الحنبلي(1) عفا الله عنه وعن والديه وعن جميع المسلمين آمين).
وهذا الناسخ - رحمه الله - قد نسخ الكتب الموجودة في (المجموع) المشار إليه سابقاً حيث انتهى من النسخ يوم الأحد ثالث عشر ربيع الأول من شهور سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، كما ذُكِر ذلك في (المجموع). فالمخطوطة قد كتبت إذن في بداية القرن التاسع الهجري.
ويلاحظ من عادة الناسخ - رحمه الله - في نسخه ما يأتي:
أنه يضبط بعض الكلمات بالشكل.
__________
(1) قلت: هو الفقيه الحنبلي داود بن سليمان بن عبد الله الزين، الموصلي، ثم الدمشقي، ولد- تقريبا - سنة 764هـ، وكان شيخاً، صالحاً، فاضلاً، مات سنة 844هـ. (ر: ترجمته في الضوء اللامع 3/212، السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة1/393 لمحمد بن عبد الله النجدي).(7/24)
أنه يلحق السقط أو التصويب أو التوضيح أو التعليق بالهامش مع وضع إشارة تدل عليه.
أنه يفصل بين العبارات والآثار والروايات الواردة في الكتاب بدائرة مغلقة وفي داخلها نقطة، وهذا الصنيع يدل على أن هذه النسخة قد عورضت بعد الفراغ من كتابتها(1).
وهذه أمور تدل على ضبط الناسخ ودقته وعلمه أثناء الكتابة والمطابقة.
ثانيا: منهجي في التحقيق:
يتلخص عملي في تحقيق الكتاب بالأمور الآتية:
تحقيق النص وضبطه وتقويمه، وذلك بتصحيح ما اعتراه من تصحيف أو تحريف وإكمال ما سقط منه، وإضافة ما يقتضي السياق إضافته، واعتمدت في ذلك على مقابلة النسخة الفريدة للكتاب بالمصادر التي نقل منها المؤلف في كتابه واعتمد عليها، والتي قد سبق ذكرها.
عزوت الآيات القرآنية الكريمة إلى سور القرآن الكريم مبيناً اسم السورة ورقم الآية.
خرّجت الأحاديث النبوية الشريفة من مظانها في كتب السنة النبوية المطهرة، فإن كان الحديث في الصحيحين اكتفيت بالعزو إليهما وقد أزيد عليهما، وإن كان في غيرهما عزوته إلى مظانه ما أمكن.
عزوت الآثار والأقوال إلى مظانها من المصادر كالكتب الحديثية والتأريخية والتراجم وغيرها.
عرَّفت بأكثر الأعلام والأماكن الواردة في الكتاب، مع بيان المصادر بإيجاز.
عرَّفت الفرق الواردة في الكتاب.
شرحت المفردات اللغوية الغريبة.
نسبت الأبيات الشعرية إلى قائلها، وعزوت ما أمكن منها إلى مظانها من المراجع.
علقت على بعض فقرات الكتاب في المواضع التي ارتأيت أن الحاجة تمس إلى زيادة بيان أو توضيح أو تعليق، وخاصة فيما يتعلق بالمسائل العقدية.
رقمت فصول الكتاب وأقسامه حسب ترتيب المؤلف، ووضعت عناوين جانبية توضح المقصود.
وضعت جملة من الفهارس العلمية للكتاب.
ثالثاً: المصطلحات والرموز المستخدمة في التحقيق:
__________
(1) ر: الجامع لأخلاق الراوي 1/273 للخطيب البغدادي، تحقيق: د. محمود الطحان.(7/25)
استخدمت في تحقيق الكتاب والتعليق عليه جملة من الرموز لأجل الاختصار ولكثرة التكرار، وهذه الرموز كالآتي:
الرمز
معناه
ص
نسخة المخطوطة الأصل
فتح
صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري للحافظ ابن حجر
شرح الأصول
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة- للحافظ اللالكائي
البيهقي في المناقب
مناقب الإمام الشافعي - لللحافظ البيهقي
ابن الجوزي في المناقب
مناقب الإمام أحمد بن حنبل – للحافظ ابن الجوزي
الحلية
حلية الأولياء – للحافظ أبي نعيم
سير الأعلام
سير أعلام النبلاء – للحافظ الذهبي
ر
راجع أو انظر
[ ]
ما بين المعقوفتين من إضافات المحقِّق وتصويباتها.
P45
غلاف المخطوط والصفحة الأولى من المخطوطة
P46
الصفحة الأخيرة من المخطوطة(7/26)
الفهارس
فهرس الأحاديث النبوية
نص الحديث الشريف ... رقم الصفحة
- أبرأ إلى كل ذي خلة ... 126
- أبوبكر وزيري ... 136
- أجعلتني لله نداً ... 149
- أحد أحد ... 148
- إذا ذكر القدر فأمسكوا ... 139
- أكثر أهل الجنة البُله ... 91
- ألا هل بلغت ... 97
- أمرت أن أقاتل الناس ... 93، 189
- إن أمتي لا تجتمع على الضلالة ... 74
- إنْ استعملت عليكم رجلاً ... 138
- إن العالم إذا اختفى ... 188
- إن الله اختارني ... 136
- إن الله اختارني واختار ... 136
- إن الله يأمرني بالجماعة ... 75
- إن الله يمن على أهل ... 220
- إن المسلم إذا سئل ... 119
- إن الملائكة لتضع ... 187
- إن حوضي لأبعد ... 121
- إن لله ملائكة ... 128
- إن مثل ما بعثني الله ... 71
- إن مثل هذا الدين ... 115
- إن معاوية صعلوك ... 209
- أنا أغنى الشركاء ... 148
- أنا أول الناس خروجاً ... 122
- أنا حظكم من الأنبياء ... 81
- إنكم سترون ربكم ... 123
- أيها الزهاد المراؤن (حديث قدسي) ... 51
- الأزد جرثومة ... 199
- الإسلام عشرة أسهم ... 116
- الإسلام علانية ... 113
- الأنبياء أحياء في قبورهم ... 126
- الإيمان قول منقول ... 115
- الدال على الخير كفاعله ... 165
- الزيادة النظر إلى الله ... 123
- العلم يؤتى ولا يأتي ... 187
- الله الله في أصحابي ... 137
- المراء في القرآن ... 110
- بينما نحن عند رسول الله ... 114
- حتى يضع الرب فيها ... 217
- خط لنا رسول الله ... 87
- رفع القلم عن ثلاث ... 89
- ستفترق أمتي ... 153
- شفاعتي لأهل الكبائر ... 122
- صلاة الجماعة تفضل ... 229
- طلب العم فريضة ... 167
- عليكم بسنتي ... 66
- فإن لم تجد في سنة ... 77
- قسم الله العقل ... 89
- كان النبي يبعث إلى ... 129
- لا تجتمع أمتي على ... 73
- لا تسافروا بالقرآن ... 110
- لا تسبوا قريشاً ... 219
- لا تسبوا مضر وربيعة ... 232
- لا صلاة إلا بفاتحة ... 133(8/1)
- لا يجتمع حب هؤلاء ... 137
- لكل نبي دعوة ... 122
- من أحب أبا بكر ... 137
- من أحيا سنتي ... 66
- من أراد بحبوحة ... 74
- من أكل طيباً وعمل ... 66
- من تفقه في دين الله ... 164
- من تواضع للعلم رفعه ... 188
- من جاء إلى أمتي ... 73
- من حلف بغير الله ... 148
- من خرج عن الطاعة ... 73
- نعم تلك سورة ... 206
- وأنه يضحك من عبده ... 217
- وهل ترك عقيل لنا ... 215
- يأبى الله ذلك والمسلمون ... 135
- يا عم إن آمنت ... 228
- يتعاقبون فيكم ملائكة ... 130
- يد الله على الجماعة ... 73
- يضرب الصراط بين ... 121
- يملأ عالم قريش ... 194
- يوشك أن يضرب ... 180-183
فهرس الأعلام
الاسم ... رقم الصفحة
- إبراهيم بن خالد الكلبي (أبو ثور) ... 202
- إبراهيم بن علي الشيرازي ... 166
- أبوبكر بن عياش ... 68
- أحمد بن فرج البصري (ابن أبي داود) ... 175
- أحمد بن محمد بن الحجاج (أبو بكر المروزي) ... 249
- أرسطاطاليس ... 207
- إسحاق بن راهوية ... 69
- إسماعيل بن يحيى المزني ... 226
- الحسن بن علي الكرابيسي ... 224
- الحسين بن علي الصيمري ... 161
- الربيع بن سليمان الجيزي ... 227
- الربيع بن سليمان المرادي ... 227
- الزبير بن بكار ... 181
- السائب بن عبيد ... 198
- القاسم بن سلام الهروي ... 221
- المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي ... 192
- بشر بن الحارث المروزي ... 242
- داود بن نصير الطائي ... 178
- ذو النون المصري ... 230
- زفر بن الهذيل العنبري ... 176
- سعيد بن أحمد بن حنبل ... 236
- سعيد بن جبير ... 65
- سفيان بن سعيد الثوري ... 67
- شافع بن السائب ... 198
- صالح بن أحمد بن حنبل ... 248
- عبد الأعلى بن حماد النصيري ... 249
- عبد الرحمن بن أبي حاتم ... 239
- عبد الرحمن بن عمر الأوزاعي ... 67
- عبد الرحمن بن مهدي ... 68
- عبد العزيز بن أبي حازم ... 172
- عبد العزيز بن أبي رواد ... 172(8/2)
- عبد الله بن أحمد بن حنبل ... 248
- عبد الله بن الحارث بن جزاء الزبيدي ... 164
- عبد الله بن الزبير الحميدي ... 226
- عبد الله بن المبارك ... 171
- عبد الله بن محمد الأنصاري ... 144
- عبد الله بن وهب المصري ... 192
- عبد الملك ابن جريج ... 186
- عبد الملك بن عبد الله الجويني ... 149
- عثمان بن عيسى بن كنانة ... 193
- عطاء بن أبي رباح القرشي ... 69
- عمر بن عبد العزيز ... 140
- فضيل بن عياض ... 172
- قتيبة بن سعيد الثقفي ... 68
- محمد بن إبراهيم بن دينار ... 192
- محمد بن أبي العباس الأبيوردي ... 246
- محمد بن إسحاق بن منده ... 238
- محمد بن الحسن الشيباني ... 176
- محمد بن المنصور (الخليفة المهدي) ... 175
- محمد بن عمر الواقدي ... 182
- مساور الوراق ... 173
- مسعر بن كدام العامري ... 170
- موسى بن المهدي محمد (الخليفة الهادي) ... 175
- ميمون بن مهران ... 70
- هارون بن محمد (الخليفة الرشيد) ... 175
- هبة الله بن الحسن البصري ... 176
- يحيى بن سعيد القطان ... 68
- يحيى بن معين ... 226
- يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (أبو سف) ... 175
- يوسف بن عبد الله (ابن عبد البر النمري) ... 171
- يوسف بن يحيى (أبو يعقوب البويطي) ... 227
- يونس بن عبد الأعلى ... 205
فهرس الأبيات الشعرية
صدر البيت ... القافية ... رقم الصفحة
إذا العلماء يوما قاسونا ... طريفة ... 173
إذا قيل من نجم الحديث ... مالكا ... 190
أريد من الأخوان كل مواتي ... عثراتي ... 212
ألا إن فقد الحلم في فقد مالك ... مالك ... 189
تصرمت الدنيا فليس لها خلود ... سيبيد ... 177
حتى إذا ختموا منها بعالمها ... منكدر ... 190
ديني حديث المصطفى وشريعتي ... بالإحسان ... 255
ذهب الفقه فلا فقه لكم ... خلف ... 174
زمانك ذا زمان بني الغرامة ... الاسقامة ... 49
زادت مناقبه على المدح إذا ... الحجر ... 195(8/3)
سقى الأطف الساري ضريح ابن حنبل ... أغيد ... 246
شهدت بأن الله لا شيء غيره ... وأخلص ... 141
كالبدر من حيث التفت رأيته ... ثاقباً ... 61
كفى حزنا أن لا حياة هنية ... صالح ... 169
لا تأس في الدنيا على فائت ... والعافية ... 212
لا قصرا عنها ... أطوالها ... 213
لقد زان البلاد ومن عليها ... أبو حنيفة ... 173
لله ما لقي ابن حنبل صابراً ... أعوان ... 256
لم يبرح الناس حتى أحدثوا بدعا ... الرسل ... 213
وجدت أبا حنيفة كل يوم ... خيراً ... 172
وختمي بالسلام على إمام ... بيتاً ... 231
وشيبة الحمد الذي كان ووجهه ... البدر ... 197
يأبى الجواب فما يكلم هيبة ... الأذقان ... 180
يا ناظري بالكسوة البالية ... عالية ... 221
فهرس المراجع
أحكام القرآن ـ للإمام الشافعي ـ جمع الحافظ (أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ت 458هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ.
أحاديث في ذم الكلام وأهله ـ للإمام أبي الفضل المقري ـ تحقيق: د/ ناصر الجديع، ط(1)، دار أطلس، الرياض، 1417هـ - 1996م.
أخبار أبي حنيفة وأصحابه ـ (للقاضي أبي عبد الله حسين بن علي الصميري ت 436هـ) ط (2)، دار الكتاب العربي، بيروت.
الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة (الموضوعات الكبرى) للعلامة (علي القاري)، تحقيق محمد الصباغ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1391هـ.
أصول الدين عن الأئمة الأربعة واحدة ـ (د.ناصر القفاري)، ط (1)، دار الوطن، الرياض 1414هـ.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ للإمام ابن تيمية، تحقيق د.صلاح الدين المنجد، ط (1)، دار الكتاب الجديد، بيروت 1396هـ.
الأنساب ـ للسمعاني (أبي سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي ت 562هـ)، تعليق عبد الله عمر البارودي، دار الكتب العلمية، بيروت.(8/4)
الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة ـ للإمام الحافظ ابن بطة (أبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري ت 387هـ)، تحقيق ـ رضا بن نعسان معطي، ط (2)، دار الراية ـ الرياض 1415هـ.
الإحكام في أصول الأحكام ـ (سيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي ت 631هـ)، تعليق عبد الرزاق عفيفي، ط (1)، مؤسسة النور، الرياض ـ 1387هـ.
الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ـ (للقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني ت 404هـ)، تحقيق محمد زاهد الكوثري، ط(2)، مؤسسة الخانجي، مصر، 1382هـ.
الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء ـ للإمام ابن عبد البر (أبي عمر يوسف بن عبد البر الأندلسي ت 463هـ)، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ط (1)، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب 1417هـ.
تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام ـ للإمام (شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي ت 748هـ)، تحقيق د.عمر بن عبد السلام، ط (1) دار الكتاب العربي، بيروت، 1415هـ.
تاريخ مدينة دمشق ـ للحافظ ابن عساكر (أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي ت 571هـ)، تحقيق محبب الدين العمروي، دار الفكر، بيروت.
تذكرة الحفاظ ـ (للإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي)، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك ـ للقاضي عياض (أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي ت 544هـ)، تحقيق د.أحمد بكير محمود، ـ دار مكتبة الحياة ـ بيروت ـ 1387هـ.
تفسير القرآن العظيم ـ للإمام (أبي الفداء إسماعيل ابن كثير القرشي، ط (1)، دار المعرفة، بيروت، 1407هـ.
تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة ـ (علي بن محمد بن عراق)، مراجعة عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله الغماري، 1375هـ.
تهذيب الأسماء واللغات ـ (لأبي زكريا محي الدين بن شرف النووي ت 676هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت.(8/5)
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ـ للشيخ (سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب)، المكتب الإسلامي، بيروت، 1397هـ.
الجامع الصحيح ـ للإمام البخاري (محمد بن إسماعيل البخاري ت 256هـ) مع شرحه فتح الباري.
الجامع الصحيح ـ للإمام الترمذي (محمد بن عيسى الترمذي ت 279هـ)، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط (1)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1356هـ.
الجامع الصحيح للإمام مسلم (مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ت 261هـ) بتحقيق فؤاد عبد الباقي، ط (1)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1375هـ.
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ـ للإمام (ابن القيم الجوزية)، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة ـ للإمام (أبي القاسم إسماعيل بن محمد الأصفهاني ت 535هـ)، تحقيق محمد ربيع المدخلي، محمد أبو رحيم، ط (1)، دار الراية الرياض ـ 1411هـ.
الحدائق في علم الحديث والزهديات ـ (لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي ت 597هـ)، تحقيق مصطفى السبكي، ط (1)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ.
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ـ للحافظ أبي نعيم (أحمد بن عبد الله الأصفهاني ت 430هـ)، المكتبة السلفية ـ مصر.
درء تعارض العقل والنقل ـ للإمام (ابن تيمية)، تحقيق د. محمد رشاد سالم، ط (1)، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض.
ذم الكلام وأهله ـ للإمام (أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي الأنصاري)، تحقيق عبد الله الأنصاري، ط (1)، مكتبة الغرباء، المدينة المنورة، 1319هـ.
الزهد ـ للإمام (أحمد بن حنبل ت 241هـ)، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
الزهد ـ للإمام (وكيع بن الجراح ت 197هـ)، تحقيق عبد الرحمن الفرايوائي، مكتبة الدار ـ المدينة المنورة ـ 1404هـ.
سلسلة الأحاديث الصحيحة ـ للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ـ للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.(8/6)
السنة ـ لأبي عاصم (الحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك ت 287هـ)، تحقيق وتخريج ـ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط (1)، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400هـ.
سنن أبي داود ـ للحافظ (أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275هـ)، تحقيق محمد محي الدين، دار الباز، مكة المكرمة.
سنن الدارمي ـ (لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ت255هـ)، عناية محمد أحمد دهمان، دار إحياء السنة النبوية، بيروت.
السنن الكبرى ـ للحافظ (أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ت 302هـ) تحقيق د.عبد الغفار سليمان وسيد كسروي، ط(1)، دار الكتب العلمية، بيروت 1411هـ.
سنن النسائي المجتبى ـ للحافظ النسائي، ط (1) مكتبة مصطفى الحلبي، مصر، 1383هـ.
سير أعلام النبلاء ـ للإمام الذهبي (محمد بن أحمد الذهبي ت 748هـ)، د.شعيب الأرناؤط، ط (2)، مؤسسة الرسالة، بيروت 1402هـ.
شرح جوهرة التوحيد ـ (إبراهيم بن محمد البيجوري ت 1277هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ.
الشريعة ـ للإمام (أبي بكر محمد بن الحسين الآجري ت 360هـ)، تحقيق د. عبد الله الدميجي، ط (1) دار الوطن، الرياض.
الضعفاء الكبير ـ (لأبي جعفر محمد بن عمرو العقيلي المكي ت 322هـ)، تحقيق عبد المعطي قلعجي، ط (1)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1402هـ.
طبقات الحنابلة ـ (للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى)، دار المعرفة، بيروت.
طبقات الشافعية الكبرى ـ (تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي السبكي ت 771هـ)، تحقيق: عبد الفتاح الحلو، ومحمود الطناجي، دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة.
طبقات الفقهاء ـ (لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي ت 393هـ)، تحقيق دار إحسان عباس، دار الرائد العربي، بيروت، 1978م.
عقود الجمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ـ (لشمس الدين محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي ت 942هـ)، مكتبة الإيمان، المدينة.(8/7)
العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية ـ (لأبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني (إمام الحرمين) ت 478هـ)، تحقيق د.أحمد حجازي السقا، ط (1)، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1398هـ.
العلم ـ (لأبي زهير بن حرب النسائي ت 234هـ)، تحقيق الشيخ الألباني، دمشق.
الفرق بين الفرق ـ (للعلامة عبد القاهر بن طاهر البغدادي ت 249هـ)، تحقيق محمد محي الدين، دار المعرفة، بيروت.
الفقيه والمتفقة ـ (للخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت ت 463هـ)، تحقيق إسماعيل الأنصاري، دار إحياء السنة، بيروت، 1395هـ.
القاموس المحيط ـ للفيروز آبادي (مجد الدين محمد بن يعقوب ت 817هـ)، ط (2) مؤسسة الرسالة، بيروت، 1407هـ.
اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ـ (للسيوطي ت911هـ)، بيروت، 1395هـ.
لسان الميزان ـ للحافظ (أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت 852هـ)، ط (1) مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1390هـ.
المؤطأ ـ للإمام مالك بن أنس، تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية، بيروت.
مجمع الزوائد ومنبع الفوئد ـ للحافظ الهيثمي (نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي ت 807هـ)، مؤسسة المعارف، بيروت، 1406هـ.
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي، تصوير، ط (1)، 1398هـ.
المحصول في علم أصول الفقه ـ (فخر الدين محمد بن عمر الرازي ت 606هـ)، ط (1)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ.
المختصر المحتاج إليه من تاريخ الحافظ أبي عبد الله محمد بن سعيد بن يحيى ابن الدبيثي ـ اختصره الإمام الذهبي، ط (1)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ.
مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر (للعلامة محمد بن مكرم المعروف بابن منظور ت 711هـ، تحقيق روحية النحاس ومحمد مطيع الحافظ، ط (1)، دار الفكر، بيروت، 1411هـ.(8/8)
المدخل إلى السنن الكبرى ـ للحافظ أبي بكر البيهقي (أحمد بن الحسين البيهقي ت 458هـ) تحقيق د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، بيروت.
المستدرك على الصحيحين في الحديث ـ للحافظ الحاكم (أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري ت 405هـ) وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي، دار المعرفة، بيروت.
مسند الإمام أحمد بن حنبل ـ للإمام (أحمد بن حنبل الشيباني ت 241هـ)، ط (2)، دار الكتب العلمية، بيروت 1398هـ.
مشيخة ابن الجوزي ـ (للحافظ ابن الجوزي)، تحقيق محمد محفوظ، ط (1)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1400هـ.
المصنوع في معرفة الحديث الموضوع (الموضوعات الصغرى) ـ للعلامة (علي القاري الهروي المكي ت 1014هـ)، تحقيق عبد الفتاح أبو عدة، ط (4)، مكتبة الرشد، الرياض، 1404هـ.
معجم البلدان ـ للعلامة (شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت الحموي)، دار صادر، بيروت.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع ـ (عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي ت 487هـ)، تحقيق مصطفى السقا، ط (3)، عالم الكتب، بيروت، 1403هـ.
المغني في الضعفاء ـ للإمام الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت 748هـ) تحقيق نور الدين عتر، ط (1)، دار المعارف، سوريا.
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ـ للإمام (أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ت 330هـ)، تحقيق محمد محي الدين، ط (2)، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1389هـ.
الملل والنحل ـ (لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ت 548هـ)، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، 1404هـ.
مناقب الإمام أحمد بن حنبل ـ للحافظ (أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ت 597هـ)، تحقيق د.عبد الله التركي، ط (1)، مكتبة الخانجي، مصر، 1399هـ.
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ـ (للحافظ ابن الجوزي)، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، 1358هـ.
المنجد في اللغة والأعلام ـ ط (27)، المكتبة الشرقية، بيروت.(8/9)
ميزان الاعتدال في نقد الرجال ـ للإمام الذهبي، تحقيق علي البجاوي، ط (1)، دار المعرفة، بيروت، 1382هـ.
النهاية في غريب الحديث والأثر ـ للإمام (مجد الدين المبارك بن محمد (ابن الأثير) ت 606هـ)، أنصار السنة المحمدية ـ لاهور ـ باكستان.
نواسخ القرآن ـ للحافظ (أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي)، تحقيق محمد أشرف الملباري، ط (1)، المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، 1404هـ.
فهرس الموضوعات العام
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 5
القسم الأول: دراسة المؤلف والكتاب ... 9
المبحث الأول: ترجمة المؤلف ... 11
المبحث الثاني: دراسة الكتاب ... 26
المبحث الثالث: منهج التحقيق ووصف المخطوطة ... 38
القسم الثاني: نص الكتاب المحقق ... 45
مقدمة المؤلف ... 47
القسم الأول: في بيان حجج الشريعة ... 57
الفصل الأول: في الركن الأول ... 59
الفصل الثاني: في الركن الثاني ... 64
الفصل الثالث: في الركن الثالث ... 72
الفصل الرابع: في ذكر القياس ... 76
القسم الثاني: في ذكر المقدمات ... 79
الفصل الأول: في بيان الأمة ... 81
الفصل الثاني: في ذكر الأمة ... 83
الفصل الثالث:في ذكر الاتباع وترك الابتداع ... 89
الفصل الرابع: في كمال الدين ... 97
القسم الثالث: في حمل الاعتقاد ... 99
الفصل الأول: في إثبات العلم بالذات والأسماء والصفات ... 101
الفصل الثاني: في ذكر الأفعال وما جاء من الوعد والوعيد في المآل ... 117
الفصل الثالث: في بيان الرسالة والنبوة ... 125
الفصل الرابع: في ذكر الإمامة والخلافة والأئمة والخلفاء ... 134
القسم الرابع: في ذكر الأئمة ... 157
فصل: في ذكر أبي حنيفة ... 159
الفصل الأول: في نسبه وحليته ... 161
الفصل الثاني: في ذكر علمه وورعه وزهده ... 168
الفصل الثالث: في ثناء الأئمة عليه ومدح الناس له ... 171
الفصل الرابع: في ذكر أصحابه ... 175
فصل: في ذكر مالك ... 179
الفصل الأول: في ذكر نسبه وحليته ... 181(8/10)
الفصل الثاني: في ذكر علمه وزهده وورعه ... 183
الفصل الثالث: في ثناء الناس عليه ... 186
الفصل الرابع: في ذكر أصحابه ... 192
فصل: في ذكر محمد بن إدريس الشافعي ... 194
الفصل الأول: في نسبه وسنه وحليته ووقاره ... 196
الفصل الثاني: في علمه وزهده وورعه ... 201
الفصل الثالث: في ثناء الناس عليه ... 218
الفصل الرابع: في ذكر أصحابه ... 226
فصل: في ذكر أحمد بن محمد بن حنبل ... 230
الفصل الأول: في نسبه وحليته ومولده ووفاته ... 232
الفصل الثاني: في علمه وورعه وزهده ... 237
الفصل الثالث: في ثناء الناس عليه ... 241
الفصل الرابع: في ذكر أصحابه ... 248
خاتمة الكتاب ... 257
الفهارس ... 257
فهرس الأحاديث النبوية ... 259
فهرس الأعلام ... 264
فهرس الأبيات الشعرية ... 268
فهرس المراجع ... 270
فهرس الموضوعات العام ... 280(8/11)