التنقيح في حديث التسبيح
شرح حديث: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
ويليه
-[ تحفة الإخباري بترجمة البخاري ]-
للحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي
777 - 842
تحقيق وتعليق
محمد بن ناصر العجمي
دار البشائر الإسلامية
الطبعة الأولى
1413 هـ - 1993 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
وهو حسبنا ونعم الوكيل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمدٍ خاتم النبيين والمرسلين، وأكرم الأولين والآخرين، المبعوث هادياً للأمة، كاشفاً للغمة، والمنعوت بالرأفة والرحمة، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الكرام المنتجبين، وتابعيهم بإحسانٍ إلي يوم الدين، وسلم تسليماً.
وبعد:
فهذه ترجمةٌ محررةٌ، وحليةٌ محبرةٌ، تكشف عن شمائل سلطان المحدثين، بل أمير المؤمنين، المقدم في هذا الشأن على أقرانه، أبي عبد الله البخاري أوحد زمانه، سميتها: ((تحفة الإخباري، بترجمة البخاري)).
فهو: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بذدزبة الجعفي، مولاهم البخاري، الإمام العلم، الحافظ أمير المؤمنين في الحديث، أبو عبد الله بن أبي الحسن رحمة الله عليه.
وجده بذدزبة مختلفٌ فيه فقيل فيه: بردزبه، (بالراء مكان الذال(1/177)
المعجمة)، ووجدته مقيداً في موضعين يزذبه بخط أبي جعفر بن أحمد بن محمد العبدري فيما قرأه على أبي مروان عبد الملك بن عبد الله بن مدرك العبدري في غرة شهر ربيع الآخر من سنة ستٍ وثمانين وأربع مئة.
وبذدزبة بالبخارية ومعناها: الزارع فيما ذكره أبو سعيد بكر بن منير بن خليد بن عسكر البخاري، وبذدزبة كان مجوسياً مات عليها. وأسلم ولده المغيرة على يدي اليمان بن أخنس بن خنيس والي بخارى جد المسندي أبي جعفر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان الجعفي، قال أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني الحافظ: ((ومحمد بن إسماعيل جعفي)) وقيل: لأن أبا جده أسلم على يدي أبي جد عبد الله بن محمد المسندي.
وقال أيضاً: سمعت الحسن بن الحسين، أبا علي البزاز البخاري يقول: ولد محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة لثلاث عشرة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومئةٍ. انتهى. وقال أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري، ثنا أبو جعفر محمد بن أبي حاتم الوراق: قال لي أبو عمرو المستنير بن عتيق: سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل متى ولدت فأخرج إلي خط أبيه: ولد محمد بن إسماعيل يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلةً مضت من شوالٍ سنة أربع وتسعين ومئة، قال مؤلفه -رحمه الله-: وكان مولده ببخارى وأضر في صغره.(1/178)
قال الحافظ أبو القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي في كتابه ((كرامات أولياء الله عز وجل)): أنا أحمد بن محمد بن حفص، أنا محمد بن أحمد بن سليمان، أنا خلف بن محمد، [حدثنا محمد بن أحمد بن] الفضل البلخي، سمعت أبي يقول: ذهبت عينا محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- في صغره فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل -عليه السلام- فقال لها: يا هذه، قد رد الله -عز وجل- على ابنك بصره لكثرة بكائك، أو كثرة دعائك -الشك من أبي محمد البلخي- فأصبحت وقد رد الله -تعالى- عليه بصره.
وحدث به أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي البلخي ببلخ فقال: سمعت محمد بن يوسف بن ديحان البخاري ببخارى أنبأ أبو عبد الله محمد بن محمدٍ البامياني ببخارى، حدثني أبو الحسن محمد بن نوح سمعت أحمد بن محمد بن الفضل البلخي، سمعت أبي يقول: كان محمد بن إسماعيل قد ذهب بصره في صباه، وكانت له والدة متعبدةٌ، فرأت إبراهيم خليل الرحمن -عليه السلام- في المنام فقال لها: إن الله -تبارك وتعالى- قد رد بصر ابنك عليه بكثرة دعائك، قال فأصبحت وقد رد الله عز وجل عليه بصره. وخرجه الحافظ أبو بكرٍ أحمد بن علي الخطيب في ((تاريخه)) من حديث علي بن محمد بن الحسين الفقيه، ثنا خلف بن محمد الختام، سمعت(1/179)
أبا محمدٍ المؤذن عبد الله بن محمد بن إسحاق السمسار، سمعت شيخي يقول: ذهبت عينا محمد بن إسماعيل في صغره، فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل -عليه السلام- فقال لها: يا هذه، قد رد الله على ابنك بصره، لكثرة بكائك، أو لكثرة دعائك، قال: فأصبح وقد رد الله -عز وجل- عليه بصره.
وقد بلغنا أن أباه أبا الحسن، إسماعيل، كان من خيار الناس، ووجدت في ((التاريخ الكبير)) لولده ما نصه: إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي أبو الحسن رأى حماد بن زيد صافح ابن المبارك بكلتا يديه وسمع مالكاً. [إن] لم يكن هذا والد البخاري فلا أدري [من] هو؟، وأبو الحسن والد البخاري، لما حضرته الوفاة، قال لأحمد بن حفصٍ: لا أعلم من مالي درهماً من شبهة ولا من حرام. ولما توفي نشأ ولده أبو عبد الله يتيماً في حجر أمه فأسلمته إلى معلم إلى أن كمل له عشر سنين.
روينا عن أبي جعفر محمد بن أبي حاتم وراق البخاري قال: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل: كيف كان بدء أمرك في طلب الحديث؟ قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب.
قلت: كم كان سنك؟ قال: عشر سنين، أو أقل. ثم خرجت من الكتاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره. فقال يوماً فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم، فقلت: يا شيخ، إن(1/180)
أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل، فدخل فنظر فيه، ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي، عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه، فقال لي: صدقت. فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة سنة. فلما طعنت في ست عشرة سنة، كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي وتخلفت بها في طلب الحديث.
فلما طعنت في ثماني عشرة سنة، جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وصنفت كتاب ((التاريخ)) عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليالي المقمرة. وقل اسمٌ في التاريخ إلا وله عندي قصةٌ، إلا أني كرهت تطويل الكتاب.
وقال أبو جعفر أيضاً: سمعت البخاري يقول: لو نشر بعض أستاذي هؤلاء لم يفهموا كيف صنفت كتاب ((التاريخ)) ولا عرفوه، ثم قال: صنفته ثلاث مرات. قال: وقال -يعني البخاري-: أخذ إسحاق بن راهويه(1/181)
كتاب ((التاريخ)) الذي صنفت، فأدخله على عبد الله بن طاهر، فقال: أيها الأمير، ألا أريك سحراً؟ فنظر فيه عبد الله بن طاهر، فتعجب منه وقال: لست أفهم تصنيفه.
قال القاضي أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي، سمعت أبا العباس بن سعيد يقول: لو أن رجلاً كتب ثلاثين ألف حديث لما استغنى عن كتاب ((تاريخ محمد بن إسماعيل البخاري)). خرجه الخطيب البغدادي في ((تاريخه)) من طريق الهاشمي. وقد بلغ رواة الحديث في ((كتاب التاريخ)) هذا قريباً من أربعين ألف رجل وامرأةٍ فيما قاله أبو الحسين بن محمد الماسرجسي وهذا هو ((التاريخ الكبير)).
وكذا ((التاريخ الأوسط)).
و((الصغير)) أيضاً.
وله من المصنفات غير ذلك منها:
كتاب ((القراءة خلف الإمام)).
وكتاب ((رفع اليدين في الصلاة)).
وكتاب ((الأدب)).
وكتاب ((الضعفاء الكبير)) و((الصغير)).
وكتاب ((المبسوط)) الذي جمع فيه كتبه على الأبواب فيما قيل.
وكتاب ((الفوائد)) الذي ذكره الترمذي في ((جامعه)) في مناقب طلحة بن(1/182)
عبيد الله -رضي الله عنه-.
وكتاب ((أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم )) وأشار إليه في ((التاريخ الكبير)).
وكتاب ((الرد على الجهمية)).
وكتاب ((خلق أفعال العباد)).
وقال محمد بن أبي حاتم الوراق فيما روينا عنه: سمعته -يعني البخاري- يقول: كنت أختلف إلى الفقهاء بمرو وأنا صبي، فإذا جئت أستحي أن أسلم عليهم، فقال لي مؤدبٌ من أهلها: كم كتبت اليوم؟ فقلت: اثنين، وأردت حديثين، فضحك من حضر المجلس. فقال شيخٌ منهم: لا تضحكوا، فلعله يضحك منكم يوماً. فكان كما قال الشيخ.
وقال أبو جعفر الوراق أيضاً سمعت محمد بن إسماعيل يقول: قال لي محمد بن سلام -يعني البيكندي-. انظر في كتبي فما وجدت فيها من خطأٍ فاضرب عليه، كي لا أرويه قال ففعلت ذلك، وكان محمد بن سلام كتب عند الأحاديث التي أحكمها محمد بن إسماعيل: رضي الفتى. وفي الأحاديث الضعيفة: لم يرض الفتى. فقال له بعض أصحابه: من هذا الفتى؟ فقال: هو الذي ليس مثله، محمد بن إسماعيل. وقد بلغنا أن البخاري فعل هذا بكتب(1/183)
البيكندي وهو ابن سبع عشرة سنةً أو دونها. ولم يزل -رحمه الله- مجتهداً من صغره إلى آخر عمره.
خرج الحافظ أبو بكر الخطيب في ((تاريخه)) من طريق أحمد بن محمد بن عمر بن بسام المروزي سمعت أحمد بن سيار يقول: ومحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي أبو عبد الله، طلب العلم، وجالس الناس، ورحل في الحديث، ومهر فيه وأبصر، وكان حسن المعرفة، حسن الحفظ، وكان يتفقه.
كانت رحلة البخاري -رحمه الله- في طلب الحديث إلى معظم البلاد، وكتب بخراسان، والجبال، ومدن العراق كلها، وبالحجاز والشام ومصر، وأخذ عن الحفاظ النقاد، لقي مكي بن إبراهيم بخراسان، وأبا عاصم بالبصرة، وعبيد الله بن موسى بالكوفة، وأبا عبد الرحمن المقرئ بمكة، ومحمد بن يوسف الفريابي بالشام، وكتب عن خلق حتى عن أقرانه كأبي محمد الدارمي، وأبي زرعة، وأبي حاتم الرازيين، وأشباههم حتى كتب عمن هو دونه، كعبد الله بن حماد الأملي، وحسينٍ القباني وغيرهما.
قال وراقه محمد بن أبي حاتم: سئل محمد بن إسماعيل عن خبر حديث فقال يا أبا فلان: تراني أدلس؛ تركت أنا عشرة آلاف حديث لرجل لي(1/184)
فيه نظر، وتركت مثله أو أكثر منه لغيره لي فيه نظر.
وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد غنجار في كتابه: ((تاريخ بخارى)): ثنا خلف بن محمد، سمعت الحسين بن الحسن بن الوضاح، ومكي بن خلف بن عفان قالا: سمعنا محمد بن إسماعيل البخاري يقول: كتبت عن ألف نفرٍ من العلماء وزيادةٍ ولم أكتب إلا عن من قال: الإيمان قولٌ وعملٌ، ولم أكتب عمن قال الإيمان قول.
وقال غنجار أيضاً: ثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن عمر المقرئ، سمعت أبا حسان مهيب بن سليم، سمعت جعفر بن محمد القطان إمام الجامع بكرمينية، سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: كتبت عن ألف شيخ وأكثر، عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديثٌ إلا أذكر إسناده. وقال أبو جعفر الوراق: سمعت البخاري يقول قبل موته بقليل: كتبت عن ألفٍ وثمانين رجلاً، كل يعتقد أن الإيمان قولٌ وعملٌ، ويزيد وينقص. وروينا عن البخاري أنه قال مرة لوراقه أبي جعفرٍ محمد بن أبي حاتم: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء. كنت إذا كتبت عن رجلٍ سألته عن اسمه وكنيته ونسبه وعلة الحديث، إن كان الرجل فهماً. فإن لم يكن سألته أن يخرج إلي أصله ونسخته.(1/185)
قال خلف بن محمد، ثنا إسحاق بن أحمد بن خلف، سمعت أبا عيسى محمد بن عيسى الترمذي، يقول: كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير، فلما قام من عنده قال: يا أبا عبد الله، جعلك الله زين هذه الأمة. قال أبو عيسى: فاستجيب له فيه. جعله الله زيناً للأمة وقدوةً للأئمة.
أخذ الحفاظ عنه وسمعوا منه.
روى عنه مسلم بن الحجاج خارج ((صحيحه)) والترمذي في ((جامعه)) والنسائي في رواية ابن السني وحده عنه حيث قال في ((سننه)): ((ثنا)) محمد بن إسماعيل البخاري، وساق بسنده عن الزهري، عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لعنةٍ .. .. )) الحديث. ورواه حمزة الكناني، وابن حيوية النيسابوري، وغيرهما، عن النسائي قال: ثنا محمد بن إسماعيل فقط وقع من طريق الصوري،(1/186)
عن ابن النحاس، عن حمزة الكناني، عن النسائي، ثنا محمد بن إسماعيل وهو أبو بكر الطبراني، ويحتمل أن يكون محمد بن إسماعيل هو ابن علية فإنه يروي عنه كثيراً، وقد روى النسائي في كتابه ((الكنى)) عن عبد الله بن أحمد ابن عبد السلام الخفاف عن البخاري. فقيل: هذه قرينة في أنه لم يلق البخاري والله أعلم.
وممن روى عنه إبراهيم بن إسحاق الحربي، وصالح بن محمد جزرة، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، ومحمد بن عبد الله الحضرمي مطين، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، ويحيى بن محمد بن صاعد، ومحمد بن نصر المروزي، وخلق لا يحصون. قال الحافظ أبو بكر محمد بن أبي عتاب الأعين البغدادي، فيما خرجه الحافظ أبو بكر الخطيب في ((تاريخه)) من طريق أبي العباس الفضل بن إسحاق بن الفضل البزاز، ثنا أحمد بن المهنا العابد، ثنا أبو بكر الأعين قال: كتبنا عن محمد بن إسماعيل على باب محمد بن يوسف الفريابي، وما في وجهه شعرةٌ. قلت فقلت: ابن كم كنت؟ قال: ابن سبع عشرة سنةً.
وقال الخطيب في ((تاريخه)): أنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري بنيسابور، سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد الفقيه البلخي، سمعت أبا العباس أحمد بن عبد الله البلخي الصفار، يقول سمعت أبا إسحاق المستملي، يروي عن محمد بن يوسف الفربري، أنه كان يقول: سمع كتاب(1/187)
((الصحيح)) لمحمد بن إسماعيل تسعون ألف رجل، فما بقي أحدٌ يروي عنه غيري.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي فيما أنبأنا عنه: ((الصفار)): لا يدري من هو؟ انتهى. وآخر من روى عنه ((صحيحه)) فيما ذكره أبو العباس جعفر بن محمد المستغفري الحافظ في تاريخ ((نسف)) وأبو نصر ابن ماكولا وغيرهما: أبو طلحة منصور بن محمد بن علي بن مزينة، وقيل: قرينة بن سوية البزدوي النسفي الدهقان. مات سنة تسعٍ وعشرين وثلاثمائة، وهو ثقة لكن ضعفت روايته من جهة صغره.
وآخر من حدث عن البخاري ببغداد فيما ذكره الخطيب في ((تاريخه)) الحسين بن إسماعيل المحاملي، وآخر من زعم أنه سمع منه: أبو ظهير عبد الله بن فارس بن محمد بن علي بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي البلخي الذي مات سنة ستٍ وأربعين وثلاثمائة.
قال الفربري فيما خرجه الخطيب في ((تاريخه))، ثنا محمد بن أبي حاتم، قال: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل: تحفظ جميع(1/188)
ما أدخلت في المصنف؟ قال لا يخفى علي جميع ما فيه.
وخرج أيضاً من طريق محمد بن أبي حاتم الوراق سمعت حاشد بن إسماعيل يقول: كان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلامٌ، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما معناك فيما تصنع؟ فقال لنا بعد ستة عشر يوماً: قد أكثرتما علي وألححتما، فاعرضا علي ما كتبتما. فأخرجنا ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديثٍ، فقرأها كلها على ظهر القلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا على حفظه. ثم قال: أترون أني أختلف هدراً وأضيع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد. قال: وكان أهل المعرفة من أهل البصرة يغدون خلفه في طلب الحديث، وهو شابٌ حتى يغلبوه على نفسه، ويجلسونه في بعض الطريق، فيجتمع عليه ألوف، أكثرهم من يكتب عنه. قال وكان أبو عبد الله عند ذاك شاباً لم يخرج وجهه.
وخرج الخطيب وغنجار في ((تاريخيهما)) من طريق أبي ذر محمد بن(1/189)
محمد بن يوسف القاضي، سمعت أبا معشر حمدوية بن الخطاب يقول: لما قدم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل من العراق، قدمته الآخرة، وتلقاه من تلقاه من الناس، وازدحموا عليه، وبالغوا في بره. فقيل له في ذلك، وفيما كان من كرامة الناس، وبرهم له. فقال: فكيف لو رأيتم يوم دخولنا البصرة؟
وقال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم: سمعت سليم بن مجاهد: كنت عند محمد بن سلام البيكندي، فقال لي لو جئت قبل لرأيت صبياً يحفظ سبعين ألف حديثٍ. -يعني البخاري- قال فخرجت في طلبه حتى لقيته. فقلت: أنت الذي تقول: أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم؛ وأكثر منه، ولا أجيئك بحديثٍ من الصحابة أو التابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثاً من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي في ذلك أصلٌ أحفظه حفظاً عن كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال علي بن الحسين بن عاصم البيكندي: قدم علينا محمد بن إسماعيل فاجتمعنا عنده. ولم يكن يتخلف عنه من المشايخ أحد، فتذاكرنا عنده. فقال رجل من أصحابنا -أراه حامد بن حفص-: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كأني أنظر إلى سبعين ألف حديثٍ من كتابي. قال(1/190)
فقال محمد بن إسماعيل: أو تعجب من هذا؟! لعل في هذا الزمان من ينظر إلى مائتي ألف حديث من كتابه. وإنما عنى به نفسه.
وقال أبو أحمد ابن عدي، حدثني محمد بن أحمد القومسي، سمعت محمد بن حمدويه، سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديثٍ غير صحيح.
وروي أنه قدم بلخ فسأله أهلها أن يملي لكل واحدٍ من مشايخه حديثاً فأملى ألف حديث لألف شيخ ممن سمع منهم وما ظفروا منه بسقطه. وخرج الحافظ أبو بكر الخطيب في ((تاريخه)) من حديث يوسف بن موسى المروروذي قال: كنت بالبصرة في جامعها، إذ سمعت منادياً ينادي: يا أهل العلم، قد قدم محمد بن إسماعيل البخاري، فقاموا في طلبه، وكنت معهم، فرأيت رجلاً شاباً، لم يكن في لحيته شيء من البياض، يصلي خلف الأسطوانة. فلما فرغ من الصلاة، أحدقوا به، وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء، فأجابهم إلى ذلك. فقام المنادي ثانياً فنادى في جامع البصرة: قد قدم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري فسألناه أن يعقد مجلس الإملاء، فقد أجاب بأن يجلس غداً في موضع كذا، قال: فلما أن كان بالغداة حضر الفقهاء، والمحدثون، والحفاظ، والنظار، حتى اجتمع قريب من كذا وكذا(1/191)
ألفاً. فجلس أبو عبد الله محمد بن إسماعيل للإملاء فقال: قبل أن آخذ في الإملاء قال لهم: يا أهل البصرة أنا شاب وقد سألتموني أن أحدثكم، وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدون الكل فتعجب الناس من قوله، ثم أخذ في الإملاء، فقال: ثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد العتكي بلديكم، أنا أبي، عن شعبة، عن منصور وغيره، عن سالم بن أبي الجعد، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يحب القوم .. .. ؛ فذكر حديث ((المرء مع من أحب)) ثم قال محمد بن إسماعيل: هذا ليس عندكم إنما عندكم عن غير منصور، عن سالم، قال يوسف بن موسى: وأملي عليهم مجلساً على هذا النسق، يقول في كل حديث: روى شعبة هذا الحديث عندكم كذا فأما من رواية فلان فليس عندكم أو كلاماً ذا معناه.
وقال أبو علي صالح بن محمد البغدادي كان محمد بن إسماعيل يجلس ببغداد وكنت أستملي له ويجتمع في مجلسه أكثر من عشرين ألفاً.
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب في ((تاريخه)): حدثني محمد بن أبي الحسن الساحلي: أنا أحمد بن الحسن الرازي، سمعت أبا أحمد بن عديٍ يقول: سمعت عدة مشايخ، يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري(1/192)
قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديثٍ، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسنادٍ آخر، وإسناد هذا المتن لمتنٍ آخر ودفعوها إلى عشرة أنفسٍ، إلى كل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضر المجلس يلقون ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعةٌ من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان، وغيرهم، من البغداديين، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري: لا أعرفه. فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه فما زال يلقى عليه واحداً بعد واحد. حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه فكان الفهماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فهم ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم. ثم انتدب رجل آخر من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقى عليه واحداً بعد واحد، حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، ثم انتدب له الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة، والبخاري -رحمه الله- لا يزيدهم على ((لا أعرفه)). فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا، التفت إلى الأول منهم. فقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متنٍ إلى إسناده. وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك. ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها، وأسانيدها إلى متونها، فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.
قال ابن عدي: وكان ابن صاعد إذا ذكر محمد بن إسماعيل يقول: الكبش النطاح، خرجه أبو أحمد بن عدي كما ساقه الخطيب إليه في كتابه(1/193)
((أسامي رجال البخاري)).
وقال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم: سمعت أبا عمرو المستنير بن عتيق البكري، سمعت رجا بن المرجى يقول: فضل محمد بن إسماعيل على العلماء كفضل الرجال على النساء.
فقال له رجل: يا أبا محمد كل ذلك بمرة؟ فقال: هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض.
وقال أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي في كتابه ((الألقاب)): أخبرني أبو الفضل يعقوب بن إسحاق .. .. ، أنا أبو يعلى عبد المؤمن بن خلف يعني التميمي، ثنا الحسين [بن] حاتم عبيدٌ [العجل] قال: ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل البخاري. ومسلم بن الحجاج الحافظ، لم يكن [يبلغ] محمد بن إسماعيل. [ورأيت] أبا زرعة وأبا [حاتم] يستمعون إلى محمد بن إسماعيل أي شيءٍ يقول: يجلسون تحته، قال: فذكر له قصة محمد بن يحيى فقال: ما له ولمحمد بن إسماعيل؟ كان محمد أمةً من الأمم، وكان(1/194)
أعلم من محمد بن يحيى بكذا وكذا، ويجله، وكان محمد بن إسماعيل ديناً فاضلاً يحسن كل شيء. وخرجه الخطيب في ((تاريخه)) بنحوه.
وفي هذه الرواية تفضيل البخاري، ومسلم والذهلي، وغيرهما.
وحكى الشيخ أبو زكريا النووي -رحمه الله-: اتفاق العلماء على أن البخاري أجل من مسلم، وأعلم بصناعة الحديث منه، قال: وقد صح أن مسلماً كان ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنه ليس له نظيرٌ في علم الحديث. ويشهد لقول النووي -رحمه الله- ما قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم في كتابه ((معرفة علوم الحديث)) وحدث به البيهقي في ((المدخل)) عن الحاكم، حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الوراق، سمعت أبا حامدٍ أحمد بن حمدون القصار -يعني الأعمش- سمعت مسلم بن الحجاج، وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري، فقبل بين عينيه، وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله، حدثك محمد بن سلام، ثنا مخلد بن يزيد الحراني، أنا ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ((كفارة المجلس))، فما علته؟ وفي رواية البيهقي فقال البخاري: وثنا أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، قالا: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، حدثني موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في: كفارة المجلس أن يقول إذا قام من مجلسه: ((سبحانك ربنا(1/195)
وبحمدك)) فقال محمد بن إسماعيل: هذا حديثٌ مليح، ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلولٌ، ثنا به موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، ثنا سهيلٌ، عن عون بن عبد الله قوله، قال: محمد بن إسماعيل: هذا أولى فإنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماعاً من سهيل، وفي رواية البيهقي بعد هذا: وسهيل بن ذكوان مولى جويرية، وهم أخوةٌ سهيل، وعباد، وصالح بنو أبي صالح وهم من أهل المدينة.
وهذه القصة خرجها أبو بكر الخطيب في ((تاريخه)) فقال: أنا أبو حازم العبدوي يعني -عمر بن أحمد بن إبراهيم النيسابوري- قال: سمعت الحسن بن أحمد الزنجوي، سمعت أحمد بن حمدون الحافظ، يقول: كنا عند محمد بن إسماعيل البخاري، فجاء مسلم بن الحجاج فسأله عن حديث عبيد الله بن عمر، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه- قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سريةٍ، ومعنا أبو عبيدة. فقال محمد بن(1/196)
إسماعيل: ثنا ابن أبي أويس، حدثني أخي أبو بكر، عن سليمان بن بلال، عن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر: القصة بطوله. فقرأ عليه إنسان حديث حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كفارة المجلس إذا قام العبد أن يقول: ((سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك)). فقال: أتعلم في الدنيا أحسن من هذا الحديث؟ ابن جريج عن موسى بن عقبة، عن سهيلٍ تعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثاً، قال له محمد: لا. إلا أنه معلول فقال، مسلم لا إله إلا الله! وارتعد!! قال: أخبرني به؟ قال: استر ما ستر الله. فإن هذا حديث جليل. رواه الخلق عن حجاج بن محمد، فألح عليه، وقبل رأسه، وكاد أن يبكي!! مسلم فقال له أبو عبد الله: اكتب إن كان لا بد: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، حدثني موسى بن عقبة، عن عون بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كفارة المجلس)): فقال له مسلم:(1/197)
لا يبغضك إلا حاسدٌ، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك.
في رواية الخطيب هذه ثلاثة أمور أحدها: وقف رواية حجاج على أبي هريرة. فلم يرفعه، ولم أعلم أحداً ممن رواه من هذه الطريق، وقفه على أبي هريرة.
والثاني: إرساله عن عون بن عبد الله وهو ابن عتبة بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما حكم البخاري بأنه من قوله كما تقدم من رواية الحاكم.
والثالث قوله: ثنا وهيب: حدثني موسى بن عقبة، عن عون بن عبد الله، ورواية الحاكم، ثنا وهيب، ثنا سهيل، عن عون بن عبد الله هي الصواب، والله أعلم مع أن وهيباً روى عن سهيل، وموسى بن عقبة. وكما ذكره الحاكم ذكره البخاري في ((تاريخه الكبير)) فقال: وقال موسى عن وهيب، ثنا سهيل، عن عون بن عبد الله بن عتبة قوله: وحديث وهيب أولى.
نعم، وقد تعجبت من الحاكم أبي عبد الله -رحمه الله- حيث روى القصة في تعليل البخاري الحديث في كتابه ((علوم الحديث)) وقول البخاري:(1/198)
إلا أنه معلول ثنا به موسى بن إسماعيل، ثنا سهيل، عن عون بن عبد الله قوله.
وحيث قال في كتابه ((المستدرك))، في كتاب الدعوات، ثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي، ثنا محمد بن الفرج الأزرق، ثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج، أخبرني موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- فذكره مرفوعاً.
قال: هذا إسنادٌ صحيح على شرط مسلم، إلا أن البخاري قد علله بحديث وهيب، عن موسى بن عون، عن سهيل، عن أبيه، عن كعب الأحبار من قوله فالله أعلم.
فانظر كيف حكى الحاكم عن البخاري في تعليل الحديث غير ما رواه عنه في كتابه ((علوم الحديث))، ورواه الناس. وهذا عجيب منه! ولم أر أحداً نبه عليها.
[قال] الحاكم أبو عبد الله سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت أبي يقول: رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي محمد بن إسماعيل البخاري، وهو يسأله سؤال الصبي المتعلم.
وقال أبو يعلى الخليلي الحافظ وسمعت عبد الرحمن بن محمد بن فضالة الحافظ يقول:(1/199)
[سمعت أبا أحمد محمد بن محمد بن إسحاق الكرابيسي الحافظ يقول: رحم الله الإمام محمد بن إسماعيل فإنه الذي ألف الأصول، وبين للناس. وكل من عمل بعده فإنما أخذ من كتابه كمسلم بن الحجاج فرق كتابه في كتبه وتجلد فيه حق الجلادة حيث لم ينسبه إلى قائله. ولعل من ينظر في تصانيفه لا يقع فيها ما يزيد إلا ما يسهل على من يعده عداً. ومنهم من أخذ كتابه فنقله بعينه إلى نفسه! كأبي زرعة وأبي حاتم! فإن عاند الحق معاند فيما ذكرت، فليس يخفى صورة ذلك على ذوي الألباب].
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، سمعت أبي يقول:ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل البخاري.
وقال وراقة ابن أبي حاتم: سمعت عمر بن حفص الأشقر، سمعت عبدان يقول: ما رأيت بعيني شاباً أبصر من هذا، وأشار بيده إلى محمد بن إسماعيل.
وقال الوراق أيضاً: حدثني حاشد بن عبد الله بن عبد الواحد، سمعت يعقوب بن إبراهيم الدورقي يقول: محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة.(1/200)
وقال الوراق: سمعت حاشد بن عبد الله قال لي أبو مصعب أحمد بن أبي بكر المديني: محمد بن إسماعيل أفقه عندنا، وأبصر من أحمد بن حنبل. فقال له رجل من جلسائه جاوزت الحد. فقال أبو مصعب: لو أدركت مالكاً، ونظرت إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل لقلت: كلاهما واحدٌ في الفقه والحديث.
وخرج أبو عبد الله محمد بن أحمد غنجار، وأبو بكر أحمد بن علي الخطيب في ((تاريخهما)) من طريق إسحاق بن أحمد بن زيرك، سمعت محمد بن إدريس الرازي -يعني أبا حاتم- يقول: في سنة سبع وأربعين ومائتين: يقدم عليكم رجلٌ من أهل خراسان لم يخرج منها أحفظ منه، ولا قدم العراق أعلم منه، فقدم علينا بعد ذلك بأشهرٍ محمد بن إسماعيل.
وقال أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة السلمي الترمذي في آخر ((جامعه)).
ولم أر أحداً بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ، ومعرفة الأسانيد كثير أحدٍ أعلم من محمد بن إسماعيل.
وقال إبراهيم بن محمد بن سلام: إن الرتوت من أصحاب الحديث مثل سعيد بن أبي مريم المصري، ونعيم بن حماد، والحميدي، والحجاج بن(1/201)
منهال، وإسماعيل بن أبي أويس، والعدني، والحسن الخلال بمكة، ومحمد بن ميمون صاحب ابن عيينة، ومحمد بن العلاء، والأشج، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وإبراهيم بن موسى الفراء، كانوا يهابون محمد بن إسماعيل، ويقضون له على أنفسهم في المعرفة والنظر.
وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت محمود بن النضر أبا سهل الشافعي يقول: دخلت البصرة، والشام، والحجاز، والكوفة، ورأيت علماءها كلها فكلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل فضلوه على أنفسهم.
وقال حاتم بن مالك الوراق: سمعت علماء مكة يقولون: محمد بن إسماعيل إمامنا وفقيهنا، وفقيه خراسان.
وقال خلف بن محمد: سمعت أبا عمرو أحمد بن نصر الخفاف يقول: محمد بن إسماعيل أعلم في الحديث من إسحاق بن راهوية، وأحمد بن حنبل، وغيره بعشرين درجةً؛ قال أبو عمرو الخفاف: ومن قال في محمد بن إسماعيل شيئاً فمني عليه ألف لعنةٍ. قال: وسمعت أبا عمرو والخفاف يقول: لو دخل محمد بن إسماعيل من هذا الباب لملئت منه رعباً، يعني(1/202)
لا أقدر أن أحدث بين يديه.
وقال خلف سمعت أبا عمرو الخفاف يقول: ثنا، محمد بن إسماعيل البخاري التقي النقي العالم الذي لم أر مثله.
وقال خلف بن محمد، وأبو أحمد عبد الله بن يوسف الشافعي سمعنا أبا جعفر محمد بن يوسف بن الصديق الوراق سمعت أبا محمد عبد الله بن حماد الأملي يقول: وددت أني شعرةٌ في صدر محمد بن إسماعيل.
وقال أبو سعيد حاتم بن محمد بن حازم: سمعت موسى بن هارون الحمال يقول: لو أن أهل الإسلام اجتمعوا على أن ينصبوا مثل محمد بن إسماعيل آخر ما قدروا عليه.
وقال الحاكم أبو عبد الله سمعت يحيى بن عمرو بن صالح الفقيه يقول: سمعت أبا العباس محمد بن عبد الرحمن الفقيه يعني الدغولي يقول: كتب أهل بغداد إلى محمد بن إسماعيل البخاري:
المسلمون بخيرٍ ما بقيت لهم ... وليس بعدك خيرٌ حين تفتقد(1/203)
وبلغنا أن البخاري -رحمه الله- دخل إلى بغداد ثماني مرات، وتخرج به أرباب الدراية، وانتفع به أهل الرواية، وكان فرد زمانه، حافظاً للسانه، ورعاً في جميع شأنه، هذا مع علمه العزيز، وإتقانه الكثير، وشدة عنايته بالأخبار، وجودة حفظه للسنن والآثار، ومعرفته بالتاريخ وأيام الناس ونقدهم، مع حفظ أوقاته وساعاته، والعبادة الدائمة إلى مماته.
خرج الخطيب في ((تاريخه)) من طريق أبي سعيد بكر بن منير: سمعت البخاري يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً.
وخرج أيضاً من حديث علي بن محمد بن منصور سمعت أبي يقول: كنا في مجلس أبي عبد الله محمد بن إسماعيل فرفع إنسان من لحيته قذاة، وطرحها على الأرض، قال: فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس، فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها فطرحها على الأرض.
وخرج أيضاً من طريق غنجار في ((تاريخه)) ثنا أحمد بن محمد بن عمر المقري، سمعت أبا سعيد بكر بن منير يقول: كان محمد بن إسماعيل يصلي ذات يوم فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة. فلما قضي صلاته، قال انظروا أيش هذا الذي آذاني في صلاتي فنظروا فإذا الزنبور قد ورمه في سبعة عشر موضعاً ولم يقطع صلاته.(1/204)
وخرج الخطيب أيضاً من طريق محمد بن أبي حاتم وراق البخاري قال: دعي محمد بن إسماعيل إلى بستان فصلى الظهر ثم قام يتطوع، فأطال القيام، فلما فرغ من صلاته رفع ذيل قميصه، وقال لبعضهم: انظر هل ترى شيئاً؟ فإذا زنبورٌ قد أبره في ستة عشر أو سبعة عشر موضعاً. وقد تورم من ذلك جسده وكان آثار الزنبور في جسده ظاهرة، فقال بعضهم: كيف لم تخرج من الصلاة في أول ما أبرك فقال: كنت في سورةٍ، فأحببت أن أتمها.
وقال أبو جعفر بن أبي حاتم: كان أبو عبد الله، إذا كنت معه في سفر، يجمعنا بيتٌ واحدٌ في القيظ أحياناً، فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري ناراً ويسرج. ثم يخرج أحاديث ويعلم عليها ثم ينام.
وكان يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعةٍ، فقلت له: إنك تحمل على نفسك كل هذا ولا توقظني، قال: أنت شاب فلا أحب أن أفسد عليك نومك، قال أبو جعفر: ورأيته استلقى على قفاه يوماً، ونحن بفربر في تصنيف كتاب ((التفسير)). وكان قد أتعب نفسه في ذلك اليوم في كثرة إخراج الحديث. فقلت له: يا أبا عبد الله: سمعتك تقول يوماً: إني ما أتيت شيئاً، بغير علمٍ قط منذ عقلت، قلت: وأي علم في هذا الاستلقاء؟ قال: أتعبنا(1/205)
أنفسنا في هذا اليوم. وهذا ثغرٌ من الثغور، خشيت أن يحدث حدثٌ من أمر العدو، فأحببت أن أستريح، وآخذ أهبة ذلك، فإن غافصنا العدو كان بنا حراك.
وقال الحاكم أبو عبد الله، حدثني أبو سعيد أحمد بن محمد النسوي، حدثني أبو حسان مهلب بن سليم، سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه، فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله، فقلت: نعم، فقال لي: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة فقلت: أخبرنا عبدان، عن ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاءٍ: من أي المرض أفطر؟ فقال: من أي مرض كان، كما قال الله عز وجل: {فمن كان منكم مريضاً}، قال البخاري: لم يكن هذا عند إسحاق.
وخرج أبو بكر الخطيب في ((تاريخه)) من طريق محمد بن يوسف الفربري، سمعت محمداً البخاري بخوارزم يقول: رأيت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل -يعني في المنام- خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي فكلما رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه، وضع أبو عبد الله محمد بن إسماعيل قدمه في ذلك الموضع.
وخرج عبد الله بن عدي الحافظ في كتابه ((أسامي رجال البخاري))،(1/206)
فقال محمد بن يوسف بن بشر الفربري يقول: سمعت النجم بن فضيل وكان من أهل المعرفة والفضل يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وقد خرج من باب ياسين قريةٍ ببخارى وخلفه محمد بن إسماعيل فكلما خطا النبي - صلى الله عليه وسلم - خطوة خطا محمد بن إسماعيل خطوة النبي صلى الله عليه وسلم ووضع قدمه على قدم النبي صلى الله عليه وسلم . وخرجه الخطيب في ((تاريخه)) من طريق ابن عدي.
وروينا عن أبي جعفر محمد بن أبي حاتم النحوي الوراق عن أبي عبد الله البخاري أنه قال له: ما توليت شراء شيءٍ ولا بيعه قط. فقال له أبو جعفر: كيف، وقد أحل الله البيع؟ قال:لما فيه من الزيادة والنقصان والتخليط، فخشيت أني إن توليت ذلك أن أستوي بغيري. فقال له: ومن كان يتولى أمرك في أسفارك ومبايعتك؟ قال: كنت أكفى ذلك.
وخرج الخطيب البغدادي في ((تاريخه)) من طريق أبي سعيدٍ بكر بن منيرٍ سمعت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل يقول: منذ ولدت ما اشتريت من أحدٍ بدرهم شيئاً قط، ولا بعت من أحد بدرهم شيئاً قط، فسألوه عن شراء الحبر والكواغد فقال: كنت آمر إنساناً يشتري لي.
وقال أبو سعيد بكر بن منير: كان حمل إلى محمد بن إسماعيل بضاعةٌ(1/207)
أنفذها إليه فلان، فاجتمع بعض التجار إليه بالعشية، فطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم. فقال لهم: انصرفوا الليلة. فجاءه من الغد تجارٌ آخرون، فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة آلاف درهم فردهم، وقال: إني نويت البارحة أن أدفع إليهم بما طلبوا -يعني الذين طلبوا أول مرة- فدفع إليهم بربح خمسة آلاف، وقال: لا أحب أن أنقض نيتي.
وقد بلغنا أن تجارته كانت من مال ورثه من أبيه، وكان يعطيه مضاربةً لمن يتجر فيه، وكان يتصدق منه بالكثير ويبر الطلبة ويحسن إليهم.
روي أنه مرة ناول رجلاً من الطلبة صرةً فيها ثلاثمائة درهم خفيةً، فأراد الرجل أن يدعو له فقال له: ارفق، واشتغل بحديث آخر كيلا يعلم بذلك أحدٌ.
وروي أنه كانت له قطعة أرضٍ يكريها من رجل كل سنةٍ بسبعمائةٍ درهمٍ، فكان ذلك المكري يزرع فيها ما أحب من الربيعي والخريفي فربما حمل إلى أبي عبد الله البخاري قثاةً أو قثاتين، لأن أبا عبد الله كان معجباً بالقثاء النضيج، وكان يؤثره على البطيخ أحياناً، فكان يهب لهذا الزارع مائة درهم كل سنة بحمله القثاة إليه أحياناً.
وخرج الحافظ أبو بكر الخطيب في ((تاريخه)) من طريق أبي بكر محمد بن صابر بن كاتب سمعت عمر بن حفص الأشقر يقول: كنا مع محمد بن إسماعيل البخاري بالبصرة نكتب الحديث ففقدناه أياماً، فطلبناه(1/208)
فوجدناه في بيت وهو عريانٌ، وقد نفذ ما عنده ولم يبق معه شيء، فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوباً وكسوناه، ثم اندفع معنا في كتابة الحديث.
وبلغنا أن البخاري ربما كان يأتي عليه نهارٌ لا يأكل فيه إلا لوزةٌ أو لوزتين، وأنه نفدت نفقته حين رحل إلى آدم بن أبي إياس العسقلاني فجعل يأكل من نبات الأرض ولا يخبر أحداً بذلك. وذكر حينئذٍ حديثاً قاله له محمد بن سلام بن عبدة، وأخبرنا به أبو إسحاق إبراهيم بن أبي عبد الله المجاور، أنا أحمد بن أبي طالب البناني، عن إبراهيم بن عثمان البغدادي، أنا محمد بن عبد الباقي الحاجب، وعلي بن عبد الرحمن الطوسي سماعاً قالا أنا مالك بن أحمد، أنا أحمد بن محمد الأهوازي، ثنا إبراهيم هو ابن عبد الصمد، ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا عبدة، عن أبي رجاء الجزري، عن فرات بن سلمان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما صبر أهل بيت على جهدٍ ثلاثاً إلا أتاهم الله عز وجل برزق)).(1/209)
لفظ الأشج ولفظ ابن سلام شيخ البخاري: ((ما من أهل بيت يصبرون)). فلما مضى للبخاري ثلاثة أيام وهو صابرٌ أتاه آتٍ لا يعلم من هو وناوله دنانير في صرةٍ وقال: أنفق عليك.
وكان -رحمه الله- صاحب عبادةٍ وأورادٍ، وكان يختم كل يوم في شهر رمضان ختمةً.
خرج الخطيب في ((تاريخه)) من طريق محمد بن خالد المطوعي، ثنا مسبح بن سعيد قال: كان محمد بن إسماعيل البخاري إذا كان أول ليلةٍ من شهر رمضان، يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن.
وكان يقرأ من السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند السحر في كل ثلاث ليال، وكان يختم بالنهار في كل يوم ختمة ويكون ختمة عند الإفطار كل ليلة ويقول: ((عند كل ختمة دعوةٌ مستجابة)).
وخرج أيضاً في ((التاريخ)) فقال: كتب إلي أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن الحسين الجرجاني من أصبهان، يذكر أنه سمع أبا أحمد محمد بن محمدٍ بن مكي الجرجاني يقول: سمعت محمد بن يوسف الفربري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي: أين تريد؟ فقلت: أريد(1/210)
محمد بن إسماعيل البخاري، فقال: أقرأه مني السلام.
ولقد كان -رحمه الله تعالى- للسنة معظماً، وللعلم محترماً، قال أبو سعيد بكر بن منير بن خليد بن عسكر بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل، أن أحمل إلي كتاب ((الجامع)) و((التاريخ)) وغيرهما لأسمع منك. فقال محمد بن إسماعيل لرسوله: أنا لا أذل العلم، وأحمله إلى أبواب الناس. فإن كانت لك إلى شيءٍ منه حاجةٌ فاحضرني في مسجدي، أو في داري. فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المجلس، ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، لأني لا أكتم العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((من سئل عن علمٍ فكتمه ألجم بلجامٍ من نارٍ))، قال: فكان سبب الوحشة بينهما هذا.
خرجه الخطيب في ((التاريخ))، وقال: أنا محمد بن علي بن أحمد المقرئ، أنا محمد بن عبد الله الحافظ، سمعت محمد بن العباس الضبي(1/211)
يقول: سمعت أبا بكر بن أبي عمروٍ الحافظ يقول: كان سبب مفارقة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري البلد -يعني بخارى- أن خالد بن أحمد الذهلي الأمير خليفة الظاهرية ببخارى سأل أن يحضر منزله، فيقرأ ((الجامع)) و((التاريخ)) على أولاده، فامتنع أبو عبد الله عن الحضور عنده، فراسله أن يعقد مجلساً لأولاده لا يحضره غيرهم، فامتنع عن ذلك أيضاً. وقال: لا يسعني أن أخص بالسماع قوماً دون قوم؛ فاستعان خالد بن أحمد بحريث بن أبي الورقاء، وغيره من أهل العلم ببخارى عليه، حتى تكلموا في مذهبه، ونفاه عن البلد، ودعا عليهم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل فقال: اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهليهم. فأما خالد فلم يأتي عليه إلا أقل من شهر حتى ورد أمر الظاهرية أن ينادى عليه؛ فنودي عليه وهو على أتانٍ وأشخص على أكاف ثم صار عاقبة أمره إلى ما اشتهر وشاع. وأما حريث بن أبي الورقاء فإنه ابتلي بأهله، فرأى فيها ما يجل عن الوصف. وأما فلان أحد القوم -وسماه- فإنه ابتلي بأولاده وأراه الله فيهم البلايا.
وقال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم سمعت يحيى بن جعفر يقول: لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت فإني موتي يكون موت رجلٍ واحد، وموت محمد بن إسماعيل ذهاب العلم. وبلغنا أن أهل سمرقند كتبوا إلى أبي عبد الله البخاري ليسير إليهم ويقرأوا عليه فسار متوجهاً(1/212)
إليهم إلى أن وصل إلى خرتنك نزل على غالب بن جبريل فأقام عنده مدة فمرض واشتد مرضه.
قال أبو أحمد بن عدي، وسمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى خرتنك ((قرية)) من قرى سمرقند على فرسخين منها: وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم فسمعته ليلةً من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يدعو ويقول في دعائه. اللهم إنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك، قال: فما تم الشهر حتى قبضه الله عز وجل وقبره بخرتنك -رحمة الله عليه-، هذا هو المعروف أن قبره بخرتنك، وهو الصحيح والله أعلم.
وذكر ابن يونس في ((تاريخ الغرباء)) أن البخاري مات بمصر بعد الخمسين ومائتين.
قال أبو الفضل بن العراقي: ولم أره لغيره والظاهر أنه وهم. انتهى.
وخرتنك بفتح الخاء المعجمة بعدها راء ساكنة، ثم مثناة من فوق مفتوحة بعدها نون ساكنة وآخرها كاف.
وقيدها بعضهم بكسر الخاء، والمعروف الفتح، والله أعلم.
وروي أن البخاري لما كان بخرتنك أتاه من سمرقند رسول يحثه على السفر، فلبس خفيه، وتعمم وتهيأ للركوب فعجز وضعف ثم دعا بدعواتٍ،(1/213)
فقضى في تلك الساعة -رحمة الله عليه-.
قال الحافظ أبو بكر الخطيب في ((تاريخه))، أنا علي بن أبي حامد الأصبهاني في كتابه، ثنا محمد بن محمد بن مكي الجرجاني: سمعت عبد الواحد بن آدم الطواويسي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، ومعه جماعةٌ من أصحابه، وهو واقف في موضع ذكره فسلمت عليه، فرد السلام، فقلت: ما وقوفك يا رسول الله؟ فقال: أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري. قال: فلما كان بعد أيام بلغني موته، فنظرنا فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
كانت وفاته -رحمه الله- فيما قاله أبو أحمد بن عدي، وسمعت الحسن بن الحسين البزاز البخاري يقول: توفي محمد بن إسماعيل البخاري ليلة السبت عند صلاة العشاء، ليلة الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر، يوم السبت مستهل شوال من شهور سنة ست وخمسين ومائتين، عاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوماً -رحمه الله-.
وبلغنا: أنه لما دفن علت سوار بيض في السماء مستطيلةٌ بحذاء قبره، وجعل الناس يختلفون إليه ويتعجبون من أمره، ولم تزل الرائحة الطيبة تظهر(1/214)
من قبره أياماً كثيرة حتى تحدث الناس بذلك، وظهر عند مخالفيه أمره بعد وفاته، وكثر التعجب، وخرج بعض مخالفيه إلى قبره، وأظهروا التوبة مما كانوا أسرعوا فيه من مذموم المذهب.
قال أبو أحمد بن عدي، وسمعت الحسن بن الحسين البزاز يقول: رأيت محمد بن إسماعيل -رحمه الله- شيخاً نحيف الجسم، ليس بالطويل ولا بالقصير.
وخرجه الخطيب في ((التاريخ)) من طريق ابن عدي.
وفي شمائل البخاري غير ما ذكرناه، اكتفينا منه ما قدمناه، ولقد كان كبير الشأن، جليل القدر، عديم النظير، لم ير أحد شكله، ولم يخلف بعده مثله، فرحمه الله وأرضاه، وجعل جنة الفردوس مأواه، وأعاد علينا من بركته، وجمع بيننا وبينه في الجنة برحمته إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(1/215)
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين(1/216)