الحَمْدُ للهِ الذِيْ لَمْ يَزَلْ عَلِيْمَاً قَدِيْرَاً وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الذِيْ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بَشِيْرَاً وَنَذِيْرَاً، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْمَاً كَثِيْرَاً.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ التَّصَانِيْفَ فِيْ اصْطِلَاحِ أَهْلِ الحَدِيْثِ قَدْ كَثُرَتْ، وَبُسِطَتْ وَاخْتُصِرَتْ.
_____________________________________________________
(الحمدُ للهِ الذي لَمْ يَزَلْ عَليماً قديراً) حيّاً قيُّوماً سَميعاً بَصيراً، وأَشهدُ أَنْ لا إِله إِلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأُكبِّرُه تَكبيراً.
وصلّى اللهُ عَلى سَيدِنا مُحَمَّدٍ الذي أَرْسَلَهُ إِلى النَّاسِ كافةً بَشيراً ونَذيراً، وعلى آلِ محمدٍ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْليماً كثيراً.
أَمَّا بَعْدُ:
فإِنَّ التَّصانيفَ في اصْطِلاحِ أَهلِ الحَديثِ قَدْ كَثُرَتْ للأئمةِ في القديمِ والحَديثِ:(1/45)
........................................................................................
_____________________________________________________
فَمِن أَوَّلِ مَن صَنَّفَ في ذلك القاضي أبو محمَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيّ في(1/46)
........................................................................................
_____________________________________________________
كتابه "المحدِّث الفاصل"، لكنَّه لم يَسْتَوْعِبْ.
والحاكِمُ أبو عبدِ اللهِ النَّيْسَابوريُّ، لكنَّه لم يُهَذِّبْ ولم يُرَتِّبْ.
وتلاه أَبو نُعَيْم الأصبهانِيُّ، فعَمِل على كتابهِ "مُسْتَخْرَجاً"، وأَبقى أَشياءَ للمُتَعَقِّبِ.
ثمَّ جاءَ بعدَهم الخطيبُ أبو بكرٍ البَغْدَاديُّ، فصنَّفَ في قوانينِ الروايةِ(1/47)
........................................................................................
_____________________________________________________
كتاباً سمَّاه "الكفايةَ"، وفي آدابِها كتاباً سمَّاه "الجامعَ لآدابِ الشَّيْخِ والسَّامِع".
وقلَّ فنٌّ مِن فُنونِ الحَديثِ إِلاَّ وقد صَنَّفَ فيهِ كتاباً مُفْرَداً، فكانَ كما قال الحَافظُ أبو بكرِ بنُ نُقْطَةَ: كلُّ مَن أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ المحَدِّثينَ بعدَ الخَطيبِ عِيالٌ على كُتُبِهِ.
ثمَّ جاءَ بعدَهُم بعضُ مَن تَأَخَّرَ عنِ الخطيبِ فأَخَذَ مِن هذا العلمِ بنَصيبٍ:(1/48)
........................................................................................
_____________________________________________________
فجمَع القاضي عِياضٌ كتاباً لطيفاً سمَّاهُ "الإِلْماع".
وأبو حفْصٍ المَيَّانِجيُّ جُزءاً سمَّاه "ما لا يَسَعُ المُحَدِّثَ جَهْلُه".(1/49)
........................................................................................
_____________________________________________________
وأَمثالُ ذَلك مِنَ التَّصانيفِ الَّتي اشتُهِرَتْ وبُسِطَتْ ليتوفَّرَ عِلْمُها، (واخْتُصِرَتْ) ليتيسَّرَ فهْمُها.
إِلى أَنْ جاءَ الحافِظُ الفقيهُ تقيُّ الدِّينِ أَبو عَمْرٍو عُثْمانُ بنُ الصَّلاحِ عبدِ الرحمنِ الشَّهْرَزُوريُّ - نزيلُ دمشقَ -، فجَمَعَ - لما وَلِيَ تدريسَ الحديثِ بالمدرَسَةِ الأشرفيَّةِ - كتابَه المَشهورَ، فهَذَّبَ فنونَهُ، وأَملاهُ شيئاً بعدَ شيءٍ،(1/50)
فسأَلَني بَعْضُ الإِخوانِ أَنْ أُلَخِصَ لهُ المُهِمَّ مِنْ ذَلكَ، فأَجَبْتُهُ إِلَى سُؤالِهِ؛ رَجَاءَ الاندِراجِ في تلكَ المَسَالِكِ.
_____________________________________________________
فلهذا لمْ يَحْصُلْ ترتيبُهُ على الوضعِ المُناسِبِ، واعتنى بتصانيفِ الخَطيبِ المُتفرِّقةِ، فجمَعَ شَتاتَ مقاصِدِها، وضمَّ إِليها مِن غَيْرِها نُخَبَ فوائِدِها، فاجتَمَعَ في كتابِه ما تفرَّقَ في غيرهِ، فلهذا عَكَفَ النَّاسُ عليهِ وساروا بسَيْرِهِ، فلا يُحْصى كم ناظِمٍ له ومُختَصِر، ومستَدْرِكٍ عليهِ ومُقْتَصِر، ومُعارِضٍ لهُ ومُنْتَصِر !
(فسأَلَني بَعْضُ الإِخوانِ أَنْ أُلَخِصَ لهُ المُهِمَّ مِنْ ذَلكَ) فلخَّصْتُهُ في(1/51)
فأقولُ:
الخَبَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ طُرُقٌ بِلاَ عَددٍ مُعَيَّنٍ، أَو مَعَ حَصْرٍ بِما فَوْقَ الاثنيْنِ، أو بِهِمَا، أَوْ بِوَاحِدٍ.
_____________________________________________________
أوراقٍ لطيفةٍ سمَّيْتُها "نُخْبَةَ الفِكَر في مُصْطَلحِ أَهلِ الأثَر" على ترتيبٍ ابْتَكَرْتُهُ، وسبيلٍ انْتَهَجْتُهُ، مع ما ضمَمْتُه إِليهِ مِن شوارِدِ الفرائِدِ وزَوائدِ الفوائدِ.
فرَغِبَ إِليَّ جماعةٌ ثانياً أَنْ أَضعَ عَليها شرحاً يحُلُّ رموزَها، ويفتحُ كنوزَها، ويوضِحُ ما خَفِيَ على المُبْتَدئ من ذلك، (فأَجَبْتُه إِلى سُؤالِهِ؛ رجاءَ الاندِراجِ في تلكَ المسالِكِ).
فبالغتُ في شَرْحِها في الإِيضاحِ والتَّوجيهِ، ونبَّهْتُ عَلى خَبايا زواياها؛ لأنَّ صاحِبَ البَيْتِ أَدْرَى بِما فيهِ، وظَهَرَ لي أَنَّ إِيرادَهُ على صُورةِ البَسْطِ أليقُ، ودَمْجَها ضِمْنَ تَوضيحِها أَوْفَقُ، فسلكْتُ هذهِ الطَّريقَةَ القَليلةَ المسالِكِ.
(فأقولُ) طالِِباً مِن اللهِ التَّوفيقَ فيما هُنالِك:
(الخَبَرُ) عندَ عُلَماءِ هذا الفنِّ مرادفٌ للحَديثِ.
وقيلَ: الحَديثُ: ما جاءَ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ، والخَبَرُ ما جاءَ عن غيِره، ومِنْ ثَمَّ قيلَ لمَن يشتغلُ بالتَّواريخِ وما شاكَلَها:(1/52)
........................................................................................
_____________________________________________________
الإخبارِيُّ، ولمن يشتغلُ بالسُّنَّةِ النبويَّةِ: المُحَدِّثَ.
وقيل: بيْنهما عُمومٌ وخُصوصٌ مُطْلقٌ، فكلُّ حَديثٍ خبرٌ من غيرِ عَكْسٍ.
وعبَّرْتُ هنا بالخبَرِ ليكونَ أشملَ، فهو باعتبارِ وصولِهِ إِلينا.
(إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ طُرُقٌ)؛ أي: أسانيدُ كثيرةٌ؛ لأنَّ طُرُقاً جمعُ طريقٍ، وفعيلٌ في الكثرةِ يُجْمَعُ على فُعُلٍ - بضمَّتينِ -، وفي القلَّةِ على أَفْعِلَةٍ.
والمرادُ بالطُّرُقِ الأسانيدُ، والإِسنادُ حكايةُ طريقِ المَتْنِ.
وتلكَ الكثرَةُ أَحدُ شُروطِ التَّواتُرِ إِذا وَرَدَتْ (بِلاَ) حَصْرِ (عَددٍ مُعَيَّنٍ)، بل تكونُ العادةُ قد أحالتْ تواطؤهُم على الكذِبِ، وكذا وقوعُه منهُم اتِّفاقاً مِن غيرِ قصدٍ.
فلا مَعْنى لِتعْيينِ العَدَدِ على الصَّحيحِ، ومِنْهُم مَنْ عيَّنَهُ في الأربعةِ،(1/53)
........................................................................................
_____________________________________________________
وقيلَ: في الخمْسةِ، وقيل: في السَّبعةِ، وقيل: في العشرةِ، وقيلَ: في الاثنَيْ عَشَر، وقيل: في الأربعينَ، وقيلَ: في السَّبعينَ، وقيلَ غيرُ ذلك.(1/54)
........................................................................................
_____________________________________________________
وتَمَسَّكَ كُلُّ قائل بدليل جاءَ فيه ذِكرُ ذلكَ العَدَدِ، فأفادَ العِلْمَ، وليسَ بلازِمٍ أَنْ يَطَّرِدَ في غَيْرِهِ لاحتمالِ الاخْتِصاصِ.
فإذا وَرَدَ الخَبَرُ كذلك وانْضافَ إليهِ أَنْ يستويَ الأمْرُ فيهِ في الكثرةِ المذكورةِ من ابتدائِهِ إلى انتهائهِ - والمرادُ بالاستواءِ أَنْ لا تَنْقُصَ الكَثْرَةُ المَذكورةُ في بعضِ المَواضِعِ لا أَنْ لا تَزيدَ، إذ الزِّيادَةُ هُنا مطلوبةٌ مِن بابِ أَوْلى -، وأَنْ يكونَ مُسْتَنَدُ انتهائِهِ الأمرَ المُشاهَدَ أو المَسموعَ، لا مَا ثَبَتَ بِقَضِيَّةِ(1/55)
........................................................................................
_____________________________________________________
العَقْلِ الصِّرْفِ.
فإِذا جَمَعَ هذهِ الشُّروطَ الأربعةَ، وهي:
أ - عَدَدٌ كثيرٌ أَحَالَتِ العادةُ تواطُؤهُمْ وتوافُقَهُم على الكَذِبِ.
ب - رَوَوْا ذلك عن مِثْلِهِم من الابتداء إلى الانتهاءِ.
ج - وكان مُسْتَنَدُ انْتِهائِهِمُ الحِسَّ.
د - وانْضافَ إلى ذلك أَنْ يَصْحَبَ خَبَرَهُمْ إِفَادَةُ العِلْمِ لِسامِعِهِ.
فهذا هو المتواتِرُ.
وما تَخَلَّفَتْ إِفَادَةُ العِلْمِ عنهُ كانَ مَشْهوراً فقَط.(1/56)
........................................................................................
_____________________________________________________
فكلُّ متواتِرٍ مشهورٌ، من غيرِ عَكْسٍ.
وقد يُقالُ: إِنَّ الشُّروطَ الأربعةَ إِذا حَصَلَتْ اسْتَلْزَمَتْ حُصولَ العِلْمِ، وهُو كذلك في الغالِبِ، لكنْ قد تَتَخَلَّفُ عنِ البَعْضِ لمانعٍ.
وقد وَضَحَ بهذا تَعْريفُ المُتواتِرِ.
وخِلافُهُ قدْ يَرِدُ بلا حَصْرٍ أَيضاً، لكنْ مع فَقْدِ بعضِ الشُّروطِ، (أَو مَعَ حَصْرٍ بِما فَوْقَ الاثنيْنِ)؛ أي: بثلاثةٍ فصاعِداً ما لمْ يَجْمَعْ شُروطَ المُتواتِرِ، (أو بِهما)؛ أي: باثْنَيْنِ فقطْ، (أو بواحِدٍ) فقَطْ.
والمرادُ بقولِنا: أَنْ يَردَ باثْنَيْنِ: أنْ لا يَرِدَ بأَقلَّ مِنْهُما، فإِنْ وَرَدَ بأَكْثَرَ في بعضِ المَواضِعِ مِن السَّنَدِ الواحِدِ لا يَضُرُّ، إذ الأقلُّ في هذا العِلْمِ يَقْضي على الأكْثَرِ.(1/57)
1 - فالأوَّلُ: المُتواتِرُ المُفيدُ للعِلْمِ اليَقينِيِّ بِشروطِهِ.
_____________________________________________________
(فالأوَّل ُالمُتواتِرُ)، وهو (المُفيدُ للعِلْمِ اليَقينِيِّ)، فأخرَجَ النَّظريَّ على ما يأْتي تقريرُه، (بِشروطِهِ) التي تَقَدَّمَتْ.
واليَقينُ: هو الاعتقادُ الجازِمُ المُطابِقُ، وهذا هو المُعْتَمَدُ: أَنْ الخَبَرَ المُتواتِرَ يُفيدُ العِلْمَ الضَّروريَّ، وهو الذي يَضْطُّر الإِنْسانُ إليهِ بحيثُ لا يُمْكِنُهُ دفْعُهُ.
وقيلَ: لا يُفيدُ العلمَ إِلاَّ نَظَرِيّاً !(1/58)
........................................................................................
_____________________________________________________
وليس بشيءٍ؛ لأنَّ العِلْم بالتَّواتُرِ حاصِلٌ لمن ليس لهُ أهليَّةُ النَّظرِ كالعامِّيِّ، إذ النَّظرُ: ترتيبُ أُمورٍ معلومةٍ أَو مَظْنونةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى عُلومٍ أَو ظُنونٍ، وليس في العامِّيِّ أهلِيَّةُ ذلك، فلو كان نَظَرِيّاً؛ لما حَصَل لهُم.
ولاحَ بهذا التَّقريرِ الفرْقُ بين العِلْمِ الضَّرورِيِّ والعِلْمِ النَّظَرِيِّ، إِذ الضَّرورِيُّ يُفيدُ العِلْمَ بلا اسْتِدلالٍ، والنَّظريُّ يُفيدُهُ لكنْ مع الاستِدْلالِ على(1/59)
........................................................................................
_____________________________________________________
الإِفادةِ، وأنَّ الضَّروريَّ يحْصُلُ لكُلِّ سامعٍ، والنَّظَرِيَّ لا يَحْصُلُ إِلاَّ لِمَنْ فيهِ أهليَّةُ النَّظَرِ.
وإِنَّما أََبْهَمْتُ شُروطَ التواترِ في الأَصْلِ؛ لأنَّهُ على هذهِ الكيفيَّةِ ليسَ مِن مباحِثِ عِلْمِ الإِسْنَادِ، إِذ عِلمُ الإِسْناِد يُبْحَثُ فيهِ عن صِحَّةِ الحديثِ أَوْ ضَعْفِهِ؛ لِيُعْمَلَ بِهِ أَو يُتْرَكَ مِن حيثُ صفاتُ الرِّجالِ، وصِيَغُ الأداءِ، والمُتواتِرُ لا يُبْحَثُ عَنْ رجالِهِ، بل يجبُ العملُ بهِ مِن غيرِ بَحْثٍ.
فائدةٌ: ذَكَرَ ابنُ الصَّلاحِ أَنَّ مِثالَ المُتواتِرِ عَلى التَّفسيرِ المُتَقَدِّمِ يَعِزُّ(1/60)
........................................................................................
_____________________________________________________
وُجودُهُ؛ إِلاَّ أَنْ يُدَّعَى ذلك في حَديثِ: "مَنْ كَذَبَ عَلَيّ مُتَعَمِّداً؛ فلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار".
وما ادَّعَاهُ مِن العِزَّةِ مَمْنوعٌ، وكذا مَا ادَّعاهُ غيرُهُ مِن العَدَمِ؛ لأنَّ ذلك نَشَأَ عَنْ قِلَّةِ الاطِّلاعِ على كَثْرَةِ الطُّرُقِ، وأَحْوالِ الرِّجالِ، وصفاتِهِمُ المُقتَضِيَةِ لإِبعادِ العادَةِ أَنْ يَتَواطَؤوا عَلى كَذِبٍ، أو يَحْصُلَ منهُمُ اتِّفاقاً.(1/61)
2 - والثَّاني: المَشْهورُ وهُوَ المُستفيضُ عَلَى رَأْيِ.
_____________________________________________________
ومِن أَحْسَنَ مَا يُقَرَّرُ بِه كونُ المُتواتِرِ مَوجوداً وُجودَ كَثْرةٍ في الأَحاديثِ أَنَّ الكُتُبَ المشهورةَ المُتَداوَلَةَ بأَيدي أَهْلِ العِلْمِ شَرْقاً وغَرْباً المَقْطوعَ عِنْدَهُم بِصِحَّةِ نِسْبَتِها إلى مُصَنِّفيها، إذا اجْتَمَعَتْ على إِخراجِ حَديثٍ، وتعدَّدَتْ طُرُقُه تعدُّداً تُحيلُ العادةُ تواطُؤهُمْ على الكَذِبِ إِلى آخِرِ الشُّروطِ؛ أَفادَ العِلْمَ اليَقينيَّ بصحَّتِهِ إِلى قائِلِهِ.
ومِثْلُ ذلكَ في الكُتُبِ المَشْهُورَةِ كَثيرٌ.
(والثَّاني) - وهُو أَوَّلُ أقسام الآحادِ -: ما لَهُ طُرُقٌ مَحْصورةٌ بأَكثرَ مِن اثْنَيْنِ وهُو (المَشْهورُ) عندَ المُحَدِّثينَ: سُمِّيَ بذلك لوُضوحِهِ، (وهُوَ المُستفيضُ)(1/62)
........................................................................................
_____________________________________________________
(عَلى رأْيِ) جماعةٍ مِن أَئمَّةِ الفُقهاءِ، سُمِّيَ بذلك لانْتشارِهِ، ومِنْ فاضَ الماءُ يَفيضُ فيضاً.
ومِنْهُم مَن غَايَرَ بينَ المُسْتَفيضِ والمَشْهورِ؛ بأَنَّ المُسْتَفيضَ يكونُ في ابْتِدائِهِ وانْتِهائِهِ سَواءً، والمَشْهورَ أَعَمُّ مِنْ ذلكَ.
ومنهُمْ مَن غايَرَ على كيفيَّةٍ أُخْرى، وليسَ مِن مَباحِثِ هذا الفَنِّ.
ثمَّ المَشْهورُ يُطْلَقُ على مَا حُرِّرَ هُنا وعلى ما اشْتُهِرَ على الألْسِنةِ،(1/63)
3 - والثَّالِثُ: العَزيزُ، ولَيْسَ شَرْطاً للصَّحيحِ؛ خِلافاً لمَنْ زعَمَ.
_____________________________________________________
فيشْمَلُ ما لَهُ إِسنادٌ واحِدٌ فصاعِداً، بَلْ مَا لَا يُوجَدُ لهُ إِسنادٌ أَصْلاً.
(والثَّالِثُ: العَزيزُ) وهُو: أَنْ لا يَرْويَهُ أَقَلُّ مِن اثْنَيْنِ عنِ اثْنَيْنِ، وسُمِّيَ(1/64)
........................................................................................
_____________________________________________________
بذلك إِمَّا لِقِلَّةِ وُجودِهِ، وإِمَّا لكونِهِ عَزَّ - أَي: قَوِيَ - بمَجيئِهِ مِن طَريقٍ أُخْرى.
(ولَيْسَ شَرْطاً للصَّحيحِ؛ خِلافاً لمَنْ زعَمَهُ )، وهو أَبو عَليٍّ الجُبَّائيُّ مِن المُعْتزلةِ، وإِليهِ يُومِئُ كلامُ الحاكِمِ أَبي عبد اللهِ في "علومِ الحديثِ" حيثُ قال: الصَّحيحُ أَنْ يَرْوِيَهُ الصَّحابِيُّ الزَّائِلُ عنهُ اسمُ الجَهالةِ؛ بأَنْ يكونَ لهُ راوِيانِ، ثمَّ يتداوَلَهُ أَهلُ الحَديثِ إِلى وَقْتِنِا كالشَّهادَةِ عَلى الشَّهادَةِ.(1/65)
........................................................................................
_____________________________________________________
وصَرَّحَ القاضي أَبو بَكْرٍ بنُ العربيِّ في "شَرْحِ البُخاريّ" بأَنَّ ذلك شَرْطُ البُخاريِّ، وأَجاب عمَّا أُورِدَ عليهِ مِنْ ذلك بِجوابٍ فيهِ نَظرٌ؛ لأَنَّهُ قال: فإِنْ قيلَ: حديثُ "إنما الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ" فَرْدٌ؛لم يَرْوِهِ عَنْ عُمرَ إِلاَّ(1/66)
........................................................................................
_____________________________________________________
عَلْقَمَةُ !
قالَ: قُلْنا: قَدْ خَطَبَ بِهِ عُمَرُ رضيَ اللهُ عنهُ عَلى المِنْبَرِ بحَضْرةِ الصَّحابَةِ، فلولا أَنَّهُمْ يَعْرِفونَهُ لأنْكروهُ !
كذا قالَ !(1/67)
........................................................................................
_____________________________________________________
وتُعُقِّبَ بأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِم سَكَتُوا عنهُ أَنْ يَكُونوا سَمِعوهُ مِنْ غَيْرِهِ، وبأَنَّ هذا لو سُلِّمَ في عُمَرَ مُنِعَ في تَفَرُّدِ عَلْقَمَةَ عنهُ، ثمَّ تَفَرُّدِ مُحَمَّدِ بنِ إِبْراهيمَ بِه عَنْ عَلْقَمَةَ، ثُمَّ تَفَرُّدِ يَحْيَى بنِ سَعيدٍ بهِ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ عَلى ما هُو الصَّحيحُ المُعْروفُ عِنْدَ المُحَدِّثينَ.
وقَدْ وَرَدَتْ لُهْم مُتابعاتٌ لا يُعْتَبَرُ بِها لِضَعْفِها.(1/68)
........................................................................................
_____________________________________________________
وكَذا لا نُسَلِّمُ جَوابَهُ في غَيْرِ حَديثِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهُ.
قالَ ابنُ رُشَيْدٍ: ولَقَدْ كانَ يَكْفي القاضيَ في بُطْلانِ ما ادَّعَى أَنَّهُ شَرْطُ البُخاريِّ أَوَّلُ حَديثٍ مَذكورٍ فيهِ.
وادَّعَى ابنُ حِبَّانَ نقيضَ دَعْواهُ، فقالَ: إِنَّ رِوايَةَ اثنَيْنِ عَنِ اثنَيْنِ إِلى أَنْ يَنْتَهِيَ لا تُوجَدُ أَصْلاً.
قُلْتُ: إِنْ أرادَ بهِ أَنَّ رِوايَةَ اثْنَيْنِ فَقَطْ عَنِ اثْنَيْنِ فَقَطْ لا تُوجَدُ أَصْلاً؛ فيُمْكِنُ أَنْ يُسَلَّمَ، وأَمَّا صُورَةُ العَزيزِ الَّتي حَرَّرْناها فمَوْجودَةٌ بأَنْ لا يَرْوِيَهُ أَقَلُّ مِن اثْنَيْنِ عَنْ أَقَلَّ مِنَ اثْنَيْنِ.(1/69)
4 - والرَّابِعُ: الغَريبُ.
وكُلُّها - سِوَى الأوَّلِ - آحادٌ
_____________________________________________________
مثالُهُ: ما رَواهُ الشَّيْخانِ مِن حَديثِ أَنَسٍ، والبُخاريُّ مِن حديثِ أَبي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: "لا يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِليهِ مِنْ والدِهِ وولَدِهِ..." الحديث.
ورواهُ عَنْ أَنَسٍ: قَتادَةُ وعبدُ العزيزِ بنُ صُهَيْبٍ، ورواهُ عَنْ قتادَةَ: شُعْبَةُ وسعيدٌ، ورواهُ عَنْ عبدِ العزيزِ: إِسماعيلُ بنُ عُلَيَّةَ وعبدُ الوارِثِ، ورواهُ عن كُلٍّ جَماعةٌ.
(والرَّابِعُ: الغَريبُ): وهُو ما يَتَفَرَّدُ بِروايَتِهِ شَخْصٌ واحِدٌ في أَيِّ مَوْضِعٍ وَقَعَ التَّفَرُّدُ بِهِ مِنَ السَّنَدِ عَلى مَا سَيُقْسَمُ إِليهِ الغَريبُ المُطْلَقُ والغَريبُ النِّسبيُّ.
(وكُلُّها) أي: الأقسامُ الأرْبَعَةُ المَذْكورةُ (سوى الأوَّلِ)، وهو المُتواتِرُ (آحادٌ)، ويُقالُ لكُلٍّ منها: خَبَرُ واحِدٍ.
وخَبَرُ الواحِدِ في اللُّغَةِ: ما يَرويهِ شَخْصٌ واحِدٌ، وفي الاصطِلاحِ: ما(1/70)
وَفِيْهَا المَقْبولُ وَالمَرْدُودُ؛ لتوقُّفِ الاستدلالِ بِهَا عَلى البَحْثِ عَنْ أحوالِ رُوَاتِهَا، دُونَ الأوَّلِ
_____________________________________________________
لَمْ يَجْمَعْ شُروط المُتواتِرِ.
(وفيها)؛ أي: في الآحَادِ: (المَقْبولُ) وهو: ما يَجِبُ العَمَلُ بِهِ عِنْدَ الجُمْهورِ.
(وَ) فيها (المَرْدُودُ)، وهُو الَّذي لَمْ يَتَرَجَّحْ صِدْقُ المُخْبِرُ بِهِ؛ (لتوقُّفِ الاستدلالِ بها عَلى البَحْثِ عَنْ أحوالِ رواتِها، دُونَ الأوَّلِ)، وهو المُتواتِرُ.
فكُلُّهُ مَقْبولٌ لإِفادَتِهِ القَطْعَ بِصِدْقِ مُخْبِرِهِ بِخلافِ غَيْرِهِ مِنْ أَخبارِ(1/71)
........................................................................................
_____________________________________________________
الآحادِ.
لكنْ؛ إِنَّما وَجَبَ العَمَلُ بالمَقْبولِ مِنها، لأَنَّها إِمَّا أَنْ يُوْجَدَ فيها أَصلُ صِفَةِ القَبولِ - وهُو ثُبوتُ صِدْقِ النَّاقِلِ -، أَوْ أَصلُ صِفَةِ الرَّدِّ - وهُو ثُبوتُ كَذِبِ النَّاقِلِ - أَوْ لاَ:
فالأوَّلُ: يَغْلِبُ على الظَّنِّ ثُبوتُ صِدْقِ الخَبَرِ لِثُبوتِ صِدْقِ ناقِلِهِ فيُؤخَذُ بِهِ.
والثَّانِي: يَغْلِبُ على الظَّنِّ كَذِبُ الخَبَرِ لِثُبوتِ كَذِبِ ناقِلِهِ فيُطْرَحُ.(1/72)
وَقَدْ يَقعُ فِيْهَا مَا يُفيدُ العِلْمَ النَّظريَّ بالقَرائِنِ؛ عَلى المُختارِ
_____________________________________________________
والثَّالِثُ: إِنْ وُجِدَتْ قرينَةٌ تُلْحِقُهُ بأَحَدِ القِسْمَيْنِ الْتَحَقَ، وإِلاَّ فَيُتَوَقَّفُ فيهِ، وإِذا تُوُقِّفَ عَنِ العَمَلِ بهِ صارَ كالمَرْدودِ، لا لِثُبوتِ صِفَةِ الرَّدِّ، بل لكَوْنِه لمْ تُوجَدْ فيهِ صفةٌ توجِبُ القَبولَ، واللهُ أعلمُ.
(وقد يَقعُ فيها)؛ أي: في أَخْبارِ الآحادِ المُنْقَسِمَة إِلى مَشْهورٍ وعَزيزٍ وغَريبٍ؛ (مَا يُفيدُ العِلْمَ النَّظريَّ بالقَرائِنِ؛ عَلى المُختارِ)؛ خِلافاً لِمَنْ أَبى ذلك.
والخِلافُ في التَّحْقيقِ لَفْظيٌّ؛ لأنَّ مَنْ جَوَّزَ إِطلاقَ العِلْمِ قَيَّدَهُ بِكونِهِ نَظَريّاً، وهُو الحاصِلُ عن الاسْتِدلالِ، ومَنْ أَبى الإِطلاقَ؛ خَصَّ لَفْظ العِلْمِ بالمُتواتِرِ، وما عَداهُ عِنْدَهُ كُلُّهُ ظَنِّيٌّ، لكنَّهُ لا يَنْفِي أَنَّ ما احْتفَّ بالقرائِنِ أَرْجَحُ ممَّا خَلا عَنها.(1/73)
........................................................................................
_____________________________________________________
والخَبَرُ المُحْتَفُّ بالقَرائِن أنواعٌ:
مِنْها مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخانِ في صَحيحَيْهِما ممَّا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ المتواتِرِ، فإِنَّهُ احْتُفَّتْ بِهِ قرائِنُ؛ منها:
جَلالتُهُما في هذا الشَّأْنِ.
وتَقَدُّمُهُما في تَمْييزِ الصَّحيحِ على غيرِهما.
وتَلَقِّي العُلماءِ كِتابَيْهِما بالقَبُولِ، وهذا التَّلقِّي وحدَهُ أَقوى في إِفادةِ العلمِ مِن مُجَرَّدِ كَثْرَةِ الطُّرُقِ القاصرةِ عَنِ التَّواتُرِ.
إِلاَّ أَنَّ هذا مُخْتَصٌّ بِمَا لَمْ يَنْقُدْهُ أَحدٌ مِنَ الحُفَّاظِ مِمَّا في الكِتابينِ، وبِما(1/74)
........................................................................................
_____________________________________________________
لَمْ يَقَعِ التَّجاذُبُ بينَ مَدْلولَيْهِ مِمَّا وَقَعَ في الكِتابينِ، حيثُ لا تَرْجيحَ لاستِحالَةِ أَنْ يُفيدَ المُتناقِضانِ العِلْمَ بصِدْقِهِما من غيرِ ترجيحٍ لأحدِهِما على الآخرِ.
وما عَدا ذلك؛ فالإِجماعُ حاصِلٌ على تَسْليمِ صِحَّتِهِ.
فإِنْ قِيلَ: إِنَّما اتَّفَقوا على وُجوبِ العَمَلِ بِهِ لا عَلى صِحَّتِهِ؛ مَنَعْنَاهُ.
وسَنَدُ المَنْعِ أَنَّهُمْ مُتَّفِقونَ عَلى وُجوبِ العَمَلِ بِكُلِّ مَا صَحَّ ولوْ لَمْ يُخْرِجْهُ الشَّيْخانِ، فلمْ يَبْقَ للصَّحيحينِ في هذا مَزيَّةٌ، والإِجماعُ حاصِلٌ على أَنَّ لهُما مَزِيَّةً فيما يَرْجِعُ إِلى نَفْسِ الصِّحَّةِ.(1/75)
........................................................................................
_____________________________________________________
ومِمَّن صَرَّحَ بإِفادَةِ مَا خَرَّجَهُ الشَّيْخانِ العِلْمَ النَّظَرِيَّ: الأسْتاذُ أَبو إِسْحاقَ الإِسْفَرايِينِيُّ، ومِن أَئِمَّةِ الحَديثِ أَبو عبدِ اللهِ الحُمَيْدِيُّ، وأَبو الفَضْلِ بنُ طاهِرٍ وغيرُهُما.
ويُحْتَمَلُ أَنْ يُقالَ: المَزِيَّةُ المَذْكُورَةُ كَوْنُ أَحادِيثِهِما أَصَحَّ الصَّحيحِ.
ومِنها: (المَشْهورُ) إِذا كانَتْ لهُ طُرُقٌ مُتبايِنَةٌ سالِمَةٌ مِنْ ضَعْفِ الرُّواةِ، والعِلَلِ.
وممَّن صَرَّحَ بإِفادَتِهِ العِلْمَ النَّظَرِيَّ الأسْتاذُ أَبو مَنْصورٍ البَغْدادِيُّ، والأسْتاذُ أَبو بَكْرِ بنُ فُورَكٍ وغيرُهُما.
ومِنها: المُسَلْسَلُ بالأئمَّةِ الحُفَّاظِ المُتْقِنينَ، حيثُ لا يكونُ غَريباً؛ كالحَديثِ الَّذي يَرْويهِ أَحمَدُ بنُ حَنْبَلٍ مَثلاً ويُشارِكُهُ فيهِ غَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ،(1/76)
........................................................................................
_____________________________________________________
ويُشارِكُهُ فيهِ غيرُهُ عنْ مالِكِ بنِ أَنسٍ؛ فإِنَّهُ يُفيدُ العِلْمَ عندَ سَامِعِهِ بالاستِدْلالِ مِن جِهَةِ جَلالَةِ رُواتِهِ، وأَنَّ فيهِمْ مِنَ الصِّفاتِ اللاَّئِقَةِ المُوجِبَةِ للقَبولِ مَا يقومُ مَقامَ العَدَدِ الكَثيرِ مِنْ غَيْرِهِم.
ولا يَتَشَكَّكُ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُمارَسَةٍ بالعِلْمِ وأَخْبارِ النَّاسِ أَنَّ مالِكاً مَثلاً لو شافَهَهُ بخَبَرٍ أَنَّهُ صادِقٌ فيهِ، فإِذا انْضافَ إِليهِ مَنْ هُو في تِلْكَ الدَّرَجَةِ؛ ازْدَادَ قُوَّةً، وبَعُدَ عَمَّا يُخْشَى عليهِ مِنَ السَّهْوِ.
وهذهِ الأنْواعُ الَّتي ذكَرْناها لا يَحْصُلُ العلمُ بصِدْقِ الخَبرِ منها إِلاَّ للعالِمِ بالحَديثِ، المُتَبَحِّرِ فيهِ، العارِفِ بأَحوالِ الرُّواةِ، المُطَّلِعِ عَلى العِلَلِ.
وكَوْنُ غيرِهِ لا يَحْصُلُ لهُ العِلْمُ بصِدْقِ ذلك لِقُصورِهِ عن الأوْصافِ المَذكورَةِ لا يَنْفي حُصولَ العِلْمِ للمُتَبَحِّرِ المَذْكورِ، واللهُ أَعلمُ.
ومُحَصّلُ الأنْواعِ الثَّلاَثَةِ الَّتي ذَكَرْناها:(1/77)
5 - ثمَّ الغَرابَةُ: إِمَّا أَنْ تَكونَ في أَصلِ السَّنَدِ أَوْ لاَ:
فالأوَّلُ: الفَرْدُ المُطْلَقُ.
_____________________________________________________
أنَّ الأوَّلَ: يَخْتَصُّ بالصَّحيحينِ.
والثاني: بِما لَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
والثَّالِثُ: بِما رواهُ الأئمَّةُ.
ويمكِنُ اجْتماعُ الثَّلاثةِ في حَديثٍ واحِدٍ، فلا يَبْعُدُ حينئذٍ القَطْعُ بصِدْقِهِ، واللهُ أَعْلمُ.
(ثمَّ الغَرابَةُ إِمَّا أَنْ تَكونَ في أَصلِ السَّنَدِ)؛ أي: في الموضعِ الَّذي يَدورُ الإِسنادُ عليهِ ويَرْجِعُ، ولو تَعَدَّدَتِ الطُّرقُ إِليهِ، وهو طرَفُهُ الَّذي فيهِ الصحابيُّ (أَوْ لاَ) يَكونُ كَذلكَ؛ بأَنْ يَكونَ التَّفَرُّدُ في أَثنائِهِ، كأَنْ يَرْوِيَه عَنِ الصَّحابيِّ أَكثَرُ مِنْ واحِدٍ، ثمَّ يتفرَّدُ بروايَتِه عنْ واحِدٍ منهُم شَخْصٌ واحِدٌ.
(فالأوَّلُ: الفَرْدُ المُطْلَقُ)؛ كَحديثِ النَّهْيِ عَنْ بيعِ الوَلاءِ وعَنْ هِبَتِهِ؛ تفرَّدَ بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ عنِ ابنِ عُمرَ.(1/78)
........................................................................................
_____________________________________________________
وقد يَتَفَرَّدُ بهِ رَاوٍ عَنْ ذلك المُتفرِّدِ؛ كحديثِ شُعَبِ الإِيمانِ؛ وقد تفرَّدَ بهِ أَبو صالحٍ عَنْ أَبي هُريرةَ، وتفرَّدَ بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ عَنْ أَبي صالحٍ.
وقدْ يَسْتَمِرُّ التفرُّدُ في جميعِ رواتِهِ أَوْ أَكْثَرِهمْ، وفي "مُسْنَدِ البَزَّارِ"(1/79)
والثَّانِي: الفَرْدُ النِّسْبِيُّ، ويقلُّ إِطلاقُ الفَرْدِيَّةِ عليهِ.
_____________________________________________________
و "المُعْجَم الأوسط" للطَّبرانيِّ أَمثلةٌ كثيرةٌ لذلك.
(والثَّانِي: الفَرْدُ النِّسْبِيُّ) سُمِّيَ نسبيّاً لكونِ التفرُّدِ فيهِ حصلَ بالنسبةِ إِلى(1/80)
........................................................................................
_____________________________________________________
شخصٍ معيَّنٍ، وإِنْ كانَ الحَديثُ في نفسِه مشهوراً.
(ويقلُّ إِطلاقُ الفَرْدِيَّةِ عليهِ)؛ لأنَّ الغَريبَ والفَرْدَ مُترادِفانِ لغةً واصْطِلاحاً؛ إِلاَّ أَنَّ أَهْلَ الاصطِلاحِ غايَروا بينَهُما من حيثُ كَثْرَةُ الاستِعمالِ وقِلَّتُهُ.
فالفرْدُ أَكْثَرُ ما يُطْلِقونَهُ على الفَرْدِ المُطْلَقِ.
والغَريبُ أَكثرُ ما يُطْلِقونَهُ عَلى الفَرْدِ النِّسْبيِّ.
وهذا مِن حيثُ إِطلاقُ الاسمِ عليهِما.
وأَمَّا مِنْ حيثُ استِعْمالُهم الفِعْلَ المُشْتَقَّ؛ فلا يُفَرِّقونَ، فَيقولونَ في المُطْلَقِ والنِّسْبيِّ: تَفَرَّدَ بِهِ فُلانٌ، أَوْ: أَغْرَبَ بِهِ فُلانٌ.
وقَريبٌ مِن هذا اختِلافُهُم في المُنْقَطِعِ والمُرْسَلِ؛ هلْ هُما مُتغايِرانِ أَوْ لاَ ؟
فأَكْثَرُ المُحَدِّثين على التَّغايُرِ، لكنَّهُ عندَ إطلاقِ الاسمِ، وأمَّا عندَ اسْتِعمَالِ الفِعْل المُشْتَقِّ فيستَعْمِلونَ الإِرسالَ فقَطْ فيَقولونَ: أَرْسَلَهُ فلانٌ، سواءٌ(1/81)
6 - وخبرُ الآحادِ؛ بنقلِ عَدْلٍ تامِّ الضَّبْطِ، مُتَّصِلَ السَّنَدِ، غيرَ مُعَلَّلٍ ولا شاذٍّ: هُوَ الصَّحيحُ لذاتِهِ.
_____________________________________________________
كانَ ذلكَ مُرْسَلاً أَوْ مُنْقَطِعاً.
ومِن ثَمَّ أَطْلَقَ غيرُ واحِدٍ - مِمَّن لم يلاحِظْ مواضِعَ اسْتِعمالِهِ -على كثيرٍ مِن المُحدِّثينَ أَنَّهُم لا يُغايِرونَ بينَ المُرْسَلِ والمُنْقَطِعِ !
وليسَ كذلك؛ لما حَرَّرناهُ، وقلَّ مَن نبَّهَ على النُّكْتَةِ في ذلك، واللهُ أعلمُ.
(وخبرُ الآحادِ؛ بنقلِ عَدْلٍ تامِّ الضَّبْطِ، مُتَّصِلَ السَّنَدِ، غيرَ مُعَلَّلٍ ولا شاذٍّ: هو الصَّحيحُ لذاتِهِ)، وهذا أَوَّلُ تقسيمٍ مقبولٍ إِلى أربعةِ أَنواعٍ؛ لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يشتَمِلَ مِن صفاتِ القَبولِ على أَعْلاها أَوْ لاَ:
الأوَّلُ: الصَّحيحُ لذاتِهِ.
والثَّاني: إِنْ وُجِدَ ما يَجْبُرُ ذلكَ القُصورَ؛ ككثْرَةِ الطُّرُق؛ فهُو الصَّحيحُ أَيضاً، لكنْ لا لذاتِهِ.
وحيثُ لا جُبْرانَ؛ فهُو الحسنُ لذاتِهِ.
وإِنْ قامَتْ قرينةٌ تُرَجِّحُ جانِبَ قَبولِ مَا يُتَوَقَّفُ فيهِ؛ فهُو الحسنُ أيضاً، لكنْ لا لذاتِهِ.(1/82)
........................................................................................
_____________________________________________________
وقُدِّمَ الكَلامُ على الصَّحيحِ لذاتِهِ لعُلُوِّ رُتْبَتِهِ.
والمُرادُ بالعَدْلِ: مَنْ لهُ مَلَكَةٌ تَحْمِلُهُ على مُلازمةِ التَّقوى والمُروءةِ.
والمُرادُ بالتَّقوى: اجْتِنابُ الأعمالِ السَّيِّئةِ مِن شِرْكٍ أَو فِسقٍ أَو بِدعةٍ.
والضَّبْطُ:
ضَبْطُ صَدْرٍ: وهُو أَنْ يُثْبِتَ ما سَمِعَهُ بحيثُ يتمكَّنُ مِن استحضارِهِ مَتى شاء.
وضَبْطُ كِتابٍ: وهُو صيانَتُهُ لديهِ مُنذُ سمِعَ فيهِ وصحَّحَهُ إِلى أَنْ يُؤدِّيَ منهُ.
وقُيِّدَ بـ (التَّامِّ) إِشارةً إِلى الرُّتبةِ العُليا في ذلكَ.
والمُتَّصِلُ: ما سَلِمَ إِسنادُه مِن سُقوطٍ فيهِ، بحيثُ يكونُ كُلٌّ مِن رجالِه سَمِعَ ذلكَ المَرْوِيَّ مِنْ شيخِهِ.
والسَّنَدُ: تقدَّمَ تعريفُهُ.
والمُعَلَّلُ لُغةً: ما فِيهِ عِلَّةٌ، واصطِلاحاً: ما فيهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ قادِحةٌ.
والشَّاذُّ لُغةً: المُنفَرِدُ، واصطِلاحًا: ما يُخالِفُ فيهِ الرَّاوي مَنْ هُو أَرْجَحُ منهُ. ولهُ تفسيرٌ آخرُ سيأْتي.
تنبيهٌ: قولُهُ: (وخبرُ الآحادِ)؛ كالجِنْسِ، وباقي قُيودِهِ كالفَصْلِ.(1/83)
وتتفاوَتُ رُتَبُهُ بِتفاوُتِ هذهِ الأوْصافِ
_____________________________________________________
وقولُهُ: "بِنَقْلِ عَدْلٍ"؛ احْتِرازٌ عَمَّا يَنْقُلُهُ غيرُ العَدْلِ.
وقوله: "هُو" يسمَّى فَصْلاً يتَوَسَّطُ بينَ المُبتَدَإِ والخَبَرِ، يُؤذِنُ بأَنَّ ما بَعْدَهُ خَبرٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وليسَ بِنَعْتٍ لهُ.
وقولُهُ: "لذاته"؛ يُخْرِجُ ما يسمَّى صحيحاً بأَمرٍ خارِجٍ عنهُ؛ كما تقدَّمَ.
(وتتفاوَتُ رُتَبُهُ)؛ أي: الصَّحيحُ، (بِـ) سببِ (تفاوُتِ هذهِ الأوْصافِ) المُقْتَضِيَةِ للتَّصحيحِ في القُوَّةِ؛ فإِنَّها لمَّا كانَتْ مُفيدةً لغَلَبَةِ الظَّنِّ الَّذي عليهِ مَدارُ الصِّحَّةِ؛ اقْتَضَتْ أَنْ يكونَ لها دَرجاتٌ بعضُها فَوْقَ بعضٍ بحَسَبِ الأمورِ المُقَوِّيةِ.
وإِذا كانَ كذلك فما يَكونُ رُواتُهُ في الدَّرجةِ العُليا مِن العدالَةِ والضَّبْطِ وسائِرِ الصِّفاتِ التي تُوجِبُ التَّرجيحَ؛ كانَ أَصحَّ ممَّا دونَهُ.
فَمِنَ المَرْتَبَةِ العُلْيا في ذلك ما أَطْلَقَ عليهِ بعضُ الأئمَّةِ أَنَّهُ أَصحُّ الأسانيدِ:
كالزُّهْريِّ عن سالِمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ عن أَبيهِ.
وكمحمَّدٍ بنِ سيرينَ عن عَبيدةَ بنِ عَمْروٍ السَّلْمانِيِّ عَن عَليٍّ.(1/84)
........................................................................................
_____________________________________________________
وكَإِبراهيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عن ابنِ مَسعودٍ.
ودونَها في الرُّتبةِ: كرِوايةِ بُرَيْدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أَبي بُرْدَةَ عن جَدِّهِ عن أَبيهِ أَبي مُوسى.
وكَحمَّادِ بنِ سَلَمَةَ عن ثابِتٍ عَنْ أَنسٍ.
ودُونَها في الرُّتْبَةِ:
كسُهَيْلِ بنِ أَبي صالحٍ عَنْ أَبيهِ عن أَبي هُريرةَ.
وكالعَلاءِ بنِ عبدِ الرحمن عن أَبيهِ عن أَبي هُريرةَ.
فإِنَّ الجَميعَ يشمَلُهُم اسمُ "العَدالَةِ" و"الضَّبْطِ"؛ إِلاَّ أَنَّ للمَرْتَبَةِ الأولى مِن الصِّفاتِ المُرَجِّحَةِ ما يقتَضي تقديمَ روايتِهِم على الَّتي تَليها، وفي الَّتي تليها مِنْ قوَّةِ الضَّبْطِ ما يقتَضي تقديمَها على الثَّالِثَةِ، وهِي مُقدَّمةٌ على رِوايةِ مَن يُعَدُّ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حَسناً؛ كمحمَّد بنِ إِسحاقَ عن عاصمِ بنِ عُمرَ عن جابرٍ، وعمروِ بنِ شُعَيْبٍ عنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ.
وقِسْ على هذهِ المراتِبِ ما يُشبِهُها.
المرتَبَةُ الأولي هِيَ الَّتي أَطلَقَ عليها بعضُ الأئمَّةِ أَنَّها أَصحُّ الأسانيدِ، والمُعْتَمَدُ عدمُ الإِطلاقِ لترجَمةٍ معيَّنةٍ منها.
نعم؛ يُستَفَادُ مِن مجموعِ ما أَطلقَ الأئمَّةُ عليهِ ذلك أَرجَحِيَّتُهُ على ما لَمْ يُطْلِقوهُ.(1/85)
........................................................................................
_____________________________________________________
ويلْتَحِقُ بهذا التَّفاضُلِ ما اتَّفَقَ الشَّيخانِ على تَخريجِه بالنِّسبةِ إِلى ما انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُما، وما انْفَرَدَ بهِ البُخاريُّ بالنِّسبةِ إلى ما انْفَرَدَ بهِ مُسلمٌ؛ لاتِّفاقِ العُلماءِ بعدِهِما على تلقِّي كِتابَيْهِما بالقَبولِ، واختِلافِ بعضِهِم على أَيِّهِما أَرْجَحُ، فما اتَّفقا عليهِ أَرجَحُ مِن هذهِ الحيثيَّةِ ممَّا لم يتَّفقا عليهِ.
وقد صرَّحَ الجمهورُ بتقديمِ "صحيحِ البُخاريِّ" في الصِّحَّةِ، ولم يوجَدْ عنْ أحدٍ التَّصريحُ بنقيضِهِ.
وأَمّا ما نُقِلَ عَن أبي عليٍّ النَّيْسابوريِّ أَنَّهُ قالَ: ما تحتَ أَديمِ السَّماءِ أَصحُّ مِن "كتابِ مُسلمٍ"؛ فلمْ يُصرِّحْ بكونِه أَصحَّ مِن "صحيحِ البُخاريِّ"؛ لأَنَّهُ إِنَّما نَفَى وُجودَ كتابٍ أَصحَّ مِن "كتابِ مسلم"؛ إِذ المَنْفِيُّ إِنَّما هُو ما تَقْتَضيهِ صيغَةُ أَفْعَلَ من زيادَةِ صحَّةٍ في كتابٍ شارَكَ "كتابَ مُسلمٍ" في الصِّحَّةِ، يمتازُ بتلكَ الزِّيادَةِ عليه، ولم يَنْفِ المُساواةَ.
وكذلكَ ما نُقِلَ عنْ بعضِ المَغارِبَةِ أَنَّهُ فَضَّلَ "صحيحَ مُسلمٍ" على(1/86)
........................................................................................
_____________________________________________________
"صحيحِ البُخاريِّ"؛ فذلكَ فيما يرجِعُ إِلى حُسْنِ السِّياقِ وجَوْدَةِ الوَضْعِ والتَّرتِيبِ.
ولم يُفْصِحْ أَحدٌ منهُم بأَنَّ ذلكَ راجِعٌ إِلى الأصحِّيَّةِ، ولو أَفْصَحوا به لردَّهُ عليهِمْ شاهِدُ الوُجودِ، فالصِّفاتُ الَّتي تدورُ عليها الصِّحَّةُ في "كتابِ البُخاريِّ" أَتمُّ منها في "كتابِ مسلمٍ" وأَشَدُّ، وشرطُهُ فيها أَقوى وأَسَدُّ.
أَمَّا رُجْحانُهُ مِن حيثُ الاتصالُ؛ فلاشْتِراطِهِ أَنْ يكونَ الرَّاوِي قَدْ ثَبَتَ لهُ لِقاءُ مَنْ روى عنهُ ولو مَرَّةً، واكْتَفى مُسْلِمٌ بمُطْلَقِ المُعاصَرَةِ، وأَلْزَمَ البُخاريَّ بأَنَّهُ يحتاجُ إِلى أَنْ لا يقْبَلَ العَنْعَنَةَ أَصلاً !
وما أَلْزَمَهُ بهِ ليسَ بلازِمٍ؛ لأنَّ الرَّاويَ إِذا ثبتَ لهُ اللِّقاءُ مرَّةً؛ لا يجْري في(1/87)
........................................................................................
_____________________________________________________
رواياتِهِ احْتِمالُ أَنْ لا يكونَ سمِعَ منهُ؛ لأنَّهُ يلزمُ مِن جَريانِهِ أَنْ يكونَ مُدَلِّساً، والمسأَلةُ مَفروضَةٌ في غير المُدَلِّسِ.
وأَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حيثُ العَدالَةُ والضَّبْطُ؛ فلأنَّ الرِّجالَ الَّذينَ تُكُلَِّمَ فيهِم مِن رجالِ مُسلِمٍ أَكثرُ عَدداً مِن الرِّجالِ الَّذينَ تُكُلِّمَ فيهِم مِن رجالِ البُخاريِّ، معَ أَنَّ البُخارِيَّ لم يُكْثِرْ مِن إِخراجِ حَديثِهِمْ، بل غالِبُهُمْ مِن(1/88)
ومن ثَمَّ قُدِّمَ "صحيحُ البُخاريِّ" ثمَّ مُسْلِمٍ ثمَّ شَرْطُهُما
_____________________________________________________
شيوخِهِ الذينَ أَخَذَ عنهُم ومَارَسَ حَديثَهُم، بخِلافِ مُسلمٍ في الأمْرَينِ.
وأَمَّا رُجْحانُهُ مِن حيثُ عدمُ الشُّذوذِ والإِعلالِ؛ فلأنَّ ما انْتُقِدَ على البُخاريِّ مِن الأحاديثِ أَقلُّ عدداً مِمَّا انْتُقِدَ على مُسْلِمٍ، هذا مع اتِّفاقِ العُلماءِ على أنَّ البُخاريَّ كانَ أَجلَّ مِن مُسْلِمٍ في العُلومِ وأَعْرَفَ بصِناعةِ الحَديثِ مِنهُ، وأَنَّ مُسلماً تِلْميذهُ وخِرِّيجُهُ، ولم يزَلْ يَسْتَفيدُ منهُ ويتَتَبَّعُ آثارَهُ حتَّى قالَ الدَّارَقُطنِيُّ: لولا البُخاريُّ لَما راحَ مُسْلِمٌ ولا جَاءَ.
(ومن ثَمَّ)؛ أي: من هذه الحيثيَّةِ - وهي أَرجحيَّةُ شَرْطِ البُخاريِّ على غيرِه - (قُدِّمَ "صحيحُ البُخاريِّ") على غيرِه من الكُتُبِ المُصَنَّفةِ في الحديثِ.
(ثمَّ) صحيحُ (مُسْلِمٍ)؛ لمُشارَكَتِه للبُخاريِّ في اتِّفاقِ العُلماءِ على تَلَقِّي كِتابِهِ بالقَبولِ أَيضاً، سوى ما عُلِّلَ.
(ثمَّ) يُقَدَّمُ في الأرجحيَّةِ من حيثُ الأصحِّيَّةُ ما وافَقَهُ (شَرْطُهُما)؛ لأنَّ المُرادَ به رواتُهُما معَ باقي شُروطِ الصَّحيحِ، ورواتُهما قد حَصَلَ الاتِّفاقُ على القَوْلِ بتَعديلِهِمْ بطريقِ اللُّزومِ، فهم مُقَدَّمونَ على غيرِهم في رِواياتِهم،(1/89)
........................................................................................
_____________________________________________________
وهذا أَصلٌ لا يُخْرَجُ عنهُ إِلاَّ بدليلٍ.
فإِنْ كانَ الخَبَرُ على شَرْطِهما معاً؛ كانَ دونَ ما أَخرَجَهُ مسلمٌ أَو مثله.
وإِنْ كانَ على شَرْطِ أَحَدِهما؛ فيُقَدَّمُ شَرْطُ البُخاريِّ وحْدَه على شرطِ مُسلمٍ وحدَه تَبَعاً لأصلِ كُلٍّ منهُما.
فخَرَجَ لنا مِن هذا سِتَّةُ أَقسامٍ تتفاوتُ دَرَجاتُها في الصِّحَّةِ.
وثَمَّةَ قسمٌ سابعٌ، وهو ما ليسَ على شرطِهما اجتِماعاً وانْفراداً.
وهذا التَّفاوتُ إِنَّما هو بالنَّظرِ إِلى الحيثيَّةِ المذكورةِ.
أَمَّا لو رُجِّحَ قِسْمٌ على ما فَوْقَهُ بأُمورٍ أُخرى تقتَضي التَّرْجيحَ؛ فإِنَّهُ يُقَدَّمُ على ما فَوْقَهُ - إذ قَدْ يَعْرِضُ للمَفوقِ مَا يجعَلُهُ فائقاً -.
كما لو كان الحديثُ عندَ مُسلم مثلاً، وهُو مشهورٌ قاصِرٌ عن دَرَجَةِ التَّواتُرِ، لكنْ حَفَّتْهُ قرينةٌ صارَ بها يُفيدُ العِلْمَ؛ فإِنَّه يُقَدَّمُ على الحديثِ الذي يُخْرِجُهُ البُخاريُّ إِذا كانَ فَرْداً مُطْلقاً.
وكما لو كانَ الحَديثُ الَّذي لم يُخْرِجَاهُ مِن ترجمةٍ وُصِفَتْ بكونِها أَصَحَّ الأسانيدِ كمالِكٍ عن نافعٍ عن ابنِ عُمرَ؛ فإِنه يُقَدَّمُ على ما انفرَدَ بهِ أَحدُهُما(1/90)
7 - فإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ فالحَسَنُ لذاتِهِ.
_____________________________________________________
مثلاً، لا سيَّما إِذا كانَ في إِسنادِهِ مَن فيهِ مَقالٌ.
(فإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ)؛ أي: قلَّ - يُقالُ: خَفَّ القومُ خُفوفاً: قَلُّوا - والمُرادُ معَ بقيَّةِ الشُّروطِ المُتقدِّمَةِ في حَدِّ الصَّحيحِ؛ (فـ) هُو (الحَسَنُ لذاتِهِ) لا(1/91)
8 - وبِكثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ:
فَإِنْ جُمِعَا، فَلِلتَّرَدُّدِ فِي النَّاقِلِ حَيْثُ التَّفَرُّدُ، وَإِلَّا فَبِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ.
_____________________________________________________
لِشيءٍ خارِجٍ، وهُو الَّذي يكونُ حُسْنُهُ بسببِ الاعْتِضادِ، نحوُ حديثِ المَسْتُورِ إِذا تعَدَّدَتْ طُرُقُه.
وخَرَجَ باشْتِراطِ باقي الأوْصافِ الضَّعيفُ.
وهذا القِسْمُ مِنَ الحَسَنِ مُشارِكٌ للصَّحيحِ في الاحتِجاجِ بهِ، وإِنْ كانَ دُونَه، ومشابِهٌ لهُ في انْقِسامِه إِلى مراتِبَ بعضُها فوقَ بعضٍ.
(وبِكثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ)؛ وإِنَّما يُحْكَمُ لهُ بالصِّحَّةِ عندَ تعدُّدِ الطُّرُقِ؛ لأنَّ للصُّورةِ المجموعةِ قُوَّةً تَجْبُرُ القَدْرَ الَّذي قَصَّرَ بهِ ضَبْطُ راوِي الحَسَنِ عن راوي الصَّحيحِ، ومِن ثَمَّ تُطلَقُ الصِّحَّةُ على الإِسنادِ الَّذي يكونُ حسناً لذاتِه لو تفرَّدَ إِذا تَعَدَّدَ.
وهذا حيثُ ينفردُ الوصفُ.(1/92)
........................................................................................
_____________________________________________________
(فإِنْ جُمِعا)؛ أي: الصَّحيحُ والحسنُ في وصفِ حديثٍ واحدٍ؛ كقولِ التِّرمذيِّ وغيرِه: حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ؛ (فللتَّرَدُّدِ) الحاصلِ مِن المُجتهدِ (في النَّاقِلِ)؛ هل اجتَمَعَتْ فيهِ شُروطُ الصِّحَّةِ أَو قَصَّرَ عَنْها ؟!
وهذا (حَيْثُ) يَحْصُلُ منهُ (التَّفرُّدُ) بتلكَ الرِّوايةِ.
وعُرِف بهذا جوابُ مَن اسْتَشْكَلَ الجَمْعَ بينَ الوصفينِ، فقالَ: الحسنُ قاصرٌ عنِ الصَّحيحِ، ففي الجمعِ بينَ الوَصفَيْنِ إِثباتٌ لذلك القُصورِ ونَفْيُه !
ومُحَصّلُ الجوابِ أَنَّ تردُّدَ أَئمَّةِ الحديثِ في حالِ ناقلِه اقْتَضى للمُجتهدِ أَنْ لا يصِفَهُ بأَحدِ الوَصفَينِ، فيُقالُ فيهِ: حسنٌ؛ باعتبارِ وَصْفِه عندَ قومٍ، صحيحٌ باعتبارِ وصفِهِ عندَ قومٍ.
وغايةُ ما فيهِ أَنَّه حَذَفَ منهُ حرفَ التردُّدِ؛ لأنَّ حقَّهُ أَنْ يقولَ: حَسَنٌ أَو صحيحُ.
وهذا كما حَذَفَ حَرْفَ العَطفِ مِن الَّذي بَعْدَهُ.
وعلى هذا؛ فما قيلَ فيهِ حَسَنٌ صحيحٌ؛ دونَ ما قيلَ فيهِ: صَحيحٌ؛ لأنَّ الجزمَ أَقوى مِن التَّردُّدِ، وهذا حيثُ التفرُّدُ.
(وإِلاَّ)؛ أَي: إِذا لم يَحْصُلِ التَّفرُّدُ؛ (فـ) إِطلاقُ الوَصفَيْنِ معاً على الحديثِ يكونُ (باعْتِبارِ إِسنَادَيْنِ)، أحدُهُما صحيحٌ، والآخرُ حسنٌ.
وعلى هذا؛ فما قيلَ فيهِ: حسنٌ صحيحٌ؛ فوقَ ما قيلَ فيهِ: صحيحٌ؛ فقطْ(1/93)
........................................................................................
_____________________________________________________
إذا كانَ فَرْداً؛ لأنَّ كثرةَ الطُّرقِ تُقَوِّي.
فإِنْ قيلَ: قدْ صَرَّحَ التِّرمِذيُّ بأَنَّ شَرْطَ الحَسَنِ أَنْ يُرْوى مِن غيرِ وجْهٍ، فكيفَ يقولُ في بعضِ الأحاديثِ: حسنٌ غَريبٌ لا نعرِفُه إِلاَّ مِن هذا الوجهِ ؟!
فالجوابُ: أَنَّ التِّرمذيَّ لم يُعَرِّفِ الحَسَنَ المُطْلَقَ، وإِنَّما عَرَّفَ بنوع خاصٍّ منهُ وقعَ في كتابِه، وهُو ما يقولُ فيهِ: "حسن"؛ من غيرِ صفةٍ أُخرى، وذلك أَنَّهُ يقولُ في بعضِ الأحاديثِ: "حسنٌ"، وفي بعضِها: "صحيحٌ"، وفي بعضِها: غريبٌ"، وفي بعضِها: "حسنٌ صحيحٌ"، وفي بعضِها: "حسنٌ غَريبٌ"، وفي بعضِها: "صحيحٌ غريبٌ"، وفي بعضِها: "حسنٌ صحيحٌ غريب".
وتعريفُه إِنَّما وقعَ على الأوَّلِ فقطْ، وعبارتُه تُرشِدُ إِلى ذلك، حيثُ قال في آخِرِ كتابِه: (وما قُلْنا في كتابِنا: "حديثٌ حسنٌ"؛ فإِنَّما أَرَدْنا بهِ حَسَنٌ إِسنادِهِ عندَنا، إِذْ كُلُّ حديثٍ يُرْوي لا يكونُ راويهِ مُتَّهَماً بكَذِبٍ، ويُروي مِن غيرِ وجْهٍ نحو ذلك، ولا يكونُ شاذّاً؛ فهو عندَنا حديثٌ حسنٌ).
فعُرِف بهذا أَنَّهُ إِنَّما عَرَّفَ الَّذي يقولُ فيه: "حَسنٌ" فقطْ، أَمَّا ما يقولُ فيهِ: "حسنٌ صحيحٌ"، أو: "حسنٌ غريبٌ"، أو: "حسنٌ صحيحٌ غريبٌ"؛ فلم يُعَرِّجْ على تعريفِه؛كما لم يُعَرِّجْ على تعريفِ ما يقولُ فيهِ: "صحيحٌ" فقط، أو: "غريبٌ" فقط.(1/94)
9 - وَزِيَادَةُ رَاوِيهِمَا مَقْبُولَةٌ، مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً لِمَنْ هُوَ أَوْثَقُ.
_____________________________________________________
وكأنَّهُ تَرَكَ ذلك اسْتِغناءً بشُهرَتِه عندَ أَهلِ الفنِّ، واقْتصرَ على تعريفِ ما يقولُ فيهِ في كتابهِ: "حسنٌ" فقط؛ إِمَّا لغُموضِهِ، وإِمَّا لأنَّهُ اصطِلاحٌ جديدٌ، ولذلك قيَّدَهُ بقولِه: "عندنا"، ولم ينْسِبْهُ إِلى أَهلِ الحديثِ كما فعل الخَطَّابيُّ.
وبهذا التَّقريرِ يندفعُ كثيرٌ مِن الإِيراداتِ التي طالَ البحثُ فيها ولمْ يُسْفِرْ وجْهُ توجيهِها، فللهِ الحمدُ على ما أَلهَم وعَلَّمَ.
(وزِيادةُ راويهِما)؛ أي: الصَّحيحِ والحَسنِ؛ (مقبولةٌ مَا لمْ تَقَعْ مُنافِيَةً لِ) روايةِ (مَنْ هُو أَوْثَقُ) ممَّن لم يَذْكُرْ تلك الزِّيادةِ:
لأنَّ الزِّيادةَ: إِمَّا أَنْ تكونَ لا تَنافِيَ بينَها وبينَ روايةِ مَن لم يَذْكُرْها؛ فهذه تُقْبَلُ مُطْلقاً؛ لأنَّها في حُكْمِ الحديثِ المُستقلِّ الذي ينفرِدُ بهِ الثِّقةُ ولا يَرويه عن شيخِهِ غيرُه.
وإِمَّا أَنْ تكونَ مُنافِيةً بحيثُ يلزمُ مِن قبولِها رَدُّ الرِّوايةِ الأخرى، فهذه التي يَقَعُ التَّرجيحُ بينها وبينَ معارِضِها، فيُقْبَلُ الرَّاجحُ ويُرَدُّ المرجوحُ.
واشْتُهِرَ عَنْ جَمْعٍ مِن العُلماءِ القَوْلُ بقَبولِ الزِّيادةِ مُطْلقاً مِن غيرِ(1/95)
........................................................................................
_____________________________________________________
تفصيلٍ، ولا يَتَأَتَّى ذلك على طريقِ المُحَدِّثينَ الَّذينَ يشتَرِطونَ في الصَّحيحِ أَنْ لا يكونَ شاذّاً، ثمَّ يفسِّرونَ الشُّذوذَ بمُخالَفةِ الثِّقةِ مَن هو أَوثقُ منهُ.
والعَجَبُ مِمَّنْ أَغفلَ ذلك منهُم معَ اعْتِرافِه باشْتِراطِ انْتفاءِ الشُّذوذِ في حدِّ الحديثِ الصَّحيحِ، وكذا الحَسنِ.
والمَنقولُ عن أَئمَّةِ الحَديثِ المُتَقَدِّمينَ -كعبدِ الرحمنِ بنِ مَهْدي، ويحيى القَطَّانِ، وأَحمدَ بنِ حنبلٍ، ويحيى بنِ مَعينٍ، وعليِّ بنِ المَدينيِّ، والبُخاريِّ، وأَبي زُرْعةَ، وأَبي حاتمٍ، والنَّسائيِّ، والدَّارقطنيِّ وغيرِهم - اعتبارُ التَّرجيحِ فيما يتعلَّقُ بالزِّيادةِ وغيرها، ولا يُعْرَفُ عن أَحدٍ منهُم إِطلاقُ قَبولِ الزِّيادةِ.
وأَعْجَبُ مِن ذلك إِطلاقُ كثيرٍ مِن الشَّافعيَّةِ القَوْلَ بقَبولِ زِيادةِ الثِّقةِ، معَ أَنَّ نصَّ الشافعيِّ يدلُّ على غيرِ ذلك؛ فإِنَّهُ قالَ في أَثناءِ كلامِه على ما يُعْتَبَرُ بهِ حالُ الرَّاوي في الضَّبْطِ ما نَصُّهُ: "ويكونُ إِذا أشْرَك أَحداً مِن الحُفَّاظِ لم يُخالِفْهُ، فإِنْ خالَفَهُ فوُجِدَ حديثُهُ أَنْقَصَ كانَ في ذلك دليلٌ على صحَّةِ مَخْرَجِ حديثِهِ، ومتى خالَفَ ما وَصَفْتُ أَضرَّ ذلك بحديثِهِ" انتهى كلامه.
ومُقتَضاهُ أَنَّهُ إِذا خَالَفَ فوُجِدَ حديثُهُ أَزْيَدَ أَضرَّ ذلك بحديثِه، فدلَّ على أَنَّ زيادةَ العَدْلِ عندَه لا يلزَمُ قَبولُها مُطْلقاً، وإِنَّما تُقْبَلُ مِن الحافِظِ؛ فإِنَّهُ اعْتَبَرَ أَنْ يكونَ حديثُ هذا المُخالِفِ أَنْقَصَ مِن حديثِ مَن خالَفَهُ مِن الحُفَّاظِ، وجَعَلَ(1/96)
10 - فَإِنْ خُولِفَ بِأَرْجَحَ؛ فَالرَّاجِحُ الْمَحْفُوظُ.
11 - وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ.
_____________________________________________________
نُقصانَ هذا الرَّاوي مِن الحديثِ دليلاً على صحَّتِه؛ لأنَّه لا يَدُلُّ على تَحَرِّيهِ، وجَعَلَ ما عَدا ذلك مُضِرّاً بحديثِه، فدَخَلَتْ فيهِ الزِّيادةُ، فلو كانتْ عندَه مقبولةً مُطْلقاً؛ لم تكنْ مُضِرَّةً بحديثِ صاحِبِها، واللهُ أَعلمُ.
(فإِنْ خُولِفَ) - أي الراوي - (بأرْجَحَ) منهُ؛ لمزيدِ ضَبْطٍ أَوْ كثرةِ عدَدٍ أَو غيرِ ذلك مِن وُجوهِ التَّرجيحاتِ؛ (فالرَّاجِحُ) يقالُ لهُ: (المَحْفوظُ، ومُقابِلُهُ) - وهو المرجوحُ - يُقالُ لهُ: (الشَّاذُّ).
مثالُ ذلك: ما رواهُ التِّرمذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَة مِن طريقِ ابنِ عُيَيْنَةَ عن عَمْرو بنِ دينارٍ عن عَوْسَجة، عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّ رجُلاً تُوُفِّي في عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ، ولم يَدَعْ وارِثاً إِلاَّ مولىً هو أَعتقَهُ.... الحديثَ.
وتابَعَ ابنَ عُيَيْنَةَ على وَصْلِهِ ابنُ جُريجٍ وغيرُه.(1/97)
12 - وَ مَعَ الضَّعْفِ؛ فَالرَّاجِحُ: الْمَعْرُوفُ
13 - وَمُقَابِلُهُ: الْمُنْكَرُ.
_____________________________________________________
وخالفَهُم حمَّادُ بنُ زَيْدٍ، فرواهُ عَنْ عَمْرو بنِ دينارٍ عَن عَوْسَجَةَ ولم يَذْكُرِ ابنَ عباسٍ.
قال أبو حاتمٍ: المَحفوظُ حديثُ ابنِ عُيَيْنَةَ. أهـ كلامُه.
فحمَّادُ بنُ زيدٍ مِن أَهلِ العدالةِ والضَّبطِ، ومعَ ذلك رجَّحَ أبو حاتمٍ روايةَ مَن هُم أَكثرُ عدداً منهُ.
وعُرِفَ مِن هذا التَّقريرِ أَنَّ: الشَّاذَّ: ما رواهُ المقْبولُ مُخالِفاً لِمَنْ هُو أَوْلَى مِنهُ.
وهذا هُو المُعْتَمَدُ في تعريفِ الشاذِّ بحَسَبِ الاصْطِلاحِ.
(وَ) إِنْ وَقَعَتِ المُخالفةُ لهُ (معَ الضَّعْفِ؛ فالرَّاجِحُ) يُقالُ لهُ: (المَعْروفُ، ومُقابِلُهُ) يُقالُ لهُ: (المُنْكَرُ).
مثالُه: ما رواهُ ابنُ أَبي حاتمٍ مِن طريقِ حُبَيِّبِ بنِ حَبيبٍ - وهو أَخو(1/98)
14 - وَالْفَرْدُ النِّسْبِيُّ؛ إِنْ وَافَقَهُ؛ فَهُوَ الْمُتَابِعُ
_____________________________________________________
حَمزَةَ بنِ حَبيبٍ الزَّيَّاتِ المُقرئِ - عن أَبي إِسحاقَ عن العَيْزارِ بنِ حُريثٍ عن ابنِ عبَّاسٍ عن النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: "مَن أَقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ وحَجَّ البيتَ وصامَ وقَرَى الضَّيْفَ؛ دَخَلَ الجنَّةَ".
قالَ أَبو حاتمٍ: "هُو مُنْكَرٌ؛ لأَنَّ غيرَه مِن الثِّقاتِ رواهُ عن أَبي إِسحاقَ مَوقوفاً، وهُو المَعروفُ".
وعُرِفَ بهذا أَنَّ بينَ الشَّاذِّ والمُنْكَرِ عُموماً وخُصوصاً مِن وَجْهٍ؛ لأنَّ بينَهُما اجْتِماعاً في اشْتِراطِ المُخالفَةِ، وافْتراقاً في أَنَّ الشَّاذَّ راويهِ ثقةٌ أو صدوقٌ، والمُنْكَرَ رَاويهِ ضعيفٌ.
وقد غَفَلَ مَن سَوَّى بينَهُما، واللهُ أَعلمُ.
(وَ) ما تقدَّم ذِكرُه مِن (الفَرْدِ النِّسْبِيِّ)؛ إِنْ وُجِدَ - بعدَ ظَنِّ كونِه فَرْداً - قد (وافَقَهُ غيرُهُ؛ فهُو المُتابِعُ)؛ بكسرِ الباءِ الموحَّدةِ.(1/99)
........................................................................................
_____________________________________________________
والمُتابَعَةُ على مراتِبَ:
لأنَّها إِنْ حَصَلَتْ للرَّاوي نفسِهِ؛ فهِي التَّامَّةُ.
وإِنْ حَصَلَتْ لشيخِهِ فمَنْ فوقَهُ؛ فهِيَ القاصِرةُ.
ويُستفادُ منها التَّقويةُ.
مِثالُ المُتابعةِ: ما رواهُ الشَّافعيُّ في "الأمِّ" عن مالِكٍ عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ عن ابنِ عُمرَ أَنَّ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قالَ: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشرون، فلا تَصوموا حتَّى تَروُا الهِلالَ، ولا تُفْطِروا حتَّى تَرَوْهُ، فإِنْ غُمَّ عليكم؛ فأَكْمِلوا العِدَّةَ ثلاثينَ".
فهذا الحديثُ بهذا اللَّفظِ ظَنَّ قومٌ أَنَّ الشافعيَّ تفرَّدَ بهِ عن مالِكٍ، فعَدُّوهُ في غرائِبِه؛ لأنَّ أَصحابَ مالِكٍ روَوْهُ عنهُ بهذا الإِسنادِ، وبلفظِ: "فإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمُ فاقْدُروا لهُ" !
لكِنْ وجَدْنا للشَّافعيَّ مُتابِعاً، وهو عبدُ اللهِ بنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ، كذلك أَخرجَهُ البُخاريُّ عنهُ عن مالكٍ.
فهَذهِ متابَعةٌ تامَّةٌ.(1/100)
15 - وَإِنْ وُجِدَ مَتْنٌ يُشْبِهُهُ، فَهُوَ الشَّاهِدُ.
_____________________________________________________
ووَجَدْنا لهُ أَيضاً مُتابَعَةٌ قاصرةً في "صحيحِ ابنِ خُزَيْمةَ" مِن روايةِ عاصمِ بنِ محمَّدٍ عن أبيهِ محمَّدِ بنِ زيدٍ عن جدِّهِ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ بلفظِ: "فكَمِّلوا ثلاثينَ".
وفي "صحيحِ مسلمٍ" من روايةِ عُبيدِ اللهِ بنِ عُمرَ عن نافعٍ عن ابنِ عُمرَ بلفظ: "فاقْدُروا ثلاثينَ".
ولا اقْتِصارَ في هذه المُتابعةِ - سواءٌ كانتْ تامَّةً أَم قاصرةً - على اللَّفْظِ، بل لو جاءَتْ بالمعنى؛ لكَفَتْ، لكنَّها مختَصَّةٌ بكونِها مِن روايةِ ذلك الصَّحابيِّ.
وإِنْ وُجِدَ مَتْنٌ يُروى مِن حديثِ صحابيٍّ آخَرَ يُشْبِهُهُ في اللَّفظِ والمعنى، أَو في المعنى فقطْ؛ فهُو الشَّاهِدُ.
ومثالُه في الحديثِ الَّذي قدَّمناهُ ما رواهُ النَّسائيُّ مِن روايةِ محمَّدِ بنِ(1/101)
16 - وَتَتَبُّعُ الطُّرُقِ لِذَلِكَ هُوَ الِاعْتِبَارُ.
17 - ثُمَّ الْمَقْبُولُ؛ إِنْ سَلِمَ مِنَ الْمُعَارَضَةِ؛ فَهُوَ الْمُحْكَمُ.
_____________________________________________________
حُنَينٍ عن ابن عبَّاسِ عن النبي صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ، فذَكَرَ مثلَ حديثِ عبد اللهِ بنِ دينارٍ عنِ ابنِ عُمرَ سواءً.
فهذا باللَّفظِ.
وأَمَّا بالمَعْنى؛ فهو ما رواهُ البُخاريُّ مِن روايةِ محمَّدِ بنِ زيادٍ عن أَبي هُريرةَ بلفظ: "فإِنْ غُمَّ عليكُمْ فأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبانَ ثلاثينَ"
وخَصَّ قومٌ المُتابعةَ بما حَصَلَ باللَّفظِ، سواءٌ كانَ مِن روايةِ ذلك الصَّحابيِّ أَم لا، والشاهدَ بما حصلَ بالمَعنى كذلك.
وقد تُطْلَقُ المُتابعةُ على الشَّاهدِ وبالعكسِ، والأمرُ فيهِ سَهْلٌ.
(وَ) اعْلمْ أَنَّ (تَتَبُّعَ الطُّرُقِ) مِن الجوامعِ والمسانيدِ والأجزاءِ (لذلك) الحديثِ الذي يُظنُّ أَنَّه فردٌ لِيُعْلَمَ هلْ لهُ متابِعٌ أَم لا (هُو: الاعتبارُ).
وقولُ ابنِ الصَّلاحِ: "معرفةُ الاعتبارِ والمتابعاتِ والشَّواهِدِ" قد يوهِمُ أَنَّ الاعتبارَ قَسيمٌ لهُما، وليسَ كذلك، بل هُو هيئةُ التوصُّلِ إِليهِما.
وجَميعُ ما تقدَّمَ مِن أَقسامِ المَقبولِ تَحْصُلُ فائدةُ تقسيمِهِ باعتبارِ مَراتِبِهِ عندَ المُعارضةِ، واللهُ أَعلمُ.(1/102)
18 - وَإِنْ عُورِضَ بِمِثْلِهِ؛ فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ؛ فَمُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ.
_____________________________________________________
(ثمَّ المَقبولُ) ينقسِمُ أَيضاً إلى مَعمولٍ بهِ وغيرِ مَعْمولٍ بهِ؛ لأنَّهُ إِنْ سَلِمَ مِنَ المُعارَضَةِ؛ أَي: لم يَأْتِ خبرٌ يُضادُّهُ، فهُوَ المُحْكَمُ، وأَمثلتُه كثيرةٌ.
وإِنْ عُورِضَ؛ فلا يَخْلو إِمَّا أَنْ يكونَ مُعارِضُةُ مقبولاً مثلَه، أَو يكونَ مَردوداً، فالثَّاني لا أَثرَ لهُ؛ لأنَّ القويَّ لا تُؤثِّرُ فيهِ مُخالفةُ الضَّعيفِ.
وإِنْ كانتِ المُعارضةُ بِمِثْلِهِ فلا يخلو إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ الجَمْعُ بين مدلولَيْهِما بغيرِ تَعَسُّفٍ أَوْ لاَ:
فإِنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ؛ فهو النَّوعُ المُسمَّى "مُخْتَلِفَ الحَديثِ"، ومثَّلَ لهُ ابنُ الصَّلاحِ بحديثِ: "لا عَدْوى ولا طِيَرَةَ، ولا هامَّةَ، ولا صَفَر، ولا غُول" مع حديث: "فِرَّ مِنَ المَجذومِ فِرارَكَ مِن الأسَدِ".
وكلاهُما في الصَّحيحِ، وظاهِرُهما التَّعارُضُ !
ووجْهُ الجمعِ بينَهُما أَنَّ هذهِ الأمراضَ لا تُعْدي بطبْعِها، لكنَّ الله سبحانَه وتعالى جَعَلَ مُخالطةَ المريضِ بها للصَّحيحِ سبباً لإعدائِهِ مَرَضَه.(1/103)
........................................................................................
_____________________________________________________
ثمَّ قد يتخلَّفُ ذلك عن سبَبِه كما في غيرِهِ من الأسبابِ، كذا جَمَعَ بينَهما ابنُ الصَّلاحِ تَبعاً لغيرِه !
والأَوْلى في الجَمْعِ بينَهُما أَنْ يُقالَ: إِنَّ نَفْيَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للعَْدوى باقٍ على عُمومِهِ، وقد صحَّ قوله صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ: "لا يُعْدِى شيءٌ شيئاً"، وقولُه صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ لِمَن عارَضَهُ: بأَنَّ البَعيرَ الأجْرَبَ يكونُ في الإِبلِ الصَّحيحةِ، فيُخالِطُها، فتَجْرَبُ، حيثُ ردَّ عليهِ بقولِه: "فمَنْ أَعْدى الأوَّلَ ؟"؛ يعني: أَنَّ الله سبحانَه وتعالى ابتَدَأَ ذلك في الثَّاني كما ابْتَدَأَ في الأوَّلِ.
وأَمَّا الأمرُ بالفِرارِ مِن المَجْذومِ فمِن بابِ سدِّ الذَّرائعِ؛ لئلاَّ يَتَّفِقَ للشَّخْصِ الذي يخُالِطُه شيءٌ مِن ذلك بتقديرِ اللهِ تعالى ابتداءً لا بالعَدْوى المَنْفِيَّة، فيَظُنَّ أَنَّ ذلك بسببِ مُخالطتِه فيعتقدَ صِحَّةَ العَدْوى، فيقعَ في الحَرَجِ، فأَمَرَ بتجنُّبِه حسْماً للمادَّةِ، والله أعلم.
وقد صنَّفَ في هذا النَّوعِ الإِمامُ الشافعيُّ كتابَ اختِلافِ الحديثِ، لكنَّهُ لم يَقْصِدِ استيعابَه.(1/104)
19 - أَوْ لَا وثَبَتَ الْمُتَأَخِّرُ، فَهُوَ النَّاسِخُ، وَالْآخَرُ الْمَنْسُوخُ.
_____________________________________________________
و قد صنَّفَ فيهِ بعدَهُ ابنُ قُتيبةَ والطَّحاويُّ وغيرُهما.
وإِنْ لم يُمْكِنِ الجمعُ؛ فلا يخْلو إِمَّا أَنْ يُعْرَفَ التَّاريخُ (أوْ لاَ):
فإِنْ عُرِفَ (وَثَبَتَ المُتَأَخِّرُ) بهِ، أَو بأَصرحَ منهُ؛ (فهو النَّاسِخُ، والآخَرُ المَنْسُوخُ).
والنَّسْخُ: رفْعُ تعلُّقِ حُكمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ متأَخِّرٍ عنهُ.
والنَّاسخُ: ما يدلُّ على الرَّفعِ المذكورِ.
وتسميتُهُ ناسِخاً مجازٌ؛ لأنَّ النَّاسخَ في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى.
ويُعْرَفُ النَّسخُ بأُمورٍ:
أَصرحُها: ما ورَدَ في النَّصِّ كحديثِ بُريدَةَ في "صحيحِ مسلمٍ": "كُنْتُ نَهَيْتُكُم عن زِيارةِ القُبورِ فزُوروها؛ فإِنَّها تُذَكِّرُ الآخِرَةَ"(1/105)
........................................................................................
_____________________________________________________
ومِنها ما يجزِمُ الصَّحابيُّ بأَنَّه متأَخِّرٌ كقولِ جابرٍ: "كانَ آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ تَرْكُ الوُضوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ" أَخرَجَهُ أَصحابُ السُّننِ.
ومِنْها ما يُعْرَفُ بالتَّاريخِ، وهُو كَثيرٌ.
وليسَ مِنْها مَا يَرويهِ الصَّحابيُّ المُتأَخِّرُ الإِسلامِ مُعارِضاً للمُتَقَدِّمِ عليهِ؛ لاحْتمالِ أَنْ يكونَ سَمِعَهُ مِن صَحابيٍّ آخَرَ أَقدمَ مِنَ المُتَقَدِّمِ المذكورِ أو مثلِهِ فأَرْسَلَهُ.
لكنْ؛ إِنْ وَقَعَ التَّصريحُ بسماعِه لهُ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ فيَتَّجِهُ أَنْ يكونَ ناسِخاً؛ بشَرْطِ أَنْ يكونَ المُتَأَخِّرُ لمْ يَتحمَّلْ مِنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ شَيْئاً قبلَ إِسلامِهِ.(1/106)
وَإِلَّا فَالتَّرْجِيحُ.
ثُمَّ التَّوَقُّفُ.
_____________________________________________________
وأَمَّا الإِجماعُ؛ فليسَ بناسِخٍ، بل يدُلُّ على ذلكَ.
وإِنْ لمْ يُعْرَفِ التَّاريخُ؛ فلا يخلو إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ ترجيحُ أَحدِهِما على الآخَرِ بوجْهٍ مِن وجوهِ التَّرجيحِ المُتعلِّقَةِ بالمتْنِ أَو بالإِسنادِ أَوْ لاَ:
فإِنْ أَمْكَنَ التَّرجيحُ؛ تعيَّنَ المصيرُ إِليهِ، (وإِلاَّ)؛ فلا.
فصارَ ما ظاهِرُهُ التَّعارُضُ واقِعاً على هذا التَّرتيبِ:
الجمعُ إِنْ أَمكَنَ.
فاعْتبارُ النَّاسِخِ والمَنْسوخِ.
(فالتَّرْجيحُ) إِنْ تَعيَّنَ.
(ثمَّ التوقُّفُ) عنِ العَمَلِ بأَحدِ الحَديثينِ.
والتَّعبيرُ بالتوقُّفِ أَولى مِن التَّعبيرِ بالتَّساقُطِ؛ لأَنَّ خفاءَ ترجيحِ أَحدِهِما(1/107)
ثُمَّ الْمَرْدُودُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِسَقْطٍ أَوْ طَعْنٍ.
وَالسَّقْطُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ: مِنْ مَبَادِئِ السَّنَدِ مِنْ مُصَنِّفٍ أَوْ مِنْ آخِرِهِ بَعْدَ التَّابِعِيِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
20 - فَالْأَوَّلُ: الْمُعَلَّقُ.
_____________________________________________________
على الآخَرِ إِنَّما هُو بالنِّسبةِ للمُعْتَبِرِ في الحالةِ الرَّاهنةِ، معَ احتِمالِ أَنْ يظهَرَ لغيرِهِ ما خَفِيَ عليهِ، واللهُ أعلمُ.
(ثمَّ المردودُ): وموجِبُ الرَّدِّ (إِمَّا أَنْ يكونَ لِسَقْطٍ) مِن إِسنادٍ، (أَوْ طَعْنٍ) في رَاوٍ على اخْتِلافِ وُجوهِ الطَّعْنِ، أَعَمُّ مِن أَنْ يكونَ لأمْرٍ يرجِعُ إِلى دِيانةِ الرَّاوي أَو إِلى ضبْطِهِ.
(والسَّقْطُ إِمَّا أَنْ يَكونَ مِنْ مَبادئ السَّنَدِ مِن) تصرُّفِ (مُصَنِّفٍ، أو من آخِرِهِ)؛ أي: الإِسنادِ (بعدَ التَّابعيِّ، أَو غير ذلك، فالأوَّلُ: المُعَلَّقُ) سواءٌ كانَ السَّاقِطُ واحداً أَو أَكثرَ.
وبينَهُ وبينَ المُعْضَلِ الآتي ذِكْرُهُ عمومٌ وخُصوصٌ مِن وجْهٍ.
فمِنْ حيثُ تعريفُ المُعْضَلِ بأَنَّهُ سقَطَ منهُ اثنانِ فصاعِداً يجتَمِعُ معَ بعضِ صُورِ المُعَلَّقِ.
ومِن حيثُ تقييدُ المُعَلَّقِ بأَنَّه مِن تصرُّفِ مُصَنِّفٍ مِن مبادئِ السَّنَدِ يفتَرِقُ منهُ، إِذْ هُو أَعَمُّ مِن ذلك.
ومِن صُوَرِ المُعَلَّقِ: أَنْ يُحْذَفَ جميعُ السَّندِ، ويُقالَ مثلاً: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ.
ومنها: أَنْ يُحْذَفَ إِلاَّ الصَّحابيَّ أَوْ إِلاَّ الصَّحابيَّ والتَّابعيَّ معاً.(1/108)
21 - وَالثَّانِي: الْمُرْسَلُ.
_____________________________________________________
ومنها: أَنْ يَحْذِفَ مَن حَدَّثَهُ ويُضيفَهُ إِلى مَنْ فوقَهُ، فإِنْ كانَ مَن فوقَه شيخاً لذلك المصنِّفِ؛ فقد اخْتُلِفَ فيه: هل يُسمَّى تعليقاً أَوْ لاَ ؟
والصَّحيحُ في هذا: التَّفصيلُ: فإِنْ عُرِفَ بالنَّصِّ أَو الاستِقْراءِ أَنَّ فاعِلَ ذلك مُدَلِّسٌ قضي بهِ، وإِلاَّ فتعليقٌ.
وإِنَّما ذُكِرَ التَّعليقُ في قسمِ المردودِ للجَهْلِ بحالِ المحذوفِ.
وقد يُحْكَمُ بصحَّتِهِ إِنْ عُرِفَ بأَنْ يجيءَ مسمَّىً مِن وجهٍ آخَرَ، فإِنْ قالَ: جميعُ مَن أَحْذِفُهُ ثقاتٌ؛ جاءتْ مسأَلةُ التَّعديلِ على الإِبهامِ.
وعندَ الجُمهورِ لا يُقْبَلُ حتَّى يُسمَّى.
لكنْ قالَ ابنُ الصَّلاحِ هنا: إِنْ وَقَعَ الحَذْفُ في كتابٍ التُزِمَتْ صحَّتُه؛ كالبُخاريِّ؛ فما أَتى بالجَزْمِ دلَّ على أَنَّه ثَبَتَ إِسنادُهُ عِندَه، وإِنَّما حُذِفَ لغَرَضٍ مِنَ الأَغْراضِ.
ومَا أَتى فيهِ بغيرِ الجَزْمِ؛ ففيهِ مقالٌ.
وقد أَوْضَحْتُ أَمثلةَ ذلك في "النُّكتِ على ابنِ الصَّلاحِ".
(والثَّاني): وهو ما سَقَطَ مِن آخِرِهِ مَن بعدَ التَّابعيِّ هو (المُرْسَلُ):(1/109)
........................................................................................
_____________________________________________________
وصورَتُه أَنْ يقولَ التابعيُّ سواءٌ كانَ كبيراً أو صغيراً قالَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ كذا، أو: فعَلَ كذا، أو: فُعِلَ بحضرتِه كذا، أو نحوُ ذلك.
وإِنَّما ذُكِرَ في قسمِ المَردودِ للجَهْلِ بحالِ المحذوفِ؛ لأَنَّه يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ صحابيّاً، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ تابعيّاً، وعلى الثَّاني يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ ضَعيفاً، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ ثقةً، وعلى الثَّاني يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ حَمَلَ عن صحابيٍّ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ حَمَلَ عن تابعيٍّ آخَرَ، وعلى الثَّاني فيعودُ الاحتمالُ السَّابقُ، ويتعدَّدُ أَمَّا بالتَّجويزِ العقليِّ، فإِلى ما لا نهايةَ لهُ، وأَمَّا بالاستقراءِ؛ فإِلى ستَّةٍ أَو سبعةٍ، وهو أَكثرُ ما وُجِدَ مِن روايةِ بعضِ التَّابعينَ عن بعضٍ.(1/110)
........................................................................................
_____________________________________________________
فإِنْ عُرِفَ مِن عادةِ التَّابعيِّ أَنَّه لا يُرسِلُ إِلاَّ عن ثِقةٍ؛ فذهَبَ جُمهورُ المحُدِّثينَ إِلى التوقُّفِ؛ لبقاءِ الاحتمالِ، وهُو أَحدُ قولَيْ أَحمدَ.
وثانيهِما - وهُو قولُ المالِكيِّينَ والكوفيِّينَ - يُقْبَلُ مُطْلقاً.
وقالَ الشَّافِعيُّ رضيَ اللهُ عنهُ: يُقْبَلُ إِنِ اعْتَضَدَ بمجيئِهِ مِن وجْهٍ آخَرَ يُبايِنُ الطُّرُقَ الأولى مُسْنَداً كانَ أَو مُرْسَلاً؛ ليترجَّحَ احتمالُ كونِ المحذوفِ ثقةً في نفسِ الأمرِ.
ونقلَ أَبو بكرٍ الرَّازيُّ مِن الحنفيَّةِ وأبو الوليدِ الباجِيُّ مِن المالِكيَّةِ أَنَّ الرَّاويَ إِذا كانَ يُرْسِلُ عنِ الثِّقاتِ وغيرِهم لا يُقْبَل مُرسَلُه اتِّفاقاً.(1/111)
22 - وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مَعَ التَّوَالِي؛ فَهُوَ الْمُعْضَلُ.
23 - وَإِلَّا؛ فَالْمُنْقَطِعُ.
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ وَاضِحًا أَوْ خَفِيًّا:
فَالْأَوَّلُ: يُدْرَكُ بِعَدَمِ التَّلَاقِي، وَمِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلَى التَّارِيخِ.
_____________________________________________________
(وَ) القسمُ (الثَّالِثُ) مِن أَقسامِ السَّقْطِ مِن الإِسنادِ (إِنْ كانَ باثنَيْنِ فصاعِداً مَعَ التَّوالي؛ فهو المُعْضَلُ، وإِلاَّ) فإِنْ كانَ السَّقْطُ باثنينِ غيرِ متوالِيَيْنِ في مَوضِعَيْنِ > مثلاً؛ (فـ) هُو (المُنْقَطِعُ)، وكذا إِنْ سَقَطَ واحدٌ فقط، أَو أَكثرُ مِن اثنينِ، لكنَّه بشرطِ عدمِ التَّوالي.
(ثمَّ) إِنَّ السَّقطَ مِن الإِسنادِ (قدْ يَكونُ واضِحاً) يحصُلُ الاشْتِراكُ في معرفَتِه ككَوْنِ الرَّاوي مثلاً لم يُعْاصِرْ مَن روى عنهُ (أَوْ) يكونُ (خَفِيّاً)؛ فلا يُدْرِكُهُ إِلاَّ الأئمَّةُ الحُذَّاقُ المُطَّلِعونَ على طُرُقِ الحديثِ وعِلَلِ الأسانيدِ.
(فالأَوَّلُ) وهُو الواضحُ (يُدْرَكُ بعَدمِ التَّلاقي) بينَ الرَّاوِي وشيخِهِ بكونِه لمْ يُدْرِكْ عصْرَهُ أَو أَدْرَكَهُ لكنَّهما لم يجْتَمِعا، وليستْ لهُ منهُ إِجازةٌ ولا وِجَادَةٌ.
(ومِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلى التَّاريخِ) لتضمُّنِهِ تحريرَ مواليدِ الرُّواةِ ووَفياتِهِم وأَوقاتِ طَلَبِهِم وارْتِحالِهم.(1/112)
24 - والثَّانِي: المُدَلَّسُ، ويَرِدُ بِصيغَةٍ تَحْتَمِلُ اللُّقِيَّ كـ (عَن) و(قَاَلَ)
_____________________________________________________
وقد افْتُضِحَ أَقوامٌ ادَّعَوا الرِّوايةَ عن شيوخٍ ظهرَ بالتَّاريخِ كَذِبُ دعْواهُم.
(وَ) القسمُ (الثَّانِي): وهو الخَفِيُّ (المُدَلَّسُ)؛ بفتحِ اللاَّمِ، سُمِّي بذلك لكونِ الرَّاوي لم يُسَمِّ مَن حَدَّثَهُ، وأَوهَمَ سماعَهُ للحَديثِ مِمَّن لم يُحَدِّثْهُ بهِ.
واشْتِقاقُهُ مِن الدَّلَسِ - بالتَّحريكِ - وهو اختلاطُ الظَّلامِ بالنُّورِ، سُمِّيَ بذلك لاشتراكِهِما في الخَفاءِ.
(ويَرِدُ) المُدَلَّسُ (بِصيغَةٍ) مِن صيغِ الأداءِ (تَحْتَمِلُ) وقوعَ (اللُّقِيَّ) بينَ المُدَلِّسِ ومَن أَسنَدَ عنهُ (كَعَن) وَكذا (قَاَلَ).
ومتى وقَعَ بصيغةٍ صريحةٍ لا تَجَوُّزَ فيها؛ كانَ كذِباً.
وحُكْمُ مَن ثبتَ عنهُ التَّدليسُ إِذا كانَ عَدْلاً أَنْ لا يُقْبَلَ منهُ إِلاَّ ما صرَّحَ فيهِ بالتَّحديثِ على الأصحِّ.(1/113)
25 - وَكَذَا المُرْسَلُ الخَفِيُّ، مِنْ مُعاصِرٍ لَمْ يَلْقَ.
ثُمَّ الطَّعْنُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكَذِبِ الرَّاوِي، أَوْ تُهْمَتِهِ بِذَلِكَ، أَوْ
_____________________________________________________
(وكَذلِكَ المُرْسَلُ الخَفِيُّ) إِذا صَدَرَ (مِنْ مُعاصِرٍ لَمْ يَلْقَ) مَن حَدَّثَ عنهُ، بل بينَه وبينَه واسِطةٌ.
والفَرْقُ بينَ المُدَلَّسِ والمُرْسَلِ الخفيِّ دقيقٌ حَصَلَ تحريرُه بما ذُكِرَ هنا:
وهو أَنَّ التَّدليسَ يختصُّ بمَن روى عمَّن عُرِفَ لقاؤهُ إِيَّاهُ، فأَمَّا إِن عاصَرَهُ ولم يُعْرَفْ أَنَّه لقِيَهُ؛ فَهُو المُرْسَلُ الخَفِيُّ.
ومَن أَدْخَلَ في تعريفِ التَّدليسِ المُعاصَرَةَ، ولو بغيرِ لُقي؛ لزِمَهُ دُخولُ المُرْسَلِ الخَفِيِّ في تعريفِهِ.
والصَّوابُ التَّفرقةُ بينَهُما.
ويدلُّ على أَنَّ اعتبارَ اللُّقي في التَّدليسِ دونَ المُعاصرةِ وحْدَها لابُدَّ منهُ إِطْباقُ أَهلِ العلمِ بالحديثِ على أَنَّ روايةَ المُخَضْرَمينَ كأَبي عُثمانَ(1/114)
........................................................................................
_____________________________________________________
النَّهْديِّ وقيسِ بنِ أَبي حازِمٍ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ مِن قبيلِ الإِرسالِ لا مِن قَبيلِ التَّدليسِ.
ولو كانَ مجرَّدُ المُعاصرةِ يُكْتَفى بهِ في التَّدليسِ؛ لكانَ هؤلاءِ مُدلِّسينَ لأنَّهْم عاصَروا النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ قطعاً، ولكنْ لمْ يُعْرَفْ هل لَقُوهُ أَمْ لا؟
وممَّن قالَ باشْتِراطِ اللِّقاءِ في التَّدليسِ الإِمامُ الشافعيُّ وأَبو بكرٍ البزَّارُ، وكلامُ الخطيبِ في "الكِفايةِ" يقتَضيهِ، وهُو المُعْتَمَدُ.
ويُعْرَفُ عدمُ المُلاقاةِ بإِخبارِهِ عنْ نفسِهِ بذلك، أَو بجَزْمِ إِمامٍ مُطَّلعٍ.
ولا يَكْفي أَنْ يَقَعَ في بعض الطُّرُقِ زيادةُُ راوٍ أَو أَكثرَ بينَهُما؛ لاحتمال أَنْ يكونَ مِن المزيدِ، ولا يُحْكَمُ في هذه الصُّورةِ بحُكْمٍ كُلِّيٍّ؛ لتَعارُضِ احتمالِ الاتِّصالِ والانْقِطاعِ.(1/115)
فُحْشِ غَلَطِهِ، أَوْ غَفْلَتِهِ، أَوْ فِسْقِهِ، أَوْ وَهْمِهِ، أَوْ مُخَالَفَتِهِ، أَوْ جَهَالَتِهِ،
_____________________________________________________
وقد صنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتابَ "التَّفصيلِ لمُبْهَمِ المراسيلِ"، وكتاب "المزيدِ في مُتَّصِلِ الأسانيدِ".
وقد انْتَهَتْ هُنا حكم أَقسامُ حُكمِ السَّاقِطِ مِن الإِسنادِ.
(ثمَّ الطَّعْنُ) يكونُ بعشرةِ أَشياءَ، بعضُها أَشدُّ في القَدْحِ مِن بعضٍ، خمسةٌ منها تتعلَّقُ بالعدالَةِ، وخمسةٌ تتعلَّقُ بالضَّبْطِ.
ولم يَحْصُلِ الاعتناءُ بتمييزِ أَحدِ القِسمينِ مِن الآخَرِ لمصلحةٍ اقْتَضَتْ ذلك، وهي ترتيبُها على الأشدِّ فالأشدِّ في موجَبِ الرَّدَِّ على سَبيلِ التَّدلِّي؛ لأنَّ الطَّعْنَ (إِمَّا أَنْ يكونَ):(1/116)
أَوْ بِدْعَتِهِ، أَوْ سُوءِ حِفْظِهِ.
_____________________________________________________
(لِكَذِبِ الرَّاوِي) في الحديثِ النبويِّ بأَنْ يرويَ عنهُ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ ما لمْ يَقُلْهُ متَعمِّداً لذلك.
(أو تُهْمَتِهِ بذلكَ)؛ بأَنْ لا يُرْوى ذلك الحديثُ إِلاَّ مِن جِهتِهِ، ويكونَ مُخالِفاً للقواعِدِ المعلومةِ، وكذا مَنْ عُرِفَ بالكذبِ في كلامِهِ، وإِنْ لم يَظْهَرْ منهُ وقوعُ ذلك في الحَديثِ النبويِّ، وهذا دُونَ الأوَّلِ.
(أَو فُحْشِ غَلَطِهِ)؛ أي: كَثْرَتِه.
(أَو غَفْلَتِهِ) عن الإِتْقانِ.
(أَو فِسْقِهِ)؛ أي: بالفعلِ والقَوْلِ ممَّا لا يبلُغُ الكُفْرَ.
وبينَهُ وبينَ الأوَّلِ عُمومٌ، وإِنَّما أُفْرِدَ الأوَّلُ لكونِ القَدْحِ بهِ أَشدَّ في هذا الفنِّ.
وأَمَّا الفِسقُ بالمُعْتَقَدِ؛ فسيأْتي بيانُه.
(أَو وَهَمِهِ) بأَنْ يَرْوِيَ على سبيلِ التوهُّمِ.
(أَو مُخالَفَتِه)؛ أَي: للثِّقاتِ.
(أو جَهالَتِهِ)؛ بأَنْ لا يُعْرَفَ فيهِ تعديلٌ ولا تَجريحٌ مُعيَّنٌ.
(أَو بِدْعتِهِ)، وهي اعتقادُ ما أُحْدِثَ على خِلافِ المَعروفِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ، لا بِمعانَدَةٍ، بل بنَوْعِ شبهةٍ، (أَو سوءِ حِفْظهِ)، وهِيَ عبارةٌ عن أَنْ لا يكونَ غَلَطُهُ أَقلَّ مِن إِصابتِه.(1/117)
26 - فَالْأَوَّلُ: الْمَوْضُوعُ.
_____________________________________________________
(فـ) القسمُ (الأوَّلُ)، وهُو الطَّعْنُ بكَذِبِ الرَّاوي في الحَديثِ النبويِّ هو (المَوضوعُ)، والحُكْمُ عليهِ بالوَضْعِ إِنَّما هُو بطريقِ الظَّنِّ الغالِبِ لا بالقَطْعِ، إِذ قَدْ يَصْدُقُ الكَذوبُ، لكنَّ لأهلِ العلمِ بالحديثِ مَلَكَةً قويَّةً يميِّزون بها ذلك، وإِنَّما يقومُ بذلك منهُم مَن يكونُ إِطِّلاعُهُ تامّاً، وذهْنُهُ ثاقِباً، وفهمُهُ قويّاً، ومعرِفتُهُ بالقرائنِ الدَّالَّةِ على ذلك متمَكِّنَةً.
وقد يُعْرَفُ الوضعُ بإِقرارِ واضِعِه، قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: لكنْ لا يُقْطَعُ بذلك؛ لاحتمالِ أَنْ يكونَ كَذَبَ في ذلك الإِقرارِ أ.هـ.
وفهِمَ منهُ بعضُهم أَنَّهُ لا يُعْمَلُ بذلك الإِقرارِ أَصلاً، وليسَ ذلكَ مرادَهُ، وإِنَّما نفى القَطْعَ بذلك، ولا يلزَمُ مِن نفيِ القَطْعِ نفيُ الحُكْمِ؛ لأنَّ الحُكْمَ يقعُ بالظَّنِّ الغالِبِ، وهُو هُنا كذلك، ولولا ذلك لَما ساغَ قتْلُ المُقرِّ بالقتلِ، ولا(1/118)
........................................................................................
_____________________________________________________
رَجْمُ المُعْتَرِفِ بالزِّنى؛ لاحتمالِ أَنْ يكونا كاذِبَيْن فيما اعْتَرَفا به!
ومِن القَرائنِ الَّتي يُدْرَكُ بها الوَضْعُ ما يؤخَذُ مِن حالِ الرَّاوي؛ كما وقَعَ لمأْمونِ بنِ أَحمدَ أَنَّه ذُكِرَ بحضرَتِه الخلافُ في كونِ الحسنِ سَمِعَ مِن أَبي هُريرةَ أَوْ لاَ ؟ فساقَ في الحالِ إِسناداً إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ أَنَّهُ قالَ: سمِعَ الحسنُ مِن أَبي هُريرة.
وكما وقعَ لِغياثِ بنِ إِبراهيمَ حيثُ دخَلَ على المَهْدي فوجَدَهُ يلعبُ بالحَمَام، فساقَ في الحالِ إِسناداً إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أَنَّه قالَ: (لا سَبَقَ إِلاَّ في نَصْلٍ أَو خُفٍّ أَو حافِرٍ أَو جَناحٍ)، فزادَ في الحديثِ: (أَو(1/119)
........................................................................................
_____________________________________________________
جَناحٍ)، فَعَرَفَ المهديُّ أَنَّه كذبَ لأجلِهِ، فأَمرَ بذَبْحِ الحَمَامِ.
ومِنها ما يُؤخَذُ مِن حالِ المَرويِّ كأَنْ يكونَ مُناقِضاً لنَصِّ القُرآنِ أَو السُّنَّةِ المُتواتِرَةِ أَو الإِجماعِ القطعيِّ أَو صَريحِ العَقْلِ، حيثُ لا يَقْبَلُ شيءٌ مِن ذلك(1/120)
........................................................................................
_____________________________________________________
التَّأْويلَ.
ثمَّ المَرويُّ تارةً يختَرِعُهُ الواضِعُ، وتارةً يأْخُذُ مِن كلامِ غيرِهِ كبَعْضِ السَّلفِ الصَّالحِ أَو قُدماءِ الحُكماءِ أَو الإِسرائيليَّاتِ، أَو يأْخُذُ حَديثاً ضَعيفَ الإِسنادِ، فيُرَكِّبُ لَهُ إِسناداً صحيحاً ليَرُوجَ.
والحامِلُ للواضِعِ على الوَضْعِ:
إِمَّا عَدَمُ الدِّينِ؛ كالزَّنادقةِ.
أَو غَلَبَةُ الجَهلِ؛ كبعضِ المتعبِّدينَ.
أَو فَرْطُ العَصبيَّةِ؛ كبعضِ المُقلِّدينَ.
أَو اتِّباعُ هوى بعضِ الرُّؤساءِ.
أَو الإِغرابُ لقصدِ الاشتِهارِ !
وكُلُّ ذلك حَرامٌ بإِجماعِ مَن يُعْتَدُّ بهِ، إِلاَّ أَنَّ بعضَ الكَرَّاميَّةِ وبعضَ(1/121)
27 - وَالثَّانِي: الْمَتْرُوكُ.
28 - وَالثَّالِثُ: الْمُنْكَرُ عَلَى رَأْيٍ.
_____________________________________________________
المُتصوِّفةِ نُقِلَ عنهُم إِباحَةُ الوَضْعِ في التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، وهو خطأ مِن فاعلِهِ، نشَأَ عَن جَهْلٍ؛ لأنَّ التَّرغيبَ والتَّرهيبَ مِن جُملةِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ.
واتَّفقوا على أَنَّ تَعَمُّدَ الكذبِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِن الكَبائِرِ.
وبالَغَ أَبو مُحمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ فكَفَّرَ مَن تعمَّدَ الكَذِبَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
واتَّفَقوا على تَحْريمِ روايةِ الموضوعِ إِلاَّ مقروناً ببيانِه؛ لقولِه صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ: (مَن حَدَّثَ عَنِّي بحديثٍ يُرى أَنَّهُ كذبٌ؛ فهُو أَحدُ الكاذِبَيْنِ)، أَخرجَهُ مسلمٌ.
(وَ) القسمُ (الثَّاني) مِن أَقسامِ المَردودِ، وهو ما يكونُ بسبَبِ تُهمَةِ الرَّاوي بالكَذِبِ،هُو (المَتْروكُ).
(والثَّالِثُ: المُنْكَرُ؛ على رَأْيِ) مَن لا يَشْتَرِطُ في المُنْكَرِ قيدَ المُخالفةِ.(1/122)
وَكَذَا الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ.
29 - ثُمَّ الْوَهْمُ؛ إِنِ اطُّلِعَ عَلَيْهِ بِالْقَرَائِنِ، وَجَمْعِ الطُّرُقِ؛ فَالْمُعَلَّلُ.
_____________________________________________________
(وكذا الرَّابِعُ والخَامِسُ)، فمَنْ فَحُشَ غَلَطُهُ، أَو كَثُرَتْ غَفلَتُه، أَو ظهَرَ فِسْقُه؛ فحديثُهُ مُنْكَرٍ.
(ثمَّ الوَهَمُ)، وهُو القِسمُ السَّادسُ، وإِنَّما أُفْصِحَ بهِ لِطولِ الفَصْلِ، إِنِ اطُّلعَ عَليهِ؛ أي: على الوَهَمِ بِالقَرائِنِ الدَّالَّةِ على وَهَمِ راويهِ مِن وَصْلِ مُرْسَل أَو مُنْقَطع، أَو إِدخال حَديثٍ في حَديثٍ، أَو نحوِ ذلك مِن الأشياءِ القادحةِ.
وتَحْصُلُ معرفةُ ذلك بكثرةِ التَّتبُّعِ، وجَمْعِ الطُّرُقِ؛ فهذا هو المُعَلَّلُ، وهو مِن أَغمَضِ أَنواعِ عُلومِ الحديثِ وأَدقِّها، ولا يقومُ بهِ إلاَّ مَن رَزَقَهُ اللهُ تعالى فهْماً ثاقِباً، وحِفْظاً واسِعاً، ومعرِفةً تامَّةً بمراتِبِ الرُّواةِ، ومَلَكَةً قويَّةً بالأسانيدِ والمُتونِ، ولهذا لم يتكلَّمْ فيهِ إِلاَّ القليلُ مِن أَهلِ هذا الشأْنِ؛ كعليِّ بنِ المَدينيِّ، وأَحمدَ بنِ حنبلٍ، والبُخاريِّ، ويَعقوبَ بنِ شَيْبةَ، وأَبي حاتمٍ، وأَبي زُرعةَ، والدَّارَقُطنيُّ.
وقد تَقْصُرُ عبارةُ المُعَلِّل عَن إِقامةِ الحُجَّة على دَعْواهُ؛ كالصَّيْرَفيِّ في(1/123)
30 - ثُمَّ الْمُخَالَفَةُ؛ إِنْ كَانَتْ بِتَغْيِيرِ السِّيَاقِ؛ فَمُدْرَجُ الْإِسْنَادِ، أَوْ بِدَمْجِ مَوْقُوفٍ بِمَرْفُوعٍ، فَمُدْرَجُ الْمَتْنِ.
_____________________________________________________
نَقْدِ الدِّينارِ والدِّرهَمِ.
(ثمَّ المُخالفَةُ) وهو القسمُ السابعُ (إِنْ كانتْ) واقعةً (بـ) سببِ (تَغْييرِ السِّياقِ)؛ أي: سياقِ الإسنادِ؛ (فـ) الواقعُ فيهِ ذلك التَّغييرُ هو (مُدْرَجُ الإِسْنادِ)، وهو أَقسامٌ:
الأوَّلُ: أَنْ يَرْوِيَ جماعةٌ الحديثَ بأَسانيدَ مُختلفةٍ، فيرويهِ عنهُم راوٍ، فيَجْمَعُ الكُلَّ على إِسنادٍ واحِدٍ مِن تلكَ الأسانيدِ، ولا يُبَيِّنُ الاختلافَ.
والثَّاني: أَنْ يكونَ المتنُ عندَ راوٍ إِلاَّ طَرفاً منهُ؛ فإِنَّه عندَه بإِسنادٍ آخَرَ، فيرويهِ راوٍ عنهُ تامّاً بالإِسنادِ الأوَّلِ.
ومنهُ أَنْ يسمَعَ الحديثَ مِن شيخِهِ إِلاَّ طرفاً منهُ فيسمَعَهُ عَن شيخِهِ بواسطةٍ، فيرويهِ راوٍ عنهُ تامّاً بحَذْفِ الواسِطةِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يكونَ عندَ الرَّاوي متْنانِ مُخْتَلِفان بإِسنادينِ مختلفينِ، فيرويهِما راوٍ عنهُ مُقتَصِراً على أَحدِ الإِسنادينِ، أَو يروي أَحَدَ الحَديثينِ بإِسنادِهِ الخاصِّ بهِ، لكنْ يزيدُ فيهِ مِن المَتْنِ الآخَرِ ما ليسَ في المَتْنِ الأوَّلِ.
الرَّابعُ: أَنْ يسوقَ الرَّاوي الإِسنادَ، فيَعْرِضُ لهُ عارِضٌ، فيقولُ كلاماً مِن قِبَلِ نفسِهِ، فيظنُّ بعضُ مَن سَمِعَهُ أَنَّ ذلكَ الكلامَ هُو متنُ ذلكَ الإسنادِ، فيَرويهِ عنهُ كذلك.
هذهِ أَقسامُ مُدْرَجِ الإِسنادِ.(1/124)
31 - أَوْ بِتَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ؛ فَالْمَقْلُوبُ.
_____________________________________________________
وأَمَّا مُدْرَجُ المَتْنِ، فهُو أَنْ يَقَعَ في المتنِ كلامٌ ليسَ منهُ، فتارةً يكونُ في أَوَّلِه، وتارةً في أَثنائِه، وتارةً في آخِرِهِ - وهو الأكثرُ - لأنَّهُ يقعُ بعطفِ جُملةٍ على جُملةٍ، (أو بِدَمْجِ مَوْقوفٍ) مِن كلامِ الصَّحابةِ أَو مَنْ بعْدَهُم (بِمَرْفوعٍ) مِن كلامِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ مِن غيرِ فصلٍ، (فـ) هذا هُو (مُدْرَجُ المَتْنِ).
ويُدْرَكُ الإِدراجُ:
بوُرودِ روايةٍ مُفَصِّلةٍ للقَدْرِ المُدْرَجِ مِمَّا أُدْرِجَ فيهِ.
أَو بالتَّنصيصِ على ذلك مِن الرَّاوي، أَو مِن بعضِ الأئمَّةِ المُطَّلعينَ.
أو باستحالَةِ كونِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ يقولُ ذلك.
وقد صنَّفَ الخَطيبُ في المُدْرَجِ كتاباً ولخَّصْتُهُ وزدتُ عليهِ قدْرَ ما ذكَرَ مرَّتينِ أَو أَكثرَ، وللهِ الحمدُ.
(أَوْ) إِنْ كانَتِ المُخالفةُ (بِتَقْدِيمٍ أَو تَأْخيرٍ)؛ أي: في الأسماءِ كَمُرَّةَ بنِ(1/125)
32 - أَوْ بِزِيَادَةِ رَاوٍ؛ فَالْمَزِيدُ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ.
33 - أَوْ بِإِبْدَالِهِ وَلَا مُرَجِّحَ؛ فَالْمُضْطَّرِبُ.
_____________________________________________________
كعبٍ، وكَعبِ بنِ مُرَّةَ؛ لأنَّ اسمَ أَحدِهِما اسمُ أَبي الآخَرِ؛ (فـ) هذا هو (المَقْلوبُ)، وللخطيبِ فيهِ كتابُ "رافعِ الارْتِيابِ".
وقد يَقَعُ القلبُ في المتنِ أَيضاً؛ كحديثِ أَبي هُريرةَ عندَ مُسلمٍ في السَّبعةِ الَّذينَ يُظِلُّهُم اللهُ تحتَ ظلِّ عَرْشِهِ، ففيهِ: (ورَجلٌ تصدَّقَ بصدَقةٍ أَخْفاها حتَّى لا تَعْلَمَ يمينُهُ ما تُنْفِقُ شِمالُهُ)، فهذا ممَّا انْقَلَبَ على أَحدِ الرُّواةِ، وإِنَّما هو: (حتَّى لا تعْلَمَ شِمالُه ما تُنْفِقُ يمينُهُ)؛ كما في الصَّحيحينِ.
أَوْ إِنْ كانتِ المُخالفةُ (بِزيادةِ راوٍ) في أَثناءِ الإِسنادِ، ومَن لم يَزِدْها أَتقَنُ ممَّن زادَها، (فـ) هذا هُو (المَزيدُ في مُتَّصِلِ الأَسانِيدِ).
وشرطُهُ أَنْ يقعَ التَّصريحُ بالسَّماعِ في مَوْضِعِ الزِّيادةِ، وإِلاَّ؛ فمتى كانَ مُعَنْعَناً - مثلاً -؛ ترجَّحَتِ الزِّيادةُ.(1/126)
وَقَدْ يَقَعُ الْإِبْدَالُ عَمْدًا امْتِحَانًا.
34 - أَوْ بِتَغْيِيرٍ مَعَ بَقَاءِ لسِّيَاقِ، فَالْمُصَحَّفُ وَالْمُحَرَّفُ.
_____________________________________________________
(أَوْ) إِنْ كانتِ المُخالفةُ (بِإِبْدَالِهِ)؛ أي: الراوي، (ولا مُرَجِّحَ) لإِحدى الرِّاويتينِ على الأخرى، (فـ) هذا هو (المُضْطَرِبُ)، وهو يقعُ في الإِسنادِ غالباً، وقد يقعُ في المتْن.
لكنْ قلَّ أَنْ يَحْكُمَ المحدِّثُ على الحديثِ بالاضطرابِ بالنِّسبةِ إلى الاختلافِ في المَتْنِ دونَ الإِسنادِ.
(وقد يَقَعُ الإِبدالُ عَمْداً) لمَن يُرادُ اخْتِبارُ حِفْظِهِ (امتحاناً) مِن فاعِلِهِ؛ كما وقعَ للبُخاريِّ والعُقَيْليِّ وغيرِهِما، وشَرْطهُ أَنْ لا يُستمرَّ عليهِ، بل ينتهي بانْتهاءِ الحاجةِ.
فلو وَقَعَ الإِبدالُ عمداً لا لمصلحةٍ، بل للإِغرابِ مثلاً؛ فهو مِن أَقسامِ الموضوعِ، ولو وقعَ غَلَطاً؛ فهُو مِن المقلوبِ أو المُعَلَّلِ.
(أَوْ) إِنْ كانتِ المُخالفةُ (بتَغْييرِ) حرفٍ أَو حُروفٍ (مَعَ بَقاءِ) صورةِ الخَطِّ في (السِّياقِ).(1/127)
35 - وَلَا يَجُوزُ تَعَمُّدُ تَغْيِيرِ الْمَتْنِ بِالنَّقْصِ وَالْمُرَادِفِ، إِلَّا لِعَالِمٍ بِمَا يُحِيلُ الْمَعَانِي.
_____________________________________________________
فإِنْ كانَ ذلك بالنِّسبةِ إِلى النَّقْطِ؛(فالمُصَحَّفُ).
(وَ) إِنْ كانَ بالنِّسبةِ إلى الشَّكْلِ؛ فـ (المُحَرَّفُ)، ومعرفةُ هذا النَّوعِ مُهمَّةٌ.
وقد صنَّف فيهِ: العَسْكَريُّ، والدَّارَقُطنِيُّ، وغيرُهما.
وأَكثرُ ما يقعُ في المُتونِ، وقد يقعُ في الأسماءِ الَّتي في الأسانيدِ.
(ولا يَجُوزُ تَعَمُّدُ تَغْييرِ) صورَةِ (المَتْنِ) مُطلقاً، ولا الاختصارُ منه (بالنَّقْصِ و) لا إِبْدالُ اللَّفْظِ المُرادِفِ باللَّفْظِ (المُرادِفِ) لهُ؛ (إِلاَّ لِعالمٍِ) بمَدْلولاتِ الألْفاظِ، و(بِما يُحيلُ المَعاني) على الصَّحيحِ في المسأَلَتَيْنِ:
أَمَّا اخْتِصارُ الحَديثِ؛ فالأكْثَرونَ على جَوازِهِ بِشرطِ أَنْ يكونَ الَّذي(1/128)
........................................................................................
_____________________________________________________
يختَصِرُهُ عالِماً؛ لأنَّ العالِمَ لا يَنْقُصُ مِن الحديثِ إِلاَّ ما لا تعلُّقَ لهُ بما يُبْقيهِ منهُ؛ بحيثُ لا تختِلفُ الدِّلالةُ، ولا يختَلُّ البَيانُ، حتَّى يكونَ المَذكورُ والمَحذوفُ بمنزِلَةِ خَبَرينِ، أَو يَدُلُّ ما ذَكَرَهُ على ما حَذَفَهُ؛ بخِلافِ الجاهِلِ، فإِنَّهُ قد يَنْقُصُ ما لَهُ تعلُّقٌ؛ كتَرْكِ الاستِثناءِ.
وأَمَّا الراوية بالمعنى؛ فالخِلافُ فيها شَهيرٌ، والأكثرُ على الجَوازِ أَيضاً، ومِن أَقوى حُججهِم الإِجماعُ على جوازِ شرحِ الشَّريعةِ للعَجَمِ بلسانِهِم للعارِفِ بهِ، فإِذا جازَ الإِبدالُ بلُغةٍ أُخرى؛ فجوازُهُ باللُّغةِ العربيَّةِ أَولى.
وقيلَ: إِنَّما يَجوزُ في المُفْرَداتِ دونَ المُرَكَّباتِ !
وقيلَ: إِنَّما يَجُوزُ لمَن يستَحْضِرُ اللَّفْظَ ليتَمَكَّنَ مِن التَّصرُّفِ فيه.
وقيلَ: إِنَّما يَجوزُ لمَن كانَ يحفَظُ الحَديثَ فنَسِيَ لفظَهُ، وبقيَ معناهُ مُرْتَسماً في ذِهنِه، فلهُ أَنْ يروِيَهُ بالمعنى لمصلَحَةِ تحصيلِ الحُكْمِ منهُ؛ بخِلافِ مَن كانَ مُسْتَحْضِراً لِلَفْظِهِ.
وجَميعُ ما تقدَّمَ يتعلَّقُ بالجَوازِ وعَدَمِه، ولا شكَّ أَنَّ الأوْلى إِيرادُ الحَديثِ بأَلفاظِهِ دُونَ التَّصرُّفِ فيهِ.(1/129)
36 - فَإِنْ خَفِيَ الْمَعْنَى؛ احْتِيجَ إِلَى شَرْحِ الْغَرِيبِ وَبَيَانِ الْمُشْكِلِ.
_____________________________________________________
قالَ القاضي عِياضٌ: "يَنْبَغِي سَدُّ بابِ الرِّاويةِ بالمَعْنَى لئلاَّ يتَسَلَّطَ مَن لاَ يُحْسِنُ ممَّن يظنُّ أَنّهُ يُحْسِنُ؛ كما وقَعَ لِكثيرٍ مِن الرُّواةِ قديماً وحَديثاً"، واللهُ المُوَفِّقُ.
(فإِنْ خَفِيَ المَعْنَى) بأَنْ كانَ اللَّفْظُ مستَعْمَلاً بقلَّةٍ (احْتيجَ إِلى) الكُتُبِ المصنَّفَةِ في (شَرْحِ الغَريبِ)؛ ككتابِ أَبي عُبَيْدٍ القاسِمِ بنِ سلامٍ، وهو(1/130)
........................................................................................
_____________________________________________________
غيرُ مرتَّبٍ، وقد رتَّبَهُ الشيخُ مُوفَّقُ الدِّينِ ابنُ قُدامَة على الحُروفِ.
وأَجْمَعُ منهُ كتابُ أَبي عُبيدٍ الهَرَوِيِّ، وقد اعتَنَى بهِ الحافظُ أَبو موسى المَدينِيُّ فنَقَّبَ عليهِ واسْتَدْرَكَ.(1/131)
37 - ثُمَّ الْجَهَالَةُ: وَسَبَبُهَا أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَكْثُرُ نُعُوتُهُ، فَيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ لِغَرَضٍ، وَصَنَّفُوا فِيهِا "الْمُوَضِّحَ".
_____________________________________________________
وللزَّمَخْشَرِيِّ كتابٌ اسمُهُ "الفائِقُ" حسنُ التَّرتيبِ.
ثمَّ جَمَعَ الجَميعَ ابنُ الأثيرِ في "النِّهايةِ"، وكتابُهُ أَسهَلُ الكُتُبِ تناوُلاً، مع إِعواز قليلٍ فيهِ.
وإِنْ كانَ اللَّفْظُ مُستَعْملاً بكثرةٍ، لكنَّ في مَدلُولِهِ دِقَّةً؛ احْتِيجَ إلى الكُتُبِ المُصنَّفَةِ في شَرْحِ معاني الأخْبارِ (وبيانِ المُشْكِلِ) منها.
وقد أَكثرَ الأئمَّةُ مِن التَّصانيفِ في ذلك؛ كالطَّحاويِّ والخَطَّابيِّ وابنِ عبدِ البَرِّ وغيرِهم.
(ثمَّ الجَهالةُ) بالرَّاوِي، وهِيَ السَّببُ الثَّامِنُ في الطَّعْنِ، (وسَبَبُها) أَمْرانِ:
أَحَدُهُما: (أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَكْثُرُ نُعوتُهُ) مِن اسمٍ أَو كُنْيَةٍ أَو لَقَبٍ أَو صِفَةٍ أَو حِرْفةٍ أَو نَسَبٍ، فيشتَهِرُ بشيءٍ مِنها، (فيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ لِغَرَضٍ) مِن الأغْراضِ، فيُظنُّ أَنَّه آخرُ، فيَحْصُلُ الجهْلُ بحالِهِ.(1/132)
........................................................................................
_____________________________________________________
(وَصَنَّفُوا فِيْهِ) أي: في هذا النَّوعِ (المُوْضِحَ) لأوهامِ الجمْعِ والتَّفريقِ؛ أَجادَ فيهِ الخَطيبُ، وسبَقَهُ إِليه عبدُ الغنيِّ بنُ سعيدٍ المِصْريُّ وهو الأَزْدِيُّ، ثمُّ الصُّورِيُّ.
ومِن أَمثلتِهِ محمَّدُ بنُ السَّائِبِ بنِ بِشْرٍ الكَلْبِيُّ؛ نَسَبَهُ بعضُهم إِلى جَدِّهِ، فقالَ: محمَّدُ بنُ بِشرٍ، وسمّاهُ بعضُهم حمَّادَ بنَ السَّائبِ، وكَناهُ بعضُهُم أَبا النَّصرِ، وبعضُهُم أَبا سعيدٍ، وبعضُهم أَبا هِشامٍ، فصارَ يُظَنُّ أَنَّهُ جماعةٌ، وهو واحِدٌ، ومَن لا يعرِفُ حقيقةَ الأمرِ فيهِ لا يعرِفُ شيئاً مِن ذلك.(1/133)
38 - وَقَدْ يَكُونُ مُقِلًّا؛ فَلَا يَكْثُرُ الأَخْذُ عَنْهُ، وَصَنَّفُوا فِيهِ "الوِحْدَانَ".
39 - أَوْ لَا يُسَمَّى اخْتِصارًا -، وَفِيهِ: "المُبْهَمَاتُ".
_____________________________________________________
(وَ) الأمرُ الثَّاني: أَنَّ الرَّاويَ (قد يكونُ مُقِلاً) مِن الحديثِ، (فلا يَكْثُرُ الأَخْذُ عَنْهُ):
(وَ) قد (صَنَّفوا فِيهِ الوُحْدانَ) - وهو مَن لم يَرْوِ عنهُ إِلاَّ واحِدٌ، ولو سُمِّيَ - فمِمَّن جَمَعَهُ مُسلمٌ، والحسنُ بنُ سُفيانَ، وغيرُهما.
أَوْ لاَ يُسمَّى الرَّاوِي اختِصَاراً مِن الرَّاوي عنهُ؛ كقولِه: أَخْبَرَني فلانٌ، أَو شيخٌ، أَو رجلٌ، أَو بعضُهم، أَو ابنُ فلانٍ.
ويُستَدَلُّ على معرفَةِ اسمِ المُبْهَمِ بوُرودِه مِن طريقٍ أُخرى مسمّىً فيها:
(وَ) صنَّفوا (فيهِ المُبْهَمات).(1/134)
وَلَا يُُقْبَلُ المُبْهَمُ، وَلَوْ أُبْهِمَ بِلَفْظِ التَّعْدِيلِ عَلَى الْأَصَّحِ.
40 - فَإِنْ سُمِّيَ وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ عَنْهُ؛ فمَجْهُولُ الْعَيْنِ.
41 - أَوِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَلَمْ يُوَثَّقْ؛ فَمَجْهُولُ الحَالِ، وَهُوَ
_____________________________________________________
(ولا يُقْبَلُ) حديثُ (المُبْهَمُ) ما لم يُسَمَّ؛ لأنَّ شرطَ قَبولِ الخَبَرِ عدالَةُ راويهِ، ومَن أُبْهِمَ اسمُه لا تُعْرَفُ عَيْنُهُ، فكيفَ تُعْرَفُ عدالَتُهُ ؟!
وكذا لا يُقْبَلُ خَبَرُه، (ولو أُبْهِمَ بِلَفْظِ التَّعْديلِ)؛ كأَنْ يقولَ الرَّاوي عنهُ: أَخْبَرَني الثِّقُة؛ لأنَّهُ قد يكونُ ثقةً عندَه مجروحاً عندَ غيرِه، وهذا عَلى الأصَحِّ في المسأَلةِ.
ولهذه النُّكتةِ لم يُقْبَلِ المُرسلُ، ولو أَرسَلَهُ العدلُ جازِماً بهِ لهذا الاحتمالِ بعينِه.
وقيلَ: يُقْبَلُ تمسُّكاً بالظَّاهِرِ، إِذ الجَرْحُ على خِلافِ الأصْلِ.
وقيلَ: إِنْ كانَ القائلُ عالِماً أَجْزأَ ذلك في حقِّ مَن يوافِقُهُ في مَذْهَبِهِ.
وهذا ليسَ مِن مباحِثِ عُلومِ الحَديثِ، واللهُ المُوفِّقُ.
(فإن سُمِّيَ) الرَّاوي (وانْفَرَدَ) راوٍ (واحِدٌ) بالرِّوايةِ (عَنْهُ؛ فـ) هو (مَجْهولُ العَيْنِ)؛ كالمُبْهَمِ، فلا يُقْبَلُ حديثُهُ إِلاَّ أَنْ يُوَثِّقَهُ غيرُ مَنْ ينفَرِدُ عنهُ على الأصحِّ، وكذا مَن يَنْفَرِدُ عنهُ إِذا كانَ مُتَأَهِّلاً لذلك.
(أَوْ) إِنْ روى عنهُ (اثنانِ فصاعِداً ولم يُوَثَّقْ؛ فـ) هو (مَجْهولُ الحالِ، وهُو)(1/135)
الْمَسْتُورُ.
42 - ثُمَّ الْبِدْعَةُ: إِمَّا بِمُكَفِّرٍ، أَوْ بِمُفَسِّقٍ.
فَالْأَوَّلُ: لَا يَقْبَلُ صَاحِبَهَا الْجُمْهُورُ.
_____________________________________________________
(المَسْتورُ)، وقد قَبلَ روايتَهُ جماعةٌ بغيرِ قيدٍ، وردَّها الجُمهورُ.
والتَّحقيقُ أَنَّ روايةَ المستورِ ونحوِهِ ممَّا فيهِ الاحتِمالُ لا يُطلَقُ القولُ بردِّها ولا بِقَبولِها، بل هي موقوفةٌ إِلى اسْتِبانَةِ حالِه كما جَزَمَ بهِ إِمامُ الحَرمينِ.
ونحوُهُ قولُ ابنِ الصَّلاحِ فيمَن جُرِحَ بجَرْحٍ غيرِ مُفَسَّرٍ.
(ثمَّ البِدْعَةُ)، وهي السَّببُ التَّاسعُ مِن أَسبابِ الطَّعنِ في الرَّاوي، وهي (إِمَّا) أَنْ تَكونَ بمُكَفِّرٍ؛ كأَنْ يعتَقِدَ ما يستَلْزِمُ الكُفْرَ، (أو بِمُفَسِّقٍ):
(فالأوَّلُ: لا يَقْبَلُ صاحِبَها الجُمهورُ)، وقيلَ: يُقْبَلُ مُطلقاً، وقيلَ: إِنْ كانَ لا يعتَقِدُ حِلَّ الكَذِبِ لنُصرَةِ مقالَتِه قُبِلَ.
والتحقيق: أنه لا يُرَدُّ كُلُّ مُكفَّرٍ ببدعَتِه؛ لأَنَّ كلَّ طائفةٍ تدَّعي أَنَّ مخالِفيها مبتَدِعةٌ، وقد تُبالِغُ فتُكفِّرُ مخالِفها، فلو أُخِذَ ذلك على الإِطلاقِ؛ لاسْتَلْزَمَ تكفيرَ(1/136)
وَالثانِيُ: يُقْبَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ داعِيةً إِلى بِدعَتِهِ فِيْ الأصَحِّ؛ إِلاَّ إنْ رَوَى مَا
_____________________________________________________
جميعِ الطَّوائفِ، فالمُعْتَمَدُ أَنَّ الَّذي تُرَدُّ روايتُهُ مَنْ أَنْكَرَ أَمراً مُتواتِراً مِن الشَّرعِ، معلوماً مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، وكذا مَن اعتقدَ عكسَهُ.
فأَمَّا مَن لم يَكُنْ بهذهِ الصِّفَةِ، وانْضَمَّ إِلى ذلك ضَبْطُهُ لِما يَرويهِ مَعَ وَرَعِهِ وتَقْواهُ؛ فلا مانِعَ مِن قَبولِهِ.
(والثاني): وهو مَن لا تَقْتَضي بدعَتُهُ التَّكفيرَ أَصلاً، وقد اختُلِفَ أَيضاً في قَبولِهِ ورَدِّهِ:
فقيلَ: يُرَدُّ مُطلَقاً - وهُو بَعيدٌ -.
وأَكثرُ مَا عُلِّلَ بهِ أَنَّ في الرِّوايةِ عنهُ تَرْويجاً لأمرِهِ وتَنْويهاً بذِكْرِهِ.
وعلى هذا؛ فيَنْبَغي أَنْ لا يُرْوى عنْ مُبْتَدعٍ شيءٌ يُشارِكُه فيهِ غيرُ مُبتدعٍ.
وقيلَ: يُقْبَلُ مُطْلقاً إِلاَّ إِن اعْتَقَدَ حِلَّ الكَذِبِ؛ كما تقدَّمَ.
وقيلَ: (يُقْبَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ داعِيةً إِلى بِدعَتِهِ)؛ لأنَّ تزيينَ بِدعَتِه قد يَحْمِلُهُ على تَحريفِ الرِّواياتِ وتَسويَتِها على ما يقتَضيهِ مذهَبُه، وهذا (في الأصَحِّ).
وأَغْرَبَ ابنُ حِبَّانَ، فادَّعى الاتِّفاقَ على قَبولِ غيرِ الدَّاعيةِ مِن غيرِ تفصيلِ.(1/137)
يُقَوِّي بِدْعَتَهُ، فيُرَدُّ على المُخْتارِ، وبهِ صرَّحَ الجُوْزَجانِيُّ شيخُ النَّسائِيِّ.
43 - ثُمَّ سُوءُ الْحِفْظِ؛ إِنْ كَانَ لَازِمًا فَهُوَ الشَّاذُّ، عَلَى رَأْيٍ.
_____________________________________________________
نَعَمْ؛ الأكثرُ على قَبولِ غيرِ الدَّاعيةِ؛ (إِلاَّ إنْ رَوى ما يُقَوِّي بِدْعَتَهُ، فيُرَدُّ على) المذهَبِ (المُخْتارِ، وبهِ صرَّحَ) الحافِظُ أَبو إِسحاقَ إِبراهيمُ بنُ يعقوبَ (الجُوْزَجانِيُّ شيخُ) أَبي داودَ، و(النَّسائِيِّ) في كتابِه "معرفة الرِّجال"، فقالَ في وَصْفِ الرُّواةِ: "ومِنهُم زائغٌ عن الحَقِّ - أَيْ: عنِ السُّنَّةِ - صادقُ اللَّهجَةِ، فليسَ فيهِ حيلةٌ؛ إِلاَّ أَنْ يُؤخَذَ مِن حديثِه ما لا يكونُ مُنْكراً إِذا لم يُقَوِّ بهِ بدْعَتَهُ" اهـ.
وما قالَه متَّجِهٌ؛ لأنَّ العلَّةَ التي لها رُدَّ حديثُ الدَّاعيةِ وارِدةٌ فيما إِذا كانَ ظاهِرُ المرويِّ يُوافِقُ مذهَبَ المُبْتَدِع، ولو لم يكنْ داعيةً، واللهُ أَعلمُ.
(ثمَّ سوءُ الحِفْظِ) وهو السَّببُ العاشِرُ مِن أَسبابِ الطَّعنِ، والمُرادُ بهِ: مَن لم يُرَجَّحْ جانِبُ إِصابتِه على جانِبِ خَطَئهِ، وهو على قسمينِ:
(إِنْ كانَ لازِماً) للرَّاوي في جَميعِ حالاتِه، (فـ) هُو (الشاذُّ؛ على رَأْيِ) بعضِ أَهلِ الحَديثِ.(1/138)
44 - أَوْ طَارِئًا فَالْمُُخْتَلِطُ.
45 - وَمَتَى تُوبِعَ سََيْئُّ الْحِفْظِ بِمُعْتَبَرٍ، وَكَذَا الْمَسْتُورُ وَالْمُرْسَلُ، وَالْمُدلَّسُ؛ صَارَ حَدِيثُهُمْ حَسَنًا لَا لِذَاتِهِ، بَلْ بِالْمَجْمُوعِ.
_____________________________________________________
(أَوْ) كانَ سوءُ الحفظِ (طارِئاً) على الرَّاوي إِمَّا لكِبَرِهِ أَو لذَهابِ بصرِه، أَوْ لاحتِراقِ كُتُبِه، أَو عدمِها؛ بأَنْ كانَ يعْتَمِدُها، فرَجَعَ إِلى حفظِهِ، فساءَ، (فـ) هذا هو (المُخْتَلِطُ).
والحُكْمُ فيهِ أَنَّ ما حَدَّثَ بهِ قبلَ الاختلاطِ إِذا تَميَّزَ قُبِلَ، وإِذا لم يَتَمَيَّزْ تُوُقِّفَ فيهِ، وكذا مَن اشتَبَهَ الأمرُ فيهِ، وإِنَّما يُعْرَفُ ذلك باعْتِبارِ الآخِذينَ عنهُ.
(ومَتى تُوبِعَ السَّيِّءُ الحِفْظِ بِمُعْتَبَرٍ)؛ كأَنْ يكونَ فوقَهُ أَو مِثْلَه لا دُونَه، (وكَذا) المُخْتَلِطُ الَّذي لم يتَمَيَّزْ و(المَسْتورُ وَ) الإِسنادُ (المُرْسَلُ و) كذا (المُدَلَّسُ) إِذا لم يُعْرَفِ المحذوفُ منهُ (صارَ حديثُهُم حَسناً؛ لا لذاتِهِ، بل) وَصْفُهُ بذلك (بـ) اعتبارِ (المَجْموعِ) من المتابِعِ والمتَابَعِ؛ لأنَّ معَ كلِّ واحدٍ منهُم احْتِمالَ كونِ روايتِه صواباً أَو غيرَ صوابٍ على حدٍّ سواءٍ.
فإِذا جاءَتْ مِنَ المُعْتَبَرينَ روايةٌ مُوافِقةٌ لأحدِهِم؛ رُجِّحَ أَحدُ الجانِبينِ مِن(1/139)
46 - ثُمَّ الْإِسْنَادُ؛ إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسِلَّمَ تَصْرِيحًا أَوْ حُكْمًا؛ مِنْ قَوْلِهِ، أَوْ فِعْلِهِ، أَوْ تَقْرِيرِهِ.
_____________________________________________________
الاحْتِمالينِ المَذكورَيْنِ، ودلَّ ذلك على أَنَّ الحَديثَ مَحْفوظٌ، فارْتَقى مِن درَجَةِ التوقُّفِ إِلى دَرَجَةِ القَبولِ، واللهُ أَعلمُ.
ومعَ ارْتِقائِهِ إِلى دَرَجَةِ القَبولِ؛ فهُو مُنْحَطٌّ عنْ رُتْبَةِ الحَسَنِ لذاتِه، ورُبَّما توقَّفَ بعضُهم عنْ إِطلاقِ اسمِ الحَسَنِ عليهِ.
وقد انْقَضى ما يتعلَّقُ بالمَتْنِ مِن حيثُ القَبولُ والرَّدُّ.
(ثمَّ الإِسْنادُ) وهُو الطَّريقُ المُوصِلَةُ إِلى المتنِ.
والمَتْنُ: هُو غايَةُ ما يَنْتَهي إِليه الإِسنادُ مِن الكلامِ، وهُو (إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ)، ويقتَضي لفظُهُ (إِمَّا تَصْريحاً أَوْ حُكْماً) أَنَّ المنَقْولَ بذلك الإِسنادِ (مِن قولِهِ) صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ، (أَوْ) مِن (فِعْلِهِ)، (أو) مِن (تَقريرِهِ).
مثالُ المَرفوعِ مِن القولِ تَصريحاً: أَن يقولَ الصَّحابيُّ: سمعتُ النبيَّ(1/140)
........................................................................................
_____________________________________________________
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: كذا، أَو: حدَّثَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بكَذا، أَو يقولُ هو أَو غيرُه: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كذا، أَو: عنْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أَنَّه قالَ كذا، أو نحوَ ذلك.
ومِثالُ المَرفوعِ مِن الفِعْلِ تَصريحاً: أَن يقولَ الصَّحابيُّ: رأَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ فعَلَ كذا، أَو يقولَ هُو أَو غيرُه: كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ يفعَلُّ كذا.
ومِثالُ المَرفوعِ مِن التَّقريرِ تَصريحاً: أَنْ يقولَ الصَّحابيُّ: فعَلْتُ بحضرَةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ كذا، أَو يقولَ هو أَو غيرُه: فعَلَ فُلانٌ بحَضْرَةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ كذا، ولا يذكُرُ إِنكارَهُ لذلك.
ومثالُ المرفوعِ مِن القولِ حُكْماً لا تَصْريحاً: أََنْ يقولَ الصَّحابيُّ - الَّذي لم يأْخُذْ عَنِ الإِسرائيليَّاتِ - ما لا مجالَ للاجْتِهادِ فيهِ، ولا لهُ تعلُّقٌ ببيانِ لُغةٍ أَو شرحِ غريبٍ؛ كالإِخْبارِ عنِ الأمورِ الماضيةِ مِن بدْءِ الخَلْقِ وأَخْبارِ الأنبياءِ، أَو الآتيةِ كالملاحمِ والفِتَنِ وأَحوالِ يومِ القيامةِ.
وكذا الإِخْبارُ عمَّا يحْصُلُ بفِعْلِهِ ثوابٌ مَخْصوصٌ أَو عِقابٌ مَخْصوصٌ.(1/141)
........................................................................................
_____________________________________________________
وإِنَّما كانَ لهُ حُكْمُ المَرفوعِ؛ لأنَّ إِخبارَهُ بذلك يقتَضي مُخْبِراً لهُ، وما لا مَجالَ للاجتِهادِ فيهِ يَقتَضي مُوقِفاً للقائلِ بهِ، ولا مُوقِفَ للصَّحابَةِ إِلاَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ، أَو بعضُ مَن يُخْبِرُ عَن الكُتبِ القديمةِ، فلهذا وقعَ الاحْتِرازُ عنِ القسمِ الثَّاني، وإِذا كانَ كذلك؛ فلهُ حُكْمُ ما لو قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ؛ فهُو مَرْفوعٌ؛ سواءٌ كانَ ممَّا سمِعَهُ منهُ أَو عنهُ بواسِطةٍ.
ومِثالُ المَرفوعِ مِن الفِعْلِ حُكماً: أَنْ يفعَلَ الصَّحابيُّ ما لا مَجالَ للاجْتِهادِ فيهِ فيُنَزَّلُ على أَنَّ ذلك عندَه عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ كما قالَ الشافعيُّ رضيَ اللهُ عنهُ في صلاةِ عليٍّ في الكُسوفِ في كُلِّ ركعةٍ أَكثرَ مِن رُكوعَيْنِ.
ومثالُ المَرفوعِ مِن التَّقريرِ حُكْماً: أَنْ يُخبِرَ الصَّحابيُّ أَنَّهُم كانُوا يفْعَلونَ في زمانِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ كذا؛ فإِنَّهُ يكونُ لهُ حُكمُ الرَّفعِ مِن جهةِ أَنَّ الظَّاهِرَ اطِّلاعُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ على ذلك لتوفُّرِ دَواعِيهِم على سُؤالِهِ عن أُمورِ دِينِهم، ولأنَّ ذلك الزَّمانَ زمانُ نُزولِ الوَحْيِ فلا يقعُ مِن الصَّحابةِ فِعْلُ شيءٍ ويستمرُّونَ عليهِ إِلاَّ وهُو غيرُ ممنوعِ الفعلِ.
وقدِ استدلَّ جابِرٌ وأَبو سعيدٍ الخُدريُّ رضي الله عنهما على جوازِ العَزْلِ بأَنَّهُم كانوا يفعَلونَه والقرآنُ ينزِلُ، ولو كانَ ممَّا يُنْهَى عنهُ لنَهى عنهُ القُرآنُ.(1/142)
........................................................................................
_____________________________________________________
ويلتَحِقُ بقَولي: حُكْماً؛ ما وردَ بصيغةِ الكنايةِ في موضعِ الصِّيَغِ الصَّريحةِ بالنِّسبةِ إِليه صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ؛ كقولِ التَّابعيِّ عنِ الصَّحابيِّ: يرفعُ الحَديثَ، أو: يرويهِ، أو: يَنْميهِ، أَو: روايةً، أَو: يبلُغُ بهِ، أَو: رواهُ.
وقد يَقْتَصِرونَ على القولِ معَ حَذْفِ القائلِ، ويُريدونَ بهِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ؛ كقولِ ابنِ سيرينَ عنْ أَبي هُريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ: "تُقاتِلونَ قَوْماً" الحديث.(1/143)
........................................................................................
_____________________________________________________
وفي كلامِ الخَطيبِ أَنَّه اصْطِلاحٌ خاصٌّ بأَهلِ البَصرَةِ.
ومِن الصِّيَغِ المُحْتَمِلةِ: قولُ الصَّحابيِّ: مِِن السُّنَّةِ كذا، فالأكثرُ على أَنَّ ذلك مرفوعٌ.
ونقلَ ابنُ عبدِ البرِّ فيهِ الاتِّفاقَ؛ قالَ: وإِذا قالَها غيرُ الصَّحابيِّ؛ فكذلك، ما لم يُضِفْها إِلى صاحِبِها كسُنَّةِ العُمَرينِ.
وفي نَقْلِ الاتِّفاقِ نَظَرٌ، فعَنِ الشَّافعيِّ في أَصلِ المسأَلةِ قولانِ.
وذَهَبَ إِلى أَنَّهُ غيرُ مرفوعٍ أَبو بكرٍ الصَّيرفيُّ مِن الشَّافعيَّةِ، وأَبو بكرٍ الرَّازيُّ مِن الحنفيَّةِ، وابنُ حزمٍ مِن أَهلِ الظَّاهِرِ، واحتَجُّوا بأَنَّ السُّنَّةَ تتردَّدُ بينَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ وبينَ غيرِه، وأُجِيبوا بأَنَّ احْتِمالَ إِرادةِ غيرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعيدٌ.(1/144)
........................................................................................
_____________________________________________________
وقد روى البُخاريُّ في صحيحِه في حديثِ ابنِ شِهابٍ، عن سالِمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ عن أَبيهِ في قصَّتِه معَ الحجَّاج حينَ قالَ لهُ: إِنْ كُنْتَ تُريدُ السُّنَّةَ فهَجِّرْ بالصَّلاةِ "يومَ عَرَفَةَ".
قالَ ابنُ شِهابٍ: فقلتُ لسالِمٍ: أَفَعَلَهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ ؟ فقالَ: وهل يَعْنونَ بذلك إِلاَّ سُنَّتَهُ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ؟!
فنَقَلَ سالمٌ - وهو أَحدُ الفُقهاءِ السَّبعَةِ مِن أَهلِ المدينةِ وأَحدُ الحفَّاظِ مِن التَّابعينَ عنِ الصَّحابةِ - أَنَّهم إِذا أَطلَقوا السُّنَّةَ؛ لا يُريدونَ بذلك إِلاَّ سُّنَّةَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ.
وأَمَّا قولُ بعضِهِم: إِذا كانَ مرفوعاً؛ فلمَ لا يقولونَ فيهِ: قالَ رسولُ اللهِ؟ فجوابُهُ: إِنَّهُم تَرَكوا الجَزْمَ بذلك تورُّعاً واحتِياطاً.
ومِن هذا: قولُ أَبي قِلابةَ عن أَنسٍ: "مِن السُّنَّةِ إِذا تزوَّجَ البِكْرَ على الثَّيِّبِ(1/145)
........................................................................................
_____________________________________________________
أَقامَ عندَها سَبعاً"، أَخرَجاهُ في الصَّحيحينِ.
قالَ أَبو قِلابةَ لو شِئْتُ لقلتُ: إِنَّ أَنساً رفَعَهُ إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ.
أَي: لو قُلتُ: لمْ أَكْذِبْ؛ لأَنَّ قولَه: "مِن السُّنَّةِ" هذا معناهُ،لَكنَّ إِيرادَهُ بالصِّيغَةِ التي ذَكَرها الصَّحابيُّ أَوْلى.
ومِن ذلك: قولُ الصَّحابيِّ: أُمِرْنا بكَذا، أَو: نُهينا عنْ كذا، فالخِلافُ فيهِ كالخِلافِ في الَّذي قَبْلَهُ؛ لأنَّ مُطْلَقَ ذلك ينصَرِفُ بظاهِرِه إِلى مَنْ لهُ الأمرُ والنَّهْيُ، وهُو الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ.
وخالفَ في ذلك طائفةٌ تمَسَّكوا باحْتِمالِ أَنْ يَكونَ المُرادُ غيرَه، كأَمرِ القُرآنِ، أَو الإِجماعِ، أَو بعضِ الخُلفاءِ، أَو الاستِنْباطِ !
وأُجيبوا بأَنَّ الأصلَ هو الأوَّلُ، وما عداهُ مُحْتَمَلٌ، لكنَّهُ بالنسبةِ إليهِ مرجوحٌ.
وأَيضاً؛ فمَن كان في طاعةِ رئيسٍ إِذا قالَ: أُمِرْتُ؛ لا يُفْهَمُ عنهُ أَنَّ آمِرَهُ ليس إِلاَّ رئيسُهُ.
وأَمَّا قولُ مَن قالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُظنَّ ما ليسَ بأمرٍ أمراً ! فلا اخْتِصاصَ لهُ بهذهِ المسأَلَةِ، بل هُو مذكورٌ فيما لو صرَّحَ، فقالَ: أَمَرَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ(1/146)
........................................................................................
_____________________________________________________
وسلَّمَ بكذا.
وهو احْتِمالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الصَّحابيَّ عدلٌ عارفٌ باللِّسانِ، فلا يُطلقُ ذلك إِلاَّ بعدَ التحقُّقِ.
ومن ذلك: قولُه: كنَّا نفعَلُ كذا، فلهُ حُكْمُ الرَّفعِ أَيضاً كما تقدَّمَ.
ومِن ذلك: أَنْ يَحْكُمَ الصَّحابيُّ على فِعلٍ مِن الأفعالِ بأَنَّه طاعةٌ للهِ أَو لرسولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ، أَو معصيةٌ؛ كقولِ عَمَّارٍ: "مَن صامَ اليومَ الَّذي يُشَكُّ فيهِ؛ فقدْ عَصى أَبا القاسِمِ"(1/147)
47 - أَوْ إِلَى الصَّحَابِيِّ كَذَلِكَ.
_____________________________________________________
فلهذا حُكْمُ الرَّفعِ أَيضاً؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذلك ممَّا تلقَّاهُ عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ.
(أَوْ) تَنْتَهي غايةُ الإِسنادِ (إلى الصَّحابِيِّ كَذلكَ)؛ أَي: مِثْلَ ما تقدَّمَ في كونِ اللَّفْظِ يَقْتَضي التَّصريحَ بأَنَّ المَقولَ هُو مِن قولِ الصَّحابيِّ، أَو مِن فعلِهِ، أَو مِن تقريرِه، ولا يَجيءُ فيهِ جَميعُ ما تقدَّمَ بل مُعْظَمُه.
والتَّشبيهُ لا تُشْتَرَطُ فيهِ المُساواةُ مِن كلِّ جهةٍ.
ولمَّا أَنْ كانَ هذا المُخْتَصرُ شامِلاً لجَميعِ أَنواعِ عُلومِ الحَديثِ(1/148)
وَهُوَ: مَنْ لَقِيَ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَوْ تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ؛ فِي الْأَصَحِّ.
_____________________________________________________
اسْتَطْرَدْتُ منهُ إِلى تَعريفِ الصَّحابيِّ مَن هو، فقلتُ: (وهُو: مَنْ لَقِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعالى عليهِ وآلهِ وسلَّمَ ُمؤمِناً بهِ وماتَ عَلى الإِسلامِ، ولو تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ؛ في الأَصَحَّ).
والمرادُ باللِّقاءِ ما هُو أَعمُّ مِن المُجالَسَةِ والمُماشاةِ ووصولِ أَحدِهِما إِلى الآخَرِ وإِنْ لم يُكالِمْهُ، وتدخُلُ فيهِ رُؤيَةُ أَحدِهما الآخَرَ، سواءٌ كانَ ذلك بنفسِه أَو بغيْرِه.
والتَّعْبيرُ بـ "اللُّقِيَّ" أَولى مِن قولِ بعضِهم: الصَّحابيُّ مَن رأَى النبيَّ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؛ لأنَّهُ يخرُجُ حينئذٍ ابنُ أُمِّ مكتومٍ ونحوُهُ مِن العُميانِ، وهُم صحابةٌ بلا تَرَدُّدٍ، واللُّقي في هذا التَّعريفِ كالجِنْسِ.
وقَوْلِي: "مُؤمناً"؛ كالفَصْلِ، يُخْرِجُ مَن حَصَلَ لهُ اللِّقاءُ المذكورُ، لكنْ في حالِ كونِه كافراً.
وقَوْلي: "بهِ" فصلٌ ثانٍ يُخْرِجُ مَن لَقِيَهُ مُؤمِناً لكنْ بغيرِه مِن الأنبياءِ.
لكنْ: هل يُخْرِجُ مَن لَقِيَهُ مُؤمِناً بأَنَّهُ سَيُبْعَثُ ولم يُدْرِكِ البِعْثَةَ؟ فيهِ نَظرٌ !
وقَوْلي: "وماتَ على الإِسلامِ"؛ فصلٌ ثالِثٌ يُخْرِجُ مَنِ ارتَدَّ بعدَ أَنْ لَقِيَه مُؤمِناً بهِ، وماتَ على الرِّدَّةِ؛ كعُبَيْدِ اللهِ بنِ جَحْشٍ وابن خَطَلٍ.(1/149)
........................................................................................
_____________________________________________________
وقَوْلي: "ولو تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ"؛ أي: بينَ لُقِيِّهِ لهُ مُؤمِناً بهِ وبينَ موتِه على الإِسلامِ؛ فإِنَّ اسمَ الصُّحبةِ باقٍ لهُ، سواءٌ أَرجَعَ إِلى الإسلامِ في حياتِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ أَو بعدَه، وسواءٌ أَلَقِيَهُ ثانياً أَمْ لا !
وقَوْلي: "في الأصحِّ"؛ إِشارةٌ إِلى الخِلافِ في المسأَلةِ.
ويدلُّ على رُجْحانِ الأوَّلِ قصَّةُ الأشْعَثِ بنِ قيسٍ؛ فإِنَّه كانَ ممَّنِ ارتَدَّ، وأُتِيَ بهِ إِلى أَبي بكرٍ الصدِّيقِ أَسيراً، فعادَ إِلى الإسلامِ، فقَبِلَ منهُ ذلك، وزوَّجَهُ أُخْتَهُ، ولم يتخلَّفْ أَحدٌ عنْ ذِكْرِهِ في الصَّحابةِ ولا عنْ تخريجِ أحاديثِه في المَسانيدِ وغيرِها.(1/150)
........................................................................................
_____________________________________________________
تَنْبيهانِ:
أَحَدُهما: لا خَفاءَ برُجْحانِ رُتبةِ مَن لازَمَه صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ، وقاتَلَ معَهُ، أَو قُتِلَ تَحْتَ رايتِه، على مَن لم يُلازمْهُ، أَو لم يَحْضُرْ معهُ مشهداً، وعلى مَن كلَّمَهُ يَسيراً، أَو ماشاهُ قَليلاً، أَو رآهُ على بُعْدٍ، أَو في حالِ الطُّفولةِ، وإِن كانَ شرفُ الصُّحْبةِ حاصِلاً للجَميعِ.
ومَنْ ليسَ لهُ مِنهُم سماعٌ منهُ؛ فحديثُهُ مُرْسَلٌ من حيثُ الرِّوايةُ، وهُم معَ ذلك معددونَ في الصَّحابةِ؛ لما نالوهُ مِن شرفِ الرُّؤيةِ.
ثانيهِما: يُعْرَفُ كونُه صحابيّاً؛ بالتَّواتُرِ، أَو الاستفاضَةِ، أَو الشُّهْرةِ، أَو بإِخبارِ بعضِ الصَّحابةِ، أَو بعضِ ثقاتِ التَّابِعينَ، أَو بإِخبارِهِ عنْ نفسِهِ بأَنَّهُ صحابيٌّ؛ إِذا كانَ دعواهُ ذلكَ تدخُلُ تحتَ الإِمكانِ !
وقد استَشْكَلَ هذا الأخيرَ جماعَةٌ مِن حيثُ إِنَّ دعواهُ ذلك نظيرُ دَعْوى مَن قالَ: أَنا عَدْلٌ !
ويَحْتاجُ إِلى تأَمُّلٍ !!(1/151)
48 - أَوْ إِلَى التَّاَّبِعِين؛ وَهُوَ مَنْ لَقِيَ الصَّحَابِيَّ كَذَلِكَ.
_____________________________________________________
(أَوْ) تنتَهي غايةُ الإِسنادِ (إِلى التَّابِعيَ، وهو مَنْ لَقِيَ الصَّحابِيَّ كذلكَ)، وهذا متعلِّقٌ باللُّقيِّ، وما ذُكِرَ معهُ؛ إِلاَّ قَيْدُ الإِيمانِ بهِ؛ فذلكَ خاصٌّ بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا > هُو المُختارُ؛ خلافاً لمَن اشْتَرَطَ في التَّابعيِّ طولَ المُلازمةِ، أَو صُحْبَةَ السَّماعِ، أَو التَّمييزَ.
وبَقِيَ بينَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ طبَقَةٌ اخْتُلِفَ في إِلحاقِهِم بأَيِّ القِسمينِ، وهُم المُخَضْرَمونَ الَّذين أَدْرَكوا الجَاهِليَّةَ والإِسلامَ، ولم يَرَوا النبيَّ صلى الله(1/152)
فَالْأَوَّلُ: الْمَرْفُوع ُ.
_____________________________________________________
عليه وآله وسلم، فعدَّهُم ابنُ عبدِ البرِّ في الصَّحابةِ.
وادَّعَى عِياضٌ وغيرُه أَنَّ ابنَ عبدِ البرِّ يقولُ: إِنَّهُم صحابةٌ ! وفيهِ نظرٌ؛ لأنَّهُ أَفصَحَ في خُطبةِ كتابِه بأَنَّهُ إِنَّما أَورَدَهُم ليكونَ كتابُه جامِعاً مُستوعِباً لأهْلِ القرنِ الأوَّلِ.
والصَّحيحُ أَنَّهُم مَعددونَ في كبارِ التَّابعينَ سواءٌ عُرِف أَنَّ الواحِدَ منهُم كانَ مُسلماً في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم - كالنَّجاشيِّ - أَمْ لا ؟
لكنْ إِنْ ثبتَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ليلةَ الإِسْراءِ كُشِفَ لهُ عن جَميعِ مَن في الأرْضِ فرَآهُمْ، فيَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مَنْ كانَ مُؤمِناً بهِ في حياتِه إِذْ ذاكَ - وإِنْ لمْ يُلاقِهِ - في الصَّحابةِ؛ لحُصولِ الرُّؤيَةِ من جانِبِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ.
(فـ) القسمُ (الأوَّلُ) ممَّا تقدَّمَ ذِكْرُهُ مِن الأقْسامِ الثَّلاثةِ - وهُو ما تَنْتَهي إلى(1/153)
وَالثَّانِي: الْمَوْقُوفُ.
وَالثَّالِثُ: الْمَقْطُوعُ ُ، وَمَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ فِيهِ مِثْلُهُ.
وَيُقَالُ لِلأَخِيرَيْنِ: الْأَثَرُ.
49 - وَالْمُسْنَدُ: مَرْفُوعُ صَحَابِيٍّ بِسَنَدٍ ظَاهِرُهُ الْاتِّصَالُ.
_____________________________________________________
النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ غايةُ الإِسنادِ - هُو (المَرْفوعُ)، سواءٌ كانَ ذلك الانتهاءُ بإِسنادٍ مُتَّصلٍ أَم لا.
(والثَّانِي: المَوْقوفُ)، وهو ما انْتَهَى إلى الصَّحابيِّ.
(والثَّالِثُ: المَقْطوعُ)، وهو ما ينْتَهي إلى التَّابعيِّ.
(ومَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ) مِن أَتْباعِ التَّابعينَ فمَنْ بعْدَهُم؛ فيهِ؛ أَي: في التَّسميةِ، (مِثْلُهُ)؛ أَي: مثلُ ما ينتَهي إِلى التَّابعيِّ في تسميةِ جميعِ ذلك مَقطوعاً، وإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: موقوفٌ على فُلانٍ.
فحَصَلَتِ التَّفرقةُ في الاصطِلاحِ بين المَقطوعِ والمُنْقَطِعِ، فالمُنْقَطِعُ مِن مباحِثِ الإِسنادِ كما تقدَّمَ، والمَقْطوعُ مِن مباحِثِ المَتْنِ كما ترى.
وقد أَطلَقَ بعضُهُم هذا في موضِعِ هذا، وبالعكْسِ؛ تجوُّزاً عنِ الاصطِلاح.
(ويُقالُ للأخيرينِ)؛ أي: الموقوفِ والمَقطوعِ: (الأَثَرُ).
(والمُسْنَدُ) في قولِ أَهلِ الحَديث: هذا حديثٌ مُسنَدٌ: هو: (مرفوعُ صَحابِيٍّ بِسَنَدٍ ظاهِرُهُ الاتِّصالُ)، فقولي: "مرفوعٌ" كالجنسِ، وقولي:(1/154)
........................................................................................
_____________________________________________________
"صحابيٍّ" كالفصلِ، يَخرُجُ بهِ ما رفعهُ التَّابعيُّ؛ فإِنَّه مُرْسَلٌ، أَو مَن دونَه؛ فإِنَّه مُعْضَلٌ أَو مُعلَّقٌ.
وقولي: "ظاهِرُهُ الاتِّصالُ" يُخْرِجُ ما ظاهِرُه الانقطاعُ، ويُدخِل ما فيه الاحتمالُ، وما يوجَدُ فيه حقيقةُ الاتِّصالِ مِن بابِ أَولى.
ويُفهَمُ مِن التَّقييدِ بالظُّهورِ أَنَّ الانقطاعَ الخفيَّ كعنعَنَةِ المدلِّسِ والمُعاصرِ الذي لم يثبُتْ لُقِيُّهُ؛ لا يُخرِجُ الحديثَ عن كونِه مُسنَداً؛ لإِطباقِ الأئمَّةِ الَّذينَ خَرَّجوا المسانيدَ على ذلك.
وهذا التَّعريفُ مُوافِقٌ لقَولِ الحاكمِ: "المُسْنَدُ: ما رواهُ المحدِّثُ عن شيخٍ يَظْهَرُ سماعُه منهُ، وكذا شيخُه من شيخِهِ مُتَّصلاً إِلى صحابيٍّ إِلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم".
وأمَّا الخَطيبُ فقالَ: المُسْنَدُ: المُتَّصلُ.
فعلى هذا: الموقوفُ إِذا جاءَ بسندٍ مُتَّصلٍ يسمَّى عندَه مسنداً، لكنْ قال: إِنَّ ذلك قد يأْتي، لكنْ بقلَّةٍ.
وأَبعدَ ابنُ عبدِ البرِّ حيثُ قالَ: "المُسندُ المرفوعُ" ولم يتعرَّضْ للإِسنادِ؛ فإِنَّهُ يصدُقُ على المُرسلِ والمُعضَلِ والمُنقطِعِ إِذا كانَ المتنُ مرفوعاً ! ولا قائلَ بهِ.(1/155)
50 - فَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُ؛ َإِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ، أَوْ إِلَى إِمَامٍ ذِي صِفَةٍ عَلِيَّةٍ؛ كَشُعْبَةَ:
فَالْأَوَّلُ: الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ.
وَالثَّانِي: النِّسْبِيُّ.
_____________________________________________________
(فإِنْ قَلَّ عَدَدَهُ)؛ أي: عددُ رجالِ السَّندِ، (فإِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ) بذلك العددِ القليلِ بالنِّسبةِ إِلى أَيِّ سندٍ آخَرَ يَرِدُ بهِ ذلك الحَديثُ بعينِه بعددٍ كثيرٍ، (أَوْ) ينتَهِيَ (إِلى إِمامٍ) مِن أَئمَّةِ الحَديثِ (ذي صِفَةٍ عَلِيَّةٍ) كالحفظِ والفِقهِ والضَّبطِ والتَّصنيفِ وغيرِ ذلك من الصِّفاتِ المُقتَضِيَةِ للتَّرجيحِ؛ (كشُعْبَةَ) ومالكٍ والثَّوريِّ والشَّافعيِّ والبُخاريِّ ومُسلمٍ ونحوِهم:
(فالأوَّلُ) وهُو ما ينتَهي إِلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ: (العُلُوُّ المُطْلَقُ)، فإِن اتَّفَقَ أَنْ يكونَ سندُهُ صحيحاً؛ كانَ الغايةَ القُصوى، وإِلاَّ فَصُورةُ العلوِّ فيهِ موجودةٌ ما لم يكُنْ موضوعاً؛ فهُو كالعدَمِ.
(والثَّانِي): العُلُوُّ (النِّسْبِيُّ): وهُو ما يقلُّ العددُ فيهِ إِلى ذلك الإِمامِ، ولو كانَ العددُ من ذلك الإِمامِ إِلى مُنتهاهُ كَثيراً.
وقد عَظُمَتْ رغبةُ المُتأَخِّرينَ فيهِ، حتَّى غَلَبَ ذلك على كثيرٍ منهُم، بحيثُ أَهْمَلوا الاشتِغالَ بما هُو أَهمُّ منهُ.
وإِنَّما كانَ العلوُّ مَرغوباً فيهِ؛ لكونِه أَقربَ إِلى الصحَّةِ، وقلَّةِ الخطأِ؛ لأنَّهُ ما مِن راوٍ مِن رجالِ الإِسنادِ إِلاَّ والخطأُ جائزٌ عليهِ، فكلَّما كَثُرتِ الوسائطُ وطالَ(1/156)
وَفِيهِ: الْمُوَافَقَةُ، وَهِيَ الْوُصُولُ إِلَى شَيْخِ أَحَدِ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ.
_____________________________________________________
السَّندُ؛ كَثُرَتْ مظانُّ التَّجويزِ، وكلَّما قلَّتْ؛ قلََّتْ.
فإِنْ كانَ في النُّزولِ مَزِيَّةٌ ليستْ في العلوِّ؛ كأَنْ يكونَ رجالُه أَوثقَ منهُ، أَو أَحفَظَ، أَو أَفقهَ، أَو الاتِّصالُ فيهِ أَظهرَ؛ فلا تردُّدَ في أَنَّ النُّزولَ حينئذٍ أَولى.
وأَمَّا مَن رجَّحَ النُّزولَ مُطلقاً، واحْتَجَّ بأَنَّ كَثرةَ البحثِ تقتَضي المشقَّةَ؛ فيعظُمُ الأجْرُ !
فذلك ترجيحٌ بأَمرٍ أَجنبيٍّ عمَّا يتعلَّقُ بالتَّصحيحِ والتَّضعيفِ.
(وفيهِ)؛ أي: العلوِّ النسبيِّ (المُوافَقَةُ، وهي الوُصولُ إلى شيخِ أحدِ المُصَنِّفينَ مِن غيرِ طريقهِ)؛ أَي: الطَّريقِ التي تصلُ إِلى ذلك المصنِّفِ المُعيَّنِ.
مثالُه: روى البُخاريُّ عن قُتيبةَ عن مالكٍ حديثاً...
فلو رَوَيْناهُ مِن طريقِهِ؛ كانَ بينَنا وبينَ قُتَيْبَةَ ثمانيةٌ، ولو رَوْينا ذلك الحَديثَ(1/157)
وَفِيهِ: الْبَدَلُ، وَهُوَ الْوُصُولُ إِلَى شَيْخِ شَيْخِهِ كَذَلِكَ.
وَفِيهِ: الْمُسَاوَاةُ، وَهِيَ اسْتِوَاءُ عَدَدِ الْإِسْنَادِ مِنَ الرَّاوِي إِلَى آَخِرِهِ مَعَ إِسْنَادِ أَحَدِ الْمُصنِّفِينَ.
_____________________________________________________
بعينِه مِن طريقِ أَبي العبَّاس السَّرَّاجِ عن قُتيبةَ مثلاً؛ لكانَ بينَنا وبينَ قُتيبةَ سبعةٌ.
فقدْ حَصَلَتْ لنا المُوافقةُ معَ البُخاريِّ في شيخِهِ بعينِهِ معَ عُلوِّ الإِسنادِ على الإِسنادِ إِليهِ.
(وفيهِ)؛ أَي: العلوِّ النسبيِّ (البَدَلُ، وهو الوُصولُ إِلى شيخِ شيخِهِ كذلكَ).
كأَنْ يقعَ لنا ذلك الإِسنادُ بعينِهِ مِن طريقٍ أُخرى إِلى القعنَبِيِّ عن مالكٍ، فيكونُ القَعْنَبيُّ بَدلاً فيهِ مِن قُتَيْبَةَ.
وأَكثرُ ما يعتَبِرونَ المُوافَقَةَ والبَدَلَ إِذا قارَنَا العُلُّوَّ، وإِلاَّ؛ فاسمُ المُوافقةِ والبَدلِ واقِعٌ بدُونِه.
(وفيهِ)؛ أَي: العُلوِّ النسبيِّ (المُساواةُ، وهي: استواءُ عدَدِِ الإِِسنادِِ مِن الرَّاوي إِلى آخِرِهِ)؛ أَي: الإِسنادِ (مَعَ إِسنادِ أَحدِ المُصَنِّفينَ).
كأَنْ يروِيَ النَّسائيُّ مَثلاً حَديثاً يقعُ بينَهُ وبينَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيهِ أَحدَ عشرَ نفساً، فيقعُ لنا ذلك الحديثُ بعينِه بإِسنادٍ آخَرَ إِلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقعُ بينَنا فيه وبينَ النَّبيِّ(1/158)
وفيهِ المُصافَحَةُ، وهي: الاستواءُ مَعَ تِلْميذِ ذلكَ المُصَنِّفِ.
ويُقابِلُ العُلُوُّ بأَقْسَامِهِ: النُّزولُ.
51 - فَإِنْ تَشَارَكَ الرَّاوِي وَمَنْ رَوَى عَنْهُ فِي السِّنِّ وَاللُّقِيّ؛ فَهُوَ الْأَقْرَانُ.
_____________________________________________________
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أَحدَ عشرَ نفساً، فنُساوي النَّسائيَّ مِن حيثُ العددُ معَ قطعِ النَّظرِ عن مُلاحظةِ ذلك الإِسنادِ الخاصِّ.
(وفيهِ)؛ أَي: العلوِّ النسبيِّ أَيضاً (المُصافَحَةُ، وهي: الاستواءُ مَعَ تِلْميذِ ذلكَ المُصَنِّفِ) على الوجْهِ المَشروحِ أَوَّلاً.
وسُمِّيتْ مُصافحةً لأنَّ العادةَ جرتْ في الغالبِ بالمُصافحةِ بينَ مَن تلاقَيا، ونحنُ في هذهِ الصُّورةِ كأَنَّا لَقينا النَّسائيَّ، فكأَنَّا صافَحْناهُ.
(ويُقابِلُ العُلُوُّ بأَقْسَامِهِ) المَذكورةِ (النُّزولُ) فيكونُ كلُّ قسمٍ مِن أَقسامِ العُلوِّ يُقابِلُهُ قسمٌ مِن أَقسامِ النُّزولِ؛ خِلافاً لمَن زعمَ أَنَّ العُلوَّ قد يقعُ غيرَ تابعٍ للنُّزولِ.
(فإِنْ تَشارَكَ الرَّاوِي ومَنْ روى عَنْهُ في) أَمرٍ مِن الأمورِ المتعلِّقَةِ بالرِّوايةِ؛ مثلِ (السِّنِّ واللُّقِيِّ)، وهو الأخذُ عن المشايخِ؛ (فهُو) النُّوعُ الَّذي يُقالُ لهُ: روايةُ (الأقْرانِ)؛ لأنَّهُ حينئذٍ يكونُ راوياً عن قَرينِهِ.(1/159)
52 - وَإِنْ رَوَى كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الْآَخَرِ؛ فَالْمُدْبَجُ.
53 - وَإِنْ رَوَى عَمَّنْ دُونَهُ؛ فَالْأَكَابِرُ عَنِ الْأَصَاغِرِ، وَمِنْهُ: الْآَبَاءُ
_____________________________________________________
(وإِنْ رَوى كُلِّ مِنْهُما)؛ أَي: القَرينَيْنِ (عَنِ الآخَرِ؛ فـ) هو (المُدَبَّجُ)، وهو أَخصُّ مِن الأوَّلِ، فكلُّ مُدَبَّجٍ أَقرانٌ، وليسَ كلُّ أَقرانٍ مدبَّجاً.
وقد صنَّفَ الدَّارقطنيُّ في ذلك، وصنَّف أَبو الشيخِ الأصبهانيُّ في الَّذي قبلَه.
وإِذا روى الشَّيخُ عن تلميذِهِ صَدَق أَنَّ كلاًّ منهُما يروي عنِ الآخَرِ؛ فهل يُسمَّى مُدبَّجاً ؟
فيهِ بحثٌ، والظَّاهرُ: لا؛ لأنَّهُ مِن روايةِ الأكابِرِ عَنِ الأصاغِرِ، والتَّدبيجُ مأْخوذٌ مِن دِيباجَتَيِ الوجهِ، فَيَقْتَضِي أَن يكونَ ذلك مُستوِياً مِن الجانبَيْنِ، فلا يجيءُ فيهِ هذا.
(وإِنْ رَوى) الرَّاوي (عَمَّنْ) هُو (دُونَهُ) في السنِّ أَو اللُّقيِّ أَو في المِقدارِ؛(1/160)
عَنِ الْأَبْنَاءِ.
54 - وَفِي عَكْسِهِ كَثْرَةٌ.
55 - وَمِنْهُ مَنْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
_____________________________________________________
(فـ) هذا النَّوعُ هو روايةُ (الأكابِرُ عَنِ الأصاغِرِ).
(ومِنهُ)؛ أَي: مِن جُملةِ هذا النَّوعِ - وهو أَخصُّ مِن مُطلَقِهِ - روايةُ (الآباءُ عَنِ الأبْناءِ)، والصَّحابةِ عنِ التَّابعينَ، والشَّيخِ عن تلميذِهِ، ونحوِ ذلك.
(وفي عَكْسِهِ كَثْرَةٌ)؛ لأنَّهُ هُو الجادَّةُ المسلوكةُ الغالبةُ.
(ومِنْهُ: مَنْ رَوى عَنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ).
وفائدةُ معرِفَةِ ذلك: التَّمييزُ بينَ مراتِبِهِم، وتَنْزيلُ النَّاسِ منازِلَهُم.
وقد صنَّفَ الخَطيبُ في راويةِ الآباءِ عنِ الأبناءِ تصنيفاً، وأَفردَ جُزءاً لطيفاً(1/161)
56 - وَإِنِ اشْتَرَكَ اثْنَانِ عَنْ شَيْخٍ، وَتَقدَّمَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا؛ فَهُوَ: السَّابِقُ وَاللَّاحِقُ ُ.
_____________________________________________________
في روايةِ الصَّحابةِ عن التَّابِعينَ.
وجَمَعَ الحافظُ صلاحُ الدِّينِ العَلائيُّ - مِن المتأَخِّرينَ - مُجلَّداً كبيراً في معرفةِ مَن روى عن أَبيهِ عن جدِّهِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ، وقسَّمهُ أَقساماً، فمنهُ ما يعودُ الضَّميرُ في قولِه: "عن جدِّهِ" على الرَّاوي، ومنهُ ما يعودُ الضَّميرُ فيهِ على أَبيهِ، وبيَّن ذلك، وحقَّقَهُ، وخرَّج في كلِّ ترجمةٍ حديثاً مِن مرويِّهِ.
وقد لخَّصتُ كتابَه المذكورَ، وزِدْتُ عليهِ تراجِمَ كثيرةً جدّاً، وأَكثرُ ما وقعَ فيهِ ما تسلْسَلَتْ فيهِ الرِّاويةُ عن الآباءِ بأَربعةَ عشر أَباً.
(وإِنْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ عَنْ شَيْخٍ، وتَقَدَّمَ مَوْتُ أَحَدِهِما) على الآخَرِ؛ (فهُوَ: السَّابِقُ واللاَّحِقُ).
وأَكثرُ ما وَقَفْنا عليهِ مِن ذلك ما بينَ الرَّاوْيَيْنِ فيهِ في الوفاةِ مئةٌ وخَمْسونَ(1/162)
57 - وَإِنْ رَوَى عَنْ اثْنَيْنِ مُتَّفِقِي الْاسْمِ وَلَمْ يَتَمَيْزَا؛ فَبِاخْتِصَاصِهِ بِأَحَدِهِمَا يَتَبَيْنُ: الْمُهْمَلُ.
_____________________________________________________
سنةً، وذلك أَنَّ الحافظَ السِّلفيَّ سمِعَ منهُ أَبو عليٍّ البَرْدانيُّ - أَحدُ مشايخِهِ - حَديثاً، ورواهُ عنهُ، وماتَ على رأَسِ الخَمْسِ مئةٍ.
ثمَّ كانَ آخِرُ أَصحابِ السِّلفيِّ بالسَّماعِ سِبْطَهُ أَبا القاسمِ عبدَ الرحمنِ بن مَكِّيٍّ، وكانتْ وفاتُه سنةَ خمسينَ وستِّ مئةٍ.
ومِن قديمِ ذلك أَنَّ البُخاريَّ حدَّثَ عن تِلميذِهِ أَبي العبَّاسِ السَّرَّاجِ شيئاً في التَّاريخِ وغيرِه، وماتَ سنةَ ستٍّ وخمسينَ ومئتينِ، وآخِرُ مَن حدَّثَ عن السَّرَّاجِ بالسَّماعِ أَبو الحُسينِ الخَفَّافُ، وماتَ سنةَ ثلاثٍ وتسعينَ وثلاثِ مئةٍ.
وغالِبُ ما يقعُ مِن ذلك أَنَّ المسموعَ منهُ قد يتأَخَّرُ بعدَ موتِ أَحدِالرَّاويينِ عنهُ زماناً، حتَّى يسمَعَ منهُ بعضُ الأحداثِ، ويعيشَ بعدَ السَّماعِ منهُ دَهْراً طويلاً، فيحْصُلُ مِن مجموعِ ذلك نَحْوُ هذهِ المدَّةِ، واللهُ الموفِّقُ.
(وإِنْ رَوى) الرَّاوي (عَنِ اثْنَيْنِ مُتَّفِقَيِ الاسْمِ)، أَو معَ اسمِ الأبِ، أَو معَ اسمِ الجدِّ، أَو معَ النِّسبةِ، (ولَمْ يَتَمَيَّزا) بما يخُصُّ كُلاًّ منهُما، فإِنْ كانا(1/163)
........................................................................................
_____________________________________________________
ثقَتَيْنِ لم يَضُرَّ.
ومِن ذلكَ ما وقَعَ في البُخاريِّ مِن روايتِه عن أَحمدَ - غيرَ مَنسوبٍ - عن ابنِ وَهْبٍ؛ فإِنَّهُ إِمَّا أَحمدُ بنُ صالحٍ، أَو أَحمدُ بنُ عيسى، أَو: عن محمَّدٍ - غيرَ منسوبٍ - عن أَهلِ العراقِ؛ فإِنَّهُ إِمَّا محمَّدُ بنُ سَلاَمٍ أَو محمَّدُ بنُ يَحْيى الذُّهليُّ.
وقدِ استَوْعَبْتُ ذلك في مقدِّمةِ "شرحِ البُخاريِّ"
ومَن أَرادَ لذلك ضابِطاً كُلِّيّاً يمتازُ بهِ أَحدُهما عنِ الآخَرِ؛ (فباخْتِصاصِهِ)؛ أَي الشيخِ المرويِّ عنهُ (بأَحَدِهِما يَتَبَيَّنُ المُهْمَلُ).(1/164)
58 - وَإِنْ جَحَدَ مَرْوِيّهِ جَزْمًا؛ رُدَّ، أَوْ احْتَمَالًا؛ قُبِلَ فِي الْأَصَحِّ،
وَفِيْهِ: مَنْ حَدَّثَ وَنَسِيَ.
_____________________________________________________
ومتى لم يتَبَيَّنْ ذلك، أَو كانَ مختَصّاً بهما معاً؛ فإشكالُه شديدٌ، فيُرْجَعُ فيهِ إِلى القرائنِ، والظَّنِّ الغالِبِ.
(وإِنْ) روى عن شيخٍ حَديثاً؛ فـ (جَحَدَ) الشيخُ (مَرْوِيَّهُ).
فإِنْ كانَ (جَزْماً) - كأَنْ يقولَ: كذِبٌ عليَّ، أَو: ما روَيْتُ هذا، أَو نحوَ ذلك -، فإِنْ وقعَ منهُ ذلك؛ (رُدَّ) ذلك الخبرُ لِكَذِبِ واحِدٍ منهُما، لا بِعَيْنِه.
ولا يكونُ ذلك قادِحاً في واحدٍ منهُما للتَّعارُضِ.
(أَوْ) كانَ جَحَدَهُ (احْتِمالاً)، كأَنْ يَقولَ: ما أَذْكُرُ هذا، أَو: لا أَعْرِفُهُ؛ (قُبِلَ) ذلك الحَديثُ (في الأصَحِّ)؛ لأَنَّ ذلك يُحْمَلُ على نِسيانِ الشَّيخِ، وقيلَ: لا يُقْبَلُ؛ لأنَّ الفرعَ تَبَعٌ للأصلِ في إِثباتِ الحَديثِ،بحيثُ إِذا ثَبَتَ أَصلُ الحَديثِ؛ ثَبَتَتْ روايةُ الفرعِ، فكذلكَ ينْبَغي أَنْ يكونَ فرعاً عليهِ وتَبَعاً لهُ في التَّحقيقِ.
وهذا مُتَعَقَّبٌ بأَنَّ عدالَةَ الفرعِ تقتَضي صِدْقَهُ، وعدمُ عِلْمِ الأصلِ لا يُنافيهِ، فالمُثْبِتُ مقدَّمٌ على النَّافي.
وأَمَّا قياسُ ذلك بالشَّهادةِ؛ ففاسِدٌ؛ لأنَّ شهادةَ الفرعِ لا تُسْمَعُ معَ(1/165)
........................................................................................
_____________________________________________________
القُدرةِ على شَهادةِ الأَصلِ؛ بخلافِ الرِّوايةِ، فافْتَرَقَا.
(وفيهِ)؛ أَي: في هذا النَّوعِ صنَّفَ الدَّارقطنيُّ كِتابَ (مَنْ حَدَّثَ ونَسِيَ)، وفيه ما يدلُّ على تَقْوِيَةِ المذهب الصَّحيحِ لكونِ كثيرٍ مِنهُم حدَّثوا بأَحاديثَ أَوَّلاً، فلمَّا عُرِضَتْ عليهِم، لم يتذكَّروها، لكنَّهُم - لاعْتِمادِهم على الرُّواةِ عنهُم - صارُوا يروونَها عنِ الَّذينَ رَوَوْها عنهُم عن أَنْفُسِهِم.
كحَديثِ سُهَيْلِ بنِ أَبي صالحٍ عن أَبيهِ عن أَبي هُريرةَ - مرفوعاً - في قِصَّةِ الشَّاهِدِ واليَمينِ.(1/166)
59 - وَإِنِ اتَّفَقَ الرُّوَاةُ فِي صِيَغِ الْأَدَاءِ َوْ غَيْرَهَا مِنَ الْحَالَاتِ؛ فَهُوَ: الْمُسَلْسَلُ.
_____________________________________________________
قالَ عبدُ العزيزِ بنُ محمَّدٍ الدَّراوَردِيُّ: حدَّثني بهِ ربيعةُ بنُ أَبي عبدِ الرحمنِ عن سُهيلٍ؛ قالَ: فلقيتُ سُهيلاً، فسأَلتُه عنهُ ؟ فلم يَعْرِفْهُ، فقلتُ: إِنَّ ربيعةَ حدَّثني عنكَ بكذا، فكانَ سُهَيْلٌ بعدَ ذلك يقولُ: حدَّثني ربيعةُ عنِّي أَنِّي حدَّثتُه عن أَبي بهِ.
ونظائِرُهُ كثيرةٌ.
(وإِنْ اتَّفَقَ الرَّواةُ) في إِسنادٍ مِن الأسانيدِ (في صِيَغِ الأَداءِ)؛ كـ: سمعتُ فلاناً، قالَ: سمعتُ فُلاناً... أَوْ: حدَّثنا فُلانٌ؛ قالَ: حدَّثنا فُلانٌ... وغيرِ ذلك من الصِّيَغِ، (أَوْ غَيْرِها مِن الحالاتِ) القوليَّةِ؛ كـ: سمعتُ فلاناً يقولُ: أُشْهِدُ اللهَ لقد حدَّثَني فلانٌ... إِلخ، أَو الفِعليَّةِ؛ كقولِه: دَخَلْنا على فُلانٍ، فأَطْعَمَنا تَمراً... إِلخ، أَو القوليَّةِ والفِعليَّةِ معاً؛ كقولِه: حدَّثَني فلانٌ وهُو آخِذٌ بلحْيَتِه؛ قالَ: آمنْتُ بالقَدَرِ... إلخ؛ (فهُو: المُسَلْسَلُ)، وهو مِن صفاتِ الإِسنادِ.(1/167)
60 - وَصِيَغُ الْأَدَاءِ: (سَمِعْتُ) وَ (حَدَّثَنِي)، ثُمَّ (أَخْبَرَنِي) و(قَرَأْتُ عَلَيْهِ)، ثُمَّ (قُرِىءَ عَلَيْهِ)، ثُمَّ (قُرِىءَ عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ)، ثُمَّ (أَنْبَأَنِي)، ثُمَّ
_____________________________________________________
وقد يقعُ التَّسلسُلُ في معظمِ الإِسنادِ؛ كحديثِ المُسَلْسَلِ بالأوَّليَّةِ، فإِنَّ السِّلْسِلَةِ تنْتَهي فيهِ إِلى سُفيانَ بنِ عُيينَةَ فقط، ومَن رواهُ مُسلْسَلاً إِلى منتهاهُ، فقد وَهِمَ.
(وصِيَغُ الأدَاءِ) المشارُ إِليها على ثمانِ مراتِبَ:
الأولى: (سَمِعْتُ وحَدَّثَني).
(ثمَّ: أخْبَرَني وقرَأْتُ عليهِ)؛ وهي المرتبةُ الثَّانيةُ.
(ثمَّ: قُرِئَ عَلَيْهِ وأَنا أَسْمَعُ)، وهي الثالثةُ.
(ثمَّ: أَنْبَأَني)، وهي الرَّابعةُ.
(ثمَّ: ناوَلَني)، وهي الخامسةُ.(1/168)
(نَاوَلَنِي)، ثُمَّ (شَافَهَنِي)، ثُمَّ (كَتَبَ إِلَيَّ)،، ثُمَّ (عَنْ)، وَنَحْوَهَا.
فَالْأَوَّلْانِ: لِمَنْ سَمِعَ وَحْدَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، فَإِنْ جَمَعَ، فَمَعَ غَيْرِهِ.
_____________________________________________________
(ثمَّ: شافَهَني)؛ أَي: بالإِجازةِ، وهي السَّادسةُ.
(ثمَّ: كَتَبَ إِليَّ)؛ أَي: بالإِجازةِ، وهي السَّابعةُ.
(ثمَّ: عَنْ ونَحْوُها) مِن الصِّيغِ المُحْتَمِلةِ للسَّماعِ والإِجازةِ ولِعدمِ السَّماعِ أَيضاً، وهذا مثلُ: قالَ، وذكرَ، وروى.
(فـ) اللَّفظانِ (الأوَّلانِ) مِن صيغِ الأداءِ، وهُما: "سمعتُ"، و"حدَّثني" صالِحانِ (لمَن سَمِعَ وَحْدَهُ مِن لَفْظِ الشَّيْخِ).
وتَخْصيصُ التَّحديثِ بما سُمِعَ مِن لفظِ الشَّيخِ هو الشَّائعُ بينَ أَهلِ الحَديثِ اصطِلاحاً.
ولا فرقَ بينَ التَّحديثِ والإِخبارِ مِن حيثُ اللُّغةُ، وفي ادِّعاءِ الفرقِ بينَهما تكلُّفٌ شديدٌ، لكنْ لمَّا تقرَّر الاصطلاحُ صارَ ذلك حقيقةً عُرفيَّةً، فتُقَدَّمُ على الحقيقةِ اللُّغويةِ، معَ أَنَّ هذا الاصطلاحَ إِنَّما شاعَ عندَ المَشارِقَةِ ومَن تَبِعَهُم، وأَمَّا غالِبُ المَغارِبَةِ؛ فلمْ يستَعْمِلوا هذا الاصطِلاحَ، بل الإِخبارُ والتَّحديثُ عندَهُم بمعنىً واحدٍ.
(فإِنْ جَمَعَ) الرَّاوي؛ أي: أَتى بصيغةِ الجَمْعِ في الصِّيغةِ الأولى؛ كأَنْ يقولَ: حدَّثَنا فلانٌ، أَو: سَمِعْنا فلاناً يقولُ:؛ (فـ) هُو دليلٌ على أَنَّه سَمِعَ منهُ (مَعَ)(1/169)
وَأَوَّلُهَا: أَصْرَحُهَا وَأَرْفَعُهَا فِي الْإِمْلَاءِ
وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ لِمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ.
فَإِنْ جَمَعَ؛ فَكَالْخَامِسِ.
_____________________________________________________
(غَيْرِهِ)، وقد تكونُ النُّونُ للعظمةِ لكنْ بقلَّةٍ.
(وأوَّلُها) أَي: صيغُ المراتِبِ (أَصْرَحُها)؛ أَي: أَصرحُ صِيغِ الأَداءِ في سماعِ قائلِها؛ لأنَّها لا تحتَمِلُ الواسِطةَ، ولأنَّ "حدَّثني" قد يُطْلَقُ في الإِجازةِ تدليساً.
(وأَرْفَعُها) مِقداراً ما يقعُ (في الإِمْلاءِ) لما فيهِ مِن التثبُّتِ والتحفُّظِ.
(والثَّالِثُ)، وهو "أَخبَرَني".
(والرَّابِعُ)، وهو "قرأْتُ" (لِمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ) على الشَّيخِ.
(فإِنْ جَمَعَ) كأَنْ يقولَ: أَخْبَرَنا، أَو: قَرَأْنا عليهِ؛ (فـ) هو (كالخامِسِ)، وهو: قُرىءَ عليهِ وأَنا أَسمعُ.
وعُرِفَ مِن هذا أَنَّ التَّعبيرَ بـ "قرأتُ" لمَن قرأَ خيرٌ مِن التَّعبيرِ بالإِخبارِ؛ لأنَّهُ أَفصحُ بصورةِ الحالِ.
تنبيهٌ: القراءةُ على الشَّيخِ أَحدُ وجوهِ التحمُّلِ عندَ الجُمهورِ.
وأَبعدَ مَن أَبى ذلك مِن أَهلِ العِراقِ، وقد اشتدَّ إِنكارُ الإِمامِ مالكٍ وغيرِهِ مِن المدنيِّينَ عليهِم في ذلك، حتَّى بالغَ بعضُهُم فرجَّحَها على السَّماعِ مِن لفظِ الشَّيخِ !(1/170)
وَالْإِنْبَاءُ: بِمَعْنَى الْإِخْبَارُ؛ إِلّا فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِرِينَ؛ فَهُوَ لِلْإِجَازَةِ؛ كـ (عَنْ).
61 - وَعَنْعَنَةُ الْمُعَاصِرِ مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّمَاعِ؛ إِلَّا مِنْ المُدَلِّسِ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ لِقَائِهِمَا وَلَوْ مَرَّةً، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
_____________________________________________________
وذهَبَ جمعٌ جمٌّ - منهُم البُخاريُّ، وحكاهُ في أَوائلِ "صحيحِهِ" عن جماعةٍ مِن الأئمَّةِ - إِلى أَنَّ السَّماعَ مِن لفظِ الشَّيخِ والقراءَةَ عليهِ يعني في الصِّحَّةِ والقُوَّةِ سواءً، واللهُ أَعلمُ.
(والإِنْباءُ) من حيثُ اللُّغةُ واصطلاحُ المتقدِّمينَ (بمعْنَى الإِخْبارِ؛ إِلاَّ في عُرْفِ المُتَأَخِّرينَ؛ فهُو للإِجازَةِ؛ كـ "عن") لأنَّها في عُرفِ المتأَخِّرينَ للإِجازةِ.
(وعَنْعَنَةُ المُعاصِرِ مَحْمولَةٌ عَلى السَّماعِ)؛ بخلافِ غيرِ المُعاصِرِ؛ فإِنَّها تكونُ مُرسَلةً، أَو مُنقطِعَةً، فشرْطُ حمْلِها على السَّماعِ ثُبوتُ المُعاصرةِ؛ (إِلاَّ مِنْ مُدَلِّسٍ)؛ فإِنَّها ليستْ محمولةً على السَّماعِ.
(وقيلَ: يُشْتَرَطُ) في حملِ عنعَنَةِ المُعاصرِ على السَّماعِ (ثُبوتُ لِقائِهِمَا) أَيْ: الشيخِ والرَّاوي عنهُ، (ولَوْ مَرَّةً) واحدةً ليَحْصُلَ الأمنُ في باقي(1/171)
62 - وَأَطْلَقُوا الْمُشَافَهَةَ فِي الْإِجَازَةِ الْمُتَلَّفَظُ بِهَا، والمُكَاتَبَةُ فِي الْإِجَازَةِ الْمَكْتُوبِ بِهَا.
وَاشْتَرَطُوا فِي صِحَّةِ الْمُنَاوَلَةِ اقْتِرَانُهَا بِالْإِذْنِ بِالرِّوَايَةِ، وَهِيَ أَرْفَعُ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ.
_____________________________________________________
العنعَنَةِ عن كونِهِ مِن المُرسلِ الخفيِّ، (وهُو المُخْتارُ)؛ تبعاً لعليِّ بنِ المَدينيِّ والبُخاريِّ وغيرِهما مِن النُّقَّادِ.
(وأَطْلَقُوا المُشافَهَةَ في الإِجازَةِ المُتَلَفَّظِ بِها) تجوُّزاً.
(وَ) كذا (المُكاتَبَةَ في الإِجازَةِ المَكْتُوبِ بِها)، وهُو موجودٌ في عِبارةِ كثيرٍ مِن المُتأَخِّرينَ؛ بخلافِ المُتقدِّمينَ، فإِنَّهُم إِنَّما يُطلِقونَها فيما كتَبَ بهِ الشَّيخُ مِن الحديثِ إِلى الطَّالبِ، سواءٌ أَذِنَ لهُ في رِوايتِه أَم لا، لا فيما إذا كتَبَ إِليهِ بالإِجازةِ فقطْ.
(واشْتَرَطُوا في صِحَّةِ) الرِّوايةِ بـ (المُناوَلَةِ اقْتِرانَها بالإِذْنِ بالرِّوايةِ، وهِيَ) إذا حَصَلَ هذا الشَّرطُ (أَرْفَعُ أَنْواعِ الإِجازَةِ)؛ لما فيها مِن التَّعيينِ والتَّشخيصِ.
وصورَتُها: أَنْ يَدْفَعَ الشَّيخُ أَصلَهُ أَو ما قامَ مَقامَهُ للطَّالِبِ، أَو يُحْضِرَ الطَّالِبُ الأَصْلَ للشَّيخِ، ويقولَ لهُ في الصُّورتينِ: هذا رِوايَتي عنْ فلانٍ فارْوِهِ عنِّي.(1/172)
وكَذا اشْتَرَطُوا: الإِذْنَ في الوِجَادَةِ وَالوَصِيَّةُ بالكِتَابِ وَفِيْ
_____________________________________________________
وشَرْطُهُ أَيضاً: أَنْ يُمَكِّنَهُ منهُ؛ إِمَّا بالتَّمليكِ، وإِمَّا بالعاريَّةِ، لِيَنْقُلَ منهُ، ويُقابِلَ عليهِ، وإِلاَّ؛ إِنْ ناوَلَهُ واستردَّ في الحالِ فلا تُتَبَيَّنُ أَرفعيَّتُهُ، لكنَّ لها زيادةَ مَزيَّةٍ على الإِجازةِ المعيَّنَةِ، وهيَ أَنْ يُجيزَهُ الشَّيخُ بروايةِ كتابٍ معيَّنٍ، ويُعَيِّنَ لهُ كيفيَّةَ روايتِهِ لهُ.
وإِذا خَلَتِ المُناولَةُ عن الإِذنِ، لم يُعْتَبَرْ بها عندَ الجُمهورِ.
وجَنَحَ مَنِ اعْتَبَرَها إِلى أَنَّ مُناولَتَهُ إِيَّاهُ تقومُ مقامَ إرسالِهِ إليهِ بالكتابِ مِن بلدٍ إِلى بلدٍ.
وقد ذهَبَ إِلى صحَّةِ الرِّوايةِ بالمُكاتبةِ المُجرَّدةِ جماعةٌ مِن الأئمَّةِ، ولو لم يقتَرِنْ ذلك بالإِذنِ بالرِّوايةِ؛ كأَنَّهُم اكْتَفَوْا في ذلك بالقرينةِ.
ولمْ يَظْهَرْ لي فرقٌ قويٌّ بينَ مُناولةِ الشَّيخِ الكِتابَ مِن يدهِ للطَّالبِ، وبينَ إِرسالِهِ إِليهِ بالكتابِ مِن موضعٍ إِلى آخَرَ، إِذا خَلا كلٌّ منهُما عن الإِذنِ.
(وكَذا اشْتَرَطُوا الإِذْنَ في الوِجَادَةِ)، وهي: أَنْ يَجِدَ بخطٍّ يعرِفُ كاتِبَهُ، فيقولُ: وجَدْتُ بخطِّ فلانٍ، ولا يسوغُ فيهِ إِطلاقُ: أَخْبَرَني؛ بمجرَّدِ ذلك، إِلاَّ إِنْ كانَ لهُ منهُ إِذنٌ بالرِّوايةِ عنهُ.
وأَطلقَ قومٌ ذلك فغَلِطوا.
(وَ) كذا (الوَصِيَّةُ بالكِتَابِ)، وهي أَنْ يُوصِيَ عندَ موتِه أَو سفرِهِ لشخْصٍ معيَّنٍ بأَصلِه أَو بأُصولِهِ؛ فقد قالَ قومٌ مِن الأئمَّةِ المتقدِّمينَ: يجوزُ لهُ أَنْ يروِيَ تلكَ الأصولَ عنهُ بمجرَّدِ الوصيَّةِ !(1/173)
الإِعْلامِ، وإِلاَّ؛ فلا عِبْرَةَ بذلك؛ كالإِجَازَةِ العَامَّةِ، وَللمَجْهُولِ، وَللمَعْدومِ على الأصَحِّ في جَميعِ ذلكَ.
_____________________________________________________
وأَبى ذلك الجُمهورُ؛ إِلاَّ إِنْ كانَ لهُ منهُ إِجازةٌ.
(وَ) كذا شَرَطوا الإِذْنَ بالرِّوايةِ (في الإِعْلامِ)، وهُو أَنْ يُعْلِمَ الشَّيخُ أَحدَ الطَّلبةِ بأَنَّني أَروي الكِتابَ الفُلانيَّ عن فُلانٍ، فإِنْ كانَ لهُ منهُ إِجازةٌ اعْتبرَ، (وإِلاَّ؛ فلا عِبْرَةَ بذلك؛ كالإِجَازَةِ العَامَّةِ) في المُجازِ لهُ، لا في المُجازِ بهِ، كأَنْ يقولَ: أَجَزْتُ لجَميعِ المُسلمينَ، أَو: لمَنْ أَدْرَكَ حَياتِي، أَو: لأَهْلِ الإِقليمِ الفُلانيِّ، أَو: لأهْلِ البَلدةِ الفُلانيَّةِ.
وهُو أَقربُ إِلى الصِّحَّةِ؛ لقُرْبِ الانحصارِ.
(وَ) كذلك الإِجازةُ (للمَجْهُولِ)؛ كأَنْ يَكونَ مُبْهَماً أَوْ مُهْملاً.
(وَ) كذلك الإِجازةُ (للمَعْدومِ)؛ كأَنْ يَقولَ: أَجَزْتُ لِمَنْ سَيولَدُ لِفُلانٍ.
وقد قيل: إن عطفَهُ علَى مَوجودٍ؛ صحَّ؛ كأَنْ يقولَ: أَجَزْتُ لكَ، ولِمَنْ سيُولَدُ لكَ، والأقرَبُ عدَمُ الصحَّةِ أَيضاً.
وكذلك الإِجازةُ لموجودٍ أَو معدومٍ عُلِّقَتْ بشَرْطِ مشيئةِ الغيرِ؛ كأَنْ يقولَ: أَجَزْتُ لكَ إِنْ شاءَ فلانٌ، أَو: أَجزتُ لمَن شاءَ فُلانٌ، لا أَنْ يقولَ: أَجزْتُ لك إِنْ شئْتَ.
وهذا (على الأصَحِّ في جَميعِ ذلكَ).(1/174)
63 - ثُمَّ الرُّوَاةُ؛ إَنِ اتَّفَقَتْ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَسْمَاءُ آَبَائِهِمْ فَصَاعِدًا وَاخْتُلِفَتْ أَشْخَاصُهُمْ؛ فَهُوَ: الْمُتَّفِقُ وَالْمُفْتَرِقُ.
_____________________________________________________
وقد جَوَّزَ الرِّوايةَ بجَميعِ ذلك سِوى المَجْهولِ - ما لم يَتَبَيَّنِ المُرادُ منهُ - الخَطيبُ، وحَكاهُ عن جَماعةٍ مِن مشايخِهِ.
واستَعْمَلَ الإِجازةَ للمَعدومِ مِن القُدماءِ أَبو بكرِ بنُ أَبي دَاودَ، وأَبو عبدِ اللهِ بنُ مَنْدَه.
واستَعْمَلَ المُعَلَّقةَ منهُم أَيضاً أَبو بكرِ بنُ أَبي خَيْثَمَة.
وروى بالإِجازةِ العامَّةِ جَمعٌ كَثيرٌ، جَمَعَهُم بعضُ الحُفَّاظِ في كِتابٍ، ورتَّبَهُم على حُروف المعجَمِ لكَثْرَتِهم.
وكلُّ ذلك - كما قالَ ابنُ الصَّلاحِ - توسُّعٌ غيرُ مَرْضِيٍّ؛ لأنَّ الإِجازةَ الخاصَّةَ المعيَّنَةَ مُخْتَلَفٌ في صحَّتِها اختِلافاً قويّاً عندَ القُدماءِ، وإِنْ كانَ العملُ استقرَّ على اعْتبارِها عندَ المتأَخِّرينَ، فهِيَ دونَ السَّماعِ بالاتِّفاقِ، فكيفَ إِذا حصَلَ فيها الاسترسالُ المَذكورُ ؟! فإِنَّها تَزدادُ ضَعفاً، لكنَّها في الجُملةِ خيرٌ مِن إِيرادِ الحَديثِ مُعْضلاً، واللهُ أَعلمُ.
و إِلى هُنا انْتَهى الكلامُ في أَقسامِ صِيَغِ الأداءِ.
(ثمَّ الرُّواةُ؛ إِنِ اتَّفَقَتْ أَسماؤهُمْ وأَسْماءُ آبائِهِمْ فَصاعِداً، واخْتَلَفَتْ أَشْخَاصُهُمْ)، سواءٌ اتَّفَقَ في ذلك اثْنانِ مِنهُم أَمْ أَكثرُ، وكذلك إِذا اتَّفَقَ اثْنانِ(1/175)
64 - وَإِنِ اتَّفَقَتِ الْأَسْمَاءُ خَطًا، وَاخْتَلَفَتْ نُطْقًا؛ فَهُوَ: الْمُؤْتَلِفُ وَالْمُخْتَلِفُ.
_____________________________________________________
فصاعِداً في الكُنيةِ والنِّسبةِ؛ (فهُو) النَّوعُ الذي يُقالُ لهُ: (المُتَّفِقُ والمُفْتَرِقُ).
وفائدةُ معرفَتِه: خَشْيَةُ أَنْ يُظَنَّ الشَّخصانِ شَخْصاً واحِداً.
وقد صنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتاباً حافِلاً.
وقد لخَّصْتُهُ وزِدْتُ عليهِ أَشياءَ كثيرةً.
وهذا عَكسُ ما تقدَّمَ مِن النَّوعِ المسمَّى بالمُهْمَلِ؛ لأنَّهُ يُخْشى منهُ أَن يُظَنَّ الواحِدُ اثنَيْنِ، وهذا يُخْشى منهُ أَنْ يُظَنَّ الاثنانِ واحِداً.
(وإِنِ اتَّفَقَتِ الأَسْماءُ خَطّاً واخْتَلَفَتْ نُطْقاً) سواءٌ كانَ مرجِعُ الاختلافِ النَّقْطَ أَم الشَّكْلَ؛ (فهُو: المُؤتَلِفُ والمُخْتَلِفُ).
ومعرِفَتُه مِن مهمَّاتِ هذا الفنِّ، حتَّى قالَ عليُّ بنُ المَدينيِّ: "أَشدُّ(1/176)
........................................................................................
_____________________________________________________
التَّصحيفِ ما يقعُ في الأسماءِ"، ووجَّهَهُ بعضُهم بأَنَّهُ شيءٌ لا يَدْخُلُهُ القياسُ، ولا قَبْلَهُ شيءٌ يدلُّ عليهِ ولا بعدَه.
وقد صنَّفَ فيهِ أَبو أَحمدَ العسكريُّ، لكنَّه أَضافَهُ إِلى كتابِ "التَّصحيفِ" له.
ثمَّ أَفرَدَهُ بالتَّأْليفِ عبدُ الغنيِّ بنُ سعيدٍ، فجمَعَ فيهِ كِتابينِ، كتاباً في "مُشتَبِهِ الأسماءِ"، وكتاباً في "مُشْتَبِهِ النِّسبةِ".
وجَمَعَ شيخُهُ الدَّارقطنيُّ في ذلك كتاباً حافِلاً.(1/177)
........................................................................................
_____________________________________________________
ثمَّ جَمَعَ الخَطيبُ ذَيلاً.
ثمَّ جَمَعَ الجَميعَ أَبو نَصْرِ بنُ ماكُولا في كتابِه "الإِكمالِ".
واسْتَدْرَكَ عليهِم في كتابٍ آخَرَ جَمَعَ فيهِ أَوهامَهُمْ وبيَّنَها.
وكتابُه مِن أَجمعِ ما جُمِعَ في ذلك، وهُو عُمدةُ كلِّ محدِّثٍ بعدَه.
وقد استَدْرَكَ عليهِ أَبو بكرِ بنُ نُقطَةَ ما فاتَه، أو تجدَّدَ بعدَه في مجلَّدٍ ضَخْمٍ.
ثمَّ ذَيَّلَ عليهِ منصورُ بنُ سَليمٍ - بفتحِ السَّينِ - في مجلَّدٍ لطيفٍ.
وكذلك أَبو حامدِ ابنُ الصَّابونيِّ.
وجَمَعَ الذهبيُّ في ذلكَ كِتاباً مُخْتَصراً جِدّاً، اعتَمَدَ فيهِ على الضَّبْطِ(1/178)
65 - وَإِنِ اتَّفَقَتِ الْأَسْمَاءُ وَاخْتَلَفَتِ الْآَبَاءُ، أَوْ بِالْعَكْسِ؛ فَهُوَ: الْمُتَشَابِهُ.
_____________________________________________________
بالقَلَمِ، فكَثُرَ فيهِ الغَلَطُ والتَّصحيفُ المُبايِنُ لموضوعِ الكِتابِ.
وقد يسَّرَ اللهُ تَعالى بتوضيحِهِ في كتابٍ سمَّيْتُهُ "تَبْصير المُنْتَبِه بتَحرير المُشْتَبِه"، وهو مجلَّدٌ واحدٌ، فَضَبَطتُهُ بالحُروفِ على الطَّريقةِ المَرْضِيَّةِ، وزدتُ عليهِ شيئاً كثيراً ممَّا أَهْمَلَهُ، أَو لَمْ يَقِفْ عليهِ، وللهِ الحمدُ على ذلك.
(وإِنِ اتَّفَقَتِ الأسْماءُ) خطّاً ونُطْقاً، (واخْتَلَفَتِ الآباءُ) نُطْقاً مع ائْتِلافِها خطّاً؛ كمحمَّدِ بنِ عَقيلٍ - بفتحِ العينِ -، ومحمَّدِ بنِ عُقَيْلٍ - بضمِّها -: الأوَّلُ نيسابوريٌّ، والثاني فِرْيابيٌّ، وهُما مشهورانِ، وطبقتُهما مُتقارِبةٌ، (أَوْ بالعَكْسِ)؛ كأَنْ تَختَلِفَ الأسماءُ نُطْقاً وتأْتِلِفَ خطّاً، وتتَّفقَ الآباءُ خطّاً ونُطقاً، كشُريحِ بنِ النُّعمانِ، وسُرَيْجِ بنِ النُّعمانِ، الأوَّلُ بالشِّينِ المُعجمةِ والحاءِ المُهملةِ، وهو تابعيٌّ يروي عن عليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ، والثَّاني: بالسِّينِ المُهمَلَةِ(1/179)
وَكَذَا إِنْ وَقَعَ ذَلِكَ الْاتِّفَاقُ فِي الْاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ، والْاِخْتِلَافُ فِي النِّسْبَةِ.
66 - وَيَتَرَكَّبُ مِنْهُ وَمِمَّا قَبْلَهُ أَنْوَاعُ:
مِنْهَا: أَنْ يَحْصُلَ الْاِتِّفَاقُ أَوْ الْاِشْتِبَاهُ؛ إِلَّا: فِي حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْن، أَوْ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
_____________________________________________________
والجيمِ، وهُو مِن شُيوخِ البُخاريِّ؛ (فهُو) النَّوعُ الَّذي يُقالُ لهُ: (المُتشابِهُ).
(وكَذا إِنْ وَقَعَ) ذلك (الاتِّفَاقُ في الاسمِ واسمِ الأبِ، والاختلافُ في النِّسبَةِ).
وقد صنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتاباً جَليلاً سمَّاهُ "تَلخيصَ المُتشابِهِ".
ثمَّ ذَيَّلَ هُو عليهِ أَيضاً بما فاته أَوَّلاً، وهُو كثيرُ الفائدةِ.
(ويَتَرَكَّبُ مِنْهُ ومِمَّا قَبْلَهُ أَنْواعٌ):
(مِنها: أَنْ يَحْصُلَ الاتِّفاقُ أو الاشتِباهُ) في الاسمِ واسمِ الأبِ مثلاً؛ (إلاَّ: في حَرْفٍ أَو حَرْفَيْنِ) فأَكثرَ، مِن أَحدِهِما أو مِنهُما.
وهُو على قسمينِ:
إِمَّا أَنْ يكونَ الاخْتِلافُ بالتَّغييرِ، معَ أَنَّ عدَدَ الحُروفِ ثابِتٌ في الجِهَتَيْنِ.(1/180)
........................................................................................
_____________________________________________________
أَوْ يكونَ الاختِلافُ بالتَّغييرِ معَ نُقصانِ بعضِ الأسماءِ عن بعضٍ.
فمِن أَمثِلَةِ الأوَّلِ:
محمَّدُ بنُ سِنان - بكسرِ السِّينِ المُهمَلَةِ ونونينِ بينَهُما أَلفٌ -، وهُم جماعةٌ؛ منهُم: العَوَقيُّ - بفتحِ العينِ والواوِ ثمَّ القافِ - شيخُ البُخاريِّ.
ومحمَّدُ بنُ سيَّارٍ - بفتحِ السِّينِ المُهملَةِ وتشديدِ الياءِ التَّحتانيَّةِ وبعد الألف راءٌ -، وهُم أيضاً جماعةٌ؛ منهُم اليَمامِيُّ شيخُ عُمرَ بنِ يونُسَ.
ومنها:
محمَّدُ بنُ حُنَيْنٍ - بضمِّ الحاءِ المُهمَلَةِ ونونينِ، الأولى مفتوحةٌ، بينَهما ياءٌ تحتانيَّةٌ - تابعيٌّ يروي عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِه.
ومحمَّدُ بنُ جُبيرٍ - بالجيمِ، بعدها باءٌ موحَّدةٌ، وآخِرُه راءٌ -، وهُو محمَّدُ بنُ جُبيرِ بنِ مُطْعِمٍ، تابعيٌّ مشهورٌ أَيضاً.
ومِن ذلك:
معرِّفُ بنُ واصِلٍ: كوفِيٌّ مشهورٌ.
ومُطَرِّف بنُ واصِلٍ - بالطَّاءِ بدلَ العينِ - شيخٌ آخرُ يروي عنهُ أَبو حُذيفَةَ(1/181)
........................................................................................
_____________________________________________________
النَّهْدِيُّ.
ومنهُ أَيضاً:
أَحمدُ بنُ الحُسينِ - صاحِبُ إِبراهيمَ بنِ سعيدٍ - وآخرونَ.
وأَحيَدُ بنُ الحُسينِ مثلُهُ، لكِنْ بدلَ الميمِ ياءٌ تحتانيَّةٌ، وهو شيخٌ بخاريٌّ يروي عنهُ عبدُ اللهِ بنُ محمَّدِ بنِ البِيكَنْدِيِّ.
ومِن ذلك أَيضاً:
حفْصُ بنُ مَيْسَرَةَ شيخٌ مشهورٌ مِن طبَقَةِ مالكٍ.
وجَعْفَرُ بنُ مَيْسَرَةَ؛ شيخٌ لعُبَيْدِ اللهِ بنِ مُوسى الكُوفيِّ، الأوَّلُ: بالحاءِ(1/182)
........................................................................................
_____________________________________________________
المُهْمَلَةِ والفاءِ، بعدَها صادٌ مهْمَلَةٌ، والثَّاني: بالجيمِ والعينِ المُهْمَلَةِ بعدَها فاءٌ ثمَّ راءٌ.
ومِن أَمثلَةِ الثَّاني:
عبدُ اللهِ بنُ زيدٍ: جماعةٌ:
منهُم في الصَّحابةِ صاحِبُ الأذانِ، واسمُ جدِّهِ عبدُ ربِّهِ.
وراوِي حديثِ الوُضوءِ، واسمُ جدِّهِ عاصِمٌ، وهُما أَنصاريَّانِ.
وعبدُ اللهِ بنُ يَزيدَ - بزيادةِ ياءٍ في أَوَّلِ اسمِ الأبِ والزَّايُ مكسورةٌ - وهُم أَيضاً جَماعةٌ:
منهُم في الصَّحابةِ: الخَطْمِيُّ يُكْنى أبا موسى، وحديثُهُ في الصَّحيحينِ.(1/183)
........................................................................................
_____________________________________________________
ومنهُم: القارئُ، له ذِكْرٌ في حديثِ عائشةَ، وقد زعَمَ بعضُهم أَنَّه الخطْمِيُّ، وفيهِ نظرٌ !
ومنها: عبد الله بن يحيى، وهم جماعةٌ.
ومنها عبدُ اللهِ بنُ نُجَيٍّ - بضمِّ النُّونِ وفتحِ الجيمِ وتشديدِ الياءِ - تابعيٌّ معروفٌ، يروي عن عليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ.
(أَوْ) يَحْصُلُ الاتِّفاقُ في الخَطِّ والنُّطْقِ، لكنْ يَحْصُلُ الاخْتِلافُ أَو الاشتِباهُ (بالتَّقْديمِ والتَّأْخيرِ)، إِمَّا في الاسمينَ جُملةً (أَو نَحْوَ ذلكَ)، كأَنْ يقَعَ(1/184)
خاتمة: وَمِنَ الْمُهِمِّ مَعْرِفَةُ
67 - طَبَقَاتِ الرُّوَاةِ، وَمَوَالِيدِهِمْ، وَوَفِيَاتِهِمْ، وَبُلْدَانِهِمْ،
_____________________________________________________
التَّقديمُ والتَّأْخيرُ في الاسمِ الواحِدِ في بعضِ حُروفِهِ بالنِّسبةِ إِلى ما يشتَبِهُ بهِ.
مثالُ الأوَّلِ: الأسودُ بنُ يزيدَ، ويزيدُ بنُ الأسوَدِ، وهُو ظاهِرٌ.
ومنهُ: عبدُ اللهِ بنُ يَزيدَ، ويزيدُ بنُ عبدِ اللهِ.
ومثالُ الثَّانِي: أَيُّوبُ بنُ سَيَّارٍ، وأَيُّوبُ بنُ يَسارٍ.
الأوَّلُ: مدَنيُّ مشهورٌ ليسَ بالقويِّ، والآخَرُ: مجهولٌ.
(خاتِمَةٌ):
(ومِنَ المُهِمِّ) عندَ المحدِّثينَ (مَعْرِفَةُ طَبَقاتِ الرُّواةِ).
وفائدتُهُ: الأمْنُ مِن تَداخُلِ المُشتَبِهينَ، وإِمكانُ الاطِّلاعِ على تَبيينِ التَّدليسِ، والوُقوفُ على حَقيقةِ المُرادِ مِن العَنْعَنَةِ.
والطَّبَقَةُ في اصْطِلاحِهِم: عبارةٌ عنْ جَماعةٍ اشْتَركوا في السِّنِّ ولقاءِ المشايخِ.
وقد يكونُ الشَّخصُ الواحِدُ مِن طبَقَتَيْنِ باعْتِبارينِ؛ كأَنَسِ بنِ مالكٍ رضيَ(1/185)
وَأَحْوَالِهِمْ، تَعْدِيلًا، وَتَجْرِيحًا، وَجَهَالَةً.
_____________________________________________________
اللهُ عنهُ؛ فإِنَّهُ مِن حيثُ ثُبوتُ صُحبتِه للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ يُعَدُّ في طبقةِ العشرةِ مثلاً، ومِن حيثُ صِغَرُ السنِّ يُعَدُّ في طَبَقَةِ مَن بعدَهُم.
فمَنْ نَظَرَ إِلى الصَّحابةِ باعْتِبارِ الصُّحبَةِ؛ جَعَلَ الجَميعَ طبقةً واحِدَةً؛ كما صنَعَ ابنُ حِبَّانَ وغيرُه.
ومَنْ نَظَرَ إِليهِم باعْتبارِ قَدْرٍ زائدٍ، كالسَّبْقِ إِلى الإِسلامِ أَو شُهودِ المشاهِدِ الفاضِلَةِ جَعَلَهُم طَبقاتٍ.
وإِلى ذلك جَنَحَ صاحِبُ "الطَّبقاتِ" أَبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ سعدٍ البَغداديُّ، وكتابُه أَجمَعُ ما جُمِعَ في ذلك.
وكذلك مَن جاءَ بعدَ الصَّحابةِ - وهُم التَّابعونَ - مَن نَظَرَ إِليهِم باعتبارِ الأخْذِ عن بعضِ الصَّحابةِ فقطْ؛ جَعَلَ الجَميعَ طبقةً واحِدَةً كما صَنَعَ ابنُ حِبَّانَ أَيضاً.
ومَنْ نَظَرَ إِليهِم باعتبارِ اللِّقاءِ قسَّمَهُم؛ كما فعَلَ محمَّدُ بنُ سعدٍ.
ولكلٍّ منهُما وجْهٌ.
(وَ) مِن المُهمِّ أَيضاً معرِفةُ (مواليدِهِمْ، ووَفَياتِهِمْ)؛ لأنَّ بمَعْرِفَتِهما يحصُلُ الأمْنُ مِن دَعْوى المُدَّعي للقاءِ بعضِهِم وهُو في نَفْسِ الأمرِ ليسَ كذلكَ.
(وَ) مِن المُهمِّ أَيضاً معرِفةُ (بُلْدَانِهِمْ) وأَوطانِهم، وفائدتُه الأمنُ مِن تداخُلِ الاسمَيْنِ إِذا اتَّفقا نُطْقاً، لكنْ افْتَرَقا بالنَّسَبِ.(1/186)
68 - وَمرَاتِبُ الْجَرْحِ:
- وَأَسْوَؤُهَا الْوَصْفُ بِأَفْعَلَ؛ كَـ: أَكْذَبِ النَّاسِ.
- ثُمَّ دَجَّالٍ، أَوْ: وَضَّاعٍ، أَوْ: كَذَّابٌ.
_____________________________________________________
(وَ) مِن المُهِمِّ أَيضاً معرفةُ (أَحْوالِهِمْ؛ تَعْديلاً، وتَجْريحاً، وجَهالةً)؛ لأنَّ الرَّاويَ إِمَّا أَنْ تُعْرَفَ عدالَتُه، أَو يُعْرَفَ فِسْقُه، أَوْ لا يُعْرَفَ فيهِ شيءٌ مِن ذلك.
(وَ) مِن أَهمِّ ذلك - بعدَ الاطِّلاعِ - معرِفةُ (مَراتِبِ الجَرْحِ) والتَّعديلِ لأنَّهُم قد يُجَرِّحونَ الشَّخصَ بما لا يستَلْزِمُ ردَّ حديثِه كلِّهِ.
وقد بيَّنَّا أَسبابَ ذلك فيما مَضى، وحَصَرْناها في عَشرةٍ، وتقدَّم شرحُها مفصَّلاً.
والغَرَضُ هُنا ذِكْرُ الألفاظِ الدَّالَّةِ في اصطِلاحِهِم على تِلكَ المراتِبِ.
وللجَرْحِ مراتِبُ:
(وأَسْوَأُها: الوَصْفُ) بما دلَّ على المُبالَغَةِ فيهِ.
وأَصرحُ ذلك التَّعبيرُ (بأَفْعَلَ؛ كـ: أَكْذَبِ النَّاسِ)، وكذا قولُهم: إِليهِ المُنْتَهى في الوضعِ، أَو: هُو ركنُ الكذبِ، ونحوُ ذلك.
(ثمَّ: دجَّالٌ، أو: وَضَّاعٌ، أو: كَذَّابٌ)؛ لأنَّها وإِنْ كانَ فيها نوعُ مُبالغةٍ، لكنَّها دونَ الَّتي قبلَها.(1/187)
- وَأَسْهَلُهَا: لَيْنٌ، أَوْ: سَيِّئُ الْحِفْظِ، أَوْ: فِيهِ مَقَالٌ.
69 - وَمرَاتِبُ التَّعْدِيلِ:
- وَأَرْفَعُهَا: الْوَصْفُ بَأَفْعَلَ؛ كَـ: أَوْثَقِ النَّاسِ.
- ثُمَّ مَا تَأكَدَ بِصِفَةٍ أَوْ صِفَتَيْنِ؛ كـ: َثِقَةٌ ثِقَةٌ، أَوْ: ثِقَةٌ حَافِظٌ.
_____________________________________________________
(وأَسْهَلُهَا)؛ أَي: الألفاظِ الدَّالَّةِ على الجَرْح: قولُهم: فُلانٌ (ليِّنٌ، أو: سيِّئ الحِفْظِ، أَوْ: فيهِ) أَدنى (مَقَالٍ).
وبينَ أَسوأ الجَرْحِ وأَسهَلِهِ مراتِبُ لا تَخْفى.
فقولُهُم: متْروكٌ، أَو ساقِطٌ، أَو: فاحِشُ الغَلَطِ، أَو: مُنْكَرُ الحَديثِ، أَشدُّ مِن قولِهم: ضعيفٌ، أَو: ليسَ بالقويِّ، أَو: فيهِ مقالٌ.
(وَ) من المهمِّ أَيضاً معرِفةُ (مراتِبِ التَّعديلِ).
(وأَرْفَعُها: الوَصْفُ) أَيضاً بما دلَّ على المُبالغةِ فيهِ.
وأَصْرَحُ ذلك: التَّعبيرُ (بأَفْعَلَ؛ كـ: أَوْثَقِ النَّاسِ)، أَو: أَثبَتِ النَّاس، أَو: إِليهِ المُنْتَهى في التَّثَبُّتِ.
(ثمَّ ما تَأَكَّدَ بِصِفَةٍ) مِن الصِّفاتِ الدَّالَّةِ على التَّعديلِ، (أَو صِفَتَيْنِ؛ كـ: ثقةٌ ثقةٌ)، أو: ثبتٌ ثبتٌ، (أَوْ: ثقةٌ حافظٌ)، أَو: عدلٌ ضابِطٌ، أو نحوُ ذلك.(1/188)
- وَأَدْنَاهَا: مَا أَشْعَرَ بِالْقُرْبِ مِنْ أَسْهَلِ التَّجْرِيحِ؛ كَـ: شَيْخٍ.
70 - وَتُقْبَلُُ التَّزْكِيَةُ مِنْ عَارِفٍ بَأَسْبَابِهَا، وَلَوْ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ.
_____________________________________________________
(وأَدْناها: ما أَشْعَرَ بالقُرْبِ مِنْ أَسْهَلِ التَّجْرِيحِ؛ كـ: شيخٌ)، و: يُرْوى حديثُه، و: يُعْتَبَرُ بهِ، ونحوُ ذلك.
وبينَ ذلك مراتِبُ لا تَخْفى.
(وَ) هذهِ أَحكامٌ تتعلَّقُ بذلك، ذكَرْتُها هُنا لتَكْمِلَةِ الفائدةِ، فأَقولُ:
(تُقْبَلُ التَّزكِيَةُ مِنْ عَارِفٍ بأَسْبَابِها) لا مِنْ غيرِ عارِفٍ؛ لئلاَّ يُزكِّيَ بمجرَّدِ ما يظهَرُ لهُ ابْتِداءً مِن غيرِ ممارسةٍ واخْتِبارٍ.
(ولَوْ) كانتِ التَّزكيةُ صادِرةً (مِن) مُزَكٍّ (واحِدٍ عَلى الأصَحِّ)؛ خلافاً لمَن شَرَطَ أَنَّها لا تُقْبَلُ إِلاَّ مِنَ اثْنَيْنِ؛ إِلْحاقاً لها بالشَّهادَةِ في الأصحِّ أَيضاً !
والفَرْقُ بينَهُما أَنَّ التَّزكية تُنَزَّلُ منزِلَةَ الحُكْمِ، فلا يُشْتَرَطُ فيها العددُ، والشَّهادةُ تقعُ مِن الشَّاهِدِ عندَ الحاكِمِ، فافْتَرقا.
ولَوْ قيلَ: يُفَصَّلُ بينَ ما إِذا كانتِ التَّزكيةُ في الرَّاوي مُستَنِدَةً مِن المُزكِّي إِلى اجْتِهادِهِ، أَو إِلى النَّقْلِ عنْ غيرِه؛ لكانَ مُتَّجهاً.
لأنَّه إِنْ كانَ الأوَّلُ، فلا يُشْتَرَطُ العددُ أَصلاً؛ لأنَّهُ حينئذٍ يكونُ بمنزلةِ الحاكمِ.
وإِنْ كانَ الثَانيَ؛ فيُجْرى فيهِ الخِلافُ، ويَتَبَيَّنُ أَنَّه - أَيضاً -لا يُشْتَرَطُ(1/189)
........................................................................................
_____________________________________________________
العددُ؛ لأنَّ أَصلَ النَّقلِ لا يُشْتَرَطُ فيهِ العددُ، فكَذا ما تفرَّعَ عنهُ، واللهُ أَعلمُ.
و كذا يَنْبَغي أَنْ لا يُقْبَلَ الجَرْحُ والتَّعْديلُ إِلاَّ مِن عدلٍ مُتَيَقِّظٍ، فلا يُقْبَلُ جَرْحُ مَنْ أَفْرَطَ فيهِ مُجَرِّحٌ بما لا يقْتَضي رَدَّ حديثِ المُحَدِّثِ.
كما لا يُقْبَلُ تزكِيَةُ مَن أَخَذَ بمجرَّدِ الظَّاهِرِ، فأَطلَقَ التَّزكيةَ.
وقالَ الذَّهبيُّ - وهُو مِن أَهْلِ الاستِقراءِ التَّامِّ في نَقْدِ الرِّجالِ -:"لمْ(1/190)
........................................................................................
_____________________________________________________
يجْتَمِعِ اثْنانِ مِن عُلماءِ هذا الشَّأنِ قطُّ على تَوثيقِ ضَعيفٍ، ولا على تَضعيفِ ثِقةٍ" أ.هـ
ولهذا كانَ مذهَبُ النَّسائيِّ أَنْ لا يُتْرَكَ حديثُ الرَّجُلِ حتَّى يجتَمِعَ الجَميعُ على تَرْكِهِ.(1/191)
........................................................................................
_____________________________________________________
ولْيَحْذَرِ المتكلِّمُ في هذا الفنِّ مِن التَّساهُلِ في الجَرْحِ والتَّعديلِ، فإِنَّهُ إِنْ عدَّلَ أَحداً بغيرِ تثبُّتِ؛ كانَ كالمُثْبِتِ حُكْماً ليسَ بثابتٍ، فيُخْشى عليهِ أَنْ يدْخُلَ في زُمرةِ "مَن روى حَديثاً وهُو يظنُّ أَنَّهُ كَذِبٌ".
وإِنْ جَرَّحَ بغيرِ تَحرُّزٍ، فإِنَّه أَقْدَمَ على الطَّعنِ في مُسلمٍ بَريءٍ مِن ذلك، ووسَمَهُ بِميْسَمِ سُوءٍ يَبْقى عليهِ عارُهُ أَبداً.(1/192)
71 - وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ إِنْ صَدَرَ مُبَيِنًا مِنْ عَارِفٍ بِأْسْبَابِهِ.
فَإِنْ خَلَا عَنِ التَّعْدِيلِ؛ قُبِلَ مُجْمَلًا عَلَى الْمُخْتَارِ.
_____________________________________________________
والآفةُ تدخُلُ في هذا: تارةً مِنَ الهَوى والغَرَضِ الفاسِدِ - وكلامُ المتقدِّمينَ سالِمٌ مِن هذا غالباً -، وتارةً مِن المُخالفةِ في العَقائدِ - وهُو موجودٌ كثيراً؛ قديماً وحَديثاً -، ولا ينْبَغي إِطلاقُ الجَرْحِ بذلك، فقد قدَّمْنا تحقيقَ الحالِ في العملِ بروايةِ المُبتَدِعةِ.
(والجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلى التَّعْديلِ)، وأَطلقَ ذلك جماعةٌ، ولكنَّ محلَّهُ (إِن صَدَرَ مُبَيَّناً مِن عَارِفٍ بأَسْبَابِهِ)؛ لأنَّه إِنْ كانَ غيرَ مفسَّرٍ لم يَقْدَحْ فيمَنْ ثبَتَتْ عدالَتُه.
وإِنْ صدَرَ مِن غيرِ عارفٍ بالأسبابِ لم يُعْتَبَرْ بهِ أيضاً.
(فإِنْ خَلا) المَجْروحُ (عَنِ التَّعديلِ؛ قُبِلَ) الجَرْحُ فيهِ (مُجْمَلاً) غيرَ مبيَّنِ السَّببِ إِذا صدَرَ مِن عارفٍ (عَلى المُخْتارِ)؛ لأنَّهُ إِذا لمْ يكُنْ فيهِ تعديلٌ؛ فهو في حيَّزِ المَجهولِ، وإِعمالُ قولِ المُجَرِّحِ أَولى مِن إِهمالِه.(1/193)
فصل:
72 - وَمِنَ الْمُهِمِّ مَعْرِفَةُ كُنَى الْمُسَمِّينَ، وَأَسْمَاءِ الْمُكَنِّينَ، وَمَنِ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَمَنْ كَثُرَتْ كُنَاهُ أَوْ نُعُوتُهُ، وَمَنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسْمَ أَبِيهِ، أَوْ
_____________________________________________________
ومالَ ابنُ الصَّلاحِ في مثلِ هذا إلى التوقُّفِ فيهِ.
(فصلٌ):
(ومِنَ المُهِمَّ) في هذا الفنِّ (معْرِفةُ: كُنَى المُسَمَّيْنَ) ممَّن اشْتُهِرَ باسمِهِ ولهُ كُنيةٌ لا يُؤمَنُ أَنْ يأْتِيَ في بعضِ الرِّاوياتِ مُكَنيّاً؛ لئلاَّ يُظَنَّ أَنّه آخرُ.
(وَ) معرفةُ (أَسْمَاءِ المُكَنَّيْنَ)، وهو عكسُ الَّذي قبلَهُ.
(وَ) معرِفةُ (مَنْ اسمُهُ كُنْيَتُهُ)، وهُم قليلٌ.
(وَ) معرِفةُ (مَنْ اخْتُلِفَ في كُنْيَتِهِ)، وهُم كثيرٌ.
(وَ) معرِفةُ (مَنْ كَثَُرتْ كُناهُ)؛ كابنِ جُريجٍ؛ لهُ كُنيتانِ: أَبو الوليدِ، وأبو خالدٍ.
(أَوْ) كَثُرتْ (نُعُوتُهُ) وأَلقابُه.
(وَ) معرِفةُ (مَنْ وافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسمَ أَبيهِ)؛ كأَبي إِسحاقَ إبراهيمَ بنِ إِسحاقَ المَدنيِّ أَحدِ أَتباعِ التَّابِعينَ.
وفائدةُ معرِفَتِه:
نفيُ الغَلَطِ عمَّنْ نَسَبَهُ إِلى أَبيهِ، فقالَ: أَخْبَرنا ابنُ(1/194)
بِالْعَكْسِ، أَوْ كُنْيتُهُ كُنْيَةُ زَوْجَتِهِ.
73 - وَمَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ إِلَى أُمِّهِ، أَوْ إِلَى غَيْرِ مَا يَسْبِقُ
_____________________________________________________
إِسحاقَ، فَنُسِبَ إِلى التَّصحيفِ، وأَنَّ الصَّوابَ: أَخْبَرنا أَبو إِسحاقَ.
(أَو بالعَكْسِ)؛ كإِسحاقَ بنِ أَبي إِسحاقَ السَّبيعيِّ.
(أَوْ) وافقتْ (كُنْيَتُهُ كُنْيَةَ زَوْجَتِهِ)؛ كأَبي أَيُّوبَ الأنصاريِّ وأُمِّ أَيُّوبَ؛ صحابيَّانِ مشهورانِ.
أَو وافقَ اسمُ شيخِه اسمَ أَبيِه؛ كالرَّبيعِ بنِ أَنسٍ عن أَنسٍ؛ هكذا يأْتي في الرِّوايات، فيُظنُّ أَنّه يَروي عن أَبيهِ؛ كما وقعَ في "الصَّحيحِ": عن عامِرِ بنِ سعدٍ عن سعدٍ، وهو أبوهُ، وليسَ أَنسٌ شيخُ الرَّبيعِ والِدَهُ، بل أَبوهُ بكرِيٌّ وشيخُهُ أَنصاريٌّ، وهُو أَنسُ بنُ مالكٍ الصَّحابيُّ المشهورُ، وليسَ الرَّبيعُ المذكورُ مِن أَولادِه.
(وَ) معرِفةُ (مَنْ نُسِبَ إِلى غَيْرِ أَبيهِ)؛ كالمِقدادِ بنِ الأسودِ، نُسِبَ إلى الأسودِ الزُّهْرِيِّ لكونِه تبنَّاه، وإِنَّما هُو مِقدادُ بنُ عَمْرٍو.
(أَوْ) نُسِبَ (إِلى أُمِّهِ)؛ كابنِ عُلَيَّةَ، هُو إِسماعيلُ بنُ إبراهيمَ بنِ مِقْسَمٍ، أَحدُ الثِّقاتِ، وعُلَيَّةُ اسمُ أُمِّهِ، اشتُهِرَ بها، وكانَ لا يحبُّ أَنْ يُقالَ لهُ: ابنُ عُلَيَّة.(1/195)
إِلَى الْفَهْمِ.
74 - وَمَنِ اتَّفَقَ اسْمُهُ وَاسْمُ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، أَوْ اسْمُ شَيْخِهِ وَشَيْخِ
_____________________________________________________
ولهذا كانَ يَقولُ الشَّافِعيُّ: أَخْبَرَنا إِسْماعِيلُ الَّذي يُقالُ لَهُ: ابنُ عُلَيَّةُ.
(أَوْ) نُسِبَ (إِلى غَيْرِ مَا يَسْبِقُ إِلى الفَهْمِ)؛ كالحَذَّاءِ، ظاهِرُه أَنّه منسوبٌ إِلى صناعتِها، أو بيعِها، وليس كذلك، وإِنما كانَ يجالِسُهم، فنُسِبَ إليهِم.
وكسُليمانَ التَّيميِّ؛ لم يكنْ مِن بَني التَّيْم، ولكنْ نزلَ فيهِم.
وكَذا مَن نُسِبَ إِلى جدِّهِ، فلا يؤمَنُ التِباسُه بمَن وافقَ اسمُه اسمَه، واسمُ أَبيهِ اسمَ الجدِّ المذكورِ.
(وَ) معرِفةُ (مَنِ اتَّفَقَ اسمُهُ واسمُ أَبيهِ وجَدِّهِ)؛ كالحسنِ بنِ الحسنِ بنِ الحسنِ بنِ عليِّ بنِ أَبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنهُ.
وقد يقعُ أَكثرُ مِن ذلك، وهُو مِن فُروعِ المُسَلْسَلِ.(1/196)
شَيْخِهِ فَصَاعِدًا، وَمَنِ اتَّفَقَ اسْمُ شَيْخِهِ وَالرَّاوِي عَنْهُ.
_____________________________________________________
وقد يتَّفِقُ الاسمُ واسمُ الأبِ مع اسمِ الجَدِّ واسمِ أَبيهِ فصاعِداً؛ كأَبي اليُمْنِ الكِنْديِّ، هُو زيدُ بنُ الحسنِ بنِ زيدِ بنِ الحسنِ بنِ زيدِ بنِ الحسنِ.
(أَوْ) اتَّفَقَ اسمُ الرَّاوي (واسمُ شيخِهِ وشَيْخِ شَيْخِهِ فصاعِداً)؛ كعِمْرانَ عن عِمْرانَ عَن عِمْرانَ؛ الأوَّل: يُعْرَف بالقَصِيرِ، والثَّاني: أبو رَجاءٍ العُطارِديُّ، والثَّالثُ: ابنُ حُصينٍ الصَّحابيُّ رضيَ اللهُ عنهُ.
وكسُليمانَ عن سُليمانَ عن سُليمانَ: الأوَّلُ: ابنُ أحمدَ بنِ أيوبَ الطَّبرانيُّ، والثَّاني: ابنُ أَحمدَ الواسطيُّ، والثَّالثُ: ابنُ عبد الرحمنِ الدِّمشقيُّ المعروفُ بابنِ بنتِ شُرَحْبيلَ.
وقد يقعُ ذلك للرَّاوي ولشيخِهِ معاً؛ كأَبي العلاءِ الهَمْدانيَّ العطَّارِ المَشْهورِ بالرِّوايةِ عن أَبي عليٍّ الأصبهانيِّ الحدَّادِ، وكلٌّ منهُما اسمُه الحسنُ بنُ أَحمدَ بنِ الحَسنِ بنِ أَحمدَ، فاتَّفقا في ذلك، وافْتَرقا في الكُنيةِ، والنِّسبةِ إِلى البلدِ والصِّناعةِ.(1/197)
........................................................................................
_____________________________________________________
وصنَّفَ فيهِ أَبو موسى المَدينيُّ جُزءاً حافِلاً.
(وَ) معرفةُ (مَنِ اتَّفَقَ اسْمُ شَيْخِهِ والرَّاوِي عَنْهُ)، وهو نوعٌ لطيفٌ، لم يتعرَّضْ لهُ ابنُ الصَّلاحِ.
وفائدتُه: رفعُ اللَّبْسِ عمَّن يُظنُّ أَنَّ فيهِ تَكراراً، أو انقلاباً.
فمِن أَمثلتِه: البُخاريُّ؛ روى عَن مُسْلمٍ، وروى عنهُ مُسلمٌ، فشيخُهُ مسلمُ بنُ إبراهيمَ الفَراهيديُّ البَصريُّ، والرَّاوي عنهُ مُسلمُ بنُ الحجَّاجِ القُشيريُّ صاحِبُ الصَّحيحِ.
وكذا وقعَ ذلك لعبدِ بنِ حُميدٍ أيضاً: روى عن مُسلمِ بنِ إبراهيمَ، وروى عنهُ مُسلمُ بنُ الحجَّاجِ في صحيحِه حديثاً بهذه التَّرجمةِ بعينها.(1/198)
75 - وَمَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ الْمُجَرَّدَةِ وَالْمُفْرَدَةِ.
_____________________________________________________
ومنها: يحيى بنُ أَبي كَثيرٍ، روى عن هِشامٍ، وروى عنهُ هِشامٌ، فشيخُه هشامُ بنُ عُروةَ، وهو مِن أَقرانِه، والرَّاوي عنهُ هِشامٌ بنُ أبي عبدِ اللهِ الدَّسْتُوائِيُّ.
ومنها: ابنُ جُريْجٍ، روى عن هشامٍ، وروى عنهُ هِشامٌ، فالأعْلى ابنُ عُروةَ، والأدْنى ابنُ يوسُفَ الصَّنعانيُّ.
ومنها: الحكمُ بنُ عُتَيْبَةَ، روى عن ابنِ أَبي ليلى، وروى عنهُ ابنُ أبي لَيْلى، فالأعْلى عبدُ الرَّحمنِ، والأدْنى ابنُ عبدِ الرَّحمنِ المذكورِ.
وأَمثلَتُه كثيرةٌ.
(وَ) مِن المهمِّ في هذا الفنِّ (مَعْرِفَةِ الأَسْماءِ المُجَرَّدَةِ)، وقد جَمَعَها جماعةٌ مِن الأئمَّةِ: فمنهُم مَن جَمَعَها بغيرِ قَيدٍ، كابنِ سعدٍ في "الطَّبقاتِ"، وابنِ أَبي خَيْثَمَة، والبُخاريِّ في "تاريخَيْهِما"، وابنِ أَبي حاتمٍ في "الجَرْحِ والتَّعديلِ".
ومنهُم مَن أَفردَ الثِّقاتِ بالذِّكرِ؛ كالعِجْلِيِّ، وابنِ حِبَّانَ، وابنِ شاهينَ.
ومنهُم مَن أَفْرَدَ المَجْروحينَ؛ كابنِ عديٍّ، وابنِ حبّانَ أَيضاً.(1/199)
........................................................................................
_____________________________________________________
ومنهُم مَنْ تَقيَّدَ بكتابٍٍ مَخصوصٍ: كـ "رجال البُخاري" لأبي نصرٍ الكَلاَباذيِّ، و"رجالِ مسلمٍ" لأبي بكرِ بنِ مَنْجَوَيْهِ، ورجالِهما معاً لأَبي الفضلِ بنِ طاهرٍ، و"رجالِ أبي داودَ" لأبي عليٍّ الجيَّانِي، وكذا "رِجال التِّرمذيِّ" و"رجال النَّسائيِّ" لجماعةٍ مِن المَغاربةِ، ورجالِ السِّتَّةِ: الصَّحيحينِ وأَبي داودَ والتِّرمذيِّ والنَّسائيِّ وابنِ ماجة؛ لعبدِ الغنيِّ المقدِسيِّ في كتابِه "الكمالِ"، ثمَّ هذَّبَهُ المِزِّيُّ في "تهذيبِ الكَمالِ".
وقد لخَّصْتُهُ، وزدتُ عليهِ أَشياءَ كثيرةً، وسمَّيْتُه "تهذيب التَّهذيب"، وجاءَ معَ ما اشتَمَلَ عليهِ من الزِّياداتِ قدْرَ ثُلُثِ الأصلِ.
(وَ) مِن المُهمِّ أَيضاً معرِفةُ الأسماءِ (المُفْرَدَةِ)، وقد صنَّفَ فيها الحافظُ أَبو(1/200)
........................................................................................
_____________________________________________________
بكرٍ أَحمدُ بنُ هارونَ البَرديجيُّ، فذكرَ أَشياءَ تَعَقَّبوا عليهِ بعضَها، مِن ذلك قولُه: "صُغْديُّ بنُ سِنانٍ"، أَحدُ الضُّعفاءِ، وهو بضمِّ الصَّادِ المُهملةِ، وقد تُبْدلُ سيناً مُهملة، وسكونِ الغينِ المُعجمةِ، بعدها دالٌ مُهملةٌ، ثمَّ ياءٌ كياءِ النَّسبِ، وهو اسمُ علمٍ بلفظِ النَّسبِ، وليسَ هُو فرداً.
ففي "الجَرحِ والتَّعديلِ" لابنِ أَبي حاتمٍ: صُغْديٌّ الكوفيُّ، وثَّقَهُ ابنُ مَعينٍ، وفرَّقَ بينَه وبينَ الَّذي قبلَه فضعَّفَهُ.
وفي "تاريخِ العُقيليِّ": صُغْديُّ بنُ عبدِ اللهِ يروي عن قَتادةَ، قال العُقيليُّ: "حَديثُهُ غيرُ محفوظٍ" أهـ.
وأَظنُّهُ هُو الَّذي ذكرَهُ ابنُ أَبي حاتمٍ، وأَمَّا كونُ العُقَيْليِّ ذكرَه في "الضُّعفاءِ"؛ فإِنَّما هُو للحديثِ الذي ذكَرَهُ، وليستِ الآفةُ منهُ، بل هِيَ مِن(1/201)
76 - وَالْكُنَى، وَالْأَلْقَابِ.
_____________________________________________________
الرَّاوي عنهُ عَنْبَسَةُ بنُ عبدِ الرحمنِ، واللهُ أعلمُ.
ومِن ذلك: "سَنْدَر" بالمُهْمَلةِ والنُّون، بوزنِ جَعْفرٍ، وهو مولى زِنْبَاعٍ الجُذاميِّ، له صُحبةٌ وروايةٌ، والمشهورُ أَنَّه يُكْنَى أَبا عبدِ اللهِ، وهُو اسمٌ فردٌ لم يتسمَّ بهِ غيرُه فيما نعلمُ، لكنْ ذكرَ أَبو موسى في "الذَّيلِ على معرفةِ الصَّحابةِ" لابنِ منده: سَنْدَرٌ أَبو الأسودِ، وروى لهُ حديثاً، وتُعُقِّبَ عليهِ ذلك؛ فإِنَّه هُو الذي ذكَرَهُ ابنُ منده.
وقد ذكرَ الحديثَ المذكورَ محمَّدُ بنُ الرَّبيعِ الجِيزيُّ في "تاريخِ الصَّحابةِ الَّذين نَزلوا مِصرَ" في ترجمةِ سَنْدَرٍ مولى زِنْباع.
وقد حرَّرتُ ذلك في كتابي "الصَّحابة".
(وَ) كذا معرِفةُ (الكُنَى) المُجرَّدَةِ والمُفْرَدَةِ (وَ) كذا مَعرِفَةُ (الألْقابِ)، وهي تارةً تكونُ بلفظِ الاسمِ، وتارةً بلفظِ الكُنيةِ، وتقعُ نِسبةً إلى عاهَةٍ كالأعمش أَو حِرفةٍ.(1/202)
77 - وَالْأَنْسَابِ:
وَتَقَعُ إِلَى الْقَبَائِلَ وَالْأَوْطَانِ: بِلَادًا، أَوْ ضَيَاعًا، أَوْ سِكَكًا، أَوْ مُجَاوِرَةً.
وَإِلَى الصَّنائِعَ وَالْحِرَفِ، وَيَقَعُ فِيهَا الْاتِّفَاقُ وَالْاشْتَبَاهُ كَالْأَسْمَاءِ.
وَقَدْ تَقَعُ أَلْقَابًا.
_____________________________________________________
(وَ) كذا مَعْرِفَةُ (الأنْسابِ).
(وَ) هي تارةً (تَقَعُ إِلى القَبائِلِ)، وهي في المتقدِّمينَ أَكثرُ بالنِّسبةِ إلى المتأَخِّرينَ.
(وَ) تارةً إِلى (الأوْطانِ)، وهذا في المتأَخِّرينَ أَكثرُ بالنِّسبةِ إِلى المتقدِّمين.
والنِّسبةُ إِلى الوطنِ أَعمُّ مِن أَنْ يكونَ (بلاداً، أو ضياعاً، أو سِكَكَاً، أو مُجاوَرَةً و) تقع (إِلى الصَّنائعِ) كالخَيَّاطِ (والحِرَفِ) كالبَزَّازِ.
ويقعُ فيها الاتِّفاقُ والاشتباهُ؛ كالأسماءِ.
وقد تَقعُ الأنْسابُ (أَلقاباً)؛ كخالِدِ بنِ مَخلَدٍ القَطوانيِّ، كانَ كوفيّاً، ويلقَّبُ بالقَطَوانيِّ، وكان يغضَبُ منها.(1/203)
وَمَعْرِفَةُ أَسْبَابِ ذَلِكَ.
78 - وَمَعْرِفَةُ الْمَوَالِي مِنْ أَعْلَى، وَمِنْ أَسْفَلِ، بِالرِّقِ، أَوْ بِالْحَلِفِ.
79 - وَمَعْرِفَةُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ.
80 - وَمَعْرِفَةُ آَدَابِ الشَّيْخِ وَالطَّالِبِ.
_____________________________________________________
(وَ) مِن المُهمِّ أَيضاً (مَعْرِفةُ أَسبابِ ذلك)؛ أي: الألقابِ والنِّسبِ الَّتي باطِنُها على خِلافِ ظاهِرِها.
(وَ) كَذا (مَعْرِفَةُ المَوالي مِنْ أَعْلى ومِنْ أَسْفَلَ؛ بالرِّقِّ، أَو بالحِلْفِ) أو بالإِسلامِ؛ لأنَّ كلَّ ذلك يُطْلَقُ عليهِ مولى، ولا يُعْرَفُ تمييزُ ذلك إِلاَّ بالتَّنْصيصِ عليهِ.
(وَمَعْرِفَةُ الإِخْوَةِ والأخَواتِ)، وقد صنَّفَ فيهِ القُدماءُ؛ كعليِّ بنِ المَدينيِّ.
(وَ) مِن المهمِّ أَيضاً (مَعْرِفَةُ آدابِ الشَّيْخِ والطَّالِبِ): ويشتَرِكانِ في:
تصحيحِ النِّيَّةِ، والتَّطهيرِ مِن أَعراضِ الدُّنْيا، وتَحسينِ الخُلُق.
وينفَرِدُ الشَّيخُ بأَنْ:
يُسمعَ إِذا احْتيجَ إِليهِ.
ولا يُحدِّثُ ببلدٍ فيهِ مَن هُو أَولى منهُ، بل يُرْشدُ إِليهِ.(1/204)
........................................................................................
_____________________________________________________
ولا يَتْرُكُ إِسماعَ أَحدٍ لنيَّةٍ فاسدةٍ.
وأَنْ يتطهَّرَ ويجْلِسَ بوَقارٍ.
ولا يُحَدِّثُ قائماً ولا عَجِلاً، ولا في الطَّريقِ إِلاَّ إِنِ اضطُرَّ إِلى ذلك.
وأَنْ يُمْسِكَ عنِ التَّحديثِ إِذا خَشِيَ التَّغَيُّرَ أَو النِّسيانَ لمَرَضٍ أَو هَرَمٍ.
وإِذا اتَّخَذَ مَجْلِسَ الإِملاءِ؛ أَنْ يكونَ لهُ مُسْتَملٍ يقِظٌ.
وينفَرِدُ الطَّالِبُ بأَنْ:
يوقِّرَ الشَّيخَ ولا يُضْجِرَهُ.
ويُرشِدَ غيرَهُ لِما سَمِعَهُ.
ولا يَدَعَ الاستفادَةَ لحَياءٍ أَو تكبُّرٍ.
ويكتُبَ ما سمِعَهُ تامّاً.
ويعتَنِيَ بالتَّقييدِ والضَّبطِ.
ويُذاكِرَ بمحفوظِهِ ليَرْسَخَ في ذهْنِه.(1/205)
81 - وَسِنِّ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ.
_____________________________________________________
(وَ) مِن المهمِّ أَيضاً معرِفةُ (سِنِّ التَّحَمُّلِ والأداءِ)، والأصحُّ اعتبارُ سنِّ التَّحمُّلِ بالتَّمييزِ، هذا في السَّماعِ.
وقد جَرَتْ عادةُ المحدِّثينَ بإِحضارِهِمُ الأطفالَ مجالِسَ الحَديثِ، ويكتُبونَ لهُم أَنَّهم حَضَروا.
ولابدَّ في مثلِ ذلك مِن إِجازةِ المُسْمِعِ.
والأصحُّ في سنِّ الطَّالبِ بنفسِه أَنْ يتأَهَّلَ لذلك.
ويَصِحُّ تحمُّلُ الكافِرِ أَيضاً إِذا أَدَّاهُ بعدَ إِسلامِه.
وكذا الفاسِقِ مِن بابِ أَوْلى إِذا أَدَّاهُ بعدَ توبتِه وثُبوتِ عدالَتِه.
وأَمَّا الأداءُ؛ فقد تقدَّمَ أَنَّه لا اختصاصَ له بزَمنٍ مُعيَّنٍ، بل يُقيَّدُ بالاحتياجِ والتأَهُّلِ لذلك.
وهُو مُخْتَلِفٌ باخْتِلافِ الأشخاصِ.
وقالَ ابنُ خُلاَّدٍ: "إِذا بلَغَ الخَمسينَ"، ولا يُنْكَرُ عندَ الأربعينَ.(1/206)
82 - وَصِفَةِ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَعَرْضِهِ وَسَمَاعِهِ وَإِسْمَاعِهِ، والرِّحْلَةِ فِيهِ.
_____________________________________________________
وتُعُقِّبَ بمَن حدَّثَ قبلَها؛ كمالكٍ.
(وَ) مِن المهمِّ معرفَةُ (صِفَةِ كِتابَةِ الحَديثِ)، وهو أَنْ يكتُبَهُ مُبيَّناً مفسّراً ويَشْكُلَ المُشْكِلَ منهُ ويَنْقُطَهُ، ويكتُبَ السَّاقِطَ في الحاشيةِ اليُمنى، ما دامَ في السَّطرِ بقيَّةٌ، وإِلاَّ ففي اليُسرى.
(وَ) صفةِ (عَرْضِهِ)، وهُو مُقابَلتُهُ معَ الشَّيخِ المُسمِع، أَو معَ ثقةٍ غيرِه، أَو معَ نفسِه شيئاً فشيئاً.(1/207)
83 - وَتَصْنِيفِهِ: إِمَّا عَلَى الْمَسَانِيدِ، أَوْ الْأَبْوَابِ، أَوْ الْعِلَلِ، أَوْ الْأَطْرَافِ.
_____________________________________________________
(وَ) صفةِ (إِسْمَاعِِهِ) كذلك، وأَنْ يكونَ ذلك مِن أَصلِهِ الَّذي سمِعَ فيهِ كِتابَهُ، أَو مِن فرْعٍ قُوبِلَ على أَصلِه، فإِنْ تعذَّرَ؛ فليَجْبُرْهُ بالإِجازةِ لما خالَفَ إِنْ خالَفَ.
(وَ) صفةِ (الرِّحْلةِ فيهِ)، حيثُ يَبْتَدِئُ بحديثِ أَهلِ بلدهِ فيستوْعِبُهُ، ثمَّ يرحلُ فيُحَصِّلُ في الرِّحلةِ ما ليسَ عندَه، ويكونُ اعتناؤهُ في أَسفارِهِ بتكثيرِ المَسموعِ أَولى مِن اعتنائِهِ بتكثيرِ الشُّيوخِ.
(وَ) صفة (تَصْنِيفِهِ) وذلك إِمَّا على المسانيدِ، بأَنْ يجْمَعَ مسنَدَ كلِّ صحابيٍّ على حِدَةٍ، فإِنْ شاءَ رتَّبَهُ على سوابِقِهِم، وإِنْ شاءَ رتَّبَهُ على حُروفِ المُعْجَمِ، وهو أَسهَلُ تناوُلاً.
(أَوْ) تصنيفِه على (الأَبْوابِ) الفِقهيَّةِ أَو غيرِها، بأَنْ يَجمَعَ في كلِّ بابٍ ما ورَدَ فيهِ ممَّا يدلُّ على حُكمِه إِثْباتاً أَو نفياً، والأوْلى أَنْ يقتَصِرَ على ما صحَّ أَو حَسُنَ، فإِنْ جَمَعَ الجَميعَ فَلْيُبَيِّنْ علَّةَ الضَّعْفِ.
(أَوْ) تصنيفِه على (العِلَلِ)، فيذكُرُ المتنَ وطُرُقَهُ، وبيانَ اختلافِ نَقَلَتِه، والأحْسَنُ أَنْ يرتِّبَها على الأبوابِ ليسهُلَ تناوُلُها.(1/208)
84 - وَمَعْرِفَةُ سَبَبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ صَنَّفَ فِيِهِ بَعْضُ شُيُوخِ القَاضِي أبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ.
وصَنَّفُوا فِي غَالِبِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ.
وَهِيَ نَقْلٌ مَحْضٌ، ظَاهِرةُ التَّعْرِيفِ، مُسْتَغْنِيَةٌ عَنِ التَّمْثِيلِ،
_____________________________________________________
(أَوْ) يجمَعُهُ على (الأطْرافِ)، فيذكُرُ طرَفَ الحديثِ الدَّالَّ على بقيَّتِه.
ويجْمَعُ أَسانيدَه: إِمَّا مستوعِباً، وإِمَّا متقيِّداً بكُتُبٍ مخصوصةٍ.
(وَ) مِن المُهِمِ (مَعْرِفَةُ سَبَبِ الحَديثِ):
(وقَدْ صَنَّفَ فيهِ بَعْضُ شُيوخِ القَاضي أَبي يَعْلى بنِ الفَرَّاءِ) الحنبليِّ، وهو أبو حفصٍ العُكْبريُّ.
وقد ذكَرَ الشيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ دَقيقِ العيدِ أَنَّ بعضَ أَهلِ عصرِه شرعَ في جَمْعِ ذلك، فكأَنَّهُ ما رأى تصنيفَ العُكْبريِّ المذكور.
(وصنَّفوا في غالبِ هذهِ الأنْواعِ) على ما أَشَرْنا إِليهِ غَالِباً.
(وهِيَ)؛ أي: هذهِ الأنواعُ المَذكورةُ في هذهِ الخاتمةِ (نَقْلٌ مَحْضٌ، ظاهِرَةُ التَّعْريفِ، مُسْتَغْنِيَةٌ عنِ التَّمْثيلِ).(1/209)
وَحَصْرُهَا مُتَعَسِّرٌ، فَلْتُرَاجِعْ لَهَا مَبْسُوطَاتِهَا.
وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْهَادِي، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
_____________________________________________________
وحَصْرُها مُتَعَسِّرٌ؛ فلْتُراجَعْ لَها مَبْسوطاتُها؛ لِيَحْصُلَ الوُقوفُ على حقائقِها.
واللهُ المُوَفِّقُ والهَادي لا إِلَهَ إِلاَّ هُو، عليهِ توكَّلْتُ وإِليهِ أُنيبُ،وحسبُنا اللهُ ونِعمَ الوَكيلُ.
وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّدٍ وآلهِ وصحبهِ وسلَّمَ.(1/210)