لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام (49)
المناهل العذبة في إصلاح ما وهى من الكعبة
للعلامة المحقق
أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي
(ت973)
تحقيق
الدكتور عبد الرؤوف بن محمد الكمالي
دار البشائر الإسلامية
الطبعة الثانية
1426 هـ - 2005 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
الحمد لله الذي أوجب على كافة الأنام، تعظيم هذا البيت الحرام، بأقصى غاية التعظيم، وأتحف اللائذين بأذياله -بما وقر في نفوسهم له- من نهايات الإجلال والإكرام والتفخيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً يستفتح بها كل مغلق عقيم، ويحيى بروح سرها كل عظم رميم.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي قام بأعباء حرم بيته الأكبر، وأشادها على كواهل وارثيه ليذبوا عنها من بهذا الحمى الأقدس أراد أن يتسور. صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وأصحابه الذين ما زالوا معظمين لهذه البنية الشريفة، والكعبة المعظمة المنيفة، وعلى تابعيهم المبينين لأحكامها، القائمين بآدابها واحترامها، صلاةً وسلاماً دائمين بدوام سؤددها، باقيين ببقاء مددها. آمين.
وبعد:
فإنه ورد في أوائل تسع وخمسين وتسعمائة أوامر مولانا -سلطان الإسلام والمسلمين، ومبيد الكفرة والمبتدعة والملحدين، ظل الله في أرضه، القائم بأوفى غايات العدل في سننه وفرضه، الملك العادل الأفخم، والخاقان الكامل(1/23)
المعظم، السلطان ابن السلطان، الحادي عشر من ملوك بني عثمان، الملك المظفر شاه سليمان، أدام الله على أهل الإسلام عدله ومسرته، وعلى أهل الشرك والبدعة سطوته ونقمته، وأباد بسيوف قهره وعدله غياهب المحن، ومواقع الفتن، وأدام ملكه الأعظم الأعدل الأفخم في ذريته الطاهرة، وبلغه أعظم مأمولة في الدنيا والآخرة، آمين- بترميم ما تشعث في الكعبة المعظمة، لعرض قاضي مكة، بسؤال سدنتها، على نائب مولانا السلطان بمصر المحروسة، الوزير علي باشا؛ فإن سقفها صار ينزل منه الماء الكثير من المطر، وإن ذلك ربما آذى وأضر.
فعرض علي باشا ذلك على أبواب مولانا السلطان الزكية، وسدته العلية، فتحرى -عز نصره، وزاد عزه وبره- جرياً على ما انفرد به هو وجميع آبائه الأكرمين، من بين سائر الملوك والسلاطين، أن لا يبرموا أمراً إلا بعد مشاورة العلماء العاملين، لا سيما إمامهم ومفتيهم المقدم على جميع القضاة والمفتين.
واستفتى مولانا إنسان عين الزمان، وخليفة النعمان، ومحقق الأعصار المتأخرة، ومدقق المباحث العويصة المقررة، إمام الإفتاء بالباب العالي، المحفوظ بصلاح نية مولانا [السلطان] من صروف الأيام والليالي، عما أنهاه إليه سدنة الكعبة.
فأفتاه بما هو الحق الواضح، من إصلاحها على ما يليق بحرمتها.
فكتبت المراسم الحنكارية لعلي باشا، أن يعين لذلك من مماليك مولانا السلطان من يراه، فعين علي باشا لذلك الأمير أحمد بيك، رئيس كتاب خزانة مصر المحروسة، كان ذلك بعد أن عين له من الأموال ما يليق بذلك.(1/24)
فقدم بها مع الآلات إلى مكة، ثم لما أراد الشروع في ذلك، نازعه فاتحها، فأحب الناظر أن لا يستبد بأمر حتى يجمع جمعاً من علماء مكة؛ لينظر: هل يطابقون ما أفتى به مفتي السلطان أو يخالفونه؟
فأرسل هو وقاضي القضاء بمكة -الرومي الحنفي- إلى أولئك بعد صلاة الجمعة، سادس عشر شهر ربيع الأول سنة (959 هـ)، تسع وخمسين.
وعقد مجلسٌ حافل، وكان من جملة ما فيه، أن قال فاتح الكعبة: هي لا تحتاج إلى ما يريدون فعله فيها، فأحضر مهندس السلطان ومعه آخر، وشهدا أن فيها خشبتين مكسورتين من سقفها، وخشبةً ثالثةً لم تنكسر، لكنها نزلت عن محلها تسعة قراريط.
فحينئذٍ استفتي الحاضرون عن ذلك وكنت معهم، فأفتيت بأن ما إصلاحه ضروري يصلح، وبأنه ينبغي أن يضم إلى هذين الشاهدين بعض أهل الخبرة، حتى يطيب خاطر فاتح الكعبة.
فوافق الناظر والقاضي والحاضرون على ذلك، وكذا فاتح الكعبة، وزاد أنه ينبغي كشف ما على الخشب المدعى انكساره، فإن تحقق أصلح، وإلا رد كل شيء إلى محله، فوافقوه أيضاً.
ثم كتب في المجلس ورقةٌ بذلك جميعه، وقرئ على الحاضرين، وكان منهم جماعة من المالكية والحنفية، ثم تفرقوا على ذلك.(1/25)
ثم أراد الناظر الشروع في ذلك، فتوقف بعض سدنتها في ذلك، وعقد مجلسٌ آخر أكثر جمعاً من الأول، فدار الكلام بينهم في المسألة، فكثر اختلافهم، ولم أكن حاضراً فيه.
فقيل: إن منهم من قال كما قلناه: لا يصلح إلا ضروري الإصلاح، ومنهم من قال: هذا كلام غير صحيح، بل لا يتعرض لها بشيء أصلاً، حتى يقع منها شيءٌ فيرد إلى محله، ومنهم من قال: لا يصلح وإن وقع سقفها؛ لأنها كانت في الجاهلية غير مسقفة، ومنهم من قال: كيف يقال بإصلاحها، وبقاؤها على ممر الأعصار خرقاً للعادة من الآيات الباهرة؟!
ثم تفرقوا من ذلك المجلس ولم يتحصلوا منه على شيء يعلم اتفاقهم عليه.
فعند ذلك، أظهر الناظر إفتاء المفتي السابق ذكره، ولم يكن أظهره قبل ذلك، وكتبه في سؤال، ثم كتب بعده ما وقع في المجلس، ثم رفعه إلى أولئك الحاضرين، مستفتياً لهم: هل يوافقون ما قاله المفتي من إصلاح الضروري أو الحاجي، فيعمل بما أفتى به، أو يخالفونه فيبينون سند المخالفة من النقل؛ ليعرض عليه كلامهم، وينظر الصواب مع أي الفريقين؟
فالأكثر كتب بنحو كتابة المفتي، وبعضهم امتنع من الكتابة، وأرسلوا إلي لأكتب، فقلت لهم: لم أحضر هذا المجلس، وقد حضرت المجلس الأول، وضبطتم ما قلته فيه مما ظهر موافقته لما أفتى به المفتي.
وحينئذٍ كثر كلام العامة، ونقل إلينا أن الموافقين للمفتي إنما وافقوه(1/26)
خشية الفتنة، وأن الذي عليه أكثرهم إنما هو عدم إصلاحها مطلقاً، حتى يسقط ما يراد إصلاحه.
فلذلك عزمت -بعد الاستخارة- على بيان ما للعلماء في هذه المسألة، مما يدل على الجواز أو المنع، مع حمل كل من تلك العبارات على ما يتعين حمله عليه، ويتبادر كل ذهنٍ سليمٍ إليه.
فشرعت في ذلك أول شهر ربيع الثاني، سنة تسع [وخمسين]، وقد شرعوا في الإصلاح على ما وقع في الإفتاء السابق، مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه، ومفوضاً سائر أموري إليه، لا رب غيره، ولا مأمول إلا بره وخيره، وهو حسبي ونعم الوكيل، وإليه أفزع في الكثير والقليل.
وسميت هذا التأليف بـ:
((المناهل العذبة في إصلاح ما وهى من الكعبة))
ورتبته على مقدمة وأربعة مقاصد وخاتمة:
أما المقدمة، ففي تحرير ما أفتيت به.
وأما المقاصد:
فأولها: في بيان كلام أئمتنا في ذلك.
وثانيها: في كلام الحنفية.
وثالثها: في كلام المالكية.
ورابعها في كلام الحنابلة.
وأما الخاتمة، ففي تتماتٍ وفوائد تتعلق بذلك.(1/27)
المقدمة
اعلم أن الذي أقوله وأفتي به على قواعد أئمتنا، أنه يجوز -بل يطلب- إصلاح ما تشعث واختل من سقف الكعبة وجدارها وميزابها وعتبتها ورخامها، كما وقع عليه الإجماع الفعلي الآتي بيانه، وتقرير العلماء عليه، من لدن عمارة ابن الزبير رضي الله عنهما إلى يومنا هذا، وأنه يجوز التوصل إلى بيان حقيقة ما ظن اختلاله من نحو سقفها، بكشف ما يعلم به أمره، كما وقع نظيره مما يأتي بيانه [أيضاً].
بل سيأتي عن الفاسي، أنه وجماعةً من قضاة مكة وأمير العمارة الذي ندبه لها -برسباي- وأعيانها، اجتمعوا بالكعبة لما خافوا من سارية من سواريها ظهر بها ميل، فكشفوا من فوقها، فوجدت صحيحةً، وردت حتى استقامت.(1/28)
وهذا منه -كالقضاة وغيرهم- صريح فيما قلته آخراً، من جواز الكشف المذكور، فتأمله فإنه واضح.
وما يقال: يحتمل أنهم كانوا مكرهين، فهو فاسد؛ وما الحامل للإمام الفاسي على أن يحضر هو والقضاة مكرهين، ثم لا يذكر ذلك؟ بل يذكر ما هو صريح في رضا الحاضرين، وأن ذلك لم يفعل إلا بإذنهم.
ومما يحفظ عليك وقوع هذا الاختلاف، أن الله تعالى جبل قلوب المسلمين على غاية التعظيم والمهابة والإجلال.
فكل من أفتى إفتاءً، فإنما حمله عليه -مع ما فهمه من كلام أئمته- أنه لم ير التعظيم للكعبة المعظمة إلا فيه.
وسيأتي من تعظيم السلف لها -بل الجاهلية- مما يبهر العقل، وفي ذلك دلالة على بقاء الخير الكثير في الأمة، كما أخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء في الحديث الحسن، أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها -يعني الكعبة والحرم- فإذا ضيعوا ذلك هلكوا)).
فإن قلت: ما وجه التعظيم في عدم الإصلاح؟
قلت: كأنهم يلحظون صونها عن استعلاء العمال عليها ما أمكن، وكأن(1/29)
قائل ذلك لم ير -ما يأتي- أن قريشاً لما أرادوا هدمها، توقفوا عنه؛ خشية أن يصيبهم عذاب، فقال بعضهم: إنما يخشى ذلك من لا يريد الإصلاح، فتوقفوا، فأخذ [الوليد] المعول وقال: اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح، فهدمها، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء، تبعوه.
وكذلك وقع لابن الزبير رضي الله عنهما، كما سيأتي بسط ذلك كله.
بل الحجاج إنما كان متأولاً ردها إلى ما كانت عليه في زمنه صلى الله عليه وسلم ، فلذلك لم يصبه شيء، مع أنهم كانوا يرون أن من تعرض لها هلك، كما سيأتي ذلك كله.
فإن قلت: فما وجه التعظيم في إصلاحها؟
قلت: هو أن تركها متشعثة متهدمةً يزيل هيبتها من قلوب كثيرين ليس محط نظرهم إلا الصون وعظمتها، كما سيأتي بسط ذلك. وقد أشار إليه ابن الزبير بقوله الآتي: لو أن بيت أحدكم احترق، لم يرض له إلا بأكمل الإصلاح.
فتأمل ذلك يسهل عليك وقوع هذا الاختلاف الذي يرجع أكثره إلى القول بالاستحسان لا غير.
(تنبيه): لما أتممت هذا الكتاب، رأيت ما أبلج صدري، وزاد بسببه حمدي وشكري؛ إذ وافقت فيما أفتيت به الإمام المتفق على جلالته، وتحقيقه وإمامته، الإمام المحب الطبري، الذي قيل في ترجمته: لم يخرج من مكة -بعد إمامنا الشافعي رضي الله عنه- أفضل منه. وقيل فيها -أيضاً-: ما وجد له بحثٌ رد، أي غالباً.(1/30)
وعبارته -[و] من خطه رحمه الله نقلت، بعد أن تكلم على حديث عائشة رضي الله عنها الآتي بكلام مبسوط سأذكره في آخر المبحث الخامس-: ((ومدلول هذا الحديث -تصريحاً وتلويحاً- يبيح التغيير في البيت بالعمارة، إذا كان لمصلحة ضرورية أو حاجية أو مستحسنة)). انتهت.
فتأمل قوله: ((أو حاجية أو مستحسنة))، تعلم أن القائلين بنحو ما مر في الخطية، إنما سلكوا ملك الحدس والتخمين، ولم يتأملوا كلام الأئمة الراسخين، فالحق أحق أن يتبع، ومن لم يرجع لذلك فقد حاد عن سنن الصواب وابتدع.
وإذا تأملت كلام المحب هذا، وجدته هو الذي ذكرته في هذا الكتاب، وأقمت عليه الأدلة الصحيحة الجارية على جادة الصواب، فالحمد لله على موافقتنا للعلماء فيما أبديناه وحررناه وقررناه، ورأيناه حسناً.(1/31)
المقصد الأول في بيان كلام أئمتنا في ذلك
وفيه مباحث:
الأول
قال أصحابنا: يصح الإهداء والنذر إلى الكعبة نفسها، وكذا لرتاجها وطيبها ووقودها، فينقله إليها، ثم يصرف إلى القيم بأمرها ليصرفه في الجهة المنذورة، إلا أن يكون قد نص في نذره أنه يتولى صرف ذلك بنفسه.
قال الإمام [العالم] المجتهد التقي السبكي، في كتابه ((تنزل السكينة)) -بعد ذكره نحو ذلك-: ((فظهر بهذا القطع بثبوت اختصاص الكعبة بما يهدى إليها و[ما] ينذر لها، وما يوجد فيها من الأموال، وامتناع صرفها في غيرها، لا للفقراء ولا للحرم الخارج عنها المحيط بها، ولا لشيء من المصالح إلا أن يعرض لها نفسها عمارةٌ ونحوها.
وحينئذٍ ينظر: فإن كانت تلك الأموال قد أرصدت لذلك، فتصرف فيه،(1/32)
وإلا فيختص بها الوجه الذي أرصدت له، فلا يغير عن وجهه، فالمرصد للبخور لا يصرف في غيره، والمرصد للعمارة لا يصرف في غيره، والمرصد للسترة لا يصرف في غيره، والمرصد للكعبة مطلقاً يصرف في جميع هذه الوجوه، وكذا لو وجد فيها ولم يعلم قصد من أتى به)). اهـ المقصود من كلامه.
وتبعه الزركشي في ((الخادم)) فقال -بعد ذكره عن الأصحاب نحو ما قدمته-: ((فظهر بهذا اختصاص الكعبة بما يهدى إليها، وما ينذر لها، وما يوجد فيها من الأموال، وامتناع صرف شيء منها إلى الفقراء أو المصالح، إلا أن يعرض لها نفسها عمارةٌ فيصرف فيها إن حدثت لها، وإلا فلا يغير عن وجهه)). اهـ.
ثم قال: ((والرتاج: بكسر الراء المهملة، ثم مثناةٌ -أي فوقية- ثم جيم، قال القاضي حسين: هو في اللغة الباب العظيم)). قال: ((والمراد هنا جميع الكعبة)). قال: ((وقيل: الرتاج الستر)). اهـ.
فتأمل قولهم بصحة النذر للكعبة نفسها، وأنه يصرف [لما حدث فيها من العمارة ونحوها، ولبابها، وأنه يصرف] فيها، تجد ذلك كله(1/33)
مصرحاً بأن عمارتها ونحوها قربة يصح نذرها، ويصرف المنذور فيها.
ومن الواضح البين: أن ما وهي وتشعث منها في حكم المنهدم أو المشرف على الانهدام، فيجوز إصلاحه، بل يندب، بل يجب إن وجد له مصرف؛ كما يجب على ناظر المسجد [الحرام] أن يصلح ويرم ما فيه.
بل إذا تأملت قول السبكي: ((إلا أن يعرض لها نفسها عمارةٌ ونحوها))، وعلمت أن نحوها يشمل الترميم وإصلاح ما وهى وتشعث منها، علمت أن مسألة الترميم والإصلاح منقولة بالنص، وأن ذلك لا مساغ لإنكاره.
وتأمل قول ((الخادم)): ((إن حدثت لها وإلا فلا يغير شيء عن وجهه))، تجده موافقاً لذلك؛ فإنه لا ينهى عن تغيير الشيء عن وجهه، إلا إذا كان باقياً على وجهه، أما إذا تغير عن وجهه بميلٍ أو كسر، فهذا لا يقال فيه: لا يغير الشيء عن وجهه، وهذا ظاهر لمن له أدنى تأمل.
الثاني
أن المحب الطبري، لما أفتى بوجوب إعادة الشاذروان إلى ذراع؛ [كما] نقله [الأزرقي]، استشعر على نفسه اعتراضاً، وأجاب عنه بما هو صريحٌ فيما ذكرناه؛ فإنه قال: ((لا يقال: إن ذلك زيادة في بيت الله جل وعلا، وتغيير له عن موضعه، ولا يجوز ذلك؛ لأنا نقول: إخبار(1/34)
هذا الإمام العدل يمنع من أن يكون التتميم زيادةً وتغييراً؛ لأنه إنما يكون زيادةً إذا تحقق أن الموجود الآن هو الأصل، ونحن لا نتحققه، بل لا نظنه، بل لا نشك في أنه ليس على الأصل.
ثم قال عن خبر الأزرقي: ((فيجب قبول خبره وطرح ما يوسوس الشياطين من الخيالات الفاسدة، والاحتمالات البعيدة)).
وقال -قبل ذلك-: ((على متولي البيت الحرام، والناظر في هذه المشاعر العظام، رعاية مصالحها، والاهتمام بعماراتها))، وجعل ذلك توطئةً لما قرره بعد: أنه يجب هدم الشاذروان وإعادته إلى ذراع احتياطاً.
وهذا كله منه ظاهر [أو] صريح فيما قدمته: أنه يجب رعاية مصالح البيت، وترميم ما وقع فيه اختلال منه، ولم ما تشعث من بنائه، بل هذا أولى مما ذكره في الشاذروان؛ لأن المصلحة في الاحتياط فيه مختصة بمن يقول: لا يصح الطواف عليه، وهم فرقة من العلماء لا كلهم، ومصلحة ترميم الكعبة يرجع إلى كل الناس كما مر، ويأتي.
وقال -أيضاً-: ((إنه أحدث في الشاذروان زيادة، ولم يقل أحد ممن وجد بعد الأزرقي إلى زمننا هذا: إن هذا الإحداث زيادة في بيت الله تعالى،(1/35)
وتغيير له في موضعه، ولا أنكره أحد، فليكن كذلك ما يتم به الذراع المفعول في عرضه، ولا يكون ذلك زيادةً، بل جبراً أو تتميماً)). اهـ.
الثالث
استدل العلماء لجواز إصلاح ما وهى وتشعث من الكعبة، بما تطابق عليه الناس في الأعصار من فعل ذلك فيها من غير نكير.
فممن استدل بذلك الحنابلة كما سيأتي عنهم، ومن جملة قولهم: ((لا بأس بتغيير حجارة الكعبة إن عرض لها مرمةٌ؛ لأن كل عصر احتاجت فيه لذلك، قد فعل بها ذلك، ولم يظهر نكير على من فعله.
وممن استدل به -أيضاً- الإمام المجتهد التقي السبكي، وعبارته: ((وأول من فرشها بالرخام، الوليد بن عبد الملك، ولما عمل الوليد ذلك، كانت أئمة الإسلام والصالحون وسائر المسلمين، يحجون وينظرون ذلك، ولا ينكرونه على ممر الأعصار)). انتهت.
وإذا استدل السبكي بتقرير العلماء وغيرهم للوليد على ما ابتدعه وأحدثه في الكعبة من فرشها بالرخام، مع عدم الاحتياج إليه، مع كونه -أعني الوليد- من أئمة العسف والجور، وسوغ -أعني السبكي- هذا الفعل لسكوت الناس(1/36)
عليه، فما بالك بترميم وإصلاح ما وهى من الكعبة وتشعث؟!
فليكن سكوت الناس على ما فعل منه في الأعصار، دليلاً ظاهراً على الجواز في ذلك من باب أولى؛ لأن هذا أمر ضروري أو محتاج إليه، وفرش الرخام ليس فيه إلا محض الزينة وإظهار أبهة البيت وجلالته في نفوس العامة، فتأمل هذا؛ فإنه دليل واضح جلي على ما قلناه من جواز إصلاح الخلل الذي في نحو سقف الكعبة، وتتميم ما تشعث منها.
بل يؤخذ من كلام السبكي هذا، أنه يجوز أن يحدث فيها كل ما يليق بتعظيمها وأبهتها وجلالتها، وإن لم يحتج إليه؛ فإن فرش الرخام لا يحتاج إليه [البيت] ألبته، وإنما فيه محض زينة وجلالة، فإذا جاز فرش الرخام فيها لما ذكره السبكي، فليكن كل ما في معناه مثله.
ويؤيده: أن العلماء وغيرهم أقروا الملوك وغيرهم على تغيير بابها، المرة بعد المرة، مع الصلاحية وعدم الاحتياج للتغيير، وكذلك غيروا عتبتها المرة بعد المرة، وميزابها المرة بعد المرة، كما سيأتي بيان كل ذلك.
وليس الحامل للفاعلين على ذلك، إلا إظهار أبهة الكعبة، وأنه لا يليق بجلالتها بقاء ما خلق أو عتق فيها، فلذلك جسروا على تغيير تلك الأشياء، وأقرهم العلماء وغيرهم على ذلك ولم ينكروا عليهم.
فإن قلت: يحتمل أن عدم إنكارهم لعلمهم بأن أولئك الملوك، لا يمتثلون أوامرهم، فحينئذٍ لا يستدل بسكوتهم.(1/37)
قلت: هذا غفلة عما قاله الأئمة: إنه يجب الأمر بالمعروف وإن علم من المأمور أنه لا يمتثل، على أنه سيأتي عن السبكي، أن الملوك إنما تصعب مراجعتهم فيما يتعلق بملكهم دون [نحو] هذا، سيما وفيه توفير لأموالهم، وذلك محبب للنفوس، والشح مطاع.
وقد قال السيد السمهودي رحمه الله في فتاويه -بعد كلام ساقه يتعلق بأمر السلطان، في قضية شيء ظاهره يخالف الشرع-: ((وينبغي أن يصان أمر ولاة المسلمين عن مثل ذلك، بل هي محمولة على ما يسوغ شرعاً)). اهـ.
ولو تنزلنا ولم ننظر إلى ذلك كله، فالإنكار لم ينحصر في ذلك، بل من جملة حكمه بيان ذلك في كتبهم، وأنه منكر أو ممنوع مثلاً.
ولولا سبر السبكي لكتب الأئمة من لدن الوليد إلى وقته، فلم ير أحداً من العلماء تعرض لإنكار ما فعله الوليد بقول ولا قلم، لما استدل بما مر عنه، ولما ساغ له أن يقول: ((ولما عمل الوليد ذلك، كانت أئمة الإسلام والصالحون وسائر المسلمين، يحجون وينظرون ذلك ولا ينكرونه، على ممر الأعصار)). اهـ.
فهذا أعدل شاهد، وأوضح عاضد، على أن تقرير العلماء للملوك على(1/38)
ما فعلوه في الكعبة المعظمة، من إصلاح ما وهى وتشعث من سقفها وغيره، دال على جواز ذلك واستحسانه، وأنه لا مساغ لإنكاره، وأنه متى عرض فيها نحو ميلٍ أو انكسارٍ لشيء من خشبها أو نحو ذلك، بودر إلى إصلاحه وترميمه على أكمل الوجوه اللائقة بحرمتها وأبهتها وجلالتها.
ومما يزيد ذلك وضوحاً، أن السبكي رحمه الله تعقب ترجيح الرافعي والنووي رحمهما الله عدم جواز تحلية الكعبة، حيث قالا: ((الأظهر أنه لا يجوز تحلية الكعبة))، فقال: ((كيف يكون ذلك، وقد فعل في صدر هذه الأمة، وقد تولى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عمارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عن الوليد بن عبد الملك، وذهب سقفه؟!
فإن قيل: إنه فعل امتثالاً لأمر الوليد.
فالجواب: أن الوليد وأمثاله من الملوك، إنما تصعب مخالفتهم فيما لهم غرض يتعلق بملكهم ونحوه، أما مثل هذا -وفيه توفير عليهم في أموالهم- فلا يصعب مراجعتهم فيه، فسكوت عمر بن عبد العزيز وأمثاله وأكبر منه -مثل سعيد بن المسيب وبقية فقهاء المدينة وغيرها- دليلٌ لجواز ذلك.
بل أقول: ولي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعد ذلك الخلافة، وأراد أن يزيل ما في جامع بني أمية من الذهب، فقيل له: إن لا يتحصل منه شيءٌ يقوم بأجرة حكه، فتركه.
والصفائح التي على الكعبة يتحصل منها أشياء كثيرة، فلو كان فعلها حراماً لأزالها في خلافته؛ لأنه إمام هدى، فلما سكت عنها وتركها وجب القطع بجوازها)). اهـ.(1/39)
فتأمل هذا الاستدلال من هذا الإمام، تجده قاضياً بصحة ما سلكه هو وغيره من العلماء، من أن سكوت العلماء وغيرهم على ما فعل في الكعبة المعظمة، من الإصلاحات في الأعصار من غير نكير، دالٌّ على جوازه وحسنه، وأنه ينبغي للملوك تحريه والعمل بمثله في الكعبة المشرفة، إذا حصل فيها ما يقتضي الإصلاح ولم الشعث الذي لا يليق بأدنى المساجد أن تبقى عليه، فكيف بما هو أشرفها وأفضلها؟!
ويؤيد ما مر من احتجاج الإمام السبكي بعدم إنكار العلماء وغيرهم، أن المحب الطبري لما أفتى بوجوب إعادة الشاذروان إلى ذراع في العرض كما مر ذلك عنه، استشعر على نفسه اعتراضاً، وأجاب عنه بما يوافق ما تقرر أن عدم إنكارهم بعد علمهم بالحكم، تقريرٌ له ورضىً به.
وعبارته: ((فإن قيل: هذا الموجود اليوم الناقص عن الذراع، ترادفت عليه الأعصار، وتواردت عليه علماء الأمصار، وجاور بالحرم الشريف كثير من العلماء، وطالت مدة مجاورتهم، ولم ينكر ذلك أحد منهم، والظاهر أن ذلك لم يخف على جميعهم.
قلنا: عدم إنكارهم لا يدل على رضاهم به وتقريرهم له، وإنما يحكم بالرضى والتقرير، بعد العلم بأنهم علموا بأنه كان ذراعاً ثم أقروه ناقصاً، ويحتاج ذلك إلى إثبات.
وكثير من جملة العلماء لا يعلم أن الأزرقي ذكر أن عرضه ذراع وإن علموا حكمه، وكثير يعلم ما ذكره الأزرقي ولا يعتبره، ويطوف ويعتقد أنه كما ذكره الأزرقي، ولا يعلمون نقصه.
وقد رأيت من أجلة أهل العلم من هو كذلك، وما المانع من أن يكون أنكره من اطلع عليه وعلمه، كما أنكره اليوم، فحصل له صادٌّ كما حصل اليوم؟
ولا يتمكن كل أحد من تغييره بيده، وإنما ذلك منوطٌ بولاة الأمر فيه، وكم(1/40)
من بدعة تطاول زمانها، ولا يقال: إن علماء عصرها أقروها رضىً بها، بل يحرم على كل أحد نسبتهم إلى ذلك.
ألا ترى أن في الكعبة منكرين فاحشين، قد تطاول الزمان عليهما؟ المنكر المسمى بالعروة الوثقى، والمنكر المسمى بسرة الدنيا، أنكرهما كثير من العلماء ولم يلتفت إليهم)). اهـ.
فإن قلت: يؤخذ من كلام هذا منازعة السبكي وغيره فيما قالوه، من الاستدلال بتقرير العلماء على فعل تلك الإصلاحات والرخام والتحلية؛ لأن الاحتمالات التي ذكرها بسكوت العلماء على بقاء الشاذروان على دون الذراع تأتي في ذلك.
قلت: ممنوع؛ لأن الإنكار يستدعي تقدم العلم بما قاله الأزرقي أنه كان ذراعاً، وهذا لا يأتي فيما نحن فيه.
سلمنا أنهم علموا، يحتمل أنهم ممن يرون صحة الطواف على الشاذروان، وإن سلمنا أنهم يعتقدون ذلك، هم قد أنكروه في كتبهم، وهذا كله لم يوجد منه شيء هنا، فدل سكوتهم على تلك الإصلاحات وعدم تعرضهم لإنكارها بلسان ولا قلم، على جوازها.
وقوله: ((وكم من بدعة .. )) إلخ، لا يأتي فيما نحن فيه أيضاً؛ لأن العلماء لم يبقوا شيئاً من البدع المنكرة إلا وقد ذكروا حكمه وبينوه، تلويحاً أو تصريحاً، فسكوتهم عن الإنكار عليه إنما هو لعجزهم.
وهنا: لو كان سكوتهم لعجزهم لبينوا ذلك في كتبهم، فتأمل ذلك حق التأمل؛ لتكون على جادة الصواب، وتظفر بتحقيقه؛ فإنه مما يستفاد(1/41)
ويستطاب، وفقنا الله لتحريه على الدوام، وجعلنا ممن قام بشعائر هذا البيت الحرام، آمين.
الرابع
مما هو صريح فيما قدمته من جواز الإصلاحات التي يحتاج إليها في الكعبة، ما حكاه أئمتنا وغيرهم في خبر بناء ابن الزبير رضي الله عنهما:
وذلك لأنه لما أراد أن يهدمها للحريق الذي وقع فيها من بعض جماعته، أو ممن حاصره، شاور من حضره من الصحابة وغيرهم رضي الله عنهم -منهم ابن عباس رضي الله عنهما- في هدمها، فهابوا هدمها وقالوا: نرى أن نصلح ما وهى منها ولا يهدم، فقال: لو أن بيت أحدكم احترق، لم يرض له إلا بأكمل إصلاح، ولا يكمل إصلاحها إلا بهدمها، فهدمها حتى وصل إلى قواعد إبراهيم صلى الله على نبينا وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم.
وفي رواية: أنه جمع وجوه الناس وأشرافهم، فاستشارهم في هدمها، فأشار عليه القليل من الناس وأبى الكثير، وكان أشدهم إباءً عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال: دعها على ما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى فيتهاون الناس بحرمتها، ولكن ارقعها، فقال ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بناء بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله؟!
واستقر رأيه على هدمها، وكان يحب [أن يكون] هو الذي يردها على قواعد سيدنا إبراهيم؛ لما بلغه ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها.(1/42)
فهؤلاء الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم، مجمعون ومتفقون على إصلاح ما ضعف واختل وتشعث منها بحسب الضرورة أو الحاجة الماسة.
إذا وهى وتشعث -كما في ((القاموس))- بمعنى: تحرق وانشق واسترخى رباطه.
وابن الزبير رضي الله عنهما ومن وافقه: موافقوهم على ذلك، وإنما وقع الخلاف في القدر الزائد على الحاجة، فالأكثرون نظروا إلى جانب الاحترام المطلق للكعبة، فلم يوافقوا على الزائد على الحاجة، وهو رضى الله عنه ومن وافقه نظروا إلى ما يليق بإجلال البيت وتعظيمه، وإيقاع مزيد هيبته في القلوب، فلم يقنعوا بالاقتصار على قدر الحاجة، وأبرز لهم ذلك القياس المعنوي بقوله: ((لو أن بيت أحدكم احترق لم يرض له إلا بأكمل إصلاح، ولا يكمل إصلاحها إلا بهدمها))، فلم يعترضوا هذا الدليل الذي أبرزه لهم؛ إما لوضوحه لهم، وإما لأن المجتهد لا ينكر على مجتهد، فلذلك مكنوه مما أراد ولم يعترضوه.
فتأمل ذلك أدنى تأمل، يتضح لك صحة ما قلناه، من أنهم كلهم متفقون على إصلاح ما تحرق وانشق واسترخى، لا خلاف بينهم في ذلك، وهم الحجة على من بعدهم في ذلك وغيره.
وإنما الخلاف بينهم في إصلاح زائد على الحاجة، ولائق بكمال البيت وعظيم إجلاله وحرمته، فابن الزبير وموافقوه يرون ذلك، والأكثرون لا يرونه، فتأمل ذلك؛ فإنه مما ينبغي أن يحفظ ويستفاد.
وحينئذٍ، فلم يبق لما قيل: إنه لا يجوز أن يصلح فيها إلا ما سقط، وما لم(1/43)
يسقط لا يصلح، بل يترك على استهدامه وتشعثه، وجهٌ، وإن كان الحامل لقائله على ذلك رعاية احترام البيت بذلك ما أمكن بحسب ظنه.
وكأنه لم يسمع قول من استدل على بطلان زعمه: ((ترك ذلك يؤدي إلى غاية وهن في الدين، وإسقاط هيبة الكعبة المعظمة من قلوب سائر المسلمين؛ لأنهم يرون البيوت المنسوبة إلى أهل الدنيا في غاية العظمة الصورية، والبيت المنسوب إلى الله تعالى في غاية الاستهانة بحقه وعدم الاعتناء بشأنه والقيام بحرمته، وهذا خرق عظيم يجب تداركه)). اهـ.
وهو استدلالٌ لا بأس به، لا سيما عند من يراعي المصالح المرسلة التي قال المحققون: إنها لا تختص بالمالكية، بل ما من مذهب من المذاهب الأربعة إلا وعمل بها في مسائل كثيرة، لكن المالكية لما أكثروا من مراعاتها، نسب القول بها إليهم.
الخامس
اختلف العلماء في جدار الحجر الموجود اليوم وفيه الميزاب، هل يجوز هدمه؟ لأن ابن الزبير رضي الله عنهما أعاد الكعبة على قواعد إبراهيم لما مر، وللخبر المتفق عليه الذي روته له خالته عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، الدال على أنه صلى الله عليه وسلم لولا خشيته على قريش من الفتنة بهدم بنائهم الذي قصروه عن قواعد إبراهيم بإخراج ستة أذرع منه من جهة الحجر، وتعلية بابها الشرقي، وسد بابها الغربي، لهدمها وأعادها على قواعد إبراهيم، ووطأ بابها الشرقي، وفتح بابها الغربي.(1/44)
أو لا يجوز هدم ذلك الجدار ولا يغير بابها؛ لأن ابن عباس قال لابن الزبير رضي الله عنهم: ((دعها على ما أقرها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ))؟
فقال جماعة بالجواز، وجماعة بالمنع.
وممن قال بجواز ذلك صاحب ((الفروع)) من الحنابلة، وعبارته: ((ويتجه جواز بنائها على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لولا المعارض في زمنه لفعله، كما ورد ذلك مصرحاً به في خبر عائشة رضي الله عنها. قال الإمام ابن هبيرة: فيه أنه يدل على جواز تأخير الصواب لأجل قالة الناس، وقد رأى مالك والشافعي رضي الله عنهما أن تركه أولى؛ لئلا يصير البيت ملعبةً للملوك)). اهـ.
وقول ابن هبيرة: ((إن التأخير لأجل قالة الناس)) فيه نظر، بل ظاهر الخبر أنه لخشية الردة عليهم بنقض بعض بنائهم الذي يعدونه من أكمل شرفهم.
وقوله: ((إن مالكاً والشافعي رضي الله عنهما رأيا أن ترك ذلك أولى))، يشهد له بالنسبة لمالك قول التقي الفاسي من أئمة المالكية: ((ويروى أن الخليفة هارون الرشيد -وقيل: أبوه المهدي، وقيل: جده المنصور- أراد تغيير ما صنعه الحجاج في الكعبة، وأن يردها إلى ما صنع ابن الزبير، فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، وقال: نشدتك الله، لا تجعل بيت الله ملعبةً للملوك، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره فتذهب هيبته من قلوب الناس. اهـ بالمعنى.
وكأن مالكاً لحظ في ذلك كون درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وهي قاعدة مشهورة معتمدة)). اهـ كلام الفاسي.(1/45)
فتعبيره بأولى مساوٍ لقول ابن هبيرة عن مالك أنه رأى أن ذلك أولى.
فإن قلت: استشهاد الفاسي بالقاعدة المذكورة يدل على الوجوب؛ لأن درء المفاسد يجب تقديمه على جلب المصالح.
قلت: هذا إيهام؛ لأن المفاسد على قسمين: مظنونة الوقوع، فهذه هي التي يجب تقديم رعايتها على جلب المصالح، ومتوهمة الوقوع، وهذه هي التي تكون رعايتها أولى لا واجبة.
وما نحن فيه من هذا الثاني، كما هو واضح؛ إذ خشية تغيير الملوك لها حتى تذهب هيبتها من القلوب، مع ما استقر في النفوس من تعظيمها، بعيد جداً، فكان متوهماً لا مظنوناً، فكيف يصح التعبير في هذا المقام بأولى؟ فتأمله.
ويشهد له بالنسبة للشافعي رضي الله عنه، قول النووي رحمه الله في ((شرح المهذب)): ((قال القاضي أبو الطيب في ((تعليقه)) -في باب دخول مكة، في آخر مسألة افتتاح الطواف بالاستلام-: قال الشافعي رضي الله عنه: أحب أن تترك الكعبة على حالها فلا تهدم؛ لأن هدمها يذهب حرمتها، ويصير كالتلاعب، فلا يريد والٍ تغيرها إلا هدمها، ولذلك استحسنا تركها على ما هي عليه)). اهـ.
وظاهر قوله رضي الله عنه: ((أحب)) -بل صريحه- ما نقله ابن هبيرة عنه، أنه رأى أن ترك ذلك أولى.(1/46)
وزعم أنه قد يريد بأحب: أوجب، -بتقدير تسليمه، وإلا فكتبه لا سيما ((مختصر المزني)) مع صغره مشحونة باستعماله ((أحب)) في المندوبات لا غير، كما هو وضعه- لا يرد على ابن هبيرة؛ لأن نص الإمام في حق مقلديه كنص الشارع في حق الأمة في كونه يحمل على معناه الحقيقي، ولا يجوز صرفه عنه إلا لدليل من كلامه أو قواعده قرر أهل الأصول دلالة مثله على الوجوب.
وزعم بعضهم أنه قد يريد به ((أوجب)) بقرينة، ليس في محله؛ لأن كلامنا في نص خلا عن القرينة، والتعليل بإذهاب الحرمة لا يدل على الوجوب؛ لأنه مشكوك فيه، لا يراعي مثله إلا من يقول برعاية المصالح المرسلة مطلقاً، ونحن لا نقول بذلك.
على أن قوله: ((ولذلك استحسنا .. .. )) إلخ، يرد توهم الوجوب.
وسيأتي قريباً عن المحب الطبري قوله: ((على أنا نقول: إنما كره مالك ..)) إلخ، [و] هو صريح واضح فيما ذكرته فتأمله.
وأما قول الشافعي رضي الله عنه في بعض المواضع: ((لا أحب كذا)) كقوله: ((لا أحب نقل الميت إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس))، فهو لا يقضي على ابن هبيرة؛ لأن ((لا أحب كذا)) قد يستعمله الشافعي فيما فعله محرم، وقد يستعمله فيما فعله مكروه.
ومن ثم اختلف أصحابه في هذه المسألة، فقال جماعة: يحرم النقل لغير الثلاثة، وقال آخرون: يكره.
ونظير هذا استعمال الشافعي رضي الله عنه: ((أكره كذا))؛ فإنه قد يستعمله في المكروه كراهة تنزيه، وقد يستعمله في الحرام.(1/47)
فإن قلت: ما الفرق بين ((أحب)) حيث لا يستعملها إلا في المندوب، و((أكره)) حيث يستعملها في الأمرين؟
قلت: الفرق ما استفاض على لسانه ولسان أصحابه، أن المكروه قد يكون كراهته للتحريم، وقد يكون كراهته للتنزيه، فصح استعمال ((أكره)) فيهما.
وأما المحبوب فلم يقع اصطلاح على أن مجيئه قد يكون للإيجاب وقد يكون للندب، بل لم يستعمل إلا قسيماً للواجب، فتعين صرفه له.
وفي البديهة ما يقضي بالفرق بين ((أحب كذا)) و((لا أحب كذا))، فلا مساواة بينهما يقضى بها على ابن هبيرة، فتأمل ذلك كله؛ فإنه قد وقع فيه غلط.
هذا ما يتعلق بالقائلين بالجواز نقلاً ودليلاً، وهو يفهم بالأولى ما قدمته من جواز إصلاح ما وهى وتشعث من الكعبة وإن لم يسقط.
وأما القائلون بالمنع، فيشهد لهم قول النووي رحمه الله في ((شرح مسلم)): ((قال العلماء: ولا تغير الكعبة عن هذا البناء))، ويحتمل أن يريد أن نفي ذلك أولى؛ ليوافق ما مر عن الشافعي رضي الله عنه.
ويشهد لهم أيضاً -بل يصرح به- قول السبكي: ((الإجماع انعقد على عدم جواز تغيير الكعبة)). اهـ، وقول الزركشي -بعد الحكاية السابقة عن مالك رضي الله عنه والرشيد أو أبيه أو جده-: ((واستحسن الناس هذا من مالك رضي الله عنه، وعملوا عليه، وصار كالإجماع على أنه لا يجوز التعرض للكعبة بهدم أو تغيير)). اهـ.
فإن قلت: كيف هذا الإجماع مع وجود ما مر من الخلاف؟
قلت: أما عبارة النووي فهي محتملة فلا دليل فيها، وأما عبارة السبكي فصريحة في نقل الإجماع، لكن فيها نظر، وكأن هذا هو السبب في عدول الزركشي عنها إلى قوله: ((فصار كالإجماع ..)) إلخ، فأفهم أنه ليس في المسألة إجماع حقيقي، وهذا هو الحق.(1/48)
هذا كله إن حملنا كلام هؤلاء -كما هو المتبادر منه- على أنه في الصورة السابقة، وهي هدم ما صنعه الحجاج، وردها على بناء ابن الزبير.
ويؤيد ذلك: أن هذا هو الذي أراده هارون أو أبوه أو جده، فمنعه منه مالك رضي الله عنه، وأما بقية بناء ابن الزبير فلم يتعرض له أحد بعد الحجاج بهدم ولا تغيير، ولا أراد أحد فيه ذلك -كما قاله التقي الفاسي وغيره، كما يأتي- حتى يقع فيه خلاف، وإنما الذي وقع من الملوك من ذلك الزمن وإلى الآن، ترميمٌ وإصلاحٌ لنحو السقف والعتبة والميزاب والباب.
على أن من العجب الدال على كرامة ابن الزبير، أن جميع الإصلاحات الواقعة في نحو جدار الكعبة وبابها، إنما هي فيما صنعه الحجاج وما قرب منه، دون بناء ابن الزبير، كما سيأتي مبسوطاً.
أما إذا لم نحمله على تلك الصورة الخاصة، بل على ما عداها، فالإجماع على الامتناع من هدم بعض جدارها أو تغييره بلا ضرورةٍ، أمرٌ حقيقي واقع لا مرية، وليس ذلك من خصوصيات الكعبة، بل هو جارٍ في كل مسجد؛ إذ من البديهي في سائر المساجد، أنه لا يجوز لأحد هدم أبنيتها، ولا تغييرها عما هي عليه من غير ضرورة أو حاجة ماسة.
وحينئذٍ فلا يجوز لأحد حمل اختلاف العلماء على ذلك، بل يتعين حمله على ما قررناه وأوضحناه، فتأمله لئلا يزل قدمك، ويطغى قلمك، أعاذنا الله أجمعين من ذلك بمنه وكرمه، آمين.
ثم رأيت المحب الطبري صرح عن مالك رضي الله عنه بما يوافق ما قدمته عن ابن هبيرة وغيره، في فهم كلامه، وما ذكرته أن محل كلامه إنما هو في هدم ما(1/49)
فعله الحجاج لا غيره، وذلك أنه -أعني المحب الطبري- لما أفتى بوجوب هدم ما كان عليه الشاذروان من دون ذراع في عرضه، ووجوب إعادته إلى ذراع احتياطاً للطائفين الذين يرون بطلان الطواف عليه، استشعر اعتراضاً على نفسه من كلام مالك مع الخليفة، فقال:
((فإن قيل: قد ورد عن مالك لما حج الخليفة في زمنه، وكان بلغه عنه أنه يريد أن يهدم ما بناه الحجاج من البيت، ويرده إلى ما بناه ابن الزبير رضي الله عنهما، فخرج له من المدينة، واعترض له في طريقه وقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين لا جعلت هذا البيت ملعبةً للملوك، لا يشاء أحد منهم لهدمه وبنيه إلا فعل، فكف الخليفة عن ذلك، وإنما قال له مالك ذلك وكف الخليفة تعظيماً للبيت واحتراماً له، والتعظيم والاحترام ثابتان للجزء كثبوته للكل.
قلنا: إيراد هذه الحكاية في معرض الاعتراض تشنيع وتهويل، وعمي بصيرة عن رؤية الحق، وارتكاب هوىً متبعٍ، وأي جامعٍ بين ما نحن فيه وما في هذه الحكاية؟!
والفرق بينهما من وجهين:
الأول: من جهة المعنى؛ فإن القصد في مسألتنا رعاية مصلحة الطائفين وتصحيح طوافهم، وجعل المطاف على صورة يصح الطواف فيه للملاصق للشاذروان، وذلك الغاية في تعظيم حرمة البيت، والإعراض عن ذلك هتك لحرمته؛ لما يتطرق له من الخطر الكثير والفساد العريض، فناسب وجوب رعاية ذلك؛ تجنيباً للخطر الناشئ بسبب الترك على كل قادر.(1/50)
وما أنكره الإمام مالك ليس في تركه خطر ولا إفساد عبادة، بخلاف مسألتنا؛ لما يترتب عليها من الخطر المذكور. ولو سئل مالك عن مسألتنا لأجاب بمثل جوابنا؛ لأن مذهبه وجوب حسم الذرائع المفضية إلى المفاسد، ومسألتنا تنزع إلى ذلك؛ لأن تقرير الشاذروان على ما هو عليه، يؤدي إلى فساد طواف بعض الطائفين، فوجب حسمه بالإزالة.
الثاني: الفرق من حيث الصورة، وذلك أن هدم البيت أو جانبٍ منه، يكثر الابتذال فيه، ويعظم الشعث، وتقل الهيبة، لا سيما إذا كان ناشئاً عن هوى متبع، بخلاف هدم شبرٍ من دكة في بناء البيت إن احتيج إليه، وإلا فالضرورة تندفع بإلصاق بناءٍ إليه يتم به الذراع، ويندفع به المحذور، وبين الصورتين بونٌ عظيم.
على أنا نقول: إنما كره مالك ما كرهه؛ خشية أن يتكرر هدم البيت، لما علم من هدم ابن الزبير له وبنائه، ثم هدم الحجاج لما زاده ابن الزبير، فخشي مالك لو هدمه هذا الخليفة وأعاده على وضع ابن الزبير، أن يأتي بعده من يرى رأي الحجاج، فيتكرر ذلك، فجرى على مقتضى مذهبه من سد الذرائع.
ولهذا نبه رضي الله عنه على ذلك بقوله: ((أخشى أن يبقى ملعبةً للملوك))، وإلا فلو علم أنه لا يهدم بعد إعادته على وضع ابن الزبير، لما أنكره، بل يستحبه وندب إليه وحث عليه، فرأى أن التعظيم به أنسب وأولى، ولم يكن ملعبةً، بل سنةً متبعةً، [و] فعلاً جميلاً.
فإن سيد المرسلين، الممهد لنا شرائع الدين، أشار إلى ذلك بما جاء في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/51)
((يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة، وألزقت بابها بالأرض، ولجعلت لها باباً شرقياً، وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع، فإن قومك اقتصرتها حين بنت الكعبة)).
وفي رواية في الصحيحين: ((فإن بدا لقومك من بعد أن يبنوه، فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريباً من ستة أذرع)).
وفي قوله: ((فإن بدا لقومك .. .. )) إلخ، تصريح بالإذن في أن يفعل ذلك بعده عند القدرة عليه والتمكن منه.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ((لولا .. .. )) إلخ، حث عليه، ودلالة على أن المانع منه حداثتهم بالشرك، وتنبيه على أنه -أي فعل ذلك- من مهمات الدين عند تمكن الإسلام، وهذا هو المعنى الذي حث ابن الزبير على هدم الكعبة واستيفاء قواعدها، فلم يكن بذلك ملوماً، ولا عد منتهكاً حرمةً، بل قائماً في ذلك بالحرمة رضي الله عنه.
ومدلول هذا الحديث -تصريحاً وتلويحاً- يبيح التغيير في البيت إذا كان لمصلحة ضرورية أو حاجية أو مستحسنة، والله أعلم)). اهـ كلام المحب الطبري، ومن خطه نقلت.
وهو مشتمل على نفائس تقدمت الإشارة إلى كثير منها، فتأمله مع ما مر ويأتي، لا سيما قوله أولاً: ((فرأى أن التعظيم به أنسب وأولى))؛ فإنه موافق لما مر(1/52)
عن ابن هبيرة وغيره، وقوله آخراً: ((ومدلول هذا الحديث -تصريحاً وتلويحاً- يبيح التغيير .. .. )) إلخ؛ فإنه موافق لما وضعت عليه كتابي هذا من جواز -بل طلب- إصلاح كل ما وهى وتشعث في الكعبة، وأنه يجوز التوصل إلى معرفة الخلل الذي ظن وقوعه فيها ولو بالكشف لبعض سقفها.
بل زاد أن ما اقتضت المصلحة استحسان فعله في الكعبة، يجوز فعله فيها.
وبعد هذا من هذا الإمام، لم يبق لمنازع في شيء مما ذكرته سبيل، ولم يجز أن يصغى لشيء مما مر عن أولئك المنازعين، ولا أن يعول عليه أدنى تعويل؛ لما أنه خالٍ عن أن يقوم عليه دليل، أو يعضده قويم تعليل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، جعلنا الله من أهله، إنه بكل خير كفيل.(1/53)
المقصد الثاني فيما قاله الحنفية في ذلك
اعلم أنه قد جرت عادة مولانا السلطان العادل، المجاهد المرابط، سليمان الخلافة، وإمام المعالي والإنافة، أن لا يولي منصب الإفتاء على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة -رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه- ذي المناقب الباهرة، والكرامات القاهرة، كما بينته في كتابي الذي أفردت ترجمته فيه، وسميته: ((قلائد العقيان في ترجمة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان))، إلا أعلم أهل زمانه، وأكمل أهل مملكته وأوانه.
ولما كان متولي منصب الإفتاء [الآن]، مولانا خوجا جلبي متصفاً بذلك، أهلاً لما هنالك، محيطاً بجميع ما للأئمة في هذه المسالك، عولت على ما سبق عنه في معرفة مذهب الحنفية في المسألة، وهو جواز إصلاح ما وقع في الكعبة مما يحتاج لإصلاحه من نحو حرق أو ترميم.(1/54)
المقصد الثالث في بيان ما للمالكية في ذلك
اعلم أن الإمام ابن بطال من أئمتهم، ذكر في شرحه على البخاري كلاماً في أن الفاضل من كسوة الكعبة، هل يصرف على أهل الحاجة أو لا؟ ومن جملته أن قسمة ما فضل عن الكسوة على أهل الحاجة أولى من قسمة المال الفاضل.
ووجه ذلك بأن المال يمكن نفقته فيما تحتاج إليه الكعبة في إصلاح ما وهى منها وفي وقودٍ وأجرة قيمٍ، والكسوة لا تدعو لفاضلها ضرورة)). اهـ.
أي: فإذا جاز صرف فاضل المال، مع أنه قد تحتاج لصرفه فيما ذكر، فأولى أن يجوز صرف فاضل الكسوة التي لا يحتاج إليه.
وإذا تأملت هذا التوجيه الذي ذكره، وجدته مصرحاً بأن ما وهى من الكعبة يصلح، وأن مالها يصرف في إصلاحه، نظير ما مر عن أئمتنا، وحينئذٍ فما قاله موافق لمذهبنا الذي قدمته.
وبهذا يرد ما نقل عن بعض المالكية، أنه نقل لهم في عقد المجلس السابق عن أئمة مذهبه، أنه لا يجوز التعرض للكعبة بإصلاح شيء منها وإن تهدم وتشعث حتى يسقط، موافقةً لما مر عن آخرين قالوا ذلك من غير مذهبه.(1/55)
وسيأتي عن التقي الفاسي -وهو من أئمة المالكية- أنه حضر إصلاحات وقعت بالكعبة من غير سقوط شيء، بل لمجرد توهم الخلل، وأقرهم على فعلها، وذكر حضوره لها متبجحاً به، وأن جماعةً من القضاة والرؤساء كانوا حاضرين معه أيضاً.
فذكره ذلك كذلك، يفيد أن مذهبه جواز ذلك؛ إذ يبعد كل البعد من عالمٍ متبحرٍ مؤرخ يبين الوقائع وما اشتملت عليه من الأحكام التي يعتقدها والتي لا يعتقدها، ويبين ما في ذلك كما يعلم باستقراء تواريخه، فمع ذلك لم يبق مساغٌ لإنكار دلالة حكايته عن نفسه وغيره حضور ذلك والرضى به، على أن ذلك مذهبه ومعتقده، وحينئذٍ فهو موافق لما تقرر عن ابن بطال، [والله أعلم].(1/56)
المقصد الرابع في بيان مذهب الحنابلة في ذلك
قال صاحب ((الفنون)) منهم في ((فنونه)): ((لا بأس بتغيير حجارة الكعبة إن عرض لها مرمةٌ؛ لأن كل عصر احتاجت فيه لذلك قد فعل بها ذلك، ولم يظهر نكير على من فعله.
نعم، الحجر الأسود لا يجوز نقله من مكانه ولا تغييره؛ لأنه لم يوضع موضعه إلا بنص من النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو كبعض آيات القرآن، لا يجوز نقلها من موضعها إلى موضع آخر.
ويكره نقل حجارتها عند عمارتها إلى غيرها.
ولا يجوز أن تعلى أبنيتها زيادةً على ما وجد من علوها.
ويكره الصك فيها وفي أبنيتها إلا بقدر الحاجة)).(1/57)
وقال صاحب ((الفروع)) من أئمة متأخريهم: ((ويتجه جواز بنائها على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لولا العارض في زمنه لفعله، كما ورد مصرحاً به في خبر عائشة رضي الله عنها.
قال الإمام ابن هبيرة: فيه أنه يدل على جواز تأخير الصواب لأجل قالة الناس، وقد رأى مالك والشافعي رضي الله عنهما أن تركه أولى؛ لئلا يصير البيت ملعبةً للملوك)). اهـ.
وإذا تأملت كلام صاحب ((الفنون))، وجدته موافقاً لما قدمته من إصلاح ما وقع في الكعبة مما يحتاج لإصلاحه وترميم ما تشعث منها مما يحتاج لترميمه، وأن فعل ذلك لا يتوقف على سقوط ما وهى منها؛ لأنه احتج على ما قاله بما وقع في الأعصار من فعل نظائر ذلك في الكعبة من غير نكير، والذي وقع منهم من الإصلاحات فيها إنما كان لمجرد ظنهم خلله فبادروا لإصلاحه.(1/58)
خاتمة في ذكر أمور مبينةٍ وشارحةٍ لبعض ما سبق
أولها: قد مر أن العلماء احتجوا على جواز إصلاح ما وقع في الكعبة من ترميمٍ ونحوه مما يقتضي الإصلاح، بما وقع في الأعصار من فعله على ممر الأزمنة، مع مشاهدة العلماء وسائر المسلمين لذلك، ولم ينكره أحد منهم بلسانه ولا بقلبه [ولا بقلمه]، فدل ذلك على جواز نظير تلك الإصلاحات.
وقد ذكر الفاسي وغيره من ذلك أشياء كثيرةً جداً:
فمما ذكره قوله: ((ذكر شيء من حال الكعبة بعد بناء ابن الزبير والحجاج، وما وضع فيها من العمارة، وما عمل لها من الأساطين والميازيب والأبواب بعد ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج.
اعلم أنه لم يغير أحد من الخلفاء والملوك فيما مضى من الزمان وإلى الآن، ما بناه ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج فيما علمناه، ولو وقع ذلك لنقل؛ فإن ذلك مما لا يخفى؛ لعظم أمره.
والذي غير فيها بعدهما ميزابها غير مرة، وبابها غير مرة، كما سيأتي بيانه،(1/59)
وبعض أساطينها، وما دعت الضرورة إلى عمارته في جدرها وسقفها ودرجتها التي يصعد منها إلى سطحها، وعتبتها ورخامها، [وهو] مما حدث من الوليد ابن عبد الملك بن مروان في الكعبة بعد ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج.
ثم ذكر أن من تلك العمارات التي حدثت، ترميماً في جدر الميزاب الذي بناه الحجاج، وإصلاح ما في سقف الكعبة، فقد قال الأزرقي: وكانت أرض سطح الكعبة بالفسيفساء، أي وهو ألوان من الخرز يركب في حيطان البيوت من داخل، كما في ((القاموس))، ثم كانت تكف عليهم إذا جاء المطر، فقلعته الحجبة بعد سنة مائتين، وسدوه بالمرمر المطبوخ والجص، شيد به تشييداً.
وذكر -أيضاً- أن عتبة باب الكعبة السفلي كانت قطعتين من خشب الساج قد رثتا وتخربتا من طول الزمان عليهما، فأخرجهما مندوب الخليفة المتوكل العباسي للعمارة، سنة إحدى وأربعين ومائتين، وجعل مكانها قطعةً من خشب الساج، وألبسها صفائح الفضة، وأصلح -أيضاً- رخامتين أو ثلاثاً في جدار الكعبة.
ومن ذلك -أيضاً- عمارة سقف الكعبة والدرجة التي بباطنها، وكلاهما في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.(1/60)
وبعد ذلك بيسير، أصلح رخامها من جهة وزير صاحب الموصل.
وعمارةٌ في سنة تسع وعشرين وستمائة، من جهة المستنصر بالله العباسي، وكتب ذلك برخامة في جدرها اليماني داخلها.
وتجديد رخامها سنة ثمانين وستمائة، من جهة المظفر الرسولي صاحب اليمن، وكتب اسمه برخامة في وسط الجدار الغربي.
وبعد ذلك بيسير، ألصق رخام خشي سقوطه في بعض جدرانها من داخلها.
ومن ذلك -أيضاً- مواضع في سطحها كان يكثر وكف المطر منها إلى سفلها، منها موضع عند طابق درجة سطحها، وموضع عند ميزابها، ومواضع بقرب بعض الروازن، أي الكوات التي للضوء.
وكان إصلاح هذه المواضع بالجبس بعد قلع الرخام الذي هناك، وأعيد في موضعه، وأبدل بعضه بغيره، وأصلحت الروازن كلها بالجبس، وكانت الأخشاب المطبقة بأعلى الروازن التي عليها البناء المرتفع في سطح البيت قد تخربت، فعوضت بخشب سوى ذلك، وأعيد البناء الذي كان عليها كما كان.
وكان الروزن الذي يلي الركن اليماني منكسراً، فقلع وعوض بروزن جيد وجد في أسفل الكعبة، وأصلح في درجة السطح أخشاب منكسرة)).
قال الفاسي: ((وشاهدت كثيراً من إصلاح هذه الأمور وأنا بسطح الكعبة مع من صعد لعمل ذلك، وذلك في أيام متفرقة في العشر الأوسط من شهر رمضان، سنة أربع عشرة وثمانمائة، عقب مطر عظيم حصل بمكة.(1/61)
وبعد ذلك بنحو عشر سنين، أصلحت الروازن التي بسطح الكعبة ورخامةٌ على ميزابها؛ لأن الماء كان ينتقع عليها؛ لخراب ما تحتها، فخلعت وأزيل ما تحتها من الخراب، وأعيد إلصاقها بعد إحكام هذا الإصلاح.
وفي هذا التاريخ تخربت الأخشاب التي بسطح الكعبة، المعدة لربط كسوتها، فقلعت وعوض عنها أخشاب جيدة محكمة، وركبت فيها الحلق الحديد التي تشد بها كسوة الكعبة، ووضعت الأخشاب بسطح الكعبة في مواضعها قبل ذلك.
وفي سنة ست وعشرين وثمانمائة، أرسل السلطان برسباي من قلع الرخام الذي بين جدر الكعبة الغربي والأساطين التي بالكعبة لتخربه، وأعيد نصبه محكماً كما كان بالجص، وأصلح فيها رخامٌ آخر، وكتب اسمه وأمره بذلك في لوح رخام، مقابل باب الكعبة)).
قال الفاسي: ((ومن ذلك أن الأسطوانة التي تلي باب الكعبة، ظهر بها ميلٌ، فخيف من أمرها، فاجتمعنا بالكعبة الشريفة مع جماعة من قضاة مكة، والأمير المندوب من مصر للعمارة، وغيره من الأعيان بمكة، والعارفين بالعمارة، فكشف من فوق السارية المذكورة فوجدت صحيحةٍ، فحمدنا الله تعالى على ذلك، وردت حتى استقامت، وأحكم ذلك كما كان أولاً)).
ثم ذكر عدة الميازيب والأبواب التي غيرت مع صلاحيتها، لكن بما هو أقوى منها. اهـ حاصل كلام الفاسي.
والروازن التي ذكرها، قال بعد ذلك أنها محدثة، وعبارته: ((وفي الكعبة الآن ثلاث دعائم من ساجٍ، على ثلاثة كراسي، وفوقها ثلاثة كراسي، وعلى هذه(1/62)
الكراسي ثلاثة جوائز من ساج، ولها سقفان بينهما فرجة، وفي السقف أربعة روازن نافذةٍ من السقف الأعلى إلى السقف الأسفل للضوء)). اهـ.
وقد سدت هذه الروازن بعد الفاسي.
وقال شيخ الإسلام -الحافظ ابن حجر- رحمه الله: ((لم أقف في شيء من التواريخ على أن أحداً من الخلفاء ولا من دونهم، غير من الكعبة شيئاً مما صنعه الحجاج إلى الآن، إلا في الميزاب والباب وعتبته، وكذا وقع الترميم في جدارها غير مرة، وفي سقفها، وفي سلم سطحها، وجدد فيها الرخام .. ..
ووقع في جدارها الشامي ترميمٌ، في شهور سنة سبعين ومائتين، ثم في شهور سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ثم في شهور سنة تسع عشرة وستمائة، ثم في سنة ثمانين وستمائة، ثم في سنة أربع عشرة وثمانمائة)).
قال: ((وقد ترادفت الأخبار الآن في وقتنا هذا، في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، أن جهة الميزاب، فيها ما يحتاج إلى ترميم، فاهتم لذلك سلطان الإسلام، الملك المؤيد.
ثم حججت سنة أربع وعشرين، وتأملت المكان الذي قيل عنه فلم أجده بتلك البشاعة.
وقد رمم ما تشعث من الحرم في أثناء [سنة] خمس وعشرين، إلا أن نقض سقفها في سنة سبع وعشرين على يد بعض الجند، فجدد لها سقفاً، ورخم السطح.(1/63)
فلما كان في سنة ثلاث وأربعين، صار المطر إذا نزل ينزل إلى داخل الكعبة أشد مما كان أولاً، فأداه رأيه الفاسد إلى نقض السقف مرةً أخرى، وسد ما كان في السطح من الطاقات التي كان يدخل منها الضوء إلى الكعبة، ولزم من ذلك امتهان الكعبة، بل صار العمال يصعدون فيها بغير أدب.
فغار بعض المجاورين، فكتب إلى القاهرة يشكو ذلك، فبلغ السلطان الظاهر، فأنكر أن يكون أمر بذلك، وجهز بعض الجند لكشف ذلك، فتعصب للأول بعض من جاور، واجتمع الباقون -رغبةً ورهبةً- فكتبوا محضراً بأنه ما فعل ذلك إلا عن ملإٍ منهم، وأن كل ما فعله مصلحة، فسكن غضب السلطان، وغطى عنه الأمر.
ومما يتعجب منه، أنه لم يتفق الاحتياج في الكعبة إلى الإصلاح، إلا فيما صنعه الحجاج، إما في الجدار الذي بناه في الجهة الشامية، وإما في السلم الذي جدده للسطح والعتبة، وما عدا ذلك مما وقع فإنما هو لزيادةٍ محضة كالرخام، أو لتحسينٍ كالباب والميزاب)). اهـ كلام الحافظ.
واعترض جعله بعض السقف الجديد سنة سبعٍ وعشرين؛ بأنه سبق قلم، وإنما هو سنة ثمانٍ وثلاثين.(1/64)
وبالجملة، ففي كلامه أوضح دليل على أن الإصلاح لا ينكر إذا وجد ما يقتضيه، وإنما ينكر إذا فعل بلا مقتضٍ يدعو إليه، كما فعله ذلك الجندي بحسب رأيه الفاسد، وهذا موافق [لما قدمته و] أفتيت به.
بل في كلامه أن ما فعل للتحسين -كالباب والميزاب- لا حرج فيه؛ فإنه حكاه وأقره، وكذا الرخام؛ فإن فيه تحسيناً وتزييناً، وقد مر أن السبكي استدل بتقرير السلف لفاعله على جوازه.
ثانيها: في بيان ما للكعبة:
الذي مر عن أصحابنا، أنه يتعين صرفه لها عمارةً وبخوراً وكسوةً ووقوداً ونحوها.
اعلم أن للكعبة مالاً مرصداً لها من زمن إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم، وذلك أنه وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم لما بنياها جعلا جباً فيها على يمين داخلها، فكان فيه ما يهدى لها من حلي وذهب وفضة وغيرها.
وكانت ليس لها سقف، فعدى على ذلك الجب قومٌ من جرهمٍ فسرقوا منه مرةً بعد أخرى، فبعث الله حيةً تحرسه، فسكنت في ذلك الجب أكثر من خمسمائة سنة تحرس ما فيه، فلا يدخله أحد إلا رفعت رأسها، وفتحت فاها، وكانت ربما تشرف على جدار الكعبة.
واستمر الحال على ذلك في زمن جرهم وزمن خزاعة، وصدراً من عصر(1/65)
قريش، حتى اجتمعت قريش في الجاهلية على هدم البيت وعمارته، فجاء عقاب فاختطفها وطار بها نحو أجياد.
وروى البخاري: ((أن أبا وائل جلس مع شيبة بن عثمان -حاجبها- على الكرسي، فقال له: لقد جلس هذا المجلس عمر رضي الله عنه فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته. قلت: إن صاحبيك لم يفعلا، قال: هما المرءان أقتدي بهما)).
قال المحب الطبري: ((لما أخبره شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر لم يتعرضا للمال، رأى عمر أن ذلك هو الصواب، وكأنه رأى حينئذٍ أن ما جعل في الكعبة يجري مجرى الوقف عليها، فلا يجوز تغييره، أو رأى ترك ذلك تورعاً، حين أخبره شيبة أن صاحبيه تركاه، وإن كان رأيه إنفاقه في سبيل الله؛ لأنهما إنما تركاه(1/66)
للعذر الذي تضمنه حديث عائشة)). اهـ.
أي: فتركه صلى الله عليه وسلم إنما هو رعاية لقلوب قريش، كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم لذلك.
وأيده شيخ الإسلام -الحافظ ابن حجر- برواية مسلم في خبر عائشة رضي الله عنها: ((لولا [أن] قومك حديثو عهد بجاهلية .. .. )) الحديث، وفيه: ((ولأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض)).
قال: ((وعليه، فإنفاقه جائز، كما جاز لابن الزبير رضي الله عنهما بناؤها على قواعد إبراهيم؛ لزوال سبب الامتناع)). اهـ.
فإن قلت: هذا ينافي ما مر عن أصحابنا أنه لا يجوز صرف شيء من مال الكعبة الذي أهدي لها إلى شيء من المصالح الخارجة عنها، فما جوابهم عن ذلك؟
قلت: يمكن أن يجاب من جهتهم عن ذلك، بأن ترك أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وبقية الخلفاء الراشدين لأخذه وإنفاقه في سبيل الله تعالى، مع شدة احتياجهم إليه، ومع زوال ذلك المعنى الذي خشيه صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد موته، فيه أظهر دليل على أنهم علموا بنص أو قياس أن ذلك مستحق للكعبة فلا يصرف في غيرها، ويكون تركه صلى الله عليه وسلم لإنفاقه بعد زوال ذلك المعنى كالنسخ لما دل عليه خبر عائشة.(1/67)
ومما يدل على أن حكم ما أهدي للكعبة بعد الإسلام حكم كنزها في تعين صرفه لها دون غيرها، ما صح عن شقيق قال: ((بعث معي رجلٌ بدراهم هديةً إلى البيت، فدخلته، وشيبة -أي ابن عثمان- جالس على كرسي، فناولته إياها، فقال: ألك هذه؟ قلت: لا، ولو كانت لي لم آتك بها. قال: أما إن قلت ذلك، لقد جلس عمر بن الخطاب مجلسك الذي أنت فيه فقال: لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة بين فقراء المسلمين، فقلت: ما أنت بفاعل، قال: ولم؟ قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مكانه وأبو بكر -وهما أحوج منك إلى المال- ولم يخرجاه، فقام كما هو وخرج)).
قال الأزرقي: وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في الجب الذي كان في الكعبة سبعين ألف أوقية من ذهب، مما كان يهدى للبيت، وأن علياً رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال: يا رسول الله، لو استعنت بهذا المال على حربك فلم يحركه، ثم ذكر لأبي بكر رضي الله عنه فلم يحركه.
وعن بعض الحجبة: أن ذلك المال بعينه كان موجوداً بالكعبة سنة ثمانٍ وثمانين ومائةٍ، ثم لم يدر حاله بعد.
وحكى الأزرقي عن مشيخة أهل مكة وبعض الحجبة: أن الحسن بن الحسين العلوي، عمد إلى خزانة الكعبة في سنة مائتين [في الفتنة]، حين أخذ(1/68)
[الطالبيون] مكة، فأخذ منها مالاً عظيماً ونقله إليه، وقال: ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعاً لا تنتفع به؟! نحن أحق به، نستعين به على حربنا.
وروي أن مالها لم يخالط قط مالاً إلا محق، وأدنى ما يصيب آخذه أن يشدد عليه عند الموت.
ثالثها: في بسط ما سبق من بناء ابن الزبير رضي الله عنهما:
اعلم أن الكعبة المعظمة بنيت مراتٍ عشرة أو إحدى عشرة، على ما روي:
بناء الملائكة، فآدم، فأولاده، فإبراهيم، فالعمالقة، فجُرْهم، فقصي بن كلاب، فعبد المطلب -لكن قال الفاسي: أخشى أن هذا (أي بناء عبد المطلب) وهم- فقريش، فابن الزبير، فالحجاج لكن لبعضه.
والذي صح من ذلك بناء سيدنا إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم، ثم قريش، ثم ابن الزبير، ثم الحجاج.
وما قبل بناء إبراهيم لم يصح فيه شيء، ومن ثم قال الحافظ ابن كثير: ((لم(1/69)
يجيء في خبر صحيح عن معصوم أن البيت كان مبنياً قبل الخليل، ومن تمسك في هذا بقوله تعالى: {مكان البيت} فليس بناهض ولا ظاهر؛ لأن المراد مكانه الكائن في علم الله، المعظم موضعه عند الأنبياء، من لدن آدم إلى زمن إبراهيم.
وقد ذكر أن آدم -صلوات الله وسلامه عليه- نصب قبةً عليه، وأن الملائكة قالوا له: لقد طفنا قبلك بهذا البيت، وأن السفينة طافت به أربعين يوماً.
وكل ذلك -ونحوه- أخبار عن بني إسرائيل، وهي لا تصدق ولا تكذب، فلا يحتج بها)).
وسبب بناء إبراهيم -على ما ذكروه-:
أن موضع الكعبة كان الطوفان أخفاه؛ فإنه كان أكمةً حمراء مدورةً، لا تعلوها السيول، غير أن الناس -الأنبياء وغيرهم- يعلمون مظنته ويقصدونه، فيستجاب للمظلوم ثم، ويحجونه، حتى بوأه الله لإبراهيم، فقال لولده إسماعيل -حين أتاه المرة الثالثة-: يا إسماعيل، إن الله تعالى أمرني بأمر، فقال له إسماعيل: أطع ربك فيما أمرك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: أمرني ربي أن أبني له بيتاً، فقال له إسماعيل: وأين هو؟ فأشار إلى أكمةٍ مرتفعةٍ، عليها رضراض من حصباء، يأتيها السيل من نواحيها ولا يركبها.(1/70)
فقاما يحفران عن القواعد ويقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}. ويحمل له إسماعيل الحجارة على رقبته، ويبني إبراهيم، فلما ارتفع البناء، وشق على إبراهيم التناول، قرب له إسماعيل هذا الحجر، يعني المقام، فكان يقوم عليه ويبني، ويحوله في نواحي البيت، حتى انتهى إلى وجه البيت، فلذلك سمي مقام إبراهيم؛ لقيامه عليه.
وعن مجاهد: إن الدال لإبراهيم على موضع البيت: ملكٌ، وصرد -بضم ففتح- طائرٌ ضخم الرأس فوق العصفور، والسكينة، وكان لها رأس كرأس الهرة وجناحان.
وفي رواية: كأنها غمامة أو ضبابةٌ -أي سحابة- تغشى الأرض كالدخان، في وسطها كهيئة الرأس، تتكلم، وكانت بمقدار البيت، فوقفت في موضعه، ونادت: ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي.(1/71)
وفي رواية: تطوقت -كأنها حية- على الأساس. ولكون السكينة من شأن الصلاة، جعلت علماً على قبلتها.
وفي رواية: إن الغمامة لم تزل راكزةً تظل إبراهيم، وتهديه مكان القواعد، حتى رفعها قامةً، ثم انكشفت.
وفي رواية: إنه لما حفر رأى صخراً، لا يحرك الواحدة إلا ثلاثون رجلاً، وكان يبني كل يوم مدماكاً.
وفي رواية: لم يبنياه بقصةٍ ولا مدر، بل رضماه رضماً فوق القامة ولم يسقفاه.
وبنياه من خمسة أجبلٍ، فكانت الملائكة تأتي بحجارتها، وهي: طور سيناء،(1/72)
وطور زيتا بالشام، والجودي بالجزيرة، ولبنان وحراء وهما بالحرم. قاله السهيلي. واعترض بأن لبنان لا يعرف بالحرم.
وحكمة كونها من خمسة، أنها قبلة للصلوات الخمس، ومن ثم روي: أن إسكندر الأول قدم وطلب منهما البينة أنهما أمرا بذلك، فنطق خمسة أكبش بالشهادة لهما بأنهما مأموران بذلك.
ولما انتهى إبراهيم لموضع الحجر، طلب من إسماعيل حجراً يكون ابتداء الطواف منه، ففي رواية: نزل به إليه جبريل من الجنة.(1/73)
وفي أخرى: أن أبا قبيس استودعه الله إياه، وأمره أنه إذا رأى الخليل يبني البيت، يعطيه، فناداه أبو قبيس، فصعد وأخذه منه، ووضعه بمحله الذي هو [به] الآن.
قيل: وكان يتلألأ لشدة بياضه، ويضيء إلى حدود الحرم من سائر نواحيه، فقيل: سودته خطايا بني آدم، وقيل: لحريق(1/74)
أصابه مراتٍ، جاهليةً وإسلاماً.
وجعل إبراهيم طول البيت في السماء تسعة أذرع، وعرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعاً، من الركن الأسود إلى ركن الحجر -بكسر أوله- من وجه الكعبة، وما بين الركنين الشاميين اثنين وعشرين ذراعاً، وطول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني أحداً وثلاثين ذراعاً، وما بين اليمانيين عشرين ذراعاً، فلذلك سميت الكعبة، لأنها على خلقة الكعب، وكذا بنيان أساس آدم صلى الله عليه وسلم .
ولم يجعل لمنفذها باباً، فأول من أحدثه بغلقٍ فارسي -كالكسوة التامة والبخور- تبع بن أسعد الحميري، وجعل إبراهيم الحجر -بكسر أوله- إلى جنبها عريشاً من أراك، تقتحمه العنز، وكان زرباً لغنم إسماعيل.
وحفر إبراهيم جباً في بطنها على يمين داخلها، يكون خزانة لها، يلقى بيه ما يهدى لها، كما مر.
(تنبيه): قال تعالى: {فيه آياتٌ بيناتٌ مقام إبراهيم} الآية، أي علامات واضحات، منها مقام إبراهيم، أي الحجر الذي قام عليه عند بنائه، وخص بالذكر؛ لأنه آية باقية على ممر الأعصار، ولأن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما قام عليه ليرفع قواعد البيت، طال البناء، فكان كلما علا الجدار ارتفع الحجر به في الهواء،(1/75)
فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين، حتى كمل الجدار.
ولين الله الحجر فغرقت فيه قدما إبراهيم كأنهما في طين، فذلك الأثر باقٍ إلى يوم القيامة، وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار، فما حفظ منازع فيه.
وما ذكر من أن إسماعيل كان يناوله الحجارة والطين، ينافيه ما مر أن إبراهيم لم يبنها بمدرٍ ولا قصةٍ، وإنما رضمها رضماً، ومن ثم أخذ منه بطلان ما على ألسنة العامة، أن الحفرة الموجودة الآن بين الحجر -بكسر أوله- وباب البيت كانت معجنةً للطين الذي بنى به إبراهيم.
وقد يجمع بأنه يحتمل أنه جعل الطين في أسفل جدارها؛ زيادةً في إحكامه، ثم رضم الباقي.
وأخذوا من قوله تعالى: {مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً} اللذين وقعا: تفسيراً لتلك الآيات، لكن الثاني ليس تفسيراً إضافياً، بل معنوياً، وكأنه قيل: وأمن داخله.
وفسر الجمع باثنين؛ لأنهما نوع منه كالثلاثة، أن الضمير في {فيه} وإن كان للبيت، لكن المراد الظرفية المجازية؛ لتعذر حملها على الحقيقة المستلزمة أن لا يذكر إلا ما كان دخل جدرانه، وجعلا مثالاً لما في الحرم من الآيات؛ لقيام(1/76)
الحجة بهما على الكفار، ولإدراكهم لهما بحواسهم، وتذكيراً لهم بما اختصوا به جاهلةً من احترام هذا البيت، وأمن جميع من في حرمه من كل مكروه.
وقيل: المقام نفسه مشتمل على آيات، وهي إلانة الصخرة الصماء، والغوص فيها إلى الكعبين، وإلانة بعضها دون بعض، وبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة.
وقيل: المراد بالمقام المناسك ونحوها، وهو بعيد جداً.
وأما سبب بناء قريش:
فهو أن امرأةً جمرتها، فطارت من مجمرتها شرارةٌ فاحترقت كسوتها، وكانت متراكمةً بعضها فوق بعض، فوهنت حجارتها وتصدعت، ثم زاد ذلك سيلٌ عظيم دخلها، ففزعت قريش، وهابوا هدمها؛ خشية عذابٍ يصيبهم.
فبينما هم يتشاورون في ذلك، أقبلت سفينة من الروم فانكسرت بالشعيبة، -بضم الشين المعجمة، ساحل مكة قبل جدة- فذهبوا واشتروا خشبها، وكان فيها نجارٌ بناء، فأتوا به لبنائها.
قيل: ولما هابوا هدمها، قال الوليد: إن الله لا يهلك من يريد الإصلاح، فارتقى على ظهرها ومعه الفأس، فقال: اللهم لا نريد إلا الإصلاح، ثم هدم، فلما رأوه سالماً تابعوه.
وروي أنهم كانوا كلما أرادوا هدمها، بدت لهم حيةٌ فاتحةٌ فاها، فبعث الله طيراً أعظم من النسر، فغرز مخالبه فيها، فألقاها نحو أجياد، فهدموها، وبنوها بالحجارة التي في الوادي، فرفعوها في السماء عشرين ذراعاً،(1/77)
وقيل: ثمانية عشر، وكان سبعةً وعشرين، ونقصوا من عرضها ستة اذرعٍ أو سبعةً أدخلوها في الحجر؛ لنفاد نفقتهم؛ لاتفاقهم على أنهم لا يبنونها إلا من الكسب الطيب الذي لا يشوبه مظلمةٌ ولا مهر بغي ولا بيع ربا.
وحضر صلى الله عليه وسلم هذا البناء، وكان ينقل معهم الحجارة، وعمره خمسة وثلاثون سنةً على الأصح.(1/78)
ولما وصلوا لمحل الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يضعه، حتى رضوا بأول داخل؛ فكان هو صلى الله عليه وسلم ، فحكموه فيه، فوضعه بيده الكريمة.
(تنبيه): البيت المعمور الذي أقسم الله تعالى به في كتابه، هو الكعبة، أو ما هي على حياله، وهو الذي في السماء السابعة.
عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((البيت المعمور الذي في السماء، على البيت الحرام، لو سقط سقط عليه، يعمره كل يومٍ سبعون ألف ملك لم يروه قط)).(1/79)
وروي: ((هذا البيت خامس خمسة عشر بيتاً، سبعة منها في السماء إلى العرش، وسبعة منها إلى تخوم الأرض، وأعلاها الذي يلي البيت المعمور، لكل بيت منها حرمٌ كحرم هذا البيت، لو سقط منها بيت لسقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السفلى، ولكل بيت من أهل السماء ومن أهل الأرض من يعمره كما يعمر هذا البيت)).
قال الزمخشري: ((اختلفوا في البيت المعمور وفي مكانه، فقيل: هو البيت الذي بناه آدم أول ما نزل إلى الأرض، فرفع إلى السماء أيام الطوفان.
وقال ابن عباس والحسن: البيت المعمور هو الذي بمكة، معمور بمن يطوف به.
وكان بعض السلف يقسم بالله، إنه البيت المعمور.
وقد يجاب بأنه لا تنافي بين هذا وما مر؛ لأن البيت المعمور يطلق بالاشتراك على الذي في السماء السابعة -وهو الأشهر- وعلى الكعبة.
وفي ((منهاج الحليمي)): أنه أهبط مع آدم عليه السلام بيتٌ، فكان يطوف(1/80)
به والمؤمنون من ولده كذلك إلى زمان الغرق، ثم رفعه الله، فصار في السماء، وهو الذي يدعى البيت المعمور.
ومعنى إهباط بيت معه: أنه أهبط مقدار البيت المعمور طولاً وعرضاً وسمكاً، ثم قيل له: ابن بقدره وحياله، فكان حياله موضع الكعبة، فبناها فيه)).
قال: ((وأما الخيمة -أي التي أنزلها الله لآدم من ياقوت الجنة ليتسلى بها- فيجوز أن تكون أنزلت، فضربت في موضع الكعبة، فلما أمر ببنائها فبناها، كانت حول الكعبة؛ طمأنينةً لقلب آدم ما عاش، ثم رفعت، فتتفق الأخبار)). اهـ.
وأما سبب بناء ابن الزبير رضي الله عنهما:
فهو أن يزيد بن معاوية أرسل مسلم بن عقبة مع جماعة من أهل الشام لقتال أهل المدينة، فلما فرغ من ذلك توجه إلى مكة لابن الزبير؛ لتخلفه عن بيعة يزيد، فلما أشرف على الموت في أثناء الطريق، ولى الحصين لقتال ابن الزبير بمكة،(1/81)
فلما قاتله بها أياماً، جمع ابن الزبير أصحابه، فتحصن بهم في المسجد، واستظلوا فيه بخيام عن الشمس وحجارة المنجنيق المنصوب عليهم بأبي قبيس ومقابله.
وكانت حجارته تصيب الكعبة حتى تخرقت كسوتها عليها، ووهنت حجارتها، فطارت شرارةٌ من الخيام المقابلة لما بين اليمانيين أو من بعض أهل الشام، والمسجد حينئذٍ ضيقٌ صغير، فاحترفت الكعبة لشدة الريح مع كون بنائها مدماكاً من حجر، ومدماكاً من ساج، من أسفلها إلى أعلاها.
فلما احترق ما بينهما من الساج، ضعفت، حتى إن حجارتها لتتناثر من وقع الحمام عليها، وتصدع الحجر الأسود حتى ربطه ابن الزبير بعد ذلك بالفضة، ففزع لذلك أهل مكة والشام.
وجاء نعي يزيد بعد حرقها بتسعة وعشرين يوماً، والحصين مستمر على حصار ابن الزبير، فأرسل ابن الزبير إليه من كلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة، وأنه من رميهم بالنفط، فأنكر، ثم لم يزالوا به حتى ترك، ورحل في ربيع الآخر، سنة أربع وستين.
فدعى ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم، فاستشارهم في هدمها، فأشار عليه القليل من الناس، وأبى الكثير، وكان أشدهم إباءً عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال: دعها على ما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى، فيتهاون الناس بحرمتها، ولكن ارقعها. فقال ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أمه وأبيه، فكيف أرقع بيت الله؟!
واستقر رأيه على هدمها، وكان يحب أن يكون هو الذي يردها على قواعد(1/82)
إبراهيم صلى الله عليه وسلم ؛ لما بلغه ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى الوصف الذي وصفه صلى الله عليه وسلم لعائشة.
فأراد أن يبنيها بالورس، فقيل له: إنه يذهب، فابنها بالقصة، وإن قصة صنعاء أجودها، فأرسل بأربعمائة دينار لشرائها وكرائها، ثم سأل رجالاً من أهل العلم بمكة: من أين أخذت قريش حجارتها؟ فأخبروه بمقلعها، فنقل منها ما يحتاجه، وكان قد عزل من حجارة البيت ما يصلح أن يعاد فيه.
وعند إرادته هدمها، خرج أهل مكة إلى منى، وأقاموا بها ثلاثاً؛ خوفاً أن يصيبهم عذاب لهدمها.
فأمر ابن الزبير بهدمها، فلم يجترئ على ذلك أحد، فعلاها بنفسه وهدمها بمعول، ورمى حجارتها، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء، صعدوا وهدموها.
وأرقى ابن الزبير عبيداً حبوشاً يهدمونها؛ رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : ((يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة)).
ولما هدموها وحضروا اتبعوا قواعد إبراهيم من نحو الحجر فلم يروها، فشق عليه، فأمعنوا حتى رأوها، فنزل، فكشفوا له عنها، فأرادوا تحريكها، فوجدوها مرتبطاً بعضها ببعض، فأحضر الأشراف حتى رأوها، فأشهدهم على ذلك.(1/83)
قال عطاء: وكان طولها ثمانية عشر ذراعاً، فزاد ابن الزبير في طولها عشرة أذرع. وقال غيره: طولها عشرون، والزيادة تسعة أذرع.
وأجيب باحتمال أن الراوي جبر الكسر.
ولما بناه جعل له بابين لاصقين بالأرض؛ ليدخل الناس من باب، ويخرجوا من آخر فلا يزدحمون.
وأما بناء الحجاج لبعضها:
فسببه: أنه لما قتل ابن الزبير، كتب الحجاج لعبد الملك يخبره بزيادة ابن الزبير على بناء قريش، فأرسل يأمره ببقاء ما زاده في الطول، ورد ما زاد فيه من الحجر إلى حاله الذي كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وسد بابه الذي فتحه.
ففعل الحجاج ذلك، فهدم جدار الحجر، وأخرج منه ما أدخله ابن الزبير، وبنى سقفها الذي يلي ذلك الجدار، ورفع بابها الشرقي، وسد بابها الغربي، ولم يغير منها سوى ذلك؛ ظناً منه -كعبد الملك- أن ردها على ما كانت عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو صورتها الموجودة إلى الآن- هو الصواب.
لكن بعد ذلك ندم عبد الملك على إذنه للحجاج في ذلك، ولعنه؛ لأن(1/84)
الحارث لما وفد عليه في خلافته، فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب –يعني ابن الزبير- سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، أي: وهو روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه لولا حدثان كفر قريشٍ وجاهليتهم وخوف الفتنة عليهم، لهدمها صلى الله عليه وسلم وردها إلى بناء إبراهيم، فجعل لها بابين لاطئين بالأرض، وأدخل فيها من الحجر ستة أو سبعة أذرع.
فقال الحارث لعبد الملك: بلى، أنا سمعت ذلك من عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان الحارث مصدقاً لا يكذب، فقال عبد الملك: أنت سمعتها تقول ذلك؟ قال: نعم، فنكت ساعةً بعصاه، وأظهر له أن ما فعله ابن الزبير هو الصواب، وقال: وددت أني تركته وما عمل.
من ثم أراد هارون -أو أبوه أو جده- أن يهدم ما فعله الحجاج، وأن يعيدها إلى بناء ابن الزبير، لكن عارضه مالك رضي الله عنه، وقال له: نشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبةً للملوك، لا يشاء أحدٌ منهم هدمه إلا نقضه وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس، وهو موافق لابن عباس رضي الله عنهما [في ذلك؛ لأنه قال ذلك بحروفه لابن الزبير](1/85)
لما أراد هدمها.
ولما قال مالك للخليفة ذلك، ترك التعرض لها، واستمرت على ما هي عليه اليوم، وكان في ذلك أعظم احترام وأبلغ هيبةٍ، ببقاء البيت على حاله، وعدم تسور أحد عليه من الملوك وغيرهم بما يخالف ذلك.
وإنما الذي تسوروا عليه، هو إصلاح ما وقع فيه بقدر الحاجة لا غير، وتجديد ما لا يخل بحرمته، من إبدال بابه وميزابه وعتبته ونحوها، المرة بعد المرة.
فلله سبحانه الحمد على ذلك، بل في نفوس عامة المسلمين اليوم من عظمة الكعبة وجلالتها، ما قضى في هذه القضية السابقة في الخطية، فإنهم أرادوا رجم من يريد إصلاح شيء ضروري في سقفها، لولا دفع الله تعالى ذلك حتى أصلح ما في السقف من الاختلال، أعاذنا الله من كل فتنة ومحنة، بمنه وكرمه، آمين.
(تنبيه): عد العلماء من جملة الآيات البينات المذكورة في قوله تعالى: {فيه آياتٌ بيناتٌ} بقاءً بنائه الذي بناه ابن الزبير إلى الآن، ولا يبقى غيره هذه المدة الطويلة، على ما يذكره المهندسون؛ لأن الأرياح والأمطار إذا تواترت على مكانٍ خرب، والكعبة المعظمة ما زالت الرياح العاصفة والأمطار العظيمة تتوالى عليها منذ بنيت وإلى تاريخه، [و] لم يحدث بحمد الله تعالى تغيير في بنائها.
وروي أن الحجاج لما نصب المنجنيق على أبي قبيس بالحجارة والنيران، واشتعلت أستار الكعبة بالنار، جاءت سحابة من نحو جدة يسمع فيها الرعد ويرى(1/86)
البرق، فمطرت، فما جاوز مطرها الكعبة والمطاف، فأطفأت النار، وأرسل الله عليهم صاعقةً فأحرقت منجنيقهم فتداركوه.
قال عكرمة: وأحسب أنها أحرقت تحته أربعة رجال، فقال الحجاج: لا يهولنكم هذا؛ فإنها أرض صواعق، فأرسل الله صاعقةً أخرى فأحرقت المنجنيق، وأحرقت معه أربعين رجلاً، وذلك في سنة ثلاث وسبعين، أيام عبد الملك.
وسيأتي أن الحجاج ما قصد التسلط على البيت، وإنا تحصن به ابن الزبير، ففعل ذلك لإخراجه.
(تتمة): صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يخرب البيت ذو السويقتين من الحبشة))؛ أي له ساقان دقيقان، فالتصغير لذلك، وأنه أفحج الساقين، وهو بفاءٍ فمهملةٍ فجيمٍ: من يتقارب صدرا قدميه، ويتباعد عقباه، وتنفرج ساقاه.
وورد أنه لا يستخرج كنزها إلا هو، وأنه أزرق العينين، أفطس الأنف، كبير البطن، وأنه وأصحابه ينقضونها حجراً حجراً، ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر.(1/87)
(تنبيه): هذا الهدم يكون في زمن عيسى صلى الله وسلم على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، فيأتي إليه الصريخ فيبعث إليه، قاله الحليمي.
وقال غيره: بل يكون بعد موته، وبعد رفع القرآن، وصححه بعض المتأخرين.
ويؤيده حديث البخاري: ((ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج)).
فإن قلت: هل يمكن الجمع بين القولين بتقدير صحتهما؟
قلت: يمكن؛ إذ يحتمل أنه يهدم في زمن عيسى، فيبعث إليه فيهرب، ثم بعد موته ورفع القرآن يعود ويكمل هدمه؛ إشارةً إلى رفع معالم الدين من أصلها، وأنه لم يبق في الأرض منها بقيةٌ أصلاً، بل لم يبق في الأرض على ظهرها من يقول: الله، الله.
ولذا جاء في رواية أنه لا يعمر بعد ذلك أبداً.(1/88)
وفي أخرى: عن علي كرم الله وجهه: قال الله تعالى: إذا أردت أن أخرب الدنيا، بدأت ببيتي فخربته، ثم أخرب الدنيا على أثره.
قال ابن رجب الحنبلي: ((فدل خبر النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا البيت يحج ويعتمر بعد خروج يأجوج ومأجوج، ولا يزال كذلك حتى تخربه الحبشة، وتلقي حجارته في البحر، وذلك بعد أن يبعث الله ريحاً طيبةً تقبض أرواح المؤمنين كلهم، فلا يبقى في الأرض مؤمنٌ، ويسرى بالقرآن من الصدور والمصاحف فلا يبقى في الأرض قرآن ولا إيمان ولا شيء من الخير، فبعد ذلك تقوم الساعة)). اهـ.
وعلم مما نقل عن علي كرم الله وجهه أن هذا التخريب لا ينافي قوله تعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً}، ولا الخبر الصحيح: ((إني أحلت لي(1/89)
مكة ساعةً من نهار، ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة))؛ لما تقدم أن تخريبه مقدمةٌ لخراب الدنيا.
فكونه آمناً محرماً إنما هو قبل ذلك، على أن الحكم بالحرمة والأمن باقٍ إلى يوم القيامة، وكذا وجودهما بالفعل، لكن باعتبار أغلب أوقاته، وإلا فكم وقع فيه من قتال وإخافةٍ لأهله، جاهليةً وإسلاماً، في زمن ابن الزبير وبعده إلى زمننا.
ولو لم يكن من ذلك إلا وقعة القرامطة سنة [سبع] عشرة وثلاثمائة:
قدم سليمان أبو طاهر القرمطي في عسكرٍ يوم التروية، فنهبوا أموال الحاج، وقتلوهم في المسجد وفي البيت الحرام، وقلع الحجر الأسود، وأرسله إلى بلاد الحسا والقطيف، وقتل أمير مكة، وقلع باب الكعبة، وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن البقية في المسجد بلا غسل ولا صلاة.(1/90)
وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه، ونهب دور مكة، ثم رد الحجر بعد مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة.
وإنما حرست الكعبة من الفيل دون الحجاج ونحوه؛ لأن هذا بعد استقرار الدين، فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة، فجعل المنع آيةً لتأسيسها.
فالجواب بأن الحجاج ما قصد التسلط على البيت، بل الاحتيال لإخراج ابن الزبير، فيه نظر، على أنه منتقضٌ بفعل هذا الملحد القرمطي؛ فإنه لم يقصد إلا التسلط على البيت وأهله.
وأجيب -أيضاً- بأن ما وقع فيه في الإسلام من القتال ونهب الأموال، إنما كان بأيدي المسلمين، فهو مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم : ((ولن يستحل هذا البيت إلا أهله))، فوقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم ، وهو من علامات نبوته.
وإثبات الأهلية والإسلام لأولئك الفجرة الذي جسروا على حرمة البيت، إنما هو باعتبار الغالب، فلا ينافي كفر الحجاج عند طائفة من العلماء، وهو الصواب إن صح ما نقل عنه، أنه رأى جماعةً محدقين بالحجرة [الكريمة] النبوية -على مشرفها أفضل الصلاة والسلام-(1/91)
لزيارته، فقال: ما بال هؤلاء؟! وهل يطوفون إلا بعظام بالية؟!
وحكي عنه قبائح أخرى نحو ذلك.
ولا ينافي -أيضاً- الحكم على القرامطة بالكفر والإلحاد لأنهم من الإسماعيلية الذين هم أقبح كفراً، وأسخف عقلاً، من [كثير من] الملل الفاسدة؛ لاستحلالهم -مع شناعة رأيهم وإلحادهم- نكاح المحارم، ومثابرتهم عليه.
واعلم أن الصحيح الذي صرحت به الأحاديث الصحيحة، أن صيرورة مكة وحرمها آمناً من الجبابرة والخسف ونحوهما، كان منذ خلق الله السموات والأرض، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم إنما أظهر حرمتها -بسؤاله المذكور في القرآن- لما اندرس البيت من الطوفان ونسي حكمه وهجر.
أو أنه لم يسأل إلا أمناً مخصوصاً، كالأمن من الجدب والقحط، أي القاتل، وإلا فكم وقع بها من جدب لا يطاق.
(تنبيه آخر): صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض، وأن المسجد الأقصى وضع بعده بأربعين سنة، ولا ينافيه ما صح أن سليمان بنى الأقصى مع أن بينه وبين إبراهيم صلى الله عليه وسلم -الباني للمسجد الحرام بنص القرآن- أكثر من ألف سنة؛ لأن سليمان مجدد لا منشئ، وكذا أبوه داود صلى الله عليهما وسلم، والمنشئ إما إبراهيم، وإما يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كما ورد، ولا إشكال حينئذ.(1/92)
وعلى أن آدم صلى الله عليه وسلم بنى الكعبة، يحتمل أنه أو بعض أولاده بنوا الأقصى بعدها بأربعين سنةً، وعلى أن الملائكة بنوها، يحتمل أنهم بنوها أولاً، ثم الأقصى بعد الأربعين.
وعلى هذه الأقاويل كلها، يكون قوله: {إن أول بيتٍ وضع للناس} على ظاهره، وهو ما عليه جمهور العلماء، وصححه النووي.
وقيل: كان قبله بيوتٌ كثيرة، لكنه أول بيت وضع بقيد البركة والهدى والرحمة، ونقل [ ... ذلك] عن علي كرم الله وجهه، وأعاد علينا من بركات علومه ومعارفه؛ إذ هو مدينتها، وكذلك من بقية علوم ومعارف الضجيعين، وثالثهما ذي النورين، وبقية العشرة المبشرين بالجنة، وسائر الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، والعلماء العاملين، والأولياء الصالحين، من أهل السموات وأهل الأرضين، يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك -أفضل صلاةٍ وأفضل سلامٍ وأفضل بركة- على أفضل خلقك محمد، وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، عدد معلوماتك، ومداد كلماتك، أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
{سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلامٌ على المرسلين. والحمد لله رب العالمين}.
قال مؤلفه -سيدنا ومولانا، شيخ مشايخ الإسلام، ملك العلماء(1/93)
الأعلام، خادم العلم الشريف، جمال بلد الله الحرام المطهر المنيف، أحمد بن حجر الأنصاري الشافعي الهيتمي، رحمه الله رحمةً واسعةً، وغفر له مغفرةً جامعةً، بمنه وكرمه، آمين-:
فرغت من كتابته يوم الخميس، خامس شهر ربيع الثاني، سنة تسع وخمسين وتسعمائة، أحسن الله ختامها في خير وعافية، آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة يوم السبت، لخمسٍ مضين من شهر جمادى الأولى الذي هو من شهور سنة ألف ومائتين وتسعٍ وتسعين، من هجرة من له العز والشرف، صلى الله عليه وسلم .
ونقلت لجناب مولانا الأستاذ الشيخ محمد حسب الله، عفا الله عنه، آمين.(1/94)