المقدمات العشر
في نقض أصول صوفية العصر
تقديم
فضيلة الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
إعداد
عبدالعزيز بن ريس الريس
1426 هـ
تقديم
معالي الشيخ الدكتور/ صالح بن فوزان الفوزان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله – وبعد : فقد تصفحت هذا الكتاب ( المقدمات العشر في نقض أصول صوفية العصر ) لفضيلة الشيخ: عبدالعزيز بن ريس الريس – وفقه الله - ، فوجدتها مقدمات مفيدة لمن هدفه معرفة الحق والعمل به .
فجزاه الله خيراً .
كتبه
صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء
28 / 4 / 1426 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته................................. أما بعد ،،،
فإن من الملاحظ محاولة استرجاع الصوفية نشاطهم وإفسادهم لعامة المسلمين باسم العبادة وصدق التدين بعد أن كسرت شوكتهم ونكست رايتهم ، حتى إن شبابهم الناضج العاقل يتسابقون في البراءة من التصوف والتمسك بما عليه علماء السنة السلفيون من معتقد وطريقة سنية سلفية إلا بعض من حرم الهداية ، وإن من أعظم أسباب عودة كثيرين من التصوف إلى السنة السلفية أمرين:
1/ قوة دعوة علماء السنة السلفيين وشبابهم إلى التوحيد والسنة وترك الشرك والبدعة ، وذلك بإلقاء المحاضرات في شتى وسائل الإعلام وتوزيع الكتب والأشرطة في تقرير التوحيد والتحذير من الشرك ووسائله ومن البدعة ، فإن الباطل يضعف ويتبدد بظهور الحق كما قال تعالى ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)
فلما اشتغل بعض شباب السنة بما يضر أو بما لا ينفع-على أقل تقدير- كفقه الجرائد والمجلات والقنوات المسمى– عند بعضهم – بفقه الواقع ومناطحة الحكام والرؤساء حصلت مفاسد ، أذكر بعضها المتعلق بموضوعنا :(1/1)
الأولى/ أنهم غفلوا عن دعوة السلف وهي الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك ووسائله ، ومن البدع بل ضعف تعلمهم لها والغيرة عليها .
الثانية/ أن كثيراً من الشباب المتحمس شحنت نفسه على الحكام والرؤساء فناطحهم وشاقهم أمرهم فتسلط عليهم بعض الحكام بالسجن والإقصاء عن الدعوة لا الدعوة إلى الله بل إلى طريقتهم الثورية الإفسادية وإلا كانوا من قبل يدعون إلى التوحيد بحكمة وروية ولم يتعرض لهم في الغالب .(1/2)
الثالثة/ أن كثيراً من الشباب المتحمس شحن فاندفعت نفسه إلى ما سموه جهاداً وهو القتال الذي لم تتوافر فيه شروطه الشرعية وإلا فإن الجهاد الحق من أعظم القرب والطاعات فلما ذهبوا خلا الميدان من الجهاد الأعظم وهو جهاد أهل البدع من الصوفية والشيعة بالرد عليهم وتفنيد شبههم الساقطة ودعوة الناس إلى عدم الاغترار بهم فإن جهاد أهل البدع بالرد والدحض لشبهاتهم أعظم من جهاد العدو الكافر في أرض المعركة قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام : المتبع للسنة كالقابض على الجمر وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله(1). وقال الإمام ابن القيم: وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو ؛ لأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس ، وأما تبليغ السنن ، فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم – جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه - ، وهم كما قال فيهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في خطبته التي ذكرها ابن وضاح في كتاب " الحوادث والبدع "له قال" الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، ويحيون بكتاب الله أهل العمى ، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وضال تائه قد هدوه ، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد ، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ، يقتلونهم في سالف الدهر وإلى يومنا هذا ، فما نسيهم ربك ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) جعل قصصهم هدى ، وأخبر عن حسن مقالتهم ، فلا تقصر عنه ، فإنهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم الوضيعة " وقال عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – " إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً من أوليائه يذب عنها ، وينطق بعلاماتها ، فاغتنموا حضور تلك المواطن ، وتوكلوا على الله " ا.هـ(2).
__________
(1) خرجه أبو عثمان الصابوني في عقيدة السلف .
(2) جلاء الأفهام ص582-583 .(1/3)
وقال: ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان ، وهذا المشارك فيه كثير ، والثاني: الجهاد بالحجة والبيان ، وهذا جهاد الخاصة من اتباع الرسل ، وهو جهاد الأئمة ، وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه ، قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية ( وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين ، وهو جهاد المنافقين أيضاً ، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين ، بل كانوا معهم في الظاهر ، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم ومع هذا فقد قال تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن ا.هـ(1)
الرابعة/ أن أهل البدع من الصوفية وغيرهم استغلوا تصرفات الشباب الجاهل المتحمس فنسبوا فكر الثورة والإفساد إلى دعوة التوحيد والسنة السلفية فلبسوا على بعض الحكومات ففتح المجال لهم مع التضييق على دعاة التوحيد والسنة السلفيين وإن محاولة إلصاق هذا الإفساد والتفجير والتدمير إلى الدعوة السلفية محاولة فاشلة عند ذوي المعرفة بالحقائق ولو معرفة بدائية ، وذلك أن العلماء السلفيين كالإمام عبد العزيز بن باز ومحمد العثيمين ومحمد ناصر الدين الألباني وصالح الفوزان وعبدالمحسن العباد من أشد وأوائل من أنكر هذه الأعمال التخريبية الإفسادية قبل وقوعها وبعده ولهم في ذلك فتاوى وأشرطة مسجلة مسموعة بل ولبعضهم كتب مفردة مطبوعة ، وبيانات علماء التوحيد السعودية المتعددة أكبر شاهد على ذلك ودليل .
__________
(1) مفتاح دار السعادة (1/271) .(1/4)
وخروج الشباب الإفسادي التخريبي من بين شباب السنة وانتسابهم إلى السنة لا يمس السنة ولا أهلها بنقص ولا مذمة لأنهم مخالفون لطريقتهم ومنكرون عليهم وهاهم الخوارج الأول خرجوا من بين جيل واتباع الصحابة ومع ذلك هم ضالون والصحابة الكرام منهم ومن طريقتهم متبرئون ، ولا يصح لعاقل ذي دين أن ينسب إلى الصحابة الأبرار سوء أو ذماً .
وإن من تلبيس دعاة الباطل من صوفية وشيعة وعلمانية ولبرالية أنهم اجتمعوا ورموا دعوة التوحيد والسنة السلفية التي منها دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب بأنها دعوة تكفيرية ، وهذه التهمة من جنس صنع اليهود الذين يلبسون الحق بالباطل ، وذلك أن التكفير ليس مذموماً على الإطلاق ، بل هناك تكفير بحق ، والمذموم هو التكفير بغير حق وهو الغلو فيه ، فإن من وقع في مكفر فهو كافر من جهة العموم . أما المعين فلا يكفر إلا بعد توافر الشروط وانتفاء الموانع . وإن القول بذم التكفير مطلقاً حتى ولو كان بحق يعود على الباري سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالذم إذ كفّر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم المستهزئين به كما قال تعالى ( قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) ، وكذا يعود على الصحابة الكرام بالذم إذ كفروا بإجماعهم الذين ارتدوا وامتنعوا من دفع الزكاة بعد أن مات صلى الله عليه وسلم ، بل ويعود بالذم أيضاً على علماء الإسلام الذين وضعوا في كتبهم باب حكم المرتد وذكروا أقوالاً وأفعالاً إذا وقع فيها المسلم كفر وهذا موجود في كتب المذاهب الأربعة وغيرهم فالواجب على المسلم الصادق ألا يذم التكفير بحق بل يكون ذاماً بشدة على المكفر بغير حق ، وفي المقابل ألا ينحرف مع تيار هؤلاء المضلين الذين يذمون التكفير مطلقاً حتى ولو كان بحق لأن مآل قولهم ذم لله ورسوله ودينه المطهر المقر للتكفير بحق .(1/5)
ومما يجب على دعاة التوحيد والسنة أن يصدعوا بتأييد التكفير بحق من غير استحياء ولا وجل مع الصدع بإنكار التكفير بغير حق فإن دين الله وسط بين الغالي والجافي ، وبهذه المناسبة أذكر كلمة للشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – في التكفير تدل على اعتداله وسيره على طريق أهل السنة السلفين قال – رحمه الله -: ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان . وأيضاً نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر ا.هـ(1)وبعد هذا النقل المصدق فتباً لكل ملبس مبطل من الصوفية وغيرهم .
2/ تفرق شباب السنة السلفيين ، فقد كان كثير من الشباب على قلب رجل واحد لا سيما في بلاد التوحيد مع علمائهم وولاتهم ، فلما جاءت الجماعات الدخيلة نشرت بينهم أفكاراً فاسدة وأسست لهم أسساً باطلة ،كترك دعوة الناس إلى التوحيد والتحذير من الشرك بزعم إرادة جمعهم ولو جمعاًً على غير هدى ، فتفرق أهل السنة السلفيون شباباً وشيباً رجالاً ونساءً ما بين مؤيد أو متعاطف لهم ، وآخرين ثابتين على السنة لا يتزحزحون عنها مع كثرة المخالفين والمخذلين ، يسلون أنفسهم بالأحاديث التي جاءت في الطائفة المنصورة الناجية أنهم لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك ، فلله درهم ما أصبرهم وأربحهم .
__________
(1) الدرر السنية (1/102 ) .(1/6)
ثم مما زاد الأمر سوء أنه حصل بين شباب السنة السلفيين خلاف ونزاع أوقد نارها الشيطان ثم جعل شباباً جهالاً وقودها فناصرهم بعض من عنده علم لحظوظ نفس من حب رياسة وغيرها ، وخاضها آخرون فوالوا وعادوا على مسائل لا يصح عقد الولاء والبراء عليها لأنها ما بين مسائل اجتهادية يسوغ الخلاف فيها لهم فيها سلف أو مسائل خلافية لا يسوغ الخلاف فيها لكنها جزئية لا يصح التفرق بسببها . ومما يدل على دخول أهواء في نفوس كثير منهم أنهم لا يطردون الولاء والبراء في هذه المسائل مع كل أحد بل للمصالح الشخصية الملبسة بلباس الدين ، فيالله كيف وقعوا في شباك الشيطان وحيله .
والواجب عليهم جميعاً التوبة إلى الله وتذكر المعاد ، وليعلموا قلتهم وكثرة أعدائهم أعداء السنة ، وليتذكروا أنهم لو اجتمعوا لقويت شوكتهم واشتدت سواعدهم وتكاثرت نبالهم على أهل الباطل ففر الباطل وأهله ذليلين منكسرين فيغتاظ الشيطان ويفرح الرحمن القائل ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)
فيالله لو تم الاجتماع على الحق كم فيه نصر للسنة وقمع للبدعة وأهلها .
لكن ابشروا يا دعاة التوحيد والسنة فإن التصوف وإن بدا له نشاط هذه الأيام إلا أنه من أضعف الدعوات الباطلة قوة وأكثرها ثغرات وفجوات لكون مخالفتها للشرع جلية ومصادمتها للعقل مضحكة مخزية فإنها دعوة قائمة على تعطيل العقول والغلو في مشايخ الطرق بما لا تقبله الفهوم ، وهذا غير مرضٍ عند العقلاء الأفهام لا سيما في زمن كزمننا هذا إذ غلا الناس في الحسيات .
وقد سماها شيخنا العلامة صالح الفوزان ( المقدمات العشر . في نقض أصول صوفية العصر ) وإني لأشكر له تفضله بمراجعة الكتاب والتقديم له . فأسأل الله أن يديمه ناصراً للسنة قامعاً للبدعة ، وأن يجزيه خير ما جزى الذابين عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم .(1/7)
وبعد هذا إليك عشر مقدمات علمية وما يتبعها من تنبيهات وفوائد في إبطال الدعوات والطرق الصوفية لتكون – بتوفيق الله- معولاً في يد داعية التوحيد والسنة يدك به حصون البدع الصوفية فالله الله ياشباب وشابات السنة أن تقبلوا على فهم هذه المقدمات فتحاجوا أهل التصوف بنور الوحي في مواقع الشبكات العنكبوتية وغيرها من التجمعات(1).
المقدمة الأولى:
خلق الله الخلق لعبادته كما قال تعالى ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وهي حق خاص لله لا يجوز صرفها لغيره بل صرفها لغيره شرك أكبر كما قال تعالى ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) دلت هذه الآية أن صرفها لغير الله شرك أكبر ، وقال تعالى ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) فالصلاة والنسك عبادات وصرفها لغير الله شرك ، وقال تعالى ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) فهذه الآية صريحة في أنها خاصة بالله ، وقال تعالى ( وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) فمن عبد غير الله فهو من الكافرين .
__________
(1) قد منّ الله عليّ وكتبت قبل مقدمات مختصرة مهمة في الرد على الرافضة ومناقشتهم وأسميتها " القول المبين لما عليه الرافضة من الدين المشين " وهي موجودة في موقع الإسلام العتيق . http://www.islamancient.net / ،(1/8)
فإذاً تبين من هذه الأدلة أن العبادة خاصة لله وأن صرفها لغيره شرك أكبر ، ويؤكد ذلك أن معنى الشرك تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله كما قال تعالى ( تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ . إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وقوله ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) والعبادة خاصة بالله – كما تقدم – فصرفها لغيره من تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله الذي هو الشرك الأكبر .
فائدتان :
الأولى/ أن الأعمال التي يتعبد بها قسمان :
1/ قسم لا يفعل إلا لله فهو خاص به ففعله لغيره يعتبر شركاً أكبر مطلقاً كالذبح والنذر كما قال تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ)
2/ قسم يفعل لله ولغيره فهو ليس خاصاً به شرعاً فهو يأتي تعبدياً وغير تعبدي كالدعاء والاستغاثة والمحبة فمن دعا أحداً على وجه غير خاص بالله كأن يكون المدعو قادراً حياً موجوداً أو أن يدعوه على غير وجه كمال الذل والمحبة بل فيما يقدر عليه المخلوق نفسه بأن يكون حياً قادرا موجوداً فهذا جائز .
فإن قيل: ما الضابط في التفريق بين ما لا يأتي إلا تعبدياً كالذبح وما يأتي تعبدياً وغير تعبدي كالمحبة والخوف ؟
فيقال: الضابط الأدلة الشرعية ، فإن دلت على أنه يأتي تعبدياً وغير تعبدي فهو كذلك ، وإن دلت على أنه لا يأتي إلا تعبدياً صار كذلك .(1/9)
الثانية / إن ضبط معنى كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) من أقوى ما يرد به على القبوريين فقد ذهب جمع من المتكلمين والقبوريين إلى أن معناها ( لا خالق إلا الله أ ولا قادر على وجه الاستقلال إلا الله ) فأرادوا بهذا أن من دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله لا يكون مشركاً إذا كان معتقداً أن الله هو الخالق وحده أو أن الله هو القادر على وجه الاستقلالية . والرد عليهم أن يقال: إن كفار قريش مقرون أنه لا خالق ولا قادر على وجه الاستقلال إلا الله كما قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وقال ( أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ) ومع هذا رفضوا نطقها لعلمهم أن معناه غير هذا وهو إفراد الله بالعبادة كما قال تعالى عنهم (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) فلو كان معناها لا خالق ولا قادر على وجه الاستقلال إلا الله لقالوها ولما جعلوها شيئاً عجاباً ولكانوا موحدين . وقد حاول بعض رافضة زماننا الخروج من هذا الإلزام بتقرير أن معنى لا إله إلا الله أي لا مدبر إلا الله لا أن معناها لا خالق إلا الله ، لذلك رفضها كفار قريش . والرد على هذا الرافضي ببيان أن كفار قريش مقرون أيضاً أنه لا مدبر للأمور إلا الله كما قال الله عنهم ( وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) فتأكد بعد هذا أن معنى كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) راجع إلى توحيد العبادة ، فالآلهة هنا بمعنى المعبود فهي بمعنى لا معبود بحق إلا الله .(1)
__________
(1) قد فصلت – ولله الحمد – هذه المسائل مع ذكر أدلتها والعزو إلى أهل العلم في كتابي " قواعد ومسائل في توحيد الإلهية " . فليراجعه من شاء .(1/10)
تنبيهان :
الأول/ مما يتألم له الداعية الصادق أن الشرك الأكبر قد عمّ أكثر أرجاء الدول الإسلامية(1)ومن أعظم أسباب انتشاره علماء السوء والضلالة من الصوفية ونحوهم الذين يلبسون على الناس أن هذه الفعال من الذبح والنذر لغير الله ليست شركاً ، ومن هؤلاء ( أحمد الغماري ) الذي يقول في كتابه " إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد على القبور "(2)وهو بصدد ذكر علة النهي عن بناء المساجد على القبور عند الأكثرين وهو خشية عبادتها قال: الأخرى: وهو قول الأكثرين بل الجميع حتى من نص على العلة السابقة أن ذلك قد يؤدي إلى الضلال والفتنة ، لأنه إذا وقع في المسجد وكان قبر ولي مشهور بالخير والصلاح لا يؤمن مع طول المدة أن يزيد اعتقاد الجهلة فيه ويؤدي بهم فرط التعظيم إلى قصد الصلاة إليه إذا كان في قبلة المسجد فيؤدي بهم ذلك إلى الكفر والإشراك . – ثم قال – وإذا ثبت ذلك فالعلة المذكورة قد انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين وتنشئتهم على التوحيد الخالص واعتقاد نفي الشريك مع الله تعالى وأنه سبحانه المنفرد بالخلق والإيجاد والتدبير والتصريف لا فاعل غيره ولا مؤثر في ملكه سواه ، وأن المخلوق الحي لا قدرة له على جلب منفعة لنفسه ولا دفع مضرة عنها إلا بخلق الله تعالى وإيجاده فضلاً عن الميت المقبور ، وبانتفاء العلة ينتفي الحكم المترتب عليها ، وهو كراهة اتخاذ المساجد والقباب على قبور الأولياء والصالحين ، فإن من يتخذها عليهم لا يفعل ذلك لأجل أن يعبدهم ويتخذ قبورهم مساجد يسجد إليها من دون الله تعالى ، أو يجعلها قبلة يصلي إليها ، بل هذا ما سمع في هذا الأمة ولا وجد قط من مسلم يدين بدين الإسلام .
__________
(1) انظر كتاب " دمعة على التوحيد " .
(2) ص17 .(1/11)
وإنما يقصد بتلك القباب مجرد الاحترام وتعظيم قبور الصالحين وحفظهما من الامتهان والاندراس الذي ينعدم به الانتفاع بزيارتهم والتبرك بهم ، فإذا فرض وجود من بنى قبة أو مسجداً على قبر ليعبده ويتخذه قبلة فهذا كافر مرتد يجب قتله وهدم ما بناه ؛ لأنه لم يبن مسجداً بل بنى كنيسة في صورة مسجد مع أن شيئاً من هذا لم يقع في هذه الأمة والحمد لله .(1/12)
وكون بعض جهلة العوام يأتي عند قبور الصالحين من التعظيم ما يشبه صورته صورة العبادة لا يكون موجباً كراهة البناء لأن ذلك لم يأت من جهة البناء ولا هو العلة فيه ، وإنما علته الجهل بطرق التعظيم والحد اللائق به شرعاً ، ولو كان البناء هو علة ذلك للزم ألا يتخلف عند وجوده مع أن جل من يزور الأولياء المتخذ عليهم القباب والمساجد لا يوجد منه ذلك ، وإنما يوجد من قليلين جداً من بعض جهلة العوام ، كما أنه يلزم أن لا يوجد إلا عند القبور المبني عليها مع أننا نرى بعض الجهلة يفعل ذلك أيضاً ببعض قبور الأولياء التي لم يبن عليها مسجد ولا قبة وليس عليهم بناء أصلاً ، ونراهم يحلفون بهم وينطقون في حقهم بما ظاهره الكفر الصراح ، بل هو الكفر حقيقة بلا ريب ولا شك ، وهم مع ذلك بعيدون عن قبورهم بل وعن مدنهم وعن أقطارهم فكثير من جهلة العوام بالمغرب ينطق بما هو كفر صراح في حق مولانا عبدالقادر الجيلاني ( رضي الله عنه ) الموجود ضريحه ببغداد وبُعدُ ما بين العراق والمغرب بُعدً ما بين المشرق والمغرب وكلهم لم يروا قبر الجيلاني ولا رأوا من رآه ولا من رأى من رآه إلى ما شئت من الإضافات ، وكذلك نرى بعضهم يفعل ذلك مع من يعتقده من الأحياء فيسجد له ويقبل الأرض بين يديه في حال سجوده ويجعل يديه من ورائه علامة على التسليم وفرط التضرع والالتجاء ، ويطلب منه في تلك الحال الشفاء والغنى والذرية ونحو ذلك مما لا يطلب إلا من الله تعالى ، بل ما رأيت أنا من يفعل هذا بقبور الأولياء ورأيت من يفعله مع الأحياء منهم ، فلو كان جهلهم هذا يوجب تحريم البناء على القبر لأوجب تحريم الصلاح والولاية وتقوى الله تعالى التي ينشأ عنها اعتقادهم المؤدي إلى افتتان الجهلة بهم ، فإن عندنا بالمغرب من يقول عن القطب الأكبر مولانا عبدالسلام بن مشيش ( رضي الله عنه ) إنه الذي خلق الدين والدنيا ! ومنهم من قال والمطر نازل بشدة: يا مولانا عبدالسلام ألطف بعبادك !!(1/13)
فهذا كفر لم ينشأ عن مسجد ولا قبة فإن القطب ابن مشيش ( رضي الله عنه ) ليس عليه مسجد ولا زاوية ولا قبة ، وإنما هو على رأس جبل بعيد عن الأبنية وحوله حوش بسيط غير مسقف ، وداخل الحوش شجر وعشب وأحجار ، والقبر لا يظهر له أثر ولا يعرف موضعه أحد ، ومع هذا وصل اعتقاد العوام فيه إلى ما سمعت ! وكم من ولي عليه قبة عظيمة ومسجد ضخم واسع لا يزوره أحد بالإضافة إلى أنه يعتقد فيه إلى هذا الحد فإذا ليس ذلك من البناء ولا من القبة والمسجد ، وإنما هو فرط الاعتقاد الذي قد ينشأ من ظهور الكرامات المتتابعة على يد ذلك الولي حتى يحصل بها التواتر وترسخ مكانته في نفوس الناس سواء الموجود في بلاده أو البعيد عنه ، فلم يبق للمسجد والقبة في ذلك أثرٌ أصلاً ، وهؤلاء القرنيون النجديون قد هدوا القباب التي كانت بمكة والمدينة على الشهداء ومشاهير أهل البيت وصيروا قبورهم مستوية بالأرض ومع ذلك فالناس يهرعون لزيارة تلك القبور ويتوسلون بها ويستغيثون عندها ، ولولا أن ابن سعود(1)جاعل خفراء على مثل قبر حمزة سيد الشهداء ( رضي الله عنه ) يمنعون الناس من تقبيل القبر والسجود له ورفع الصوت بالاستغاثة به لما انقطع ذلك ولا ذهب بانهدام القبة فحمزة ( رضي الله عنه ) هو حمزة بقبة أو دون قبة . وخديجة أم المؤمنين كذلك ومالك هو مالك الإمام .
__________
(1) هذه- والله- من محاسنهم لموافقتهم الأحاديث النبوية ولسان حالهم –جزاهم الله خيراً- أرضيناك ربنا باتباع سنة نبيك وإن سخط من سخط ،هل يعي هذا سلفيو هذه البلاد وسلفيو العالم فيشدوا من أزر هذه الدولة دولة التوحيد(1/14)
وهكذا سائر المدفونين بالبقيع والمعلاة من المشاهير لا دخل للبناء والقبة والمسجد في تعظيمهم وزيارتهم ، وإنما الباعث على ذلك هو الاعتقاد الناشئ عن ولايتهم وصلاحهم ومكانتهم السامية عند ربهم الذي وضع لهم المحبة والاعتقاد في القلوب ، فكان على الجهلة القرنيين المبتدعة الضالين أن يهدموا الاعتقاد ويقلعوا أثره من النفوس ويقضوا على الصلاح والولاية والتقوى والخشية التي يكرم الله تعالى صاحبها ، ووضع ذلك في القلوب حتى يستريحوا من تعظيم المخلوق والتوسل والاستغاثة به . أما عدم البناء فلا يأتي لهم بنتيجة ولو أتى بها لما احتاجوا إلى حراس عند القبور يمنعون من ذلك بعد الهدم ، فأنا زرت قبر حمزة ( رضي الله عنه ) بعد هدم البناء الذي عليه بأزيد من خمس عشرة سنة ووجدت الحارس قائماً عند قبره يمنع الزوار من القرب من القبر والتمسح به وتقبيله ، ولم يكف مضي خمس عشرة سنة على الهدم في قلع ذلك من النفوس ، وهكذا يبقى ذلك ما بقى الإيمان ومحبة الله تعالى ورسوله ومحبة أوليائه وأصفيائه ا.هـ
كم في قوله من التناقض والتعارض فهو يهدم بعضه بعضاً ؛ أولاً ينفي وجود الشرك ثم يرجع ويقرر وجوده ثم يعيب على العوام فعلهم عند القبور ثم يرجع ويقره ، ثم في أول كلامه يقرر أن من صح اعتقاده في الربوبية لا يكون مشركاً وهو بهذا يشهد الله ومن شاء من خلقه على جهله بمعنى الشرك الذي وقع فيه كفار قريش وإنا – بحمد الله -لسنا بحاجة إلى قول أحد كائناً من كان فضلاً أن يكون من دعاة السوء والضلالة كهذا الغماري المفتون مع قول رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم عن علي رضي الله عنه لما قال لأبي الهياج : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته .(1/15)
الثاني/ يردد بعض الصوفية كعلي الجفري شبهة وخلاصتها: أنه ثبت أن الروح تذهب وتجيء وتصعد وتنزل ، فإذا كان كذلك فإننا إذا دعونا الميت لكشف كربة فإننا ندعو من هو قادر لأن روحه هي التي ستكشف الكربة وهي قادرة . والجواب على هذا أن يقال:
إن زعم الروح قادرة تقوّل بغير علم لا دليل عليه تماماً كأن يأتي أحد فيزعم أن فلاناً الحي يستطيع كشف كربة مليون مصاب في لحظة واحدة ، فإن كشف كربة أكثر من واحد في لحظة واحدة خاص بالله ، وذلك أن الإنسان إذا شغل بشيء لم يمكن أن يجمع بينه وبين شيء آخر في وقت واحد من جهة واحدة ، فمن شغل بإنقاذ غريق لم يستطع الجمع بينه وبين غريق آخر في وقت واحد ، ولو استطاع لما استطاع جمع ثلاثة ولضعف نشاطه في إنقاذ الأول وهذا معروف بدهي . وكذا يقال إن زعم الروح تكشف الكربات يلزم منه لوازم أن تعلم الغيب أو تسمع البعيدات وكلاهما خاصان بالله ، ثم زعم أن لها كشف أي كربة هذا خاص بالله ، وزعم أنها تكشف كربة معينة يستطيعها المخلوقون زعم مفتقر إلى دليل ، وإلا كان قولاً بغير علم ، وبهذا تدرك خطأ الصوفي علي الجفري لما قال في تقريره ودعوته للشرك الأكبر :
إيش يعني كل شوي يخرج النبي ؟!
أنا ما أقولك أن النبي كل شوي يخرج يغيث واحد كل ما يستغاث به ، أنت سألتني هل ممكن أم لا ؟!
القاعدة: أنه يغيث بروحه وليس بجسده ، لكن يمكن أن يقوم ، الإمكانية موجودة ، لكن القاعدة أن الإغاثة تكون بالروح ، ما يحتاج أن يأتي .
فسأله شخص: ممكن اثنين في اللحظة نفسها ؟!
فأجاب الجفري: يمكن أن يغيث مليون في تلك اللحظة مش اثنين .. !!
وسأله شخص: لو استغثت بالرسول ممكن يخرج من قبره ويجيء ( يأتي )؟
فأجاب الجفري: الأساس هذا ...(1/16)
والغالب في الكلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي بروحانيته لأن هذا أكرم له ، بعض العلماء أو بعض الأولياء يقولون أنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من جسده ، مسألة تصديق هذا ليس من المعلوم بالدين من الضرورة وأيضاً تكذيبه ليس بصحيح . المسألة ترجع لمدى ثقتك بكلام الرجل لأنها غير مخالفة للنص لأن إمكانية خروجه من القبر ليس ممنوعاً في الدين .
بقي هل هو يخرج أم لا ؟ هذه ليست قضيتي ، قضيتي أن كربتي تنحل ، أي أن المشكلة التي أنا استغثت به من أجلها تنحل .
فسأله شخص: إحنا نتكلم عن الإمكانية ، هل ممكن يخرج ؟
فأجاب الجفري : الإمكانية ما في شيء يمنع ، إيش اللي يمنع ؟!
المقدمة الثانية:
إن دين الله قائم على اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذا جاء الأمر باتباعه في القرآن فيما يقرب من أربعين موضعاً قال ابن تيمية : وقد ذكر طاعة الرسول واتباعه في نحو من أربعين موضعاً من القرآن كقوله تعالى ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ )ا.هـ(1)ـ
__________
(1) مجموع الفتاوى (1/4) .(1/17)
وكل تعبد على خلاف هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو بدعة مردودة لا تزيد صاحبها من الله إلا بعداً ، أخرج مسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" فإن كل بدعة ضلالة" وأخرج الترمذي وصححه عن العرباض بن سارية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة" . وكذا صححه البزار وأبو نعيم وابن عبدالبر . وأخرج الشيخان عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وكلام علماء أهل السنة في الاتباع وترك الابتداع وذم البدعة أكثر من أن يحصر ، بل ولكبار الزهاد من العلماء الأوائل ممن تجلهم الصوفية ويعدونهم من أكابرهم كلام كثير في تقرير الاتباع وترك الابتداع ، قال النعمان الآلوسي البغدادي الحنفي: وقال القطب النوراني الشيخ عبدالقادر في كتابه ( الفتح الرباني): الصوفي من صفا باطنه وظاهره بمتابعة كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فكلما ازداد صفاؤه خرج من بحر جوده ، ويترك إرادته واختياره ومشيئته من صفاء قلبه . انتهى . وما أحسن قول من قال: ( بسيط ):
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا وكلهم قال قولاً غير معروف
ولست أمنح هذا الاسم غير فتى صافي فصوفي حتى سمي الصوفي(1/18)
واعلم أن الصنف الأول هم المقبولون عند القوم ، السالمون من القدح واللوم ، فقد قال سيد الطائفة الصوفية ، وإمام الطريقة والحقيقة الشرعية ، جنيد البغدادي عليه رحمة الله الهادي: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا العلم لأن علمنا ومذهبنا مقيد بالكتاب والسنة . وقال أبو يزيد البسطامي لبعض أصحابه: قم حتى تنظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية – وكان رجلاً مشهوراً بالزهد – فمضينا ، فلما خرج من بيته ودخل المسجد رمى ببزاقه تجاه القبلة ، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه فقال: هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكيف يكون مأموناً على ما يدعيه؟ وقال: لو نظرتم إلى رجل أعطى الكرامات حتى تربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي ، وحفظ الحدود وآداء فعل الشريعة ، وإلا فهي استدراج .(1/19)
وقال أبو سليمان الداراني: ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة . وقال ذو النون المصري: ومن علامات المحب لله سبحانه متابعة حبيب الله محمد صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأخلاقه وأوامره وسننه . وقال بشر الحافي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: لي:" يا بشر هل تدري بم رفعك الله تعالى من بين أقرانك ، قلت: لا ، قال: باتباعك سنتي وخدمتك الصالحين ونصيحتك لإخوانك ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي هو الذي بلغك منازل الأبرار " وقال أبو سعيد الخرار: كل فيض باطن يخالفه ظاهر فهو باطل ، انتهى قاله القشيري في الرسالة . وقال سيدي الشيخ عبدالقادر الكيلاني قدس سره النوراني: جميع الأولياء لا يستدلون إلا من كلام الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا يعملون إلا بظاهرهما . – ثم قال - وإن ترد أن تطلع على حقائق السلوك السني والتصوف الإحساني فعليك بكتاب شيخنا السيد البدر أبي الطيب القنوجي – حماه الله – الذي سماه " رياض المرتاض وغياض العرباض " وكتاب " حظيرة القدس وذخيرة الأنس " له فإنهما غاية في الباب ونهاية في تلك الآداب . ومن حصل له هذان السفران فهو كما قيل( اللبأ وابن طاب ) وأما غير هذا القسم من الصوفية كالمتصوفة المغايرين في حركاتهم وأفعالهم للسنة النبوية ، فهم المذمومون والجماعة المخالفون للطائفة المرضية ، فقد قال صاحب الطريقة المحمدية من بعد ما تكلم على البدعة : فظهر من هذا بطلان ما يدعيه بعض المتصوفة في زماننا إذا أنكر عليهم بعض أمورهم المخالفة للشرع الشريف: إن حرمة ذلك في العلم الظاهر ، وإنا أصحاب العلم الباطن ، وأنه حلال فيه وإنكم تأخذون من الكتاب ، وإنا نأخذ من صاحبه محمد صل الله عليه وسلم . فإذا أشكلت علينا مسألة استفتيناها منها ، فإذا حصل قناعة وإلا رجعنا إلى الله تعالى بالذات فنأخذ منه .(1/20)
وإنا بالخلوة وهمة شيخنا نصل إلى الله تعالى ، فتكشف لنا العلوم ، فلا نحتاج إلى الكتاب والمطالعة والقراءة على الأستاذ . وإن الوصول إلى الله تعالى لا يكون إلا برفض الظاهر والشرع ، ولو كنا على الباطل لما حصل لنا تلك الحالات السنية والكرامات العلية من مشاهدة الأنوار ورؤية الأنبياء الكبائر . وإنا إذا صدر منا مكروه أو حرام نبهنا بالرؤيا في المنام ، فنعرف بها الحلال والحرام ، وإن ما فعلناه مما قلتم إنه حرام لم ننبه عنه في المنام فعلمنا أنه حلال إلى غير ذلك من الترهات . وهذا كله إلحاد وضلال لأنه صرح العلماء أن الإلهام ليس من أسباب المعرفة بالأحكام ، وكذلك الرؤيا خصوصاً إذا خالف الكتاب وسنة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام . انتهى . وقال الإمام الغزالي في الإحياء: من قال إن الباطن يخالف الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه للإيمان . ونقل الوالد عليه الرحمة في تفسيره عن الإمام الرباني مجدد الألف الثاني قدس سره أنه قال في مواضع عديدة في مكتوباته: إن الإلهام لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً ، ففي المكتوب الثالث والأربعين من المجلد الأول: أن قوماً مالوا إلى الإلحاد والزندقة ، يتخيلون أن المقصود الأصلي وراء الشريعة . حاشا وكلا؟ ثم حاشا وكلا؟ نعوذ بالله سبحانه من هذا الاعتقاد السوء . فكل من الطريقة والشريعة عين الآخر لا مخالفة بينهما بقدر رأس الشعيرة ، وكل ما خالف الشريعة مردود ، وكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة . وقال أيضاً في أثناء المكتوب السادس والثلاثين: للشريعة ثلاثة أجزاء: علم وعمل وإخلاص ، فما لم تتحقق هذه الأجزاء لم تتحقق الشريعة ، وإذا تحققت الشريعة حصل رضا الحق سبحانه وتعالى ، وهو فوق جميع السعادات الدنيوية والأخروية ، ورضوان من الله أكبر . فالشريعة متكفلة بجميع السعادات ، ولم يبق مطلب وراء الشريعة .(1/21)
فالطريقة والحقيقة اللتان امتاز بهما الصوفية كلتاهما خادمتان للشريعة في تكميل الجزء الثالث الذي هو الإخلاص ، فالمقصود منها تكميل الشريعة لا أمر آخر وراء ذلك – إلى آخر ما قال . وقال عليه الرحمة في أثناء المكتوب التاسع والعشرين بعد تحقيق كثير: فتقرر أن طريق الوصول إلى درجات القرب الإلهي جل شأنه سواء كان قرب النبوة أو قرب الولاية منحصر في طريق الشريعة التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصار مأموراً به في آية ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) وآية ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) تدل على ذلك أيضاً – إلى آخر ما قال . قال الوالد نفعنا الله تعالى به في تفسيره سورة الكهف: والذي ينبغي أن يعلم أن كلام العارفين المحققين ، وإن دل على أن لا مخالفة بين الشريعة والطريقة والحقيقة في الحقيقة ، ولكنه يدل أيضاً على أن في الحقيقة كشوفاً وعلوماً غيبية ، ولذا تراهم يقولون: علم الحقيقة هو العلم اللدني ، وعلم المكاشفة وعلم الموهبة وعلم الأسرار والعلم المكنون وعلم الوراثة ، إلا أن هذا لا يدل على المخالفة فإن الكشوف والعلوم الغيبية ثمرة الإخلاص الذي هو الجزء الثالث من أجزاء الشريعة ، فهي بالحقيقة مترتبة على الشريعة ونتيجة لها ، ومع هذا لا تغير تلك الكشوف والعلوم الغيبية حكماً شرعياً ، ولا تقيد مطلقاً ولا تطلق مقيداً ، خلافاً لما توهمه بعضهم ، وقصة الخضر لا تصلح دليلاً . وكذا قول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:" حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين من العلم : فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم" لأن الخضر أوحى إليه إن قلنا بنبوته أو الإلهام كان شرعاً إذ ذاك . والوعاء الآخر يحتمل أن يكون علم الفتن .(1/22)
وما وقع من بني أمية وذم النبي صلى الله عليه وسلم لأناس معينين منهم . ولا شك أن بث ذلك في تلك الأعصار يجر إلى القتل – انتهى باختصار . وقد أطال في هذا البحث وأطاب فعليك به إن أردته فقلما تجده في كتاب . قال الشيخ ولي الله الدهلوي في التفهيمات – وقد ذكر عنه أنه أنكر وجود القطب والغوث والخضر والذي تدعيه الشيعة أنه المهدي وحق له ذلك: فالسني ما دام على شرطه من اعتقاد ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع والسكوت عما لا يثبت بها لا يعتقد ذلك ، ومن أثبت ذلك من الصوفية فإنه لم يثبت عن كتاب ولا سنة ، اللهم إلا الكشف وليس من أدلة الشرع . والذي أفهم من كلامه أنه يريد أن هذا قول مبتدع باطل اعتقاده من حيث الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ولو قطع بالإنكار لم يستحق التكفير ولا التفسيق أيضاً . انتهى ا.هـ(1)
وقال أبو القاسم القشيري في رسالته عن اعتقاد مشايخ الصوفية المسماة بـ" الرسالة القشيرية ": واعلموا أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد ، صانوا بها عقائدهم عن البدع ، ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ، ليس فيه تمثيل ولا تعطيل ا.هـ(2)
قال ابن تيمية : هذا كلام صحيح . فإن كلام أئمة المشايخ الذين لهم في الأمة لسان صدق ، كانوا على ما كان عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل . وهذه الجملة يتفق على إطلاقها عامة الطوائف المنتسبين إلى السنة ، وإن تنازعوا في مواضع هل هي تمثيل أو تعطيل ؟ ا.هـ(3)
__________
(1) جلاء العينين في محاكمة الأحمدين (120- 124 )
(2) 1/23- 24) . قد أطال ابن القيم ونقل نقولات كثيرة عن هؤلاء العلماء المعظمين عند الصوفية في عدم تجاوز القرآن والحديث ( مدارج السالكين (2/483- 488) .
(3) الاستقامة (1/91) .(1/23)
إذا تقرر هذا فإن دين الله قائم على الاتباع لا الابتداع ، وهذا ما سار عليه علماء الإسلام ومنهم العلماء المعظمون عند الصوفية ، فما بال كثير من الصوفية تنكبوا الصراط فخالفوا الدلائل الشرعية وطريقة المرضيين من العلماء السابقين وهم يحتجون بهم كل حين ، فهل يا ترى هم صادقون في احتجاجهم بهم ؟ فلماذا لم يتبعوهم ؟! أم أنهم تشبثوا بهم تلبيساً وخداعاً لعامة الأتباع محسني الظن بهم .
وإن من أعظم طرق الشيطان في إغواء عامة الصوفية أنه أوقعهم في المحدثات والبدع المهلكات بطرق شتى ، منها:
1/ الرؤى ، كم شرع الشيطان لهم من عبادة محدثة برؤى منامية يخدعهم بها ، والمنامات عند أهل السنة لا يبنى عليها دليل بإجماع أهل العلم لأنها ليست كتاباً ولا سنة ، ويؤكد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الرؤى ليست صادقة كلها كما أخرج الشيخان عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" الرؤيا الصادقة من الله والحلم من الشيطان " فما كان كذلك فلا يعول عليه لأنه محتمل للحق والباطل ، ثم إن الصادق منها جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة كما أخرج الشيخان عن أبي هريرة وأنس وعبادة بن الصامت ، وهذا الجزء لا يعدو أن يكون من المبشرات لا أنه يأتي بحكم شرعي كما أخرج البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لم يبق من النبوة إلا المبشرات . قالوا: وما المبشرات يا رسول الله ؟ قال: الرؤيا الصالحة "(1/24)
ثم إن من أرفع الرؤى درجة رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الشيطان لا يتمثل به كما أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي " وفي صحيح مسلم من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي " وهذه الرؤيا مفيدة بأن تكون على صورته الحقيقية كما في حديث جابر ، لذا علق البخاري بصيغة الجزم عن ابن سيرين أنه قال: إذا رآه في صورته . وقد ذكر الحافظ في الفتح أنه رواه موصولاً عن أيوب قال: كان محمد بن سيرين إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: صف لي الذي رأيته ، فإن وصف له صفة لا يعرفها قال: لم تره وسنده صحيح . ووجدت له ما يؤيده: فأخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب حدثني أبي قال: قلت لابن عباس رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قال: صفه لي. قال: ذكرت الحسن بن علي فشبهته به . قال: قد رأيته . وسنده جيد ا.هـ(1)
فإذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أرفع الرؤى فإنها لا تخرج عن كونها من المبشرات كما تقدم .
__________
(1) فتح الباري (16/188) .(1/25)
فإذا كان كذلك فكيف يبنى عليها شرع . قال الشاطبي المغربي المالكي: وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات ، وأقبلوا وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا فلاناً الرجل الصالح ، فقال لنا: اتركوا كذا واعملوا كذا . ويتفق مثل هذا كثيراً للمترسمين برسم التصوف ، وربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي كذا وأمرني بكذا ، فيعمل بها ويترك بها ، معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة . وهو خطأ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال ، إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية ، فإن سوغتها عمل بمقتضاها وإلا وجب تركها والإعراض عنها ، وإنما فائدتها البشارة والنذارة خاصة ، وأما استفادة الأحكام فلا – ثم قال – فلو رأى في النوم قائلاً يقول: إن فلاناً سرق فاقطعه ، أو عالم فاسأله ، أو اعمل بما يقول لك ، أو فلان زنى فحده ... وما أشبه ذلك ، لم يصح له العمل حتى يقوم له الشاهد في اليقظة ، وإلا كان عاملاً بغير شريعة إذ ليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي . ولا يقال: إن الرؤيا من أجزاء النبوة فلا ينبغي أن تهمل ، وأيضاً إن المخبر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم وهو قد قال:" من رآني في النوم فقد رآني حقاً ، فإن الشيطان لا يتمثل بي " وإذا كان ... فإخباره له في النوم كإخباره في اليقظة . لأنا نقول: إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي ، بل جزء من أجزائه ، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه ، بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه ، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة ، وفيها كاف . وأيضاً فإن الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح ، وحصول الشروط مما ينظر فيه ، فقد تتوفر وقد لا تتوفر .(1/26)
وأيضاً فهي منقسمة إلى الحلم – وهو من الشيطان – وإلى حديث النفس ، وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط ، فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها ونترك غير الصالحة ؟! ويلزم أيضاً على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو منهي عنه بالإجماع . ( يحكى أن شريك بن عبدالله القاضي دخل يوماً على المهدي فلما رآه قال: علي بالسيف والنطع . قال: ولم يا أمير المؤمنين ؟ قال: رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني ، فقصصت رؤياي على من عبرها ، فقال لي: يظهر لك طاعة ويضمر معصية . فقال له شريك: والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام ، ولا أن معبرك يوسف الصديق عليه السلام ، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين؟ فاستحيى المهدي ، وقال: اخرج عني ، ثم صرفه وأبعده ) – ثم قال – وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائي بالحكم ، فلا بد من النظر فيها أيضاً لأنه عليه السلام لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية لأن ذلك باطل بالإجماع ، فمن رأى شيئاً من ذلك فلا عمل عليه ، وعند ذلك نقول: إن رؤياه غير صحيحه ، إذ لو رآه حقاً لم يخبره بما يخالف الشرع . لكن يبقى النظر في معنى قوله عليه السلام:" من رآني في النوم فقد رآني " وفيه تأويلان: أحدهما: ما ذكره ابن رشد إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في قضية ، فلما نام الحاكم ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: تحكم بهذه الشهادة ؟! فإنها باطلة؟ فأجاب بأنه لا يحل له أن يترك العمل بتلك الشهادة لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا ، وذلك باطل لا يصح أن يعتقد ، إذ لا يعلم الغيب من ناحيتها إلا الأنبياء الذين رؤياهم وحي ومن سواهم إنما رؤياهم جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة .(1/27)
ثم قال: ( وليس معنى قوله:" من رآني فقد رآني حقاً " أن كل من رأى في منامه أنه رآه فقد رآه حقيقة بدليل أن الرائي قد يراه مرات على صور مختلفة ، ويراه الرائي على صفة وغيره على صفة أخرى ، ولا يجوز أن تختلف صور النبي صلى الله عليه وسلم ولا صفاته وإنما معنى الحديث: من رآني على صورتي التي خلقت عليها فقد رآني ، إذ لا يتمثل الشيطان بي إذ لم يقل: من رأى أنه رآني فقد رآني ، وإنما قال: من رآني فقد رآني ، وأنى لهذا الرائي الذي رأى أنه رآه على صورة أنه رآه عليها ، وإن ظن أنه رآه ، ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته بعينها ؟! وهذا ما لا طريق لأحد معرفته ) فهذا ما نقل ابن رشد وحاصله يرجع إلى أن المرئي قد يكون غير النبي صلى الله عليه وسلم وإن اعتقد الرائي أنه هو . والثاني: يقوله علماء التعبير: إن الشيطان قد يأتي النائم في صورة ما من معارف الرائي وغيرهم ، فيشير له إلى رجل آخر: هذا فلان النبي ، وهذا الملك الفلاني ، أو من أشبه هؤلاء ممن لا يتمثل الشيطان به فيوقع اللبس على الرائي بذلك ، وله علامة عندهم ، وإذا كان كذلك أمكن أن يكلمه ذلك المشار إليه بالأمر والنهي غير الموافقين للشرع فيظن الرائي أنه من قبل النبي عليه السلام ولا يكون كذلك ، فلا يوثق بما يقول له أو يأمر أو ينهى . وما أحرى هذا الضرب أن يكون الأمر أو النهي فيه مخالفاً لكمال الأول وهو لو كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقيق بأن يكون فيه موافقاً ، وعند ذلك لا يبقى في المسألة إشكال . نعم ، لا يحكم بمجرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم لإمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر على الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنة . نعم ، يأتي المرئي تأنيساً وبشارة ونذارة خاصة ، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكماً ، ولا يبنون عليها أصلاً ، وهو الاعتدال في أخذها حسبما فهم من الشرع فيها ، والله أعلم ا.هـ(1)
__________
(1) الاعتصام (331 – 336) .(1/28)
قال العلامة عبدالرحمن المعلمي الشافعي: وإذا استند إلى رؤيا قيل له مع ما تقدم: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرؤيا منها ما هو حق ، ومنها ما هو من حديث النفس ، ومنها ما هو من الشيطان . وتضافرت الأدلة على أن الرؤيا الحق تكون غالباً على خلاف ظاهرها ، حتى رؤيا الأنبياء عليهم السلام ، كرؤيا يوسف إذ رأى الكواكب والشمس والقمر ، وتأويلها أبواه وإخوته ، وكرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم درعاً حصينة فأولها المدينة ، وسيفاً هزه ثم انكسر ، ثم هزه فعاد سالماً ، فأولها بقوة أصحابه وبقراً تنحر ، فأولها بمن يقتل من أصحابه ، وسوارين من ذهب فأولهما بمسيلمة والأسود العنسي وأمثال ذلك كثير . فمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم على صفته التي كان عليها فرؤياه حق ، ولكن إذا رآه فعل ، أو قال شيئاً فذلك الفعل أو القول يحتاج إلى تعبير ، فقد تراه يأمرك بشيء ، ويكون تعبيره أنه ينهاك عنه ، وعكس ذلك . ولهذا أجمع الأئمة على عدم الاحتجاج بالرؤيا ، وإنما يستأنس بها إذا وافقت الدليل الثابت من الكتاب والسنة كأن تراه صلى الله عليه وسلم يحضك على صلاة الجماعة ، أو يزجرك عن أكل الحرام ، ونحو ذلك ا.هـ(1)وإن كثيراً من الصوفية استدلوا بالرؤى في تقرير بعض الأحكام في زعمهم ، من ذلك أن محمد بن علوي المالكي ( وهذه النسبة ليست إلى قبيلة بني مالك المعروفة في الجزيرة العربية ) في كتابه " مفاهيم يجب أن تصحح "(2)،
__________
(1) رسالة في تحقيق البدعة ص27 .
(2) قد رد على هذا الكتاب رداً مفيداً الشيخ العلامة صالح آل الشيخ في كتابه " هذه مفاهيمنا " والشيخ عبدالله بن سليمان المنيع في كتاب " حوار مع المالكي في رد منكراته وضلالاته " ..(1/29)
ويوسف خطار محمد في كتابه " الموسوعة اليوسفية في بيان أدلة الصوفية(1)، استدلوا على استحباب المولد بأنه قد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين بإعتاقي ثويبة عندما بشرتني بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبإرضاعها له ) قال في الموسوعة اليوسفية: فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه يخفف عنه العذاب كل ليلة اثنين بسبب فرحه بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فما حال المسلم الموحد من أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي سر بمولده ، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم ، إنه سيكون له أجر عظيم عند الله عز وجل ا.هـ(2)ثم عزا القصة إلى البخاري في صحيحه . وبنحوه قال محمد بن علوي المالكي .
__________
(1) ص136 قد حوى هذا الكتاب أدلة الصوفية في تقرير مسائلهم الاعتقادية والفقهية وإني لأرى الكاتب بجمع هذا الكتاب قد أعطى أهل السنة السلفيين حبال شنق هؤلاء الصوفية بجمع ما سماه أدلة الصوفية ، ويكفي العاقل المتجرد من أنصاف المثقفين أن يقنع ببطلان ما عليه الصوفية وأنه لا أدلة معتمدة عندهم بمطالعة هذا الكتاب الذي قدم له ثمانية من مشائخ الصوفية .
(2) ص136 .(1/30)
واستدلالهم بهذا هو من جنس الاستدلال بالرؤى ، وذلك أن الراوي لها عروة بن الزبير عن بعض أهل أبي لهب ولم يسمه كما في البخاري ، فعليه لا يجوز الاحتجاج بها لأنها من الرؤى كما أفاده الحافظ في الفتح ، فلما أراد محمد علوي المالكي الإجابة على هذا الاعتراض قال:وأما قول من قال: إن هذا الخبر رؤيا منام لا يثبت بها حكم ، فإن هذا القائل – هداه الله للصواب – لا يفرق بين الأحكام الشرعية وغيرها . أما الأحكام الشرعية فإن الخلاف واقع بين الفقهاء: هل يجوز أخذ الأحكام وتصحيح الأخبار برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أم لا؟ وأما غيرها فإن الاعتماد على الرؤيا في هذا الباب لا شيء فيه مطلقاً ا.هـ(1)وفي كلامه هذا خلط وتلبيس على السذج من اتباعه ، وذلك أنه يريد أن يقنعهم أن القول باستحباب الاحتفال بالمولد ليس من الأحكام الشرعية وكأنه لا يعلم أن المستحب هو أحد الأحكام الشرعية من أقسام الأحكام المسماة تكليفية كما هو مقرر بكثرة في متون أصول الفقه المختصرة للمبتدئين فضلاً عن غيرها ، فهل بلغ التعصب ومحاولة التلبيس هذا المبلغ ، ثم إنه وصاحب الموسوعة كذبا لما عزا الحديث إلى البخاري بزيادة ( كل يوم اثنين ) ؛ إذ هذه الزيادة التي عليها يتكئون ليست موجودة في البخاري فعليه لا ممسك لهم في هذه الرؤية لو صح الاحتجاج بها وما أكثر ما رأيت من يسمون بعلماء الصوفية يكذبون في عزو الأحاديث فكن حذراً ولا تثق بنقلهم وعزوهم .(2)
__________
(1) كتاب " مفاهيم يجب أن تصحح " ص322 .
(2) انظر مناقشتهم في هذا الدليل كتاب " شيء من العبث الصوفي " لأبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري ص5 ، فقد رده رواية ودراية . وكتاب " الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف " وكتاب " حوار مع المالكي " ص45 .(1/31)
تنبيه: في كلام بعض أهل العلم ما يشعر أن الرؤى إذا تواطأت صح الاعتماد عليها لما أخرج الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أرى رؤياكم تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر " وفي هذا الاستدلال نظر ، فإن هذه الرؤى المتواطئة لم تكن حجة إلا لما أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي جزء علة لا علة كاملة لا سيما وقد تقرر أن من الرؤى ما يكون من الشيطان ،و قد يكثرون منها على طائفة من الناس لإضلالهم وما خبر جهيمان ومهديهم عنا ببعيد .
2/ التجربة ، وذلك كأن يجرب عالم عبادة فيجد نفعها ، فيأتي من بعده فيعملون عمله ليحصل لهم النفع الذي حصل له ، وهذا خطأ فإن دين الله قائم على الدليل .(1/32)
وكل تعبد على خلاف الدليل فهو بدعة وضلالة وداخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " قال ابن تيمية: ومن هنا يغلط كثيرٌ من الناس ، فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادةً ، أو دعوا دعاءً ، ووجدوا أثر تلك العبادة وذلك الدعاء فيجعلون ذلك دليلاً على استحسان تلك العبادة والدعاء ، ويجعلون ذلك العمل سنةً ، كأنه قد فعله نبيٌ وهذا غلطٌ لما ذكرناه ، خصوصاً إذا كان ذلك العمل إنما كان أثره بصدق قام بقلب فاعله حين الفعل ثم يفعله الأتباع صورةً لا صدقاً ، فيضرون به لأنه ليس العمل مشروعاً فيكون لهم ثواب المتبعين ولا قام بهم صدق ذلك الفاعل الذي لعله بصدق الطلب وصحة القصد يكفَّر عن الفاعل . ومن هذا الباب ما يحكى من آثار لبعض الشيوخ حصلت في السماع المبتدع فإن تلك الآثار إنما كانت عن أحوالٍ قامت بقلوب أولئك الرجال حركها محرِّكٌ كانوا في سماعه إما مجتهدين وإما مقصِّرين تقصيراً غمره حسنات قصدهم فيأخذ الأتباع حضور صورة السماع وليس حضور أولئك الرجال سنةً تتبع ولا مع المقتدين من الصدق والقصد ما لأجله عذروا أو غفر لهم فيهلكون بذلك . وكما يحكي عن بعض الشيوخ أنه رؤي بعد موته فقيل له ما فعل الله بك ؟ فقال أوقفني بين يديه وقال لي : يا شيخ السوء أنت الذي كنت تتمثل فيَّ بسُعدى ولُبنى ؟ لولا أني أعلم أنك صادقٌ لعذبتك ا . هـ(1)،قال ابن أبي العز الحنفي:"وكثيراً ما تجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم ،ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله،أو حسنة تقدّمت منه،جعل الله سبحانه إجابة دعوته ،فيظن أن السرّ في ذلك الدعاء فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي .وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعاً في الوقت الذي ينبغي ،فانتفع به فظنّ آخر أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب ،فكان غالطاً..ا.
__________
(1) الاقتضاء ( 2/700) .(1/33)
هـ(1)
ثم إن في الاعتماد على التجارب فتح باب للشيطان ليضل بني آدم فإن للشياطين طرقاً يضل بها بني آدم – على ما سيأتي بيانه – وأيضاً يوهمون أن هذا العمل نافع حتى يقبل الناس عليه ، قال الشيخ العلامة عبدالرحمن المعلمي الشافعي اليمني: وإذا استند إلى التجربة كما حكى لي بعضهم أن رجلاً اعتاد تقبيل ظفري إبهاميه عند قول المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله ، ثم تركه لما قال له بعض أهل العلم: إنه بدعة ، والحديث الذي يروى في ذلك حكم عليه المحدثون بأنه كذب ، فلما ترك ذلك أصابه وجع في عينيه فأخذ يعالجهما بأدوية مختلفة فلم تنجع حتى قال له بعض المتصوفة: التزم تقبيل إبهاميك عند الأذان ، فوقع في نفسه أن ذلك الوجع إنما أصابه عقوبة على ترك تلك العادة ، فعاد لها فبرئت عيناه ، فقل له مع ما تقدم: إن الله عز وجل يبتلي عباده بما شاء ، ويستدرج أهل الضلال من حيث لا يعلمون ، وقد سمعنا عن عدة أشخاص أن أحدهم كان تاركاً للصلاة ثم رغبه الواعظون فيها وخوفوه من عقوبة تركها فشرع يحافظ على الصلاة ، فأصابته مصائب في أهله وماله ، فرأى أن ذلك من أثر الصلاة فتركها ، ونحن نقول: يجوز أن يكون ما أصابه من أثر الصلاة . وتفسير ذلك ما جاء في الحديث:" إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً " فمن شأنه سبحانه أن العبد إذا ترك معصية يمتحنه ليظهر حقيقة حاله وما الباعث له على ترك المعصية الإيمان أم غيره؟ فإذا صبر على تلك المصائب تبين أن الباعث له على ترك المعصية إيمان ثابت ، فيجبره الله عز وجل في الدنيا والآخرة ، ويكفر عنه بتلك المصائب مصائب أعظم منها كان معرضاً للوقوع فيها . كان رجل من قواد يزيد بن معاوية فسقط من سطح فانكسرت رجلاه فدخل عليه أبو قلابة المحدث المشهور يعوده وقال له: لعل لك في هذا خيراً .
__________
(1) شرح الطحاوية (2 /683 ).(1/34)
قال: وأي خير في كسر رجليّ معاً ؟ قال: الله أعلم ، فبعد أيام جاء رسول يزيد إلى ذلك القائد فأمره بالخروج لقتال الحسين بن علي عليهما السلام فقال للرسول: أنا كما تراني فعذروه ، وكان ما كان من قتل الحسين ، فكان القائد بعد ذلك يقول: رحم الله أبا قلابة ، قد جعل الله لي في كسر رجليّ خيراً أي خير ، نجوت من دم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كما قال . وقد يبدل تلك المصائب نعماً وإن سقط فالله غني عن العالمين . وقد قال الله عز وجل ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) . وهؤلاء السحرة الذين يرتكبون بعض الفظائع تقرباً إلى الشياطين كثيراً ما يحصل لهم بسبب ذلك نفع في دنياهم ، لأن الله عز وجل يخلي بينهم وبين الشياطين فتنفعهم الشياطين نفعاً ظاهراً في دنياهم وتهلكهم الهلاك الأبدي ، وقد يبتلي الله عز وجل كبار المؤمنين فيسلط بعض السحرة الفجار عليهم حتى لقد ورد أن بعض اليهود عمل عملاً من أعمال السحر فاعترى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرض بسببه .(1/35)
وقد مكن الله عز وجل المشركين فأصابوا من المسلمين يوم أحد ما أصابوا ، فقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم وكثير من أصحابه ، وشج وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته بأبي هو وأمي فأنزل الله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) وتأمل الأحاديث التي وردت في صفة الدجال ، وقد روى أبو داود وغيره عن زينب امرأة عبدالله بن مسعود عن عبدالله قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:" إن الرقى والتمائم والتولة شرك " قالت: قلت: لم تقول هذا والله لقد كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني فإذا رقاني سكنت فقال عبدالله: إنما ذاك عمل الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقاها كف عنها ، إنما يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:" أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً ) ومن ذلك ما حكاه لي بعضهم أنه إذا صلى المكتوبة منفرداً يرق ويخشع ، وإذا صلى في الجماعة لا يخشع .(1/36)
والسبب في هذا أن الشيطان يحاوله على ترك الجماعة فيخشعه إذا صلى منفرداً ويهوش عليه إذا صلى جماعة ليحمله على ترك الجماعة ، مع اعتقاد أن الانفراد أفضل ، فيكون في ذلك مخالفة الشريعة ما هو أضر عليه من ترك الجماعة – ثم قال – ومن ذلك أنني كنت رأيت بعض المشايخ يكتب كلمة ( بدوح ) على صفة مخصوصة ويتعلقها المحموم فكنت أنا أكتب ذلك لمن به حمى فكانوا يقولون: إنها تنقطع الحمى عنه ، حتى لقد كتبتها لرجل في تهامة فعاد إلي مرة ، وأخبرني أنه علقها فلم تعاوده الحمى ، وأن رجلاً من أصحابه أصابته الحمى فأعطاه تلك التميمة عينها فانقطعت عنه ، وأظنه ذكر ثالثاً ، وقال: إن تلك التميمة اشتهرت في قريتهم فصار كل من أصابته الحمى يستعيرها ، ثم إني تدبرت أحكام السنة والبدعة ووقفت على ما ورد في التمائم فامتنعت من كتابة (بدوح ) حتى إنه يصاب ولدي وغيره ممن يعز علي بالحمى فتحدثني نفسي أن أكتبها فأمتنع ، أسأل الله تعالى أن يوفقني لما يحبه ويرضاه . وأقول كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، اللهم لا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وعجز . والمقصود أن الاستناد إلى التجربة وإن كثر من المتصوفة ونحوهم ليس حجة ولا شبه حجة ولم يقل بأنه حجة أحد من سلف الأمة ، ولا أحد من الأئمة والعلماء الراسخين ا.هـ(1)ومن ذلك ما ذكره الصوفي الغالي يوسف النبهاني في كتابه " شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق " ص299: الباب السادس في نقل حكايات وآثار وردت عن العلماء والصالحين في الفوائد التي حصلت لهم من الاستغاثة بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أخذت ذلك مما نقله الثقات وذكره الأئمة الثلاثة الأثبات: أبو عبدالله النعمان الفاسي في كتابه " مصباح الظلام " والقسطلاني في كتابه " المواهب اللدنية " ونور الدين الحلبي في كتابه " بغية الأحلام " وغيرهم ا.هـ
__________
(1) رسالة في تحقيق البدعة ص28 .(1/37)
3/ الاستحسانات ، كل استحسان ليس قائماً على دليل شرعي صحيح فهو من جملة البدع لأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، فأين هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه من هذا الاستحسان ؟ قال الشافعي: من استحسن فقد شرع ا.هـ قاتل الله الشيطان كم أدخل البدع على المسلمين باسم الاستحسان ، فيالله هل هناك هدي أحسن وأكمل من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم . قال تعالى ( فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذللك خير وأحسن تأويلاً .)
4/ الإلهام ، قد توسع في هذا الصوفية وجعلوا ما يلقى في روع الشيخ بمثابة الوحي المنزل كما قال أحدهم: وإن تأملت في مقامات الأولياء ومواجيدهم وأذواقهم – وذكر مجموعة من الصوفية ثم قال: علمت أن ما يلهمون به لا يتطرق إليه احتمال وشبهة ، بل حق حق حق ، مطابق لما في نفس الأمر – إلى أن قال – وإن تأملت في كلام الشيخ الأكبر خليفة الله في الأرضين ، خاتم فص الولاية: الشيخ محي الملة والدين ، الشيخ محمد بن العربي قدس سره ، ووفقنا لفهم كلماته الشريفة ، لما بقي لك شائبة وهمٍ وشك في أن ما يلهمون به من الله تعالى ... ا.هـ(1)
__________
(1) فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت بحاشية كتاب المستصفى للغزالي (2/372) ، ومن تلبيس الشيطان عليهم أنه لم يقصرهم على الصالحين بل صور لهم الضالين الزائغين في صورة صالحين كهذا الهالك ابن عربي ، وقد عدّ الألوسي الحنفي طائفة من العلماء الذين كفروا ابن عربي منهم ابن حجر والسخاوي وأبو حيان وعلي القاري والعز بن عبدالسلام وأبو زرعة العراقي والشافعي وسراج الدين البلقيني . راجع جلاء العينين ص86 .(1/38)
وإن جعل الإلهام حجة في الشرع خطأ ما أنزل الله به من سلطان ، بل دلائل الشرع وكلام علمائه متواتر في أن كل تجاوز للكتاب والسنة في العبادات من البدع المهلكة المضلة ، قال ابن القيم: يشير القوم ( أي الصوفية ) بالعلم اللدني إلى ما يحصل للعبد من غير واسطة بل بإلهام من الله وتعريف منه لعبده كما حصل للخضر عليه السلام بغير واسطة موسى قال الله تعالى ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) – ثم قال - و العلم اللدني ثمرة العبودية والمتابعة والصدق مع الله والإخلاص له وبذل الجهد في تلقي العلم من مشكاة رسوله وكمال الانقياد له فيفتح له من فهم الكتاب والسنة بأمر يخصه به كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل هل خصكم رسول الله بشيء دون الناس فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه فهذا هو العلم اللدني الحقيقي وأما علم من أعرض عن الكتاب والسنة ولم يتقيد بهما فهو من لدن النفس والهوى والشيطان فهو لدني لكن من لدن مَن وإنما يعرف كون العلم لدنيا رحمانيا بموافقته لما جاء به الرسول عن ربه عز وجل فالعلم اللدني نوعان لدني رحماني ولدني شيطاني بطناوي والمحك هو الوحي ولا وحي بعد رسول الله وأما قصة موسى مع الخضر عليهما السلام فالتعلق بها في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني إلحاد وكفر مخرج عن الإسلام موجب لإراقة الدم والفرق أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولم يكن الخضر مأموراً بمتابعته ولو كان مأموراً بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى ويكون معه ولهذا قال له أنت موسى نبي بني إسرائيل قال نعم ومحمد مبعوث إلى جميع الثقلين فرسالته عامة للجن والإنس في كل زمان ولو كان موسى وعيسى عليهما السلام حيين لكانا من أتباعه وإذا نزل عيسى ابن مريم عليهما السلام فإنما يحكم بشريعة محمد فمن ادعى أنه مع محمد كالخضر مع موسى أو جوز ذلك لأحد من الأمة فليجدد(1/39)
إسلامه وليتشهد شهادة الحق فإنه بذلك مفارق لدين الإسلام بالكلية فضلا عن أن يكون من خاصة أولياء الله وإنما هو من أولياء الشيطان وخلفائه ونوابه وهذا الموضع مقطع ومفرق بين زنادقة القوم وبين أهل الاستقامة منهم فحرك ترهـ(1)قال ابن تيمية (13/73): وكذلك من اتبع ما يرد عليه من الخطاب أو ما يراه من الأنوار والاشخاص الغيبية ولا يعتبر ذلك بالكتاب والسنة فإنما يتبع ظناً لا يغني من الحق شيئاً فليس في المحدثين الملهمين أفضل من عمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر منهم وقد وافق عمر ربه في عدة أشياء ومع هذا فكان عليه أن يعتصم بما جاء به الرسول ولا يقبل ما يرد عليه حتى يعرضه على الرسول ولا يتقدم بين يدي الله ورسوله بل يجعل ما ورد عليه إذا تبين له من ذلك أشياء خلاف ما وقع له فيرجع إلى السنة وكان أبو بكر يبين له أشياء خفيت عليه فيرجع إلى بيان الصديق وإرشاده وتعليمه كما جرى يوم الحديبية ويوم مات الرسول ويوم ناظره في مانعي الزكاة وغير ذلك وكانت المرأة ترد عليه ما يقوله وتذكر الحجة من القرآن فيرجع إليها كما جرى في مهور النساء ومثل هذا كثير ، فكل من كان من أهل الإلهام والخطاب والمكاشفة لم يكن أفضل من عمر فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام بالكتاب والسنة تبعا لما جاء به الرسول لا يجعل ما جاء به الرسول تبعا لما ورد عليه وهؤلاء الذين أخطؤا وضلوا وتركوا ذلك واستغنوا بما ورد عليهم وظنوا أن ذلك يغنيهم عن اتباع العلم المنقول وصار أحدهم يقول: أخذوا علمهم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت فيقال له: أما ما نقله الثقات عن المعصوم فهو حق ولولا النقل المعصوم لكنت أنت وأمثالك إما من المشركين وإما من اليهود والنصارى ، وأما ما ورد عليك فمن أين لك أنه وحي من الله ومن أين لك أنه ليس من وحي الشيطان ، والوحي
__________
(1) مدارج السالكين (2/495) .(1/40)
وحيان وحي من الرحمن ووحي من الشيطان قال تعالى ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) وقال تعالى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) وقال تعالى ( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ) وقد كان المختار بن أبى عبيد من هذا الضرب حتى قيل لابن عمر وابن عباس قيل لأحدهما إنه يقول أنه يوحى إليه ، فقال ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) وقيل للآخر: إنه يقول أنه ينزل عليه فقال (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ) ا.هـ(1)
فخلاصة الأمر لا يعول على الإلهام لأمرين : الأول / انه يلتبس بالوحي والإلهام الشيطاني وما كان كذلك فلا يجوز الاعتماد عليه . الثاني/أن افضل المحدثين عمر كما أخرج البخاري عن أبي هريرة ومسلم عن عائشة أن رسول الله - رضي الله عنه - قال : إن يكن في أمتي محدثون فعمر بن الخطاب " ومع ذلك لم يكن يعتمد على الإلهامات فغيره من باب أولى
__________
(1) 13/73) .(1/41)
5/ الذوق ، وهذا مما لبس الشيطان به على الصوفية فصدهم عن السبيل بأن خرجوا عن دلائل الكتاب والسنة إلى ما سموه ذوقاً . قال ابن تيمية: وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده ، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم ، فيه نبأ من قبلهم وخبر ما بعدهم وحكم ما بينهم ، هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن فلا يستطيع أن يزيغه إلى هواه ولا يحرف به لسانه ولا يخلق عن كثرة الترداد فإذا ردد مرة بعد مرة لم يخلق ولم يمل كغيره من الكلام ولا تنقضي عجائبه ولا تشبع منه العلماء . من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعى إليه هدي إلى صراط مستقيم .(1/42)
فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به ، ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأى وقياس ولا بذوق ووجد ومكاشفة ، ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل فضلاً عن أن يقول ، فيجب تقديم العقل والنقل يعنى القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين إما أن يفوض وإما أن يؤول ولا فيهم من يقول: إن له ذوقاً أو وجداً أو مخاطبة أو مكاشفة تخالف القرآن والحديث فضلاً عن أن يدعى أحدهم أنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسول وأنه يأخذ من ذلك المعدن علم التوحيد والأنبياء كلهم يأخذون عن مشكاته أو يقول الولي أفضل من النبي ونحو ذلك من مقالات أهل الإلحاد فإن هذه الأقوال لم تكن حدثت بعد في المسلمين وإنما يعرف مثل هذه أما عن ملاحدة اليهود والنصارى فإن فيهم من يجوز أن غير النبي أفضل من النبي كما قد يقوله في الحواريين فإنهم عندهم رسل وهم يقولون أفضل من داود وسليمان بل ومن إبراهيم وموسى وان سموهم أنبياء إلى أمثال هذه الأمور ا.هـ(1)
__________
(1) 13/28) .(1/43)
تنبيه: بما أن العبادات مبناها على الاتباع لا الابتداع فإن الاتباع لا يتحقق إلا إذا كانت العبادة موافقة للشريعة في أمور ستةٍ وهي : السبب والجنس والزمان والمكان والقدر(العدد) والصفة كما أفاده العلامة المحقق الشيخ محمد بن صالح العثيمين(1)وقال الشيخ بكر أبو زيد(2)وهي التي صاغها الأئمة بقولهم وقف العبادة على النَّص ومورده في جهات التعبُّد الستِّ وهو السبب والجنس والمقدار والكيفية والزمان والمكان " ا . هـ ، وقال أبو شامة(3)" فهذا الذي وضعت الكتاب لأجله وهو ما قد أمر الشرع به في صورة من الصور من زمانٍ مخصوصٍ أو مكانٍ معيَّنٍ كالصوم بالنهار والطواف بالكعبة ، أو أمر به شخصٌ دون غيره كالذي اختصَّ به النبي صلى الله عليه وسلَّم من المباحات والتخفيفات ، فيقيس الجاهل نفسه عليه فيفعله وهو منهيٌّ عن ذلك ، ويقيس الصور بعضها على بعض ولا يفرِّق بين الأزمنة والأمكنة " ا . هـ ، وقال العز بن عبد السلام " فإن الشريعة لم تَرِد بالتقرُّب إلى الله تعالى بسجدةٍ مُنفردةٍ لا سببَ لها فإن القُرَبَ لها أسبابٌ ، وشرائطٌ ، وأوقاتٌ ، وأركانٌ ، لا تصحُّ بدونها . فكما لا يُتقرَّب إلى الله تعالى بالوقوف في عرفة ومزدلفة ورمي الجمار والسعي بين الصفا و المروة من نسك واقعٍ في وقته بأسبابه وشرائطه فكذلك لا يُتقرب إليه بسجدةٍ منفردةٍ وإن كانت قُرْبةً إذا كان لها سببٌ صحيح(4). وكذلك لا يُتقرَّب إلى الله عز وجل بالصلاة والصيام في كل وقتٍ و أوان وربما تقرَّب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعِدٌ عنه ، من حيث لا يشعرون "(5)
__________
(1) كتاب الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع ص 22 .
(2) في كتاب تصحيح الدعاء ص 41
(3) الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة ص 38 .
(4) كذا في الأصل ولعل الصحيح ( إذا كان ليس لها سببٌ صحيح ) .
(5) كتاب الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة ص 7 ، 8 ..بواسطة أصول البدع ص 98 وانظر كتاب أصول البدع ص98 وقواعد معرفة البدع ص110 .(1/44)
ا . هـ ،فإن مغير سبب أو زمان أو مكان أو جنس أو صفةٍ أو مقدارٍ وضعته الشريعة متعبداً الله بذلك واقع في البدعة إذ هذا الفعل من جملة المُحدثات والتبديل لدين الله الذي ذم الله به الكفار ولأهمية هذه الأمور الستة التي لا تتم المتابعة إلا بها فإنه سيتم الكلام عنها بشيءٍ من التفريع والتمثيل .
أ- السبب : جعلت الشريعة المطهرة دخول الخلاء سبباً لقول " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " كما أخرج السبعة عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إذا دخل الخلاء قال : اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " فلو أن أحداً جعل دخول الخلاء سبباً لقول " غفرانك " لوقع في البدعة .
ب- الجنس : جعلت الشريعة بهيمة الأنعام جنساً للأضاحي فلو أن أحداً جعل الدجاج جنساً للأضاحي لوقع في البدعة(1).
جـ - القدر ( العدد ) : جعلت الشريعة المطهَّرة السعي بين الصفا والمروة سبعاً فلو أن أحداً زاد أو أنقص مُتعمِّداً مُتعبِّداً لله بذلك لوقع في البدعة .
د- الزمان – جعلت الشريعة المطهَّرة للوقوف بعرفة وقتاً له بدايةٌ ونهايةٌ فمن وقف بها متعبِّداً لله بذلك قبل الوقت أو بعده وقع في البدعة .
هـ – المكان : جعلت الشريعة للاعتكاف مكاناً وهو المسجد كما قال تعالى { ولا تُباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ... } فلو أن أحداً اعتكف في غير المسجد لما صحَّ اعتكافه ولصار بدعةً .(2)
و – الصفة : ( الكيفية ) ويُراعى في الصفة أمورٌ :
1- صفة الفعل في الظاهر : كصفة طواف رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من أنه جعل الكعبة عن شماله كما دل على ذلك حديث جابر في صحيح مسلم ، فلو أن أحداً طاف وجعل البيت عن يمينه لكان فعله بدعة .
__________
(1) انظر الإبداع للشيخ محمد بن عثيمين ص 21 .
(2) راجع الإبداع ص 22 .(1/45)
2- صفة الفعل من جهة القصد والتَّبَع : فما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قصداً يُفعل قصداً وما فعله تَبَعاً يُفعل تَبَعاً والمخالفة في ذلك بجعل التابع مقصوداً أو المقصود تابعاً من جملة البدع المحدثة ، قال ابن تيمية(1)"وذلك لأن المتابعة أن يُفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فَعَل ، فإذا فَعَل فِعلاً على وجه العبادة ، شُرِعَ لنا أن نفعله على وجه العبادة ، وإذا قَصَدَ تخصيص مكانٍ أو زمانٍ بالعبادة خصَّصناه بذلك ، كما يقصد أن يطوف حول الكعبة ، وأن يلتمس الحجر الأسود ، وأن يصلي خلف المقام وكان يتحرَّى الصلاة عند اسطوانة مسجد المدينة ، وقَصَد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذِّكر هناك ، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما ، وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده مثل أن ينزل بمكانٍ ، ويصلي فيه لكونه نزله لا قصْداً لتخصيصه به بالصلاة فيه و النزول فيه. فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متَّبعين بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة عن سليمان التيمي عن المعرور بن سويد قال كان عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة ثم أتى على مكانٍ فجعل الناس يأتونه فيقولون صلَّى فيه النبي صلى الله عليه وسلَّم فقال عمر " إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم ، فاتخذوا كنائس وبيعاً . فمن عَرَضَتْ له الصلاة فليصلِّ وإلا فليمضِ " فلما كان النبي صلى الله عليه وسلَّم لم يقصِد تخصيصه بالصلاة فيه ، صلَّى فيه لأنه موضعُ نزوله ، رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس مُتابعةً بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب ، التي هلكوا بها ، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك ، ففاعل ذلك متشبهٌ بالنبي صلى الله عليه وسلَّم في الصورة ومتشبهٌ باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب .(1/46)
وهذا هو الأصل فإن المتابعة في النية أبلغ من المتابعة في صورة العمل " ا . هـ(1)، وقال " لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلَّم تكون بطاعة أمره ، وتكون في فعله ، بأن يُفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله ، فإذا قصد العبادة في مكانٍ كان قصد العبادة فيه متابعةً له ، كقصد المشاعر والمساجد . وأما إذا نزل في مكانٍ بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك ، مما يُعلم أنه لم يتحر ذلك المكان ، فإذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له ، فإن الأعمال بالنيات – ثم قال – فأما الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلَّم يقصد الصلاة أو الدعاء عندها ، فقصد الصلاة فيها أو الدعاء سنةٌ ، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلَّم واتباعاً له ، كما إذا تحرى الصلاة أو الدعاء في وقتٍ من الأوقات فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنةٌ كسائر عباداته ، وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرُّب ومثل هذا ما خرجاه في الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد قال كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الاسطوانة التي عند المصحف . فقلت له يا أبا مسلم ، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الاسطوانة قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلَّم يتحرَّى الصلاة عندها وفي روايةٍ لمسلم عن سلمة بن الأكوع أنه كان يتحرى الصلاة موضع المصحف يُسبح فيه ، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان يتحرى ذلك المكان ، وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر شاة " ا . هـ(2)، وقال "لأن المتابعة هي أن نفعل كما فعل على الوجه الذي فعل ، فلا بد أن نشاركه في القصد والنية فإنما الأعمال بالنيات ، فإذا قصد العبادة بالعمل ، فقصدنا العبادة به كنا مقتدين ، متَّبعين ، متأسِّين به ، وأما إذا لم يقصد به العبادة بل فعله على وجه الاتفاق لتيسّره عليه ، فإذا قصدنا العبادة به ، لم نكن متبعين له ... " ا .
__________
(1) مجموع الفتاوى (1/280) .
(2) الاقتضاء (2/753) .(1/47)
هـ(1). ، وليتضح المراد أذكر مثالين :
الأول : أن بعض المبتدعة استدل على جواز الذهاب إلى القبور بقصد الدعاء للنفس بما رواه مسلم عن بريدة بن حصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان يعلِّم الصحابة إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا وفيه " نسأل الله لنا ولكم العافية "
فأجاب ابن تيمية وغيره على هذا الاستدلال بأن الدعاء للنفس في هذا الحديث جاء تبعاً لا قصداً فإذا جعلتموه مقصوداً صار من جملة البدع .(2)
الثاني : أن بعض الناس استحبَّ أن يفعل المتعبِّد فعل أهل الصفَّة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فمن ثم ينقطع للتعبُّد . فردَّ الشاطبي(3)هذا القول مبيِّناً أن فعل أهل الصفَّة لم يكن مقصوداً وإنما جاء تبعاً فجعلُهُ مقصوداً من جملة البدع .
__________
(1) كتاب قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإٍسلام والإيمان ص 50 وراجع الإقتضاء (2/803 ) وكتاب قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان ص49 – 51 .
(2) راجع الاقتضاء (2/721) ، وصيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان ص 256 وفتاوى العقيدة لابن عثيمين ص 631 .
(3) كتاب الاعتصام (1/257-262 )(1/48)
3-صفة الفعل من جهة الدوام والالتزام وعدمه : من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم التعبُّدية ما يداوِمُ عليه ومنها أفعالٌ لم يكن يداوم عليها بل يفعلها تارةً ويتركها أخرى فمن داوم على ما لم يداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وقع في البدعة لأن السنَّة تُتَّبع كما هي ، قال ابن تيمية(1)" وما تعيَّن فعله منفرداً ، كقيام الليل وصلاة الضحى ونحو ذلك إنْ فُعل جماعةً في بعض الأحيان ، فلا بأس بذلك ، لكن لا تُتخذ سنَّةً راتبةً " ا . هـ ، وقال الشيخ العلامة ابن عثيمين(2):" ولا بأس أن يصلي الإنسان جماعةً في غير رمضان في بيته أحياناً ، لفعل الرسول صلى الله عليه وسلَّم فقد صلَّى بابن عباس وابن مسعودٍ وحذيفة بن اليمان ، جماعةً في بيته . لكن لم يتخذ ذلك سنةً راتبةً ولم يكن أيضاً يفعله في المسجد " ا . هـ ، وقال الشاطبي " كلُّ دليلٍ شرعيٍّ لا يخلو أن يكون معمولاً به في السلف المتقدمين دائماً أو أكثرياً ، أو لا يكون معمولاً به إلا قليلاً أو في وقتٍ ما ، أو لا يثبت به عملٌ فهذه ثلاثةُ أقسام : - ثم قال – والثاني : ألاّ يقع العمل به إلا قليلاً أو في وقتٍ من الأوقات أو حالٍ من الأحوال ووقع إيثار غيره والعمل به دائماً أو أكثرياً ، فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة ، وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلاً ، فيجب التثبت فيه وفي العمل على وفقه ، والمثابرة على ما هو الأعمُّ الأكثر فإن إدامة الأولِين للعمل على مخالفة هذا الأقلّ ، إما أن يكون لمعنىً شرعيٍّ أو لغير معنىً شرعيٍّ وباطلٌ أن يكون لغير معنىً شرعيٍّ ، فلا بد أن يكون لمعنىً شرعيٍّ تحرَّوا العمل به وإذا كان كذلك ، فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحرَّوا العمل على وفقه وإن لم يكن معارضاً في الحقيقة فلا بد من تحرِّي ما تحرَّوا وموافقة ما داوموا عليه .
__________
(1) في الاختيارات ص 120 .
(2) الشرح الممتع (4/82) .(1/49)
وأيضاً ، فإن فرض أن هذا المنقول الذي قلَّ العمل به مع ما كثُر العمل به يقتضيان التخيير ، فعملهم إذا حُقِّق النظر فيه لا يقتضي مطلق التخيير ، بل اقتضى أن ما داوموا عليه هو الأولى في الجملة " ا . هـ(1).
فائدة :
الأفعال التي لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يداوم عليها بل يفعلها أحياناً ويتركها أحياناً نوعان :
أ – نوعٌ اتضح فيه الأصل والغالب من فعله وإنما يدع هذا الأصل أحياناً وذلك مثل صلاة النافلة منفرداً فهذا هو الأصل فيها والغالب عليها إنما يدع هذا أحياناً فيصلي النافلة جماعة . ومثل – أيضاً - القراءة في صلاة المغرب هديه الغالب أن يقرأ فيها بقصار السور وأحياناً يدع هذا الأصل فيقرأ فيها بطوال السور ونحو ذلك فما كان من هذا النوع فإن المداومة على خلاف الأصل من جملة البدع - على ما سبق نقله -.
__________
(1) الموافقات ( 3/252 ) .(1/50)
ب- نوعٌ لم يتضح فيه الأصل والغالب بل ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فعل هذا تارةً وهذا تارةً فمثل هذا النوع تصحُّ المداومة على أحد الفعلين وإن كان الأفضل التنوُّع بفعل هذا تارةً وهذا تارةً ويمثل لهذا بالاختلاف في أدعية الاستفتاح والتشهُّد والأذان قال ابن تيمية(1)" منها ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه سن كل واحدٍ من الأمرين ، واتفقت الأمة على أن من فعل أحدهما لم يأثم بذلك لكن قد يتنازعون في الأفضل ، وهو بمنزلة القراءات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلَّم التي اتفق الناس على جواز القراءة بأيٍّ قراءةٍ شاء منها كالقراءة المشهورة بين المسلمين فهذه يقرأ المسلم بما شاء منها ، وإن اختار بعضها لسببٍ من الأسباب ومن هذا الباب الاستفتاحات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه كان يقولها في قيام الليل ، وأنواع الأدعية التي كان يدعو بها في صلاته في آخر التشهُّد ، فهذه الأنواع الثابتة عنه صلى الله عليه وسلَّم كلها سائغةٌ باتفاق المسلمين ، لكن ما أمر به من ذلك أفضل لنا مما فعله ولم يأمر به " ا . هـ ، وليُعلم أن ترجيح أحد هذه الأنواع على غيرها لمرجحٍ خارجيٍّ لا يُخالف ما سبق تقريره
تنبيهٌ : هذه العبادات المتنوعة المختلفة فيما بينها اختلافُ تنوُّع لا يصحُّ جمعها والإتيان بها جميعاً كأن يستفتح المصلّي بأكثر من دعاء استفتاح في صلاةٍ واحدةٍ وفعل هذا من جملة البدع المنهيِّ عنها لكون رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لم يفعل ذلك(2).
المقدمة الثالثة:
__________
(1) مجموع الفتاوى (22/265 ،66،67،69،336،337 ) والاستذكار لابن عبد البر (4/282) وجلاء الأفهام لابن القيم ص 455 وتصحيح الدعاء ص 34
(2) راجع الفتاوى ( 22/458،274-275،244،245،370) وجلاء الأفهام وحاشيته ص 453 وتصحيح الدعاء ص 43 .(1/51)
كل إحداث في الدين لم يدل عليه دليل معتبر شرعاً فهو من جملة البدع المحرمة في الشرع . قال ابن تيمية(1)" والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع" ا . هـ ، وقال(2)" فالأصل في العبادات ألاَّ يشرع منها إلا ما شرعه الله " ا . هـ ،وقال " فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع - ثم قال – ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله { أم لهم شركاءُ شرعوا لهم من الدِّين ما لم يأذن به الله ... } ا . هـ(3)، وقال ابن القيم(4)" ولا دين إلا ما شرعه ، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليلٌ على الأمر " وكلام الأئمة في هذا مشهورٌ ويدلُّ على هذه القاعدة قوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ... } فالدِّين كاملٌ لا يقبل المُحدَثاتِ وقوله تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ... } وقوله { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ... } وحديث عائشة " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ " وحديث العرباض بن سارية " إياكم ومُحدَثاتُ الأمور فإن كل مُحدَثةٍ بدعةٌ " وحديثُ جابرٍ " وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ " رواه مسلم وثبت عن ابن مسعودٍ أنه قال " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم ، كل بدعةٍ ضلالةٌ "(5).
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 22/510 ) .
(2) الاقتضاء (2/585 ) .
(3) القواعد النورانية ص134 ،وانظر مجموع الفتاوى (31 /35 )
(4) ابن القيم في الأعلام (1/344 ).
(5) أخرجه أبو خيثمة في كتاب العلم وابن وضاح في البدع .(1/52)
وثبت عن حذيفة بن اليمان أنه كان يدخل المسجد فيقف على الحِلَق فيقول " يا معشر القرَّاء اسلكوا الطريق فلئن سلكتموها لقد سبقتم سبقاً بعيداً ، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً "(1)
فائدة: ما ثبت أنه بدعةٌ في الدِّين فهو ضلالةٌ إذ كل بدعةٍ ضلالةٌ ويدل لهذا عموم الآيات والأحاديث الذامة للبدع كحديث جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم " وكل بدعةٍ ضلالةٌ " رواه مسلم وحديث العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعةٍ ضلالة " وقد سبق قول ابن مسعود " وكل بدعةٍ ضلالةٌ " وروى اللالكائي(2)وغيره عن ابن عمر قوله " كلُّ بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنةً " فمن هذا يُعلم أن البدع كلها سيئةٌ ولا توجد في الدِّين بدعةٌ حسنةٌ ففي هذا ردٌ على مقسَّمي البدع قسمين حسنةً وسيئةً كالعز بن عبد السلام والقرافي والنووي والزركشي الشافعي وابن حجر الهيثمي والسخاوي والسيوطي وأبي السعادات ابن الأثير وعلي الجرجاني وغيرهم على أنّ لهؤلاء أدلّة في هذا التقسيم فإليكها مع الإجابة عليها :
أ – ما رواه الخطيب عن أنس أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم " فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسنٌ " .
__________
(1) أخرجه ابن نصر في السنة وابن وضاح في البدع وأخرج البخاري نحوه في كتاب الاعتصام .
(2) 1/92 ) رقم (126 ) .(1/53)
ب- وما رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في صدر النهار قال فجاءه قومٌ حفاةٌ عُراةٌ مجتابي النمار أو العباء مُتقلديّ السيوف عامَّتهم من مُضرَ بل كلهم من مُضر فتمعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لمِا رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ... } الآية والآية التي في سورة الحشر { اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ واتقوا الله ... } تصدق رجلٌ من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع برِّه من صاع تمره ( حتى قال ) ولو بشقِّ تمرةٍ " قال فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرَّةٍ كادت كفُّه تعجز عنها بل قد عجزت قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعامٍ وثيابٍ حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يتهلَّل كأنه مذهبةٌ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم " من سنَّ في الإسلام سُنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ ومن سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وزرُها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ " .
ج-وقول عمر بن الخطاب لما رأى الناس يُصلون القيام جماعةً في رمضان " نعمت البدعةُ " رواه البخاري .
د- كتابة القرآن وجمعه في مصحفٍ واحدٍ كما أمر أبو بكر- بمشورة عمر –زيد بن ثابت . والحديث في البخاري وقد تقدم .
وإليك الإجابة على هذه الأدلة بالاختصار ما أمكن :(1/54)
أما الدليل الأول / فهو ضعيف لا يصح مرفوعاً . قال ابن عبدالهادي: إسناده ساقط والأصح وقفه على ابن مسعود ا.هـ(1)وروى الحديث مرفوعاً الخطيب البغدادي(2)وبين الشيخ الألباني – رحمه الله – أن في إسناده كذاباً ثم ذكر أنه إنما يثبت على ابن مسعود(3)كما أخرجه الإمام أحمد والخطيب في الفقيه والمتفقه . ومعناه ما أجمع العلماء عليه ولا تنس أن عبد الله بن مسعود يقول بأن كل بدعةٍ ضلالةٌ .
أما الدليل الثاني /حديث " سن في الإسلام سنةً حسنةً ... " فالرد على المستدلين به من أوجهٍ :
1- لفظة ( سنَّ ) في الحديث محتملةٌ لمعنى أنشأ ولمعنى أحيا وذكَّر والاحتمال الثاني هو المتعين لأمرين :أولهما /مناسبةُ الحديث إذ غاية ما فيه أن الأنصاري صاحب الصُّرة أحيا وذكّر بهذه السنة . وثانيهما /أن الاحتمال الأول معارَضٌ بالأحاديث الذامة والناهية عن البدع فعلى هذا يترجح الاحتمال الثاني .
2- أن معرفة كون هذا العمل من الأمور الحسنة أو السيئة في الدِّين راجعٌ للشرع لأمرين: أولهما /أن عبد الله بن مسعود قال وكم من مريدٍ للخير لن يصبه . أخرجه الدارمي. وثانيهما /أن عقول الناس تتفاوت فلا يصلح كونها ميزاناً في تميز الحسن والسيئ(4)في الدِّين .
__________
(1) بواسطة كشف الخفاء (2/188) .
(2) تاريخ بغداد (4/165) .
(3) السلسلة الضعيفة (2/17) .
(4) انظر الاقتضاء ( 2/585 ) والاعتصام ( 1/233 ) وجامع العلوم والحكم ( 2/128 ) وكتاب حقيقة البدعة ( 1/394 ) والإبداع في كمال الشرع ص 18 وأصول البدع ص 121 وكتاب البدعة وأثرها السيئ في الأمة ص 42-45 .(1/55)
أما الدليل الثالث /قول عمر " نعمت البدعة " فالمراد بالبدعة في اللغة لا في الشرع فإن هذا الفعل ليس من جملة البدع لكون رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قد فعل القيام جماعة في رمضان ثم تركه لمانعٍ وهذا المانع زال بموته فصار فعله سنةً شرعيةً فيُحمل قول عمر بن الخطاب هذا على المعنى اللغوي لا الشرعي لكون هذا الفعل ليس بدعةً شرعيةً بل سنةٌ نبويةٌ ويُقال أيضاً عمر من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم كما في حديث العرباض بن سارية(1).
أما الدليل الرابع /وهو جمع القرآن في مصحفٍ واحدٍ فلا مَمسَك فيه لأنه من المصالح المرسلة .على أنه من سنةِ الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بالتمسك بسنتهم .
فبهذا يتبين أن هذا التقسيم محدث لم يعرفه السلف فلا يجوز تقليد هؤلاء فيه .
تذييلات مهمات :
التذييل الأول: ذكر عبدالله الغماري في كتاب " إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة "(2)حديث "من أحدث في أمرنا هذا – مخصصٌ لحديث " كل بدعةٍ ضلالةٌ " ومبينٌ للمراد منها ، كما هو واضحٌ ، إذ لو كانت البدعة ضلالة بدون استثناء لقال الحديث من أحدث في أمرنا هذا شيئاً فهو ردٌ ، لكن لما قال : "أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ، فهو ردٌ " أفاد أن المحدث نوعان ما ليس من الدِّين بأن كان مخالفاً لقواعده ودلائله فهو مردودٌ وهو البدعةُ الضلالة وما هو من الدين بأن شهد له أصلٌ ، أو أيده دليلٌ فهو صحيحٌ مقبولٌ وهو السنة الحسنةُ "ا.هـ(3)
والرد أن يقال: ما قاله داعية البدعة الغماري خطأ وتأصيل لفتح باب البدع التي هي ضلالة وإنما مفهومه الصحيح هو أن يُحمل على أحد أمرين :
__________
(1) انظر الاقتضاء ( 2/593 ) ومنهاج السنة ( 8/307-308 ) والاعتصام (1/248-250 ) وجامع العلوم والحكم ( 2/128 ) وكتاب حقيقة البدع (1/411 ) والإبداع في كمال الشرع ص 15-17 وكتاب أصول البدع ص 95 ،126،129 .
(2) ص22 –23 .
(3) بنحو هذا الكلام ذكر صاحب الموسوعة اليوسفية ص484 .(1/56)
الأول/ المصالح المرسلة المعتبرة التي لم تُفعل إلا بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كجمع القرآن وأذان عثمان الأول يوم الجمعة وهكذا ...
الثاني/ على العبادات التي لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لوجود مانعٍ كقيام رمضان جماعةً في المسجد وهذا كله لأجل ألا يتعارض مفهوم هذا الحديث مع السنة التركية فإن السنة التركية دليل شرعي معتبر فإليك تقرير الاحتجاج بها ، وبعض ما يتعلق بها من مهمات:
السنة التركية هي: ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه الأخيار من العبادات مع وجود المقتضي وانتفاء المانع . فتركه واجب وفعله بدعة منكرة .(1/57)
وهذه قاعدة مهمة ضبطها يجلي كثيراً من البدع فإن ترك رسول الله صلى الله عليه وسلَّم العمل مع إمكان فعله – وهو الحريص كل الحرص على طاعة ربه الموصوف بأنه أخشى خلق الله وأتقاهم له – والمانع منتفٍ فهو والحالة هذه كفعله للعمل التعبُّدي ففعله صلى الله عليه وسلَّم سنةٌ وتركه صلى الله عليه وسلَّم سنةٌ لكن لا يصح لنا الاستدلال بالسنة التركية إلا عند توفُّر الدواعي للنقل فلا ينقل .وأقوى ما يتصور هذا فيما إذا نقل جزء العبادة دون جزئها الآخر . كما أشار لهذا ابن تيمية(1)على أن الأصل في العبادات أنها مما تتوفر الدواعي على نقلها ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بدليل بيّن وحجّة واضحة. وفائدة هذا أنه أحياناً تتوفر الدواعي لنقل الفعل أكثر من الترك ، وأحياناً على قلةٍ لا تتوفر- كما سيأتي توضيحه فيما يستقبل -، فمثلاً صلاة الرغائب والألفية لم يثبت فيها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه ففعلها بعد تركهم مع إمكان فعلهم لها والمانع منتفٍ من جملة البدع إذ لو كان خيراً لسبقونا إليه .أما ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لوجود مانعٍ فليس داخلاً في البدع وذلك كمثل استخدام مكبّرات الصّوت في الآذان فهذا لو فعله رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لنقل لكن لا يصح وصفه بالبدعة لأنّه وجد مانع من فعله وهو عدم وجوده في زمن النبي صلى الله عليه وسلَّم ،وكمثل صلاة القيام جماعةً في رمضان فإن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم تركه خشية أن يُفترض كما جاء في حديث عائشة المتفق عليه فلما زال المانع بموته - إذ الوحي انقطع فما لم يكن مفروضاً فلن يفرض - أمر الفاروق عمر بن الخطاب بفعلها كما ثبت في صحيح البخاري .
__________
(1) رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص 34 .(1/58)
وأما مالم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لأنّ الدّواعي لم تتوافر على نقله فهذا لا يصح وصف فعله بأنّه بدعة إذ اختلّ فيه شرط توفّر الدواعي للنقل- وقد سبق أنّ هذا لا يصار إليه إلا بدليل - ،وهذا مثل وضع اليدين على الصّدر بعد الرّفع من الركوع فإنّ بعد الركوع لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلَّم فيه شيء لا بالوضع ولا عدمه ،مما دلّ على أنّ الدواعي لم تتوفّر للنقل . فيتلخّص من هذا أنّه لا يصح وصف فعل تركه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أو صحابته بأنّه بدعة إلا إذا اجتمع فيه أمران:
أ- توافر الدواعي للنقل وهذا هو الأصل في كل عبادة ولا ينتقل عنه إلا ببرهان واضح .
ب- أنّ لا يوجد مانع يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أو صحابته من فعله .والله أعلم.
الأدلة على هذه القاعدة نوعان عامةٌ وخاصةٌ:
أما العامة فكل ما سبق من الأدلة القرآنية والحديثية في تحريم البدع إذ فعل ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مع إمكان فعله بدون مانع إحداثٌ في الدِّين .
أما الخاصة فكثيرة وهذا بعضها :
1-ما رواه مسلم عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا وأشار بإصبعه المسبحة " وجه الدلالة / أن الصحابي عمارة بن رؤيبة استدل بالسنة التركية في الإنكار على بشر بن مروان(1/59)
2-ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك قال : جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلَّم ، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلَّم ، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها وقالوا : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلَّم قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبداً وقال الآخر وأنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبداً فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إليهم فقال " أنتم الذين قلتم كذا وكذا . أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوَّج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " وجه الدلالة / أن هؤلاء لم يعتبروا السنة التركية دليلاً -تأوُّلاً منهم -فأنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وبين أن التارك لها تاركٌ لسنته .
3-ما رواه الشيخان عن معاذة قالت : سألت عائشة فقلت ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت : أحروريةٌ أنت ؟ قالت لست بحروريةٍ ، ولكني اسأل ، قالت كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة . وجه الدلالة / أن عائشة أم المؤمنين استدلت بتركهم وإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لذلك .(1/60)
4-ما رواه البخاري عن زيد بن ثابت في قصة جمع القرآن وأن عمر ابن الخطاب أشار على أبي بكر بجمع القرآن فقال له أبو بكر : كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ؟ فلما أن شرح الله صدر أبي بكر لهذا كلَّف زيد بن ثابت به فقال زيدٌ : كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلَّم . وجه الدلالة / أن كلا من أبي بكرٍ وزيدٍ احتجا بالسنة التركية . فإن قيل كيف خالفوها ؟ فيُقال لأن المقتضي من فعلها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لم يكن موجوداً إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلَّم بينهم حافظاً للقرآن فلا يخشى ذهابه بخلاف ما بعد وفاته صلى الله عليه وسلَّم . وقد سبق تقرير حجية السنة التركية عند وجود المقتضي وانتفاء المانع .
5-اخرج البخاري عن أبي وائل قال جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة فقال لقد جلس هذا المجلس عمر . فقال لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته قلت : إن صاحبيك لم يفعلا قال هما المرآن اقتدى بهما . وجه الدلالة / أنه ترك ما هم به استدلالاً بالسنة التركية .(1/61)
6-أخرج الدارمي في سننه وابن وضاح في كتاب ما جاء في البدع وغيرهم عن عمرو بن سلمة كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل الغداة ، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد فجاءنا أبو موسى ، فقال : أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد ؟ قلنا : لا . فجلس معنا حتى خرج ، فلما خرج قمنا إليه جميعاً ، فقال له أبو موسى يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد أمراً أنكرته ولم أرَ – والحمد لله – إلا خيراً. قال فما هو ؟ فقال إن عشت فستراه . قال : رأيت في المسجد قوماً جلوساً ، ينتظرون الصلاة ، في كل حلقةٍ رجلٌ ، وفي أيديهم حصاً ، فيقول كبِّروا مائة ، فيكبِّرون مائة ، فيقول هللوا مائةً ، فيهللون مائةً ويقول سبِّحوا مائة ، فيسبِّحون مائةً ، قال فماذا قلتَ لهم ؟ قال ما قلتُ شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك . قال أفلا أمرتهم أن يعدُّوا سيئاتهم ، وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم ؟ ثم مضى ومضينا معه ، حتى أتى حلقةً من تلك الحلق ، فوقف عليهم فقال ما هذا الذي أراكم تصنعون ؟ قالوا يا أبا عبد الرحمن حصاً نعدُّ به التكبير ، والتهليل ، والتسبيح . قال فعدُّوا سيئاتكم فأنا ضامنٌ ألا يضيع من حسناتكم شيءٌ وَيحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلَّم متوافرون ، وهذه ثيابه لم تبل ، وآنيته لم تُكسر والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملَّةٍ أهدى من ملَّة محمد أو مفتِّحوا باب ضلالةٍ . قالوا والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير . قال وكم من مريدٍ للخير لن يُصيبه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم حدثنا " إنَّ قومنا يقرؤون القرآن لا يُجاوز تراقيهم " وأيم الله لا أدري ، لعلَّ أكثرهم منكم . ثم تولَّى عنهم . فقال عمرو بن سلمة رأينا عامة أولئك الخلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج "(1)
__________
(1) الأثر ثابت وتجد بحثاً مفيداً في دراسته روايةً في كتاب البدع وأثرها السيء في الأمة ص 26-29 ..(1/62)
وجه الدلالة / أن الصحابي ابن مسعود اعتمد في الإنكار على هؤلاء بأن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه لم يفعلوا هذا الأمر ( السنة التركَّية ) ففاعلُهُ ما بين أمرين أن يزعم أنه أهدى منهم أو أنه يكون مفتحاً لباب ضلالةٍ و الثاني هو المتعيِّن . وبعد ذكر هذه الأدلة العامة والخاصة في إثبات السنة التركية بضوابطها إليك أقوال أهل العلم الدالة على اعتبارهم السنة التركيَّة .
أقوال أهل العلم في اعتبار السنّة التركية :(1/63)
قال الشافعي " وللناس تبرٌ غيره من نحاس وحديد ورصاص فلما لم يأخذ منه رسول الله ولا أحد بعده زكاة تركناه اتباعاً بتركه " . ا . هـ(1)، وقال ابن تيمية " والترك الراتب سنَّةٌ كما أن الفعل الراتب سنةٌ بخلاف ما كان تركه لعدم مقتضٍ أو فوات شرطٍ أو وجود مانعٍ وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلَّت الشريعة على فعله حنيئذٍ كجمع القرآن في المصحف وجمع الناس في التراويح على إمامٍ واحدٍ وتعلُّم العربية وأسماء النقلة للعلم وغير ذلك مما يُحتاج إليه في الدِّين ، بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به وإنما تركه صلى الله عليه وسلَّم لفوات شرطه أو وجود مانعٍ فأما ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعاً لفعله أو أذن فيه ، وَلَفَعَله الخلفاء بعده والصحابة ، فيجب القطع بأنه بدعةٌ وضلالةٌ . ويمتنع القياس في مثله ..ا.هـ(2)وقال: " فحاصُلُه أن الرسول صلى الله عليه وسلَّم أكمل البشر في جميع أحواله فما تركه من القول والفعل فتركه أولى من فعله ، وما فعله ففعله أكمل من تركه "(3)ا .هـ ، وقال(4)" والقياس هنا فاسد الوضع والاعتبار ، لأنه موضوعٌ في مقابلة النَّص ، وذاك أن ترْكه صلى الله عليه وسلَّم سنةٌ كما أن فعله سنةٌ " وقال(5)" ولأن التلفظ بذلك لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلَّم ولا عن أصحابه ولا عن أحدٍ من التابعين لهم بإحسانٍ ومعلومٌ أن ذلك لو كان مستحباً لفعلوه وعلَّموه وأمروا به ، ولو كان ذلك لنُقل كما نُقل سائر الأذكار وإذا لم يكن كذلك كان من محدثات الأمور ... " ا . هـ ،
__________
(1) كتاب الرسالة ص 194 .
(2) القواعد النورانية ص 124 .وانظره في المجموع ( 26/172 ) .
(3) الصارم المسلول (2/332 ) .
(4) ص 591 .
(5) الإقتضاء (2 /600 ) .(1/64)
وقال رحمه الله " بل يُقال ترك رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مع وجود ما يعتقد مقتضياً وزوال المانع سنةٌ كما أن فعله سنةٌ . فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذانٍ ولا إقامةٍ كان ترك الأذان فيهما سنةً ، فليس لأحدٍ أن يزيد في ذلك – ثم قال – ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فهذا الترك سنةٌ خاصةٌ ، مقدمةٌ على كل عمومٍ وكل قياس " ا . هـ(1)، وقال " لأن ذلك الفضل إن لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلَّم ولا أصحابه ولا التابعون ، ولا سائر الأئمة ، امتنع أن نعلم نحن من الدِّين الذي يقرِّب إلى الله ما لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلَّم والصحابة والتابعون وسائر الأئمة وإن علموه امتنع مع توفُّر دواعيهم على العمل الصالح وتعليم الخَلق والنصيحة لهم ألاّ يعلموا أحداً بهذا الفضل ولا يسارع إليه واحدٌ منهم فإذا كان هذا الفضل المدَّعى مستلزماً لعدم علم الرسول صلى الله عليه وسلَّم وخير القرون لبعض دين الله ولكتمانهم وتركهم ما تقضي شريعتهم وعاداتهم ألا يكتموه ولا يتركوه وكل واحدٍ من اللازمَين منتفٍ إما بالشرع وإما بالعادة مع الشرع علم انتفاء الملزوم وهو الفضل المدعى"ا.هـ(2)، وقال ابن القيم " لأن هذا مما انعقد سبب فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلَّم فإذا لم يفعله ولم يشرَعه كان تركه هو السنة – ثم قال – فلذلك كان الصحيح أنه لا يُسنّ الغُسل للمبيت بمزدلفة ولا لرمي الجمار ولا للطواف ولا للكسوف ولا للاستسقاء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه لم يغتسلوا لذلك مع فعلهم لهذه العبادات " ا . هـ(3)، وقال –رحمه الله –كلاماً مفيداً للغاية فيما يتعلق بالسنة التركية مع ذكره بعض الأمثلة عليها.
__________
(1) الاقتضاء (1/280)
(2) الإقتضاء (2/ 610 ) .
(3) زاد المعاد (1/432 )(1/65)
قال(1)" وأما نقلهم لتركه صلى الله عليه وسلَّم فهو نوعان: وكلاهما سنة أحدهما / تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله ، كقوله في شهداء أحد " ولم يغسلهم ولم يصل وقوله في صلاة العيد " لم يكن أذان ولا إقامةٌ ولا نداءٌ " وقوله في جمعه بين الصلاتين " ولم يسبح بينهما ولا على أثر واحدةٍ منهما ونظائره .(1/66)
والثاني / عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم و دواعيهم أو أكثرهم أو واحدٍ منهم على نقله ، فحيث لم ينقله واحدٌ منهم ألبتة ولا حدث به في مجمع أبداً عُلم أنه لم يكن ، وهذا كتركه التلفُّظ بالنية عند دخوله في الصلاة ، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمنون على دعائه دائماً بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات ، وتركه رفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من ركوع الثانية وقوله " اللهم اهدنا فيمن هديت " يجهر بها ويقول المأمومون كلهم" آمين " ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغيرٌ و لا كبيرٌ ولا رجلٌ ولا امرأةٌ ألبتة وهو مواظبٌ عليه هذه المواظبة لا يخلُّ به يوماً واحداً ، وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة ولو رمى الجمار ولطواف الزيارة ولصلاة الاستسقاء والكسوف ، ومن ههنا يُعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة ، فإن تركه صلى الله عليه وسلَّم سنةٌ كما أن فعله سنةٌ ، فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ، ولا فرق فإن قيل من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم ؟ فهذا سؤالٌ بعيد جداً عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه ، ولو صحَّ هذا السؤال وقُبِل لا ستحبَّ لنا مستحبٌّ الأذان للتراويح ، وقال من أين لكم أنه لم يُنقل؟ واستحبّ لنا مستحبٌ آخر الغسل لكل صلاةٍ وقال من أين لكم انه لم يُنقل ؟ واستحبَّ لنا مستحبٌّ آخر النداء بعد الأذان للصلاة يرحمكم الله ورفع بها صوته وقال " من أين لكم أنه لم يُنقل ؟ واستحبّ لنا آخرُ لبس السواد والطرحة للخطيب وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه ورفعُ المؤذنين أصواتهم كلما ذكر اسم الله واسم رسول الله صلى الله عليه وسلَّم جماعةً وفُرادى وقال من أين لكم أن هذا لم يُنقل ؟ واستحبَّ لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب وقال من أين لكم أن إحياءهما لم يُنقل ؟ وانفتح باب البدعة وقال كل من دعا إلى باب بدعة من(1/67)
أين لكم أن هذا لم يُنقل ؟ " ا.هـ فانظر – يا رعاك الله – ما ذكره ابو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم، وتقسيمه للسنة التركية قسمين ،ودقته في تنزيل هذا الأصل على الفروع التي ذكرها . وقال ابن رجب(1)" فأما ما اتفقوا على تركه فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يُعلم به " ا . هـ ، وقال العيني(2)" إن الترك – مع حرصه عليه السلام على إحراز فضيلة النفل – دليل الكراهة " ا . هـ ، وقال الشاطبي(3)" وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم في مسألةٍ ما أو تركه لأمرٍ ما على ضربين :أحدهما / أن يسكت عنه أو يتركه ، لأنه لا داعية له تقضيه ، ولا موجب يُقرر لأجله ولا وقع سببُ تقريره كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلَّم فإنها لم تكن موجودةً ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدِّين – ثم قال – والضرب الثاني /أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمراً ما من الأمور وموجبه المقتضي له قائمٌ وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجودٌ ثابتٌ إلا إنه لم يُحدد فيه أمرٌ زائدٌ على ما كان من الحكم العام في أمثاله و لا ينقص منه ، لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العقلي الخاص موجوداً ثم لم يُشرع ولا نبَّه ( السبطا(4) كان صريحاً في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعةٌ زائدة ومخالفةٌ لقصد الشارع ، إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حدّ هنالك لا الزيادة ولا النقصان منه " ا.
__________
(1) كتاب فضل علم السلف على الخلف ص 32 .
(2) كتاب إعلام أهل العصر ص 95 للعظيم آبادي بواسطة علم أصول البدع ص 109
(3) الاعتصام ( 1/466 )
(4) هكذا موجود في الأصل .(1/68)
هـ ، وقد ذهب العلامة عبد العزيز بن باز - رحمه الله - إلى بدعية رفع اليدين بعد الفريضة استدلالاً بعدم فعله صلى الله عليه وسلَّم ولا أصحابه مبيناً أن فعله سنةٌ وتركه سنةٌ(1)وقال العلامة الألباني-رحمه الله - " من المقرر عند ذوي التحقيق من أهل العلم أن كل عبادةٍ مزعومة لم يشرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بقوله ، ولم يتقرَّب هو بها إلى الله بفعله ، فهي مخالفةٌ لسنته لأن السنة على قسمين سنةٌ فعليةٌ وسنةٌ تركيةٌ فما تركه صلى الله عليه وسلَّم من تلك العبادات ، فمن السنة تركها ألا ترى مثلاً أن الأذان للعيدين ولدفن الميت مع كونها ذكراً وتعظيماً لله عز وجل لم يجز التقرُّب به إلى الله عز وجل ، وما ذاك إلا لكونه سنةً تركها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم . وقد فهم هذا المعنى أصحابه صلى الله عليه وسلَّم ، فكثر عنهم التحذير من البدع تحذيراً عاماً ، كما هو مذكور في موضعه " ا .هـ(2).
تنبيهات :
التنبيه الأول :
__________
(1) رسالة فتاوى مهمةٌ في الصلاة ص 48
(2) راجع للاستزادة كتاب الإبداع في مضار الابتداع ص 34-35 وكتاب حقيقة البدعة (1/302 ) وكتاب أصول البدع ص 107 فقد أجاد في تقرير هذه القاعدة وتدعيمها بكلام العلماء وكتاب قواعد معرفة البدع ص 75 وتصحيح الدعاء ص 24 والموافقات (3/285 ).(1/69)
قد يعترض البعض على الاستدلال بالسنة التركية بقوله " عدم العلم بالشيء لا يدل على العدم " والاستدلال بهذا صحيح لكن بشرط ألا تتوفر الدواعي والهمم على النقل ثم لا يُنقل – راجع ما سبق نقله عن ابن القيم – فإنه أحياناً لا تتوفر الدواعي للنقل لقرينة ما فمثل هذا لا يُستدل بالسنة التركية مع كون الأصل في باب العبادات أن الدواعي متوفرةٌ للنقل –كما سبق- وإليك مثال موضحاً ذلك: قال بعض الفضلاء يلزم من الاستدلال بالسنة التركية عدم إيجاب الوضوء لصلاة الجنازة والاستسقاء لعدم وجود النص الخاص المبيِّن لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم والاستدلال بالنص العام معارضٌ بالسنة التركية إذا لم يُنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أنه توضأ لهذه الصلوات خاصةً وعندك أن السنة التركية مقدمةٌ على النصّ العام . فيُقال جواباً على هذا إن تقديم السنة التركية على النص العام هو المتعين كما سبق بعض كلام الأئمة فيه ، وأيضاً سيأتي بحثه بأوضح مما سبق لكن بشرط توفر الدواعي للنقل . وأنت إذا تأملت وجدت أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لو لم يتوضأ لهذه الصلوات لكان النقل لهذا أدعى وأشد فعلى هذا الاستدلال بالسنة التركية هنا لا يصح لأن الدواعي توفرت لنقل العكس فتنبه .
التنبيه الثاني :(1/70)
ليعلم المستدلُّ بالسنة التركية أنه نافٍ وباب النفي أوسع وأصعب من باب الإثبات كما هو معروفٌ. لذا يجب عليه الحذر وعدم الاستعجال وليس معنى هذا أن يقفل باب الاستدلال بالسنة التركية كلا بل المراد أنه لا ينفي إلا بعد بحثٍ يجعل ظنَّه الغالب يحكم على هذا الأمر بالنفي إذ التعبُّد بالظن الغالب متعيِّن وحصرُ العلم في القطعيات واليقينيات هي طريقة المتكلمين .(1)وقد ينفي اعتماداً على الظن الغالب ثم يجد بعدُ ما يُخالف نفيه ففي مثل هذه الحالة هو مأجورٌ غير مأزور ولكن يجب عليه الرجوع للحق إذ هو دين الله . وليعلم المستدلُّ بالسنة التركية أيضاً أن على مخالِفِه المدَّعِي العملَ بجزئيةٍ معينةٍ إثبات مشروعية العمل بهذه الجزئية إذ الأصل في باب العبادات المنع والحضر كما تقدم .
التنبيه الثالث:
__________
(1) انظر الاستقامة لابن تيمية ( 1/54 ) .(1/71)
قرر عبدالله الغماري في رسالة له بعنوان " حسن التفهم والدرك لمسألة الترك "(1)أن ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم له عدة دوافع ولا تفيد التحريم إلا إذا احتف بقرينة تفيد التحريم فقال: قررت في كتاب " الرد المحكم المتين " أن ترك الشيء لا يدل على تحريمه ، وهذا نص ما ذكرته هناك: والترك وحده إن لم يصحبه نص على أن المتروك محظور لا يكون حجة في ذلك بل غايته أن يفيد أن ترك ذلك الفعل مشروع . وإما أن ذلك الفعل المتروك يكون محظوراً فهذا لا يستفاد من الترك وحده ، وإنما يستفاد من دليل يدل عليه ا.هـ(2)وهو بتقريره هذا قد خلط غاية التخليط بين ترك العبادة مع إمكان فعلها بأن تتوافر الشروط وتنتفي الموانع ، وبين ترك غير العبادات ، لذا أورد بعد ص147 حديث " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار " وهذا المثال غير داخل في ما نحن بصدده لأنه ليس تركاً للعبادة وقد تقدم التدليل أن ترك العبادة مع إمكان فعلها يكون ملزماً ومن فعلها وقع في البدع وهذه الشبهة من أقوى شبه القوم التي أضلتهم مع وضوح بطلانها فالحمد لله على نعمة التوحيد والسنة ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ )
__________
(1) كرر هذه القاعدة صاحب كتاب " الموسوعة اليوسفية لبيان أدلة الصوفية " ص96 ، 148 ، 484 . و الرسالة ملحقة بكتابه " إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة " .
(2) ص141 .(1/72)
التذييل الثاني: رُوى عن الشافعي كلامٌ تمسَّك به القائلون بتقسيم البدعة قسمين حسنةً وسيئةً والجواب على ما تمسّكوا به من وجهين : 1- لو سلمنا أن ما ذكرتم هو مقصود الشافعي فإنه خالف غيره من أئمة الدِّين- كما سبق- كالصحابة الذين ذموا البدع كلّها وإن رآها الناس حسنة وقد قال الإمام أحمد :وكل بدعةٍ ضلالةٌ وأيضاً خالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فليس قوله حجةً يصحّ التمسك به . 2-أنا لا نسلّم لكم بما فهمتم من كلامه لأنه أراد بالبدعة المحمودة هي البدعة اللغوية ليس غير قال ابن رجب(1)" وقد روى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن إبراهيم بن الجنيد حدثنا حرملة بن يحيى قال سمعت الشافعي رحمه الله يقول البدعة بدعتان بدعةٌ محمودةٌ وبدعةٌ مذمومةٌ ، فما وافق السنة ، فهو محمودٌ وما خالف السنة فهو مذمومٌ . واحتجَّ بقول عمر بن الخطاب " نعمت البدعة هي " ومراد الشافعي رحمه الله ما ذكرنا من قبل أن البدعة المذمومة ما ليس لها أصلٌ من الشريعة يُرجع إليه ، وهي البدعةُ في إطلاق الشرع ، وأما البدعةُ المحمودة فما وافق السنة يعني ما كان لها أصلٌ من السنة يُرجع إليه وإنما هي بدعةٌ لغةً لا شرعاً لموافقتها السنة . وقد رُوى عن الشافعي كلامٌ آخرُ يُفسِّر هذا ، وأنه قال والمحدثات ضربان : ما أُحدث مما يُخالف كتاباً أو سنةً أو أثراً أو إجماعاً ، فهذه البدعةُ الضلالة ، وما أُحدث من الخير ، لا خلاف فيه لواحدٍ من هذا ، وهذه محدثةٌ غير مذمومةٍ " ا.هـ .
__________
(1) جامع العلوم والحكم ( 2/131 ) .(1/73)
التذييل الثالث : ينسب بعض دعاة البدع(1)إلى الإمام ابن تيمية أنه يرى جواز الاحتفال بالمولد معتمدين في ذلك على عبارة ذكرها في الاقتضاء(2):
__________
(1) ومنهم صاحب الموسوعة اليوسفية ص139 ، والسعودي صالح الأسمري عضو الدعوة والإرشاد الآن بالطائف وسابقاً بقطر . فكم له من كلمات مسجلة وافق فيها أهل التصوف والبدعة ، قرر فيها أن البدع تنقسم إلى حسنة وسيئة ، وأنه لا توجد سنة تركية وهكذا ... بل وله مكالمة مسجلة طعن فيها على الإمام محمد بن عبدالوهاب والإمام عبدالعزيز بن باز – رحمهما الله – وعدّ الماتريدية والأشاعرة من الفرقة الناجية عياذاً بالله من لبس الحق بالباطل . وله محاضرة مسجلة يذكر فيها بعض الأقوال البدعية ويذكر ما خالفها من السنة ، لكن ينشط لذكر أدلة هذه البدع دون أدلة هذه السنن .
(2) 2/619) ..(1/74)
وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا مع اختلاف الناس في مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وأكثر هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع مع مالهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم بهما المثوبة تجدهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه أو يقرأ فيه ولا يتبعه وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه أو يصلي فيه قليلا وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة ا.هـ
هذا الكلام صريح في أن المولد بدعة من البدع عنده إذ قال:( لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً )، وأكد ذلك بقوله في موضع آخر: وأما إتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال أنها ليلة المولد أو بعض ليالي رجب أو ثامن عشر ذي الحجة أو أول جمعة من رجب أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها والله سبحانه وتعالى أعلم ا.هـ(1)
__________
(1) الفتاوى (25/298) .(1/75)
فإذا اتضح وبان أنه صرح ببدعية هذا اليوم فما معنى قوله: إنه يثاب ويؤجر ؟ يقال: إن كلامه صريح في أن الإثابة على نية محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن القصد لا على العمل ، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم:" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد " أخرجه الشيخان عن عمرو بن العاص . فهذا الحاكم أثيب لحسن نيته أجراً كما أفاده الشافعي وغيره وإن كان العمل خطأ ، ومثله المقلد فإنه إذا قلد من يثق فيه وعمل المولد ظناً منه أن فعله مشروع فهو لا يثاب على العمل لأنه أخطأ وإنما على حسن النية والقصد . كما قال في موضع آخر: وإنما الذي أراده ربيعة -والله أعلم- أن من كانت له نية صالحة أثيب على نيته وإن كان الفعل الذي فعله ليس بمشروع إذا لم يتعمد مخالفة الشرع فهذا الدعاء وإن لم يكن مشروعا لكن لصاحبه نية صالحة قد يثاب على نيته فيستفاد من ذلك أنهم مجمعون على أن الدعاء عند القبر غير مستحب ولا خصيصة في تلك البقعة وإنما الخير قد يحصل من جهة نية الداعي ا.هـ(1)
وعلى كل فليس لأحد أن ينسب إلى ابن تيمية القول بجواز الاحتفال بالمولد وأنه لا يبدعه ، ثم لو قدر أن ابن تيمية ينفي بدعيته فإنه – رحمه الله -ليس حجة ولا دليلاً معصوماً ، وعليه فأقواله يحتج لها لا بها .
المقدمة الرابعة:
فهم الكتاب والسنة مقيد بفهم السلف الصالح ، فقد دلّ الكتاب والسنة – اللذان هما المرجع عند التنازع – أن فهم السلف لنصوص الكتاب والسنة حجة يجب الرجوع إليه، والأدلة على ذلك ما يلي :
__________
(1) الاقتضاء (2/732) .(1/76)
1/ قوله تعالى { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (النساء:115) وجه الدلالة / رتب الله سبحانه الوعيد على مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم، واتباع غير سبيل المؤمنين، فلو لم تكن مخالفة سبيل المؤمنين سبباً من أسباب الوعيد، لكان ذكره لغواً تعالى الله وتقدس؛ وأول المؤمنين دخولاً في هذه الآية هم الصحابة الكرام، فالمأثور عنهم هو الحق الذي يجب اتباعه، فلا يصح لأحد من التابعين مخالفته ومن وافقهم من التابعين فهو سائر على سبيل المؤمنين الممتدح وهكذا ...
أما إذا لم ينقل عن الصحابة الكرام شيء، ونقل عن التابعين الأخيار، فإن السبيل سبيلهم؛ لأن الله بحكمته وعدله لم يكن ليخفي الحق، ويظهر الباطل وقد قال نبيه صلى الله عليه وسلم :" لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ... " أخرجه مسلم عن ثوبان ونحوه في الصحيحين عن معاوية والمغيرة بن شعبة، وقال:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق عليه من حديث عائشة واللفظ للبخاري، فمن خالف وأحدث فهماً أو اتبع فهماً محدثاً خلاف ما عليه الأوائل من السلف الصالح في الفهم، فهذا الفهم مردود . وإذا تدبرت علمت أن كل دليل على حجية الإجماع، دليل على حجية فهم السلف؛ فإنهم إذا فهموا فهماً من غير مخالف منهم، فهو إجماع منهم على هذا الفهم .
2/ عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ..." متفق عليه ، وجاء نحوه من حديث عمران بن حصين متفق عليه، وفي صحيح مسلم نحوه من حديث عائشة وأبي هريرة .(1/77)
فثبت بهذه النصوص خيريتهم على من بعدهم، فلا يكون من بعدهم ظافراً بخير ليس عندهم وإلا لصار من بعدهم خيراً منهم من هذا الوجه، والرسول صلى الله عليه وسلم أثبت لهم الخيرية المطلقة من كل وجه على من بعدهم، فدل هذا أن فهمهم للنصوص متعين، قال ابن القيم: فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقاً، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، وإلا لو كانوا خيراً من بعض الوجوه، فلا يكونون خير القرون مطلقاً، فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم وسائرهم لم يفتوا بالصواب – وإنما ظفر بالصواب من بعدهم وأخطأوا هم – لزم أن يكون ذلك القرن خيراً منهم من ذلك الوجه؛ لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن، ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة ا.هـ(1)
3/ عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون " رواه مسلم، قال ابن القيم: وجه الاستدلال بالحديث أنه جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه، وكنسبة النجوم إلى السماء، ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم ، وأيضاً فإنه جعل بقاءهم بين الأمة أمنة لهم، وحرزاً من الشر وأسبابه، فلو جاز أن يخطئوا فيما أفتوا به ويظفر به من بعدهم لكان الظافرون بالحق أمنة للصحابة وحرزاً لهم، وهذا من المحال .ا.هـ(2).
__________
(1) أعلام الموقعين (4/ 136) وانظر ما ذكره ابن تيمية في مقدمة الفتوى الحموية .
(2) أعلام الموقعين ( 4/137 ) .(1/78)
4/ عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله ذات يوم ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله: كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال:" أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسير اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "(1)أخرجه أبو داود واللفظ له والترمذي وصححه وصححه أبو نعيم والبزار وابن عبدالبر(2). قال ابن القيم: وهذا حديث حسن، إسناده لا بأس به، فقرن سنة خلفائه بسنته، وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته، وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ، وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للأمة وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شيء، وإلا كان ذلك سنته، ويتناول ما أفتى به جميعهم أو أكثرهم أو بعضهم لأنه علق ذلك بما سنّه الخلفاء الراشدون، ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد، فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين ا.هـ(3).
__________
(1) وقع في الأربعين النووية هذا الحديث بلفظ" وإن تأمر عليكم عبد" قال الألباني – رحمه الله – في تعليقه على هذا الحديث من الإرواء: تنبيه: لم أر في جميع هذه الطرق اللفظ الذي في الكتاب " وإن تأمر " وكلهم قالوا " وإن عبداً حبشياً " وله شاهد من حديث أنس مرفوعاً " اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة" أخرجه البخاري ا.هـ الإرواء (8/109) الحديث رقم 2455 .
(2) انظر جامع العلوم والحكم الحديث الثامن والعشرين ، وجامع بيان العلم وفضله(2/1165 ) .
(3) أعلام الموقعين ( 4/ 140)(1/79)
5/ عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" متفق عليه واللفظ لمسلم . ونحوه في الصحيحين عن معاوية، وفي مسلم عن ثوبان وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وسعد بن أبي وقاص نحوه . وجه الدلالة / أن هذا الحديث المتواتر(1)دال على أن أهل الحق القائمين به موجودون منذ عهد الصحابة إلى قيام الساعة، فإذا رأيت في أمر شرعي عقدي أو أمر شرعي منهجي قولين: أحدهما عليه المتقدمون دون الآخر، فاشدد يدك على ما عليه المتقدمون فإنه الحق؛ لأنهم هم الطائفة المنصورة الظاهرون على الحق قديماً وأبداً إلى قبيل قيام الساعة؛ فإن الحق قديم وباقٍ إلى قبيل قيام الساعة بخلاف ما عداه من الأفهام فإنها حادثة بعد، قال ابن القيم: أنهم إذا قالوا قولاً أو بعضهم ثم خالفهم مخالف من غيرهم كان مبتدياً لذلك القول ومبتدعاً له – ثم قال – وقول من جاء بعدهم يخالفهم من محدثات الأمور فلا يجوز اتباعهم ا.هـ(2).
والأدلة المقررة لهذا الأصل كثيرة متظافرة وأقوال أهل العلم في تقرير هذا كثيرة أكتفي بثلاثة :
- قال الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول " أخرجه الخطيب البغدادي والآجري وابن عبد البر .
- قال الإمام أحمد: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم " رواه اللالكائي(3).
__________
(1) عده متواتراً الإمام ابن تيمية في الاقتضاء (1/69) وجلال الدين السيوطي في كتاب قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة رقم (81)
(2) أعلام الموقعين (4/ 150) .
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 156) رقم (317)(1/80)
- قال ابن تيمية: إنما المتبع في إثبات أحكام الله: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل السابقين أو الأولين، لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة، نصاً واستنباطاً بحال ا.هـ(1).
المقدمة الخامسة:
أقوال العلماء يحتج لها لا بها مهما كان العالم عظيماً جليلاً فإنه لا حجة لقول أحد في مخالفة الكتاب والسنة ، قال الإمام مالك والإمام أحمد: ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم ا.هـ ونسب هذا القول لابن عباس ومجاهد(2).
وقال الإمام الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس(3).
تنبيهان/
__________
(1) الاقتضاء ( 2/ 693) .
(2) انظر جامع بيان العلم وفضله ، وأصول الأحكام لابن حزم (6/ 145 ، 179 ) ومسائل أبي داود، وفتاوى السبكي (1/148) وصفة الصلاة للألباني ص49 .
(3) أعلام الموقعين (2/263) ومدارج السالكين(2/335) والروح ص246 .(1/81)
التنبيه الأول: لا يوجد عالم جامع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل كل عالم تخفى عليه شيء من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن تيمية: وأما إحاطة واحد بجميع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يمكن ادعاؤه قط ، واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأحواله، خصوصاً الصديق رضي الله عنه ؛ الذي لم يكن يفارقه حضراً ولا سفراً، بل كان يكون معه في غالب الأوقات، حتى إنه يسمر عنده بالليل في أمور المسلمين. وكذلك عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فإنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول: دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، ثم مع ذلك لما سئل أبو بكر – رضي الله عنه- عن ميراث الجدة قال: مالك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء، ولكن اسأل الناس ! فسألهم، فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فشهدا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس ، وقد بلغ هذه السنة عمران بن حصين أيضاً، وليس هؤلاء الثلاثة مثل أبي بكر وغيره من الخلفاء، ثم قد اختصوا بعلم هذه السنة التي قد اتفقت الأمة على العمل بها . وكذلك عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لم يكن يعلم سنة الاستئذان، حتى أخبره بها أبو موسى واستشهد بالأنصار، وعمر أعلم ممن حدثه بهذه السنة .– ثم قال – فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو إماماً معيناً فهو مخطئ خطأ فاحشاً قبيحاً ا.هـ(1)إلا أن علماء السنة في دينهم وتقريراتهم العلمية لا يخرجون بقول محدث، فهم متبعون في عقيدتهم ( التي هي مبنية على النقل المحض والتسليم ) لذا الخلاف فيها قليل، ومن أخطأ منهم فخطؤه عليه لا ينسب إلى معتقد أهل السنة السلفيين .
__________
(1) مجموع الفتاوى (20 / 233 ، 238)(1/82)
وهم – أيضاً – متبعون في المسائل الفقهية لا يخرجون عن أقوال سلفهم – كما سبق – إلا أن الخلاف في المسائل الفقهية كثير، لكون الشريعة جعلت فيها مجالاً للاجتهاد أكثر فعليه سمحت للخلاف فيها أكثر من غيرها كما ثبت في الصحيحين واللفظ للبخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب:" لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم " وسبب كثرة الخلاف في هذا النوع أن للاجتهاد فيه مجالاً كثيراً .(1/83)
التنبيه الثاني: قال ابن القيم: معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يوجب اطراح أقوالهم جملة وتنقصهم والوقيعة فيهم فهذان طرفان جائران عن القصد وقصد السبيل بينهما فلا نؤثم ولا نعصم ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في علي ولا مسلكهم في الشيخين بل نسلك مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة فإنهم لا يؤثمونهم ولا يعصمونهم ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يهدرونها فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح الله صدره للإسلام وإنما يتنافيان عند أحد رجلين جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يتبع فيها ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين قال عبد الله المبارك كنت بالكوفة فناظروني في النبيذ المختلف فيه فقلت لهم تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة فإن لم يبين الرد عليه عن ذلك الرجل بسند صحت عنه فاحتجوا فما جاءوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بسند فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله ابن مسعود وليس احتجاجهم عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه إنما يصح عنه أنه لم ينتبذ له في الجر الأخضر قال ابن المبارك فقلت للمحتج عنه في الرخصة يا أحمق عد أن ابن مسعود لو كان ههنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر وتخشى فقال قائل يا(1/84)
أبا عبد الرحمن فالنخعى والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهم دعوا عند المناظرة تسمية الرجال فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن تكون منه زلة أفيجوز لأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا كانوا خيارا قلت فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد قالوا حرام فقلت إن هؤلاء رأوه حلالا أفماتوا وهم يأكلون الحرام فبهتوا وانقطعت حجتهم قال ابن المبارك ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال يا بني لا تنشد الشعر فقلت يا ابت كان الحسن ينشد الشعر وكان ابن سيرين ينشد فقال أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله قال شيخ الإسلام وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء فإنه ما من أحد من أعيان الأئمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا وله أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة قلت وقد قال أبو عمر بن عبد البر في أول استذكاره قال شيخ الإسلام وهذا باب واسع لا يحصى مع أن ذلك لا يغض من أقدارهم ولا يسوغ اتباعهم فيها قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول قال مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم وقال سليمان التيمي إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله قال ابن عبد البر هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله فروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني لأخاف على أمتي من بعدى من أعمال ثلاثة . قالوا: وما هي يا رسول الله ؟ قال:" إني أخاف عليهم من زلة العالم ومن حكم الجائر ومن هوى متبع " .(1/85)
وقال زياد بن حدير: قال عمر:" ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون . وقال الحسن قال أبو الدرداء: إن مما أخشى عليكم زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن ، والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق ، وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم قلما يخطئه أن يقول ذلك الله حكم قسط هلك المرتابون إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى ابتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة وإياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وإن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نورا قالوا: كيف زيغة الحكيم؟ قال: هي كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه فانه يوشك أن يفيء ويراجع الحق وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة فمن ابتغاهما وجدهما . وقال سلمان الفارسي: كيف أنتم عند ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم؟ فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وتقولون نصنع مثل ما يصنع فلان ، وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما عرفتم منه فخذوا وما لم تعرفوا فكلوه إلى الله تعالى وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم وعن ابن عباس ويل للأتباع من عثرات العالم قيل كيف ذلك قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ثم يمضي الأتباع ذكر أبو عمر هذه الآثار كلها وغيره ا.هـ(1)
فكم فتن من خلق الله بزلات العلماء وجعلوها متكئاً لهم في تقرير بدعهم بزعم أن العالم جليل ذو قدم صدق في الإسلام .
__________
(1) اعلام الموقعين (3/295 – 298) .(1/86)
وهذا ظاهر جلي عند كثير من الصوفية فإنهم إذا أرادوا تقرير أمر احتجوا بأن العالم الجليل فعله أو نقله ولم ينكره وهكذا ، وهذا الصنيع إنما يصح لو أنهم أثبتوا دعواهم بالدليل ثم بعد ذلك ذكروا أقوال العلماء اعتضاداً لا اعتماداً ، ومن أمثلة ذلك ما فعله غير واحد من الصوفية ومنهم صاحب الموسوعة اليوسفية(1)، إذ استدلوا على جواز التبرك بآثار الصالحين بأن الشافعي تبرك بثوب الإمام أحمد فقال: التبرك بآثار الصالحين . فحكى أن السبكي مرغ وجهه ولحيته على مكان النووي ثم قال: عن الربيع بن سليمان قال: إن الشافعي – رحمه الله – خرج إلى مصر فقال لي: يا ربيع خذ كتابي هذا فامض به وسلمه إلى أبي عبدالله ( أحمد بن حنبل ) وأتني بالجواب ، قال الربيع: فدخلت بغداد ومعي الكتاب فصادفت أحمد بن حنبل في صلاة الصبح فلما انفتل من المحراب سلمت إليه الكتاب وقلت له: هذا كتاب أخيك الشافعي من مصر ، فقال لي أحمد: نظرت فيه ؟ فقلت: لا ، فكسر الخاتم فقرأ وتغرغرت عيناه فقلت له: إيش فيه يا أبا عبدالله ؟ فقال: يذكر فيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: اكتب إلى أبي عبدالله فاقرأ عليه السلام وقل له: إنك ستمتحن وتدعى إلى خلق القرآن فلا تجبهم ، فسيرفع الله لك علماً إلى يوم القيامة . قال الربيع: فقلت له: البشارة يا أبا عبدالله ، فخلع أحد قميصيه الذي يلي جلده فأعطانيه ، فأخذت الجواب وخرجت إلى مصر وسلمته إلى الشافعي فقال: إيش الذي أعطاك؟ فقلت: قميصه ، فقال الشافعي: ليس نفجعك به ولكن بله وادفع إلي الماء لأتبرك به ا.هـ والرد على هذا من وجهين:
1- أن أقوال العلماء وأفعالهم لا يحتج بها – كما تقدم –ولايجوز جعل زلاتهم متكأً هذا لو صحت القصة .
__________
(1) ص167 .(1/87)
2- أن القصة ضعيفة ، قال الذهبي: ولم يكن صاحب رحلة ، فأما ما يروى أن الشافعي بعثه إلى بغداد بكتابه إلى أحمد بن حنبل فغير صحيح ا.هـ ولم يترجم الخطيب البغدادي للربيع في تاريخ بغداد فدل على أنه لم يدخلها ، ثم إن في أسانيدها ضعفاً وانقطاعاً ومجاهيل .
المقدمة السادسة :
أهل السنة يقرون بالكرامات لدلالة الكتاب والسنة عليها .قال ابن تيمية في ذكر عقيدة أهل السنة المسماة بـ" الواسطية ": ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات ، والمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فرق الأمة ، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة ا.هـ(1/88)
وقال : قالت طائفة لا تخرق العادة إلا لنبي وكذبوا بما يذكر من خوارق السحرة والكهان وبكرامات الصالحين وهذه طريقة أكثر المعتزلة وغيرهم كأبي محمد بن حزم وغيره بل يحكى هذا القول عن أبي إسحاق الاسفراييني وأبي محمد بن أبي زيد ولكن كأن في الحكاية عنهما غلطا وإنما أرادوا الفرق بين الجنسين وهؤلاء يقولون إن ما جرى لمريم وعند مولد الرسول فهو إرهاص أي توطئة وإعلام بمجيء الرسول فما خرقت في الحقيقة إلا لنبي فيقال لهم وهكذا الأولياء إنما خرقت لهم لمتابعتهم الرسول فكما أن ما تقدمه هو من معجزاته فكذلك ما تأخر عنه – ثم قال - وقالت طائفة بل كل هذا حق وخرق العادة جائز مطلقا وكل ما خرق لنبي من العادات يجوز أن يخرق لغيره من الصالحين بل ومن السحرة والكهان لكن الفرق أن هذه تقترن بها دعوة النبوة وهو التحدي وقد يقولون إنه لا يمكن لأحد أن يعارضها بخلاف تلك وهذا قول من اتبع جهماً على أصله في أفعال الرب من الجهمية وغيرهم حيث جوزوا أن يفعل كل ممكن فلزمهم جواز خرق العادات مطلقا على يد كل أحد واحتاجوا مع ذلك إلى الفرق بين النبي وغيره فلم يأتوا بفرق معقول بل قالوا هذا يقترن به التحدي فمن ادعى النبوة وهو كاذب لم يجز أن يخرق الله له العادة أو يخرقها له ويكون دليلا على صدقه لما يقترن بها مما يناقض ذلك فان هذين قولان لهم ا.هـ والطائفة الأخرى هم الأشاعرة .(1)، بل إن أهل السنة ليوردونها في كتب الاعتقاد كما تقدم نقله عن العقيدة الواسطية ، لكن مع التنبيه إلى أمور :
__________
(1) كتاب النبوات ص15 . وانظر شرح جوهرة التوحيد للباجوري ص297 وطبقات الشافعية للسبكي (2/315) .(1/89)
1- لا يلزم من كانت له كرامة أن يكون صالحاً بل هي تكون لحاجة العبد فكم من صالح ليثبته الله طمأن قلبه بكرامة ، وآخر خير منه لم يحتج إليها ، فلذا لم تجر على يديه وأحياناً تكون لنصر الدين كما حصل للأنبياء والمرسلين . وبعض الصالحين من الصحابة وغيرهم ، قال ابن تيمية: ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوى إيمانه ويسد حاجته ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيا عن ذلك فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة بخلاف من يجرى على يديه الخوارق لهدى الخلق ولحاجتهم فهؤلاء اعظم درجة ا.هـ(1)
2- لا يغتر بالرجل إذا كانت له خوارق عادات ، بل لابد أن تعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة فما وافقهما قبل وإلا رد ومن أظهر الأدلة على ذلك ضلال الدجال الذي يخرج آخر الزمان وإن كان مصحوباً بخوارق عادات عظيمة ، وقد تقدم نقل كلمات أهل العلم ومنهم بعض المعظمين عند الصوفية .
__________
(1) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص166 .(1/90)
3- أن بين كرامات الأولياء وخوارق الشياطين فروقاً منها: أ/ أن سبب كرامات الأولياء طاعة الله ، وسبب خوارق الشياطين معصية الله ، قال ابن تيمية: وبين كرامات الأولياء وبين ما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة منها إن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى و الأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله وقد قال تعالى ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) فالقول على الله بغير علم والشرك والظلم والفواحش قد حرمها الله تعالى ورسوله فلا تكون سببا لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار فإذا حصل رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه فيسقط كما جرى هذا لغير واحد ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت سواء كان ذلك الحي مسلما أو نصرانيا أو مشركا فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به ويقضى بعض حاجة ذلك المستغيث فيظن أنه ذلك الشخص أو هو ملك على صورته وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له أنا الخضر وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته وهم يعتقدون أنه ذلك الميت ويقضي(1/91)
الديون ويرد الودائع ويفعل أشياء تتعلق بالميت ويدخل على زوجته ويذهب وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته . ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال: إذا أنا مت فلا تدع أحداً يغسلني فأنا أجيء وأغسل نفسي . فلما مات رأى خادمه شخصاً في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه ، فلما قضى ذلك الداخل غسله أي غسل الميت غاب . وكان ذلك شيطاناً وكان قد أضل الميت وقال: إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك فلما مات ،جاء أيضا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك . ومنهم من يرى عرشاً في الهواء وفوقه نور ويسمع من يخاطبه ويقول: أنا ربك فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول . ومنهم من يرى أشخاصاً في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين ، وقد جرى هذا لغير واحد ، ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر إما الصديق رضى الله عنه أو غيره قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات ا.هـ(1).
__________
(1) الفرقان ص171 – 174 .(1/92)
ب/ أن غاية كرامات الأولياء ومقصودها نصر الدين والإحسان إلى المحتاجين ، وغاية ومقصود خوارق العادات الإعانة على المحرم الباطل ، قال ابن تيمية: وقد يمشي على الماء قوم بتأييد الله لهم وإعانته إياهم بالملائكة كما يحكى عن المسيح وكما جرى للعلاء بن الحضرمي في عبور الجيش ولأبي مسلم الخولاني وذلك إعانة على الجهاد في سبيل الله كما يؤيد الله المؤمنين بالملائكة ليس هو من فعل الشياطين والفرق بينهما من جهة السبب ومن جهة الغاية أما السبب فإن الصالحين يسمون الله ويذكرونه ويفعلون ما يحبه الله من توحيده وطاعته فييسر لهم بذلك ما ييسره ومقصودهم به نصر الدين والإحسان إلى المحتاجين وما تفعله الشياطين يحصل بسبب الشرك والكذب والفجور والمقصود به الإعانة على مثل ذلك ا.هـ(1)
والفرق بين الآيات التي يجريها الله على يد الأنبياء وخوارق الكهنة والسحرة من أوجه:
أ/ أن جنس خوارق الكهنة والسحرة لا يخرج عن كونه مقدوراً للإنس والجن بخلاف جنس آيات الأنبياء لا يقدر على مثلها الأنس ولا الجن كشق القمر وإنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)
ب/ أن ما تخبر به الأنبياء لا يكون إلا صدقاً ، وما تخبر به الكهنة والسحرة فلابد فيه من كذب .
ج/ أن الأنبياء لا يفعلون إلا عدلاً ولا يأمرون إلا بالعدل ، بخلاف الكهنة والسحرة فيفعلون الظلم ويأمرون به ، فإن كل ما خالف العدل فهو من الظلم كالفواحش والشرك .
د/ أن ما أتى به الأنبياء لا يمكن معارضته بمثله ولا بما هو أقوى منه ، بخلاف ما أتى به الكهان والسحرة فيمكن معارضتها بمثلها أو بما هو أقوى منها .
__________
(1) النبوات ص413 .(1/93)
هـ/ أن النبي خلت من قبله الأنبياء والرسل فلا يأمر بخلاف ما أجمعوا عليه من عبادة الله وحده والعمل بطاعته والتصديق باليوم الآخر ، أما الكهان والسحرة فيخرجون عما أجمعت عليه الرسل فيقعون في مخالفة ما جاءت به الرسل .
و/ أن الكهانة والسحر يناله الإنسان بتعلمه ، بخلاف النبوة وما تجري على أيديهم من آيات فهي لا تنال بالاكتساب .
هذه الأوجه الستة هي بعض ما ذكره ابن تيمية في كتاب النبوات ص (214 – 216 ، 439- 447) .
4/ احتج بعض غلاة الصوفية بكرامات الأولياء على جواز صرف العبادات لهم من دعاء فيما لا يقدر عليه إلا الله وذبح ونذر ، وبإثبات علم الغيب المطلق لهم .
والجواب على هذا من أوجه:
أ/ أنه تقدم بيان أن صرف العبادات لغير الله شرك فهو أعظم المحرمات وفعله للأنبياء والمرسلين شرك أكبر حتى ولو كانوا أنبياء ومرسلين للأحاديث الناهية عن الغلو والإطراء لهم ولعموم النصوص الدالة على أن صرف العبادات لغير الله شرك أكبر ولم تفرق بين نبي ولا غيره ، ولقوله تعالى ( وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) وقال تعالى ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فإذا كان هذا في حق الأنبياء والمرسلين فغيرهم من الأولياء من باب أولى ، وإن رضي من يسمونه ولياً بهذه الفعال فهو ليس ولياً بل هو من المشركين ، والولاية لا تجتمع مع الإشراك بالله .(1/94)
ب/ أن علم الأولياء الذي يكون كرامة ليس من المستقبليات ، وإنما هو من علم الغيب المقيد كأن يكشف له ما هو غيب بالنسبة إليه مما لا يراه من البعيدات وليس غيباً بالنسبة لمن هو قريب إليه يعاينه كقصة عمر حين قال: يا سارية الجبل(1). أما علم المستقبل فهو منتفٍ عنهم لقوله تعالى ()عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً .
__________
(1) أخرجه اللالكائي في كرامات الاولياء 67 وشرح اعتقاد أهل السنة 2537و ابن عساكر في تاريخ دمشق . قال ابن كثير في أحد الأسانيد:جيد حسن .البداية والنهاية (7/131) وحسنه الحافظ والألباني .الإصابة (4/98) ،السلسلة الصحيحة (1110) والمشكاة (3/201) .(1/95)
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) ثم علمه هذا ليس حاصلاً له متى ما أراد وإنما إذا أظهره الله عليه كما قال تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) قال الشنقيطي: وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله وهو كذلك لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت من زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله يقول ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) أخرجه مسلم والله تعالى في هذه السورة الكريمة أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب وذلك في قوله تعالى ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ) ولذا لما رميت عائشة رضي الله عنها بالإفك لم يعلم أهي بريئة أم لا حتى أخبره الله تعالى بقوله ( أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) وقد ذبح إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عجله للملائكة ولا علم له بأنهم ملائكة حتى أخبروه وقالوا له ( إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ) ولما جاءوا لوطا لم يعلم أيضا أنهم ملائكة ولذا ( سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) يخاف عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة حتى قال ( قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له ( إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ) ويعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن على يوسف وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله(1/96)
خبر يوسف وسليمان عليه السلام مع أن الله سخر له الشياطين والريح ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد وقال له ( أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين الآيات ، ونوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما كان يدري أن ابنه الذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم حتى قال ( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله بقوله (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وقد قال تعالى عن نوح في سورة هود ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) والملائكة عليهم الصلاة والسلام لما قال لهم ( فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(1/97)
فقد ظهر أن أعلم المخلوقات وهم الرسل والملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما شاء كما أشار له بقوله ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) وقوله (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) الآية ا.هـ(1)قال ابن تيمية: وقال (أي الله تعالى): (فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) فغيبه الذي اختص به لا يظهر عليه أحدا إلا من ارتضى من رسول و الملائكة لا يعلمون غيب الرب الذي اختص به و أما ما أظهره لعباده فانه يعلمه من شاء و ما تتحدث به الملائكة فقد تسترق الشياطين بعضه لكن هذا ليس من غيبه و علم نفسه الذي يختص به بل هذا قد أظهر عليه من شاء من خلقه و هو سبحانه قال ( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) فشهد أنه أنزله بعلمه بالآيات و البراهين التى تدل على أنه كلامه و أن الرسول صادق ا.هـ(2)
__________
(1) أضواء البيان (2/174) .
(2) مجموع الفتاوى (14/197) .(1/98)
وقد استدل بهذه الآية (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) المعتزلة ومنهم الزمخشري كما في الكشاف(1)على إنكار كرامات الأولياء ، وهذا خطأ فإن ما علمه بعض خلق الله دون آخرين ليس من علم الغيب كما تقدم في كلام ابن تيمية ، وكما سيأتي ، فعليه هذه الآية لا تدل بحال على أنه لا يحصل للأولياء كشف لكنها تدل على أنهم لا يعلمون المستقبل ، وقد اعترض الرازي في تفسيره على دلالة هذه الآية في نفي علم المستقبل عن غير الله بأن قال: واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس مراد الله من هذه الآية أن لا يُطلع أحدا على شيء من المغيبات إلا الرسل والذي يدل عليه وجوه أحدها أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل زمان ظهوره وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب وثانيها أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة علم التعبير وأن المعبر قد يخبر عن وقوع الوقائع الآتية في المستقبل ويكون صادقا فيه وثالثها أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل فذكرت أشياء ثم إنها وقعت على وفق كلامها قال مصنف الكتاب ختم الله له بالحسنى وأنا قد رأيت أناسا محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة أخبارا على سبيل التفصيل وجاءت تلك الوقائع على وفق خبرها وبالغ أبو البركات في كتاب المعتبر في شرح حالها وقال لقد تفحصت عن حالها مدة ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخبارا مطابقا ورابعها أنا نشاهد (ذلك) في أصحاب الإلهامات الصادقة وليس هذا مختصا بالأولياء بل
__________
(1) 4/632) .(1/99)
قد يوجد في السحرة أيضا من يكون كذلك نرى الإنسان الذي يكون سهم الغيب على درجة طالعه يكون كذلك في كثير من أخباره وإن كان قد يكذب أيضا في أكثر تلك الأخبار ونرى الأحكام النجومية قد تكون مطابقة وموافقة للأمور وإن كانوا قد يكذبون في كثير منها وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن وذلك باطل فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرناه والله أعلم ا.هـ(1)
وخلاصة اعتراضه راجع إلى أن الكهان والسحرة والمعبرين يعلمون شيئاً من المغيبات في المستقبل فعليه لابد من تأويل الآية ، والرد عليه يكون بنقل كلام بعض أهل العلم .
__________
(1) تفسيره (30/149)(1/100)
قال ابن تيمية: وكذلك ما يخبر به الرسول من أنباء الغيب قال تعالى (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) فهذا غيب الرب الذي اختص به مثل علمه بما سيكون من تفصيل الأمور الكبار على وجه الصدق فان هذا لا يقدر عليه إلا الله والجن غايتها أن تخبر ببعض الأمور المستقبلة كالذي يسترقه الجن من السماء مع ما في الجن من الكذب فلا بد لهم من الكذب والذي يخبرون به هو مما يعلم بالمنامات وغير المنامات فهو من جنس المعتاد للناس وأما ما يخبر به الرسول من الأمور البعيدة الكبيرة مفصلا مثل إخباره إنكم تقاتلون الترك صغار الأعين ذلف الأنوف ينتعلون الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة وقوله لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ونحو ذلك ا.هـ(1)وتقدم نقل كلامه في أنه إذا عرفه غير الله لم يكن غيباً يختص به فقد يعلمه غير الرسول ، قال ابن رجب: قد سبق في الباب المشار إليه: الإشارة إلى اختصاص الله بعلم هذه الخمس ، التي هي مفاتح الغيب التي قال فيها ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) وهذه الخمس المذكورة في حديث ابن عمر ليس فيها علم الساعة ، بل فيها ذكر متى يجيء المطر بدل الساعة .
__________
(1) النبوات ص22 .(1/101)
وهذا مما يدل على أن علم الله الذي استأثر به دون خلقه لم ينحصر في خمس ، بل هو أكثر من ذلك ، مثل علمه بعدد خلقه كما قال ( وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ ) ومثل استئثاره بعلمه بذاته وصفاته وأسمائه كما قال (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) وفي حديث ابن مسعود – في ذكر أسمائه –:" أو استأثرت به في علم الغيب عندك " وإنما ذكرت هذه الخمس لحاجة الناس إلى معرفة اختصاص الله بعلمها ، والعلم بمجموعها مما اختص الله بعلمه ، وكذلك العلم القاطع بكل فرد من أفرادها . وأما الاطلاع على شيء يسير من أفرادها بطريق غير قاطع ، بل يحتمل الخطأ والإصابة فهو غير منفي ، لأنه لا يدخل في العلم الذي اختص الله به ، ونفاه عن غيره . وتقدم – أيضاً – أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي علم كل شيء إلا هذه الخمس . فأما اطلاع الله سبحانه له على شيء من أفرادها ، فإنه غير منفي – أيضاً – وهو داخل في قوله تعالى (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) الآية . ولكن علم الساعة مما اختص الله به ، ولم يطلع عليه غيره ، كما تقدم في حديث سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم . – ثم قال – وأما العلم بما في الأرحام فينفرد الله تعالى بعلمه ، قبل أن يأمر ملك الأرحام بتخليقه وكتابته ، ثم بعد ذلك قد يطلع الله عليه من يشاء من خلقه ، كما أطلع عليه ملك الأرحام . فإن كان من الرسل فإنه يطلع عليه علماً يقيناً ، وإن كان من غيرهم من الصديقين والصالحين ، فقد يطلعه الله تعالى عليه ظاهراً . كما روى الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال لها – في كلام ذكره -: إنما هو أخواك وأختاك . قالت: فقلت هذا أخواي ، فمن أختاي؟ قال: ذو بطن ابنة خارجة ، فإني أظنها جارية .(1/102)
ورواه هشام عن أبيه عن عائشة أنها قالت له عند ذلك: إنما هي أسماء؟ فقال: وذات بطن بنت خارجة أظنها جارية . ورواه هشام عن أبيه: قد ألقي في روعي أنها جارية ، فاستوصي بها خيراً ، فولدت أم كلثوم . وأما علم النفس بما تكسبه غداً ، وبأي أرض تموت ، ومتى يجيء المطر ،فهذا على عمومه لا يعلمه إلا الله . وأما الاطلاع على بعض أفراده فإن كان بإطلاع من الله لبعض رسله ، كان مخصوصاً من هذا العموم ، كما أطلع النبي صلى الله عليه وسلم على كثير من الغيوب المستقبلة ، وكان يخبر بها . فبعضها يتعلق بكسبه ، مثل إخباره أنه يقتل أمية بن خلف ، وأخبر سعد بن معاذ بذلك أمية بمكة ، وقال أمية: والله ما يكذب محمد . وأكثره لا يتعلق بكسبه ، مثل إخباره عن الصور المستقبلة في أمته وغيرهم وهو كثير جداً . وقد أخبر بتبوك أنه تهب الليلةريح شديدة فلا يقومن أحد " وكان كذلك . والاطلاع على هبوب بعض الرياح نظير الاطلاع على نزول بعض الأمطار في وقت معين . – ثم قال – وإما اطلاع غير الأنبياء على بعض أفراد ذلك فهو – كما تقدم – لا يحتاج إلى استثنائه ؛ لأنه لا يكون علماً يقيناً ، بل ظناً غالباً ، وبعضه وهم ، وبعضه حدس وتخمين ، وكل هذا ليس بعلم ، فلا يحتاج إلى استثنائه مما انفرد الله سبحانه وتعالى بعلمه ، كما تقدم . والله سبحانه وتعالى أعلم ا.هـ(1)
والآلوسي في تفسيره ذكر أن ظاهر قوله تعالى (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) غير مراد ، وذلك أن من تمسك بظاهره لزم عليه تخصيصه بالرسل دون الأنبياء فيقال جواباً على ما ذكر – رحمه الله – إن ذكر الرسول يدخل فيه الأنبياء لأنهم رسل بالإطلاق العام كما قال تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )
__________
(1) فتح الباري (6/342) .(1/103)
إذا تقرر هذا وتبين فإنه لو قدر علم الأولياء للغيب مع أن هذا باطل ومنتف عنهم ، فإن الصوفية لا يستفيدون من هذا شيئاً في إثبات بدعهم ، وذلك أن علم الولي للغيب لا يسوغ عبادته ، وإذا رضي بها فهو ليس ولياً بل عدواً لله مشركاً ، فمحاولة إثبات الصوفية علم الأولياء للغيب لأجل تسويغ دعائهم من دون الله أو الفزع إليهم في المدلهمات لكشف الكربات خطأ ظاهر وليس لازماً .(1/104)
تنبيه: ذكر ابن تيمية أنه قد يحصل المراد لمن يأتي القبر ويسأل الميت شيئاً وهذا من رحمة الله له ، حتى يثبت ما عند السائل من إيمان ، ثم إنه لا ينكر أنه قد يحصل للأموات في قبورهم كرامات لكن هذا كله لا يدل على شرعية سؤالهم بل هو مع ذلك محرم فقال: وكذلك أيضا ما يروى أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الجدب عام الرمادة فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج فيستسقي الناس(1)فإن هذا ليس من هذا الباب ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم وأعرف من هذه الوقائع كثيرا وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره من أمته حاجته فتقضى له فإن هذا قد وقع كثيرا وليس هو مما نحن فيه وعليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لهؤلاء السائلين ليس مما يدل على استحباب السؤال فإنه هو القائل صلى الله عليه وسلم إن أحدكم ليسألني مسألة فأعطيه إياها فيخرج بها يتأبطها نارا فقالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم فيه من الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم كما أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا فرق بين هذا وهذا فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها بل لما يخاف عليهم من الفتنة وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به لما نهي الناس عن ذلك وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين مثل نزول الأنوار والملائكة عندها وتوقي الشياطين والبهائم لها واندفاع النار عنها وعمن جاورها وشفاعة بعضهم
__________
(1) سيأتي بيان ضعف هذه القصة وقدصدرها ابن تيمية بصيغة التمريض المشير إلى ضعفها(1/105)
في جيرانه من الموتى واستحباب الاندفان عند بعضهم وحصول الأنس والسكينة عندها ونزول العذاب بمن استهان بها فجنس هذا حق ليس مما نحن فيه وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة أو قصد الدعاء والنسك عندها لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي حذر منها الشارع كما تقدم فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضته لما قدمنا وليس كذلك ا.هـ(1)وهذا إن سلم لابن تيمية فإن من المهم معرفته أنه لا يجوز فعل البدع والمحدثات عند القبور إذ لا يلزم من حصول المسبب شرعية السبب ، مثل من سرق طعاماً فأكل فتلذذ به فإن المسبب حصل لكن لا يدل على شرعية السبب .
المقدمة السابعة :
الفراسة ثابتة كما قال تعالى ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما ( للمتفرسين )
__________
(1) الاقتضاء (2/735) .(1/106)
وأصل إطلاق الفراسة أنه من التفرس والتوسم فهو استدلال بعلامات خفيات لا تظهر لكل أحد على أمور ، قال القرطبي: وزعمت الصوفية أنها كرامة وقيل بل هي استدلال بالعلامات ومن العلامات ما يبدو ظاهرا لكل أحد وبأول نظرة ومنها ما يخفى فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادىء النظر قال الحسن المتوسمون هم الذين يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار فهذا من الدلائل الظاهرة ومثله قول ابن عباس ما سألني أحد عن شيء إلا عرفت أفقيه هو أو غير فقيه وروي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما أراه نجارا وقال الآخر بل حدادا فتبادر من حضر إلى الرجل فسأله فقال كنت نجارا وأنا اليوم حداد ا.هـ(1)قال ابن تيمية: والمتوسم: المستدل بالسمة والسيما ، وهي العلامة ، قال تعالى ( وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) فمعرفة المنافقين في لحن القول ثابتة مقسم عليها ، لكن هذا يكون إذا تكلموا ، وأما معرفتهم بالسيما فموقوف على مشيئة الله ، فإن ذلك أخفى ، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه(2)
__________
(1) التفسير (10/ 43) .
(2) في تحفة الأشراف قال الترمذي: غريب إنما نعرفه من هذا الوجه ا.هـ أي ضعيف ، وضعف الحديث العقيلي أيضاً ، وقد جاء من غير حديث أبي سعيد كأبي أمامة وأبي هريرة وعبدالله بن عمر وثوبان ، ذكرها الألباني بطرقها ثم ضعفها كلها وبين أنه لا يقوي بعضها بعضاً فقال في ختام كلامه عليها ( السلسلة الصحيحة (4/302): قلت: ومن الغريب أن السيوطي أورد هذه الطريق في جملة ما أورده متعقباً به على ابن الجوزي حكمه على الحديث بالوضع ، ثم سكت عنه ، كأنه لا يعلم ما فيه من هذه العلل التي تجعله غير صالح للاستشهاد به لشدة ضعفه ، وكذلك سائر طرقه ، فقوله: إن الحديث حسن صحيح ..يعني بمجموعها ، مردود عليه لما ذكرنا ، وإن تبعه المناوي وغيره . وجملة القول أن الحديث ضعيف لا حسن ولا موضوع ، وإليه مال الحافظ السخاوي في " المقاصد الحسنة " والله أعلم ا.هـ(1/107)
عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ثم قرأ قوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال مجاهد وابن قتيبة للمتفرسين ا.هـ(1)وللفراسة إطلاق ثان استعمله بعض الصحابة وهو بمعنى ما يلقيه الله في قلب العبد ، قال أبو السعادات ابن الأثير: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " يقال بمعنيين أحدهما: ما دل ظاهر هذا الحديث عليه وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه ، فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس . والثاني: نوع يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق ، فتعرف به أحوال الناس ، وللناس فيه تصانيف قديمة وحديثه ا.هـ(2)ولابن القيم في مدارج السالكين(3)كلام طويل حول الفراسة واستشهد فيه بالنقول عن الصحابة الكرام ، وقسم الفراسة إلى أقسام ثلاثة لخص كلامه من غير عزو إليه ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية فقال: ومما ينبغي التنبيه عليه هاهنا: أن الفراسة ثلاثة أنواع: إيمانية: وسببها نور يقذفه الله في قلب عبده ، وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب ، يثب عليه كوثوب الأسد على الفريسة ، ومنها اشتقاقها ، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان ، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحدّ فراسة ، قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب ، وهي من مقامات الإيمان . انتهى . وفراسة رياضية: وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي ، فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها ، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ولا تدل على إيمان ولا على ولاية ، ولا تكشف عن حق نافع ولا عن طريق مستقيم ، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء ونحوهم .
__________
(1) 17/118) .
(2) النهاية (3/428) .
(3) ص 504 .(1/108)
وفراسة خلقية: وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم ، واستدلوا بالخَلق على الخُلق ، لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله ، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل ، وبكبره على كبره ، وسعة الصدر على سعة الخلق ، وبضيقه على ضيقه ، وبجمود العينين وكلال نظرهما على بلادة صاحبها ، وضعف حرارة قلبه ونحو ذلك ا.هـ(1)ويدخل في الفراسة الخلقية النوع الثاني الذي ذكره ابن الأثير .
إذا تبين معنى الفراسة فقد جعل الصوفية إثبات الفراسة مسوغاً لهم في ادعاء علم الأولياء للغيب وصرف العبادة لهم كالدعاء والذبح والنذر والرد على هذا من أوجه :
1- أنه تقدم بيان اختصاص الله بعلم الغيب وأنه لا يظهر على ذلك إلا الرسل .
2- أن الفراسة الرياضية والخلقية ليست من ادعاء علم الغيب كما تقدم ، أما الفراسة الإيمانية فلا تعدو أن تكون إلهاماً ، ومثله لا يستقل في تقرير الأحكام الشرعية – كما تقدم - ، ثم لا يكون إلا على يد الصالحين ومن جوز دعاء غير الله أو ادعى علم الغيب فليس صالحاً فلا تجري على يديه ، وما جاءه من إلهام فهو من الشيطان .
3- أنه على تقدير كون الفراسة تدل على بعض الغيب فإن أعلاها يفيد الظن كالمنامات ، ومثل هذا لا يعارض به اختصاص علم الله للغيب – كما تقدم - .
4- أنه على تقدير علم الولي للغيب فهذا لا يسوغ دعاءه من دون الله فيما لا يقدر عليه إلا الله وهكذا .
__________
(1) 2/753) .(1/109)
تنبيه: قد أشكل على بعضهم ما ذكره ابن القيم نقلاً عن شيخه أبي العباس ابن تيمية أنه علم أشياء من علم الغيب في المستقبل وأخبر بها غيره فوقع ، وقد فرح بهذا بعض الصوفية ليتقووا به على أهل السنة السلفيين ، قال ابن القيم: ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة وأن جيوش المسلمين تكسر وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام وأن كلب الجيش وحدته في الأموال وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام أن الدائرة والهزيمة عليهم وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا فيقال له قل إن شاء الله فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا وسمعته يقول ذلك قال فلما أكثروا علي قلت لا تكثروا كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ أنهم مهزومون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام قال وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر ولما طلب إلى الديار المصرية وأريد قتله بعد ما أنضجت له القدور وقلبت له الأمور اجتمع أصحابه لوداعه وقالوا قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك فقال والله لا يصلون إلى ذلك أبدا قالوا أفتحبس قال نعم ويطول حبسي ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رؤوس الناس سمعته يقول ذلك ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك وقالوا الآن بلغ مراده منك فسجد لله شكرا وأطال فقيل له ما سبب هذه السجدة فقال هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن وقرب زوال أمره فقيل له متى هذا فقال لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته فوقع الأمر مثل ما أخبر به سمعت ذلك منه وقال مرة يدخل علي أصحابي وغيرهم فأرى في وجوههم وأعينهم(1/110)
أمورالا أذكرها لهم فقلت له أو غيري لو أخبرتهم فقال أتريدون أن أكون معرفا كمعرف الولاة وقلت له يوما لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح فقال لا تصبرون معي على ذلك جمعة أو قال شهرا وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه ولم ينطق به لساني وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل ولم يعين أوقاتها وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته والله أعلم ا.هـ(1)وهذا الكلام لا إشكال فيه إذا نظر بعين الإنصاف وإرادة الوصول إلى الحقيقة وذلك أن كلام ابن تيمية كثير صريح في أنه لا أحد يعلم الغيب في المستقبل إلا الله كما تقدم نقل شيء منه فيحمل هذا الكلام على أنه ما بين أن يكون فراسة إلهامية أو رؤى منامية أما إقسامه فهو من باب إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ، وقد فعل هذا – رحمه الله – غير مرة فأبر الله قسمه كما في مناظراته مع البطائحية .
المقدمة الثامنة :
كثيراً ما يسلك أهل الضلال تغيير الأسماء لأجل لبس الحق بالباطل حتى يُرَد الحق وينفر منه قال تعالى (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فإن تسمية الحق باسم الباطل حتى ينفر منه وتسمية الباطل بالحق حتى يقبل طريقة طرقها واستعملها الشيطان اللعين فإنه قد سمى الشرك تعظيماً للصالحين حتى يقبل كما أخرج البخاري عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى ( وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم أنصاباً وسموها بأسمائهم ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت .
__________
(1) مدارج السالكين (2/510) .(1/111)
ومن ذلك مثلاً أن أعداء الإسلام الكفار المحتلين لديار المسلمين سموا احتلالهم أراضي المسلمين وامتصاص ثرواتهم استعماراً من الإعمار . وسميت الدعوة إلى إفساد المرأة تحريراً وهكذا ، وقبلهم المشركون الأوائل من كفار قريش فقد صدوا الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونفروهم عنه بأن سموه ساحراً وكاهناً وشاعراً ، وهكذا أعداء دعوة التوحيد دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – فقد سموا دعوته بالوهابية لينفروا الناس عنها وألصقوا بها تهماً يعلم الله في علاه أنها منها براء ، ولا يستطيع راموها إثباتها وإنما روجوها ومادتهم التي اعتمدوا عليها التهويل والتشنيع ، فالله حسيبهم .
ومن ذلك أن بعض الصوفية يصف المتمسكين بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين بأنهم أهل جفاء في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك لأنهم لا يقرون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم الغيب وأحقية صرف العبادة له من دون الله كدعائه فيما لا يقدر عليه إلا الله ، ولا يحتفلون بمولده وهكذا .(1/112)
ومن ذلك زعمهم(1)أن أهل السنة السلفيين يحرمون التوسل مطلقاً وأنه شرك فأخذوا يستعدون عليهم السفهاء بذلك، وهذا من لبسهم الحق بالباطل ، وذلك أن التوسل أنواع ثلاثة :
الأول: شرعي كما قال ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) وهو فيما جاء به الشرع ، وهو على ثلاثة أقسام:
أولها : التوسل بأسماء الله وصفاته كما قال تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ... } وكما روى البخاري عن جابر حديث الاستخارة وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك ... " والعلم والقدرة صفتان لله. وكما قال تعالى { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } والرحمة صفةٌ من صفات الله .
__________
(1) كما فعل النبهاني في كتابه " شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق " ، ومحمد زاهد الكوثري في كتابه " محق التقول في مسألة التوسل " ، وصاحب الموسوعة اليوسفية . علماً أنه قد رد على النبهاني رداً مفيداً العلامة محمود الألوسي في كتابه " غاية الأماني في الرد عى النبهاني " ، أما زاهد الكوثري فقد سفهه وبين كذبه وسوء خلقه مع أهل العلم شقيقه في الضلالة أحمد الغماري في كتاب " بيان تلبيس المفتري محمد زاهد الكوثري " إذ نقل عنه ص 48 رمي ابن حجر بالزنى والخطيب البغدادي باللواط ، بل ونقل عنه طعنه في الصحابي الجليل أنس بن مالك ص54 وابن عباس ص62 وأبي هريرة ص64 ، وفي المقابل ذكر غلوه الشديد في أبي حنيفة حتى قال الغماري عنه ص59: وأقسم بالله – باراً غير حانث – أن لو بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فخاطبكم شفاهاً أن أبا حنيفة مخطئ لكفرتم به ولرددتم رسالته عليه ، كما تردون الآن شريعته وسنته بهذا التلاعب المخزي ا.هـ . وللفائدة فقد رد على المتهور الجاني زاهد الكوثري الإمام عبدالرحمن المعلمي – رحمه الله – وجمع رده بين الأدب والتحقيق في العلم في كتاب سماه " التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل " .(1/113)
ومن هذا النوع التوسل بقول " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض ... " كما جاء في حديث عائشة في صحيح مسلم . إذ المراد هنا التوسل بفعل الله ألا وهو تربية جبرائيل وميكائيل وإسرافيل .
ثانيها : - أي أنواع التوسل المشروع – توسل الشخص نفسه بأعماله الصالحة كما قال تعالى { ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا } فهنا توسلوا بالإيمان وهو عمل صالح وكما جاء في حديث ابن عمر المتفق عليه في قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار فانحدرت صخرةٌ من الجبل فسدَّت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم . وفيه أن كل واحدٍ منهم سأل الله بعمل صالح ... " الحديث ومن هذا النوع التوسل بتصديق رسالة النبي صلى الله عليه وسلَّم والإيمان به ومنه التوسل بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم . وقد ذهب الشوكاني إلى أن التوسل بأهل العلم والفضل هو توسل بأعمالهم الصالحة وأن حديث الصخرة يدلُّ على جواز هذا النوع . وما ذكره رحمه الله خطأ مجانبٌ للصواب إذ حديث الصخرة فيه توسل كل واحدٍ بعمله هو لا بعمل غيره(1).
__________
(1) انظر الرَّد على هذا القول في صيانة الإنسان ص 202 .(1/114)
ثالثها : - أي أنواع التوسل المشروع – التوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح للغير كما جاء في حديث أنس المتفق عليه أن رجلاً قال يا رسول الله هلك الأموال وانقطعت السبل فادعُ الله عز وجل يغيثنا ... الحديث . وهكذا فعل عمر مع العباس بن عبد المطلب في صحيح البخاري عن أنس . وقال الألباني في كتابه النافع " التوسل أنواعه وأحكامه " ومن ذلك أيضاً ما رواه الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في تاريخه (18 /151 /1)بسند صحيح عن التابعي الجليل سليم ابن عامر الخبائري وقال في الحاشية وعزاه الحافظ العسقلاني في الإصابة ( 3/634 ) لأبي زرعة الدمشقي ويعقوب بن سفيان في تاريخهما بسندٍ صحيح عن سليم بن عامر أيضاً أن السماء قحطت فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون ، فلما قعد معاوية على المنبر قال أين يزيد بن الأسود الجرشي ؟ وفيه أنه استسقى به ثم قال الألباني – وروى ابن عساكر أيضاً بسندٍ صحيحٍ أن الضحاك بن قيس خرج يستسقي بالناس فقال ليزيد بن الأسود أيضاً: قم يا بكاء – زاد في رواية – فما دعا إلا ثلاثاً حتى أُمطروا مطراً كادوا يغرقون منه ا . هـ ، وبعد تقرير أن التوسل لا يجوز إلا بهذه الثلاث فإن كثيراً من مجوِّزي التوسل البدعي يستدلُّون بأدلةٍ لا تصح إما من جهة الإسناد والمتن أو من جهة أحدهما وأشهر ما يستدلُّون به ما يلي :
الدليل الأول:- ما رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن عثمان ابن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلَّم ، فقال : ادع الله أن يُعافيني . قال إن شئت دعوت لك وإن شئت أخَّرت ذاك فهو خير ، فقال : ادعه ، فأمره أن يتوضأ ، فيحسن وضوءه فيصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضي لي ، اللهم فشفِّعه فيَّ وشفِّعني فيه ، قال ففعل الرجل فبرأ "
فالجواب عليه ما يلي :(1/115)
1-أن طائفةً من العلماء ذهبوا إلى تضعيفه كالسَّهسواني(1)وعبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن وأبيه –رحمهم الله -
2-أنه على فرض صحته فيُقال : إن الأعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم ليدعو له ، وذلك قوله : " ادع الله أن يُعافيني " فهو قد توسل إلى الله تعالى بدعائه صلى الله عليه وسلَّم ، لأنه يعلم أن دعاءه صلى الله عليه وسلَّم أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره ، إذ لو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي أو جاهه لما جاءه بل كان توسل بذلك في داره دون الإتيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
3-أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعده بالدعاء مع توجيهه إلى الأفضل وأبى إلا دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك دعا له - صلى الله عليه وسلم - إذ هو خير من وفى بما وعد .
4-أن في الدعاء الذي علَّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اللهم فشفِّعه فيَّ " أي اللهم اقبل دعاءه في وهذا لا يمكن حمله على التوسُّل البدعيِّ من دعاءٍ بجاهٍ ونحوه
5-أن مما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأعمى أن يقول "وشفِّعني فيه" أي اقبل شفاعتي أي دعائي في أن تُقبل شفاعته - صلى الله عليه وسلم - أي دعاءه في أن تردَّ علي بصري .
الدليل الثاني :- قال الحافظ ابن حجر :" وروى ابن أبي شيبه(2)بإسنادٍ صحيحٍ من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار – وكان خازن عمر – قال أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجلٌ إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلَّم فقال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأُتي الرجل في المنام ، فقيل له ائت عمر ... الحديث . وقد روى سيف في الفتوح إن الذي رأي المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة . ا.هـ(3).
__________
(1) صيانة الإنسان ص 125 ، 204 .
(2) رقم (31993) .
(3) صيانة الإنسان ص 125 ، 204 .(1/116)
وقد رد على هذا الأثر روايةً ودرايةً العلَّامة محمد ناصر الدين الألباني :"أما روايةً فإن مالك الدار مجهول لم يذكر فيه ابن أبي حاتم على سعة حفظه واطلاعه جرحاً ولا تعديلاً وقول الحافظ بإسنادٍ صحيح لا يُنافي جهالته إذ جزم بصحة إسناده إلى أبي صالح السمان ولا يفيد هذا تصحيح الإسناد كله حتى بوجود مالك الدار و على فرض صحة القصة فهي لا تفيد شيئاً لأن مدارها على رجلٍ لم يُسم وتسميته بلالاً في رواية سيف لا يساوي شيئاً لأن سيفاً هذا – هو ابن عمر التميمي – مُتفق على ضعفه عند المحدثين ثم فعل هذا الرجل المجهول الذي وصل إلينا خبره بطريق رجلٍ مجهول أيضاً يُخالف فعال الصحابة الكبار كعمر ومعاوية(1).
الدليل الثالث :- حكاية العتبي أنه رأى أعرابياً أتى قبر الرسول صلى الله عليه وسلَّم وقرأ قوله تعالى { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } وهذه القصة لا تصح إسناداً ولامتناً إذ قال ابن عبد الهادي : وقد ذكرها البيهقي في كتاب ( شعب الإيمان ) بإسنادٍ مظلم ... ا.هـ(2). أما وجه عدم صحتها متناً أنها مخالفةٌ لفعل الصحابة إذ لو كان إتيان قبر الرسول صلى الله عليه وسلَّم نافعاً في غفران الذنوب لرأيتهم يتواردون على فعل ذلك فلمَّا لم يفعلوا مع إمكانهم وحرصهم دلَّ هذا على ضعف القصة بل وضعِها(3).
__________
(1) كتابه التوسل ص 131 ، وانظر تعليق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - في رده هذا الأثر روايةً ودراية بنحو ما سبق في حاشية فتح الباري .
(2) الصارم ص 212 .
(3) وانظر للاستزادة في مبحث التوسل كتب ابن تيمية لا سيما " قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة " وكتب ابن القيم وكتاب صيانة الإنسان وكتاب التوسل أنواعه وأحكامه . فإنه نافع وقد جمع كثيراً مما قيل قبله(1/117)
قال ابن تيمية: وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية فهي والله أعلم باطلة فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلمه ولم يذكر أحد منهم أنه استحب أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت لا استغفارا ولا غيره وكلام مالك المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلا هذه الآية وأنشد بيتين :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي واحمد مثل ذلك واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعا مندوبا لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم بل قضاء حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله لها أسباب قد بسطت في غير هذا الموضع وليس كل من قضيت حاجته لسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعا مأمورا به فقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا وتكون المسألة محرمة في حق السائل حتى قال :" إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا " قالوا: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال:" يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل " ا.هـ(1)
الثاني: البدعي وهو فيما عدا هذه الثلاثة .
الثالث: الشركي وهو التوسل إلى الله بعبادة الصالحين كما قال تعالى ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) .
تنبيه: من تحريف الكلم عن مواضعه عند أهل البدع من الصوفية وغيرهم أنهم جعلوا التوسل بالصالحين هو التوسل بجاههم أو عبادتهم ، وهذا كله باطل وذلك من أوجه ، وأقتصر على وجهين :
__________
(1) الاقتضاء (2/766) ، وانظر الصارم المنكي لابن عبدالهادي ص352 .(1/118)
الأول: أنه لو كان كذلك لتوسل عمر ومن معه برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ممكن بعد موته التوسل بجاهه أو عبادته لو كان جائزاً شرعاً فلما لم يكن جائزاً لم يفعلوا .
الثاني: أنه جاء تفسير هذه التوسل وهو أن يقوم يدعو له .
المقدمة التاسعة:
لما ضيق أهل السنة السلفيون بالأدلة الشرعية الخناق على الصوفية ، فكشفوا شبهاتهم وبتروا باطلهم حاول الصوفية إيجاد مخارج من خناق أدلة الحق ، وأنى لهم فإن الباطل باطل وإن زخرف وسوغ والحق حق وإن شوه وكتم ، وسبيلهم في محاولة الفكاك من خناق أدلة الحق سبيلان:
الأول: زعمهم أن قول القائل: يا فلان اغفر لي ويا فلان اخلق لي ولداً . أن هذا على تقدير محذوف دل عليه المجاز العقلي ، وتقدير هذا الكلام بالمحذوف هو: يا فلان ادعو الله أن يغفر لي ، ويا فلان ادعو الله أن يخلق لي ولداً وهكذا ...(1/119)
وقد رد على هذه الشبهة والزعم العلامة محمد بشير السهسواني من أربعة أوجه فقال: قوله ( أي ابن دحلان ): مع أن تلك الألفاظ الموهمة يمكن حملها على المجاز من غير احتياج إلى التكفير للمسلمين ، وذلك المجاز مجاز عقلي شائع ومعروف اهـ أقول: فيه نظر من وجوه: الأول: أن لفظ " الموهمة " في هذا المقام وفيما تقدم لا يخلو عن تدليس وتلبيس ، فإن تلك الألفاظ دالة دلالة مطابقة على تأثير غير الله تعالى ، فما معنى الإيهام ؟ والثاني: أنه لو سلم هذا الحمل لاستحال الارتداد ، ولغاب باب الردة الذي يعقده الفقهاء ، فإن المسلم الموحد متى صدر منه قول أو فعل موجب للكفر يجب حمله على المجاز العقلي ، والإسلام والتوحيد قرينة على ذلك المجاز . والثالث: أنه يلزم على هذا أن لا يكون المشركون الذين نطق كتاب الله بشركهم مشركين ، فإنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق الضار النافع ، وأن الخير والشر بيده ، لكن كانوا يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ، فالاعتقاد المذكور قرينة على أن المراد بالعبادة ليس معناها الحقيقي ، بل المراد هو المعنى المجازي أي التكريم مثلاً ، فما هو جوابكم هو جوابنا . الرابع: أنكم هؤلاء أولتم عنهم في تلك الألفاظ الدالة على تأثير غير الله تعالى ، فما تفعلون في أعمالهم الشركية من دعاء غير الله والاستغاثة والنذر والنحر؟ فإن الشرك لا يتوقف على اعتقاد تأثير غير الله ، بل إذا صدر من أحد عبادة من العبادات لغير الله صار مشركاً سواء اعتقد ذلك الغير مؤثراً أم لا ا.هـ(1)
__________
(1) صيانة الإنسان ص214 ، وانظر كتاب " هذه مفاهيمنا " لوزير الشؤون الإسلامية صالح آل الشيخ ص121 ، وأفاد أن هذه الشبهة إنما أثارها الصوفية بعد دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب .(1/120)
ومعنى الوجه الرابع: أن المجاز من مباحث الألفاظ ، فلو قدر صحة تأويلكم كلامهم وألفاظهم بالمجاز العقلي فإنه لا يمكنكم تأويل أفعالهم الشركية كالذبح لغير الله والنذر للأموات وهكذا ، فإن هذه أفعال وليست ألفاظاً فلا دخل للمجاز فيها ، ويزاد على ما ذكر السهسواني وجهاً وهو:
الخامس: أن الأصل في الكلام الحقيقة ولا ينتقل إلى المجاز إلا بقرينة تمنع حملها على ما يسمى بالوضع الأول ( إن كان له وجود ) إلى الوضع الثاني ، وعلى هذا إجماع أهل اللغة كما حكاه غير واحد, ولا قرينة تمنع حمله على الوضع الأول ، كيف والقرائن دالة على تأكيد الوضع الأول وهو حالهم ، فمن خبرهم ولو قليلاً علم أنهم يريدون حقيقة ألفاظهم ؛ لذا لم يكن المجادلون عنهم من المتقدمين يثيرون هذه الشبهة لعلمهم أن واقع من يجادلون عنهم يكذبها فقد كانوا أعقل من هؤلاء المتأخرين وأكثر حياء فلم يرضوا أن يذكروا ما يظهر به كذبهم علانية ، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم القائل: إذا لم تستح فاصنع ما شئت " أخرجه البخاري عن أبي مسعود البدري ، وزعمهم أن إقرار هؤلاء بأن الله الخالق والرازق قرينة توجب نقله إلى الوضع الثاني زعم باطل فإن كفار قريش كانوا مقرين بأن الله الخالق الرازق ومع ذلك وقع منهم الشرك في العبادة ، فتبين بهذا أن فريتهم المزعومة غير صحيحة فيبقى الكلام على الوضع الحقيقي .(1/121)
الثانية: إذا وصفوا الأولياء الصالحين ومَن يزعمونه صالحاً بوصف كعلم الغيب وخلق الولد قالوا: بإذن الله ، كما ذكر الله في عيسى عليه السلام من أنه يحيي الموتى ويخلق الطير بإذن الله قال تعالى ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) والرد عليهم من أوجه:
الأول/ أن علم غيب المستقبل أي المطلق نفاه الله عن غيره إلا للرسل إذا أراد اطلاعهم على بعضه آية ودليلاً على رسالتهم كما تقدم بيانه ، فزعمهم أن أحد الأولياء يعلم الغيب بإذن الله كذب على الله قال تعالى ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) بل هو شرك أكبر لأنه من تسوية غير الله بالله في شيء من خصائصه الذي هو علم الغيب بدون إذنه .
الثاني/ أن علم الغيب وخلق الولد ونحوه خاص بالله كما بينه في كتابه كثيراً قال ( هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) وقال ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ ) وقال ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)(1/122)
إذا تقرر هذا فإذن الله لمن أذن له ممن ذكرهم في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته خاص مستثنى من الأصل ، فمن أراد الاستثناء من هذا الأصل فعليه الدليل الشرعي وإلا صار كاذباً واقعاً في الشرك لجعله غير الله مساوياً له يخلق والله لم يأذن له .
فلو احتج جدلاً بأنه وقع وقد رآه ، فيقال: إن الوقوع فيما يبدوا لنا ليس دليلاً على صحته دائماً لأن الشياطين كثيراً ما تتلاعب ببني آدم وتتصور لهم في صور ، وهذا كثير شائع فعليه وجب التنبيه وعدم الاغترار بتلاعبهم ، قال ابن تيمية: ثم الرؤيا قد تكون من الله فتكون حقا وقد تكون من الشيطان كما ثبت تقسيمها إلى هذين في الأحاديث الصحيحة والشيطان كما قد يتمثل في المنام بصورة شخص فقد يتمثل أيضا في اليقظة بصورة شخص يراه كثير من الناس يضل بذلك من لم يكن من أهل العلم والإيمان كما يجري لكثير من مشركي الهند وغيرهم إذا مات ميتهم يرونه قد جاء بعد ذلك وقضى ديونا ورد ودائع وأخبرهم بأمور عن موتاهم وإنما هو شيطان تصور في صورته وقد يأتيهم في صورة من يعظمونه من الصالحين ويقول أنا فلان وإنما هو شيطان وقد يقوم شيخ من الشيوخ ويخلف موضعه شخصا في صورته يسمونه روحانية الشيخ ورفيقه وهو جني تصور في صورته وهذا يقع لكثير من الرهبان وغير الرهبان من المنتسبين إلى الإسلام وقد يرى أحدهم في اليقظة من يقول له أنا الخليل أو أنا موسى أو أنا المسيح أو محمد أو أنا فلان لبعض الصحابة أو الحواريين ويراه طائرا في الهواء وإنما يكون ذلك من الشياطين ولا تكون تلك الصورة مثل صورة ذلك الشخص وقد قال النبي من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي فرؤيته في المنام حق وأما في اليقظة فلا يرى بالعين هو ولا أحد من الموتى مع أن كثيرا من الناس قد يرى في اليقظة من يظنه نبيا من الأنبياء إما عند قبره وإما عند غير قبره وقد يرى القبر انشق(1)
__________
(1) وله كلام آخر يوهم أنه بإمكان البدن أن يخرج من القبر تحجج به بعض أهل البدع من الصوفية إذ قال ابن تيمية في شرح حديث النزول ص399: وقد يقوى الأمر حتى يظهر ذلك في بدنه وقد يرى خارجا من قبره والعذاب عليه وملائكة العذاب موكلة به فيتحرك بدنه ويمشى ويخرج من قبره وقد سمع غير واحد أصوات المعذبين في قبورهم وقد شوهد من يخرج من قبره وهو معذب ومن يقعد بدنه أيضا إذا قوى الأمر لكن هذا ليس لازما في حق كل ميت كما أن قعود بدن النائم لما يراه ليس لازما لكل نائم بل هو بحسب قوة الأمر وقد عرف أن أبدانا كثيرة لا يأكلها التراب كأبدان الأنبياء وغير الأنبياء من الصديقين وشهداء أحد وغير شهداء أحد والأخبار بذلك متواترة ا.هـ
و المراد بكلامه أن الروح تتصور بصورة البدن لا أن البدن نفسه يخرج لذا قال بعده : ومما يشبه هذا اخباره : بما رآه ليلة المعراج من الأنبياء فى السموات وأنه رأى آدم وعيسى ويحيى ويوسف وادريس وهارون وموسى وابراهيم صلوات الله وسلامه عليهم وأخبر ايضا أنه رأى موسى قائما يصلى فى قبره وقد رآه أيضا فى السموات ومعلوم أن أبدان الانبياء فى القبور الا عيسى وادريس واذا كان موسى قائما يصلى فى قبره ثم رآه فى السماءالسادسة مع قرب الزمان فهذا أمر لا يحصل للجسد ومن هذا الباب أيضا نزول الملائكة صلوات الله عليهم وسلامه جبريل وغيره ا.هـ وهذا واضح في أن المراد به الروح .(1/123)
وخرج منه صورة إنسان فيظن أن الميت نفسه خرج من قبره أو أن روحه تجسدت وخرجت من القبر وإنما ذلك جني تصور في صورته ليضل ذلك الرائي فإن الروح ليست مما تكون تحت التراب وينشق عنها التراب فإنها وإن كانت قد تتصل بالبدن فلا يحتاج في ذلك إلى شق التراب والبدن لم ينشق عنه التراب وإنما ذلك تخييل من الشيطان وقد جرى مثل هذا لكثير من المنتسبين إلى المسلمين وأهل الكتاب والمشركين ويظن كثير من الناس أن هذا من كرامات عباد الله الصالحين ويكون من إضلال الشياطين كما قد بسط الكلام في هذا الباب في غير هذا الكتاب مثل الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وغير ذلك ا.هـ(1)
__________
(1) الجواب الصحيح (3/347) ..(1/124)
وقال: فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول هنيئا لك يا ولي الله فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول خذني حتى يأكلني الفقراء ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح وبالعكس وكذلك في أبواب المدينة وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة أو تمر به أنوار أو تحضر عنده من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له انا من أمر الله ويعده بأنه المهدى الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر له الخوارق مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يمينا أو شمالا ذهب حيث أراد وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر وتحمله إلى مكة وتأتى به وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة وتقول له هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك فيقول في نفسه كيف تصوروا بصورة المردان فيرفع رأسه فيجدهم بلحى ويقول له علامة إنك أنت المهدى إنك تنبت في جسدك شامة فتنبت ويراها وغير ذلك وكله من مكر الشيطان وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير ا.هـ(1)
الثالث/ لو قدر أن الولي يخلق ولداً أو يعلم الغيب فإن هذا ليس مسوغاً بحال عبادته ودعاءه من دون الله لأن هذه الأمور خاصة بالله – كما تقدم – فصرفها لغير الله شرك ، ومقتضى الولاية والصلاح ألا يرضى الولي فعله وإن رضي فليس ولياً لله بل ولياً للشيطان كما تقدم . فعليه ليس للصوفية وأمثالهم مسوغ لفعل شركهم .
المقدمة العاشرة:
__________
(1) الفرقان ص188 .(1/125)
لا يحتج في دين الله من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا عليه إجماع أهل العلم ، قال ابن تيمية: لم يقل أحد من الأئمة: إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف ، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع ا.هـ(1)وقال أحمد بن الحسين الترمذي: كنا عند أحمد بن حنبل ، فذكروا على من تجب الجمعة ، فلم يذكر أحمد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً . قال أحمد بن الحسن : فقلت لأحمد بن حنبل: فيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقال أحمد: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم . قال أحمد بن الحسن: حدثنا حجاج بن نصير قال: حدثنا معارك بن عباد عن عبدالله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الجمعة على من آواه الليل إلى أهله " قال: فغضب علي أحمد وقال لي : استغفر ربك استغفر ربك . قال أبو عيسى إنما فعل أحمد بن حنبل هذا لأنه لم يعد هذا الحديث شيئا وضعفه لحال إسناده ا.هـ(2)
__________
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص162 .
(2) جامع الترمذي ، باب ما جاء من كم تؤتى الجمعة .(1/126)
بل من حدث بما لم يثبت فيخشى عليه من الدخول في قوله - صلى الله عليه وسلم - :" من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار " قال الدار قطني في مقدمة كتاب " الضعفاء والمتروكين ": توعد - صلى الله عليه وسلم - بالنار من كذب عليه بعد أمره بالتبليغ عنه ففي ذلك دليل على أنه إنما أمر أ ن يبلغ عنه الصحيح دون السقيم والحق دون الباطل لا أن يبلغ عنه جميع ما روي لأنه قال - صلى الله عليه وسلم - :" كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع " أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة فمن حدث بجميع ما سمع من الأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يميز صحيحها وسقيمها وحقها من باطلها باء بالإثم وخيف عليه أن يدخل في جملة الكاذبين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه منهم في قوله:" من روى عني حديثاً يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " فظاهر هذا الخبر دال على أن كل من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً وهو شاك فيه أصحيح أو غير صحيح يكون كأحد الكاذبين لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال:" من حدث عني حديثاً وهو يرى أنه كذب .." ولم يقل: يستيقن أنه كذب . ا.هـ
قال الحافظ زين الدين العراقي في كتابه المسمى " الباعث على الخلاص من حوادث القصاص ": وإن اتفق – أي القاص الذين لا علم له في الحديث - أنه نقل حديثاً صحيحاً كان آثماً في ذلك لأنه ينقل ما لا علم له به وإن صادف الواقع كان آثماً بإقدامه على ما لا يعلم ا.هـ
وإن من أوسع الأبواب التي يلجها الصوفية في تقرير بدعهم الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة المصنوعة ، بل بلغ الحال ببعضهم أنه إذا أورد حديثاً موضوعاً كَذَبَ – عمداً أو جهلاً – فنسبه إلى البخاري أو مسلم .(1/127)
بل بعض متفيقهة الصوفية سوغوا هذا الصنيع وحسنوه بحجة جواز الاستدلال بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال ، وهم بهذا مخطئون وللباطل محسنون إذ المجوزون من أهل العلم الاستدلال بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال مثل: عبدالله بن المبارك وابن مهدي والثوري وأحمد بن حنبل ، قد شرطوا شروطاً ذكرها الحافظ ابن حجر فقال: إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة: الأول: متفق عليه ، أن يكون الضعف غير شديد فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه . الثاني: أن يكون مندرجاً تحت أصل عام ، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً . الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله . قال: الأخيران عن ابن عبدالسلام وعن صاحبه ابن دقيق العيد والأول نقل العلائي الاتفاق عليه ا.هـ(1)
وهؤلاء – أي الصوفية - كثيراً ما يوردون الأحاديث الموضوعة المصنوعة مثل: من حج ولم يزرني فقد جفاني . فهم بهذا خالفوا هذا الشرط الأول المجمع عليه .
أما احتجاج بعض من لا يدري بتساهل العلماء برواية الأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال فيأخذ منه صحة رواية كل حديث ضعيف في فضائل الأعمال ، فهذا خطأ ومزلة قدم ضل بسببها كثيرون وذلك أنه إذا لم يوجد في هذا العمل إلا الحديث الضعيف المروي في فضائل الأعمال فإنه يكون من أحاديث الأحكام لا من فضائل الأعمال لأن الحديث المتضمن لفظ عمل – أي ثوابه أو أجره – إذا لم يرد غيره في إثبات هذا العمل من أصله كان شاملاً لأمرين :
1/ لمشروعية هذا العمل .
2/ لفضله وثوابه .
__________
(1) القول البديع للسخاوي ص363 .(1/128)
فصار هذا الحديث بمفرده دالاً على العمل والفضل فلا يصح أن يقال هنا: إنه من فضائل الأعمال ، قال ابن تيمية: وكذلك ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي ومن أخبر عن الله أنه يحب عملا من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره بل هو أصل الدين المشروع وإنما مرادهم بذلك أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع كتلاوة القرآن والتسبيح والدعاء والصدقة والعتق والإحسان إلى الناس وكراهة الكذب والخيانة ونحو ذلك فإذا روى حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها وكراهة بعض الأعمال وعقابها فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه إذا روي فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب أو تخاف ذلك العقاب كرجل يعلم أن التجارة تربح لكن بلغه أنها تربح ربحا كثيرا فهذا إن صدق نفعه وإن كذب لم يضره ومثال ذلك الترغيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات وكلمات السلف والعلماء ووقائع العلماء ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي لا استحباب ولا غيره ولكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب والترجية والتخويف فما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع فإن ذلك ينفع ولا يضر وسواء كان في نفس الأمر حقا أو باطلا فما علم أنه باطل موضوع لم يجز الالتفات إليه فإن الكذب لا يفيد شيئا وإذا ثبت أنه صحيح أثبتت به الأحكام وإذا احتمل الأمرين روي لإمكان صدقه ولعدم المضرة في كذبه وأحمد إنما قال إذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد ومعناه أنا نروي في ذلك بالأسانيد وإن لم يكن محدثوها من الثقات الذين يحتج بهم وكذلك قول من قال يعمل بها في فضائل الأعمال إنما(1/129)
العمل بها العمل بما فيها من الأعمال الصالحة مثل التلاوة والذكر والاجتناب لما كره فيها من الأعمال السيئة ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن عبدالله بن عمرو:" بلغوا عنى ولو آية وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " مع قوله في الحديث الصحيح " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " فإنه رخص في الحديث عنهم ، ومع هذا نهى عن تصديقهم وتكذيبهم فلو لم يكن في التحديث المطلق عنهم فائدة لما رخص فيه وأمر به ولو جاز تصديقهم بمجرد الأخبار لما نهى عن تصديقهم فالنفوس تنتفع بما تظن صدقه في مواضع فإذا تضمنت أحاديث الفضائل الضعيفة تقديرا وتحديدا مثل صلاة في وقت معين بقراءة معينة أو على صفة معينة لم يجز ذلك لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي بخلاف ما لو روي فيه من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله كان له كذا وكذا فإن ذكر الله في السوق مستحب لما فيه من ذكر الله بين الغافلين ، كما جاء في الحديث المعروف " ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء بين الشجر اليابس " ، فأما تقدير الثواب المروي فيه فلا يضر ثبوته ولا عدم ثبوته وفى مثله جاء الحديث رواه الترمذى من بلغه عن الله شيء فيه فضل فعمل به رجاء ذلك الفضل أعطاه الله ذلك وإن لم يكن ذلك كذلك فالحاصل أن هذا الباب يروى ويعمل به في الترغيب والترهيب لا في الاستحباب ثم اعتقاد موجبه وهو مقادير الثواب والعقاب يتوقف على الدليل الشرعي ا.هـ(1)
__________
(1) 18/65 – 68 ) وانظر مقدمة صحيح الترغيب والترهيب للألباني ..(1/130)
وبنحو كلام ابن تيمية قال الشاطبي في الاعتصام: فعلى كل تقدير: كل ما رغب فيه إن ثبت حكمه ومرتبته في المشروعات من طريق صحيح ، فالترغيب بغير الصحيح مغتفر ، وإن لم يثبت إلا من حديث الترغيب فاشترط الصحة أبداً ، وإلا خرجت عن طريق القوم المعدودين في أهل الرسوخ فلقد غلط في هذا المكان جماعة ممن ينسب إلى الفقه ، ويتخصص عن العوام بدعوى رتبة الخواص ، وأصل هذا الغلط عدم فهم كلام المحدثين في الموضعين ، وبالله التوفيق ا.هـ(1)
__________
(1) 1/293) .(1/131)
إن الصوفية كثيراً ما يبنون شواهق على لا شيء من الأحاديث والآثار الضعيفة بل والموضوعة ، وأحياناً يكون صحيحاً بل في البخاري ، لكن الشاهد منه ليس صحيحاً فيوهمك بعزوه إلى البخاري ، وأحياناً يتمسكون بعبارات لأهل العلم لا تفيد التصحيح عند ذوي المعرفة وهي كقول الهيثمي أو غيره : رجاله رجال الصحيح ، أو رجاله ثقات . وهكذا فإن هذا لا يفيد تصحيحاً(1)، إذ بقيت شروط أخرى للجزم بالصحة منها الاتصال لذا لا يكون صحيحاً إلا إذا صرح بصحته إلى الصحابي إذا كان المتكلم عنه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحياناً إذا رغبوا في الاستدلال بحديث أو أثر بحثوا عمن يصححه حتى ولو كان متساهلاً في التصحيح والتضعيف كالهيثمي والسيوطي(2)
__________
(1) قال الإمام الألباني في السلسلة الصحيحة (3/317) : فإذا عرفت هذا فلا فائدة كبرى من قول الهيثمي في المجمع (8/106): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهو ثقة وفيه ضعف . وكذلك من قول الحافظ في الفتح (5/139): أخرجه ابن أبي عاصم في السنة والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات . لأن كون رجال الإسناد ثقاتاً ليس هو كل ما يجب تحققه في السند حتى يكون صحيحاً ، بل هو شرط من الشروط الأساسية في ذلك ، بل إن تتبعي لكلمات الأئمة في الكلام على الأحاديث قد دلني على أن قول أحدهم في حديث ما ( رجال إسناده ثقات ) يدل على أن الإسناد غير صحيح بل فيه علة ولذلك لم يصححه ، وإنما صرح بأن رجاله ثقات فقط فتأمل ا.هـ وقد بسطه بطول في مقدمة صحيح الترغيب والترهيب (1/43 – 50 ) .
(2) انظر السلسلة الضعيفة للألباني (1/181 ، 232 ، 273 ، 311، 630 ) (3/263) ..(1/132)
ضاربين بأقوال أهل العلم الآخرين عرض الحائط ولو كانوا أكثر وأتقن لهذا العلم ، وأحياناً يكذبون في عزو الحديث إلى صاحب الصحيح أو إلى من صححه ، وقد سمعت الصوفي علي الجفري يعزو أحاديث إلى صاحبي الصحيح وليست فيهما كذباً وزوراً .
تنبيه: الصوفية نسبة إلى لبس الصوف – على الصحيح - فإنها في أول إطلاقها كانت على قوم ذوي زهد وعبادة ولبس لصوف ، وذلك من معالم الزهد ، ولم يكن لهؤلاء من الأخطاء العقدية ما عند المتأخرين ، وإنما بدأ الانحراف قليلاً ثم أخذ يزداد ما بين حين وآخر حتى تعبدوا بالبدع والمحدثات الكثيرات ، بل بلغ الحال ببعضهم أن تلبسوا بالشركيات حتى في الربوبية ، فزاد شركهم على كفار قريش كأبي جهل وأبي لهب قال ابن تيمية: أما لفظ الصوفية فانه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد بن حنبل وأبى سليمان الدارانى وغيرهما وقد روى عن سفيان الثوري أنه تكلم به وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري وتنازعوا في المعنى الذي أضيف إليه الصوفي فانه من أسماء النسب كالقرشي والمدني وأمثال ذلك فقيل أنه نسبة إلى أهل الصفة وهو غلط لأنه لو كان كذلك لقيل صفي وقيل نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله وهو أيضا غلط فانه لو كان كذلك لقيل صفي ، وقيل نسبة إلى الصفوة من خلق الله وهو غلط لأنه لو كان كذلك لقيل صفوي وقيل نسبة إلى صوفة بن بشر بن أد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم ينسب إليهم النساك وهذا وإن كان موافقا للنسب من جهة اللفظ فانه ضعيف أيضا لأن هؤلاء غير مشهورين ولا معروفين عند أكثر النساك ولأنه لو نسب النساك إلى هؤلاء لكان النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى ولأن غالب من تكلم باسم الصوفي لا يعرف هذه القبيلة ولا يرضى أن يكون مضافا إلى قبيلة في الجاهلية لا وجود لها في الإسلام وقيل وهو المعروف أنه(1/133)
نسبة إلى لبس الصوف فإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد وعبد الواحد من أصحاب الحسن وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو وذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار ا.هـ(1)
قال الآلوسي: واعلم أن الصنف الأول هم المقبولون عند القوم ، السالمون من القدح واللوم ، فقد قال سيد الطائفة الصوفية ، وإمام الطريقة والحقيقة الشرعية ، جنيد البغدادي عليه رحمة الله الهادي: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال: من لم يحفظ القرآن ، ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا العلم لأن علمنا ومذهبنا مقيد بالكتاب والسنة – ثم قال – وأما غير هذا القسم من الصوفية كالمتصوفة المغايرين في حركاتهم وأفعالهم للسنة النبوية فهم المذمومون والجماعة المخالفون للطائفة المرضية ، فقد قال صاحب الطريقة المحمدية من بعد ما تكلم على البدعة: فظهر من هذا بطلان ما يدعيه بعض المتصوفة في زماننا ، إذا أنكر عليهم بعض أمورهم المخالفة للشرع الشريف: إن حرمة ذلك في العلم الظاهر ، وإنا أصحاب العلم الباطن .. ا.هـ(2)
__________
(1) 11/5) .
(2) جلاء العينين ص120 .(1/134)
قال ابن الجوزي: والتصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي ثم ترخص المنتسبون إليها بالسماع والرقص فمال إليهم طلاب الآخرة من العوام لما يظهرونه من التزهد . ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب فلابد من كشف تلبيس إبليس عليهم في طريقة القوم ولا ينكشف ذلك إلا بكشف أصل هذه الطريقة وفروعها وشرح أمورها والله الموفق للصواب – ثم قال – وهذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين ، ولما أظهره أوائلهم تكلموا فيه وعبروا عن صفته بعبارات كثيرة وحاصلها أن التصوف عندهم رياضة النفس ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة ، وحمله على الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق إلى غير ذلك من الخصال الحسنة التي تكسب المدائح في الدنيا والثواب في الأخرى – ثم قال – وعلى هذا كان أوائل القوم فلبس إبليس عليهم في أشياء ثم لبس على من بعدهم من تابعيهم فكلما مضى قرن زاد طعمه في القرن الثاني فزاد تلبيسه عليهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن . وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل ، فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات ، فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة فرفضوا ما يصلح أبدانهم . وشبهوا المال بالعقارب ، ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا في الحمل على النفوس حتى إنه كان فيهم من لا يضطجع . وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة . وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري .(1/135)
ثم جاء أقوام فتكلموا لهم في الجوع والفقر والوساوس والخطرات وصنفوا في ذلك مثل الحارث المحاسبي ، وجاء آخرون فهذبوا مذهب التصوف وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيق وتميزوا بزيادة النظافة والطهارة ، ثم ما زال الأمر ينمي والأشيخ يضعون لهم أوضاعاً ويتكلمون بواقعاتهم ، ويتفق بعدهم عن العلماء لا بل رؤيتهم ما هم فيه أو في العلوم حتى سموه العلم الباطن وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر ، ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهميان فيه فكأنهم تخايلوا شخصاً مستحسن الصورة فهاموا به ، وهؤلاء بين الكفر والبدعة ثم تشعبت بأقوام منهم الطرق ، ففسدت عقائدهم . فمن هؤلاء من قال بالحلول ومنهم من قال بالاتحاد ، وما زال إبليس يخطبهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سنناً وجاء أبو عبدالرحمن السلمي فصنف لهم كتاب السنن وجمع لهم حقائق التفسير فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم من غير إسناد ذلك إلى أصل من أصول العلم ، وإنما حملوه على مذاهبهم ، والعجب من ورعهم في الطعام وانبساطهم في القرآن – ثم قال – وصنف لهم أبو نصر السراج كتاباً سماه لمع الصوفية ذكر فيه من الاعتقاد القبيح والكلام المرذول ما سنذكر منه جملة إن شاء الله تعالى . وصنف لهم أبو طالب المكي قوت القلوب فذكر فيه الأحاديث الباطلة وما لا يستند فيه إلى أصل من صلوات الأيام والليالي وغير ذلك من الموضوع وذكر فيه الاعتقاد الفاسد . وردد فيه قول – قال بعض المكاشفين – وهذا كلام فارغ وذكر فيه عن بعض الصوفية إن الله عز وجل يتجلى في الدنيا لأوليائه .(1/136)
أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: قال أبو طاهر محمد العلاف ، قال: دخل أبو طالب المكي إلى البصرة بعد وفاة أبي الحسين بن سالم فانتمى إلى مقالته وقدم بغداد فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ فخلط في كلامه فحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوق أضر من الخالق . فبدعه الناس وهجروه فامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك قال الخطيب ، وصنف أبو طالب المكي كتاباً سماه قوت القلوب على لسان الصوفية وذكر فيه أشياء منكرة مستبشعة في الصفات . قال المصنف: وجاء أبو نعيم الأصبهاني فصنف لهم كتاب الحلية ، وذكر في حدود التصوف أشياء منكرة قبيحة ولم يستح أن يذكر في الصوفية أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وسادات الصحابة – رضي الله عنهم - ، فذكر عنهم فيه العجب وذكر منهم شريحاً القاضي والحسن البصري وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وكذلك ذكر السلمي في طبقات الصوفية الفضيل وإبراهيم بن أدهم ومعروفاً الكرخي وجعلهم من الصوفية بأن أشار إلى أنهم من الزهاد . فالتصوف مذهب معروف يزيد على الزهد ويدل على الفرق بينهما أن الزهد لم يذمه أحد وقد ذموا التصوف على ما سيأتي ذكره ، وصنف لهم عبدالكريم بن هوازن القشيري كتاب الرسالة فذكر فيها العجائب من الكلام في الفناء والبقاء والقبض والبسط والوقت والحال والوجد والوجود والجمع والتفرقة والصحو والسكر والذوق والشرب والمحو والإثبات والتجلي والمحاضرة والمكاشفة واللوائح والطوالع واللوامع والتكوين والتمكين والشريعة والحقيقة إلى غير ذلك من التخليط الذي ليس بشيء وتفسيره أعجب منه .(1/137)
وجاء محمد بن ظاهر المقدسي فصنف لهم صفوة التصوف فذكر فيه أشياء يستحي العاقل من ذكرها سنذكر منها ما يصلح ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى – ثم قال – وكان السبب في تصنيف هؤلاء مثل هذه الأشياء قلة علمهم بالسني والإسلام والآثار وإقبالهم على ما استحسنوه من طريقة القوم ، وإنما استحسنوها لأنه قد ثبت في النفوس مدح الزهد وما رأوا حالة أحسن من حالة هؤلاء القوم في الصورة ولا كلاماً أرق من كلامهم ، وفي سير السلف نوع خشونة ثم أن ميل الناس إلى هؤلاء القوم شديد لما ذكرنا من أنها طريقة ظاهرها النظافة والتعبد وفي ضمنها الراحة والسماع والطباع تميل إليها ، وقد كان أوائل الصوفية ينفرون من السلاطين والأمراء فصاروا أصدقاء . فصل: وجمهور هذه التصانيف التي صنفت لهم لا تستند إلى أصل وإنما هي واقعات تلقفها بعضهم عن بعض ودونوها وقد سموها بالعلم الباطن . والحديث بإسناد إلى أبي يعقوب إسحاق بن حية قال: سمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن الوساوس والخطرات ، فقال: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون ا.هـ(1)
وللفائدة من أقوى السبل في الرد على الصوفية بيان أنهم مخالفون للشيوخ الذي يظهرون تعظيمهم وتقديرهم والسير على طريقتهم كالجنيد(2)، وهذا ما سلكه الإمام أبو العباس ابن تيمية في كتابه " الاستقامة " وابن القيم في كتابه " مدارج السالكين " .
__________
(1) تلبيس إبليس ص199 .
(2) تقدم نقل بعض كلامهم عند تقرير الاتباع(1/138)
فبهذا يظهر للصوفي المغرر به ولغيرهم المخدوعين بهم ، أنه لا سلف لهؤلاء المتأخرين وأن من يعظمونهم منكرون عليهم طريقتهم وسلوكهم ، ومما ينبغي بيانه للناس جلياً أن أئمة المذاهب الأربعة وكثيراً من أتباعهم يردون على طريقة هؤلاء الصوفية المتأخرين وذلك بأنهم يدعون إلى التمسك بالكتاب والسنة وعدم الحيف عنهما، بل ولهم رد على بعض أعيانهم ، وهكذا الأئمة المحققون من أتباع هذه المذاهب لئلا يظن أن المنكرين على الصوفية قوم شاذون ولأئمة العلم مخالفون .
وأنبه في الختام إلى ثلاثة أمور:
1/ أن هؤلاء الصوفية قليلو علم ينقل بعضهم عن بعض حتى تخريج الأحاديث والآثار وتضعيفها وتصحيحها فإذا وهم واحد في لفظ الحديث أو في نقل من صححه أو ضعفه تواردوا كثير منهم على الوهم نفسه .
2/ كثيراً ما يحاول الصوفية والمتأثرون بهم الدفاع عن الصوفية بيان أنهم ليسوا على درجة واحدة فلا يصح القدح فيهم كلهم وهذا صحيح لكنها كلمة حق يراد بها باطل ، وذلك أنه استقر إطلاق اسم الصوفية عند المتأخرين على الضلال أصحاب البدع الخرافية فهم المعنيون بالرد ، أما أن يتحجج هؤلاء بأن اسم الصوفية يرادف النساك المتزهدين فيدخل فيه الفضيل بن عياض والإمام أحمد وغيرهما فهذا غير ما نحن بصدده وغير ما ينافح ويدافع عنه هؤلاء المتأخرون فلم يكن هؤلاء الأئمة المتنسكون كالفضيل والثوري وأحمد بن حنبل أصحاب بدع وخرافة وغلو في الصالحين ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا يدعون ويستغيثون بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه كما هو شائع عند هؤلاء المتأخرين بعد القرون المفضلة .(1/139)
3/ أن هؤلاء الصوفية يحاولون إشغالنا عند مناظرتهم ببعض كلام علماء السنة المشكل أو الذي يبدو مشكلاً أحياناً وظاهره يؤيد بعض ما عندهم من بدعة وضلالة . يحاولون إشغالنا عن هدم أصولهم وبيان ضلال دينهم بهذا فإياك أن تُستزل وتستدرج وتُصرف عن ضرب هامتهم بسيوف الحق المستمدة من الوحيين الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة .
فإن من أصولنا أهل السنة السلفيين أن العالم غير معصوم ، وأنه مهما كان عظيماً وجليلاً فأقواله ليست حجة في الشرع ، بل مفتقرة إلى الحجة والدليل وأنها إن لم تستند على دليل ردت على صاحبها قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس: ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا و يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم(1).
اسأل الله أن ينصر دينه الحق الذي يحبه ويجعلنا من أنصاره ويرفع راية التوحيد والسنة ويقمع راية الشرك والبدعة .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبدالعزيز بن ريس الريس
المشرف على موقع الإسلام العتيق
www.islamancient.net
الفهارس
مقدمة معالي الشيخ صالح الفوزان .
سبب رجوع كثير من شباب الصوفية إلى السنة .
انشغال بعض شباب السنة بما لا ينفع زاد من نشاط الصوفية .
جهاد الرد على المخالف أعظم من جهاد القتال على أرض المعركة .
رد محاولة إلصاق الصوفية التكفير والتفجير بأهل السنة .
المقدمة الأولى/ في تقرير التوحيد وذم الشرك .
الأعمال المتعبد بها نوعان .
فائدة : معرفة معنى كلمة التوحيد .
سبب انتشار الشرك في العالم الإسلامي .
الرد على أحمد الغماري في زعمه عدم وجود الشرك في العالم الإسلامي .
الرد على شبهة آثارها الصوفي علي الجفري .
المقدمة الثانية/ في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كلمات كبار الصوفية في تقرير أصل الاتباع .
الرد على استدلالهم بالرؤى .
__________
(1) صححه ابن عبدالهادي في إرشاد السالك (227/1) وقد ذكر الإمام أحمد مثله في مسائل أبي داود .انظر أوائل صفة النبي للإمام الألباني .(1/140)
رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ليست دليلاً شرعياً .
الرد على تخفيف عذاب أبي لهب بإعتاق ثويبة .
لا يصح الاعتماد على الرؤى ولو تواطأت .
الرد على استدلالهم بالتجربة .
كلام نفيس للعلامة عبدالرحمن المعلمي – رحمه الله – في التجربة .
الرد على استدلالهم بالاستحسان.
الرد على استدلالهم بالإلهام .
الرد على استدلالهم بالذوق .
لا تتحقق المتابعة إلا إذا وافقت الشرع في ستة أمور .
الفرق بين الأفعال التي جاءت من رسول الله على وجه التقصد أو التبع .
المقدمة الثالثة/ كل إحداث في الدين بدعة .
كل البدع ضلالة .
الرد على زعم وجود بدعة حسنة في الدين .
الرد على شبهة في البدع أثارها عبد الله الغماري .
تقرير السنة التركية .
الرد على عبدالله الغماري في اعتراضه على السنة التركية .
توجيه كلام الشافعي في تقسيم البدع إلى قسمين .
بيان خطأ من نسب إلى ابن تيمية تجويز الاحتفال بالمولد .
فهم الكتاب والسنة مقيد بفهم السلف .
أقوال العلماء يحتج لها لا بها .
لا يوجد عالم جامع للسنة كلها .
احترام العالم لا يعني اتباع زلاته .
مثال خطأ من يعتمد على أقوال العلماء .
الرد على استدلالهم بتبرك الشافعي بملابس الإمام أحمد .
المقدمة السادسة/ أهل السنة يقرون بالكرامات .
لا يلزم من وقوع الكرامة لرجل أن يكون صالحاً .
لابد أن تعرض أقوال وأفعال من وقعت له خوارق على الكتاب والسنة .
الفرق بين الكرامات والخوارق الشيطانية .
الفرق بين آيات الأنبياء وخوارق الكهنة والسحرة .
وقوع الكرامات للأولياء لا يجوّز عبادتهم من دون الله .
لايطلع على علم الغيب في المستقبل على وجه اليقين الأولياء من غير الأنبياء .
الرد على الرازي في زعمه أن الأولياء يطلعون على علم غيب المستقبل .
توجيه كلام لابن تيمية يتمسك به بعض أهل البدع .
المقدمة السابعة / الفراسة .
أنواع الفراسة .
الرد على من تمسك بالفراسة في ادعاء علم الغيب .(1/141)
توجيه ما نقل ابن القيم عن فراسة شيخه .
المقدمة الثامنة / تغيير الأسماء لأجل التنفير من الحق .
أنواع التوسل .
الرد على التوسل الشركي والبدعي .
الرد على أهل البدع في التوسل بالصالحين .
المقدمة التاسعة / في الرد على شبهة المجاز العقلي .
الرد على زعمهم الولي يخلق بإذن الله .
المقدمة العاشرة / لا يحتج إلا بما ثبت من السنة .
الرد على شبهة الاستدلال بفضائل الأعمال .
شيء من تلاعب الصوفية بعلم الحديث .
حقيقة نسبة الصوفية .(1/142)