وهكذا تمتد إيحاءات السورة إلى مساحات ومسافات وأبعاد وآماد واسعة بعيدة ، وهي سورة لا تتجاوز الثماني والعشرين آية ، نزلت في حادثة معينة ومناسبة خاصة ..
فأما هذا الحادث الذي أشارت إليه السورة. حادث استماع نفر من الجن للقرآن. فتختلف بشأنه الروايات.
قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه : «دلائل النبوة» (524 ) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ : حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى ، وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ ، قَالَا : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي قَالَ : حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْجِنِّ ، وَمَا رَآهُمُ ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظَ ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ ، فَقَالُوا : مَا لَكُمْ ؟ قَالُوا : حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ . قَالُوا : مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا شَيْءٌ حَدَثَ ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ . فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَبْتَغُونَ مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدًا إِلَى سُوقِ عُكَاظَ ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ ، فَقَالُوا : هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ ، قَالُوا : يَا قَوْمَنَا إِنَا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مُسَدَّدٍ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ؛ إِنَّمَا هُوَ فِي أَوَّلِ مَا سَمِعَتِ الْجِنُّ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلِمَتْ بِحَالِهِ ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَرَهُمْ ، كَمَا حَكَاهُ ، ثُمَّ أَتَاهُ دَاعِيَ الْجِنِّ مَرَّةً أُخْرَى ، فَذَهَبَ مَعَهُ ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ ، كَمَا حَكَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ , وَرَأَى آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَفِظَ الْقِصَّتَيْنِ جَمِيعًا فَرَوَاهُمَا .
فهذه رواية. وهناك رواية أخرى .. قال مسلم في صحيحه (721 )حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ دَاوُدَ ، عَنْ عَامِرٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْجِنِّ ؟ قَالَ : فَقَالَ عَلْقَمَةُ ، أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقُلْتُ : هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْجِنِّ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ فَالْتَمَسْنَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ . فَقُلْنَا : اسْتُطِيرَ أَوِ اغْتِيلَ . قَالَ : فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلَ حِرَاءٍ . قَالَ : فَقُلْنَا(1/1350)
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْنَاكَ فَطَلَبْنَاكَ فَلَمْ نَجِدْكَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ . فَقَالَ : " أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ " قَالَ : فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ : " لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ " وَحَدَّثَنِيهِ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ دَاوُدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى قَوْلِهِ : وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ . قَالَ الشَّعْبِيُّ : وَسَأَلُوهُ الزَّادَ وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ . مُفَصَّلًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ . وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ ، عَنْ دَاوُدَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى قَوْلِهِ : " وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ " وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ
(722 )حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : لَمْ أَكُنْ لَيْلَةَ الْجِنِّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مَعَهُ
(723 ) حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَا : حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، عَنْ مِسْعَرٍ ، عَنْ مَعْنٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي ، قَالَ : سَأَلْتُ مَسْرُوقًا : مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ ؟ فَقَالَ : حَدَّثَنِي أَبُوكَ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّهُ آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَةٌ
وهناك رواية أخرى عن ابن مسعود أنه كان تلك الليلة مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولكن إسناد الرواية الأولى أوثق. فنضرب عن هذه وأمثالها .. ومن الروايتين الواردتين في الصحيحين يتبين أن ابن عباس يقول : إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف بحضور النفر من الجن ، وأن ابن مسعود يقول : إنهم استدعوه. ويوفق البيهقي بين الروايتين بأنهما حادثان لا حادث واحد.
وهناك رواية ثالثة لابن اسحق (سيرة ابن هشام - (1 / 419)قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُ مِنْهُ فِي حَيَاةِ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الطّائِفِ ، يَلْتَمِسُ النّصْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ ، وَالْمَنَعَةَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ وَرَجَاءَ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ وَحْدَهُ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، قَالَ لَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الطّائِفِ ، عَمَدَ إلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، هُمْ يَوْمَئِذٍ سَادَةُ ثَقِيفٍ وَأَشْرَافُهُمْ وَهُمْ إخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ عَبْدُ يَالَيْل بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، وَمَسْعُودُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ ، وَعِنْدَ أَحَدِهِمْ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ فَجَلَسَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ وَكَلّمَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ لَهُ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمْ هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَ اللّهُ أَرْسَلَك ، وَقَالَ الْآخَرُ أَمَا وَجَدَ اللّهُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرَك وَقَالَ(1/1351)
الثّالِثُ وَاَللّهِ لَا أُكَلّمُك أَبَدًا . لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنْ اللّهِ كَمَا تَقُولُ لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدّ عَلَيْك الْكَلَامَ وَلَئِنْ كُنْت تَكْذِبُ عَلَى اللّهِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلّمَك . فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عِنْدِهِمْ وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - : إذَا فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنّي ، وَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبْلُغَ قَوْمَهُ عَنْهُ فَيُذْئِرَهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ :
وَلَقَدْ أَتَانِي عَنْ تَمِيمٍ أَنّهُمْ ذَئِرُوا لِقَتْلَى عَامِرٍ وَتَعَصّبُوا
فَلَمْ يَفْعَلُوا ، وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ يَسُبّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ حَتّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النّاسُ وَأَلْجَئُوهُ إلَى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَهُمَا فِيهِ وَرَجَعَ عَنْهُ مِنْ سُفَهَاءِ ثَقِيفٍ مَنْ كَانَ يَتْبَعُهُ فَعَمَدَ إلَى ظِلّ حَبَلَةٍ مِنْ عِنَبٍ فَجَلَسَ فِيهِ . وَابْنَا رَبِيعَةَ يَنْظُرَانِ إلَيْهِ وَيَرَيَانِ مَا لَقِيَ مِنْ سُفَهَاءِ أَهْلِ الطّائِفِ ، وَقَدْ لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا ذُكِرَ لِي - الْمَرْأَةَ الّتِي مِنْ بَنِي جُمَحٍ فَقَالَ لَهَا : مَاذَا لَقِينَا مِنْ أَحْمَائِك ؟
فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - : اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك
قَالَ فَلَمّا رَآهُ ابْنَا رَبِيعَةَ ، عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَمَا لَقِيَ تَحَرّكَتْ لَهُ رَحِمُهُمَا ، فَدَعَوْا غُلَامًا لَهُمَا نَصْرَانِيّا ، يُقَالُ لَهُ عَدّاسٌ فَقَالَا لَهُ خُذْ قِطْفًا ( مِنْ هَذَا ) الْعِنَبِ فَضَعْهُ فِي هَذَا الطّبَقِ ثُمّ اذْهَبْ بِهِ إلَى ذَلِكَ الرّجُلِ فَقُلْ لَهُ يَأْكُلُ مِنْهُ . فَفَعَلَ عَدّاسٌ ثُمّ أَقْبَلَ بِهِ حَتّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمّ قَالَ لَهُ كُلْ فَلَمّا وَضَعَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ يَدَهُ قَالَ بِاسْمِ اللّهِ ثُمّ أَكَلَ فَنَظَرَ عَدّاسٌ فِي وَجْهِهِ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ إنّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمِنْ أَهْلِ أَيّ الْبِلَادِ أَنْتَ يَا عَدّاسُ وَمَا دِينُك ؟ قَالَ نَصْرَانِيّ ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَرْيَةِ الرّجُلِ الصّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتّى ، فَقَالَ لَهُ عَدّاسٌ وَمَا يُدْرِيك مَا يُونُسُ بْنُ مَتّى ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاكَ أَخِي ، كَانَ نَبِيّا وَأَنَا نَبِيّ ، فَأَكَبّ عَدّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ قَالَ يَقُولُ ابْنَا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَمّا غُلَامُك فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْك . فَلَمّا جَاءَهُمَا عَدّاسٌ قَالَا لَهُ وَيْلَك يَا عَدّاسُ مَالَكَ تُقَبّلُ رَأْسَ هَذَا الرّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ ؟ قَالَ يَا سَيّدِي مَا فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ هَذَا ، لَقَدْ أَخْبَرَنِي بِأَمْرِ مَا يَعْلَمُهُ إلّا نَبِيّ ، قَالَا لَهُ وَيْحَك يَا عَدّاسُ لَا ، يَصْرِفَنّك عَنْ دِينِك ، فَإِنّ دِينَك خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ
قَالَ ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ مِنْ الطّائِفِ رَاجِعًا إلَى مَكّةَ ، يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ ، حَتّى إذَا كَانَ بِنَخْلَةَ قَامَ مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ يُصَلّي ، فَمَرّ بِهِ النّفَرُ مِنْ الْجِنّ الّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُمْ - فِيمَا(1/1352)
ذُكِرَ لِي - سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ جِنّ أَهْلِ نَصِيبِينَ فَاسْتَمَعُوا لَهُ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَلّوْا . إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَدْ آمَنُوا وَأَجَابُوا إلَى مَا سَمِعُوا . فَقَصّ اللّهُ خَبَرَهُمْ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى { وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ أَنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنّ } إلَى آخِرِ الْقِصّةِ مِنْ خَبَرِهِمْ فِي هَذِهِ السّورَةِ .
وقد علق ابن كثير في تفسيره على رواية ابن إسحاق هذه فقال : «هذا صحيح. ولكن قوله : إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر. فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس - رضي اللّه عنهما - المذكور. وخروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف كان بعد موت عمه. وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره. واللّه أعلم».
وإذا صحت رواية ابن إسحاق عن أن الحادث وقع عقب عودة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الطائف ، مكسور الخاطر من التصرف اللئيم العنيد الذي واجهه به كبراء ثقيف ، وبعد ذلك الدعاء الكسير الودود لربه ومولاه ، فإنه ليكون عجيبا حقا من هذا الجانب. أن يصرف اللّه إليه ذلك النفر من الجن ، وأن يبلغه ما فعلوا وما قالوا لقومهم ، وفيه من الدلالات اللطيفة الموحية ما فيه ..
وأيا كان زمان هذا الحادث وملابساته فهو أمر ولا شك عظيم. عظيم في دلالاته وفيما انطوى عليه. وفيما أعقبه من مقالة الجن عن هذا القرآن وعن هذا الدين .. (1)
ما تضمنته هذه السورة
اشتملت هذه السورة على مقصدين :
(1) حكاية أقوال صدرت من الجن حين سمعوا القرآن كوصفهم له بأنه كتاب يهدى إلى الرشد ، وأن الرب سبحانه تنزه عن الصاحبة والولد ، وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على اللّه ، وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون فى القفر برجال من الجن ، وأن الجن طلبوا خبر العالم العلوي فمنعوا ، وأن الجن لا يدرون ما ذا يحل بالأرض من هذا المنع ، وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار ، ومنهم مسلمون وجائرون عادلون عن الحق.
(2) ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبليغه إلى الخلق ، ككونه لا يشرك بربه أحدا ، وأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ، وأنه لا يمنعه أحد من اللّه إن عصاه ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يدرى متى يكون وقت تعذيبهم ، فالعلم للّه وحده. (2)
===============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3720)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 108)(1/1353)
(73) سورة المزمِّل
ليس لهذه السورة إلا أسم "سورة المزمل" عرفت بالإضافة لهذا اللفظ الواقع في أولها، فيجوز أن يراد حكاية اللفظ، ويجوز أن يراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - موصوفا بالحال الذي نودي به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1].
قال ابن عطية: هي في قول الجمهور مكية إلا قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} [المزمل:20] إلى نهاية السورة فذلك مدني. وحكى القرطبي مثل هذا عن الثعلبي.
وقال في الإتقان: إن استثناء قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} إلى آخر السورة يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس اه.
يعني وذلك كله بمكة، أي فتكون السورة كلها مكية فتعين أن قوله: {قُمْ اللَّيْلَ} [المزمل:2] أمر به في مكة.
والروايات تظاهرت على أن قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلى آخر السورة نزل مفصولا عن نزول ما قبله بمدة مختلف في قدرها، فقالت عائشة نزل بعد صدر السورة بسنة. ومثله روى الطبري عن ابن عباس، وقال الجمهور: نزل صدر السورة بمكة ونزل {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ} إلى آخرها بالمدينة، أي بعد نزول أولها بسنين.
فالظاهر أن الأصح أن نزول {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ} إلى آخر السورة نزل بالمدينة لقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل:20] إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة.
وروى الطبري عن سعيد بن جبير قال لما أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]. مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلى {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} [المزمل:20] اه، أي نزلت الآيات الأخيرة في المدينة بناء على أن مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة كان عشر سنين وهو قول جم غفير.
والروايات عن عائشة مضطربة بعضها يقتضي أن السورة كلها مكية وأن صدرها نزل قبل آخرها بسنة قبل فرض الصلاة وهو ما رواه الحاكم في نقل صاحب الإتقان. وذلك يقتضي أن أول السورة نزل بمكة، وبعض الروايات يقولون فيها: إنها كانت تفرش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصيرا فصلى عليه من الليل فتسامع الناس فخرج مغضبا وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ونزل {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً}(1/1354)
[المزمل: 1-2] فكتب عليهم بمنزلة الفريضة ومكثوا على ذلك ثمانية أشهر ثم وضع الله ذلك عنهم، فأنزل {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} إلى {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20]، فردهم إلى الفريضة ووضع عنهم النافلة. وهذا ما رواه الطبري بسندين إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة، وهو يقتضي أن السورة كلها مدنية لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبن بعائشة إلا في المدينة، ولأن قولها فخرج مغضبا يقتضي أنه خرج من بيته المفضي إلى مسجده، ويؤيده أخبار ثبت قيام الليل في مسجده.
ولعل سبب هذا الاضطراب اختلاط في الرواية بين فرض قيام الليل وبين الترغيب فيه.
ونسب القرطبي إلى تفسير الثعلبي قال: قال النخعي في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} كان النبي - صلى الله عليه وسلم - متزملا بقطيفة عائشة، وهي مرط نصفه عليها وهي نائمة ونصفه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي اه، وإنما بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة في المدينة، فالذي نعتمد عليه أن أول السورة نزل بمكة لا محلة كما سنبينه عند قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5]، وأن قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلى آخر السورة نزل بالمدينة بعد سنين من نزول أول السورة لأن فيه ناسخا لوجوب قيام الليل وإنه ناسخ لوجوب قيام الليل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن ما رووه عن عائشة أن أول ما فرض قيام الليل قبل فرض الصلاة غريب.
وحكى القرطبي عن الماوردي: أن ابن عباس وقتادة قالا: إن آيتين وهما {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} إلى قوله: {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11] نزلتا بالمدينة.
واختلف في عد هذه السورة في ترتيب نزول السور، والأصح التي تضافرت عليه الأخبار الصحيحة: أن أول ما نزل سورة العلق واختلف فيما نزل بعد سورة العلق، فقيل: سورة ن والقلم، وقيل نزل بعد العلق سورة المدثر، ويظهر أنه الأرجح ثم قيل نزلت سورة المزمل بعد القلم فتكون ثالثة. وهذا قول جابر بن زيد في تعداد نزول السور، وعلى القول بأن المدثر هي الثانية. يحتمل أن تكون القلم ثالثة والمزمل رابعة، ويحتمل أن تكون المزمل هي الثالثة والقلم رابعة، والجمهور على أن المدثر نزلت قبل المزمل، وهو ظاهر حديث عروة بن الزبير عن عائشة في بدء الوحي من صحيح البخاري وسيأتي عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} .
والأصح أن سبب نزول {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ما في حديث جابر بن عبد الله الآتي عند قوله تعالى: {يا أيها المزمل} الآية.
وعدت آيها في عد أهل المدينة ثمان عشرة آية، وفي عد أهل البصرة تسع عشرة وفي عد من عداهم عشرون.
أغراضها
الإشعار بملاطفة الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بندائه بوصفه بصفة تزمله.(1/1355)
واشتملت على الأمر بقيام النبي - صلى الله عليه وسلم - غالب الليل والثناء على طائفة من المؤمنين حملوا أنفسهم على قيام الليل.
وعلى تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحمل إبلاغ الوحي.
والأمر بإدامة إقامة الصلاة وأداء الزكاة وإعطاء الصدقات.
وأمره بالتمحض للقيام بما أمره الله من التبليغ وبأن يتوكل عليه.
وأمره بالإعراض عن تكذيب المشركين.
وتكفل الله له بالنصر عليهم وأن جزاءهم بيد الله.
والوعيد لهم بعذاب الآخرة.
ووعظهم مما حل بقوم فرعون لما كذبوا رسول الله إليهم.
وذكر يوم القيامة ووصف أهواله.
ونسخ قيام معظم الليل بالاكتفاء بقيام بعضه رعيا للأعذار الملازمة.
والوعد بالجزاء العظيم على أفعال الخيرات.
والمبادرة بالتوبة وأدمج في ذلك أدب قراءة القرآن وتدبره.
وأن أعمال النهار لا يغني عنها قيام الليل.
وفي هذه السورة مواضع عويصة وأساليب غامضة فعليك تدبرها. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « الجن » بهذا العرض الذي يكشف عن مقام رسل اللّه عند ربهم ، وأنهم وحدهم من بين البشر ، هم الذين اختارهم لرسالته إلى عباده ، ولما يطلعهم عليه من الغيب المتصل برسالاتهم ، وببعض الأحداث التي تقع لهم على طريق هذه الرسالات ..والنبي صلوات اللّه وسلامه عليه ، واحد من هؤلاء الرسل الكرام ، الذين اختارهم اللّه سبحانه لتبليغ رسالاته إلى الناس ، ولما يوحى إليهم به من آياته التي لا يعلمها إلا هو ..فناسب ذلك أن تجىء سورة « المزمل » تالية سورة « الجن » وفيها هذا النداء الكريم من اللّه سبحانه وتعالى إلى رسوله ، وقد آذنه بأنه قد اختير من اللّه سبحانه ليكون رسولا ، وليتلقّى آيات اللّه الموحى بها إليه من ربه ، وأنها من الغيب الذي سيطلعه اللّه عليه .. (2)
مقدمة وتمهيد
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 235)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1246)(1/1356)
1 - سورة « المزمل » هي السورة الثالثة والسبعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي السورة الثالثة أو الرابعة ، إذ يرى بعضهم أنه لم يسبقها في النزول سوى سورتي العلق والمدثر ، بينما يرى آخرون أنه لم يسبقها سوى سور العلق ، ونون ، والمدثر.
وعدد آياتها عشرون آية عند الكوفيين ، وتسع عشرة آية عند البصريين وثماني عشرة آية عند الحجازيين.
2 - وجمهور العلماء على أن سورة « المزمل » من السور المكية الخالصة ، فابن كثير - مثلا - عند تفسيره لها قال : تفسير سورة « المزمل » ، وهي مكية.
وحكى بعضهم أنها مكية سوى آيتين ، فقد قال القرطبي : مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة : هي مكية إلا آيتين منها ، وهما قوله - تعالى - : وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ ....
وقال الثعلبي : هي مكية إلا الآية الاخيرة منها وهي قوله - تعالى - : إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ .... فإنها نزلت بالمدينة .
وقال الشيخ ابن عاشور ما ملخصه : وقال في الإتقان : إن استثناء قوله - تعالى - :إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ... إلى آخر السورة ، يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أنها قالت : نزلت هذه الآية بعد نزول صدر السورة بسنة ...
ثم قال الشيخ ابن عاشور : وهذا يعنى أن السورة كلها مكية ، والروايات تظاهرت على أن هذه الآية قد نزلت منفصلة عما قبلها ، بمدة مختلف في قدرها ، فعن عائشة أنها سنة ... ومن قال بأن هذه الآية مدنية ، يكون نزولها بعد نزول ما قبلها بسنين ...
والظاهر أن هذه الآية مدنية ، لقوله - تعالى - : ... وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ومن المعروف أن القتال لم يفرض إلا في المدينة - إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة .
3 - والسورة الكريمة : زاخرة بالحديث الذي يدخل التسلية والصبر على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويعلى من شأن القرآن الكريم ، ويرشد المؤمنين إلى ما يسعدهم ويصلح بالهم ، ويهدد الكافرين بسوء المصير إذا ما استمروا في طغيانهم ، ويذكّر الناس بأهوال يوم القيامة ...
ويسوق لهم ألوانا من يسر شريعته ورأفته - عز وجل - بعباده ، وإثابتهم بأجزل الثواب على أعمالهم الصالحة. (1)
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 149)(1/1357)
في السورة نداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - للقيام بالليل وتلاوة القرآن والاستعداد لما يوحى إليه ، وتثبيت له إزاء مواقف الزعماء والأغنياء المكذبين ، وحمله عليهم. وإشارة إلى موقف فرعون من رسالة موسى عليه السلام ونكال اللّه به على سبيل الإنذار والتذكير ، وتخفيف من شدة قيام الليل وتهجده. والآية الأخيرة التي فيها هذا التخفيف مدنية وقد ألحقت بالسورة لمناسبة ما جاء في أولها. وترتيبها كثالث سورة نزولا بسبب رواية نزول آياتها التسع الأولى لحدتها كثالث مجموعة نزولا ، غير أن هذه الرواية وترتيب السور بسببها موضع نظر على ما يرد شرحه بعد. ولقد تكرر بدء مطالع السور بنداء النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يصح أن يقال إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وشخصياتها. (1)
سورة المزمل مكيّة ، وهي عشرون آية.
تسميتها : سميت سورة المزمّل أي المتلفف بثيابه لأنها تتحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بدء الوحي ، ولأنها بدئت بأمر اللّه سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يترك التزمل : وهو التغطي في الليل ، وينهض إلى تبليغ رسالة ربه عز وجل.
مناسبتها لما قبلها :
يظهر تعلق السورة بما قبلها من وجهين :
1 - ختمت سورة الجن ببيان تبليغ الرسل رسالات ربهم ، وافتتحت هذه السورة بأمر خاتمهم بالتبليغ والإنذار ، وهجر الراحة في الليالي.
2 - أخبر اللّه تعالى في السورة المتقدمة عن ردود فعل دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين قومه والجن في قوله : وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ وقوله : وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ثم أمره اللّه تعالى في مطلع هذه السورة بالدعوة في قوله : يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا.
ما اشتملت عليه السورة :
تتناول السورة الإرشادات الإلهية الموجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مسيرته أثناء تبليغ دعوته ، وتهديد المشركين المعرضين عن قبول تلك الدعوة.
وقد ابتدأت بأمره - صلى الله عليه وسلم - بقيام الليل إلا قليلا منه ، وبترتيل القرآن لتقوية روحه : يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [1 - 4] فكان ذلك بيانا لمقدار ما يقوم به في تهجده الذي أمره اللّه به بقوله : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء 17/ 79].
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 405)(1/1358)
ثم أخبرت عن ثقل الوحي وتبعة رسالته العظمى التي كلّف بها ، وأمره بذكر ربه ليلا ونهارا ، وإعلان توحيده ، واتخاذه وكيلا في كل أموره : إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [الآيات 5 - 9].
وأردفت ذلك بالأمر بالصبر على أذى المشركين ، من القول فيه بأنه ساحر أو شاعر ، أو في ربه بأن له صاحبة وولدا ، وبالهجر الجميل إلى أن ينتصر عليهم وبتهديدهم بسوء العاقبة : وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ .. [الآيات 10 - 19].
وختمت السورة بإعلان تخفيف القيام لصلاة الليل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مقدار الثلث وجعله الحد الأدنى رحمة به وبأمته ليتمكن هو وأصحابه من الراحة والتفرغ في النهار لشؤون الدعوة والتبليغ ، والاكتفاء بتلاوة ما تيسر من القرآن ، وأداء الصلاة المفروضة ، وإيتاء الزكاة ، ومداومة الاستغفار : إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ .. [الآية 20]. (1)
وهي مكية كلها ، ويرى بعضهم أنه يستثنى من ذلك آخرها ، وعدد آياتها عشرون آية ، وتشمل : إرشادات النبي - صلى الله عليه وسلم - لتقوية جسمه وروحه حتى يقوى على تحمل الرسالة ، ثم أمره بالصبر وترك المشركين مع تهديدهم بأنواع التهديدات. (2)
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر وقال ابن عباس وقتادة كما ذكر الماوردي الآيتين منها وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [المزمل : 10] والتي تليها وحكي في البحر عن الجمهور أنها مكية إلا قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ [المزمل : 20] إلى آخرها وتعقبه الجلال السيوطي بعد أن نقل الاستثناء عن حكاية ابن الفرس بقوله ويرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أن ذلك نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما يتعلق بذلك وآيها ثماني عشرة آية في المدني الأخير وتسع عشرة في البصري وعشرون فيما عداهما ولما ختم سبحانه سورة الجن بذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام افتتح عزّ وجلّ هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه وعليهم الصلاة والسلام وهو وجه في المناسبة وفي تناسق الدرر لا يخفى اتصال أولها قُمِ اللَّيْلَ [المزمل : 2] إلخ بقوله تعالى في آخر تلك وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن : 19] وبقوله سبحانه وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجن : 18] الآية. (3)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 187) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 109)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 766)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 112)(1/1359)
* سورة المزمل مكية ، وهي تتناول جانبا من حياة الرسول الأعظم ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، في تبتله ، وطاعته ، وقيامه الليل ، وتلاوته لكتاب الله عز وجل ، ومحور السورة يدور حول الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، ولهذا سميت " سورة المزمل " .
* ابتدأت السورة الكريمة بنداء الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، نداء شفيفا لطيفا ، ينم عن لطف الله عز وجل ، ورحمته بعبده ورسوله محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، الذي كان يجهد نفسه في عبادة الله ابتغاء مرضاته [ يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ] .
* ثم تناولت السورة موضوع ثقل الوحي الذي كلف الله به رسوله ، ليقوم بتبليغه للناس بجد ونشاط ، ويستعين على ذلك بالاستعداد الروحي باحياء الليل في العبادة [ إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا ] .
* وأمرت الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالصبر على أذى المشركين ، وهجرهم هجرا جميلا إلى أن ينتقم الله منهم [ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا ] .
* ثم توعد الله المشركين بالعذاب والنكال يوم القيامة ، حيث يكون فيه من الهول والفزع ، ما يشيب له رءوس الولدان [ إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا . . ] الآيات .
* ثم تحدثت السورة الكريمة ، عن موقف المشركين من دعوة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وقد جاءهم بالخير والهدى ، فعاندوه وكذبوه ، ووقفوا في وجه الدعوة ، يريدون إطفاء نور الله ، فأنذرهم بالعذاب الشديد ، وضرب لهم المثل بفرعون الطاغية الجبار ، الذي بعث الله إليه نبيه موسى ، فعصاه وكذب برسالته ، وما كان من عاقبة أمره فى الهلاك والدمار ، تحذيرا للكفار من أهل مكة ، أن يحل بهم مثل ذلك العذاب [ إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصي فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا . . ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بتخفيف الله عن رسوله وعن المؤمنين من قيام الليل ، رحمة به وبهم ، ليتفرغ الرسول وأصحابه لبعض شئون الحياة [ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك . . ] إلى قوله : [ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (1)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 416)(1/1360)
مقصودها الإعلام بأن محاسن الأعمال تدفع الأخطار والأوجال ، وتخفف الأحمال الثقال ، ولا سيما الوقوف بين يدي الملك المتعال ، والتجرد يفي خدمته يفي ظلمات الليال ، فإنه نعم الإله لقبول الأفعال والأقوال ، ومحو ظلل الضلال ، والمعين الأعظم على الصبر والاحتمال ، لما يرد من الكدورات في دار الزوال ، والقلعة والارتحال ، واسمها المزمل أدل ما فيها على هذا المقال ) بسم الله ( الكافي من توكل عليه في جميع الأحوال (1)
يروى في سبب نزول هذه السورة أن قريشا اجتمعت في دار الندوة تدبر كيدها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللدعوة التي جاءهم بها. فبلغ ذلك رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فاغتم له والتف بثيابه وتزمل ونام مهموما. فجاءه جبريل عليه السلام بشطر هذه السورة الأول «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا .. إلخ» وتأخر شطر السورة الثاني من قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ...» إلى آخر السورة. تأخر عاما كاملا. حين قام رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وطائفة من الذين معه ، حتى ورمت أقدامهم ، فنزل التخفيف في الشطر الثاني بعد اثني عشر شهرا.
وتروى رواية أخرى تتكرر بالنسبة لسورة المدثر كذلك - كما سيجيء في عرض سورة المدثر إن شاء اللّه.
وخلاصتها أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يتحنث في غار حراء - قبل البعثة بثلاث سنوات - أي يتطهر ويتعبد - وكان تحنثه - عليه الصلاة والسلام - شهرا من كل سنة - هو شهر رمضان - يذهب فيه إلى غار حراء على مبعدة نحو ميلين من مكة ، ومعه أهله قريبا منه. فيقيم فيه هذا الشهر ، يطعم من جاءه من المساكين ، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون ، وفيما وراءها من قدرة مبدعة ..
وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة ، وتصوراتها الواهية ، ولكن ليس بين يديه طريق واضح ، ولا منهج محدد ، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.
وكان اختياره - صلى الله عليه وسلم - لهذه العزلة طرفا من تدبير اللّه له ليعده لما ينتظره من الأمر العظيم.
ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه ، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة ويفرغ لموحيات الكون ، ودلائل الإبداع وتسبح روحه مع روح الوجود وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال وتتعامل مع الحقيقة الكبرى وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم.
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 202)(1/1361)
ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى .. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت ، وانقطاع عن شواغل الأرض ، وضجة الحياة ، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.
لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة. فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له ، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة ، والانعزال عنه ، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر ، ويدر به على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس ، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع! وهكذا دبر اللّه لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى ، وتغيير وجه الأرض ، وتعديل خط التاريخ .. دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات. ينطلق في هذه العزلة شهرا من الزمان ، مع روح الوجود الطليقة ، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون ، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عند ما يأذن اللّه.
فلما أن أذن ، وشاء - سبحانه - أن يفيض من رحمته هذا الفيض على أهل الأرض ، جاء جبريل عليه السلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في غار حراء .. وكان ما قصه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من أمره معه ،قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى آلِ الزّبَيْرِ . قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الزّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللّيْثَيّ حَدّثْنَا يَا عُبَيْدُ ، كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا اُبْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ النّبُوّةِ حِين جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ؟ قَالَ فَقَالَ عُبَيْدٌ - وَأَنَا حَاضِرٌ يُحَدّثُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الزّبَيْرِ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ النّاسِ - : كَانَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُجَاوِرُ فِي حِرَاءٍ مِنْ كُلّ سَنَةٍ شَهْرًا ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمّا تَحَنّثَ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيّةِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ قَالَ عُبَيْدٌ : فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُجَاوِرُ ذَلِكَ الشّهْرَ مِنْ كُلّ سَنَةٍ يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنْ الْمَسَاكِينِ فَإِذَا قَضَى رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - جِوَارَهُ مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ كَانَ أَوّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ إذَا انْصَرَفَ مِنْ جِوَارِهِ الْكَعْبَةَ ، قَبْل أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا أَوْ مَا شَاءَ اللّهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمّ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ حَتّى إذَا كَانَ الشّهْرُ الّذِي أَرَادَ اللّهُ تَعَالَى بِهِ فِيهِ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ مِنْ السّنَةِ الّتِي بَعَثَ اللّهُ تَعَالَى فِيهَا ؛ وَذَلِكَ الشّهْرُ ( شَهْرُ ) رَمَضَانَ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى حِرَاءٍ ، كَمَا كَانَ يَخْرُجُ لِجِوَارِهِ وَمَعَهُ أَهْلُهُ حَتّى إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الّتِي أَكْرَمَهُ اللّهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ وَرَحِمَ الْعِبَادَ بِهَا ، جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِأَمْرِ اللّهِ تَعَالَى . قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ وَأَنَا نَائِمٌ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ قُلْت : مَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْتُ أَنّهُ الْمَوْتُ ثُمّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ قُلْت : مَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْت أَنّهُ الْمَوْتُ ثُمّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ قُلْت : مَاذَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْتُ أَنّهُ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ فَقُلْت : مَاذَا أَقْرَأُ ؟ مَا أَقُولُ ذَلِكَ إلّا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يَعُودَ لِي بِمِثْلِ مَا صَنَعَ بِي(1/1362)
، فَقَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبّكَ الْأَكْرَمُ الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ عَلّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } قَالَ فَقَرَأْتهَا ثُمّ انْتَهَى فَانْصَرَفَ عَنّي وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي ، فَكَأَنّمَا كَتَبْتُ فِي قَلْبِي كِتَابًا . قَالَ فَخَرَجْتُ حَتّى إذَا كُنْتُ فِي وَسَطٍ مِنْ الْجَبَلِ سَمِعْت صَوْتًا مِنْ السّمَاءِ يَقُولُ يَا مُحَمّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ قَالَ فَرَفَعْت رَأْسِي إلَى السّمَاءِ أَنْظُرُ فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السّمَاءِ يَقُولُ يَا مُحَمّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ . قَالَ فَوَقَفْت أَنْظُرُ إلَيْهِ فَمَا أَتَقَدّمُ وَمَا أَتَأَخّرُ وَجَعَلْت أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي آفَاقِ السّمَاءِ قَالَ فَلَا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إلّا رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ فَمَا زِلْتُ وَاقِفًا مَا أَتَقَدّمُ أَمَامِي وَمَا أَرْجِعُ وَرَائِي حَتّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي ، فَبَلَغُوا أَعْلَى مَكّةَ وَرَجَعُوا إلَيْهَا وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ذَلِكَ ثُمّ انْصَرَفَ عَنّي وَانْصَرَفْتُ رَاجِعًا إلَى أَهْلِي حَتّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَجَلَسْت إلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إلَيْهَا : فَقَالَتْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَيْنَ كُنْتَ ؟ فَوَاَللّهِ لَقَدْ بَعَثَتْ رُسُلِي فِي طَلَبك حَتّى بَلَغُوا مَكّةَ فَقَالَتْ أَبْشِرْ يَا ابْنَ عَمّ وَاثْبُتْ فَوَاَلّذِي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيّ هَذِهِ الْأُمّة
ثُمّ قَامَتْ فَجَمَعْت عَلَيْهَا ثِيَابَهَا ، ثُمّ انْطَلَقْت إلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْن قُصَيّ ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهَا ، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، فَأَخْبَرْته بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنّهُ رَأَى وَسَمِعَ فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : قُدّوسٌ قُدّوسٌ وَاَلّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ لَئِنْ كُنْتِ صَدّقْتِينِي يَا خَدِيجَةُ لَقَدْ جَاءَهُ النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى ، وَإِنّهُ لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ فَقُولِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ . فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْته بِقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، فَلَمّا قَضَى رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - جِوَارَهُ وَانْصَرَفَ صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بِهَا ، فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّك لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ وَلَقَدْ جَاءَك النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي جَاءَ مُوسَى وَلَتُكَذّبَنّهُ وَلَتُؤْذَيَنّهُ وَلَتُخْرَجَنّهُ وَلَتُقَاتَلَنّهُ وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنّ اللّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ ثُمّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ فَقَبّلَ يَافُوخَهُ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى مَنْزِلِهِ (1) .
ففعلوا. وظل يرتجف مما به من الروع. وإذا جبريل يناديه : «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ» .. (و قيل : يا أيها المدثر) واللّه أعلم أيتهما كانت.
وسواء صحت الرواية الأولى عن سبب نزول شطر السورة. أو صحت هذه الرواية الثانية عن سبب نزول مطلعها ، فقد علم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يعد هناك نوم! وأن هنالك تكليفا ثقيلا ، وجهادا طويلا ، وأنه الصحو والكد والجهد منذ ذلك النداء الذي يلاحقه ولا يدعه ينام! وقيل لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - «قم»
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (1 / 235) صحيح مرسل(1/1363)
.. فقام. وظل قائما بعدها أكثر من عشرين عاما! لم يسترح. ولم يسكن. ولم يعش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائما على دعوة اللّه. يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به. عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض. عبء البشرية كلها ، وعبء العقيدة كلها ، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى.
حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها ، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها ، المكبل بأوهاق الشهوات وأغلالها .. حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية بدأ معركة أخرى في ميدان آخر .. بل معارك متلاحقة .. مع أعداء دعوة اللّه المتألبين عليها وعلى المؤمنين بها ، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها ، قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة وفروعها في الفضاء ، وتظلل مساحات أخرى .. ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانت الروم تعدّ لهذه الأمة الجديدة وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية.
وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى - معركة الضمير - قد انتهت. فهي معركة خالدة ، الشيطان صاحبها وهو لا يني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني .. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قائم على دعوة اللّه هناك. وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة. في شظف من العيش والدنيا مقبلة عليه.
وفي جهد وكد والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة. وفي نصب دائم لا ينقطع .. وفي صبر جميل على هذا كله. وفي قيام الليل. وفي عبادة لربه ، وترتيل لقرآنه وتبتل إليه ، كما أمره أن يفعل وهو يناديه : «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا. إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا. وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا».
وهكذا قام محمد - صلى الله عليه وسلم - وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاما.
لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد. منذ أن سمع النداء العلوي الجليل وتلقى منه التكليف الرهيب ..
جزاه اللّه عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء ..
وشطر السورة الأول يمضي على إيقاع موسيقي واحد. ويكاد يكون على روي واحد. هو اللام المطلقة الممدودة. وهو إيقاع رخي وقور جليل يتمشى مع جلال التكليف ، وجدية الأمر ، ومع الأهوال المتتابعة التي يعرضها السياق .. هول القول الثقيل الذي أسلفنا ، وهول التهديد المروّع : «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ، إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً ، وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً» .. وهول الموقف(1/1364)
الذي يتجلى في مشاهد الكون وفي أغوار النفوس : «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» .. «فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ، كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا».
فأما الآية الأخيرة الطويلة التي تمثل شطر السورة الثاني فقد نزلت بعد عام من قيام الليل حتى ورمت أقدام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطائفة من الذين معه. واللّه يعدّه ويعدّهم بهذا القيام لما يعدّهم له!
فنزل التخفيف ، ومعه التطمين بأنه اختيار اللّه لهم وفق علمه وحكمته بأعبائهم وتكاليفهم التي قدرها في علمه عليهم ..
أما هذه الآية فذات نسق خاص. فهي طويلة وموسيقاها متموجة عريضة ، وفيها هدوء واستقرار ، وقافية تناسب هذا الاستقرار : وهي الميم وقبلها مد الياء : «غَفُورٌ رَحِيمٌ».
والسورة بشطريها تعرض صفحة من تاريخ هذه الدعوة. تبدأ بالنداء العلوي الكريم بالتكليف العظيم.
وتصور الإعداد له والتهيئة بقيام الليل ، والصلاة ، وترتيل القرآن ، والذكر الخاشع المتبتل. والاتكال على اللّه وحده ، والصبر على الأذى ، والهجر الجميل للمكذبين ، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار صاحب الدعوة وصاحب المعركة! ..
وتنتهي بلمسة الرفق والرحمة والتخفيف والتيسير. والتوجيه للطاعات والقربات ، والتلويح برحمة اللّه ومغفرته : «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وهي تمثل بشطريها صفحة من صفحات ذلك الجهد الكريم النبيل الذي بذله ذلك الرهط المختار من البشرية - البشرية الضالة ، ليردها إلى ربها ، ويصبر على أذاها ، ويجاهد في ضمائرها وهو متجرد من كل ما في الحياة من عرض يغري ، ولذاذة تلهي ، وراحة ينعم بها الخليون. ونوم يلتذه الفارغون! (1)
ما جاء فى هذه السورة من أوامر وأحكام
أمر اللّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأشياء :
(1) أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه.
(2) أن يقرأ القرآن بتؤدة وتمهّل.
(3) أن يذكر ربه ليلا ونهارا بالتحميد والتسبيح والصلاة ، وأن يجرد نفسه عما سواه.
(4) أن يتخذه وكيلا يكل إليه أموره متى فعل ما يجب عليه نحوها.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3741)(1/1365)
(5) أن يصبر على ما يقولون فيه : من أنه ساحر أو شاعر ، وفى ربه من أن له صاحبة وولدا ، وأن يهجرهم هجرا جميلا بمجانبتهم ومداراتهم ، وأن يكل أمرهم إلى ربهم فهو الذي يكافئهم ، وسيرى عاقبة أمرهم وأمره.
(6) أن يخفف القيام للصلاة بالليل بعد أن شق ذلك عليهم لأعذار كثيرة والاكتفاء بما تيسر من صلاة الليل ، ففى الصلاة المفروضة غنية للأمة مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار. (1)
==============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 123)(1/1366)
(74) سورة المدثر
تسمى في كتب التفسير "سورة المدثر" وكذلك سميت في المصاحف التي رأيناها ومنها كتب في القيروان في القرن الخامس.
وأريد بالمدثر النبي - صلى الله عليه وسلم - موصوفا بالحالة التي ندي بها، كما سميت بعض السور بأسماء الأنبياء الذين ذكروا فيها.
وأما تسمية باللفظ الذي وقع فيها، ونظيره ما تقدم في تسمية "سورة المزمل"، ومثله ما تقدم في سورة المجادلة من احتمال فتح الدال أو كسرها.
وهي مكية حكى الاتفاق على ذلك ابن عطية والقرطبي ولم يذكرها في الإتقان في السور التي بعضها مدني. وذكر الآلوسي أن صاحب التحرير "محمد بن النقيب المقدسي المتوفى سنة 698 له تفسير" ذكر قول مقاتل أو قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً} [المدثر:31] الخ نزل بالمدينة اه. ولم نقف على سنده في ذلك ولا رأينا ذلك لغيره وسيأتي.
قيل إنها ثانية السور نزولا وإنها لم ينزل قبلها إلا سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] وهو الذي جاء في حديث عائشة في الصحيحين في صفة بدأ الوحي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ثم قالت: ثم فتر الوحي". فلم تذكر نزول وحي بعد آيات {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} .
وكذلك حديث جابر بن عبد الله من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن من طرق كثيرة وبألفاظ يزيد بعضها على بعض. وحاصل ما يجتمع من طرقه: قال جابر بن عبد الله وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه رعبا فأتيت خديجة فقلت: دثروني فدثروني زاد غير ابن شهاب من روايته وصبوا علي ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا" . قال النووي: صب الماء لتسكين الفزع. فأنزل الله {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1-5] ثم حمي الوحي وتتابع اه.
ووقع في صحيح مسلم عن جابر أنها أول القرآن سورة المدثر وهو الذي يقول في حديثه أن رسول الله يحدث عن فترة الوحي وإنما تقع الفترة بين شيئين فتقتضي وحيا نزل قبل سورة المدثر وهو ما بين في حديث عائشة.(1/1367)
وقد تقدم في صدر سورة المزمل قول جابر بن زيد: أن سورة القلم نزلت بعد سورة العلق وأن سورة المزمل ثالثة وأن سورة المدثر أربعة.
وقال جابر بن زيد: نزلت بعد المدثر سورة الفاتحة. ولا شك أن سورة المدثر نزلت قبل المزمل وأن عناد المشركين كان قد تزايد بعد نزول سورة المدثر فكان التعرض لهم في سورة المزمل أوسع.
وقد وقع في حديث جابر بن عبد الله في صحيح البخاري وجامع الترمذي من طريق ابن شهاب إن نزول هذه السورة كان قبل أن تفرض الصلاة.
والصلاة فرضت بعد فترة الوحي سواء كانت خمسة أو أقل وسواء كانت واجبة كما هو ظاهر قولهم: فرضت أم كانت مفروضة بمعنى مشروعة وفترة الوحي مختلف في مدتها اختلافا كثيرا فقيل كانت سنتين ونصفا، وقيل: أربعين يوما، وقيل: خمسة عشر يوما، والأصح أنها كانت أربعين يوما. فيظهر أن المدثر نزلت في السنة الأولى من البعثة وأن الصلاة فرضت عقب ذلك كما يشعر به ترتيب ابن إسحاق في سوق حوادث سيرته.
وعد أهل المدينة في عدهم الأخير الذي أرسوا عليه وأهل الشام آيها خمس وخمسين وعدها أهل البصرة والكوفة وأهل المدينة في عدهم الأول الذي رجعوا عنه ستا وخمسين.
أغراضها
جاء فيها من الأغراض تكريم النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر بإبلاغ دعوة الرسالة.
وإعلان وحدانية الله بالإلهية.
والأمر بالتطهر الحسي والمعنوي.
ونبذ الأصنام.
والإكثار من الصدقات.
والأمر بالصبر.
وإنذار المشركين بهول البعث.
وتهديد من تصدى للطعن في القرآن وزعم أنه قول البشر وكفر الطاعن نعمة الله عليه فأقدم على الطعن في آياته مع علمه بأنها حق.
ووصف أهوال جهنم.
والرد على المشركين الذين استخفوا بها وزعموا قلة عدد حفظتها.
وتحدي أهل الكتاب بأنهم جهلوا عدد حفظتها.
وتأييسهم من التخلص من العذاب.(1/1368)
وتمثيل ضلالهم في الدنيا.
ومقابلة حالهم بحال المؤمنين أهل الصلاة والزكاة والتصديق بيوم الجزاء. (1)
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة « المزمل » دعوة لإيقاظ النبي ، وتنبيهه إلى الحياة الجديدة التي سيبدأ رحلتها منذ اليوم الذي التقى فيه برسول الوحى في غار « حراء » مستفتحا رسالة السماء إليه بقوله تعالى : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ » وقد أخذ النبىّ من هذا اللقاء ما أخذه ، من قلق وجزع ، . حتى لقد لزم يبته ، وأرخى ستارا بينه وبين الحياة ، لا يدرى ماذا ينتظره في غده! وجاء الوحى الذي لقيه في الغار ، ليشرح له الموقف ، وليبين له ، أن الأمر الذي تلقّاه ، ليس هو أن يقرأ ما يسمع منه وحسب ، وإنما ذلك هو بدء قراءة دائمة متصله بينهما ، ثم هو بدء قراءة بين « محمد » وبين الناس جميعا .. إنه منذ اليوم ، هو رسول اللّه إلى الناس جميعا ، وأنه محمّل برسالة من عند اللّه يؤديها إليهم .. وأداء هذه الرسالة يقتضيه بأن يرفع هذا الغطاء عنه ، وأن يستيقظ استيقاظا كاملا ، وأن يصحو صحوة لا يخالطهافتور ، حتى يستطيع أن يحمل هذه الرسالة الكبرى ، ويواجه الناس بها : « إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا » ولقد استيقظ « المزمل » ورفع الغطاء عنه ، وقام الليل إلا قليلا ، يرتل ما نزل عليه من آيات ربه ، ويعيش معها بوجوده كله ، حتى يتمثل هذه الآيات حرفا حرفا ، وكلمة كلمة ، وحتى يكون هو نفسه على مستوى هذه الآيات ، كمالا ، وروعة ، وجلالا .. إنه الوعاء الحامل لآيات اللّه إلى الناس ، وإن للوعاء وزنه ، وقدره ، وأثره ، فى المادة الحامل لها ، وفيما يرى الناظرون إليها منه ، وما يقع في نفوسهم منها ..وإذ قد استيقظ « المزمل » وأخذ أهبته المهمة الجديدة التي كلف بها ، وتزود لها بالزاد الذي يعينه عليها ، ولم يبق إلا أن يؤذن له ببدء المسيرة إلى حيث يلتقى بالناس ، ويؤذّن فيهم برسالة اللّه المرسل بها إليهم ـ إذ يصل الأمر إلى هذا الحدّ ، فها هو ذا رسول الوحى ، يطرق الباب على النبي ، ثم يدخل عليه ، فيجده متدثرا في ثيابه ، قائما في محراب ذكره للّه ، وترتيله آيات اللّه ، فيهتف به ب قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ » إنها دعوة إلى قيام غير القيام الأول الذي دعى إليه في قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا » وإن المزمل غير المدثر .. فالمزمل نائم ، متعب ، مجهد .. والمدثر ، متلفف فى ثيابه ، فى حال قيام ، أو قعود ، وإن لم يكن مشمرا للعمل .. وأصل المدثر : المتدثر ، فأدغمت التاء فى الدال ، وكذلك الأصل الاشتقاقى للمزمل.وإن المدثر ليقوم الآن لينذر ، ويبلغ رسالة ربه إلى الناس ، وليخلع الأردية المتدثر بها ، وليلبس ثوب العمل.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 271)(1/1369)
لقد بدأت إذا الرحلة الجديدة .. فليقم النبي ، وليشدّ رحاله ، واللّه سبحانه وتعالى معه ، يعينه ، ويثبت أقدامه .. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « المدثر » من أوائل السور التي نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويغلب على الظن أن نزولها كان بعد نزول صدر سورة « اقرأ ».
ويشهد لذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة - رضى اللّه عنها - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه الوحى وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال له : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ.
وروى الشيخان - أيضا - وغيرهما ، عن يحيى بن أبى كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ فقال : يا أيها المدثر. قلت : يقولون : اقرأ باسم ربك ..
فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد اللّه عن ذلك ، فقال : يا أيها المدثر لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري : هبطت الوادي ، فنوديت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا .. فرفعت رأسى ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فرجعت على أهلى فقلت :دثروني ، دثروني. فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ.
قال الآلوسى ما ملخصه : وظاهر هذا الحديث يقتضى نزول هذه السورة قبل سورة اقرأ ، مع أن المروي في الصحيحين عن عائشة أن سورة « اقرأ » أول ما نزل على الإطلاق ، وهو الذي ذهب إليه أكثر الأمة ، حتى قال بعضهم وهو الصحيح.
وللجمع بين هذين الحديثين وجوه منها : أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة ، بما نزل بعد فترة الوحى ، لا أولية مطلقة كما هو الحال بالنسبة لسورة اقرأ. أو أن السؤال في حديث جابر ، كان عن نزول سورة كاملة ، فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها. أو أن جابرا قد قال ذلك باجتهاده ، ويقدم على هذا الاجتهاد ما ذكرته عائشة من أن أول ما نزل على الإطلاق ، هو صدر سورة اقرأ ...
أقول : وفي هذا الحديث ما يدل على أن الملك قد جاء رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بحراء قبل رؤيته في هذه المرة ، وفي غار حراء بدأ الوحى ونزل قول اللّه تعالى : « اقرأ باسم ربك الذي خلق ... » وذلك يدل على أن « اقرأ » أول ما نزل على الإطلاق ، وهو ما جاء في الصحيحين عن السيدة عائشة رضى اللّه عنها.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1278)(1/1370)
وعلى أية حال فسورة المدثر تعتبر من أوائل ما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من قرآن ، كما يرى ذلك من تدبر آياتها التي تحض الرسول - صلى الله عليه وسلم - على إنذار الناس بدعوته.وعدد آياتها : ست وخمسون آية في المصحف الكوفي ، وخمس وخمسون في البصري.
2 - ومن أهم مقاصدها : تكريم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأمره بتبليغ ما أوحاه اللّه - تعالى - إليه إلى الناس ، وتسليته عما أصابه من أذى ، وتهديد أعدائه بأشد ألوان العقاب ، وبيان حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين ، والرد عليهم بما يبطل دعاواهم .. (1)
في هذه السورة أول أمر صريح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالقيام بمهمة الدعوة والإنذار ، ورسم الخطة التي يجب عليه اتباعها في ذلك. وفيها إنذار للكفار بيوم القيامة وتنديد بمن وقف من النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن موقف الهزء والإنكار والإعراض والتحدي. وتقرير لمسؤولية الإنسان عن عمله. وذكر للملائكة وأهل الكتاب لأول مرة أيضا. ومن المحتمل أن تكون آياتها الأولى نزلت لحدتها ، وأن يكون ترتيب السورة بسبب نزول هذه الآيات مبكرة لأن الآيات الأخرى احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلّا بعد مضي النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته شوطا ما. على أن أسلوب آيات السورة وانسجامها يسوغ القول أيضا أنها نزلت دفعة واحدة أو متلاحقة. وأن الآيات الأولى بسبيل التثبيت. وحينئذ يكون ترتيبها كرابع سورة غير صحيح. (2)
سورة المدثر مكيّة ، وهي ست وخمسون آية.
تسميتها : سميت سورة المدّثر لافتتاحها بهذا الوصف الذي وصف به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأصل المدثر المتدثر : وهو الذي يتدثر بثيابه لينام أو ليستدفئ. والدثار : اسم لما يتدثر به.
مناسبتها لما قبلها :
صلة السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة هي :
1 - تتفق السورتان في الافتتاح بنداء النبي - صلى الله عليه وسلم - .
2 - صدر كلتيهما نازل في قصة واحدة. وقد نزلت المدثر عقب المزمّل.
3 - بدئت السورة السابقة بالأمر بقيام الليل (التهجد) وهو إعداد لنفسه ليكون داعية ، وبدئت هذه السورة بالأمر بإنذار غيره ، وهو إفادة لسواه في دعوته.
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 171)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 440)(1/1371)
تضمنت السورة إرشادات للنبي - صلى الله عليه وسلم - في بدء دعوته ، وتهديدات لزعيم من زعماء الشرك ، وأوصاف جهنم.
بدأت السورة بتكليف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقيام بالدعوة إلى ربه ، وإنذار الكفار ، والصبر على أذى الفجار : يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ .. [الآيات : 1 - 7].
ثم وصفت يوم القيامة الرهيب الشديد ، لما فيه من الأهوال : فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ .. [الآيات : 8 - 10].
ثم انطلقت تهدد إنسانا في أقوى وأشد صور التهديد ، وهو الوليد بن المغيرة الذي أقر بأن القرآن كلام اللّه تعالى ، ثم من أجل الزعامة والرياسة ، زعم أنه سحر ، فاستحق النار : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً .. [الآيات : 11 - 26].
وناسب ذلك تعداد أوصاف النار ، وعدد خزنتها وحكمة ذلك ، وبروزها للناس : وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ .. [الآيات : 27 - 31].
وزاد الأمر تهويلا قسم اللّه بالقمر والليل والصبح على أن جهنم إحدى الدواهي العظام : كَلَّا وَالْقَمَرِ .. [الآيات : 32 - 37].
وأوضحت السورة مسئولية كل نفس بما كسبت وتعلقها بأوزارها ، وبشارة المؤمنين بالنجاة ، والكفار بالعذاب ، وتصوير ما يجري من حوار بين الفريقين :كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ .. [الآيات : 38 - 48].
وختمت السورة ببيان سبب إعراض المشركين عن العظة والتذكر والإيمان :فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ .. [الآيات : 49 - 56].
فضلها : ثبت في صحيح البخاري عن جابر أنه كان يقول : أول شيء نزل من القرآن : يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وخالفه الجمهور ، فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [القلم 96/ 1].
سبب نزولها :
أخرج البخاري عن جابر بن عبد اللّه قال : حدثنا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : «جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري ، هبطت ، فنوديت ، فنظرت عن يميني ، فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت أمامي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي ، فرأيت شيئا ، فأتيت خديجة ، فقلت : دثّروني ، وصبّوا عليّ ماء باردا ، قال : فدثّروني وصبوا علي ماء باردا ، فنزلت : يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ».(1/1372)
ورواه مسلم بلفظ آخر يدل على أن أول ما نزل : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [القلم 96/ 1 - 5].
ووجه الجمع بين الرأيين : أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة ، كما
قال الإمام أحمد والشيخان عن جابر أنه سمع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : «ثم فتر الوحي عن فترة ، فبينا أنا أمشي ، سمعت صوتا من السماء ، فرفعت بصري قبل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فجثثت - فزعت - منه فرقا - أي خوفا - ، حتى هويت إلى الأرض ، فجئت أهلي ، فقلت لهم : زمّلوني زمّلوني ، فزمّلوني ، فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ثم حمي الوحي وتتابع».
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما ، فلما أكلوا منه قال : ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : ليس بساحر ، وقال بعضهم : كاهن ، وقال بعضهم : ليس بكاهن ، وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : ليس بشاعر ، وقال بعضهم : بل سحر يؤثر ، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فحزن وقنّع رأسه وتدثر ، فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ. (1)
وهي مكية كلها عند بعضهم ، وقال بعضهم هي مكية إلا آية وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ... وعدد آياتها ست وخمسون آية وهي تشمل إرشادات للنبي - صلى الله عليه وسلم - يحتاج إليها في دعوته ، ثم تهديد زعيم من زعماء الشرك ، وتطرق الكلام إلى وصف جهنم ومن فيها ، وهذه السورة والتي قبلها متشابهتان إلى حد ما ، فالأولى في إعداد النبي - صلى الله عليه وسلم - كداعية ، والثانية ترشده إلى ما به ينجح في دعوته. (2)
مكية قال ابن عطية بإجماع وفي التحرير قال مقاتل إلّا آية وهي وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً [المدثر : 31] إلخ وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما يشعر بأن قوله تعالى عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر : 30] مدني بما فيه وآيها ست وخمسون في العراقي والمدني الأول وخمس وخمسون في الشامي والمدني الأخير على ما فصل في محله ، وهي متواخية مع السورة قبلها في الافتتاح بنداء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وصدر كليهما نازل على المشهور في قصة واحدة وبدئت تلك بالأمر بقيام الليل وهو عبادة خاصة وهذه بالأمر بالإنذار وفيه من تكميل الغير ما فيه. وروى أمية الأزدي عن جابر بن زيد وهو من علماء التابعين بالقرآن أن المدثر نزلت عقب المزمل
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 205) وتفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 124)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 773)(1/1373)
وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس وجعلوا ذلك من أسباب وضعها بعدها والظاهر ضعف هذا القول فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وجماعة عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال : يا أيها المدثر ، قلت : يقولون اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق : 1] فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد اللّه عن ذلك وقلت له مثل ما قلت فقال جابر : لا أحدثك إلّا ما حدثنا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : «جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت فقلت دثروني فدثروني فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر : 1 - 3] وفي رواية «فجئت أهلي فقلت : زملوني زملوني زملوني فأنزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - إلى قوله - فَاهْجُرْ، فإن القصة واحدة ولو كانت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ هي النازلة قبل فيها لذكرت نعم ظاهر هذا الخبر يقتضي أن يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ نزل قبل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ والمروي في الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن ذاك أول ما نزل من قرآن وهو الذي ذهب إليه أكثر الأمة حتى قال بعضهم هو الصحيح ، ولصحة الخبرين احتاجوا للجواب فنقل في الإتقان خمسة أجوبة الأول أن السؤال في حديث جابر كان عن نزول سورة كاملة فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل تمام سورة اقْرَأْ فإن أول ما نزل منها صدرها الثاني أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي لا أولية مطلقة الثالث أن المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار ، وعبر بعضهم عن هذا بقوله أول ما نزل للنبوة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وأول ما نزل للرسالة يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ الرابع أن المراد أول ما نزل بسبب متقدم وهو ما وقع من التدثر الناشئ عن الرعب وأما اقرأ فنزلت ابتداء بغير سبب متقدم الخامس أن جابر استخرج ذلك باجتهاده وليس هو من روايته فيقدم عليه ما روت عائشة رضي اللّه تعالى عنها ثم قال : وأحسن هذه الأجوبة الأول والأخير انتهى وفيه نظر فتأمل ولا تغفل. (1)
* سورة المدثر مكية ، شأنها كسابقتها - سورة المزمل - تتحدث عن بعض جوانب شخصية الرسول الأعظم ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، ولهذا سميت سورة المدثر .
* ابتدأت السورة الكريمة بتكليف الرسول بالنهوض بأعباء الدعوة ، والقيام بمهمة التبليغ بجد ونشاط ، وإنذار الكفار ، والصبر إلى أذى الفجار ، حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه [ يا أيها المدثر ، قم فأنذر ، وربك فكبر ، وثيابك فطهر ، والرجز فاهجر ، ولا تمنن تستكثر ، ولربك فاصبر ] .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 128)(1/1374)
* ثم توالت السورة تنذر وتهدد أولئك المجرمين ، بيوم عصيب شديد ، لا راحة لهم فيه ، لما فيه من الأهوال والشدائد فإذا نقر في الناقور ، فذلك يومئذ يوم عسير ، على الكافرين غير يسير ] الآيات .
* وبعد ذلك البيان الذي يرتعد له الإنسان ، تحدثت السورة عن قصة ذلك الشقى الفاجر (الوليد بن المغيرة) الذي سمع القرآن ، وعرف أنه كلام الرحمن ، ولكنه في سبيل الزعامة وحب الرئاسة ، زعم أنه من قبيل السحر الذي تعارفه البشر [ ذرني ومن خلقت وحيدا ، وجعلت له مالا ممدودا ، وبنين شهودا ، ومهدت له تمهيدا ، ثم يطمع أن أزيد ، كلا أنه كان لآياتنا عنيدا ، سأرهقه صعودا ، إنه فكر وقدر ، فقتل كيف قدر . . ] الآيات إلى قوله تعالى : [ سأصليه سقر ] .
* ثم تحدثت السورة عن النار التى أوعد الله بها الكفار ، وعن خزنتها الأشداء ، وزبانيتها الذين كلفوا بتعذيب أهلها ، وعددهم ، والحكمة من تخصيص ذلك العدد [ وما أدراك ما سقر ، لا تبقى ولا تذر ، لواحة للبشر ، عليها تسعة عشر ، وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ، وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا . . ] الآيات .
* وأقسمت السورة بالقمر وضيائه ، والصبح وبهائه ، على أن جهنم إحدى البلايا العظام [ كلا والقمر ، والليل إذ أدبر ، والصبح إذا أسفر ، إنها لإحدى الكبر ، نذيرا للبشر ، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ] .
* ثم تحدثت السورة عن الحوار الذي يجري بين المؤمنين والمجرمين ، وبينت سبب دخولهم الجحيم [ إلا أصحاب اليمين ، في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر ، قالوا لم نك من المصلين ، ولم نك نطعم المسكين ، وكنا نخوض مع الخائضين ] الآيات .
* وختمت السورة ببيان سبب إعراض المشركين عن الإيمان ، ألا وهو إنكارهم للقيامة ، وللبعث والنشور [ كلا بل لا يخافون الآخرة ، كلا إنه تذكرة ، فمن شاء ذكره ، وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة ] . (1)
مقصودها الجد والاجتهاد في الإنذار بدار البوار لأهل الاستكبار ، وإثبات البعث في أ ، فس المكذبين الفجار ، والإشارة بالبشارة لأهل الادكار ، بحلم العزيز الغفار ، واسمها المدثر أدل مافيها على ذلك ، وذلك واضح لمن تأمل النداء والمنادى به والسبب (2)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 423)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 220)(1/1375)
ينطبق على هذه السورة من ناحية سبب نزولها ، ووقت نزولها ما سبق ذكره عن سورة «المزمل». فهناك روايات بأنها هي أول ما نزل بعد سورة العلق ، ورواية أخرى بأنها نزلت بعد الجهر بالدعوة وإيذاء المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
روى البخاري عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ . قَالَ ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) قُلْتُ يَقُولُونَ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ ) فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنهما عَنْ ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِى قُلْتَ فَقَالَ جَابِرٌ لاَ أُحَدِّثُكَ إِلاَّ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِى هَبَطْتُ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِى فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِى فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ، وَنَظَرْتُ أَمَامِى فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ، وَنَظَرْتُ خَلْفِى فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى فَرَأَيْتُ شَيْئًا ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ دَثِّرُونِى وَصُبُّوا عَلَىَّ مَاءً بَارِدًا - قَالَ - فَدَثَّرُونِى وَصَبُّوا عَلَىَّ مَاءً بَارِدًا قَالَ فَنَزَلَتْ ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) » (1) ..
وعَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْىِ « فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِى قِبَلَ السَّمَاءِ ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ ، فَجِئْتُ أَهْلِى فَقُلْتُ زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى . فَزَمَّلُونِى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) إِلَى قَوْلِهِ ( فَاهْجُرْ ) » - قَالَ أَبُو سَلَمَةَ وَالرِّجْزَ الأَوْثَانَ - « ثُمَّ حَمِىَ الْوَحْىُ وَتَتَابَعَ » . (2)
وعلق ابن كثير في التفسير على هذا الحديث بقوله : «وهذا السياق هو المحفوظ ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله : «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» وهو جبريل ، حين أتاه بقوله ... «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» ..
ثم إنه حصل بعد هذا فترة ، ثم نزل الملك بعد هذا. ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة» ..
فهذه رواية. وهناك رواية أخرى .. رواها الطبراني عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ، إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ صَنَعَ لِقُرَيْشٍ طَعَامًا فَلَمَّا أَكَلُوا قَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا الرَّجُلِ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : سَاحِرٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ بساحرٍ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : كَاهِنٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ :
__________
(1) - صحيح البخارى (4922 )
(2) - صحيح البخارى (4926 )(1/1376)
لَيْسَ بكاهنٍ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : شَاعِرٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ بشاعرٍ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّهُ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - " فَحَزِنَ وَقَنَعَ رَأْسَهُ ، وَتَدَثَّرَ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ " (1)
وتكاد تكون هذه الرواية هي ذاتها التي رويت عن سورة «الْمُزَّمِّلُ» .. مما يجعلنا لا نستطيع الجزم بشيء عن أيتهما هي التي نزلت أولا. والتي نزلت بهذه المناسبة أو تلك.
غير أن النظر في النص القرآني ذاته يوحي بأن مطلع هذه السورة إلى قوله تعالى : «وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» ربما يكون قد نزل مبكرا في أوائل أيام الدعوة. شأنه شأن مطلع سورة المزمل إلى قوله تعالى : «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» .. وهذا وذلك لإعداد نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - للنهوض بالتبعة الكبرى ، ومواجهة قريش بعد ذلك بالدعوة جهارا وكافة ، مما سيترتب عليه مشاق كثيرة متنوعة ، تحتاج مواجهتها إلى إعداد نفسي سابق .. ويكون ما تلا ذلك في سورة المدثر ، وما تلا هذا في سورة المزمل ، قد نزلا بعد فترة بمناسبة تكذيب القوم وعنادهم ، وإيذائهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالاتهام الكاذب والكيد اللئيم.
إلا أن هذا الاحتمال لا ينفي الاحتمال الآخر ، وهو أن يكون كل من المطلعين قد نزل متصلا بما تلاه في هذه السورة وفي تلك ، بمناسبة واحدة ، هي التكذيب ، واغتمام رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - للكيد الذي كادته قريش ودبرته .. ويكون الشأن في السورتين هو الشأن في سورة القلم على النحو الذي بيناه هناك.
وأيا ما كان السبب والمناسبة فقد تضمنت هذه السورة في مطلعها ذلك النداء العلوي بانتداب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الأمر الجلل وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة : «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ» .. مع توجيهه - صلى الله عليه وسلم - إلى التهيؤ لهذا الأمر العظيم ، والاستعانة عليه بهذا الذي وجهه اللّه إليه : «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» ..
وكان ختام التوجيه هنا بالصبر كما كان هناك في سورة المزمل! وتضمنت السورة بعد هذا تهديدا ووعيدا للمكذبين بالآخرة ، وبحرب اللّه المباشرة ، كما تضمنت سورة المزمل سواء : «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ. ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً ، وَبَنِينَ شُهُوداً ، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا! إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» ..
__________
(1) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ (11089 ) وَفِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْخُوزِيُّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ(1/1377)
وتعين سورة المدثر أحد المكذبين بصفته ، وترسم مشهدا من مشاهد كيده - على نحو ما ورد في سورة القلم ، وربما كان الشخص المعني هنا وهناك واحدا ، قيل : إنه الوليد بن المغيرة - (كما سيأتي تفصيل الروايات عند مواجهة النص) وتذكر سبب حزب اللّه سبحانه وتعالى له : «إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ! كَيْفَ قَدَّرَ؟ ثُمَّ قُتِلَ : كَيْفَ قَدَّرَ؟ ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» .. ثم تذكر مصيره : «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ. وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ».
وبمناسبة مشهد سقر. والقائمين عليها التسعة عشر. وما أثاره هذا العدد من بلبلة وفتنة وتساؤل وشك واستهزاء في أوساط المشركين وضعاف الإيمان ، تتحدث السورة عن حكمة اللّه في ذكر هذا العدد ، ثم تفتح كوة على حقيقة غيب اللّه ، واختصاصه بهذا الغيب. وهي كوة تلقي ضوءا على جانب من التصور الإيماني لحقيقة غيب اللّه المكنون : «وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً. وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ، لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ، وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ : ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟ كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ، وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ، وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ» ..
ثم يصل أمر الآخرة وسقر ومن عليها بمشاهد كونية حاضرة ، ليجمع على القلوب إيحاء هذه وتلك في معرض الإيقاظ والتحذير : «كَلَّا وَالْقَمَرِ. وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ. وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ. إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ. نَذِيراً لِلْبَشَرِ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» ..
كما يعرض مقام المجرمين ومقام أصحاب اليمين ، حيث يعترف المكذبون اعترافا طويلا بأسباب استحقاقهم للارتهان والقيد في يوم الجزاء والحساب ، يعقب عليه بكلمة الفصل في أمرهم الذي لا تنفعهم فيه شفاعة شافع : «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ. فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ. ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟ قالُوا : لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ. فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» ..
وفي ظل هذا المشهد المخزي ، والاعتراف المهين ، يتساءل مستنكرا موقف المكذبين من الدعوة إلى التذكرة والنجاة من هذا المصير ، ويرسم لهم مشهدا ساخرا يثير الضحك والزراية من نفارهم الحيواني الشموس : «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ!».
ويكشف عن حقيقة الغرور الذي يساورهم فيمنعهم من الاستجابة لصوت المذكر الناصح. «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً» .. فهو الحسد للنبي - صلى الله عليه وسلم - والرغبة في أن يؤتى كل منهم الرسالة!
والسبب الدفين الآخر هو قلة التقوى : «كَلَّا! بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ» ..(1/1378)
وفي الختام يجيء التقرير الجازم الذي لا مجاملة فيه : «كَلَّا! إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» ورد الأمر كله إلى مشيئة اللّه وقدره : «وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ» ..
وهكذا تمثل السورة حلقة من حلقات الكفاح النفسي الذي كافحه القرآن للجاهلية وتصوراتها في قلوب قريش كما كافح العناد والكيد والإعراض الناشئ عن العمد والقصد بشتى الأساليب .. والمشابهات كثيرة بين اتجاهات هذه السورة واتجاهات سورة المزمل ، وسورة القلم ، مما يدل على أنها جميعا نزلت متقاربة ، لمواجهة حالات متشابهة .. وذلك باستثناء الشطر الثاني من سورة المزمل ، وقد نزل لشأن خاص بالرياضة الروحية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وطائفة من الذين معه كما تقدم.
وهذه السورة قصيرة الآيات. سريعة الجريان. منوعة الفواصل والقوافي. يتئد إيقاعها أحيانا ، ويجري لاهثا أحيانا! وبخاصة عند تصوير مشهد هذا المكذب وهو يفكر ويقدر ويعبس ويبسر .. وتصوير مشهد سقر. لا تبقي ولا تذر. لواحة للبشر .. ومشهد فرارهم كأنهم حمر مستنفرة. فرت من قسورة! وهذا التنوع في الإيقاع والقافية بتنوع المشاهد والظلال يجعل للسورة مذاقا خاصا ولا سيما عند رد بعض القوافي ورجعها بعد انتهائها كقافية الراء الساكنة : المدثر. أنذر. فكبر .. وعودتها بعد فترة : قدر. بسر.استكبر. سقر ... وكذلك الانتقال من قافية إلى قافية في الفقرة الواحدة مفاجأة ولكن لهدف خاص. عند قوله : «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» .. ففي الآية الأولى كان يسأل ويستنكر. وفي الثانية والثالثة كان يصور ويسخر! وهكذا (1) ...
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3751)(1/1379)
(75) سورة القيامة
عنونت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة ب"سورة القيامة" لوقوع القسم بيوم القيامة في أولها ولم يقسم به فيما نزل قبلها من السور.
وقال الآلوسي: يقال لها "سورة لا أقسم"، ولم يذكرها صاحب الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت الحادية والثلاثين في عداد نزول سور القرآن. نزلت بعد سورة القارعة وقبل سورة الهمزة.
وعدد آيها عند أهل العدد من معظم الأمصار تسعا وثلاثين آية، وعدها أهل الكوفة أربعين.
أغراضها
اشتملت على إثبات البعث.
والتذكير بيوم القيامة وذكر أشراطه.
وإثبات الجزاء على الأعمال التي عملها الناس في الدنيا.
واختلاف أحوال أهل السعادة وأهل الشقاء وتكريم أهل السعادة.
والتذكير بالموت وأنه أول مراحل الآخرة.
والزجر عن إيثار منافع الحياة العاجلة على ما أعد لأهل الخير من نعيم الآخرة.
وفي "تفسير ابن عطية" عن عمر بن الخطاب ولم يسنده: أنه قال "من سأل عن القيامة أو أراد أن يعرف حقيقة وقوعها فليقرأ هذه السورة".
وأدمج في آيات {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} إلى {وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16-17] لأنها في أثناء نزول هذه السورة كما سيأتي. (1)
مناسبتها لما قبلها
جاء فى ختام سورة « المدثر » قوله تعالى : « كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ » جاء كاشفا عن العلة التي نجم عنها شرك المشركين ، وكفرهم بآيات اللّه ، وتكذيبهم لرسول اللّه .. وتلك العلة هى أنهم لا يؤمنون بالبعث ، ولا يتصورون إمكان الحياة بعد الموت ، ومن ثم فإنهم لا يعملون حسابا لما وراء حياتهم الدنيا ،
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 312)(1/1380)
ولهذا أطلقوا عنان أهوائهم ، وأسلموا زمامهم للشيطان ، يعيشون كما تعيش السائمة .. واللّه سبحانه وتعالى يقول : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ » (12 : محمد).
ولو كان هؤلاء المشركون يؤمنون بالآخرة ، ويتصورون إمكان الحياة ، بعد الموت ، لكان لهم نظرة إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا ، ولعملوا حسابا ليوم يلقون فيه ربهم ، ويجزون فيه على أعمالهم. وقد جاءت سورة القيامة ، تعرض وقوع هذا اليوم ، يوم القيامة ، فى صورة واقع مشهود ، له ذاتية معترف بها ، فيقسم به اللّه سبحانه وتعالى ، كما يقسم بالشمس ، والقمر ، والليل ، والضحى ، والعصر .. وغير ذلك من آياته المشهودة للعالمين. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « القيامة » من السور المكية الخالصة ، وتعتبر من السور التي كان نزولها في أوائل العهد المكي ، فهي السورة الحادية والثلاثون في ترتيب النزول ، وكان نزولها بعد سورة (القارعة) وقبل سورة (الهمزة). أما ترتيبها في المصحف فهي السورة الخامسة والسبعون.وعدد آياتها أربعون آية في المصحف الكوفي ، وتسع وثلاثون في غيره.
2 - والسورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن أحوال الناس فيه :وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ.
كما أنها تتحدث عن إمكانية البعث ، وعن حتمية وقوعه : أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى . ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى . أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ؟. (2)
في السورة توكيد لمجيء يوم القيامة وبرهنة على قدرة اللّه على بعث الناس.
وتنبيه لهم بأن أعمالهم محصاة. وبيان لمصائرهم حسب سلوكهم. وتنديد باستغراق من يستغرق في الحياة ويهمل واجباته نحو اللّه والناس. وفيها آيات تتصل بظروف الوحي القرآني وتحتوي دلالة خطيرة في سوره. وأسلوب آياتها يمكن أن يعتبر عرضا عاما وإنذارا وتبشيرا وتنديدا عاما أيضا. (3)
سورة القيامة مكيّة ، وهي أربعون آية :
تسميتها : سميت سورة القيامة لافتتاحها بالقسم الإلهي بها ، لتعظيمها ، وإثبات حدوثها والرد على منكريها.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1311)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 195)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 188)(1/1381)
مناسبتها لما قبلها :
تتعلق هذه السورة بما قبلها بسبب اشتمالها على حديث الآخرة ، ففي السورة المتقدمة قال تعالى مبينا السبب الأصلي في عدم التذكرة وهو إنكار البعث :
كَلَّا ، بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ [53] ثم ذكر في هذه السورة دليل إثبات البعث ، ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ، ثم ذكر ما قبل ذلك من مقدمة وهي خروج الروح من البدن ، ثم ما قبل ذلك من مبدأ الخلق ، فذكرت الأحوال الثلاثة في هذه السورة على عكس ما هي في الواقع».
ما اشتملت عليه السورة :
عنيت هذه السورة كغيرها من السور المكية بأحد أصول الدين والإيمان وهو إثبات البعث والجزاء ، وما سبقه من مقدمات الموت وبدء الخلق.
افتتحت السورة بالقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوّامة جميعا معا ، لإثبات البعث والمعاد ، والرد على من أنكر بعث الأجساد : لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ..[الآيات 1 - 6].
ثم ذكر تعالى بعض علامات ذلك اليوم ، وأخبر عن حتميته ووقوعه ، فهو حق لا ريب فيه : فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ .. [الآيات 7 - 15].
ثم نهى اللّه تعالى نبيه عن محاولة حفظ آيات القرآن أثناء الوحي ، وطمأنه بأنه سبحانه متكفل بتثبيته في قلبه وحفظه ووعيه وبيانه بنحو شامل تام : لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ .. [الآيات 16 - 19].
وأردف ذلك بالتنديد بمحبة الدنيا وإيثارها على الآخرة ، وبالإخبار عن انقسام الناس في الآخرة قسمين : أهل السعادة وأهل الشقاوة ، فالأولون تتلألأ وجوههم بأنوار الإيمان ، ويتمتعون بالنظر إلى ربهم دون حصر وتحديد وبلا كيفية ، والآخرون تكون وجوههم سوداء مظلمة عابسة ، تنتظر نزول داهية عظمي بها : كَلَّا ، بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ .. [الآيات 20 - 25].
ثم ذكرت شدائد الاحتضار والموت وأهواله وكروبه ومضايقاته : كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ .. [الآيات 26 - 35].
وختمت السورة بإيراد الدليل الحسي الواقعي على إثبات الحشر والمعاد وهو بدء الخلق ، والإعادة أهون من البداءة : أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً .. [الآيات 36 - 40]. (1)
وهي مكية بالإجماع. وعدد آياتها أربعون آية.وهي في الكلام على يوم القيامة والاستدلال عليه. ووصفه وبيان أهواله ، ثم تعرضت لخروج الروح. وذكر مبدأ الخلق. (2)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 239) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 144)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 784)(1/1382)
ويقال لها سورة لا أقسم وهي مكية من غير حكاية خلاف ولا استثناء واختلف في عدد آيها ففي الكوفي أربعون وفي غيره تسع وثلاثون والخلاف في لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة : 16] ولما قال سبحانه وتعالى في آخر ال مدثر كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ [المدثر : 53] بعد ذكر الجنة والنار وكان عدم خوفهم إياها لإنكارهم البعث ذكر جلا وعلا في هذه السورة الدليل عليه بأتم وجه ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ثم ذكر ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن ثم ما قبل من مبدأ الخلق على عكس الترتيب الواقعي (1)
مقصودها الدلالة على عظمة المدثر المأمور بالإنذار ( - صلى الله عليه وسلم - ) لعظمة مرسله سبحانه وتمام اقتداره بأنه كشف له العلوم حتى صار إلى الأعيان بعد الرسوم بشرح آخر سورته من أن هذا القرآن تذكرة عظيمة لما أودعه الله من وضوح المعاني وعذوبة الألفاظ وجلالة النظم ورونق السبك وعلو المقاصد ، فهو لذلك معشوق لكل طبع ، معلوم ما خفي من أسراره وإشاراته بصدق النية وقوة العزم بحيث يصير بعد كشفه إذا أثر كأنه كان منسيا بعد حفظه فذكر ) فمن شاء ذكره ) [ عبس : 12 ] فحفظه وعلم معانيه وتخلق بها ، وإنما المانع عن ذلك مشيئة الله تعالى ، فمن شاء حجبه عنه أصلا رأسا ، ومن شاء شك ولا ارتياب ، وجلى عليه أوانسه وعرائسه وحباه جواهره ونفائسه ، وحلاه به ، فكان ملكه وسائسه ، كما كان المدثر ( - صلى الله عليه وسلم - ) حين كان خلقه القرآن ، واسمها القيامة واضح في ذلك جدا ، وليس فيها ما يقوم بالدلالة عليه غيره إذا تؤملت الآية مع ما أشارت إليه " لا " النافية للقسم أو المؤكدة مع أنها في الوضوح في حد لا يحتاج إلى الإقسام عليه لأنه لا يوجد أحد يدع من تحت يده يعدو بعضهم على بعض ، ويتصرفون فيما خولهم فيه منه غير حساب ، فكيف بأحكم الحاكمين الذي وكل عبيده أضعافهم من الملائكة فهم يديرون كل لحظة فيهم كؤوس المنايا ، ويأخذون من أمرهم به سبحانه إلى دار البرزخ للتهئية للعرض ويسوقونهم زمرا بعد زمر إلى العود في الأرض حتى ينتهي الجمع في القبور ، ويقيمهم بالنقر في الناقور ، والنفخ في الصور ، إلى ساحة الحساب للثواب والعقاب ، ولم يحجب عن علم ذلك حتى ضل عنه أكثر الخلق إلا مشيئته سبحانه بتغليب النفس الأمارة حتى صارت اللوامة منهمكة في الشر شديدة اللوم عن الإقصار عن شيء منه كما أن ما جلاه لنبيه محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) حتى كان خلقه ، ولمن أراد من أتباعه إلا إرادته سبحانه بتغليب المطمئنة حتى صار الكل روحا صرفا ونورا خالصا بحتا (2)
هذه السورة الصغيرة تحشد على القلب البشري من الحقائق والمؤثرات والصور والمشاهد ، والإيقاعات واللمسات ، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلت منه .. تحشدها بقوة ، في أسلوب خاص ، يجعل لها طابعا
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 150)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 241)(1/1383)
قرآنيا مميزا ، سواء في أسلوب الأداء التعبيري ، أو أسلوب الأداء الموسيقي ، حيث يجتمع هذا وذاك على إيقاع تأثير شعوري قوي ، تصعب مواجهته ويصعب التفلت منه أيضا!
إنها تبدأ في الآيتين الأوليين منها بإيقاع عن القيامة ، وإيقاع عن النفس : «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» .. ثم يستطرد الحديث فيها متعلقا بالنفس ومتعلقا بالقيامة ، من المطلع إلى الختام ، تزاوج بين النفس وبين القيامة حتى تنتهي. وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة. أو كأنه اللازمة الإيقاعية التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة ، بطريقة دقيقة جميلة ..
من تلك الحقائق الكبيرة التي تحشدها هذه السورة في مواجهة القلب البشري ، وتضرب بها عليه حصارا لا مهرب منه .. حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي ، فلا يملك لها ردا ، ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعا. وهي تتكرر في كل لحظة ، ويواجهها الكبار والصغار ، والأغنياء والفقراء ، والأقوياء والضعاف ، ويقف الجميع منها موقفا واحدا .. لا حيلة. ولا وسيلة. ولا قوة. ولا شفاعة. ولا دفع. ولا تأجيل .. مما يوحي بأنها قادمة من جهة عليا لا يملك البشر معها شيئا. ولا مفر من الاستسلام لها ، والاستسلام لإرادة تلك الجهة العليا .. وهذا هو الإيقاع الذي تمس به السورة القلوب وهي تقول : «كَلَّا! إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ، وَقِيلَ : مَنْ راقٍ؟ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ .. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ» ..
ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تعرضها السورة ، حقيقة النشأة الأولى ، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى ، وعلى أن هناك تدبيرا في خلق هذا الإنسان وتقديرا .. وهي حقيقة يكشف اللّه للناس عن دقة أدوارها وتتابعها في صنعة مبدعة ، لا يقدر عليها إلا اللّه ، ولا يدعيها أحد ممن يكذبون بالآخرة ويتمارون فيها. فهي قاطعة في أن هناك إلها واحدا يدبر هذا الأمر ويقدره كما أنها بينة لا ترد على يسر النشأة الآخرة ، وايحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة ، تمشيا مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى ، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب .. وهذا هو الإيقاع الذي تمس السورة به القلوب وهي تقول في أولها : «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟» ثم تقول في آخرها : «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ. يُمْنى ؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى؟ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ : الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ؟ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ؟» ..
ومن المشاهد المؤثرة التي تحشدها السورة ، وتواجه بها القلب البشري مواجهة قوية .. مشهد يوم القيامة وما يجري فيه من انقلابات كونية ، ومن اضطرابات نفسية ، ومن حيرة في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى الهول في صميم الكون ، وفي أغوار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك كالفأر في المصيدة! وذلك ردا على تساؤل الإنسان عن يوم القيامة في شك واستبعاد ليومها المغيب ، واستهانة بها(1/1384)
ولجاج في الفجور. فيجيء الرد في إيقاعات سريعة ، ومشاهد سريعة ، وومضات سريعة : «بل يريد الإنسان ليفجر أمامه. يسأل : أيان يوم القيامة؟ فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر ، يقول الإنسان يومئذ : أين المفر؟ كلا! لا وزر ، إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر. بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره!» ..
ومن هذه المشاهد مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربهم ، المتطلعين إلى وجهه الكريم في ذلك الهول. ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة باللّه ، وبالرجاء فيه ، المتوقعين عاقبة ما أسلفوا من كفر ومعصية وتكذيب. وهو مشهد يعرض في قوة وحيوية كأنه حاضر لحظة قراءة القرآن. وهو يعرض ردا على حب الناس للعاجلة ، وإهمالهم للآخرة. وفي الآخرة يكون هذا الذي يكون : «كَلَّا! بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ!» ..
وفي ثنايا السورة وحقائقها تلك ومشاهدها تعترض أربع آيات تحتوي توجيها خاصا للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعليما له في شأن تلقي هذا القرآن. ويبدو أن هذا التعليم جاء بمناسبة حاضرة في السورة ذاتها. إذ كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخاف أن ينسى شيئا مما يوحى إليه ، فكان حرصه على التحرز من النسيان يدفعه إلى استذكار الوحي فقرة فقرة في أثناء تلقيه وتحريك لسانه به ليستوثق من حفظه. فجاءه هذا التعليم :
«لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ ، فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ»..
جاءه هذا التعليم ليطمئنه إلى أن أمر هذا الوحي ، وحفظ هذا القرآن ، وجمعه ، وبيان مقاصده .. كل أولئك موكول إلى صاحبه. ودوره هو ، هو التلقي والبلاغ. فليطمئن بالا ، وليتلق الوحي كاملا ، فيجده في صدره منقوشا ثابتا .. وهكذا كان .. فأما هذا التعليم فقد ثبت في موضعه حيث نزل .. أليس من قول اللّه؟ وقول اللّه ثابت في أي غرض كان؟ ولأي أمر أراد؟ وهذه كلمة من كلماته تثبت في صلب الكتاب شأنها شأن بقية الكتاب .. ودلالة إثبات هذه الآيات في موضعها هذا من السورة دلالة عميقة موحية على حقيقة لطيفة في شأن كل كلمات اللّه في أي اتجاه .. وفي شأن هذا القرآن وتضمنه لكل كلمات اللّه التي أوحى بها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يخرم منها حرف ، ولم تند منها عبارة. فهو الحق والصدق والتحرج والوقار! وهكذا يشعر القلب - وهو يواجه هذه السورة - أنه محاصر لا يهرب. مأخوذ بعمله لا يفلت. لا ملجأ له من اللّه ولا عاصم. مقدرة نشأته وخطواته بعلم اللّه وتدبيره ، في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سواء ، بينما هو يلهو ويلعب ويغتر ويتبطر : «فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى» ..
وفي مواجهة تلك الحشود من الحقائق والمؤثرات واللمسات والإيحاءات يسمع التهديد الملفوف : «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى . ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى » فيكون له وقعه ومعناه! وهكذا تعالج السورة عناد هذا القلب وإعراضه(1/1385)
وإصراره ولهوه. وتشعره بالجد الصارم الحازم في هذا الشأن ، شأن القيامة ، وشأن النفس ، وشأن الحياة المقدرة بحساب دقيق. ثم شأن هذا القرآن الذي لا يخرم منه حرف ، لأنه من كلام العظيم الجليل ، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكلماته ، وتثبت في سجل الكون الثابت ، وفي صلب هذا الكتاب الكريم.
وقد عرضنا نحن لحقائق السورة ومشاهدها فرادى لمجرد البيان. وهي في نسق السورة شيء آخر. إذ أن تتابعها في السياق ، والمزاوجة بينها هنا وهناك ، ولمسة القلب بجانب من الحقيقة مرة ، ثم العودة إليه بالجانب الآخر بعد فترة .. كل ذلك من خصائص الأسلوب القرآني في مخاطبة القلب البشري مما لا يبلغ إليه أسلوب آخر ، ولا طريقة أخرى .. (1)
===============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3766)(1/1386)
(76) سورة الإنسان
سميت في زمن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سورة هل أتى على الإنسان". روى البخاري في باب القراءة في الفجر من صحيحه عن أبي هريرة قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر ب {ألم} السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ}" [الانسان: 1].
واقتصر صاحب "الإتقان" على تسمية هذه السورة "سورة الإنسان" عند ذكر السور المكية والمدنية، ولم يذكرها في عداد السور التي لها أكثر من اسم.
وتسمى "سورة الدهر" في كثير من المصاحف.
وقال الخفاجي تسمى "سورة الأمشاج"، لوقوع لفظ الأمشاج فيها ولم يقع في غيرها من القرآن.
وذكر الطبرسي: أنها تسمى"سورة الأبرار"، لأن فيها ذكر نعيم الأبرار وذكرهم بهذا اللفظ ولم أره لتغييره.
فهذه خمسة أسماء لهذه السورة.
واختلف فيها فقيل هي مكية، وقيل مدنية، وقيل بعضها مكي وبعضها مدني، فعن أبن عباس وابن أبي طلحة وقتادة ومقاتل: هي مكية، وهو قول ابن مسعود لأنه كذلك رتبها في مصحفه فيما رواه أبو داود كما سيأتي قريبا.وعلى هذا اقتصر معظم التفاسير ونسبه الخفاجي إلى الجمهور.
وروى مجاهد عن أبن عباس: أنها مدنية، وهو قول جابر بن زيد وحكي عن قتادة أيضا. وقال الحسن وعكرمة والكلبي: هي مدنية إلا قوله: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان:24] إلى آخرها، أو قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ} [الانسان:24]الخ. ولم يذكر هؤلاء أن تلك الآيات من أية سورة كانت تعد في مكة إلى أن نزلت سورة الإنسان بالمدينة وهذا غريب. ولم يعينوا أنه في أية سورة كان مقروءا.
والأصح أنها مكية فإن أسلوبها ومعانيها جارية على سنن السور المكية ولا أحسب الباعث على عدها في المدني إلا ما روي من أن آية {يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الانسان: 8] نزلت في إطعام علي أبن أبي طالب بالمدينة مسكينا ليلة،ويتيما أخرى، وأسيرا أخرى، ولم يكن للمسلمين أسرى بمكة حملا للفظ أسير على معنى أسير الحرب، أو ما روي انه نزل في أبي الدحداح وهو أنصاري، وكثيرا ما حملوا نزول الآية على مثل تنطبق عليها معانيها فعبروا عنها بأسباب نزول كما بيناه في المقدمة الخامسة.(1/1387)
وعدها جابر بن زيد الثامنة والتسعين في ترتيب نزول السور. وقال: نزلت بعد سورة الرحمان وقبل سورة الطلاق. وهذا جري على ما رآه أنها مدنية.
فإذا كان الأصح أنها مكية أخذا بترتيب مصحف ابن مسعود فتكون الثلاثين أو الحادية والثلاثين وجديرة بأن تعد سورة القيامة أو نحو ذلك حسبما ورد في ترتيب أبن مسعود.
روى أبو داود في باب تحزيب القرآن من سننه عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ النظائر السورتين وعد سورا فقال: و {هَلْ أَتَى} و {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} في ركعة" . قال أبو داود: هذا تأليف ابن مسعود"أي تأليف مصحفه": واتفق العادون على عد آيها إحدى وثلاثين.
أغراضها
التذكير بأن كل إنسان كون بعد أن لم يكن فكيف يقضي باستحالة إعادة تكوينه بعد عدمه.
وإثبات أن الإنسان محقوق بإفراد الله بالعبادة شكرا لخالقه ومحذر من الإشراك به.
وإثبات الجزاء على الحلين مع شيء من وصف ذلك الجزاء بحالتيه والإطناب في وصف جزاء الشاكرين.
وأدمج في خلال ذلك الامتنان على الناس بنعمة الإيجاد ونعمة الإدراك والامتنان بما أعطيه الإنسان من التمييز بين الخير والشر وإرشاده إلى الخير بواسطة الرسل فمن الناس من شكر نعمة الله ومنهم من كفرها فعبد غيره.
وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على القيام بأعباء الرسالة والصبر على ما يلحقه في ذلك، والتحذير من أن يلين للكافرين، والإشارة إلى أن الاصطفاء للرسالة نعمة عظيمة يستحق الله الشكر عليها بالاضطلاع بها اصطفاه له وبإقبال على عبادته.
والأمر بالإقبال على ذكر الله والصلاة في أوقات من النهار. (1)
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة « القيامة » معرضا للأدلة ، الدالة على قدرة اللّه سبحانه ، وعلى إمكان البعث ، ووقوع القيامة ..و« الإنسان » هو موضوع « القيامة » وهو الذي يساق إلى موقف الحساب والجزاء فيها ..فكان جعله عنوانا لسورة خاصة به ، ثم كان جعله فى مواجهة يوم القيامة ، بعد عرضها عليه ـ كان ذلك مما يقيم له مرآة ينظر فيها إلى نفسه ، وإلى مكانه فى هذا الوجود ، وإلى مسيرته فى الحياة ، وكيف بدأ ، وإلى أين ينتهى. (2)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 343)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1349)(1/1388)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الإنسان » يرى بعضهم أنها من السور المكية الخالصة ، ويرى آخرون أنها من السور المدنية.
قال الآلوسى : هي مكية عند الجمهور ، وقال مجاهد وقتادة : مدنية كلها ، وقال الحسن : مدنية إلا آية واحدة ، وهي قوله - تعالى - : وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً « 1 ».
2 - والذي تطمئن إليه النفس أن هذه السورة ، من السور المكية الخالصة ، فإن أسلوبها وموضوعها ومقاصدها .. كل ذلك يشعر بأنها من السور المكية ، إذ من خصائص السور المكية ، كثرة حديثها عن حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالصبر ، وإثبات أن هذا القرآن من عند اللّه - تعالى - والتحريض على مداومة ذكر اللّه - تعالى - وطاعته .. وكل هذه المعاني نراها واضحة في هذه السورة.
ولقد رأينا الإمام ابن كثير - وهو من العلماء المحققين - عند تفسيره لهذه السورة ، قال بأنها مكية ، دون أن يذكر في ذلك خلافا ، مما يوحى بأنه لا يعتد بقول من قال بأنها مدنية.
3 - وتسمى هذه السورة - أيضا - بسورة « هل أتى على الإنسان » ، فقد روى البخاري - في باب القراءة في الفجر - عن أبى هريرة ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر سورة « ألم السجدة ». وسورة. « هل أتى على الإنسان ».
وتسمى - أيضا - بسورة : الدهر ، والأبرار ، والأمشاج ، لورود هذه الألفاظ فيها.
وعدد آياتها : إحدى وثلاثون آية بلا خلاف.
4 - ومن مقاصدها البارزة : تذكير الإنسان بنعم اللّه - تعالى - عليه ، حيث خلقه - سبحانه - من نطفة أمشاج ، وجعله سميعا بصيرا ، وهداه السبيل.
وحيث أعد له ما أعد من النعيم الدائم العظيم .. متى أطاعه واتقاه.
كما أن من مقاصدها : إنذار الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم. وإثبات أن هذا القرآن من عند اللّه - تعالى - وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمته بالصبر والإكثار من ذكر اللّه - تعالى - بكرة وأصيلا.
وبيان أن حكمته - تعالى - قد اقتضت أنه : يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. (1)
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 211)(1/1389)
في السورة تقرير وتذكير بخلق الإنسان بعد العدم ومنحه العقل والاختيار لاختباره. وإنذار للكفار وتنويه بالمؤمنين وبيان مصير كلّ منهم في الآخرة مع وصف رائع لمصير المؤمنين. وتلقين بتقوى اللّه والرأفة بالبؤساء. وتثبيت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتهوين لموقف الكفار منهم ونعي عليهم لمحبتهم الدنيا وإهمالهم الأخرى.
وهذه السورة من المختلف في مكيتها ومدنيتها أيضا غير أن الطابع المكي قوي البروز عليها. ومعظم المفسّرين يروون مكيتها «1». ولقد ذكر في عدد من تراتيب النزول المرويّة أنها نزلت بعد سورة الرحمن «2». ولعلّ في ذلك قرينة على مكيتها أيضا وفي بعض آياتها قرائن بل دلائل قوية على مكيتها كذلك. وللسورة اسم آخر هو الدهر اقتباسا من كلمة الدهر التي جاءت في آياتها الأولى. (1)
سورة الإنسان ، أو : الدّهر مدنيّة وهي إحدى وثلاثون آية.
تسميتها : سميت سورة الإنسان لافتتاحها بالتنويه بخلق الإنسان وإيجاده ، بعد أن لم يكن شيئا موجودا ، ثم صار خليفة في الأرض ، وخلق له جميع ما في الأرض من خيرات ومعادن وكنوز.
مناسبتها لما قبلها :
تتعلق السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة :
1 - ذكر اللّه تعالى في آخر السورة السابقة مبدأ خلق الإنسان من نطفة ، ثم جعل منه الصنفين : الرجل والمرأة ، ثم ذكر في مطلع هذه السورة خلق آدم أبي البشر ، وجعله سميعا بصيرا ، ثم هدايته السبيل ، وما ترتب عليه من انقسام البشر إلى نوعين : شاكر وكفور.
2 - أجمل في السورة المتقدمة وصف حال الجنة والنار ، ثم فصل أوصافهما في هذه السورة ، وأطنب في وصف الجنة.
3 - ذكر سبحانه في السورة السابقة الأهوال التي يلقاها الفجار في يوم القيامة ، وذكر في هذه السورة ما يلقاه الأبرار من النعيم.
ما اشتملت عليه السورة :
بالرغم من كون هذه السورة مدنية في قول الجمهور ، فإنها عنيت بالحديث عن أحوال الآخرة ، ولا سيما تنعم الأبرار في دار الخلد والنعيم ، أما من قال بأنها مكية فرأيه متفق مع موضوعها.
وقد افتتحت بالكلام عن مبدأ خلق الإنسان ، وتزويده بطاقات السمع والبصر ، وهدايته السبيل ، ثم انقسامه إلى فئتين : شاكر وكفور ، والإخبار عن جزاء الشاكرين والجاحدين ووصف الجنة والنار : هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ...[الآيات : 1 - 6].
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (6 / 105)(1/1390)
ثم أشادت بأعمال الشاكرين من الوفاء بالنذر ، وإطعام الطعام لوجه اللّه ، والخوف من عذاب اللّه : إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ .. [الآيات : 7 - 11].
وأردفت ذلك بوصف ما لهم عند ربهم من الجنان والثواب والفضل والإكرام :وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [الآيات : 12 - 22].
ثم أبانت مصدر تنزيل القرآن ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبر الجميل ، وذكر اللّه ، وقيام الليل : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا .. [الآيات : 23 - 26].
ونوّهت بشيء تضمنته السورة السابقة وهو حب الدنيا العاجلة وترك الآخرة ، وتهديدهم بتبديل أمثالهم إن داموا على الكفر والعناد وإمعان الأذى : إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ .. [الآيات : 27 - 28].
وختمت السورة الكريمة بإعلان أن القرآن تذكرة وعظة لجميع البشر وندبهم إلى الإيمان والعمل بما جاء فيه : إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ .. [الآيات : 29 - 31]. (1)
وهي مكية ، وحكى بعضهم الإجماع على أنها مدنية ، وعدد آياتها إحدى وثلاثون وتشمل الكلام على البعث ، وعلى خلق الإنسان وهدايته للخير والشر ، ثم بيان عاقبة كل ، مع ذكر أعمال الأبرار وجزائهم. (2)
وتسمى سورة الدهر والأبرار والأمشاج وهل أتى وهي مكية عند الجمهور على ما في البحر وقال مجاهد وقتادة مدنية كلها وقال الحسن وعكرمة والكلبي مدنية إلا آية واحدة فمكية وهي ولا تطع منهم آثما أو كفورا وقيل مدنية إلّا من قوله تعالى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الإنسان : 24] إلى آخرها فإنه مكي وعن ابن عادل حكاية مدنيتها على الإطلاق عن الجمهور وعليه الشيعة وآيها إحدى وثلاثون آية بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها في غاية الوضوح. (3)
* سورة الدهر من السور المدنية ، وهي تعالج أمورا تتعلق بالآخرة ، وبوجه خاص تتحدث عن نعيم المتقين الأبرار ، في دار الخلد والإقامة في جنات النعيم ، ويكاد يكون جو السورة هو جو السور المكية لايحاءاتها وأسلوبها ومواضيعها المتنوعة .
* ابتدأت السورة الكريمة ببيان قدرة الله في خلق الإنسان في أطوار ، وتهيئته ليقوم بما كلف به من أنواع العبادة ، حيث جعل الله تعالى له السمع والبصر وسائر الحواس [ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ] الآيات .
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 269)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 792)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 166)(1/1391)
* ثم تحدثت عن النعيم الذي أعده الله في الآخرة لأهل الجنة [ إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ] الآيات .
* ثم ذكرت أوصاف هؤلاء السعداء بشيء من الاسهاب ، فوصفتهم بالوفاء بالنذر ، وإطعام الفقراء ابتغاء مرضاة الله ، والخوف من عذاب الله ، وذكرت أن الله تعالى قد آمنهم من ذلك اليوم العبوس ، الذى تكلح فيه الوجوه [ يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ] الآيات .
* وأشادت بعد ذكر أوصافهم بما لهم عند الله من الأجر والكرامة في دار الإقامة ، وبما حباهم الله من الفضل والنعيم يوم الدين [ وجزاهم بما صبروا جنة وحربرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ] الآيات .
* وتتابعت السورة في سرد نعيم أهل الجنة في مأكلهم ، ومشربهم ، وملبسهم ، وخدمهم الذين يطوفون عليهم صباح مساء [ ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قوارير من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة ببيان أن هذا القرآن تذكرة لمن كان له قلب يعي ، أو فكر ثاقب يستضيء بنوره [ إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما ] . (1)
مقصودها ترهيب الإنسان بما دل عليه آخر القيامة من العرض على الملك الديان بتعذيب العاصي في النيران وتنعيم المطيع في الجنان بعد جمع الخلائق كلها الإنس والجان والملائكة وغير ذلك من الحيوان ، ويكون لهم مواقف طوال وأهوال وزلازل ، لكل منها أعظم شأن ، وأدل ما فيها على ذلك الإنسان بتأمل آيته وتدبر مبدئه وغايته ، وكذا تسميتها بهل أتى وبالدهر وبالأمشاج من غير ميل ولا اعوجاج (2)
في بعض الروايات أن هذه السورة مدنية ، ولكنها مكية ومكيتها ظاهرة جدا ، في موضوعها وفي سياقها ، وفي سماتها كلها. لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها. بل نحن نلمح من سياقها أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي .. تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة ، وصور العذاب الغليظ ، كما يشي به توجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبر لحكم ربه ، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور مما كان يتنزل عند
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 437)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 259)(1/1392)
اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة ، مع إمهال المشركين وتثبيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الحق الذي نزل عليه ، وعدم الميل إلى ما يدهنون به .. كما جاء في سورة القلم ، وفي سورة المزمل ، وفي سورة المدثر ، مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة .. واحتمال أن هذه السورة مدنية - في نظرنا - هو احتمال ضعيف جدا ، يمكن عدم اعتباره! والسورة في مجموعها هتاف رخي ندي إلى الطاعة ، والالتجاء إلى اللّه ، وابتغاء رضاه ، وتذكر نعمته ، والإحساس بفضله ، واتقاء عذابه ، واليقظة لابتلائه ، وإدراك حكمته في الخلق والإنعام والابتلاء والإملاء ..
وهي تبدأ بلمسة رفيقة للقلب البشري : أين كان قبل أن يكون؟ من الذي أوجده؟ ومن الذي جعله شيئا مذكورا في هذا الوجود؟ بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود : «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً؟» ..
تتلوها لمسة أخرى عن حقيقة أصله ونشأته ، وحكمة اللّه في خلقه ، وتزويده بطاقاته ومداركه : «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» ..
ولمسة ثالثة عن هدايته إلى الطريق ، وعونه على الهدى ، وتركه بعد ذلك لمصيره الذي يختاره : «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» ..
وبعد هذه اللمسات الثلاث الموحية ، وما تثيره في القلب من تفكير عميق ، ونظرة إلى الوراء. ثم نظرة إلى الأمام ، ثم التحرج والتدبر عند اختيار الطريق .. بعد هذه اللمسات الثلاث تأخذ السورة في الهتاف للإنسان وهو على مفرق الطريق لتحذيره من طريق النار .. وترغيبه في طريق الجنة ، بكل صور الترغيب ، وبكل هواتف الراحة والمتاع والنعيم والتكريم : «إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً. إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً. عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» ..
وقبل أن تمضي في عرض صور المتاع ترسم سمات هؤلاء الأبرار في عبارات كلها انعطاف ورقة وجمال وخشوع يناسب ذلك النعيم الهانئ الرغيد : «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ، وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ، وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ - عَلى حُبِّهِ - مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً. إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً» ..
ثم تعرض جزاء هؤلاء القائمين بالعزائم والتكاليف ، الخائفين من اليوم العبوس القمطرير ، الخيرين المطعمين على حاجتهم إلى الطعام ، يبتغون وجه اللّه وحده ، لا يريدون شكورا من أحد ، إنما يتقون اليوم العبوس القمطرير! تعرض جزاء هؤلاء الخائفين الوجلين المطعمين المؤثرين. فإذا هو الأمن والرخاء والنعيم اللين الرغيد : «فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ ، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً. مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً. وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها(1/1393)
تَذْلِيلًا. وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا ، قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً. وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا ، عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً. وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً. عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ، وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً. إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً».
فإذا انتهى معرض النعيم اللين الرغيد المطمئن الهانئ الودود ، اتجه الخطاب إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لتثبيته على الدعوة - في وجه الإعراض والكفر والتكذيب - وتوجيهه إلى الصبر وانتظار حكم اللّه في الأمر والاتصال بربه والاستمداد منه كلما طال الطريق : «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» ..
ثم تذكيرهم باليوم الثقيل الذي لا يحسبون حسابه والذي يخافه الأبرار ويتقونه ، والتلويح لهم بهوان أمرهم على اللّه ، الذي خلقهم ومنحهم ما هم فيه من القوة ، وهو قادر على الذهاب بهم ، والإتيان بقوم آخرين لولا تفضله عليهم بالبقاء ، لتمضي مشيئة الابتلاء. ويلوح لهم في الختام بعاقبة هذا الابتلاء : «إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا. نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا. إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا. وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» ..
تبدأ السورة بالتذكير بنشأة الإنسان وتقدير اللّه في هذه النشأة ، على أساس الابتلاء ، وتختم ببيان عاقبة الابتلاء ، كما اقتضت المشيئة منذ الابتداء. فتوحي بذلك البدء وهذا الختام بما وراء الحياة كلها من تدبير وتقدير ، لا ينبغي معه أن يمضي الإنسان في استهتاره. غير واع ولا مدرك ، وهو مخلوق ليبتلى ، وموهوب نعمة الإدراك لينجح في الابتلاء.
وبين المطلع والختام ترد أطول صورة قرآنية لمشاهد النعيم. أو من أطولها إذا اعتبرنا ما جاء في سورة الواقعة من صور النعيم ، وهو نعيم حسي في جملته ، ومعه القبول والتكريم ، وهو بتفصيله هذا وحسيته يوحي بمكيته ، حيث كان القوم قريبي عهد بالجاهلية ، شديدي التعلق بمتاع الحواس ، يبهرهم هذا اللون ويعجبهم ، ويثير تطلعهم ورغبتهم. وما يزال هذا اللون من المتاع يثير تطلع صنوف من الناس ، ويصلح جزاء لهم يرضي أعمق رغباتهم. واللّه أعلم بخلقه ما يصلح لهم وما يصلح قلوبهم ، وما يليق بهم كذلك وفق تكوينهم وشعورهم.(1/1394)
وهناك ما هو أعلى منه وأرق كالذي جاء في سورة القيامة : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» .. واللّه أعلم بما يصلح للعباد في كل حال. (1)
اشتملت هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد :
(1) خلق الإنسان.
(2) جزاء الشاكرين والجاحدين.
(3) وصف الجنة والنار.
(4) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبر وذكر اللّه والتهجد بالليل. (2)
=================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3777)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 177)(1/1395)
(77) سورة المرسلات
لم ترد لها تسمية صريحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يضاف لفظ سورة إلى جملتها الأولى.
وسميت في عهد الصحابة سورة "والمرسلات عرفا" ففي حديث عبد الله بن مسعود في "الصحيحين" قال: "بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة والمرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية" الحديث.
وفي "الصحيح" عن ابن عباس قال: قرأت سورة والمرسلات عرفا فسمعتني أم الفضل امرأة العباس فبكت وقالت: بني أذكرتني بقرائتك هذه السورة أنها لآخر ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في صلاة المغرب.
وسميت "سورة المرسلات"، روى أبو داود عن ابن مسعود "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ النظائر السورتين في ركعة الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة" ثم قال وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة فجعل هذه الألفاظ بدلا من قوله السورتين وسماها المرسلات لأن الواو التي في كلامه واو العطف مثل أخواتها في كلامه.
واشتهرت في المصاحف باسم "المرسلات" وكذلك في التفاسير وفي " صحيح البخاري" .
وذكر الخفاجي وسعد الله الشهير بسعدي في "حاشيتيهما" على البيضاوي أنها تسمى "سورة العرف" ولم يسنداه، ولم يذكرها صاحب "الإتقان" في عداد السور ذات أكثر من اسم.
وفي "الإتقان" عن "كتاب ابن الضريس" عن ابن عباس في عد السور التي نزلت بمكة فذكرها باسم المرسلات . وفيه عن "دلائل النبوة" للبيهقي عن عكرمة والحسن في عد السور التي نزلت بمكة فذكرها باسم المرسلات.
وهي مكية عند جمهور المفسرين من السلف، وذلك ظاهر حديث ابن مسعود المذكور آنفا، وهو يقتضي أنها من أوائل سور القرآن نزولا لأنها نزلت والنبي - صلى الله عليه وسلم - مختف في غار بمنى مع بعض أصحابه.
وعن ابن عباس وقتادة: أن آية { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] مدنية نزلت في المنافقين، ومحمل ذلك أنه تأويل ممن رواه عنه نظرا إلى أن الكفار الصرحاء لا يؤمرن بالصلاة، وليس في ذلك حجة لكون الآية مدنية فإن الضمير في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} [المرسلات:48] وارد على طريقة الضمائر قبله وكلها عائدة إلى الكفار وهم المشركون. ومعنى {قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} : كناية عن أن يقال لهم أسلموا. ونظيره قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] فهي في المشركين وقوله: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 4346].(1/1396)
وعن مقاتل نزلت {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} في شأن وفد ثقيف حين أسلموا بعد غزوة هوازن وأتوا المدينة فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: لا نجبي فإنها مسبة علينا. فقال لهم: "لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود " .
وهذا أيضا أضعف، وإذا صح ذلك فإنما أراد مقاتل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ عليهم الآية.
وهي السورة الثالثة والثلاثون في عداد ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد. وأتفق العادون على عد آيها خمسين.
أغراضها
اشتملت على الاستدلال على وقوع البعث عقب فناء الدنيا ووصف بعض أشراط ذلك.
والاستدلال على إمكان إعادة الخلق بما سبق من خلق الإنسان وخلق الأرض.
ووعد منكريه بعذاب الآخرة ووصف أهواله.
والتعريض بعذاب لهم في الدنيا كما استؤصلت أمم مكذبة من قبل. ومقابلة ذلك بجزاء الكرامة للمؤمنين.
وإعادة الدعوة إلى الإسلام والتصديق بالقرآن لظهور دلائله. (1)
مناسبتها لما قبلها
كان ختام سورة « الإنسان » السابقة على هذه السورة ، هوقوله تعالى : « يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً » وفى هذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين .. وهذا الوعد ، وذلك الوعيد إنما يتحققان يوم القيامة ، فكان لا بد من إبراز هذا اليوم ، والتأكيد على وقوعه ، وذلك مما يزيد فى إيمان المؤمنين ، ويرفع الحجب الكثيفة عن عيون كثير من الذين لا يؤمنون ..وهذا ما جاءت هذه السورة « المرسلات » مقررة ، ومؤكدة له. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « المرسلات » هي السورة السابعة والسبعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فهي السورة الثالثة والثلاثون ، وقد كان نزولها بعد سورة « الهمزة » ، وقبل سورة « ق ».
وهي من السور المكية الخالصة ، وقيل إن آية : وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ مدنية ، وهذا القيل لا وزن له ، لأنه لا دليل عليه. وعدد آياتها : خمسون آية.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 386)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1388)(1/1397)
2 - وقد ذكروا في فضلها أحاديث منها : ما أخرجه الشيخان عن عبد اللّه بن مسعود قال : بينما نحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار بمنى ، إذ نزلت عليه : « والمرسلات » ، فإنه ليتلوها ، وإنى لأتلقاها من فيه ، وإن فاه لرطب بها ..
وعن ابن عباس - رضى اللّه عنهما - قال : إن أم الفضل - امرأة العباس - سمعته يقرأ « والمرسلات عرفا » ، فقالت : يا بنى - ذكرتني بقراءتك هذه السورة. إنها لآخر ما سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب « 1 ».
3 - وسورة المرسلات زاخرة بالحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن أحوال المكذبين في هذا اليوم ، وعن مظاهر قدرة اللّه - تعالى - ، وعن حسن عاقبة المتقين .. (1)
في السورة توكيد ليوم القيامة وهوله ، وإنذار بمصير الكفار الرهيب وتنويه بمصير المؤمنين فيه ، وأسلوبها ذو خصوصية فنية نثرية ، ومع ما في بعض فصولها من خطاب للمكذبين فإنها لا تحتوي موقفا شخصيا معينا ويصح أن تسلك في سلك السور ذات الطابع العام ، وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [48] مدنية ، وانسجام هذه الآية التام مع الآيات يسوغ الشك في صحة ذلك ، وترابط فصول السورة وتوازنها وخصوصية نظمها تسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. (2)
سورة المرسلات مكيّة ، وهي خمسون آية.
تسميتها : سميت سورة المرسلات تسمية لها باسم مطلعها الذي أقسم اللّه به وهو وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً أي أقسم برياح العذاب التي تهب متتابعة كعرف الفرس ، أو شعر الفرس.
مناسبتها لما قبلها :
وجه اتصالها بما قبلها من وجهين :
1 - أنه تعالى وعد المؤمنين الأبرار ، وأوعد الظالمين الفجار في آخر السورة المتقدمة بقوله : يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ثم أقسم في مطلع هذه السورة على تحقيق ما وعد به هنالك المؤمنين ، وأوعد به الظالمين ، ثم ذكر وقته وأشراطه بقوله : فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ.
2 - ذكر تعالى في سورة الإنسان نزرا من أحوال الكفار في الآخرة ، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها ، والأمر في هذه السورة على العكس : إطناب في وصف الكفار ، وإيجاز في وصف المؤمنين ، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين .
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 231)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 207)(1/1398)
ما اشتملت عليه السورة :
محور هذه السورة المكية الكلام عن البعث وأحوال الآخرة ، فهي كسائر السور المكية متعلقة بأمور العقيدة ، فذكر فيها القسم على وقوع البعث ، ثم بيان مقدماته ، ثم إيراد بعض دلائل القدرة والوحدانية ، وتلاها وصف بعض الأمور الغيبية وأحوال الكفار والمؤمنين في عالم الآخرة ولوم الكفار على بعض أعمالهم.
افتتحت بالقسم بالرياح والملائكة على وقوع يوم القيامة (أو يوم الفصل) وحدوث العذاب للكفار : وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً .. [الآيات 1 - 7] وبيان علامات ذلك العذاب ووقته : فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ .. [الآيات 8 - 15].
ثم أوردت بعض دلائل القدرة الإلهية على البعث وإحياء الناس بعد الموت ، وهو إهلاك بعض الأمم المتقدمة وخلق الناس ، وجعل الأرض كفاتا (جامعة ضامة لمن عليها) والجبال الشامخات للتثبيت. وتضمن ذلك وعيد الكافرين بعقوبة مماثلة ، وتوبيخ المكذبين على إنكار نعم اللّه عليهم في الأنفس ومخلوقات الأرض : وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ .. [الآيات 15 - 28].
ثم حددت مصير المجرمين ، ووصفت عذاب الكافرين وصفا تشيب له الولدان : انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [الآيات 29 - 40].
ثم وصفت نعيم المؤمنين المتقين ، وألوان التكريم والإحسان والإفضال في جنان الخلد : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [الآيات 41 - 45].
وختمت السورة بتقريع الكفار وتوبيخهم على بعض أعمالهم ، وأبانت سبب امتناعهم عن عبادة اللّه ، وهو طغيانهم وإجرامهم : كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [الآيات 46 - 50]. (1)
وهي مكية وعدد آياتها خمسون آية ، وتشمل الكلام على البعث بالقسم عليه ثم ببيان مقدماته ، ثم ذكر بعض مظاهر القدرة للّه في خلقه ، ثم ذكر حال الكفار يوم القيامة ، وذكر حال المؤمنين كذلك ، وقد ختمت بلوم الكفار على بعض أعمالهم. (2)
وتسمى سورة العرف وهي مكية فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال : بينما نحن مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - : «اقتلوها» فابتدرناها فسبقتنا ، فدخلت
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 300)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 801)(1/1399)
جحرها فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «وقيت شركم كما وقيتم شرها» . وعن ابن عباس وقتادة ومقاتل إن فيها آية مدنية وهي وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات : 48] وظاهر حديث ابن مسعود هذا عدم استثناء ذلك وأظهر منه ما أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال : كنا مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في غار فنزلت عليه والمرسلات ، فأخذتها من فيه وإن فاه لرطب بها فلا أدري بأيهما ختم فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات : 50] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وآيها خمسون آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما قال فيما قبل يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الإنسان : 31] إلخ افتتح هذه بالإقسام على ما يدل على تحقيقه وذكر وقته وأشراطه وقيل إنه سبحانه أقسم على تحقيق جميع ما تضمنته السورة قبل من وعيد الكافرين الفجار ووعد المؤمنين الأبرار (1)
* سورة المرسلات مكية ، وهي كسائر السور المكية تعالج أمور العقيدة ، وتبحث عن شؤون الآخرة ، ودلائل القدرة والوحدانية ، وسائر الأمور الغيبية .
* ابتدات السورة الكريمة بالقسم بأنواع الملائكة ، المكلفين بتدبير شؤون الكون ، على أن القيامة حق ، وأن العذاب والهلاك واقع على الكافرين [ والمرسلات عرفا ، فالعاصفات عصفا ، والناشرات نشرا ، فالفارقات فرقا ، فالملقيات ذكرا ، عذرا أو نذرا ، إنما توعدون لواقع ] الآيات .
* ثم تحدثت عن وقت ذلك العذاب الذي وعد به المجرمون [ فإذا النجوم طمست ، وإذا السماء فرجت ، وإذا الجبال نسف ، وإذا الرسل اقتت ، لأي يوم أجلت ، ليوم الفصل ، وما أدراك ما يوم الفصل ] .
* وتناولت السورة بعد ذلك دلائل قدرة الله الباهرة ، على إعادة الإنسان بعد الموت ، وإحيائه بعد الفناء [ ويل يومئذ للمكذبين ، ألم نهلك الأولين ، ثم نتبعهم الأخرين ، كذلك نفعل بالمجرمين ، ويل يومئذ للمكذبين ، ألم نخلقكم من ماء مهين ] الآيات .
* ثم تحدثت عن مآل المجرمين في الآخرة ، وما يلقون فيه من نكال وعقاب [ ويل يومئذ! للمكذبين ، انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ، انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ، لا ظليل! ولا يغني من اللهب ، إنها ترمى بشرر كالقصر ، كأنه جمالت صفر . . ] الآيات .
* وبعد الحديث عن المجرمين ، تحدثت السورة عن المؤمنين المتقين ، وذكرت ما أعده الله تعالى لهم من أنواع النعيم ووالإكرام [ إن المتقين في ظلال وعيون ، وفواكه مما يشتهون ، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ، إنا كذلك نجزي المحسنين ] الآيات .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 187)(1/1400)
* وختمت السورة الكريمة ببيان سبب امتناع الكفار ، عن عبادة الله الواحد القهار ، وهو الطغيان والإجرام [ ويل يومئذ للمكذبين ، كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ، ويل يومئذ! للمكذبين ، وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ، ويل يومئذ للمكذبين ، فبأي حديث بعده يؤمنون ] وإنه لوعيد وتهديد شديد ، ترتجف له القلوب ، وتفزع منه الألباب ! (1)
مقصودها الدلالة على آخر الإنسان من إثابة الشاكرين بالنعيم ، وإصابة الكافرين بعذاب الجحيم ، في يوم الفصل بعد جمع الأجساد وإحياء العباد بعد طي هذا الوجود وتغيير العالم المعهود بما له سبحانه من القدرة على إنبات النبات وإنشاء الأقوات وإنزال العلوم وإيساع الفهوم لأحياء الأرواح وإسعاد الأشباح بأسباب خفية وعلل مرئية وغير مرئية ، وتطوير الإنسان في أطوار الأسنان ، وإيداع الإيمان فيما يرضى من الأبدان ، وإيجاد الكفران في أهل الخيبة والخسران ، مع اشتراك الكل في أساليب هذا القرآن ، الذي عجز الإنس والجان ، عن الإتيان بمثل آية منه على كثرتهم وتطاول الزمان ، واسمها المرسلات وكذا العرف واضح الدلالة على ذلك لمن تدبر الأقسام ، وتذكر ما دلت عليه من معاني الكلام (2)
هذه السورة حادة الملامح ، عنيفة المشاهد ، شديدة الإيقاع ، كأنها سياط لاذعة من نار. وهي تقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة ، حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات ، تنفذ إليه كالسهام المسنونة!
وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة ، وحقائق الكون والنفس ، ومناظر الهول والعذاب ما تعرض.
وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار : «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ»! ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة. وهو لازمة الإيقاع فيها. وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة ، ومشاهدها العنيفة ، وإيقاعها الشديد.وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة «الرحمن» عقب عرض كل نعمة من نعم اللّه على العباد : «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟» .. كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة «القمر» عقب كل حلقة من حلقات العذاب : «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟» .. وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة ، وطعما مميزا .. حادا ..
وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة ، متعددة القوافي. كل مقطع بقافية. ويعود السياق أحيانا إلى بعض القوافي مرة بعد مرة. ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بلذعها الخاص ،
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 444)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 281)(1/1401)
وعنفها الخاص. واحدة إثر واحدة. وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر ، بنفس العنف وبنفس الشدة.
ومنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح أو الملائكة : «وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً. فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً. وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً. فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ، عُذْراً أَوْ نُذْراً» .. وهو افتتاح يلتئم مع جو السورة وظلها تمام الالتئام.وللقرآن في هذا الباب طريقة خاصة في اختيار اطار للمشاهد في بعض السور من لون هذه المشاهد وقوتها ..
وهذا نموذج منها ، كما اختار إطارا من الضحى والليل إذا سجى لمشاهد الرعاية والحنان والإيواء في «سورة الضحى» وإطارا من العاديات الضابحة الصاخبة المثيرة للغبار لمشاهد بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور في سورة «وَالْعادِياتِ» .. وغيرها كثير .
وكل مقطع من مقاطع السورة العشرة بعد هذا المطلع ، يمثل جولة أو رحلة في عالم ، تتحول السورة معه إلى مساحات عريضة من التأملات والمشاعر والخواطر والتأثرات والاستجابات .. أعرض بكثير جدا من مساحة العبارات والكلمات ، وكأنما هذه سهام تشير إلى عوالم شتى!
والجولة الأولى تقع في مشاهد يوم الفصل. وهي تصور الانقلابات الكونية الهائلة في السماء والأرض ، وهي الموعد الذي تنتهي إليه الرسل بحسابها مع البشر : «فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ. وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ. وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ. وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ. لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ؟ لِيَوْمِ الْفَصْلِ. وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ؟ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ!».
والجولة الثانية مع مصارع الغابرين ، وما تشير إليه من سنن اللّه في المكذبين : «أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ؟ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ؟ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ!» ..
والجولة الثالثة مع النشأة الأولى وما توحي به من تقدير وتدبير : «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ؟ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ؟ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ؟ فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ!» ..
والجولة الرابعة في الأرض التي تضم أبناءها إليها أحياء وأمواتا ، وقد جهزت لهم بالاستقرار والماء المحيي :
«أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً؟ أَحْياءً وَأَمْواتاً ، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً؟ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ!» ..
والجولة الخامسة مع المكذبين وما يلقونه يوم الفصل من عذاب وتأنيب : «انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ! لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ. إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ!».(1/1402)
والجولة السادسة والسابعة استطراد مع موقف المكذبين ، ومزيد من التأنيب والترذيل : «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ! هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ!» ..
والجولة الثامنة مع المتقين ، وما أعد لهم من نعيم : «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ!» ..
والجولة التاسعة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التأنيب : «كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ!» ..
والجولة العاشرة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التكذيب : «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ!».
والخاتمة بعد هذه الجولات والاستعراضات والوخزات والإيقاعات : «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟» ..
وهكذا يمضي القلب مع سياق السورة السريع ، وكأنه يلهث مع إيقاعها وصورها ومشاهدها. فأما الحقائق الموضوعية في السورة فقد تكرر ورودها في سور القرآن - والمكية منها بوجه خاص - ولكن الحقائق القرآنية تعرض من جوانب متعددة ، وفي أضواء متعددة ، وبطعوم ومذاقات متعددة ، وفق الحالات النفسية التي تواجهها ، ووفق مداخل القلوب وأحوال النفوس التي يعلمها منزل هذا القرآن على رسوله ، فتبدو في كل حالة جديدة ، لأنها تستجيش في النفس استجابات جديدة.
وفي هذه السورة جدة في مشاهد جهنم. وجدة في مواجهة المكذبين بهذه المشاهد. كما أن هناك جدة في أسلوب العرض والخطاب كله. ومن ثم تبرز شخصية خاصة للسورة. حادة الملامح. لاذعة المذاق. لاهثة الإيقاع! (1)
ما اشتملت عليه السورة الكريمة من المقاصد
حوت هذه السورة المقاصد الآتية :
(1) الإخبار بأن يوم الفصل آت لا شك فيه ، وقد أكد ذلك بالقسم بملائكته الكرام.
(2) وعيد الكافرين بأنه سيستن بهم سنة الأولين من المكذبين.
(3) توبيخ المكذبين على نكران نعم اللّه عليهم فى الأنفس والآفاق.
(4) وصف عذاب الكافرين بما تشيب من هوله الولدان.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3789)(1/1403)
(5) وصف نعيم المتقين وما يلقونه من الكرامة فى جنات النعيم ، ويتخلل ذلك وصف خلق الإنسان والأرض والجبال ، وبيان عظمة الخالق وكمال قدرته. (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 191)(1/1404)
(78) سورة النبأ
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة "سورة النبإ" لوقوع كلمة "النبأ" في أولها.
وسميت في بعض المصاحف وفي "صحيح البخاري" وفي "تفسير ابن عطية" و"الكشاف" "سورة عم يتساءلون". وفي "تفسير القرطبي" سماها "سورة عم"، أي بدون زيادة "يتساءلون" تسمية لها بأول جملة فيها.
وتسمى "سورة التساؤل" لوقوع "يتساءلون" في أولها. وتسمى "سورة المعصرات" لقوله تعالى فيها {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:14]. فهذه خمسة أسماء. واقتصر "الإتقان" على أربعة أسماء: عم، والنبأ، والتساؤل، والمعصرات. وهي مكية بالاتفاق.
وعدت السورة الثمانين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة المعارج وقبل سورة النازعات.
وفيما روي عن ابن عباس والحسن ما يقتضي أن هذه السورة نزلت في أول البعث، روي عن ابن عباس كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}.
وعن الحسن لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1-2] يعني الخبر العظيم.
وعد آيها أصحاب العدد من أهل المدينة والشام والبصرة أربعين. وعدها أهل مكة وأهل الكوفة إحدى وأربعين آية.
أغراضها
اشتملت هذه السورة على وصف خوض المشركين في شأن القرآن وما جاء به مما يخالف معتقداتهم، ومع ذلك إثبات البعث، وسؤال بعضهم بعضا عن الرأي في وقوعه مستهزئين بالإخبار عن وقوعه.
وتهديدهم على استهزائهم.
وفيها إقامة الحجة على إمكان البعث بخلق المخلوقات التي هي من أعظم من خلق الإنسان بعد موته وبالخلق الأول للإنسان وأحواله.
ووصف الأهوال الحاصلة عند البعث من عذاب الطاغين مع مقابلة ذلك بوصف نعيم المؤمنين.(1/1405)
وصفة يوم الحشر إنذارا للذين جحدوا به والإيماء إلى أنهم يعاقبون بعذاب قريب قبل عذاب يوم البعث.
وأدمج في ذلك أن علم الله تعالى محيط بكل شيء ومن جملة الأشياء أعمال الناس.. (1)
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة « المرسلات » قبل هذه السورة ـ حديثا متصلا عن المشركين ، وكانت نهاية هذا الحديث معهم أن القى بهم فى جهنم ، وأخذ كل منهم مكانه فيها .. ثم أعيدوا إلى مكانهم من هذه الحياة الدنيا ، حيث يأكلون ويتمتعون ، كما تأكل الأنعام ، دون أن يكون لهم من تلك الرحلة المشئومة بهم إلى جهنم ، وما رأوا من أهوالها ـ ما يغير شيئا مما فى أنفسهم من ضلال وعناد ، فما زالوا على موقفهم من آيات اللّه التي تتلى عليهم ، وما زالوا فى تكذيب لرسول اللّه ، وفى عجب واستنكار ، حتى ليتساءل الوجود كله : إذن فبأى حديث بعد هذا الحديث يؤمن هؤلاء الضالون المكذبون ؟
وتجىء سورة « النبأ » بعد هذا التساؤل الاستنكارى لنمسك بهم وهم فى حديث عن هذا الحديث ، وفى بلبلة واضطراب من أمره ، وفى تنازع واختلاف فيه ، لا يجدون ـ حتى فى أودية الزور والبهتان ـ الكلمة التي يقولونها فيه ، والتهمة التي يلصقونها به .. إن أية قولة زور يزينها لهم الشيطان ليلقوا بها فى وجه القرآن ، لتسقط على رءوسهم ، كما يسقط الحصى برمى به فى وجه الشمس ، ليخفى ضوءها ، أو يعطل مسيرتها .. (2)
وفي التفسير الوسيط :
1 - سورة « النبأ » هي أول سورة في الجزء الأخير من القرآن الكريم ، وتسمى - أيضا - بسورة « عم يتساءلون » وبسورة « عم » ، وبسورة « المعصرات » ، وبسورة « التساؤل » ، فهذه خمسة أسماء لهذه السورة ، سميت بها لورود هذه الألفاظ فيها.
2 - وهي من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها أربعون آية في المصحف الكوفي والمكي ، وإحدى وأربعون في غيرهما. وكان نزولها بعد سورة « المعارج »،وقبل سورة « النازعات ».
3 - وهذه السورة من أهم مقاصدها : توبيخ المشركين على خوضهم في القرآن الكريم بدون علم ، وتهديدهم بسوء المصير إذا ما استمروا في طغيانهم ، وإقامة الأدلة المتنوعة على وحدانية اللّه - تعالى - وعلى مظاهر قدرته ، وبيان ما أعده - سبحانه - للكافرين من عقاب ، وما أعده للمتقين من ثواب ،
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 5)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1411)(1/1406)
وإنذار للناس بوجوب تقديم العمل الصالح من قبل أن يأتى يوم القيامة ، الذي لا ينفع فيه الندم على ما فات ..
4 - ويبلغ عدد سور هذا الجزء الأخير من القرآن الكريم سبعا وثلاثين سورة ، كلها مكية ، سوى سورتي « البينة والنصر » وكلها تمتاز بقصرها ، على تفاوت في هذا القصر ، ومعظمها مشتمل على إقامة الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - ، وعلى أن هذا القرآن من عند اللّه. وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، وعلى المقارنة بين حسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار ، وعلى التذكير المتكرر بأهوال يوم القيامة ، وبأنه آت لا ريب فيه ، وعلى التحذير من الغفلة عن الاستعداد له ، وعلى الإفاضة في بيان نعم اللّه - تعالى - على الناس ، وعلى بيان ما حل بالمكذبين السابقين من دمار ..
كل ذلك بأسلوب بديع معجز ، تخشع له القلوب ، وتتأثر به النفوس ، وتقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم .. (1)
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي المرسلات من وجوه ثلاثة :
1- تشابه السورتين في الكلام عن البعث وإثباته بالدليل ، وبيان قدرة اللّه عليه ، وتوبيخ الكفار المكذبين به ، ففي المرسلات : أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، وفي هذه قال : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً .. الآيات [6- 16].
2- اشتراك السورتين في وصف الجنة والنار ، ونعيم المتقين وعذاب الكافرين ، ووصف يوم القيامة وأهواله.
3- فصّلت هذه السورة ما أجمل في السورة المتقدمة ، فقال تعالى في المرسلات : لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [12- 14] وقال سبحانه في هذه السورة : إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [17] إلى آخر السورة.
وقال الخطيب : "مناسبتها لما قبلها كانت سورة « المرسلات » قبل هذه السورة ـ حديثا متصلا عن المشركين ، وكانت نهاية هذا الحديث معهم أن القى بهم فى جهنم ، وأخذ كل منهم مكانه فيها .. ثم أعيدوا إلى مكانهم من هذه الحياة الدنيا ، حيث يأكلون ويتمتعون ، كما تأكل الأنعام ، دون أن يكون لهم من تلك الرحلة المشئومة بهم إلى جهنم ، وما رأوا من أهوالها ـ ما يغير شيئا مما فى أنفسهم من ضلال وعناد ، فما زالوا على موقفهم من آيات اللّه التي تتلى عليهم ، وما زالوا فى تكذيب لرسول اللّه ،
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم- موافق للمطبوع - (15 / 245)(1/1407)
وفى عجب واستنكار ، حتى ليتساءل الوجود كله : إذن فبأى حديث بعد هذا الحديث يؤمن هؤلاء الضالون المكذبون؟
وتجىء سورة « النبأ » بعد هذا التساؤل الاستنكارى لنمسك بهم وهم فى حديث عن هذا الحديث ، وفى بلبلة واضطراب من أمره ، وفى تنازع واختلاف فيه ، لا يجدون ـ حتى فى أودية الزور والبهتان ـ الكلمة التي يقولونها فيه ، والتهمة التي يلصقونها به .. إن أية قولة زور يزينها لهم الشيطان ليلقوا بها فى وجه القرآن ، لتسقط على رءوسهم ، كما يسقط الحصى برمى به فى وجه الشمس ، ليخفى ضوءها ، أو يعطل مسيرتها .." (1)
ما استملت عليه :
سورة عم مكية وتسمى [ سورة النبأ ] لأن فيها الخبر الهام عن القيامة والبعث والنشور ، ومحور السورة يدور حول إثبات عقيدة البعث " التى طالما انكرها المشركون ، وكذبوا بوقوعها ، وزعموا أن لا بعث ، ولا جزاء ولا حساب !! .
* ابتدات السورة الكريمة بالإخبار عن موضوع القيامة ، والبعث والجزاء ، هذا الموضوع الذي شغل أذهان الكثيرين من كفار مكة ، حتى صاروا فيه ما بين مصدق ومكذب [ عم يتساءلون ، عن النبأ العظيم . . ] الآيات .
* ثم أقامت الدلائل والبراهين على قدرة رب العالمين ، فان الذي يقدر على خلق العجائب والبدائع ، لا يعجزه إعادة خلق الإنسان بعد فنائه [ الم نجعل الأرض مهادا ، والجبال اوتادا ، وخلقناكم أزواجا ، وجعلنا نومكم سباتا ] الايات .
* ثم اعقبت ذلك بذكر البعث ، وحددت وقته وميعاده ، وهو يوم الفصل بين العباد ، حيث يجمع الله الأولين والاخرين للحساب [ إن يوم الفصل كان ميقاتا ، يوم ينفخ في الصور فتأتون افواجا . . ] الايات .
* ثم تحدثت عن جهنم التي اعدها الله للكافرين ، وما فيها من الوان العذاب المهين [ ان جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها احقابا ] الايات .
* وبعد الحديث عن الكافرين ، تحدثت عن المتقين ، وما اعد الله تعالى لهم من ضروب النعيم ، على طريقة القران في الجمع بين (الترهيب والترغيب ) [ إن للمتقين مفازا ، حدائق وأعنابا ، وكواعب أترابا ، وكأسا دهاقا ] الايات .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن - (2 / 415)(1/1408)
* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن هول يوم القيامة ، حيث يتمنى الكافر أن يكون ترابا فلا يحشر ولا يحاسب [ إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ] . (1) .
في السورة استنكار لما يبدو من الكفار من استعظام خبر البعث والجزاء الأخرويين وتوكيد بوقوعهما وتدليل على قدرة اللّه عليهما بمشاهد كون اللّه وعظمته ونواميسه. وإنذار بأهوال القيامة ومشاهدها ووصف قوي لمصائر الكفار والمؤمنين فيها.
وآياتها منسجمة متوازنة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.. (2)
سورة النّبأ ، أو : عمّ مكيّة ، وهي أربعون آية.
تسميتها : تسمى سورة عم وسورة النبأ لافتتاحها بقول اللّه تبارك وتعالى :
عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ وهو خبر القيامة والبعث الذي يهتم بشأنه ، ويسأل الناس عن وقت حدوثه.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي المرسلات من وجوه ثلاثة :
1 - تشابه السورتين في الكلام عن البعث وإثباته بالدليل ، وبيان قدرة اللّه عليه ، وتوبيخ الكفار المكذبين به ، ففي المرسلات : أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً وفي هذه قال : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً .. الآيات [6 - 16].
2 - اشتراك السورتين في وصف الجنة والنار ، ونعيم المتقين وعذاب الكافرين ، ووصف يوم القيامة وأهواله.
3 - فصّلت هذه السورة ما أجمل في السورة المتقدمة ، فقال تعالى في المرسلات : لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [12 - 14] وقال سبحانه في هذه السورة : إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [17] إلى آخر السورة.
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 450)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 404)(1/1409)
إن محور السور إثبات البعث بالأدلة المختلفة ، لذا ابتدأت السورة بوصف تساؤل المشركين عنه ، والإخبار عن يوم القيامة ، وما يتبعه من البعث والنشور والجزاء ، وأعقبته بتهديد المشركين على إنكارهم إياه : عَمَّ يَتَساءَلُونَ ..
[1 - 5].
ثم أقامت الأدلة والبراهين على إمكان البعث ، بتعداد مظاهر قدرة اللّه على الخلق والإبداع وإيجاد مختلف عجائب الكون ، مما يدل على إمكان إعادة الناس بعد الموت : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً .. [6 - 16].
ثم حددت السورة ميقات البعث وميعاده ، وهو يوم الفصل بين الخلائق الذي يجمع فيه الأولون والآخرون : إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ..[17 - 20].
ثم وصفت ألوان عذاب الكافرين ، وأنواع نعيم المتقين ، بطريق المقابلة والموازنة ، والجمع بين الترغيب والترهيب : إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً .. [21 - 38].
وختمت السورة بالإخبار بأن هذا اليوم حق لا ريب فيه ، وبإنذار الكفار بالعذاب الأليم القريب الذي يتمنون من شدته أن يعود ترابا.
والسورة كلها يشيع فيها جو التهويل والتخويف ، والتهديد والإنذار ، حتى لكأن التالي لها يكاد يلمس الصور الرهيبة لأحداث القيامة ، ويتملكه الذعر والخوف من شدائدها وأحوالها. (1)
مقصودها الدلالة على أن يوم القيامة - الذي كانوا مجمعين على نفيه , وصاروا بعد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلاف فيه مع المؤمنين - ثابت ثباتاً لا يحتمل شكاً ولا خلافاً بوجه , لأن خالق الخلق مع أنه حكيم قادر على ما يريد دبرهم أحسن تدبير , بنى لهم مسكناً وأتقنه , وجعلهم على وجه يبقى به نوعهم من أنفسهم بحيث لا يحتاجون إلى أمر خارج يرونه , فكان ذلك أشد لإلفتهم وأعظم لأنس بعضهم ببعض , وجعل سقفهم وفراشهم كافلين لمنافعهم , والحكيم لا يترك عبيده - وهو تام القدرة كامل السلطان - يمرحون يبغي بعضهم على بعض ويأكلون خيره ويعبدون غيره بلا حساب , فكيف إذا كان حاكماً فكيف إذا كان أحكم الحاكمين , هذا ما لا يجوز في عقل ولا خطر ببال أصلاً , فالعلم واقع به قطعاً , وكل من اسميها واضح في ذلك بتأمل آيته ومبدأ ذكره وغايته {بسم الله} الحكيم العليم الذي له جميع صفات الكمال {الرحمن} الذي ساوى بين عباده في أصول النعم الظاهرة : الإيجاد والجاه والمال , وبيان الطريق الأقوام بالعقل الهادي والإنزال والإرسال {الرحيم *} الذي خص من شاء بإتمام تلك النعم فوفقهم لمحاسن الأعمال لما أخبر في المرسلات بتكذيبهم بيوم الفصل وحكم على أن لهم بذلك الويل المضاعف
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 5) و تفسير المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 3)(1/1410)
المكرر , وختمها بأنهم إن كفروا بهذا القرآن لم يؤمنوا بعده بشيء , افتتح هذه بأن ما خالفوا فيه وكذبوا الرسول في أمره لا يقبل النزاع لما ظهر من بيان القرآن لحكمة الرحمن التي يختلف فيها اثنان مع الإعجاز في البيان , فقال معجباً منهم غاية العجب زاجراً لهم ومنكراً عليهم ومتوعداً لهم ومفخماً للأمر بصيغة الاستفهام منبهاً على أنه ينبغي أن لا يعقل خلافهم , ولا يعرف محل نزاعهم , فينبغي أن يسأل عنه كل أحد حتى العالم به إعلاماً بأن ما يختلفون فيه لوضوحه لا يصدق أن عاقلاً يخالف أمره فيه وأنه لا ينبغي التساؤل إلا عما هو خفي فقال : {عمَّ} أي عن أي شيء - خفف لفظاً وكناية بالإدغام , وحذف ألفه لكثرة الدور والإشارة إلى أن هذا السؤال مما ينبغي أان يحذف , فإن لم يكن فيخفى ويستحى من ذكره ويخفف {يتساءلون *} أي أهل مكة لكل من يسأل عن شيء من القرآن سؤال شك وتوقف وتلدد فيما بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين رضي الله عنهم , ولشدة العجب سمي جدالهم وإنكارهم وعنادهم - إذا تليت عليهم آياته وجليت بيناته - مطلق سؤال. (1)
وتسمى سورة عم. وهي مكية ، وعدد آياتها أربعون آية ، وهذه السورة تكلمت على الب عث وإثباته ، وبيان مظاهر قدرة اللّه ، ثم تعرضت لمنكري البعث وبينت حالهم يوم القيامة : وحال المؤمنين به ، على أن تهويل يوم القيامة وتفخيم شأنه ، وتخويف الناس من عذابه من عناصر السورة المهمة التي ذكرت في ثنايا الكلام. (2)
وتسمى سورة عم وعم يتساءلون والتساؤل والمعصرات وهي مكية بالاتفاق وآيها إحدى وأربعون في المكي والبصري وأربعون في غيرهما. ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي دلّ ما قبل على تكذيب الكفرة به وفي تناسق الدرر وجه اتصالها بما قبل تناسبها معها في الجمل فإن في تلك أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ [المرسلات : 16] أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات : 20] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً [المرسلات : 25] إلخ وفي هذه أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ : 6] إلخ مع اشتراكها والأربع قبلها في الاشتمال على وصف الجنة والنار وما وعد المدثر أيضا في سورة المرسلات لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [المرسلات : 13] وفي هذه إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ : 17] إلخ ففيها شرح يوم الفصل المجمل ذكره فيا قبلها ا ه. وقيل إنه تعالى لما ختم تلك بقوله سبحانه فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات : 25] وكان المراد بالحديث فيه القرآن افتتح هذه بتهويل التساؤل عنه والاستهزاء به
__________
(1) -نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي- العلمية - (8 / 445)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 809)(1/1411)
وهو مبني على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن المراد بالنبإ العظيم القرآن والجمهور على أنه البعث وهو الأنسب بالآيات بعد كما ستعرفه إن شاء اللّه تعالى. (1)
هذا الجزء كله - ومنه هذه السورة - ذو طابع غالب .. سوره مكية فيما عدا سورتي «البينة» و«النصر» وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر. والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحدة - على وجه التقريب - في موضوعها واتجاهها ، وإيقاعها ، وصورها وظلالها ، وأسلوبها العام.
إنها طرقات متوالية على الحس. طرقات عنيفة قوية عالية. وصيحات. صيحات بنوّم غارقين في النوم! نومهم ثقيل! أو بسكارى مخمورين ثقل حسهم الخمار! أو بلاهين في سامر راقصين في ضجة وتصدية ومكاء! تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من سور هذا الجزء كله بإيقاع واحد ونذير واحد :
اصحوا. استيقظوا. انظروا. تلفتوا. تفكروا. تدبروا .. إن هنا لك إلها. وإن هنالك تدبيرا. وإن هنالك تقديرا.
وإن هنالك ابتلاء. وإن هنالك تبعة. وإن هنالك حسابا. وإن هنالك جزاء. وإن هنالك عذابا شديدا.
ونعيما كبيرا .. اصحوا. استيقظوا. انظروا. تلفتوا. تفكروا. تدبروا ... وهكذا مرة أخرى. وثالثة ورابعة.
وخامسة ... وعاشرة ... ومع الطرقات والصيحات يد قوية تهز النائمين المخمورين السادرين هزا عنيفا ..
وهم كأنما يفتحون أعينهم وينظرون في خمار مرة ، ثم يعودون لما كانوا فيه! فتعود اليد القوية تهزهم هزا عنيفا ويعود الصوت العالي يصيح بهم من جديد وتعود الطرقات العنيفة على الأسماع والقلوب .. وأحيانا يتيقظ النوام ليقولوا : في إصرار وعناد : لا .. ثم يحصبون الصائح المنذر المنبه بالأحجار والبذاء .. ثم يعودون لما كانوا فيه. فيعود إلى هزهم من جديد.
هكذا خيل إلي وأنا أقرأ هذا الجزء. وأحس تركيزه على حقائق معينة قليلة العدد ، عظيمة القدر ، ثقيلة الوزن. وعلى إيقاعات معينة يلمس بها أوتار القلوب. وعلى مشاهد معينة في الكون والنفس. وعلى أحداث معينة في يوم الفصل. وأرى تكرارها مع تنوعها. هذا التكرار الموحي بأمر وقصد! وهكذا يحس القارئ وهو يقرأ : «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ...» .. «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ؟ ...» ..
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 201)(1/1412)
«أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ؟ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ؟ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ؟».
وهو يقرأ : «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها؟ رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» .. «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً؟ وَالْجِبالَ أَوْتاداً؟ وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً؟ وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً؟ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً؟ وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً؟ وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً؟ وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً؟ وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً؟ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً؟» .... «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا ، وَحَدائِقَ غُلْباً ، وَفاكِهَةً وَأَبًّا. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» ..
وهو يقرأ «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ. ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ؟» ..
«سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى . وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى . فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى » .. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ؟» ..
وهو يقرأ : «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ؟ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ»..
«إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ، وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» .. «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ. وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ ...» .. «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ، وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها .. يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» ..
وهو يقرأ اللمحات والسبحات الكونية في مفاتح عدد من السور وفي ثناياها : «فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ. وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ» .. «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» .. «وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ» .. «وَالشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها. وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها وَالسَّماءِ وَما بَناها. وَالْأَرْضِ وَما طَحاها. وَنَفْسٍ وَما(1/1413)
سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» .. «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى . وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى. وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى » .. «وَالضُّحى . وَاللَّيْلِ إِذا سَجى » ..إلخ .. إلخ ..
وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان. وعلى مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح. وعلى مشاهد القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية. ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها ..
واتخاذها جميعا دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة. مع التقريع بها والتخويف والتحذير .. وأحيانا تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين. والأمثلة على هذا هي الجزء كله. ولكنا نشير إلى بعض النماذج في هذا التقديم :
هذه السورة - سورة النبأ - كلها نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد. ومثلها سورة «النَّازِعاتِ» وسورة «عبس» تحتوي مقدمتها إشارة إلى حادث معين من حوادث الدعوة .. وبقيتها كلها حديث عن نشأة الحياة الإنسانية والحياة النباتية ثم عن الصاخة : «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ ، وَأَبِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ». وسورة «التكوير» وهي تصور مشاهد الانقلاب الكوني الهائلة في ذلك اليوم ، مع عرض مشاهد كونية موحية في صدد القسم على حقيقة الوحي وصدق الرسول. وسورة «الانفطار» كذلك في عرض مشاهد الانقلاب مع مشاهد النعيم والعذاب ، وهز الضمير البشري أمام هذه وتلك : «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ... إلخ» وسورة «الانشقاق» وهي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ومشاهد النعيم والعذاب .. وسورة «البروج» وهي تلقي إيقاعات سريعة حول مشاهد الكون ومشاهد اليوم بصدد إشارة إلى تعذيب الكفار لجماعة من المؤمنين في الدنيا بالنار. وعذاب اللّه لأولئك الكفار في الآخرة بالنار. وهو أشد وأنكى ..
وسورة «الطارق» .. وهي تعرض مشاهد كونية مع نشأة الإنسان ونشأة النبات للقسم بالجميع : «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» .. وسورة «الأعلى» وتتحدث عن الخلق والتسوية والتقدير والهداية ، وإخراج المرعى وأطواره تمهيدا للحديث عن الذكر والآخرة والحساب والجزاء .. وسورة «الغاشية» .. وهي تصوير لمشاهد النعيم والعذاب. ثم توجيه إلى خلق الإبل والسماء والأرض والجبال .. وهكذا .. وهكذا .. إلى نهاية الجزء باستثناء سور قليلة تتحدث عن حقائق العقيدة ومنهج الإيمان. كسورة الإخلاص. وسورة الكافرون. وسورة الماعون. وسورة العصر. وسورة القدر. وسورة النصر. أو تسري(1/1414)
عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وتواسيه وتوجهه إلى الاستعاذة بربه من كل شر ، كسور الضحى. والانشراح. والكوثر. والفلق. والناس ..وهي سور قليلة على كل حال ..
وهناك ظاهرة أخرى في الأداء التعبيري لهذا الجزء. هناك أناقة واضحة في التعبير ، مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس ، وافتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي والقوافي والفواصل ، تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب الغافلين النائمين السادرين ، لإيقاظهم واجتذاب حسهم وحواسهم بشتى الألوان وشتى الإيقاعات وشتى المؤثرات .. يتجلى هذا كله بصورة واضحة في مثل تعبيره اللطيف عن النجوم التي تخنس وتتوارى كالظباء في كناسها وتبرز ، وعن الليل وكأنه حي يعس في الظلام ، والصبح وكأنه حي يتنفس بالنور : «فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ» وفي عرضه لمشاهد الغروب والليل والقمر : «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ». أو لمشاهد الفجر والليل وهو يتمشى ويسري :«وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ». «وَالضُّحى . وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ». وفي خطابه الموحي للقلب البشري : «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ..» وفي وصف الجنة :
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ...» ووصف النار : «وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ؟ نارٌ حامِيَةٌ!» .. والأناقة في التعبير واضحة وضوح القصد في اللمسات الجمالية لمشاهد الكون وخوالج النفس.
والعدول أحيانا عن اللفظ المباشر إلى الكناية ، وعن اللفظ القريب إلى الاشتقاق البعيد ، لتحقيق التنغيم المقصود ، مما يؤكد هذه اللفتة خلال الجزء كله على وجه التقريب ..
وهذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه وإيقاعاته ومشاهده وصوره وظلاله وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس ، والدنيا والآخرة واختيار الألفاظ والعبارات لتوقع أشد إيقاعاتها أثرا في الحس والضمير.
وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها ، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه ، ولا شبهة ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته : «عَمَّ يَتَساءَلُونَ؟ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ!» ..
ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه ، ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم ، في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم ، يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه : «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ، وَالْجِبالَ أَوْتاداً؟ وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً؟ وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً؟ وَجَعَلْنَا(1/1415)
اللَّيْلَ لِباساً ، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً؟ وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً؟ وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً؟ وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً؟ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً؟».
ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، والذي هددهم به يوم يعلمون! ليقول لهم ما هو؟ وكيف يكون : «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً. وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً. وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» ..
ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه : «إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً ، لِلطَّاغِينَ مَآباً ، لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ، لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً. جَزاءً وِفاقاً. إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً ، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً ، وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً. فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» ..
ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقا : «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً : حَدائِقَ وَأَعْناباً ، وَكَواعِبَ أَتْراباً ، وَكَأْساً دِهاقاً ، لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً. جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً».
وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه. وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل : «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً. ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً. إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً. يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ، وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» ..
ذلك هو النبأ العظيم. الذي يتساءلون عنه. وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم! «عَمَّ يَتَساءَلُونَ؟ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. كَلَّا! سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا! سَيَعْلَمُونَ» .. مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين ، وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل. وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة. وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل ، ولا يكادون يتصورون وقوعه ، وهو أولى شيء بأن يكون! (1)
ما اشتملت عليه هذه السورة
اشتملت هذه السورة الكريمة على الموضوعات الآتية :
(1) سؤال المشركين عن البعث ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
(2) تهديد المشركين على إنكارهم إياه.
(3) إقامة الأدلة على إمكان حصوله.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3800)(1/1416)
(4) أحداث يوم القيامة.
(5) ما يلاقيه المكذبون من العذاب.
(6) فوز المتقين بجنات النعيم.
(7) إن هذا اليوم حق لا ريب فيه.
(8) إنذار الكافرين بالعذاب الأليم وتمنيهم فى ذلك اليوم أن لو كانوا ترابا. (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 20)(1/1417)
(78) سورة النازعات
سميت في المصاحف وأكثر التفاسير "سورة النازعات" بإضافة سورة إلى النازعات بدون واو، جعل لفظ "النازعات" علما عليها لأنه لم يذكر في غيرها. وعنونت في كتاب التفسير من "صحيح البخاري" في كثير من كتب المفسرين بسورة "والنازعات" بإثبات الواو على حكاية أول ألفاظها.
وقال سعد الله الشهير بسعدي والخفاجي: إنها تسمى "سورة الساهرة" لوقوع لفظ "الساهرة" في أثنائها ولم يقع في غيرها من السور.
وقالا: تسمى سورة الطامة "أي لوقوع لفظ الطامة فيها ولم يقع في غيرها" ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور التي لها أكثر من اسم.
ورأيت في مصحف مكتوب بخط تونسي عنون اسمها "سورة فالمدبرات" وهو غريب، لوقوع لفظ المدبرات فيها ولم يقع في غيرها.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة الحادية والثمانين في ترتيب النزول، نزلت بعد سورة النبأ وقبل سورة الانفطار.
وعدد آيها خمس وأربعون عند الجمهور، وعدها أهل الكوفة ستا وأربعين آية.
أغراضها
اشتملت على إثبات البعث والجزاء، وإبطال إحالة المشركين وقوعه.
وتهويل يومه وما يعتري الناس حينئذ من الوهل.
وإبطال قول المشركين بتعذر الإحياء بعد انعدام الأجساد.
وعرض بأن نكرانهم إياه منبعث عن طغيانهم فكان الطغيان صادا لهم عن الإصغاء إلى الإنذار بالجزاء فأصبحوا آمنين في أنفسهم غير مترقبين حياة بعد هذه الحياة الدنيا بأن جعل مثل طغيانهم كطغيان فرعون وإعراضه عن دعوة موسى عليه السلام وإن لهم في ذلك عبرة، وتسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وانعطف الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث بأن خلق العوالم وتدبير نظامه أعظم من إعادة الخلق.
وأدمج في ذلك إلفات إلى ما في خلق السماوات والأرض من دلائل على عظيم قدرة الله تعالى.
وأدمج فيه امتنان في خلق هذا العالم من فوائد يجتنونها وأنه إذا حل عالم الآخرة وانقرض عالم الدنيا جاء الجزاء على الأعمال بالعقاب والثواب.(1/1418)
وكشف عن شبهتهم في إحالة البعث باستبطائهم إياه وجعلهم ذلك أمارة على انتفائه فلذلك يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن تعيين وقت الساعة سؤال تعنت، وأن شأن الرسول أن يذكرهم بها وليس شأنه تعيين إبانها، وأنها يوشك أن تحل فيعلمونها عيانا وكأنهم مع طول الزمن لم يلبثوا إلا جزءا من النهار. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « النبأ » بهذا النذير الذي يلقى به فى وجه المكذبين باليوم الآخر ، وبما يلقاهم منه من بلاء ، حتى إنه ليتمنى الكافر يومئذ أن يكون مغيّبا فى التراب ، غائصا فى أعماقه ، من هول ما يراه ..وقد جاءت سورة « النازعات » مفتتحة بهذه الأقسام ، على أن هذا اليوم واقع لا شك فيه ، ولم يذكر لهذه الأقسام جواب ، لأن جوابها قد سبقها ، فى قوله تعالى : ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً ...الآية » أي أن هذا العذاب القريب الذي أنذرنا كم به واقع ، وحقّ « النَّازِعاتِ غَرْقاً ، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً .. الآيات ». (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « النازعات » من السور المكية الخالصة. وتسمى بسورة « والنازعات » بإثبات الواو ، حكاية لأول ألفاظها ، ومن ذكرها بدون واو ، جعل لفظ « النازعات » علما عليها ، وتسمى - أيضا - سورة « الساهرة » وسورة « الطامة » ، لوقوع هذين اللفظين فيها دون غيرها.
2 - وهي السورة التاسعة والسبعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فهي السورة الحادية والثمانون من بين السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة « النبأ » ، وقبل سورة « الانفطار » ، أى : أن سورة النازعات تعتبر من أواخر السور المكية نزولا.
3 - وعدد آياتها خمس وأربعون آية في المصحف الكوفي ، وست وأربعون في غيره.
4 - ومن أهم مقاصدها : إقامة الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - ، وعلى أن البعث حق ، وذكر جانب كبير من علاماته وأهواله ، والرد على الجاحدين الذين أنكروا وقوعه ، وتذكير الناس بجانب مما دار بين موسى - عليه السلام - وبين فرعون من مناقشات ، وكيف أن اللّه - تعالى - قد أخذ فرعون أخذ عزيز مقتدر.
كما أن السورة الكريمة اشتملت على مظاهر قدرته - تعالى - ، التي نراها ونشاهدها في خلقه - سبحانه - للسموات وللأرض ... وما اشتملتا عليه عن عجائب.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 53)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1428)(1/1419)
ثم ختمت ببيان حسن عاقبة المتقين ، وسوء عاقبة الكافرين ، وبالإجابة على أسئلة السائلين عن يوم القيامة ، وبيان أن موعد مجيء هذا اليوم مرده إلى اللّه - تعالى - وحده.
قال - تعالى - : يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها. إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها. إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها. (1)
في السورة توكيد رباني بتحقيق يوم البعث والحساب وما سوف يستولي على الكفار فيه من خوف وندم. وتذكير برسالة موسى إلى فرعون وموقف فرعون وما في ذلك من عبرة. وتدليل على قدرة اللّه على البعث والتنكيل بالكفار بما كان من مصير فرعون. وبمشاهد الكون وعظمة اللّه وبديع صنعه فيه. وتنديد بالكفار لشكهم في الآخرة وبيان إنذاري وتبشيري بمصير كل من المتقين والطاغين فيها.
ونظم السورة وترابط آياتها يسوغان القول إنها نزلت دفعة واحدة. (2)
سورة النازعات مكيّة ، وهي ست وأربعون آية.
تسميتها : سميت سورة النازعات لافتتاحها بالقسم الإلهي بالنازعات وهم الملائكة الذين ينزعون أرواح بني آدم ، إما بيسر وسهولة وهم المؤمنون ، وإما بعسر وشدة وهم الكفار.
مناسبتها لما قبلها :
تتعلق السورة بما قبلها من وجهين :
1 - تشابه الموضوع : فكلتا السورتين تتحدثان عن القيامة وأحوالها ، وعن مآل المتقين ، ومرجع المجرمين.
2 - تشابه المطلع والخاتمة : فإن مطلع السورتين في الحديث عن البعث والقيامة ، الأولى تؤكد وجود البعث وما فيه من أهوال وحساب وجزاء ، والثانية افتتحت بالقسم على وقوع القيامة لتحقيق ما في آخر عم. والأولى اختتمت بالإنذار بالعذاب القريب يوم القيامة ، والثانية ختمت بالكلام عما في أولها من إثبات الحشر والبعث ، وتأكد حدوث القيامة ، فكان ذلك كالدليل والبرهان على مجيء القيامة وأهوالها.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع السورة كما أشرنا كسائر موضوعات السور المكية ، التي تهتم بأصول العقيدة من التوحيد ، والنبوة ، والبعث.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 261)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 410)(1/1420)
شرعت السورة بالقسم بالملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد لإثبات البعث : وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً .. [الآيات : 1 - 5] والمقسم عليه محذوف وهو «لتبعثن» لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة ، وهو : يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [6 - 7] ، أو بدليل إنكارهم للبعث في قوله تعالى : أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [10].
ثم وصفت أحوال المشركين المنكرين البعث ، فصوّرت مدى الذعر الشديد والاضطراب الذي يكونون عليه يوم القيامة ، وذكرت مقالتهم في إنكار البعث والردّ عليهم : قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ .. [الآيات : 8 - 14].
وناسب ذلك إيراد قصة موسى عليه السلام مع فرعون الطاغية الجبار الذي ادّعى الربوبية ، ثم أهلكه اللّه وجنوده بالغرق في البحر ، للعظة والعبرة ، والدلالة على كمال القدرة الإلهية ، بإفهامهم أن الكرّة والإعادة ليست صعبة على اللّه ، فما هي إلا زجرة أو صيحة واحدة : هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى .. [الآيات : 15 - 26].
ثم خاطب اللّه منكري البعث خطابا يتضمن إثبات البعث بالبرهان الحسي ، متحديا طغيانهم وتمردهم على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، ومذكرا إياهم أنهم أضعف من خلق السموات والأرض والجبال : أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها ..[الآيات : 27 - 32].
وختمت السورة ببيان أهوال يوم القيامة ، وانقسام الناس فيه فريقين :
سعداء وأشقياء ، وسؤال المشركين عن ميقات الساعة ، وتفويض أمرها إلى اللّه تعالى ، لا إلى أحد حتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتأكيد حدوثها ، وذهول المشركين من شدة هولها ، ومعرفتهم أن مكثهم في الدنيا كمقدار العشي أو الضحى : فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى .. [الآيات : 34 - 46] (1) .
وهي مكية. وعدد آياتها ست وأربعون آية ، والسورة الكريمة تضمنت القسم بالنجوم أو الملائكة على إثبات البعث ، وأنه سهل ميسور ، ثم هددت المشركين بذكر قصة فرعون ونهايته ، ثم بينت بعض مظاهر القدرة وأن خلق الناس أقل من غيره ، وبينت حالهم يوم القيامة. ثم ختمت السورة ببيان بعض الحقائق المتعلقة بيوم البعث. (2)
وتسمى سورة الساهرة والطامة وهي مكية بالاتفاق وعدد آيها ست وأربعون في الكوفي وخمس وأربعون في غيره. وعن ابن عباس أنها نزلت عقب سورة عم وأولها يشبه أن يكون قسما لتحقيق ما في آخر عم أو
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 30)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 815)(1/1421)
ما تضمنته كلها وفي البحر لما ذكر سبحانه في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة أقسم عز وجل في هذه على البعث ذلك اليوم (1)
* سورة النازعات مكية ، شانها كشأن سائر السور المكية ، التي تعنى بأصول العقيدة الإيمانية (الوحدانية ، الرسالة ، البعث والجزاء) ومحور السورة يدور حول القيامة وأحوالها ، والساعة واهوالها ، وعن مآل المتقين ، ومآل المجرمين .
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالملائكة الأبرار ، التي تنزع ارواح المؤمنين بلطف ولين ، وتنزع ارواح المجرمين بشدة وغلظة ، والتي تدبر شئون الخلائق بأمر الله جل وعلا [ والنازعات
غرقا ، والناشطات نشطا ، والسابحات سبحا ، فالسابقات سبقا ، فالمدبرات أمرا ] ا لايات .
* ثم تحدثت عن المشركين ، المنكرين للبعث والنشور ، فصورت حالتهم في ذلك اليوم الفظيع [ قلوب يومئذ واجفة ، أبصارها خاشعة ، يقولون أننا لمردودون في الحافرة ، أئذا كنا عظاما نخرة ؟ ] الآيات .
* ثم تناولت السورة (فرعون ، الطاغية الجبار ، الذي ادعى الربوبية وتمادى في الجبروت والطغيان ، فقصمه الله ، واهلكه بألغرق هو وقومه الأقباط [ هل أتاك حدبث موسى ، إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ، اذهب إلى فرعون إنه طغى ، فقل هل لك إلى أن تزكى . . ] الايات .
* وتحدثت السورة عن طغيان أهل مكة وتمردهم على رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) وذكرتهم بأنهم أضعف من كثير من مخلوقات الله [ ءانتم أشد خلقا أم السماء بناها ، رفع سمكها فسواها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ] الايات .
* وختمت السورة الكربمة ببيان وقت الساعة الذي استبعده المشركون وأنكروه ، وكذبوا بحدوثه [ يسألونك عن الساعة أيان مرساها ، فيم أنت من ذكراها ، إلى ربك منتهاها ، إنما أنت منذر من يخشاها ، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا الا عشية أو ضحاها ] . (2)
مقصودها بيان أواخر أمر الإنسان بالإقسام على بعث الأنام ، ووقوع القيام يوم الزحام وزلل الأقدام ، بعد البيان التام فيما مضى من هذه السور العظام ، تنبيها على أنه وصل الأمر في الظهور إلى مقام ليس بعده مقام ، وصور ذلك بنزع الأرواح بأيدي الملائكة الكرام ، ثم أمر فرعون اللعين وموسى عليه السلام ، واسمها النازعات واضح في ذلك المرام ، إذا تؤمل القسم وجوابه المعلوم للأئمة الأعلام ، وكذا الساهرة والطامة إذا تؤمل السياق ، وحصل التدبير في تقرير الوفاق (3)
__________
(1) روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 223)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 454)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 308)(1/1422)
هذه السورة نموذج من نماذج هذا الجزء لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة ، بهولها وضخامتها ، وجديتها ، وأصالتها في التقدير الإلهي لنشأة هذا العالم الإنساني ، والتدبير العلوي لمراحل هذه النشأة وخطواتها على ظهر الأرض وفي جوفها ثم في الدار الآخرة ، التي تمثل نهاية هذه النشأة وعقباها.
وفي الطريق إلى إشعار القلب البشري حقيقة الآخرة الهائلة الضخمة العظيمة الكبيرة يوقع السياق إيقاعات منوعة على أوتار القلب ، ويلمسه لمسات شتى حول تلك الحقيقة الكبرى. وهي إيقاعات ولمسات تمت إليها بصلة. فتلك الحقيقة تمهد لها في الحس وتهيئه لاستقبالها في يقظة وفي حساسية ..
يمهد لها بمطلع غامض الكنه يثير بغموضه شيئا من الحدس والرهبة والتوجس. يسوقه في إيقاع موسيقي راجف لاهث ، كأنما تنقطع به الأنفاس من الذعر والارتجاف والمفاجأة والانبهار : «وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» ..
وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم. ظله من ظل ذلك المطلع وطابعه من طابعه كأنما المطلع اطار له وغلاف يدل عليه : «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ. أَبْصارُها خاشِعَةٌ. يَقُولُونَ : أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً؟ قالُوا : تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ! فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» ..
ومن هنالك .. من هذا الجو الراجف الواجف المبهور المذعور .. يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذبين العتاة في حلقة من قصة موسى مع فرعون. فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئا ما ، ليناسب جو الحكاية والعرض : «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى . إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً : اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى . فَقُلْ : هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى؟ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى ؟ فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى ، فَكَذَّبَ وَعَصى ، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى ، فَحَشَرَ فَنادى ، فَقالَ : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى . فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى . إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى » ..
وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى.
ثم ينتقل من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح ، ومشاهد الكون الهائلة ، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون ، المهيمنة على مصائره ، في الدنيا والآخرة. فيعرضها في تعبيرات قوية الأسر ، قوية الإيقاع ، تتسق مع مطلع السورة وإيقاعها العام : «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ؟ بَناها ، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها ، وَالْجِبالَ أَرْساها ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» ..
وهنا - بعد هذه التمهيدات المقربة وهذه اللمسات الموحية - يجيء مشهد الطامة الكبرى ، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا. جزاء يتحقق هو الآخر في مشاهد تتناسق صورها وظلالها مع(1/1423)
الطامة الكبرى : « فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى ! فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى . وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى » ..
وفي اللحظة التي يغمر الوجدان فيها ذلك الشعور المنبعث من مشاهد الطامة الكبرى ، والجحيم المبرزة لمن يرى ، وعاقبة من طغى وآثر الحياة الدنيا ، ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى .. في هذه اللحظة يرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة ، الذين يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن موعدها. يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها في الحس وضخامتها : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها؟ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها؟ إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها. إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» ..
والهاء الممدودة ذات الإيقاع الضخم الطويل ، تشارك في تشخيص الضخامة وتجسيم التهويل! (1)
موضوعات السورة الكريمة
(1) إثبات البعث.
(2) مقالة المشركين فى إنكاره والردّ عليهم
(3) قصص موسى مع فرعون ، وفيه تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
(4) إقامة البرهان على إثبات البعث.
(5) أهوال يوم القيامة.
(6) الناس فى هذا اليوم فريقان : سعداء وأشقياء بحسب أعمالهم فى الدنيا.
(7) سؤال المشركين عن الساعة وميقاتها.
(8) نهى الرسول عن البحث عنها واشتغاله بأمرها.
(9) ذهول المشركين من شدة الهول عن مقدار ما يلبثوا فى الدنيا. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3811)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 37)(1/1424)
(80) سورة عبس
سميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة "سورة عبس".
وفي "أحكام ابن العربي" عنونها سورة ابن أم مكتوم. ولم أر هذا لغيره. وقال الخفاجي: تسمى سورة الصاخة. وقال العيني في "شرح صحيح البخاري" تسمى سورة السفرة ، وتسمى سورة الأعمى ، وكل ذلك تسمية بألفاظ وقعت فيها لم تقع في غيرها من السور أو بصاحب القصة التي كانت سبب نزولها.
ولم يذكرها صاحب "الإتقان" في السور التي لها أكثر من اسم وهو عبس.
وهي مكية بالاتفاق.
وقال في "العارضة": لم يحقق العلماء تعيين النازل بمكة من النازل بالمدينة في الجملة ولا يحقق وقت إسلام ابن أم مكتوم اه. وهو مخالف لاتفاق أهل التفسير على أنها مكية فلا محصل لكلام ابن العربي.
وعدت الرابعة والعشرين في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة والنجم وقبل سورة القدر.
وعدد آيها عند العادين من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة اثنان وأربعون، وعند أهل البصرة إحدى وأربعون وعند أهل الشام أربعون.
وهي أولى السور من أواسط المفصل.
وسبب نزولها يأتي عند قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1].
أغراضها
تعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموازنة بين مراتب المصالح ووجوب الاستقراء لخفياتها كي لا يفيت الاهتمام بالمهم منها في بادئ الرأي مهما آخر مساويا في الأهمية أو أرجح. ولذلك يقول علماء أصول الفقه إن على المجتهد أن يبحث عن معارض الدليل الذي لاح له.
والإشارة إلى اختلاف الحال بين المشركين المعرضين عن هدي الإسلام وبين المسلمين المقبلين على تتبع مواقعه.
وقرن ذلك بالتذكير بإكرام المؤمنين وسمو درجتهم عند الله تعالى.
والثناء على القرآن وتعليمه لمن رغب في علمه.
وانتقل من ذلك إلى وصف شدة الكفر من صناديد قريش بمكابرة الدعوة التي شغلت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات إلى رغبة ابن أم مكتوم.(1/1425)
والاستدلال على إثبات البعث وهو مما كان يدعوهم إليه حين حضور ابن أم مكتوم وذلك كان من أعظم ما عني به القرآن من حيث إن إنكار البعث هو الأصل الأصيل في تصميم المشركين على وجوب الإعراض عن دعوة القرآن توهما منهم بأنه يدعوا إلى المحال، فاستدل عليهم بالخلق الذي خلقه الإنسان، واستدل بعده بإخراج النبات والأشجار من أرض ميتة.
وأعقب الاستدلال بالإنذار بحلول الساعة والتحذير من أهوالها وبما يعقبها من ثواب المتقين وعقاب الجاحدين.
والتذكير بنعمة الله على المنكرين عسى أن يشكروه.
والتنويه بضعفاء المؤمنين وعلو قدرهم ووقوع الخير من نفوسهم والخشية، وأنهم أعظم عند الله من أصحاب الغنى الذين فقدوا طهارة النفس، وأنهم أحرياء بالتحقير والذم، وأنهم أصحاب الكفر والفجور (1) .
مناسبتها لما قبلها
كان مما ختمت به سورة « النازعات » قوله تعالى : « إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها » وكان فى ذلك ما يشير إلى المقام الذي يأخذه النبي من قومه ، الذين لج بهم الضلال والعناد ، وجعلوا همهم المماحكة والمجادلة ، ولقاء النبي بالأسئلة التي لا محصّل لها ولا ثمرة منها .. إنهم لم يؤمنوا بوقوع هذا اليوم ـ يوم القيامة ـ وسؤالهم عن موعد شىء لا يؤمنون به ولا يصدقون بوجوده ، إنما هو ضلال من ضلالهم. وجاءت سورة « عبس » مفتتحة بهذا الموقف ، الذي كان بين النبي وبين جماعة من المعاندين الضالين ، الذين طمع النبي فى هدايتهم ، فصرف إليهم وجهه كله ، دون أن يلتفت إلى ذلك الأعمى ، الذي آمن باللّه ، والذي جاءه يطلب مزيدا من النور والهدى ..وكلّا ، فإنه ليس ذلك من محامل دعوة النبي ، التي رسم اللّه له طريقها فى قوله : « إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ».. وهؤلاء الضالون المعاندون لا يخشون اللّه ، ولا يؤمنون باليوم الآخر ، ولن يؤمنوا أبدا مهما طال وقوفك معهم ..وكلا : « إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ » (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « عبس » من السور المكية ، وتسمى سورة « الصاخة » وسورة « السفرة » لوقوع هذه الألفاظ فيها.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 89)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1446)(1/1426)
2 - وعدد آياتها : اثنتان وأربعون آية في المصحف الكوفي ، وإحدى وأربعون في البصري ، وأربعون في الشامي ... وكان نزولها بعد سورة « النجم » وقبل سورة « القدر » ، فهي تعتبر السورة الثالثة والعشرون في ترتيب النزول ، أما في ترتيب المصحف فهي السورة الثمانون.
وقد افتتحت بإرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يجب عليه نحو ضعفاء المسلمين ، وبإرساء القاعدة التي يجب على المسلمين أن يتبعوها عند معاملتهم للناس ، والثناء على المؤمنين الصادقين مهما كان عجزهم وضعفهم والتحذير من إهمال شأنهم.
ثم تذكير المؤمنين بجانب من نعمه - تعالى - عليهم ، لكي يزدادوا شكرا له - تعالى - على شكرهم ، ثم تذكيرهم أيضا بأهوال يوم القيامة ، وبأحوال الناس فيه. (1)
في السورة عتاب رباني للنبي - صلى الله عليه وسلم - على اهتمامه بزعيم كافر معرض عن الدعوة أكثر من اهتمامه بأعمى مسلم ، وتقرير لمهمة النبوة وتنديد بالإنسان وجحوده وتعداد نعم اللّه عليه. وإنذار بالآخرة وهولها ومصائر الصالحين والمجرمين فيها. ومن المحتمل أن تكون قد نزلت فصلا بعد فصل حتى كملت بدون انفصال ، وعدا فصل العتاب الذي هو الفصل الأول فإن أسلوب باقي آياتها هو تنديد وإنذار عام. (2)
سورة عبس مكيّة. وهي اثنتان وأربعون اية.
تسميتها : سميت سورة (عبس) لافتتاحها بهذا الوصف البشري المعتاد الذي تقتضيه الجبلّة الإنسانية ، ويغلب على الإنسان حينما يكون مشغولا بأمر مهم ، ثم يطرأ عليه أمر آخر لصرفه عن الأمر السابق ، ومع ذلك عوتب النبي - صلى الله عليه وسلم - على عبوسه تساميا لقدره ، وارتفاعا بمنزلته النبوية.
مناسبتها لما قبلها :
لهذه السورة تعلق بما قبلها وهي النازعات لأنه تعالى ذكر هناك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منذر من يخشى الساعة ، وهنا ذكر من ينفعه الإنذار ، وهم الذين كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يناجيهم في أمر الإسلام ويدعوهم إليه وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة. كما أن بينهما تشابها في موضوع الحديث عن يوم القيامة وأهوالها ، وإثبات البعث بمخلوقات اللّه في الإنسان والكون ، فهناك وصفت القيامة بقوله تعالى : فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى [34] وهنا وصفت بقوله سبحانه : فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ [33] وهما من أسماء يوم القيامة. وهناك أثبت اللّه البعث بخلق السماء والأرض والجبال ، وهنا أثبته بخلق الإنسان والنبات والطعام.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 281)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 121)(1/1427)
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع السورة كسائر موضوعات السور المكية التي تعنى بالعقيدة والرسالة والأخلاق التي قوامها في الإسلام المساواة بين الناس ، دون تفرقة بين غني وفقير.
ابتدأت السورة بذكر قصة الأعمى عبد اللّه بن أم مكتوم ابن خال خديجة بنت خويلد الذي قدم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - للتعلم ، في وقت كان فيه مشغولا مع جماعة من صناديد قريش يدعوهم إلى الإيمان ، فعبس النبي - صلى الله عليه وسلم - وجهه وأعرض عنه ، فعاتبه اللّه بقوله : عَبَسَ وَتَوَلَّى .. [الآيات 1 - 16] وأبانت أن القرآن ذكرى وموعظة لمن عقل وتدبر.
ثم نددت بجحود الإنسان وكفره بنعم ربه وإعراضه عن هداية اللّه : قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ .. [الآيات 17 - 23].
وأردفت ذلك بإقامة الأدلة على قدرة اللّه ووحدانيته بخلق الإنسان والنبات وتيسير طعام ابن آدم وشرابه ، لإثبات القدرة على البعث : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ .. [الآيات 24 - 32].
وختمت السورة بوصف أهوال يوم القيامة ، وفرار الإنسان من أقرب الناس إليه ، وبيان حال المؤمنين السعداء والكافرين الأشقياء في هذا اليوم : فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ .. [الآيات في 33 - 42]. (1)
وهي مكية. وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية ، وقد تكلمت عن قصة ابن أم مكتوم ، مع بيان أن القرآن تذكرة فمن شاء فليتعظ به ، ثم بينت أصل الإنسان ونشأته ، ولفتت نظره إلى طعامه وشرابه لعله يتعظ ، ثم لم تهمل الحياة الآخرة وما فيها. (2)
وتسمى سورة الصاخة وسورة السفرة وسميت في غير كتاب سورة الأعمى وهي مكية لا خلاف وآيها اثنتان وأربعون في الحجازي والكوفي ، وإحدى وأربعون في البصري ، وأربعون في الشامي والمدني الأول ولما ذكر سبحانه فيما قبلها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات : 45] ذكر عز وجل في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه (3)
* سورة عبس من السور المكية ، وهي تتناول شئونا تتعلق بالعقيدة وأمر الرسالة ، كما أنها تتحدث عن دلائل القدرة ، والوحدانية في خلق الإنسان ، والنبات ، والطعام ، وفيها الحديث عن القيامة وأهوالها ، وشدة ذلك اليوم العصيب
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 56)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 822)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 241)(1/1428)
* ابتدأت السورة الكريمة بذكر قصة الأعمى " عبد الله بن أم مكتوم " الذي جاء الى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله ، ورسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) مشغول مع جماعة من كبراء قريش ، يدعوهم إلى الإسلام ، فعبس ( - صلى الله عليه وسلم - ) في وجهه وأعرض عنه ، فنزل القرآن بالعتاب[ عبس وتولى ، أن جاءه الأعمى ، وما يدريك لعله يزكى ، او يذكر فتنفعه الذكرى ، أما من استغنى ، فأنت له تصدى ] الآيات
* ثم تحدثت عن جحود الإنسان ، وكفره الفاحش بربه مع كثرة نعم الله تعالى عليه [ قتل الإنسان ما أكفره ، من أي شيء خلقه ، من نطفة خلقه فقدره ، ثم السبيل يسره. . . ] الآيات
* ثم تناولت دلائل القدرة في هذا الكون ، حيث يسر الله الإنسان سبل العيش فوق سطح هذه المعمورة [ فلينظر الإنسان الى طعامه أنا صببنا الماء صبا ، ثم شققنا الأرض شقا ، فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا ، وزيتونا ونخلا ] الآيات
* وختمت السورة الكريمة ببيان أهوال القيامة ، وفرار الإنسان من أحبابه من شدة الهول والفزع ، وبينت حال المؤمنين وحال الكافرين في ذلك اليوم العصيب [ فإذا جاءت الصاخة ، يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ، وجوه. يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوة يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة ، أولئك هم الكفرة الفجرة . (1)
إن استعراض مقاطع السورة وآياتها - على هذا النحو السريع - يسكب في الحس إيقاعات شديدة التأثير.
فهي من القوة والعمق بحيث تفعل فعلها في القلب بمجرد لمسها له بذاتها.
وسنحاول أن نكشف عن جوانب من الآماد البعيدة التي تشير إليها بعض مقاطعها مما قد لا تدركه النظرة الأولى.
«عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى . وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى؟ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ؟ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى؟ وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى ، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى؟! كَلَّا! إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ» ..
إن هذا التوجيه الذي نزل بشأن هذا الحادث هو أمر عظيم جدا. أعظم بكثير مما يبدو لأول وهلة. إنه معجزة ، هو والحقيقة التي أراد إقرارها في الأرض ، والآثار التي ترتبت على إقرارها بالفعل في حياة البشرية.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 458)(1/1429)
ولعلها هي معجزة الإسلام الأولى ، ومعجزته الكبرى كذلك. ولكن هذا التوجيه يرد هكذا - تعقيبا على حادث فردي - على طريقة القرآن الإلهية في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد.
وإلا فإن الحقيقة التي استهدف هذا التوجيه تقريرها هنا والآثار الواقعية التي ترتبت بالفعل على تقريرها في حياة الأمة المسلمة ، هي الإسلام في صميمه. وهي الحقيقة التي أراد الإسلام - وكل رسالة سماوية قبله - غرسها في الأرض.
هذه الحقيقة ليست هي مجرد : كيف يعامل فرد من الناس؟ أو كيف يعامل صنف من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث وللتعقيب. إنما هي أبعد من هذا جدا ، وأعظم من هذا جدا. إنها : كيف يزن الناس كل أمور الحياة؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها ويقدرون؟
والحقيقة التي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي : أن يستمد الناس في الأرض قيمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة ، آتية لهم من السماء ، غير مقيدة بملابسات أرضهم ، ولا بمواضعات حياتهم ، ولا نابعة من تصوراتهم المقيدة بهذه المواضعات وتلك الملابسات.
وهو أمر عظيم جدا ، كما أنه أمر عسير جدا. عسير أن يعيش الناس في الأرض بقيم وموازين آتية من السماء. مطلقة من اعتبارات الأرض. متحررة من ضغط هذه الاعتبارات.
ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك ضخامة الواقع البشري ، وثقله على المشاعر ، وضغطه على النفوس ، وصعوبة التخلي عن الملابسات والضغوط الناشئة من الحياة الواقعية للناس ، المنبثقة من أحوال معاشهم ، وارتباطات حياتهم ، وموروثات بيئتهم ، ورواسب تاريخهم ، وسائر الظروف الأخرى التي تشدهم إلى الأرض شدا ، وتزيد من ضغط موازينها وقيمها وتصوراتها على النفوس.
كذلك ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك أن نفس محمد بن عبد اللّه - صلى الله عليه وسلم - قد احتاجت - كي تبلغه - إلى هذا التوجيه من ربه بل إلى هذا العتاب الشديد ، الذي يبلغ حد التعجيب من تصرفه! وإنه ليكفي لتصوير عظمة أي أمر في هذا الوجود أن يقال فيه : إن نفس محمد بن عبد اللّه - صلى الله عليه وسلم - قد احتاجت - كي تبلغه - إلى تنبيه وتوجيه! نعم يكفي هذا. فإن عظمة هذه النفس وسموها ورفعتها ، تجعل الأمر الذي يحتاج منها - كي تبلغه - إلى تنبيه وتوجيه أمرا أكبر من العظمة ، وأرفع من الرفعة! وهذه هي حقيقة هذا الأمر ، الذي استهدف التوجيه الإلهي إقراره في الأرض ، بمناسبة هذا الحادث المفرد .. أن يستمد الناس قيمهم وموازينهم من السماء ، طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله .. وهذا هو الأمر العظيم ..
إن الميزان الذي أنزله اللّه للناس مع الرسل ، ليقوّموا به القيم كلها ، هو : «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ»(1/1430)
هذه هي القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل! وهي قيمة سماوية بحتة ، لا علاقة لها بمواضعات الأرض وملابساتها إطلاقا ..
ولكن الناس يعيشون في الأرض ، ويرتبطون فيما بينهم بارتباطات شتى كلها ذات وزن وذات ثقل وذات جاذبية في حياتهم. وهم يتعاملون بقيم أخرى .. فيها النسب ، وفيها القوة ، وفيها المال. وفيها ما ينشأ عن توزيع هذه القيم من ارتباطات عملية .. اقتصادية وغير اقتصادية .. تتفاوت فيها أوضاع الناس بعضهم بالنسبة لبعض.
فيصبح بعضهم أرجح من بعض في موازين الأرض ..
ثم يجيء الإسلام ليقول : «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .. فيضرب صفحا عن كل تلك القيم الثقيلة الوزن في حياة الناس ، العنيفة الضغط على مشاعرهم ، الشديدة الجاذبية إلى الأرض. ويبدل من هذا كله تلك القيمة الجديدة المستمدة مباشرة من السماء ، المعترف بها وحدها في ميزان السماء! ثم يجيء هذا الحادث لتقرير هذه القيمة في مناسبة واقعية محددة. وليقرر معها المبدأ الأساسي : وهو أن الميزان ميزان السماء ، والقيمة قيمة السماء. وأن على الأمة المسلمة أن تدع كل ما تعارف عليه الناس ، وكل ما ينبثق من علاقات الأرض من قيم وتصورات وموازين واعتبارات ، لتستمد القيم من السماء وحدها وتزنها بميزان السماء وحده! ويجيء الرجل الأعمى الفقير .. ابن أم مكتوم .. إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو مشغول بأمر النفر من سادة قريش. عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبي جهل عمرو بن هشام ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، ومعهم العباس بن عبد المطلب .. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى الإسلام ويرجو بإسلامهم خيرا للإسلام في عسرته وشدته التي كان فيها بمكة وهؤلاء النفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوتهم ويصدون الناس عنه ، ويكيدون له كيدا شديدا حتى ليجمدوه في مكة تجميدا ظاهرا. بينما يقف الآخرون خارج مكة ، لا يقبلون على الدعوة التي يقف لها أقرب الناس إلى صاحبها ، وأشدهم عصبية له ، في بيئة جاهلية قبلية ، تجعل لموقف القبيلة كل قيمة وكل اعتبار.
يجيء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو مشغول بأمر هؤلاء النفر. لا لنفسه ولا لمصلحته ، ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام. فلو أسلم هؤلاء لا نزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة ولا نساح بعد ذلك الإسلام فيما حولها ، بعد إسلام هؤلاء الصناديد الكبار ..
يجيء هذا الرجل ، فيقول لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول اللّه أقرئني وعلمني مما علمك اللّه ..
ويكرر هذا وهو يعلم تشاغل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما هو فيه من الأمر. فيكره الرسول قطعه لكلامه واهتمامه. وتظهر الكراهية في وجهه - الذي لا يراه الرجل - فيعبس ويعرض. يعرض عن الرجل المفرد الفقير الذي يعطله عن الأمر الخطير. الأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير والذي(1/1431)
تدفعه إليه رغبته في نصرة دينه ، وإخلاصه لأمر دعوته ، وحبه لمصلحة الإسلام ، وحرصه على انتشاره! وهنا تتدخل السماء. تتدخل لتقول كلمة الفصل في هذا الأمر ولتضع معالم الطريق كله ، ولتقرر الميزان الذي توزن فيه القيم - بغض النظر عن جميع الملابسات والاعتبارات. بما في ذلك اعتبار مصلحة الدعوة كما يراها البشر. بل كما يراها سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - .
وهنا يجىء العتاب من اللّه العلي الأعلى لنبيه الكريم ، صاحب الخلق العظيم ، في أسلوب عنيف شديد.
وللمرة الوحيدة في القرآن كله يقال للرسول الحبيب القريب : «كلا» وهي كلمة ردع وزجر في الخطاب! ذلك أنه الأمر العظيم الذي يقوم عليه هذا الدين! والأسلوب الذي تولى به القرآن هذا العتاب الإلهي أسلوب فريد ، لا تمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية.
فلغة الكتابة لها قيود وأوضاع وتقاليد ، تغض من حرارة هذه الموحيات في صورتها الحية المباشرة. وينفرد الأسلوب القرآني بالقدرة على عرضها في هذه الصورة في لمسات سريعة. وفي عبارات متقطعة. وفي تعبيرات كأنها انفعالات ، ونبرات وسمات ولمحات حية! «عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى » .. بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب! وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند اللّه بحيث لا يحب - سبحانه - أن يواجه به نبيه وحبيبه.
عطفا عليه ، ورحمة به ، وإكراما له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه!
ثم يستدير التعبير - بعد مواراة الفعل الذي نشأ عنه العتاب - يستدير إلى العتاب في صيغة الخطاب.
فيبدأ هادئا شيئا ما : «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى؟ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ؟» .. ما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكبير. أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير - الذي جاءك راغبا فيما عندك من الخير - وأن يتيقظ قلبه فيتذكر فتنفعه الذكرى. ما يدريك أن يشرق هذا القلب بقبس من نور اللّه ، فيستحيل منارة في الأرض تستقبل نور السماء؟ الأمر الذي يتحقق كلما تفتح قلب للهدى وتمت حقيقة الإيمان فيه. وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان اللّه ..
ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب : «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى؟! وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟! وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى ، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى؟!» ..
أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والخير والنور والطهارة .. أما هذا فأنت تتصدى له وتحفل أمره ، وتجهد لهدايته ، وتتعرض له وهو عنك معرض! «وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟» .. وما يضيرك أن يظل في رجسه ودنسه؟ وأنت لا تسأل عن ذنبه. وأنت لا تنصر به. وأنت لا تقوم بأمره .. «وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى » طائعا مختارا ، «وَهُوَ يَخْشى » ويتوقى «فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى!» .. ويسمي الانشغال عن الرجل المؤمن الراغب في الخير التقي تلهيا .. وهو وصف شديد ..(1/1432)
ثم ترتفع نبرة العتاب حتى لتبلغ حد الردع والزجر : «كَلَّا!» .. لا يكن ذلك أبدا .. وهو خطاب يسترعي النظر في هذا المقام.
ثم يبين حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها ، واستغناءها عن كل أحد. وعن كل سند. وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها ، كائنا ما كان وضعه ووزنه في موازين الدنيا : «إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ» .. فهي كريمة في كل اعتبار. كريمة في صحفها ، المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها. وهم كذلك كرام بررة .. فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها ، وما يمسها من قريب أو من بعيد. وهي عزيزة لا يتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها ..
هذا هو الميزان. ميزان اللّه. الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات ، ويقدر به الناس والأوضاع .. وهذه هي الكلمة. كلمة اللّه. الكلمة التي ينتهي إليها كل قول ، وكل حكم ، وكل فصل.
وأين هذا؟ ومتى؟ في مكة ، والدعوة مطاردة ، والمسلمون قلة. والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي. إنما هي الدعوة أولا وأخيرا. ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان ، وإنما هي هذه القيم ، وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر. فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم ..
ثم إن الأمر - كما تقدم - أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد ، ومن موضوعه المباشر. إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض ، ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية .. «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .. والأكرم عند اللّه هو الذي يستحق الرعاية والاهتمام والاحتفال ، ولو تجرد من كل المقومات والاعتبارات الأخرى ، التي يتعارف عليها الناس تحت ضغط واقعهم الأرضي ومواضعاتهم الأرضية. النسب والقوة والمال .. وسائر القيم الأخرى ، لا وزن لها حين تتعرى عن الإيمان والتقوى. والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنفقت لحساب الإيمان والتقوى.
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي استهدف التوجيه الإلهي إقرارها في هذه المناسبة ، على طريقة القرآن في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة ، وسيلة لإقرار الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد.
ولقد انفعلت نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذا التوجيه ، ولذلك العتاب. انفعلت بقوة وحرارة ، واندفعت إلى إقرار هذه الحقيقة في حياته كلها ، وفي حياة الجماعة المسلمة. بوصفها هي حقيقة الإسلام الأولى.
وكانت الحركة الأولى له - صلى الله عليه وسلم - هي إعلان ما نزل له من التوجيه والعتاب في الحادث.(1/1433)
وهذا الإعلان أمر عظيم رائع حقا. أمر لا يقوى عليه إلا رسول ، من أي جانب نظرنا إليه في حينه.
نعم لا يقوى إلا رسول على أن يعلن للناس أنه عوتب هذا العتاب الشديد ، بهذه الصورة الفريدة في خطأ أتاه! وكان يكفي لأي عظيم - غير الرسول - أن يعرف هذا الخطأ وأن يتلافاه في المستقبل. ولكنها النبوة.
أمر آخر. وآفاق أخرى! لا يقوى إلا رسول على أن يقذف بهذا الأمر هكذا في وجوه كبراء قريش في مثل تلك الظروف التي كانت فيها الدعوة ، مع أمثال هؤلاء المستعزين بنسبهم وجاههم ومالهم وقوتهم ، في بيئة لا مكان فيها لغير هذه الاعتبارات ، إلى حد أن يقال فيها عن محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم : «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ!» .. وهذا نسبه فيهم ، لمجرد أنه هو شخصيا لم تكن له رياسة فيهم قبل الرسالة! ثم إنه لا يكون مثل هذا الأمر في مثل هذه البيئة إلا من وحي السماء. فما يمكن أن ينبثق هذا من الأرض ..
ومن هذه الأرض بذاتها في ذلك الزمان!! وهي قوة السماء التي دفعت مثل هذا الأمر في طريقه فإذا هو ينفذ من خلال نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى البيئة من حوله فيتقرر فيها بعمق وقوة واندفاع ، يطرد به أزمانا طويلة في حياة الأمة المسلمة.
لقد كان ميلادا جديدا للبشرية كميلاد الإنسان في طبيعته. وأعظم منه خطرا في قيمته .. أن ينطلق الإنسان حقيقة - شعورا وواقعا - من كل القيم المتعارف عليها في الأرض ، إلى قيم أخرى تتنزل له من السماء منفصلة منعزلة عن كل ما في الأرض من قيم وموازين وتصورات واعتبارات وملابسات عملية ، وارتباطات واقعية ذات ضغط وثقل ، ووشائج متلبسة باللحم والدم والأعصاب والمشاعر. ثم أن تصبح القيم الجديدة مفهومة من الجميع ، مسلما بها من الجميع. وأن يستحيل الأمر العظيم بديهية الضمير المسلم ، وشريعة المجتمع المسلم ، وحقيقة الحياة الأولى في المجتمع الإسلامي لآماد طويلة في حياة المسلمين.
إننا لا نكاد ندرك حقيقة ذلك الميلاد الجديد. لأننا لا نتمثل في ضمائرنا حقيقة هذا الانطلاق من كل ما تنشئه أوضاع الأرض وارتباطاتها من قيم وموازين واعتبارات ساحقة الثقل إلى الحد الذي يخيل لبعض أصحاب المذاهب «التقدمية!» أن جانبا واحدا منها - هو الأوضاع الاقتصادية - هو الذي يقرر مصائر الناس وعقائدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعرفهم وتصورهم للحياة! كما يقول أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ في ضيق أفق ، وفي جهالة طاغية بحقائق النفس وحقائق الحياة! إنها المعجزة. معجزة الميلاد الجديد للإنسان على يد الإسلام في ذلك الزمان ..
ومنذ ذلك الميلاد سادت القيم التي صاحبت ذلك الحادث الكوني العظيم .. ولكن المسألة لم تكن هينة ولا يسيرة في البيئة العربية ، ولا في المسلمين أنفسهم .. غير أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد استطاع - بإرادة(1/1434)
اللّه ، وبتصرفاته هو وتوجيهاته المنبعثة من حرارة انفعاله بالتوجيه القرآني الثابت - أن يزرع هذه الحقيقة في الضمائر وفي الحياة وأن يحرسها ويرعاها ، حتى تتأصل جذورها ، وتمتد فروعها ، وتظلل حياة الجماعة المسلمة قرونا طويلة .. على الرغم من جميع عوامل الانتكاس الأخرى ..
كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا الحادث يهش لابن أم مكتوم ويرعاه ويقول له كلما لقيه : «أهلا بمن عاتبني فيه ربي» وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة ..
ولكي يحطم موازين البيئة وقيمها المنبثقة من اعتبار الأرض ومواضعاتها ، زوج بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية ، لمولاه زيد بن حارثة. ومسألة الزواج والمصاهرة مسألة حساسة شديدة الحساسية. وفي البيئة العربية بصفة خاصة.
وقبل ذلك حينما آخى بين المسلمين في أول الهجرة ، جعل عمه حمزة ومولاه زيدا أخوين. وجعل خالد بن رويحة الخثعمي وبلال بن رباح أخوين! وبعث زيدا أميرا في غزوة مؤتة ، وجعله الأمير الأول ، يليه جعفر بن أبي طالب ، ثم عبد اللّه بن رواحة الأنصاري ، على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار ، فيهم خالد بن الوليد.
وخرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بنفسه يشيعهم .. وهي الغزوة التي استشهد فيها الثلاثة رضي اللّه عنهم.
وكان آخر عمل من أعماله - صلى الله عليه وسلم - أن أمّر أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم ، يضم كثرة من المهاجرين والأنصار ، فيهم أبو بكر وعمر وزيراه ، وصاحباه ، والخليفتان بعده بإجماع المسلمين.
وفيهم سعد بن أبي وقاص قريبه - صلى الله عليه وسلم - ومن أسبق قريش إلى الإسلام.
وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث. وفي ذلك قال ابن عمر رضي اللّه عنهما - : بعث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بعثا أمر عليهم أسامة بن زيد - رضي اللّه عنهما - فطعن بعض الناس في إمارته ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل. وأيم اللّه إن كان لخليقا للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إليّ. وإن هذا لمن أحب الناس إلي « أخرجه الشيخان والترمذي.» ..
ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي ، وتحدثوا عن الفارسية والعربية ، بحكم إيحاءات القومية الضيقة ، ضرب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ضربته الحاسمة في هذا الأمر فقال : «سلمان منا أهل البيت « أخرجه الطبراني والحاكم. »» فتجاوز به - بقيم السماء وميزانها - كل آفاق النسب الذي يستعزون به ، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها .. وجعله من أهل البيت رأسا!
ولما وقع بين أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح - رضي اللّه عنهما - ما أفلت معه لسان أبي ذر بكلمة «يا بن السوداء» .. غضب لها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا وألقاها في وجه أبي ذر عنيفة مخيفة : «يا(1/1435)
أبا ذر طفّ الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل « أخرجه ابن المبارك في البر والصلة مع اختلاف.»». ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة ..
إما إسلام فهي قيم السماء وموازين السماء. وإما جاهلية فهي قيم الأرض وموازين الأرض! ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس فانفعل لها أشد الانفعال ، ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال. تكفيرا عن قولته الكبيرة!
وكان الميزان الذي ارتفع به بلال هو ميزان السماء .. عن أبي هريرة - رضي اللّه عنه - قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة عندك. فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة». فقال : ما عملت في الإسلام عملا أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي « أخرجه الشيخان.».
وكان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول عن عمار بن ياسر وقد استأذن عليه : «ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب» « أخرجه الترمذي.» .. وقال عنه : «ملئ عمار - رضي اللّه عنه - إيمانا إلى مشاشه « أخرجه النسائي.»» .. وعن حذيفة - رضي اللّه عنه قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما - واهتدوا بهدي عمار. وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه» « أخرجه الترمذي.».
وكان ابن مسعود يحسبه الغريب عن المدينة من أهل بيت رسول اللّه .. عن أبي موسى - رضي اللّه عنه - قال : قدمت أنا وأخي من اليمن ، فمكثنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من كثرة دخولهم على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولزومهم له» « أخرجه الشيخان والترمذي.».
وجليبيب - وهو رجل من الموالي - كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يخطب له بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار. فلما تأبى أبواها قالت هي : أتريدون أن تردوا على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أمره؟
إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. فرضيا وزوجاها « من حديث في مسند الإمام أحمد عن أنس.».
وقد افتقده رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة قصيرة من زواجه .. عن أبي برزة الأسلمي - رضي اللّه عنه - قال : كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في مغزى له ، فأفاء اللّه عليه. فقال لأصحابه : «هل تفقدون من أحد؟» قالوا : نعم فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال : «هل تفقدون من أحد؟» قالوا : نعم. فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال : «هل تفقدون من أحد؟» فقالوا : لا. قال : «لكني أفقد جليبيبا» فطلبوه ، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقف عليه ، ثم قال :(1/1436)
قتل سبعة ثم قتلوه. هذا مني وأنا منه. هذا مني وأنا منه. ثم وضعه على ساعديه ، ليس له سرير إلا ساعدا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فحفر له ، ووضع في قبره ولم يذكر غسلا « أخرجه مسلم. ».
بذلك التوجيه الإلهي وبهذا الهدي النبوي كان الميلاد للبشرية على هذا النحو الفريد. ونشأ المجتمع الرباني الذي يتلقى قيمه وموازينه من السماء ، طليقا من قيود الأرض ، بينما هو يعيش على الأرض .. وكانت هذه هي المعجزة الكبرى للإسلام. المعجزة التي لا تتحقق إلا بإرادة إله ، وبعمل رسول. والتي تدل بذاتها على أن هذا الدين من عند اللّه ، وأن الذي جاء به للناس رسول! وكان من تدبير اللّه لهذا الأمر أن يليه بعد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - صاحبه الأول أبو بكر ، وصاحبه الثاني عمر .. أقرب اثنين لإدراك طبيعة هذا الأمر ، وأشد اثنين انطباعا بهدي رسول اللّه ، وأعمق اثنين حبا لرسول اللّه ، وحرصا على تتبع مواضع حبه ومواقع خطاه.
حفظ أبو بكر - رضي اللّه عنه - عن صاحبه - صلى الله عليه وسلم - ما أراده في أمر أسامة. فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة هو إنفاذه بعث أسامة ، على رأس الجيش الذي أعده رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر المدينة. أسامة راكب وأبو بكر الخليفة راجل. فيستحيي أسامة الفتى الحدث أن يركب والخليفة الشيخ يمشي. فيقول : «يا خليفة رسول اللّه لتركبن أو لأنزلن» .. فيقسم الخليفة :
«واللّه لا تنزل. وو اللّه لا أركب. وما علي أن أغبر قدمي في سبيل اللّه ساعة؟» ..
ثم يرى أبو بكر أنه في حاجة إلى عمر. وقد حمل عبء الخلافة الثقيل. ولكن عمر إنما هو جندي في جيش أسامة. وأسامة هو الأمير. فلا بد من استئذانه فيه. فإذا الخليفة يقول : «إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل» .. يا للّه! إن رأيت أن تعينني فافعل .. إنها آفاق عوال ، لا يرقى إليها الناس إلا بإرادة اللّه ، على يدي رسول من عند اللّه! ثم تمضي عجلة الزمن فنرى عمر بن الخطاب خليفة يولي عمار بن ياسر على الكوفة.
ويقف بباب عمر سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام ، وأبو سفيان بن حرب ، وجماعة من كبراء قريش من الطلقاء! فيأذن قبلهم لصهيب وبلال. لأنهما كانا من السابقين إلى الإسلام ومن أهل بدر. فتورم أنف أبي سفيان ، ويقول بانفعال الجاهلية : «لم أر كاليوم قط. يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه!» ..
فيقول له صاحبه - وقد استقرت في حسه حقيقة الإسلام - : «أيها القوم. إني واللّه أرى الذي في وجوهكم.
إن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم. دعي القوم إلى الإسلام ودعيتم. فأسرعوا وأبطأتم. فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟.(1/1437)
ويفرض عمر لأسامة بن زيد أكبر مما يفرض لعبد اللّه بن عمر. حتى إذا سأله عبد اللّه عن سر ذلك قال له : «يا بني. كان زيد - رضي اللّه عنه - أحب إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من أبيك! وكان أسامة - رضي اللّه عنه - أحب إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - منك! فآثرت حب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على حبي» « أخرجه الترمذي. » .. يقولها عمر وهو يعلم أن حب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان مقوما بميزان السماء! ويرسل عمر عمارا ليحاسب خالد بن الوليد - القائد المظفر صاحب النسب العريق - فيلببه بردائه .. ويروى أنه أوثقه بشال عمامته حتى ينتهي من حسابه فتظهر براءته فيفك وثاقه ويعممه بيده .. وخالد لا يرى في هذا
كله بأسا. فإنما هو عمار صاحب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - السابق إلى الإسلام الذي قال عنه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ما قال! وعمر هو الذي يقول عن أبي بكر - رضي اللّه عنهما - هو سيدنا وأعتق سيدنا. يعني بلالا. الذي كان مملوكا لأمية بن خلف. وكان يعذبه عذابا شديدا. حتى اشتراه منه أبو بكر وأعتقه .. وعنه يقول عمر بن الخطاب .. عن بلال .. سيدنا! وعمر هو الذي قال : «ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته» يقول هذا ، وهو لم يستخلف عثمان ولا عليا ، ولا طلحة ولا الزبير .. إنما جعل الشورى في الستة بعده ولم يستخلف أحدا بذاته! وعلي بن أبي طالب - كرم اللّه وجهه - يرسل عمارا والحسن بن علي - رضي اللّه عنهما - إلى أهل الكوفة يستنفرهم في الأمر الذي كان بينه وبين عائشة - رضي اللّه عنها - فيقول : «إني لأعلم أنها زوجة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة ، ولكن اللّه ابتلاكم لتتبعوه أو تتبعوها» « أخرجه البخاري.» .. فيسمع له الناس في شأن عائشة أم المؤمنين ، وبنت الصديق أبي بكر - رضي اللّه عنهم جميعا.
وبلال بن رباح يرجوه أخوه في الإسلام أبو رويحة الخثعمي أن يتوسط له في الزواج من قوم من أهل اليمن. فيقول لهم : «أنا بلال بن رباح ، وهذا أخي أبو رويحة ، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين. فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه ، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا» .. فلا يدلس عليهم ، ولا يخفي من أمر أخيه شيئا ، ولا يذكر أنه وسيط وينسى أنه مسؤول أمام اللّه فيما يقول .. فيطمئن القوم إلى هذا الصدق .. ويزوجون أخاه ، وحسبهم - وهو العربي ذو النسب - أن يكون بلال المولى الحبشي وسيطه! واستقرت تلك الحقيقة الكبيرة في المجتمع الإسلامي ، وظلت مستقرة بعد ذلك آمادا طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة. «وقد كان عبد اللّه بن عباس يذكر ويذكر معه مولاه عكرمة. وكان عبد اللّه ابن عمر يذكر ويذكر معه مولاه نافع. وأنس بن مالك ومعه مولاه ابن سيرين. وأبو هريرة ومعه مولاه عبد الرحمن بن هرمز. وفي البصرة كان الحسن البصري. وفي مكة كان مجاهد بن جبر ، وعطاء بن رباح ، وطاووس بن كيسان هم الفقهاء. وفي مصر تولى الفتيا يزيد بن أبي حبيب في أيام عمر بن عبد العزيز وهو مولى أسود من دنقلة» ..(1/1438)
وظل ميزان السماء يرجح بأهل التقوى ولو تجردوا من قيم الأرض كلها .. في اعتبار أنفسهم وفي اعتبار الناس من حولهم. ولم يرفع هذا الميزان من الأرض إلا قريبا جدا بعد أن طغت الجاهلية طغيانا شاملا في أنحاء الأرض جميعا. وأصبح الرجل يقوم برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية. وأصبح الإنسان كله لا يساوي الآلة في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية. أما أرض المسلمين فقد سادت فيها الجاهلية الأولى ، التي جاء الإسلام ليرفعها من وهدتها وانطلقت فيها نعرات كان الإسلام قد قضى عليها.
وحطمت ذلك الميزان الإلهي وارتدت إلى قيم جاهلية زهيدة لا تمت بصلة إلى الإيمان والتقوى ..
ولم يعد هنالك إلا أمل يناط بالدعوة الإسلامية أن تنقذ البشرية كلها مرة أخرى من الجاهلية وأن يتحقق على يديها ميلاد جديد للإنسان كالميلاد الذي شهدته أول مرة ، والذي جاء ذلك الحادث الذي حكاه مطلع هذه السورة ليعلنه في تلك الآيات القليلة الحاسمة العظيمة .. (1)
مقصودها شرح ) إنما أنت منذر من يخشاها ) [ النازعات : 45 ] بأن المراد الأعظم تزكية القابل للخشية بالتخويف بالقيامة التي قام الدليل على القدرة عليها بابتداء الخلق من الإنسان ، وبكل من الابتداء والإعادة لطعامه والتعجيب ممن أعرض مع قيام الدليل والإشارة إلى أن الاستغناء والترف أمارة الإعراض وعدم القابلية والتهيؤ للكفر والفجور ، وإلى أن المصائب أمارة للطهارة والإقبال واستكانة القلوب وسمو النفوس لشريف الأ " مال ، فكل من كان فيها أرسخ كان قلبيه أرق وألطف فكان أخشى ، فكان الإقبال عليه أحب وأولى ، واسمها عبس هو الدال على ذلك بتأمل آياته وتدبر فواصله وغاياته ، وكذا الصاخة النافخة بشرها وشررها والباخة (2)
ما جاء فى هذه السورة الكريمة من مقاصد
(1) عتاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ما حدث منه مع ابن أم مكتوم الأعمى.
(2) أن القرآن ذكرى وموعظة لمن عقل وتدبّر.
(3) إقامة الأدلة على وحدانية اللّه بخلق الإنسان والنظر فى طعامه وشرابه.
(4) أهوال يوم القيامة.
(5) الناس فى هذا اليوم فريقان : سعداء وأشقياء ، وذكر حال كل منهما حينئذ. (3)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3822)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 323)
(3) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 51)(1/1439)
(81) سورة التكوير
لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سماها تسمية صريحة. وفي حديث الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت" . وليس هذا صريحا في التسمية لأن صفة يوم القيامة في جميع هذه السورة بل هو في الآيات الأول منها، فتعين أن المعنى: فليقرأ هذه الآيات، وعنونت في "صحيح البخاري" وفي "جامع الترمذي" "سورة إذا الشمس كورت"، وكذلك عنونها الطبري.
وأكثر التفاسير يسمونها "سورة التكوير" وكذلك تسميتها في المصاحف وهو اختصار لمدلول "كورت".
وتسمى "سورة كورت" تسمية بحكاية لفظ وقع فيها. ولم يعدها في "الإتقان" مع السور التي لها أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة السابعة في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة الأعلى.
وعدد آيها تسع وعشرون.
أغراضها
اشتملت على تحقيق الجزاء صريحا.
وعلى إثبات البعث وابتدىء بوصف الأهوال التي تتقدمه وأنتقل إلى وصف أهوال تقع عقبه.
وعلى التنويه بشأن القرآن الذي كذبوا به لأنه أوعدهم بالبعث زيادة لتحقيق وقوع البحث إذ رموا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنون والقرآن بأنه يأتيه به شيطان. (1)
مناسبتها لما قبلها
جاء فى سورة « عبس » عرض ليوم القيامة ، وللعذاب الشديد الذي يحيط بالكافرين ، حتى ليفر الكافر من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ..وقد جاءت سورة « التكوير » بعدها ، عارضة المشاهد التي تسبق هذا اليوم ، لتخرح بالمشركين وراء دائرة العذاب قليلا ، ليلقوا نظرة على الحياة الدنيا ، التي كانوا فيها ، والتي يودون الفرار إليها ..فهل إذا أتيحت لهم فرصة الفرار من هذا العذاب ، وعادوا إلى الدنيا ، أيصلحون ما أفسدوا من حياتهم ؟ أيؤمنون بهذا اليوم ، وما يلقى الكافرون فيه ؟ وإنهم لفى هذا اليوم
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 123)(1/1440)
فعلا ، إنهم لم يبرحوا هذه الدنيا بعد .. فماذا هم فاعلون ؟ .. هذا سؤال ستكشف الأيام عن الجواب الذي يعطيه هؤلاء المشركون عنه .. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « التكوير » ، وتسمى - أيضا - بسورة : « إذا الشمس كورت » ، وهي من السور المكية بلا خلاف ، وعدد آياتها : تسع وعشرون آية.
وتعتبر من أوائل السور القرآنية نزولا ، فهي السورة السادسة أو السابعة في ترتيب النزول ، فقد كان نزولها بعد سورة الفاتحة. وقبل سورة « الأعلى ».
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : « من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى العين ، فليقرأ « إذا الشمس كورت » ، « وإذا السماء انفطرت » « وإذا السماء انشقت ».
2 - والمتأمل في هذه السورة الكريمة ، يراها في نصفها الأول ، تسوق أمارات يوم القيامة وعلاماته ، بأسلوب مؤثر يبعث في القلوب الخوف والوجل.
ويراها في نصفها الثاني تؤكد أن هذا القرآن الكريم من عند اللّه - تعالى - ، وليس من كلام البشر ، وأن جبريل الأمين قد نزل به على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - . (2)
السورة فصلان ، الأول في صدد يوم القيامة وهول أعلامه وحساب الناس فيه ومصائرهم ، والثاني في صدد توكيد صدق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلته بوحي اللّه وملكه ونفي الجنون عنه وصلة الشيطان به. والفصلان على اختلاف موضوعيهما غير منفصلين عن بعضهما ، والمرجح أنهما نزلا متتابعين فوضع الواحد بعد الآخر. (3)
سورة التكوير مكيّة ، وهي تسع وعشرون آية.
تسميتها : سميت سورة التكوير ، لافتتاحها بقوله تعالى : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أي جمع بعضها إلى بعض ، ثم لفّت ، فرمى بها ، ومحى ضوؤها.
مناسبتها لما قبلها :
توضح كل من السورتين أهوال القيامة وشدائدها ، ففي سورة عبس قال تعالى : فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ .. [33 - 42] وفي هذه السورة قال سبحانه : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ .. إلخ ،
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1466)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 295)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 499)(1/1441)
فلما ذكر سبحانه الطامة والصاخة في خاتمتي السورتين المتقدمتين ، أردفهما بذكر سورتين مشتملتين على أمارات القيامة وعلامات يوم الجزاء.
ما اشتملت عليه السورة :
هذه السورة كغيرها من السور المكية تتعلق بالعقيدة ، فهي تقرر ما يوجد في يوم القيامة من أحوال ، وتثبت أن القرآن الكريم منزل من عند اللّه تعالى.
وقد ابتدأت ببيان أهوال القيامة ، وما يصحبها من تغيرات كونية غريبة ، تشمل كل ما يشاهده الإنسان في الدنيا من السماء وكواكبها ، والأرض وجبالها وبحارها ووحوشها ، والنفوس البشرية ومظالمها ، وتبرز بعدئذ الجحيم ونيرانها ، والجنة ونعيمها : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ .. [الآيات : 1 - 14].
ثم تحدثت عن القرآن وتنزيله من اللّه بواسطة جبريل الأمين على قلب النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وإثبات نبوته ورسالته وأمانته في تبليغ الوحي وأهليته العالية لتلقي الوحي ، ورؤيته جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية : فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ .. [الآيات : 15 - 25].
وختمت السورة ببيان ضلال المشركين ، وأن القرآن عظة وذكرى لجميع العالمين من الإنس والجن ممن أراد الهداية وأقبل على الخير ، وأن مشيئة العبد تابعة لمشيئة اللّه تعالى ، فلا يستطيع الاستقلال بعمل ما دون إرادة اللّه. (1)
وهي مكية. وآياتها تسع وعشرون آية ، وقد تضمنت الكلام على البعث بذكر مقدماته. وما يكون فيه ، ثم القسم المؤكد على أن القرآن حق أوحى به إلى محمد على لسان جبريل الأمين. وما كان محمد بمجنون ولا متهم. (2)
ويقال سورة كورت وسورة إذا الشمس كورت وهي مكية بلا خلاف وآيها تسع وعشرون آية ، وفي التيسير ثمان وعشرون ، وفيها من شرح حال يوم القيامة الذي تضمنه آخر السورة قبل ما فيها وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت» أي السور الثلاث وكفى بذلك مناسبة. (3)
* سورة التكوير من السور المكية ، وهي تعالج حقيقتين هامتين هما : (حقيقة القيامة) وحقيقة (الوحي والرسالة) وكلاهما من لوازم الإيمان وأركانه.
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 79)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 827)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 253)(1/1442)
* ابتدات السورة الكريمة ببيان القيامة ، وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل ، يشمل الشمس والنجوم ، والجبال ، والبحار ، والأرض ، والسماء ، والأنعام ، والوحوش ، كما يشمل البشر ويهز الكون هزا عنيفا طويلا ، ينتثر فيه كل ما في الوجود ، ولا يبقى شيء إلا قد تبدل وتغير من هول ما يحدث في ذلك اليوم الرهيب [ إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ، وإذا الجبال سيرت ، وإذا العشار عطلت ، وإذا الوحوش حشرت ، وإذا البحار سجرت ] الآيات.
* ثم تناولت (حقيقة الوحي ) وصفة النبي الذي يتلقاه ، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي ، والرسول الذي نزل لينقلهم من ظلمات الشرك والضلال ، إلى نور العلم والإيمان [ فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ، إنه لقول رسول كريم ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة ببيان بطلان مزاعم المشركين ، حول القرآن العظيم ، وذكرت أنه موعظة من الله تعالى لعباده [ فأين تذهبون ، إن هو إلا ذكر للعالمين ، لمن شاء منكم أن يستقيم [ وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين. (1)
مقصودها التهديد الشديد بيوم الوعيد الذي هو محط الرحال ، لكونه أعظم مقام لظهور الجلال ، لمن طذب بأن هذا القرآن تذكرة لمن ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة ، والدلالة على حقية كونه كذلك بأن السفير به أمين في الملأ الأعلى مكين المكانف فيما هنالك والموصل بعه إلينا منزه عن التهمة برئ من النقص لما يعلمونه من حاله قبل النبوة وما كانوا يشهدون له به من أمره ولم يأتهم بعدها إلا بما هو شرف له وتذكير بما في أنفسهم وفي الآفاق ومن الآيات ، وذلك كاف لهم في الحكم بأنه صدق والعم اليقين بأنه حق ، واسمها التكوير أدل ما فيها على ذلك بتأمل الظرف وجوابه وما فيه من بديع القول وصوابه ، وما تسبب عنه من عظم الشأن لهذا القرآن (2)
هذه السورة ذات مقطعين اثنين تعالج في كل مقطع منهما تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة :
الأولى حقيقة القيامة ، وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل كامل ، يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار ، والأرض والسماء ، والأنعام والوحوش ، كما يشمل بني الإنسان.
والثانية حقيقة الوحي ، وما يتعلق بها من صفة الملك الذي يحمله ، وصفة النبي الذي يتلقاه ، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي معه ، ومع المشيئة الكبرى التي فطرتهم ونزلت لهم الوحي.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 462)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 335)(1/1443)
والإيقاع العام للسورة أشبه بحركة جائحة. تنطلق من عقالها ، فتقلب كل شي ء ، وتنثر كل شيء وتهيج الساكن وتروع الآمن وتذهب بكل مألوف وتبدل كل معهود وتهز النفس البشرية هزا عنيفا طويلا ، يخلعها من كل ما اعتادت أن تسكن إليه ، وتتشبث به ، فإذا هي في عاصفة الهول المدمر الجارف ريشة لا وزن لها ولا قرار. ولا ملاذ لها ولا ملجأ إلا في حمى الواحد القهار ، الذي له وحده البقاء والدوام ، وعنده وحده القرار والاطمئنان ..
ومن ثم فالسورة بإيقاعها العام وحده تخلع النفس من كل ما تطمئن إليه وتركن ، لتلوذ بكنف اللّه ، وتأوي إلى حماه ، وتطلب عنده الأمن والطمأنينة والقرار ..
وفي السورة - مع هذا - ثروة ضخمة من المشاهد الرائعة ، سواء في هذا الكون الرائع الذي نراه ، أو في ذلك اليوم الآخر الذي ينقلب فيه الكون بكل ما نعهده فيه من أوضاع. وثروة كذلك من التعبيرات الأنيقة! المنتقاة لتلوين المشاهد والإيقاعات. وتلتقي هذه وتلك في حيز السورة الضيق ، فتضغط على الحس وتنفذ إليه في قوة وإيحاء.
ولولا أن في التعبير ألفاظا وعبارات لم تعد مألوفة ولا واضحة للقارئ في هذا الزمان ، لآثرت ترك السورة تؤدي بإيقاعها وصورها وظلالها وحقائقها ومشاهدها ، ما لا تؤديه أية ترجمة لها في لغة البشر وتصل بذاتها إلى أوتار القلوب فتهزها من الأعماق.
ولكن لا بد مما ليس منه بد. وقد بعدنا في زماننا هذا عن مألوف لغة القرآن! (1)
موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) أهوال يوم القيامة.
(2) الإقسام بالنجوم وبالليل وبالصبح إن القرآن منزل من عند اللّه بوساطة ملائكته.
(3) إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
(4) بيان أن القرآن عظة وذكرى لمن أراد الهداية ، وتوجهت نفسه إلى فعل الخير.
(5) مشيئة العبد تابعة لمشيئة الربّ سبحانه ، وليس لها استقلال بالعمل. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3836)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 62)(1/1444)
(82) سورة الانفطار
سميت هذه السورة "سورة الانفطار" في المصاحف ومعظم التفاسير.
وفي حديث رواه الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت" . قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقد عرفت ما فيه من الاحتمال في أول سورة التكوير.وسميت في بعض التفاسير "سورة إذا السماء انفطرت" وبهذا الاسم عنونها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه". ولم يعدها صاحب "الإتقان" مع السور ذات أكثر من اسم وهو الانفطار.
ووجه التسمية وقوع جملة {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الإنفطار:1] في أولها فعرفت بها.
وسميت في قليل من التفاسير "سورة انفطرت"، وقيل تسمى "سورة المنفطرة" أي السماء المنفطرة.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة الثانية والثمانين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة النازعات وقبل سورة الانشقاق.
وعدد آيها تسع عشرة آية.
أغراضها
واشتملت هذه السورة على: إثبات البعث، وذكر أهوال تتقدمه.
وإيقاظ المشركين للنظر في الأمور التي صرفتهم عن الاعتراف بتوحيد الله تعالى وعن النظر في دلائل وقوع البعث والجزاء.
والأعلام بأن الأعمال محصاة. وبيان جزاء الأعمال خيرها وشرها.
وإنذار الناس بأن لا يحسبوا شيئا ينجيهم من جزاء الله إياهم على سيء أعمالهم. (1)
مناسبتها لما قبلها
هذه السورة الكريمة ، هى على شاكلة سابقتها « التكوير ». . كل منهما حديث عن يوم القيامة وإرهاصاتها .. فكان جمعهما فى هذا السياق من جمع النظير إلى نظيره ، ليتأكد ويتقرر فى الأذهان .. (2)
مقدمة وتمهيد
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 150)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1478)(1/1445)
1 - سورة « الانفطار » من السور المكية الخالصة ، وتسمى - أيضا - سورة « إذا السماء انفطرت » ، وسورة « المنفطرة » أى : السماء المنفطرة.
2 - وعدد آياتها : تسع عشرة آية. وهي السورة الثانية والثمانون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول ، فكان نزولها بعد سورة (النازعات) ، وقبل سورة (الانشقاق) ، أى أنها السورة الثانية والثمانون - أيضا - في ترتيب النزول.
3 - وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على إثبات البعث ، وعلى أهوال يوم القيامة ، وعلى تنبيه الناس إلى وجوب الاستعداد لهذا اليوم الشديد ، وعلى جانب من نعم اللّه على خلقه ، وعلى بيان حسن عاقبة الأبرار ، وسوء عاقبة الفجار. (1)
في السورة إنذار بالبعث وهوله ومشاهده. وتنديد بالمكذبين الذين يقفون من اللّه موقف الكفر والنكران مع عظيم نعمه عليهم في حسن الخلق ومواهب العقل.
وبيان خطورته ومصير الأبرار والفجّار فيه ومسؤولية كل عن عمله.
ونظم السورة وانسجام آياتها تسوغان القول بوحدة نزولها. (2)
سورة الانفطار مكيّة ، وهي تسع عشرة آية.
تسميتها : سميت سورة (الانفطار) ، لافتتاحها بقوله تعالى : إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت ، كما قال سبحانه : السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل 73/ 18].
مناسبتها لما قبلها :
هذه السورة وما قبلها وسورة الانشقاق في وصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ، كما تقدم.
ما اشتملت عليه السورة :
هذه السورة المكية كغيرها من السور المكية تتحدث عن أمور في العقيدة ، وهي هنا بعض أمارات القيامة وما يصحبها من تبدل في الكون ، ووقوع أحداث جسام ، ووصف أحوال الأبرار والفجار يوم البعث ، كالسورة المتقدمة.
ابتدأت بوصف الأحداث الكونية التي ترى في القيامة وهي انشقاق السماء ، وانتثار الكواكب ، وتفجير البحار ، وبعثرة القبور ، ثم الإخبار عن علم كل نفس بما قدّمت وأخّرت : إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ .. [الآيات : 1 - 5].
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 307)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 419)(1/1446)
ثم ندّدت بجحود الإنسان نعم ربّه ، وبتقصيره في مقابلة الإحسان بالشكر والعرفان : يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ .. [الآيات : 6 - 8].
ثم ذكرت سبب هذا الجحود وهو إنكار البعث ، وبيّنت أن أعمال الإنسان كلها محفوظة مسجلة عليه ، يقوم برصدها ملائكة كرام كاتبون : كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ .. [الآيات : 9 - 12].
وأردفت ذلك ببيان مصير الناس وانقسامهم إلى فريقين : أبرار وفجّار ، وأيلولتهم إلى نعيم أو جحيم : إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ .. [الآيات : 13 - 16].
وختمت السورة بالتحذير من يوم الدّين ، أي الجزاء والقيامة ، واستقلال كل إنسان بالمسؤولية عن نفسه ، وتفرد اللّه بالحكم والأمر : وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ .. [الآيات : 17 - 19].
والخلاصة : أن اللّه تعالى ذكر في هذه السورة السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه. (1)
وهي مكية. وعدد آياتها تسع عشرة آية ، وهي تتضمن الكلام على البعث والتذكير بيوم القيامة وأن النفس تشهد فيه ما عملت ، ثم ناقشت الإنسان في شأن مخالفته لربه وتماديه في فجوره ، مع أنه صاحب نعم جليلة عليه ، وقد جعل له شهودا كراما كاتبين ، ثم كانت النهاية لكل إنسان إما الجنة وإما النار ، والأمر يومئذ للّه. (2)
* سورة الانفطار من السور المكية ، وهي تعالج - كسابقتها (سورة التكوير) - الإنقلاب الكوني الذي يصاحب قيام الساعة ، وما يحدث في ذلك اليوم الخطير من أحداث جسام ، ثم بيان حال الأبرار ، وحال الفجار ، يوم البعث والنشور
* ابتدأت السورة الكريمة ببيان مشاهد الإنقلاب الذي يحدث في الكون ، من انفطار السماء وإنتثار الكواكب ، وتفجير البحار ، وبعثرة القبور ، وما يعقب ذلك من الحساب والجزاء [ إذا السماء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت ، وإذا البحار فجرت ، وإذا القبور بعثرت ، علمت نفس ما قدمت وأخرت ] .
* ثم تحدثت عن جحود الإنسان وكفرانه لنعم ربه ، وهو يتلقى فيوض النعمة منه جل وعلا ، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها ، ولا يعرف لربه قدره ، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة [ يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك ] ؟
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 95)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 833)(1/1447)
* ثم ذكرت علة هذا الجحود والإنكار ، ووضحت أن الله تعالى وكل بكل إنسان ملائكة يسجلون عليه أعماله ، ويتعقبون أفعاله [ كلا بل تكذبون بالدين ، وإن عليكم لحافظين ، كراما كاتبين [ يعلمون ما تفعلون
* وذكرت السورة انقسام الناس في الآخرة إلى قسمين : أبرار ، وفجار ، وبينت مآل كل من الفريقين إن الأبرار لفي نعيم ، وإن الفجار لفي جحيم ، يصلونها يوم الدين . . ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بتصوير ضخامة يوم القيامة وهوله ، وتجرد النفوس يومئذ من كل حول وقوة وتفرد الله جل وعلا بالحكم والسلطان [ وما أدراك ما يوم الدين ؟ ثم ما أدراك ما يوم الدين ؟ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ، والأمر يومئذ لله. (1)
مقصودها التحذير من الانهماك في الأعمال السيئة اغترارا بإحسان الرب وكرمه ونسيانا ليوم الدين الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير ، ولا تغني فيه نفس عن نفس شيئا ، واسمها الانفطار أدل ما فيها على ذلك (2)
تتحدث هذه السورة القصيرة عن الانقلاب الكوني الذي تتحدث عنه سورة التكوير. ولكنها تتخذ لها شخصية أخرى ، وسمتا خاصا بها ، وتتجه إلى مجالات خاصة بها تطوّف بالقلب البشري فيها وإلى لمسات وإيقاعات من لون جديد. هادئ عميق. لمسات كأنها عتاب. وإن كان في طياته وعيد! ومن ثم فإنها تختصر في مشاهد الانقلاب ، فلا تكون هي طابع السورة الغالب - كما هو الشأن في سورة التكوير - لأن جو العتاب أهدأ ، وإيقاع العتاب أبطأ .. وكذلك إيقاع السورة الموسيقي. فهو يحمل هذا الطابع.
فيتم التناسق في شخصية السورة والتوافق! إنها تتحدث في المقطع الأول عن انفطار السماء وانتثار الكواكب ، وتفجير البحار وبعثرة القبور كحالات مصاحبة لعلم كل نفس بما قدمت وأخرت ، في ذلك اليوم الخطير ..
وفي المقطع الثاني تبدأ لمسة العتاب المبطنة بالوعيد ، لهذا الإنسان الذي يتلقى من ربه فيوض النعمة في ذاته وخلقته ، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها ، ولا يعرف لربه قدره ، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة : «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ؟ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» ..
وفي المقطع الثالث يقرر علة هذا الجحود والإنكار. فهي التكذيب بالدين - أي بالحساب - وعن هذا التكذيب ينشأ كل سوء وكل جحود. ومن ثم يؤكد هذا الحساب توكيدا ، ويؤكد عاقبته وجزاءه المحتوم
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 465)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 347)(1/1448)
: «كَلَّا. بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ. وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ. إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ. وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ» ..
فأما المقطع الأخير فيصور ضخامة يوم الحساب وهوله ، وتجرد النفوس من كل حول فيه ، وتفرد اللّه سبحانه بأمره الجليل : «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ؟ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ؟ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» ..
فالسورة في مجموعها حلقة في سلسلة الإيقاعات والطرقات التي يتولاها هذا الجزء كله بشتى الطرق والأساليب. (1)
ما فى هذه السورة من مقاصد
(1) وصف بعض أهوال يوم القيامة.
(2) تقصير الإنسان فى مقابلة الإحسان بالشكران.
(3) بيان أن أعمال الإنسان موكل بها كرام كاتبون.
(4) بيان أن الناس فى هذا اليوم : إما بررة منعمون ، وإما فجرة معذبون. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3845)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 70)(1/1449)
(83) سورة المطففين
سميت هذه السورة في كتب السنة وفي بعض التفاسير "سورة ويل للمطففين"، وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه"، والترمذي في "جامعه".
وسميت في كثير من كتب التفسير والمصاحف "سورة المطففين" اختصارا.
ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور ذوات أكثر من اسم وسماها "سورة المطففين" وفيه نظر.
وقد أختلف في كونها مكية أو مدنية أو بعضها مكي وبعضها مدني. فعن ابن مسعود والضحاك ومقاتل في رواية عنه: أنها مكية، وعن ابن عباس في الأصح عنه وعكرمة والحسن السدي ومقاتل في رواية أخرى عنه: أنها مدنية، قال: وهي أول سورة نزلت بالمدينة، وعن ابن عباس في رواية عنه وقتادة: هي مدنية إلا ثمان آيات من آخرها من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [الإنفطار:19] إلى آخرها.
وقال الكلبي وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة فهي لذلك مكية، لأن العبرة في المدني بما نزل بعد الهجرة على المختار من الأقوال لأهل علم القرآن.
قال ابن عطية: احتج جماعة من المفسرين على أنها مكية بذكر الأساطير فيها أي قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم:15]. والذي نختاره: أنها نزلت قبل الهجرة لأن معظم ما اشتملت عليه التعريض بمنكري البعث.
ومن اللطائف أن تكون نزلت بين مكة والمدينة لأن التطفيف كان فاشيا في البلدين. وقد حصل من اختلافهم أنها: إما آخر ما أنزل بمكة، وإما أول ما أنزل بالمدينة، والقول بأنها نزلت بين مكة والمدينة قول حسن.
فقد ذكر الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس قال لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وعن القرظي كان بالمدينة تجار يطففون الكيل وكانت يباعاتهم كسبت القمار والملامسة والمناملة والمخاصرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السوق وقرأها، وكانت عادة فشت فيهم من زمن الشرك فلم يتفطن بعض الذين أسلموا من أهل المدينة لما فيه من أكل مال الناس. فأريد إيقاظهم لذلك، فكانت مقدمة لإصلاح أحوال المسلمين في المدينة مع تشنيع أحوال المشركين بمكة ويثرب بأنهم الذين سنوا التطفيف.(1/1450)
وما أنسب هذا المقصد بأن تكون نزلت بين مكة والمدينة لتطهير المدينة من فساد المعاملات التجارية قبل أن يدخل إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يشهد فيها منكرا عاما فإن الكيل والوزن لا يخلو وقت عن التعامل بهما في الأسواق وفي المبادلات.
وهي معدودة السادسة والثمانين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة العنكبوت وقبل سورة البقرة.
وعدد آيها ست وثلاثون.
أغراضها
اشتملت على التحذير من التطفيف في الكيل والوزن وتفظيعه بأنه تحيل على أكل مال الناس في حال المعاملة أخذا وإعطاء.
وأن ذلك مما سيحاسبون عليه يوم القيامة.
وتهويل ذلك اليوم بأنه وقوف عند ربهم ليفصل بينهم وليجازيهم على أعمالهم وأن الأعمال محصاة عند الله.
ووعيد الذين يكذبون بيوم الجزاء والذين يكذبون بأن القرآن منزل من عند الله.
وقوبل حالهم بضده من حال الأبرار أهل الإيمان ورفع درجاتهم وإعلان كرامتهم بين الملائكة والمقربين وذكر صور من نعيمهم.
وانتقل من ذلك إلى وصف حال الفريقين في هذا العالم الزائل إذ كان المشركون يسخرون من المؤمنين ويلزمونهم ويستضعفونهم وكيف انقلب الحال في العالم الأبدي. (1)
مناسبتها لما قبلها
أجملت سورة الانفطار التي سبقت المطففين مصير الفجار ، ومصير الأبرار ..فجاءت سورة المطففين. مفصلة شيئا من هذا المصير ، كما جاءت كاشفة مبينة عن وجوه من فجر الفجار ، كالتطفيف فى الكيل والميزان ، والتكذيب بيوم الدين ، والاتهام لرسول اللّه ، ولآيات اللّه .. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « المطففين » أو سورة « ويل للمطففين » أو سورة « التطفيف » من السور التي اختلف المفسرون في كونها مكية أو مدنية أو بعضها مكي وبعضها مدني.
فصاحب الكشاف يقول : مكية ... وهي آخر سورة نزلت بمكة.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 166)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1486)(1/1451)
والإمام ابن كثير يقول : هي مدنية ، دون أن يذكر في ذلك خلافا.
والإمام القرطبي يقول : سورة « المطففين » : مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومدنية في قول الحسن وعكرمة ، وهي ست وثلاثون آية.
قال مقاتل : وهي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة : هي مدنية إلا ثماني آيات ، من قوله - تعالى - : إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إلى آخرها. فإنها مكية. وقال الكلبي وجابر بن زيد : نزلت بين مكة والمدينة.
والإمام الآلوسى يجمع كل هذه الأقوال في تفسيره بشيء من التفصيل دون أن يرجح بينها.
2 - ويبدو لنا أن سورة المطففين من السور المكية ، إلا أننا نرجح أنها من آخر ما نزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قرآن مكي ، وقد ذكرها الإمام السيوطي في كتابه الإتقان ، على أنها آخر سورة مكية ، نزلت على الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة « 1 ».
ومما يجعلنا نرجح أن سورة المطففين من السور المكية : حديثها الواضح عن الفجار والأبرار.
وعن يوم القيامة وسوء عاقبة المكذبين به ، وعن أقوال المشركين في شأن القرآن الكريم.
وعن الموازنة بين مصير المؤمنين والكافرين ، وعن موقف كفار قريش من فقراء المؤمنين.
وهذه الموضوعات نراها من السمات الواضحة للقرآن المكي ، وإذا كان القرآن المدني قد تحدث عنها ، فبصورة أقل تفصيلا من القرآن المكي.
3 - والسورة الكريمةفي مطلعها تهدد الذين ينقصون المكيال والميزان ويبخسون الناس أشياءهم. وتذكرهم بيوم البعث والحساب والجزاء ، لعلهم يتوبون إلى خالقهم ويستغفرونه مما فرط منهم.
ثم تسوق موازنة مفصلة بين سوء عاقبة الفجار ، وحسن عاقبة الأبرار.
ثم تختتم بذكر ما كان يفعله المشركون مع فقراء المؤمنين ، من استهزاء وإيذاء ، وبشرت هؤلاء المؤمنين : بأنهم يوم الجزاء والحساب ، سيضحكون من الكفار ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا. قال - تعالى - : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ. هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ. (1)
في السورة تنديد بالغشاشين في الكيل والميزان وإنذار بحساب اللّه.
واستطراد إلى ذكر مصير المكذبين والمؤمنين يوم القيامة. وحكاية لسخرية الكفار بالمؤمنين في الدنيا وانقلاب الحال في الآخرة. وآيات السورة متوازنة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.
والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه السورة آخر السور المكية نزولا.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 315)(1/1452)
ومعظم روايات ترتيب النزول تذكر أنها من السور المتأخرة في النزول كذلك ، ومنها ما يتّفق مع المصحف بأنها الآخر نزولا. غير أن مضمونها وأسلوبها يثيران في النفس شكا في ذلك ويسوغان الظنّ بأنها من السور المبكرة في النزول. مثل السور القصيرة المسجّعة. (1)
سورة المطففين مكيّة ، وهي ست وثلاثون آية.
تسميتها : سميت سورة (المطففين) ، لافتتاحها بقوله تعالى : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ وهم الذين يبخسون المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضوا من الناس ، وإما بالنقصان إن قضوهم أو وزنوا أو كالوا لهم.
مناسبتها لما قبلها :
تتعلق هذه السورة بما قبلها من وجوه أربعة :
1 - قال اللّه تعالى في آخر السورة المتقدمة واصفا يوم القيامة : يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وذلك يقتضي تهديدا عظيما للعصاة ، فلهذا أتبعه هنا بقوله : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ والمراد : الزجر عن التطفيف : والبخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية. أما الكثير فيظهر ، فيمنع منه.
2 - في كل من السورتين توضيح أحوال يوم القيامة.
3 - ذكر اللّه تعالى في السورة السابقة : وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ [10 - 11] وذكر هنا ما يكتبه الحافظون : كِتابٌ مَرْقُومٌ [20] يجعل في عليين ، أو في سجين.
4 - ذكر اللّه تعالى تصنيف الناس إلى فريقين : أبرار وفجار في كل من السورتين ، وذكر مآل كل فريق ، إما إلى الجنة ، وإما إلى النار. قال أبو حيان : لما ذكر تعالى السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه ، ذكر ما أعد لبعض العصاة ، وذكّرهم بأخس ما يقع من المعصية ، وهي التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته «1».
ما اشتملت عليه السورة :
عنيت هذه السورة كسائر السور المكية بأمور العقيدة ، وعلى التخصيص أحوال يوم القيامة وأهوالها ، وعنيت بأمور الأخلاق الاجتماعية ، وهي هنا تطفيف الكيل والميزان.
بدأت السورة بمطلع مخيف ، وهو وعيد المطففين بالعذاب الشديد : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ .. [الآيات 1 - 6].
ثم أبانت أن كتاب الفجار الأشقياء في ديوان الشر ، وفي كتاب مرقوم بعلامة ، وأن مصيرهم أسفل السافلين في نار جهنم : كَلَّا ، إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ .. [الآيات 7 - 17].
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 507)(1/1453)
وأردفت ذلك على سبيل المقارنة والعبرة والجمع بين الترغيب والترهيب ببيان أن صحائف الأبرار في أعلى عليين ، وأنها في كتاب مرقوم بعلامة متميزة عن صحائف الفجار : إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ .. [الآيات 18 - 28].
وختمت السورة بوصف موقف المجرمين من المؤمنين ، حيث كانوا يستهزئون ويضحكون منهم في الدنيا لإيمانهم وتقواهم ربهم ، ثم انعكاس هذا الموقف في الآخرة حيث صار المؤمنون يتضاحكون من الأشقياء المجرمين ويسخرون منهم ،وينظرون إليهم وهم يعذبون في النار وما يلقونه من النكال : إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ .. [الآيات 29 - 36]. (1)
وهي مكية في قول الأكثرين ، وعدد آياتها ست وثلاثون آية ، وتتضمن هذه السورة تفصيلا لبعض أنواع الفجور كالتطفيف في الكيل ، والتكذيب بيوم الدين ، والاعتداء على الغير ، والقول بأن القرآن أساطير الأولين ، وسبب هذا ، وجزاؤه يوم القيامة ، ثم تفصيل جزاء الأبرار ، فكأن هذه السورة جاءت بيانا للسورة السابقة. (2)
ويقال لها سورة المطففين ، واختلف في كونها مكية أو مدنية فعن ابن مسعود والضحاك أنها مكية ، وعن الحسن وعكرمة أنها مدنية وعليه السدّي ، قال : كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت. وعن ابن عباس روايات فأخرج ابن الضريس عنه أنه قال : آخر ما نزل بمكة سورة المطففين ، وأخرج ابن مردويه والبيهقي عنه أنه قال : أول ما نزل بالمدينة وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ويؤيد هذه الرواية ما أخرجه النسائي وابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح وغيرهم عنه قال : لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل اللّه تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك وفي رواية عنه أيضا وعن قتادة أنها مكية إلّا ثمان آيات من آخرها إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [المطففين : 29] إلخ وقيل : إنها مدنية إلّا ست آيات من أولها وبعض من يثبت الواسطة بين المكي والمدني يقول إنها ليست أحدهما بل نزلت بين مكة والمدينة ليصلح اللّه تعالى أمر أهل المدينة قبل ورود رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عليهم ، وآيها ست وثلاثون بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها أنه سبحانه لما ذكر فيما قبل السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأنه ذكر عز وجل هنا ما أعد جل وعلا لبعض العصاة وذكر سبحانه بأخس ما يقع من المعصية وهو التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته ، مع اشتمال هذه السورة من شرح حال المكذبين المذكورين هناك على زيادة تفصيل كما لا يخفى.
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 109)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 836)(1/1454)
وقال الجلال السيوطي : الفصل بهذه السورة بين الانفطار والانشقاق التي هي نظيرتها من أوجه لنكتة لطيفة ألهمنيها اللّه تعالى وذلك أن السور الأربع هذه والسورتان قبلها والانشقاق لما كانت في صفة حال يوم القيامة ذكرت على ترتيب ما يقع فيه فغالب ما وقع في التكوير وجميع ما وقع في الانفطار يقع في صدر يوم القيامة ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل ومقاساة الأهوال فذكره في هذه السورة بقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين : 6] ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى فتنشر الصحف فآخذ باليمين وآخذ بالشمال وآخذ ما وراء ظهره ثم بعد ذلك يقع الحساب كما ورد بذلك الآثار فناسب تأخر سورة الانشقاق التي فيها إيتاء الكتب والحساب عن السورة التي فيها ذكر الموقف والسورة التي فيها ذكره عن السورة التي فيها ذكر مبادئ أحوال اليوم ووجه آخر وهو أنه جل جلاله لما قال في الانفطار وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار : 10 ، 11] وذلك في الدنيا ذكر سبحانه في هذه الحال ما يكتبه الحافظون وهو مرقوم يجعل في عليين أو سجين وذلك أيضا في الدنيا كما تدل عليه الآثار فهذه حالة ثانية للكتاب ذكرت في السورة الثانية وله حالة ثالثة متأخرة عنهما وهي إيتاؤه صاحبه باليمين أو غيرها وذلك يوم القيامة فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك عن السورة التي فيها الحالة الثانية انتهى. وهو وإن لم يخل عن لطافة للبحث فيه مجال فتذكر. (1)
* هذه السورة الكريمة مكية ، وأهدافها نفس أهداف السور المكية ، تعالج أمور العقيدة وتتحدث عن الدعوة الإسلامية في مواجهة خصومها الألداء .
* ابتدأت السورة الكريمة بإعلان الحرب على المطففين فى الكيل والوزن ، الذين لا يخافون الآخرة ، ولا يحسبون حسابا للوقفة الرهيبة ، بين يدي أحكم الحاكمين [ ويل للمطففين ، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون . وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ، يوم يقوم الناس لرب العالمين
* ثم تحدثت عن الأشقياء الفجار ، وصورت جزاءهم يوم القيامة ، حيث يساقون إلى الجحيم مع الزجر والتهديد [ كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ، وما أدراك ما سجين ، كتاب مرقوم ، ويل يومئذ للمكذبين ] الآيات .
* ثم عرضت لصفحة المتقين الأبرار ، وما لهم من النعيم الخالد الدائم في دار العز والكرامة ، وذلك في مقابلة ما أعده الله للأشقياء الأشرار ، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب [ إن الأبرار
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 273)(1/1455)
لفي نعيم ، على الأرائك ينظرون ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ، ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون
* وختمت السورة الكريمة بمواقف أهل الشقاء والضلال الكفرة الفجار من عباد الرحمن الأخيار حيث كانوا يهزءون منهم في الدنيا ، ويسخرون عليهم لإيمانهم وصلاحهم [ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ، وإذا مروا بهم يتغامزون ] إلى آخر السورة الكريمة . (1)
مقصودها شرح آخر الانفطار بأنه لا بد من دينونة العباد يوم التناد بإسكان الأولياء أهل الرشاد دار النعيم ، والأشقياء أهل الضلال والعناد غار الجحيم ، ودل على ذلك بانه مربيهم والمحسن إليهم بعموم النعمة ، ولا يتخيل عاقل أن أحدا يربي أحدا من غير سؤال عما حمله إياه وكلفه به ولا أنه لا ينصف بعض من يربيهم من بعض ، واسمها التطفيف أدل ما فيها على ذلك (2)
هذه السورة تصور قطاعا من الواقع العملي الذي كانت الدعوة تواجهه في مكة - إلى جانب ما كانت تستهدفه من إيقاظ القلوب ، وهز المشاعر ، وتوجيهها إلى هذا الحدث الجديد في حياة العرب وفي حياة الإنسانية ، وهو الرسالة السماوية للأرض ، وما تتضمنه من تصور جديد شامل محيط.
هذا القطاع من الواقع العملي تصوره السورة في أولها ، وهي تتهدد المطففين بالويل في اليوم العظيم ، «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» .. كما تصوره في ختامها وهي تصف سوء أدب الذين أجرموا مع الذين آمنوا ، وتغامزهم عليهم ، وضحكهم منهم ، وقولهم عنهم : «إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ!».
وهذا إلى جانب ما تعرضه من حال الفجار وحال الأبرار ومصير هؤلاء وهؤلاء في ذلك اليوم العظيم.
وهي تتألف من أربعة مقاطع .. يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطففين : «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ؟ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ؟» ..
ويتحدث المقطع الثاني عن الفجار في شدة وردع وزجر ، وتهديد بالويل والهلاك ، ودمغ بالإثم والاعتداء ، وبيان لسبب هذا العمى وعلة هذا الانطماس ، وتصوير لجزائهم يوم القيامة ، وعذابهم بالحجاب عن ربهم ، كما حجبت الآثام في الأرض قلوبهم ، ثم بالجحيم مع الترذيل والتأنيب : «كَلَّا. إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ. وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ! الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ. وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 467)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 354)(1/1456)
يَكْسِبُونَ. كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ. ثُمَّ يُقالُ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» ..
والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة. صفحة الأبرار. ورفعة مقامهم. والنعيم المقرر لهم. ونضرته التي تفيض على وجوههم. والرحيق الذي يشربون وهم على الأرائك ينظرون .. وهي صفحة ناعمة وضيئة :
«كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ، خِتامُهُ مِسْكٌ - وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ - وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» ..
والمقطع الأخير يصف ما كان الأبرار يلاقونه في عالم الغرور الباطل من الفجار من إيذاء وسخرية وسوء أدب. ليضع في مقابله ما آل إليه أمر الأبرار وأمر الفجار في عالم الحقيقة الدائم الطويل : «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ، وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ. وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا : إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ. وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ. فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ. هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ؟» ..
والسورة في عمومها تمثل جانبا من بيئة الدعوة ، كما تمثل جانبا من أسلوب الدعوة في مواجهة واقع البيئة ، وواقع النفس البشرية . (1) ..
ونقف لحظة أمام هذا المشهد الذي يطيل القرآن عرض مناظره وحركاته - مشهد سخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا في الدنيا - كما أطال من قبل في عرض مشهد نعيم الأبرار وعرض مناظره ومناعمه. فنجد أن هذه الإطالة من الناحية التأثيرية فن عال في الأداء التعبيري ، كما أنه فن عال في العلاج الشعوري. فقد كانت القلة المسلمة في مكة تلاقي من عنت المشركين وأذاهم ما يفعل في النفس البشرية بعنف وعمق. وكان ربهم لا يتركهم بلا عون ، من تثبيته وتسريته وتأسيته.
وهذا التصوير المفصل لمواجعهم من أذى المشركين ، فيه بلسم لقلوبهم. فربهم هو الذي يصف هذه المواجع.
فهو يراها ، وهو لا يهملها - وإن أمهل الكافرين حينا - وهذا وحده يكفي قلب المؤمن ويمسح على آلامه وجراحه. إن اللّه يرى كيف يسخر منهم الساخرون. وكيف يؤذيهم المجرمون. وكيف يتفكه بآلامهم ومواجعهم المتفكهون. وكيف لا يتلوم هؤلاء السفلة ولا يندمون! إن ربهم يرى هذا كله.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3854)(1/1457)
ويصفه في تنزيله. فهو إذن شيء في ميزانه .. وهذا يكفي! نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة.
ثم إن ربهم يسخر من المجرمين سخرية رفيعة عالية فيها تلميح موجع. قد لا تحسه قلوب المجرمين المطموسة المغطاة بالرين المطبق عليها من الذنوب. ولكن قلوب المؤمنين الحساسة المرهفة ، تحسه وتقدره ، وتستريح إليه وتستنيم! ثم إن هذه القلوب المؤمنة تشهد حالها عند ربها ، ونعيمها في جناته ، وكرامتها في الملأ الأعلى. على حين تشهد حال أعدائها ومهانتهم في الملأ الأعلى وعذابهم في الجحيم ، مع الإهانة والترذيل .. تشهد هذا وذلك في تفصيل وفي تطويل. وهي تستشعر حالها وتتذوقه تذوق الواقع اليقين. وما من شك أن هذا التذوق يمسح على مرارة ما هي فيه من أذى وسخرية وقلة وضعف. وقد يبلغ في بعض القلوب أن تتبدل هذه المرارة فيها بالفعل حلاوة ، وهي تشهد هذه المشاهد في ذلك القول الكريم.
ومما يلاحظ أن هذا كان هو وحده التسلية الإلهية للمؤمنين المعذبين المألومين من وسائل المجرمين الخسيسة ، وأذاهم البالغ ، وسخريتهم اللئيمة .. الجنة للمؤمنين ، والجحيم للكافرين. وتبديل الحالين بين الدنيا والآخرة تمام التبديل .. وهذا كان وحده الذي وعد به النبي - صلى الله عليه وسلم - المبايعين له. وهم يبذلون الأموال والنفوس! فأما النصر في الدنيا ، والغلب في الأرض ، فلم يكن أبدا في مكة يذكر في القرآن المكي في معرض التسرية والتثبيت ..
لقد كان القرآن ينشئ قلوبا يعدها لحمل الأمانة. وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شي ء - إلى شيء في هذه الأرض. ولا تنتظر إلا الآخرة. ولا ترجو إلا رضوان اللّه. قلوبا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال ، بلا جزاء في هذه الأرض قريب. ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين! حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل. وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدا للجزاء. وموعدا كذلك للفصل بين الحق والباطل .. حتى إذا وجدت هذه القلوب ، وعلم اللّه منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت ، آتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه. لا لنفسها. ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة ، مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه. وقد تجردت للّه حقا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه! وكل الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة. بعد ذلك. وبعد أن أصبح هذا الأمر خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه. وجاء النصر ذاته لأن مشيئة اللّه اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرره في صورة(1/1458)
عملية محددة ، تراها الأجيال. فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام. إنما كان قدرا من قدر اللّه تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن! (1)
مقاصد هذه السورة
(1) وعيد المطففين.
(2) بيان أن صحائف أعمال الفجار فى أسفل سافلين.
(3) الإرشاد إلى أن صحائف أعمال الأبرار فى أعلى عليين.
(4) وصف نعيم الأبرار فى مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم.
(5) استهزاء المجرمين بالمؤمنين فى الدنيا وتغامزهم بهم وحكمهم عليهم بالضلال.
(6) تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة.
(7) نظر المؤمنين إلى المجرمين وهم يلقون جزاءهم وما أعدّ لهم من النكال. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3862)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 86)(1/1459)
(84) سورة الانشقاق
سميت في زمن الصحابة "سورة إذا السماء انشقت". ففي الموطأ عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم إذا السماء انشقت فسجد فيها فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها. فضمير "فيها" عائد إلى {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الإنشقاق:1] بتأويل السورة، وبذلك عنونها البخاري والترمذي وكذلك سماها في "الإتقان".
سماها المفسرون وكتاب المصاحف "سورة الانشقاق" باعتبار المعنى كما سميت السورة السابقة "سورة التطفيف" و "سورة انشقت" اختصارا.
وذكرها الجعبري في "نظمه" في تعداد المكي والمدني بلفظ "كدح" فيحتمل أنه عنى أنه اسم للسورة ولم أقف على ذلك لغيره.
ولم يذكرها في "الإتقان" مع السور ذوات الأكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت الثالثة والثمانين في تعداد نزول السور نزلت بعد سورة الانفطار وقبل سورة الروم.
وعد آيها خمسا وعشرين أهل العدد بالمدينة ومكة والكوفة وعدها أهل البصرة والشام ثلاثا وعشرين.
أغراضها
ابتدئت بوصف أشراط الساعة وحلول يوم البعث واختلاف أحوال الخلق يومئذ بين أهل نعيم وأهل شقاء. (1)
مناسبتها لما قبلها
تعد هذه السورة ، وما سبقها ، وما يأتى بعدها ، حديثا متصلا عن القيامة وأحداثها .. فكل سورة منها معرض من معارض هذا اليوم المشهود ..فإذا ذهبنا نلتمس مناسبة لترتيب هذه السور ، كان ذلك أشبه بالتماس المناسبة بين ترتيب الآي فى السورة الواحدة .. والمناسبة هنا وهناك قائمة أبدا .. (2)
مقدمة وتمهيد
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 193)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1500)(1/1460)
1 - سورة « الانشقاق » وتسمى سورة « إذا السماء انشقت » من السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة « الانفطار » ، وقبل سورة « الروم » وعدد آياتها خمس وعشرون آية في المصحف المكي والكوفي. وفي المصحف الشامي والبصري ثلاث وعشرون آية.
2 - والسورة الكريمة ابتدأت بوصف أشراط الساعة. ثم فصلت الحديث عن أحوال السعداء والأشقياء يوم القيامة ، وخلال ذلك حرضت المؤمنين على أن يزدادوا من الإيمان والعمل الصالح ، وحذرت الكافرين من سوء عاقبة إصرارهم على كفرهم وفسوقهم. (1)
في السورة إشارة إلى مشاهد القيامة. وبيان لمصير الأبرار والأشرار فيها.
وتوكيد إنذاري وتنديدي للكفار بأنهم ستتبدل حالهم وينالهم العذاب دون المؤمنين الصالحين.
ونظم السورة وترابط آياتها يسوغان القول بوحدة نزولها. (2)
سورة الانشقاق مكيّة ، وهي خمس وعشرون آية.
تسميتها :سميت سورة الانشقاق لقوله تعالى : إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أي تشققت وتصدعت مؤذنة بخراب العالم ، ومنذرة بهول يوم القيامة.
مناسبتها لما قبلها :
السور الأربعة : الانشقاق وما قبلها وهي سور المطففين والانفطار والتكوير كلها في صفة حال يوم القيامة ، ذكرت على ترتيب ما يقع فيه ، فغالب ما وقع في التكوير ، وجميع ما وقع في الانفطار يقع في صدر يوم القيامة ، وأغلب ما ذكر في المطففين في أحوال الأشقياء الفجار والمتقين الأبرار في الآخرة ، وعنيت سورة الانشقاق بالجمع بين ما يحدث من مقدمات ومشاهد الآخرة الرهيبة وبين ما يعقب ذلك من الحساب اليسير لأهل اليمين والحساب العسير لأهل الشمال.
وفي السورة المتقدمة ذكر مقر كتب الحفظة ، وفي هذه ذكر كيفية عرضها يوم القيامة.
ما اشتملت عليه السورة :
محور السورة كالسور المكية الأخرى : شؤون العقيدة ، وتصوير أهوال القيامة. وقد بدئت ببيان بعض التبدلات الكونية الخطيرة عند قيام الساعة : إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ .. [الآيات : 1 - 5].
وأردفت ذلك حال الإنسان في موقف العرض والحساب يوم القيامة ، وانقسام الناس فريقين : أهل اليمين وأهل الشمال : يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ، إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ... [الآيات : 6 - 15].
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 331)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 423)(1/1461)
ثم أقسم اللَّه بالشفق والليل والقمر على ملاقاة المشركين في القيامة أهوالا شديدة ، وأحوالا عصيبة : فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ... [الآيات : 16 - 19].
وختمت السورة بتوبيخ المشركين والكفار والملاحدة والوجوديين وأمثالهم على عدم إيمانهم باللَّه تعالى ، وبإنذارهم بالعذاب الأليم ، والتنبيه على نجاة المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، ومنحهم الثواب الدائم المستمر الذي لا ينقطع ولا ينقص : فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ... [الآيات : 20 - 25].
والخلاصة : أن السورة اشتملت على مقصدين : بيان ما يلاقيه الإنسان من نتائج أعماله يوم القيامة ، وانحصار المصير إما في جنات النعيم وإما في نيران الجحيم. (1)
وهي مكية. وآياتها خمس وعشرون آية ، تتضمن ذكر مقدمات يوم القيامة ، ونهاية كل إنسان ، وما يكون عليه يوم القيامة ، ثم القسم بالشفق والليل والقمر لتكونن في حياة ثانية تكون كالأولى ، ثم الإنكار عليهم لعدم إيمانهم ، وتكذيبهم. (2)
ويقال سور انشقت وهي مكية بلا خلاف وآيها ثلاث وعشرون آية في البصري والشامي وخمس وعشرون في غيرهما ، ووجه مناسبتها لما قبلها يعلم مما نقلناه عن الجلال السيوطي فيما قبل وأوجز بعضهم في بيان وجه ترتيب هذه السور الثلاث فقال : إن في انفطرت التعريف بالحفظة الكاتبين وفي المطففين مقر كتبهم وفي هذه عرضها في القيامة. (3)
* سورة الانشقاق مكية ، وقد تناولت الحديث عن أهوال القيامة ، كشأن سائر السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية
* ابتدأت السورة الكريمة بذكر بعض مشاهد الآخرة ، وصورت الإنقلاب الذي يحدث في الكون عند قيام الساعة [ إذا السماء انشقت ، وأذنت لربها وحقت ، وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت
* ثم تحدثت عن مصير الإنسان ، الذي يكد ويتعب في تحصيل أسباب رزقه ومعاشه ، ليقدم لآخرته ما يشتهي من صالح أو طالح ، ومن خير أو شر ، ثم هناك الجزاء العادل [ يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ، فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ] الآيات
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 136)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 842)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 286)(1/1462)
* ثم تناولت موقف المشركين من هذا القرآن العظيم ، وأقسمت بأنهم سيلقون الأهوال والشدائد ويركبون الأخطار والأهوال ، في ذلك اليوم الرهيب العصيب ، الذي لا ينفع فيه مال ولا ولد [ فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق ، لتركبن طبقا عن طبق ] الآيات
* وختمت السورة الكريمة بتوبيخ المشركين على عدم إيمانهم بالله ، مع وضوح آياته وسطوع براهينه ، وبشرتهم بالعذاب الأليم في دار الجحيم [ فما لهم لا يؤمنون ، وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون ، بل الذين كفروا يكذبون ، والله أعلم بما يوعون ، فبشرهم بعذاب أليم ، إلا الذين آمنوآ وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون (1)
مقصودها الدلالة على آخر المطففين من أن الأولياء ينعمون والأعداء يعذبون ، لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث ولا بالعرض على الملك الذي أوجدهم ورباهم كما يعرض الملوك عبيدهم ويحكمون بينهم فينقسمون إلى أهل ثواب وأهل عقاب واسمها الانشقاق أدل دليل على ذلك بتأمل الظرف وجوابه الدلال على الناقد البصير وحسابه (2)
تبدأ السورة ببعض مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضت بتوسع في سورة التكوير ، ثم في سورة الانفطار.
ومن قبل في سورة النبأ. ولكنها هنا ذات طابع خاص. طابع الاستسلام للّه. استسلام السماء واستسلام الأرض ، في طواعية وخشوع ويسر : «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ. وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» ..
ذلك المطلع الخاشع الجليل تمهيد لخطاب «الْإِنْسانُ» ، وإلقاء الخشوع في قلبه لربه. وتذكيره بأمره وبمصيره الذي هو صائر إليه عنده. حين ينطبع في حسه ظل الطاعة والخشوع والاستسلام الذي تلقيه في حسه السماء والأرض في المشهد الهائل الجليل : «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ، وَيَصْلى سَعِيراً. إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ. بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً» ..
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 471)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 367)(1/1463)
والمقطع الثالث عرض لمشاهد كونية حاضرة ، مما يقع تحت حس «الْإِنْسانُ» لها إيحاؤها ولها دلالتها على التدبير والتقدير ، مع التلويح بالقسم بها على أن الناس متقلبون في أحوال مقدرة مدبرة ، لا مفر لهم من ركوبها ومعاناتها : «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» ..
ثم يجيء المقطع الأخير في السورة تعجيبا من حال الناس الذين لا يؤمنون وهذه هي حقيقة أمرهم ، كما عرضت في المقطعين السابقين. وتلك هي نهايتهم ونهاية عالمهم كما جاء في مطلع السورة : «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؟ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ؟» .. ثم بيان لعلم اللّه بما يضمون عليه جوانحهم وتهديد لهم بمصيرهم المحتوم : «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ. فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» ..
إنها سورة هادئة الإيقاع ، جليلة الإيحاء ، يغلب عليها هذا الطابع حتى في مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضتها سورة التكوير في جو عاصف. سورة فيها لهجة التبصير المشفق الرحيم ، خطوة خطوة. في راحة ويسر ، وفي إيحاء هادئ عميق. والخطاب فيها : «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ» فيه تذكير واستجاشة للضمير.
وهي بترتيب مقاطعها على هذا النحو تطوف بالقلب البشري في مجالات كونية وإنسانية شتى ، متعاقبة تعاقبا مقصودا .. فمن مشهد الاستسلام الكوني. إلى لمسة لقلب «الْإِنْسانُ». إلى مشهد الحساب والجزاء. إلى مشهد الكون الحاضر وظواهره الموحية. إلى لمسة للقلب البشرى أخرى. إلى التعجيب من حال الذين لا يؤمنون بعد ذلك كله. إلى التهديد بالعذاب الأليم واستثناء المؤمنين بأجر غير ممنون ..
كل هذه الجولات والمشاهد والإيحاءات واللمسات في سورة قصيرة لا تتجاوز عدة أسطر .. وهو ما لا يعهد إلا في هذا الكتاب العجيب!
فإن هذه الأغراض يتعذر الوفاء بها في الحيز الكبير ولا تؤدى بهذه القوة وبهذا التأثير .. ولكنه القرآن ميسر للذكر يخاطب القلوب مباشرة من منافذها القريبة. صبغة العليم الخبير! (1)
مقاصد السورة
تشتمل هذه السورة على مقصدين :
(1) إن الإنسان يلاقى نتائج أعماله يوم القيامة ، فيأخذ كتابه بيمينه أو من وراء ظهره.
(2) أن الناس فى الدنيا بتنقلون فى أحوالهم طبقة بعد طبقة ، إما فى نعيم مقيم ، وإما فى عذاب أليم. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3864)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 96)(1/1464)
(85) سورة البروج
روى أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج" . وهذا ظاهر في أنها تسمى "سورة السماء ذات البروج" لأنه لم يحك لفظ القرآن، إذ لم يذكر الواو.
وأخرج أحمد أيضا عن أبي هريرة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يقرأ في العشاء بالسماوات" ، أي السماء ذات البروج والسماء والطارق فمجمعهما جمع سماء وهذا يدل على أن اسم السورتين: سورة السماء ذات البروج، سورة السماء والطارق.
وسميت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير "سورة البروج".
وهي مكية باتفاق.
ومعدودة السابعة والعشرين في تعداد نزول السور نزلت بعد سورة "والشمس وضحاها" وسورة "التين".
وآيها اثنتان وعشرون آية.
من أغراض هذه السورة
ابتدئت أغراض هذه السورة بضرب المثل للذين فتنوا المسلمين بمكة بأنهم مثل قوم فتنوا فريقا ممن آمن بالله فجعلوا أخدودا من نار لتعذيبهم ليكون المثل تثبيتا للمسلمين وتصبيرا لهم على أذى المشركين وتذكيرهم بما جرى على سلفهم في الإيمان من شدة التعذيب الذي لم ينلهم مثله ولم يصدهم ذلك عن دينهم.
وإشعار المسلمين بأن قوة الله عظيمة فسيلقى المشركون جزاء صنيعهم ويلقى المسلمون النعيم الأبدي والنصر.
والتعريض للمسلمين بكرامتهم عند الله تعالى.
وضرب المثل بقوم فرعون وبثمود وكيف كانت عاقبة أمرهم ما كذب الرسل فحصلت العبرة للمشركين في فتنهم المسلمين وفي تكذيبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتنويه بشأن القرآن (1) .
مناسبتها لما قبلها
هى معرض من معارض يوم القيامة ، فكان سياقها مع ما سبقها ، سياق الجزء من كل .. (2)
مقدمة وتمهيد
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 211)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1511)(1/1465)
1 - سورة « البروج » من السور المكية الخالصة ، وتسمى سورة « السماء ذات البروج » فقد أخرج الإمام أحمد عن أبى هريرة ، أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العشاء الآخرة ، بالسماء ذات البروج.
وعدد آياتها : اثنتان وعشرون آية. وكان نزولها بعد سورة « والشمس وضحاها » وقبل سورة « والتين والزيتون ».
2 - والسورة الكريمة من أهم مقاصدها : تثبيت المؤمنين ، وتسليتهم عما أصابهم من أعدائهم ، عن طريق ذكر جانب مما تحمله المجاهدون من قبلهم ، فكأن اللّه - تعالى - يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه : اصبروا كما صبر المؤمنون السابقون ، واثبتوا كما ثبتوا ، فإن العاقبة ستكون لكم.
كما أن السورة الكريمة ساقت الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته ، ونفاذ أمره. (1)
في السورة حملة على الكفار لاضطهادهم ضعاف المؤمنين والمؤمنات وفتنتهم إياهم عن الإسلام ، وإشارة إنذارية إلى حادث مماثل ، وتثبيت للمؤمنين وتذكير بمصائر البغاة كفرعون وثمود ، وتنويه بقدر القرآن وحفظه وآياتها متصلة ببعضها نظما وموضوعا. (2)
سورة البروج مكيّة ، وهي اثنتان وعشرون آية.
تسميتها :سميت سورة البروج ، لافتتاحها بقسم اللّه بالسماء ذات البروج : وهي منازل الكواكب السيارة في أثناء سيرها ، تنويها بها لاشتمالها على الظهور والغياب.
مناسبتها لما قبلها :
تتعلق السور بما قبلها من وجوه ثلاثة :
1 - التشابه في الافتتاح بذكر السماء ، ولهذا ورد في الحديث ذكر السماوات مرادا بها السور الأربع ، كما قيل في المسبّحات. وتلك السور هي الانفطار والانشقاق ، والبروج ، والطارق.
2 - اشتمال السورتين على وعد المؤمنين ، ووعيد الكافرين ، والتنويه بعظمة القرآن.
3 - تضمنت السورة السابقة أن اللّه عليم بما يجمع المشركون في صدورهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه من أنواع الأذى المادي ، كالضرب والقتل والتعذيب في حر الشمس ، والأذى المعنوي ، من حقد وحسد ، وعداوة ، ومكر ، وخوف على فوت المنافع ، وذكر في هذه السورة أن هذا شأن من تقدمهم من الأمم الكافرة الفاجرة. وفي هذا عظة للمشركين وتثبيت للمؤمنين.
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 341)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 143)(1/1466)
أبرزت هذه السورة المكية جانبا مهما من جوانب العقيدة وهو التضحية في سبيل الإيمان والاعتقاد ، ممثلا في قصة (أصحاب الأخدود).
افتتحت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات منازل الكواكب ، وبيوم القيامة ، وبالأنبياء الذين يشهدون على أممهم ، على إهلاك وتدمير وإبادة المجرمين ، الذين أحرقوا جماعة من المؤمنين والمؤمنات في النار ليفتنوهم عن دينهم : وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ... [الآيات : 1 - 9].
وأعقبت ذلك بوعيد هؤلاء العتاة الطغاة ، وإنذارهم بعذاب جهنم ، وبوعد المؤمنين بالجنان. إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... [الآيتان : 10 - 11].
وختمت السورة بإظهار عظمة اللّه وجليل صفاته وقدرته على الانتقام من أعدائه ، والاتعاظ بقصة الطاغية فرعون الجبار : إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ...[الآيات : 12 - 22]. (1)
وهي مكية. وعدد آياتها اثنتان وعشرون آية ، وهذه السورة جاءت تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين وتشجيعا لهم على تحملهم أذى قومهم ، ثم ضربت لهم الأمثال بأصحاب الأخدود ، وفرعون وثمود. وتخلل ذلك ما به تقر نفوس المؤمنين ببيان نهاية الكفار ، ونهاية المؤمنين ، على أنها لم تغفل ذكر القرآن في نهايتها. (2)
لا خلاف في مكيتها ولا في كونها اثنتين وعشرين آية ، ووجه مناسبتها لما قبلها باشتمالها كالتي قبل على وعد المؤمنين ووعيد الكافرين مع التنويه بشأن القرآن وفخامة قدره. وفي البحر أنه سبحانه لما ذكر أنه جل وعلا أعلم بما يجمعون لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والصلب والحرق بالشمس وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه ، ذكر سبحانه أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم فكانوا يعذبون بالنار وأن المعذبين كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم وأن الذين عذبوهم ملعونون فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذبونه من المؤمنين انتهى وهو وجه وجيه. (3)
* هذه السورة الكريمة من السور المكية ، وهي تعرض لحقائق العقيدة الإسلامية ، والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هي حادثة (أصحاب الأخدود) وهي قصة التضحية بالنفس ، في سبيل العقيدة والإيمان
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات النجوم الهائلة ، ومداراتها الضخمة ، التي تدور فيها تلك الأفلاك ، وباليوم العظيم المشهود وهو " يوم القيامة " ، وبالرسل والخلائق ، على هلاك ودمار المجرمين ،
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 151) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 97)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 846)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 294)(1/1467)
الذين طرحوا المؤمنين في النار ، ليفتنوهم عن دينهم [ والسماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود ، قتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ] الآيات
* ثم تلاها الوعيد والإنذار ، لأولئك الفجار على فعلتهم القبيحة الشنيعة [ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق
* وبعد ذلك تحدثت عن قدرة الله على الإنتقام من أعدائه الكفرة ، الذين فتنوا عباده وأولياءه إن بطش ربك لشديد ، إنه هو يبدىء ويعيد ، وهو الغفور الودود ، ذو العرش المجيد ]
* وختمت السورة الكريمة بقصة الطاغية الجبار " فرعون " وما أصابه وقومه من الهلاك والدمار بسبب البغي والطغيان [ هل أتاك حديث الجنود ، فرعون وثمود ، بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط ] إلى نهاية السورة الكريمة (1)
مقصودها الدلالة على القدرة على مقصود الانشقاق الذي هو صريح آخرها من تنعيم الولي وتعذيب الشقي بمن عذبه في الدنيا ممن لا يمكن في العادة أن يكون عذابه ذلك إلا من الله وحده تسلية لقلوب المؤمنين وتثبيتا لهم على أذى الكافرين ، وعلى ذلك الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلما (2)
هذه السورة القصيرة تعرض ، حقائق العقيدة ، وقواعد التصور الإيماني .. أمورا عظيمة وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدى ، وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبر عنها نصوصها حتى لتكاد كل آية - وأحيانا كل كلمة في الآية - أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف من الحقيقة ..
والموضوع المباشر الذي تتحدث عنه السورة هو حادث أصحاب الأخدود .. والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإسلام - قيل إنهم من النصارى الموحدين - ابتلوا بأعداء لهم طغاة قساة شريرين ، أرادوهم على ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم ، فأبوا وتمنعوا بعقيدتهم. فشق الطغاة لهم شقا في الأرض ، وأوقدوا فيه النار ، وكبوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقا ، على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنة بهذه الطريقة البشعة ، ولكي يتلهى الطغاة بمشهد الحريق. حريق الآدميين المؤمنين : «وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» ..
تبدأ السورة بقسم : «وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ، وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ، قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ..»
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 474)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 376)(1/1468)
فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة ، واليوم الموعود وأحداثه الضخام ، والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه .. تربط بين هذا كله وبين الحادث ونقمة السماء على أصحابه البغاة.
ثم تعرض المشهد المفجع في لمحات خاطفة ، تودع المشاعر بشاعة الحادث بدون تفصيل ولا تطويل .. مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها ، وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها ، وارتفعت إلى الأوج الذي يشرف الإنسان في أجياله جميعا. والتلميح إلى بشاعة الفعلة ، وما يكمن فيها من بغي وشر وتسفل ، إلى جانب ذلك الارتفاع والبراءة والتطهر من جانب المؤمنين : «النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ» ..
بعد ذلك تجيء التعقيبات المتوالية القصيرة متضمنة تلك الأمور العظيمة في شأن الدعوة والعقيدة والتصور الإيماني الأصيل : إشارة إلى ملك اللّه في السماوات والأرض وشهادته وحضوره تعالى لكل ما يقع في السماوات والأرض : اللّه «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» ..
وإشارة إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق الذي ينتظر الطغاة الفجرة السفلة وإلى نعيم الجنة ... ذلك الفوز الكبير .. الذي ينتظر المؤمنين الذين اختاروا عقيدتهم على الحياة ، وارتفعوا على فتنة النار والحريق : «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ - ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا - فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ» ..
وتلويح ببطش اللّه الشديد ، الذي يبدئ ويعيد : «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ» .. وهي حقيقة تتصل اتصالا مباشرا بالحياة التي أزهقت في الحادث ، وتلقي وراء الحادث إشعاعات بعيدة ..
وبعد ذلك بعض صفات اللّه تعالى. وكل صفة منها تعني أمرا ..
«وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ» الغفور للتائبين من الإثم مهما عظم وبشع. الودود لعباده الذين يختارونه على كل شيء. والود هنا هو البلسم المريح لمثل تلك القروح! «ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» .. وهي صفات تصور الهيمنة المطلقة ، والقدرة المطلقة ، والإرادة المطلقة .. وكلها ذات اتصال بالحادث .. كما أنها تطلق وراءه إشعاعات بعيدة الآماد.
ثم إشارة سريعة إلى سوابق من أخذه للطغاة ، وهم مدججون بالسلاح .. «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ؟» وهما مصرعان متنوعان في طبيعتهما وآثارهما. ووراءهما - مع حادث الأخدود - إشعاعات كثيرة.
وفي الختام يقرر شأن الذين كفروا وإحاطة اللّه بهم وهم لا يشعرون : «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ. وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ» ..(1/1469)
ويقرر حقيقة القرآن ، وثبات أصله وحياطته : «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» .. مما يوحي بأن ما يقرره هو القول الفصل والمرجع الأخير ، في كل الأمور. (1)
وفي صحيح مسلم عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّى قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِى طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِى أَهْلِى. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِى السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَىْ بُنَىَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ . وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِى فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّى. قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِى قَالَ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فَجِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَىْ بُنَىَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ . فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِىءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِى قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِى حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3871)(1/1470)
وَتَصْلُبُنِى عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِى ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ ارْمِنِى فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِى. فَجَمَعَ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِى صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِى صُدْغِهِ فِى مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ. فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِى أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصْبِرِى فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ » (1) .
إن قصة أصحاب الأخدود - كما وردت في سورة البروج - حقيقة بأن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل . فالقرآن بإيرادها في هذا الأسلوب مع مقدمتها والتعقيبات عليها ، والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها .. كان يخط بها خطوطاً عميقة في تصور طبيعة الدعوة إلى الله ، ودور البشر فيها ، واحتمالاتها المتوقعة في مجالها الواسع - وهو أوسع رقعة من الأرض ، وأبعد مدى من الحياة الدنيا - وكان يرسم للمؤمنين معالم الطريق ، ويعدُّ نفوسهم لتلقي أي من هذه الاحتمالات التي يجري بها القدر المرسوم ، وفق الحكمة المكنونة في غيب الله المستور .
إنها قصة فئة آمنت بربها ، واستعلنت حقيقة إيمانها . ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق " الإنسان " في حرية الاعتقاد بالحق والإيمان بالله العزيز الحميد ، وبكرامة الإنسان عند الله عن أن يكون لعبة يتسلى بها الطغاة بآلام تعذيبها ، ويتلهون بمنظرها في أثناء التعذيب بالحريق !
وقد ارتفع الإيمان بهذه القلوب على الفتنة ، وانتصرت فيها العقيدة على الحياة ، فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة ، ولم تفتن عن دينها ، وهي تحرق بالنار حتى تموت .
لقد تحررت هذه القلوب من عبوديتها للحياة ، فلم يستذلها حب البقاء وهي تعاين الموت بهذه الطريقة البشعة ، وانطلقت من قيود الأرض وجواذبها جميعاً ، وارتفعت على ذواتها بانتصار العقيدة على الحياة فيها .
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيِّرة الرفيقة الكريمة كانت هناك جبلات جاحدة شريرة مجرمة لئيمة . وجلس أصحاب هذه الجبلات على النار . يشهدون كيف يتعذب المؤمنون ويتألمون . جلسوا يتلهون
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7703 ) وهو من إضافتي
المئشار : المنشار -الأخدود : الشق العظيم فى الأرض -القرقور : السفينة قيل الصغيرة وقيل الكبيرة -تقاعست : توقفت ولزمت موضعها وامتنعت عن التقدم -الكنانة : وعاء السهام(1/1471)
بمنظر الحياة تأكلها النار ،والأناسي الكرام يتحولون وقوداً وتراباً . وكلما ألقي فتى أو فتاة ، صبية أو عجوز ، طفل أو شيخ ، من المؤمنين الخيرين الكرام في النار ، ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوس الطغاة ، وعربد السعار المجنون بالدماء والأشلاء !
هذا هو الحادث البشع الذي انتكست فيه جبلات الطغاة وارتكست في هذه الحمأة ، فراحت تلتذ مشهد التعذيب المروع العنيف ، بهذه الخساسة التي لم يرتكس فيها وحش قط ، فالوحش يفترس ليقتات ، لا ليلتذ آلام الفريسة في لؤم وخسة !
وهو ذاته الحادث الذي ارتفعت فيه أرواح المؤمنين وتحررت وانطلقت إلى ذلك الأوج السامي الرفيع ، الذي تشرف به البشرية في جميع الأجيال والعصور .
في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان . وإن هذا الإيمان الذي بلغ الذروة العالية ، في نفوس الفئة الخيرة الكريمة الثابتة المستعلية .. لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان !
ولا تذكر الروايات التي وردت في هذا الحادث ، كما لا تذكر النصوص القرآنية ، أن الله قد أخذ أولئك الطغاة في الأرض بجريمتهم البشعة ، كما أخذ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط . أو كما أخذ فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر .
ففي حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة اسيفة أليمة !
أفهكذا ينتهي الأمر ، وتذهب الفئة المؤمنة التي ارتفعت إلى ذروة الإيمان ؟ تذهب مع آلامها الفاجعة في الأخدود ؟ بينما تذهب الفئة الباغية ، التي ارتكست إلى هذه الحمأة ، ناجية ؟
حساب الأرض يحيك في الصدر شيء أمام هذه الخاتمة الأسيفة !
ولكن القرآن يعلِّم المؤمنين شيئاً آخر ، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى ، ويبصرهم بطبيعة القيم التي يزنون بها ، وبمجال المعركة التي يخوضونها .
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ، ومن متاع وحرمان .. ليست هي القيمة الكبرى في الميزان .. وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة . والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة . فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة .
إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة ، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان . وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة ، وانتصار العقيدة على الألم ، وانتصار الإيمان على الفتنة .. وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم ، وانتصرت على جواذب(1/1472)
الأرض والحياة ، وانتصرت على الفتنة انتصاراً يشرف الجنس البشري كله في جميع الأعصار .. وهذا هو الانتصار ..
إن الناس جميعاً يموتون ، وتختلف الأسباب . ولكن الناس جميعاً لا ينتصرون هذا الانتصار ، ولا يرتفعون هذا الارتفاع ، ولا يتحررون هذا التحرر ، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق .. إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت ، وتنفرد دون الناس في المجد ، المجد في الملأ الأعلى ، وفي دنيا الناس أيضاً . إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال !
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم . ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم ؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر ؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير ، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد ؟
إنه معنى كريم جداً ، ومعنى كبير جداً ، هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض ، ربحوه وهم يجدون مس النار ، فتحرق أجسادهم الفانية ، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار !
ثم إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها ، وليس هو الحياة الدنيا وحدها . وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال . إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها ، ويزنها بميزان غير ميزان الأرض في جيل من أجيالها ، وغير ميزان الأرض في أجيالها جميعاً . والملأ الأعلى يضم من الأرواح الكريمة أضعاف أضعاف ما تضم الأرض من الناس .. وما من شك أن ثناء الملأ الأعلى وتكريمه أكبر وأرجح في أي ميزان من رأي أهل الأرض وتقديرهم على الإطلاق !
وبعد ذلك كله هناك الآخرة . وهي المجال الأصيل الذي يلحق به مجال الأرض ، ولا ينفصل عنه ، لا في الحقيقة الواقعة ، ولا في حس المؤمن بهذه الحقيقة .
فالمعركة إذن لم تنته ، وخاتمتها الحقيقية لم تجيء بعد ، والحكم عليها بالجزء الذي عرض منها على الأرض حكم غير صحيح ، لأنه حكم على الشطر الصغير منها والشطر الزهيد .
النظرة الأولى هي النظرة القصيرة المدى الضيقة المجال التي تعنّ للإنسان العجول . والنظرة الثانية الشاملة البعيدة المدى هي التي يروض القرآن المؤمنين عليها ، لأنها تمثل الحقيقة التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح .
ومن ثم وعد الله للمؤمنين جزاء على الإيمان والطاعة ، والصبر على الابتلاء ، والانتصار على فتن الحياة .. هو طمأنينة القلب :{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } ... [ الرعد : 28 ] .(1/1473)
وهو الرضوان والود من الرحمن :{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } [ مريم : 96 ] .
وهو الذكر في الملأ الأعلى : فعَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِى. فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيَقُولُ قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ. فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ عَبْدِى فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ. فَيَقُولُ اللَّهُ ابْنُوا لِعَبْدِى بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ ». [ أخرجه الترمذي ] (1) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِى إِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّى شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ». " . [ أخرجه مسلم ] (2) .
وهو اشتغال الملأ الأعلى بأمر المؤمنين في الأرض :{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }[ غافر : 7 ]
وهو الحياة عند الله للشهداء :
{ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 169 - 171 ] .
كما كان وعده المتكرر بأخذ المكذبين والطغاة والمجرمين في الآخرة والإملاء لهم في الأرض والإمهال إلى حين .. وإن كان أحياناً قد أخذ بعضهم في الدنيا .. ولكن التركيز كله على الآخرة في الجزء الأخير : { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ آل عمران : 196 - 197 ] .
{ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } .. [ إبراهيم : 42 - 43 ] .
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (1037 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.الشفير : الطرف
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6981 )(1/1474)
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } [ المعارج : 42 - 44 ] .
وهكذا اتصلت حياة الناس بحياة الملأ الأعلى ، واتصلت الدنيا بالآخرة ، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر ، والحق والباطل ، والإيمان والطغيان . ولم تعد الحياة الدنيا هي خاتمة المطاف ، ولا موعد الفصل في هذا الصراع .. كما أن الحياة وكل ما يتعلق بها من لذائد وآلام ومتاع وحرمان ، لم تعد هي القيمة العليا في الميزان .
انفسح المجال في المكان ، وانفسح المجال في الزمان ، وانفسح المجال في القيم والموازين ، واتسعت آفاق النفس المؤمنة ، وكبرت اهتماماتها ، فصغرت الأرض وما عليها ، والحياة الدنيا وما يتعلق بها ، وكبر المؤمن بمقدار ما رأى وما عرف من الآفاق والحيوات ، وكانت قصة أصحاب الأخدود في القمة في إنشاء هذا التصور الإيماني الواسع الشامل الكبير الكريم .
هناك إشعاع آخر تطلقه قصة أصحاب الأخدود وسورة البروج حول طبيعة الدعوة إلى الله ، وموقف الداعية أمام كل احتمال .
لقد شهد تاريخ الدعوة إلى الله نماذج منوعة من نهايات في الأرض مختلفة للدعوات ..
شهد مصارع قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وقوم لوط ، ونجاة الفئة المؤمنة القليلة العدد ، مجرد النجاة . ولم يذكر القرآن للناجين دوراً بعد ذلك في الأرض والحياة . وهذه النماذج تقرر أن الله سبحانه وتعالى يريد أحياناً أن يعجِّل للمكذبين الطغاة بقسط من العذاب في الدنيا ، أما الجزاء الأوفى فهو مرصود لهم هناك .
وشهد تاريخ الدعوة مصرع فرعون وجنوده ، ونجاة موسى وقومه ، مع التمكين للقوم في الأرض فترة كانوا فيها أصلح ما كانوا في تاريخهم . وإن لم يرتقوا قط إلى الاستقامة الكاملة ، وإلى إقامة دين الله في الأرض منهجاً للحياة شاملاً .. وهذا نموذج غير النماذج الأولى .
وشهد تاريخ الدعوة كذلك مصرع المشركين الذين استعصوا على الهدى والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وانتصار المؤمنين انتصاراً كاملاً ، مع انتصار العقيدة في نفوسهم انتصاراً عجيباً . وتم للمرة الوحيدة في تاريخ البشرية أن أقيم منهج الله مهيمناً على الحياة في صورة لم تعرفها البشرية قط ، من قبل ولا من بعد .
وشهد - كما رأينا - نموذج أصحاب الأخدود ..(1/1475)
وشهد نماذج أخرى أقل ظهوراً في سجل التاريخ الإيماني في القديم والحديث . وما يزال يشهد نماذج تتراوح بين هذه النهايات التي حفظها على مدار القرون .ولم يكن بدّ من النموذج الذي يمثله حادث الأخدود ، إلى جانب النماذج الأخرى . القريب منها والبعيد ..
لم يكن بد من هذا النموذج الذي لا ينجو فيه المؤمنون ، ولا يؤخذ فيه الكافرون ! ذلك ليستقر في حس المؤمنين - أصحاب دعوة الله - أنهم قد يدعون إلى نهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله . وأن ليس لهم من الأمر شيء ، إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى الله !
إن عليهم أن يؤدوا واجبهم ، ثم يذهبوا ، وواجبهم أن يختاروا الله ، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة ، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة وأن يصدقوا الله في العمل والنية . ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم ، كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء . وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان ، أو إلى غيرها مما يعلمه هو ويراه .
إنهم أجراء عند الله . أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا ، عملوا وقبضوا الأجر المعلوم !
وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير !
وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينة في القلب ، ورفعة في الشعور ، وجمالاً في التصور ، وانطلاقاً من الأوهاق والجواذب ، وتحرراً من الخوف والقلق ، في كل حال من الأحوال .
وهم يقبضون الدفعة الثانية ثناء في الملأ الأعلى وذكراً وكرامة ، وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة .
ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حساباً يسيراً ونعيماً كبيراً .
ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعاً . رضوان الله ، وانهم مختارون ليكونوا أداة لقدره وستاراً لقدرته ، يفعل بهم في الأرض ما يشاء .
وهكذا انتهت التربية القرآنية بالفئة المختارة من المسلمين في الصدر الأول إلى هذا التطور ، الذي أطلقهم من أمر ذواتهم وشخوصهم . فأخرجوا أنفسهم من الأمر البتة ، وعملوا أجراء عند صاحب الأمر ورضوا خيرة الله على أي وضع وعلى أي حال .
وكانت التربية النبوية تتمشى مع التوجيهات القرآنية ، وتوجه القلوب والأنظار إلى الجنة ، وإلى الصبر على الدور المختار حتى يأذن الله بما يشاء في الدنيا والآخرة سواء .
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: " لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْبَطْحَاءِ , فَأَخَذَ بِيَدِي , فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ , فَمَرَّ بِعَمَّارٍ , وَأَبِي عَمَّارٍ , وَأُمِّ عَمَّارٍ , وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فَقَالَ: " صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ " (1) ..
__________
(1) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (5 / 2813) (6662 ) صحيح لغيره(1/1476)
وعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، قُلْنَا لَهُ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ « كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِى الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ » . [ أخرجه البخاري ] (1) .
إن لله حكمة وراء كل وضع ووراء كل حال ، ومدبر هذا الكون كله ، المطلع على أوله وآخره ، المنسق لأحداثه وروابطه . هو الذي يعرف الحكمة المكونة في غيبه المستور ، الحكمة التي تتفق مع مشيئته في خط السير الطويل . وفي بعض الأحيان يكشف لنا - بعد أجيال وقرون - عن حكمة حادث لم يكن معاصروه يدركون حكمته ، ولعلهم كانوا يسألون لماذا ؟ لماذا يا رب يقع هذا ؟ وهذا السؤال نفسه هو الجهل الذي يتوقاه المؤمن . لأنه يعرف ابتداء أن هناك حكمة وراء كل قدر ، ولأن سعة المجال في تصوره ، وبعد المدى في الزمان والمكان والقيم والموازين تغنيه عن التفكير ابتداء في مثل هذا السؤال . فيسير مع دورة القدر في استسلام واطمئنان ..
لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة ، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء ، وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض ، ولا تنظر إلا إلى الآخرة ، ولا ترجو إلا رضوان الله ، قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية حتى الموت . بلا جزاء في هذه الأرض قريب ، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة ، وغلبة الإسلام وظهور المسلمين ، بل لو كان هذا الجزاء هو هلاك الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الأولين !
حتى إذا وجدت هذه القلوب ، التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطي بلا مقابل - أي مقابل - وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للفصل بين الحق والباطل . حتى إذا وجدت هذه القلوب ، وعلم الله منها صدق نيّتها على ما بايعت وعاهدت ، آتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه . لا لنفسها ، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ، ولم تتطلع إلى شئ من الغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه .وكل الآيات التي ذكر فيها النصر ، وذكر فيها المغانم ، وذكر فيها أخذ المشركين في
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3612 )(1/1477)
الأرض بأيدي المؤمنين نزلت في المدينة .. بعد ذلك .. وبعد أن أصبحت هذه الأمور خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه . وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية ، تقرره في صورة عملية محددة تراها الأجيال .. فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام ، إنما كان قدراً من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !
وهذه اللفتة جديرة بأن يتدبرها الدعاة إلى الله ، في كل أرض وفي كل جيل . فهي كفيلة بأن تريهم معالم الطريق واضحة بلا غبش ، وأن تثبِّت خطى الذين يريدون أن يقطعوا الطريق إلى نهايته ، كيفما كانت هذه النهاية . ثم يكون قدر الله بدعوته وبهم ما يكون ، فلا يتلفتون في أثناء الطريق الدامي المفروش بالجماجم والأشلاء ، وبالعرق والدماء ، إلى نصر أو غلبة ، أو فيصل بين الحق والباطل في هذه الأرض .. ولكن إذا كان الله يريد أن يصنع بهم شيئاً من هذا لدعوته ولدينه فسيتم ما يريده الله .. لا جزاء على الآلام والتضحيات .. لا ، فالأرض ليست دار جزاء .. وإنما تحقيقاً لقدر الله في أمر دعوته ومنهجه على أيدي ناس من عباده يختارهم ليمضي بهم من الأمر ما يشاء ، وحسبهم هذا الاختيار الكريم ، الذي تهون إلى جانبه وتصغر هذه الحياة ، وكل ما يقع في رحلة الأرض من سراء أو ضراء .
هنالك حقيقة أخرى يشير إليها أحد التعقيبات القرآنية على قصة الأخدود في قوله تعالى :{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } ..حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل .
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئاً آخر على الإطلاق . وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان ، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة ..إنها ليست معركة سياسية ولا معركة اقتصادية ، ولا معركة عنصرية .. ولو كانت شيئاً من هذا لسهل وقفها ، وسهل حل إشكالها . ولكنها في صميمها معركة عقيدة - إما كفر وإما إيمان .. إما جاهلية وإما إسلام !
ولقد كان كبار المشركين يعرضون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المال والحكم والمتاع في مقابل شيء واحد ، أن يدع معركة العقيدة وأن يدهن في هذا الأمر !
ولو أجابهم - حاشاه - إلى شيء مما أرادوا ما بقيت بينهم وبينه معركة على الإطلاق !
إنها قضية عقيدة ومعركة عقيدة .. وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدواً لهم . فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة " إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد " ويخلصوا له وحده الطاعة والخضوع !
وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة ، راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية ، كي يموِّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة ، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة . فمن واجب المؤمنين ألا يُخدَعوا ، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيت . وأن الذي يغيِّر راية المعركة إنما يريد أن(1/1478)
يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها ، النصر في أية صورة من الصور،سواء جاء في صورة الانطلاق الروحي كما وقع للمؤمنين في حادث الأخدود ، أو في صورة الهيمنة - الناشئة من الانطلاق الروحي - كما حدث للجيل الأول من المسلمين .
ونحن نشهد نموذجاً من تمويه الراية في محاولة الصليبية العالمية اليوم أن تخدعنا عن حقيقة المعركة ، وأن تزور التاريخ ، فتزعم لنا أن الحروب الصليبية كانت ستاراً للاستعمار .. كلا .. إنما كان الاستعمار الذي جاء متأخراً هو الستار للروح الصليبية التي لم تعد قادرة على السفور كما كانت في القرون الوسطى !
والتي تحطمت على صخرة العقيدة بقيادة مسلمين من شتى العناصر ، وفيهم صلاح الدين الكردي ، وتوران شاه المملوكي ، العناصر التي نسيت قوميتها وذكرت عقيدتها فانتصرت تحت راية العقيدة !{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } .
وصدق الله العظيم ، وكذب المموهون الخادعون ! (1)
مقاصد هذه السورة
(1) إظهار عظمة اللّه وجليل صفاته.
(2) إنه يبيد الأمم الطاغية فى كل حين ، ولا سيما الذين يفتنون للمؤمنين والمؤمنات. (2)
================
__________
(1) - معالم في الطريق آخر بحث منه
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 108)(1/1479)
(86) سورة الطارق
روى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج والطارق" اه. فسماها أبو هريرة: السماء والطارق لأن الأظهر أن الواو من قوله: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} واو العطف، ولذلك لم يذكر لفظ الآية الأولى منها بل أخذ لها اسما من لفظ الآية كما قال في {السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1].
وسميت في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف "سورة الطارق" لوقوع هذا اللفظ في أولها. وفي "تفسير الطبري" و "أحكام ابن العربي" ترجمت {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} .
وهي سبع عشرة آية.
وهي مكية بالاتفاق نزلت قبل سنة عشر من البعثة. أخرج أحمد بن حنبل عن خالد بن أبي جبل العدواني أنه أبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] حتى ختمها قال: "فوعيتها في الجاهلية ثم قرأتها في الإسلام" الحديث.
وعددها في ترتيب نزول السور السادسة والثلاثين. نزلت بعد سورة {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} وقبل سورة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} .
أغراضها
إثبات إحصاء الأعمال والجزاء على الأعمال.
وإثبات إمكان البعث بنقض ما أحاله المشركون ببيان إمكان إعادة الأجسام.
وأدمج في ذلك التذكير بدقيق صنع الله وحكمته في خلق الإنسان.
والتنويه بشأن القرآن.
وصدق ما ذكر فيه من البعث لأن إخبار القرآن به لما استبعدوه وموهوا على الناس بأن ما فيه غير صدق. وتهديد المشركين الذين ناووا المسلمين.
وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ووعده بأن الله منتصر له غير بعيد. (1)
مناسبتها لما قبلها
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 229)(1/1480)
هى نسق متّسق مع ما سبقها ، فى عرض أحداث يوم القيامة ، وإرهاصاتها ، تقريرا ، وتوكيدا لهذا اليوم (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الطارق » من السور المكية ، وعدد آياتها سبع عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة « البلد » وقبل سورة « القمر » وهي السورة السادسة والثلاثون ، في ترتيب النزول ، أما في المصحف ، فهي السورة السادسة والثمانون.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها كثيرا ، فقد أخرج الإمام أحمد عن أبى هريرة ، أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العشاء الآخرة « بالسماء ذات البروج ، والسماء والطارق ».
وأخرج - أيضا - عن خالد بن أبى جبل العدواني : أنه أبصر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في مشرق - بضم الميم - ثقيف. - أى في سوق ثقيف - وهو قائم على قوس أو عصى. حين أتاهم يبتغى عندهم النصر. فسمعته يقول : وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ حتى ختمها. قال :فوعيتها في الجاهلية ثم قرأتها في الإسلام. قال : فدعتني ثقيف فقالوا : ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها عليهم. فقال من معهم من قريش : نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم أن ما يقول حقا لا تبعناه. « 1 ».
2 - والسورة الكريمة من مقاصدها : إقامة الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - ، وعلى كمال قدرته ، وبليغ حكمته ، وسعة علمه ، وإثبات أن هذا القرآن من عنده - تعالى - ، وأن العاقبة للمتقين. (2)
في السورة توكيد للبعث وتدليل عليه بقدرة اللّه على خلق الإنسان للمرة الأولى. وإنذار للسامعين بأن أعمالهم محصاة عليهم. ووعيد للكفار وتطمين للنبي عليه السلام. وأسلوبها عامّ مطلق. (3)
سورة الطارق مكيّة ، وهي سبع عشرة آية.
تسميتها :سميت سورة الطارق تسمية لها بما أقسم اللَّه به في مطلعها بقوله :
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَالطَّارِقِ : هو النجم الثاقب الذي يطلع ليلا ، سمي طارقا لأنه يظهر بالليل ويختفي بالنهار. وكذلك الطارق : هو الذي يجيء ليلا.
مناسبتها لما قبلها :
السورة مرتبطة بما قبلها من ناحيتين :
1 - ابتداء السورتين بالحلف بالسماء كسورتي (الانشقاق) و(الانفطار).
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1520)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 351)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 267)(1/1481)
2 - التشابه في الكلام عن البعث والمعاد وعن صفة القرآن للردّ على المشركين المكذّبين به وبالبعث ، ففي سورة البروج : إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [13] ، وفي هذه السورة : إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [8] ، وفي السورة السابقة : بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [21 - 22] ، وفي هذه السورة : إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [13].
ما اشتملت عليه السورة :
إن محور هذه السورة المكية كغيرها من السور المكية الكلام عن الإيمان بالبعث والمعاد والحساب والجزاء ، وإثباته بخلق الإنسان من العدم لأن القادر على البدء قادر على الإعادة بعد الموت.
وقد افتتحت السورة بالقسم بالسماء وبالكواكب المضيئة ليلا على أن كل إنسان محفوظ بالملائكة الأبرار : وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ .. [الآيات : 1 - 4].
ثم أقام اللَّه تعالى الدليل على إمكان البعث وقدرته عليه بعد الموت والفناء بخلق الإنسان أول مرة من تراب ثم من نطفة : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ...[الآيات : 5 - 8].
وأعقبت السورة ذلك ببيان كشف الأسرار في الآخرة على نحو كامل تام ، في حالة كون الإنسان بين يدي العدالة الإلهية دون أن يكون له قوة ولا نصير :يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ، فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ [9 - 10].
وختمت السورة بالقسم الإلهي بالسماء والأرض على صدق القرآن وأنه القول المحكم الفصل بين الحق والباطل ، وعلى تهديد الكفار المكذبين به ووعيدهم :وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ .. [11 - 17]. (1)
وهي مكية. وعدد آياتها سبع عشرة آية ، وقد تكلمت على إثبات أن للنفس حافظا يحفظها وهو اللّه ، والدليل على ذلك ، ثم على إثبات البعث ، ثم ختمت بالكلام على القرآن ، وكيد الكفار والمشركين ويتبع ذلك تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - . (2)
مكية بلا خلاف وهي سبع عشرة آية على المشهور وفي التيسير ست عشرة ، ولما ذكر سبحانه فيما قبلها تكذيب الكفار للقرآن نبه تعالى شأنه هنا على حقارة الإنسان ثم استطرد جل وعلا منه إلى وصف القرآن ثم أمر سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإمهال أولئك المكذبين (3)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 171) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 109)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 850)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 305)(1/1482)
* هذه السورة الكريمة من السور المكية ، وهي تعالج بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة الإسلامية ومحور السورة يدور حول الإيمان بالبعث والنشور ، وقد أقامت البرهان الساطع ، والدليل القاطع على قدرة الله جل وعلا على إمكان البعث ، فإن الذي خلق الإنسان من العدم ، قادر على إعادته بعد موته .
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات الكواكب الساطعة ، التي تطلع ليلا لتضيء للناس سبلهم ، ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ، أقسم تعالى على أن كل إنسان ، قد وكل به من يحرسه ، ويتعهد أمره من الملائكة الأبرار [ والسماء والطارق ، ومما أدراك ما الطارق ، النجم الثاقب ، إن كل نفس لما عليها حافظ ] الآيات
* ثم ساقت الأدلة والبراهين ، على قدرة رب العالمين ، على إعادة الإنسان بعد فنائه [ فلينظر الإنسان مما خلق ؟ خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب ، إنه على رجعه لقادر الآيات .
* ثم أخبرت عن كشف الأسرار ، وهتك الأستار في الآخرة عن البشر ، حيث لا معين للإنسان ولا نصير [ يوم تبلى السرائر ، فما له من قوة ولا ناصر
* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن العظيم ، معجزة محمد في الخالدة ، وحجته البالغة إلى الناس أجمعين ، وبينت صدق هذا القرآن ، وأوعدت الكفرة المجرمين بالعذاب الأليم لتكذبهم بالقرآن الساطع المنير (1)
مقصودها بيان مجد القرآن فيب ضصدقه فيب الإخبار بتنعيم أهل الإيمان ، وتعذيب أهل الكفران ، في يوم القيامة حين تبلى السرائر وتكشف المخبات الضمائر عن مثقال الذر وما دون المثقال ، مما دونته الحفطة الكرام في صحائف الأ " مال ، بعد استيفاء الآجال ، كما قدر في أزل الآزال ، من غير استعجال ، ولا تأخير عن الوقت المضروب ولا إهمال ، واسمها الطارق أدل ما فيها على هذا الموعود الصادق بتأمل القسم والمقسم عليه حسب ما اتسق الكلام إليه (2)
جاء في مقدمة هذا الجزء أن سورة تمثل طرقات متوالية على الحس. طرقات عنيفة قوية عالية ، وصيحات بنوّم غارقين في النوم ... تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات بإيقاع واحد ونذير واحد. «اصحوا.
تيقظوا. انظروا. تلفتوا. تفكروا. تدبروا. إن هنالك إلها. وإن هنالك تدبيرا. وإن هنالك تقديرا. وإن هنالك ابتلاء. وإن هنالك تبعة. وإن هنالك حسابا وجزاء. وإن هنالك عذابا شديدا ونعيما كبيرا ..».
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 477)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 385)(1/1483)
وهذه السورة نموذج واضح لهذه الخصائص. ففي إيقاعاتها حدة يشارك فيها نوع المشاهد ، ونوع الإيقاع الموسيقي ، وجرس الألفاظ ، وإيحاء المعاني.
ومن مشاهدها : الطارق. والثاقب. والدافق. والرجع. والصدع.
ومن معانيها : الرقابة على كل نفس : «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» .. ونفي القوة والناصر : «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ» .. والجد الصارم : «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» ..
والوعيد فيها يحمل الطابع ذاته : «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً!»! وتكاد تتضمن تلك الموضوعات التي أشير إليها في مقدمة الجزء : «إن هنالك إلها. وإن هنالك تدبيرا.
وإن هنالك تقديرا. وإن هنالك ابتلاء. وإن هنالك تبعة. وإن هنالك حسابا وجزاء ... إلخ».
وبين المشاهد الكونية والحقائق الموضوعية في السورة تناسق مطلق دقيق ملحوظ يتضح من استعراض السورة في سياقها القرآني الجميل .. (1)
مقاصد السورة
(1) إن كل نفس عليها حافظ.
(2) إقامة الأدلة على أن اللّه قادر على بعث الخلق كرة أخرى.
(3) إن القرآن منزل من عند اللّه وأن محمدا رسول اللّه.
(4) أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالانتظار حتى يحل العقاب بالكافرين. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3877)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 119)(1/1484)
(87) سورة الأعلى
هذه السورة وردت تسميتها في السنة سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطول فشكاه بعض من صلى خلفه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي: "أفتان أنت يا معاذ أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى والضحى" اهـ.
وفي "صحيح البخاري" عن البراء بن عازب قال: ما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور مثلها.
وروى الترمذي عن النعمان بن بشير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان يقرأ في العيد ويوم الجمعة سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية" .
وسمتها عائشة "سَبِّحِ". روى أبو داود والترمذي عنها كان النبي يقرأ في الوتر في الركعة الأولى سبح الحديث. فهذا ظاهر في أنها أرادت التسمية لأنها لم تأتي بالجملة القرآنية كاملة، وكذلك سماها البيضاوي وابن كثير. لأنها اختصت بالافتتاح بكلمة "سَبِّحِ" بصيغة الأمر.
وسماها أكثر المفسرين وكتاب المصاحف "سورة الأعلى" لوقوع صفة الأعلى فيها دون غيرها.
وهي مكية في قول الجمهور وحديث البراء بن عازب الذي ذكرناه آنفا يدل عليه، وعن ابن عمر وابن عباس أن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14-15]، نزل في صلاة العيد وصدقة الفطر، أي فهما مدنيتان فتكون السورة بعضها مكي وبعضها مدني.وعن الضحاك أن السورة كلها مدنية.
وما اشتملت عليه من المعاني يشهد لكونها مكية وحسبك بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى:6].
وهي معدودة ثامنة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة التكوير وقبل سورة الليل. وروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن أنها سابعة قالوا: أول ما نزل من القرآن: اقرأ باسم ربك، ثم ن~، ثم المزمل، ثم تبت، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك. وأما جابر بن زيد فعد الفاتحة بعد المدثر ثم عد البقية فهي عنده الثامنة، فهي من أوائل السور وقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} ينادي على ذلك.
وعدد آيها تسع عشرة آية باتفاق أهل العدد.
أغراضها(1/1485)
اشتملت على تنزيه الله تعالى والإشارة إلى وحدانيته لانفراده بخلق الإنسان وخلق ما في الأرض مما فيه بقاؤه.
وعلى تأييد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتثبيته على تلقي الوحي.
وأن الله معطيه شريعة سمحة وكتابا يتذكر به أهل النفوس الزكية الذين يخشون ربهم، ويعرض عنهم أهل الشقاوة الذين يؤثرون الحياة الدنيا ولا يعبأون بالحياة الأبدية.
وأن ما أوحي إليه يصدقه ما في كتب الرسل من قبله وذلك كله تهوين لما يلقاه من إعراض المشركين. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « الطارق » ـ قبل هذه السورة بقوله تعالى : « إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً » وفى هذا ـ كما عرفنا ـ تهديد للمشركين ، وتطمين لقلب النبي ، وحماية له من هذا الكيد الذي يكاد له ، فناسب أن تجىء بعد ذلك سورة « الأعلى » مبتدئة بقوله تعالى : « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى » ، ففى هذا الاستفتاح دعوة إلى تمجيد اللّه وتعظيمه ، والتسبيح بحمده ، على أن أخذ الظالمين بظلمهم ، وأبطل كيدهم .. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الأعلى » تسمى - أيضا - بسورة : « سبح اسم ربك الأعلى » ، فقد ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ - عند ما بلغه أنه يطيل الصلاة وهو يصلى بجماعة : « أفتان أنت يا معاذ؟ هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى. والشمس وضحاها.
والليل إذا يغشى » ..
2 - وسورة « الأعلى » من السور التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب قراءتها ، لاشتمالها على تنزيه اللّه - تعالى - ، وعلى الكثير من نعمه ومننه ، فقد أخرج الإمام أحمد عن على بن أبى طالب ، قال : كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يحب هذه السورة.
وعن النعمان بن بشير ، أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في العيدين : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ، وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 240)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1526)(1/1486)
وعن عائشة - رضى اللّه عنها - أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الوتر : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ « 1 ».
3 - وعدد آياتها تسع عشرة آيه. وهي من السور المكية الخالصة. قال الآلوسى :
والجمهور على أنها مكية ، وعن بعضهم أنها مدنية.
والدليل على كونها مكية ، ما أخرجه البخاري عن البراء بن عازب قال : أول من قدم علينا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير ، وابن أم مكتوم ، فجعلا يقرئاننا القرآن ، ثم جاء عمار بن ياسر ، وسعد بن أبى وقاص ، وبلال ، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ، ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به ، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون : هذا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قد جاء ، فما جاء حتى قرأت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى في سور مثلها .. « 1 ».
ومما يدل - أيضا - على أن هذه السورة مكية ، بل من أوائل السور المكية ، ما ذكره الإمام السيوطي ، من أن هذه السورة كان ترتيبها في النزول الثامنة من بين السور المكية ، فقد كان نزولها بعد سورة « التكوير » وقبل سورة « الليل » ، بل هناك رواية عن ابن عباس أنها السورة السابعة ، إذ لم يسبقها سوى سورة : العلق ، والمدثر ، والمزمل ، والقلم ، والمسد ، والتكوير .. « 2 ».
4 - والسورة الكريمة من أهم مقاصدها : إقامة الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - وعلى أنه - تعالى - منزه عن كل نقص ، وإبراز جانب عظيم من نعمه التي لا تحصى ، وامتنانه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالشريعة السمحة ، وبالقرآن الكريم. (1)
تتضمن السورة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتقديس اسم اللّه ، وإيذانا له بأن اللّه ميسره في طريق اليسر ، وأمره بالتذكير وتبشير المستجيبين بالفلاح وإنذار المتمردين بالنار.
وأسلوبها يلهم أنها بسبيل عرض عام للدعوة وأهدافها ومهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - . وليس فيها مواقف ومشاهد جدلية ، ولعلها نزلت بعد الفاتحة. أو نزلت قبل نزول ما تضمن حكاية مواقف الكفار وأقوالهم والرد عليهم. (2)
سورة الأعلى مكيّة ، وهي تسع عشرة آية.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 359)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 511)(1/1487)
تسميتها :سميت سورة الأعلى ، لافتتاحها بقول اللَّه تعالى : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي نزّه اللَّه عز وجل عن كل نقص ، وصفه بكل صفات التمجيد والتعظيم لأنه العلي الأعلى من كل شيء في الوجود. وتسمى أيضا سورة سَبِّحِ.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها في أن سورة الطارق ذكرت خلق الإنسان في قوله تعالى : خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [6] وبدء خلق النبات في قوله : وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [11 - 12].
وهذه السورة تحدثت بما هو أعم وأشمل من خلق الإنسان وغيره : خَلَقَ فَسَوَّى [2] وخلق النبات في قوله : وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [4 - 5].
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة المكية الحديث عن توحيد اللَّه وقدرته ، والقرآن وتيسير حفظه ، والأخلاق الكريمة بتهذيب النفس الإنسانية. وقد افتتحت بالأمر بتنزيه اللَّه تعالى عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه ، ووصفه بصفات التعظيم والتمجيد ، لخلقه المخلوقات وإتقان الخلق وتناسبه ، وإخراجه الأعشاب والنباتات : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ..[الآيات 1 - 5].
ثم تحدثت عن تيسير حفظ القرآن وترسيخه في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث لا ينساه أبدا ، لينقله إلى الناس : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى .. [6 - 7].
وأردفت ذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتذكير بالقرآن لإصلاح النفوس وتهذيب الطبائع : فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى .. [الآيات 8 - 13].
وختمت السورة ببيان فلاح كل من طهر نفسه من الكفر والشرك والمعاصي ، وتذكّر دائما في نفسه جلال اللَّه وعظمته ، ولم يؤثر الدنيا على الآخرة ، وعرف أن هذه الأصول الاعتقادية والخلقية قديمة جاءت بها جميع الشرائع الإلهية : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى .. [14 - 19]. (1)
وهي مكية ، وعدد آياتها تسع عشرة آية ، وتشمل الأمر بالتسبيح والتنزيه ، ثم الأمر بالتذكير وبيان أن الفلاح لمن تطهر من دنس المعاصي ، وخلص من حب الدنيا. (2)
وتسمى سورة سبح ، والجمهور على أنها مكية وحكى ابن الفرس عن بعضهم أنها مدنية لذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها ، ورده الجلال السيوطي بما أخرج البخاري وابن سعد وابن أبي شيبة عن البراء
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 185)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 853)(1/1488)
بن عازب قال : أول من قدم علينا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرآن القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد ثم جاء عمر ابن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه في عشرين ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به عليه الصلاة والسلام حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون : هذا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قد جاء فما جاء عليه الصلاة والسلام حتى قرأت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى في سور مثلها ثم أن ذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها غير مسلم ولو سلم فلا دلالة فيه على ذلك كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى تفصيله ، وهي تسع عشرة آية بلا خلاف ووجه مناسبتها لما قبلها أنه ذكر في سورة الطارق خلق الإنسان وأشير إلى خلق النبات بقوله تعالي وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطارق : 12] وذكرا هاهنا في قوله تعالى خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى : 2] وقوله سبحانه أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [الأعلى : 4 ، 5] وقصة النبات هنا أوضح وأبسط كما أن قصة خلق الإنسان هناك كذلك ، نعم إن ما في هذه السورة أعم من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات وكان - صلى الله عليه وسلم - يحبها.
أخرج الإمام أحمد والبزار وابن مردويه عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال : كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يحب هذه السورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وجاء في حديث أخرجه أبو عبيد عن أبي تميم أنه عليه الصلاة والسلام سماها أفضل المسبحات . وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الوتر في الركعة الأولى سَبِّحِ وفي الثانية قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وفي الثالثة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين وفي حديث أخرجه المذكورون وغيرهم إلّا الترمذي عن أبيّ بن كعب نحو ذلك بيد أنه ليس فيه المعوذتان. وأخرج ابن أبي شيبة والإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن النعمان بن بشير أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا . وأخرج الطبراني عن عبد اللّه بن الحارث قال : آخر صلاة صلاها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - المغرب فقرأ في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون. (1)
* سورة الأعلى من السور المكية ، وهي تعالج بإختصار المواضيع الآتية :
1- الذات العلية وبعض صفات الله جل وعلا ، والدلائل على القدرة والوحدانية
2 - الوحي والقرآن المنزل على خاتم الرسل ( - صلى الله عليه وسلم - ) وتيسير حفظه عليه
3 - الموعظة الحسنة التي ينتفع بها أهل القلوب الحية ، ويستفيد منها أهل السعادة والإيمان
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 313)(1/1489)
* ابتدأت السورة الكريمة بتنزيه الله جل وعلا ، الذي خلق فأبدع ، وصور فأحسن ، وأخرج العشب ، والنبات ، رحمة بالعباد [ سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى الآيات
ثم تحدثت عن الوحي والقرآن ، وآنست الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالبشارة بتحفيظه هذا الكتاب المجيد ، وتيسير حفظه عليه ، بحيث لا ينساه أبدا [ سنقرئك فلا تنسى ، إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى
* ثم أمرت بالتذكير بهذا القرآن ، الذي يستفيد من نوره المؤمنون ، ويتعظ بهديه المتقون ، [ فذكر إن نفعت الذكرى ، سيذكر من يخشى ، ويتجنبها الأشقى ] الآيات.
* وختمت السورة ببيان فوز من طهر نفسه من الذنوب والآثام ، وزكاها بصالح الأعمال [ قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى ] إلى نهاية السورة الكريمة . (1)
قال الملوي : وكان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يحبها لكثرة ما اشتملت عليه من العلوم والخيرات - مقصودهات إيجاب التنزيه للأعلى سبحانه وتعالى عن أن يلحق ساحة عظمته شيء من شوائب النقص كاستعجال في أمر من إهلاك اللكافرين أو غيره أو العجز عن البعث أو إهمال الخلق سدى يبغي بعضهم على بعض بغير حساب ، أو أن يتكلم بما لا يطابق الواقع أو بما يقدر أحد أن يتكلم بمثله كما أذنت بذلك الطارق مجملا وشرحته هذه مفصلا ، وعلى ذلك دل كل من اسمها سبح والأعلى (2)
في رواية للإمام أحمد عن الإمام علي - كرم اللّه وجهه - أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب هذه السورة : «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» .. وفي صحيح مسلم أنه كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى ، و«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ». وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما ..
وحق لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يحب هذه السورة وهي تحيل له الكون كله معبدا تتجاوب أرجاؤه بتسبيح ربه الأعلى وتمجيده ، ومعرضا يحفل بموجبات التسبيح والتحميد : «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى . وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى . فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى » .. وإيقاع السورة الرخي المديد يلقي ظلال التسبيح ذي الصدى البعيد ..
وحق له - صلى الله عليه وسلم - أن يحبها ، وهي تحمل له من البشريات أمرا عظيما. وربه يقول له ، وهو يكلفه التبليغ والتذكير : «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى - إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى - وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى . فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى » .. وفيها يتكفل له ربه بحفظ قلبه لهذا القرآن ، ورفع هذه الكلفة عن عاتقه.
ويعده أن ييسره لليسرى في كل أموره وأمور هذه الدعوة. وهو أمر عظيم جدا.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 479)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 393)(1/1490)
وحق له - صلى الله عليه وسلم - أن يحبها ، وهي تتضمن الثابت من قواعد التصور الإيماني : من توحيد الرب الخالق وإثبات الوحي الإلهي ، وتقرير الجزاء في الآخرة. وهي مقومات العقيدة الأولى. ثم تصل هذه العقيدة بأصولها البعيدة ، وجذورها الضاربة في شعاب الزمان : «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى . صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى » .. فوق ما تصوره من طبيعة هذه العقيدة ، وطبيعة الرسول الذي يبلغها والأمة التي تحملها .. طبيعة اليسر والسماحة ..وكل واحدة من هذه تحتها موحيات شتى ووراءها مجالات بعيدة المدى .. (1)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3882)(1/1491)
(88) سورة الغاشية
سميت في المصاحف والتفاسير "سورة الغاشية". وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من "جامعه"، لوقوع لفظ {الْغَاشِيَةِ} في أولها.
وثبت في السنة تسميتها {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، ففي "الموطأ" أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير بم كان رسول الله يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة? قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . وهذا ظاهر في التسمية لأن السائل سأل عما يقرأ مع سورة الجمعة فالمسؤول عنه السورة الثانية، وبذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه".
وربما سميت "سورة هل أتاك" بدون كلمة {حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . وبذلك عنونها ابن عطية في "تفسيره" وهو اختصار.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة السابعة والستين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الذاريات وقبل سورة الكهف.
وآياتها ست وعشرون.
أغراضها
اشتملت هذه السورة على تهويل يوم القيامة وما فيه من العقاب قوم مشوهة حالتهم، ومن ثواب قوم ناعمة حالتهم وعلى وجه الإجمال المرهب أو المرغب.
والإيماء إلى ما يبين ذلك الإجمال كله بالإنكار على قوم لم يهتدوا بدلالة مخلوقات من خلق الله وهي نصب أعينهم، على تفرده بالإلهية فيعلم السامعون أن الفريق المهدد هم المشركون.
وعلى إمكان إعادته بعض مخلوقاته خلقا جديدا بعد الموت يوم البعث.
وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على الدعوة إلى الإسلام وأن لا يعبأ بإعراضهم.
وأن وراءهم البعث فهم راجعون إلى الله فهو مجازيهم على كفرهم وإعراضهم. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « الأعلى » بالحديث عن الآخرة ، وعن أنها الحياة الخالدة الباقية ، التي تستحق أن يعمل الإنسان لها ، ويؤثرها على الدنيا ، إيثار الحقّ على الباطل ، والعظيم على الحقير ، والباقي على الفاني .. ولكن حب الدنيا قد غلب على أكثر الناس ، فصرفوا همهم كله إلى الدنيا ، ولم يعطوا الحياة الآخرة شيئا
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 260)(1/1492)
من وجودهم ، فجاءوا إلى يوم القيامة ، مفلسين معدمين ، ليس فى أيديهم زاد لها ، بل كل ما يحملون هو أوزار وآثام ، وضلالات .. فكان الحديث عن الغاشية ، وهى القيامة ، وعن أهوالها ، تذكيرا للناس بها ، وتنبيها لهم إلى ما يلقى المجرمون فيها من عذاب ونكال .. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الغاشية » ، وتسمى سورة « هل أتاك حديث الغاشية » من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها ست وعشرون آية ، وهي السورة الثامنة والثمانون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول ، فهي السورة السابعة والستون من بين السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة « الذاريات » وقبل سورة « الكهف ».
2 - وهي من السور التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها كثيرا ، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه ، عن النعمان بن بشير ، أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ « سبح اسم ربك الأعلى » « والغاشية » في صلاة الجمعة والعيدين.
وفي رواية - أيضا - عن النعمان بن بشير أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ هذه السورة مع سورة الجمعة ، في صلاة الجمعة.
3 - وقد اشتملت السورة الكريمة على بيان أحوال الكافرين والمؤمنين يوم القيامة ، كما لفتت أنظار الناس إلى مظاهر قدرة اللّه في خلقه ، لكي يتفكروا ويتدبروا أن الخالق لهذه الأشياء بتلك الصورة البديعة ، هو المستحق للعبادة والطاعة ، وأنهم سيعودون إليه للحساب والجزاء إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ. (2)
السورة فصلان متناظران ، أحدهما في الإنذار بيوم القيامة ووصف مصير وحالة المؤمنين والكفار فيه. وثانيهما في لفت نظر الناس إلى بعض مشاهد الخلق والكون الدالة على ربوبية اللّه وقدرته فيه معنى التنديد بالكفار مع بيان مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكونها للتبليغ والتذكير وليست لإكراه الناس.
وأسلوب السورة ومضمونها مما يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة. (3)
سورة الغاشية مكيّة ، وهي ست وعشرون آية.
تسميتها : سميت سورة الغاشية ، لافتتاحها بقوله تعالى : هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ والغاشية : من أسماء يوم القيامة ، وهي الداهية التي تغشى الناس بأهوالها ، والاستفهام للتهويل وتفخيم شأنها.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1536)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 371)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 45)(1/1493)
مناسبتها لما قبلها :
هذه السورة تفصيل وتبسيط لما جاء في سورة الأعلى من أوصاف المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا ، فلما قال تعالى في الأعلى : سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى إلى قوله : وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الآيات : 10 - 17] فصل ذلك في هذه السورة بقوله : عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ، تَصْلى ناراً حامِيَةً .. [الآيات : 2 - 7] ثم ذكر صفات وأحوال المؤمنين في الآيات : [8 - 16]. ولما قال تعالى في الأعلى : وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى أبان صفة الجنة في الآيات السابقة أكثر من صفة النار ، تحقيقا لمعنى الخيرية.
ما اشتملت عليه السورة :
تتحدث هذه السورة المكية عن أصول الاعتقاد في موضوعات ثلاثة وهي :
أ- وصف أهوال القيامة ، وما يلقاه الكافر والمؤمن فيها من الشقاء والسعادة ، وو صف أهل الجنة وأهل النار.
2 - إثبات وحدانية اللَّه وقدرته وحكمته وعلمه بدليل خلق السماء والإبل والجبال والأرض وغيرها من عجائب الصنعة الإلهية.
3 - ختمت السورة الكريمة بخاتمة تشبه خاتمة السورة المتقدمة وهي تذكير الناس بالرجوع إلى اللَّه عز وجل للحساب والجزاء ، وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصالة بالتذكير بما أنزل إليه من الشرائع والأحكام. (1)
وهي مكية. وآياتها ست وعشرون آية ، وقد تكلمت عن الغاشية وأن الناس بها فريقان : فريق في الجنة وفريق في السعير ، ثم لفت الأنظار إلى بعض الآثار ، ثم مرت بالنبي وتذكيره مع بيان أن المرجع إلى اللّه. (2)
مكية بلا خلاف وعدة آياتها ست وعشرون كذلك وكان - صلى الله عليه وسلم - كما أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن النعمان بن بشير يقرؤها في الجمعة مع سورتها
ولما أشار سبحانه فيما قبل إلى المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا بسط الكلام هاهنا (3)
* سورة الغاشية مكية ، وقد تناولت موضوعين أساسيين وهما :
1 - القيامة وأحوالها وأهوالها ، وما يلقاه الكافر فيها من العناء والبلاء ، وما يلقاه المؤمن فيها من السعادة والهناء [ هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية الآيات
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 202)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 856)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 324)(1/1494)
2 - الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين ، وقدرته الباهرة ، في خلق الإبل العجيبة والسماء البديعة ، والجبال المرتفعة ، والأرض الممتدة الواسعة ، وكلها شواهد على وحدانية الله وجلال سلطانه [ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بالتذكير برجوع الناس جميعا إلى الله سبحانه للحساب والجزاء (1)
مقصودها شرح ما في آخر " سبح " من تنزيه الله سبحانه وتعالى عن العبث بإثبات الدار الآخرة التي الغاشية مبدؤها ، وذكر ما فيها للأتقى والأشقى ، والدلالة على القدرة عليها ، وأدل ما فيها على هذا المقصود الغاشية - نعوذ بالله من القلب الغاشي والبصيرة الغاشية ، بئلا تكون الغاشية علينا بسوء الأعمال ناشية (2)
هذه السورة واحدة من الإيقاعات العميقة الهادئة. الباعثة إلى التأمل والتدبر ، وإلى الرجاء والتطلع ، وإلى المخافة والتوجس ، وإلى عمل الحساب ليوم الحساب!
وهي تطوّف بالقلب البشري في مجالين هائلين : مجال الآخرة وعالمها الواسع ، ومشاهدها المؤثرة. ومجال الوجود العريض المكشوف للنظر ، وآيات اللّه المبثوثة في خلائقه المعروضة للجميع. ثم تذكرهم بعد هاتين الجولتين الهائلتين بحساب الآخرة ، وسيطرة اللّه ، وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف .. كل ذلك في أسلوب عميق الإيقاع ، هادئ ، ولكنه نافذ. رصين ولكنه رهيب!
«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟» ..
بهذا المطلع تبدأ السورة التي تريد لترد القلوب إلى اللّه ، ولتذكرهم بآياته في الوجود ، وحسابه في الآخرة وجزائه الأكيد. وبهذا الاستفهام الموحي بالعظمة الدال على التقرير الذي يشير في الوقت ذاته إلى أن أمر الآخرة مما سبق به التقرير والتذكير. وتسمى القيامة هذا الاسم الجديد : «الْغاشِيَةِ» .. أي الداهية التي تغشى الناس وتغمرهم بأهوالها. وهو من الأسماء الجديدة الموحية التي وردت في هذا الجزء .. الطامة .. الصاخة ..الغاشية .. القارعة .. مما يناسب طبيعة هذا الجزء المعهودة. (3)
مقاصد هذه السورة
تضمنت هذه السورة ثلاثة مقاصد :
(1) وصف أهل الجنة ووصف أهل النار.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 482)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 404)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3895)(1/1495)
(2) ذكر عجائب الصنعة الإلهية.
(3) أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالتذكير بما أرسل إليه من الشرائع. (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 139)(1/1496)
(89) سورة الفجر
لم يختلف في تسمية هذه السورة "سورة الفجر" بدون الواو في المصاحف والتفاسير وكتب السنة.
وهي مكية باتفاق سوى ما حكى ابن عطية عن أبي عمرو الداني أنه حكى عن بعض العلماء وأنها مدنية.
وقد عدت العاشرة في عداد نزول السور. نزلت بعد سورة الليل وقبل سورة الضحى.
وعدد آيها اثنتان وثلاثون عند أهل العدد بالمدينة ومكة عدوا قوله: {وَنَعَّمَهُ} [الفجر: 15] منتهى آية، وقوله: {رِزْقَهُ} [الفجر: 16]، منتهى آيه. ولم يعدها غيرهم منتهى آية، وهي ثلاثون عند أهل العدد بالكوفة والشام وعند أهل البصرة تسع وعشرون.
فأهل الشام عدوا {بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23]، منتهى آية. وأهل الكوفة عدوا {فِي عِبَادِي} [الفجر: 29]، منتهى آية.
أغراضها
حوت من الأغراض ضرب المثل لمشركي أهل مكة في إعراضهم عن قبول رسالة ربهم بمثل عاد وثمود وقوم فرعون.
وإنذارهم بعذاب الآخرة.
وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وعده باضمحلال أعدائه.
وإبطال غرور المشركين من أهل مكة إذ يحسبون أن ما هم فيه من النعيم علامة على أن الله أكرمهم وأن ما فيه المؤمنون من الخصاصة علامة على أن الله أهانهم.
وأنهم أضاعوا شكر الله على النعمة فلم يواسوا ببعضها على الضعفاء وما زادتهم إلا حرصا على التكثر منها.
وأنهم يندمون يوم القيامة على أن لم يقدموا لأنفسهم من الأعمال ما ينتفعون به يوم لا ينفع نفس مالها ولا ينفعها إلا إيمانها وتصديقها بوعد ربها. وذلك ينفع المؤمنين بمصيرهم إلى الجنة. (1)
مناسبتها لما قبلها
هذه السورة ، هى امتداد لعرض آيات من قدرة اللّه سبحانه وتعالى ، وما أخذ به المكذبين بالحياة الآخرة ، الذين لم يؤمنوا باللّه ، ولم يصدقوا بما جاءهم على يد رسل اللّه من آيات مبصرة .. (2)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 275)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1545)(1/1497)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الفجر » من السور المكية الخالصة ، بل هي من أوائل ما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من سور قرآنية ، فهي السورة العاشرة في ترتيب النزول ، وكان نزولها بعد سورة « والليل إذا يغشى » ، وقبل سورة « الضحى » ، أما ترتيبها في المصحف فهي السورة التاسعة والثمانون.
وعدد آياتها : ثلاثون آية في المصحف الكوفي ، واثنتان وثلاثون في الحجازي ، وتسع وعشرون في البصري.
2 - ومن أهم مقاصد هذه السورة الكريمة : تذكير المشركين بما حل بالمكذبين من قبلهم ، كقوم عاد وثمود وفرعون ، وبيان أحوال الإنسان في حال غناه وفي حال فقره ، وردعه عن الانقياد لهوى نفسه ، ولفت نظره إلى أهوال يوم القيامة ، وأنه في هذا اليوم لن ينفعه ندمه أو تحسره على ما فات ، وتبشير أصحاب النفوس المؤمنة المطمئنة ، برضا ربها عنها ، وبظفرها بجنة عرضها السموات والأرض. (1)
تحتوي السورة تذكيرا بعذاب اللّه الذي حل بالطغاة المتمردين من الأمم السابقة كعاد وثمود وفرعون وإنذارا لأمثالهم ، وتنديدا بحب المال والاستغراق فيه ، واستباحة البغي والظلم في سبيله ، وعدم البر باليتيم والمسكين ، ودحضا لظن أن اليسر والعسر في الرزق اختصاص من اللّه بقصد التكريم والإهانة. وفيها تصوير مشهد ما يكون من مصير البغاة يوم القيامة وحسرتهم ، وتنويه بالمؤمنين ذوي النفوس المطمئنة وبشرى لهم برضاء اللّه وجنته. وأسلوب السورة عام العرض والتوجيه مما يدل على تبكيرها بالنزول. وفصولها وآياتها منسجمة مما يدل على نزولها جملة واحدة أو متتابعة. (2)
سورة الفجر مكيّة ، وهي ثلاثون آية.
تسميتها :سميت سورة الفجر ، لافتتاحها بقوله تعالى : وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وهو قسم عظيم بفجر الصبح المتبلج نوره كل يوم على أن الكفار سيعذبون حتما.
مناسبتها لما قبلها :
تتعلق السورة الكريمة بما قبلها من وجوه ثلاثة :
1 - إن القسم الصادر في أولها كالدليل على صحة ما ختمت به السورة التي قبلها من قوله جل جلاله : إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 381)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 531)(1/1498)
2 - تضمنت السورة السابقة قسمة الناس إلى فريقين : أشقياء وسعداء ، أصحاب الوجوه الخاشعة ، وأصحاب الوجوه الناعمة ، واشتملت هذه السورة على ذكر طوائف من الطغاة : عاد وثمود وفرعون الذين هم من الفريق الأول ، وطوائف من المؤمنين المهتدين الشاكرين نعم اللَّه ، الذين هم في عداد الفريق الثاني ، فكان الوعد والوعيد حاصلا في السورتين.
3 - إن جملة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ .. في هذه السورة مشابهة لجملة : أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ... في السورة المتقدمة.
ما اشتملت عليه السورة :
اشتملت السورة على أغراض ستة :
1 - القسم الإلهي بالفجر والعشر الأوائل من ذي الحجة والشفع والوتر والليل على أن عذاب الكفار واقع حتما لا مفر منه : وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الآيات : 1 - 5].
2 - إيراد قصص بعض الأمم الظالمة البائدة المكذبة رسل اللَّه ، كعاد وثمود وقوم فرعون ، لضرب المثل ، وبيان ما حل بهم من العذاب بسبب طغيانهم :أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ .. [الآيات : 6 - 14].
3 - بيان أن الحياة ابتلاء للناس بالخير والشر ، والغنى والفقر ، والتعرف على طبيعة الإنسان في حب المال ، وتوضيح أن كثرة النعم على عبد ليست دليلا على إكرام اللَّه له ، ولا الفقر وضيق العيش دليلا على إهانته : فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ .. [الآيات : 15 - 20].
4 - وصف يوم القيامة وأهواله وشدائده : كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا .. [الآيات : 21 - 23].
5 - بيان انقسام الناس إلى فريقين في الآخرة : سعداء وأشقياء ، وتمني الأشقياء العودة إلى الدنيا : يَقُولُ : يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي .. [الآيات : 24 - 26].
6 - الإخبار عن ظفر السعداء بالنعيم العظيم في جنان اللَّه : يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ .. [الآيات : 27 - 30]. (1)
مكية. وآياتها ثلاثون آية ، وقد تضمنت القسم على أن الكفار سيعذبون حتما ، كما عذب غيرهم من الأمم السابقة ، وبيان الإنسان وطبعه وما جبل عليه في الدنيا ، وبيان موقفه يوم القيامة. (2)
مكية في قول الجمهور. وقال علي بن أبي طلحة : مدنية وآيها اثنتان وثلاثون آية في الحجازي ، وثلاثون في الكوفي والشامي ، وتسع وعشرون في البصري. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 219) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 140)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 859)(1/1499)
[الغاشية : 3] ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ [الغاشية : 8] أتبعه تعالى بذكر الطوائف المكذبين من المتجبرين الذين وجوههم خاشعة ، وأشار جل شأنه إلى الصنف الآخر الذين وجوههم ناعمة بقوله سبحانه فيها يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر : 27] وأيضا فيها مما يتعلق بأمر الغاشية ما فيها. وقال الجلال السيوطي : لم يظهر لي في وجهه ارتباطها سوى أن أولها كالإقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها أو على ما يتضمنه من الوعد والوعيد هذا مع أن جملة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الفجر : 6] مشابهة لجملة أَفَلا يَنْظُرُونَ [الغاشية : 17] وها كما ترى. (1)
* سورة الفجر مكية ، وهي تتحدث عن أمور ثلاثة رئيسية هي :
1- ذكر قصص بعض الأمم المكذبين لرسل الله ، كقوم عاد ، وثمود ، وقوم فرعون ، وبيان ما حل بهم من العذاب والدمار ، بسبب فجورهم وطغيانهم [ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ؟ إرم ذات العماد ؟ التي لم يخلق مثلها في البلاد ] ؟ الأيآت
2 - بيان سنة الله تعالى في ابتلاء العباد في هذه الحياة ، بالخير والشر ، والغنى والفقر ، وطبيعة الإنسان في حبه الشديد للمال [ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه . فيقول ربي أكرمن ، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن . . ] الآيات
3 - ذكر الدار الآخرة وأهوالها وشدائدها ، وانقسام الناس يوم القيامة ، إلى سعداء وأشقياء وبيان مآل النفس الشريرة ، والنفس الكريمة الخيرة [ كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ، وجاء ربك والملك صفا صفا ، وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ] إلى نهاية السورة الكريمة (2)
مقصودها الاستدلال على آخر الغاشية الإياب والحساب ، وأدل ما فيها على هذا المقصود الفجر بانفجار الصبح عن النهار الماضي بالأمس من غير فرق في شيء من الذات وانبعاث النيام من الموت الأصغر وهو النوم بالانتشار يفي ضياء النهار لطلب المعايش للمجازاة في الحساب بالثواب والعقاب (3)
هذه السورة في عمومها حلقة من حلقات هذا الجزء في الهتاف بالقلب البشري إلى الإيمان والتقوى واليقظة والتدبر .. ولكنها تتضمن ألوانا شتى من الجولات والإيقاعات والظلال. ألوانا متنوعة تؤلف من تفرقها وتناسقها لحنا واحدا متعدد النغمات موحد الإيقاع!
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 333)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 485)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 413)(1/1500)
في بعض مشاهدها جمال هادئ رفيق ندي السمات والإيقاعات ، كهذا المطلع الندي بمشاهده الكونية الرقيقة ، وبظل العبادة والصلاة في ثنايا تلك المشاهد .. «وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ..».
وفي بعض مشاهدها شد وقصف. سواء مناظرها أو موسيقاها كهذا المشهد العنيف المخيف : «كَلَّا. إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا. وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ. يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى . يَقُولُ : يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي. فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ» ..
وفي بعض مشاهدها نداوة ورقة ورضى يفيض وطمأنينة. تتناسق فيها المناظر والأنغام ، كهذا الختام : «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي» ..
وفيها إشارات سريعة لمصارع الغابرين المتجبرين ، وإيقاعها بين بين. بين إيقاع القصص الرخي وإيقاع المصرع القوي : «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ».
وفيها بيان لتصورات الإنسان غير الإيمانية وقيمه غير الإيمانية. وهي ذات لون خاص في السورة تعبيرا وإيقاعا : «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ : رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ : رَبِّي أَهانَنِ ..».
ثم الرد على هذه التصورات ببيان حقيقة حالهم التي تنبع منها هذه التصورات. وهي تشمل لونين من ألوان العبارة والتنغيم : «كَلَّا. بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا» ..
ويلاحظ أن هذا اللون الأخير هو قنطرة بين تقرير حالهم وما ينتظرهم في مآلهم. فقد جاء بعده : «كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ... إلخ» .. فهو وسط في شدة التنغيم بين التقرير الأول والتهديد الأخير! ومن هذا الاستعراض السريع تبدو الألوان المتعددة في مشاهد السورة. وإيقاعاتها في تعبيرها وفي تنغيمها ..
كما يبدو تعدد نظام الفواصل وتغير حروف القوافي. بحسب تنوع المعاني والمشاهد. فالسورة من هذا الجانب نموذج واف لهذا الأفق من التناسق الجمالي في التعبير القرآني «1». فوق ما فيها عموما من جمال ملحوظ مأنوس! (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3901)(1/1501)
مقاصد هذه السورة
تشتمل هذه السورة على مقاصد ستة :
(1) القسم على أن عذاب الكافرين لا محيص منه.
(2) ضرب المثل بالأمم البائدة كعاد وثمود.
(3) كثرة النعم على عبد ليست دليلا على إكرام اللّه له ، ولا البلاء دليلا على إهانته وخذلانه.
(4) وصف يوم القيامة وما فيه من أهوال.
(5) تمنى الأشقياء العودة إلى الدنيا.
(6) كرامة النفوس الراضية المرضية ، وما تلقاه من النعيم بجوار ربها. (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 154)(1/1502)
(90) سورة البلد
سميت هذه السورة في ترجمتها عن "صحيح البخاري" "سورة لا أقسم" وسميت في المصاحف وكتب التفسير "سورة البلد". وهو إما على حكاية اللفظ الواقع في أولها لإرادة البلد المعروف وهو مكة.
وهي مكية وحكى الزمخشري والقرطبي الاتفاق عليه واقتصر عليه معظم المفسرين وحكى ابن عطية عن قوم: أنها مدنية. ولعل هذا قول من فسر قوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2] أن الحل الإذن له في القتال يوم الفتح وحمل {وَأَنْتَ حِلٌّ} على معنى: وأنت الآن حل، وهو يرجع إلى ما روى القرطبي عن السدي وأبي صالح وعزي لابن عباس. وقد أشار في "الكشاف" إلى إبطاله بأن السورة نزلت بمكة بالاتفاق، وفي رده بذلك مصادرة، فالوجه أن يورد بأن في قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} إلى قوله: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:5-11] ضمائر غيبة يتعين عودها إلى الإنسان في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] وإلا لخلت الضمائر عن معاد. وحكى في الإتقان قولا أنها مدنية إلا الآيات الأربع من أولها.
وقد عدت الخامسة والثلاثين في عدد نزول السور، نزلت بعد سورة ق وقبل سورة الطارق.
وعدد آيها عشرون آية.
أغراضها
حوت من الأغراض التنويه بمكة. وبمقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بها. وبركته فيها وعلى أهلها.
والتنويه بأسلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - من سكانها الذين كانوا من الأنبياء مثل إبراهيم وإسماعيل أو من أتباع الحنيفية مثل عدنان ومضر كما سيأتي.
والتخلص إلى ذم سيرة أهل الشرك. وإنكارهم البعث. وما كانوا عليه من التفاخر المبالغ فيه، وما أهملوه من شكر النعمة على الحواس، ونعمة النطق، ونعمة الفكر، ونعمة الإرشاد فلم يشكروا ذلك بالبذل في سبل الخير وما فرطوا فيه من خصال الإيمان وأخلاقه.
ووعيد الكافرين وبشارة الموقنين. (1)
مناسبتها لما قبلها
الإنسان الذي ابتلاه اللّه فأكرمه ونعمه ، فلم يحمد اللّه ، ولم يشكر له فضله وإحسانه ، والإنسان الذي قدر اللّه عليه رزقه ، فساء ظنّه باللّه ، وغيّر موقفه منه ـ هذا الإنسان ـ فى حاليه اللذين عرضتهما
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 305)(1/1503)
سورة « الفجر » ـ يرى فى أوضح صورة فى إنسان هذا البلد ، وهو مكة ، البلد الحرام الذي رفع اللّه قدره ، وجعله حرما آمنا ، يجبى إليه ثمرات كل شىء ، وجعله موضعا لأول بيت يعبد فيه على هذه الأرض ـ هذا الإنسان الذي يعيش فى هذا البلد الأمين ، كان جديرا به أن يكون أعرف الناس بربه ، وأرضاهم لحكمه ، ولكنه لم يرع حرمة هذا البلد ، فلم يكرم اليتيم ، ولم يحض على طعام المسكين ، وأكل التراث أكلا لما ، وأحب المال حبا جمّا ، أعماه عن طريق الحق ، وأضله عن سبيل الرشاد .. فهل هو بعد هذه النّذر عائد إلى ربه ، داخل فى عباده ؟ ذلك ما ستكشف عنه الأيام منه ، مع دعوة الحق التي يحملها رسول اللّه إليه .. فالمناسبة بين السورتين قريبة دانية. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « البلد » وتسمى سورة « لا أقسم » من السور المكية الخالصة ، وعلى ذلك سار المحققون من المفسرين.
قال القرطبي : سورة « البلد » مكية باتفاق .. « 1 ».
وقال الآلوسى : مكية في قول الجمهور بتمامها ، وقيل : مدنية بتمامها. وقيل : مدنية إلا أربع آيات من أولها. واعترض كلا القولين بأنه يأباهما قوله بِهذَا الْبَلَدِ - إذ المقصود بهذا البلد مكة - ، ولقوة الاعتراض ادعى الزمخشري الإجماع على مكيتها .. « 2 ».
والذي تطمئن إليه النفس ، أن هذه السورة من السور المكية الخالصة ، ولا يوجد دليل يعتمد عليه يخالف ذلك.
قال الشوكانى : سورة « البلد » ، ويقال لها سورة « لا أقسم » وهي عشرون آية. وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة « لا أقسم » بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
2 - وهي السورة الخامسة والثلاثون في ترتيب نزول السور ، فقد كان نزولها بعد سورة « ق » ، وقبل سورة « الطارق » ، أما ترتيبها في المصحف فهي السورة التسعون.
ومن مقاصدها : التنويه بشأن مكة ، لشرفها وحرمتها ووجود البيت المعظم بها ، وتعداد نعم اللّه - تعالى - على الإنسان حتى يرجع عن عصيانه وغروره ، ويخلص العبادة لخالقه ، وبيان حسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار .. (2)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1564)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 397)(1/1504)
في السورة تنديد بالذين يقفون موقف المشاقّة والمشاكسة ويتباهون بأموالهم غير حاسبين حساب العاقبة. وتقرير لقابلية الإنسان للاختيار بين الخير والشر.
وحثّ على الإيمان والتواصي بالصبر والمرحمة والمكرمات الأخرى وفي مقدمتها عتق الرقيق. وأسلوبها عام إجمالا. (1)
سورة البلد مكيّة ، وهي عشرون آية.
تسميتها :سميت سورة البلد لأن اللَّه تعالى أقسم في فاتحتها بالبلد الحرام (مكة) الذي شرفه اللَّه بالبيت العتيق ، وجعله قبلة المسلمين ، تعظيما لشأنه.
مناسبتها لما قبلها :
ترتبط السورة بما قبلها من وجهين :
1 - ذم اللَّه تعالى في السورة السابقة (الفجر) من أحب المال ، وأكل التراث ، ولم يحض على طعام المسكين ، وذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة (إعتاق العبيد) والإطعام في يوم المسغبة (المجاعة).
2 - ختم اللَّه تعالى السورة المتقدمة ببيان حال النفس المطمئنة في الآخرة ، وذكر هنا طريق الاطمئنان ، وحذّر من ضده وهو الكفر بآيات اللَّه ومخالفة أوامر الرحمن.
ما اشتملت عليه السورة :
محور هذه السورة المكية الحديث عن سعادة الإنسان وشقاوته ، ومنهجه في اختيار أحد الطريقين. بدأت بالقسم بالبلد الحرام - مكة أم القرى ، التي يأمن الناس فيها ، تنبيها على عظمة قدرها ، سواء في حال الإحرام أو الحل ، وتنويها بموطن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيم تحريم إيذائه في البلد الأمين ، ثم ذكرت المقسم عليه وهو أن حال الإنسان في الدنيا في نصب وتعب : لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ..[الآيات 1 - 4].
وأردفت ذلك بالإخبار عن خلق ذميم في الإنسان وهو اغتراره بقوته ، مما حدا بكفار مكة الذين اغتروا بقوتهم أن يعاندوا الحق ، ويكذبوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وينفقوا أموالهم في المفاسد والشرور ، وهو شأن المفتونين المغرورين بمالهم وغناهم : أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ..[الآيات 5 - 7].
ثم ذكّرت الإنسان بما أنعم اللَّه عليه من العينين واللسان والشفتين وبيان طريق الخير والشر له ، واختياره أحد السبيلين بعقله وإرادته : أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ .. [الآيات 8 - 10].
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 253)(1/1505)
ثم أبانت للإنسان ما يعترضه من الأهوال والمصاعب يوم القيامة وطريق اجتيازها بالإيمان والعمل الصالح وإنفاق المال في جهات البر والخير ، ليكون من الأبرار السعداء أهل اليمين : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ... [الآيات 11 - 18].
وقابلت ذلك بتوضيح منهج الأشقياء الفجار أهل الشمال ، وهو الكفر بآيات اللَّه ، فيتميز المؤمنون عن الكفار ، ويتبين مآل الفريقين إما إلى الجنة أو إلى النار : وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا .. [19 - 20]. (1)
مكية على الصحيح ، وآياتها عشرون آية ، وهي تتضمن القسم على أن الإنسان في كبد. وأن المغرور يظن أن لن يقدر عليه أحد ، ثم بيان بعض نعم اللّه على الإنسان ، ثم دعوته لاقتحام العقبة ، مع بيان أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة. (2)
مكية في قوله الجمهور بتمامها ، وقيل مدنية بتمامها ، وقيل مدنية إلّا أربع آيات من أولها. واعترض كلا القولين بأنه يأباهما قوله تعالى بِهذَا الْبَلَدِ [البلد : 1 ، 2] قيل ولقوة الاعتراض ادعى الزمخشري الإجماع على مكيتها وسيأتي إن شاء اللّه تعالى أن في بعض الأخبار ما هو ظاهر في نزول صدرها بمكة بعد الفتح ، وهي عشرون آية بلا خلاف. ولما ذم سبحانه فيما قبلها من أحب المال وأكل التراث أكلا لمّا ولم يحض على طعام المسكين ذكر جل وعلا فيها الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة وإطعام في يوم ذي مسغبة وكذا لما ذكر عز وجل النفس المطمئنة هناك ذكر سبحانه هاهنا بعض ما يحصل به الاطمئنان (3)
مقصودها الدلالة على نفي القدرة عن الإنسان ، وإثباتها لخالقه الديان ن بذكر المخلص منها ، الموصل إلى السعادة في الآخرة ، وهو ما هدى إليه ربه سبحانه ، وذلك هو معنى اسمها ، فإن من تأمل أمان أهل الحرم وماهم فيه من الرزق والخير على قلة الرزق ببلدهم - مع ما فيه غيرهم ممن هم أكثر منهم وأقثوى - من الخوف والجوع علم ذلك (4)
تضم هذه السورة الصغيرة جناحيها على حشد من الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ذات الإيحاءات الدافعة واللمسات الموحية. حشد يصعب أن يجتمع في هذا الحيز الصغير في غير القرآن الكريم ، وأسلوبه الفريد في التوقيع على أوتار القلب البشري بمثل هذه اللمسات السريعة العميقة .. (5)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 241) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 155)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 864)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 349)
(4) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 425)
(5) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3908)(1/1506)
تشتمل هذه السورة على خمسة مقاصد :
(1) ما ابتلى به الإنسان فى الدنيا من النصب والتعب.
(2) اغترار الإنسان بقوته.
(3) نكران الن عم التي أنعم اللّه بها عليه من العينين واللسان والعقل والفكر (4) سبل النجاة الموصلة إلى السعادة.
(5) كفران الآيات سبيل الشقاء. (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 164)(1/1507)
(91) سورة الشمس
سميت هذه السورة في المصاحف وفي معظم كتب التفسير "سورة الشمس" بدون واو وكذلك عنونها الترمذي في جامعه بدون واو في نسخ صحيحة من "جامع الترمذي" ومن "عارضة الأحوذي" لابن العربي.
وعنونها البخاري سورة "والشمس وضحاها" بحكاية لفظ الآية، وكذلك سميت في بعض التفاسير وهو أولى أسمائها لئلا تلتبس على القارئ بسورة إذا الشمس كورت المسماة سورة التكوير.
ولم يذكرها في "الإتقان" مع السور التي لها أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت السادسة والعشرين في عدد نزول السور نزلت بعد سورة القدر، وقبل سورة البروج.
وآياتها خمس عشرة آية في عدد جمهور الأمصار، وعدها أهل مكة ست عشرة آية.
أغراضها
تهديد المشركين بأنهم يوشك أن يصيبهم عذاب بإشراكهم وتكذيبهم برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما أصاب ثمودا بإشراكهم وعتوهم على رسول الله إليهم الذي دعاهم إلى التوحيد.
وقدم لذلك تأكيد الخبر بالقسم بأشياء معظمة وذكر من أحوالها ما هو على بديع صنع الله تعالى الذي لا يشاركه فيه غيره فهو دليل على أنه المنفرد بالإلهية والذي لا يستحق غيره الإلهية وخاصة أحوال النفوس ومراتبها في مسالك الهدى والضلال والسعادة والشقاء. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « الشمس » بهذا العذاب الذي أوقعه اللّه سبحانه بثمود ، فغشيهم العذاب واشتمل عليهم ، ولفّهم برداء أسود كئيب ..وبدئت سورة « الليل » بالقسم بالليل إذا يغشى ، فكان ظلام هذا الليل كفنا آخر لثمود ، يصحبهم فى قبورهم التي ابتلعنهم ، ويقيم عليهم راية سوداء تحوّم عليهم ، كما تحوّم الغربان على الجيف!! (2)
مقدمة وتمهيد
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 322)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1589)(1/1508)
1 - هذه السورة الكريمة سماها معظم المفسرين ، سورة « الشمس » ، وعنونها الإمام ابن كثير بقوله : تفسير سورة « والشمس وضحاها ».
وهي من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها : خمس عشرة آية في معظم المصاحف ، وفي المصحف المكي ست عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة « القدر » وقبل سورة « البروج ».
2 - ومن مقاصدها : تهديد المشركين بأنهم سيصيبهم ما أصاب المكذبين من قبلهم ، إذا ما استمروا في كفرهم ، وبيان مظاهر قدرته - تعالى - في خلقه ، وبيان حسن عاقبة من يزكى نفسه ، وسوء عاقبة من يتبع هواها. (1)
في السورة توكيد بفلاح المتقين الصالحين وخسران المنحرفين الضالين. وتذكير بحادث ناقة ثمود ونكال اللّه فيهم لتمردهم وطغيانهم. وتقرير لقابلية اكتساب الخير والشر في الإنسان وإيداع اللّه فيه تلك القابلية وإقداره على هذا الاكتساب. وهي عرض عام لأهداف الدعوة ، وليس فيها مواقف حجاج وردود ، مما يمكن أن يدل على أنها نزلت قبل الفصول التي ذكرت فيها مثل ذلك (2)
سورة الشمس مكيّة ، وهي خمس عشرة آية.
تسميتها : سميت سورة الشمس لافتتاحها بالقسم الإلهي بالشمس المنيرة المضيئة لآفاق النهار.
مناسبتها لما قبلها :
ترتبط السورة بما قبلها من وجهين :
1 - ختم اللَّه سبحانه سورة البلد بتعريف أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، ثم أوضح المراد من الفريقين في سورة الشمس بعمل كل منهما حيث قال : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها.
2 - أبان اللَّه تعالى في آخر آيات السورة السابقة مصير أو مآل الكفار في الآخرة وهو النار ، وذكر تعالى في أواخر هذه السورة عقاب بعض الكفار في الدنيا ، وهو الهلاك ، فاختتمت السابقة بشيء من أحوال الكفار في الآخرة ، واختتمت هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا.
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت هذه السورة الكلام عن موضوعين مهمين هما :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 409)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 138)(1/1509)
1 - الإقسام بالمخلوقات الكونية العظيمة في العالم العلوي والسفلي وآلة التفكر في ذلك وهو النفس على أحوال النفس الإنسانية ، ودور الإنسان في تهذيبها ، وتعويدها الأخلاق الفاضلة ليفوز وينجو ، أو إهمالها وتركها بحسب هواها فيخيب.
2 - ضرب المثل بثمود لمن دسّ نفسه وأهملها ، فتمادت في الطغيان ، فنزل بها العقاب الشديد وأهلكها ودمرها عيانا في الدنيا.
والخلاصة : المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات ، والتحذير من المعاصي. (1)
مكية. وآياتها خمس عشرة آية ، وهي تتضمن الحث على تزكية النفس ، والقسم على أن العذاب واقع على المكذبين لا محالة كما وقع على ثمود قديما. (2)
مكية بلا خلاف وآيها ست عشرة آية في المكي والمدني الأول وخمس عشرة في الباقية. ولما ختم سبحانه السورة المتقدمة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة أعاد جل شأنه في هذه السورة الفريقين على سبيل الفذلكة بقوله سبحانه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس : 9 ، 10] وفي هذه فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس : 8] وهو كالبيان لقوله تعالى في الأولى وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد : 10] على أول التفسيرين وختم سبحانه الأولى بشيء من أحوال الكفرة في الآخرة ، وختم جل وعز هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا (3)
تناولت موضوعين إثنين وهما :
1-موضوع النفس الإنسانية ، وما جبلها الله من الخير والشر ، والهدى والضلال .
2-وموضوع الطغيان ممثلا في قصة [ ثمود ] الذين عقروا الناقة ، فأهلكهم الله ودمرهم ، وأبادهم عن آخرهم .
* إبتدأت السورة الكريمة بالقسم بسبعة أشياء من مخلوقات الله جل وعلا ، فأقسم تعالى بالشمس وضوئها الساطع ، وبالقمر إذا أعقبها وهو طالع ، ثم بالنهار إذا جلا ظلمة الليل بضيائه ، وبالليل إذا غطى الكائنات بظلامه ، ثم بالقادر الذي أحكم بناء السماء بلا عمد ، وبالأرض الذي بسطها على ماء جمد ، وبالنفس البشرية التي كملها الله ، وزينها بالفضائل والكمالات ، أقسم بهذه الأمور على فلاح الإنسان ونجاحه إذا اتقى الله ، وعلى شقاوته وخسرانه إذا طغى وتمرد ، وفسق وفجر .
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 255) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 165)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 867)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 357)(1/1510)
* ثم ذكر تعالى قصة [ ثمود ] قوم صالح حين كذبوا رسولهم ، وطغوا وبغوا في الأرض وعقروا الناقة التي خلقها الله تعالى من صخر أصم معجزة لرسوله صالح عليه السلام ، وما كان من أمر هلاكهم الفظيع الذي بقى عبرة لمن يعتبر ، وهو نموذج لكل كافر فاجر ، مكذب لرسل الله [ كذبت ثمود بطغواها . إذ انبعث أشقاها . فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها . فكذبوه فعقروها . . ] الآيات.
* وقد ختمت السورة الكريمة بأنه تعالى لا يخاف عاقبة إهلاكهم وتدميرهم ، لأنه [ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ] ولهذا قال سبحانه : [ فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها ] . (1)
مقصودها إثبات تصرفه سبحانه وتعالى في النفوس التي هي سرج الأبدان ، تقودها إلى سعادة أو كيد وهوان ونكد ، كما أن الشمس سراج الفلك ، يتصرف سبحانه في النفوس بالاختيار إضلالا وهداية نعيما وشقاوة تصرفه سبحانه في الشمس بمثل ذلك من صحة واعتلال ، وانتظام واختلال ، وكذا في جميع الأكوان ، بما له من عظيم الشأن ، واسمها الشمس واضح الدلالة على ذلك بتأمل القسم والمقسم عليه بما أعلم به وأشار إليه (2)
هذه السورة القصيرة ذات القافية الواحدة ، والإيقاع الموسيقي الموحد ، تتضمن عدة لمسات وجدانية تنبثق من مشاهد الكون وظواهره التي تبدأ بها السورة والتي تظهر كأنها اطار للحقيقة الكبيرة التي تتضمنها السورة. حقيقة النفس الإنسانية ، واستعداداتها الفطرية ، ودور الإنسان في شأن نفسه ، وتبعته في مصيرها .. هذه الحقيقة التي يربطها سياق السورة بحقائق الكون ومشاهده الثابتة.
كذلك تتضمن قصة ثمود ، وتكذيبها بإنذار رسولها ، وعقرها للناقة ، ومصرعها بعد ذلك وزوالها. وهي نموذج من الخيبة التي تصيب من لا يزكي نفسه ، فيدعها للفجور ، ولا يلزمها تقواها : كما جاء في الفقرة الأولى في السورة : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» .. (3)
مقاصد هذه السورة
اشتملت هذه السورة على مقصدين :
(1) الإقسام بالمخلوقات العظيمة على أن من طهر نفسه بالأخلاق الفاضلة فقد أفلح وفاز ، وأن من أغواها ونقصها حقها بجهالته وفسوقه فقد خاب.
(2) ذكر ثمود مثلا لمن دسى نفسه فاستحق عقاب اللّه الذي هو له أهل. (4)
================
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 492)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 437)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3915)
(4) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 172)(1/1511)
(92) سورة الليل
سميت هذه السورة في معظم المصاحف وبعض كتب التفسير سورة الليل بدون واو، وسميت في معظم كتب التفسير سورة والليل بإثبات الواو، وعنونها البخاري والترمذي سورة "والليل إذا يغشى".
وهي مكية في قول الجمهور، واقتصر عليه كثير من المفسرين، وحكى ابن عطية عن المهدوي أنه قيل: إنها مدنية، وقيل بعضها مدني، وكذلك ذكر الأقوال في الإتقان، وأشار إلى أن ذلك لما روي من سبب نزول قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل:5] إذ روي أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري في نخلة كان يأكل أيتام من ثمرها وكانت لرجل من المنافقين فمنعهم من ثمرها فاشتراها أبو الدحداح بنخيل فجعلها لهم وسيأتي.
وعدت التاسعة في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة الأعلى وقبل سورة الفجر.
وعدد آيها عشرون.
أغراضها
احتوت على بيان شرف المؤمنين وفضائل أعمالهم ومذمة المشركين ومساويهم وجزاء كل.
وأن الله يهدي الناس إلى الخير فهو يجزي المهتدين بخير الحياتين والضالين بعكس ذلك.
وأنه أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - للتذكير بالله وما عنده فينتفع من يخشى فيفلح ويصدف عن الذكرى من كان شقيا فيكون جزاؤه النار الكبرى وأولئك هم الذين صدهم عن التذكر إيثار حب ما هم فيه في هذه الحياة.
وأدمج في ذلك الإشارة إلى دلائل قدرة الله تعالى وبديع صنعه. (1)
مناسبتها لما قبلها
أقسم سبحانه فى سورة « الليل » ، بالليل إذا يغشى ، وبالنهار إذا تجلى .. وبدأ بالقسم بالليل ، ثم أعقبه بالقسم بالنهار ..وهنا يقسم اللّه سبحانه بالنهار أولا « والضحى » ثم بالليل ثانيا .. « ولليل إذا سجى » وبهذا يتوازن الليل والنهار ، فيقدّم أحدهما فى موضع ويقدم الآخر فى موضع ، ولكل من التقديم والتأخير فى الموضعين مناسبته .. وقد أشرنا من قبل إلى المناسبة فى تقديم الليل على النهار فى سورة الليل ، وسترى هنا المناسبة فى تقديم النهار على الليل .. (2)
مقدمة وتمهيد
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 333)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1598)(1/1512)
1 - سميت هذه السورة في معظم المصاحف سورة « الليل » وفي بعض كتب التفسير سميت بسورة « والليل » ، وعنون لها الإمام البخاري بسورة « والليل إذا يغشى » ، وعدد آياتها إحدى وعشرون آية.
وجمهور العلماء على أنها مكية ، وقال بعضهم : هي مدنية ، وقال آخرون : بعضها مكي ، وبعضها مدني ، والحق أن هذه السورة من السور المكية الخالصة ، وكان نزولها بعد سورة.
« الأعلى » وقبل سورة « القمر » ، فهي تعتبر السورة التاسعة في النزول من بين السور المكية.
قال الإمام الشوكانى. وهي مكية عند الجمهور ، فعن ابن عباس قال : نزلت سورة « والليل إذا يغشى » بمكة. وأخرج ابن مردويه عن الزبير مثله ..
وفي رواية عن ابن عباس أنه قال : إنى لأقول إن هذه السورة نزلت في السماحة والبخل .. « 1 ».
2 - وحقا ما قاله ابن عباس - رضى اللّه عنهما - ، فإن السورة الكريمة ، قد احتوت على بيان شرف المؤمنين ، وفضائل أعمالهم ، ومذمة المشركين ، وسوء فعالهم ، وأنه - تعالى - قد أرسل رسوله للتذكير بالحق ولإنذار المخالفين عن أمره - تعالى - أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. (1)
في السورة تصنيف الناس حسب أعمالهم ، وتنويه بصالح العمل وأصحابه ، وتنديد بسيء العمل وأصحابه وإنذارهم. وفيها تنويه بمن يتزكّى بماله ، وتنديد بالبخل والمنع. وأسلوبها كسابقتها من حيث دلالته على احتوائها عرضا عاما للدعوة وعلى تبكير نزولها قبل غيرها الذي احتوى مشاهد ومواقف حجاجية وتكذيبية. وبين السورتين من التوافق في المبنى والأسلوب والجرس ما يلهم أنهما نزلتا متتابعتين. (2)
سورة الليل مكيّة ، وهي إحدى وعشرون آية.
تسميتها :سميت سورة الليل لافتتاحها بإقسام اللَّه تعالى بالليل إذا يغشى ، أي يغطي الكون بظلامه ، ويستر الشمس والنهار والأرض والوجود بحجابه.
مناسبتها لما قبلها :
لما ذكر في سورة الشمس قبلها : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ذكر هنا من الأوصاف ما يحصل به الفلاح ، وما تحصل به الخيبة بقوله تعالى : فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى .. فهي كالتفصيل لما قبلها.
ولما كانت سورة الليل نازلة في بخيل ، افتتحت بالليل الذي هو ظلمة.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 417)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 525)(1/1513)
ما اشتملت عليه السورة :
محور السورة سعي الإنسان وعمله وجزاؤه في الآخرة.
افتتحت السورة بالقسم بالليل والنهار وخالق الذكر والأنثى على أن عمل الناس مختلف ، فمنهم التقي ومنهم الشقي ، ومنهم المؤمن ومنهم الفاجر : وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى .. [الآيات 1 - 4].
ثم أوضحت أن الناس فريقان ، وحددت منهج وطريق كل فريق ، وجزاء كل منهم في الآخرة : أهل الإيمان والسعادة والجنة : وهم الذين بذلوا المال وصدقوا بوعد اللَّه في الآخرة ، وأهل الكفر والشقاوة والنار : وهم الذين بخلوا بالأموال واستغنوا عن ربهم عز وجل ، وأنكروا ما وعد اللَّه به من الجنة : فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى .. [الآيات 5 - 10].
وأعقبت ذلك ببيان عدم جدوى المال في الآخرة ، وأن اللَّه واضع دستور الهداية ، وأنه مالك الدنيا والآخرة : وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [11 - 13] ودلّ هذا التحذير من عذاب اللَّه والإنذار بالنار على أنه العقاب المستحق لكل من كذب بآيات اللَّه تعالى وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - : فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى .. [14 - 16].
يبذل ماله في طرق الخير مخلصا لوجه اللَّه ، دون قصد مكافأة أحد ، ولا لمصلحة دنيوية عند إنسان ، وذلكم المثال هو أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه :وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى .. [الآيات 17 - 21]. (1)
مكية على الصحيح. وآياتها إحدى وعشرون آية ، وفيها أقسم اللّه على أن الناس مختلفون في العمل والثواب ، ثم أنذرهم نارا حامية أعدت لمن عصى وحرمت على من أطاع ، وهذه السورة قيل : إنها نزلت في أبى بكر - رضى اللّه عنه - ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. (2)
لا خلاف في أنها إحدى وعشرون آية ، واختلف في مكيتها ومدنيتها فالجمهور على أنها مكية ، وقال علي ابن أبي طلحة مدنية ، وقيل بعضها مكي وبعضها مدني. وكذا اختلف في سبب نزولها فالجمهور على أنها نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه ، وروي ذلك بأسانيد صحيحة عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما وقال السدّي إنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وذلك أنه كان في دار منافق نخلة يقع منها في دار يتامى في جواره بعض بلح فيأخذه منهم ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - : «دعها لهم ولك بدلها محل في الجنة» فأبى فاشتراها أبو الدحداح بحائطها فقال للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - : «أهبها لهم بالنخلة التي في الجنة». فقال - صلى الله عليه وسلم - : «افعل» فوهبها فنزلت وروى نحوه مطولا مبهما فيه أبو الدحداح ابن أبي حاتم عن ابن عباس
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 266)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 870)(1/1514)
بسند ضعيف كما نص عليه الحافظ السيوطي. وذكر بعضهم أن قوله تعالى فيها وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل : 17] إلخ نزل في أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه وسكت عما عداه. ونقل عن بعض المفسرين أن هذا مجمع عليه وإن زعم بعض الشيعة أنه نزل في الأمير كرم اللّه تعالى وجهه وسيأتي إن شاء اللّه تعالى شرح ما له نزل. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها قَدْ أَفْلَحَ [الشمس : 9] إلخ ذكر سبحانه فيها من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما يحصل به لخيبة ففيها نوع تفصيل لذلك لا سيما وقد عقب جل وعلا ذلك بشيء من أنواع الفلاح وأنواع الخيبة والعياذ باللّه تعالى. (1)
* سورة الليل مكية ، وهي تتحدث عن سعي الإنسان وعمله ، وعن كفاحه ونضاله في هذه الحياة ، ثم نهايته إلى النعيم أو إلى الجحيم.
* إبتدأت السورة الكريمة بالقسم بالليل إذا غشي الخليقة بظلامه ، وبالنهار إذا أنار الوجود بإشراقه وضيائه ، وبالخالق العظيم الذي أوجد النوعين الذكر والأنثى ، أقسم على أن عمل الخلائق مختلف ، وطريقهم متباين [ والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، وما خلق الذكر والأنثى ، إن سعيكم لشتى ] الآيات.
* ثم وضحت السورة سبيل السعادة ، وسبيل الشقاء ، ورسمت الخط البياني لطالب النجاة ، وبينت أوصاف الأبرار والفجار ، وأهل الجنة وأهل النار [ فأما من أعطى وإتقى ، وصدق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ] الآيات.
* ثم نبهت إلى اغترار بعض الناس بأموالهم التي جمعوها ، وثرواتهم التي كدسوها ، وهي لا تنفعهم في يوم القيامة شيئا ، وذكرتهم بحكمة الله في توضيحه لعباده طريق الهداية وطريق الضلالة [ وما يغني عنه ماله إذا تردى ، إن علينا للهدى ، وإن لنا للآخرة والأولى ] الآيات .
* ثم حذرت أهل مكة من عذاب الله وانتقامه ، ممن كذب بآياته ورسله ، وأنذرهم من نار حامية ، تتوهج من شدة حرها ، لا يدخلها ولا يذوق سعيرها إلا الكافر الشقي ، المعرض عن هداية الله [ فأنذرتكم نارا تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى ، الذي كذب وتولى.
* وختمت السورة بذكر نموذج للمؤمن الصالح ، الذي ينفق ماله في وجوه الخير ، ليزكي نفسه ويصونها من عذاب الله ، وضربت المثل بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حين اشترى بلالا وأعتقه في سبيل الله [
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 365)(1/1515)
وسيجنبها الأتقى ، الذي يؤتي ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ، ولسوف يرضى ] . (1)
مقصودها الدلالة على مقصود الشمس ، وهو التصرف التام في النفوس بإثبات كمال القدرة بالاختيار باختلاف الناس في السعي مع اتحاد مقاصدهم ، وزهي الوصول إلى الملاذ من شهوة البطن والفرج وما يتبع ذكلك من الراحة ، واسمها الليل أوضح ما فيها على ذلك بتأمل القسم والجواب ، والوقوع من ذلك على الصواب ، وأيضا ليل نفسه دال على ذلك لأنه على غير مراد النفس بما فيه من الظلام والنوم الذي هو أخو الموت ، وذلك مانع عن أكثر المرادات ، ومقتضى لأكثر المضادات (2)
في اطار من مشاهد الكون وطبيعة الإنسان تقرر السورة حقيقة العمل والجزاء. ولما كانت هذه الحقيقة منوعه المظاهر : «إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى. فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى » .. وكانت العاقبة كذلك في الآخرة مختلفة وفق العمل والوجهة : «فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى. وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى ..».
لما كانت مظاهر هذه الحقيقة ذات لونين ، وذات اتجاهين .. كذلك كان الإطار المختار لها في مطلع السورة ذا لونين في الكون وفي النفس سواء : «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى . وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» .. «وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى » ..وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني . (3)
مقاصد هذه السورة
(1) بيان أن الناس فى الدنيا فريقان :
(1) فريق يهيئه اللّه للخصلة اليسرى ، وهم الذين أعطوا الأموال لمن يستحقها ، وصدقوا بما وعد اللّه من الإخلاف على من أنفقوا.
(2) فريق يهيئه اللّه للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة ، وهم الذين بخلوا بالأموال واستغنوا بالشهوات ، وأنكروا ما وعد اللّه به من ثواب الجنة.
(ب) الجزاء فى الآخرة لكل منهما وجعله إما جنة ونعيما ، وإما نارا وعذابا أليما. (4)
================
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 495)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 445)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3920)
(4) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 181)(1/1516)
(93) سورة الضحى
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وفي كثير من كتب التفسير وفي "جامع الترمذي" "سورة الضحى" بدون الواو.
وسميت في كثير من التفاسير وفي "صحيح البخاري" "سورة والضحى" بإثبات الواو.
ولم يبلغنا عن الصحابة خبر صحيح في تسميتها.
وهي مكية بالاتفاق.
وسبب نزولها ما ثبت في "الصحيحين" يزيد أحدهما على الآخر عن الأسود بن قيس عن جندب بن سفيان البجلي قال دميت إصبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى فلم يقم ليلتين أو ثلاثة فجاءت امرأة وهي أم جميل بنت حرب زوج أبي لهب كما في رواية عن ابن عباس ذكرها ابن عطية فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث. فأنزل الله {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1-3].
وروى الترمذي عن ابن عيينة عن الأسود عن جندب البجلي قال كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار فدميت إصبعه فقال: "هل أنت إلا إصبع دميت. وفي سبيل الله ما لقيت" . قال فأبطأ عليه جبريل، فقال المشركون قد ودع محمد فأنزل الله تعالى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وقال: حديث حسن صحيح.
ويظهر أن قول أم جميل لم يسمعه جندب لأن جندبا كان من صغار الصحابة وكان يروي عن أبي بن كعب وعن حذيفة كما قال أبن عبد البر. ولعله أسلم بعد الهجرة فلم يكن قوله كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار مقارنا لقول المشركين "وقد ودع محمد". ولعل جندبا روى حديثين جمعهما ابن عيينة. وقيل: إن كلمة في غار تصحيف، وأن أصلها: كنت غازيا. ويتعين حينئذ أن يكون حديثه جمع حديثين.
وعدت هذه السورة حادية عشرة في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة الفجر وقبل سورة الانشراح.وعدد آيها إحدى عشرة آية.وهي أول سورة في قصار المفصل.
أغراضها
إبطال قول المشركين إذ زعموا أن ما يأتي من الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم - قد انقطع عنه.
وزاده بشارة بأن الآخرة خير له من الأولى على معنيين في الآخرة والأولى. وأنه سيعطيه ربه ما فيه رضاه. وذلك يغيض المشركين.(1/1517)
ثم ذكره الله بما حفه به من ألطافه وعنايته في صباه وفي فتوته وفي وقت اكتهاله وأمره بالشكر على تلك النعم بما يناسبها مع نفع لعبيده وثناء على الله بما هو أهله. (1)
مناسبتها لما قبلها
هذه السورة متمة لسورة « الضحى » قبلها ، فكلتاهما عرض لما أنعم اللّه به على النبي ، وتذكير له بهذه النعم ، وتوجيه له إلى ما ينبغى أن يؤديه لها من حقّ عليه .. وهكذا شأن كل نعمة ينعم اللّه بها على الإنسان ، لا تتم إلا بالشكر للمنعم ، وبالإنفاق منها على كل ذى حاجة إليها. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الضحى » من السور المكية الخالصة ، بل هي من أوائل السور المكية ، فقد كان نزولها بعد سورة « الفجر » وقبل سورة « الانشراح » ، وتعتبر بالنسبة لترتيب النزول السورة الحادية عشرة من بين السور المكية ، أما ترتيبها في المصحف فهي السورة الثالثة والتسعون ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية.
2 - والقارئ لها ، يرى بوضوح أنها نزلت في فترة تأخر نزول الوحى فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن المشركين قد أشاعوا الشائعات الكاذبة حول سبب تأخر الوحى ، فنزلت هذه السورة الكريمة ، لتخرس ألسنتهم. ولتبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - برضا ربه - تعالى - عنه ، ولتسوق جانبا من نعم خالقه عليه ، ولترشده - بل وترشد أمته في شخصه - بالمداومة على مكارم الأخلاق ، التي من مظاهرها : العطف على اليتيم ، والإحسان إلى السائل ، وعدم كتمان نعم اللّه - تعالى - . (3)
في هذه السورة تطمين النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم ترك اللّه إياه. وتذكير له بما كان من أفضاله عليه ، وحثه على البر باليتيم والسائل والتحدث بنعمة اللّه. وأسلوبها ومضمونها يلهمان أنها نزلت في ظروف أزمة نفسية ألمّت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن نزولها كان في عهد مبكر من الدعوة. وفيها إشارة إلى نشأة النبي - صلى الله عليه وسلم - في طفولته وحاله الاقتصادية والروحية في شبابه. (4)
سورة الضحى مكيّة ، وهي إحدى عشرة آية.
تسميتها :سميت سورة الضحى تسمية لها باسم فاتحتها ، حيث أقسم اللَّه بالضحى :
وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس ، تنويها بهذا الوقت المهم الذي هو نور ، ولأنها نزلت في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فافتتحت بالضحى. ولما كانت سورة الليل نازلة في بخيل ، افتتحت بالليل.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 347)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1604)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 425)
(4) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 549)(1/1518)
مناسبتها لما قبلها :
هذه السورة متصلة بسورة الليل من وجهين :
1 - ختمت سورة الليل بوعد كريم من اللَّه تعالى بإرضاء الأتقى في الآخرة ، وقال تعالى في سورة الضحى مؤكدا وعده لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى .
2 - ذكر تعالى في السورة السابقة : وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ثم عدد اللَّه تعالى نعمه على سيد الأتقياء في هذه السورة وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع سورة الضحى المكية الحديث عن شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد تضمنت أربعة مقاصد :
1 - ابتدأت بالقسم الإلهي العظيم على أن اللَّه عز وجل ما قلا رسوله ولا أبغضه ، ولا هجره ولا تركه ، وإنما هو محل العناية الربانية ، وهو عظيم القدر عند اللَّه تعالى : وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ... [الآيات : 1 - 4].
2 - بشّره ربه بالعطاء الجمّ في الآخرة ومنه الشفاعة العظمى : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [5].
3 - عددت نعم اللَّه على نبيه منذ صغره : أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ...[الآيات : 6 - 8].
4 - ختمت بإيصائه بفضائل ثلاث : العطف على اليتيم ، وصلة المسكين ، وشكر النعمة العظمى وهي النبوة وغيرها من هذه النعم المذكورة : فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [9 - 11]. (1)
مكية. وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، وفيها يقسم اللّه ، أنه ما ودع محمدا - صلى الله عليه وسلم - وما قلاه ، وأن آخرته خير من أولاه ، وأنه يعطيه حتى يرضيه ، ثم يطلب منه الإقرار ببعض النعم عليه ، ثم إرشاده إلى بعض الفضائل. (2)
مكية وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل : 17] وكان سيد الأتقين رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، عقب سبحانه ذلك بذكر نعمه عز وجل عليه - صلى الله عليه وسلم - وقال الإمام : لما كانت الأولى سورة أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه وهذه سورة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عقب جل وعلا بها ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم أن لا واسطة بين رسوله - صلى الله عليه وسلم - والصديق رضي اللّه تعالى عنه ، وتقديم سورة الصديق على سورته عليه الصلاة والسلام لا يدل على أفضليته منه - صلى الله عليه وسلم - ألا ترى أنه تعالى أقسم أولا بشيء
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 279)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 873)(1/1519)
من مخلوقاته سبحانه ثم أقسم بنفسه عز وجل في عدة مواضع منها السورة السابقة على ما علمت ، والخدم قد تتقدم بين يدي السادة وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة ولا يضر النور تأخره عن أغصانه ولا السنان كونه في أطراف مرّانه ثم إن ما ذكره زهرة ربيع لا تتحمل الفرك كما لا يخفى. (1)
* سورة الضحى مكية ، وهي تتناول شخصية النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) الأعظم ، ، وما حباه الله به من الفضل والإنعام في الدنيا والآخرة ، ليشكر الهن على تلك النعم الجليلة ، التي أنعم الله بها عليه .
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم على جلالة قدر الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأن ربه لم يهجره ولم يبغضه كما زعم المشركون ، بل هو عند الهن رفيع القدر ، عظيم الشأن والمكانة [ والضحى ، والليل إذا سجى ، ما ودعك ربك وما قلى ، وللأخرة خير لك من الأولى ] .
* ثم بشرته بالعطاء الجزيل في الآخرة ، وما أعده الله تعالى لرسوله من أنواع الكرامات ، ومنها الشفاعة العظمى [ ولسوف يعطيك ربك فترضى ] .
* ثم ذكرته بما كان عليه في الصغر ، من اليتم ، والفقر ، والفاقة ، والضياع ، فآواه ربه وأغناه ، وأحاطه بكلأه وعنايته [ ألم يجدك يتيما فآوى ، ووجدك ضالا فهدى ، ووجدك عائلا فأغنى ] .
* وختمت السورة بتوصيته ( - صلى الله عليه وسلم - ) بوصايا ثلاث ، مقابل تلك النعم الثلاث ، ليعطف على اليتيم ، ويرحم المحتاج ، ويمسح دمعة البائس المسكين [ فأما اليتيم فلا تقهر ، وأما السائل فلا تنهر ، وأما بنعمة ربك فحدث ] وهو ختم يتناسق فيه جمال اللفظ ، مع روعة البيان ، في أروع صور الإبداع والجلال . (2)
مقصودها الدلالة على آخر الليل بأن أتقى الأتقياء الذي هو الأتقى على الإطلاق في عين الرضا دائما ، لا ينفك عنهع في الدنيا والآخرة ، لما تحلى به من صفات الكمال التي هي الإيصال للمقصود بما لها من النور المعنوي كالضحى بما له من النور الحسي الذي هو أشرف ما في النهار وقد علم بهذا أن اسمها أدل ما فيها على مقصودها (3)
هذه السورة بموضوعها ، وتعبيرها ، ومشاهدها ، وظلالها وإيقاعها ، لمسة من حنان. ونسمة من رحمة.
وطائف من ود. ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع ، وتنسم بالروح والرضى والأمل. وتسكب البرد والطمأنينة واليقين. إنها كلها خالصة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كلها نجاء له من ربه ، وتسرية وتسلية وترويح وتطمين.
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 372)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 498)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 452)(1/1520)
كلها أنسام من الرحمة وأنداء من الود ، وألطاف من القربى ، وهدهدة للروح المتعب ، والخاطر المقلق ، والقلب الموجوع. ورد في روايات كثيرة أن الوحي فتر عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأبطأ عليه جبريل - عليه السلام - فقال المشركون : ودع محمدا ربه! فأنزل اللّه تعالى هذه السورة ..
والوحي ولقاء جبريل والاتصال باللّه ، كانت هي زاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مشقة الطريق.
وسقياه في هجير الجحود. وروحه في لأواء التكذيب. وكان - صلى الله عليه وسلم - يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصية العنيدة. ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة ، وعلى الإيمان ، وعلى الهدى من طغاة المشركين.فلما فتر الوحي انقطع عنه الزاد ، وانحبس عنه الينبوع ، واستوحش قلبه من الحبيب. وبقي للهاجرة وحده. بلا زاد. وبلا ري. وبغير ما اعتاد من رائحة الحبيب الودود. وهو أمر أشد من الاحتمال من جميع الوجوه ..
عندئذ نزلت هذه السورة. نزل هذا الفيض من الود والحب والرحمة والإيناس والقربى والأمل والرضى والطمأنينة واليقين ..«ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى . وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى . وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى » ..
وما تركك ربك من قبل أبدا ، وما قلاك من قبل قط ، وما أخلاك من رحمته ورعايته وإيوائه ..
«أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ؟ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ؟ وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى ؟» ..
ألا تجد مصداق هذا في حياتك؟ ألا تحس مسّ هذا في قلبك؟ ألا ترى أثر هذا في واقعك؟
لا. لا .. «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » .. وما انقطع عنك بره وما ينقطع أبدا .. «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى » .. وهناك ما هو أكثر وأوفى : «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى »! (1)
مقاصد السورة الكريمة
اشتملت هذه السورة على أربعة مقاصد :
(1) أن اللّه ما قلا رسوله ولا تركه.
(2) وعد رسوله بأنه سيكون فى مستأنف أمره خيرا من ماضيه.
(3) تذكيره بنعمه عليه فيما مضى وأنه سيواليها عليه.
(4) طلب الشكر منه على هذه النعم. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3925)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 188)(1/1521)
(94) سورة الشرح
سميت في معظم التفاسير وفي "صحيح البخاري" و"جامع الترمذي" سورة ألم نشرح ، وسميت في بعض التفاسير سورة الشرح ومثله في بعض المصاحف المشرقية تسمية بمصدر الفعل الواقع فيها من قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وفي بعض التفاسير تسميتها سورة الانشراح.
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت الثانية عشرة في عداد نزول السور، نزلت بعد سةدورة الضحى بالاتفاق وقبل سورة العصر.
وعن طاووس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان ألم نشرح من سورة الضحى. وكانا يقرءانهما بالركعة الواحدة لا يفصلان بينهما يعني في الصلاة المفروضة وهذا شذوذ مخالف لما اتفقت عليه الأمة من تسوير المصحف الإمام.
وعدد آيها ثمان.
أغراضها
احتوت على ذكر عناية الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بلطف الله له وإزالة الغم والحرج عنه، وتفسير ما عسر عليه، وتشريف قدره لينفس عنه، فمضمونها شبيه بأنه حجة على مضمون سورة الضحى تثبيتا له بتذكيره سالف عنايته به وإنارة سبيل الحق وترفيع الدرجة ليعلم أن الذي ابتدأه بنعمته ما كان ليقطع عنه فضله، وكان ذلك بطريقة التقرير بماض يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
واتبع ذلك بوعده بأنه كلما عرض له عسر فسيجد من أمره يسرى كدأب الله تعالى في معاملته فليتحمل متاعب الرسالة ويرغب إلى الله عونه. (1)
مناسبتها لما قبلها
هذه السورة متمة لسورة « الضحى » قبلها ، فكلتاهما عرض لما أنعم اللّه به على النبي ، وتذكير له بهذه النعم ، وتوجيه له إلى ما ينبغى أن يؤديه لها من حقّ عليه .. وهكذا شأن كل نعمة ينعم اللّه بها على الإنسان ، لا تتم إلا بالشكر للمنعم ، وبالإنفاق منها على كل ذى حاجة إليها. (2)
مقدمة وتمهيد
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 359)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1604)(1/1522)
1 - هذه السورة الكريمة من السور المكية ، وتسمى : سورة « الشرح » وسورة « ألم نشرح » وسورة « الانشراح » ، وترتيبها في النزول ، الثانية عشرة ، وكان نزولها بعد سورة الضحى ، وقبل سورة « العصر ». وعدد آياتها ثماني آيات.
2 - وكما عدد اللّه - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بعض نعمه العظيمة عليه في سورة الضحى ، جاءت سورة الشرح ، لتسوق نعما أخرى منه - تعالى - عليه - صلى الله عليه وسلم - حاثا إياه على شكره ، ليزيده منها. (1)
في السورة تطمين لنفس النبي - صلى الله عليه وسلم - وتذكيره بعناية اللّه به. وبينها وبين سابقتها تماثل حتى لكأنها امتداد لها وحتى لقد روي أن السورتين سورة واحدة غير أن المتواتر أنهما سورتان ، تفصل بينهما بسملة مثل سائر السور. (2)
الشرح ، أو : الانشراح مكيّة ، وهي ثماني آيات.
تسميتها : سميت سورة الشرح أو الانشراح أو أَلَمْ نَشْرَحْ لافتتاحها بالخبر عن شرح صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - أي تنويره بالهدى والإيمان والحكمة ، وجعله فسيحا رحيبا واسعا ، كقوله تعالى : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ، يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام 6/ 125].
مناسبتها لما قبلها :
هي شديدة الاتصال بسورة الضحى ، لتناسبهما في الجمل والموضوع لأن فيهما تعداد نعم اللَّه تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، مع تطمينه وحثه على العمل والشكر ، حيث قال في السورة السابقة : أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى .. وأضاف هنا وعطف : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ...
ولهذا ذهب بعض السلف إلى أنهما سورة واحدة بلا بسملة بينهما ، والأصح المتواتر كونهما سورتين ، وإن اتصلتا معنى.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كسابقتها الحديث عن شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أمده اللَّه به من نعم عظيمة ، تستحق الحمد والشكر.
وقد اشتملت على أمور أربعة :
1 - تعداد نعم ثلاث أنعم اللَّه بها على نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهي شرح صدره بالحكمة والإيمان ، وتطهيره من الذنوب والأوزار ، ورفع منزلته ومقامه وقدره في الدنيا والآخرة : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ، وَوَضَعْنا
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 435)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 558)(1/1523)
عَنْكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ، وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [1 - 4] وذلك بقصد تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإيناسه عما يلقاه من أذى قومه الشديد في مكة والطائف وغيرهما.
2 - وعد اللَّه له بتيسير المعسر ، وتفريج الكرب عليه ، وإزالة المحن والشدائد ، وتبشيره بقرب النصر على الأعداء : فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [5 - 6].
3 - أمره بمواظبة العبادة والتفرغ لها بعد القيام بتبليغ الرسالة شكرا للَّه على ما أنعم عليه : فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [7].
4 - أمره بعد كل شيء بالتوكل على اللَّه وحده ، والرغبة فيما عنده : وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [8]. (1)
مكية. وآياتها ثمان آيات ، وهي كسابقتها في تعداد النعم التي من اللّه بها على نبيه ، مع تطمينه ، وحثه على العمل. (2)
وتسمى سورة الشرح وهي كما روي عن ابن الزبير وعائشة مكية ، وأخرج ذلك ابن الضريس والنحاس والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس. وفي رواية عنه زيادة نزلت بعد الضحى وزعم البقاعي أنها عنده مدنية ، وفي حديث طويل أخرجه ابن مردويه عن جابر بن عبد اللّه ما هو ظاهر في أن قوله تعالى فيها فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح : 5 ، 6] نزل بالمدينة لكن في صحة الحديث توقف. وآيها ثمان بالاتفاق وهي شديدة الاتصال بسورة الضحى حتى أنه روي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان هما سورة واحدة ، وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم اللّه الرحمن الرحيم وعلى ذلك الشيعة كما حكاه الطبرسي منهم. قال الإمام : والذي دعا إلى ذلك هو أن قوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ [الشرح : 1] كالعطف على قوله تعالى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً [الضحى : 6] وليس كذلك لأن الأول كان عند اغتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إيذائه الكفرة وكانت الحالة حال محنة وضيق صدر ، والثاني يقتضي أن يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب فأنى يجتمعان وفيه نظر ، والحق أن مدار مثل ذلك الرواية لا الدارية والمتواتر كونهما سورتين والفصل بينهما بالبسملة. نعم هما متصلتان معنى جدا ويدل عليه ما في حديث الإسراء الذي أخرجه ابن أبي حاتم (3) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ :
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 291)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 876)
(3) - مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ (3339 ) صحيح
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ شَيْئًا يُبَيِّنُ بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ جِنْسِ مَا آتَاهُ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْهُمْ مِمَّا أَبَانَهُ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ سِوَاهُ مِنْهُمْ سُلَيْمَانُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ، فَسَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ وَمِنْهُمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آتَاهُ أَنْ يُبْرِئَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِهِ ، وَأَنْ يُخْرِجَ الْمَوْتَى بِإِذْنِهِ فَكَانَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِعْلَامُهُ إِيَّاهُ أَنَّهُ قَدْ آتَاهُ مَا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ مِمَّا قَدِ اقْتَصَّ فِي الْحَدِيثِ وَمِمَّا لَمْ يَقْتَصَّ فِيهِ مِمَّا هُوَ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ مِمَّا خَاطَبَهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ، حَتَّى جَعَلَهُ مَذْكُورًا فِي الْأَذَانِ الَّذِي يُدْعَى بِهِ إِلَى الصَّلَوَاتِ الَّتِي افْتَرَضَهَا عَلَى خَلْقِهِ ، وَتَعَبَّدَهُمْ بِهَا ، وَلَمْ يُؤْتِ ذَلِكَ أَحَدًا مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَمِنْ سُلَيْمَانَ ، وَمِنْ عِيسَى ، وَمِمَّنْ سِوَاهُمَا مِنْهُمْ ، وَجَعَلَهُ مَعَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي تِلْكَ السُّورَةِ ، وَلَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَذْكُورًا فِي الصَّلَوَاتِ بَعْدَ ذِكْرِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا وَمُصَلَّى عَلَيْهِ فِيهَا فِي التَّشَهُّدِ لَهَا ، فَوَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَقَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهَ إِيَّاهُ مِمَّا قَدْ كَانَ أَعْطَاهُ مَا هُوَ فَوْقَهُ ، وَمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ ، ثُمَّ رَوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا قَدْ أَحَطْنَا عِلْمًا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ "(1/1524)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ مَسْأَلَةً وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ ، قُلْتُ : أَيْ رَبِّ قَدْ كَانَتْ قَبْلِي أَنْبِيَاءُ ، مِنْهُمْ مَنْ سَخَّرْتَ لَهُ الرِّيحَ ، ثُمَّ ذَكَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى ، ثُمَّ ذَكَرَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ يَذْكُرُ مَا أُعْطَوْا ، قَالَ : أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُ ؟ قُلْتُ : بَلَى ، أَيْ رَبِّ ، قَالَ : أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُ ؟ قُلْتُ : بَلَى ، أَيْ رَبِّ ، قَالَ : أَلَمْ أَجِدْكَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُ ؟ قُلْتُ : بَلَى ، أَيْ رَبِّ ، قَالَ : أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ، وَوُضَعْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ ؟ قُلْتُ : بَلَى ، أَيْ رَبِّ " (1) .
* سورة الإنشراح مكية ، وهي تتحدث عن مكانة الرسول الجليلة ، ومقامه الرفيع عند الهص تعالى ، وقد تناولت الحديث عن نعم الهن العديدة على عبده ورسوله محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وذلك بشرح صدره بالإيمان ، وتنوير قلبه بالحكمة والعرفان ، وتطهيره من الذنوب والأوزار ، وكل ذلك بقصد التسلية لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) عما يلقاه من أذى الكفار الفجار ، وتطييب خاطره الشريف بما منحه الله من الأنوار [ ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذي أنقض ظهرك ] ؟ الآيات .
* ثم تحدثت عن إعلاء منزلة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، ورفع مقامه في الدنيا والآخرة ، حيث قرن اسمه ، باسم اله تعالى [ ورفعنا لك ذكرك ] الآيات .
* وتناولت السورة دعوة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وهو بمكة يقاسي مع المؤمنين الشدائد والأهوال من الكفرة المكذبين ، فآنسه بقرب الفرج ، وقرب النصر على الأعداء [ فإن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا ] الآيات . وختمت بالتذكير للمصطفى ( - صلى الله عليه وسلم - ) بواجب التفرغ لعبادة الله ، بعد إنتهائه من تبليغ الرسالة ، شكرا لله على ما أولاه من النعم الجليلة [ فإذا فرغت فانصب ، وإلى ربك فارغب ] وهو ختام كريم ، لنبى عظيم . (2)
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 385)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 501)(1/1525)
مقصودها تفصيل ما في آخر الضحى من النعمة ، وبيان ان المراد بالتحديث ببها هو شكرها بالنصب في عبادة الله والرغبة إليه بتذكر إحسانه وعظيم رحمته بوصف الربوبية وامتنانه ، وعلى ذلك دل اسمها الشرح (1)
نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى. وكأنها تكملة لها. فيها ظل العطف الندي. وفيها روح المناجاة الحبيب.
وفيها استحضار مظاهر العناية. واستعراض مواقع الرعاية. وفيها البشرى باليسر والفرج. وفيها التوجيه إلى سر اليسر وحبل الاتصال الوثيق ..
«أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ؟ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ؟» وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها ، ومن العقبات الوعرة في طريقها ومن الكيد والمكر المضروب حولها .. توحي بأن صدره - صلى الله عليه وسلم - كان مثقلا بهموم هذه الدعوة الثقيلة ، وأنه كان يحس العبء فادحا على كاهله. وأنه كان في حاجة إلى عون ومدد وزاد ورصيد ..ثم كانت هذه المناجاة الحلوة ، وهذا الحديث الودود! (2)
مقاصد السورة
تشتمل هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد :
(1) تعداد ما أنعم به على رسوله من النعم.
(2) وعده له بإزالة ما نزل به من الشدائد والمحن.
(3) أمره بالمداومة على الأعمال الصالحة.
(4) التوكل عليه وحده ، والرغبة فيما عنده. (3)
================
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 460)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3929)
(3) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 192)(1/1526)
(95) سورة التين
سميت في معظم كتب التفسير ومعظم المصاحف "سورة والتين" بإثبات الواو تسمية بأول كلمة فيها. وسماها بعض المفسرين "سورة التين" بدون الواو لأن فيها لفظ "التين" كما قالوا "سورة البقرة" وبذلك عنونها الترمذي وبعض المصاحف.
وهي مكية عند أكثر العلماء قال ابن عطية: ل أعرف في ذلك خلافا بين المفسرين، ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور المختلف فيها. وذكر القرطبي عن قتادة أنها مدنية، ونسب أيضا إلى ابن عباس، والصحيح عن ابن عباس أنه قال: هي مكية.
وعدت الثامنة والعشرين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة البروج وقبل سورة الإيلاف.
وعدد آياتها ثمان.
أغراضها
احتوت هذه السورة على التنبيه بأن الله خلق الإنسان على الفطرة المستقيمة ليعلموا أن الإسلام هو الفطرة كما قال في الآية الأخرى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] وأن ما يخالف أصوله بالأصالة أو بالتحريف فساد وضلال، ومتبعي ما يخالف الإسلام أهل ضلالة.
والتعريض بالوعيد للمكذبين بالإسلام.
والإشارة بالأمور المقسم بها إلى أطوار الشرائع الأربعة إيماء إلى أن الإسلام جاء مصدقا لها وأنها مشاركة أصولها لأصول دين الإسلام.
والتنويه بحسن جزاء الذين اتبعوا الإسلام في أصوله وفروعه.
وشملت الامتنان على الإنسان بخلقه على أحسن نظام في جثمانه ونفسه. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « الانشراح » بالدعوة إلى الكد والنصب ، فى الحياة الدنيا ، ليبنى الإنسان بذلك دار مقامه فى الآخرة ، ويعمرها بما يساق إليه فيها من نعيم اللّه ورضوانه.وبدئت سورة « التين » بهذه الأقسام من اللّه سبحانه وتعالى ، لتقرير حقيقة الإنسان وتذكيره بوجوده ، وأن اللّه سبحانه خلقه فى أحسن تقويم ، وأودع فيه القوى التي تمكّن له من الاحتفاظ بهذه الصورة الكريمة ، وأن يبلغ أعلى المنازل عند اللّه ،
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 370)(1/1527)
ولكن ميل الإنسان إلى حب العاجلة ، قد أغراه باقتطاف الذات الدانية له من دنياه ، دون أن يلتفت إلى الآخرة ، أو يعمل لها ، فردّ إلى أسفل سافلين .. وقليل هم أولئك الذين عرفوا قدر أنفسهم ، فعلوا بها عن هذا الأفق الضيق ، ونظروا إلى ماوراء هذه الدنيا. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - وتسمى - أيضا - سورة « والتين » وعدد آياتها ثماني آيات ، والصحيح أنها مكية.
وقد روى ذلك عن ابن عباس وغيره ، ويؤيد كونها مكية ، القسم بمكة في قوله - تعالى - : وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ، وعن قتادة أنها مدنية ، وهو قول لا دليل عليه.
وكان نزولها بعد سورة « البروج » ، وقبل سورة « لإيلاف قريش ».
2 - وقد اشتملت هذه السورة الكريمة ، على التنبيه بأن اللّه - تعالى - قد خلق الإنسان في أحسن تقويم ، فعليه أن يكون شاكرا لخالقه ، مخلصا له العبادة والطاعة. (2)
في السورة تنويه بتكوين الإنسان ومواهبه ، وتنبيه إلى ما يمكن أن يتردى إليه من الانحطاط بالانحراف عن الإيمان والعمل الصالح ، وتوكيد بالجزاء الأخروي واتساق ذلك مع عدل اللّه وحكمته ، والسورة عامة التوجيه والعرض.
وقد روت بعض الروايات أنها مدنية ، غير أن أكثر الروايات متفقة على مكيتها وأسلوبها يؤيد ذلك. (3)
سورة التين مكيّة ، وهي ثماني آيات.
تسميتها :سميت سورة التين لأن اللَّه تعالى أقسم في مطلعها بالتين والزيتون ، لما فيهما من خيرات وبركات ، ومنافع : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ...
مناسبتها لما قبلها :
ذكر اللَّه تعالى في السورة المتقدمة حال أكمل الناس خلقا وخلقا ، وأنه أفضل العالم ، ثم ذكر في هذه السورة حال النوع الإنساني وما ينتهي إليه أمره من التدني ودخول جهنم إن عادى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، أو دخول الجنة إن آمن به وعمل صالحا.
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت هذه السورة المكية بيان أمور ثلاثة متعلقة بالإنسان وعقيدته :
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1612)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 443)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 163)(1/1528)
1 - تكريم النوع الإنساني ، حيث خلق اللَّه الإنسان في أحسن صورة وشكل ، منتصب القامة ، سويّ الأعضاء ، حسن التركيب : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ .. [1 - 4].
2 - بيان انحدار مستوى الإنسان وزجّ نفسه في نيران جهنم بسبب كفره باللَّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنكاره البعث والنشور ، بالرغم من توافر الأدلة القاطعة على قدرة اللَّه عزّ وجلّ بخلق الإنسان في أحسن تقويم : ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [5].
واستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [6].
3 - إعلان مبدأ العدل المطلق في ثواب المؤمنين ، وتعذيب الكافرين : فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ [7 - 8]. (1)
مكية. وآياتها ثمان آيات ، وفيها يقسم الحق - تبارك وتعالى - بأنه خلق الإنسان فعدله ، ثم رده حتى كان أسفل سافلين ، إلا المؤمنين فلهم الثواب الكبير ، واللّه أحكم الحاكمين. (2)
ويقال لها سورة التين بلا واو مكية في قول الجمهور. وعن قتادة أنها مدنية وكذا عن ابن عباس على ما في البحر ومجمع البيان برواية المعدل. وأخرج عنه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي ما يوافق قول الجمهور ويؤيده إشارة الحضور في قوله تعالى وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين : 3] فإن المراد به مكة بإجماع المفسرين فيما نعلم. وآيها ثمان آيات في قولهم جميعا. ولما ذكر سبحانه في السورة السابقة حال أكمل النوع الإنساني بالاتفاق بل أكمل خلق اللّه عز وجل على الإطلاق - صلى الله عليه وسلم - ذكر عز وجل في هذه السورة حال النوع وما ينتهي إليه أمره وما أعد سبحانه لمن آمن منه. بذلك الفرد الأكمل وفخر هذا النوع المفضل - صلى الله عليه وسلم - وشرف وعظم وكرم (3)
* سورة التين مكية ، وهي تعالج موضوعين بارزين هما :
- الأول : تكريم الله جل وعلا للنوع البشري .
- الثاني : موضوع الإيمان بالحساب والجزآء .
* إبتدأت السورة بالقسم بالبقاع المقدسة ، والأماكن المشرفة ، التي خصها الله تعالى بإنزال الوحي فيها على أنبيائه ورسله ، وهي " بيت المقدس " و " جبل الطور " " ومكة المكرمة " اقسم على أن الله تعالى كرم الإنسان ، فخلقه في أجمل صورة ، وابدع شكل ، وإذا لم يشكر نعمة ربه ، فسيرد إلى أسفل دركات الجحيم [ والتين والزيتون ، وطور سينين ، وهذا البلد الأمين ] .
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 301)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 879)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 393)(1/1529)
* ووبخت الكافر على إنكاره للبعث والنشور ، بعد تلك الدلائل الباهرة التي تدل على قدرة رب العالمين ، في خلقه للإنسان في أحسن شكل ، وأجمل صورة [ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين ] .
* وختمت ببيان عدل الله باثابة المؤمنين ، وعقاب الكافرين [ فما يكذبك بعد بالدين ، أليس الل بأحكم الحإلىمين ] ؟ وفيها تقرير للجزاء ، وإثبات للمعاد ، بطريق التأكيد والتحقيق ، مع التوبيخ للكفرة المكذبين بيوم الدين . (1)
مقصودها سر مقصود ) ألم نشرح ( وذلك هو إثبات القدرة الكاملة وهو المشار إليه باسمها ، فإن في خلق التين والزيتون من الغرائب ما يدل على ذلك ، وكذا فيما أشير إليه بذلك من النبوات ، وضم القسم إلى المقسم عليه وهو الإنسان ، الذي هو أعجب ما في الأكوان ، واضح في ذلك ) بسم الله ( الملك الأعظم الذي لا نعبد إلا إياه (2)
الحقيقة الرئيسية التي تعرضها هذه السورة هي حقيقة الفطرة القويمة التي فطر اللّه الإنسان عليها ، وستقامة طبيعتها مع طبيعة الإيمان ، والوصول بها معه إلى كمالها المقدور لها. وهبوط الإنسان وسفوله حين ينحرف عن سواء الفطرة واستقامة الإيمان.
ويقسم اللّه - سبحانه - على هذه الحقيقة بالتين والزيتون ، وطور سينين ، وهذا البلد الأمين ، وهذا القسم على ما عهدنا في كثير من سور هذا الجزء - هو الإطار الذي تعرض فيه تلك الحقيقة. وقد رأينا في السور المماثلة أن الإطار يتناسق مع الحقيقة التي تعرض فيه تناسقا دقيقا.
وطور سينين هو الطور الذي نودي موسى - عليه السلام - من جانبه. والبلد الأمين هو مكة بيت اللّه الحرام ..وعلاقتهما بأمر الدين والإيمان واضحة .. (3)
================
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 503)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 468)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3932)(1/1530)
(96) سورة العلق
اشتهرت تسمية هذه السورة في عهد الصحابة والتابعين باسم "سورة اقرأ باسم ربك".روي في "المستدرك" عن عائشة: "أول سورة نزلت من القرآن اقرأ باسم ربك" فأخبرت عن السورة ب {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1]. وروي ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي رجاء العطاردي ومجاهد والزهري، وبذلك عنونها الترمذي.
وسميت في المصاحف ومعظم التفاسير "سورة العلق" لوقوع لفظ "العلق" في أوائلها، وكذلك سميت في بعض كتب التفسير.
وعنونها البخاري: "سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق".
وتسمى "سورة اقرأ"، وسماها الكواشي في "التخليص" "سورة اقرأ والعلق".
وعنونها ابن عطية وأبو بكر بن العربي "سورة القلم" وهذا اسم سميت به "سورة ن والقلم" ولكن الذين جعلوا اسم هذه السورة "سورة القلم" يسمون الأخرى "سورة ن". ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور ذات أكثر من اسم.
وهي مكية باتفاق.
وهي أول سورة نزلت في القرآن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة الواضحة، ونزل أولها بغار حراء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مجاور فيه في رمضان ليلة سبعة عشرة منه من سنة أربعين بعد الفيل إلى قوله: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5]. ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن عائشة. وفيه حديث عن أبي موسى الأشعري وهو الذي قاله أكثر المفسرين من السلف والخلف.
وعن جابر أول سورة المدثر، وتؤول بأن كلامه نص أن سورة المدثر أول سورة نزلت بعد فترة الوحي كما في "الإتقان" كما أن سورة الضحى نزلت بعد فترة الوحي الثانية.
وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة عشرون، وفي عد أهل الشام ثمان عشرة، وفي عد أهل الكوفة والبصرة تسع عشرة.
أغراضها
تلقين محمد - صلى الله عليه وسلم - الكلام القرآني وتلاوته إذ كان لا يعرف التلاوة من قبل.
والإيماء إلى أن علمه بذلك ميسر لأن الله الذي ألهم البشر العلم بالكتابة قادر على تعليم من يشاء ابتداء.
وإيماء إلى أن أمته ستصير إلى معرفة القراءة والكتابة والعلم.(1/1531)
وتوجيهه إلى النظر في خلق الله الموجودات وخاصة خلقه الإنسان خلقا عجيبا مستخرجا من علقة فذلك مبدأ النظر.
وتهديد من كذب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعرض ليصده عن الصلاة والدعوة إلى الهدى والتقوى.
وإعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله عالم بأمر من يناوونه وأنه قامعهم وناصر رسوله.
وتثبيت الرسول على ما جاءه من الحق والصلاة والتقرب إلى الله.
وأن لا يعبأ بقوة أعداءه لأن قوة الله تقهرهم. (1)
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة « التين » مواجهة للإنسان فى خلقه القويم ، الجليل ، الذي خلقه اللّه عليه ، وأن هذا الإنسان إذا استطاع أن يحتفظ بهذا الخلق الكريم ، كان فى أعلى عليين .. أما إذا لم يحسن سياسة هذا الخلق ، ولم يحسن تدبيره فإنه يهوى إلى أسفل سافلين. وتبدا سورة « العلق » بهذه الواجهة مع الإنسان فى أعلى منازله ، وأكرم وأشرف صورة له ، وهو رسول اللّه « محمد » صلوات اللّه وسلامه عليه ، مدعوّا من ربه إلى أكمل كمالات الإنسان ، وأكرم ما يتناسب مع كماله وشرفه ، وهو القراءة ، التي هى مجلى العقل ، ومنارة هديه ورشده. وبهذا تكون المناسبة جامعة بين السورتين ، ختاما ، وبدءا. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - هذه السورة الكريمة تسمى سورة « العلق » ، وتسمى سورة « اقرأ » وعدد آياتها تسع عشرة آية في المصحف الكوفي ، وفي الشامي ثماني عشرة آية ، وفي الحجازي عشرون آية.
وصدر هذه السورة الكريمة يعتبر أول ما نزل من قرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
2 - ومن أغراضها : التنويه بشأن القراءة والكتابة ، والعلم والتعلم ، والتهديد لكل من يقف في وجه دعوة الإسلام التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه - عز وجل - وإعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن اللّه - تعالى - مطلع على ما يبيته له أعداؤه من مكر وحقد ، وأنه - سبحانه - قامعهم وناصره عليهم ، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بأن يمضى في طريقه ، دون أن يلتفت إلى مكرهم أو سفاهاتهم. (3)
تضع جميع تراتيب السور المروية هذه السورة أولى السور ترتيبا. والمتبادر أن ذلك بسبب كون الآيات الخمس الأولى منها هي أولى آيات القرآن نزولا على ما عليه الجمهور. لأن مضمون باقي الآيات
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 382)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1621)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 451)(1/1532)
وأسلوبها يدلان على أنه نزل بعد مدة ما من نزول آياتها الخمس الأولى ، على أن هذه المدة ليست طويلة على ما تلهم آيات السورة.
وفي الآيات الخمس الأولى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة وتنويه بما ألهم اللّه الإنسان من العلم. وفي بقية الآيات حملة على باغ مغتر بماله وجاهه تصدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت للنبي في دعوته وموقفه وعدم المبالاة به. (1)
سورة العلق مكيّة ، وهي تسع عشرة آية.
تسميتها : سميت سورة العلق ، وسورة اقرأ ، أو بِالْقَلَمِ لأن اللَّه سبحانه افتتحها بقوله : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. والعلق : الدم المتجمد على شكل الدودة الصغيرة.
مناسبتها لما قبلها :
ذكر اللَّه تعالى في سورة التين أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وهذا بيان للصورة ، وذكر هنا أنه : خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وهذا بيان للمادة.
وذكر تعالى في هذه السورة من أحوال الآخرة بيانا توضيحيا لما ذكر في السورة السالفة.
ما اشتملت عليه السورة :
هذه السورة المكية أول شيء نزل من القرآن على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيان الأمور الثلاثة التالية :
1 - بيان حكمة اللَّه في خلق الإنسان من ضعف إلى قوة ، والإشادة بما زوّده وأمره به من فضيلة القراءة اقرأ والكتابة عَلَّمَ بِالْقَلَمِ لتمييزه على غيره من المخلوقات : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ .. [الآيات : 1 - 5].
2 - الإخبار عن مدى طغيان الإنسان وتمرده على أوامر اللَّه ، وجحوده نعم اللَّه عليه وغفلته عنها رغم كثرتها في حال توافر الثورة والمال والغنى لديه ، فقابل النعمة بالنقمة ، وكان الواجب عليه أن يشكر ربّه على فضله ، فجحد النعمة وتجبّر واستكبر : كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى .. [الآيات : 6 - 8].
3 - افتضاح شأن فرعون هذه الأمة أبي جهل الذي كان ينهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة ، انتصارا للأوثان والأصنام ، وتوعده بأشد العقاب إن استمر على ضلاله وكفره وطغيانه ، وتنبيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى عدم الالتفات لما كان يوعده به ويتهدده : أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ... إلى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [الآيات : 9 - 19].
كيفية نزول هذه السورة - حديث بدء نزول الوحي :
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 315)(1/1533)
نزل صدر هذه السورة أول ما نزل من القرآن الكريم ، أما بقية السورة فهو متأخر النزول ، بعد انتشار دعوته - صلى الله عليه وسلم - بين قريش ، وتحرشهم به وإيذائهم له.
أخرج الإمام أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : أول ما بدئ به رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء ، فيتحنّث فيه - وهو التعبّد - الليالي ذوات العدد ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها ، حتى فجأه الوحي ، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : اقْرَأْ.
قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : «فقلت : ما أنا بقارئ» قال : فأخذني فغطّني - ضمّني - حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطّني الثانية ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطّني الثالثة ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني. فقال : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ ، وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.
قال : فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة ، فقال : زمّلوني زمّلوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع ، فقال : يا خديجة ، ما لي؟ وأخبرها الخبر ، وقال : قد خشيت على نفسي ، فقالت له :كلا ، أبشر ، فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا ، إنك لتصل الرّحم ، وتصدّق الحديث ، وتحمل الكلّ - الضعيف العاجز - وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة ، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها ، وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء اللَّه أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة. ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، ليتني فيها جذعا «1» ، ليتني أكون حيّا حين يخرجك قومك ، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : أو مخرجيّ هم؟ فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا. ثم لم ينشب «2» ورقة أن توفي ، وفتر الوحي ، حتى حزن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا حزنا ، غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال (1) ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدّى له جبريل ، فقال : يا محمد ، إنك رسول اللَّه حقا ، فيسكن بذلك جأشه ، وتقرّ نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك. فإذا أوفى بذروة الجبل ، تبدّى له جبريل ، فقال له مثل ذلك (2) .
__________
(1) - حديث التردي من أعلى الجبال من بلاغات الزهري ولا يصح
(2) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 311)(1/1534)
وتسمى سورة « اقرأ » أو « القلم » . وهي مكية ، وآياتها تسع عشرة آية ، وفيها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة مع بيان مظاهر قدرة اللّه مع الإنسان ، وبيان بعض صفاته ثم ذكر مثل يدل على عناد بعض أفراده وبيان جزاء أمثاله. (1)
وتسمى سورة اقرأ ، لا خلاف في مكيتها وإنما الخلاف في عدد آيها ففي الحجازي عشرون آية ، وفي العراقي تسع عشرة ، وفي الشامي ثماني عشرة ، وفي أنها أول نازل أو لا فذهب كثير إلى أنها أول نازل ، فقد أخرج الطبراني في الكبير بسنده على شرط الصحيح عن أبي رجاء العطاردي قال : كان أبو موسى الأشعري يقرئنا فيجلسنا حلقا عليه ثوبان أبيضان فإذا تلا هذه السورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق : 1] قال : هذه أول سورة أنزلت على محمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - . وقد أخرج الحاكم في المستدرك والبيهقي في الدلائل وصححاه عن عائشة نحوه. وأخرج غير واحد عن مجاهد قال : أول ما نزل من القرآن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثم ن وَالْقَلَمِ [القلم : 1] وروى الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : سألت جابر بن عبد اللّه أي القرآن أنزل أولا؟ قال : يا أيها المدثر ، قلت : يقولون اقرأ باسم ربك قال : أحدثكم بما حدثنا به رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، فساق الحديث مستدلا به على ما ادعاه وأجاب عنه الأولون بعدة أجوبة مر ذكرها وقيل الفاتحة. واحتج له بحديث مرسل رجاله ثقات أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي من طريق يونس بن بكير عن يونس بن عمر عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل ، وأجيب عنه بأن ما فيه يحتمل أن يكون خبرا عما نزل بعد اقرأ ويا أيها المدثر ، مع أن غيره أقوى منه رواية وجزم جابر بن زيد بأن أول ما نزل اقرأ ، ثم ن ، ثم يا أيها المزمل ، ثم يا أيها المدثر ، ثم الفاتحة. وقيل أول ما نزل صدرها إلى ما لم يعلم في غار حراء ثم نزل آخرها بعد ذلك بما شاء اللّه تعالى وهو ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد والشيخان وعبد بن حميد وعبد الرزاق وغيرهم من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة في حديث بدء الوحي ، وفيه : «فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» فرجع بها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ترجف بوادره إلى أن قالت : ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ، وفي آخر ما رووا قال ابن شهاب : وأخبرني أبو سلمة عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه : «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت ، فقلت : زملوني زملوني ، فأنزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر : 1 - 5] فحمي الوحي
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 882)(1/1535)
وتتابع».ويعلم منه ضعف الاستدلال على كون سورة المدثر أول نازل من القرآن على الإطلاق بما روي أولا عن جابر المذكور كما لا يخفى على الواقف عليه ، وقد ذكرناه صدر الكلام في سورة المدثر لقوله فيه وهو يحدث عن فترة الوحي وقوله : «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» وقوله «فحمي الوحي وتتابع» أي بعد فترته وبالجملة الصحيح كما قال البعض وهو الذي أختاره أن صدر هذه السورة الكريمة هو أول ما نزل من القرآن على الإطلاق كيف وقد ورد حديث بدء الوحي المروي عن عائشة من أصح الأحاديث وفيه فجاءه الملك فقال اقرأ فقال قلت «ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد» إلخ. والظاهر أن ما فيه نافية بل قال النووي هو الصواب وذلك إنما يتصور أولا وإلّا لكان الامتناع من أشد المعاصي ويطابقه ما ذكره الأئمة في باب تأخير البيان وسنشير إليه إن شاء اللّه تعالى. وفي الكشف الوجه حمل قول جابر على السورة الكاملة وفي شرح صحيح مسلم الصواب أن أول ما نزل اقْرَأْ أي مطلقا ، وأول ما نزل بعد فترة الوحي يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر انتهى. وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله واللّه تعالى أعلم. ولما ذكر سبحانه في سورة التين خلق الإنسان في أحسن تقويم بيّن عز وجل هنا أنه تعالى خلق الإنسان من علق فكان ما تقدم كالبيان للعلة الصورية ، وهذا كالبيان للعلة المادية. وذكر سبحانه هنا أيضا من أحواله في الآخرة ما هو أبسط مما ذكره عز وجل هناك (1)
* سورة العلق وتسمي (سورة إقرأ) مكية وهي تعالج القضايا الآتية :
أولا : موضوع بدء نزول الوحي على خاتم الأنبياء محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) .
ثانيا : موضوع طغيان الإنسان بالمال ، وتمرده على أوامر الله جل وعلا ثالثا : قصة الشقي " أبي جهل " ونهيه الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، عن الصلاة وما نزل في حقه
* إبتدات السورة ببيان فضل الله على رسوله الكريم ، بإنزاله هذا القران " المعجزة الخالدة " عليه ، وتذكيره بأول النعماء ، وهو يتعبد ربه بغار حراء ، حيث تنزل عليه الوحي بآيات الذكر الحكيم [ إقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . إقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم. علم الإنسان مالم يعلم ] . ثم تحدثت عن طغيان الإنسان في هذه الحياة بالقوة والثراء ، وتمرده على أوامر الله ، بسبب نعمة الغنى ، وكأن الواجب عليه أن يشكر ربه على أفضاله ، لا أن يجحد النعماء ، وذكرته بالعودة إلى ربه لينال الجزآء [ كلا إن الإنسان ليطغى ، أن رأه استغنى ، إن إلى ربك الرجعى
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 399)(1/1536)
* ثم تناولت قصة الشقى " أبي جهل " فرعون هذه الأمة ، الذي كان يتوعد الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ويتهدده ، وينهاه عن الصلاه ، انتصارا للأوثان والأصنام [ أرايت الذي ينهى5عبدا إذا صلى ] الآيات .
*وختمت السورة بوعيد ذلك الشقي الكافر ، بأشد العقاب إن إستمر على ضلاله وطغيانه ، كما أمرت الرسول الكريم ، بعدم الإصغاء إلى وعيد ذلك المجرم الأثيم [ كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ] إلى ختام السورة الكريمة [ كلا لا تطعه واسجد واقترب.
* وقد بدأت السورة بالدعوة إلى القراءة والتعلم ، وختمت بالصلاة والعبادة ، ليقترن العلم بالعمل ، ويتناسق البدء مع الختام ، في أروع صور البيان. (1)
مقصودها الأمر لا سيما للمقصود بالتفضيل في سورة التين بعبادة من له الخلق والأمر ، شكرا لأحسانه واجتنابا لكفرانه ن طمعا في جنانه وخوفا من نيرانه ، لما ثبت أنه يدين العباد يوم المعاد ، وكل من اسميها دال على ذلك لأن المربي يجب شكره ، ويحرم غاية التحريم كفره ، على أن " اقرأ " يشير إلى الأمر ، " والعلق " يشير غلى الخلق ، و " اقرأ " يدل على البداية وهي العبادة بالمطابقة ، وعلى النهاية وهي النمجاة يوم الدين باللازم ، والعلق يدل على كل من النهاية ثم البداية بالالتزام ، لأن من عرف أنه مخلوق من دم عرف أن خالقه قادر على إعادته من تراب ، فإن التراب أقبل للحياة من الدم ، ومن صدق بالإعادة عمل لها ، وخص العلق لأنه مركب الحياة ، ولذلك سمي نفسا (2)
مطلع هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن باتفاق. والروايات التي تذكر نزول غيرها ابتداء ليست وثيقة.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر بن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت :«أول ما بدئ به رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد ، قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود إلى ذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها. حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك ، فقال : اقرأ. قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال : اقرأ. فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ. فقلت : ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ، ثم قال : «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» ..
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 506)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 478)(1/1537)
فرجع بها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة ، فقال «زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع ،فقال : يا خديجة مالي؟ وأخبرها الخبر. وقال : «قد خشيت على نفسي» فقالت له : كلا. أبشر فو اللّه لا يخزيك اللّه أبدا. إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها. وكان امرا قد تنصر في الجاهلية. كان يكتب الكتاب العربي ، وكتب العبرانية من الإنجيل - ما شاء اللّه أن يكتب - وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة :
ابن أخي ، ما ترى؟ فأخبره رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بما رأى. فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى. ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك. فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «أو مخرجيّ هم؟» فقال ورقة : نعم. لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي ... إلخ». وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري ..وروى الطبري - بإسناده - عن عبد اللّه بن الزبير. قال :
«قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : فجاءني - وأنا نائم - بنمط من ديباج فيه كتاب. فقال : اقرأ.فقلت : ما أقرأ. فغتني حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال : اقرأ. فقلت : ماذا أقرأ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إليّ بمثل ما صنع بي. قال : «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... إلى قوله : عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» قال : فقرأته. ثم انتهى ، ثم انصرف عني. وهببت من نومي ، وكأنما كتب في قلبي كتابا.قال : ولم يكن من خلق اللّه أبغض علي من شاعر أو مجنون. كنت لا أطيق أن أنظر إليهما ، قال : قلت : إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون! لا تحدث بها عني قريش أبدا! لأعمدنّ إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن! قال : فخرجت أريد ذلك. حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد. أنت رسول اللّه وأنا جبريل. قال فرفعت رأسي إلى السماء ، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول اللّه وأنا جبريل. قال : فوقفت أنظر إليه ، وشغلني ذلك عما أردت ، فما أتقدم وما أتأخر ، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء ، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك ، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ، ولا أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني. ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي ...» ..
وقد رواه ابن إسحاق مطولا عن وهب بن كيسان عن عبيد أيضا ..(1/1538)
وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير ، ثم مررنا به وتركناه ، أو تلبثنا عنده قليلا ثم جاوزناه! إنه حادث ضخم. ضخم جدا. ضخم إلى غير حد. ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته ، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا! إنه حادث ضخم بحقيقته. وضخم بدلالته. وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا .. وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد - بغير مبالغة - هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل.
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟
حقيقته أن اللّه جل جلاله ، العظيم الجبار القهار المتكبر ، مالك الملك كله ، قد تكرم - في عليائه - فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان ، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض. وكرّم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي ، ومستودع حكمته ، ومهبط كلماته ، وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - بهذه الخليقة.
وهذه حقيقة كبيرة. كبيرة إلى غير حد. تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان - قدر طاقته - حقيقة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية. ويتصور في ظلها حقيقة العبودية المحدودة الحادثة الفانية. ثم يستشعر وقع هذه العناية الربانية بهذا المخلوق الإنساني ويتذوق حلاوة هذا الشعور ويتلقاه بالخشوع والشكر والفرح والابتهال .. وهو يتصور كلمات اللّه ، تتجاوب بها جنبات الوجود كله ، منزّلة لهذا الإنسان في ذلك الركن المنزوي من أركان الوجود الضئيلة! وما دلالة هذا الحادث؟
دلالته - في جانب اللّه سبحانه - أنه ذو الفضل الواسع ، والرحمة السابغة ، الكريم الودود المنان. يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة ، سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة.
ودلالته - في جانب الإنسان - أن اللّه - سبحانه - قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها ، ولا يملك أن يشكرها.
وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعا ساجدا .. هذه .. أن يذكره اللّه ، ويلتفت إليه ، ويصله به ، ويختار من جنسه رسولا يوحي إليه بكلماته. وأن تصبح الأرض .. مسكنه .. مهبطا لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال.
فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى. بدأت في تحويل خط التاريخ ، منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني .. منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه .. إنها ليست الأرض وليس الهوى .. إنما هي السماء والوحي الإلهي.(1/1539)
ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة .. في كنف اللّه ورعايته المباشرة الظاهرة. عاشوا يتطلعون إلى اللّه مباشرة في كل أمرهم. كبيره وصغيره. يحسون ويتحركون تحت عين اللّه.
ويتوقعون أن تمتد يده - سبحانه - فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة. تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب .. وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من اللّه وحي يحدثهم بما في نفوسهم ، ويفصل في مشكلاتهم ، ويقول لهم : خذوا هذا ودعوا ذاك! ولقد كانت فترة عجيبة حقا. فترة الثلاثة والعشرين عاما التالية ، التي استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة بين البشر والملأ الأعلى. فترة لا يتصور حقيقتها إلا الذين عاشوها. وأحسوها. وشهدوا بدأها ونهايتها.
وذاقوا حلاوة هذا الاتصال. وأحسوا يد اللّه تنقل خطاهم في الطريق. ورأوا من أين بدأوا وإلى أين انتهوا ..
وهي مسافة هائلة لا تقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض. مسافة في الضمير لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر ، ولا يماثلها بعد بين الأجرام والعوالم! المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء. بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي. بين الجاهلية والإسلام. بين البشرية والربانية ، وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام! وكانوا يعرفون مذاقها. ويدركون حلاوتها. ويشعرون بقيمتها ، ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ، وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقا.
عن أنس - رضي اللّه عنه - قال : قال أبو بكر لعمر - رضي اللّه عنهما - بعد وفاة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - انطلق بنا إلى أم أيمن - رضي اللّه عنها - نزورها كما كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يزورها. فلما أتيا إليها بكت. فقالا لها : ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند اللّه خير لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت : بلى ، إني لأعلم أن ما عند اللّه خير لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها ... (أخرجه مسلم) ...
ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة ، وإلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.
لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء لا من الأرض ، واستمداد شريعته من الوحي لا من الهوى «1».
لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط ، وكما لم يتحول من بعد أيضا. وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق. وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان ، ولا تطمسها الأحداث.(1/1540)
وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة ، ولم يجيء بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعا ، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية. ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض! وتبينت خطوطه ومعالمه. «ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة» .. لا غموض ولا إبهام. إنما هو الضلال عن علم ، والانحراف عن عمد ، والالتواء عن قصد! إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة. الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد.
والذي كان فرقانا في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل. والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به ، وسجله الضمير الإنساني. وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها. وأن يذكر دائما أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان ...
ذلك شأن المقطع الأول من السورة. فأما بقيتها فواضح أنها نزلت فيما بعد. فهي تشير إلى مواقف وحوادث في السيرة لم تجىء إلا متأخرة ، بعد تكليف الرسول - صلى الله عليه وسلم - إبلاغ الدعوة ، والجهر بالعبادة ، وقيام المشركين بالمعارضة. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في السورة : «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى؟» ... إلخ ولكن هناك تناسقا كاملا بين أجزاء السورة ، وتسلسلا في ترتيب الحقائق التي تضمنتها بعد هذا المطلع المتقدم.
يجعل من السورة كلها وحدة منسقة متماسكة .. (1)
مقاصد هذه السورة
تشتمل هذه السورة على المقاصد الآتية :
(1) حكمة اللّه فى خلق الإنسان ، وكيف رقاه من جرثومة صغيرة إلى أن بسط سلطانه على جميع العوالم الأرضية.
(2) إنه لكرمه وعظيم إحسانه علمه من البيان ما لم يعلم ، وأفاض عليه من العلوم ما جعل له القدرة على غيره مما فى الأرض.
(3) بيان أن هذه النعم على توافرها قد غفل عنها الإنسان ، فإذا رأى نفسه غنيا صلف وتجبر واستكبر. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3935)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 205)(1/1541)
(97) سورة القدر
سميت هذه السورة في المصاحف التفسير وكتب السنة "سورة القدر" وسماها ابن عطية في "تفسيره" وأبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" "سورة ليلة القدر".
وهي مكية في قول الجمهور وهو قول جابر بن زيد ويروى عن ابن عباس. وعن ابن عباس أيضا والضحاك أنها مدنية ونسبه القرطبي إلى الأكثر. وقال الواقدي: هي أول سورة نزلت بالمدينة ويرجحه أن المتبادر أنها تتضمن الترغيب في إحياء ليلة القدر وإنما كان ذلك بعد فرض رمضان بعد الهجرة.
وقد عدها جابر بن زيد الخامسة والعشرين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة عبس وقبل سورة الشمس، فأما قولب من قالوا إنها مدنية فيقتضي أن تكون نزلت بعد المطففين وقبل البقرة.
وآياتها خمس في العدد المدني والبصري والكوفي وست في العد المكي والشامي.
أغراضها
التنويه بفضل القرآن وعظمته بإسناد إنزاله إلى الله تعالى...
والرد على الذين جحدوا أن يكون القرآن منزلا من الله تعالى.
ورفع شأن الوقت الذي أنزل فيه ونزول الملائكة في ليلة إنزاله.
وتفضيل الليلة التي توافق ليلة إنزاله من كل عام.
ويستتبع ذلك تحرير المسلمين على تحين ليلة القدر بالقيام والتصدق. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « العلق » بقوله تعالى : « كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ » وجاءت بعد ذلك سورة القدر ، وفيها تنويه بشأن هذا القرآن الذي أنزل على النبي ، والذي هداه ربه ، وملأ قلبه إيمانا ويقينا بعظمته وجلاله .. وبهذا الإيمان الوثيق يتجه النبي إلى ربه لا يخشى وعيدا ، ولا يرهب تهديدا .. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « القدر » من السور المكية عند أكثر المفسرين ، وكان نزولها بعد سورة « عبس » ، وقبل سورة « الشمس » ، فهي السورة الخامسة والعشرون في ترتيب النزول ، ويرى بعض المفسرين أنها من السور المدنية ، وأنها أول سورة نزلت بالمدينة.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 401)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1632)(1/1542)
قال الآلوسى : قال أبو حيان : مدنية في قول الأكثر. وحكى الماوردي عكسه. وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وقال الجلال في الإتقان : فيها قولان ، والأكثر أنها مكية ... « 1 » وعدد آياتها خمس آيات ، ومنهم من عدها ست آيات. والأول أصح وأرجح.
2 - والسورة الكريمة من أهم مقاصدها : التنويه بشأن القرآن ، والإعلاء من قدره ، والرد على من زعم أنه أساطير الأولين ، وبيان فضل الليلة التي نزل فيها ، وتحريض المسلمين على إحيائها بالعبادة والطاعة للّه رب العالمين. (1)
في السورة تنويه بليلة القدر وتقرير إنزال القرآن فيها. وبعض الروايات تذكر أنها مدنية «1». غير أن جميع التراتيب المروية تسلكها في عداد السور المكية.
وأسلوبها ووضعها في المصحف بعد سورة العلق قد يؤيدان مكيتها وتبكيرها في النزول. (2)
سورة القدر مكيّة ، وهي خمس آيات.
تسميتها :سميت سورة القدر أي العظمة والشرف تسمية لها بصفة ليلة القدر الذي أنزل اللَّه فيها القرآن ، فقال سبحانه : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي في ليلة عظيمة القدر والشرف.
مناسبتها لما قبلها :
أمر اللَّه تعالى في سورة العلق نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقراءة القرآن باسم ربه الذي خلق ، واسم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم ، ثم أبان في هذه السورة زمن البدء في نزول القرآن ، وهو ليلة القدر ذات الشرف الرفيع والقدر العالي بسبب نزول القرآن فيها.
ما اشتملت عليه السورة :
تحدثت هذه السورة المكية عن تاريخ بدء نزول القرآن الكريم ، وعن فضل ليلة القدر على سائر الأيام والليالي والشهور ، لنزول الملائكة وجبريل فيها بالأنوار والأفضال والبركات والخيرات على عباد اللَّه المؤمنين الصالحين ، من لدن أرحم الراحمين الذي يفيض بها على من يشاء.
معنى نزول القرآن في ليلة القدر :
معنى نزول القرآن في ليلة القدر ، مع العلم بأنه نزل منجّما مقسّطا على مدى ثلاث وعشرين سنة : أنه ابتدأ إنزاله ليلة القدر لأن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت في رمضان. وذلك لأن اللَّه تعالى قال في هذه السورة : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وقال في سورة الدخان : حم ، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ، إِنَّا كُنَّا
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 461)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 129)(1/1543)
مُنْذِرِينَ ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [1 - 6].
وأما قوله تعالى في سورة البقرة : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ ، وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [185] فمعناه أنه ابتدأ نزول القرآن في شهر رمضان المبارك.
وأما آية الأنفال : .. وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [41] فلا تعني تحديد موعد نزول القرآن ، وإنما تذكّر المؤمنين بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر في السابع عشر من رمضان من الآيات المتعلقة بأحكام القتال ، والملائكة ، والنصر. وسمي يوم بدر يوم الفرقان لأنه فرق فيه بين الحق والباطل. (1)
وهي مكية على الصحيح ، وآياتها خمس آيات ، وفيها تكلم عن بدء نزول القرآن ، وأنه نزل ليلة القدر ، التي تنزل فيها الملائكة والروح بكل أمر من اللّه ، وهي سلام من كل سوء. (2)
وجه مناسبتها قبلها أنها كالتعليل للأمر بقراءة القرآن المتقدم فيه كأنه قيل : اقرأ القرآن لأن قدره عظيم وشأنه فخيم. وقال الخطابي : المراد بالكتابة في قوله تعالى فيها إِنَّا أَنْزَلْناهُ الإشارة إلى قوله تعالى اقْرَأْ [العلق : 1] ولذا وضعت بعد وارتضاه القاضي أبو بكر بن العربي وقال : هذا بديع جدا والظاهر أنه أراد أن الضمير المنصوب. في ذاك لاقرأ إلخ على ما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى. وكونه أراد أنه للمقروء المفهوم من اقرأ فيكون في معنى رجوعه للقرآن خلاف الظاهر فلا تغفل. (3)
سورة القدر مكية ، وقد تحدثت عن بدء نزول القرآن العظيم ، وعن فضل ليلة القدر ، على سأئر الأيام والشهور ، لا فيها من الأنوار والتجليات القدسية ، والنفحات الربانية ، التي يفيضها الباري جل وعلا على عباده المؤمنين ، تكريما لنزول القران المبين ، كما تحدثت عن نزول الملائكة الأبرار حتى طلوع الفجر ، فيا لها من ليلتة عظيمة القدر ، هي خير عند الها من ألف شهر. (4)
مقصودها تفصيل الأمر الذي هو أحد قسمي ما ضمنه مقصود " اقرأ " وعلى ذلك دل اسمها لأن الليلة فضلت به ، فهو من إطلاق المسبب على السبب ، وهو دليل لمن يقول باعتبار تفضيل الأوقات لأجل ما كان فيها ، كما قال ذلك اليهودي في اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى ) اليوم أكملت لكم دينكم ) [
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 330) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 206)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 886)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 411)
(4) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 509)(1/1544)
المائدة : 3 ] وأفرده الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على ذلك وأعلمه أنه صار لنا عيدين : عيدا من جهة كونه يوم عرفة ، وعيدا من جهة كونه يوم جمعة (1)
الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال.
ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى. ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته ، وفي دلالته ، وفي آثاره في حياة البشرية جميعا.
العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري : «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟» .. «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» ..
والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير. بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود. نور اللّه المشرق في قرآنه : «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ الأعلى :
«تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» .. ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقا مع نور الوحي ونور الملائكة ، وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود : «سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ».
والليلة التي تتحدث عنها السورة هي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان : «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. والمعروف أنها ليلة من ليالي رمضان ، كما ورد في سورة البقرة : «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ» .. أي التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليبلغه إلى الناس. وفي رواية ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان ، ورسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يتحنث في غار حراء.
وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة. بعضها يعين الليلة السابعة والعشرين من رمضان. وبعضها يعين الليلة الواحدة والعشرين. وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة. وبعضها يطلقها في رمضان كله. فهي ليلة من ليالي رمضان على كل حال في أرجح الآثار.
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 490)(1/1545)
واسمها : «لَيْلَةِ الْقَدْرِ» .. قد يكون معناه التقدير والتدبير. وقد يكون معناه القيمة والمقام. وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم. حدث القرآن والوحي والرسالة .. وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود. وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد. وهي خير من ألف شهر. والعدد لا يفيد التحديد. في مثل هذه المواضع من القرآن. إنما هو يفيد التكثير. والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر.
فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات.
والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري : «وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟» وذلك بدون حاجة إلى التعلق بالأساطير التي شاعت حول هذه الليلة في أوهام العامة. فهي ليلة عظيمة باختيار اللّه لها لبدء تنزيل هذا القرآن. وإفاضة هذا النور على الوجود كله ، وإسباغ السلام الذي فاص من روح اللّه على الضمير البشري والحياة الإنسانية ، وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير «1». وتنزيل الملائكة وجبريل - عليه السلام - خاصة ، بإذن ربهم ، ومعهم هذا القرآن - باعتبار جنسه الذي نزل في هذه الليلة - وانتشارهم فيما بين السماء والأرض في هذا المهرجان الكوني ، الذي تصوره كلمات السورة تصويرا عجيبا ..
وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى تلك الليلة المجيدة السعيدة ، ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة ، ونتدبر حقيقة الأمر الذي تم فيها ، ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان ، وفي واقع الأرض ، وفي تصورات القلوب والعقول .. فإننا نرى أمرا عظيما حقا. وندرك طرفا من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الليلة : «وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟» ..
لقد فرق فيها من كل أمر حكيم. وقد وضعت فيها من قيم وأسس وموازين. وقد قررت فيها من أقدار أكبر من أقدار الأفراد. أقدار أمم ودول وشعوب. بل أكثر وأعظم .. أقدار حقائق وأوضاع وقلوب! ولقد تغفل البشرية - لجهالتها ونكد طالعها - عن قدر ليلة القدر. وعن حقيقة ذلك الحدث ، وعظمة هذا الأمر. وهي منذ أن جهلت هذا وأغفلته فقدت أسعد وأجمل آلاء اللّه عليها ، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي - سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع «2» - الذي وهبها إياه الإسلام. ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة. فهي شقية ، شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش! لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة ، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى. وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب. فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة إلى عليين ..(1/1546)
ونحن - المؤمنين - مأمورون أن لا ننسى ولا نغفل هذه الذكرى وقد جعل لنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - سبيلا هينا لينا لاستحياء هذه الذكرى في أرواحنا لتظل موصولة بها أبدا ، موصولة كذلك بالحدث الكوني الذي كان فيها. وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كل عام ، ومن تحريها والتطلع إليها في الليالي العشر الأخيرة من رمضان .. في الصحيحين : «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» .. وفي الصحيحين كذلك : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» ..
والإسلام ليس شكليات ظاهرية. ومن ثم قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في القيام في القيام في هذه الليلة أن يكون «إيمانا واحتسابا» .. وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة «إيمانا» وليكون تجردا للّه وخلوصا «واحتسابا» .. ومن ثم تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام. ترتبط بذلك المعنى الذي نزل به القرآن.
والمنهج الإسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير ، ويجعل العبادة وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف عند حدود التفكير.
وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك. وأن الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق بدون مساندة العبادة ، وعن غير طريقها ، لا يقر هذه الحقائق ، ولا يحركها حركة دافعة في حياة الفرد ولا في حياة الجماعة ..
وهذا الربط بين ذكرى ليلة القدر وبين القيام فيها إيمانا واحتسابا ، هو طرف من هذا المنهج الإسلامي الناجح القويم. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3944)(1/1547)
(98) سورة البينة
وردت تسمية هذه السورة في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} . روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بن كعب "إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} " قال: وسماني لك? قال: "نعم" . فبكى فقوله: أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} واضح أنه أراد السورة كلها فسماها بأول جملة فيها، وسميت هذه السورة في معظم كتب التفسير وكتب السنة سورة {لَمْ يَكُنِ} بالاقتصار على أول كلمة منها، وهذا الاسم هو المشهور في تونس بين أبناء الكتاتيب.وسميت في أكثر المصاحف "سورة القيمة" وكذلك في بعض التفاسير. وسميت في بعض المصاحف "سورة البينة".
وذكر في "الإتقان" أنها سميت في مصحف أبي "سورة أهل الكتاب"، أي لقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1]، وسميت سورة "البرية" وسميت "سورة الانفكاك". فهذه ستة أسماء.
واختلف في أنها مكية أو مدنية قال ابن عطية: الأشهر أنها مكية وهو قول جمهور المفسرين. وعن ابن الزبير وعطاء بن يسار هي مدنية.
وعكس القرطبي فنسب القول بأنها مدنية إلى الجمهور وابن عباس والقول بأنها مكية إلى يحيى بن سلام. وأخرج ابن كثير عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي حبة البدري قال: لما نزلت {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى آخرها قال جبريل: يا رسول الله إن الله يأمرك أن تقرئها أبيا" الحديث، أي وأبي من أهل المدينة. وجزم البغوي وابن كثير بأنها مدنية، وهو الأظهر لكثرة ما فيها من تخطئة أهل الكتاب ولحديث أبي حبة البدري، وقد عدها جابر بن زيد في عداد السور المدنية. قال ابن عطية: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما دفع إلى مناقضة أهل الكتاب بالدينة.
وقد عدت المائة وإحدى في ترتيب النزول نزلت بعد سورة الطلاق وقبل سورة الحشر، فتكون نزلت قبل غزوة بني النضير، وكانت غزوة النضير سنة أربع في ربيع الأول فنزول هذه السورة آخر سنة ثلاث أو أول سنة أربع.وعدد آياتها ثمان عند الجمهور، وعدها أهل البصرة تسع آيات.
أغراضها
توبيخ المشركين وأهل الكتاب على تكذيبهم بالقرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم - .
والتعجيب من تناقض حالهم إذ هم ينتظرون أن تأتيهم البينة فلما أتتهم البينة كفروا بها.
وتكذيبهم في ادعائهم أن الله أوجب عليهم التمسك بالأديان التي هم عليها.(1/1548)
ووعيدهم بعذاب الآخرة.
والتسجيل عليهم بأنهم شر البرية.
والثناء على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ووعدهم بالنعيم الأبدي ورضى الله عنهم وإعطائه إياهم ما يرضيهم.
وتخلل ذلك تنويه بالقرآن وفضله على غيره باشتماله على ما في الكتب الإلهية التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل وما فيه من فضل وزيادة. (1)
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة « القدر » التي سبقت هذه السورة تنويها بالليلة المباركة التي نزل فيها القرآن الكريم ، فنالت بشرف نزوله فيها هذا القدر العظيم الذي ارتفعت به على الليالى جميعا .. فالتنويه بليلة القدر هو ـ فى الواقع ـ تنويه بالقرآن الكريم ، وأن الاتصال به يكسب الشرف ويعلى القدر للأزمان والأمكنة والأشخاص. وسورة « البيّنة » تحدّث عن هذا القرآن ، وعن رسول اللّه الحامل لهذا القرآن ، وموقف الكافرين من أهل الكتاب والمشركين ، من القرآن ، والرسول الداعي إلى اللّه بالقرآن .. ومن هنا كان الجمع بين السورتين قائما على هذا الترابط القوىّ ، الذي يجعل منهما وحدة واحدة. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « البينة » ، تسمى - أيضا - سورة « لم يكن ... » وسورة « المنفكين » وسورة « القيمة » وسورة « البرية » ، وعدد آياتها ثماني آيات عند الجمهور ، وعدها قراء البصرة تسع آيات.
2 - وقد اختلف المفسرون في كونها مدنية أو مكية ، وقد لخص الإمام الآلوسى هذا الخلاف فقال : قال في البحر : هي مكية ... وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار : مدنية ... وجزم ابن كثير بأنها مدنية ، واستدل على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد. عن أبى خيثمة البدري قال : لما نزلت هذه السورة ، قال جبريل : يا رسول اللّه ، إن ربك يأمرك أن تقرئها « أبيّا ».فقال - صلى الله عليه وسلم - لأبىّ بن كعب - رضى اللّه عنه - : « إن جبريل أمرنى أن أقرئك هذه السورة ، فقال أبىّ : أو قد ذكرت ثمّ يا رسول اللّه؟ قال : نعم. » فبكى أبىّ.
وقد رجح الإمام الآلوسى كونها مدنية ، فقال : وهذا هو الأصح « 1 ».
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 412)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1638)(1/1549)
وهذا الذي رجحه الإمام الآلوسى هو الذي نميل إليه ، لأن حديثها عن أهل الكتاب ، وعن تفرقهم في شأن دينهم ، يرجح أنها مدنية ، كما أن الإمام السيوطي قد ذكرها ضمن السور المدنية ، وجعل نزولها بعد سورة « الطلاق » وقبل سورة « الحشر » « 2 ».
3 - ومن أهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، توبيخ أهل الكتاب والمشركين ، على إصرارهم على ضلالهم من بعد أن تبين لهم الحق. والتعجيب من تناقض أحوالهم. وبيان أن كفرهم لم يكن بسبب جهلهم ، وإنما بسبب جحودهم وعنادهم وحسدهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - على ما آتاه اللّه من فضله ، والتسجيل عليهم بأنهم شر البرية ، وأن المؤمنين هم خير البرية. (1)
في السورة تقرير لحالة أهل الكتاب والمشركين قبل البعثة وإشارة إلى ما كانوا ينتظرونه من رسول وكتاب من اللّه. ونعي على أهل الكتاب لأنهم قد جاءهم ذلك ثم تنازعوا واختلفوا وبيان لدعوة اللّه وتقرير بأنها لا تتحمل مكابرة ولا اختلافا. وتنديد بالكفار وإنذار لهم وتنويه وبشرى للمؤمنين.
وأسلوبها وانسجامها وتوازنها مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها مدنية نزلت بعد سورة الطلاق. وقد ذكر هذا في معظم روايات ترتيب النزول أيضا «1». وقد روى بعض المفسرين أنها مكية أو أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها «2». وفي مضامينها ما يرجح مدنيتها ، حيث احتوت نعيا على أهل الكتاب لأنهم كفروا بالرسالة المحمدية. وجل الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب ووقفوا من هذه الرسالة موقف المناوأة هم اليهود الذين كانوا في المدينة وكان ذلك منهم في العهد المدني. وهناك آيات مدنية عديدة تلهم أن فئات من النصارى ناظروا النبي ولم يؤمنوا. وإن منهم من كان يصدّ عن سبيل اللّه. وقد مرّ بعضها في سور البقرة وآل عمران والنساء وبعضها في سورتي المائدة والتوبة.
وقد روى المفسرون للسورة أسماء أخرى وهي (لم يكن) و(البرية) و(القيّمة) (2)
سورة البيّنة مدنيّة ، وهي ثماني آيات.
تسميتها : سميت سورة البيّنة لافتتاحها بقوله تعالى : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي مفارقين ما هم عليه من الكفر ، منتهين زائلين عن الشرك ، حتى تأتيهم الحجة الواضحة ، وهي ذلك المنزل الذي يتلوه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وتسمى أيضا سورة البرية ، أو : لَمْ يَكُنِ.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 467)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 347)(1/1550)
مناسبتها لما قبلها :
هذه السورة كالعلة لما قبلها ، فكأنه لما قال سبحانه : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قيل : لم أنزل القرآن؟ فقيل : لأنه لم يكن الذين كفروا منفكّين عن كفرهم ، حتى تأتيهم البينة ، فهي كالعلة لإنزال القرآن ، المشار إليه في سورة القدر المتقدمة.
ما اشتملت عليه السورة :
هذه السورة المدنية تحدثت عن الأمور الثلاثة التالية :
1 - بيان علاقة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركين برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وموقفهم منها ، وإقلاعهم عن كفرهم بسببها : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ... [الآيات 1 - 4].
2 - تحديد الهدف الجوهري من الدين والإيمان وهو إخلاص العبادة للَّه عز وجل : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ .. [5].
3 - توضيح مصير كل من الكفار المجرمين الأشقياء شر البرية ، والمؤمنين الأتقياء السعداء خير البرية : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ .. (1)
وتسمى سورة البرية أو « لم يكن » ، وآياتها ثمان آيات ، وفيها الرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب ، ببيان أن ما جاء به النبي هو الحق ، ثم ذكرت جزاء من بقي على الكفر منهم ، ومن آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . (2)
وتسمى سورة القيامة وسورة البلد وسورة المنفكين وسورة البرية وسورة لم يكن. قال في البحر : مكية في قول الجمهور. وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار : مدنية قاله ابن عطية ، وفي كتاب التحرير مدنية وهو قول الجمهور ، وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية واختاره يحيى بن سلام انتهى. وقال ابن الفرس : الأشهر أنها مكية ورواه ابن مردويه عن عائشة وجزم ابن كثير بأنها مدنية ، واستدل على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه عن أبي خيثمة البدري قال : لما نزلت لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى آخرها قال جبريل عليه السلام : يا رسول اللّه إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي رضي اللّه تعالى عنه : «إن جبريل عليه السلام أمرني أن أقرئك هذه السورة» فقال أبي : أو قد ذكرت ثم يا رسول اللّه؟ قال : «نعم» فبكى وهذا هو الأصح. وآيها تسع في البصري وثمان في غيره. وجاء في فضلها ما أخرجه أبو موسى المديني في المعرفة عن إسماعيل بن أبي حكيم
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 339)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 888)(1/1551)
عن مطر المزني أو المدني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إن اللّه تعالى يسمع قراءة لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا فيقول : أبشر عبدي فوعزتي لا أسألك على حال من أحوال الدنيا والآخرة ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى».
ووجه مناسبتها لما قبلها أن قوله تعالى فيها لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ إلخ كالتعليل لإنزال القرآن كأنه قيل : إنّا أنزلناه لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفا مطهرة وهي ذلك المنزل فلا تغفل. (1)
سورة البينة وتسمى [ سورة لم يكن ] مدنية ، وهي تعالج القضايا الآتية :
1- موقف أهل الكتاب من رسالة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) .
2- موضوع إخلاص العبادة لله جل وعلا.
3- مصير كل من السعداء والأشقياء في الآخرة.
4- تحدثت السورة الكريمة عن موقف اليهود والنصارى ، من دعوة النبى ( - صلى الله عليه وسلم - ) بعد أن كانوا ينتظرون قدومه ، فلما جاءهم بالنور والضياء كانوا أول من كذب برسالته [ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة . . ] الآيات.
* ثم تحدثت السورة عن عنصر هام من عناصر الإيمان ، وهو " إخلاص العبادة " لله العلي الكبير ، الذي أمر به جميع أهل الأديان ، لإفراده جل وعلا بالذكر ، والقصد ، والتوجه في جميع الأقوال والأفعال والأعمال ، خالصة لوجهه الكريم [ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة . . ] الآيات .
* كما تحدثت عن مصير أهل الإجرام - شر البرية - من كفرة أهل الكتاب والمشركين ، وخلودهم في نار الجحيم ، وعن مصير المؤمنين ، أصحاب المنازل العالية - خير البرية - وخلودهم في جنات النعيم ، مع النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، جزاء طاعتهم وإخلاصهم لرب العالمين [ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيا أولئك هم شر البرية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية . . ] الآيات إلى نهاية السورة الكريمة . (2)
سورة الإعلام بأن هذا الكتاب القيم من علو مقداره وجليل آثاره أنه كما أنه لقوم نور وهدى فهو لآخرين وقر وعمى ، فيقود إلى الجنة دار الأبرار ، ويسوق إلا النار دار الأشقياء الفجار ، وعلى ذلك دل
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 424)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 510)(1/1552)
كل من اسمائها " الذين كفروا " " والمنفكين " بتأمل الآية في انقسام الناس إلى أهل الشقاوة وأهل السعادة (1)
هذه السورة معدودة في المصحف وفي أكثر الروايات أنها مدنية. وقد وردت بعض الروايات بمكيتها. ومع رجحان مدنيتها من ناحية الرواية ، ومن ناحية أسلوب التعبير التقريري ، فإن كونها مكية لا يمكن استبعاده.
وذكر الزكاة فيها وذكر أهل الكتاب لا يعتبر قرينة مانعة. فقد ورد ذكر أهل الكتاب في بعض السور المقطوع بمكيتها. وكان في مكة بعض أهل الكتاب الذين آمنوا ، وبعضهم لم يؤمنوا. كما أن نصارى نجران وفدوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة وآمنوا كما هو معروف. وورد ذكر الزكاة كذلك في سور مكية.
والسورة تعرض عدة حقائق تاريخية وإيمانية في أسلوب تقريري هو الذي يرجح أنها مدنية إلى جانب الروايات القائلة بهذا.
والحقيقة الأولى هي أن بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين عما كانوا قد انتهوا إليه من الضلال والاختلاف ، وما كانوا ليتحولوا عنه بغير هذه البعثة :
«لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ : رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» ..
والحقيقة الثانية : أن أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهالة ولا عن غموض فيه ، إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وجاءتهم البينة : «وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ».
والحقيقة الثالثة : أن الدين في أصله واحد ، وقواعده بسيطة واضحة ، لا تدعو إلى التفرق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة : «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ، وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ».
والحقيقة الرابعة : أن الذين كفروا بعد ما جاءتهم البينة هم شر البرية ، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية. ومن ثم يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافا بينا : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها. أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» ..
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 495)(1/1553)
وهذه الحقائق الأربع ذات قيمة في إدراك دور العقيدة الإسلامية ودور الرسالة الأخيرة. وفي التصور الإيماني كذلك. نفصلها فيما يلي : «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ : رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ».
لقد كانت الأرض في حاجة ماسة إلى رسالة جديدة. كان الفساد قد عم أرجاءها كلها بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة ، ومنهج جديد ، وحركة جديدة. وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعا سواء أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرفوها ، أو المشركون في الجزيرة العربية وفي خارجها سواء.
وما كانوا لينفكوا ويتحولوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة ، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته بينة واضحة فارقة فاصلة : «رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً» .. مطهرة من الشرك والكفر «فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» .. والكتاب يطلق على الموضوع ، كما يقال كتاب الطهارة وكتاب الصلاة ، وكتاب القدر ، وكتاب القيامة ، وهذه الصحف المطهرة - وهي هذا القرآن - فيها كتب قيمة أي موضوعات وحقائق قيمة ..
ومن ثم جاءت هذه الرسالة في إبانها ، وجاء هذا الرسول في وقته ، وجاءت هذه الصحف وما فيها من كتب وحقائق وموضوعات لتحدث في الأرض كلها حدثا لا تصلح الأرض إلا به. فأما كيف كانت الأرض في حاجة إلى هذه الرسالة وإلى هذا الرسول فنكتفي في بيانه باقتطاف لمحات كاشفة من الكتاب القيم الذي كتبه الرجل المسلم «السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي» بعنوان : «ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» .. وهو أوضح وأخصر ما قرأناه في موضوعه : جاء في الفصل الأول من الباب الأول : «كان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف. فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون. وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها. وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه ، فنسي نفسه ومصيره ، وفقد رشده ، وقوة التمييز بين الخير والشر ، والحسن والقبيح. وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن ، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم ، أو بقيت ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب ، فضلا عن البيوت ، فضلا عن البلاد. وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة ، ولاذوا بالأديرة والكنائس والخلوات فرارا بدينهم من الفتن ، وضنا بأنفسهم ، أو رغبة إلى الدعة والسكون ، وفرارا من تكاليف الحياة وجدها ، أو فشلا في كفاح الدين والسياسة ، والروح والمادة ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا وعاونهم على إثمهم وعدوانهم ، وأكل أموال الناس بالباطل ...(1/1554)
«أصبحت الديانات العظيمة فريسة العابثين والمتلاعبين ولعبة المجرمين والمنافقين ، حتى فقدت روحها وشكلها ، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام وعسف الحكام ، وشغلت بنفسها لا تحمل للعالم رسالة ، ولا للأمم دعوة ، وأ فلست في معنوياتها ، ونضب معين حياتها ، لا تملك مشرعا صافيا من الدين السماوي ، ولا نظاما ثابتا من الحكم البشري» ..
هذه اللمحة السريعة تصور في إجمال حالة البشرية والديانات قبيل البعثة المحمدية. وقد أشار القرآن إلى مظاهر الكفر الذي شمل أهل الكتاب والمشركين في مواضع شتى ..
من ذلك قوله عن اليهود والنصارى : «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «1»» ..
«وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ ، وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ «2»» ..
وقوله عن اليهود : «وَقالَتِ الْيَهُودُ : يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا. بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ «3»».
وقوله عن النصارى : «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ «4»» .. «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ «5»».
وقوله عن المشركين : «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» .. وغيرها كثير ..
وكان وراء هذا الكفر ما وراءه من الشر والانحطاط والشقاق والخراب الذي عم أرجاء الأرض ... «وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج ، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة ، ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة ، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة ، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء «6»».
ومن ثم اقتضت رحمة اللّه بالبشرية إرسال رسول من عنده يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة. وما كان الذين كفروا من المشركين ومن الذين أوتوا الكتاب ليتحولوا عن ذلك الشر والفساد إلا ببعثة هذا الرسول المنقذ الهادي المبين ...
ولما قرر هذه الحقيقة في مطلع السورة عاد يقرر أن أهل الكتاب خاصة لم يتفرقوا ويختلفوا في دينهم عن جهل أو عن غموض في الدين أو تعقيد. إنما هم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ومن بعد ما جاءتهم البينة من دينهم على أيدي رسلهم :
«وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» ..(1/1555)
وكان أول التفرق والاختلاف ما وقع بين طوائف اليهود قبل بعثة عيسى - عليه السلام - فقد انقسموا شعبا وأحزابا. مع أن رسولهم هو موسى - عليه السلام - وكتابهم هو التوراة. فكانوا طوائف خمسة رئيسية هي طوائف الصدوقيين ، والفريسيين ، والآسيين ، والغلاة ، والسامريين .. ولكل طائفة سمة واتجاه. ثم كان التفرق بين اليهود والنصارى ، مع أن المسيح - عليه السلام - هو أحد أنبياء بني إسرائيل وآخرهم ، وقد جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة ، ومع هذا فقد بلغ الخلاف والشقاق بين اليهود والمسيحيين حد العداء العنيف والحقد الذميم. وحفظ التاريخ من المجازر بين الفريقين ما تقشعر له الأبدان.
«وقد تجدد في أوائل القرن السابع من الحوادث ما بغضهم (أي اليهود) إلى المسيحيين وبغض المسيحيين إليهم ، وشوه سمعتهم. ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس (610 م) أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية ، فأرسل الأمبراطور قائده «ابنوسوس» ليقضي على ثورتهم ، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة ، فقتل الناس جميعا قتلا بالسيف ، وشنقا ، وإغراقا ، وإحراقا ، وتعذيبا ، ورميا للوحوش الكاسرة ... وكان ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة ، قال المقريزي في كتاب الخطط : «وفي أيام (فوقا) ملك الروم ، بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخربوا كنائس القدس ، وفلسطين وعامة بلاد الشام ، وقتلوا النصارى بأجمعهم ، وأتوا إلى مصر في طلبهم ، وقتلوا منهم أمة كبيرة ، وسبوا منهم سبيا لا يدخل تحت حصر. وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم وأقبلوا نحو الفرس من طبرية ، وجبل الجليل ، وقرية الناصرة ومدينة صور ، وبلاد القدس فنالوا من النصارى كل منال وأعظموا النكاية فيهم ، وخربوا لهم كنيستين بالقدس ، وأحرقوا أماكنهم ، وأخذوا قطعة من عود الصليب ، وأسروا بطرك القدس وكثيرا من أصحابه. إلى أن قال - بعد أن ذكر فتح القدس : «فثارت اليهود في أثناء ذلك بمدينة صور ، وأرسلوا بقيتهم في بلادهم ، وتواعدوا على الإيقاع بالنصارى وقتلهم ، فكانت بينهم حرب ، اجتمع فيها من اليهود نحو 20 ألفا وهدموا كنائس النصارى خارج صور.فقوّس النصارى عليهم وكاثروهم فانهزم اليهود هزيمة قبيحة ، وقتل منهم كثير. وكان هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية ، وغلب الفرس بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنه ، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ، ويجدد ما خربه الفرس ، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها ، وقدموا له الهدايا الجليلة وطلبوا منه أن يؤمنهم منه ويحلف لهم على ذلك ، فأمنهم وحلف لهم. ثم دخل القدس ، وقد تلقاهم النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة ، فوجد المدينة وكنائسها خرابا ، فساءه ذلك ، وتوجع لهم ، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس ، وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس ، وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس ، وقاموا قياما كبيرا في قتلهم عن آخرهم ، وحثوا هر قل على الوقيعة بهم(1/1556)
، وحسنوا له ذلك. فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه ، فأفتاه رهبانهم وبطارقتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم ، فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمنهم من غير أن يعلم بما كان منهم ، وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كل سنة عنه على مر الزمان والدهور! فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها ، حتى لم يبق في ممالك الروم في مصر والشام إلا من فر واختفى ..
«وبهذه الروايات يعلم ما وصل إليه الفريقان : اليهود والنصارى ، من القسوة والضراوة بالدم الإنساني ، وتحين الفرص للنكاية في العدو ، وعدم مراعاة الحدود في ذلك» «1».
ثم كان التفرق والاختلاف بين النصارى أنفسهم ، مع أن كتابهم واحد ونبيهم واحد. تفرقوا واختلفوا أولا في العقيدة. ثم تفرقوا واختلفوا طوائف متعادية متنافرة متقاتلة. وقد دارت الخلافات حول طبيعة المسيح - عليه السلام - وعما إذا كانت لاهوتية أو ناسوتية. وطبيعة أمه مريم. وطبيعة الثالوث الذي يتألف منه «اللّه» - في زعمهم - وحكى القرآن قولين منها أو ثلاثة في قوله : «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» .. «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ» «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ : اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؟».
«وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية ، وبين نصارى مصر.
أو بين «الملكانية» ، «المنوفوسية» بلفظ أصح. فكان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح ، وكان المنوفوسيون يعتقدون أن للسيد المسيح طبيعة واحدة هي الإلاهية. التي تلاشت فيها طبيعة المسيح البشرية كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له. وقد اشتد هذا الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع ، حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين ، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى .. كل طائفة تقول للأخرى :
إنها ليست على شيء.
«وحاول الامبراطور هرقل (610 - 641) بعد انتصاره على الفرس (سنة 638) جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها ، وأراد التوفيق ، وتقررت صورة التوفيق أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة السيد المسيح ، وعما إذا كانت له صفة واحدة أم صفتان ، ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن اللّه له إرادة واحدة أو قضاء واحد. وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك ، وصار المذهب المنوثيلي مذهبا رسميا للدولة ، ومن تضمهم من أتباع الكنيسة المسيحية. وصمم هرقل على إظهار المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المخالفة ، متوسلا إلى ذلك بكل الوسائل. ولكن القبط نابذوه العداء ، وتبرأوا من هذه البدعة والتحريف!(1/1557)
وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة. وحاول الامبراطور مرة أخرى توحيد المذاهب وحسم الخلاف فاقتنع بأن يقر الناس بأن اللّه له إرادة واحدة. وأما المسألة الأخرى وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل فأرجأ القول فيه ، ومنع الناس أن يخوضوا في مناظراته. وجعل ذلك رسالة رسمية ، ذهب بها إلى جميع جهات العالم الشرقي. ولكن الرسالة لم تهدئ العاصفة في مصر ، ووقع اضطهاد فظيع على يد قيصر في مصر استمر عشر سنين ، ووقع في خلالها ما تقشعر منه الجلود ، فرجال كانوا يعذبون ثم يقتلون غرقا ، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين إلى الأرض ويوضع السجين في كيس مملوء بالرمل ويرمى في البحر. إلى غير ذلك من الفظائع» «1».
وكان هذا الخلاف كله بين أهل الكتاب جميعا «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» .. فلم يكن ينقصهم العلم والبيان إنما كان يجرفهم الهوى والانحراف.
على أن الدين في أصله واضح والعقيدة في ذاتها بسيطة :«وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» وهذه هي قاعدة دين اللّه على الإطلاق :
عبادة اللّه وحده ، وإخلاص الدين له ، والميل عن الشرك وأهله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة : «وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» .. عقيدة خالصة في الضمير ، وعبادة للّه ، تترجم عن هذه العقيدة ، وإنفاق للمال في سبيل اللّه ، وهو الزكاة .. فمن حقق هذه القواعد ، فقد حقق الإيمان كما أمر به أهل الكتاب ، وكما هو في دين اللّه على الإطلاق. دين واحد. وعقيدة واحدة ، تتوالى بها الرسالات ، ويتوافى عليها الرسل .. دين لا غموض فيه ولا تعقيد. وعقيدة لا تدعو إلى تفرق ولا خلاف ، وهي بهذه النصاعة ، وبهذه البساطة ، وبهذا التيسير. فأين هذا من تلك التصورات المعقدة ، وذلك الجدل الكثير؟
فأما وقد جاءتهم البينة من قبل في دياناتهم على أيدي رسلهم ثم جاءتهم البينة ، حية في صورة رسول من اللّه يتلو صحفا مطهرة ويقدم لهم عقيدة ، واضحة بسيطة ميسرة ، فقد تبين الطريق. ووضح مصير الذين يكفرون والذين يؤمنون : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» ..
إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو الرسول الأخير وإن الإسلام الذي جاء به هو الرسالة الأخيرة.
وقد كانت الرسل تتوالى كلما فسدت الأرض لترد الناس إلى الصلاح. وكانت هناك فرصة بعد فرصة ومهلة بعد مهلة ، لمن ينحرفون عن الطريق فأما وقد شاء اللّه أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة الأخيرة الجامعة الشاملة الكاملة ، فقد تحددت الفرصة الأخيرة ، فإما إيمان فنجاة ، وإما كفر فهلاك. ذلك أن الكفر حينئذ دلالة على الشر الذي لا حد له ، وأن الإيمان دلالة على الخير البالغ أمده.(1/1558)
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها. أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ» حكم قاطع لا جدال فيه ولا محال. مهما يكن من صلاح بعض أعمالهم وآدابهم ونظمهم ما دامت تقوم على غير إيمان ، بهذه الرسالة الأخيرة ، وبهذا الرسول الأخير. لا نستريب في هذا الحكم لأي مظهر من مظاهر الصلاح ، المقطوعة الاتصال بمنهج اللّه الثابت القويم.
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ». حكم كذلك قاطع لا جدال فيه ولا محال. ولكن شرطه كذلك واضح لا غموض فيه ولا احتيال. إنه الإيمان. لا مجرد مولد في أرض تدعى الإسلام ، أو في بيت يقول : إنه من المسلمين. ولا بمجرد كلمات يتشدق بها الإنسان! إنه الإيمان الذي ينشئ آثاره في واقع الحياة : «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ». وليس هو الكلام الذي لا يتعدى الشفاه! والصالحات هي كل ما أمر اللّه بفعله من عبادة وخلق وعمل وتعامل. وفي أولها إقامة شريعة اللّه في الأرض ، والحكم بين الناس بما شرع اللّه. فمن كانوا كذلك فهم خير البرية.
«جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» ..
جنات للإقامة الدائمة في نعيمها الذي يمثله هنا الأمن من الفناء والفوات. والطمأنينة من القلق الذي يعكر وينغص كل طيبات الأرض .. كما يمثله جريان الأنهار من تحتها ، وهو يلقي ظلال النداوة والحياة والجمال! ثم يرتقي السياق درجة أو درجات في تصوير هذا النعيم المقيم : «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» ..
هذا الرضا من اللّه وهو أعلى وأندى من كل نعيم .. وهذا الرضا في نفوسهم عن ربهم. الرضا عن قدره فيهم.
والرضا عن إنعامه عليهم. والرضا بهذه الصلة بينه وبينهم. الرضا الذي يغمر النفس بالهدوء والطمأنينة والفرح الخالص العميق ..
إنه تعبير يلقي ظلاله بذاته .. «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» حيث يعجز أي تعبير آخر عن إلقاء مثل هذه الظلال! «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» ..
وذلك هو التوكيد الأخير. التوكيد على أن هذا كله متوقف على صلة القلب باللّه ، ونوع هذه الصلة ، والشعور بخشيته خشية تدفع إلى كل صلاح ، وتنهى عن كل انحراف .. الشعور الذي يزيح الحواجز ، ويرفع الأستار ، ويقف القلب عاريا أمام الواحد القهار. والذي يخلص العبادة ويخلص العمل من شوائب الرياء والشرك في كل صورة من صوره. فالذي يخشى ربه حقا لا يملك أن يخطر في قلبه ظلا لغيره من خلقه. وهو يعلم أن اللّه يرد كل عمل ينظر فيه العبد إلى غيره معه ، فهو أغنى الشركاء عن الشرك. فإما عمل خالص له ، وإلا لم يقبله.(1/1559)
تلك الحقائق الأربعة الكبيرة هي مقررات هذه السورة الصغيرة ، يعرضها القرآن بأسلوبه الخاص ، الذي يتجلى بصفة خاصة في هذه السور القصار .. (1)
مقاصد السورة
اشتملت هذه السورة الكريمة على مقصدين :
(1) اضطراب الأرض يوم القيامة ودهشة الناس حينئذ.
(2) ذهاب الناس لموقف العرض والحساب ثم مجازاتهم على أعمالهم. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3947)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 220)(1/1560)
(99) سورة الزلزلة
سميت هذه السورة في كلام الصحابة سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ} روى الواحدي في "أسباب النزول" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو ، أَنَّهُ قَالَ : أُنْزِلَتْ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَاعِدٌ ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ " فَقَالَ : أَبْكَانِي هَذِهِ السُّورَةُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَوْ أَنَّكُمْ لَا تُخْطِئُونَ ، وَلَا تُذْنِبُونَ فَيُغْفَرُ لَكُمْ لَخَلَقَ اللَّهُ أُمَّةً مِنْ بَعْدَكُمْ يُخْطِئُونَ وَيُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ " (1)
وفي حديث أنس بن مالك مرفوعا عند الترمذي {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن، وكذلك عنونها البخاري والترمذي.
وسميت في كثير من المصاحف ومن كتب التفسير "سورة الزلزال".
وسميت في مصحف بخط كوفي قديم من مصاحف القيروان "زلزلت" وكذلك سماها في "الإتقان" في السور المختلف في مكان نزولها، وكذلك تسميتها في "تفسير ابن عطية"، ولم يعدها في "الإتقان" في عداد السور ذوات أكثر من أسم فكأنه لم ير هذه ألقابا لها بل جعلها حكاية بعض ألفاظها ولكن تسميتها سورة الزلزلة تسمية بالمعنى لا بحكاية بعض كلماتها.
واختلف فيها فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعطاء والضحاك هي مكية. وقال قتادة ومقاتل: مدنية ونسب إلى ابن عباس أيضا. والأصح أنها مكية واقتصر عليه البغوي وابن كثير ومحمد بن الحسن النيسابوري في تفاسيرهم. وذكر القرطبي عن جابر أنها مكية ولعله يعني: جابر بن عبد الله الصحابي لأن المعروف عن جابر بن زيد أنها مدنية فإنها معدودة في نول السور المدنية فيما روي عن جابر بن زيد. وقال ابن عطية: آخرها وهو {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] الآية نزل في رجلين كانا بالمدينة اهـ. وستعلم أنه لا دلالة فيه على ذلك.
وقد عدت الرابعة والتسعين في عداد نزول السور فيما روي عن جابر بن زيد ونظمه الجعبري وهو بناء على أنها مدنية جعلها بعد سورة النساء وقبل سورة الحديد.
وعدد آيها تسع عند جمهور أهل العدد، وعدها أهل الكوفة ثماني للاختلاف في أن قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6] آيتان أو آية واحدة.
أغراضها
إثبات البعث وذكر أشراطه وما يعتري الناس عند حدوثها من الفزع.
__________
(1) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ(6839 ) حسن(1/1561)
وحضور الناس للحشر وجزائهم على أعمالهم من خير أو شر وهو تحريض على فعل الخير واجتناب الشر. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « البينة » قبل هذه السورة بما يلقى الكافرون ، من عذاب ، خالدين فى النار ، وبما يلقى المؤمنون ، من نعيم ، خالدين فيه خلودا مؤبدا فى الجنة ..
وجاءت سورة الزلزلة محدثة بهذا اليوم الذي يجزى فيه كل من الكافرين والمؤمنين هذا الجزاء الذي يستحقه كل فريق منهم ، فكان عرض هذا اليوم ،وإخراج الناس فيه من قبور هم للحساب والجزاء ـ كان عرض هذا اليوم منظورا إليه من خلال صورتى النار والجنة اللتين تحدث عنهما السورة السابقة ـ كان أبعث المرهبة منه ، والخشية من لقائه. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الزلزلة » وتسمى - أيضا - سورة « إذا زلزلت » وسورة « الزلزال » من السور المكية ، وقيل : هي من السور المدنية.
قال الآلوسى : هي مكية في قول ابن عباس ومجاهد وعطاء ، ومدنية في قول مقاتل وقتادة.
ويبدو لنا أن القول بكونها مكية أرجح ، لأن الحديث عن أهوال يوم القيامة ، يكثر في السور المكية ، ولأن بعض المفسرين - كالإمام ابن كثير - قد اقتصر على كونها مكية ، ولم يذكر في ذلك خلافا.
وعدد آياتها ثماني آيات في المصحف الكوفي ، وتسع آيات في غيره. وسبب ذلك اختلافهم في قوله - تعالى - : يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ هل هو آيتان أو آية واحدة.
2 - والسورة الكريمة من أهم مقاصدها : إثبات أن يوم القيامة حق وبيان ما اشتمل عليه من أهوال ، وتأكيد أن كل إنسان سيجازى على حسب عمله في الدنيا ... (3)
في السورة إنذار بيوم القيامة وهوله وحسابه. وحثّ على الخير وتحذير من الشرّ بصورة عامة. ومن المفسّرين من روى مكيتها وحسب «1» ومنهم من قال إنها من المختلف على مكيته ومدنيته بسبب تعدّد الروايات «2» والطابع المكي قويّ البروز عليها بحيث يسوغ ترجيح مكيّتها إن لم نقل الجزم بذلك ، بل ويلهم أنها من السور المبكرة في النزول. وتكاد تكون هي وسورة القارعة المتفق على مكيتها ونزولها
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 431)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1648)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 475)(1/1562)
مبكرة صورتين متماثلتين. ولقد جاء في حديث رواه الترمذي عن أنس أن قراءة هذه السورة تعدل نصف القرآن وفي حديث آخر عنه أنها تعدل بربع القرآن «3».
وقد يكون التباين من الرواة. وعلى كل حال فقد يكون قصد التذكر بأهوال يوم القيامة والحثّ على الخير واجتناب الشرّ من الحكمة المتوخاة في الحديث واللّه تعالى أعلم. (1)
سورة الزلزلة مدنيّة ، وهي ثماني آيات.
تسميتها : سميت سورة الزلزلة أو الزلزال لافتتاحها بالإخبار عن حدوث الزلزال العنيف قبيل يوم القيامة : إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وهي سورة مدنية ، وقال ابن كثير : هي مكية.
مناسبتها لما قبلها :
لما ذكر اللَّه تعالى في آخر سورة البيّنة وعيد الكافر ووعد المؤمن وأن جزاء الكافرين نار جهنم ، وجزاء المؤمنين جنات ، بيّن هنا وقت ذلك الجزاء وبعض أماراته وهو الزلزلة وإخراج الأرض أثقالها ، فكأنه قيل : متى يكون ذلك؟
فقال : إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي يكون يوم زلزلة الأرض. ثم إنه تعالى أراد أن يزيد في وعيد الكافر ، فقال : أجازيه حينما تزلزل الأرض ، مثل قوله تعالى : يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران 3/ 106]. ثم ذكر ما للطائفتين ، فقال : فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ .. [106] ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ [107]. ثم جمع بينهما هنا في آخر السورة بذكر الذرّة من الخير والشر.
ما اشتملت عليه السورة :
أسلوب هذه السورة المدنية وموضوعها يشبه أسلوب وموضوع السور المكية ، لإخبارها عن أهوال القيامة وشدائدها.
وقد اشتملت على مقصدين :
1 - بيان حدوث الزلزال والاضطراب الشديد للأرض يوم القيامة ، فينهار كل ما عليها ، ويخرج الناس الموتى من بطنها من قبورهم ، وتشهد حينئذ على كل إنسان بما عمل على ظهرها : إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الآيات : 1 - 5].
2 - الحديث عن ذهاب الخلائق لموقف العرض والحساب ، ثم مجازاتهم على أعمالهم ، وقسمتهم فريقين : سعيد إلى الجنة ، وشقي إلى النار : يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً .. [6 - 8].
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (6 / 118)(1/1563)
سبب نزولها : كان الكفار يسألون كثيرا عن الساعة ويوم الحساب ، فيقولون : أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟ [القيامة 75/ 6]. مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ [الملك 67/ 25]. مَتى هذَا الْفَتْحُ؟ «1» [السجدة 32/ 28] ونحو ذلك ، فأبان لهم في هذه السورة علامات القيامة فحسب ، ليعلموا أن علم ذلك عند اللَّه ، ولا سبيل إلى تعيين ذلك اليوم للعرض والحساب والجزاء. (1)
مدنية ، وقيل : إنها مكية. آياتها ثمان آيات ، وفيها أثبت اللّه أن الخير مهما كان سيجازى عليه صاحبه ، وأن الشر مهما كان سيجازى عليه صاحبه ، كل ذلك يوم القيامة. (2)
ويقال سورة إذا زلزلت وهي مكية في قول ابن عباس ومجاهد وعطاء ، ومدنية في قول قتادة ومقاتل.واستدل له في الإتقان بما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه تعالى عنه ، قال : لما نزلت فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة : 7] إلخ قلت : يا رسول اللّه إني لراء عملي؟ قال : «نعم» قلت : تلك الكبار الكبار؟ قال : «نعم» قلت : الصغار الصغار؟ قال : «نعم». قلت : وا تكل أمي؟ قال : «أبشر يا أبا سعيد فإن الحسنة بعشر أمثالها» الحديث . وأبو سعيد لم يكن إلّا بالمدينة ولم يبلغ إلا بعد أحد. وآيها ثمان في الكوفي والمدني الأول وتسع في الباقية وصح في حديث الترمذي والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا : «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن».وجاء في حديث آخر تسميتها ربعا ووجه ما في الأول بأن أحكام القرآن تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة وهذه السورة تشتمل على أحكام الآخرة إجمالا وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وبحديث الأخبار وما في الآخر بأن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان في الحديث الذي رواه الترمذي : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر». وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما يتعلق بهذا المقام ، وكأنه لما ذكر عز وجل في السورة السابقة جزاء الفريقين المؤمنين والكافرين كان ذلك كالمحرك للسؤال عن وقته فبينه جل شأنه في هذه السورة (3)
سورة الزلزلة مدنية ، وهي في أسلوبها تشبه السور المكية ، لما فيها من أهوال وشدائد يوم الفيامة ، وهي هنا تتحدث عن الزلزال العنيف الذي يكون بين يدي الساعة ، حيث يندك كل صرح شامخ ، وينهار كل جبل راسخ ، ويحصل من الأمور العجيبة الغريبة ، ما يندهش له الإنسان ، كإخراج الأرض ما فيها من موتى ، وإلقائها ما في بطنها ، من كنوز ثمينة من ذهب وفضة ، وشهادتها على كل إنسان بما عمل على ظهرها ، تقول : عملت يوم كذا ، كذا وكذا ، وكل هذا من عجائب ذلك اليوم الرهيب ، كما
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 355)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 892)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 433)(1/1564)
تتحدث عن إنصراف الخلائق من أرض المحشر ، إلى الجنة أو النار ، وإنقسامهم إلى فريقين ما بين شفي وسعيد [ فريق في الجنة ، وفريق في السعير ] . (1)
مقصودها انكشاف الأمور ، وظهور المقدور أتم ظهور ، وانقسام الناس في الجزاء في دار البقاء إلى سعادة وشقاء ، وعلى ذلك دل اسمها بتامل الظرف ومظروفه ، وما أفاد من بديع القدر وصروفه (2)
هذه السورة مدنية في المصحف وفي بعض الروايات ومكية في بعض الروايات الأخرى. ونحن نرجح الروايات التي تقول بأنها مكية. وأسلوبها التعبيري وموضوعها يؤيدان هذا.
إنها هزة عنيفة للقلوب الغافلة. هزة يشترك فيها الموضوع والمشهد والإيقاع اللفظي. وصيحة قوية مزلزلة للأرض ومن عليها فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب والوزن والجزاء في بضع فقرات قصار!
وهذا هو طابع الجزء كله ، يتمثل في هذه السورة تمثلا قويا ... (3)
مقاصد السورة
اشتملت هذه السورة الكريمة على مقصدين :
(1) اضطراب الأرض يوم القيامة ودهشة الناس حينئذ.
(2) ذهاب الناس لموقف العرض والحساب ثم مجازاتهم على أعمالهم. (4)
================
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 513)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 504)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3954)
(4) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 220)(1/1565)
(100) سورة العاديات
سميت في المصاحف القيروانية العتيقة والتونسية والمشرقية "سورة العاديات" بدون واو، وكذلك في بعض التفاسير فهي تسمية لما ذكر فيها دون حكاية لفظه. وسميت في بعض كتب التفسير "سورة والعاديات" بإثبات الواو.
واختلف فيها فقال ابن مسعود وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة: هي مكية. وقال أنس بن مالك وابن عباس وقتادة: هي مدنية.
وعدت الرابعة عشرة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد على أنها مكية نزلت بعد سورة العصر وقبل سورة الكوثر. وآيها إحدى عشرة.
ذكر الواحدي في "أسباب النزول" عن مقاتل وعن غيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث خيلا سرية إلى بني كنانة وأمر عليها المنذر بن عمرو انصاري فأسهبت أي أمعنت في سهب وهي الأرض الواسعة شهرا وتأخر خيرهم فارجف المنافقون وقالوا: قتلوا جميعا، فأخبر الله عنهم بقوله: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1] الآيات، إعلاما بأن خيلهم قد فعلت جميع ما في تلك الآيات.
وهذا الحديث قال في "الإتقان" رواه الحاكم وغيره. وقال أبن كثير: روى أبو بكر البزاز هنا حديثا غريبا جدا وساق الحديث قريبا مما للواحدي.
وأقول غرابة الحديث لا تناكد قبوله وهو مروي عن ثقات إلا أن في سنده حفص بن جميع وهو ضعيف. فالراجع أن السورة مدنية.
أغراضها
ذم خصال تفضي بأصحابها إلى الخسران في الآخرة، وهي خصال غالية على المشركين والمنافقين، ويراد تحذير المسلمين منها.
ووعظ الناس بأن وراءهم حسابا على أعمالهم بعد الموت ليتذكره المؤمن ويهدد به الجاحد. وأكد ذلك كله بأن افتتح بالقسم، وأدمج في القسم التنويه بخيل الغزاة أو رواحل الحجيج (1) .
مناسبتها لما قبلها
الزلزلة التي تزلزلها الأرض يوم البعث ، وإخراج الأرض أثقالها وما فى جوفها من الموتى ، وصدور الناس أشتاتا من القبور إلى موقف الحشر ، والمواجهة هناك بين الكافرين والمؤمنين ـ كل هذا تمثله صورة واقعة
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 438)(1/1566)
فى الحياة ، نجدها حين تقوم حالة حرب بين الناس ، فتزلزل الأرض تحت أقدام الجيوش الزاحفة نحو ساحة القتال ، بما يركبون من خيل ، وما يحملون من عدد القتال ، وهم يصدرون من بيوتهم فى سرعة الرياح العاصفة إلى لقاء العدو ، لا يمسكهم شىء عن الانطلاق حتى يبلغوا ساحة الحرب ..
قوم إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا
هكذا يوم الحرب .. إنه من يوم القيامة قريب فى أهواله ، وشدائده ، وما يلقى الناس منه ، من هول وشدة.ففى ميدان الحرب ، حساب وجزاء ، وربح وخسران ، وهول وفزع ، يشمل المحاربين جميعا.فالحرب ، وميدانها فى الدنيا ، هى أقرب شىء يمثّل به المحشر ، والحساب ، والجزاء فى الآخرة ..ولهذا جاءت سورة العاديات تالية سورة الزلزلة ، لهذه المشابه التي بينهما. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « العاديات » وتسمى - أيضا - سورة « والعاديات » بإثبات الواو ، يرى بعضهم أنها من السور المكية ، ولم يذكر في ذلك خلافا الإمام ابن كثير ، ويرى بعضهم أنها مدنية.
قال الآلوسى : مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء. ومدنية في قول أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس. فقد أخرج عنه البزار ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، والدّارقطنيّ ، وابن مردويه أنه قال : بعث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - خيلا ، فاستمرت شهرا لا يأتيه منها خبر ، فنزلت هذه السورة ... « 1 ».
وهذه الرواية التي ساقها الآلوسى وغيره في سبب نزول هذه السورة ، ترجح أنها مدنية ، وإن كان كثير من المفسرين يرى أنها مكية ، والعلم عند اللّه - تعالى - .
2 - وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، ومن أهم أغراضها ومقاصدها ، التنويه بشأن الجهاد والمجاهدين ، وبفضل الخيل التي تربط من أجل إعلاء كلمة اللّه - تعالى - وبيان ما جبل عليه الإنسان من حرص على منافع الدنيا. وتحريض الناس على أن يتزودوا بالعمل الصالح الذي ينفعهم يوم الحساب. (2)
تتضمن السورة تنديدا بجحود الإنسان واستغراقه في حب المال وتذكيرا بالآخرة وإحاطة اللّه بأعمال الناس. وأسلوبها عرض عام للدعوة كسابقتها. وقد روي «1» أنها مدنية والجمهور على أنها مكية وأسلوبها وتبكير نزولها مما يؤيد مكيتها. (3)
سورة العاديات مكيّة ، وهي إحدى عشرة آية.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1653)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 481)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 7)(1/1567)
تسميتها : سميت سورة العاديات لأن اللَّه افتتحها بالقسم بالعاديات : وهي خيل المجاهدين المسرعة في لقاء العدو.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر المناسبة بين السورتين من وجهين :
1 - هناك تناسب وعلاقة واضحة بين قوله تعالى في الزلزلة : وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [2] وقوله في هذه السورة : إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ.
2 - لما ختمت السورة السابقة ببيان الجزاء على الخير والشر ، وبّخ اللَّه تعالى الإنسان على جحوده نعم ربه ، وإيثاره الحياة الدنيا على الآخرة ، وترك استعداده للحساب في الآخرة بفعل الخير والعمل الصالح ، وترك الشر والعصيان.
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت هذه السورة المكية مقاصد ثلاثة :
1 - القسم الإلهي بخيل المجاهدين على أن الإنسان كفور جحود لنعم ربه عليه ، وأنه مقدر شاهد على ذلك : وَالْعادِياتِ ضَبْحاً .. [1 - 7].
2 - التحدث عن غريزة الإنسان في حبه الشديد للثروة والمال : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [8].
3 - الحض على فعل الخير والعمل الصالح الذي ينفع الإنسان حين رجوع الخلائق إلى اللَّه للحساب والجزاء ، والتهديد بالعقاب الشديد يوم القيامة :أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ .. [9 - 11]. (1)
مكية ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، وفيها يقسم اللّه على أن الإنسان الذي أنعم عليه كفور جحود ، وأنه شهيد على ذلك ، وأنه محب للمال بخيل ، ثم هدده بالعقاب الشديد يوم القيامة. (2)
مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء ، مدنية في قول أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس ، وقد أخرج عنه البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والدار قطني في الافراد وابن مردويه أنه قال : بعث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - خيلا فاستمرت شهرا لا يأتيه منها خبر ، فنزلت وَالْعادِياتِ إلخ. وآيها احدى عشرة آية بلا خلاف. وأخرج أبو عبيد في فضائله من مرسل الحسن أنها تعدل بنصف القرآن. وأخرج ذلك محمد بن نصر من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعا ولم أقف على سره. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها الجزاء على الخير والشر وأتبع ذلك فيها بتعنيت من اثر دنياه على آخرته ولم يستعد لها
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 366)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 894)(1/1568)
بفعل الخير. ولا يخفى ما في قوله تعالى هناك وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة : 2] وقوله سبحانه هنا إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ [العاديات : 9] من المناسبة أو العلاقة على ما سمعت من أن المراد بالأثقال ما في جوفها من الأموات أو ما يعمهم والكنوز. (1)
* سورة العاديات مكية ، وهي تتحدث عن خيل المجاهدين في سبيل الله ، حين تغير على الأعداء ، فيسمع لها عند عدوها بسرعة صوت شديد ، وتقدح بحوافرها الحجارة فيتطأير منها النار ، وتثير التراب والغبار
* وقد بدأت السورة الكريمة ، بالقسم بخيل الغزاة - إظهارا لشرفها وفضلها عند الله - على أن الإنسان كفور لنعمة الله تعالى عليه ، جحود لآلائه وفيوض نعمائه ، وهو معلن لهذا الكفران والجحود ، بلسان حاله ومقاله ، كما تحدثت عن طبيعة الإنسان وحبه الشديد للمال
* وختمت السورة الكريمة ببيان أن مرجع الخلائق إلى الله للحساب والجزاء ، ولا ينفع في الآخرة مال ولا جاه ، وإنما ينفع الأيمان والعمل الصالح (2)
مقصودها اإعلام بأن أكثر الخلق يوم الزلزلة هالك لإيثار الفاني من العز والمال على الباقي عند ذي الجلال ، المدلول عليه بالقسم وه والعاديلت والمقسم عليه وما عطف عليه ، وقد علم أن اسمها أدل شيء على ذلك لما هدى إليه القسم والمقسم عليه (3)
يجري سياق هذه السورة في لمسات سريعة عنيفة مثيرة ، ينتقل من إحداها إلى الأخرى قفزا وركضا ووثبا ، في خفة وسرعة وانطلاق ، حتى ينتهي إلى آخر فقرة فيها فيستقر عندها اللفظ والظل والموضوع والإيقاع! كما يصل الراكض إلى نهاية المطاف! وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة ، القادحة للشرر بحوافرها ، المغيرة مع الصباح ، المثيرة للنقع وهو الغبار ، الداخلة في وسط العدو فجأة تأخذه على غرة ، وتثير في صفوفه الذعر والفرار! يليه مشهد في النفس من الكنود والجحود والأثرة والشح الشديد! ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور! وفي الختام ينتهي النقع المثار ، وينتهي الكنود والشح ، وتنتهي البعثرة والجمع .. إلى نهايتها جميعا. إلى اللّه.فتستقر هناك : «إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» ...
والإيقاع الموسيقي فيه خشونة ودمدمة وفرقعة ، تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة ، والصدور المحصل ما فيها بشدة وقوة ، كما تناسب جو الجحود والكنود ، والأثرة والشح الشديد .. فلما أراد لهذا كله إطارا مناسبا ، اختاره من الجو الصاخب المعفر كذلك ، تثيره الخيل العادية في جريها ،
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 441)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 515)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 508)(1/1569)
الصاخبة بأصواتها ، القادحة بحوافرها ، المغيرة فجاءة مع الصباح ، المثيرة للنقع والغبار ، الداخلة في وسط العدو على غير انتظار ... فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار (1)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3957)(1/1570)
(101) سورة القارعة
اتفقت المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة على تسمية هذه السورة "سورة القارعة" ولم يرو شيء في تسميتها من كلام الصحابة والتابعين.
واتفق على أنها مكية.
وعدت الثلاثين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة قريش وقبل سورة القيامة.
وآيها عشر في عد أهل المدينة وأهل مكة، وثمان في عد أهل الشام والبصرة، وإحدى عشرة في عد أهل الكوفة.
أغراضها
ذكر فيها إثبات وقوع البعث وما يسبق ذلك من الأهوال.
وإثبات الجزاء على الأعمال وأن أهل الأعمال الصالحة المعتبرة عند الله في نعيم، وأهل الأعمال السيئة التي لا وزن لها عند الله في قعر الجحيم. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « العاديات » بقوله تعالى : « أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ». . وفيها دعوة إلى الناس أن يحاسبوا أنفسهم فى الدنيا ، قبل يوم الحساب والجزاء فى الآخرة .. وجاءت سورة القارعة تقرع الناس بهذا اليوم ، يوم الجزاء ، وتدعوهم إلى الحساب والجزاء ، بعد أن أخذوا الفرصة الممكّنة لهم من حساب أنفسهم ، وإعدادها لهذا اليوم .. (2)
مقدمة وتمهيد
سورة « القارعة » من السور المكية الخالصة ، وكان نزولها بعد سورة « قريش » ، وقبل سورة « القيامة » ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية في المصحف الكوفي ، وعشر آيات في الحجازي ، وثماني آيات في البصري والشامي.
وهي من السور التي فصلت الحديث عن أهوال يوم القيامة ، لكي يستعد الناس لاستقباله ، بالإيمان والعمل الصالح. (3)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 448)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1660)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 487)(1/1571)
في السورة إنذار بهول القيامة وبيان مصير المحسنين والمسيئين فيها ، وأسلوبها عام وليس فيها إشارة إلى موقف معين ، فهي من نوع سور الليل والشمس والأعلى وأخواتها. (1)
سورة القارعة مكيّة ، وهي إحدى عشرة آية.
تسميتها :سميت سورة القارعة لبدء السورة بها تهويلا وتخويفا ، كابتداء سورة الحاقة ، والقارعة من أسماء يوم القيامة كالحاقة والطامّة والصاخّة والغاشية ونحو ذلك. وسميت بهذا لأنها تقرع القلوب بهولها.
مناسبتها لما قبلها :
ختمت السورة السابقة بوصف يوم القيامة : أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ وأعقبتها هذه السورة برمّتها بالحديث عن القيامة ووصفها الرهيب وأهوالها المخيفة.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة المكية التخويف بأهوال القيامة ، وهي كلها تدور حول الموضوع نفسه.
فقد بدأت بالحديث عن أهوال القيامة وشدائدها ، وانتشار الناس فيها من قبورهم كالفراش المتطاير : الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ .. [1 - 4].
ثم أشارت إلى بعض أمارات الساعة وهو نسف الجبال وجعلها كالصوف المندوف ، مما يوجد الذعر والهلع والتأثر الشديد في قلوب الناس : وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [5].
وكانت خاتمتها الإخبار عن نصب موازين الحساب التي توزن بها أعمال الناس ، فثقيل الميزان بالحسنات إلى الجنة ، وخفيف الميزان بالسيئات إلى النار : فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ .. [6 - 11]. (2)
وهي مكية ، وآياتها إحدى عشرة آية ، وفيها يصف بعض مناظر يوم القيامة. (3)
* سورة القارعة مكية ، وهي تتحدث عن القيامة وأهوالها ، والآخرة وشدائدها ، وما يكون فيها من أحداث وأهوال عظام ، كخروج الناس من القبور ، وإنتشارهم في ذلك اليوم الرهيب ، كالفراش المتطاير ، المنتشر هنا وهناك ، يجيئون ويذهبون على غير نظام ، من شدة حيرتهم وفزعهم في ذلك اليوم العصيب .
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 182)
(2) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 374)
(3) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 896)(1/1572)
* كما تحدثت عن نسف الجبال وتطايرها ، حتى تصبح كالصوف المنبث المتطاير في الهواء ، بعد أن كانت صلبة راسخة فوق الأرض ، وقد قرنت بين الناس والجبال ، تنبيها على تأثير تلك القارعة في الجبال ، حتى صارت كالصوف المندوف ، فكيف يكون حال البشر في ذلك اليوم العصيب ؟
*وختمت السورة الكريمة بذكر الموازين التي توزن بها أعمال الناس ، وإنقسام الخلق إلى سعداء وأشقياء ، حسب ثقل الموازين وخفتها ، وسميت السورة الكريمة بالقارعة ، لأنها تقرع القلوب والأسماع بهولها وشدائدها (1)
مقصودها إيضاح يوم الدين بتصوير ثواني أحواله في مبدئه ومآله ، وتقسيم الناس فيه إلى ناج وهالك ، واسمها القارعة واضح في ذلك (2)
القارعة : القيامة. كالطامة ، والصاخة ، والحاقة ، والغاشية. والقارعة توحي بالقرع واللطم ، فهي تقرع القلوب بهولها.
والسورة كلها عن هذه القارعة. حقيقتها. وما يقع فيها. وما تنتهي إليه .. فهي تعرض مشهدا من مشاهد القيامة.
والمشهد المعروض هنا مشهد هول تتناول آثاره الناس والجبال. فيبدو الناس في ظله صغارا ضئالا على كثرتهم : فهم «كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» مستطارون مستخفون في حيرة الفراش الذي يتهافت على الهلاك ، وهو لا يملك لنفسه وجهة ، ولا يعرف له هدفا!
وتبدو الجبال التي كانت ثابتة راسخة كالصوف المنفوش تتقاذفه الرياح وتعبث به حتى الأنسام! فمن تناسق التصوير أن تسمى القيامة بالقارعة ، فيتسق الظل الذي يلقيه اللفظ ، والجرس الذي تشترك فيه حروفه كلها ، مع آثار القارعة في الناس والجبال سواء! وتلقي إيحاءها للقلب والمشاعر ، تمهيدا لما ينتهي إليه المشهد من حساب وجزاء! (3)
================
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 517)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 513)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3960)(1/1573)
(102) سورة التكاثر
قال الآلوسي أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمونها "المقبرة" اه.
وسميت في معظم المصاحف ومعظم التفاسير "سورة التكاثر" وكذلك عنونها الترمذي في "جامعه" وهي كذلك معنونة في بعض المصاحف العتيقة بالقيروان. وسميت في بعض المصاحف "سورة ألهاكم" وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه".
وهي مكية عند الجمهور قال ابن عطية: هي مكية لا أعلم فيها خلافا.
وعن ابن عباس والكلبي ومقاتل: إنها نزلت في مفاخرة جرت بين بني عبد مناف وبني سهم في الإسلام كما يأتي قريبا وكانوا من بطون قريش بمكة ولأن قبور أسلافهم بمكة.
وفي "الإتقان": المختار: أنها مدنية. قال: ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار تفاخروا، وما أخرجه البخاري عن أبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب" . قال أبي: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] اهـ. يريد المستدل بهذا أن أبيا أنصاري وأن ظاهر قوله: حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، أنها نزلت بعد أن كانوا يعدون "لو أن لابن آدم واديا من ذهب الخ من القرآن" وليس في كلام أبي دليل ناهض إذ يجوز أن يريد بضمير كنا المسلمين، أي كان من سبق منهم يعد ذلك من القرآن حتى نزلت سورة التكاثر وبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ما كانوا يقولونه ليس بقرآن.
والذي يظهر من معاني السورة وغلظة وعيدها أنها مكية وأن المخاطب بها فريق من المشركين لأن ما ذكر فيها لا يليق بالمسلمين أيامئذ.
وسبب نزولها فيما قال الواحدي والبغوي عن مقاتل والكلبي والقرطبي عنهما وعن ابن عباس: أن بني عبد مناف وبني سهم من قريش تفاخروا فتعادوا السادة والأشراف من أيهم أكثر عددا فكثر بنو عبد مناف بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بريدة الجرمي قال: نزلت في قبيلتين من الأنصار بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا بالأحياء ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان، تشير إلى القبر. ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} .(1/1574)
وقد عدت السادسة عشرة في ترتيب نزول السور، ونزلت بعد سورة الكوثر وقبل سورة الماعون بناء على أنها مكية.وعدد آيتها ثمان.
أغراضها
اشتملت على التوبيخ على اللهو عن النظر في دلائل القرآن ودعوة الإسلام بإيثار المال والتكاثر به والتفاخر بالأسلاف وعدم الإقلاع عن ذلك إلى أن يصيروا في القبور كما صار من كان قبلهم وعلى الوعيد على ذلك.
وحثهم على التدبير فيما ينجيهم من الجحيم.
وأنهم مبعوثون ومسؤولون عن إهمال شكر المنعم العظيم. (1)
مناسبتها لما قبلها
الحديث فى هذه السورة ، متصل بما قبلها من الحديث عن القيامة ، وعما يذهل الناس عنها ، ويشغلهم عن الإعداد لها .. وهو المال والتكاثر منه. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « التكاثر » من السور المكية ، وسميت في بعض المصاحف سورة « ألهاكم » وكان بعض الصحابة يسمونها « المقبرة ».
قال القرطبي : وهي مكية في قول المفسرين. وروى البخاري أنها مدنية وهي ثماني آيات.
وقد ذكروا في سبب نزولها روايات منها : ما روى عن ابن عباس أنها نزلت في حيين من قريش ، بنى عبد مناف. وبنى سهم ، تكاثروا بالسادة والأشراف في الإسلام ، فقال كل حي منهم : نحن أكثر سيدا ، وأعز نفرا ... فنزلت هذه السورة ... « 1 ».
2 - ومن أغراض السورة الكريمة : النهى عن التفاخر والتكاثر ، والحض على التزود بالعمل الصالح ، وعلى ما ينجى من العذاب ، والتأكيد على أن يوم القيامة حق ، وعلى أن الحساب حق ، وعلى أن الجزاء حق ... (3)
في السورة تنديد بالمستغرقين في الدنيا ومالها ونعيمها. وإنذار لهم بالآخرة. وهي عامة العرض والتوجيه. وقد روي أنها مدنية. وأسلوبها ومضمونها يحمل على الشك في ذلك. وقد سلكتها التراتيب المروية في سلك السور المكية. (4)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 455)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1664)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 493)
(4) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 15)(1/1575)
سورة التكاثر مكيّة ، وهي ثماني آيات.
تسميتها :سميت سورة التكاثر لقوله تعالى : أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ أي شغلكم التفاخر بالأموال والأولاد والأعوان.
مناسبتها لما قبلها :
أخبرت سورة القارعة عن بعض أهوال القيامة ، وجزاء السعداء والأشقياء ، ثم ذكر في هذه السورة علة استحقاق النار وهو الانشغال بالدنيا عن الدين ، واقتراف الآثام ، وهددت بالمسؤولية في الآخرة عن أعمال الدنيا.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة المكية ذم العمل للدنيا فقط ، والتحذير من ترك الاستعداد للآخرة. لذا تناولت مقاصد ثلاثة :
1 - بيان انشغال الناس بملذات الحياة ومغرياتها ، والغفلة حتى يأتي الموت :أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ [1 - 2].
2 - الإنذار بالسؤال عن جميع الأعمال في القيامة : كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [3 - 4].
3 - التهديد برؤية الجحيم يقينا ، ومجابهة أهوال النار ، والسؤال عن نعيم الدنيا : كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ .. [5 - 8]. (1)
مكية ، وآياتها ثمان آيات ، وفيها يحذرنا اللّه عاقبة التكاثر في المال والجاه ، ويخبر أن عذاب العصاة واقع لا محالة ، وأن جهنم حق لا شك فيها ، وأنكم ستسألون عن نعيم الدنيا. (2)
كان أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كما أخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن أبي هلال يسمونها المقبرة وهي مكية. قال أبو حيان عند جميع المفسرين. وقال الجلال السيوطي : على الأشهر ويدل لكونها مدنية وهو المختار ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي بريدة فيها. قال : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار في بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما : فيكم مثل فلان وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك تفاخروا بالأحياء ثم قالوا :
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 381)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 898)(1/1576)
انطلقوا بناء إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول فيكم مثل فلان؟ تشير إلى القبر ومثل فلان ، وفعل الآخرون مثل ذلك فأنزل اللّه تعالى أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ إلخ. وأخرج البخاري وابن جرير عن أبي بن كعب قال : كنا نرى هذا من القرآن «لو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ثم يتوب اللّه على من تاب» حتى نزلت ألهاكم التكاثر. إلخ. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عليّ كرم اللّه تعالى وجهه ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ وعذاب القبر لم يذكر إلّا في المدينة كما في الصحيح في قصة اليهودية انتهى. ولقوة الأدلة على مدنيتها قال بعض الأجلّة إنه الحق. وآيها ثمان بالاتفاق وهي تعدل ألف آية من القرآن.
أخرج الحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟» قالوا : ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية؟ قال : «أما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر»؟
وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه. قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «من قرأ في ليلة ألف آية لقي اللّه تعالى وهو ضاحك في وجهه» فقيل : يا رسول اللّه من يقوى على ألف آية؟ فقرأ سورة ألهاكم التكاثر إلى آخرها ثم قال عليه الصلاة والسلام : «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ألف آية».
وذكر ناصر الدين بن الميلق في سر ذلك أن القرآن ستة آلاف ومائتا آية وكسر ، فإذا تركنا الكسر كان الألف سدس القرآن وهذه السورة تشتمل على سدس من مقاصد القرآن فإنها على ما ذكره الغزالي ستة ثلاثة مهمة وهي تعريف المدعو إليه وتعريف الصراط المستقيم وتعريف الحال عند الرجوع إليه عز وجل ، وثلاثة متمة وهي تعريف أحوال المطيعين وحكاية أقوال الجاحدين وتعريف منازل الطريق وأحدها معرفة الآخرة المشار إليه بتعريف الحال عند الرجوع إليه تعالى المشتمل عليه السورة. والتعبير على هذا المعنى بألف آية أفخم وأجل من التعبير بالسدس انتهى. والأمر واللّه تعالى أعلم وراء ذلك ومناسبتها لما قبلها ظاهرة. (1)
* سورة التكاثر مكية ، وهي تتحدث عن انشغال الناس بمغريات الحياة ، وتكالبهم على جمع حطام الدنيا ، حتى يقطع الموت عليهم متعتهم ، ويأتيهم فجأة وبغتة ، فينقلهم من القصور إلى القبور . الموت يأتي بغتة والقبرصندوق العمل ، وقد تكرر في هذه السورة (الزجر والإنذار) تخويفا للناس ، وتنبيها لهم على خطئهم ، باشتغالهم بالفانية عن البافية [ كلا سوف تعلمون ، ثم كلا سوف تعلمون ] .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 451)(1/1577)
* وختمت السورة الكريمة ببيان المخاطر والأهوال التي سيلقونها في الآخرة ، والتي لا يجوزها ولا ينجو منها إلا المؤمن ، الذي قدم صالح الأعمال. (1)
مقصودها التصريح بما أشارت إليه العاديات من أن سبب الهلاك يوم الجمع. الذي صورته القارعة. الجمع للمال ، والإخلاد إلى دار الزوال ، واسمها واضح الدلالة على ذلك (2)
هذه السورة ذات إيقاع جليل رهيب عميق وكأنما هي صوت نذير ، قائم على شرف عال. يمد بصوته ويدوي بنبرته. يصيح بنوّم غافلين مخمورين سادرين ، أشرفوا على الهاوية وعيونهم مغمضة ، وحسهم مسحور.فهو يمد بصوته إلى أعلى وأبعد ما يبلغ : «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ» ..
أيها السادرون المخمورون. أيها اللاهون المتكاثرون بالأموال والأولاد وأعراض الحياة وأنتم مفارقون. أيها المخدوعون بما أنتم فيه عما يليه. أيها التاركون ما تتكاثرون فيه وتتفاخرون إلى حفرة ضيقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر .. استيقظوا وانظروا .. فقد «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ»....
وتنتهي ومضة الحياة الدنيا وتنطوي صفحتها الصغيرة .. ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء. فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد ..
وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة ، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها ، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها .. حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض ، ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلا في الطريق!
ثم ينشئ يحاسب نفسه على الصغير والزهيد!!! (3)
================
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 519)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 516)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3962)(1/1578)
(103) سورة العصر
ذكر ابن كثير أن الطبراني روى بسنده عن عبيد الله بن حصين قال كان الرجلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر الخ ما سيأتي.
وكذلك تسميتها في مصاحف كثيرة وفي معظم كتب التفسير وكذلك هي في مصحف عتيق بالخط الكوفي من المصاحف القيروانية في القرن الخامس.
وسميت في بعض كتب التفسير وفي "صحيح البخاري" "سورة العصر" بإثبات الواو على حكاية أول كلمة فيها، أي سورة هذه الكلمة.
وهي مكية في قول الجمهور وإطلاق جمهور المفسرين. وعن قتادة ومجاهد ومقاتل أنها مدنية. وروي عن ابن عباس ولم يذكرها صاحب "الإتقان" في عداد السور المختلف فيها.
وقد عدت الثالثة عشرة في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الانشراح وقبل سورة العاديات.وآيها ثلاث آيات.
وهي إحدى سور ثلاث هن أقصر السور عدد آيات: هي والكوثر وسورة النصر.
أغراضها
واشتملت على إثبات الخسران الشديد لأهل الشرك ومن كان مثلهم من أهل الكفر بالإسلام بعد أن بلغت دعوته، وكذلك من تقلد أعمال الباطل التي حذر الإسلام المسلمين منها.
وعلى إثبات نجاة وفوز الذين آمنوا وعملوا الصالحات والداعين منهم إلى الحق.
وعلى فضيلة الصبر على تزكية النفس ودعوة الحق.
وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذوها شعارا لهم في ملتقاهم. روى الطبراني بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله بن الحصين الأنصاري من التابعين أنه قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها ثم يسلم أحدهما على الآخر أي سلام التفرق وهو سنة أيضا مثل سلام القدوم.
وعن الشافعي: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم. وفي رواية عنه: لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم. وقال غيره: إنها شملت جميع علوم القرآن. وسيأتي بيانه. (1)
مناسبتها لما قبلها
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 463)(1/1579)
الإنسان الذي ألهاه التكاثر بالأموال ، والتفاخر بالجاه والسلطان ، دون أن يتزود للآخرة بزاد الإيمان والتقوى ، هو هذا الإنسان الخاسر .. وأي خسران أكثر من أنه اشترى الدنيا بالآخرة ؟ وهذا ما جاءت سورة العصر لتقرره .. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « العصر » وتسمى سورة « والعصر » من السور المكية عند جمهور المفسرين ، وكان نزولها بعد سورة « الانشراح » وقبل سورة « العاديات » فهي السورة الثالثة عشرة في ترتيب النزول.
وقيل هي مدنية ، والمعول عليه الأول ، لأنه المنقول عن ابن عباس وابن الزبير وغيرهما ، وعدد آياتها ثلاث آيات.
2 - وقد اشتملت على بيان من هم أهل الخسران ، ومن هم أهل السعادة.
قال الآلوسى : وهي على قصرها جمعت من العلوم ما جمعت ، فقد روى عن الشافعى أنه قال : لو لم ينزل من القرآن غير هذه السورة لكفت الناس ، لأنها شملت جميع علوم القرآن.
وأخرج الطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الشعب عن أبى حذيفة - وكانت له صحبة - أنه قال : كان الرجلان من أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يتفرقا ، حتى يقرأ أحدهما على الآخر ، سورة « والعصر » ثم يسلم أحدهما على الآخر ... أى : عند المفارقة « 1 ». (2)
احتوت السورة توكيدا حاسما بأن لا فلاح للإنسان إلّا بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر. وأسلوبها يدل على أنها من أوائل السور نزولا مثل الليل والأعلى وغيرهما ، لأنها احتوت مبادئ عامة محكمة من مبادئ الدعوة. وقد ذكرت بعض الروايات «1» أنها مدنية ، غير أن أسلوبها يدل على مكيتها وهو ما عليه الجمهور. (3)
سورة العصر مكيّة ، وهي ثلاث آيات.
تسميتها : سميت سورة العصر لقسم اللَّه به في مطلعها بقوله : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ وَالْعَصْرِ : الدهر ، لاشتماله على الأعاجيب ، من سرّاء وضرّاء ، وصحة وسقم ، وغنى وفقر ، وعز وذل ، وانقسامه إلى أجزاء : سنة وشهر ويوم وساعة ودقيقة وثانية.مناسبتها لما قبلها :
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1667)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 499)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 561)(1/1580)
لما بيّن في السورة المتقدمة أن الاشتغال بأمور الدنيا والتهالك عليها مذموم ، أراد أن يبين في هذه السورة ما يجب الاشتغال به من الإيمان والأعمال الصالحات ، وهو ما يعود إلى النفس ، ومن التواصي بالخيرات وكفّ النفس عن المناهي أو المعاصي ، وهو ما يعود إلى المجتمع. والخلاصة : بعد أن قال : أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ وهدد بتكرار : كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ بيّن حال المؤمن والكافر.
ما اشتملت عليه السورة :
هذه السورة المكية الموجزة توضح أصول الإسلام الكبرى ، ودستور الحياة الإنسانية.
فقد أقسم اللَّه تعالى بالعصر الذي هو الدهر أو الزمان المشتمل على العجائب والدال على قدرة اللَّه وحكمته البالغة على خسارة الإنسان إلا من اتصف بالأوصاف الأربعة ، وهي : الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي مع الآخرين بالحق ، والتواصي بالصبر والمصابرة. (1)
مكية. وآياتها ثلاث آيات. وفيها القسم على أن الإنسان لفي خسر وضلال إلا من عصمه اللّه من المؤمنين العاملين الذين تواصوا بالحق والصبر. (2)
مكية في قول ابن عباس وابن الزبير والجمهور ، ومدنية في قول مجاهد وقتادة ومقاتل. وآيها ثلاث بلا خلاف وهي على قصرها جمعت من العلوم ما جمعت فقد روي عن الشافعي عليه الرحمة أنه قال : لو لم ينزل غير هذه السورة لكفت الناس لأنها شملت جميع علوم القرآن. وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن أبي حذيفة وكانت له صحبة ، قال : كان الرجلان من أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة والعصر ثم يسلم أحدهما على الآخر. وفيها إشارة إلى حال من لم يلهه التكاثر ولذا وضعت بعد سورته. (3)
* سورة العصر مكية ، وقد جاءت في غاية الإيجاز والبيان ، لتوضيح سبب سعادة الإنسان أو شقاوته ، ونجاحه في هذه الحياة أو خسرانه ودماره.
* أقسم تعالى بالعصر وهو الزمان الذي ينتهى فيه عمر الإنسان ، وما فيه من أصناف العجائب ، والعبر الدالة على قدرة الهت وحكمته ، على أن جنس الإنسان في خسارة ونقصان ، إلا من اتصف بالأوصاف الأربعة وهى (الإيمان ) و(العمل الصالح ) و(التواصي بالحق ) و(الإعتصام بالصبر) وهي أسس الفضيلة ،
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 390) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 233)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 900)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 457)(1/1581)
وأساس الدين ، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله : لو لم ينزل الها سوى هذه السورة لكفت الناس . (1)
في هذه السورة الصغيرة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام. وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة. إنها تضع الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار. وتصف الأمة المسلمة : حقيقتها ووظيفتها. في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة .. وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا اللّه ..
والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه :
إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار ، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار ، ليس هنالك إلا منهج واحد رابح ، وطريق واحد ناج. هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده ، وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه. وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار ..
«وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ».
إنه الإيمان. والعمل الصالح. والتواصي بالحق. والتواصي بالصبر ..
فما الإيمان؟؟
نحن لا نعرّف الإيمان هنا تعريفه الفقهي ولكننا نتحدث عن طبيعته وقيمته في الحياة.
إنه اتصال هذا الكائن الإنساني الفاني الصغير المحدود بالأصل المطلق الأزلي الباقي الذي صدر عنه الوجود.
ومن ثم اتصاله بالكون الصادر عن ذات المصدر ، وبالنواميس التي تحكم هذا الكون ، وبالقوى والطاقات المذخورة فيه. والانطلاق حينئذ من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبير. ومن حدود قوته الهزيلة إلى عظمة الطاقات الكونية المجهولة. ومن حدود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا اللّه
وفضلا عما يمنحه هذا الاتصال للكائن الإنساني من قوة وامتداد وانطلاق ، فإنه يمنحه إلى جانب هذا كله متاعا بالوجود وما فيه من جمال ، ومن مخلوقات تتعاطف أرواحها مع روحه. فإذا الحياة رحلة في مهرجان إلهي مقام للبشر في كل مكان وفي كل أوان .. وهي سعادة رفيعة ، وفرح نفيس ، وأنس بالحياة والكون كأنس الحبيب بالحبيب. وهو كسب لا يعدله كسب. وفقدانه خسران لا يعدله خسران ..
ثم إن مقومات الإيمان هي بذاتها مقومات الإنسانية الرفيعة الكريمة ..
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 521)(1/1582)
التعبد لإله واحد ، يرفع الإنسان عن العبودية لسواه ، ويقيم في نفسه المساواة مع جميع العباد ، فلا يذل لأحد ، ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار .. ومن هنا الانطلاق التحرري الحقيقي للإنسان. الانطلاق الذي ينبثق من الضمير ومن تصور الحقيقة الواقعة في الوجود. إنه ليس هناك إلا قوة واحدة وإلا معبود واحد.
فالانطلاق التحرري ينبثق من هذا التصور انبثاقا ذاتيا ، لأنه هو الأمر المنطقي الوحيد.
والربانية التي تحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان تصوراته وقيمه وموازينه واعتباراته وشرائعه وقوانينه ، وكل ما يربطه باللّه ، أو بالوجود ، أو بالناس. فينتفي من الحياة الهوى والمصلحة ، وتحل محلهما الشريعة والعدالة.
وترفع من شعور المؤمن بقيمة منهجه ، وتمده بالاستعلاء على تصورات الجاهلية وقيمها واعتباراتها ، وعلى القيم المستمدة من الارتباطات الأرضية الواقعة .. ولو كان فردا واحدا ، لأنه إنما يواجهها بتصورات وقيم واعتبارات مستمدة من اللّه مباشرة فهي الأعلى والأقوى والأولى بالاتباع والاحترام.
ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق ، وتبين مقام الألوهية ومقام العبودية على حقيقتهما الناصعة ، مما يصل هذه الخليقة الفانية بالحقيقة الباقية في غير تعقيد ، وبلا وساطة في الطريق. ويودع القلب نورا ، والروح طمأنينة ، والنفس أنسا وثقة. وينفي التردد والخوف والقلق والاضطراب كما ينفي الاستكبار في الأرض بغير الحق ، والاستعلاء على العباد بالباطل والافتراء! والاستقامة على المنهج الذي يريده اللّه. فلا يكون الخير فلتة عارضة ، ولا نزوة طارئة ، ولا حادثة منقطعة.
إنما ينبعث عن دوافع ، ويتجه إلى هدف ، ويتعاون عليه الأفراد المرتبطون في اللّه ، فتقوم الجماعة المسلمة ذات الهدف الواحد الواضح ، والراية الواحدة المتميزة. كما تتضامن الأجيال المتعاقبة الموصولة بهذا الحبل المتين.
والاعتقاد بكرامة الإنسان على اللّه ، يرفع من اعتباره في نظر نفسه ، ويثير في ضميره الحياء من التدني عن المرتبة التي رفعه اللّه إليها. وهذا أرفع تصور يتصوره الإنسان لنفسه .. أنه كريم عند اللّه .. وكل مذهب أو تصور يحط من قدر الإنسان في نظر نفسه ، ويرده إلى منبت حقير ، ويفصل بينه وبين الملأ الأعلى .. هو تصور أو مذهب يدعوه إلى التدني والتسفل ولو لم يقل له ذلك صراحة! ومن هنا كانت إيحاءات الدارونية والفرويدية والماركسية هي أبشع ما تبتلى به الفطرة البشرية والتوجيه الإنساني ، فتوحي إلى البشر بأن كل سفالة وكل قذارة وكل حقارة هي أمر طبيعي متوقع ، ليس فيه ما يستغرب ، ومن ثم ليس فيه ما يخجل .. وهي جناية على البشرية تستحق المقت والازدراء «3»!(1/1583)
ونظافة المشاعر تجيء نتيجة مباشرة للشعور بكرامة الإنسان على اللّه. ثم برقابة اللّه على الضمائر واطلاعه على السرائر. وإن الإنسان السوي الذي لم تمسخه إيحاءات فرويد وكارل ماركس وأمثالهما ، ليستحيي أن يطلع إنسان مثله على شوائب ضميره وخائنة شعوره. والمؤمن يحس وقع نظر اللّه - سبحانه - في أطواء حسه إحساسا يرتعش له ويهتز. فأولى أن يطهر حسه هذا وينظفه! والحاسة الأخلاقية ثمرة طبيعية وحتمية للإيمان بإله عادل رحيم عفو كريم ودود حليم ، يكره الشر ويحب الخير. ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وهناك التبعة المترتبة على حرية الإرادة وشمول الرقابة ، وما تثيره في حس المؤمن من يقظة وحساسية ، ومن رزانة وتدبر. وهي ليست تبعة فردية فحسب ، إنما هي كذلك تبعة جماعية ، وتبعة تجاه الخير في ذاته ، وإزاء البشرية جميعا .. أمام اللّه .. وحين يتحرك المؤمن حركة فهو يحس بهذا كله ، فيكبر في عين نفسه ، ويقدر نتيجة خطوه قبل أن يمد رجله .. إنه كائن له قيمة في الوجود ، وعليه تبعة في نظام هذا الوجود
والارتفاع عن التكالب على أعراض الحياة الدنيا - وهو بعض إيحاءات الإيمان - واختيار ما عند اللّه ، وهو خير وأبقى. «وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» .. والتنافس على ما عند اللّه يرفع ويطهر وينظف .. يساعد على هذا سعة المجال الذي يتحرك فيه المؤمن .. بين الدنيا والآخرة ، والأرض والملأ الأعلى. مما يهدئ في نفسه القلق على النتيجة والعجلة على الثمرة. فهو يفعل الخير لأنه الخير ، ولأن اللّه يريده ، ولا عليه ألا يدرّ الخير خيرا على مشهد من عينيه في عمره الفردي المحدود. فاللّه الذي يفعل الخير ابتغاء وجهه لا يموت - سبحانه - ولا ينسى ، ولا يغفل شيئا من عمله. والأرض ليست دار جزاء. والحياة الدنيا ليست نهاية المطاف. ومن ثم يستمد القدرة على مواصلة الخير من هذا الينبوع الذي لا ينضب. وهذا هو الذي يكفل أن يكون الخير منهجا موصولا ، لا دفعة طارئة ، ولا فلتة مقطوعة. وهذا هو الذي يمد المؤمن بهذه القوة الهائلة التي يقف بها في وجه الشر. سواء تمثل في طغيان طاغية ، أو في ضغط الاعتبارات الجاهلية ، أو في اندفاع نزواته هو وضغطها على إرادته. هذا الضغط الذي ينشأ أول ما ينشأ من شعور الفرد بقصر عمره عن استيعاب لذائذه وتحقيق أطماعه ، وقصره كذلك عن رؤية النتائج البعيدة للخير ، وشهود انتصار الحق على الباطل! والإيمان يعالج هذا الشعور علاجا أساسيا كاملا «1».
إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير ، الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير ، وتتعلق به كل ثمرة من ثماره ، وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته ، صائر إلى ذبول وجفاف. وإلا فهي ثمرة شيطانية ، وليس لها امتداد أو دوام! وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة. وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشي ء ، ذاهبة بددا مع الأهواء والنزوات ..(1/1584)
وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال ، ويردها إلى نظام تتناسق معه وتتعاون ، وتنسلك في طريق واحد ، وفي حركة واحدة ، لها دافع معلوم ، ولها هدف مرسوم ..
ومن ثم يهدر القرآن قيمة كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل ، ولا يشد إلى هذا المحور ، ولا ينبع من هذا المنهج. والنظرية الإسلامية صريحة في هذا كل الصراحة .. جاء في سورة إبراهيم : «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ. لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ» .. وجاء في سورة النور : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» .. وهي نصوص صريحة في إهدار قيمة العمل كله ، ما لم يستند إلى الإيمان ، الذي يجعل له دافعا موصولا بمصدر الوجود ، وهدفا متناسقا مع غاية الوجود. وهذه هي النظرة المنطقية لعقيدة ترد الأمور كلها إلى اللّه. فمن انقطع عنه فقد انقطع وفقد حقيقة معناه.
إن الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني ، وتناسقه مع فطرة الكون كله ، ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله. فهو يعيش في هذا الكون ، وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب. ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان ، بحكم ما في الكون ذاته من دلائل وإيحاءات عن القدرة المطلقة التي أبدعته على هذا النسق. فإذا فقد هذا التجاوب أو تعطل ، كان هذا بذاته دليلا على خلل ونقص في الجهاز الذي يتلقى ، وهو هذا الكيان الإنساني. وكان هذا دليل فساد لا يكون معه إلا الخسران. ولا يصح معه عمل ولو كان في ظاهره مسحة من الصلاح.
وإن عالم المؤمن من السعة والشمول والامتداد والارتفاع والجمال والسعادة بحيث تبدو إلى جانبه عوالم غير المؤمنين صغيرة ضئيلة هابطة هزيلة شائهة شقية .. خاسرة أي خسران! والعمل الصالح وهو الثمرة الطبيعية للإيمان ، والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب. فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة. ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح .. هذا هو الإيمان الإسلامي .. لا يمكن أن يظل خامدا لا يتحرك ، كامنا لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن .. فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت.
شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها. فهو ينبعث منها انبعاثا طبيعيا. وإلا فهو غير موجود! ومن هنا قيمة الإيمان .. إنه حركة وعمل وبناء وتعمير .. يتجه إلى اللّه .. إنه ليس انكماشا وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير. وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة بناء كبرى في صميم الحياة.
وهذا مفهوم ما دام الإيمان هو الارتباط بالمنهج الرباني. وهذا المنهج حركة دائمة متصلة في صميم الوجود.(1/1585)
صادرة عن تدبير ، متجهة إلى غاية. وقيادة الإيمان للبشرية هي قيادة لتحقيق منهج الحركة التي هي طبيعة الوجود. الحركة الخيرة النظيفة البانية المعمرة اللائقة بمنهج يصدر عن اللّه.
أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة - أو الجماعة المسلمة - ذات الكيان الخاص ، والرابطة المميزة ، والوجهة الموحدة. الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها. والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح ، الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى.
فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة - أو الجماعة - المتضامة المتضامنة. الأمة الخيرة. الواعية. القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير .. وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة .. وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام .. هكذا يريدها أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير ، متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن ..
والتواصي بالحق ضرورة. فالنهوض بالحق عسير. والمعوقات عن الحق كثيرة : هوى النفس ، ومنطق المصلحة ، وتصورات البيئة. وطغيان الطغاة ، وظلم الظلمة ، وجور الجائرين .. والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية ، والأخوة في العبء والأمانة. فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية ، إذ تتفاعل معا فتتضاعف. تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله .. وهذا الدين - وهو الحق - لا يقوم إلا في حراسة جماعة متعاونة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال.
والتواصي بالصبر كذلك ضرورة. فالقيام على الإيمان والعمل الصالح ، وحراسة الحق والعدل ، من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة. ولا بد من الصبر. لا بد من الصبر على جهاد النفس ، وجهاد الغير. والصبر على الأذى والمشقة. والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر. والصبر على طول الطريق وبطء المراحل ، وانطماس المعالم ، وبعد النهاية! والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة ، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف ، ووحدة المتجه ، وتساند الجميع ، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار .. إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها ، ولا تبرز إلا من خلالها .. وإلا فهو الخسران والضياع.
وننظر اليوم من خلال هذا الدستور الذي يرسمه القرآن لحياة الفئة الرابحة الناجية من الخسران ، فيهولنا أن نرى الخسر يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء. يهولنا هذا الضياع الذي تعانيه البشرية في الدنيا - قبل الآخرة - يهولنا أن نرى إعراض البشرية ذلك الإعراض البائس عن الخير الذي أفاضه اللّه عليها مع فقدان السلطة الخيرة المؤمنة القائمة على الحق في هذه الأرض .. هذا والمسلمون - أو(1/1586)
أصحاب دعوى الإسلام بتعبير أدق - هم أبعد أهل الأرض عن هذا الخير ، وأشدهم إعراضا عن المنهج الإلهي الذي اختاره اللّه لهم ، وعن الدستور الذي شرعه لأمتهم ، وعن الطريق الوحيد الذي رسمه للنجاة من الخسران والضياع. والبقاع التي انبعث منها هذا الخير أول مرة تترك الراية التي رفعها لها اللّه ، راية الإيمان ، لتتعلق برايات عنصرية لم تنل تحتها خيرا قط في تاريخها كله. لم يكن لها تحتها ذكر في الأرض ولا في السماء. حتى جاء الإسلام فرفع لها هذه الراية المنتسبة للّه ، لا شريك له ، المسماة باسم اللّه لا شريك له ، الموسومة بميسم اللّه لا شريك له .. الراية التي انتصر العرب تحتها وسادوا وقادوا البشرية قيادة خيرة قوية واعية ناجية لأول مرة في تاريخهم وفي تاريخ البشرية الطويل ..
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم : «ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» .. عن هذه القيادة الخيرة الفذة في التاريخ كله ، وتحت عنوان «عهد القيادة الإسلامية» : «الأئمة المسلمون وخصائصهم» :
«ظهر المسلمون ، وتزعموا العالم ، وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها ، وساروا بالإنسانية سيرا حثيثا متزنا عادلا ، وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم ، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم.
«أولا : أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية ، فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم. لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم ، ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء ، وقد جعل اللّه لهم نورا يمشون به في الناس ، وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؟» وقد قال اللّه تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ».
ثانيا : - أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس ، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر ، بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية محمد - صلى الله عليه وسلم - وإشرافه الدقيق ، يزكيهم ويؤدبهم ، ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية اللّه ، وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها. يقول : «إنا واللّه لا نولي هذا العمل أحدا سأله ، أو أحدا حرص عليه ».
ولا يزال يقرع سمعهم : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» ..
فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب ، فضلا عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة ، ويزكوا أنفسهم ، وينشروا دعاية لها ، وينفقوا الأموال سعيا وراءها. فإذا تولوا شيئا من أمور الناس لم يعدوه مغنما أو طعمة(1/1587)
أو ثمنا لما أنفقوا من مال أو جهد بل عدوه أمانة في عنقهم ، وامتحانا من اللّه ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم ، ومسؤولون عن الدقيق والجليل ، وتذكروا دائما قول اللّه تعالى : «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» .. وقوله .. «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ، لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» ..
«ثالثا : أنهم لم يكونوا خدمة جنس ، ورسل شعب أو وطن ، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان ، لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاما ، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم.
ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها ، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها ، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة اللّه وحده. كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد : اللّه ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام «2».
فالأمم عندهم سواء ، والناس عندهم سواء. الناس كلهم من آدم ، وآدم من تراب. لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى : «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ».
وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر - وقد ضرب ابنه مصريا وافتخر بآبائه قائلا : خذها من ابن الأكرمين. فاقتص منه عمر - : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحرارا أمهاتهم «3»؟ فلم يبخل هؤلاء بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد ، ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسبا ولونا ووطنا ، بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد ، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر ، وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها.
في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب - حتى المضطهدة منها في القديم - أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة ، وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد ، بل إن كثيرا من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل ، وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين ..
«رابعا : إن الإنسان جسم وروح ، وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح ، لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقيا متزنا عادلا حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نموا متناسبا لائقا بها ، ويتغذى غذاء صالحا ، ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة البتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة(1/1588)
أن يبلغ كماله الإنساني. وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة ، ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية ، وأصحاب عقول سليمة راجحة ، وعلوم صحيحة نافعة» ..إلى أن يقول تحت عنوان : «دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة» :
«وكذلك كان ، فلم نعرف دورا من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور - دور الخلافة الراشدة - فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل. وفي ظهور المدنية الصالحة .. كانت حكومة من أكبر حكومات العالم ، وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها ، تسود فيها المثل الخلقية العليا ، وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم ، وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة ، ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة ، فتقل الجنايات ، وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها ، وتحسن علاقد الفرد بالفرد ، والفرد بالجماعة ، وعلاقة الجماعة بالفرد. وهو دور كما لي لم يحلم الإنسان بأرقى منه ، ولم يفترض المفترضون أزهى منه ..».
هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع «سورة العصر» قواعده ، وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
فأين منها هذا الضياع الذي تعانيه البشرية اليوم في كل مكان ، والخسار الذي تبوء به في معركة الخير والشر ، والعماء عن ذلك الخير الكبير الذي حملته الأمة العربية للبشر يوم حملت راية الإسلام فكانت لها القيادة.
ثم وضعت هذه الراية فإذا هي في ذيل القافلة. وإذا القافلة كلها تعطو إلى الضياع والخسار. وإذا الرايات كلها بعد ذلك للشيطان ليس فيها راية واحدة للّه. وإذا هي كلها للباطل ليس فيها راية واحدة للحق. وإذا هي كلها للعماء والضلال ليس فيها راية واحدة للهدى والنور ، وإذا هي كلها للخسار ليس فيها راية واحدة للفلاح! وراية اللّه ما تزال. وإنها لترتقب اليد التي ترفعها والأمة التي تسير تحتها إلى الخير والهدى والصلاح والفلاح.
ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض. وهو على عظمته إذا قيس بشأن الآخرة صغير. وهناك. هناك الربح الحق والخسر الحق. هناك في الأمد الطويل ، وفي الحياة الباقية ، وفي عالم الحقيقة .. هناك الربح والخسر : ربح الجنة والرضوان ، أو خسر الجنة والرضوان. هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر(1/1589)
له ، أو يرتكس فتهدر آدميته ، وينتهي إلى أن يكون حجرا في القيمة ودون الحجر في الراحة َيوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً»..
وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق .. إنه الخسر .. «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» .. طريق واحد لا يتعدد. طريق الإيمان والعمل الصالح وقيام الجماعة المسلمة ، التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر. وتقوم متضامنة على حراسة الحق مزودة بزاد الصبر.
إنه طريق واحد. ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة «وَالْعَصْرِ» ثم يسلم أحدهما على الآخر .. لقد كانا يتعاهدان على هذا الدستور الإلهي ، يتعاهدان على الإيمان والصلاح ، ويتعاهدان على التواصي بالحق والتواصي بالصبر. ويتعاهدان على أنهما حارسان لهذا الدستور. ويتعاهدان على أنهما من هذه الأمة القائمة على هذا الدستور .. (1)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3964)(1/1590)
(104) سورة الهمزة
سميت هذه السورة في المصاحف ومعظم التفاسير "سورة الهمزة" بلام التعريف. وعنونها في "صحيح البخاري" وبعض التفاسير "سورة ويل لكل همزة". وذكر الفيروز آبادي في "بصائر ذوي التمييز" أنها تسمى "سورة الحطمة" لوقوع هذه الكلمة فيها.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت الثانية والثلاثين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة القيامة وقبل سورة المرسلات.
وآيها تسع بالاتفاق.
روي أنها نزلت في جماعة من المشركين كانوا أقاموا أنفسهم للمز المسلمين وسبهم واختلاق الأحدوثات السيئة عنهم. وسمي من هؤلاء المشركين: الوليد بن المغيرة المخزومي، وأمية بن خلف، وأبي بن خلف وجميل بن معمر بن بني جمح وهذا أسلم يوم الفتح وشهد حنينا والعاص بن وائل من بني سهم. وكلهم من سادة قريش. وسمي الأسود بن عبد يغوث، والأخنس بن شريق الثقفيان من سادة ثقيف من أهل الطائف. وكل هؤلاء من أهل الثراء في الجاهلية والازدهار بثرائهم وسؤددهم. وجاءت آية السورة عامة فعم حكمها المسمين ومن كان على شاكلتهم من المشركين ولم تذكر أسماءهم.
أغراضها
فغرض هذه السورة وعيد جماعة من المشركين جعلوا همز المسلمين ولمزهم ضربا من ضروب أذاهم طمعا في أن يلجئهم الملل من أصناف الأذى، إلى الانصراف عن الإسلام والرجوع إلى الشرك. (1)
مناسبتها لما قبلها
فى سورة العصر أقسم الحقّ جلّ وعلا « بالعصر » على أن الإنسان فى خسر ، مستثنيا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق ، وتواصوا بالصبر.وفى هذه السورة (سورة الهمزة) عرض للإنسان الخاسر ، ومن أبن كان خسرانه ، وإلى أين يكون مصيره. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الهمزة » من السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة « القيامة » وقبل سورة « المرسلات » وعدد آياتها تسع آيات.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 470)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1670)(1/1591)
2 - ومن أهم أغراضها : التهديد الشديد لمن يعيب الناس ، ويتهكم بهم ، ويتطاول عليهم ، بسبب كثرة ماله ، وجحوده للحق.
وقد ذكروا أن هذه السورة الكريمة نزلت في شأن جماعة من أغنياء المشركين ، منهم : الوليد ابن المغيرة ، وأمية بن خلف ، وأبى بن خلف ... كانوا يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، ويشيعون الأقوال السيئة عنهم.
وهذا لا يمنع أن السورة الكريمة تشمل أحكامها كل من فعل مثل هؤلاء المشركين ، إذ العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب. (1)
في السورة حملة على من اعتاد السخرية بالناس ولمزهم والتفاخر بماله ، ومع صلتها بالسيرة النبوية وبعض صور مواقف الأغنياء فيها فأسلوبها عام مطلق. (2)
سورة الهمزة مكيّة ، وهي تسع آيات.
تسميتها : سميت سورة الهمزة لبدئها بقول اللَّه تبارك وتعالى : وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ والهمزة : الذي يغتاب الناس ويطعن بهم بقول أو فعل أو إشارة ، واللمزة : الذي يعيب الناس بإشارة الحاجب والعين. قال ابن عباس : الهمزة : المغتاب ، واللمزة : العياب.
مناسبتها لما قبلها :
بعد أن ذكر اللَّه تعالى في السورة المتقدمة أن جنس الإنسان في خسران ونقص وهلكة ، أبان في هذه السورة حال الخاسر وأراد به تبيان الخسران بمثال واحد.
ما اشتملت عليه السورة :
هذه السورة المكية في علاج مشكلة خلقية مستعصية بين الناس وهي الطعن في الآخرين بالغيبة أثناء غيابهم ، أو بالعيب حال حضورهم.
وقد بدأت بالإخبار عن العذاب الشديد لكل عيّاب طعّان للناس ، ينتقص الآخرين ويزدريهم ويسخر بهم : وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [1].
ثم ذمّت السورة الذين يحصرون على جمع الأموال في الدنيا ، كأنهم مخلدون فيها : الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ ... [2 - 3].
وختمت بردع الفريقين السابقين ، وأنبأتهم بمصيرهم الأسود وهو النبذ في الحطمة : نار جهنم. (3)
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 503)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 205)
(3) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 396)(1/1592)
مكية. وآياتها تسع آيات ، وفيها ينعى اللّه على العياب الطعان المشاء بالنميمة ، ويعده بنار شديدة مطبقة عليه من كل ناحية. (1)
مكية وآيها تسع بلا خلاف في الأمرين. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها أن الإنسان سوى من استثنى في خسر بيّن عز وجل فيها أحوال بعض الخاسرين (2)
* سورة الهمزة مكية ، وقد تحدثت عن الذين يعيبون الناس ، ويإليلون أعراضهم ، بالطعن والإنتقاص ، والازدراء ، وبالسخرية والإستهزاء فعل السفهاء [ ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعدده ]
* كما ذمت الذين يشتغلون بجمع الأموال ، وتكديس الثروات ، كأنهم مخلدون في هذه الحياة ، يظنون لفرط جهلهم وكثرة غفلتهم أن المال سيخلدهم في الدنيا [ يحسب أن ماله أخلده ] .
* وختمت السورة بذكر عاقبة هؤلاء التعساء الأشقياء ، حيث يدخلون نارا لا تخمد أبدا ، تحطم المجرمين ومن يلقى فيها من البشر ، لأنها الحطمة نار سقر! ! [ كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة ؟ ] إلى نهاية السورة الكريمة. (3)
مقصودها بيان الحزب الأكبر الخاسر الذي أهل التكاثر ، فبانت خسارته يوم القارعة الخافضة الرافعة ، واسمها الهمزة ظاهر الدلالة على ذلك (4)
تعكس هذه السورة صورة من الصور الواقعية في حياة الدعوة في عهدها الأول. وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة .. صورة اللئيم الصغير النفس ، الذي يؤتى المال فتسيطر نفسه به ، حتى ما يطيق نفسه!
ويروح يشعر أن المال هو القيمة العليا في الحياة. القيمة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار : أقدار الناس. وأقدار المعاني. وأقدار الحقائق. وأنه وقد ملك المال فقد ملك كرامات الناس وأقدارهم بلا حساب!
كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء لا يعجز عن فعل شي ء! حتى دفع الموت وتخليد الحياة. ودفع قضاء اللّه وحسابه وجزائه إن كان هناك في نظره حساب وجزاء! ومن ثم ينطلق في هوس بهذا المال يعده ويستلذ تعداده وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة ، تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس وكراماتهم. ولمزهم وهمزهم .. يعيبهم بلسانه ويسخر منهم بحركاته. سواء بحكاية حركاتهم وأصواتهم ،
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 902)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 460)
(3) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 522)
(4) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 525)(1/1593)
أو بتحقير صفاتهم وسماتهم .. بالقول والإشارة. بالغمز واللمز. باللفتة الساخرة والحركة الهازئة! وهي صورة لئيمة حقيرة من صور النفوس البشرية حين تخلو من المروءة وتعرى من الإيمان. والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة من صور النفوس بحكم ترفعه الأخلاقي. وقد نهى عن السخرية واللمز والعيب في مواضع شتى. إلا أن ذكرها هنا بهذا التشنيع والتقبيح مع الوعيد والتهديد ، يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وتجاه المؤمنين .. فجاء الرد عليها في صورة الردع الشديد ، والتهديد الرعيب. وقد وردت روايات بتعيين بعض الشخصيات. ولكنها ليست وثيقة. فنكتفي نحن بما قررناه عنها ..
والتهديد يجيء في صورة مشهد من مشاهد القيامة يمثل صورة للعذاب مادية ونفسية ، وصورة للنار حسية ومعنوية. وقد لوحظ فيها التقابل بين الجرم وطريقة الجزاء وجو العقاب. فصورة الهمزة اللمزة ، الذي يدأب على الهزء بالناس وعلى لمزهم في أنفسهم وأعراضهم ، وهو يجمع المال فيظنه كفيلا بالخلود! صورة هذا المتعالي الساخر المستقوي بالمال ، تقابلها صورة «المنبوذ» المهمل المتردي في «الحطمة» التي تحطم كل ما يلقى إليها ، فتحطم كيانه وكبرياءه. وهي «نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ» وإضافتها للّه وتخصيصها هكذا يوحي بأنها نار فذة ، غير معهودة ، ويخلع عليها رهبة مفزعة رعيبة. وهي «تَطَّلِعُ» على فؤاده الذي ينبعث منه الهمز واللمز ، وتكمن فيه السخرية والكبرياء والغرور .. وتكملة لصورة المحطم المنبوذ المهمل .. هذه النار مغلقة عليه ، لا ينقذه منها أحد ، ولا يسأل عنه فيها أحد! وهو موثق فيها إلى عمود كما توثق البهائم بلا احترام! وفي جرس الألفاظ تشديد : «عَدَّدَهُ. كَلَّا. لَيُنْبَذَنَّ. تَطَّلِعُ. مُمَدَّدَةٍ» وفي معاني العبارات توكيد بشتى أساليب التوكيد : «لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ. وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ؟ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ..» فهذا الإجمال والإبهام. ثم سؤال الاستهوال. ثم الإجابة والبيان ..
كلها من أساليب التوكيد والتضخيم .. وفي التعبير تهديد «وَيْلٌ. لَيُنْبَذَنَّ. الْحُطَمَةِ .. نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» ..
وفي ذلك كله لون من التناسق التصويري والشعوري يتفق مع فعلة «الهمزة اللمزة»! لقد كان القرآن يتابع أحداث الدعوة ويقودها في الوقت ذاته. وكان هو السلاح البتار الصاعق الذي يدمر كيد الكائدين ، ويزلزل قلوب الأعداء ، ويثبت أرواح المؤمنين.
وإنا لنرى في عناية اللّه سبحانه بالرد على هذه الصورة معنيين كبيرين :
الأول : تقبيح الهبوط الأخلاقي وتبشيع هذه الصورة الهابطة من النفوس.(1/1594)
والثاني : المنافحة عن المؤمنين وحفظ نفوسهم من أن تتسرب إليها مهانة الإهانة ، وإشعارهم بأن اللّه يرى ما يقع لهم ، ويكرهه ، ويعاقب عليه .. وفي هذا كفاية لرفع أرواحهم واستعلائها على الكيد اللئيم (1) ..
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3972)(1/1595)
(105) سورة الفيل
وردت تسميتها في كلام بعض السلف سورة {أَلَمْ تَرَ} . روى القرطبي في تفسير "سورة قريش" عن عمرو بن ميمون قال: صليت المغرب خلف عمر ابن الخطاب فقرأ في الركعة الثانية {أَلَمْ تَرَ} و {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]. وكذلك عنونها البخاري. وسميت في جميع المصاحف وكتب التفسير "سورة الفيل".وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت التاسعة عشرة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وقبل "سورة الفلق". وقيل قبل "سورة قريش" لقول الأخفش إن قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] متعلق بقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5]، ولأن أبي بن كعب جعلها وسورة قريش سورة واحدة في مصحفه ولم يفصل بينهما بالبسملة ولخبر عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب المذكور آنفا روى أن عمر بن الخطاب قرأ مرة في المغرب في الركعة الثانية سورة الفيل وسورة قريش، أي ولم يكن الصحابة يقرأون في الركعة من صلاة الفرض سورتين لأن السنة قراءة الفاتحة وسورة فدل أنهما عنده سورة واحدة. ويجوز أن تكون سورة قريش نزلت بعد سورة الفلق وألحقت بسورة الفيل فلا يتم الاحتجاج بما في مصحف أبي بن كعب ولا بما رواه عمرو بن ميمون.وآيها خمس.
أغراضها
وقد تضمنت التذكير بأن الكعبة حرم الله وأن الله حماه ممن أرادوا به سوءا أو أظهر غضبه عليهم فعذبهم لأنهم ظلموا بطمعهم في هدم مسجد إبراهيم وهو عندهم في كتابهم،وذلك ما سماه الله كيدا، وليكون ما حل بهم تذكرة لقريش بأن فاعل ذلك هو رب ذلك البيت وأن لا حظ فيه للأصنام التي نصبوها حوله.
وتنبيه قريش أو تذكيرهم بما ظهر من كرامة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الله إذ أهلك أصحاب الفيل في عام ولادته.
ومن وراء ذلك تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله يدفع عنه كيد المشركين فإن الذي دفع كيد من يكيد لبيته لأحق بأن يدفع كيد من يكيد لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ودينه ويشعر بهذا قوله: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:2].
ومن وراء ذلك كله التذكير بأن الله غالب على أمره، وأن لا تغر المشركين قوتهم ووفرة عددهم ولا يوهن النبي - صلى الله عليه وسلم - تألب قبائلهم عليه فقد أهلك الله من هو أشد منهم قوة وأكثر جمعا.
ولم يتكرر في القرآن ذكر إهلاك أصحاب الفيل خلافا لقصص غيرهم من الأمم لوجهين: أحدهما أن هلاك أصحاب الفيل لم يكن لأجل تكذيب رسول من الله، وثانيهما أن لا يتخذ من المشركين غرورا بمكانة لهم عند الله كغرورهم بقولهم المحكي في قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ(1/1596)
الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 19] الآية وقوله: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34]. (1)
مناسبتها لما قبلها
فى سورة « الهمزة » عرض لمن جمع المال ، واتخذ منه سلاحا يغمز به الناس ، ويهمزهم ، ويمزق أديمهم ، ويزبل وجودهم الإنسانى بين الناس ..وسورة « الفيل » تعرض لجماعة من تلك الجماعات ، التي اجتمع ليدها قوة من تلك القوى المخيفة ، هى الفيل ، الذي يشبه قوة المال فى طغيانه ، حين يجتمع ليد إنسان جهول غشوم ، طاغية ، فيتسلط على الناس ، كما يتسلط صاحب الفيل على صاحب الحمار ، أو الحصان ، مثلا .. فكان عاقبة صاحب هذا الفيل الهلاك والدمار ، كما كان عاقبة صاحب هذا المال ، الذلّ والخزي ، والخسران .. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الفيل » وسماها بعضهم سورة « ألم تر ... » من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها خمس آيات ، وكان نزولها بعد سورة « قل يا أيها الكافرون » ، وقبل سورة « القيامة » فهي السورة التاسعة عشرة في ترتيب النزول من بين السور المكية.
2 - ومن أهم مقاصدها تذكير أهل مكة بفضل اللّه - تعالى - عليهم ، حيث منع كيد أعدائهم عنهم ، وعن بيته الحرام ، وبيان أن هذا البيت له مكانته السامية عنده - تعالى - ، وأن من أراده بسوء قصمه اللّه - تعالى - ، وتبشير النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه - سبحانه - كفيل برعايته ونصره على أعدائه ، كما نصر أهل مكة على أبرهة وجيشه ، وتثبيت المؤمنين على الحق ، لكي يزدادوا إيمانا على إيمانهم ، وبيان أن اللّه - سبحانه - غالب على أمره.
3 - وقصة أصحاب الفيل من القصص المشهورة عند العرب ، وملخصها : أن أبرهة الأشرم الحبشي أمير اليمن من قبل النجاشيّ ملك الحبشة ، بنى كنيسة بصنعاء لم ير مثلها في زمانها ... وأراد أن يصرف الناس من الحج إلى بيت اللّه الحرام ، إلى الحج إليها ... ثم جمع جيشا عظيما قدم به لهدم الكعبة ... فأهلكه اللّه - تعالى - وأهلك من معه من رجال وأفيال ...
وكانت ولادته - صلى الله عليه وسلم - في هذا العام ... . (3)
في السورة تذكير بما كان من نكال اللّه في أصحاب الفيل في معرض الإنذار. (4)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 477)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1675)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 509)
(4) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 41)(1/1597)
سورة الفيل مكيّة ، وهي خمس آيات.
تسميتها : سميت سورة الفيل لافتتاحها بالتذكير بقصة أصحاب الفيل : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ؟ أي ألم تعلم علم اليقين ما ذا صنع ربّك العظيم القدير بأبرهة الحبشي قائد اليمن وأتباعه الذين أرادوا هدم البيت الحرام؟!
مناسبتها لما قبلها :
ذكر اللَّه تعالى في السورة السابقة الهمزة حال الهمزة اللمزة الذي جمع مالا ، وتعزز بماله ، وأفاد تعالى أن المال لا يغني من اللَّه شيئا ، ثم ذكر في هذه السورة الدليل على ذلك ، بإيراد قصة أصحاب الفيل الذين كانوا أشدّ منهم قوة ، وأكثر مالا ، وأعظم عتوا ، وقد أهلكهم اللَّه بأصغر الطير وأضعفه ، ولم يغن عنهم مالهم ولا عددهم ولا قوتهم شيئا.
ما اشتملت عليه السورة :
هذه السورة المكية مقصورة على بيان قصة أصحاب الفيل الذين اعتمدوا على قوتهم وما لهم وقدرتهم على البطش بجيش جرار لا يقهر ، ثم أبادهم اللَّه عن بكرة أبيهم ، حينما أرادوا هدم الكعبة ، بقصف من الحجارة الربانية المعلقة بأرجل طير صغار ، وجعلهم كعصف مأكول ، أي كبقايا الزرع بعد الحصاد الذي تأكله الماشية ، وتعصف به الريح في كل مكان. (1)
مكية وآيها خمس بلا خلاف فيهما ، وكأنه لما تضمن الهمز واللمز من الكفرة نوع كيد له عليه الصلاة والسلام عقب ذلك بقصة أصحاب الفيل للإشارة إلى أن عقبى كيدهم في الدنيا تدميرهم فإن عناية اللّه عز وجل برسوله - صلى الله عليه وسلم - أقوى وأتم من عنايته سبحانه بالبيت ، فالسورة مشيرة إلى مآلهم في الدنيا إثر بيان مآلهم في الأخرى ، ويجوز أن تكون كالاستدلال على ما أشير إليه فيما قبلها من أن المال لا يغني من اللّه تعالى شيئا ، أو على قدرته عز وجل على إنفاذ ما توعد به أولئك الكفرة في قوله سبحانه لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ [الهمزة : 4] إلخ. (2)
* سورة الفيل مكية ، وهي تتحدث عن قصة " اصحاب الفيل " حين قصدوا هدم الكعبة المشرفة ، فرد الله كيدهم في نحورهم ، وحمى بيته من تسلطهم وطغيانهم ، وأرسل على جيش " أبرهة الأشرم " وجنوده أضعف مخلوقاته ، وهي الطير التي تحمل في أرجلها ومناقيرها حجارة صغيرة ، ولكنها أشد فتكا وتدميرا من الرصاصات القاتلة ، حتى أهلكهم الله وأبادهم عن آخرهم ، وكأن ذلك الحدث التاريخى الهام ، في
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 403)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 464)(1/1598)
عام ميلاد سيد الكائنات (محمد بن عبد الله ) صلوات الهن وسلامه عليه ، سنة سبعين وخمسمائة ميلادية ، وكان من أعظم الإرهاصات الدالة على صدق نبوته ( - صلى الله عليه وسلم - ) . (1)
مقصودها الدلالة على آخر الهمزة من إهلاك المكاثرين في دار التعاضد والتناصر بالأسباب ، فعند انقطاعها أولى لأختصاصه سبحانه وتعالى بتمام القدرة دون التمكن بالمال والرجال ، واسمها الفيل ظاهر الدلالة على ذلك بتأمل سورته ، وما حصل في سيرة جيشه وصورته ) بسم الله ( الذي له الإحاطة فقدرته في كل شيء عاملة (2)
أضواء من التاريخ على قصة أصحاب الفيل :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " أَقْبَلَ أَصْحَابُ الْفِيلِ ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ مَكَّةَ اسْتَقْبَلَهُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَ لِمَلِكِهِمْ : مَا جَاءَ بِكَ إِلَيْنَا ؟ أَلَا بَعَثْتَ فَنَأْتِيَكَ بِكُلِّ شَيْءٍ أَرَدْتَ ؟ فَقَالَ : أُخْبِرْتُ بِهَذَا الْبَيْتِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَمِنَ ، فَجِئْتُ أُخِيفُ أَهْلَهُ ، فَقَالَ : إِنَّا نَأْتِيكَ بِكُلِّ شَيْءٍ تُرِيدُ ، فَارْجِعْ . فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَدْخُلَهُ ، وَانْطَلَقَ يَسِيرُ نَحْوَهُ ، وَتَخَلَّفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، فَقَامَ عَلَى جَبَلٍ ، فَقَالَ : لَا أَشْهَدُ مَهْلِكَ هَذَا الْبَيْتِ وَأَهْلِهِ . ثُمَّ قَالَ :
اللَّهُمَّ إِنَّ لِكُلِّ إِلَهٍ حِلَالًا فَامْنَعْ حِلَالَكْ
لَا يَغْلِبَنَّ مِحَالُهُمْ أَبَدًا مِحَالَكْ
اللَّهُمَّ فَإِنْ فَعَلْتَ فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ
فَأَقْبَلَتْ مِثْلُ السَّحَابَةِ مِنْ نَحْوِ الْبَحْرِ حَتَّى أَظَلَّتْهُمْ طَيْرٌ أَبَابِيلُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قَالَ : فَجَعَلَ الْفِيلُ يَعُجُّ عَجًّا فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ وَعِنْدِي فِي هَذَا قِصَّةٌ أُخْرَى طَوِيلَةٌ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَصَدْنَاهُ كِفَايَةٌ
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ قَالَ : طَيْرٌ لَهَا خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ ، وَأَكُفُّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ " *
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : طَيْرًا أَبَابِيلَ يَقُولُ : " يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا " وَفَى قَوْلِهِ : كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ يَقُولُ : التِّبْنُ
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فِي قَوْلِهِ : طَيْرًا أَبَابِيلَ قَالَ : فِرَقٌ
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 524)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 528)(1/1599)
وعَنْ عِكْرِمَةَ ، فِي قَوْلِهِ : طَيْرًا أَبَابِيلَ يَقُولُ : كَانَتْ طَيْرًا نَشَأَتْ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ لَهَا مِثْلُ رُءُوسِ السِّبَاعِ ، لَمْ تُرَ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلَا بَعْدَهُ ، فَأَثَّرَتْ فِي جُلُودِهِمْ أَمْثَالَ الْجُدَرِيِّ ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَا رُئِيَ الْجُدَرِيُّ
وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ ، قَالَ : " لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُهْلِكَ أَصْحَابَ الْفِيلِ بَعَثَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا نَشَأَتْ مِنَ الْبَحْرِ كَأَنَّهَا الْخَطَاطِيفُ ، بُلْقٌ ، كُلُّ طَيْرٍ مِنْهَا مَعَهُ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ مُجَزَّعَةٍ ، فِي مِنْقَارِهِ حَجَرٌ ، وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ ، ثُمَّ جَاءَتْ حَتَّى صَفَّتْ عَلَى رُءُوسِهِمْ ثُمَّ صَاحَتْ ، وَأَلْقَتْ مَا فِي أَرْجُلِهَا وَمَنَاقِيرِهَا ، فَمَا مِنْ حَجَرٍ وَقَعَ مِنْهَا عَلَى رَجُلٍ إِلَّا خَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ : إِنْ وَقَعَ عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ خَرَجَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ ، قَالَ : وَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا شَدِيدَةً ، فَضَرَبَتْ أَرْجُلَهَا ، فَزَادَهَا شِدَّةً ، فَأُهْلِكُوا جَمِيعًا "
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : جَاءَ أَصْحَابُ الْفِيلِ حَتَّى نَزَلُوا الصِّفَاحَ ، فَجَاءَهُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ جَدُّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : إِنَّ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى ، لَمْ يُسَلِّطِ اللَّهُ عَلَيْهِ أَحَدًا . قَالُوا : لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَهْدِمَهُ . قَالَ : وَكَانُوا لَا يُقَدِّمُونَ فِيلَهُمْ إِلَّا تَأَخَّرَ ، فَدَعَا اللَّهُ الطَّيْرَ الْأَبَابِيلَ ، فَأَعْطَاهَا حِجَارَةً سُودًا عَلَيْهَا الطِّينُ ، فَلَمَّا . حَاذَتْهُمْ رَمَتْهُمْ ، فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَتْهُ الْحِكَّةُ ، فَكَانَ لَا يَحُكُّ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ جِلْدَهُ إِلَّا تَسَاقَطَ لَحْمُهُ
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : " إِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ الْبَيْتَ : الْعَتِيقَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ ، فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ قَطُّ "
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَتْ : " لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ ، يَسْتَطْعِمَانِ بِمَكَّةَ " (1)
وقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ : فَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ قَالَ : " شَهِدْتُ الْعَبَّاسَ وَهُوَ يَهْدِمُهُ ، فَأَصَابَ مِنْهُ مَالًا عَظِيمًا ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ دَعَا بِالسَّلَاسِلِ ، فَعَلَّقَهَا فِي كُعَيْبٍ وَالْخَشَبَةِ الَّتِي مَعَهُ ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ ، فَلَمْ يَقْرَبْهَا أَحَدٌ مَخَافَةً لِمَا كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَقُولُونَ فِيهَا ، فَدَعَا بِالْوَرْدِيَيْنِ ، وَهِيَ الْعَجَلُ ، فَأَعْلَقَ فِيهَا السَّلَاسِلَ ، ثُمَّ جَبَذَهَا الثِّيرَانُ ، وَجَبَذَهَا النَّاسُ مَعَهَا ، حَتَّى أَبْرَزُوهَا مِنَ السُّوَرِ ، فَلَمَّا أَنْ لَمْ يَرَ النَّاسُ شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يَخَافُونَ مِنْ مَضَرَّتِهَا ، وَثَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ كَانَ تَاجِرًا بِصَنْعَاءَ ، فَاشْتَرَى الْخَشَبَةَ وَقَطَعَهَا لِدَارٍ لَهُ ، فَلَمْ يَلْبَثِ الْعِرَاقِيُّ أَنْ جَذِمَ ، فَقَالَ رُعَاعُ النَّاسِ : هَذَا لِشِرَائِهِ كُعَيْبًا . قَالَ : ثُمَّ رَأَيْتُ أَهْلَ صَنْعَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ يَطُوفُونَ بِالْقُلَّيْسِ ، فَيَلْقُطُونَ مِنْهُ قِطَعَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ " ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ ، قَالَ : فَلَمَّا تَحَدَّثَتِ الْعَرَبُ بِكِتَابِ أَبْرَهَةَ بِذَلِكَ إِلَى النَّجَاشِيِّ ، غَضِبَ رَجُلٌ مِنَ النَّسَاءَةِ أَحَدُ بَنِي فُقَيْمٍ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ ،
__________
(1) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ - بَابُ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ( 34-42)(1/1600)
فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْقُلَّيْسَ فَقَعَدَ فِيهَا - أَيْ أَحْدَثَ فِيهَا - ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى لَحِقَ بِأَرْضِهِ ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبْرَهَةُ ، فَقَالَ : مَنْ صَنَعَ هَذَا ؟ فَقِيلَ لَهُ : صَنَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِي تَحُجُّ الْعَرَبُ إِلَيْهِ بِمَكَّةَ لَمَّا سَمِعَ بِقَوْلِكَ أَصْرِفُ إِلَيْهَا حَاجَّ الْعَرَبِ . فَغَضِبَ ، فَجَاءَهَا فَقَعَدَ فِيهَا ، أَيْ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ ، فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبْرَهَةُ ، وَحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إِلَى الْبَيْتِ حَتَّى يَهْدِمَهُ ، ثُمَّ أَمَرَ الْحَبَشَةَ ، فَتَهَيَّأَتْ وَتَجَهَّزَتْ ، ثُمَّ سَارَ وَخَرَجَ بِالْفِيلِ مَعَهُ ، فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ فَأَعْظَمُوهُ وَقَطَعُوا بِهِ وَرَأَوْا أَنَّ جِهَادَهُ حَقٌّ عَلَيْهِمْ حِينَ سَمِعُوا أَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الْكَعْبَةَ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ يُقَالُ لَهُ ذُو نَفْرٍ ، فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ إِلَى حَرْبِ أَبْرَهَةَ وَإِلَى مُجَاهَدَتِهِ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَمَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وَإِخْرَاجِهِ ، فَأَجَابَهُ مَنْ أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فَقَاتَلَهُ ، فَهُزِمَ ذُو نَفْرٍ ، فَأُتِيَ بِهِ أَسِيرًا ، فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ قَالَ لَهُ ذُو نَفْرٍ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، لَا تَقْتُلْنِي ، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَقَامِي مَعَكَ خَيْرًا لَكَ مِنْ قَتْلِي . فَتَرَكَهُ مِنَ الْقَتْلِ ، وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي وَثَاقٍ . وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا وَرِعًا ذَا دِينٍ فِي النَّصْرَانِيَّةِ ، وَمَضَى أَبْرَهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي أَرْضِ خَثْعَمٍ عَرَضَ لَهُ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فِي قَبَائِلِ خَثْعَمٍ شَهْرَانَ وَنَاهِسٍ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ ، وَأُخِذَ لَهُ نُفَيْلٌ أَسِيرًا ، فَأَتَى بِهِ ، فَقَالَ لَهُ نُفَيْلٌ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، لَا تَقْتُلْنِي ، فَإِنِّي دَلِيلُكَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، وَهَاتَانِ يَدَايَ عَلَى قَبَائِلِ خَثْعَمٍ شَهْرَانَ وَنَاهِسٍ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ . فَأَعْفَاهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ ، وَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ يَدُلُّهُ ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتِّبٍ فِي رِجَالِ ثَقِيفٍ ، فَقَالُوا لَهُ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، إِنَّمَا نَحْنُ عَبِيدُكَ ، سَامِعُونَ لَكَ مُطِيعُونَ ، وَلَيْسَ لَكَ عِنْدَنَا خِلَافٌ ، وَلَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا بِالْبَيْتِ الَّذِي تُرِيدُ - يَعْنُونَ اللَّاتَ - إِنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ ، وَنَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ . فَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ ، وَبَعَثُوا مَعَهُ أَبَا رِغَالٍ يَدُلُّهُ عَلَى مَكَّةَ ، فَخَرَجَ أَبْرَهَةُ وَمَعَهُ أَبُو رِغَالٍ حَتَّى أَنْزَلَهُمْ بِالْمُغَمَّسِ ، فَلَمَّا أَنْزَلَهُ بِهِ مَاتَ أَبُو رِغَالٍ هُنَالِكَ ، فَرَجَمَتِ الْعَرَبُ قَبْرَهُ ، فَهُوَ قَبْرُهُ الَّذِي يُرْجَمُ بِالْمُغَمَّسِ ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفِيِّ :
إِذَا مَاتَ الْفَرَزْدَقُ فَارْجُمُوهُ كَمَا تَرْمُونَ قَبْرَ أَبِي رِغَالِ
فَلَمَّا نَزَلَ أَبْرَهَةُ الْمُغَمَّسَ بَعَثَ رَجُلًا مِنَ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ مَفْصُودٍ عَلَى خَيْلٍ لَهُ ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ ، فَسَاقَ إِلَيْهِ أَمْوَالَ أَهْلِ تِهَامَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ ، فَأَصَابَ فِيهَا مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا ، فَهَمَّتْ قُرَيْشٌ وَخُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ وَمَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ بِقِتَالِهِ ، ثُمَّ عَرَفُوا أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ ، فَتَرَكُوا ذَلِكَ ، وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ حِنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى مَكَّةَ ، فَقَالَ لَهُ : سَلْ عَنْ سَيِّدِ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ وَشَرِيفِهِمْ ، ثُمَّ قُلْ لَهُمْ : إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَكُمْ : إِنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ ، إِنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ ، فَإِنْ لَمْ تَعْرِضُوا لِي بِقِتَالٍ فَلَا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ ، فَإِنْ هُوَ لَمْ يُرِدْ حَرْبِي فَأْتِنِي بِهِ .(1/1601)
فَلَمَّا دَخَلَ حِنَاطَةُ مَكَّةَ سَأَلَ عَنْ سَيِّدِ قُرَيْشٍ وَشَرِيفِهَا ، فَقِيلَ لَهُ : عَبْدُ الْمُطَّلِبِ . فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَ بِمَا قَالَ أَبْرَهَةُ ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ ، وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ ، وَبَيْتُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ كَمَا قَالَ - فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ ، وَإِنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ . فَقَالَ لَهُ حِنَاطَةُ : فَانْطَلِقْ مَعِي إِلَيْهِ ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِكَ . فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ ، حَتَّى أَتَى الْعَسْكَرَ ، فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفْرٍ ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا ، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَحْبَسِهِ ، فَقَالَ : يَا ذَا نَفْرٍ ، هَلْ عِنْدَكَ مِنْ غَنَاءٍ فِيمَا نَزَلَ بِنَا ؟ قَالَ ذُو نَفْرٍ : وَمَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ فِي يَدَيْ مَلِكٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ بُكْرَةً أَوْ عَشِيَّةً ؟ مَا عِنْدِي غَنَاءٌ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَزَلَ بِكَ ، إِلَّا أَنَّ أُنَيْسًا سَائِسَ الْفِيلِ صَدِيقٌ لِي ، فَسَأُرْسِلُ إِلَيْهِ فَأُوصِيهِ بِكَ ، وَأُعْظِمُ عَلَيْهِ حَقَّكَ ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَكَ عَلَى الْمَلِكِ ، وَتُكَلِّمَهُ فِيمَا بَدَا لَكَ ، وَيَشْفَعَ لَكَ عِنْدَهُ بِخَيْرٍ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ : حَسْبِي . فَبَعَثَ ذُو نَفْرٍ إِلَى أُنَيْسٍ ، فَقَالَ لَهُ : إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ سَيِّدُ قُرَيْشٍ ، وَصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ ، يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ وَالْجَبَلِ ، وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، وَقَدْ أَصَابَ الْمَلِكُ لَهُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ ، فَاسْتَأْذِنْ لَهُ عَلَيْهِ ، وَانْفَعْهُ عِنْدَهُ بِمَا اسْتَطَعْتَ . فَقَالَ : أَفْعَلُ . فَكَلَّمَ أُنَيْسٌ أَبْرَهَةَ ، فَقَالَ لَهُ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ بِبَابِكَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ ، وَهُوَ صَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ ، وَهُوَ يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ وَالْجَبَلِ ، وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، فَأْذَنْ لَهُ عَلَيْكَ ، فَلْيُكَلِّمْكَ فِي حَاجَتِهِ . فَأَذِنَ لَهُ أَبْرَهَةُ . وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَوْسَمَ النَّاسِ وَأَعْظَمَهُمْ وَأَجْمَلَهُمْ ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلَّهُ وَأَكْرَمَهُ عَنْ أَنْ يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ ، وَكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الْحَبَشَةُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ ، فَنَزَلَ أَبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ ، فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ ، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إِلَى جَنْبِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُ : مَا حَاجَتُكَ ؟ قَالَ لَهُ التَّرْجُمَانُ : إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَكَ : مَا حَاجَتُكَ ؟ قَالَ : حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ الْمَلِكُ عَلَيَّ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي . فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ أَبْرَهَةُ لِتَرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُ : قَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي ، تُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ ، وَقَدْ جِئْتُ لِهَدْمِهِ ، لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ ؟ قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : إِنِّي أَنَا رَبُّ إِبِلِي ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَمْنَعُهُ . قَالَ : مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي . قَالَ : أَنْتَ وَذَاكَ . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ فِيمَا يَزْعُمُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى أَبْرَهَةَ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِ حِنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ يَعْمَرُ بْنُ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الدِّيلِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ بَنِي بَكْرٍ ، وَخُوَيْلِدُ بْنُ وَاثِلَةَ الْهُذَلِيُّ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ هُذَيْلٍ ، فَعَرَضُوا عَلَى أَبْرَهَةَ ثُلُثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ وَلَا يَهْدِمَ الْبَيْتَ ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَكَانَ ذَلِكَ أَمْ لَا . وَقَدْ كَانَ أَبْرَالأبل التى كَةُ رَدَّ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ أَصَابَ ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ ، وَالتَّحَرُّزِ فِي شَعَفِ الْجِبَالِ ؛ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ(1/1602)
الْكَعْبَةِ ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، يَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ :
يَا رَبِّ إِنَّ الْمَرْءَ يَمْنَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حَلَالَكْ
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ وَمِحَالُهُمْ عَدْوًا مِحَالَكْ
إِنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وَقِبْلَتَنَا فَأْمُرْ مَا بَدَا لَكْ
وَلَئِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يُتِمُّ بِهِ فِعَالَكْ
ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَلْقَةَ بَابِ الْكَعْبَةِ ، وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى شَعَفِ الْجِبَالِ ، فَتَحَرَّزُوا فِيهَا يَنْتَظِرُونَ مَا أَبْرَهَةُ فَاعِلٌ بِمَكَّةَ إِذَا دَخَلَهَا . وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَيْضًا :
قُلْتُ وَالْأَشْرَمُ تَرْدِي خَيْلُهُ إِنَّ ذَا الْأَشْرَمَ غَرَّ بِالْحَرَمْ
كَادَهُ تُبَّعُ فِيمَا جَنَّدَتْ حِمْيَرٌ وَالْحَيُّ مِنْ آلِ قِدَمْ
فَانْثَنَى خَارِجًا آهٍ ِوَفِي أَوْدَاجِهِ حَاجِرٌ أَمْسَكَ مِنْهُ بِالْكَظَمْ
نَحْنُ أَهْلُ اللَّهِ فِي بَلْدَتِهِ لَمْ يَزَلْ ذَاكَ عَهْدَ إِبْرَاهِيمْ
نَعْبُدُ اللَّهَ وَفِينَا شِيمَةٌ صِلَةُ الْقُرْبَى وَإِيفَاءُ الذِّمَمْ
إِنَّ لِلْبَيْتِ لَرَبًّا مَانِعًا مَنْ يُرِدْهُ بِأَثَامٍ يُصْطَلَمْ
يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلَمَّا أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ ، وَهَيَّأَ فِيلَهُ ، وَعَبَّأَ جَيْشَهُ ، وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا ، وَأَبْرَهَةُ مُجْمِعٌ لِهَدْمِ الْكَعْبَةِ ، ثُمَّ الِانْصِرَافِ إِلَى الْيَمَنِ ، فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ إِلَى مَكَّةَ أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِ الْفِيلِ ، فَالْتَقَمَ أُذُنَهُ ، فَقَالَ : ابْرُكْ مَحْمُودًا ، وَارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ ، فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ . ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ ، فَبَرَكَ الْفِيلُ ، وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أَصْعَدَ فِي الْجَبَلِ ، وَضَرَبُوا الْفِيلَ لَيَقُومَ فَأَبَى ، فَضَرَبُوا رَأْسَهُ بِالطَّبَرْزِينِ فَأَبَى ، فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ لَهُمْ فِي مَرَاقِّهِ فَبَزَغُوهُ بِهَا لَيَقُومَ فَأَبَى ، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبِلْسَانِ ، مَعَ كُلِّ طَيْرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا ، حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ ، وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ أَمْثَالُ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ ، لَا تُصِيبُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا هَلَكَ ، وَلَيْسَ كُلَّهُمْ أَصَابَتْ ، وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ الَّتِي مِنْهَا جَاءُوا ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ حِينَ رَأَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ :
أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبُ وَالْأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ غَيْرُ الْغَالِبِ
وَقَالَ نُفَيْلٌ أَيْضًا حِينَ وَلَّوْا وَعَايَنُوا مَا نَزَلَ بِهِمْ :(1/1603)
أَلَا حُيِّيتِ عَنَّا يَا رُدَيْنَا نَعِمْنَاكُمْ مَعَ الْإِصْبَاحِ عَيْنَا
رُدَيْنَةُ لَوْ رَأَيْتِ وَلَنْ تَرَيْهِ لَدَى جَنْبِ الْمُحَصَّبِ مَا رَأَيْنَا
إِذًا لَعَذَرْتِنِي وَحَمِدْتِ أَمْرِي وَلَمْ تَأْسَيْ عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا
حَمِدْتُ اللَّهَ إِذْ عَايَنْتُ طَيْرًا وَخِفْتُ حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا
وَكُلُّ الْقَوْمِ يَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا
فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ ، وَيَهْلِكُونَ بِكُلِّ مَهْلِكٍ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ ، وَأُصِيبَ أَبْرَهَةُ فِي جَسَدِهِ ، وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ تَسْقُطُ أَنَامِلُهُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً ، كُلَّمَا سَقَطَتْ مِنْهُ أُنْمُلَةٌ اتَّبَعَتْهَا مِنْهُ مِدَّةٌ تَمُثُّ قَيْحًا وَدَمًا ، حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ ، فَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ فِيمَا يَزْعُمُونَ ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ فِلَالٌ مِنَ الْجَيْشِ وَعُسَفَاءُ وَبَعْضُ مَنْ ضَمَّهُ الْعَسْكَرُ ، فَكَانُوا بِمَكَّةَ يَعْتَمِلُونَ وَيَرْعَوْنَ لِأَهْلِ مَكَّةَ . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ أَوَّلَ مَا رُؤِيَتِ الْحَصْبَةُ وَالْجُدَرِيُّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ذَلِكَ الْعَامَ ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَا رُؤِيَ بِهَا مِنْ مَرَايِرِ الشَّجَرِ الْحَرْمَلِ وَالْحَنْظَلُ وَالْعُشْرُ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ " قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ : وَقَالَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ : إِنَّهُ أَوَّلُ مَا كَانَتْ بِمَكَّةَ حَمَامُ الْيَمَامِ ، حَمَامُ مَكَّةَ الْحَرَمِيَّةِ ذَلِكَ الزَّمَانَ . يُقَالُ : إِنَّهَا مِنْ نَسْلِ الطَّيْرِ الَّتِي رَمَتْ أَصْحَابَ الْفِيلِ حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ جُدَّةَ ، وَلَمَّا هَلَكَ أَبْرَهَةُ مَلَكَ الْحَبَشَةَ ابْنُهُ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ ، وَبِهِ كَانَ يُكْنَى ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ يَكْسُومَ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَتْهُ الْفُرْسُ حِينَ جَاءَهُمْ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ ، وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ الْحَبَشَةِ ، وَكَانُوا أَرْبَعَةً ، فَجَمِيعُ مَا مَلَكُوا أَرْضَ الْيَمَنِ مِنْ حِينِ دَخَلُوهَا إِلَى أَنْ قُتِلُوا ثَلَاثِينَ سَنَةً ، وَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ مَكَّةَ الْحَبَشَةَ ، وَأَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النِّقْمَةِ ، أَعْظَمَتِ الْعَرَبُ قُرَيْشًا ، وَقَالُوا : أَهْلُ اللَّهِ ، قَاتَلَ عَنْهُمْ ، وَكَفَاهُمْ مُؤْنَةَ عَدُوِّهِمْ . فَجَعَلُوا يَقُولُونَ فِي ذَلِكَ الْأَشْعَارَ يَذْكُرُونَ فِيهَا مَا صَنَعَ اللَّهُ بِالْحَبَشَةِ ، وَمَا دَفَعَ عَنْ قُرَيْشٍ مِنْ كَيْدِهِمْ ، وَيَذْكُرُونَ الْأَشْرَمَ وَالْفِيلَ وَمَسَاقَهُ إِلَى الْحَرَمِ ، وَمَا أَرَادَ مِنْ هَدْمِ الْبَيْتِ وَاسْتِحْلَالِ حُرْمَتِهِ " (1)
وكان لهذه الهزيمة أثر كبير في التاريخ وبين العرب ، فأعظموا قريشا ، وقالوا : هم أهل اللَّه ، قاتل اللَّه عنهم ، وكفاهم العدو ، وازدادوا تعظيما للبيت ، وإيمانا بمكانه عنه اللَّه.
وأراد اللَّه بهذا الحادث تعظيم بيته ، وإعلاء شأنه ، وتهيئة أمة العرب لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله.
__________
(1) - أَخْبَارُ مَكَّةَ لِلْأَزْرَقِيِّ (156 ) فيه جهالة(1/1604)
وكان ذلك الحدث التاريخي المهم في عام ميلاد النّبي - صلى الله عليه وسلم - ، سنة 570 م ، أي كان بين عام الفيل ومبعث النّبي - صلى الله عليه وسلم - أربعون سنة. وكان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة ، وقد بلغت حدّ التواتر حينئذ ، فما ذاك إلا إرهاص للرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وقال ابن كثير : هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش، فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأبادهم الله، وأرغم آنافهم، وخيب سعيهم، وأضل عملهم، وَرَدهم بشر خيبة. وكانوا قوما نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان. ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم -يا معشر قريش-على الحبشة لخيريتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد، صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء. (1)
وقال السيد رحمه الله :
" تشير هذه السورة إلى حادث مستفيض الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة ، عظيم الدلالة على رعاية اللّه لهذه البقعة المقدسة التي اختارها اللّه لتكون ملتقى النور الأخير ، ومحضن العقيدة الجديدة ، والنقطة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة الجاهلية في أرجاء الأرض ، وإقرار الهدى والحق والخير فيها .........
فهي حادثة ثابتة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل ..ثم كان ما أراده اللّه من إهلاك الجيش وقائده ، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر ، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة. كما يحكي عنهم القرآن الكريم .. وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة ، حتى قدموا به صنعاء ، فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات ..
وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير ، وأشكالها ، وأحجامها ، وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها. كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة.
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات ، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها ، أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى. وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات ، فالطير هو كل ما يطير.
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم :
__________
(1) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (8 / 483)(1/1605)
« وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة .. قال عكرمة : وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب. وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث : إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام. وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله. فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين ، وأصيب الجيش ، ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة ، وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء.
«هذا ما اتفقت عليه الروايات ، ويصح الاعتقاد به. وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله اللّه مع الريح.
«فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض ، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات. فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه ، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه. وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود اللّه في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر ، وأن هذا الحيوان الصغير - الذي يسمونه الآن بالمكروب - لا يخرج عنها. وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها .. ولا يتوقف ظهور أثر قدرة اللّه تعالى في قهر الطاغين ، على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال ، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب ، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به ، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها ..فلله جند من كل شيء.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد «وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته. فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت ، أرسل اللّه عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة ، فأهلكته وأهلكت قومه ، قبل أن يدخل مكة. وهي نعمة غمر اللّه بها أهل حرمه - على وثنيتهم - حفظا لبيته ، حتى يرسل من يحميه بقوة دينه - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت نعمة من اللّه حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه ، ولا ذنب اقترفه.
«هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة. وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل ، إن صحت روايته. ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل - وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما - ويهلك ، بحيوان صغير لا يظهر للنظر ، ولا يدرك بالبصر ، حيث ساقه القدر. لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر!!».
ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الأستاذ الإمام - صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم - أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام(1/1606)
وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو «الْعَصْفِ» .. لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة اللّه ، ولا أولى بتفسير الحادث. فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع. ومن حيث الدلالة على قدرة اللّه وتدبيره ، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس ، المعهودة المكشوفة لعلمهم ، هي التي جرت فأهلكت قوما أراد اللّه إهلاكهم. أو أن تكون سنة اللّه قد جرت بغير المألوف للبشر ، وغير المعهود المكشوف لعلمهم ، فحققت قدره ذاك.
إن سنة اللّه ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه. وما يعرف البشر من سنة اللّه إلا طرفا يسيرا يكشفه اللّه لهم بمقدار ما يطيقون ، وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل ، فهذه الخوارق - كما يسمونها - هي من سنة اللّه. ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه! ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها - متى صحت الرواية - أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة ، ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم. وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعا ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف. فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر .. إن طلوع الشمس وغروبها خارقة - وهي معهودة كل يوم - وإن ولادة كل طفل خارقة - وهي تقع كل لحظة ، وإلا فليجرب من شاء أن يجرب!
وإن تسليط طير - كائنا ما كان - يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقائها في هذه الأرض ، في هذا الأوان ، وإحداث هذا الوباء في الجيش ، في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت .. إن جريان قدر اللّه على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير. وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل اللّه طيرا خاصا يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلا خاصا في اللحظة المقررة .. هذه من تلك ..
هذه خارقة وتلك خارقة على السواء ..
فأما في هذا الحادث بالذات ، فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة ، وأن اللّه أرسل طيرا أبابيل غير معهودة - وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيرا ، نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها! - تحمل حجارة غير معهودة ، تفعل بالأجسام فعلا غير معهود ..
نحن أميل إلى هذا الاعتبار. لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة. ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب. فقد كان اللّه - سبحانه - يريد بهذا البيت أمرا. كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمنا وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة ، في أرض(1/1607)
حرة طليقة ، لا يهيمن عليها أحد من خارجها ، ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها. ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال ، حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة ، ويضربها مثلا لرعاية اللّه لحرماته وغيرته عليها .. فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود ، بكل مقوّماته وبكل أجزائه ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ ..
وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده ، فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا وأنملة أنملة ، ولا يشق الصدر عن القلب ..
وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآني : «فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» .. إيحاء مباشرا قريبا.
ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصا في أن الجيش أصيب بالجدري. فهي لا تزيد على أن تقول : إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة. ولم ترد في أقوالهما أية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض .. ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كانت الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل. وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر! وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله؟! إننا ندرك ونقدر دوافع المدرسة العقلية التي كان الأستاذ الإمام - رحمه اللّه - على رأسها في تلك الحقبة ..
ندرك ونقدر دوافعها إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم وأحداث التاريخ ، ومحاولة ردها إلى المألوف المكشوف من السنن الكونية .. فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها ، كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها ، وموجة الشكّ في مقولات الذين إلى قمتها.
فقامت هذه المدرسة تحاول أن ترد إلى الدين اعتباره على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل. ومن ثم تجتهد في تنقيته من الخرافات والأساطير. كما تحاول أن تنشئ عقلية دينية تفقه السنن الكونية ، وتدرك ثباتها واطرادها ، وترد إليها الحركات الإنسانية كما ترد إليها الحركات الكونية في الأجرام والأجسام - وهي في صميمها العقلية القرآنية - فالقرآن يرد الناس إلى سنن اللّه الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة.
ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى تركت آثارها في تلك المدرسة.(1/1608)
من المبالغة في الاحتياط ، والميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هو القاعدة الكلية لسنة اللّه. فشاع في تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده - كما شاع في تفسير تلميذيه الأستاذ الشيخ رشيد رضا والأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي - رحمهم اللّه جميعا - شاع في هذا التفسير الرغبة الواضحة في رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة اللّه دون الخارق منها ، وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه «المعقول»! وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيات.
ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئية الدافعة لمثل هذا الاتجاه ، فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه ، وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني الكامل. وهو طلاقة مشيئة اللّه وقدرته من وراء السنن التي اختارها - سواء المألوف منها للبشر أو غير المألوف - هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير. ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه - كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة.
هذا إلى جانب أن المألوف من سنة اللّه ليس هو كل سنة اللّه. إنما هو طرف يسير لا يفسر كل ما يقع من هذه السنن في الكون. وأن هذه كتلك دليل على عظمة القدرة ودقة التقدير ..
وكل ذلك مع الاحتياط من الخرافة ونفي الأسطورة في اعتدال كامل ، غير متأثر بإيحاء بيئة خاصة ، ولا مواجهة عرف تفكيري شائع في عصر من العصور!!!
إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية ، لعل هنا مكان تقريرها .. إنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة. لا مقررات عامة. ، ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص.
بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا. فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانية ، ومنها نكوّن قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعا فإذا قررت لنا أمرا فهو المقرر كما قررته! ذلك أن ما نسميه «العقل» ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية هو إفراز واقعنا البشري المحدود ، وتجاربنا البشرية المحدودة.
وهذا العقل وإن يكن في ذاته قوة مطلقة لا تتقيد بمفردات التجارب والوقائع بل تسمو عليها إلى المعنى المجرد وراء ذواتها ، إلا أنه في النهاية محدود بحدود وجودنا البشري. وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند اللّه.
والقرآن صادر عن هذا المطلق فهو الذي يحكمنا. ومقرراته هي التي نستقي منها مقرراتنا العقلية ذاتها. ومن ثم لا يصلح أن يقال : إن مدلول هذا النص يصطدم مع العقل فلا بد من تأويله - كما يرد كثيرا في مقررات أصحاب هذه المدرسة. وليس معنى هذا هو الاستسلام للخرافة. ولكن معناه أن العقل ليس(1/1609)
هو الحكم في مقررات القرآن. ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا ، وكيف تصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها ، وتجاه الحقائق الكونية الأخرى .. " (1)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3974)(1/1610)
(106) سورة قريش
سميت هذه السورة في عهد السلف "سورة لإيلاف قريش" قال عمرو بن ميمون الأودي صلى عمر بن الخطاب المغرب فقرأ في الركعة الثانية {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} و {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} وهذا ظاهر في إرادة التسمية ولم يعدها في "الإتقان" في السور التي لها أكثر من اسم.
وسميت في المصاحف وكتب التفسير "سورة قريش" لوقوع اسم قريش فيها ولم يقع في غيرها، وبذلك عنونها البخاري في "صحيحه".
والسورة مكية عند جماهير العلماء. وقال ابن عطية: بلا خلاف. وفي القرطبي عن الكلبي والضحاك أنها مدنية، ولم يذكرها في "الإتقان" مع السور المختلف فيها.
وقد عدت التاسعة والعشرين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة التين وقبل سورة القارعة.
وهي سورة مستقلة بإجماع المسلمين على أنها سورة خاصة.
وجعلها أبي بن كعب مع سورة الفيل سورة واحدة ولم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة التي كانوا يجعلونها علامة فصل بين السور، وهو ظاهر خبر عمرو بن ميمون عن قراءة عمر بن الخطاب. والإجماع الواقع بعد ذلك نقض ذلك.
وعدد آياتها أربع عند جمهور العادين. وعدها أهل مكة والمدينة خمس آيات.
ورأيت في مصحف عتيق من المصاحف المكتوبة في القيروان عددها أربع آيات مع أن قراءة أهل القيروان قراءة أهل المدينة.
أغراضها
أمر قريش بتوحيد الله تعالى بالربوبية تذكيرا لهم بنعمة أن الله مكن لهم السير في الأرض للتجارة برحلتي الشتاء والصيف لا يخشون عاديا يعدو عليهم.
وبأنه أمنهم من المجاعات وأمنهم من المخاوف لما وقر في نفوس العرب من حرمتهم لأنهم سكان الحرم وعمار الكعبة.
وبما ألهم الناس من جلب الميرة إليهم من الآفاق المجاورة كبلاد الحبشة.(1/1611)
ورد القبائل فلا يغير على بلدهم أحد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67] فأكسبهم ذلك مهابة في نفوس الناس وعطفا منهم. (1)
مناسبتها لما قبلها
أشارت سورة « الفيل » إلى هذه المنّة العظيمة التي امتن بها اللّه سبحانه وتعالى على « قريش » إذ دفع عن بلدهم الحرام ، وعن بيته الحرام هذا المكروه ، وردّ عنهم هذا البلاء ، وأخذ المعتدى على حرمة هذا البيت أخذ عزيز مقتدر .. وبهذا وجدت قريش فى هذا البلد أمنها ، ووجدت فى جوار البيت الحرام حماها ، وصار لها فى قلوب العرب مكانة عالية ، وقدر عظيم ، لا يستطيع أحد أن يحدّث نفسه بسوء ينال به أحدا من أهل هذا البلد الحرام ، وقد رأى ما صنع اللّه بمن أراد به أو بأهله سوءا .. وجاءت سورة « قريش » بعد هذا ، وكأنها تعقيب على حادثة الفيل ، ونتيجة لازمة من نتائج هذه الحادثة .. ولهذا وصل كثير من العلماء هذه السورة بسورة الفيل ، وجعل اللام فى قوله تعالى : « لِإِيلافِ قُرَيْشٍ » لام تعليل ، متعلقا بقوله تعالى « فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ». . أي جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش .. كما سنرى ذلك بعد .. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « قريش » تسمى - أيضا - سورة « لإيلاف قريش » وهي من السور المكية عند جماهير العلماء ، وقيل مدنية ، والأول أصح لأنه المأثور عن ابن عباس وغيره ، وعدد آياتها أربع آيات ، وعند الحجازيين خمس آيات.
وكان نزولها بعد سورة « التين » وقبل سورة « القارعة » ، فهي السورة التاسعة والعشرون في ترتيب النزول.
2 - ومن أهدافها : تذكير أهل مكة بجانب من نعم اللّه - تعالى - عليهم لعلهم عن طريق هذا التذكير يفيئون إلى رشدهم ، ويخلصون العبادة لخالقهم وما نحهم تلك النعم العظيمة. (3)
في السورة تذكير لقريش بنعم اللّه عليهم ودعوة لهم إلى عبادته وقد روي أنها مدنية ، غير أن أسلوبها يلهم مكيتها كما أن أكثر الروايات متفقة على ذلك. (4)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 485)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1680)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 513)
(4) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 167)(1/1612)
سورة قريش مكيّة ، وهي أربع آيات.
تسميتها : سميت سورة قريش تذكيرا لهم بنعم اللَّه عليهم في مطلع السورة : لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ...
مناسبتها لما قبلها :
ترتبط السورة بما قبلها من وجهين :
1 - كلتا السورتين تذكير بنعم اللَّه على أهل مكة ، فسورة الفيل تشتمل على إهلاك عدوهم الذي جاء لهدم البيت الحرام أساس مجدهم وعزهم ، وهذه السورة تذكر نعمة أخرى اجتماعية واقتصادية ، حيث حقق اللَّه بينهم الألفة واجتماع الكلمة ، وأكرمهم بنعمة الأمن والاستقرار ، ونعمة الغنى واليسار والإمساك بزمام الاقتصاد التجاري في الحجاز ، بالقيام برحلتين صيفا إلى الشام وشتاء إلى اليمن.
2 - هذه السورة شديدة الاتصال بما قبلها ، لتعلق الجار والمجرور في أولها بآخر السورة المتقدمة : لِإِيلافِ قُرَيْشٍ .. أي لإلف قريش أي أهلك اللَّه أصحاب الفيل ، لتبقى قريش ، ولذا كانتا في مصحف أبيّ سورة واحدة. ولكن في المصحف الإمام فصلت هذه السورة عن التي قبلها ، وكتب بينهما : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت هذه السورة المكية تعداد نعم اللَّه العظمى على قريش أهل مكة ، حيث جمع اللَّه كلمتهم ، وحقق الألفة والتئام الشمل بينهم : لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ومكّنهم من التنقل وحرية التجارة إلى اليمن شتاء ، وإلى الشام صيفا ، لتوفير الثروة والغنى : إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ.
وهيّأ لهم في البلد الآمن الحرام نعمة الأمن والاطمئنان والاستقرار دون نزاع من أحد : فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. (1)
مكية. وآياتها أربع ، وفيها أمرت قريش بعبادة ربها صاحب النعم عليها. (2)
ويقال سورة لإيلاف قريش ، وهي مكية في قول الجمهور مدنية في قول الضحاك وابن السائب ، وآيها خمس في الحجازي وأربع في غيره ، ومناسبتها لما قبلها أظهر من أن تخفى بل قالت طائفة إنهما سورة واحدة واحتجوا عليه بأن أبيّ بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة بما روي عن عمرو بن ميمون الأزدي قال : صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه فقرأ في الركعة الأولى والتين ، وفي الثانية ألم تر ولإيلاف قريش من غير أن يفصل بالبسملة ، وأجيب بأن جمعا أثبتوا الفصل في
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 412) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 244)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 906)(1/1613)
مصحف أبيّ والمثبت مقدم على النافي ، وبأن خبر ابن ميمون إن سلمت صحته محتمل لعدم سماعه ولعله قرأها سرا ، ويدل على كونها سورة مستقلة ما أخرج البخاري في تاريخه والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الخلافيات عن أم هانىء بنت أبي طالب أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : «فضل اللّه تعالى قريشا بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم ولا يعطاها أحد بعدهم : أني فيهم وفي لفظ النبوة فيهم ، والخلافة فيهم ، والحجابة فيهم ، والسقاية فيهم ، ونصروا على الفيل ، وعبدوا اللّه تعالى سبع سنين. وفي لفظ عشر سنين لم يعبده سبحانه أحد غيرهم ، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم لإيلاف قريش». وجاء نحو هذا الأخير في خبرين آخرين أحدهما عن الزبير بن العوام يرفعه والثاني عن سعيد بن المسيب عنه - صلى الله عليه وسلم - ويؤيد الاستقلال كون آيها ليست على نمط آي ما قبلها وأنت تعلم أنه بعد ثبوت تواتر الفصل لا يحتاج إلى شيء مما ذكر. (1)
تحدثت هذه السورة عن نعم الله الجليلة على أهل مكة ، حيث كانت لهم رحلتان : رحلة في الشتاء إلى اليمن ، ورحلة في الصيف إلى الشام من أجل التجارة ، وقد اكرم الله تعالى قريشا بنعمتين عظيمتين من نعمه الكثيرة هما : نعمة الأمن والإستقرار ، ونعمة الغنى واليسار [ فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ] . (2)
مقصودها الدلالة على ضد ما دلت عليه الفيل بأن إهلاك الجاحدين المعاندين لإصلاح المقربين العابدين ، وهو بشارة عظيمة لقريش خاصة بإظهار شرفهم في الدارين ، واسمها قريش ظاهر الدلالة على ذلك ، والتعبير بقريش دون قومك أو الحمس مثلا ونحوه دال على أنهم يغلبون الناس أجمع بقوة كما يدل عليه الاسم ، وبغير قوة كما دل عليه ما فعل لأجلهم من قصة الفيل (3)
استجاب اللّه دعوة خليله إبراهيم ، وهو يتوجه إليه عقب بناء البيت وتطهيره : «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ» .. فجعل هذا البيت آمنا ، وجعله عتيقا من سلطة المتسلطين وجبروت الجبارين وجعل من يأوي إليه آمنا والمخافة من حوله في كل مكان .. حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربهم وعبدوا معه الأصنام .. لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام.
ولما توجه أصحاب الفيل لهدمه كان من أمرهم ما كان ، مما فصلته سورة الفيل. وحفظ اللّه للبيت أمنه ، وصان حرمته وكان من حوله كما قال اللّه فيهم : «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟».
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 470)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 526)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 533)(1/1614)
وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة ، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش ، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين ، حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية ، وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة - عن طريق القوافل - إلى اليمن في الجنوب ، وإلى الشام في الشمال. وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين : إحداهما إلى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف.
ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء وعلى ما كان شائعا من غارات السلب والنهب ، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية ، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول ، في أمان وسلام وطمأنينة. وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين ، فصارتا لهم عادة وإلفا! هذه هي المنة التي يذكرهم اللّه بها - بعد البعثة - كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة ، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف ، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين - وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل اللّه. ومنة أمنهم الخوف. سواء في عقر دارهم بجوار بيت اللّه ، أم في أسفارهم وترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها اللّه وحرسها من كل اعتداء.
يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير اللّه معه وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين ..
يقول لهم : من أجل إيلاف قريش : رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة ، وتنال من ورائها ما تنال «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ» ..
وكان الأصل - بحسب حالة أرضهم - أن يجوعوا ، فأطعمهم اللّه وأشبعهم من هذا الجوع «وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» ..
وكان الأصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف! وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس. ويثير الخجل في القلوب. وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها. وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده. وها هو ذا عبد المطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة. إنما يواجهه برب هذا البيت الذي يتولى حماية بيته!
لم يواجهه بصنم ولا وثن ، ولم يقل له .. إن الآلهة ستحمي بيتها. إنما قال له : «أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه» ..(1/1615)
ولكن انحراف الجاهلية لا يقف عند منطق ، ولا يثوب إلى حق ، ولا يرجع إلى معقول.
وهذه السورة تبدو امتدادا لسورة الفيل قبلها من ناحية موضوعها وجوها. وإن كانت سورة مستقلة مبدوءة بالبسملة ، والروايات تذكر أنه يفصل بين نزول سورة الفيل وسورة قريش تسع سور. ولكن ترتيبهما في المصحف متواليتين يتفق مع موضوعهما القريب .. (1)
مناسبتها لما قبلها
أشارت سورة « الفيل » إلى هذه المنّة العظيمة التي امتن بها اللّه سبحانه وتعالى على « قريش » إذ دفع عن بلدهم الحرام ، وعن بيته الحرام هذا المكروه ، وردّ عنهم هذا البلاء ، وأخذ المعتدى على حرمة هذا البيت أخذ عزيز مقتدر .. وبهذا وجدت قريش فى هذا البلد أمنها ، ووجدت فى جوار البيت الحرام حماها ، وصار لها فى قلوب العرب مكانة عالية ، وقدر عظيم ، لا يستطيع أحد أن يحدّث نفسه بسوء ينال به أحدا من أهل هذا البلد الحرام ، وقد رأى ما صنع اللّه بمن أراد به أو بأهله سوءا ..
وجاءت سورة « قريش » بعد هذا ، وكأنها تعقيب على حادثة الفيل ، ونتيجة لازمة من نتائج هذه الحادثة .. ولهذا وصل كثير من العلماء هذه السورة بسورة الفيل ، وجعل اللام فى قوله تعالى : « لِإِيلافِ قُرَيْشٍ » لام تعليل ، متعلقا بقوله تعالى « فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ».
. أي جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش .. كما سنرى ذلك بعد .. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3982)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1680)(1/1616)
(107) سورة الماعون
سميت هذه السورة في كثير من المصاحف وكتب التفسير "سورة الماعون" لورود لفظ الماعون فيها دون غيرها.
وسميت في بعض التفاسير "سورة أرأيت" وكذلك في مصحف من مصاحف القيروان في القرن الخامس، وكذلك عنونها في "صحيح البخاري".
وعنونها ابن عطية ب "سورة أرأيت الذي". وقال الكواشي في "التلخيص" "سورة الماعون والدين وأرأيت"، وفي "الإتقان": وتسمى "سورة الدين" وفي "حاشيتي الخفاجي وسعدي" تسمى "سورة التكذيب" وقال البقاعي في "نظم الدرر" تسمى "سورة اليتيم". وهذه ستة أسماء.
وهي مكية في قول الأكثر. وروي عن ابن عباس، وقال القرطبي عن قتادة: هي مدنية. وروي عن ابن عباس أيضا. وفي "الإتقان": قيل نزلت ثلاث أولها بمكة أي إلى قوله: {الْمِسْكِينِ} [الماعون: 3] وبقيتها نزلت بالمدينة، أي بناء على أن قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] إلى آخر السورة أريد بها المنافقون وهو مروي عن ابن عباس وقاله هبة الله الضرير وهو الأظهر.
وعدت السابعة عشرة في عداد نزول السور بناء على أنها مكية، نزلت بعد سورة التكاثر وقبل سورة الكافرون.
وعدت آياتها ستا عند معظم العادين: وحكى الآلوسي: أن الذين عدوا آياتها ستا أهل العراق أي البصرة والكوفة وقال الشيخ علي النوري الصفاقسي في "غيث النفع": وآيها سبع حمصي أي شامي وست في الباقي. وهذا يخالف ما قاله الآلوسي.
أغراضها
من مقاصد التعجيب من حال من كذبوا بالبعث وتفظيع أعمالهم من الاعتداء على الضعيف واحتقاره والإمساك عن إطعام المسكين، والإعراض عن قواعد الإسلام من الصلاة والزكاة لأنه لا يخطر بباله أن يكون في فعله ذلك ما يجلب له غضب الله وعقابه. (1)
مناسبتها لما قبلها
جاء فى سورة « قريش » تنويه عظيم بشأن الشّبع من الجوع ، والأمن من الخوف ، حيث لا حياة بغير طعام ، ولا طعم لحياة بغير أمن!
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 494)(1/1617)
وجاءت سورة « الماعون » لتضرب ـ والحديد ساخن ـ كما يقولون ـ على أوتار هذه القلوب الجافية ، ولتهزّ تلك المشاعر الجامدة ، التي عرفت طعم الشّبع بعد الجوع ، وذاقت هناءة الأمن بعد الخوف ، حتى تندّ بالمعروف ، وتسخو بالخير ، قبل أن تنسى لذعة الجوع ، ورعدة الخوف. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الماعون » تسمى - أيضا - سورة « أرأيت » وسورة « الدين » وسورة « التكذيب » وهي مكية في قول الجمهور ، وقيل : هي مدنية ...
قال الآلوسى : هي مكية في قول الجمهور ... وروى عن قتادة والضحاك أنها مدنية ، وقال هبة اللّه المفسر الضرير : نزل نصفها - الأول - بمكة في العاص بن وائل ، ونصفها - الثاني - بالمدينة في عبد اللّه بن أبى المنافق.
وعدد آياتها سبع آيات في المصحف العراقي ، وست في المصاحف الباقية ... « 1 ».
2 - ومن أهدافها : التعجيب من حال المشركين ، الذين كذبوا بالبعث ، واعتدوا على اليتامى ، وبخلوا بما آتاهم اللّه - تعالى - من فضله ، وهجروا الصلاة ، ومنعوا الزكاة. (2)
تضمنت السورة نعيا وتنديدا بالذين يكذبون بالآخرة ويقسون على اليتيم ويحرمون المسكين من الطعام ويراؤون في صلاتهم وأعمالهم ويمنعون ماعونهم عن ذوي الحاجة إليه ، وقد روي أن السورة مدنية كما روي أن آياتها الثلاث الأخيرة فقط هي مدنية. ومع احتمال صحة الرواية الأخيرة استلهاما من مضمون الآيات ، فإننا نميل إلى ترجيح كونها مكية جميعها وكونها عرضا عاما لأهداف الدعوة. (3)
سورة الماعون مكيّة ، وهي سبع آيات.
مكيتها أو مدنيتها : هذه السورة مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول ابن عباس وقتادة ، وقال هبة اللَّه المفسر الضرير : نزل نصفها بمكة في العاصي بن وائل ، ونصفها بالمدينة في عبد اللَّه بن أبي المنافق.
تسميتها :
سميت سورة الماعون ، لأن اللَّه تعالى ذم في نهايتها المدنية الذين يمنعون الماعون : وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ [7] كالساهين عن الصلاة ، والمنافقين.
والماعون : ما يستعيره الجار من جاره من أدوات الطبخ ، كالقدر والملح والماء ، وآلات الحراثة والزرع ، كالفأس والدلو ، ووسائل الخياطة كالإبرة والخيط ونحو ذلك من كل ما يستعان وينتفع به من المنافع
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1683)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 517)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 18)(1/1618)
السريعة. وتسمى أيضا سورة الدّين للنعي في مطلعها المكي على الذي يكذب بالدّين ، أي الجزاء الأخروي.
مناسبتها لما قبلها :
ترتبط السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة :
1 - ذم اللَّه في السورة السابقة سورة قريش الجاحدين لنعمة اللَّه الذين أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وذم في هذه السورة من لم يحضّ على طعام المسكين.
2 - أمر اللَّه في السورة المتقدمة بعبادته وحده وتوحيده : لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
وذم في هذه السورة الذين هم عن صلاتهم ساهون ، وينهون عن الصلاة.
3 - عدّد اللَّه تعالى في السورة الأولى نعمه على قريش ، وهم مع ذلك ينكرون البعث ، ويجحدون الجزاء في الآخرة ، وأتبعه هنا بتهديدهم وتخويفهم من عذابه لإنكار الدّين ، أي الجزاء الأخروي.
ما اشتملت عليه السورة :
تحدثت هذه السورة المكية في مطلعها عن الكافر ، وفي نهايتها المدنية عن المنافق.
أما مطلعها فهو في ذمّ الكافر المكذب بيوم الحساب والجزاء : أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ووصفته بصفتين : الأولى - انتهاره وزجره وطرده اليتيم ، والثانية - عدم الحض أو الحث على إطعام المسكين ، فلم يحسن في عبادة ربه ، ولم يفعل الخير لغيره.
وأما خاتمتها فهي في ذم المنافق الذي أظهر الإسلام وأخفى الكفر ، ووصفته بصفات ثلاث : الأولى - الغفلة عن الصلاة ، والثانية - مراءاته الناس بعمله ، والثالثة - منعه الماعون الذي يستعان وينتفع به بين الجيران ، فهو لا يعمل للَّه ، بل يرائي في عمله وصلاته.
وتوعدت الفريقين بالخزي والعذاب والهلاك ، ولفتت الأنظار إليهم بأسلوب الاستهجان والاستغراب والتعجيب من صنيعهم. (1)
مكية. وآياتها سبع آيات ، وفيها ينعى اللّه على من يكذب ، ويبين صفاته. (2)
وتسمى سورة أرأيت والدين والتكذيب. وهي مكية في قول الجمهور وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير كما في الدر المنثور. وفي البحر أنها مدنية في قول ابن عباس وقتادة وحكي ذلك أيضا عن الضحاك. وقال هبة اللّه المفسر الضرير : نزل نصفها بمكة في العاص بن وائل ، ونصفها في المدينة في عبد
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 419) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 247)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 908)(1/1619)
اللّه بن أبي المنافق. وآيها سبع في العراقي وست في الباقية. ولما ذكر سبحانه في سورة قريش أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ [قريش : 4] ذم عز وجل هنا من لم يحض على طعام المسكين ولما قال تعالى هناك لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ [قريش : 3] ذم سبحانه هنا من سها عن صلاته أو لما عدد نعمة تعالى على قريش وكانوا لا يؤمنون بالبعث والجزاء أتبع سبحانه امتنانه عليهم بتهديدهم بالجزاء وتخويفهم من عذابه (1)
* هذه السورة مكية ، وقد تحدثت بأيجاز عن فريقين من البشر هما :
أ - الكافر الجاحد لنعم الله ، المكذب بيوم الحساب والجزاء .
ب - المنافق الذي لا يقصد بعمله وجه الهل ، بل يرائي في أعماله وصلاته.
* أما الفريق الأول : فقد ذكر تعالى من صفاتهم الذميمة ، أنهم يهينون اليتيم ويزجرونه ، غلظة لا تأديبا ، ولا يفعلون الخير ، حتى ولو بالتذكير بحق المسكين والفقير ، فلا هم أحسنوا في عبادة ربهم ، ولا أحسنوا إلى خلقه [ أرأيت الذي يكذب بالدين ؟ فذلك الذي يدع اليتيم . ولا يحض على طعام المسكين . . ] الأيات.
* وأما الفريق الثاني : فهم المنافقون ، الغافلون عن صلاتهم ، الذين لا يؤدونها في أوقاتها ، والذين يقومون بها " صورة " لا (معنى) المراءون بأعمالهم ، وقد توعدت الفريقين بالويل والهلإلي ، وشنعت عليهم أعظم تشنيع ، بأسلوب الاستغراب والتعجيب من ذلك الصنيع ! ! . (فويل للمصلين . الذين هم عن صلاتهم ساهون . الذين هم يراءون ويمنعون الماعون) (2)
مقصودها التنبيه على أن التكذيب بالبعث لأجل الجزاء أبو الخبائث ، فإنه يجزئ المكذب على مساوئ الأخلاق ومنكرات الأ " مال حتى تكون الاستهانة بالعظام خلقا له فيصير ممن ليس له خلاق ، وكل من اسمائها الأربعة في غاية الظهور في الدلالة على ذلك بتأمل السورة لتعرف هذه الأشياء المذكورة ، فهي ناهية عن المنكرات بتصريحها ، داعية إلى المعالي بإفهامها وتلويحها (3)
هذه السورة مكية في بعض الروايات ، ومكية مدنية في بعض الروايات (الثلاث الآيات الأولى مكية والباقيات مدنية) وهذه الأخيرة هي الأرجح. وإن كانت السورة كلها وحدة متماسكة ، ذات اتجاه واحد ، لتقرير حقيقة كلية من حقائق هذه العقيدة ، مما يكاد يميل بنا إلى اعتبارها مدنية كلها ، إذ أن الموضوع الذي تعالجه هو من موضوعات القرآن المدني - وهو في جملته يمت إلى النفاق والرياء مما لم يكن معروفا في الجماعة المسلمة في مكة.
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 474)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 527)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 541)(1/1620)
ولكن قبول الروايات القائلة بأنها مكية مدنية لا يمتنع لاحتمال تنزيل الآيات الأربع الأخيرة في المدينة وإلحاقها بالآيات الثلاث الأولى لمناسبة التشابه والاتصال في الموضوع .. وحسبنا هذا لنخلص إلى موضوع السورة وإلى الحقيقة الكبيرة التي تعالجها ..
إن هذه السورة الصغيرة ذات الآيات السبع القصيرة تعالج حقيقة ضخمة تكاد تبدل المفهوم السائد للإيمان والكفر تبديلا كاملا. فوق ما تطلع به على النفس من حقيقة باهرة لطبيعة هذه العقيدة ، وللخير الهائل العظيم المكنون فيها لهذه البشرية ، وللرحمة السابغة التي أرادها اللّه للبشر وهو يبعث إليهم بهذه الرسالة الأخيرة ..
إن هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر ، ما لم تكن صادرة عن إخلاص للّه وتجرد ، مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح ، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى.
كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة ، يؤدي منها الإنسان ما يشاء ، ويدع منها ما يشاء ..
إنما هو منهج متكامل ، تتعاون عباداته وشعائره ، وتكاليفه الفردية والاجتماعية ، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعود كلها على البشر .. غاية تتطهر معها القلوب ، وتصلح الحياة ، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء .. وتتمثل فيها رحمة اللّه السابغة بالعباد.
ولقد يقول الإنسان بلسانه : إنه مسلم وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه. وقد يصلي ، وقد يؤدي شعائر أخرى غير الصلاة ولكن حقيقة الإيمان وحقيقة التصديق بالدين تظل بعيدة عنه ويظل بعيدا عنها ، لأن لهذه الحقيقة علامات تدل على وجودها وتحققها. وما لم توجد هذه العلامات فلا إيمان ولا تصديق مهما قال اللسان ، ومهما تعبد الإنسان!
إن حقيقة الإيمان حين تستقر في القلب تتحرك من فورها (كما قلنا في سورة العصر) لكي تحقق ذاتها في عمل صالح. فإذا لم تتخذ هذه الحركة فهذا دليل على عدم وجودها أصلا. وهذا ما تقرره هذه السورة نصا .. (1)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3984)(1/1621)
(108) سورة الكوثر
سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها في جميع التفاسير أيضا "سورة الكوثر" وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من "جامعه". وعنونها البخاري في صحيحه سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ولم يعدها في "الإتقان" مع السور التي ليس لها أكثر من اسم. ونقل سعد الله الشهير بسعدي في "حاشيته على تفسير البيضاوي" عن البقاعي أنها تسمى "سورة النحر".
وهل هي مكية أو مدنية? تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا، فهي مكية عند الجمهور وأقتصر عليه أكثر المفسرين، ونقل الخفاجي عن كتاب النشر قال: أجمع من نعرفه على أنها مكية. قال الخفاجي: وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها.
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة هي مدنية ويشهد لهم ما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال: "أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] ثم قال: أتدرون ما الكوثر?" قلنا الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة" الحديث. وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ آنفا في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا.
ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أن تكون السورة مكية، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى: {وانحر} من أن النحر في الحج أو يوم الأضحى تكون السورة مدنية ويبعث على أن قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ليس ردا على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك.
والأظهر أن هذه السورة مدنية وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها.
وعلى القول بأنها مكية عدوها الخامسة عشرة في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة العاديات وقبل سورة التكاثر. وعلى القول بأنها مدنية فقد قيل: إنها نزلت في الحديبية.
وعدد آيها ثلاث بالاتفاق.
وهي أقصر سور القرآن عدد كلمات وعدد حروف، وأما في عدد الآيات فسورة العصر وسورة النصر مثلها ولكن كلماتها أكثر.
أغراضها
اشتملت على بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أعطي الخير الكثير في الدنيا والآخرة.(1/1622)
وأمره بأن يشكر الله على ذلك بالإقبال على العبادة.
وأن ذلك هو الكمال الحق لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة وهم مغضوب عليهم من الله تعالى لأنهم أبغضوا رسوله، وغضب الله بتر لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله.
وإن انقطاع الولد الذكر فليس بترا لأن ذلك لا أثر له في كلام الإنسان. (1)
مناسبتها لما قبلها
فى سورة « الماعون » ، توعد اللّه الذين لا يقيمون الصلاة ، ولا يؤدّون الزكاة لأنهم مكذبون بالدين ، غير مؤمنين بالبعث والحساب ، والجزاء ـ توعد اللّه سبحانه هؤلاء ، بالويل والهلاك ، والعذاب الشديد فى نار جهنم ..وفى مقابل هذا ، جاءت سورة الكوثر تزفّ إلى سيد المؤمنين باللّه واليوم الآخر ، هذا العطاء الجزيل ، وذلك الفضل الكبير من ربه .. ومن هذا العطاء ، وذلك الفضل ، ينال كلّ مؤمن ومؤمنة نصيبه من فضل اللّه ، وعطائه على قدر ما عمل .." (2)
مقدمة وتمهيد
سورة « الكوثر » وتسمى - أيضا - سورة « النحر » ، تعتبر أقصر سورة في القرآن الكريم ، وهي من السور المكية عند الجمهور ، وقيل مدنية.
قال بعض العلماء : والأظهر أن هذه السورة مدنية ، وعلى هذا سنسير في تفسير آياتها ، وعلى القول بأنها مكية عددها الخامسة عشرة ، في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة « العاديات » ، وقيل سورة « التكاثر » ، وعلى القول بأنها مدنية ، فقد قيل إنها نزلت في الحديبية. وعدد آياتها ثلاث آيات بالاتفاق « 1 ».
والسورة الكريمة بشارة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن اللّه - تعالى - سيعطيه الخير الجزيل ، والذكر الخالد. (3)
في السورة بشرى وتطمئن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتنديد بمبغضيه. وقد روي أنها مدنية ومضمونها وأسلوبها يلهمان مكيتها وهو ما عليه الجمهور. (4)
سورة الكوثر مكيّة ، وهي ثلاث آيات.
مكيتها أو مدنيتها : هذه السورة مكية في المشهور وقول الجمهور ، وقال الحسن وعكرمة وقتادة : مدنية ، وهو رأي ابن كثير.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 501)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1689)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 521)
(4) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 11)(1/1623)
تسميتها : سميت سورة الكوثر لافتتاحها بقول اللَّه تعالى مخاطبا نبيه - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير الدائم في الدنيا والآخرة ، ومنه : نهر الكوثر في الجنة.
مناسبتها لما قبلها :
وصف اللَّه الكفار والمنافقين الذين يكذبون بالدين أي بالجزاء الأخروي بأربع صفات : البخل في قوله : يَدُعُّ الْيَتِيمَ ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وترك الصلاة في قوله : الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ. والرياء أو المراءاة في الصلاة في قوله : الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ومنع الخير والزكاة في قوله :وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ.
وذكر اللَّه تعالى في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر أنه أعطاه الكوثر في مقابلة البخل في قوله : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير الدائم ، فأعط أنت الكثير ولا تبخل ، وأمره بالمواظبة على الصلاة : فَصَلِّ أي دم على الصلاة في مقابلة ترك الصلاة ، وأمره بالإخلاص في الصلاة في قوله : فَصَلِّ لِرَبِّكَ أي لرضا ربك ، لا لمراءاة الناس ، في مقابلة المراءاة في الصلاة ، وأمره بالتصدق بلحم الأضاحي على الفقراء ، في مقابلة منع الماعون «1».
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت هذه السورة المكية الحديث عن مقاصد ثلاثة هي :
1 - بيان فضل اللَّه الكريم وامتنانه على نبيه الرحيم بإعطائه الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، ومنه نهر الكوثر في الجنة.
2 - أمر النبي وكذا أمته بالمواظبة على الصلاة ، والإخلاص فيها ، ونحر الأضاحي شكرا للَّه تعالى.
3 - بشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنصره على أعدائه ، وبخزيهم وإذلالهم وحقارتهم ، بسبب انقطاعهم عن كل خير في الدنيا والآخرة. (1)
مكية على الصحيح ، وآياتها ثلاث آيات. وفيها يذكر اللّه أنه أعطى نبيه الخير الكثير ثم يطالبه بالصلاة والصدقة شكرا له على ما أنعم. (2)
وتسمى كما قال البقاعي سورة النحر. وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل ، ونسب في البحر إلى الجمهور ، مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد ، وفي الإتقان أنه الصواب ورجحه النووي عليه الرحمة في شرح صحيح مسلم لما أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي في سننه
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 428) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 251)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 910)(1/1624)
وغيرهم عن أنس بن مالك قال : أغفى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إغفاءة فرفع رأسه متبسما فقال : «إنه أنزل عليّ آنفا سورة» فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حتى ختمها الحديث.
وفي أخبار سبب النزول ما يقتضي كلّا من القولين وستسمع بعضا منها إن شاء اللّه تعالى. ومن هنا استشكل أمرها وذكر الخفاجي أن لبعضهم تأليفا صحح فيه أنها نزلت مرتين وحينئذ فلا إشكال. وآيها ثلاث بلا خلاف وليس في القرآن كما أخرج البيهقي عن ابن شبرمة سورة آيها أقل من ذلك بل قد صرحوا بأنها أقصر سورة في القرآن. وقال الإمام : هي كالمقابلة للتي قبلها لأن السابقة وصف اللّه تعالى فيها المنافق بأربعة أمور البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة فذكر عز وجل في هذه السورة في مقابلة البخل إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر : 1] أي الخير الكثير ، وفي مقابلة ترك الصلاة فَصَلِّ [الكوثر : 2] أي دم على الصلاة ، وفي مقابلة الرياء لِرَبِّكَ [الكوثر : 2] أي لرضاه لا للناس وفي مقابلة منع الماعون وَانْحَرْ [الكوثر : 3] وأراد به سبحانه التصدق بلحوم الأضاحي. ثم قال : فاعتبر هذه المناسبة العجيبة انتهى فلا تغفل. (1)
* سورة الكوثر مكية ، وقد تحدثت عن فضل الله العظيم على نبيه الكريم ، بإعطائه الخير الكثير ، والنعم العظيمة في الدنيا والآخرة ، ومنها [ نهر الكوثر ] وغير ذلك من الخير العظيم العميم ، وقد دعت الرسول إلى إدامة الصلاة ، ونحر الهدي شكرا لله [ إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وإنحر ] .
* وختمت السورة ببشارة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) بخزي أعدائه ، ووصفت مبغضيه بالذلة والحقارة ، والإنقطاع من كل خير في الدنيا والآخرة ، بينما ذكر الرسول مرفوع على المنائر والمنابر ، واسمه الشريف على كل لسان ، خالد إلى آخر الدهر والزمان [ إن شانئك هو الأبتر ] (2) .
مقصودها المنحة بكل خير يمكن أن يكون ، واسمها الكوثر واضح في ذلك وكذا النحر لأنه معروف في نحر الإبل ، وذلك غاية الكرم عند العرب (3)
هذه السورة خالصة لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كسورة الضحى ، وسورة الشرح. يسري عنه ربه فيها ، ويعده بالخير ، ويوعد أعداءه بالبتر ، ويوجهه إلى طريق الشكر.
ومن ثم فهي تمثل صورة من حياة الدعوة ، وحياة الداعية في أول العهد بمكة. صورة من الكيد والأذى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوة اللّه التي يبشر بها وصورة من رعاية اللّه المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه ومن تثبيت اللّه وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه.
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 478)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 529)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 547)(1/1625)
كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان. وحقيقة الضلال والشر والكفران .. الأولى كثرة وفيض وامتداد.
والثانية قلة وانحسار وانبتار. وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك ..
ورد أن سفهاء قريش ممن كانوا يتابعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء. ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند اللّه ، من أمثال العاص ابن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل ، وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه أبتر. يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده. وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره! وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعا. وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وشانئيه ، ولعلها أو جعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضا.
ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه - صلى الله عليه وسلم - بالرّوح والندى ، وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه. (1)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3987)(1/1626)
(109) سورة الكافرون
عنونت هذه السورة في المصاحف التي بأيدينا قديمها وحديثها وفي معظم التفاسير "سورة الكافرون" بإضافة "سورة" إلى {الْكَافِرُونَ} وثبوت واو الرفع في {الْكَافِرُونَ} على حكاية لفظ القرآن الواقع في أولها.
ووقع في "الكشاف" و"تفسير ابن عطية" و"حرز الأماني" "سورة الكافرون" بياء الخفض في لفظ {الْكَافِرُونَ} بإضافة "سورة" إليه أن المراد سورة ذكر الكافرين، أو نداء الكافرين، وعنونها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1].
قال في "الكشاف" و"الإتقان": وتسمى هي وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بالمشققشتين لأنهما تشقشقان من الشرك أي تبرئان منه يقال: قشقش، إذ أزال المرض.
وتسمى أيضا سورة الإخلاص فيكون هذان الاسمان مشتركين بينها وبين سورة قل هو الله أحد.
وقد ذكر في سورة براءة أن سورة براءة تسمى المقشقشة لأنها تقشقش، أي تبرئ من النفاق فيكون هذا مشتركا بين السور الثلاث فيحتاج إلى التمييز.
وقال سعد الله المعروف بسعدي عن "جمال القراء" أنها تسمى سورة العبادة وفي "بصائر ذوي التمييز" للفيروز آبادي تسمى "سورة الدين".
وهي مكية بالاتفاق في حكاية ابن عطية وابن كثير، وروي عن ابن الزبير أنها مدنية.
وقد عدت الثامنة عشرة في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الماعون وقبل سورة الفيل.
وعدد آياتها ست.
أغراضها
وسبب نزولها فيما حكاه الواحدي في أسباب النزول وابن إسحاق في السيرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف في الكعبة فاعترضه الأسود بن المطلب بن أسد، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل. وكانوا ذوي أسنان في قومهم فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد سنة وتعبد ما نعبد سنة فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظه منا وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه فقال: "معاذ الله أن أشرك به غيره" ، فأنزل الله فيهم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} السورة كلها فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقرأها عليهم فيئسوا(1/1627)
منه عند ذلك وإنما عرضوا عليه ذلك لأنهم رأوا حرصه على أن يؤمنوا فطمعوا أن يستزلوه إلى الاعتراف بإلهية أصنامهم.وعن ابن عباس: فيئسوا منه وآذوه وآذوا أصحابه.
وبهذا يعلم الغرض الذي اشتملت عليه وأنه تأييسهم من أن يوافقهم في شيء مما هم عليه من الكفر بالقول الفصل المؤكد في الحال والاستقبال وأن دين الإسلام لا يخالط شيئا من دين الشرك. (1)
مناسبتها لما قبلها
الكوثر الذي أعطاه اللّه سبحانه وتعالى النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ كان فى مقابله البتر والحرمان من كل خير لمن يشنأ هذا النبي ، الذي وضع اللّه سبحانه وتعالى ، الخير كله فى يده .. وهذا مجمل ما تحدثت عنه سورة « الكوثر » وفى سورة « الكافرون » التي تأتى بعد هذه السورة ، موقف بين النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ وما أعطاه اللّه سبحانه من خير كثير ، يفيض من النبع الأعظم ، وهو الإيمان باللّه ـ وبين المشركين الذين عزلوا أنفسهم عن هذا الخير ، وحرموا أن ينالوا شيئا منه .. وفى هذا الموقف يعلن النبي عن هذا الخير الذي من اللّه به عليه ، وأنه ممسك به ، مقيم عليه ، لا يصرفه عنه شىء من هذه الدنيا ..فهو لا يعبد غير اللّه سبحانه وتعالى ، ولا يتحول عن عبادته أبدا ، ولا ينظر إلى شىء وراءه من مال وبنين!!" (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الكافرون » تسمى - أيضا - سورة « المقشقشة » أى : المبرئة من الشرك ، وسورة « العبادة » وسورة « الدين ».
وهي من السور المكية عند الجمهور ، وكان نزولها بعد سورة « الماعون » وقبل سورة « الفيل ».
وقيل : إنها مدنية ، وعدد آياتها ست آيات.
2 - وقد ذكروا في سبب نزولها روايات منها ما ذكره ابن إسحاق عن ابن عباس ، أن جماعة من زعماء المشركين أتوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له : هلم فلنعبد إلهك مدة ، وأنت تعبد آلهتنا مدة ، فيحصل بذلك الصلح بيننا وبينك ... فنزلت هذه السورة.
3 - وقد ذكر الإمام ابن كثير بعض الأحاديث التي تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بها كثيرا في صلاة ركعتي الفجر ، ومن ذلك ما أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة ، أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ سورة « الكافرون » وسورة « قل هو اللّه أحد » في ركعتي الفجر (3)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 508)
(2) - - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1694)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 525)(1/1628)
في السورة أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بإعلان الكفار أنه لا يعبد ما يعبدون ، ولهم إذا شاءوا أن يظلوا على ما هم عليه فلا يعبدون ما يعبد ، ولكل من الفريقين دينه ، وقد تضمنت مبدأ حرية التدين الذي ظلت الآيات القرآنية تقرره في المكي منها والمدني.
ولقد روى الترمذي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «من قرأ إذا زلزلت عدلت له بنصف القرآن ومن قرأ قل يا أيّها الكافرون عدلت له بربع القرآن ومن قرأ قل هو اللّه أحد عدلت له بثلث القرآن» «1». وروى الترمذي عن أنس أيضا : «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من أصحابه هل تزوّجت يا فلان قال لا واللّه يا رسول اللّه ولا عندي ما أتزوّج به ، قال : أليس معك قل هو اللّه أحد ، قال : بلى ، قال : ثلث القرآن ، قال : أليس معك إذا جاء نصر اللّه والفتح ، قال : بلى ، قال : ربع القرآن ، قال : أليس معك قل يا أيّها الكافرون ، قال : بلى ، قال : ربع القرآن. قال : أليس معك إذا زلزلت ، قال : بلى ، قال : ربع القرآن ، تزوّج تزوّج» «2».
ومن الحكمة الملموحة في الحديثين التنويه والترغيب والتيسير ، واللّه تعالى أعلم. (1)
سورة الكافرون مكيّة ، وهي ست آيات.
تسميتها : سميت سورة الكافرون لأن اللَّه تعالى أمر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن يخاطب الكافرين بأنه لا يعبد ما يعبدون من الأصنام والأوثان : قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وتسمى أيضا سورة المنابذة ، وسورة الإخلاص ، والمقشقشة.
مناسبتها لما قبلها :
أمر اللَّه نبيه في السورة السابقة بإخلاص العبادة للَّه وحده لا شريك له ، وفي هذه السورة سورة التوحيد والبراءة من الشرك تصريح باستقلال عبادته عن عبادة الكفار ، فهو لا يعبد إلا ربه ، ولا يعبد ما يعبدون من الأوثان والأصنام ، وبالغ في ذلك فكرّره وأكّده ، وانتهى إلى أن له دينه ، ولهم دينهم.
ما اشتملت عليه السورة :
هذه السورة المكية - سورة البراءة من عمل المشركين والإخلاص في العمل للَّه تعالى ، وضعت الحد الفاصل النهائي بين الإيمان والكفر ، وبين أهل الإيمان وعبدة الأوثان ، فحينما طلب المشركون المهادنة من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يعبد آلهتهم سنة ، ويعبدوا إلهه سنة ، نزلت السورة تقطع أطماع الكفار الرخيصة ، وتفصل النزاع بين فريقي المؤمنين والكافرين إلى الأبد. (2)
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 25)
(2) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 437) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 254)(1/1629)
مكية. وآياتها ست آيات ، وفيها قطع لآمال الكفار وبيان الفرق بين عبادتهم وعبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه واسع جدا. (1)
وتسمى المقشقشة كما أخرجه ابن أبي حاتم على زرارة بن أوفى وهو من قشقش المريض إذا صح وبرأ أي المبرئة من الشرك والنفاق. وتسمى أيضا كما في جمال القراء سورة العبادة وكذا تسمى سورة الإخلاص وهي عند ابن عباس والجمهور مكية. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير أنها مدنية وحكاه في البحر عن قتادة على خلاف ما في مجمع البيان من أنه قائل بمكيتها وأيّا ما كان فقول الدواني إنها مكية بالاتفاق ليس في محله. وآيها ست بلا خلاف وفيها إعلان ما فهم مما قبلها من الأمر بإخلاص العبادة له عز وجل ويكفي ذلك في المناسبة بينهما. وقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لجبلة بن حارثة وهو أخو زيد بن حارثة وقد قال له عليه الصلاة والسلام علمني شيئا أقوله عند منامي نحو ذلك كما في حديث أخرجه الإمام أحمد والطبراني في الأوسط ، وأمر - صلى الله عليه وسلم - أنسا بأن يقرأها عند منامه أيضا معللا لذلك بما ذكر كما أخرجه البيهقي في الشعب وأمر عليه الصلاة والسلام خبابا بذلك أيضا كما في حديث أخرجه البزار وابن مردويه. وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس مرفوعا «ألا أدلكم على كلمة تنجيكم من الإشراك باللّه تعالى تقرءون قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون : 1] عند منامكم» . وروى الديلمي عن عبد اللّه بن جراد قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «المنافق لا يصلي الضحى ولا يقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ
ويسن قراءتها أيضا مع سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص : 1] في ركعتي سنة الفجر التي هي عند الأكثرين أفضل السنن الرواتب وكذا في الركعتين بعد المغرب «1» وهي حجة على من قال من الأئمة إنه لا يسن في سنة الفجر ضم سورة إلى الفاتحة. وجاء في حديث أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر مرفوعا وفي آخر أخرجه في الصغير عن سعد بن أبي وقاص كذلك أنها تعدل ربع القرآن ووجه ذلك الإمام بأن القرآن مشتمل على الأمر بالمأمورات والنهي عن المحرمات وكل منهما إما أن يتعلق بالقلب أو بالجوارح فيكون أربعة أقسام وهذه السورة مشتملة على النهي عن المحرمات المتعلقة بالقلب فتكون كربع القرآن ، وتعقب بأن العبادة أعم من القلبية والقالبية والأمر والنهي المتعلقان بها لا يختصان بالمأمورات والمنهيات القلبية والقالبية ، وأن مقاصد القرآن العظيم لا تنحصر في الأمر والنهي المذكورين بل هو مشتمل على مقاصد أخرى كأحوال المبدأ والمعاد ومن هنا قيل لعل الأقرب أن يقال إن مقاصد القرآن التوحيد والأحكام الشرعية وأحوال المعاد والتوحيد عبارة عن تخصيص اللّه تعالى بالعبادة وهو الذي دعا إليه الأنبياء عليهم السلام أولا بالذات والتخصيص إنما يحصل بنفي عبادة غيره تعالى وعبادة اللّه عز وجل
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 912)(1/1630)
إذ التخصيص له جزآن النفي عن الغير والإثبات للمخصص به ، فصارت المقاصد بهذا الاعتبار أربعة. وهذه السورة تشتمل على ترك عبادة غيره سبحانه والتبري منها فصارت بهذا الاعتبار ربع القرآن ولكونها ليس فيها التصريح بالأمر بعبادة اللّه عز وجل كما أن فيها التصريح بترك عبادة غيره تعالى لم تكن كنصف القرآن وقيل : إن مقاصد القرآن صفاته تعالى والنبوات والأحكام والمواعظ وهي مشتملة على أساس الأول وهو التوحيد ولذا عدلت ربعه ، وذكر بعض أجلّة أحبابي المعاصرين أوجها في ذلك أحسنها فيما أرى أن الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع :
عبادات ومعاملات وجنايات ومناكحات ، والسورة متضمنة للنوع الأول فكانت ربعا. وتعقب بأنه أراد فكانت ربعا من القرآن فلا نسلم صحة تفريعه على كون الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع وإن أراد فكانت ربعا من الدين فليس الكلام فيه إنما الكلام في كونها تعدل ربعا من القرآن إذ هو الذي تشعر به الأخبار على اختلاف ألفاظها والتلازم بينهما غير مسلم على أن المقابلة الحقيقية بين ما ذكر من الأنواع غير تامة. وأجيب باحتمال أنه أراد أن مقاصد القرآن هي تلك الأربعة التي هي الدين ولا يبعد أن يكون ما تضمن واحدا منها عدل القرآن كله مقاصده وغيرها. ولا يرد على الحصر أن من مقاصده أحوال المبدأ والمعاد فبدخول ذلك في العبادات بنوع عناية وعدم التقابل الحقيقي لا يضر إذ يكفي في الغرض عدّ أهل العرف تلك الأمور متقابلة ولو بالاعتبار فتأمل جميع ذلك واللّه تعالى الهادي لأقوم المسالك. (1)
سورة الكافرون مكية ، وهي سورة (التوحيد) و(البراءة من الشرك ) والضلال ، فقد دعا المشركون رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، إلى المهادنة ، وطلبوا منه أن يعبد آلهتهم سنة ، ويعبدوا إلهه سنة ، فنزلت السورة تقطع أطماع الكافرين ، وتفصل النزاع بين الفريقين : أهل الإيمان ، وعبدة الأوثان ، وترد على الكافرين تلك الفكرة السخيفة في الحال والاستقبال. (2)
مقصودها إثبات مقصود الكوثر بالدليل الشهودي على منزلها كامل العلم شامل القدرة لأنه المنفرد بالوحدانية ، فلذلك لا يقاوي من كان معه ، ولذلك لما نزلت قرأها ( - صلى الله عليه وسلم - ) عليهم في المسجد أجمع ما كانوا ، وهذا المراد بكل من أسمائها. أما الكافرون فمن وجهين ، ناظر إلى إثبات ، وناظر إلى نفي ، أما المثبت فمن حيث أنه إشارة إلى تأمل جميع السورة من إطلاق البعض على الكل ، وأما النافي فمن جهة أنهم إنما كفروا بإنكار ما هو مقصودها إما صريحا كالوحدانية وتمام القدرة ، وإما لزوما وهو العم فإنه يلزم من نقص القدرة نقصه ، وأما الإخلاص فلأن من اعتقد ذلك كان مؤمنا مخلصا برئيا من كل شرك
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 484)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 531)(1/1631)
وكل كفر ، وأما القشقشة فلأنها أبرأت من كل نفاق وكفر ، من قولهم : تقشقشت قروحه - إذا تقشرت للبرء ، وعندي أنه من الجمع أخذا من القش الذي هو تطلب المأكول من ههنا وههنا فإنها جمعت جميع أصول الدين ، فأثبتتهعا على أتم وجه ، فلزم من ذلك أنها جمعت جميع أنواع الكفر فحذفتها ونفتها ، وقد تقدم تمام توجيه ذلك في براءة فأمرهما دائر على الإخلاص ، ومن المعلوم أن من أخلص لله كان من أهل ولايته حقا ، فحق له ما يفعل الولي مع وليه ، ولذلك - والله أعلم - سنت قراءتها مع ) قل هو الله أحد ( في ركعتي الفجر ليجوز فاعل ذلك بالبراءة من الشرك والاتصاف بالتوحيد أول النهار ثمرة ما ورد أن من صلى الصبح كان في ذمة الله ، ومن كان كذلك كان جديرا بأن ينال ما أشارت إليه السورتان اللتان بين سورتي الإخلاص من الفتح له والنصر والخيبة لعدوه والخسر والحسرة (1)
لم يكن العرب يجحدون اللّه ولكن كانوا لا يعرفونه بحقيقته التي وصف بها نفسه. أحد. صمد. فكانوا يشركون به ولا يقدرونه حق قدره ، ولا يعبدونه حق عبادته. كانوا يشركون به هذه الأصنام التي يرمزون بها إلى أسلافهم من الصالحين أو العظماء. أو يرمزون بها إلى الملائكة .. وكانوا يزعمون أن الملائكة بنات اللّه ، وأن بينه - سبحانه - وبين الجنة نسبا ، أو ينسون هذا الرمز ويعبدون هذه الآلهة ، وفي هذه الحالة أو تلك كانوا يتخذونها لتقربهم من اللّه كما حكى عنهم القرآن الكريم في سورة الزمر قولهم : «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى » ..
ولقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا يعترفون بخلق اللّه للسماوات والأرض ، وتسخيره للشمس والقمر ، وإنزاله الماء من السماء كالذي جاء في سورة العنكبوت : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» .. «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» ..
وفي أيمانهم كانوا يقولون : واللّه. وتاللّه. وفي دعائهم كانوا يقولون : اللهم .. إلخ.
ولكنهم مع إيمانهم باللّه كان هذا الشرك يفسد عليهم تصورهم كما كان يفسد عليهم تقاليدهم وشعائرهم ، فيجعلون للآلهة المدعاة نصيبا في زرعهم وأنعامهم ونصيبا في أولادهم. حتى ليقتضي هذا النصيب أحيانا التضحية بأبنائهم. وفي هذا يقول القرآن الكريم عنهم في سورة الأنعام : «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً. فَقالُوا هذا لِلَّهِ - بِزَعْمِهِمْ - وَهذا لِشُرَكائِنا. فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ. وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ. ساءَ ما يَحْكُمُونَ! وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ، وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ ، فَذَرْهُمْ
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 553)(1/1632)
وَما يَفْتَرُونَ. وَقالُوا : هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ - بِزَعْمِهِمْ - وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ. سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ ، وَقالُوا : ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ.سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ. قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ
وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم ، وأنهم أهدى من أهل الكتاب ، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية ، لأن اليهود كانوا يقولون : عزير ابن اللّه. والنصارى كانوا يقولون : عيسى ابن اللّه. بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن على اعتبار قرابتهم من اللّه - بزعمهم - فكانوا يعدون أنفسهم أهدى. لأن نسبة الملائكة إلى اللّه ونسبة الجن كذلك أقرب من نسبة عزير وعيسى .. وكله شرك. وليس في الشرك خيار. ولكنهم هم كانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقا!
فلما جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن دينه هو دين إبراهيم - عليه السلام - قالوا : نحن على دين إبراهيم فما حاجتنا إذن إلى ترك ما نحن عليه واتباع محمد؟! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - خطة وسطا بينهم وبينه وعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه!
وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم ، وله فيهم وعليهم ما يشترط! ولعل اختلاط تصوراتهم ، واعترافهم باللّه مع عبادة آلهة أخرى معه .. لعل هذا كان يشعرهم أن المسافة بينهم وبين محمد قريبة ، يمكن التفاهم عليها ، بقسمة البلد بلدين ، والالتقاء في منتصف الطريق ، مع بعض الترضيات الشخصية!
ولحسم هذه الشبهة ، وقطع الطريق على المحاولة ، والمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة ، ومنهج ومنهج ، وتصور وتصور ، وطريق وطريق .. نزلت هذه السورة. بهذا الجزم. وبهذا التوكيد. وبهذا التكرار. لتنهي كل قول ، وتقطع كل مساومة وتفرق نهائيا بين التوحيد والشرك ، وتقيم المعالم واضحة ، لا تقبل المساومة والجدل في قليل ولا كثير (1)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3990)(1/1633)
(110) سورة النصر
سميت هذه السورة في كلام السلف "سورة إذا جاء نصر الله والفتح". روى البخاري إن عائشة قالت: "لما نزلت سورة إذا جاء نصر الله والفتح" الحديث.
وسميت في المصاحف وفي معظم التفاسير "سورة النصر" لذكر نصر الله فيها، فسميت بالنصر المعهود عهدا ذكريا.
وهي معنونة في "جامع الترمذي" "سورة الفتح" لوقوع هذا اللفظ فيها فيكون هذا الاسم مشتركا بينها وبين {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} .
وعن ابن مسعود أنها تسمى سورة التوديع في "الإتقان" لما فيها من الإيماء إلى وداعه - صلى الله عليه وسلم - اهـ. يعني من الإشارة إلى اقتراب لحاقه بالرفيق الأعلى كما سيأتي عن عائشة.
وهي مدنية بالاتفاق. واختلف في وقت نزولها فقيل نزلت منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من خيبر أي في سنة سبع ، ويؤيده ما رواه الطبري والطبراني عن ابن عباس بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء نصر أهل اليمن" فقال رجل: يا رسول الله وما أهل اليمن? قال: "قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية" اهـ، ومجيء أهل اليمن أول مرة هو مجيء وفد الأشعريين عام غزوة خيبر.
ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالفتح في الآية هو فتح مكة وعليه فالفتح مستقبل دخول الناس في الدين أفواجا مستقبل أيضا وهو الأليق باستعمال إذا ويحمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء نصر الله والفتح على أنه استعمال الماضي في معنى المضارع لتحقق وقوعه أو لأن النصر في خيبر كان بادرة لفتح مكة.
وعن قتادة: نزلت قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنتين. وقال الواحدي عن ابن عباس نزلت منصرفه من حنين ، فيكون الفتح قد مضى ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبلا، وهو في سنة الوفود سنة تسع، وعليه تكون "إذا" مستعملة في مجرد التوقيت دون تعيين.
وروى البزاز والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عمر أنها أنزلت أواسط أيام التشريق أي عام حجة الوداع. وضعفه ابن رجب بأن فيه موسى ابن عبيدة وهو ضعيف. وقال أحمد بن حنبل: لا تحل الرواية عنه وإن صحت هذه الرواية كان الفتح ودخول الناس في الدين أفواجا قد مضيا.
وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاش بعد نزولها نحو ثلاثة أشهر وعليه تكون "إذا" مستعملة للزمن الماضي لأن الفتح ودخول الناس في الدين قد وقعا.(1/1634)
وقد تظافرت الأخبار رواية وتأويلا أن هذه السورة تشتمل على إيماء إلى اقتراب أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في ذلك ما يرجح أحد الأقوال في وقت نزولها إذ لا خلاف في أن هذا الإيماء يشير إلى توقيت مجيء النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا فإذا حصل ذلك حان الأجل الشريف.
وفي حديث ابن عباس في صحيح البخاري، هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له قال {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3].
وفي هذا ما يؤول ما في بعض الأخبار من إشارة إلى اقتراب ذلك الأجل مثل ما في حديث ابن عباس عند البيهقي في دلائل النبوة والدارمي وابن مردويه لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة وقال: "أنه قد نعيت إلى نفسي فبكت" الخ، فإن قوله لما نزلت مدرج من الراوي، وإنما هو إعلام لها في مرضه كما جاء في حديث الوفاة في الصحيحين فهذا جمع بين ما يلوح منه تعارض في هذا الشأن.
وعدها جابر بن زيد السورة المائة والثلاث في ترتيب نزول السور، وقال نزلت بعد سورة الحشر وقبل سورة النور. وهذا جار على رواية أنها نزلت عقب غزوة خيبر.
وعن ابن عباس أنها آخر سورة نزلت من القرآن فتكون على قوله السورة المائة وأربع عشرة نزلت بعد سورة براءة ولم تنزل بعدها سورة أخرى.
وعدد آياتها ثلاث وهي مساوية لسورة الكوثر في عدد الآيات إلا أنها أطول من سورة الكوثر عدة كلمات، وأقصر من سورة العصر. وهاته الثلاث متساوية في عدد الآيات. وفي حديث ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق السبعي في حديث طعن عمر بن الخطاب "رض" فصلى عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة بأقصر سورتين في القرآن {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1].
أغراضها
والغرض منها الوعد بنصر كامل من عند الله أو بفتح مكة، والبشارة بدخول خلائق كثيرة في الإسلام بفتح وبدونه إن كان نزولها عند منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من خيبر كما قال ابن أحد قوليه.
والإيماء إلى أنه حين يقع ذلك فقد اقترب انتقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الآخرة.
ووعدوه بأن الله غفر له مغفرة تامة لا مؤاخذة عليه بعدها في شيء مما يختلج في نفسه الخوف أن يكون منه تقصير يقتضيه تحديد القوة الإنسانية الحد الذي لا يفي بما تطلبه همته الملكية بحيث يكون قد ساوى الحد الملكي الذي وصفه الله تعالى في الملائكة بقوله: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الانبياء:20] (1) .
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 514)(1/1635)
مناسبتها لما قبلها
آذن النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ المشركين فى سورة « الكافرون » التي سبقت هذه السورة ـ آذانهم بكلمة الفصل بينه وبينهم « لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ »
.. ووراء هذه الكلمة الحاسمة القاطعة ، التي أخذ بها النبي طريقه إلى ربه ومعبوده ، واتخذ بها المشركون طريقهم إلى آلهتهم ومعبوداتهم ـ وراء هذه الكلمة تشخص الأبصار إلى مسيرة كلّ من النبي والمشركين الذين أخذوا طريقا غير طريقه ، لترى ماذا ينتهى إليه الطريق بكل منهما ..وتختفى عن الأبصار طريق أهل الشرك ، وتبتلعهم رمال العواصف الهابّة عليهم من صحراء ضلالهم ..أما الطريق الذي أخذه النبي صلوات اللّه وسلامه عليه ، فها هو ذا النصر العظيم يلقاه عليه ، وها هو ذا الفتح المبين ترفرف أعلامه بين يديه ، وها هو ذا دين اللّه الذي يدعو إليه ، قد فتحت أبوابه ، ودخل الناس فيه أفواجا .." (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « النصر » تسمى - أيضا - سورة : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، وتسمى سورة « التوديع » وهي من السور المدنية ، قيل : نزلت عند منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة خيبر ، وقيل : نزلت بمنى في أيام التشريق ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، وقيل نزلت عند منصرفه - صلى الله عليه وسلم - من غزوة حنين.
وكان نزولها بعد سورة « الحشر » وقبل سورة « النور » ، وهي ثلاث آيات.
2 - وقد تضافرت الأخبار رواية وتأويلا ، على أن هذه السورة تومئ إلى قرب نهاية أجل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد ذكر الإمام ابن كثير جملة من الآثار في هذا المعنى منها ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، دعا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فاطمة وقال : « قد نعيت إلىّ نفسي » فبكت ثم ضحكت ، وقالت : أخبرنى أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ، ثم قال : « اصبري فإنك أول أهلى لحاقا بي » فضحكت.
وأخرج البخاري عن ابن عباس ، قال : كان عمر - رضى اللّه عنه - يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم قد وجد في نفسه - أى : تغير وغضب - وقال : لما ذا يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ، فقال عمر : إنه ممن علمتم. فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم ... فقال : ما تقولون في قوله - تعالى - إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد اللّه ونستغفره ، إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فقال ... عمر : أكذلك تقول يا بن عباس؟ فقلت : لا ، فقال : ما تقول؟ فقلت : هو أجل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له ... فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1698)(1/1636)
وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة نزلت من القرآن هذه السورة « 1 ».
3 - والسورة الكريمة وعد منه - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالنصر والفتح وبشارة بدخول أفواج الناس في دين اللّه ، وأمر منه - سبحانه - بالمواظبة على حمده واستغفاره. (1)
فيها أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالتسبيح بحمد اللّه واستغفاره إذا ما جاء نصر اللّه وفتحه ورأى الناس يدخلون في دينه.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها نزلت بعد سورة التوبة وبكلمة أخرى آخر السور المدنيّة نزولا. ومع أن روايات الترتيب الأخرى تذكر ترتيبها كسابعة السور المدنيّة نزولا أو كسادسة عشرة أو كثامنة عشرة «1» بل إن هناك رواية بأنها مكيّة «2» فإن هناك روايات وأحاديث عديدة بطرق مختلفة تؤيد ترتيب المصحف الذي اعتمدناه. ففي فصل التفسير من صحيح البخاري في سياق هذه السورة حديث عن ابن عباس جاء فيه «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله فقال عمر إنه من قد علمتم فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلّا ليريهم. قال ما تقولون في قول اللّه تعالى : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فقال بعضهم أمرنا أن نحمد اللّه ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم. فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس فقلت لا. فما تقول. قلت هو أجل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أعلمه به قال إذا جاء نصر اللّه والفتح وذلك علامة أجلك فسبّح بحمد ربك واستغفر. إنه كان توابا فقال عمر ما أعلم منها إلّا ما تقول» «3». وقد روى الطبري في سياقها حديثا عن ابن عباس جاء فيه «لما نزلت قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - نعيت إليّ نفسي كأني مقبوض في تلك السنة». وروى الطبري والبغوي أحاديث بطرق مختلفة عن ابن عباس بالمعنى نفسه بدون عزو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وروى الطبري عن الضحاك قوله كانت هذه السورة آية لموت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - . وروي مثل هذا عن مجاهد وعطاء أيضا. وقد ذكر الزمخشري أنها آخر السور نزولا وأنها نزلت في حجة الوداع في منى وذكر النيسابوري - مع ذكره القول إنها مكيّة - أنها نزلت في أواسط أيام التشريق «1» في منى في حجة الوداع وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعش بعدها إلّا سبعين يوما وأن السورة تسمى لذلك سورة التوديع وأن أكثر الصحابة متفقون على أنها دلت على نعي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - . وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أخرجه البزار والبيهقي أنها نزلت على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أيام التشريق فعرف أنه الوداع فأمر براحلته وخطب خطبته الشهيرة بخطبة الوداع.
ولقد روى الطبري بطرقه عن عائشة قالت : «كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يكثر قبل أن يموت من قوله سبحانك اللّهمّ وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك. فقلت يا رسول اللّه ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها قال قد
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 529)(1/1637)
جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخر السورة» وعن أم سلمة قالت : «كان رسول اللّه في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال سبحان اللّه وبحمده فقلت يا رسول اللّه إنك تكثر من سبحان اللّه وبحمده. لا تذهب ولا تجيء ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت سبحان اللّه وبحمده قال : إني أمرت بها فقال إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخر السورة» والحديثان يؤيدان إذا صحّا كون السورة نزلت بين يدي موت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فضلا عما انطوى فيهما من صورة رائعة لعمق شعوره بواجبه نحو اللّه تسبيحا وحمدا واستغفارا.
وبناء على ذلك كلّه رجحنا ترتيب المصحف الذي اعتمدناه وجعلنا ترتيب هذه السورة بعد سورة التوبة وآخر السور المدنيّة.
ونصّ السورة وروحها يؤيدان ذلك على ما سوف يأتي شرحه. أما القول إنها مكيّة فهو غريب ينقضه نصّها وروحها والروايات الكثيرة الأخرى التي أوردناها.
وما قلناه من أن السورة هي آخر السور نزولا لا يعني أن لا يكون نزل بعدها قرآن. وكل ما هناك أنه لم ينزل سور جديدة تامة. وأن ما يحتمل أن يكون من قرآن قد نزل بعدها قد ألحق بسور أخرى بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - واللّه أعلم.
وترجيح كون هذه السورة آخر السور نزولا وترجيح كون سورة الفاتحة أولى السور نزولا يدعمان بعضهما ويلهمان معجزة قرآنية ربانية. ففي سورة الفاتحة براعة استهلال للدعوة الإسلامية والقرآن وفي سورة النصر هتاف رباني بما تمّ من نصر اللّه للدعوة الإسلامية. (1)
سورة النصر مدنيّة ، وهي ثلاث آيات.
تسميتها : سميت سورة النصر لافتتاحها بقول اللَّه تبارك وتعالى : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ أي الفتح الأكبر والنصر المؤزر الذي سمي فتح الفتوح وهو فتح مكة المكرمة. وتسمى أيضا سورة التوديع.
مناسبتها لما قبلها :
لما أخبر اللَّه تعالى في آخر السورة المتقدمة باختلاف دين الإسلام الذي يدعو إليه الرسول عن دين الكفار ، أنبأه هنا بأن دينهم سيضمحل ويزول ، ودينه سيعلو وينتصر وقت مجيء الفتح والنصر ، حيث يصبح دين الأكثرين. وفي ذلك بيان فضل اللَّه تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالنصر والفتح ، وانتشار الإسلام ، وإقبال الناس أفواجا إلى دينه : دين اللَّه ، كما أن فيه إشارة إلى دنو أجله - صلى الله عليه وسلم - .
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (9 / 573)(1/1638)
هذه السورة المدنية بالإجماع تشير إلى فتح مكة ، وانتصار النبي - صلى الله عليه وسلم - على المشركين ، وانتشار الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية ، وانحسار ظلمة الشرك والوثنية ، والإخبار بدنو أجل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأمره بتسبيح ربه وحمده واستغفاره. (1)
مدنية. وآياتها ثلاث آيات ، وفيها البشارة للنبي وصحبه بنزول العون لهم ونصرة دينهم وفتح قلوب الناس لهذا الدين ، ثم أمرهم بالتسبيح والتنزيه للّه - تعالى - على أنه سبب النجاح. (2)
وتسمى سورة إذا جاء. وعن ابن مسعود أنها تسمى سورة التوديع لما فيها من الإيماء إلى وفاته عليه الصلاة والسلام وتوديعه الدنيا وما فيها. وجاء في عدة روايات عن ابن عباس وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - قال حين نزلت : «نعيت إليّ نفسي»
وفي رواية للبيهقي عنه أنه لما نزلت دعا عليه الصلاة والسلام فاطمة رضي اللّه تعالى عنها وقال : «إنه قد نعيت إليّ نفسي» فبكت ثم ضحكت ، فقيل لها فقالت : أخبرني أنه نعيت إليه بنفسه فبكيت ، ثم أخبرني بأنك أول أهلي لحاقا بي فضحكت.
وقد فهم ذلك منها عمر رضي اللّه تعالى عنه وكان يفعل عليه الصلاة والسلام بعدها فعل مودع. وهي مدنية على القول الأصح في تعريف المدني ، فقد أخرج الترمذي في مسنده والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة وعبد اللّه بن دينار وصدقة بن بشار عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : هذه السورة نزلت على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أوسط أيام التشريق بمنى وهو في حجة الوداع إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر : 1] حتى ختمها الخبر ، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وغيرهما ، لكن قال الحافظ ابن رجب بعد أن أخرجه عن الأولين إن إسناده ضعيف جدا ، وموسى بن عبيدة قال أحمد لا تحل الرواية عنه وعليه إن صح يكون نزولها قريبا جدا من زمان وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فإن ما بين حجة الوداع وإجابته عليه الصلاة والسلام داع الحق ثلاثة أشهر ونيف. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال : واللّه ما عاش - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قليلا سنتين ثم توفي عليه الصلاة والسلام. وفي البحر إن نزولها عند منصرفه - صلى الله عليه وسلم - من خيبر ، وأنت تعلم أن غزوة خيبر كانت في سنة سبع أواخر المحرم فيكون ما في البين أكثر من سنتين ويدل على مدنيتها أيضا ما أخرجه مسلم وابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة نزلت في القرآن جميعا إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وآيها ثلاث بالاتفاق ، وفيها
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 445) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 257)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 914)(1/1639)
إشارة إلى اضمحلال ملة الأصنام وظهور دين اللّه عز وجل على أتم وجه وهو وجه مناسبتها لما قبلها. ويحتمل غير ذلك وهي على ما
أخرج الترمذي وغيره من حديث أنس إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ربع القرآن ولم أظفر بوجه ذلك وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما يتعلق به. (1)
سورة النصر مدنية ، هي تتحدث عن " فتح مكة " الذي عز به المسلمون ، وإنتشر الإسلام في الجزيرة العربية ، وتقلمت أظافر الشرك والضلال ، وبهذا الفتح المبين ، دخل الناس في دين الله ، وإرتفعت راية الإسلام ، وإضمحلت ملة الأصنام ، وكان الإخبار بفتح مكة قبل وقوعه ، من أظهر الدلائل على صدق نبوته ، عليه أفضل الصلاة والسلام. (2)
مقصودها الإعلام بتمام الدين اللازم عن مدلول اسمها النصر ، اللازم عنه موت النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، اللازم عنه العلم بأنه ما برز إلى عالم الكون والفساد إلا لإعلاء كلمة الله تعالى وإدحاض كلمة الشيطان - لعنة الله تعالى عليه - اللازم عنه أنه ( - صلى الله عليه وسلم - ) خلاصة الوجود ، وأعظم عبد للولي الودود ، وعلى ذلك أيضا دل اسمها التوديع وحال نزولها وهو أيام التشريق من سنة حجة الوداعه (3)
هذه السورة الصغيرة .. كما تحمل البشرى لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بنصر اللّه والفتح ودخول الناس في دين اللّه أفواجا وكما توجهه - صلى الله عليه وسلم - حين يتحقق نصر اللّه وفتحه واجتماع الناس على دينه إلى التوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار ..
كما تحمل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - البشرى والتوجيه .. تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة هذه العقيدة وحقيقة هذا المنهج ، ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشرية من الرفعة والكرامة والتجرد والخلوص ، والانطلاق والتحرر .. هذه القمة السامقة الوضيئة ، التي لم تبلغها البشرية قط إلا في ظل الإسلام. ولا يمكن أن تبلغها إلا وهي تلبي هذا الهدف العلوي الكريم.
وقد وردت روايات عدة عن نزول هذه السورة نختار منها رواية الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة : كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يكثر في آخر أمره من قوله : «سبحان اللّه وبحمده ، أستغفر اللّه وأتوب إليه» وقال : «إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي ، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا» فقد رأيتها .. «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» ..
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 491)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 532)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 559)(1/1640)
(و رواه مسلم من طريق داود بن أبي هند بهذا النص) ..
وقال ابن كثير في التفسير : والمراد بالفتح هاهنا فتح مكة. قولا واحدا. فإن أحياء العرب كانت تتلوم (أي تنتظر) بإسلامها فتح مكة يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح اللّه عليه مكة دخلوا في دين اللّه أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام وللّه الحمد والمنة ، وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون : دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي ... «الحديث» ..
فهذه الرواية هي التي تنفق مع ظاهر النص في السورة : «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ...» إلخ فهي إشارة عند نزول السورة إلى أمر سيجيء بعد ذلك ، مع توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يعمله عند تحقق هذه البشارة وظهور هذه العلامة.
وهناك رواية أخرى عن ابن عباس لا يصعب التوفيق بينها وبين هذه الرواية التي اخترناها ..
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه ممن قد علمتم. فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم. فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال : ما تقولون في قول اللّه عز وجل : «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ»؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد اللّه ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي : أكذلك تقول يا بن عباس؟ «فقلت لا. فقال : ما تقول؟ فقلت : هو أجل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له. قال : «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» فذلك علامة أجلك «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً». فقال عمر ابن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول (تفرد به البخاري).
فلا يمتنع أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين رأى علامة ربه أدرك أن واجبه في الأرض قد كمل ، وأنه سيلقى ربه قريبا. فكان هذا معنى قول ابن عباس : هو أجل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له .. إلخ ..
ولكن هناك حديث رواه الحافظ البيهقي - بإسناده - عن ابن عباس كذلك : قال : لما نزلت : «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» .. دعا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فاطمة وقال : «إنه قد نعيت إليّ نفسي» فبكت.ثم ضحكت. وقالت أخبرني : أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ، ثم قال : «اصبري فإنك أول أهلي لحوقا بي» فضحكت.
ففي هذا الحديث تحديد لنزول السورة. فكأنها نزلت والعلامة حاضرة. أي أنه كان الفتح قد تم ودخول الناس أفواجا قد تحقق. فلما نزلت السورة مطابقة للعلامة علم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أنه أجله ..(1/1641)
إلا أن السياق الأول أوثق وأكثر اتساقا مع ظاهر النص القرآني. وبخاصة أن حديث بكاء فاطمة وضحكها قد روي بصورة أخرى تتفق مع هذا الذي نرجحه .. عن أم سلمة - رضي اللّه عنها - قالت : «دعا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فاطمة عام الفتح فناجاها ، فبكت ، ثم ناجاها فضحكت. قالت : فلما توفي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - سألتها عن بكائها وضحكها. قالت : أخبرني رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أنه يموت ، فبكيت ، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران. فضحكت ..
(أخرجه الترمذي).
فهذه الرواية تتفق مع ظاهر النص القرآني ، ومع الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه.
من أنه كانت هناك علامة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وربه هي : «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ..»
فلما كان الفتح عرف أن قد قرب لقاؤه لربه فناجى فاطمة رضي اللّه عنها بما روته عنها أم سلمة رضي اللّه عنها.
ونخلص من هذا كله إلى المدلول الثابت والتوجيه الدائم الذي جاءت به هذه السورة الصغيرة .. (1)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3994)(1/1642)
(111) سورة المسد
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف ( سورة تبَّت ) وكذلك عنونها الترمذي في ( جامعه ) وفي أكثر كتب التفسير ، تسمية لها بأول كلمة فيها .
وسميت في بعض المصاحف وبعض التفاسير ( سورة المَسَد ) . واقتصر في ( الإِتقان ) على هذين .
وسماها جمع من المفسرين ( سورة أبي لهب ) على تقدير : سورة ذِكْر أبي لهب . وعنونها أبو حيان في ( تفسيره ) ( سورة اللهب ) ولم أره لغيره .
وعنونها ابن العربي في ( أحكام القرآن ) ( سورة ما كان من أبي لهب ) وهو عنوان وليس باسم .وهي مكية بالاتفاق .وعدّت السادسة من السور نزولاً ، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة التكوير .وعدد آيها خمس .
روي أن نزولها كان في السنة الرابعة من البعثة . وسبب نزولها على ما في ( الصحيحين ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ « يَا صَبَاحَاهْ » فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ قَالُوا مَا لَكَ قَالَ « أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِى » . قَالُوا بَلَى . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ ). (1)
ووقع في ( الصحيحين ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ « يَا صَبَاحَاهْ » . فَقَالُوا مَنْ هَذَا ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ . فَقَالَ « أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ » . قَالُوا مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . قَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلاَّ لِهَذَا ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ ) (2) .
ومعلوم أن آية : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ( من سورة الشعراء ، وهي متأخرة النزول عن سورة تبت ، وتأويل ذلك أن آية تشبه آية سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب لما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِى « يَا بَنِى فِهْرٍ ، يَا بَنِى عَدِىٍّ » . لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ
__________
(1) - - صحيح البخارى (4801) - تب : خسر
(2) - - صحيح البخارى (4971 )(1/1643)
رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ « أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ » . قَالُوا نَعَمْ ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ) (1)
فتعين أن آية سورة الشعراء تشبه صدر الآية التي نزلت قبل نزول سورة أبي لهب .
أغراضها
زجر أبي لهب على قوله تبت لك ألهذا جمعتنا? ووعيده على ذلك، ووعيد امرأته على انتصارها لزوجها، وبغضها النبي - صلى الله عليه وسلم - . (2)
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة « النصر » ـ كما قلنا ـ مددا من أمداد السماء ، تحمل بين يديها هذه البشريات المسعدة للنبىّ وللمؤمنين ، وتريهم رأى العين عزّة الإسلام ، وغلبته ، وتخلع عليهم حلل النصر ، وتعقد على جبينهم إكليل الفوز والظفر. وتحت سنابك خيل الإسلام المعقود بنواصيها النصر ، والتي هى على وعد من اللّه به ـ حطام هذا الطاغية العنيد الذي يمثّل ضلال المشركين كلّهم ، ويجمع فى كيانه وحده ، سفههم ، وعنادهم ، وما كادوا به للنبىّ والمؤمنين ..إنه أبو لهب .. وامرأته حمالة الحطب .. (3)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « المسد » تسمى - أيضا - بسورة « تبت » ، وبسورة « أبى لهب » ، وبسورة « اللهب » وهي من أوائل السور التي نزلت بمكة ، فهي السورة السادسة في ترتيب النزول ، وكان نزولها بعد سورة « الفاتحة » ، وقبل سورة « الكوثر » وهي خمس آيات.
2 - وقد ذكروا في سبب نزول هذه السورة روايات منها : ما أخرجه البخاري عن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى : « يا صباحاه » وهي كلمة ينادى بها للإنذار من عدو قادم - فاجتمعت إليه قريش ، فقال - : « أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا : نعم. قال : « فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد ».
فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا؟ تبا لك ، فأنزل اللّه - تعالى - هذه السورة.
__________
(1) - صحيح البخارى (4770)
(2) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 525)
(3) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1702)(1/1644)
وفي رواية : أنه قام ينفض يديه وجعل يقول للرسول - صلى الله عليه وسلم - : تبا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ، فأنزل اللّه - تعالى - هذه السورة » « 1 ».
وأبو لهب : هو أحد أعمام النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم ... وامرأته هي : أروى بنت حرب بن أمية ، وكنيتها أم جميل.
روى أنها لما سمعت ما نزل في زوجها وفيها من قرآن ، أتت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق ، وفي يدها فهر - أى : حجر - فلما وقفت أخذ اللّه - تعالى - بصرها عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك يهجونى ، واللّه لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ... ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يا رسول اللّه أما تراها رأتك؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : « ما رأتنى ، لقد أخذ اللّه بصرها عنى » . (1)
فيها دعاء على أبي لهب وإنذار له ولامرأته بالنار. ورواية سبب نزولها لا تتسق مع رواية تبكير نزولها. ورواية تبكير نزولها أكثر اتساقا مع مضمونها. ولعلها تلهم أن يكون موقف أبي لهب وامرأته من أبكر وأول مواقف الصدّ والمناوأة التي واجهها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان لهذا الموقف أشد الأثر في نفس النبي وسير الدعوة. (2)
سورة المسد ، أو : اللّهب مكيّة ، وهي خمس آيات.
تسميتها : سميت سورة المسد لقوله تعالى في آخرها : فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي في عنق أم جميل زوجة أبي لهب حبل مفتول من ليف. وسميت أيضا سورة تَبَّتْ لقوله تعالى في مطلعها : تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أي هلكت وخسرت يدا أبي لهب ، كما سميت سورة أبي لهب ، أو سورة اللهب.
مناسبتها لما قبلها :
هناك تقابل بين هذه السورة والسورة التي قبلها ، ففي السورة السابقة النصر ذكر اللَّه تعالى أن جزاء المطيع حصول النصر والفتح في الدنيا ، والثواب الجزيل في الآخرة ، وفي هذه السورة ذكر أن عاقبة العاصي الخسار في الدنيا والعقاب في الآخرة أو العقبى.
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت هذه السورة المكية بالإجماع الكلام عن مصير أبي لهب عبد العزّى بن عبد المطلب ، عمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومصير زوجته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية ، أخت أبي سفيان ، وهو هلاك أبي لهب عدو اللَّه
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 533)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 495)(1/1645)
تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا ، ودخوله نار جهنم لشدة إيذائه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاداته له ، وصدّه الناس عن الإيمان به.
وكذلك زوجته شريكة معه في هذا العقاب لأنها كانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده ، فتكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم. (1)
مكية. وآياتها خمس آيات. وفيها ذم أبى لهب وامرأته حمالة الحطب. (2)
وتسمى سورة المسد ، وهي مكية وآيها خمس بلا خلاف في الأمرين. ولما ذكر سبحانه فيما قبل دخول الناس في ملة الإسلام عقبه سبحانه بذكر هلاك بعض ممن لم يدخل فيها وخسرانه.
على نفسه فليبك من ضاع عمره وليس له منها نصيب ولا سهم كذا قيل في وجه الاتصال ، وقيل هو من اتصال الوعيد بالوعد وفي كل مسرة له عليه الصلاة والسلام وقال الإمام في ذلك إنه تعالى لما قال لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون : 6] فكأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : «إلهي فما جزائي» فقال اللّه تعالى : لك النصر والفتح فقال : «فما جزاء عمي الذي دعاني إلى عبادة الأصنام» فقال : تبت يداه. وقدم الوعد على الوعيد ليكون النصر متصلا بقوله تعالى وَلِيَ دِينِ والوعيد راجعا إلى قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ على حد يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران : 106] الآية. فتأمل هذه المجانسة الحاصلة بين هذه السور مع أن سورة النصر من آخر ما نزل بالمدينة ، وتبت من أوائل ما نزل بمكة لتعلم أن ترتيبها من اللّه تعالى وبأمره عز وجل ثم قال : ووجه آخر وهو أنه لما قال لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فكأنه قيل : إلهي ما جزاء المطيع؟ قال : حصول النصر والفتح. ثم قيل : فما جزاء العاصي؟ قال : الخسار في الدنيا والعقاب في العقبى كما دلت عليه سورة تبت انتهى وهو كما ترى. (3)
سورة المسد مكية ، وتسمى سورة اللهب ، وسورة تبت ، وقد تحدثت عن هلاك " أبي لهب " عدو الله ورسوله ، الذي كان شديد العداوة لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، ، يترك شغله ويتبع الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، ليفسد عليه دعوته ، ويصد الناس عن الأيمان به ، وقد توعدته السورة في الآخرة ، بنار موقدة يصلاها ويشوى بها ، وقرنت زوجته به في ذلك ، واختصتها بلون من العذاب شديد ، هو حبل من ليف تجذب به في النار ، زيادة في التنكيل والدمار. (4)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 453) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 260)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 916)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 496)
(4) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 533)(1/1646)
مقصودها البت والقطع الحتم بخسران الكافر ولو كان أقرب الخلق إلى أعظم الفائزين ، اللازم عنه أن شارع الدين له من العظمة ما يقصر عنه الوصف ، فهو يفعل ما يشاء لأنه لا كفو - له أصلا ، حثا على التوحيد من سائر العبيد ولذلك بين سورة الإخلاص المقرون بضمان النصر وكثرة الأنصار ، واسمها تبت واضح الدلالة على ذلك بتأمل السورة على هذه الصورة (1)
أبو لهب - (و اسمه عبد العزى بن عبد المطلب) هو عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما سمي أبو لهب لإشراق وجهه ، وكان هو وامرأته «أم جميل» من أشد الناس إيذاء لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وللدعوة التي جاء بها ..
قال ابن إسحاق : «حدثني حسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عباس قال : سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول : «إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يتبع القبائل ، ووراءه رجل أحول ، وضيء الوجه ذو جمة ، يقف رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على القبيلة فيقول « : يا بني فلان. إني رسول اللّه إليكم آمركم أن تعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن اللّه ما بعثني به» وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه : يا بني فلان. هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقمس ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تسمعوا له ، ولا تتبعوه. فقلت لأبي : من هذا؟ قال عمه أبو لهب. (و رواه الإمام أحمد والطبراني بهذا اللفظ).
فهذا نموذج من نماذج كيد أبي لهب للدعوة وللرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت زوجته أم جميل في عونه في هذه الحملة الدائبة الظالمة. (و هي أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان).
ولقد اتخذ أبو لهب موقفه هذا من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - منذ اليوم الأول للدعوة. أخرج البخاري - بإسناده - عن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى البطحاء ، فصعد الجبل فنادى :« يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش ، فقال : أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم؟ أكنتم مصدقي؟
قالوا : نعم. قال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب. ألهذا جمعتنا؟ تبا لك. فأنزل اللّه «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ...» إلخ. وفي رواية فقام ينفض يديه وهو يقول : تبا لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟! فأنزل اللّه السورة.
ولما أجمع بنو هاشم بقيادة أبي طالب على حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يكونوا على دينه ، تلبية لدافع العصبية القبلية ، خرج أبو لهب على إخوته ، وحالف عليهم قريشا ، وكان معهم في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني هاشم وتجويعهم كي يسلموا لهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 567)(1/1647)
وكان قد خطب بنتي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - رقية وأم كلثوم لولديه قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما حتى يثقل كاهل محمد بهما! وهكذا مضى هو وزوجته أم جميل يثيرانها حربا شعواء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى الدعوة ، لا هوادة فيها ولا هدنة. وكان بيت أبي لهب قريبا من بيت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فكان الأذى أشد. وقد روي أن أم جميل كانت تحمل الشوك فتضعه في طريق النبي وقيل : إن حمل الحطب كناية عن سعيها بالأذى والفتنة والوقيعة.
نزلت هذه السورة ترد على هذه الحرب المعلنة من أبي لهب وامرأته. وتولى اللّه - سبحانه - عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - أمر المعركة! (1)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3999)(1/1648)
(112) سورة الإخلاص
المشهور في تسميتها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيما جرى من لفظه وفي أكثر ما روي عن الصحابة تسميتها "سورة قل هو الله أحد".
روى الترمذي عن أبي هريرة، وروى أحمد عن أبي مسعود الأنصاري وعن أم كلثوم بنت عقبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" وهو ظاهر في أن أراد تسميتها بتلك الجملة لأجل تأنيث الضمير من قوله تعدل فإنه على تأويلها بمعنى السورة.
وقد روي عن جمع من الصحابة ما فيه تسميتها بذلك، فذلك هو الاسم الوارد في السنة.
ويؤخذ من حديث البخاري عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "الله الواحد الصمد ثلث القرآن" فذكر ألفاظا تخالف ما تقرأ به، ومحمله على إرادة التسمية. وذكر القرطبي أن رجلا لم يسمه قرأ كذلك والناس يستمعون وادعى أن ما قرأ به هو الصواب وقد ذمه القرطبي وسبه.
وسميت في أكثر المصاحف وفي معظم التفاسير وفي "جامع الترمذي" "سورة الإخلاص" واشتهر هذا الاسم لاختصاره وجمعه معاني هذه السورة لأن فيها تعليم الناس إخلاص العبادة لله تعالى، أي سلامة الاعتقاد من الإشراك بالله غيره في الإلهية.
وسميت في بعض المصاحف التونسية سورة التوحيد لأنها تشتمل على إثبات أنه تعالى واحد.
وفي "الإتقان" أنها تسمى سورة الأساس لاشتمالها على توحيد الله وهو أساس الإسلام. وفي "الكشاف" روي عن أبي وأنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إست السماوات السبع والأرضون السبع على {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1. يعني ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته.
وذكر في "الكشاف": أنها وسورة الكافرون تسميان المقشقشتين، أي المبرئتين من الشرك ومن النفاق.
وسماها البقاعي في "نظم الدرر" سورة الصمد ، وهو من الأسماء التي جمعها الفخر. وقد عقد الفخر في "التفسير الكبير" فصلا لأسماء هذه السورة فذكر لها عشرين اسما بإضافة عنوان سورة إلى كل اسم منها ولم يذكر أسانيدها فعليك بتتبعها على تفاوت فيها وهي: التفريد، والتجريد لأنه لم يذكر فيها سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال ، والتوحيد كذلك ، والإخلاص لما ذكرناه آنفا ، والنجاة لأنها تنجي من الكفر في الدنيا ومن النار في الآخرة ، والولاية لأن من عرف الله بوحدانيته فهو من أوليائه المؤمنين الذين لا يتولون غير الله والنسبة لما روي أنها نزلت لما قال المشركون: أنسب لنا ربك، كما سيأتي ، والمعرفة لأنها أحاطت بالصفات التي لا تتم معرفة الله إلا بمعرفتها والجمال لأنها جمعت أصول(1/1649)
صفات الله وهي أجمل الصفات وأكملها، ولما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "إن الله جميل يحب الجمال" فسألوه عن ذلك فقال: "أحد صمد لم يلد ولم يولد" ، والمقشقشة يقال: قشقش الدواء الجرب إذا أبرأه لأنها تقشقش من الشرك، وقد تقدم آنفا أنه اسم لسورة الكافرون أيضا ، والمعوذة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان بن مضعون وهو مريض فعوذه بها وبالسورتين اللتين بعدها وقال له: "تعوذ بها" . والصمد لأن هذا اللفظ خص بها ، والأساس لأنها أساس العقيدة الأسلامية والمانعة لما روي: أنها تمنع عذاب القبر ولفحات النار والمحضر لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت. والمنفرة لأن الشيطان ينفر عند قراءتها والبراءة لأنها تبرئ من الشرك ، والمذكرة لأنها تذكر خالص التوحيد الذي هو مودع في الفطرة ، والنور لما روي: أن نور القرآن قل هو الله أحد ، والأمان لأن من اعتقد ما فيها أمن من العذاب.
وبضميمة اسمها المشهور {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تبلغ أسماؤها اثنين وعشرين، وقال الفيروز آبادي في بصائر التمييز أنها تسمى الشافية فتبلغ واحدا وعشرين اسما.
وهي مكية في قول الجمهور، وقال قتادة والضحاك والسدي وأبو العالية والقرضي: هي مدنية ونسب كلا القولين إلى ابن عباس.
ومنشأ هذا الخلاف الاختلاف في سبب نزولها فروى الترمذي عن أبي بن كعب، وروى عبيد العطار عن ابن مسعود، وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله أن قريشا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - انسب لنا ربك فنزلت قل هو الله أحد إلى آخرها فتكون مكية.
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعو أخا لبيد أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عامر: إلام تدعونا? قال: "إلى الله" ، قال: صفه لنا أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب? يحسي لجهله أن الإله صنم كأصنامهم من معدن أو خشب أو حجارة فنزلت هذه السورة، لإتكون مدنية لأنهما ما أتياه إلا بعد الهجرة.
وقال الواحدي أن أحبار اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فنزلت.
والصحيح أنه مكية فإنها جمعت أصل التوحيد وهو الأكثر فيما نزل من القرآن بمكة، ولعل تأويل من قال: إنها نزلت حينما سأل عامر بن الطفيل وأربد، أو حينما سأل أحبار اليهود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ عليهم هذه السورة، فظنها الراوي من الأنصار نزلت ساعتئذ أو لم يضبط الرواة عنهم عبارتهم تمام الضبط.
قال في "الإتقان": وجمع بعضهم بين الروايتين بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية كما بينته في أسباب النزول اه.(1/1650)
وعلى الأصح من أنها مكية عدت السورة الثانية والعشرون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الناس وقبل سورة النجم.
وآياتها عند أهل العدد بالمدينة والكوفة والبصرة أربع، وعند أهل مكة والشام خمس باعتبار {لَمْ يَلِدْ} آية {وَلَمْ يُولَدْ} آية.
أغراضها
إثبات وحدانية الله تعالى.
وأنه لا يقصد في الحوائج غيره وتنزيهه عن سمات المحدثات.
وإبطال أن يكون له ابن.
وإبطال أن يكون المولود إلها مثل عيسى عليه السلام.
والأحاديث في فضائلها كثيرة وقد صح أنها تعدل ثلث القرآن. وتأويل هذا الحديث مذكور في شرح "الموطأ" و"الصحيحين". (1)
مناسبتها لما قبلها
كانت عداوة أبى لهب وزوجه للنبىّ ، ممثلة فى عداوتهما لدعوة التوحيد التي كانت عنوان رسالة النبىّ ، صلوات اللّه وسلامه عليه ، وكلمته الأولى إلى قومه ..وقد ساقت هذه الكلمة أبا لهب وزوجه ، ومن تبعهما فى جحود هذه الكلمة ، والتنكر لها ـ ساقتهم إلى هذا البلاء الذي لقياه فى الدنيا ، وإلى هذا العذاب الأليم فى جهنم المرصودة لهما فى الآخرة ..وسورة « الإخلاص » وما تحمل من إقرار بإخلاص وحدانية اللّه من كل شرك ـ هى مركب النجاة لمن أراد أن ينجو بنفسه من هذا البلاء ، وأن يخرج من تلك السفينة الغارقة التي ركبها أبو لهب وزوجه ، ومن اتخذ سبيله معهما من مشركى قريش ومشركاتها .. وها هوذ النبي الكريم ، يؤذّن فى القوم ، بسورة الإخلاص ، ومركب الخلاص.. " (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الإخلاص » من السور ذات الأسماء المتعددة ، وقد ذكر لها الجمل في حاشيته عشرين اسما ، منها أنها تسمى سورة التفريد ، والتجريد ، والتوحيد ، والنجاة ، والولاية ، والمعرفة ، والصمد ، والأساس ، والمانعة ، والبراءة ... « 1 ».
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 533)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1710)(1/1651)
2 - وقد ورد في فضلها أحاديث متعددة ، منها ما أخرجه البخاري عن أبى سعيد الخدري ، أن رجلا سمع رجلا يقرأ هذه السورة ، ويرددها ، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال :
« والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن » « 2 ».
قال بعض العلماء ومعنى هذا الحديث : أن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام : ثلث منها الأحكام ، وثلث منها وعد ووعيد ، وثلث منها الأسماء والصفات ، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات.
3 - وقد ذكروا في سبب نزولها روايات منها : أن المشركين قالوا : يا محمد ، انسب لنا ربك ، فأنزل اللّه - تعالى - هذه السورة الكريمة ... « 3 ».
وجمهور العلماء على أنها السورة الثانية والعشرون في ترتيب النزول. ويرى بعضهم أنها مدنية ، والأول أرجح ، لأنها جمعت أصل التوحيد ، وهذا المعنى غالب في السور المكية.
وعدد آياتها خمس آيات في المصحف الحجازي والشامي ، وأربع آيات في الكوفي والبصري. (1)
في السورة تقرير العقيدة الإسلامية بذات اللّه بأسلوب حاسم وقطعي ووجيز.
وأسلوبها عام التوجيه والتقرير. وهناك روايات تذكر أنها مدنية وأخرى تذكر أنها مكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مكيتها ، كما أنها مكية في التراتيب الكاملة المروية الأخرى «1». ومن أسمائها «الصمد» وبذلك يتم الاتساق في تسميتها مع أسلوب تسمية السورة بصورة عامة.
ولقد روى البخاري وأبو داود عن أبي سعيد : «أن رجلا سمع رجلا يقرأ قل هو اللّه أحد يردّدها فلما أصبح جاء إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له وكأنّ الرجل يتقالّها فقال رسول اللّه والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» «2». وروى الشيخان والترمذي عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «أ يعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن. قالوا وكيف يقرأ في ليلة ثلث القرآن قال قل هو اللّه أحد تعدل ثلث القرآن» «3». وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
«احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن فحشد من حشد فخرج نبيّ اللّه فقرأ قل هو اللّه أحد ثم دخل فقال بعضنا لبعض إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء فذاك الذي أدخله ثم خرج نبيّ اللّه فقال إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن ألا إنها تعدل ثلث القرآن» «4». وروى مسلم حديثا جاء فيه : «بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا على سريّة فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو اللّه أحد فلما رجعوا ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن فأنا أحبّ أن أقرأ بها فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أخبروه أنّ اللّه يحبّه» «1».
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 539)(1/1652)
وروى الترمذي عن أنس قال : «كان رجل من الأنصار يؤمّهم في مسجد قباء فكان كلّما أمّهم في الصلاة قرأ بقل هو اللّه أحد ثم يقرأ سورة أخرى معها وكان يصنع ذلك في كلّ ركعة فكلّمه أصحابه إمّا أن تقرأ بها وإمّا أن تدعها وتقرأ بسورة أخرى فقال ما أنا بتاركها ، إن أحببتم أن أؤمّكم بها فعلت وإن كرهتم تركت ، وكانوا يرونه أفضلهم فلما أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه الخبر فقال يا فلان ما يمنعك مما يأمرك به أصحابك وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة؟ فقال : يا رسول اللّه إني أحبّها. فقال : إن حبّها أدخلك الجنة» «2».
وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : «أقبلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع رجلا يقرأ قل هو اللّه أحد اللّه الصمد فقال رسول اللّه وجبت قلت وما وجبت قال الجنة» «3».
وروى الترمذي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «من قرأ كلّ يوم مائتي مرة قل هو اللّه أحد محي عنه ذنوب خمسين سنة إلّا أن يكون عليه دين» «4». وروى الإمام أحمد عن أنس بسند حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «من قرأ قل هو اللّه أحد عشر مرات بنى اللّه له بيتا في الجنة» «5». وروى النسائي عن معاذ بن عبد اللّه عن أبيه قال : «أصابنا عطش وظلمة فانتظرنا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ليصلّي بنا فخرج فقال قل قلت ما أقول قال قل هو اللّه أحد والمعوّذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثا يكفك كلّ شي ء» «6».
حيث ينطوي في الأحاديث تنويه بفضل هذه السورة وحثّ على قراءتها من حكمتها المتبادرة ما انطوت فيه من إعلان الإيمان بوحدة اللّه التامة المنزّهة عن كل شائبة. (1)
سورة الإخلاص مكيّة ، وهي أربع آيات.
تسميتها : سميت بأسماء كثيرة أشهرها سورة الإخلاص لأنها تتحدث عن التوحيد الخالص للَّه عز وجل ، المنزه عن كل نقص ، المبرأ من كل شرك ، ولأنها تخلّص العبد من الشرك ، أو من النار. وسميت أيضا سورة التفريد أو التجريد أو التوحيد أو النجاة أو الولاية لأن من قرأها صار من أولياء اللَّه ، أو المعرفة ، وتسمى كذلك سورة الأساس لاشتمالها على أصول الدين.
مناسبتها لما قبلها :
المناسبة بينها وبين ما قبلها واضحة ، فسورة الكافرين للتبرؤ من جميع أنواع الكفر والشرك ، وهذه السورة لإثبات التوحيد للَّه تعالى ، المتميز بصفات الكمال ، المقصود على الدوام ، المنزه عن الشريك والشبيه ، ولذا قرن بينهما في القراءة في صلوات كثيرة ، كركعتي الفجر والطواف ، والضحى ، وسنة المغرب ، وصلاة المسافر.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 68)(1/1653)
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت هذه السورة أهم أركان العقيدة والشريعة الإسلامية ، وهي توحيد اللَّه وتنزيهه ، واتصافه بصفات الكمال ، ونفي الشركاء ، وفي هذا الرد على النصارى القائلين بالتثليث ، وعلى المشركين الذين عبدوا مع اللَّه آلهة أخرى. (1)
مكية. وآياتها أربع آيات ، وهي سورة التوحيد والتنزيه للّه - سبحانه وتعالى - وهذا هو الأصل الأول والركن الركين للإسلام لذلك ورد أنها تعدل ثلث القرآن في ثواب قراءتها إذ الأصول العامة ثلاثة : التوحيد ، تقرير الحدود وأعمال الخلق ، وذكر أحوال يوم القيامة ، ولا حرج على فضل اللّه الذي يهب لمن يقرؤها بتدبر وتفهم مثل ما يهبه لقارئ ثلث القرآن. (2)
وسميت بها لما فيها من التوحيد ولذا سميت أيضا بالأساس فإن التوحيد أصل لسائر أصول الدين. وعن كعب كمال قال الحافظ ابن رجب : أسست السماوات السبع والأرضون السبع على هذه السورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. ورواه الزمخشري عن أبي وأنس مرفوعا ولم يذكره أحد من المحدثين المعتبرين كذلك ، وكيف كان فالمراد به كما قال : ما خلقت السماوات والأرضون إلّا لتكون دلائل على توحيد اللّه تعالى ومعرفة صفاته التي تضمنتها هذه السورة. وقيل : معنى تأسيسها عليها أنها إنما خلقت بالحق كما قال تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء : 16] ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان : 39] وهو العدل والتوحيد وهو إن لم يرجع إلى الأول لا يخلو عن نظر. وقيل : المراد أن مصحح إيجادهما أي بعد إمكانهما الذاتي ما أشارت إليه السورة من وحدته عز وجل واستحالة أن يكون له سبحانه شريك إذ لولا ذلك لم يمكن وجودهما لإمكان التمانع كما قرره بعض الأجلّة في توجيه برهانية قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء : 22] وفيه بعد. وتسمى أيضا سورة قل هو اللّه أحد كما هو مشهور يشير إليه الأثر أيضا ، والمقشقشة لما سمعت في تفسير سورة الكافرون ، وسورة التوحيد ، وسورة التفريد ، وسورة التجريد ، وسورة النجاة ، وسورة الولاية ، وسورة المعرفة لأن معرفة اللّه تعالى إنما تتم بمعرفة ما فيها. .. وسورة النسبة لورودها جوابا لمن قال : انسب لنا ربك على ما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى،وسورة المانعة وسورة المحضر قيل لأن الملائكة عليهم السلام تحضر لاستماعها إذا قرئت ، وسورة المنفرة قيل لأن الشيطان ينفر عند قراءتها ، وسورة البراءة ، وسورة المذكرة لأنها تذكر خالص التوحيد ، وسورة النور ،وسورة الإيمان لأنه لا يتم بدون ما تضمنته من التوحيد وقد ذكر معظم هذه الأسماء الإمام
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 461)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 918)(1/1654)
الرازي وبين وجه التسمية بها بما بيّن ، والرجل رحمه اللّه تعالى ليس بإمام في معرفة أحوال المرويات لا يميز غثها من سمينها أو لا يبالي بذلك فيكتب ما ظفر به وإن عرف شدة ضعفه ،وهي مكية في قول عبد اللّه والحسن وعكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة مدنية في قول ابن عباس ومحمد بن كعب وأبي العالية والضحاك قاله في البحر. وخبر ابن عباس السابق إن صح ظاهر في أنها عنده مكية. وفي الإتقان فيها قولان لحديثين في سبب نزولها متعارضين وجمع بعضهم بينهما بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية اه. وعلى ما في الكتابين لا يخفى ما في قول الدواني إنها مكية بالاتفاق من الدلالة على قلة الاطلاع. وآيها خمس في المكي والشامي ، أربع في غيرهما. ووضعت هنا قيل للوزان في اللفظ بين فواصلها ومقطع سورة المسد وقيل وهو الأولى أنها متصلة بقل يا أيها الكافرون في المعنى فهما بمنزلة كلمة التوحيد في النفي والإثبات ولذا يسميان المقشقشتين ، وقرن بينهما في القراءة في صلوات كثيرة ما قاله بعض الأئمة كركعتي الفجر والطواف والضحى وسنة المغرب وصبح المسافر ومغرب ليلة الجمعة إلّا أنه فصل بينهما بالسورتين لما تقدم من الوجه ونحوه وكان في إيلائها سورة تبت ردا على أبي لهب بخصوصه وجاء فيها أخبار كثيرة تدل على مزيد فضلها ......وجاء أنها تعدل ثلث القرآن في عدة أخبار مرفوعة وموقوفة. واختلف في المراد بذلك فقيل : المراد أنها باعتبار معناها ثلث من القرآن المجزأ إلى ثلاثة لا أن ثواب قراءتها ثلث ثواب القرآن وإلى هذا ذهب جماعة لكنهم اختلفوا في بيان ذلك فقيل إن القرآن يشتمل على قصص وأحكامها وعقائد وهي كلها مما يتعلق بالعقائد فكانت ثلثا بذلك الاعتبار. وقال الغزالي في الجواهر ما حاصله : هي عدل ثلثه باعتبار أنواع العلوم الثلاثة التي هي أم ما في القرآن علم المبدأ وعلم المعاد وعلم ما بينهما أعني الصراط المستقيم. وقال الجوني : المطالب التي في القرآن معظمها الأصول الثلاثة التي بها يصح الإسلام ويحصل الإيمان وهي معرفة اللّه تعالى والاعتراف بصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - واعتقاد القيام بين يديه وهذه السورة تفيد الأصل الأول فهي ثلثه من هذا الوجه. وقيل القرآن قسمان خبر وإنشاء والخبر قسمان خبر عن الخالق وخبر عن المخلوق فهذه ثلاثة أثلاث ، وسورة الإخلاص أخلصت الخبر عن الخالق فهي بهذا الاعتبار ثلث وهذا كما ترى. وأيّا ما كان قيل لا تنافي بين رواية الثلث ورواية عدل القرآن كله المذكورة في الكشاف على تقدير ثبوتها لجواز أن يقال هي عدل القرآن باعتبار أن المقصود التوحيد وما عداه ذرائع إليه. ويؤيد اعتبار الأجزاء أنفسها دون الثواب ما في صحيح مسلم من طريق قتادة عن أبي الدرداء أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : «أيعجز أحدكم أن يقرأ كل يوم ثلث القرآن»؟ قالوا : نعم. قال : «فإن اللّه تعالى جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فقل هو اللّه أحد ثلث القرآن».
وقيل المراد تعدل الثلث ثوابا لظواهر الأحاديث. وضعف ذلك ابن عقيل وقال : لا يجوز أن يكون المعنى فله أجر ثلث القرآن لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات»(1/1655)
فيكون ثواب قراءة القرآن بتمامه أضعافا مضاعفة بالنسبة لثواب قراءة هذه السورة ، والدواني أورد هذا إشكالا على هذا القول ثم أجاب بأن للقارىء ثوابين تفصيليا بحسب قراءة الحروف وإجماليا بسبب ختمه القرآن فثواب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يعدل ثلث ثواب الختم الإجمالي لا غيره ، ونظيره إذا عيّن أحد لمن يبني له دارا في كل يوم دنانير وعيّن له إذا أتمه جائزة أخرى غير أجرته اليومية. وفي شرح البخاري للكرماني فإن قلت المشقة في قراءة الثلث أكثر منها في قراءتها فكيف يكون حكمه حكمها؟ قلت : يكون ثواب قراءة الثلث بعشر وثواب قراءتها بقدر ثواب مرة منها لأن التشبيه في الأصل دون الزائد وتسع منها في مقابلة زيادة المشقة. وقال الخفاجي بعد أن قال ليس فيما ذكر ما يثلج الصدر ويطمئن له البال والذي عندي في ذلك أن للناظر في معنى كلام اللّه تعالى المتدبر لآياته ثوابا وللتالي له وإن لم يفهمه ثواب آخر ، فالمراد أن من تلاها مراعيا حقوق أدائها فاهما دقيق معانيها كانت تلاوته لها مع تأملها وتدبرها تعدل ثواب تلاوة ثلث القرآن من غير نظر في معانيه أو ثلث ليس فيه ما يتعلق بمعرفة اللّه تعالى وتوحيده. ولا بدع في أشرف المعاني إذا ضم لبعض من أشرف الألفاظ أن يعدل من جنس تلك الألفاظ مقدارا كثيرا كلوح ذهب زنته عشرة مثاقيل مرصع بأنفس الجواهر يساوي ألف مثقال ذهبا فصاعدا انتهى. ولا أرى له كثير امتياز على غيره مما تقدم.
والذي اختاره أن يقال لا مانع من أن يخص اللّه عز وجل بعض العبادات التي ليس فيها كثير مشقة بثواب أكثر من ثواب ما هو جنسها وأشق منها بأضعاف مضاعفة وهو سبحانه الذي لا حجر عليه ولا يتناهى جوده وكرمه فلا يبعد أن يتفضل جل وعلا على قارئ القرآن بكل حرف عشر حسنات ويزيد على ذلك أضعافا مضاعفة جدا لقارىء الإخلاص بحيث يعدل ثوابه ثواب قارئ ثلث منه غير مشتمل على تلك السورة ، ويفوض حكمة التخصيص إلى علمه سبحانه وكذا يقال في أمثالها وهذا مراد من جعل ذلك من المتشابه الذي استأثر اللّه تعالى بعلمه وليس هذا بأبعد ولا أبدع من تخصيص بعض الأزمنة والأمكنة المتحدة الماهية بأن للعبادة منه ولو قليلة من الثواب ما يزيد أضعافا مضاعفة على ثواب العبادة في مجاوره مثلا ولو كثيرة بل قد خص سبحانه بعض الأزمنة والأمكنة بوجوب العبادة فيه وبعضها بحرمتها فيه وله سبحانه في كل ذلك من الحكم ما هو به أعلم. وقال ابن عبد البر السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام فيها وأسلم ، وكذلك حديث معاوية بن معاوية الليثي الذي افتتح به الإمام الكلام في هذه السورة الكريمة خرجه الطبراني وأبو يعلى من طرق كلها ضعيفة والأحاديث الصحيحة الواردة فيها تكفي في فضلها ، بل قيل لذلك إنها أفضل سورة في القرآن ومنهم من استدل عليه بما روى الدارمي في مسنده عن أبي المغيرة عن صفوان الكلاعي قال : قال رجل :يا رسول اللّه أي سور القرآن أعظم؟ قال : «قل هو اللّه أحد»(1/1656)
. وفي المسند من طريقي معاذ بن رفاعة وأسيد بن عبد الرحمن عن عقبة بن عامر قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم»؟ قلت : بلى. قال : فأقرأني قل هو اللّه أحد وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس. ثم قال : «يا عقبة لا تنساهن ولا تبت ليلة حتى تقرأهن».
وروى الترمذي بعض هذا الحديث وحسّنه ولا يدل على أنها أفضل سور القرآن مطلقا بل على أنها من الأفضل. وقال ابن الحصاد : العجب ممن ينكر الاختلاف في الفضل مع كثرة النصوص الواردة فيه ، واختلف القائلون بالتفضيل فقال بعضهم : الفضل راجع إلى عظم ومضاعفة الثواب بحسب انتقالات النفس وخشيتها وتدبرها عند أوصاف العلا. وقيل : بل يرجع لذات اللفظ فإن تضمنته سورة الإخلاص مثلا من الدلالة على الوحدانية وصفاته تعالى ليس موجودا في تبت مثلا ، فالتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها. ونقل الحليمي عن البيهقي أن معنى التفضيل بين الآيات والسور يرجع إلى أشياء أحدها أن يكون العمل بها أولى من العمل بأخرى وأعود على الناس وعلى هذا يقال في آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من آيات القصص لأنه إنما أريد بها تأكيد الأمر والنهي والإنذار والتنشير ولا غنى للناس عن هذه الأمور وقد يستغنون عن القصص فكان ما هو أعود عليهم وأنفع لهم مما يجري مجرى الأصول خير لهم مما يجعل تبعا لما لا بد منه. الثاني أن يقال الآيات التي تشتمل على تعديد أسماء اللّه تعالى وبيان صفاته والدلالة على عظمته عز وجل أفضل بمعنى أنها أسنى وأجلّ قدرا مما لا تشتمل على ذلك.
الثالث أن يقال سورة خير من سورة ، أو آية خير من آية بمعنى أن القارئ يتعجل له بقراءتها فائدة سوى الثواب الآجل ويتأدى منه بتلاوتها عبادة كآية الكرسي والإخلاص والمعوذتين فإن قارئها يتعجل بقراءتها الاحتراز مما يخشى والاعتصام باللّه تعالى ، ويتأدى بتلاوتها عبادة اللّه سبحانه لما فيها من ذكره تعالى بالصفات العلا على سبيل الاعتقاد لها وسكون النفس إلى فضل ذلك الذكر وبركته. وأما آيات الحكم فلا يقع بنفس تلاوتها إقامة حكم وإنما يقع بها علم. وقد يقال إن سورة أفضل من سورة لأن اللّه تعالى جعل قراءتها كقراءة أضعافها مما سواها وأوجب بها من الثواب ما لم يوجب سبحانه لغيرها وإن كان المعنى الذي لأجله بلغ بها هذا المقدار لا يظهر لنا وهذا نظير ما يقال في تفضيل الأزمنة والأمكنة بعضها على بعض على ما سمعت آنفا. وبالجملة التفضيل بأحد هذه الاعتبارات لا ينافي كون الكل كلام اللّه عز وجل ومتحد النسبة إليه سبحانه كما لا يخفى واللّه تعالى أعلم. (1)
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 503)(1/1657)
سورة الإخلاص مكية ، وقد تحدثت عن صفات الله جل وعلا الواحد الأحد ، الجامع لصفات الكمال ، المقصود على الدوام ، الغني عن كل ما سواه ، المتنزه عن صفات النقص ، وعن المجانسة والمماثلة ، وردت على النصارى القائلين بالتثليث ، وعلى المشركين الوثنئين ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، الذين جعلوا لله الذرية والبنين (1)
مقصودها بيان الحقيقة الذات الأقدس ببيان اختصاصه بالاتصاف بأقصى الكمال للدلالة على صحيح الإعتقاد للإخلاص في التوحيد بإثبات الكمال ، ونفي الشوائب النقص والاختلال ، المثمر لحسن الأقوال والأفعال ، وثبات اللجاء والاعتماد في جميع الأحوال ، وعلى ذلك دل اسمها الإخلاص الموجب للخلاص ، وكذا الأساس والمقشقشة ، قال في القاموس : المقشقشتان الكافرون والإخلاص أي المبرئتان من النفاق والشرك كما يقشقش الهناء الجرب ، الهناء : القطران ، وقال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي : كما يبرئ المريض من علته إذا برئ منها - انتهى. وهو مأخوذ من القش بمعنى الجمع ، فسميتا بذلك لأنها تتبعنا النفاق بجميع أنواعه ، وكذا الشرك والكفر فجمعتاله ونفتاه بذلك لأنها تتبعنا النفاق بجميع أنواعه ، وكذا الشرك والكفر فجمعناه ونفتاه عن قارئهما حق القراءة ، وقد تقدم الكلام على هذا الاسم مبسوطا في براءة وكذا اسمها " قل هو الله أحد " دال على مقصوزدها بتأمل جميع السورة وما دعت إليه من معاني التبرئة اليسيرة الكثيرة ، وهذه السورة أعظم مفيد للتوحيد في القرآن ، قال الرازي : والتوحيد مقام يضيق عنه نطاق النطق لأنك إذا أخبرت عن الحق فهنالك مخبر عنه ومخبر به مجموعهما ، وذلك ثلاث ، فالعقل يعرفه ولكن النطق لا يصل إليه سئل الجنيد عن التوحيد فقال : معنى تضمحل فيه الرسوم وتتشوش فيه العلوم ويكون الله كما لم يزل وقال الجنيد أيضا : أشرف كلمة في التوحيد ما قاله الصديق رضي الله عنه : سبحانه من لم يجعل لخلقه سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته (2)
هذه السورة الصغيرة تعدل ثلث القرآن كما جاء في الروايات الصحيحة. قال البخاري : حدثنا إسماعيل :حدثني مالك عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعد ، أن رجلا سمع رجلا يقرأ : «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» يرددها. فلما أصبح جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالها - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلاث القرآن» ..
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 536)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 575)(1/1658)
وليس في هذا من غرابة. فإن الأحدية التي أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يعلنها : «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» .. هذه الأحدية عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة .. وقد تضمنت السورة - من ثم - أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة الإسلام الكبيرة ..
من هنا ينبثق منهج كامل للحياة ، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصورات ومشاعر واتجاهات :
منهج لعبادة اللّه وحده. الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده ، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته ، ولا أثر لإرادة إلا إرادته.
ومنهج للاتجاه إلى اللّه وحده في الرغبة والرهبة. في السراء والضراء. في النعماء والبأساء. وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا ، وإلى غير فاعل في الوجود أصلا؟! ومنهج للتلقي عن اللّه وحده. تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم ، والآداب والتقاليد. فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير.
ومنهج للتحرك والعمل للّه وحده .. ابتغاء القرب من الحقيقة ، وتطلعا إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة. سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس. ومن بينها حاجز الذات ، وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود! ومنهج يربط - مع هذا - بين القلب البشري وبين كل موجود برباط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب.
فليس معنى الخلاص من قيودها هو كراهيتها والنفور منها والهروب من مزاولتها .. فكلها خارجة من يد اللّه وكلها تستمد وجودها من وجوده ، وكلها تفيض عليها أنوار هذه الحقيقة. فكلها إذن حبيب ، إذ كلها هدية من الحبيب!
وهو منهج رفيع طليق .. الأرض فيه صغيرة ، والحياة الدنيا قصيرة ، ومتاع الحياة الدنيا زهيد ، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية .. ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال ، ولا الكراهية ولا الهروب .. إنما معناه المحاولة المسترة ، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها ، وإطلاق الحياة البشرية جميعها .. ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما ، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما. كما أسلفنا.
إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير. ولكن الإسلام لا يريده. لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص. إنه طريق أشق ، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان. أي يحقق انتصار النفخة العلوية في كيانه .. وهذا هو الانطلاق. انطلاق الروح إلى مصدرها الإلهي ، وتحقيق حقيقتها العلوية. وهي تعمل في الميدان الذي اختاره لها خالقها الحكيم ..(1/1659)
من أجل هذا كله كانت الدعوة الأولى قاصرة على تقرير حقيقة التوحيد بصورتها هذه في القلوب. لأن التوحيد في هذه الصورة عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة. وليس كلمة تقال باللسان أو حتى صورة تستقر في الضمير. إنما هو الأمر كله ، والدين كله وما بعده من تفصيلات وتفريعات لا يعدو أن يكون الثمرة الطبيعية لاستقرار هذه الحقيقة بهذه الصورة في القلوب.
والانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل ، والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم ، نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص. ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات.
على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها ، وقيام الحياة على أساسها ، واتخاذها قاعدة للمنهج العملي الواقعي في الحياة ، تبدو آثاره في التشريع كما تبدو في الاعتقاد سواء. وأول هذه الآثار أن تكون شريعة اللّه وحدها هي التي تحكم الحياة. فإذا تخلفت هذه الآثار فإن عقيدة التوحيد لا تكون قائمة ، فإنها لا تقوم إلا ومعها آثارها محققة في كل ركن من أركان الحياة (1) ..
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 4002)(1/1660)
(113) سورة الفلق
سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه السورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} . روى النسائي عن عقبة بن عامر قال: اتبعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راكب فوضعت يدي على قدمه فقلت: أقرئني يا رسول الله سورة هود وسورة يوسف، فقال: "لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .
وهذا ظاهر في أنه أراد سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} لأنه كان جوابا على قول عقبة: أقرأني سورة هود الخ، ولأنه عطف على قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ولم يتم سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} .
عنونها البخاري في "صحيحه" "سورة قل أعوذ برب الفلق" بإضافة سورة إلى أول جملة منها.
وجاء في بعض كلام الصحابة تسميتها مع سورة الناس "المعوذتين". روى أبو داود والترمذي وأحمد عن عقبة بن عامر قال أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوذات بكسر الواو المشددة وبصيغة الجمع بتأويل الآيات المعوذات، أي آيات السورتين وفي رواية بالمعوذتين في دبر كل صلاة. ولم يذكر أحد من المفسرين أن الواحدة منهما تسمى المعوذة بالإفراد، وقد سماها ابن عطية سورة المعوذة الأولى، فإضافة سورة إلى المعوذة من إضافة المسمى إلى الاسم، ووصف السورة بذلك مجاز يجعلها كالذي يدل الخائف على المكان الذي يعصمه من مخيفه أو كالذي يدخله المعاذ.
وسميت في أكثر المصاحف ومعظم كتب التفسير "سورة الفلق".
وفي "الإتقان": أنها وسورة الناس تسميان المشقشقتين بتقديم الشينين على القافين من قولهم خطيب مشقشق اه. أي مسترسل القول تشبيها له بالفحل الكريم من الإبل يهدر بشقشقة وهي كاللحم يبرز من فيه إذا غضب ولم أحقق وجه وصف المعوذتين بذلك.
وفي "تفسير القرطبي" و"الكشاف" أنها وسورة الناس تسميان المشقشقتين بتقديم القاف على الشينين زاد القرطبي: أي تبرئان من النفاق، وكذلك قال الطيبي، فيكون اسم المقشقشة مشتركا بين أربع سور هذه، وسورة الناس، وسورة براءة، وسورة الكافرون.
واختلف فيها أمكية هي أم مدنية، فقال جابر بن زيد والحسن وعطاء وعكرمة: مكية، ورواه كريب عن ابن عباس. وقال قتادة: هي مدنية، ورواه أبو صالح عن ابن عباس.
والأصح أنها مكية لأن رواية كريب عن ابن عباس مقبولة بخلاف رواية أبي صالح عن ابن عباس ففيها متكلم.(1/1661)
وقال الواحدي: قال المفسرون إنها نزلت بسبب أن لبيد بن الأعصم سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليس في "الصحاح" أنها نزلت بهذا السبب، وبنى صاحب الإتقان عليه ترجيح أن السورة مدنية وسنتكلم على قصة لبيد بن الأعصم عند قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4].
وقد قيل: أن سبب نزولها والسورة بعدها: أن قريشا ندبوا، أي ندبوا من اشتهر بينهم أنه يصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينه فأنزل الله المعوذتين ليتعوذ منهم بهما، ذكره الفخر عن سعيد بن المسيب ولم يسنده.
وعدت العشرين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة الفيل وقبل سورة الناس.
وعدد آياتها خمس بالاتفاق.
واشتهر عن عبد الله بن مسعود في "الصحيح" أنه كان ينكر أن تكون المعوذتان من القرآن ويقول: إنما أمر رسول الله أن يتعوذ بهما، أي ولم يؤمر بأنهما من القرآن. وقد أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القراءة بهما في الصلاة وكتبا في مصاحفهم، وصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بهما في صلاته.
أغراضها
والغرض منها تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات للتعوذ بالله من شر ما يتقى شره من المخلوقات الشريرة، والأوقات التي يكثر فيها حدوث الشر، والأحوال التي يستر أحوال الشر من ورائها لئلا يرمى فاعلوها بتبعاتها، فعلم الله نبيه هذه المعوذة ليتعوذ بها، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ بهذه السورة وأختها ويأمر أصحابه بالتعوذ بهما فكان التعوذ بهما من سنة المسلمين. (1)
مناسبتها لما قبلها
تقرر فى سورة « الإخلاص » ما ينبغى أن يكون عليه مفهوم المخلوقين للخالق سبحانه وتعالى ، من تفرده بالألوهية ، وتنزيهه أن يكون والدا أو مولودا ، وعن أن تكون له نسبة إلى المخلوقات ، إلا نسبة الدلالة على قدرته وحكمته ، وعلمه ، وأنها جميعها مفتقرة إليه فى وجودها ، وفى بقائها ، وأنه سبحانه لا مثيل له ، ولا شبيه ، ولا كفء ولا ندّ ..هذا ما أمر اللّه سبحانه النبي أن يؤمن به أولا ، ثم أن يؤذن به فى الناس ..ثم جاءت بعد هذا سورتا المعوذتين ، « الفلق » و« الناس » تقرران هذه الحقيقة ، وتؤكدانها فى مجال التطبيق العملي لآثارها ، وذلك بدعوة النبىّ والناس جميعا أن يعوذوا بربهم ، وأن يستظلوا بحمى ربوبيته من كل ما يسوءهم ، أو ما يتوقع أن يعرض له بسوء ، فذلك هو الإيمان باللّه سبحانه ، والإقرار بسلطانه القائم على هذا الوجود ، وأنه وحده الذي تتجه الوجوه كلها إليه فى السراء والضراء .. فهو سبحانه القادر على كل شىء ، وهو سبحانه الذي بيده مقاليد كل شىء .. أما
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 545)(1/1662)
المخلوقون فهم جميعا على سواء فى الحاجة إلى اللّه ، وفى الافتقار إليه ، غنيهم وفقيرهم ، قويهم وضعيفهم : « يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ » « إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ».. وقد صدّرت سورة الإخلاص ، والمعوذتين بعدها ، بقوله تعالى : « قل » وهذا الأمر بالقول داخل فى مقول القول الذي يقوله النبي ، ويقوله كل من يتأسّون به ، فمطلوب من النبي ، ومن المؤمنين أن يقولوا : « قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ..قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ .. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ».. فهذا الأمر بالقول ، هو قرآن متعبد به ، وهو يعنى أن القرآن كلمات اللّه ، وأنه لا تبديل لكلمات اللّه ، وأن هذه الكلمات قد انطبعت فى قلب النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه ، فهو يقرؤها من كتاب قلبه كما أنزلت عليه ، دون تبديل فيها .. فإذا قيل له ـ صلوات اللّه وسلامه عليه : « قُلْ سُبْحانَ رَبِّي ». . قال : « قُلْ سُبْحانَ رَبِّي ».. وإذا قيل له « قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ » قال : « قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ » وإذا قيل له : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ » ؟ قال : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ .. » وهكذا. وقد عرضنا هذا الموضوع فى مبحث خاص ، عند تفسير سورة « الجن »." (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الفلق » تسمى - أيضا - سورة « قل أعوذ برب الفلق » وتسمى هي والتي بعدها بالمعوّذتين ، وكان نزولهما على الترتيب الموجود في المصحف.
ويرى الحسن وعطاء وعكرمة أنهما مكيتان ، ويرى قتادة وجماعة أنهما مدنيتان ...
قال الآلوسى عند تفسيره لهذه السورة : هي مكية في قول الحسن ... ومدنية في رواية عن ابن عباس. وفي قول قتادة وجماعة ، وهو الصحيح ، لأن سبب نزولها سحر اليهود ... « 1 ».
وقد سار السيوطي في إتقانه على أنهما مكيتان ، وأن نزول سورة الفلق كان بعد نزول سورة « الفيل » وقبل سورة « الناس » ، وأن نزول سورة « الناس » كان بعد سورة « الفلق » وقبل سورة « الصمد ».
2 - وعدد آياتها خمس آيات ، والغرض الأكبر منها : تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف يستعيذ باللّه - تعالى - من شرور الحاقدين والجاحدين والسحرة والفاسقين عن أمر ربهم ... (2)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1716)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 543)(1/1663)
في السورة تعليم رباني بالاستعاذة باللّه من أسباب المخاوف والهواجس في معرض تدعيم وحدة اللّه ونبذ ما سواه. وبعض الروايات تذكر أنها مكية وبعضها تذكر أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها ، ومعظم روايات ترتيب النزول تسلكها في سلك السور المكية المبكرة في النزول ، وأسلوبها يسوغ ترجيح مكيتها وتبكير نزولها.
ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت : «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذتين وينفث فلما اشتدّ وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها» «1». وروى البخاري عنها أيضا : «أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفّيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو اللّه أحد وقل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ بربّ الناس ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده. يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات» «2». وروى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر قال : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : ألم تر آيات أنزلت عليّ الليلة لم ير مثلهنّ قطّ قل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ بربّ الناس» «3». وروى أبو داود والنسائي عن عقبة أيضا قال : «كنت أقود لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في السفر ناقته فقال لي يا عقبة ألا أعلّمك خير سورتين قرئتا فعلّمني قل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ بربّ الناس» «1». وروى الاثنان نفسهما عن عقبة كذلك قال : «بينا أنا أسير مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة فجعل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يتعوّذ بالمعوّذتين ويقول يا عقبة تعوّذ بهما فما تعوّذ متعوّذ بمثلهما قال وسمعته يؤمّنا بهما في الصلاة» «2». وروى الترمذي بسند حسن عن عقبة أيضا قال : «أمرني رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوّذتين في دبر كلّ صلاة» «3».
والمتبادر أن ما احتوته السورتان من بث السكينة والطمأنينة في النفس وتعليم اللجوء إلى اللّه تعالى وحده والاستعاذة به في ظروف المخاوف والأزمات النفسية المتنوعة من الحكمة المنطوية في الأحاديث ، وهي حكمة مستمرة الفائدة لاستمرار دواعيها. (1)
سورة الفلق مكيّة ، وهي خمس آيات.
مكيتها أو مدنيتها : هذه السورة وسورة الناس مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر وهو رأي الأكثرين ، ومدنية في رواية عن ابن عباس وقتادة وجماعة ، قيل : وهو الصحيح.
تسميتها : سميت هذه السورة سورة الفلق ، لافتتاحها بقوله تعالى : قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ والْفَلَقِ الشق وفصل الشيء عن بعضه ، وهو يشمل كل ما انفلق من حب ونوى ونبات عن الأرض ، وعيون ماء عن
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 45)(1/1664)
الجبال ، ومطر عن السحاب ، وولد عن الأرحام ، ومنه : فالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام 6/ 96] ، وفالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الأنعام 6/ 95].
مناسبتها لما قبلها :
لما أبان اللَّه تعالى أمر الألوهية في سورة الإخلاص لتنزيه اللَّه عما لا يليق به في ذاته وصفاته ، أبان في هذه السورة وما بعدها وهما المعوذتان ما يستعاذ منه باللَّه من الشر الذي في العالم ، ومراتب مخلوقاته الذين يصدون عن توحيد اللَّه ، كالمشركين وسائر شياطين الإنس والجن ، وقد ابتدأ في هذه السورة بالاستعاذة من شر المخلوقات ، وظلمة الليل ، والسحرة ، والحسّاد ، ثم ذكر في سورة الناس الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن لذا سميت السور الثلاثة (الإخلاص وما بعدها) في الحديث بالمعوّذات. وقدمت الفلق على الناس لمناسبة الوزان في اللفظ لفواصل الإخلاص مع مقطع تَبَّتْ.
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت السورة الاستعاذة من شر المخلوقات ، وبخاصة ظلمة الليل ، والسواحر والنمامين ، والحسدة ، وهي درس بليغ وتعليم نافع عظيم لحماية الناس بعضهم من بعض بسبب أمراض النفوس ، وحمايتهم من شر ذوات السموم ، وشر الليل إذا أظلم ، لما فيه من مخاوف ومفاجات ، وبخاصة في البراري والكهوف. (1)
مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر ورواية كريب عن ابن عباس ، مدنية في قول ابن عباس في رواية أبي صالح وقتادة وجماعة وهو الصحيح لأن سبب نزولها سحر اليهود كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى ، وهم إنما سحروه عليه الصلاة والسلام بالمدينة كما جاء في الصحاح فلا يلتفت لمن صحح كونها مكية وكذا الكلام في سورة الناس وآيها الخمس بلا خلاف. ولما شرح أمر الإلهية في السورة قبلها جيء بها بعدها شرحا لما يستعاذ منه باللّه تعالى من الشر الذي في مراتب العالم ومراتب مخلوقاته ، وهي والسورة التي بعدها نزلتا معا كما في الدلائل للبيهقي فلذلك قرنتا مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين ومن الافتتاح بقل أعوذ. وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهما عنه قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «أنزلت عليّ الليلة آيات لم أر مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس» . وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن عائشة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثم تمسح بهما ما استطاع
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 469)(1/1665)
من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات. وجاء في الحديث أن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي وثلاثا حين يصبح كفته من كل شيء.
وفي فضلهما أخبار كثيرة غير ما ذكر. وعن ابن مسعود أنه أنكر قرآنيتهما. أخرج الإمام أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق صحيحة عنه أنه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول : لا تخلطوا القرآن بما ليس منه إنهما ليستا من كتاب اللّه تعالى إنما أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يتعوذ بهما. وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما قال البزار : لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ بهما في الصلاة
وأثبتتا في المصحف. وأخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن حبان وغيرهم عن زر بن حبيش قال : أتيت المدينة فلقيت أبيّ بن كعب فقلت له : يا أبا المنذر إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه. فقال : أما والذي بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق لقد سألت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عنهما وما سألني عنهما أحد منذ سألت غيرك. فقال : قيل لي قل فقلت فقولوا فنحن نقول كما قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -
. وبهذا الاختلاف قدح بعض الملحدين في إعجاز القرآن قال : لو كانت بلاغة ذلك بلغت حد الإعجاز لتميز به غير القرآن فلم يختلف في كونه منه ، وأنت تعلم أنه قد وقع الإجماع على قرآنيتهما وقالوا إن إنكار ذلك اليوم كفر ، ولعل ابن مسعود رجع عن ذلك وفي شرح المواقف أن اختلاف الصحابة في بعض سور القرآن مروي بالآحاد المفيدة للظن ومجموع القرآن منقول بالتواتر المفيد لليقين الذي يضمحل الظن في مقابلته ، فتلك الآحاد مما لا يلتفت إليه ثم إن سلمنا اختلافهم فيما ذكر قلنا إنهم لم يختلفوا في نزوله على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولا في بلوغه في البلاغة حد الإعجاز بل في مجرد كونه من القرآن وكذلك لا يضر فيما نحن بصدده انتهى.
وعكس هذا القول في السورتين المذكورتين قيل في سورتي الخلع والحفد وفي ألفاظهما روايات منها ما يقنت به الحنفية ، فقد روي أنهما في مصحف أبيّ بن كعب وفي مصحف ابن عباس وفي مصحف ابن مسعود فهما إن صح أنهما كلام اللّه تعالى منسوخا التلاوة وليسا من القرآن كما لا يخفى. (1)
مقصودها الاعتصام من شركل ما انفلق عنه الخلق الظاهر والباطن ، واسمها ظاهر الدلالة على ذلك (2)
هذه السورة والتي بعدها توجيه من اللّه - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ابتداء وللمؤمنين من بعده جميعا ، للعياذ بكنفه ، واللياذ بحماه ، من كل مخوف : خاف وظاهر ، مجهول ومعلوم ، على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل .. وكأنما يفتح اللّه - سبحانه - لهم حماه ، ويبسط لهم كنفه ، ويقول لهم ،
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 517)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 603)(1/1666)
في مودة وعطف : تعالوا إلى هنا. تعالوا إلى الحمى. تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه. تعالوا فأنا أعلم أنكم ضعاف وأن لكم أعداء وأن حولكم مخاوف وهنا .. هنا الأمن والطمأنينة والسلام ..
ومن ثم تبدأ كل منهما بهذا التوجيه. «قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» .. «قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» ..
وفي قصة نزولها وقصة تداولها وردت عدة آثار ، تتفق كلها مع هذا الظل الذي استروحناه ، والذي يتضح من الآثار المروية أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - استروحه في عمق وفرح وانطلاق :عن عقبة - ابن عامر - رضي اللّه عنه - أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط؟ قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «1»» ..
وعن جابر - رضي اللّه عنه - قال : قال لي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «اقرأ يا جابر. قلت :ما ذا بأبي أنت وأمي؟ قال : اقرأ. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» فقرأتهما. فقال : «اقرأ بهما فلن تقرأ بمثلهما «2»» ..
وعن ذر بن حبيش قال : سألت أبي بن كعب - رضي اللّه عنه - عن المعوذتين. قلت : يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا (و كان ابن مسعود لا يثبتهما في مصحفه ثم ثاب إلى رأي الجماعة وقد أثبتهما في المصحف) فقال : سألت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال : «قيل لي : قل. فقلت». فنحن نقول كما قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - «1» وكل هذه الآثار تشي بتلك الظلال الحانية الحبيبة .. (1)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 4006)(1/1667)
(114) سورة الناس
تقدم عند تفسير أول سورة الفلق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى سورة الناس {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}
وتقدم في سورة الفلق أنها وسورة الناس تسميان "المعوذتين"، و"المشقشقتين" بتقديم الشين على القافين، وتقدم أيضا أن الزمخشري والقرطبي ذكرا أنهما تسميان "المشقشقتين" بتقديم القافين على الشينين، وعنونها ابن عطية في "المحرر الوجيز" "سورة المعوذة الثانية" بإضافة "سورة" إلى "المعوذة" من إضافة الموصوف إلى الصفة. وعنونهما الترمذي "المعوذتين"، وعنونها البخاري في "صحيحه" "سورة قل أعوذ برب الناس".
وفي مصاحفنا القديمة والحديثة المغربية والمشرقية تسمية هذه السورة "سورة الناس" وكذلك أكثر كتب التفسير.
وهي مكية في قول الذين قالوا في سورة الفلق أنها مكية، ومدنية في قول الذين قالوا في سورة الفلق أنها مدنية. والصحيح أنهما نزلتا متعاقبتين، فالخلاف في إحداهما كالخلاف في الأخرى.
وقال في "الإتقان": أن سبب نزولها قصة سحر لبيد بن الأعصم، وأنها نزلت مع "سورة الفلق" وقد سبقه على ذلك القرطبي والواحدي، وقد علمت تزييفه في سورة الفلق.
وعلى الصحيح من أنها مكية فقد عدت الحادية والعشرين من السور، نزلت عقب سورة الفلق وقبل سورة الإخلاص.
وعد آيها ست آيات، وذكر في "الإتقان" قولا: إنها سبع آيات وليس معزوا لأهل العدد.
أغراضها
إرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن يتعوذ بالله ربه من شر الوسواس الذي يحاول إفساد عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإفساد إرشاده ويلقي في نفوس الناس الإغراض عن دعوته. وفي هذا الأمر إيماء إلى الله تعالى معيذه في ذلك فعاصمه في نفسه من تسلط وسوسة الوسواس عليه، ومتمم دعوته حتى تعم في الناس. ويتبع ذلك تعليم المسلمين التعوذ بذلك، فيكون لهم من هذا التعوذ بذلك، فيكون لهم من هذا التعوذ ما هو حظهم. ومن قابلية التعرض إلى الوسواس، ومن السلامة منه بمقدار مراتبهم في الزلفى. (1)
مناسبتها لما قبلها
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 553)(1/1668)
هى امتداد لسورة « الفلق » قبلها ، ومتممة لما يستعاذ باللّه منه ..و« المعوذتان » أشبه بسورة واحدة ، ولهذا فقد جمعهما اسم واحد : « المعوذتان ». (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الناس » كان نزولها بعد سورة « الفلق » ، وتسمى سورة المعوذة الثانية ، والسورتان معا تسميان بالمعوذتين ، كما سبق أن أشرنا ، وعدد آياتها ست آيات ... (2)
في السورة تعليم بالاستعاذة من وسوسة الموسوسين وشرهم إنسا كانوا أم جنا. وبعض الروايات تذكر أنها مكية وبعضها تذكر أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها ومعظم روايات ترتيب النزول تسلكها في سلك السور المكية المبكرة في النزول. وأسلوبها يسوغ ترجيح مكيتها وتبكير نزولها. ولقد أوردنا الأحاديث النبوية التي تذكر تعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه السور وأمره بذلك ونوهنا بما في ذلك من حكمة في مطلع تفسير السورة السابقة فنكتفي بهذه الإشارة. (3)
سورة الناس مدنيّة ، وهي ست آيات.
تسميتها :سميت سورة الناس لافتتاحها بقول اللَّه تبارك وتعالى : قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ .. وتكررت كلمة النَّاسِ فيها خمس مرات. وقد نزلت مع ما قبلها ، وهي مكية عند الأكثر ، وقيل : مدنية كما تقدم. وعرفنا وجه مناسبتها لما سبقها.
وهي آخر سورة في القرآن ، وقد بدئ بالفاتحة التي هي استعانة باللَّه وحمد له ، وختم بالمعوذتين للاستعانة باللَّه أيضا.
ما اشتملت عليه السورة :
اشتملت هذه السورة ، وهي ثاني المعوذتين على الاستعاذة باللَّه تعالى والالتجاء إلى ربّ الناس الملك الإله الحق من شرّ إبليس وجنوده الذين يغوون الناس بوسوستهم.
وقد عرفنا أن هذه السورة وسورة الفلق والإخلاص تعوذ بهن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من سحر اليهود. وقيل : إن المعوذتين كان يقال لهما المقشقشتان ، أي تبرئان من النفاق.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1745)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 547)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 59)(1/1669)
روى الترمذي كما تقدم عن عقبة بن عامر عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «لقد أنزل اللَّه علي آيات لم ير مثلهن : قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إلى آخر السورة ، وقُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ إلى آخر السورة.وقال : هذا حديث حسن صحيح ، ورواه مسلم أيضا. (1)
* سورة الناس مكية ، وهي ثاني المعوذتين ، وفيها الإستجارة والإحتماء برب العالمين ، من شر أعدى الأعداء ، إبليس وأعوانه من شياطين الإنس والجن ، الذين يغوون الناس بأنواع الوسوسة والإغواء.
* وقد ختم الكتاب العزيز بالمعوذتين وبدىء بالفاتحة ، ليجمع بين حسن البدء ، وحسن الختم ، وذلك غاية الحسن والجمال ، لأن العبد يستعين بالله ويلتجىء إليه ، من بداية الأمر إلى نهايته. (2)
مقصودها الاعتصام بالإله الحق من شر الخلق الباطن ، واسمها دال على ذلك لأن الإنسان مطبوع على الشر ، وأكثر شره بالمكر والخداع ، وأحسن من هذا أنها للاستعاذة من الشر الباطن المأنوس به المستروح إليه ، فإن الوسسة لا تكون إلا بما يشتهي ، والناس مشتق من الأنس ، فإن أصله أناس ، وهو أيضا اضطراب الباطن المشير إليه الاشتقاق من النوس ، فطابق حينئذ الاسم المسمى ، ومقصود هذه السورة معلول لمقصود الفقاتحة الذي هو المراقبة ، وهي شاملة لجميع علوم القرآن التي هي مصادقة الله ومعاداة الشيطان ببراعة الختام وفذلكة النظام ، كما أن الفاتحة شاملة لذلك لأنها براعة الاستهلال ، ورعاية الجلال والجمال ، فقد اتصل الآخر بالأول اتصال العلة بالمعلول ، والدليل بالمدلول ، والمثل بالممثول ، والله المسؤول في تيسير السؤل ، ت وتحقيق المأمول ، فإنه الجواد ذو الطول ، وبه يستعان وعليه التكلان (3)
الاستعاذة في هذه السورة برب الناس ، ملك الناس ، إله الناس. والمستعاذ منه هو : شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ، من الجنة والناس.
والاستعاذة بالرب ، الملك ، الإله ، تستحضر من صفات اللّه - سبحانه - ما به يدفع الشر عامة ، وشر الوسواس الخناس خاصة.فالرب هو المربي والموجه والراعي والحامي. والملك هو المالك الحاكم المتصرف. والإله هو المستعلي المستولي المتسلط .. وهذه الصفات فيها حماية من الشر الذي يتدسس إلى الصدور .. وهي لا تعرف كيف تدفعه لأنه مستور.
واللّه رب كل شي ء ، وملك كل شي ء ، وإله كل شيء. ولكن تخصيص ذكر الناس هنا يجعلهم يحسون بالقربى في موقف العياذ والاحتماء.
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 478)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 539)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 611)(1/1670)
واللّه - برحمة منه - يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمته إلى العياذ به والالتجاء إليه ، مع استحضار معاني صفاته هذه ، من شر خفي الدبيب ، لا قبل لهم بدفعه إلا بعون من الرب الملك الإله. فهو يأخذهم من حيث لا يشعرون ، ويأتيهم من حيث لا يحتسبون. (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 4010)(1/1671)
أهم المصادر
البحر المحيط ـ نسخة محققة
التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية
التحرير والتنوير لابن عاشور
التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع
التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع
التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع
التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
الدر المنثور للسيوطي
تفسير ابن كثير - دار طيبة
تفسير البحر المحيط ـ موافق للمطبوع
تفسير الشعراوي
تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع
تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة
تفسير الفخر الرازي
تفسير القرآن للعثيمين
تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع
تفسير المنار (1354)
روح المعانى ـ نسخة محققة
صفوة التفاسير ـ للصابونى
فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع
نظم الدرر ـ موافق للمطبوع
البرهان في علوم القرآن(1/1672)
مباحث في علوم القرآن للشيخ صبحي الصالح
مقدمة في أصول التفسير
مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني
أخبار مكة للفاكهي (272)
الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
السنن الكبرى للبيهقي- المكنز
المستدرك للحاكم مشكلا
المسند الجامع
المعجم الأوسط للطبراني
المعجم الصغير للطبراني
المعجم الكبير للطبراني
بيان مشكل الآثار ـ الطحاوى
جامع الأصول في أحاديث الرسول
سنن أبي داود - المكنز
سنن ابن ماجه- المكنز
سنن الترمذى- المكنز
سنن الدارقطنى- المكنز
سنن الدارمى- المكنز
شعب الإيمان (458)
صحيح ابن حبان
صحيح البخارى- المكنز
صحيح مسلم- المكنز
مجمع الزوائد
مسند أبي عوانة مشكلا
مسند أبي يعلى الأسد
مسند أحمد - المكنز(1/1673)
مسند البزار كاملا
مسند الحميدي - المكنز
مسند الشاميين 360
مسند الطيالسي 204
مصنف ابن أبي شيبة
مصنف عبد الرزاق مشكل
معرفة الصحابة لأبي نعيم (430)
موسوعة السنة النبوية
موطأ مالك- المكنز(1/1674)
الفهرس العام
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1675)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1676)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1677)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1678)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1679)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1680)