القرآن بعد دور الدعوة :
وإلى هنا كان الرسول ، قد تلقى القرآن الكريم كله من ربه ، وحفظه فى قلبه ، كما حفظه كثير من المسلمين معه ، كما كان كتّاب الوحى قد استكملوا كتابته.
والسؤال هنا : على أية صورة كان القرآن عند آخر آية نزلت ؟ وهل كان على ترتيب النزول ، أم على هذا الترتيب الذي هو عليه الآن ؟ .
والجواب على هذا :
أولا : من المقطوع به أن القرآن عند ما نزلت آخر آية منه لم يكن على هذا الترتيب الذي هو عليه الآن ، كما أنه لم يكن على ترتيب النزول .. وذلك أن الرسول ـ بوحي من ربّه ـ كان خلال العشرين سنة أو تزيد ، التي نزل فيها القرآن ، يرتب الآيات ، فيضع ـ بوحي من ربّه ـ آيات مدنية في سور مكية ، كما يضع آيات مكية في سور مدنية .. فكانت عملية النقل هذه تغيّر من صورة السّور ، طولا وقصرا ، فينقل من هذه السورة آيات إلى تلك ، ومن تلك إلى أخرى ، وهكذا في اتصال دائم بدوام نزول القرآن.
وثانيا : بعد أن تم « نزول القرآن » ، ولم تعد ثمة آيات أخرى يوحى بها ، كان عمل الوحى ، مع النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه ، هو ترتيب القرآن على هذا الترتيب الذي أراده اللّه سبحانه وتعالى عليه ، وهو ما نجده بين دفتى المصحف ، كما تركه الرسول ، بعد تلك العرضة أو العرضتين أو الثلاث ، التي كانت بين جبريل وبين النبىّ.
وثالثا : لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ هذه الدنيا ، ويلحق بالرفيق الأعلى ، حتى كان صحابة رسول اللّه ، وحتى كان كتّاب الوحى ، قد أخذوا الصورة الكاملة ، فى تحديد دقيق ، للقرآن الكريم ، وعرفوا مكان كل آية من سورتها ، ومبدأ كل سورة وختامها ، وما بين بدئها وختامها ..
ومن الموافقات العجيبة ، التي نعدّها نفحة من نفحات القرآن الكريم ، أننا نعرض لهذا البحث ـ من غير تدبير ـ فى سورة الأحزاب .. ففى سورة الأحزاب هذه مقولات تقال ، وروايات تروى ..ففى مسند أحمد عن رزين بن حبيش ، قال : قال لى أبىّ بن كعب كائن (أي كم) تقرأ سورة الأحزاب ، أو كائن (أي كم) تعدّها ؟ قلت : ثلاثا وسبعين آية ... فقال (أي أبىّ) : لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة .. ولقد قرأنا فيها : « الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم » فرفع فيما رفع ..!!
ولقد بنى على هذه الرواية أن قرآنا كثيرا نسخ تلاوة ، وأن قرآنا آخر نسخ تلاوة ولم ينسخ حكما ، كهذه التي يقال إنها كانت آية قرآنية : « الشيخ والشيخة ».(1/881)
. وقد عرضنا لموضوع النسخ في أكثر من موضع .. فلا نعرض له هنا .. وإنما الذي نقف عنده من هذا الخبر ـ على اعتبار صحته ـ هو : كيف كانت سورة الأحزاب تعادل سورة البقرة ؟ فما تأويل هذا ؟ وكيف أصبحت سورة الأحزاب ثلاثا وسبعين آية بينما سورة البقرة تبلغ مائتين وستا وثمانين آية ؟
والجواب على هذا ، أن سورة الأحزاب كانت تعدل في طولها أو امتدادها سورة البقرة ، وأنه في العرضة أو العرضات التي كانت بين جبريل ، وبين النبي أخذت كثير من الآيات في سورة الأحزاب مواضعها من سور القرآن المكّى ، أو المدنىّ ، حتى صارت على هذه الصورة التي هى عليها .. وعلى هذا فلم يكن قرآن رفع منها ، رفع نسخ ، تلاوة وحكما ، بل الذي كان هو قرآن رفع منها إلى مواضع أخرى من القرآن .. كما حدث ذلك في كثير من آيات القرآن ..
ونعود إلى ما كنا فيه من ترتيب القرآن بعد دور الدعوة ، فنقول : إنه وقد انتهى دور الدعوة ، وأدى الرسول رسالة ربه ، ودالت دولة الشرك ، ودخل الناس في دين اللّه أفواجا ـ كان لا بد أن ترتب آيات اللّه ، على هذا الترتيب الذي أمر اللّه به ، بعد أن نزلت آخر آية من القرآن الكريم .. فقد كان الترتيب النزولى مقدّرا بحاجة الدعوة في مسيرتها من مبدئها إلى ختامها ، وموقوتا بهذا الوقت الذي يكمل فيه نزول القرآن .. فلما تم نزول القرآن ، وختم الرسول دعوته ، أخذ القرآن هذا الترتيب السّماوى ، الذي يعيش في ظله ، مجتمع مسلم ، آمن باللّه ، وبآيات اللّه ، ورسول اللّه .. ولم بعد من تدبير القرآن أن يواجه الناس آية آية ، أو آيات آيات ، أو يلقاهم حالا بعد حال ، وحدثا إثر حدث ، وإنما الذي يلقاهم منذ ختام الرسالة كتاب اللّه جميعه .. كأنه آية واحدة هى شريعة اللّه ، ودستور المسلمين ..
لقد كان القرآن في دور الدعوة يعمل في أكثر من جبهة ، فهناك جبهة المشركين .. ثم جبهة أهل الكتاب وخاصة اليهود ، ثم جبهة المنافقين .. ثم قبل هؤلاء وأولئك جميعا جبهة المؤمنين ، الذين يتلقون هدى السماء ، وينشّئون فى حجر الإسلام .. فكان للقرآن مع كل جبهة موقف ، وإلى كل طائفة قول ، فلما أتم القرآن رسالته ، لم تعد إلا جبهة المؤمنين ، هى وحدها التي يعنيه أمرها ، وهى التي ستصحبه ، وتعيش في ظله .. جيلا بعد جيل ، إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها .. فكان هذا الترتيب الذي رتب عليه القرآن بأمر اللّه ، إلغاء لعنصر الزمن ، الذي يحدد بدء القرآن ونهايته ، ومولده وفطامه .. فهو كلام اللّه ، القديم أزلا ، الخالد أبدا ..
وبعد ، فإن هذه الفتنة أخطر سلاح يحارب به الإسلام ، ويرمى به في الصميم منه .. وأنه لو قدر لها ـ لا قدّر اللّه ـ أن تجد في المسلمين من يستمع لها ، أو يغمض العين عنها ، لأتت على الإسلام ، ولنالت منه ما لم تنله السيوف والحراب التي وجهها أعداء الإسلام من يوم أن ظهر الإسلام ، إلى يوم الناس هذا .. فليتنبه المسلمون إلى هذا الخطر ، وليرصدوا له كل ما لديهم من إيمان باللّه وبكتاب اللّه ، وليضربوا(1/882)
على الأيدى التي تمتد إلى كتاب اللّه بهذه الفتنة ، بكل ما يملكون من أموال وأنفس : « وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ .. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ». (1)
مقدّمة
1 - سورة الأحزاب هي السورة الثالثة والثلاثون في ترتيب المصحف وهي من السور المدنية ، وكان نزولها بعد سورة آل عمران ، أى : أنها من أوائل السور المدنية ، إذ لم يسبقها في النزول بعد الهجرة سوى سور : البقرة والأنفال وآل عمران.
ويبدو : أن نزولها كان في الفترة التي أعقبت غزوة بدر ، إلى ما قبل صلح الحديبية. وعدد آياتها ثلاث وسبعون آية.
2 - وقد افتتحت سورة الأحزاب بنداء من اللّه - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، نهته فيه عن طاعة المنافقين والكافرين ، وأمرته بالمداومة على طاعة اللّه - تعالى - وحده ، وباتباع أمره ، وبالتوكل عليه - سبحانه - .قال - تعالى - : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
3 - ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان حكم اللّه - تعالى - في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة في المجتمع في ذلك الوقت ، فأبطلت التبني ، كما أبطلت ما كان سائدا في المجتمع من عادة الظهار ، وهو أن يقول الرجل لزوجته : أنت على كظهر أمى ، فتصير محرمة عليه حرمة مؤبدة.قال - تعالى - : ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ، وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ ، وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ، ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ، وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ.
4 - ثم بين - سبحانه - بعد ذلك بعض الأحكام التشريعية الأخرى ، كوجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - طاعة تفوق طاعتهم لأنفسهم ، ولوجوب تعظيم المسلمين لزوجاته - صلى الله عليه وسلم - كتعظيم أمهاتهم ، وكوجوب التوارث بين الأقارب بالطريقة التي بينها - سبحانه - في آيات أخرى ، وإبطال التوارث عن طريق المؤاخاة التي تمت بعد الهجرة بين المهاجرين والأنصار.قال - تعالى - : النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ، إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ، كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (11 / 632)(1/883)
5 - ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين ، ذكرهم فيه بجانب من نعمه عليهم ، حيث دفع عنهم جيوش الأحزاب ، وأرسل على تلك الجيوش جنودا من عنده لم يروها ، وكشف عن رذائل المنافقين التي ارتكبوها في تلك الغزوة ، ومدح المؤمنين الصادقين على وفائهم بعهودهم ، وكافأهم على ذلك بأن أورثهم أرض أعدائهم وديارهم.قال - تعالى - : وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ. وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
وبعد هذا الحديث المفصل عن غزوة الأحزاب ، والذي استغرق ما يقرب من عشرين آية ، انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخيرهن بين التسريح بإحسان ، وبين الصبر على شظف العيش ، ليظفرن برضا اللّه - تعالى - كما وجهت نداء إليهن أمرتهن فيه ، بالتزام الآداب الدينية التي تليق بهن. لأنهن في مكان القدوة لسائر النساء.
كما أمرتهن بالبقاء في بيوتهن ، فلا يخرجن لغير حاجة مشروعة. ومثلهن في ذلك مثل سائر نساء المسلمين. حتى يتفرغن لرعاية شئون بيوتهن التي هي من خصائصهن وليست من خصائص الرجال.ثم ختم - سبحانه - تلك التوجيهات الحكيمة ببيان الثواب الجزيل الذي أعده للمؤمنين والمؤمنات ، فقال - تعالى - : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ. وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ. وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ. وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
7 - ثم أشارت السورة بعد ذلك إلى قصة زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسيدة زينب بنت جحش. وإلى الحكمة من ذلك. وإلى تطليق زيد بن حارثة لها. وإلى أن ما فعله رسول - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة لهذه الحادثة. كان بأمر اللّه - تعالى - وإذنه.قال - تعالى - : ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ، وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ثم وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بالإكثار من ذكر اللّه - تعالى - ومن تسبيحه وتنزيهه. كما وجهت نداء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينت له فيه وظيفته ، قال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ، يا أَيُّهَا(1/884)
النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً.
9 - ثم تحدثت السورة بعد ذلك بشيء من التفصيل عن بعض الأحكام التي تتعلق بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعلاقته - صلى الله عليه وسلم - بهن من حيث القسم وغيره ، ومن حيث الزواج بغيرهن.
كما تحدثت عن الآداب التي يجب على المؤمنين أن يلتزموها عند دخولهم بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوة منه. لأجل تناول طعام ، أو لأجل أمر من الأمور الأخرى التي تتعلق بدينهم أو دنياهم.
ثم ختمت هذه الآيات بقوله - تعالى - يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ، ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
10 - وبعد هذا البيان المفصل لكثير من الأحكام والآداب ، أخذت السورة الكريمة في أواخرها ، في تهديد المنافقين الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وفي بيان أن سنن اللّه في خلقه لا تتخلف ، وأن علم وقت قيام الساعة إلى اللّه - تعالى - وحده ، وأن الإصرار على الكفر يؤدى إلى سوء العاقبة ، وأن السير على طريق الحق. يؤدى إلى مغفرة الذنوب.
وأن الإنسان قد ارتضى حمل الأمانة. التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال.
قال - تعالى - : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا. لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ ، وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
11 - ومن هذا العرض المجمل لآيات سورة الأحزاب ، نرى أنها قد اهتمت بموضوعات من أبرزها ما يلي :
(أ) كثرة التوجيهات والإرشادات ، من اللّه - تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى أفضل الأحكام ، وأقوم الآداب ، وأهدى السبل.
وهذه التوجيهات والإرشادات. نراها في كثير من آيات سورة الأحزاب لا سيما التي نادت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوصف النبوة.
ومن ذلك قوله - تعالى - : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ.
وقوله - سبحانه - يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها.
وقوله - عز وجل - : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً.
وقوله - تعالى - : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ.
وقوله - سبحانه - : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ.(1/885)
(ب) أمر المؤمنين بطاعة اللّه - تعالى - ، وبطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ونهيهم عن كل مأمن شأنه أن يتعارض مع تشريعات الإسلام ومع آدابه.
وهذه الأوامر والنواهي ، نراها في كثير من آيات هذه السورة الكريمة.
ومن ذلك قوله - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها.
وقوله - سبحانه - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
وقوله - عز وجل - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ....
وقوله - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا.
وقوله - سبحانه - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً.
(ج) هذه السورة الكريمة تعتبر على رأس السور القرآنية التي اهتمت ببيان فضل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وحقوقهن ، وواجباتهن وخصائصهن.
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله - تعالى - : يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ....
وقوله - سبحانه - : يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ، فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ....
وقوله - عز وجل - : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ، وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ ، وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ....
وقوله - سبحانه - : لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ...
وقوله - تعالى - : ... وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ...
وقوله - عز وجل - : النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ...
(د) هذه السورة تعتبر من أجمع السور القرآنية التي تعرضت لكثير من الأحكام الشرعية ، والآداب الاجتماعية ، التي لا تتغير بتغير الزمان أو المكان.
ومن ذلك حديثها عن الظهار ، وعن التبني. وعن التوارث بين الأقارب دون غيرهم ، وعن وجوب تقديم طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على طاعة الإنسان لنفسه ، وعن وجوب التأسى به ، وعن وجوب الابتعاد عن كل ما يؤذيه أو يجرح شعوره ، وعن وجوب الخضوع لحكم اللّه - تعالى - ولحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - .قال - تعالى -(1/886)
: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً.
(ه) السورة الكريمة فصلت الحديث عن غزوة الأحزاب ، التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة بين المسلمين وأعدائهم.
فبدأت حديثها عن تلك الغزوة بتذكير المؤمنين بفضل اللّه - تعالى - عليهم في هذه الغزوة ، ثم صورت أحوالهم عند إحاطة جيوش الأحزاب بالمدينة المنورة.
قال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا.
ثم حكت أقوال المنافقين القبيحة ، وأفعالهم الذميمة ، وردت عليهم بما يفضحهم ، وبما يكشف عن سوء أخلاقهم.قال - تعالى - : أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
ثم مدحت المؤمنين الصادقين لوفائهم بعهودهم ، ولشجاعتهم في مواجهة أعدائهم.
قال - سبحانه - : وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا : هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.
وكما بدأت السورة حديثها عن غزوة الأحزاب بتذكير المؤمنين بنعم اللّه عليهم - ختمته - أيضا - بهذا التذكير ، لكي يزدادوا شكرا له - عز وجل - .قال - تعالى - : وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
(و) والخلاصة أن المتأمل في سورة الأحزاب ، يراها زاخرة بالأحكام الشرعية ، وبالآداب الاجتماعية ، وبالتوجيهات الربانية ، تارة من اللّه - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وتارة لأزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، وتارة للمؤمنين.(1/887)
كما يراها تهتم اهتماما واضحا بتنظيم المجتمع الإسلامى تنظيما حكيما ، من شأنه أن يأخذ بيد المتبعين له إلى السعادة الدنيوية والأخروية. (1)
في هذه السورة مواضيع عديدة ومتنوعة. منها ما هو تشريعي في صدد إلغاء أحكام التبني والظهار. ومنها ما هو حربي في صدد وقعتي الأحزاب وبني قريظة.
وفيها فصل في تخيير نساء النبي ومواعظ لهن وفيها ما فيه استدراك لمسألة طلاق الزوجة قبل المسيس. ومنها ما له علاقة بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيوته وزواجه بمطلقة ابنه بالتبني. وفيها حملات على الكفار والمنافقين.
والمصحف الذي اعتمدناه يذكر ترتيب نزولها بعد سورة آل عمران. وقد ذكر ذلك في تراتيب عديدة أخرى. وهناك رواية تذكر أنها نزلت بعد الأنفال وأخرى بعد سورة النور. والتدقيق في مضامين فصول السورة وما روي من ظروف نزولها يسوّغ القول إنها نزلت في فترات متباعدة ثم ألّف بينها. ولقد احتوت مثلا فصلا في أنكحة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدلّ فحواه وما روي في نزوله على أنه نزل بعد نزول الآية التي فيها تحديد لعدد الزوجات في سورة النساء التي ذكر الرواة ترتيبها بعد هذه السورة. وفيها آيات في صدد تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بمطلقة ابنه بالتبني زيد ولا بد من أن ذلك كان قبل نزول آية النساء في تحديد عدد الزوجات ، لأن في السورة آية تحرّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - الزواج بعد تحديد العدد وإقراره على زوجاته اللاتي في عصمته.
ولقد ذكرت الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج بعض زوجاته في أثناء زيارته للكعبة في السنة السابعة للهجرة حيث يسوغ هذا القول أن تأليفها قد تأخر إلى وقت متأخر من العهد المدني. أما ترتيب المرتبين لها في النزول بعد سورة آل عمران أي كرابعة سورة فلم نر له مبررا إلا احتمال كون مطلعها قد نزل مبكرا على بعده لأن مطلعها الذي فيه تسفيه لتقاليد التبني والظهار متصل بحادث زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بمطلقة متبنيه كما نرجح. ولأن في الروايات ما قد يفيد أن هذا الحادث لم يقع مبكرا. ولم نر أي مبرر لرواية نزولها بعد الأنفال أو بعد النور.
ومهما يكن من أمر فإننا بعد تقديمنا سورة الحشر صار وضعها بعدها سائغا لأن وقعتي الأحزاب وبني قريظة قد وقعت بعد قليل من وقعة بني النضير التي نزلت فيها سورة الحشر وبذلك نكون قد راعينا التسلسل الزمني للسيرة النبوية.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (11 / 163)(1/888)
هذا ، ولقد روي عن عائشة أم المؤمنين : «أن هذه السورة كانت تقرأ مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر إلّا ما هو الآن» «1». وقد روى المفسر النسفي : «أن أبيّ بن كعب سأل أبا ذرّكم تعدون سورة الأحزاب قال ثلاثا وسبعين فقال والذي يحلف أبي به إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول». ولقد قرأنا منها آية الرجم (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم). وقد حمل النسفي - راوي الحديث - كلام أبي على أن المقصد منه هو الإشارة إلى ما نسخ من القرآن في عهد النبي. غير أن حديث عائشة صريح بأنها تقصد أن إسقاط معظم السورة كان في زمن عثمان.
والحديثان غير موثقين ولم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة والتوقف فيهما أولى. ومن الجدير بالذكر أن مصحف عثمان إنما نقل عن المصحف الذي حرر في زمن أبي بكر رضي اللّه عنهما فلم يكن أي احتمال لإسقاط معظم السورة من مصحف عثمان. ولقد كانت عائشة ذات شخصية قوية ومن مراجع القرآن والسنّة ولا يعقل أن تسكت عن هذا الإسقاط لو كان واقعا ولا يعقل أن يهمل اعتراضها.
ومع ما في تعليل النسفي لحديث أبي بن كعب من وجاهة فإننا نشك في أن يكون قد وقع نسخ آيات أو فصول كثيرة من السورة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإن مثل هذا الحادث الخطير لا يعقل أن لا يرد فيه روايات وثيقة تحتوي بيانات وافية. (1)
سورة الأحزاب مدنية ، وهي ثلاث وسبعون آية.
تسميتها :
سميت سورة الأحزاب لاشتمال الكلام فيها على وقعة الخندق أو الأحزاب الذين تجمعوا حول المدينة ، من مشركي قريش وغطفان ، بالتواطؤ مع المنافقين ويهود بني قريظة ، لحرب المسلمين ومحاولة استئصالهم ، كما سميت (الفاضحة) لأنها افتضحت المنافقين ، وأبانت شدة إيذائهم لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في أزواجه وتألبهم عليه في تلك الموقعة.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر صلة هذه السورة بسورة السجدة التي قبلها في وجوه التشابه بين مطلع هذه وخاتمة تلك ، فإن السورة السابقة ختمت بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن الكافرين ، وانتظار عذابهم ، وهذه بدئت بأمره - صلى الله عليه وسلم - بالتقوى ، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين ، واتباع ما أوحي إليه من ربه ، والتوكل عليه.
موضوعها :
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (7 / 345)(1/889)
موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المدنية ، التي تهتم بالجانب التشريعي للأمة ، ولا سيما تنظيم الأسرة النبوية ، وإبطال بعض عادات الجاهلية كالتبني والظهار واعتقاد وجود قلبين للإنسان ، وعدم إيجاب العدّة على المطلقة قبل الدخول ، وفرض الحجاب على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ونساء المؤمنين ، وبيان خطورة أمانة التكليف.
مشتملاتها :
اشتملت هذه السورة على بعض الآداب الاجتماعية ، والأحكام التشريعية وأخبار في السيرة عن غزوتي الأحزاب وبني قريظة وعن المنافقين.
أما الآداب الاجتماعية : فأهمها آداب الدعوة إلى الولائم ، والحجاب وعدم التبرج ، وتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته ومع الناس ، والقول السديد.
وأما الأحكام الشرعية فكثيرة : منها الأمر بتقوى اللّه وعدم طاعة الكافرين والمنافقين ، ووجوب اتباع الوحي ، وحكم الظهار ، وإبطال عادة التبني وعادة التوريث بالحلف أو الهجرة ، وجعل الرحم والقرابة أساس الميراث ، وتعداد المحارم وعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفرض الحجاب الشرعي وتطهير المجتمع من مظاهر التبرج الجاهلية ، وعدم إلزام المطلقة قبل الدخول بالعدة ، وتخيير نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الفراق والبقاء معه ، وتخصيص زوجاته بمضاعفة الأجر والثواب عند الطاعة ، ومضاعفة العذاب عند المعصية ، وتحريم إيذاء اللّه والرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، وخطورة أمانة التكليف ، وعقاب المسيء وإثابة المحسن.
وأما أخبار السيرة : ففي السورة بيان توضيحي عن (غزوة الأحزاب) أو (غزوة الخندق) وغزوة بني قريظة ، ونقضهم العهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكشف فضائح المنافقين والتحذير من مكائدهم ، وتهديدهم مع المرجفين في المدينة على جرائمهم بالطرد والتعذيب ، وتذكير المؤمنين بنعم اللّه العظمى التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد اشتداد الخطب عليهم ، ورد كيد أعدائهم بالملائكة والريح ، حتى صار ذلك معجزة خارقة للعادة ، وبيان قصة زيد بن حارثة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وزينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - . (1)
مدنية في قول جميع العلماء ، وعدد آياتها سبعون آية.نزلت هذه السورة تفضح المنافقين ، وتبين إيذاءهم لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وطعنهم فيه ، وفي نكاحه لأزواجه. وكيف كان موقف المنافقين والكفار في غزوة
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (21 / 225) وتفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (21 / 124)(1/890)
الأحزاب وغيرها ، مع بيان الآداب النبوية لبيت النبي ، وقصة زيد بن حارثة ، وغير ذلك من الآداب الإسلامية ، التي يحتاجها المجتمع الإسلامى الجديد في المدينة وخاصة بعد غزوة بدر الكبرى. (1)
أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : نزلت سورة الأحزاب بالمدينة ، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله ، وهي ثلاث وسبعون آية قال الطبرسي بالإجماع ، وقال الداني هذا متفق عليه ، وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، والطيالسي ، وسعيد بن منصور ، وعبد اللّه بن أحمد في زوائد المسند ، والنسائي والحاكم وصححه ، والضياء في المختارة وآخرون عن زر بن حبيش قال : قال لي أبي بن كعب رضي اللّه تعالى عنه كائن تقرأ سورة الأحزاب أو كائن تعدها؟ قلت : ثلاثا وسبعين آية فقال : اقطع لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ، ولقد قرأنا فيها «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم» فرفع فيما رفع وأراد رضي اللّه تعالى عنه بذلك النسخ ، وأما كون الزيادة كانت في صحيفة عند عائشة فأكلها الداجن فمن وضع الملاحدة وكذبهم في أن ذلك ضاع بأكل الداجن من غير نسخ كذا في الكشاف.
وأخرج أبو عبيد في الفضائل ، وابن الانباري ، وابن مردويه عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان رضي اللّه تعالى عنه المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن ، وهو ظاهر في الضياع من القرآن ، ومقتضى ما سمعت أنه موضوع ، والحق أن كل خبر ظاهره ضياع شيء من القرآن إما موضوع أو مؤول ، ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي تشابه مطلع هذه ومقطع تلك فإن تلك ختمت بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن الكافرين وانتظار عذابهم وهذه بدأت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى وعدم طاعة الكافرين والمنافقين واتباع ما أوحى إليه والتوكل عليه عزّ وجلّ . (2)
* سورة الأحزاب من السور المدنية ، التي تتناول الجانب التشريعي لحياة الأمة الإسلامية ، شأن سائر السور المدنية ، وقد تناولت حياة المسلمين الخاصة والعامة ، وبالأخص (أمر الأسرة) فشرعت الأحكام بما يكفل للمجتمع السعادة والهناء ، وأبطلت بعض التقاليد والعادات الموروثة ، مثل (التبني ، والظهار ، واعتقاد وجود قلبين لإنسان ) وطفرته من رواسب المجتمع الجاهلى ، ومن تلك الخرافات والأساطير الموهومة ، التي كانت متفشية في ذلك الزمان .
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 71)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (11 / 140)(1/891)
* ويمكن أن نلخص المواضيع الكبرى لهذه السورة الكريمة في نقاط ثلاث : أولا : التوجيهات والآداب الإسلامية ، التي شرعها الخالق جل وعلا لعباده المؤمنين ، لسعادتهم وراحتهم . ثانيا : الأحكام الإلهية التي تنظم حياة الأسرة والمجتمع تنظيما دقيقا . ثالثا : الحديث عن غزوتي (الأحزاب ، وبني قريظة) بالتفصيل وما فيهما من العبر .
* أما الأولى : فقد جاء الحديث عن بعض الآداب الاجتماعية كآداب الوليمة ، وآداب الستر والحجاب ، وعدم التبرج ، وآداب معاملة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) واحترامه إلى أخر ما هنالك من آداب اجتماعية .
* وأما الثانية : فقد جاء الحديث عنها فى بعض الأحكام التشريعية مثل (حكم الظهار ، والتبني ، والإرث ، وزواج مطلقة الابن من التبني ، وتعدد زوجات الرسول الطاهرات والحكمة منه ، وحكم الصلاة على الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وحكم الحجاب الشرعي ، والأحكام المتعلقة بأمور الدعوة إلى الوليمة) إلى غير ما هنالك من أحكام تشريعية .
* وأما الثالثة : فقد تحدلت السورة بالتفصيل عن (غزوة الخندق) التي تسمى " غزوة الأحزاب " وصورتها تصويرا دقيقا ، بتضافر قوى البغي والشر على المؤمنين ، وكشفت عن خفايا المنافقين ، وحذرت من طرقهم في الكيد والتخذيل والتمبيط ، وأطالت الحديث عنهم في بدء السورة وفي ختمها ، حتى لم تبق لهم سترا ، ولم تخف لهم مكرا ، وذكرت المؤمنين بنعمة الله العظمى عليهم ، في رد كيد أعدائهم ، بإرسال الملائكة والريح ، كما تحدثت عن غزوة (بني قريظة) ونقض اليهود عهدهم مع الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وختمت بذكر الأمانة العظمى التي حملها الإنسان .
التسمية : سميت سورة الأحزاب لأن المشركين تحزبوا على المسلمين من كل جهة ، فاجتمع كفار مكة مع " غطفان ، وبني قريظة ، وأوباشى العرب على حرب المسلمين ، ولكن الله ردهم مدحورين وكفى المؤمنين القتال بتلك المعجزة الباهرة . (1)
مقصودها الحث على الصدق في الإخلاص في التوجه إلى الخالق من غير مراعاة بوجه ما للخلائق ، لأنه عليم بما يصلحهم ، حكيم فيما يفعله فهو يعلي من يشاء وإن كان ضعيفا ، ويردي من يريد وإن كان قويا ، فلا يهتمن الماضي لأمره برجاء لأحد منهم في بره ولا خوف منه في عظيم شره وخفي مكره ، واسمها واضح في ذلك بتأمل القصة التي أشار إليها ودل عليها (2)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 30)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (6 / 67)(1/892)
هذه السورة تتناول قطاعا حقيقيا من حياة الجماعة المسلمة ، في فترة تمتد من بعد غزوة بدر الكبرى ، إلى ما قبل صلح الحديبية ، وتصور هذه الفترة من حياة المسلمين في المدينة تصويرا واقعيا مباشرا. وهي مزدحمة بالأحداث التي تشير إليها خلال هذه الفترة ، والتنظيمات التي أنشأتها أو أقرتها في المجتمع الإسلامي الناشئ.
والتوجيهات والتعقيبات على هذه الأحداث والتنظيمات قليلة نسبيا ولا تشغل من جسم السورة إلا حيزا محدودا ، يربط الأحداث والتنظيمات بالأصل الكبير. أصل العقيدة في اللّه والاستسلام لقدره. ذلك كافتتاح السورة : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ...» .. وكالتعقيب على بعض التنظيمات الاجتماعية في أول السورة : «كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً. وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ، لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً» .. والتعقيب على موقف المرجفين «يَوْمِ الْأَحْزابِ» التي سميت السورة باسمها. «قُلْ : لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ : مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً؟ وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» .. ومثل قوله في صدد أحد التنظيمات الاجتماعية الجديدة ، المخالفة لمألوف النفوس في الجاهلية :«وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» .. وأخيرا ذلك الإيقاع الهائل العميق : «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها ، وَأَشْفَقْنَ مِنْها ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» ..
ولهذه الفترة التي تتناولها السورة من حياة الجماعة المسلمة سمة خاصة ، فهي الفترة التي بدأ فيها بروز ملامح الشخصية المسلمة في حياة الجماعة وفي حياة الدولة ولم يتم استقرارها بعد ولا سيطرتها الكاملة. كالذي تم بعد فتح مكة ودخول الناس في دين اللّه أفواجا ، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية ، وللنظام الإسلامي.
والسورة تتولى جانبا من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة ، وإبراز تلك الملامح وتثبيتها في حياة الأسرة والجماعة وبيان أصولها من العقيدة والتشريع كما تتولى تعديل الأوضاع والتقاليد أو إبطالها وإخضاعها في هذا كله للتصور الإسلامي الجديد.
وفي ثنايا الحديث عن تلك الأوضاع والنظم يرد الحديث عن غزوة الأحزاب ، وغزوة بني قريظة ، ومواقف الكفار والمنافقين واليهود فيهما ، ودسائسهم في وسط الجماعة المسلمة ، وما وقع من خلخلة(1/893)
وأذى بسبب هذه الدسائس وتلك المواقف. كما تعرض بعدها دسائسهم وكيدهم للمسلمين في أخلاقهم وآدابهم وبيوتهم ونسائهم.
ونقطة الاتصال في سياق السورة بين تلك الأوضاع والنظم وهاتين الغزوتين وما وقع فيهما من أحداث ، هي علاقة هذه وتلك بمواقف الكافرين والمنافقين واليهود وسعي هذه الفئات لإيقاع الاضطراب في صفوف الجماعة المسلمة. سواء عن طريق الهجوم الحربي والإرجاف في الصفوف والدعوة إلى الهزيمة أو عن طريق خلخلة الأوضاع الاجتماعية والآداب الخلقية .. ثم ما نشأ من الغزوات والغنائم من آثار في حياة الجماعة المسلمة تقتضي تعديل بعض الأوضاع الاجتماعية والتصورات الشعورية وإقامتها على أساس ثابت يناسب تلك الآثار التي خلفتها الغزوات والغنائم في واقع الجماعة المسلمة.
ومن هذا الجانب وذاك تبدو وحدة السورة ، وتماسك سياقها ، وتساوق موضوعاتها المنوعة. وهذا وذلك إلى جانب وحدة الزمن التي تربط بين الأحداث والتنظيمات التي تتناولها السورة.
تبدأ السورة ذلك البدء بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تقوى اللّه وعدم الطاعة للكافرين والمنافقين ، واتباع ما يوحي إليه ربه ، والتوكل عليه وحده. وهو البدء الذي يربط سائر ما ورد في السورة من تنظيمات وأحداث بالأصل الكبير الذي تقوم عليه شرائع هذا الدين وتوجيهاته. ونظمه وأوضاعه ، وآدابه وأخلاقه .. أصل استشعار القلب لجلال اللّه ، والاستسلام المطلق لإرادته واتباع المنهج الذي اختاره ، والتوكل عليه وحده والاطمئنان إلى حمايته ونصرته.
وبعد ذلك يلقي بكلمة الحق والفصل في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية. مبتدئا بإيقاع حاسم يقرر حقيقة واقعة : «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» .. يرمز بها إلى أن الإنسان لا يملك أن يتجه إلى أكثر من أفق واحد ، ولا أن يتبع أكثر من منهج واحد ، وإلا نافق ، واضطربت خطاه. وما دام لا يملك إلا قلبا واحدا ، فلا بد أن يتجه إلى إله واحد وأن يتبع نهجا واحدا وأن يدع ما عداه من مألوفات وتقاليد وأوضاع وعادات.
ومن ثم يأخذ في إبطال عادة الظهار - وهو أن يحلف الرجل على امرأته أنها عليه كظهر أمه فتحرم عليه حرمة أمه : «وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ». ويقرر أن هذا الكلام يقال بالأفواه ولا ينشىء حقيقة وراءه ، بل تظل الزوجة زوجة ولا تصير أما بهذا الكلام .. ويثني بإبطال عادة التبني وآثاره : «وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» فلا يعودون بعد اليوم يتوارثون ، ولا تترتب على هذا التبني آثاره الأخرى (التي سنفصل الحديث عنها فيما بعد). ويستبقى بعد ذلك أو ينشىء الولاية العامة لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على المؤمنين جميعا ويقدم هذه الولاية على ولايتهم لأنفسهم كما ينشىء صلة الأمومة الشعورية بين أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وجميع المؤمنين : «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ(1/894)
أُمَّهاتُهُمْ» .. ثم يبطل آثار المؤاخاة التي تمت في أول الهجرة ويرد الأمر إلى القرابة الطبيعية في الإرث والدية وما إليها : «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ». وبذلك يعيد تنظيم الجماعة الإسلامية على الأسس الطبيعية ويبطل ما عداها من التنظيمات الوقتية.
ويعقب على هذا التنظيم الجديد ، الذي يستمد من منهج الإسلام وحكم اللّه بالإشارة إلى أن ذلك مسطور في كتاب اللّه القديم ، وإلى الميثاق المأخوذ على النبيين ، وعلى أولي العزم منهم بصفة خاصة. على طريقة القرآن في التعقيب على النظم والتشريعات ، والمبادئ ، والتوجيهات ، لتقر في الضمائر والأخلاد.
وهذا هو إجمال الشوط الأول في السورة.
ويتناول الشوط الثاني بيان نعمة اللّه على المؤمنين ، إذ رد عنهم كيد الأحزاب والمهاجمين. ثم يأخذ في تصوير وقعتي الأحزاب وبني قريظة تصويرا حيا ، في مشاهد متعاقبة ، ترسم المشاعر الباطنة ، والحركات الظاهرة ، والحوار بين الجماعات والأفراد. وفي خلال رسم المعركة وتطوراتها تجيء التوجيهات في موضعها المناسب وتجيء التعقيبات على الأحداث مقررة للمنهج القرآني في إنشاء القيم الثابتة التي يقررها للحياة.
من خلال ما وقع فعلا ، وما جاش في الأخلاد والضمائر.
وطريقة القرآن الدائمة في مثل هذه الوقائع التي يتخذ منها وسيلة لبناء النفوس ، وتقرير القيم ، ووضع الموازين وإنشاء التصورات التي يريد لها أن تسود .. طريقة القرآن في مثل هذه الوقائع أن يرسم الحركة التي وقعت ، ويرسم معها المشاعر الظاهرة والباطنة ، ويسلط عليها الأضواء التي تكشف زواياها وخباياها.
ثم يقول للمؤمنين حكمه على ما وقع ، ونقده لما فيه من خطأ وانحراف ، وثناءه على ما فيه من صواب واستقامة ، وتوجيهه لتدارك الخطأ والانحراف ، وتنمية الصواب والاستقامة. وربط هذا كله بقدر اللّه وإرادته وعمله ونهجه المستقيم ، وبفطرة النفس ، ونواميس الوجود.
وهكذا نجد وصف المعركة يبدأ بقوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» .. ويتوسطها قوله. «قُلْ : لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ : مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً. وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» .. وبقوله : «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» ..(1/895)
ويختمها بقوله : «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» ..
وهذا إلى جانب عرض تصورات المؤمنين الصادقين للموقف ، وتصورات المنافقين والذين في قلوبهم مرض عرضا يكشف عن القيم الصحيحة والزائفة من خلال تلك التصورات : «وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» .. «وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا : هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» .. ثم تجيء العاقبة بالقول الفصل والخبر اليقين : «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» ..
بعد ذلك يجيء قرار تخيير أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللواتي طالبنه بالتوسعة في النفقة عليهن بعد ما وسع اللّه عليه وعلى المسلمين من فيء بني قريظة العظيم وما قبله من الغنائم. تخييرهن بين متاع الحياة الدنيا وزينتها وإيثار اللّه ورسوله والدار الآخرة. وقد اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة ، ورضين هذا المقام الكريم عند اللّه ورسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، وآثرنه على متاع الحياة. ومن ثم جاءهن البيان عن جزائهن المضاعف في الأجر إن اتقين وفي العذاب إن ارتكبن فاحشة مبينة. وعلل هذه المضاعفة بمقامهن الكريم وصلتهن برسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ونزول القرآن في بيوتهن وتلاوته ، والحكمة التي يسمعنها من النبي - عليه الصلاة والسّلام - واستطرد في بيان جزاء المؤمنين كافة والمؤمنات.وكان هذا هو الشوط الثالث.
فأما الشوط الرابع فتناول إشارة غير صريحة إلى موضوع تزويج زينب بنت جحش القرشية الهاشمية بنت عمة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من زيد بن حارثة مولاه. وما نزل في شأنه أولا من رد أمر المؤمنين والمؤمنات كافة إلى اللّه ، ليس لهم منه شي ء ، وليس لهم في أنفسهم خيرة. إنما هي إرادة اللّه وقدره الذي يسير كل شي ء ، ويستسلم له المؤمن الاستسلام الكامل الصريح : «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» ..
ثم يعقب حادث الزواج حادث الطلاق وما وراءه من إبطال آثار التبني ، الذي سبق الكلام عليه في أول السورة. إبطاله بسابقة عملية يختار لها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بشخصة ، لشدة عمق هذه العادة في البيئة العربية ، وصعوبة الخروج عليها. فيقع الابتلاء على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ليحملها فيما يحمل من أعباء الدعوة وتقرير أصولها في واقع المجتمع ، بعد تقريرها في أعماق الضمير : «فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» ..(1/896)
وبهذه المناسبة يوضح حقيقة العلاقة بين رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين كافة : «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ» ..
ويختم هذا الشوط بتوجيهات للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين .. «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» ..
ويبدأ الشوط الخامس ببيان حكم المطلقات قبل الدخول. ثم يتناول تنظيم الحياة الزوجية للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيبين من يحل له من النساء المؤمنات ومن يحرمن عليه. ويستطرد إلى تنظيم علاقة المسلمين ببيوت النبي وزوجاته ، في حياته وبعد وفاته. وتقرير احتجابهن إلا على آبائهن أو أبنائهن أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن أو نسائهن ، أو ما ملكت أيمانهن. وإلى بيان جزاء الذين يؤذون رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في أزواجه وبيوته وشعوره ويلعنهم في الدنيا والآخرة. مما يشي بأن المنافقين وغيرهم كانوا يأتون من هذا شيئا كثيرا.
ويعقب على هذا بأمر أزواج النبي وبناته ونساء المؤمنين كافة أن يدنين عليهن من جلابيبهن «ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ» .. وبتهديد المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في المدينة بإغراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم وإخراجهم من المدينة كما خرج من قبل بنو قينقاع وبنو النضير ، أو القضاء عليهم كما وقع لبني قريظة أخيرا. وكل هذا يشير إلى شدة إيذاء هذه المجموعة للمجتمع الإسلامي في المدينة بوسائل شريرة خبيثة.
والشوط السادس والأخير في السورة يتضمن سؤال الناس عن الساعة ، والإجابة على هذا التساؤل بأن علم الساعة عند اللّه ، والتلويح بأنها قد تكون قريبا. ويتبع هذا مشهد من مشاهد القيامة : «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ : يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا» .. ونقمتهم على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلوهم : «رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» ..ثم تختم السورة بإيقاع هائل عميق الدلالة والتأثير : «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا. لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ..
وهو إيقاع يكشف عن جسامة العبء الملقى على عاتق البشرية ، وعلى عاتق الجماعة المسلمة بصفة خاصة وهي التي تنهض وحدها بعبء هذه الأمانة الكبرى. أمانة العقيدة والاستقامة عليها. والدعوة والصبر على تكاليفها ، والشريعة والقيام على تنفيذها في أنفسهم وفي الأرض من حولهم. مما يتمشى مع(1/897)
موضوع السورة ، وجوها وطبيعة المنهج الإلهي الذي تتولى السورة تنظيم المجتمع الإسلامي على أساسه (1) .
ما حوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد
(1) الأمر بتقوى اللّه وعدم طاعة الكافرين والمنافقين.
(2) وجوب اتباع ما ينزل به الوحى مع ضرب المثل لذلك.
(3) إبطال العادة الجاهلية وهى إعطاء المتبنّى حكم الابن ، وبيان أن الدين منه براء.
(4) إبطال التوريث بالحلف والتوريث بالهجرة ، وإرجاع التوريث إلى الرحم والقرابة.
(5) ذكر النعمة التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد أن اشتد بهم الخطب.
(6) تخيير النبي نساءه بين شيئين : الفراق إذا أردن زينة الحياة الدنيا والبقاء معه إذا أحببن اللّه ورسوله والدار الآخرة.
(7) التشديد عليهن بمضاعفة العذاب إذا ارتكبن الفواحش ، ونهيهن عن الخضوع فى القول وأمرهن بالقرار في البيوت ، وتعليمهن كتاب اللّه وسنة رسوله ، ونهيهن عن التبرج.
(8) قصة زينب بنت جحش وزيد مولى رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
(9) ما أحل لنبيه من النساء وتحريم الزواج عليه بعد ذلك.
(10) النهى عن إيذاء المؤمنين للنبى - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلوا بيته لطعام ونحوه (11) الأمر بكلام أمهات المؤمنين من وراء حجاب إذا طلب منهن شىء إلا الآباء والأبناء والأرقاء.
(12) أمرهن بإرخاء الجلباب إذا خرجن لقضاء حاجة.
(13) تهديد المنافقين وضعاف الإيمان والمرجفين في المدينة.
(14) سؤال المشركين عن الساعة متى هى ؟
(15) النهى عن إيذاء النبي حتى لا يكونوا كبنى إسرائيل الذين آذوا موسى. (2)
==================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2817)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (22 / 53)(1/898)
(34) سورة سبأ
سورة سبأ هذا اسمها الذي اشتهرت به في كتب السنة وكتب التفسير وبين القراءة ولم أقف على تسميتها في عصر النبوة. ووجه تسميتها به أنها ذكرت فيها أهل سبأ.
وهي مكية وحكي اتفاق أهل التفسير عليه. وعن مقاتل أن آية: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} إلى قوله: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6] نزلت بالمدينة. ولعله بناء على تأويلهم أهل العلم إنما يراد بهم أهل الكتاب الذين أسلموا مثل عبد الله بن سلام. والحق أن الذين أوتوا العلم هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وعزي ذلك إلى ابن عباس أو هم أمة محمد، قاله قتادة، أي لأنهم أوتوا بالقرآن علما كثيرا قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]، على أنه لا مانع من التزام أنهم علماء أهل الكتاب قبل أن يؤمنوا لأن المقصود الاحتجاج بما هو مستقر في نفوسهم الذي أنبأ عنه إسلام طائفة منهم كما نبينه عند قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الخ.
ولابن الحصار أن سورة سبا مدنية لما رواه الترمذي: عن فروة بن مسيك العطيفي المرادي قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال: وأنزل في سبأ ما أنزل. فقال رجل: يا رسول الله: وما سبأ? الحديث. قال ابن الحصار: هاجر فروة سنة تسع بعد فتح الطائف. وقال ابن الحصار: يحتمل أن يكون قوله "وأنزل" حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرة فروة، أي أن سائلا سأل عنه لما قرأه أو سمعه من هذه السورة أو من سورة النمل.
وهي السورة الثامنة والخمسون في عداد السور، نزلت بعد سورة لقمان سورة الزمر كما في المروي عن جابر بن زيد واعتمد عليه الجعبري كما في "الإتقان"، وقد تقدم في سورة الإسراء أن قوله تعالى فيها: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 90- 92] إنهم عَنَوا قوله تعالى في هذه السورة: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 9] فاقتضى أن سورة سبأ نزلت قبل سورة الإسراء وهو خلاف ترتيب جابر بن زيد الذي يعد الإسراء متممة الخمسين. وليس يتعين أن يكون قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} معنياً به هذه الآية لجواز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - هددهم بذلك في موعظة أخرى.
وعدد آيها أربع وخمسون في عد الجمهور،وخمس وخمسون في عد أهل الشام.
أغراض هذه السورة(1/899)
من أغراض هذه السورة إبطال قواعد الشرك وأعظمها إشراكهم آلهة مع الله وإنكار البعث فابتدئ بدليل على انفراده تعالى بالإلهية عن أصنامهم ونفي أن تكون الأصنام شفعاء لعُبّادها.
ثم موضوع البعث، وعن مقاتل: أن سبب نزولها أن أبا سفيان لما سمع قوله تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الأحزاب: 73] الآية الأخيرة من سورة الأحزاب. قال لأصحابه: كأن محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا، فأنزل الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} [سبأ: 3] الآية. وعليه فما قبل الآية المذكورة من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 1، 2] تمهيد للمقصود من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} .
واثبات إحاطة علم الله بما في السماوات وما في الأرض فما يخبر به فهو واقع ومن ذلك إثبات البعث والجزاء.
وإثبات صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به، وصدق ما جاء به القرآن وأن القرآن شهدت به علماء أهل الكتاب.
وتخلل ذلك بضروب من تهديد المشركين وموعظتهم بما حل ببعض الأمم المشركين من قبل. وعرض بأن جعلهم لله شركاء كفران لنعمة الخالق فضرب لهم المثل بمن شكروا نعمة الله واتقوه فأوتوا خير الدنيا والآخرة وسخرت لهم الخيرات مثل داود وسليمان، وبمن كفروا بالله فسلط عليه الأزراء في الدنيا وأعد لهم العذاب في الآخرة مثل سبأ، وحذروا من الشيطان، وذكروا بأن ما هم فيه من قرة العين يقربهم إلى الله، وأنذروا بما سيلقون يوم الجزاء من خزي وتكذيب وندامة وعدم النصير وخلود في العذاب، وبشر المؤمنون بالنعيم المقيم. (1)
مناسبة السورة لما قبلها
ختمت سورة الأحزاب السابقة بهذه الآية الكريمة : « إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا ».ثم كانت الآية التي بعدها تعقيبا عليها .. فكأنّها وما بعدها آية واحدة.وفي هذه الآية أو الآيتين ، بيان لمقام الإنسان في هذا الوجود ، وأنه الكائن الذي استقلّ وحده بحمل أمانة التكليف من بين الكائنات جميعها .. وإنه لن يمسك به في مقامه هذا إلا الإيمان باللّه ، إيمان وعى ، وإدراك ، وفهم ، لجلال اللّه وعظمته ، وقدرته ، وماله من تصريف في ملكه ، لا معقب له ، ولا شريك معه.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (22 / 5)(1/900)
وتبدأ سورة « سبأ » بقوله تعالى : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ » تبدأ بهذا الاستفتاح بحمد اللّه الذي له ما في السموات وما في الأرض ..وكأنها بهذا الاستفتاح تضع بين يدى الإنسان المفتاح الذي يحفظ به ما استودع من أمانات اللّه .. وهو حمد اللّه الذي له ما في السموات وما في الأرض.فحمد اللّه ، هو ثمرة الإيمان باللّه ، والمعرفة بجلاله ، وعظمته ، وما له في ذات الإنسان ، من آيات الإحسان ، وسوابغ النعم .. فمن آمن باللّه حق الإيمان ، كان لسان ذكر وحمد وشكر ، للّه ربّ العالمين ، وذلك فيما يرى على ضوء هذا الإيمان من فضل اللّه ، وإحسانه. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة سبأ هي السورة الرابعة والثلاثون في ترتيب المصحف ، أما في ترتيب النزول فهي السورة السابعة والخمسون ، وكان نزولها بعد سورة لقمان.
2 - وسورة سبأ من السور المكية الخالصة ، وقيل هي مكية إلا الآية السادسة منها وهي قوله - تعالى - : وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ.
3 - وعدد آياتها خمس وخمسون آية في المصحف الشامي ، وأربع وخمسون آية في غيره.
وسميت بهذا الاسم ، لاشتمالها على قصة أهل سبأ ، وما أصابهم من نقم بسبب عدم شكرهم لنعم اللّه - تعالى - عليهم.
4 - وتبدأ سورة سبأ بالثناء على اللّه - تعالى - : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ، يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ.
ثم تحكى السورة الكريمة جانبا من أقوال الكافرين في تكذيبهم ليوم القيامة ، كما تحكى - أيضا - بعض أقوالهم الباطلة التي قالوها في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ترد عليهم بما يخرس ألسنتهم.
5 - ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب من قصة داود وسليمان - عليهما السلام - ، فتحكى ما آتاهم اللّه - تعالى - إياه من خير وقوة وكيف أنهما قابلا نعم اللّه - تعالى - بالشكر والطاعة ، فزادهما - سبحانه - من فضله وعطائه : اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.
وكعادة القرآن الكريم في جمعه بين الترغيب والترهيب ، وبين حسن عاقبة الشاكرين ، وسوء عاقبة الجاحدين .. جاءت في أعقاب قصة داود وسليمان - عليهما السلام - ، قصة قبيلة سبأ ، وكيف أنهم
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (11 / 771)(1/901)
قابلوا نعم اللّه الوفيرة بالجحود والإعراض ، فمحقها - سبحانه - من بين أيديهم ، كما قال - تعالى - : ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا ، وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ.
6 - ثم ساقت السورة بعد ذلك بأسلوب تلقيني ألوانا من الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له.
نرى ذلك في قوله - تعالى - : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ..
وفي قوله - تعالى - : قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
وفي قوله - عز وجل - : قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ ، كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
7 - ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً.
وعن أحوال الكافرين السيئة عند ما يقفون أمام ربهم للحساب ، وكيف أن كل فريق منهم يلقى التبعة على غيره وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ ، يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ ، بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ.
8 - ثم ترد السورة الكريمة على أولئك المترفين ، الذين زعموا أن أموالهم وأولادهم ستنفعهم يوم القيامة ، فتقرر أن ما ينفع يوم القيامة إنما هو الإيمان والعمل الصالح ، وأن اللّه - تعالى - هو صاحب الإعطاء والمنع والإغناء والإفقار.
قال - تعالى - : وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى ، إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا ، وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ.
9 - وبعد أن ساقت السورة ما ساقت من شبهات المشركين حول دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وردت عليهم بما يزيد المؤمنين ثباتا على ثباتهم ، ويقينا على يقينهم ، أتبعت ذلك بدعوة هؤلاء الكافرين إلى التفكير والتدبر على انفراد ، في شأن دعوة هذا الرسول الكريم الذي يدعوهم إلى الحق ، لعل هذا التفكر يهديهم إلى الرشد.قال - تعالى - : قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ، أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ.(1/902)
ثم ختمت السورة الكريمة بتهديدهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا في كفرهم وعنادهم ، وأنهم سيندمون - إذا ما استمروا على كفرهم - ولن ينفعهم الندم.قال - تعالى - : وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ.
10 - وهكذا نرى سورة سبأ قد ساقت أنواعا من الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - ، وعلى أن يوم القيامة حق ، وعلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما يبلغه عن ربه .. كما أنها حكت شبهات المشركين ، وردت عليهم بما يبطلها (1)
في السورة حكاية لأقوال وعقائد الكفار ، وفصول مناظرة بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإشارة إلى جهود الزعماء في التعطيل والصدّ واعتدادهم بالأولاد والأموال. وتنويه بالمؤمنين المخلصين. وإشارة إلى داوود وسليمان وما كان من إسباغ اللّه عليهما نعمه وشكرهما إيّاه. وإلى سبأ وما كان من رغدها وعدم شكرها ونقمة اللّه عليها ، وفيها صور لما كان عليه الموقف في مكة بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين وزعماء الكفار وسوادهم ومعتدليهم ومتطرفيهم.
وفصول السورة مترابطة مما يسوّغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن الآية [6] مدنية والرواية تتحمل التوقف لانسجام الآية الوثيق في السياق. (2)
سورة سبأ مكيّة ، وهي أربع وخمسون آية.
تسميتها :
سميت سورة سبأ للتذكير فيها بقصة سبأ ، وهم ملوك اليمن ، في قوله تعالى : لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ : جَنَّتانِ .. [15 - 16] فقد أنعم اللّه عليهم بالحدائق الغناء والأراضي الخصبة ، فلما كفروا النعمة ، أبادهم بسيل العرم.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة : الأول - أن هذه السورة افتتحت ببيان صفات الملك التام والقدرة الشاملة التي تناسب ختام السورة السابقة في تطبيق العذاب وتقديم الثواب : لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ....
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (11 / 259)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (4 / 264)(1/903)
الثاني - كان آخر الأحزاب : وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ومطلع سبأ في فاصلة الآية الثانية : وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ.
الثالث - في سورة الأحزاب سأل الكفار عن الساعة استهزاء ، وفي هذه السورة حكى القرآن عنهم إنكارها صراحة.
مشتملاتها :
تضمنت سورة سبأ المكية محور ما تدور عليه بقية السور المكية في إثبات العقيدة : من توحيد اللّه ، والنبوة ، والبعث.
فابتدأت بحمد اللّه تعالى والثناء عليه لأنه خالق السموات والأرض ، ومرسل الملائكة رسلا بمهام عديدة إلى البشر.
ثم أعقب ذلك الحديث عن إنكار المشركين البعث بعد الموت ، وإثباته بالقسم العظيم باللّه تعالى من النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - على وقوع المعاد : قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ. وذكرت اتهامهم الباطل للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه مفتر أو مجنون ، ثم أكدت ثبوت قدرة اللّه تعالى بخسف الأرض وإسقاط السماء.
وتلاها تعداد النعم التي أنعم اللّه بها على داود وسليمان ، وأهل سبأ كتسخير الطير والجبال للتسبيح مع داود ، وتسخير الريح لسليمان عليهما السلام ، وجعل الحدائق والثمار الطيبة لملوك اليمن أهل سبأ.
ثم تحدثت السورة عن أدلة وجود اللّه ووحدانيته ، وتفنيد مزاعم المشركين في عبادة الأوثان ، وإظهار صورة من الجدل العنيف بين الأتباع الكفرة والمتبوعين المخذولين يوم القيامة ، وإلقاء كل من الفريقين التبعة على الآخر.
وأبانت عموم الرسالة الإسلامية - المحمدية لجميع الناس ، وهددت بالحساب العسير والجزاء الأليم يوم القيامة ، وأن المترفين في كل زمان هم أعداء الرسل لاغترارهم بأموالهم وأولادهم ، وأن اللّه راض عنهم فلا يعذبهم ، وأن اللّه سيسأل الملائكة يوم الحشر ، هل طلبوا من المشركين عبادتهم؟.
تم حكت السورة إنكار المشركين للقرآن وأنه في زعمهم مفترى ليس بوحي ، ووعظتهم بما عوقب به من قبلهم ، وطالبتهم بالتأمل والتفكر في أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس بمفتر ولا مجنون ، وإنما هو نذير بين يدي عذاب شديد ، وأنه لا يطلب أجرا على دعوته ، بل أجره على ربه.(1/904)
وختمت السورة بدعوة المشركين إلى الإيمان باللّه الواحد الأحد ، قبل أن يأتي يوم القيامة ، فيطلبون العودة إلى دار الدنيا للإيمان بالقرآن وبالرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والإتيان بصالح الأعمال ، ولكن يحال بينهم وبين ما يشتهون ، لفوات الأوان. (1)
مكية كلها إلا آية (6) : وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الآية .. فقيل فيها : إنها مكية وقيل : هي مدنية. وآياتها أربع وخمسون آية. ويدور محور الكلام فيها على البعث ، ونقاش المشركين في أعمالهم وعقائدهم ، وخاصة إثبات البعث ، وفي خلال ذلك سيقت بعض القصص للعبرة والتسلية .. (2)
مكية كما روي عن ابن عباس وقتادة ، وفي التحرير هي مكية بإجماعهم ، وقال ابن عطية : مكية إلا قوله تعالى : وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [سبأ : 6] وروى الترمذي عن فروة بن مسيكة المرادي قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول اللّه ألا أقاتل من أدبر من قومي الحديث ، وفيه وأنزل في سبأ ما أنزل فقال رجل : يا رسول اللّه وما سبأ؟ الحديث.
قال ابن الحصار هذا يدل على أن هذه القصة مدنية لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع ، ويحتمل أن يكون قوله وأنزل حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرته فلا يأبى كونها مكية ، وآياتها خمس وخمسون في الشامي وأربع وخمسون في الباقين ، وما قيل خمس وأربعون سهو من قلم الناسخ ، ووجه اتصالها بما قبلها أن الصفات التي أجريت على اللّه تعالى في مفتتحها مما يناسب الحكم التي في مختتم ما قبل من قوله تعالى : لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ [الأحزاب : 73] إلخ.
وأيضا قد أشير فيما تقدم إلى سؤال الكفار عن الساعة على جهة الاستهزاء وهاهنا قد حكي عنهم إنكارها صريحا والطعن بمن يقول بالمعاد على أتم وجه وذكر مما يتعلق بذلك ما لم يذكر هناك ، وفي البحر أن سبب نزولها أن أبا سفيان قال لكفار مكة لما سمعوا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ كأن محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت ويتخوفنا بالبعث واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث فقال اللّه تعالى قل يا محمد بلى وربي لتبعثن قاله مقاتل وباقي السورة تهديد لهم وتخويف ، ومن هذا ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها انتهى. (3)
سورة سبأ من السور المكية ، التي تهتم بموضوع العقيدة الإسلامية ، وتتناول أصول الدين ، من إثبات الوحدانية ، والىبوة ، والبعث والىشور .
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (22 / 131) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (22 / 55)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 125)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (11 / 277)(1/905)
* أبتدأت السورة الكريمة بتمجيد الله جل وعلا ، للذي أبدع الخلق ، وأحكم شئون العالم ، ودبر الكون بحكمته ، فهو الخالق المبدع الحكيم ، الذي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وهذا من أعظم البراهين على وحدانية رب العالمين [ الحمد لله الذي له ما في السموات والأرض . . . ] الآيات .
* وتحدثت السورة عن قضية هامة ، هي إنكار المشركين للآخرة ، وتكذيبهم بالبعث بعد الموت ، فأمرت الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) أن يقسم بربه العظيم ، على وقوع المعاد ، بعد فناء الأجساد [ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم . . ] الآية .
* وتناولت السورة قصص بعض الرسل ، فذكرت " داود " وولده " سليمان " عليهما السلام ، وما سخر الله لهما من أنواع الىعم ، كتسخير الريح لسليمان ، وتسخير الطير ، والجبال تسبح مع " داود " إظهارا لفضل الله عليهما في ذلك العطاء الواسع [ ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والظير . . ] الآيات .
* وتناولت السورة بعض شبهات المشركين ، حول رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين ، ففندتها بالحجة الدامغة ، والبرهان الساطع ، كما أقامت الأدلة والبراهين على وجود الله ووحدانيته [ وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها . . ] الآيات .
* وختمت السورة بدعوة المشركين إلى الإيمان بالواحد القهار ، الذي بيده تدبير أمور الخلق أجمعين [ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى . . ] الآيات . التسميه : سميت سورة " سبأ " لأن الله تعالى ذكر فيها قصة سبأ ، وهم ملوك اليمن ، وقد كان أهلها في نعمة ورخاء ، وسرور وهناء ، وكانت مساكنهم حدائق وجنات ، فلما كفروا الىعمة ، دمرهم الله بالسيل العرم ، وجعلهم عبرة لمن يعتبر . (1)
مقصودها أن الدار الآخرة - التي أشار إليها آخر تلك بالعذاب والمغفرة بعد أن أعلم أن الناس يسألون عنها - كائنة لا ريب فيها ، لما في ذلك من الحكمة ، وله عليه من القدرة ، وفي تركها من عدم الحكمة والتصوير بصورة الظلم ، ولقصة سبأ التي سميت بها السورة مناسبة كبيرة لهذا المقصد كما ياتي بيانه لذلك سميت بها (2)
موضوعات هذه السورة المكية هي موضوعات العقيدة الرئيسية : توحيد اللّه ، والإيمان بالوحي ، والاعتقاد بالبعث. وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية. وبيان
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 54)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (6 / 144)(1/906)
أن الإيمان والعمل الصالح - لا الأموال ولا الأولاد - هما قوام الحكم والجزاء عند اللّه. وأنه ما من قوة تعصم من بطش اللّه وما من شفاعة عنده إلا بإذنه.
والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء وعلى إحاطة علم اللّه وشموله ودقته ولطفه. وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة ، وأساليب شتى وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية.
فعن قضية البعث يقول : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ. قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» ..
وعن قضية الجزاء يقول : «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ» ..
وفي موضع آخر قريب في سياق السورة : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ».
ويورد عدة مشاهد للقيامة ، وما فيها من تأنيب للمكذبين بها ، ومن صور العذاب الذي كانوا يكذبون به ، أو يشكون في وقوعه كهذا المشهد : «وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ. يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا : أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ، وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ؟» ..
وتتكرر هذه المشاهد وتتوزع في السورة وتختم بها كذلك : «وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ. وَقالُوا : آمَنَّا بِهِ. وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ؟ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ».
وعن قضية العلم الإلهي الشامل يرد في مطلع السورة : «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها» ..
ويرد تعقيبا على التكذيب بمجيء الساعة : «قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ ، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ..
ويرد قرب ختام السورة : «قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» ..
وفي موضوع التوحيد تبدأ السورة بالحمد للّه «الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» ..(1/907)
ويتحداهم مرات في شأن الشركاء الذين يدعونهم من دون اللّه : «قُلِ : ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ ، وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ» ..
وتشير الآيات إلى عبادتهم للملائكة وللجن وذلك في مشهد من مشاهد القيامة : «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ قالُوا : سُبْحانَكَ! أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ. بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ».
وينفي ما كانوا يظنونه من شفاعة الملائكة لهم عند ربهم : «وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ، حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا : ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» ..
وبمناسبة عبادتهم للشياطين ترد قصة سليمان وتسخير الجن له ، وعجزهم عن معرفة موته : «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ. فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ» ..
وفي موضوع الوحي والرسالة يرد قوله : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» ..
وقوله : «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا : ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ. وَقالُوا : ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» ..
ويرد عليهم بتقرير الوحي والرسالة : «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ، وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» .. «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
وفي موضوع تقرير القيم يرد قوله : «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها : إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَقالُوا : نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ. وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» ..
ويضرب على هذا أمثلة من الواقع التاريخي في هذه الأرض : قصة آل داود الشاكرين على نعمة اللّه. وقصة سبأ المتبطرين الذين لا يشكرون. وما وقع لهؤلاء وهؤلاء. وفيه مصداق مشهود للوعد والوعيد.
هذه القضايا التي تعالجها السور المكية في صور شتى ، تعرض في كل سورة في مجال كوني ، مصحوبة بمؤثرات منوعة ، جديدة على القلب في كل مرة. ومجال عرضها في سورة سبأ هذه هو ذلك المجال ، ممثلا(1/908)
في رقعة السماوات والأرض الفسيحة ، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب. وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة. وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة. وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة ، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة. وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري ، موقظ له من الغفلة والضيق والهمود.
فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح على هذا الكون الهائل وعلى صحائفه وما فيها من آيات اللّه ، وعلى مجالي علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل : «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها» ..
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ. قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ..
والذين يكذبون بالآخرة يتهددهم بأحداث كونية ضخمة : «أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» ..
والذين يعبدون من دون اللّه ملائكة أو جنا يقفهم وجها لوجه أمام الغيب المرهوب في الملأ الأعلى : «وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا : ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : الْحَقَّ. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ»..
أو يواجههم بالملائكة في ساحة الحشر حيث لا مجال للمواربة والمجادلة : «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ .. إلخ».
والمكذبون لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - الذين يتهمونه بالافتراء أو أن به جنة يقفهم أمام فطرتهم ، وأمام منطق قلوبهم بعيدا عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة : «قُلْ : إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ. أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا. ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» ..
وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في تلك المجالات المتنوعة ، وتواجهه بتلك المؤثرات الموحية الموقظة.
حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة كما أسلفنا ..
ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في تلك المجالات وتحت تلك المؤثرات في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة يمكن تقسيمها إلى خمسة أشواط لتيسير عرضها وشرحها. وإلا فإنه ليس بينها فواصل تحددها تحديدا دقيقا .. وهذا هو طابع السورة الذي يميزها ..(1/909)
تبدأ السورة بالحمد للّه ، المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير. وتقرر علمه الشامل الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها. وتحكي إنكار الذين كفروا لمجيء الساعة ورد اللّه عليهم بتوكيد مجيئها ، وعلم اللّه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. ليتم جزاء المؤمنين وجزاء الذين يسعون في آيات اللّه معاجزين ، عن علم دقيق. وتثبت رأي أولي العلم الحقيقي الذين يشهدون أن ما أنزل اللّه لنبيه هو الحق. وتحكي عجب الذين كفروا من قضية البعث ، وترد عليهم بأنهم في العذاب والضلال البعيد وتهددهم بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفا عليهم ..
وبذلك ينتهي الشوط الأول.
فأما الشوط الثاني فيتناول طرفا من قصة آل داود الشاكرين للّه على نعمته ، بتسخير قوى كثيرة لداود وسليمان بإذن اللّه. غير متبطرين ولا مستكبرين ، ومن هذه القوى المسخرة الجن الذين كان يعبدهم بعض المشركين ، ويستفتونهم في أمر الغيب. وهم لا يعلمون الغيب. وقد ظلوا يعملون لسليمان عملا شاقا مهينا بعد موته وهم لا يعلمون .. وفي مقابل قصة الشكر تجيء قصة البطر. قصة سبأ. وما كانوا فيه من نعيم لم يشكروه :«فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ» .. وذلك أنهم اتبعوا الشيطان ، وما كان له عليهم من سلطان ، لولا أنهم أعطوه قيادهم مختارين! ويبدأ الشوط الثالث بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمونهم آلهة من دون اللّه. وهم «لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ» .. وهم لا يملكون لهم شفاعة عند اللّه - ولو كانوا من الملائكة - فالملائكة يتلقون أمر اللّه بالخشوع الراجف ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق .. ويسألهم عمن يرزقهم من السماوات والأرض. واللّه مالك السماوات والأرض ، وهو الذي يرزقهم بلا شريك .. ثم يفوض أمره وأمرهم إلى اللّه ، وهو الذي يفصل فيما هم مختلفون .. ويختم هذا الشوط بالتحدي كما بدأه ، أن يروه الذين يلحقونهم باللّه شركاء. «كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
والشوط الرابع والشوط الخامس يعالجان معا قضية الوحي والرسالة ، وموقفهم منها ، وموقف المترفين من كل دعوة ، واعتزازهم بأموالهم وأولادهم ويقرران القيم الحقيقية التي يكون عليها الحساب والجزاء ، وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد. ويعرضان مصائر المؤمنين والمكذبين في عدة مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة ، يتبرأ فيها التابعون من المتبوعين. كما يتبرأ فيها الملائكة من عبادة الضالين المشركين .. ويدعوهم بين هذه المشاهد إلى أن يرجعوا إلى فطرتهم يستلهمونها مجردة عن الهوى وعن الضجيج في أمر هذا الرسول الذي يندفعون في تكذيبه بلا دليل. وهو لا يطلب إليهم أجرا على الهدى ، وليس بكاذب ولا مجنون .. ويختم كل من الشوطين بمشهد من مشاهد القيامة. وتنتهي السورة بإيقاعات(1/910)
قصيرة قوية : «قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. قُلْ : جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ. قُلْ : إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» .. وتختم بمشهد من مشاهد القيامة قصير الخطى قوي عنيف. (1)
ما اشتملت عليه السورة الكريمة من حكم وأحكام
(1) حمد اللّه والثناء عليه بما هو أهله.
(2) مقال المشركين في إنكار البعث والرد عليهم بأنه آت لا شك فيه.
(3) الاستهزاء بالرسول وحكمهم عليه بأنه إما مفتر وإما مجنون.
(4) النعم التي آتاها سبحانه داود وسليمان عليهما السلام.
(5) ما كان لسبأ من النعم ثم زوالها لكفرانهم بها واتباعهم وسوسة الشيطان.
(6) النعي على المشركين لعبادتهم الأوثان والأصنام مع بيان أنها لا تفيدهم يوم القيامة شيئا (7) الحجاج والجدل بين الأتباع والمتبوعين من الكافرين يوم القيامة وإلقاء كل منهما التبعة على الآخر.
(8) بيان أن المترفين في كل أمة هم أعداء الرسل ، لا عتزازهم بأموالهم وأولادهم ، واعتقادهم أنهم ما آتاهم ربهم ذلك إلا لرضاه عنهم ثم رده سبحانه عليهم.
(9) سؤال الملائكة أمام المشركين بأنهم هل طلبوا منهم عبادتهم ؟ ليكون فى ردهم ما يكفى في تبكيتهم.
(10) مقال المشركين عند سماع القرآن وادعاؤهم أنه ليس بوحي من عند اللّه بل الداعي مفتر ليصدّ الناس عن دين الآباء والأجداد.
(11) عظتهم بما حل بمن قبلهم من الأمم.
(12) أمرهم بالتأمل والتدبر في الأدلة التي أمامهم لعلهم يرعوون عن غيهم.
(13) إثبات أن الرسول نذير مبين ، لا مفتر ولا مجنون.
(14) الرسول لا يطلب أجرا على دعوته ، بل أجره على اللّه.
(15) طلب المشركين يوم القيامة أن يرجعوا إلى الدنيا ليؤمنوا بالرسول ويعملوا صالح الأعمال ، ثم الرد عليهم بأن ذلك قد فات أوانه وأن لا سبيل إلى تحقيقه. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2888)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (22 / 102)(1/911)
(35) سورة فاطر
سميت "سورة فاطر" في كثير من المصاحف في المشرق والمغرب وفي كثير من التفاسير. وسميت في "صحيح البخاري" وفي "سنن الترمذي" وفي كثير من المصاحف والتفاسير "سورة الملائكة" لا غير. وقد ذكر لها كلا الاسمين صاحب "الإتقان".
فوجه تسميتها "سورة فاطر" أن هذا الوصف وقع في طالعة السورة ولم يقع في أول سورة أخرى. ووجه تسميته "سورة الملائكة" أنه ذكر في أولها صفة الملائكة ولم يقع في سورة أخرى.
وهي مكية بالاتفاق وحكى الآلوسي عن الطبرسي أن الحسن استثنى آيتين: آية {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} [فاطر: 29] الآية، وآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] الآية، ولم أر هذا لغيره.
وهذه السورة هي الثالثة والأربعون في ترتيب نزول سورة القرآن. نزلت بعد سورة الفرقان وقبل سورة مريم.
وقد عدت آيها في عد أهل المدينة والشام ستا وأربعين، وفي عد أهل مكة والكوفة خمسا وأربعين.
أغراض هذه السورة
اشتملت هذه السورة على إثبات تفرد الله تعالى بالإلهية فافتتحت بما يدل على أنه مستحق الحمد على ما أبدع من الكائنات الدال إبداعها على تفرده تعلى بالإلهية.
وعلى إثبات صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به وأنه جاء به الرسل من قبله. وإثبات البعث والدار الآخرة.
وتذكير الناس بإنعام الله عليهم بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، وما يعبد المشركون من دونه لا يغنون عنهم شيئا وقد عبدهم الذين من قبلهم فلم يغنوا عنهم.
وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يلاقيه من قومه.
وكشف نواياهم في الإعراض عن إتباع الإسلام لأنهم احتفظوا بعزتهم.
وإنذارهم أن يحل بهم ما حل بالأمم المكذبة قبلهم.
والثناء على الذين تلقوا الإسلام بالتصديق وبضد حال المكذبين.
وتذكيرهم بأنهم كانوا يودون أن يرسل إليهم رسول فلما جاءهم رسول تكبروا واستنكفوا.
وأنهم لا مفر لهم من حلول العذاب عليهم فقد شاهدوا آثار الأمم المكذبين من قبلهم، وأن لا يغتروا بإمهال الله إياهم فإن الله لا يخلف وعده.(1/912)
والتحذير من غرور الشيطان والتذكير بعداوته لنوع الإنسان. (1)
مناسبتها لما قبلها
بدأت سورة « سبأ » السابقة بالحمد للّه ، والثناء عليه ، وإضافة ما فى السموات وما فى الأرض إليه سبحانه وتعالى ، ثم ختمت بعرض الكافرين على جهنّم وما يلقاهم من ضنك وبلاء هناك ، وما يتمنونه من العودة إلى الحياة الدنيا ، وأن ذلك ما لا يكون أبدا ، وأنهم لو ردّوا لما آمنوا ، لأنهم يحملون طباعا لا تتعامل إلا مع الضلال والكفر.وقد بدئت سورة « فاطر » هذه بحمد اللّه أيضا ، والثناء عليه ، وإضافة الوجود إليه إضافة إيجاد وخلق ، بعد أن أضافته إليه سورة سبأ ، إضافة ملك وتصريف ..ثم كان هذا الحمد ردّا على كفر الكافرين وشكّهم ، وما جرّهم إليه هذا الكفر والشك من بلاء ونكال ، فهو حمد من المؤمنين إذ عافاهم اللّه سبحانه وتعالى مما يلقى أهل النار من عذاب أليم. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة فاطر هي السورة الخامسة والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة الفرقان - كما ذكر صاحب الإتقان .
وهي من السور المكية الخالصة ، وتسمى أيضا - بسورة « الملائكة ».
قال القرطبي : هي مكية في قول الجميع. وهي خمس وأربعون آية .
2 - سورة فاطر هي آخر السور التي افتتحت بقوله - تعالى - : الْحَمْدُ لِلَّهِ وقد سبقها في هذا الافتتاح سور : الفاتحة ، والأنعام ، والكهف ، وسبأ.قال - سبحانه - في افتتاح سورة فاطر : الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
3 - ثم تحدث - سبحانه - بعد ذلك عن مظاهر نعمه على عباده ورحمته بهم ، فقال :
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ....
4 - ثم توجه السورة الكريمة نداءين إلى الناس ، تأمرهم في أولهما بشكر اللّه - تعالى - على نعمه ، وتنهاهم في ثانيهما عن الاغترار بزينة الحياة الدنيا وعن اتباع خطوات الشيطان ..قال - سبحانه - : يا
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (22 / 107)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (11 / 849)(1/913)
أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ... وقال - جل شأنه - : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
5 - وبعد أن تسلى السورة الكريمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من أعدائه ، تأخذ في بيان مظاهر قدرة اللّه - تعالى - في خلقه ، فتذكر قدرته - سبحانه - في إرسال الرياح والسحب ، وفي خلقه للإنسان من تراب ، وفي إيجاده للبحرين : أحدهما عذب فرات سائغ شرابه ، والثاني : ملح أجاج ، وفي إدخاله الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وفي تسخيره الشمس والقمر ..قال - تعالى - : وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ، وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا ، وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ، وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ ، لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ.
6 - ثم وجه - سبحانه - نداء ثالثا إلى الناس ، بين لهم فيه : افتقارهم اليه - تعالى - وحاجتهم إلى عونه وعطائه ، وتحمل كل إنسان لمسئولياته ولنتائج أعماله ..
كما بين لهم - سبحانه - أن الفرق بين الهدى والضلال ، كالفرق بين الإبصار والعمى ، وبين النور والظلمات ، وبين الحياة والموت ، وبين الظل والحرور.قال - تعالى - : وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
7 - ثم عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر قدرة اللّه - تعالى - ورحمته بعباده ، وعن الثواب العظيم الذي أعده - سبحانه - لمن يتلون كتابه ولمن يحافظون على فرائضه - وعن عقابه الأليم للكافرين الجاحدين لنعمه ..قال - تعالى - : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ، وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها ، وَغَرابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ ، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ، يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ.
ثم قال - سبحانه - : وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ، لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ.
8 - ثم انتقلت السورة الكريمة في أواخرها إلى الحديث عن جهالات المشركين ، حيث عبدوا من دون اللّه - تعالى - مالا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، وعن مكرهم السيئ الذي لا يحيق إلا بأهله ، وعن نقضهم(1/914)
لعهودهم حيث أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ...
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان سعة رحمته بالناس فقال : وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ، ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً.
9 - وهكذا نرى سورة فاطر قد طوفت بالنفس الإنسانية في أرجاء هذا الكون ، وأقامت الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته. عن طريق نعم اللّه - تعالى - المبثوثة في الأرض وفي السماء ، وفي الليل وفي النهار ، وفي الشمس وفي القمر : وفي الرياح وفي السحب ، وفي البر وفي البحر .. وفي غير ذلك من النعم التي سخرها - سبحانه - لعباده.
كما نراها قد حددت وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وساقت له ما يسليه ويزيده ثباتا على ثباته ، وما يرشد كل عاقل إلى حسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار. (1)
في السورة إنذار للناس ودعوة إلى الحق. ولفت نظر إلى الكون ونواميسه للبرهنة على ربوبية اللّه تعالى واستحقاقه وحده للعبادة. وتنويه بالمؤمنين المخلصين وتنديد بالكافرين وبيان مصير كل منهم. وإشارة إلى تمني العرب بعثة رسول فيهم والأسباب التي جعلتهم يناوئون النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما بعثه اللّه ، وقد تكررت في السورة تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يلقاه من تكذيب قومه مما يدل على أنها نزلت في ظروف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها حزينا شديد الحسرة.
والسورة شطران أحدهما عام التوجيه ، وثانيهما موجه للكفار السامعين.
وآيات كل من الشطرين منسجمة ، كما أنه ليس بينهما انفصال وتغاير بحيث بسوغ القول أن فصول السورة نزلت متلاحقة حتى تمت. ويسميها بعض المفسرين بسورة الملائكة (2)
سورة فاطر مكيّة ، وهي خمس وأربعون آية
تسميتها :
تسمى سورة «فاطر» لافتتاحها بهذا الوصف للّه عز وجل الدال على الخلق والإبداع والإيجاد للكون العظيم ، والمنبئ عن عظمة الخالق وقدرته الباهرة. كما تسمى أيضا سورة «الملائكة» لأنها أفادت في مطلعها أيضا أن اللّه سبحانه جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه لتبليغهم رسالاته وأوامره.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (11 / 315)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (3 / 107)(1/915)
مناسبتها لما قبلها :
قال السيوطي : مناسبة وضعها بعد سبأ : تآخيهما في الافتتاح بالحمد ، مع تناسبهما في المقدار.
وتظهر صلتها أيضا بما قبلها في أنه لما أبان تعالى في ختام سورة سبأ هلاك الكفار وتعذيبهم أشد العذاب ، فقال : وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ، كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ اقتضى أن يذكر ما يلزم المؤمنين من الحمد والشكر للّه تعالى على ما اتصف به من قدرة الخلق والإبداع ، وإرسال الملائكة رسلا إلى الأنبياء لتبليغ الرسالة والوحي.
مشتملاتها :
موضوع هذه السورة كموضوع سائر السور المكية في العقيدة من الدعوة إلى توحيد اللّه ، وإقامة البراهين على وجوده ، وهدم قواعد الشرك ، والإلزام بمنهج الاستقامة على دين اللّه وأخلاق الإسلام.
وقد اشتملت هذه السورة في فاتحتها ومقدمتها على بيان الأدلة الدامغة على قدرة اللّه عز وجل بإبداع الكون ، وجعل الملائكة رسلا بينه وبين أنبيائه لتبليغ الوحي. ثم ذكّرت الناس بنعم اللّه ليشكروها ، وحذرت من وساوس الشيطان ، وأبانت الفرق المتميز بين جزاء الكفار وجزاء المؤمنين الأبرار ، وميّزت بين المؤمن والكافر بضرب المثل بالأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، والظل والحرور.
وأوضحت مظاهر القدرة الإلهية ، وأقامت الأدلة والبراهين على البعث في سجل هذا الكون من إنزال الغيث ، وإنبات الزرع والثمار ، وخلق الإنسان في أطوار ، وعزل البحر المالح عن البحر العذب ، وتعاقب الليل والنهار ، وإيلاج أحدهما في الآخر ، وتسخير الشمس والقمر ، واختلاف ظواهر الجبال والناس والدواب والأنعام ، ومزية العلماء.
وأعلنت إرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحق بشيرا ونذيرا ، كما أرسل نذير في كل أمة ، وثبّتت قلبه بذكر قصص المكذبين السابقين للأنبياء.
وأشادت بمن يتلو كتاب اللّه ، ويقيم الصلاة ، وينفق من رزق اللّه سرا وعلانية ، وأبانت أن القرآن مصدّق للكتب السماوية السابقة ، وفاخرت بميراث الأمة الإسلامية لأشرف رسالة ، وذكرت انقسام الأمة إزاءها إلى أنواع ثلاثة :
ظالم مقصّر ، ومحسن مقتصد ، وسابق بالخيرات ، وحددت جزاء كل نوع في عالم الآخرة.
ثم ذكرت جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين ، ووصفت عاقبة كل منهم وما أعد له يوم القيامة.(1/916)
وختمت السورة بتقريع المشركين في عبادتهم الأوثان والأصنام ، وأنذرتهم بعاقبة الذين من قبلهم الذين كانوا أشد منهم قوة ، وقرنت هذا الإنذار برحمة اللّه العامة للناس جميعا حيث لم يعاجلهم العقوبة ، وإنما يؤخرهم إلى أجل مسمى. (1)
مكية عند الجميع ، وآياتها خمس وأربعون آية ، نزلت بعد الفرقان.ويدور الكلام فيها حول العقيدة السليمة من وصف للّه بما يستحق ، ومن خطاب الرسول بما يثبت قلبه. ومن لفت أنظار الناس إلى الكون وما فيه من آيات تدل على قدرة اللّه على البعث ، وفي خلال ذلك هدد المشركين وتوعدوهم. (2)
المناسبة على ما في البحر أنه عزّ وجلّ لما ذكر في آخر السورة المتقدمة هلاك المشركين أعداء المؤمنين وإنزالهم منازل العذاب تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره كما في قوله تعالى : فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام : 45] وينضم إلى ذلك تواخي السورتين في الافتتاح بالحمد وتقاربهما في المقدار وغير ذلك. (3)
* سورة فاطر مكية نزلت قبل هجرة رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وهي تتناول الغرض العام ، الذي نزلت من أجله الآيات المكية ، وهي قضايا العقيدة الكبرى (الدعوة إلى توحيد الله ، وإقامة البراهين على وجوده ، وهدم قواعد الشرك ، والحث على تطهير القلوب من الرذائل ، والتحلي بمكارم الأخلاق ) .
* تحدثت السورة الكريمة في البدء عن الخالق المبدع ، الذي فطر الأكوان ، وخلق الملائكة والإنس والجان ، وأقامت الأدلة والبراهين على البعث والنشور ، في صفحات هذا الكون المنظور ، بالأرض تحيا بعد موتها ، بنزول الغيث ، وبخروج الزروع والفواكه والثمار ، وبتعاقب الليل والنهار ، وفي خلق الإنسان في أطوار ، وفي إيلاج الليل في النهار ، وغير ذلك من دلائل القدرة والوحدانية [ والله الذي أرسل الرياح فتمير سحابا فسقناه إلى بلد ميت .. ] الآيات .
* وتحدثت عن الفارق الكبير بين المؤمن والكافر ، وضربت لهما الأمثال بالأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، والظل والحرور [ وما يستوي الأعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور . . ] الآيات .
* ثم تحدثت عن دلائل القدرة في اختلاف أنواع الثمار ، وفي سائر المخلوقات من البشر والدواب والأنعام ، وفي اختلاف أشكال الجبال والأحجار ، ولنوعها ما بين أبيض وأسود وأحمر ، وكلها ناطقة
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (22 / 218) وتفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (22 / 103)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 151)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (11 / 334)(1/917)
بعظمة الواحد القهار [ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ، ومن الجبال جدد بيض ، وحمر مختلف ألوانها ، وغرابيب سود . . ] الآيات .
* وتحدثت بعد ذلك عن ميراث هذه الأمة المحمدية لأشرف الرسالات السماوية ، بإنزال هذا الكتاب المجيد الجامع لفضائل كتب الله ، ثم انقسام الأمة إلى ثلاثة أنواع : (المقصر ، والمحسن ، والسابق بالخيرات ) [ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ، فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله . . ] الآيات .
* وختمت السورة بتقريع المشركين في عبادتهم للأوثان والأصنام والأحجار [ قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله ، أروني ماذا خلقوا من الأرض . . ] الآيات إلى آخر السورة الكريمة .
التسمية : سميت " فاطر " لذكر هذا الاسم الجليل ، والنعت الجميل في طليعتها ، لما في هذا الوصف من الدلالة على الإبداع والاختراع ، والإيجاد لا على مثال سابق ، ولما فيه من التصوير الدقيق ، المشير إلى عظمة ذي الجلال ، وباهر قدرته ، وعجيب صنعه ، فهو الذي خلق الملائكة وأبدع تكوينهم بهذا الخلق العجيب (1) . .
هي ختام السور المفتتحة باسم الحمد ، التي تقدم عن الشيخ سعد الدين التفتازاني أنه فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة ، وهي الإيجاد الأول ، ثم الإبقاء الأول ؛ ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها ، المفصل أمره فيها في فريقي السعادة المفتتحة بالابتداء الدال عليه بأنهى القدرة وأحكمها ، المفصل أمره فيها في فريقي السعادة والشقاوة تفصيلاً شافياً على أنه استوفى في هذه السورة النعم الأربع كما يأتي بيانه في محالّه ، فمقصودها إثبات القدرة الكاملة لله تعالى اللازم منها تمام القدرة على البعث الذي عنه يكون أتم الإبقاءين الإبقاء بالفعل دائماً أبداً بلا انقطاع ولا زوال ولا اندفاع في دار المقامة التي أذهب عنها الحزن والنصب واللغوب ، ودار الشقاوة الجامعة لجميع الأنكاد والهموم ، ولاسم السورة أتم مناسبة لمقصودها لأنه لا شيء يعدل ما في الجنة من تجدد الخلق فإنه لا يؤكل منها شيء إلا عاد كما كان في الحال ، ولا يراد شيء إلا وجد في أسرع وقت ، فهي دار الإبداع والاختراع بالحقيقة وكذا النار ) ) كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ( ) [ النساء : 56 ] ؛ وكذا تسميتها بالملائكة فإنهم يبدعون خلقاً جديداً كل واحد منهم على
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 68)(1/918)
صورته التي أراد الله المطابقة لقدرته سبحانه وعز شأنه ، وهم من الكفرة على وجه لا يحاط به ) ) وما يعلم جنود ربك إلا هو ( ) [ المدثر : 31 ] (1)
هذه السورة المكّية نسق خاص في موضوعها وفي سياقها. أقرب ما تكون إلى نسق سورة الرعد. فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشري من بدئها إلى نهايتها. إيقاعات موحية مؤثرة تهزه هزا ، وتوقظه من غفلته ليتأمل عظمة هذا الوجود ، وروعة هذا الكون وليتدبر آيات اللّه المبثوثة في تضاعيفه ، المتناثرة في صفحاته وليتذكر آلاء اللّه ، ويشعر برحمته ورعايته وليتصور مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة وليخشع ويعنو وهو يواجه بدائع صنع اللّه ، وآثار يده في أطواء الكون ، وفي أغوار النفس ، وفي حياة البشر ، وفي أحداث التاريخ. وهو يرى ويلمس في تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس ، ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القديرة .. ذلك كله في أسلوب وفي إيقاع لا يتماسك له قلب يحس ويدرك ، ويتأثر تأثر الأحياء.
والسورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات متتالية الإيقاعات. يصعب تقسيمها إلى فصول متميزة الموضوعات.
فهي كلها موضوع واحد. كلها إيقاعات على أوتار القلب البشري ، تستمد من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث. فتأخذ على النفس أقطارها وتهتف بالقلب من كل مطلع ، إلى الإيمان والخشوع والإذعان.
والسمة البارزة الملحوظة في هذه الإيقاعات هي تجميع الخيوط كلها في يد القدرة المبدعة. وإظهار هذه اليد تحرك الخيوط كلها وتجمعها وتقبضها وتبسطها ، وتشدها وترخيها. بلا معقب ولا شريك ولا ظهير.
ومنذ ابتداء السورة نلمح هذه السمة البارزة ، وتطرد إلى ختامها ..
هذا الكون الهائل نلمح اليد القادرة القاهرة تبرزه إلى الوجود وفق ما تريد : «الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وهذه القبضة القوية تنفرج فترسل بالرحمة تتدفق وتفيض ، وتنقبض فتغلق ينابيعها وتغيض. بلا معقب ولا شريك :«ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (6 / 199)(1/919)
والهدى والضلال رحمة تتدفق أو تغيض : «فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» .. «إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ» ..
وهذه اليد تصنع الحياة الأولى وتنشر الموتى في الحياة الآخرة : «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ، فَتُثِيرُ سَحاباً ، فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها. كَذلِكَ النُّشُورُ» ..
والعزة كلها اللّه ومنه وحده تستمد : «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» ..
والخلق والتكوين والنسل والأجل خيوطها كلها في تلك اليد لا تند عنها : «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً. وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ، وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» ..
وفي تلك القبضة تتجمع مقاليد السماوات والأرض وحركات الكواكب والأفلاك : «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» ..
ويد اللّه المبدعة تعمل في هذا الكون بطريقتها المعلمة ، وتصبغ وتلون في الجماد والنبات والحيوان والإنسان :«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ، وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ».
وهذه اليد تنقل خطى البشر ، وتورث الجيل الجيل : «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» .. «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ» ..
وهي تمسك بهذا الكون الهائل تحفظه من الزوال. «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» ..
وهي القابضة على أزمة الأمور لا يعجزها شيء على الإطلاق : «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» ..
وهو «عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. وهو «الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» وهو «عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ» ..
«ولَهُ الْمُلْكُ» .. وهو «الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» .. «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» .. وهو «عَزِيزٌ غَفُورٌ» .. وهو «غَفُورٌ شَكُورٌ» ..
وإنه بعباده «لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» .. وهو «عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ»
.. وهو «عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ»(1/920)
.. وكان «حَلِيماً غَفُوراً» .. وكان «عَلِيماً قَدِيراً» .. وكان «بِعِبادِهِ بَصِيراً» .. ومن تلك الآيات وهذه التعقيبات يرتسم جو السورة ، والسمة الغالبة عليها ، والظل الذي تلقيه في النفس على وجه العموم.
ونظرا لطبيعة السورة فقد اخترنا تقسيمها إلى ستة مقاطع متجانسة المعاني لتيسير تناولها. وإلا فهي شوط واحد متصل الإيقاعات والحلقات من بدئها إلى نهايتها .. (1)
مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من حكم وأحكام
(1) الأدلة على قدرة اللّه بإبداعه للكون وأنه المنعم المتفضل.
(2) تذكير الناس بالنعم ليشكروها.
(3) تثبيت فؤاد رسوله بذكر قصص المكذبين للأنبياء والمرسلين.
(4) نداء الناس عامة بأن يتحلّوا بالفضائل ، ويتخلّوا عن الرذائل ، ولا يتبعوا خطوات الشيطان ، وينظروا فيما أبدع الرّحمن ، من الآيات في الأرض والسموات.
(5) ضرب الأمثال لما سلف من القسمين ، وإيضاح الطائفتين المؤمنة والكافرة.
(6) تقسيم المؤمنين إلى علماء محققين ، وصالحين متقين ، ثم تقسيمهم من حيث العمل أقساما ثلاثة.
(7) وصف عاقبة الكافرين والمؤمنين وما يلقاه كل منهما يوم القيامة. (2)
==================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2918)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (22 / 143)(1/921)
(36) سورة يس
سميت هذه السورة يس بمسمى الحرفين الواقعين في أولها في رسم المصحف لأنها انفردت بها فكانا مميزين لها عن بقية السور، فصار منطوقهما علما عليها. وكذلك ورد اسمها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
روى أبو داود عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اقرأوا يس على موتاكم" . وبهذا الاسم عنون البخاري والترمذي في كتابي التفسير.
ودعاها بعض السلف "قلب القرآن" لوصفها في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس" ، رواه الترمذي عن أنس، وهي تسمية غير مشهورة.
ورأيت مصحفا مشرقيا نسخ سنة 1078 أحسبه في بلاد العجم عنونها "سورة حبيب النجار" وهو صاحب القصة {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] كما يأتي. وهذه تسمية غريبة لا نعرف لها سندا ولم يخالف ناسخ ذلك المصحف في أسماء السور ما هو معروف إلا في هذه السورة وفي "سورة التين" عنونها "سورة الزيتون".
وهي مكية، وحكى ابن عطية الاتفاق على ذلك قال: "إلا أن فرقة قالت قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: "ديارَكم تُكتبُ آثارُكم" . وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية بمكة ولكنها احتج بها عليهم في المدينة" اهـ.
وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ عليهم: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} وهو يؤول ما في حديث الترمذي بما يوهم أنها نزلت يومئذ.
وهي السورة الحادية والأربعون في ترتيب النزول في قول جابر بن زيد الذي اعتمده الجعبري، نزلت بعد سورة {قُلْ أُوحِيَ} وقبل سورة الفرقان.
وعدت آياتها عند جمهور الأمصار اثنتين وثمانين. وعدت عند الكوفيين ثلاثا وثمانين.
وورد في فضلها ما رواه الترمذي عن أنس قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس. ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات" . قال الترمذي: هذا حديث غريب، وفيه هارون أبو محمد شيخ مجهول. قال أبو بكر بن العربي: حديثها ضعيف.
أغراض هذه السورة(1/922)
التحدي بإعجاز القرآن بالحروف المقطعة، وبالقسم بالقرآن تنويها به، وأدمج وصفه بالحكيم إشارة إلى بلوغه أعلى درجات الإحكام. والمقصود من ذلك تحقيق رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وتفضيل الدين الذي جاء به في كتاب منزل من الله لإبلاغ الأمة الغاية السامية وهي استقامة أمورها في الدنيا والفوز في الحياة الأبدية، فلذلك وصف الدين بالصراط المستقيم كما تقدم في سورة الفاتحة.
وأن القرآن داع لإنقاذ العرب الذين لم يسبق مجيء رسول إليهم، لأن عدم سبق الإرسال إليهم لنفوسهم لقبول الدين إذ ليس فيها شاغل سبق يعز عليهم فراقه أو يكتفون بما فيه من هدى.
ووصف إعراض أكثرهم عن تلقي الإسلام، وتمثيل حالهم الشنيعة، وحرمانهم من الانتفاع بهدي الإسلام وأن الذين اتبعوا دين الإسلام هم أهل الخشية وهو الدين الموصوف بالصراط المستقيم.
وضرب المثل لفريقي المتبعين والمعرضين من أهل القرى بما سبق من حال أهل القرية الذين شابه تكذيبهم الرسل تكذيب قريش.
وكيف كان جزاء المعرضين من أهلها في الدنيا وجزاء المتبعين في درجات الآخرة.
ثم ضرب المثل بالأعم وهم القرون الذين كذبوا فأهلكوا.
والرثاء لحال الناس في إضاعة أسباب الفوز كيف يسرعون إلى تكذيب الرسل.
وتخلص إلى الاستدلال على تقريب البعث وإثباته بالاستقلال تارة وبالاستطراد أخرى.
مدمجا في آياته الامتنان بالنعمة التي تتضمنها تلك الآيات.
ورامزا إلى دلالة تلك الآيات والنعم على تفرد خالقها ومنعمها بالوحدانية إيقاظا لهم.
ثم تذكيرهم بأعظم حادثة حدثت على المكذبين للرسل والمتمسكين بالأصنام من الذين أرسل إليهم نوح نذيرا، فهلك من كذب، ونجا من آمن.
ثم سيقت دلائل التوحيد المشوبة بالامتنان للتذكير بواجب الشكر على النعم بالتقوى والإحسان وترقب الجزاء.
والإقلاع عن الشرك والاستهزاء بالرسول واستعجال وعيد العذاب.
وحذروا من حلوله بغتة حين يفوت التدارك.
وذكروا بما عهد الله إليهم مما أودعه في الفطرة من الفطنة.
والاستدلال على عداوة الشيطان للإنسان.
واتباع دعاة الخير.
ثم رد العجز على الصدر فعاد إلى تنزيه القرآن عن أن يكون مفترى صادرا من شاعر بتخيلات الشعراء.(1/923)
وسلى الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يحزنه قولهم وأن لهم بالله أسوة إذ خلقهم فعطلوا قدرته عن إيجادهم مرة ثانية ولكنهم راجعون إليه.
فقامت السورة على تقرير أمهات أصول الدين على أبلغ وجه وأتمه من إثبات الرسالة، ومعجزة القرآن، وما يعتبر في صفات الأنبياء وإثبات القدر، وعلم الله، الحشر، والتوحيد، وشكر المنعم، وهذه أصول الطاعة بالاعتقاد والعمل، ومنها تتفرع الشريعة. وإثبات الجزاء على الخير والشر مع إدماج الأدلة من الآفاق والأنفس بتفنن عجيب، فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى "قلب القرآن" لأن من تقاسيمها تتشعب شرايين القرآن كله، وإلى وتينها ينصب مجراها.
قال الغزالي: إن ذلك لأن الإيمان صحته باعتراف بالحشر، والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه، كما سميت الفاتحة أم القرآن إذ كانت جامعة لأصول التدبر في أفانيه كما تكون أم الرأس ملاك التدبر في أمور الجسد. (1)
مناسبتها لما قبلها
جاء فى الآيات التي ختمت بها سورة « فاطر » السابقة قوله تعالى : « وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً » ثم جاءت الآيات الثلاث التي تلت هذه الآية والتي ختمت بها السورة ـ تعقيبا على تلك الآية ، وبيانا لموقف المشركين من هذا القسم الذي أقسموه ..
وقد بدئت سورة « يس » بالقسم بالقرآن الكريم ، الذي جاءهم النبىّ الكريم به ، ثم وقوع هذا القسم على الإخبار بأن محمدا هو رسول اللّه ، وأنه على صراط مستقيم ، وأن تكذيب المشركين له ، ورفضهم لدعوته ، لم يكن إلا عن ضلال وعمى ، وإلا عن استكبار وحسد .. لقد كانوا يتمنون أن يبعث اللّه فيهم رسولا ، وأن يأتيهم بكتاب ، مثل كتب أهل الكتاب ، وها هو ذا الرسول ، والكتاب .. فماذا هم فاعلون ؟ ستكشف الأيام عن جواب هذا السؤال .. (2)
1 - سورة « يس » من السور التي يحفظها كثير من الناس ، لاشتهارها فيما بينهم ، وهي السورة السادسة والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة « الجن ».
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (22 / 191)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (11 / 904)(1/924)
قال القرطبي : وهي مكية بإجماع ، وهي ثلاث وثمانون آية. إلا أن فرقة قالت : إن قوله تعالى - : وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ... نزلت في بنى سلمة من الأنصار ، حين أرادوا أن يتركوا ديارهم ، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
2 - وقد ذكروا في فضلها كثيرا من الآثار ، إلا أن معظم هذه الآثار ضعفها المحققون من العلماء ، لذا نكتفي بذكر ما هو مقبول منها.
قال ابن كثير ما ملخصه : أخرج الحافظ أبو يعلى عن أبى هريرة قال : سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من قرأ « يس » في ليلة أصبح مغفورا له » ...
وأخرج ابن حيان في صحيحه ، عن جندب بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ « يس » في ليلة ابتغاء وجه اللّه غفر له ».
وأخرج الإمام أحمد في مسنده ، عن معقل بن يسار ، أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : « البقرة سام القرآن ، ويس قلب القرآن. لا يقرأها رجل يريد اللّه والدار الآخرة إلا غفر له ، واقرءوها على موتاكم » أى : في ساعات الاحتضار وعند خروج الروح.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان. قال : كان المشيخة يقولون : إذا قرئت - يعنى يس - عند الميت ، خفف عنه بها .
وقال الآلوسى ما ملخصه : صح من حديث الإمام أحمد ، وأبى داود ، وابن ماجة ، والطبراني ، وغيرهم عن معقل بن يسار ، أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : « يس قلب القرآن ».
وذكر أنها تسمى المعمّة ، والمدافعة ، والقاضية ، ومعنى المعمة : التي تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة. ومعنى المدافعة التي تدفع عن صاحبها كل سوء ، ومعنى القاضية : التي تقضى له كل حاجة - بإذن اللّه وفضله.
3 - وقد افتتحت سورة « يس » بتأكيد صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، وبتكذيب أعدائه الذين أعرضوا عن دعوته ، وبتسليته عما أصابه منهم من أذى.
قال - تعالى - : يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.4 - ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك قصة أصحاب القرية ، وما جرى بينهم وبين الرسل الذين جاءوا إليهم لهدايتهم ، وكيف أهلك اللّه - تعالى - المكذبين لرسله ...(1/925)
قال - سبحانه - : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ.
5 - ثم تسوق السورة الكريمة بعد ذلك ، ألوانا من مظاهر قدرة اللّه - تعالى - ، ومن نعمه على عباده ، تلك النعم التي نراها في الأرض التي نعيش عليها ، وفي الخيرات التي تخرج منها ، كما نراها في الليل والنهار. وفي الشمس وفي القمر ، وفي غير ذلك من مظاهر نعمه التي لا تحصى.قال - تعالى - وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها ، وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ، وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ. سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ.
6 - وبعد هذا البيان الحكيم لمظاهر قدرة اللّه - تعالى - ، وفضله على عباده ، حكت السورة الكريمة جانبا من دعاوى المشركين الباطلة ، وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم ، وصورت أحوالهم عند ما يخرجون من قبورهم مسرعين ، ليقفوا بين يدي اللّه - تعالى للحساب والجزاء ... قال - تعالى - : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ، هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ. فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
7 - وبعد أن تحكى السورة الكريمة ما أعده اللّه تعالى بفضله وكرمه لعباده المؤمنين ، من جنات النعيم ، ومن خير عميم ، تعود فتحكى ما سيكون عليه الكافرون من هم وغم ، وكرب وبلاء ، بسبب كفرهم ، وتكذيبهم للحق الذي جاءهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .قال - تعالى - : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ. هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.
8 - ثم تنزه السورة الكريمة النبي - صلى الله عليه وسلم - عما اتهمه به أعداؤه ، من أنه شاعر ، وتسليه عما أصابه منهم ، وتبين للناس أن وظيفته - صلى الله عليه وسلم - إنما هي الإنذار والبلاغ.قال - تعالى - : وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ.
إلى أن يقول - سبحانه - : فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ.
9 - ثم تختتم السورة الكريمة بحكاية ما قاله أحد الأشقياء منكرا للبعث والحساب ، وردت عليه وعلى أمثاله برد جامع حكيم ، برشد كل عاقل إلى إمكانية البعث ، وأنه حق لا شك فيه ...قال - تعالى - : أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ مَنْ يُحْيِ(1/926)
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ، بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
10 - وبعد. فهذا عرض مجمل لسورة « يس » ومنه نرى ، أن هذه السورة الكريمة ، قد اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - وعلى كمال قدرته كما اهتمت بإبراز الأدلة المتعددة على أن البعث حق ، وعلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما يبلغه عن ربه ...
كما اهتمت بضرب الأمثال لبيان حسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار.
كل ذلك بأسلوب بليغ مؤثر ، يغلب عليه قصر الآيات ، وإيراد الشواهد المتنوعة على قدرة اللّه - تعالى - ، عن طريق مخلوقاته المبثوثة في هذا الكون ، والتي من شأن المتأمل فيها بعقل.
سليم ، أن يهتدى إلى الحق ، وإلى الصراط المستقيم. وصدق اللّه - تعالى - في قوله : سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ. (1)
سورة يس مكيّة ، وهي ثلاث وثمانون آية.
تسميتها : سميت سورة يس لافتتاحها بهذه الأحرف الهجائية ، التي قيل فيها إنها نداء معناه (يا إنسان) بلغة طي لأن تصغير إنسان : أنيسين ، فكأنه حذف الصدر منه ، وأخذ العجز ، وقال : يس أي أنيسين. وعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب مع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، بدليل قوله تعالى بعده. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة :
1 - بعد أن ذكر تعالى في سورة فاطر قوله : وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ [37] وقوله : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ ، لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ [42] والمراد به محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أعرضوا عنه وكذبوه ، افتتح هذه السورة بالقسم على صحة رسالته ، وأنه على صراط مستقيم ، وأنه أرسل لينذر قوما ما أنذر آباؤهم.
2 - هناك تشابه بين السورتين في إيراد بعض أدلة القدرة الإلهية الكونية ، فقال تعالى في سورة فاطر : وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [13] وقال في سورة يس : وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [37 - 38].
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (12 / 7)(1/927)
3 - وقال سبحانه في فاطر : وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [12] وقال في يس : وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [41].
مشتملاتها :
تضمنت هذه السورة كسائر السور المكية المفتتحة بأحرف هجائية الكلام عن أصول العقيدة من تعظيم القرآن الكريم ، وبيان قدرة اللّه ووحدانيته ، وتحديد مهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبشارة والإنذار ، وإثبات البعث بأدلة حسية مشاهدة من الخلق المبتدأ والإبداع الذي لم يسبق له مثيل.
وقد بدئت السورة بالقسم الإلهي بالقرآن الحكيم على أن محمدا رسول حقا من رب العالمين لينذر قومه العرب وغيرهم من الأمم ، فانقسم الناس من رسالته فريقين : فريق معاند لا أمل في إيمانه ، وفريق يرجى له الخير والهدى ، وأعمال كل من الفريقين محفوظة ، وآثارهم مدونة معلومة في العلم الأزلي القديم.
ثم ضرب المثل لهم بأهل قرية كذبوا رسلهم واحدا بعد الآخر ، وكذبوا الناصح لهم وقتلوه ، فدخل الجنة ، ودخلوا هم النار. وأعقب ذلك تذكيرهم بتدمير الأمم المكذبة الغابرة.
وانتقل البيان إلى إثبات البعث والقدرة والوحدانية بإحياء الأرض الميتة ، وبيان قدرة اللّه الباهرة في الكون من تعاقب الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب السيارة والثابتة ، وتسيير السفن في البحار.
وإزاء ذلك هزم الجاحدون ، وأنذروا بالعقاب السريع ، وفوجئوا بنقمة اللّه في تصوير أهوال القيامة ، وبعثهم من القبور بنفخة البعث والنشور ، فأعلنوا ندمهم ، وصرحوا بأن البعث حق ، ولكن لم يجدوا أمامهم إلا نار جهنم ، وكانوا قد وبخوا على اتباع وساوس الشيطان ، وأعلموا أن اللّه قادر على مسخهم في الدنيا.
وأما المؤمنون فيتمتعون بنعيم الجنان ، ويحسون بأنهم في أمن وسلام من رب رحيم.
ثم نفى اللّه تعالى كون رسوله شاعرا ، وأعلم الكافرين أنه منذر بالقرآن المبين أحياء القلوب ، وذكّر الناس قاطبة بضرورة شكر المنعم على ما أنعم عليهم من تذليل الأنعام ، والانتفاع بها في الطعام والشراب واللباس.
وندد اللّه تعالى باتخاذ المشركين آلهة من الأصنام أملا في نصرتها لهم يوم القيامة ، مع أنها عاجزة عن أي نفع ، وهم مع ذلك جنودها الطائعون.
وختمت السورة بالرد القاطع على منكري البعث بما يشاهدونه من ابتداء الخلق ، وتدرج الإنسان في أطوار النمو ، وإنبات الشجر الأخضر ثم جعله يابسا ، وخلق السموات والأرض ، وإعلان القرار النهائي(1/928)
الحتمي الناجم عن كل ذلك ، وهو قدرة اللّه الباهرة على إيجاد الأشياء بأسرع مما يتصور الإنسان ، وأنه الخالق المالك لكل شيء في السموات والأرض.
والخلاصة : أن السورة كلها إيقاظ شديد للمشاعر والوجدان ، وتحريك قوي للأحاسيس ، وفتح نفّاذ للقلوب ، لكي تبادر إلى الإقرار بالخالق وتوحيده ، والإيمان بالبعث والجزاء.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتاب أبي داود عن معقل بن يسار : «اقرؤوا يس على موتاكم». (1)
وهي مكية بالإجماع كما حكى القرطبي ، وعدد آياتها ثلاث وثمانون آية ، وقد ذكر في فضلها أحاديث كثيرة ، واللّه أعلم بصحتها.
وهي كالسور المكية المفتتحة بأحرف هجائية تعرضت للقرآن الكريم والنبي - صلى الله عليه وسلم - وإثبات البعث ، ثم ضرب الأمثال ، وذكر القصص ، والتعرض للآيات الكونية ، ومناقشة الكفار في بعض عقائدهم وأفعالهم ، ثم ذكر صور لمشاهد يوم القيامة ، والتعرض لمبدأ التوحيد والبعث مع الاستدلال بالمشاهد المحسوسة على ذلك ، وتفنيد شبهة المشركين وقطع حججهم ، وكل هذه الموضوعات ترمى إلى فتح قلوب غلف ، وإحياء نفوس طال عليها الأمد حتى قست فأصبحت كالحجارة أو أشد. (2)
صح من حديث الإمام أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجة والطبراني وغيرهم عن معقل بن يسار أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : يس قلب القرآن (3) ، وعد ذلك أحد أسمائها ،وبين حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة وجه إطلاق ذلك عليها بأن المدار على الإيمان وصحته بالاعتراف بالحشر والنشر وهو مقرر فيها على أبلغ وجه وأحسنه ولذا شبهت بالقلب الذي به صحة البدن وقوامه واستحسنه الإمام الرازي ، وأورد على ظاهره أن كل ما يجب الإيمان به لا يصح الإيمان بدونه فلا وجه لاختصاص الحشر والنشر بذلك. وأجيب بأن المراد بالصحة في كلام الحجة ما يقابل السقم والمرض ولا شك أن من صح إيمانه بالحشر يخاف من النار ويغرب في الجنة دار الأبرار فيرتدع عن المعاصي التي هي كأسقام الإيمان إذ بها يختل ويضعف ويشتغل بالطاعات التي هي كحفظ الصحة ومن لم يقو إيمانه به كان حاله على العكس فشابه الاعتراف به بالقلب الذي بصلاحه يصلح البدن وبفساده يفسد ، وجوز أن يقال وجه الشبه بالقلب أن به صلاح البدن وفساده وهو غير مشاهد في الحس وهو محل لانكشاف الحقائق والأمور الخفية وكذا الحشر من المغيبات وفيه يكون انكشاف الأمور والوقوف على حقائق المقدور وبملاحظته وإصلاح أسبابه تكون السعادة الأبدية وبالإعراض عنه وإفساد أسبابه يبتلي بالشقاوة السرمدية. وفي الكشف لعل
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (22 / 287) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (22 / 144)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 173)
(3) - قلت فيه جهالة !!(1/929)
الإشارة النبوة في تسمية هذه السورة قلبا وقلب كل شيء لبه وأصله الذي ما سواه إما من مقدماته وإما من متمماته إلى ما أسفلناه في تسمية الفاتحة بأم القرآن من أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب إرشاد العباد إلى غايتهم الكمالية في المعاد وذلك بالتحقق والتخلق المذكورين هنالك وهو المعبر عنه بسلوك الصراط المستقيم ومدار هذه السورة الكريمة على بيان ذلك أتم بيان ا ه.
ويعلم منه وجه اختصاص الحشر بما ذكر في كلام الحجة فلا وجه لقول البعض في الاعتراض عليه فلا وجه إلخ ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى آخر الكلام في تفسير السورة الإشارة إلى ما اشتملت عليه من أمهات علم الأصول والمسائل المعتبرة بين الفحول وتقريرها إياها بأبلغ وجه وأتمه ، ولعل هذا هو السر في الأمر الوارد في صحيح الأخبار بقراءتها على الموتى أي المحتضرين ، وتسمى أيضا العظيمة عند اللّه تعالى.
أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة وحسنه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إن في القرآن لسورة تدعى العظيمة عند اللّه تعالى ويدعى صاحبها الشريف عند اللّه تعالى يشفع صاحبها يوم القيامة في أكثر من ربيعة ومضرو هي سورة يس وذكر أنها تسمى أيضا المعمة والمدافعة القاضية».
أخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : «سورة يس تدعى في التوراة المعمة تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة وتكابد عنه بلوى الدنيا والآخرة وتدفع عنه أهاويل الدنيا والآخرة ، وتدعى المدافعة القاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة» الخبر
وتعقبه البيهقي فقال : تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الجدعاني عن سليمان بن دفاع وهو منكر ، وهي على ما أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس مكية ، واستثنى منها بعضهم قوله تعالى : إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى الآية مدعيا أنها نزلت بالمدينة لما أراد بنو سلمة النقلة إلى قرب مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا في ناحية المدينة فقال عليه الصلاة والسلام : «إن آثاركم تكتب» فلم ينتقلوا ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما قيل في ذلك وقوله سبحانه : وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ الآية لأنها نزلت في المنافقين فتكون مدنية.وتعقب بأنه لا صحة له ، وآيها ثلاث وثمانون آية في الكوفي واثنتان وثمانون في غيره ، وجاء مما يشهد بفضلها وعلو شأنها عدة أخبار وآثار وقد مر آنفا بعض ذلك ، وصح من حديث معقل بن يسار لا يقرؤوها عبد يريد اللّه تعالى والدار الآخرة إلا غفر له ما تقدم من ذنبه.
وأخرج الترمذي والدارمي من حديث أنس «من قرأ يس كتب اللّه تعالى له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات»
ولا يلزم من هذا تفضيل الشيء على نفسه إذ المراد بقراءة القرآن قراءته دون يس ، وقال الخفاجي : لا يلزم ذلك إذ يكفي في صحة التفضيل المذكور التغاير الاعتباري فإن يس من حيث تلاوتها فردة غير كونها مقروءة في جملته كما إذا قلت : الحسناء في الحلة الحمراء أحسن منها في البيضاء وقد يكون للشيء مفردا(1/930)
ما ليس له مجموعا مع غيره كما يشاهد في بعض الأدوية ورجا أن يكون أقرب مما قدمنا وأنا لا أرجو ذلك ، والظاهر أنه يكتب له الثواب المذكور مضاعفا أي كل حرف بعشرة حسنات ولا بدع في تفضيل العمل القليل على الكثير فلله تعالى أن يمن بما شاء على من شاء ، ألا ترى ما صح أن هذه الأمة أقصر الأمم أعمارا وأكثرها ثوابا وأنكر الخصوصيات مكابرة ، وللّه تعالى در من قال :
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
وذكر بعضهم أن من قرأها أعطي من الأجر كمن قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي قلابة - وهو من كبار التابعين - أن من قرأها فكأنما قرأ القرآن إحدى عشرة مرة.
وعن أبي سعيد أنه قال من قرأ يس مرة فكأنما قرأ القرآن مرتين.
وحديث العشر مرفوع عن ابن عباس ومعقل بن يسار وعقبة بن عامر وأبي هريرة وأنس رضي اللّه تعالى عنهم فعليه المعول (1) ، ووجهه اتصالها بما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي أنه لما ذكر في سورة [فاطر : 37 ، 42] قوله سبحانه : وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ وقوله تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ إلى قوله سبحانه : فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وأريد به محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد أعرضوا عنه وكذبوه افتتح هذه السورة بالإقسام على صحة رسالته عليه الصلاة والسلام وأنه على صراط مستقيم لينذر قوما ما أنذر آباؤهم وقال سبحانه في [فاطر : 13] وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ وفي هذه السورة وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ... وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس : 38] إلى غير ذلك ولا يخفى أن أمر المناسبة يتم على تفسير النذير بغيره - صلى الله عليه وسلم - أيضا فتأمل. (2)
* سورة يس مكية وقد تناولت مواضيع أساسية ثلاثة وهى : (الإيمان بالبعث والنشور ، وقصة أهل القرية ، والأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين ).
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالقرآن العظيم على صحة الوحي ، وصدق رسالة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ثم تحدثت عن كفار قريش ، الذين تمادوا في الغي والضلال ، وكذبوا سيد الرسل محمد بن عبد الله ، فحق عليهم عذاب الله وانتقامه. ثم ساقت قصة أهل القرية " إنطاكية " الذين كذبوا الرسل ، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة ، على طريقة القرآن في استخدام القصص للعظة والاعتبار .
* وذكرت موقف الداعية المؤمن (حبيب النجار) الذي نصح قومه فقتلوه فأدخله الله الجنة ، ولم يمهل المجرمين بل أخذهم بصيحة الهلاك والدمار .
__________
(1) - انظر كتابي الخلاصة في تفسير سورة يس حول فضائل السورة وتخريجها .
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (11 / 381)(1/931)
* وتحدثت السورة عن دلائل القدرة والوحدانية ، في هذا الكون العجيب ، بدءا من مشهد الأرض الجرداء تدب فيها الحياة ، ثم مشهد الليل ينسلخ عنه النهار ، فإذا هو ظلام دامس ، ثم مشهد الشمس الساطعة تدور بقدرة الله في فلك لا تتخطاه ، ثم مشهد القمر يتدرج في منازله ، ثم مشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين ، وكلها دلائل باهرة على قدرة الله جل وعلا .
* وتحدثت عن القيامة وأهوالها ، وعن نفخة البعث والنشور ، التي يقوم الناس فيها من القبور ، وعن أهل الجنة وأهل النار ، والتفريق بين المؤمنين والمجرمين في ذلك اليوم الرهيب ، حتى يستقر السعداء في روضات النعيم ، والأشقياء في دركات الجحيم .
* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن الموضوع الأساسي ، وهو موضوع " البعث والجزاء " وأقامت الأدلة والبراهين على حدوثه ، وعلى صدقه . (1)
وقال دروزة : " في السورة توكيد لرسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدقها وتنويه بالقرآن. وتقريع للكفار وتنديد بعقائدهم وشدّة غفلتهم وعنادهم. وفيها قصة من القصص المسيحية كما فيها تنويه بنعم اللّه وبعض مشاهد الكون ، وإنذار وتبشير بيوم القيامة وبعض مشاهده ومصائر المؤمنين والكافرين فيه.وفصول السورة منسجمة ومترابطة تسوغ القول إنها نزلت جملة واحدة أو متلاحقة" (2)
مقصودها إثبات الرسالة التي هي روح الوجود وقلب جميع الحقائق وبها قوامه وصلاحها للملارسل بها الذي هو خالصة المرسلين الذين هم قلب الموجودات كلها ذوات ومعاني إلى أهل مكة أم القرى وقلب الأرض وهم قريش قلب العرب الذين هم فلب الناس ، بصلاحهم صلاحهم كلهم وبفسادهم فسادهم ، فلذلك كان من حولهم جميع أهل الأرض ، وجل فائدة الرسالة إثبات اللوحدانية التي هي قلب الإعتقاد وخالصه وعموده للعزيز الرحيم ذي الجلال والإكرام ، وإنذار يوم الحجمع الذي به - مع ستره عن العيان الذي هو من خواص القلب - صلاح الخلق ، فهو قلب الأكوان ، وبه الصلاح أو الفساد للإنسان ، وعلى ذلك تنطبق معاني أسمائها : يس والقلب والدافعة والقاضية والمعمة ، وأما يس فسيأتي بيانه من جهة إشارته إلى سر كونها قلبا المشير إلى البعث الذي هو من أجل مقاصدها الذي به يكون صلاح القلب الذي به يكون قبول ما ذكر ، وأما الباقي فإن من اعتقد الرسالة كفته ودفعت عنه جميع مهمه ، وقضت له بكل خير ، وأعطته كل مراد ، وكل منها له أتم نظر إلى القلب كما لا يخفى ، والمعمة : الشاملة بالخير
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 83)
(2) - التفسير الحديث لدروزة - (3 / 20)(1/932)
والبركة ، قال في القاموس : يقال : عمهم بالعطية وهو معم خير من خيره ، فقد لاج أن هذه السورة الشريعة لما كانت قلبا كان كل شيء فيها له نظر عميق إلى القلبية (1)
وفي الظلال : " هذه السورة المكية ذات فواصل قصيرة. وإيقاعات سريعة. ومن ثم جاء عدد آياتها ثلاثا وثمانين ، بينما هي أصغر وأقصر من سابقتها - سورة فاطر - وعدد آياتها خمس وأربعون.
وقصر الفواصل مع سرعة الإيقاع يطبع السورة بطابع خاص ، فتتلاحق إيقاعاتها ، وتدق على الحس دقات متوالية ، يعمل على مضاعفة أثرها ما تحمله معها من الصور والظلال التي تخلعها المشاهد المتتابعة من بدء السورة إلى نهايتها. وهي متنوعة وموحية وعميقة الآثار.
والموضوعات الرئيسية للسورة هي موضوعات السور المكية. وهدفها الأول هو بناء أسس العقيدة. فهي تتعرض لطبيعة الوحي وصدق الرسالة منذ افتتاحها : «يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ..». وتسوق قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة وتعرض هذه العاقبة في القصة على طريقة القرآن في استخدام القصص لتدعيم قضاياه. وقرب نهاية السورة تعود إلى الموضوع ذاته : «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ» ..
كذلك تتعرض السورة لقضية الألوهية والوحدانية. فيجيء استنكار الشرك على لسان الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ليحاج قومه في شأن المرسلين وهو يقول : «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ؟ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. وقرب ختام السورة يجيء ذكر هذا الموضوع مرة أخرى : «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ. لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ»
والقضية التي يشتد عليها التركيز في السورة هي قضية البعث والنشور ، وهي تتردد في مواضع كثيرة في السورة.
تجيء في أولها : «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» .. وتأتي في قصة أصحاب القرية ، فيما وقع للرجل المؤمن. وقد كان جزاؤها العاجل في السياق : «قِيلَ : ادْخُلِ الْجَنَّةَ. قالَ : يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» .. ثم ترد في وسط السورة : «وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ» .. ثم يستطرد السياق إلى مشهد كامل من
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (6 / 239)(1/933)
مشاهد القيامة. وفي نهاية السورة ترد هذه القضية في صورة حوار : «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ. قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» ..
هذه القضايا المتعلقة ببناء العقيدة من أساسها ، تتكرر في السور المكية. ولكنها تعرض في كل مرة من زاوية معينة ، تحت ضوء معين ، مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها ، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها. هذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة من مشاهد القيامة - بصفة خاصة - ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها.
ومن مصارع الغابرين على مدار القرون. ثم من المشاهد الكونية الكثيرة المتنوعة الموحية : مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة. ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام. ومشهد الشمس تجري لمستقر لها. ومشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كالعرجون القديم. ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين. ومشهد الأنعام مسخرة للآدميين. ومشهد النطفة ثم مشهدها إنسانا وهو خصيم مبين! ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار التي يوقدون! وإلى جوار هذه المشاهد مؤثرات أخرى تلمس الوجدان الإنساني وتوقظه : منها صورة المكذبين الذين حقت عليهم كلمة اللّه بكفرهم فلم تعد تنفعهم الآيات والنذر : «إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ». ومنها صورة نفوسهم في سرهم وفي علانيتهم مكشوفة لعلم اللّه لا يداريها منه ستار .. ومنها تصوير وسيلة الخلق بكلمة لا تزيد : «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ» .. وكلها مؤثرات تلمس القلب البشري وهو يرى مصداقها في واقع الوجود.
ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط :
يبدأ الشوط الأول بالقسم بالحرفين : «يا. سين» وبالقرآن الحكيم ، على رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه على صراط مستقيم. يتلو ذلك الكشف عن النهاية البائسة للغافلين الذين يكذبون. وهي حكم اللّه عليهم بألا يجدوا إلى الهداية سبيلا ، وأن يحال بينهم وبينها أبدا. وبيان أن الإنذار إنما ينفع من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فاستعد قلبه لاستقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان .. ثم يوجه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يضرب لهم مثلا أصحاب القرية ، فيقص قصة التكذيب وعاقبة المكذبين. كما يعرض طبيعة الإيمان في قلب الرجل المؤمن وعاقبة الإيمان والتصديق ..
ومن ثم يبدأ الشوط الثاني بنداء الحسرة على العباد الذين ما يفتأون يكذبون كل رسول ويستهزئون به. غير معتبرين بمصارع المكذبين ، ولا متيقظين لآيات اللّه في الكون وهي كثير .. وهنا يعرض تلك المشاهد الكونية التي سبقت الإشارة إليها في تقديم السورة ، كما يعرض مشهدا مطولا من مشاهد القيامة فيه الكثير من التفصيل.(1/934)
والشوط الثالث يكاد يلخص موضوعات السورة كلها. فينفي في أوله أن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - شعر ، وينفي عن الرسول كل علاقة بالشعر أصلا. ثم يعرض بعض المشاهد واللمسات الدالة على الألوهية المتفردة ، وينعى عليهم اتخاذ آلهة من دون اللّه يبتغون عندهم النصر وهم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة المدعاة!. ويتناول قضية البعث والنشور فيذكرهم بالنشأة الأولى من نطفة ليروا أن إحياء العظام وهي رميم كتلك النشأة ولا غرابة! ويذكرهم بالشجر الأخضر الذي تكمن فيه النار وهما في الظاهر بعيد من بعيد! وبخلق السماوات والأرض وهو شاهد بالقدرة على خلق أمثالهم من البشر في الأولى والآخرة .. وأخيرا يجيء الإيقاع الأخير في السورة : «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». (1)
أهم مقاصد هذه السورة
(1) بيان أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول من عند اللّه حقا ، وأنه نذير للأميين وغيرهم.
(2) المنذرون من النبي - صلى الله عليه وسلم - صنفان : صنف ميئوس من صلاحه ، وآخر قد سعى لفلاحه.
(3) أعمال الفريقين تحصى عليهم ، فتحفظ أخبارهم ، وتكتب آثارهم.
(4) ضرب المثل لهم بأهل أنطاكية ، إذ كذبوا الناصح لهم وقتلوه فدخلوا النار ودخل الجنة بما قدم من إيمان وعمل صالح وهداية وإرشاد.
(5) الدليل الطبيعي والعقلي على البعث.
(6) تبيان قدرة اللّه ووحدانيته وعلمه ورحمته الشاملة.
(7) جزاء الجاحدين على كفرانهم أنعم اللّه عليهم وسرعة أخذهم وندمهم حين معاينة العذاب.
(8) الجنة ونعيمها وما أعد للمؤمنين فيها.
(9) توبيخ الكافرين على اتباعهم همزات الشياطين.
(10) قدرته تعالى على مسخهم في الدنيا وطمس أعينهم.
(11) الانتفاع بالأنعام في المأكل والمشرب والملبس.
(12) إثبات البعث بما أقامه من أدلة في الآفاق والأنفس. (2)
===============
__________
(1) - في ظلال القرآن ، ج 5 ، ص : 2956
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (23 / 40)(1/935)
(37) سورة الصافات
اسمها المشهور المتفق عليه "الصافات".وبذلك سميت في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف كلها،ولم يثبت شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تسميتها،وقال في الإتقان:"رأيت في كلام الجعبري أن سورة "الصافات" تسمى "سورة الذبيح" وذلك يحتاج إلى مستند من الأثر".
ووجه تسميتها باسم "الصافات" وقوع هذا اللفظ فيها بالمعنى الذي أريد به أنه وصف الملائكة وإن كان قد وقع في سورة "الملك" لكن بمعنى آخر إذ أريد هنالك صفة الطير،على أن الأشهر أن "سورة الملك" نزلت بعد "سورة الصافات".
وهي مكية بالاتفاق وهي السادسة والخمسون في تعداد نزول السور،نزلت بعد سورة الأنعام وقبل سورة لقمان.
وعدت آيها مائة واثنتين وثمانين عبد أكثر أهل العدد.وعدها البصريون مائة وإحدى وثمانين.
أغراضها
إثبات وحدانية الله تعالى،وسوق دلائل كثيرة على ذلك دلت على انفراده بصنع المخلوقات العظيمة التي لا قبل لغيره بصنعها وهي العوالم السماوية بأجزائها وسكنها ولا قبل لمن على الأرض أن يتطرق في ذلك.إثبات أن البعث يعقبه الحشر والجزاء.ووصف حال المشركين يوم الجزاء ووقوع بعضهم في بعض.ووصف حسن أحوال المؤمنين ونعيمهم.ومذاكرتهم فيما كان يجري بينهم وبين بعض المشركين من أصحابهم في الجاهلية ومحاولتهم صرفهم عن الإسلام.ثم انتقل إلى تنظير دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - قومه بدعوة الرسل من قبله،وكيف نصر الله رسله ورفع شأنهم وبارك عليهم.وأدمج في خلال ذلك شيء من مناقبه وفضائلهم وقوتهم في دين الله وما نجاهم الله من الكروب التي حفت بهم. وخاصة منقبة الذبيحة،والإشارة إلى أنه إسماعيل.ووصف ما حل بالأمم الذين كذبوهم.ثم الأنحاء على المشركين فساد معتقداتهم في الله ونسبتهم إليه الشركاء.وقولهم:الملائكة بنات الله،وتكذيب الملائكة إياهم على رؤوس الأشهاد.وقولهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن وكيف كانوا يودون أن يكون لهم كتاب.ثم وعد الله رسوله بالنص كدأب المرسلين ودأب المؤمنين السابقين،وأن عذاب الله نازل بالمشركين، وتخلص العاقبة الحسنى للمؤمنين.وكانت فاتحتها مناسبة لأغراضها بأن القسم بالملائكة مناسب لإثبات الوحدانية لأن الأصنام لم يدعوا لها ملائكة،والذي تخدمه الملائكة هو الإله الحق ولأن الملائكة من جملة المخلوقات الدال خلقها على عظم الخالق،ويؤذن القسم بأنها أشرف المخلوقات العلوية.(1/936)
ثم إن الصفات التي لوحظت في القسم بها مناسبة للأغراض المذكورة بعدها،فـ {الصافات} يناسب عظمة ربها،و {الزاجرات} يناسب قذف الشياطين عن السماوات،ويناسب تسيير الكواكب وحفظها من أن يدرك بعضها بعضا،ويناسب زجرها الناس في المحشر.و {التاليات ذكرا}يناسب أحوال الرسول والرسل عليهم الصلاة والسلام وما أرسلوا به إلى أقوامهم.
هذا وفي الافتتاح بالقسم تشويق إلى معرفة المقسم عليه ليقبل عليه السامع بشراشره.فقد استكملت فاتحة السورة أحسن وجوه البيان وأكملها. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « يس » بقوله تعالى : « فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ».وبدئت سورة الصافات بهذا القسم الذي يقسم به ـ سبحانه ـ على تلك الحقيقة ، وهى وحدانية الألوهية ، التي هى من مقتضى ملكية اللّه لكلّ شىء .. فإذا كان اللّه هو مالك لكل شىء ، كان من مقتضى هذا أن ينفرد بالألوهية ، وألا يشاركه فى هذا الوجود أحد ، وإلا كانت ملكينه له غير تامة .. وأما وملكيته سبحانه ملكية مطلقة لهذا الوجود ، فهو ـ وحده سبحانه ـ صاحب الأمر فيه ، وإليه وحده يكون ولاء كل موجود. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة الصافات هي السورة السابعة والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها كما ذكر صاحب الإتقان - بعد سورة « الأنعام ».
ومعنى ذلك أن نزولها كان في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة ، لأننا قد سبق أن قلنا عند تفسيرنا لسورة الأنعام ، أنه يغلب على الظن أن نزولها كان في السنة الرابعة من البعثة .
2 - قال الآلوسى : هي مكية ولم يحكوا في ذلك خلافا. وهي مائة وإحدى وثمانون آية عند البصريين ، ومائة واثنتان وثمانون آية عند غيرهم .
وتعتبر هذه السورة - من حيث عدد الآيات - السورة الثالثة من بين السور المكية ، ولا يفوقها في ذلك سوى سورتي الأعراف والشعراء.
3 - وسميت بهذا الاسم لافتتاحها بقوله - تعالى - : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. وقد سماها بعض العلماء بسورة « الذبيح » ، وذلك لأن قصة الذبيح لم تأت في سور أخرى سواها.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (23 / 5)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (12 / 960)(1/937)
4 - وقد افتتحت سورة « الصافات » بقسم من اللّه - تعالى - بجماعات من خلقه على أن الألوهية والربوبية الحقة إنما هي للّه - تعالى - وحده ، ثم أقام - سبحانه - بعد ذلك ألوانا من الأدلة على صدق هذه القضية ، منها خلقه للسموات والأرض وما بينهما ، ومنها تزيينه لسماء الدنيا بالكواكب.قال - تعالى - : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ. إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ.
5 - ثم حكى - سبحانه - بعض الشبهات التي تذرع بها المشركون في إنكارهم للبعث
والحساب ، ورد عليها بما يمحقها ، فقال - تعالى - : وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ. قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ.
6 - وبعد أن بين - سبحانه - سوء عاقبة هؤلاء المشركين ، وتوبيخ الملائكة لهم ، وإقبال بعضهم على بعض للتساؤل والتخاصم .. بعد كل ذلك بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين ، فقال - تعالى - . وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ : إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ.
7 - ثم حكى - سبحانه - جانبا من المحاورات التي تدور بين أهل الجنة وأهل النار ، وكيف أن أهل الجنة يتوجهون بالحمد والشكر لخالقهم ، حيث أنعم عليهم بنعمة الإيمان ، ولم يجعلهم من أهل النار الذين يأكلون من شجرة الزقوم.قال - تعالى - : إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ. أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ. إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ. فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ.
8 - ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانبا من قصة نوح مع قومه ، ومن قصة إبراهيم مع قومه. ومع ابنه إسماعيل - عليهما السلام.
ومن قصة موسى وهارون وإلياس ولوط ويونس - عليهم الصلاة والسلام - .
9 - ثم أخذت السورة الكريمة - في أواخرها - في توبيخ المشركين الذين جعلوا بين اللّه - سبحانه - وبين الملائكة نسبا ، ونزه - سبحانه - ذاته عن ذلك. وهدد أولئك الكافرين بأشد ألوان العذاب بسبب كفرهم وأقوالهم الباطلة.
وبين بأن عباده المؤمنين هم المنصورون ، وختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله :
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.(1/938)
10 - والمتأمل في هذه السورة الكريمة - بعد هذا العرض المجمل لآياتها - يراها بأنها قد اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - ، وعلى أن البعث حق ، وعلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما يبلغه عن ربه ، وذلك لكي تغرس العقيدة السليمة في النفوس .. كما يراها تهتم بحكاية أقوال المشركين وشبهاتهم .. ثم ترد على تلك الأقوال والشبهات بما يزهقها ويبطلها.
كما يراها - كذلك - تسوق ألوانا من المحاورات التي تدور بين المشركين فيما بينهم عند ما يحيط بهم العذاب يوم القيامة ، وألوانا من المحاورات التي تدور بينهم وبين أهل الجنة الذين نجاهم اللّه - تعالى - من النار وسعيرها.
كما يراها - أيضا - تسوق لنا نماذج من قصص الأنبياء مع أقوامهم ، تارة بشيء من التفصيل كما في قصة إبراهيم مع قومه ، وتارة بشيء من التركيز والإجمال كما في بقية قصص الأنبياء الذين ورد الحديث عنهم فيها.
وتمتاز بعرضها للمعاني والأحداث بأسلوب مؤثر. ترى فيه قصر الفواصل وكثرة المشاهد ، والمواقف. مما يجعل القارئ لآياتها في شوق إلى ما تسوقه من نتائج. (1)
في السورة حكاية لبعض مواقف وأقوال وعقائد العرب. وفصول من المناظرات والمشاهد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والكفار. وبيان لمصير المخلصين والجاحدين يوم القيامة. وسلسلة قصص بعض الأنبياء وأقوامهم ومصائرهم وفيها بعض مواضيع السورة السابقة حتى تكاد أن تكون تتمة لها أو تعقيبا عليها مما فيه قرينة على صحة نزولها بعد سورة الأنعام ، وفي أسلوبها ونظمها خصوصية فنية. ففيها تسجيع متنوع القوافي وقد ألحقت حلقات سلسلة القصص بلازمة تتكرر عقب كل قصة مثل حلقات سورة الشعراء مع اختلاف الصيغة وفصولها مترابطة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة وهي خامسة سور القرآن في عدد الآيات. (2)
سورة الصافات مكيّة ، وهي مائة واثنتان وثمانون آية.
تسميتها : سميت سورة الصافات لافتتاحها بالقسم الإلهي بالصّافات وهم الملائكة الأطهار الذين يصطفّون في السماء كصفوف الناس في الصلاة في الدنيا.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من نواح ثلاث :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (12 / 63)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (4 / 207)(1/939)
1 - وجود الشبه بين أول هذه السورة وآخر يس السورة المتقدمة في بيان قدرته تعالى الشاملة لكل شيء في السموات والأرض ، ومنه المعاد وإحياء الموتى ، لأن اللّه تعالى كما في يس هو المنشئ السريع الإنجاز للأشياء ، ولأنه كما في مطلع هذه السورة واحد لا شريك له ، لأن سرعة الإنجاز لا تتهيأ إلا إذا كان الخالق الموجد واحدا.
2 - هذه السورة بعد يس كالأعراف بعد الأنعام ، وكالشعراء بعد الفرقان في تفصيل أحوال القرون الماضية ، المشار إليهم وإلى إهلاكهم في سورة يس المتقدمة في قوله سبحانه : أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [31].
3 - توضح هذه السورة ما أجمل في السورة السابقة من أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين في الدنيا والآخرة.
مشتملاتها :
موضوع هذه السورة كسائر السّور المكية في بيان أصول الاعتقاد : وهي التوحيد ، والوحي والنبوة ، وإثبات البعث والجزاء.
وقد تحدثت عن مغيبات ثلاثة : هي الملائكة ، والجنّ ، والبعث والجزاء في الآخرة ، فابتدأت بالكلام عن الملائكة الصّافات قوائمها أو أجنحتها في السماء استعدادا لتنفيذ أمر اللّه ، والزّاجرات السّحاب لتصريفه كيفما يشاء اللّه ، والذين أقسم اللّه بهم للدلالة على التوحيد وخلق السموات والأرض ، وتزيينها بالكواكب.
ثم أشارت إلى الجنّ ومطاردتهم بالشّهب الثاقبة المرصودة لهذا الغرض ، للرّدّ على المشركين الجاهليين الذين زعموا وجود نسب وقرابة بين اللّه تعالى وبين الجنّ ، وأبانت موقف المشركين من البعث وإنكاره وأحوالهم في الدنيا والآخرة ، وردت عليهم ردّا قاطعا حاسما بأنهم محشورون في زجرة صيحة واحدة وهم داخرون أذلة صاغرون وأنهم لا يفتنون إلا ذوي العقول الضعيفة ، وتوبيخهم على قولهم : الملائكة بنات اللّه ، وتنزيه اللّه عن ذلك.
وأبانت هذه السورة أيضا سوء أحوال الكافرين في القيامة ، وذكرتهم بالحوار الذي دار بينهم وبين المؤمنين في الدنيا ، ثم حسمت الأمر ببيان مآل كل من الفريقين ، حيث يخلد المؤمنون في الجنة التي وصف نعيمها ، ويخلد الكافرون في النار التي وصف جحيمها ، للعبرة والعظة وبيان العاقبة.
وناسب هذا الاستعراض التذكير الموجز بقصص بعض الأنبياء السابقين ، وهم نوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وموسى ، وهارون ، وإلياس ، ولوط ، ويونس عليهم السلام. ولكنها فصّلت قصة إبراهيم في موقفين حاسمين : أولهما - تحطيمه الأوثان. وثانيهما - إقدامه على ذبح ابنه ، ليتجلى للناس جميعا(1/940)
مدى (الإيمان والابتلاء والتضحية) فإنه بادر لتنفيذ أمر ربّه ، ممتحنا صبره ، مجتازا بالإيمان والصدق محنة الابتلاء ، مضحيّا في سبيل رضوان اللّه بابنه الذي رزقه ، فأكرمه اللّه بالفداء الذي جعل سنّة في الأضحية.
كذلك فصلت السورة قصة يونس عليه السلام العجيبة ، وإنقاذه من بطن الحوت ، لتوبته وكونه من الذاكرين اللّه ، المصلّين له.
وختمت السورة بالإشارة إلى ما بدئت به من وصف الملائكة بأنهم الصّافون المسبّحون ، وبيان نصرة اللّه لأنبيائه وأوليائه في الدنيا والآخرة ، ومدح المرسلين وسلام اللّه عليهم ، وتنزيه اللّه عن أوصاف المشركين ، وثناؤه على نفسه وحمده لذاته بأنه رب العزة ورب العالمين. (1)
مكية بالإجماع وآياتها ثنتان وثمانون ومائة. وهي كباقي السور المكية فيها الكلام على التوحيد وإثبات البعث. والتعرض للمشركين وأحوالهم في الدنيا والآخرة والتعرض لإثبات النبوة. والكلام على المؤمنين وأحوالهم في الدنيا والآخرة. مع ذكر قصص بعض الأنبياء وأممهم ، ثم كان ختام السورة مع مشركي مكة. وتقوية عزيمة المسلمين. وتوهين عضد الكافرين. (2)
مكية ولم يحكوا في ذلك خلافا وهي مائة وإحدى وثمانون آية عند البصريين ومائة واثنتان وثمانون عند غيرهم ، وفيها تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكها في قوله تعالى في السورة المتقدمة أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [يس : 31] وفيها من تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة ما هو كالإيضاح لما في تلك السورة من ذلك ، وذكر فيها شيء مما يتعلق بالكواكب لم يذكر فيما تقدم ، ولمجموع ما ذكر ذكرت بعدها. وفي البحر مناسبة أول هذه السورة لآخر سورة يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته سبحانه على إحياء الموتى وأنه هو منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان ذكر عز وجل هنا وحدانيته سبحانه إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا بكون المريد واحدا كما يشير إليه قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء : 22] (3)
* سورة الصافات من السور المكية التي تعني بأصول العقيدة الإسلامية " التوحيد ، الوحي ، البعث والجزاء " شأنها كشأن سائر السور المكية التي تهدف إلي تثبيت دعائم الإيمان. .
*ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن الملائكة الأبرار ، الصافات قوائمها في الصلاة ، أو أجنحتها في إرتقاب أمر الله ، الزاجرين للسحاب يسوقونه حيث شاء الله . . ثم تحدثت عن الجن وتعرضهم للرجم
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (23 / 60) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (23 / 41)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 197)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (12 / 63)(1/941)
بالشهب الثاقبة ، ردا علي أساطير أهل الجاهلية في إعتقادهم بأن هناك قرابة بين الله سبحانه وبين الجن ، وتحدثت السورة عن البعث والجزاء لإنكار المشركين له ، واستبعادهم للحياة مرة ثانية بعد أن يصبحوا عظاما ورفاتا [ والصافات صفا فالزاجرات زجرا . . ] الآيات .
*وتأكيدا لعقيدة الإيمان بالبعث ذكرت السورة قصة المؤمن والكافر " والحوار الذي دار بينهما في الدنيا ، ثم النتيجة التي آل إليها أمر كل منهما بخلود المؤمن في الجنة ، وخلود الكافر في النار [ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قال قائل منهم إني كان لي قرين . يقول أئنك لمن المصدقين . . ] الآيات .
* واستعرضت السورة الكريمة قصص بعض الأنبياء ، بدءا بنوح ، ثم إبراهيم ، ثم إسماعيل ، ثم قصة موسي وهارون ، ثم إلياس ولوط ، وذكرت بالتفصيل قصة (الإيمان والإبتلاء) في حادثة الذبيح (إسماعيل ) وما جري من أمر الرؤيا للخليل إبراهيم حتى أمر بذبح ولده ثم جاءه الفداء ، تعليما للمؤمنين كيف يكون أمر الإنقياد والإستسلام لأمر أحكم الحاكمين [ ولقد نادانا نوح فلنعم المجبيون . . ] الآيات .
*وختمت السورة الكريمة ببيان نصرة الله لأنبيائه وأوليائه في الدنيا والآخرة ، وإن العاقبة للمتقين [ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون . . ] الآيات إلى خاتمة السورة الكريمة .
التسمية : سميت السورة (سورة الصافات ) تذكيرا للعباد بالملأ الأعلي من الملائكة الأطهار ، الذين لا ينفكون عن عبادة الله [ يسبحون الليل والنهار لا يفترون ] وبيان وظائفهم التي كلفوا بها . (1)
مقصودها الاستدلال على آخر يس من التنزه عن النقائص اللازم منه رد العباد للفصل بينهم بالعدل اللازم منه الوحدانية ، وذلك هو المعنى ذلك أشار إليه وسمها بالصافات ) وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون (2)
هذه السورة المكية - كسابقتها - قصيرة الفواصل ، سريعة الإيقاع ، كثيرة المشاهد والمواقف ، متنوعة الصور والظلال ، عميقة المؤثرات ، وبعضها عنيف الوقع ، عنيف التأثير.
وهي تستهدف - كسائر السور المكية - بناء العقيدة في النفوس ، وتخليصها من شوائب الشرك في كل صوره وأشكاله. ولكنها - بصفة خاصة - تعالج صورة معينة من صور الشرك التي كانت سائدة في البيئة العربية الأولى.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 99)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (6 / 289)(1/942)
وتقف أمام هذه الصورة طويلا وتكشف عن زيفها وبطلانها بوسائل شتى .. تلك هي الصورة التي كانت جاهلية العرب تستسيغها ، وهي تزعم أن هناك قرابة بين اللّه - سبحانه - وبين الجن. وتستطرد في تلك الأسطورة فتزعم أنه من التزاوج بين اللّه - تعالى - والجنة ولدت الملائكة. ثم تزعم أن الملائكة إناث ، وأنهن بنات اللّه! هذه الأسطورة تتعرض لحملة قوية في هذه السورة تكشف عن تهافتها وسخفها. ونظرا لأنها هي الموضوع البارز الذي تعالجه السورة ، فإنها تبدأ بالإشارة إلى طوائف من الملائكة : «وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً» .. ويتلوها حديث عن الشياطين المردة ، وتعرضهم للرجم بالشهب الثاقبة كي لا يقربوا من الملأ الأعلى. ولا يتسمعوا لما يدور فيه ولو كانوا حيث تزعم لهم أساطير الجاهلية ما طوردوا هذه المطاردة! كذلك يشبه ثمار شجرة الزقوم التي يعذب بها الظالمون في جهنم بأنها كرؤوس الشياطين في معرض التقبيح والتفظيع! وفي نهاية السورة تأتي الحملة المباشرة على تلك الأسطورة المتهافتة : «فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ؟ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ : وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ .. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ!» ..
وإلى جانب علاج هذه الصورة الخاصة من صور الشرك الجاهلية تتناول السورة جوانب العقيدة الأخرى التي تتناولها السور المكية. فتثبت فكرة التوحيد مستذلة بالكون المشهود : «إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ» .. وتنص على أن الشرك هو السبب في عذاب المعذبين في ثنايا مشهد من مشاهد القيامة :
«فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ. إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ : لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ : أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ؟ بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ. إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ. وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
كذلك تتناول قضية البعث والحساب والجزاء. «وَقالُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ» .. ثم تعرض بهذه المناسبة مشهدا مطولا فريدا من مشاهد القيامة الحافلة بالمناظر والحركات والانفعالات والمفاجئات!
وتعرض لقضية الوحي والرسالة الذي ورد من قولهم : «أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ؟» والرد عليهم : «بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ» ..
وبمناسبة ضلالهم وتكذيبهم. تعرض سلسلة من قصص الرسل : نوح وإبراهيم وبنيه. وموسى وهارون. وإلياس.ولوط. ويونس. تتكشف فيها رحمة اللّه ونصره لرسله وأخذه للمكذبين بالعذاب والتنكيل :(1/943)
«وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» ..
وتبرز في هذا القصص قصة إبراهيم خاصة مع ابنه إسماعيل. قصة الذبح والفداء وتبرز فيها الطاعة والاستسلام للّه في أروع صورها وأعمقها وأرفعها وتبلغ الذروة التي لا يبلغها إلا الإيمان الخالص الذي يرفع النفوس إلى ذلك الأفق السامق الوضيء.
والمؤثرات الموحية التي تصاحب عرض موضوعات السور وقضاياها ، تتمثل بشكل واضح في : مشهد السماء وكواكبها وشهبها ورجومها : «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» ..
وفي مشاهد القيامة ومواقفها المثيرة ، ومفاجآتها الفريدة ، وانفعالاتها القوية. والمشاهد التي تحويها هذه السورة ذات طابع فريد حقا سنلمسه عند استعراضه تفصيلا في مكانه من السورة.
وفي القصص ومواقفه وإيحاءاته. وبخاصة في قصة إبراهيم وولده الذبيح إسماعيل - عليهما السّلام ، وترتفع المؤثرات الموحية هنا إلى الذروة التي تهز القلوب هزا عميقا عنيفا.
ذلك إلى الإيقاع الموسيقي في السورة وهو ذو طابع مميز يتفق مع صورها وظلالها ومشاهدها ومواقفها وإيحاءاتها المتلاحقة العميقة.
ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط رئيسية :
الشوط الأول يتضمن افتتاح السورة بالقسم بتلك الطوائف من الملائكة : والصافات صفا. فالزاجرات زجرا.
فالتاليات ذكرا على وحدانية اللّه رب المشارق ، مزين السماء بالكواكب. ثم تجيء مسألة الشياطين وتسمعهم للملأ الأعلى ورجمهم بالشهب الثاقبة. يتلوها سؤال لهم : «أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً» أم تلك الخلائق : الملائكة والسماء والكواكب والشياطين والشهب؟ للتوصل من هذا إلى تسفيه ما كانوا يقولونه عن البعث ، وإثبات ما كانوا يستبعدونه ويستهزئون بوقوعه. ومن ثم يعرض ذلك المشهد المطول للبعث والحساب والنعيم والعذاب.
وهو مشهد فريد ..
والشوط الثاني يبدأ بأن هؤلاء الضالين لهم نظائر في السابقين ، الذين جاءتهم النذر فكان أكثرهم من الضالين.(1/944)
ويستطرد في قصص أولئك المنذرين من قوم نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس وكيف كانت عاقبة المنذرين وعاقبة المؤمنين.
والشوط الثالث يتحدث عن تلك الأسطورة التي مر ذكرها : أسطورة الجن والملائكة. ويقرر كذلك وعد اللّه لرسله بالظفر والغلبة : «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» ..
وينتهي بختام السورة بتنزيه اللّه سبحانه والتسليم على رسله والاعتراف بربوبيته : «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. وهي القضايا التي تتناولها السورة في الصميم .. (1)
مجمل ماحوته السورة من موضوعات
(1) التوحيد ودليله في الآفاق والأنفس.
(2) خلق السموات والأرض ووصفه سبحانه لذلك.
(3) إنكار المشركين للبعث وما يتبع ذلك من محاورة أهل الجنة لأهل النار وهم يطلعون عليهم.
(4) وصف الجنة ونعيمها.
(5) قصص بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وإسماعيل.
(6) دفع فرية قالها المشركون وتوبيخهم عليها إذ قالوا : الملائكة بنات اللّه.
(7) تنزيه اللّه عن ذلك.
(8) بيان أن المشركين لا يفتنون إلا ذوى الأحلام الضعيفة المستعدة للاضلال
(9) وصف الملائكة بأنهم صافون مسبحون.
(10) مدح المرسلين وسلام اللّه عليهم.
(11) حمد اللّه وثناؤه على نفسه بأنه رب العزة ورب الخلق أجمعين. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2980)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (23 / 83)(1/945)
(38) سورة ص
سميت في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة والآثار عن السلف "سورة صاد" كما ينطق باسم حرف الصاد تسمية لها بأول كلمة منها هي صاد "بصاد فألف فدال ساكنة سكون وقوف" شأن حروف التهجي عند التهجي بها أن تكون موقوفة،أي ساكنة الأعجاز.وأما قول المعري يذكر سليمان عليه السلام:
وهو من سخرت له الإنس والج ... ن بما صح من شهادة صاد
فإنما هي كسرة القافية الساكنة تغير إلى الكسرة "لأن الكسر أصل في التخلص من السكون" كقول امرئ القيس:
تَقولُ وقد مالَ الغَبيطُ بِنا معاً ... عَقَرْتَ بَعِيري يا امرَأَ القَيْسِ فانْزِلِ
وفي "الإتقان" عن كتاب "جمال القراء" للسخاوي:"أن سورة ص تسمى أيضا سورة داود" ولم يذكر سنده في ذلك.وكتب اسمها في المصاحف بصورة حرف صاد مثل سائر الحروف المقطعة في أوائل السور اتباعا لما كتب في الصحف.وهي مكية في قول الجميع،وذكر في "الإتقان" أن الجعبري حكى قولا بأنها مدنية,قال السيوطي:"وهو خلاف حكاية جماعة الإجماع على أنها مكية".وعن الداني في كتاب "العدد" بأنها مدنية وقال:"إنه ليس بصحيح".
وهي السورة الثامنة والثلاثون في عداد نزول السورة نزلت بعد سورة { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} وقبل سورة الأعراف.وعدت آيها ستا وثمانين عند أهل الحجاز والشام والبصرة وعدها أيوب بن المتوكل البصري خمسا وثمانين.وعدت عند أهل الكوفة ثمانا وثمانين.
روى الترمذي عن ابن عباس قال:"مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعند أبي طالب مجلس رجل،فقام أبو جهل يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يجلس وشكوه إلى أبي طالب،فقال:"يا بن أخي ما تريد من قومك?"قال:"إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم العجم الجزية".قال:" كلمة واحدة". قال:"يا عم يقولوا لا إله إلا الله" فقالوا:"أإلها واحدا ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق،قال فنزل فيهم القرآن {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [صّ:1]إلى قوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [صّ:7]" قال:"حديث حسن".فهذا نص في أن نزولها في آخر حياة أبي طالب وهذا المرض مرض موته كما في أبن عطية فتكون هذه الصورة قد نزلت في سنة ثلاث قبل الهجرة.
أغراضها(1/946)
أصلها ما علمت من حديث الترمذي في سبب نزولها.وما اتصل به من توبيخ المشركين على تكذيبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتكبرهم عن قبول ما أرسل به،وتهديدهم بمثل ما حل بالأمم المكذبة قبلهم وأنهم إنما كذبوه لأنه جاء بتوحيد الله تعالى ولأنه اختص بالرسالة من دونه وتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيبهم وأن يقتدي بالرسل من قبله داود وأيوب وغيرهم وما جوزوا عن صبرهم،واستطراد الثناء على داود وسليمان وأيوب،وأتبع ذكر أنبياء آخرين لمناسبة سنذكرها.وإثبات البعث لحكمة جزاء العاملين بأعمالهم من خير وشر.وجزاء المؤمنين المتقين وضده من جزاء الطاغين والذين أضلوهم وقبحوا لهم الإسلام والمسلمين.ووصف أحوالهم يوم القيامة.
وذكر أول غواية حصلت وأصل كل ضلالة وهي غواية الشيطان في قصة السجود لآدم.وقد جاءت فاتحتها مناسبة لجميع أغراضها إذ ابتدئت بالقسم بالقرآن الذي كذب به المشركون،وجاء المقسم عليه أن الذين كفروا في عزة وشقاق وكل ما ذكر فيها من أحوال المكذبين سببه اعتزازهم وشقاقهم،ومن أحوال المؤمنين سببه ضد ذلك، مع ما في الافتتاح بالقسم من التشويق إلى ما بعده فكانت فاتحتها مستكملة خصائص حسن الابتداء. (1)
مناسبتها لما قبلها
كان من الآيات التي ختمت بها سورة الصافات قوله تعالى عن المشركين : « وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ » ـ وكان بدء سورة ص ردّا على هؤلاء المشركين ، وعلى ادعائهم هذا .. فهذا هو القرآن ذو الذكر قد جاءهم ..فماذا كان منهم ؟ لقد كذبوا به ، « وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ » !!.
كذلك كان مما ختمت به السورة السابقة قوله تعالى : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ».فجاء فى هذه السورة ـ سورة ص ـ « جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ » ـ جاء إخبارا بالغيب ، بما سيحل بهؤلاء المشركين ، وبما ينزل بهم من هزيمة هم وما يجمعون من جنود الباطل لحرب النبىّ ..
وهكذا يصفح ختام سورة الصافات ، بدء سورة (ص) مصافحة لقاء ، لا سلام مودّع. (2)
مقدمة
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (23 / 106)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (12 / 1045)(1/947)
1 - سورة « ص » هي السورة الثامنة والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة « القمر » وهي من السور المكية الخالصة. ويقال لها سورة « داود ».
قال الآلوسى : هي مكية - كما روى عن ابن عباس وغيره - وهي ثمان وثمانون آية في المصحف الكوفي. وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي ... وهي كالمتممة لسورة الصافات التي قبلها ، من حيث إنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء ، كداود وسليمان ... » .
2 - وقد افتتحت سورة « ص » بقسم من اللّه - تعالى - بالقرآن الكريم ، على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فيما يبلغه عن ربه.
ثم حكى - سبحانه - ما قاله المشركون فيما بينهم ، لإنكار نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولإنكار يوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب ، ورد عليهم بما يثبت جهلهم وغفلتهم واستكبارهم عن قبول الحق ..قال - تعالى - : وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ. أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ. أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ.
3 - ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما لحقه منهم من أذى وكيد ، فحكت له أن أقوام الرسل السابقين قد قابلوا رسلهم بالتكذيب ، وأمرته بالصبر على جهالاتهم ، وساقت جانبا من قصة داود - عليه السلام فذكرت بعض النعم التي أنعم اللّه - تعالى - بها عليه ، كما ذكرت ما دار بينه وبين الخصوم الذين تسوروا عليه المحراب.قال - تعالى - : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ. وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب. إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب. وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق. وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب. اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) ...
4 - وبعد هذا الحديث الذي فيه شيء من التفصيل عن وجوه النعم التي أنعم بها - سبحانه - على عبده داود ، وعن لون من ألوان الامتحانات التي امتحنه - تعالى - بها ، وعن الإرشادات الحكيمة التي أرشده اللّه - عز وجل - إليها ...
بعد كل ذلك ساق - سبحانه - أنواعا من الأدلة على وحدانيته وقدرته ، وبين أن حكمته قد اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والفجار.قال - تعالى - : أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
5 - ثم أثنى - سبحانه - بعد ذلك على نبيه سليمان - عليه السلام - وبين بعض النعم التي منحها له ، كما بين موقفه مما اختبره - تعالى - به ...(1/948)
قال - تعالى - : وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ. قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ. وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ.
6 - ثم مدح - سبحانه - نبيه أيوب - عليه السلام - على صبره ، وعلى كثرة تضرعه إلى ربه ، وكيف أنه - تعالى - قد كافأه على ذلك بما يستحقه.قال - تعالى - : وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ. وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ، وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ، إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً ، نِعْمَ الْعَبْدُ ، إِنَّهُ أَوَّابٌ.
7 - ثم أثنى - سبحانه - على أنبيائه : إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وإسماعيل واليسع وذا الكفل ، وبين ما أعده لهم ولأمثالهم من عباده الأخيار ، كما بين ما توعد به الفجار من عذاب أليم ..قال - تعالى - : هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ. جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ. مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ. وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ. هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ. إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ. هذا ، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ.
8 - ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالحديث عن قصة آدم وإبليس وكيف أن الملائكة جميعا سجدوا لآدم إلا إبليس فإنه أبى واستكبر وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. فكانت عاقبته الطرد من رحمة اللّه - تعالى - .
9 - ومن هذا العرض المجمل لسورة « ص » نرى أنها قد اهتمت اهتماما واضحا ، بإقامة الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته. وعلى صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن يوم القيامة حق ، كما اهتمت بحكاية شبهات المشركين ثم الرد عليها ، كما ذكرت جانبا من قصص بعض الأنبياء ليعتبر بقصصهم كل ذي عقل سليم ، كما أنها قد اهتمت ببيان حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة. (1)
في السورة حكاية لمواقف الكفار ومعارضتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحمله عليهم.
وتذكير لهم بأمثالهم. وفيها سلسلة متعددة الحلقات في قصص الأنبياء دون أقوامهم في معرض التسلية والتذكير والتنويه. وفيها قصة آدم والملائكة وإبليس.
وقد تخللها مواعظ وتلقينات بليغة وتقريرات عن مهمة النبي عليه السلام وعموم رسالته.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (12 / 125)(1/949)
وفصول السورة وآياتها مترابطة منسجمة ومتوازنة مما يدلّ على وحدة نزولها أو تلاحق فصولها في النزول. وفيها قرائن على صحة ترتيب نزولها وبخاصة بعد سورتي القمر وق. (1)
سورة ص مكيّة ، وهي ثمان وثمانون آية.
تسميتها :سميت سورة ص لافتتاحها بهذا الحرف العربي أحد أحرف الهجاء الثمانية والعشرين ، للدلالة على أن هذا القرآن العظيم مكون ومنظوم من حروف الهجاء العربية ، ومع ذلك لم يستطع العرب الفصحاء الإتيان بمثل أقصر سورة منه ، فبدئ به بهذه السورة كغيرها من السور المبدوءة بحروف هجائية ، بقصد تحدي العرب ، وإثبات إعجاز القرآن.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجهين :
الأول - أن اللّه تعالى حكى في آخر سورة الصافات التي قبلها قول الكفار :
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ثم كفروا به ، ثم افتتح هذه السورة بالقسم بالقرآن ذي الذكر ، لتفصيل المجمل هناك.
الثاني - أن هذه السورة بعد الصافات ، كطس - النمل بعد الشعراء ، وكطه والأنبياء بعد مريم ، وكيوسف بعد هود ، في كونها متممة لها بذكر من بقي من الأنبياء ممن لم يذكر في تلك ، مثل داود ، وسليمان ، وأيوب ، وآدم ، وأشار إلى بقية من ذكر.
مشتملاتها :
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية في بيان أصول العقيدة الإسلامية «التوحيد ، والنبوة ، والبعث» من خلال مناقشة المشركين في عقائدهم المناقضة لتلك الأصول ، وإيراد قصص الأنبياء للعظة والعبرة ، وبيان حال الكفار والمشركين يوم القيامة ، ووصف عذاب أهل النار ، ونعيم أهل الجنة.
ابتدأت السورة بالوصف الناقد لصفات المشركين من الكبرياء وإباء الحق والإعراض عنه ، مع تذكيرهم بعاقبة الماضين الذين حادوا عن الحق ، فهلكوا ، مثل قوم نوح وعاد وفرعون وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.
ومن أهم تلك الصفات ثلاث : إنكار الوحدانية ، وإنكار نبوة محمد ص ، وإنكار البعث والحساب.
ثم ذكرت قصة داود وسليمان وأيوب مفصلا ، وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل مجملا عليهم السلام.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 298)(1/950)
وانتقل البيان إلى الغاية الكبرى وهي إثبات البعث والحساب ووصف نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار.
ثم توجهت السورة بقصة بدء الخلق - قصة آدم عليه السلام وسجود الملائكة له إلا إبليس ، وطرده من الجنة ، وصبّ اللعنة عليه إلى يوم القيامة ، وتوعده وأتباعه بملء جهنم منهم.
وختمت السورة ببيان إخلاص النبي ص في تبليغ رسالته دون طلب أجر ، مما يدل على نبوته ، وأردفه بإعلان كون القرآن رسالة للثقلين : الإنس والجن ، وأن المشركين بعد موتهم يعلمون حقيقة أمره. (1)
هي مكية عند الجميع ، وعدد آياتها ست وثمانون آية.وهي تشمل مناقشة المشركين في عقائدهم والرد عليهم ، وذكر قصص بعض الأنبياء التي تؤيد هذا المعنى وخاصة قصة داود وسليمان ، وأيوب ، والتعرض للمشركين ، وبيان حالهم يوم القيامة مع ذكر قصة خلق آدم وسجود الملائكة له. (2)
مكية كما روي عن ابن عباس وغيره ، وقيل مدنية وليس بصحيح كما قال الداني وهي ثمان وثمانون آية في الكوفي وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي وخمس وثمانون في عد أيوب بن المتوكل وحده ، قيل ولم يقل أحد إن ص وحدها آية كما قيل في غيرها من الحروف في أوائل السور ، وفيه بحث وهي كالمتممة لما قبلها من حيث إنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء عليهم السلام كداود وسليمان ، ولما ذكر سبحانه فيما قبل عن الكفار أنهم قالوا لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات : 169] وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم بدأ عز وجل في هذه السورة بالقرآن ذي الذكر وفصل ما أجمل هناك من كفرهم وفي ذلك من المناسبة ما فيه ، ومن دقق النظر لاح له مناسبات أخر واللّه تعالى الموفق. (3)
سورة ص مكية ، وهدفها نفس هدف السور المكية ، التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية
*ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالقرآن المعجز المنزل على النبي الأمي ، المشتمل على المواعظ البليغة ، والأخبار العجيبة - على أن القرآن حق ، وأن محمدا نبي مرسل [ ص . والقرآن ذي الذكر . بل الذين كفروا في عزة وشقاق . . ] الآيات .
*ثم تحدثت عن الوحدانية وإنكار المشركين لها ، ومبالغتهم في العجب من دعوة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) لهم إلي توحيد الله [ أجعل الآلهة إلها واحدا ؟ إن هذا لشيء عجاب ] .
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (23 / 161) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (23 / 84)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 229)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (12 / 154)(1/951)
*وانتقلت السورة لتضرب الأمثال لكفار مكة بمن سبقهم من الطغاة المتجبرين ، الذين أسرفوا بالتكذيب والضلال ، وما حل بهم من العذاب والنكال ، بسبب إفسادهم وإجرامهم [ كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد ] الآيات .
* ثم تناولت قصص بعض الرسل الكرام ، تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام ، عما يلقاه من كفار مكة من الاستهزاء والتكذيب ، وتخفيفا لآلامه وأحزانه ، فذكرت قصة نبي الله (داود) ، وولده (سليمان ) ، الذي جمع الله له بين النبوة والملك ، وما نال كلا منهما من الفتنة والابتلاء ، ثم أعقبتها بذكر فتنة (أيوب ، وإسحاق ويعقوب ، وإسماعيل وذا الكفل ) ، هكذا في عرض سريع لبيان سنة الله ، في إبتلاء أنبيائه وأصفيائه [ اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب . . ] الآيات .
*وأشارت السورة الكريمة إلي دلائل القدرة والوحدانية ، في هذا الكون المنظور وما فيه من بدائع الصنعة ، للتنبيه على أن هذا الكون لم يخلق عبثا ، وأنه لابد من دار ثانية يجازي فيها المحسن والمسيء [ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار . . ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة ببيان وظيفة الرسول ومهمته الأساسية التي هي مهمة جميع الرسل الكرام [ قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار . رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار . . ] الآيات .
التسمية : تسمى السورة الكريمة " سورة ص " وهو حرف من حروف الهجاء للإشادة بالكتاب المعجز الذي تحدى الله به الأولين والآخرين ، وهو المنظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية . (1)
المقصود منها بيان ما ذكر في آخر الصافات من أن جند الله هم الغالبون - وإن رئي أنهم ضعفاء ، وإن تأخر نصرهم - غلبة آخرها سلامة للفريقين ، لأنه سبحانه واحد لكونه محيطا بصفات الكمال كما أفهمه آخر الصافات من التنزيه والحمد وما معهما ، وعلى ذلك دلت تسميتها بحرف " ص " لأن مخرجه من طرف اللسان ، وبين أصول الثنيتين السفليتين ، ولهمن الصفات الهمس والرخاوة والإطباق والاستعلاء والصفير ، فكان دالا على ذلك لأن مخرجه أمكن مخارج الحروف وأوسعها وأخفها وأرشقها وأغلبها ، ولأن ما له من الصفات العالية أكثر من ضدها وأفخم وأعلى وأضخم ، ولذلك ذكر من فيها من الأنبياء الذين لم يكن على أيديهم إهلاك ، بل ابتلوا وعرفوا وسلمهم الله من أعدائهم من الجن والإنس ، وإلى ذلك الإشارة بما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غيره من أن معناه : الله صادق فيما وعد ، أو صدق محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، أو صاد محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، قلوب الخلق واستمالها ، وبه قرأ أبو عمرو
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 114)(1/952)
في رواية شاذة على أنه فعل ماض من الصيد ، وقرأ الحسن وغيره بكسر الصاد على أنه أمر من المصاداة وهي المعارضة أي عارض بما أنزلناه إليك الخلائق وجادلهم به فإنك تغلبهم لأن الصدق سيف الله في أرضه ، ما وضعه على شيء إلا قطعه ، وقد انبسط هذا الصدق الذي أشار إليه الصاد على كل صدق في الوجود فاستمال كل من فيه نوع من الصدق ، ولهذا قال في السورة التي بعدها ) والذي جاء بالصدق وصدق به ) [ الزمر : 33 ] فذكر هؤلاء الأنبياء عليهم السلام شاهد وجودي على ما هو معنى الصاد عند العلماء الربانيين من أنه مطابقة ما بين الخلق والأمر ، وتسمى سورة داود عليه السلام - كما قاله ابن الجوزي رحمه الله - وحاله ( - صلى الله عليه وسلم - ) أدل أحوال من فيها من الأنبياء على هذا المقصود ، لما كان فيه من الضعف أولا والملك آخرا (1)
هذه السورة مكية ، تعالج من موضوعات السور المكية قضية التوحيد ، وقضية الوحي إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وقضية الحساب في الآخرة. وتعريض هذه القضايا الثلاث في مطلعها الذي يؤلف الشوط الأول منها. وهو الآيات الكريمة التي فوق هذا الكلام. وهي تمثل الدهش والاستغراب والمفاجأة التي تلقى بها كبار المشركين في مكة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم إلى توحيد اللّه وإخبارهم بقصة الوحي واختياره رسولا من عند اللّه : «وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ. وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً : إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ : أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ. أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟» .. كما تمثل استهزاءهم واستنكارهم لما أوعدهم به جزاء تكذيبهم من عذاب : «وَقالُوا : رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» ..
لقد استكثروا أن يختار اللّه - سبحانه - رجلا منهم ، لينزل عليه الذكر من بينهم. وأن يكون هذا الرجل هو محمد بن عبد اللّه. الذي لم تسبق له رياسة فيهم ولا إمارة! ومن ثم ساءلهم اللّه في مطلع السورة تعقيبا على استكثارهم هذا واستنكارهم وقولهم : «أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا» ساءلهم : «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؟ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؟ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ» .. ليقول لهم : إن رحمة اللّه لا يمسكها شيء إذا أراد اللّه أن يفتحها على من يشاء. وإنه ليس للبشر شيء من ملك السماوات والأرض ، وإنما يفتح اللّه من رزقه ورحمته على من يشاء. وإنه يختار من عباده من يعلم استحقاقهم للخير ، وينعم عليهم بشتى الإنعامات بلا قيد ولا حد ، ولا حساب .. وفي هذا السياق
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (6 / 356)(1/953)
جاءت قصة داود وقصة سليمان وما أغدق اللّه عليهما من النبوة والملك ، ومن تسخير الجبال والطير ، وتسخير الجن والريح ، فوق الملك وخزائن الأرض والسلطان والمتاع.
وهما - مع هذا كله - بشر من البشر يدركهما ضعف البشر وعجز البشر فتتداركهما رحمة اللّه ورعايته ، وتسد ضعفهما وعجزهما ، وتقبل منهما التوبة والإنابة ، وتسدد خطاهما في الطريق إلى اللّه.
وجاء مع القصتين توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبر على ما يلقاه من المكذبين ، والتطلع إلى فضل اللّه ورعايته كما تمثلهما قصة داود وقصة سليمان : «اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ .. إلخ» ..
كذلك جاءت قصة أيوب تصور ابتلاء اللّه للمخلصين من عباده بالضراء. وصبر أيوب مثل في الصبر رفيع.
وتصور حسن العاقبة ، وتداركه برحمة اللّه ، تغمره بفيضها ، وتمسح على آلامه بيدها الحانية .. وفي عرضها تأسية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين ، عما كانوا يلقونه من الضر والبأساء في مكة وتوجيه إلى ما وراء الابتلاء من رحمة ، تفيض من خزائن اللّه عند ما يشاء.
وهذا القصص يستغرق معظم السورة بعد المقدمة ، ويؤلف الشوط الثاني منها.
كذلك تتضمن السورة ردا على استعجالهم بالعذاب ، وقولهم : «رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» ..
فيعرض بها - بعد القصص - مشهد من مشاهد القيامة ، يصور النعيم الذي ينتظر المتقين. والجحيم التي تنتظر المكذبين. ويكشف عن استقرار القيم الحقيقية في الآخرة بين هؤلاء وهؤلاء. حين يرى الملأ المتكبرون مصيرهم ومصير الفقراء الضعاف الذين كانوا يهزأون بهم في الأرض ويسخرون ، ويستكثرون عليهم أن تنالهم رحمة اللّه ، وهم ليسوا من العظماء ولا الكبراء. وبينما المتقون لهم حسن مآب «جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ، مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ. وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ» .. فإن للطاغين لشر مآب «جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ. هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ» .. وهم يتلاعنون في جهنم ويتخاصمون ، ويذكرون كيف كانوا يسخرون بالمؤمنين : «وَقالُوا : ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ. أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ؟» فإنهم لا يجدونهم في جهنم. وقد عرف أنهم هنالك في الجنان! فهذا هو جواب ذلك الاستعجال والاستهزاء!
وهذا المشهد يؤلف الشوط الثالث في السورة.(1/954)
كما يرد على استنكارهم لما يخبرهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمر الوحي. ويتمثل هذا الرد في قصة آدم في الملأ الأعلى. حيث لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضرا إنما هو إخبار اللّه له بما كان ، مما لم يشهده - غير آدم - إنسان .. وفي ثنايا القصة يتبين أن الذي أردى إبليس ، وذهب به إلى الطرد واللعنة ، كان هو حسده لآدم - عليه السّلام - واستكثاره أن يؤثره اللّه عليه ويصطفيه. كما أنهم هم يستكثرون على محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يصطفيه اللّه من بينهم بتنزيل الذكر ففي موقفهم شبه واضح من موقف إبليس المطرود اللعين! وتختم السورة بختام هذا الشوط الرابع والأخير فيها بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم : إن ما يدعوهم إليه لا يتكلفه من عنده ، ولا يطلب عليه أجرا ، وإن له شأنا عظيما سوف يتجلى : «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» ..
هذه الأشواط الأربعة التي تجري بموضوعات السورة هذا المجرى تجول بالقلب البشري في مصارع الغابرين ، الذين طغوا وتجبروا واستعلوا على الرسل والمؤمنين ، ثم انتهوا إلى الهزيمة والدمار والخذلان : «جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ. وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ. إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ» ..
تعرض على القلب البشري هذه الصفحة. صفحة الهزيمة والدمار والهلاك للطغاة المكذبين. ثم تعرض بإزائها صفحة العز والتمكين والرحمة والرعاية لعباد اللّه المختارين ، في قصص داود وسليمان وأيوب.
هذا وذلك في واقع الأرض .. ثم تطوف بهذا القلب في يوم القيامة وما وراءه من صور النعيم والرضوان.
وصور الجحيم والغضب. حيث يرى لونا آخر مما يلقاه الفريقان في دار البقاء. بعد ما لقياه في دار الفناء ..
والجولة الأخيرة في قصة البشرية الأولى وقصة الحسد والغواية من العدو الأول ، الذي يقود خطى الضالين عن عمد وعن سابق إصرار. وهم غافلون.
كذلك ترد في ثنايا القصص لفتة تلمس القلب البشري وتوقظه إلى الحق الكامن في بناء السماء والأرض. وأنه الحق الذي يريد اللّه بإرسال الرسل أن يقره بين الناس في الأرض. فهذا من ذلك : «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا» .. وهي لفتة لها في القرآن نظائر. وهي حقيقة أصيلة من حقائق هذه العقيدة التي هي مادة القرآن المكي الأصيلة .. (1)
ما تضمنته هذه السورة من العبر والمواعظ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3004)(1/955)
(1) صلف المشركين وإعراضهم عن الحق ، مع ضرب المثل لهم بالأمم الماضية التي حادت عن الحق فهلكت.
(2) إنكارهم للوحدانية.
(3) إنكارهم لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
(4) إنكارهم للبعث والحساب.
(5) قصص داود وسليمان وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من النبيين عليهم السلام.
(6) وصف نعيم أهل الجنة.
(7) وصف عذاب أهل النار ، وتلاعن بعضهم بعضا ، وسؤالهم عن المؤمنين لم لم يروهم في النار ؟
(8) قصص آدم عليه السلام.
(9) قسم إبليس - ليغوينّ بنى آدم أجمعين إلا عباد اللّه المخلصين.
(10) أمر اللّه نبيه أن يقول للمشركين : ما أطلب منكم أجرا على تبليغ رسالتى ولا أنا بالذي يدّعى علم شىء هو لا يعرفه.
(11) إن القرآن أنزل للثقلين كافة.
(12) إن المشركين بعد موتهم يعلمون حقيقة أمره. (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (23 / 129)(1/956)
(39) سورة الزمر
سميت "سورة الزمر" من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ،فقد روى الترمذي عن عائشة قالت:"كان النبي - صلى الله عليه وسلم - :"لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل".وإنما سميت سورة الزمر لوقوع هذا اللفظ فيها دون غيرها من سورة القرآن.
وفي "تفسير القرطبي" عن وهب بن منبه أنه سماها "سورة الغرف" "وتناقله المفسرون".ووجه أنها ذكر فيها لفظ الغرف،أي بهذه الصيغة دون الغرفات،في قوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} [الزمر:20]الآية.وهي مكية كلها عند الجمهور وعن ابن عباس أن قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]الآيات الثلاث.وقيل:إلى سبع آيات نزلت بالمدينة في قصة،وحشي قاتل حمزة،وسنده ضعيف،وقصته عليها مخائل القصص.
وعن عمر بن الخطاب أن تلك الآيات نزلت بالمدينة في هشام بن العاصي بن وائل إذ تأخر عن الهجرة إلى المدينة بعد أن استعد لها.وفي رواية:أن معه عياش ابن أبي ربيعة وكانا تواعدا على الهجرة إلى المدينة ففُتنا فافتتنا.
والأصح أنها نزلت في المشركين كما سيأتي عند تفسيرها،وما نشأ القول بأنها مدنية إلا لما روي فيها من القصص الضعيفة.وقيل:نزل أيضا في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الزمر:10]الآية بالمدينة.
وعن ابن عباس:"أن قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر: 23]الآية نزل بالمدينة.فبلغت الآيات المختلف فيها تسع آيات.
والمتجه:أنها كلها مكية وأن ما يخيل أنه نزل في قصص معينة إن صحت أسانيده أن يكون وقع التمثل به في تلك القصص فأشتبه على بعض الرواة بأنه سبب نزول.
وسيأتي عند قوله تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:10]أنها نزلت قبيل هجرة المؤمنين إلى الحبشة، أي في سنة خمس قبل الهجرة.وهي السورة التاسعة والخمسون في ترتيب النزول على المختار،نزلت بعد سورة سبا وقبل سورة غافر.وعدت آيتها عند المدنيين والمكيين والبصريين اثنتين وسبعين،وعند أهل الشام ثلاثا وسبعين،وعند أهل الكوفة خمسا وسبعين.
أغراضها(1/957)
ابتدئت هذه السورة بما هو كالمقدمة للمقصود،وذلك بالتنويه بشأن القرآن تنويها تكرر في ستة (1) مواضع من هذه السورة لأن القرآن جامع لأغراضها.وأغراضها كثيرة تحوم حول إثبات تفرد الله بالإلهية وإبطال الشرك فيها.وإبطال تعللات المشركين لإشراكهم وأكاذيبهم.ونفي ضرب من ضروب الإشراك إلى زعمهم أن لله ولدا.والاستدلال على وحدانية الله في الإلهية بدلائل تفرده بإيجاد العوالم العلوية والسفلية،وبتدبير نظامها وما تحتوي عليه مما لا ينكر المشركون انفراده به.والخلق العجيب في أطوار تكوين الإنسان والحيوان.والاستدلال عليهم بدليل من فعلهم وهو التجاؤهم إلى الله عندما يصيبهم الضر.والدعوة إلى التدبر فيما يلقى إليهم من القرآن الذي هو أحسن القول.وتنبيههم على كفرانهم شكر النعمة.والمقابلة بين حالهم وبين حال المؤمنين المخلصين لله.وأن دين التوحيد هو الذي جاءت به الرسل من قبل.والتحذير من أن يحل بالمشركين ما حل بأهل الشرك من الأمم الماضية.
وإعلام المشركين بأنهم وشركاءهم لا يعبأ بهم عند الله وعند رسوله - صلى الله عليه وسلم - فالله غني عن عبادتهم،ورسوله لا يخشاهم ولا يخاف أصنامهم لأن الله كفاه إياهم جميعا.وإثبات البعث والجزاء لتجزى كل نفس بما كسبت.وتمثيل البعث بإحياء الأرض بعد موتها.وضرب لهم مثله والإفاقة بعده وأنه يوم الفصل بين المؤمنين والمشركين.وتمثيل حال المؤمنين وحال المشركين في الحياتين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.ودعاء المشركين للإقلاع عن الإسراف على أنفسهم،ودعاء المؤمنين للثبات على التقوى ومفارقة دار الكفر.وختمت بوصف حال يوم الحساب.
وتخلل ذلك كله وعيد ووعد،وأمثال،وترهيب وترغيب،ووعظ وإيماء بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]الآية إلى أن شأن المؤمنين أنهم أهل علم وأن المشركين أهل جهالة،وذلك تنويه برفعة العلم ومذمة الجهل. (2)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « ص » بما بدئت به ، من تنويه بشأن القرآن الكريم ، وما فيه من هدى ورحمة. وكانت السورة كلها معرضا لمواقع الهدى من الناس ، على مختلف منازلهم ، من أنبياء أخلصهم اللّه بخالصة النبوّة ، وأنبياء جمع اللّه لهم بين النبوة والملك ، ومؤمنين اقتبسوا من هدى النبوّة ، وكافرين ، ضلّوا عن سواء السبيل ، فكفروا باللّه ..وهنا تبدأ سورة « الزمر » بذكر القرآن الكريم ، والمتنزّل العالي الكريم تنزل منه
__________
(1) - هي قوله تنزيل {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} الآيتين وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآية,وقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} الآيتين,وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} الآية,وقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الآية,وقوله: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} الآية.
(2) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (24 / 5)(1/958)
.. ثم بدعوة النبىّ الكريم إلى الأخذ بهذا الكتاب الذي نزل عليه ، وبإخلاص العبودية للّه ، لا يشغله عن ذلك ما يسوق إليه المشركون من كيد وأذّى .. (1)
مقدّمة
1 - سورة « الزمر » هي السورة التاسعة والثلاثون في ترتيب المصحف أما ترتيبها في النزول فهي السورة الثامنة والخمسون من السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة سبأ.
وقد ذكر صاحب الإتقان أنها تسمى - أيضا - سورة « الغرف » ، لقوله - تعالى - :
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ.
2 - ويرى المحققون أن السورة بكاملها مكية.
قال الآلوسى : عن ابن عباس أنها نزلت بمكة ولم يستثن ، وأخرج النحاس عنه أنه قال : نزلت سورة الزمر بمكة سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة ، وهي قوله - تعالى : - قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
3 - وآياتها خمس وسبعون آية في المصحف الكوفي ، وثلاث وسبعون في المصحف الشامي ، واثنتان وسبعون في غيرهما.
4 - وتبدأ السورة الكريمة بالثناء على اللّه - تعالى - الذي أنزل القرآن بالحق على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - والذي خلق السموات والأرض بالحق والذي خلق الناس جميعا من نفس واحدة ، قال - تعالى - : تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ...
5 - ثم تنتقل السورة إلى الحديث عن حالة الإنسان عند ما ينزل به الضر ، وعن الجزاء الحسن الذي أعده - سبحانه - للصابرين ، وعن العقاب الأليم الذي أعده للخاسرين.
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ، وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ. قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ، قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (12 / 1113)(1/959)
6 - ثم بين - سبحانه - مظاهر قدرته في هذا الكون عن طريق إنزاله الماء من السماء ، وعن طريق إنزاله أحسن الحديث. كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم.
قال - تعالى - : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ.
7 - ثم دعا - سبحانه - الناس بعد ذلك إلى تدبر آيات القرآن ، المشتمل على الهدايات والإرشادات والأمثال ، وإلى اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي جاءهم بالصدق ، لأن هذا الاتباع يؤدى إلى تكفير سيئاتهم ، ورفع درجاتهم عند ربهم.قال - تعالى - : وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
8 - وبعد أن عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر قدرة اللّه - تعالى - في قبضه للأرواح ، وفي كشفه الضر عن خلقه .. أتبعت ذلك بمحاجة المشركين ، وببيان ما هم عليه من ضلال ، وبيان أحوالهم عند ما يذكر اللّه - تعالى - وحده ، وببيان سوء عاقبتهم.
قال - تعالى - : وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
9 - ثم ساق - سبحانه - لعباده ما يدل على سعة رحمته بهم ، ودعاهم إلى الإنابة إليه ، من قبل أن يأتى اليوم الذي لا ينفع فيه الندم.قال - تعالى - : قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.
10 - ثم تحدثت السورة في أواخرها عن أحوال السعداء والأشقياء يوم القيامة ، وعن أهوال هذا اليوم.قال - تعالى - : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ.
وختمت ببيان ما أعده - سبحانه - للكافرين من شديد العقاب ، وما أعده للمتقين من كريم الثواب.
قال - تعالى - : وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ، حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ. وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.(1/960)
11 - هذا ، والمتأمل في سورة « الزمر » بعد هذا العرض المجمل لها. يراها قد اشتملت على مقاصد متنوعة من أهمها ما يأتى :
(أ) إقامة الأدلة المتعددة على وحدانية اللّه - تعالى - وعلى وجوب إخلاص العبادة له ، تارة عن طريق خلق السموات والأرض ، وتكوين الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر ، وخلق الناس جميعا من نفس واحدة ... وتارة عن طريق لجوء المشركين إليه وحده عند الشدائد ، وتارة عن طريق توفى الأنفس حين موتها ، وتارة عن طريق ضرب الأمثال ، كما في قوله - تعالى - : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا. الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
(ب) تذكير الناس بأهوال الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب. وبعث ونشور ، وفرح يعلو وجوه المتقين ، وكآبة تجلل وجوه الكافرين.
نرى ذلك في مثل قوله - تعالى - : وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ. وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ ، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وفي مثل قوله - تعالى - : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ. وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ.
(ج) تلقين الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحجج والإجابات التي يرد بها على شبهات المشركين ، وعلى دعاواهم الباطلة ، فقد تكرر لفظ « قل » في هذه السورة كثيرا ، ومن ذلك قوله - تعالى - : قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ... ... قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ....
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ. قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ.
قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
(د) الإكثار من المقارنة بين عاقبة الأخيار وعاقبة الأشرار ، بأسلوب يغلب عليه طابع الاستفهام الإنكارى ، الذي حذف فيه الخبر للعلم به من سياق الكلام.
ومن ذلك قوله - تعالى - : أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.
وقوله - تعالى - : أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ.(1/961)
وقوله - سبحانه - : أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وقوله - عز وجل - : أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ. (1)
في السورة دعوة إلى اللّه وحده وتنويه بقدرته وعظمة مشاهد الكون ، وحكاية لبعض عقائد المشركين وأقوالهم وحملة عليهم ومقايسات بين المؤمنين والكافرين ، وتنويه بالقرآن وأثره في النفوس الطيبة ، وتصوير رائع للبعث والقضاء بين الناس. وقد تخلل آيات السورة أمثال ومواعظ ومبادئ عامة ، وتلهم بعض آياتها أن فيها إذنا للمؤمنين بالهجرة.
والمقايسات التي فيها جاءت بأسلوب نظمي خاص يجعله خصوصية من خصوصيات السورة ، وفصولها مترابطة تسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.
وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [52 - 54] مدنية ، وانسجامها في السياق موضوعا وسبكا يسوغ الشك في ذلك.
ولقد روى الترمذي عَنْ أَبِي لُبَابَةَ ، قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ ، " " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الزُّمَرَ ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ " (2)
حيث ينطوي في الحديث عناية نبوية خاصة بهاتين السورتين لا بد لهما من حكمة قد يكون منها ما احتوتاه من مواعظ وحكم وتنويه بالقرآن. وفي الحديث دلالة على أن هذه السورة كانت تامة الترتيب معروفة الاسم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
سورة الزّمر مكيّة ، وهي خمس وسبعون آية.
تسميتها :سميت سورة الزمر لأن اللّه تعالى ذكر في آخرها زمرة الكفار الأشقياء مع الإذلال والاحتقار [71 - 72] وزمر المؤمنين السعداء مع الإجلال والإكرام [73 - 75].
مناسبتها لما قبلها :
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها وهي سورة ص من وجهين :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (12 / 187)
(2) - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ـ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ (3479 ) حسن
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (4 / 297)(1/962)
الأول - إنه تعالى ختم سورة ص واصفا القرآن بقوله : إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وابتدأ هذه السورة بقوله : تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فكأنه قيل : هذا الذكر تنزيل ، فهما كالآية الواحدة ، بينهما اتصال وتلاحم شديد.
الثاني - ذكر تعالى في آخر ص قصة خلق آدم عليه السلام ، وذكر في القسم الأول من هذه السورة أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد ، متصلا بخلق آدم المذكور في السورة المتقدمة.
مشتملاتها :
موضوع هذه السورة الحديث عن التوحيد وأدلة وجود اللّه ووحدانيته ، وعن الوحي والقرآن العظيم.
ابتدأت هذه السورة ببيان تنزيل القرآن الكريم من اللّه تعالى على رسوله ص ، وأمر الرسول ص بإخلاص الدين للّه ، وتنزيه اللّه عن مشابهة المخلوقات ، وتوضيح شبهة المشركين في اتّخاذ الأصنام آلهة شفعاء ، وعبادتها وسيلة إلى اللّه تعالى ، والنّعي عليهم في عبادة الأوثان.
وأردفت ذلك بإقامة الأدلة على وحدانية اللّه ، من خلق السموات والأرض ، وتعاقب الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر ، وخلق الإنسان في أطوار مختلفة متعاقبة ، ثم نددت بطبيعة المشرك وتناقضه حين يدعو اللّه حال الضر ، وينساه حال الرخاء. ثم عادت لإيراد بعض هذه الأدلة كإنزال المطر وإنبات النبات.
ثم ذكرت مقارنة بين المؤمنين وبين الكافرين ، حيث يسعد الأوائل في الدنيا والآخرة ، ويشقى الآخرون فيهما ، ويتمنون الفداء حين يرون العذاب.
وأشادت بعظمة القرآن الكريم حيث تقشعر من آياته جلود المؤمنين الخائفين ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر اللّه ، على عكس المشركين الذين تنقبض قلوبهم عند سماع توحيد اللّه ، كما أن القرآن يتضمن أمثالا للناس لعلهم يتذكرون.
ومن هذه الأمثال يتضح الفرق بين من يعبد إلها واحدا ، وبين من يعبد آلهة متعددة لا تسمع ولا تجيب ، كالعبد المملوك لسيد واحد ، والمملوك لعدة شركاء متخاصمين فيه. ثم رد تعالى على المشركين الذين يتخذون الأصنام شفعاء من دون اللّه ، ولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون.
وأخبر اللّه تعالى عن موت النّبي ص وموت أصحابه ، وأن اللّه هو المهيمن على الأرواح ، فيتوفّى بعضها في أجلها ، ويترك بعضها إلى أجل آخر.
ثم فتح باب الأمل أمام المسرفين ، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم إذا تابوا ، وأوضح ما يرى على وجوه الذين كذبوا على اللّه أهل النار يوم القيامة من كآبة وحزن.(1/963)
وأعقب ذلك ببيان أحوال القيامة ، وحدوث نفختين : الأولى للإماتة ، والثانية للإحياء من القبور ، ثم يأتي الحساب والقضاء بالحق ، وإيفاء كل نفس ما عملت.
وختمت السورة بتقسيم الناس يوم القيامة فريقين : فريق الكافرين الذين يساقون زمرا وجماعات إلى جهنم ، ويشاهدون من أهوال المحشر ، وفريق المؤمنين الذين يساقون إلى الجنان وتحييهم الملائكة ، ويشاهدون في الجنة النعيم المقيم الذي يستدعي الحمد التام للّه رب العالمين ، ويرون الملائكة حافين حول العرش يسبحون بحمد ربهم. (1)
وبعضهم يسميها سورة الغرف ، وهي مكية. قيل : كلها ، وعند بعضهم كلها إلا آيتين نزلتا بالمدينة اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وهي خمس وسبعون آية.
وكأنها امتداد لآخر سورة (ص) حيث ذكر فيها خلق حواء من آدم ، وخلق الناس كلهم ، ثم ذكر أنهم ميتون ثم ذكر أحوال القيامة من حساب وجنة ونار ، وختم بالقضاء العدل بين الناس فالحمد للّه رب العالمين ، ترى أن اللّه ذكر أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد مع اتصال ذلك كله بقصة آدم - عليه السلام - ذلك هو مجمل ما جاء في السورة ، وزيادة على ما فيها من التعرض إلى نقاش المشركين وغيره مما هو معروف في السور المكية ، وستعرفه في شرحها. (2)
وتسمى سورة الغرف كما في الإتقان والكشاف لقوله تعالى : لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ [الزمر : 20] أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها أنزلت بمكة ولم يستثن ، وأخرج النحاس عنه أنه قال : نزلت سورة الزمر بمكة سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر : 53] إلى ثلاث آيات ، وزاد بعضهم قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر : 10] الآية ذكره السخاوي في جمال القراء وحكاه أبو حيان عن مقاتل ، وزاد بعض اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر : 23] حكاه ابن الجوزي ، والمذكور في البحر عن ابن عباس استثناء اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وقوله تعالى : قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلخ ، وعن بعضهم إلا سبع آيات من قوله سبحانه قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلى آخر السبع وأيها خمس وسبعون في الكوفي وثلاث في الشامي واثنتان في الباقي وتفصيل الاختلاف في مجمع البيان وغيره ، ووجه اتصال أولها بأخر صاد انه قال سبحانه هناك : إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [ص : 87] وقال جل شأنه هنا تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [الزمر : 1] وفي ذلك كمال الالتئام بحيث لو أسقطت البسملة لم يتنافر الكلام ثم إنه تعالى ذكر آخر ص قصة خلق آدم
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (23 / 238) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (23 / 131)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 253)(1/964)
وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه منه وخلق الناس كلهم منه وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق ثم ذكر أنهم ميتون ثم ذكر سبحانه القيامة والحساب والجنة والنار وختم بقوله سبحانه :
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر : 75] فذكر جل شأنه أحوال الخلق من المبدأ إلى آخر المعاد متصلا بخلق آدم عليه السلام المذكور في السورة قبلها وبين السورتين أوجه أخر من الربط تظهر بالتأمل فتأمل. (1)
*سورة الزمر مكية ، وقد تحدثت عن (عقيدة التوحيد) بالاسهاب ، حتى لتكاد تكون هي المحور الرئيسي للسورة الكريمة ، لأنها أصل الإيمان ، وأساس العقيدة السليمة ، وأصل كل عمل صالح ، وبدون الإيمان لا يقبل عمل ولا يرفع .
*ابتدأت السورة بالحديث عن القرآن (المعجزة الكبري ) الدائمة الخالدة لمحمد بن عبد الله ، وأمرت الرسول باخلاص الدين لله ، وتنزيهه جل وعلا عن مشابهة المخلوقين ، وذكرت شبهة المشركين في عبادتهم للأوثان وإتخاذهم شفعاء ، وردت على ذلك بالدليل القاطع [ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين . . ] الآيات .
* ثم ذكرت الأدلة والبراهين علي وحدانية رب العالمين ، في إبداعه لخلق السموات والأرض ، وفي ظاهرة الليل والنهار ، وفي تسييره للشموس والأقمار ، وفي خلق الإنسان في أطوار في ظلمات الأرحام ، وكلها براهين ساطعة على قدرة الله ووحدانية [ خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار . . ] الآيات .
* وتناولت السورة موضوع العقيدة بوضوح وجلاء ، وكشفت عن مشهد الخسران المبين للكفرة المجرمين في دار الجزاء ، حيث يذوقون ألوان العذاب ، وتغشاهم ظلل من النار من فوقهم ومن تحتهم [ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون . . ] الآيات .
*وذكرت السورة مثلا يوضح الفارق الكبير بين من يعبد إلها واحدا ، ومن يعبد آلهة متعددة ، لا تسمع ولا تستجيب ، وهو مثل للعبد الذي يملكه شركاء متخاصمون ، والعبد الذي يملكه سيد واحد ، ثم ذكرت حالة المشركين النفسية عندما يسمعون توحيد الله تنقبض قلوبهم ، وإذا سمعوا ذكر الطواغيت هشوا وبشوا [ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل ، هل يستويان مثلا ؟ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون . . ] الآيات .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (12 / 223)(1/965)
*ثم جاءت الآيات طرية ندية تدعو العباد إلي الإنابة لربهم ، والرجوع إليه ، قبل أن يداهمهم الموت بغتة ، أو يفاجئهم العذاب من حيث لا يشعرون ، وحينئذ يتوبون ويندمون ، في وقت لا ينفع فيه توبة ولا ندم [ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعا ، إنه هو الغفور الرحيم . . ] الآيات .
*وختمت السورة الكريمة بذكر نفخة الصعق ، ثم نفخة البعث والنشور ، وما يعقبهما من أهوال الآخرة وشدائدها ، وتحدثت عن يوم الحشر الأكبر ، حيث يساق المتقون الأبرار إلي الجنة زمرا ، ويساق المجرمون الأشرار إلى جهنم زمرا ، في مشهد هائل ، يحضره الأنبياء والصديقون والشهداء الأبرار ، والوجود كله يتجه إلي ربه بالحمد والثناء فى خشوع واستسلام [ ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . . ] الآيات إلى نهاية السورة الكريمة
التسمية : سميت " سورة الزمر " لأن الله تعالي ذكر فيها زمرة السعداء من أهل الجنة ، وزمرة الأشقياء من أهل النار ، أولئك مع الإجلال والإكرام ، وهؤلاء مع الهوان والصغار . (1)
مقصودها الدلالة على أنه سبحانه وتعالى صادق الوعد ، ، أنه غالب لكل شيء ، فلا يعجل لأنه لا يفوته شيء ، ويضع الأشياء في أوفق محالها يعرف ذلك أولو الألباب المميزون بين القشر واللباب ، وعلى ذلك دلت تسميتها الزمر لأنها إشارة إلى أنه أنزل كلا من المحشورين داره المعدة له بعد الإعذار في الإنذار ، والحكم بينهم بما استحقته أعمالهم ، عدلا منه سبحانه في أهل النار ، وفضلا على المتقين الأبرار ، وكذا تسميتها ) تنزيل ( لمن تأمل آيتها ، وحقق عبارتها وإشارتها ، وكذا ) الغرف ( ، لأنها إشارة إلى حكمه سبحانه في الفريقين أهل الظلل النارية والغرف النورية ، تسمية للشيء بأشرف جزئيه ، فالقول فيها كالقول في الزمر سواء ، ويزيد أهل الغرف ختام آيتهم ) وعد الله لا يخاف الله الميعاد (2)
هذه السورة تكاد تكون مقصورة على علاج قضية التوحيد. وهي تطوف بالقلب البشري في جولات متعاقبة وتوقع على أوتاره إيقاعات متلاحقة وتهزه هزا عميقا متواصلا لتطبع فيه حقيقة التوحيد وتمكنها ، وتنفي عنه كل شبهة وكل ظل يشوب هذه الحقيقة. ومن ثم فهي ذات موضوع واحد متصل من بدئها إلى ختامها يعرض في صور شتى.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 128)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (6 / 412)(1/966)
ومنذ افتتاح السورة تبرز هذه القضية الواحدة التي تكاد السورة تقتصر على علاجها : «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ .. إلخ» ..
وتتردد في مقاطعها على فترات متقاربة فيها إما نصا. وإما مفهوما ..
نصا كقوله : «قُلْ : إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ : إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ : اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ .. إلخ» ..أو قوله : «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ؟ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ».
ومفهوما كقوله : «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ، وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ. هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا : الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .. أو قوله : «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ؟ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ، وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ. أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟» ..
وإلى جانب حقيقة التوحيد التي تعالج السورة أن تطبعها في القلب وتمكنها نجد في السورة توجيهات وإيحاءات لإيقاظ هذا القلب واستجاشته وإثارة حساسيته ، وإرهافه للتلقي والتأثر والاستجابة. ذلك كقوله : «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى . فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ ، وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» .. «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ : ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» .. «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. قُلْ : تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» ..
وهناك ظاهرة ملحوظة في جو السورة .. إن ظل الآخرة يجللها من أولها إلى آخرها. وسياقها يطوّف بالقلب البشري هناك في كل شوط من أشواطها القصيرة ويعيش به في ظلال العالم الآخر معظم الوقت! وهذا هو مجال العرض الأول فيها والمؤثر البارز المتكرر في ثناياها. ومن ثم تتلاحق فيها مشاهد القيامة أو الإشارة إليها في كل مقطع من مقاطعها الكثيرة. مثل هذه الإشارات : «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ؟» .. «قُلْ : إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» .. «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟» .. «أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟» .. «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .. «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟» .. «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ(1/967)
ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» .. «وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ : يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ..» ..
وهذا غير المشاهد الكاملة التي تشغل حيزا من السورة كبيرا ، وتظلل جوها بظلال الآخرة.
أما المشاهد الكونية التي لا حظنا كثرتها وتنوعها في السور المكية في ثنايا عرضها لحقائق العقيدة فهي قليلة في هذه السورة ..
هنالك مشهد كوني يرد في مطلعها : «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ» ..
ومشهد آخر في وسطها : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» ..
وهناك إشارات سريعة إلى خلق السماوات والأرض غير هذين المشهدين البارزين.
كذلك تتضمن السورة لمسات من واقع حياة البشر ، وفي أغوار نفوسهم ، تتوزع في ثناياها.
يرد في مطالعها عن نشأة البشرية : «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها. وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟».
ويرد عن طبيعة النفس البشرية في الضراء والسراء : «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ .. إلخ» .. «فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ..» ..
ويرد في تصوير أنفس البشر في قبضة اللّه في كل حالة : «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ..
ولكن ظل الآخرة وجوها يظل مسيطرا على السورة كلها كما أسلفنا. حتى تختم بمشهد خاشع يرسم ظل ذلك اليوم وجوه : «وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ، وَقِيلَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».
هذا الظل يتناسق مع جو السورة ، ولون اللمسات التي تأخذ القلب البشري بها. فهي أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش. ومن ثم نجد الحالات التي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشه(1/968)
وانتفاضه وخشيته. نجد هذا في صورة القانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. وفي صورة الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم لهذا القرآن ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه. كما نجده في التوجيه إلى التقوى والخوف من العذاب ، والتخويف منه : «قُلْ : يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ». «قُلْ : إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» .. «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ. ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ. يا عِبادِ فَاتَّقُونِ» .. ثم نجده في مشاهد القيامة وما فيها من فزع ومن خشية ، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع.
والسورة تعالج الموضوع الواحد الرئيسي فيها في جولات قصيرة متتابعة تكاد كل جولة منها تختم بمشهد من مشاهد القيامة ، أو ظل من ظلالها. وسنحاول أن نستعرض هذه الجولات المتتابعة كما وردت في السياق. إذ أنه يصعب تقسيم السورة إلى دروس كبيرة. وكل مجموعة قليلة من آياتها تصلح حلقة تعرض في موضعها. ومجموع هذه الحلقات يتناول حقيقة واحدة. حقيقة التوحيد الكبيرة .. (1)
مجمل مشتملات هذه السورة الكريمة
(1) وصف الكتاب الكريم.
(2) الأمر بعبادة اللّه وحده والنعي على المشركين في عبادتهم للأوثان والأصنام.
(3) إقامة الأدلة على وحدانية اللّه.
(4) طبيعة المشرك في السراء والضراء.
(5) ضرب الأمثال في القرآن وفائدة ذلك.
(6) تمنى المشركين الفداء حين يرون العذاب.
(7) الوعد بغفران ذنوب من أسرفوا على أنفسهم إذا تابوا.
(8) ما يرى على وجوه أهل النار من الكآبة والحزن.
(9) ذكر أحوال يوم القيامة.
(10) وصف ذهاب أهل النار إلى المحشر وما يشاهد وبه من الأهوال - (11) وصف ذهاب أهل الجنة وما يشاهدونه فيها من النعيم المقيم.
(12) بعد فصل القضاء يقول أهل الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). (2)
===============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3033)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (24 / 40)(1/969)
(40) سورة غافر
وردت تسمية هذه السورة في السنة "حم المؤمن" روى الترمذي عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله وسلم: "من قرأ {حم} المؤمن إلى {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 1ـ3]، وآية الكرسي حين يصبح حُفِظ بهما"الحديث. وبذلك اشتهرت في مصاحف المشرق، وبذلك ترجمها البخاري في "صحيحه" والترمذي في "الجامع" . ووجه التسمية أنها ذكرت فيها قصة مؤمن آل فرعون ولم تذكر في سورة أخرى بوجه صريح.
والوجه في إعراب هذا الاسم حكايةُ كلمة {حم} ساكنة الميم بلفظها الذي يقرأ. وبإضافته إلى لفظ المؤمن بتقدير: سورة حم ذكر المؤمن أو لفظ المؤمن وتسمى أيضا "سورة الطول" لقوله تعالى في أولها: {ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3]وقد تنوسي هذا الاسم. وتسمى سورة غافر لذكر وصفه تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ} [غافر: 3]في أولها. وبهذا الاسم اشتهرت في مصاحف المغرب.
وهي مكية بالاتفاق وعن الحسن استثناء قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} [غافر: 55]، لأنه كان يرى أنها نزلت في فرض الصلوات الخمس وأوقاتها. ويرى أن فرض صلوات خمس وأوقاتها ما وقع إلا في المدينة وإنما كان المفروض بمكة ركعتين كل يوم من غير توقيت، وهو من بناء ضعيف على ضعيف فأن الجمهور على أن الصلوات الخمس فرضت بمكة في أوقاتها على أنه لا يتعين أن يكون المراد بالتسبيح في تلك الآية الصلوات بل يحمل على ظاهر لفظه من كل قول ينزه به الله تعالى.
وأشذ منه ما روي عن أبي العالية أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]نزلت في يهود من المدينة جادلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر الدجال وزعموا أنه منهم. وقد جاء في أول السورة[4]
{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} . والمراد بهم: المشركون.
وهذه السورة جُعلت الستين في عداد ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة الزمر وقبل سورة فصلت وهي أول سور "آل حم" نزولا. وقد كانت هذه السورة مقروءة عقب وفاة أبي طالب، أي سنة ثلاث قبل الهجرة لما سيأتي أن أبا بكر قرأ آية {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28]حين آذى نفر من قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حول الكعبة، وإنما اشتد أذى قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة أبي طالب.(1/970)
والسور المفتتحة بكلمة {حم} سبع سور مرتبة في المصاحف على ترتيبها في النزول ويدعى مجموعها "آل حم" جعلوا لها اسم "آل" لتآخيها في فواتحها. فكأنها أسرة واحدة وكلمة "آل" تضاف إلى ذي شرف "ويقال لغير المقصود تشريفه أهل فلان" قال الكميت:
قرأنا لكم في آل حاميم آية ... تأولها منا فقيه ومعرب
يريد قول الله تعالى في سورة "حم عسق" {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]على تأويل غير ابن عباس فلذلك عززه بقوله: تأولها منا فقيه ومعرب.
وربما جمعت السور المفتتحة بكلمة {حم} فقيل ألحوا ميم جمع تكسير على زنة فعاليل لأن مفرده على وزن فاعيل وزنا عرض له من تركيب اسمي الحرفين: حا، ميم فصار كالأوزان العجمية مثل "قابيل" و "راحيل" وما هو بعجمي لأنه وزن عارض لا يعتد به. وجمع التكسير على فعاليل يطرد في مثله. وقد ثبت أنهم جمعوا {حم} على حواميم في أخبار كثيرة عن ابن مسعود، وابن عباس، وسمرة بن جندب، ونسب في بعض الأخبار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت بسند صحيح. ومثله السور المفتتحة بكلمة {طس} أو {طسم} جمعوها على طواسين بالنون تغليبا. وأنشد أبو عبيدة أبياتا لم يسم قائلها:
حلفت بالسبع الألى قد طولت ... وبمئين بعدها قد أمئت
وبثمان ثنيت وكررت ... وبالطواسين اللواتي ثلثت
وبالحواميم اللواتي سبعت ... وبالمفصل التي قد فصلت
وعن أبي عبيدة والفراء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب وتبعهما أبو منصور الجواليقي.
وقد عدت آيها أربعا وثمانين في عد أهل المدينة وأهل مكة، وخمسا وثمانين في عد أهل الشام والكوفة، واثنتين وثمانين في عد أهل البصرة.
أغراض هذه السورة
تضمنت هذه السورة أغراضا من أصول الدعوة إلى الإيمان، فابتدئت بما يقتضي تحدي المعاندين في صدق القرآن كما اقتضاه الحرفان المقطعان في فاتحتهما كما تقدم في أول سورة البقرة[1].
وأجري على اسم الله تعالى من صفاته ما فيه تعريض بدعوتهم إلى الإقلاع عما هم فيه، فكانت فاتحة السور مثل ديباجة الخطبة مشيرة إلى الغرض من تنزيل هذه السورة. وعقب ذلك بأن دلائل تنزيل هذا الكتاب من الله بينة لا يجحدها إلا الكافرون من الاعتراف بها حسدا، وأن جدالهم تشغيب وقد تكرر ذكر المجادلين في آيات الله خمس مرات في هذه السورة، وتمثيل حالهم بحال الأمم التي كذبت رسل الله بذكرهم إجمالا، ثم التنبيه على آثار استئصالهم وضرب المثل بقوم فرعون. وموعظة مؤمن آل فرعون قومه بمواعظ تشبه دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - قومه. والتنبيه على دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية إجمالا. وإبطال عبادة ما(1/971)
يعبدون من دون الله. والتذكير بنعم الله على الناس ليشكره الذين أعرضوا عن شكره. والاستدلال على إمكان البعث. وإنذارهم بما يلقون من هوله وما يترقبهم من العذاب، وتوعدهم بأن لا نصير لهم يومئذ وبأن كبراءهم يتبرؤون منهم. وتثبيت الله رسوله ص بتحقيق نصر هذا الدين في حياته وبعد وفاته. وتخلل ذلك الثناء على المؤمنين ووصف كرامتهم وثناء الملائكة عليهم.
وورد في فضل هذه السورة الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "من قرأ {حم} المؤمن إلى {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 1ـ3] وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح". (1)
مناسبتها لما قبلها
كان فيما اشتملت عليه سورة « الزمر » قوله تعالى : « قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ. أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً .. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ».
. ثم كان ختامها القضاء والفصل بين الناس ، وإنزال الكافرين منازلهم من النار ، وإنزال المؤمنين منازلهم من الجنة ..وبدء هذه السورة ـ غافر ـ يلقى الناس جميعا ، بعد أن شهدوا الحساب والجزاء ، ورأوا جزاء المحسنين ، والمسيئين ـ يلقاهم بكتاب اللّه ، الذي هو هداية كل ضال ، ومنارة كل سالك إلى طريق النجاة ، ثم يلقاهم مع كتاب اللّه بغفران اللّه ورحمته ، وقبول توبة التائبين المنيبين إليه ، وشدّة عقاب المحادّين له ، المكذبين برسله. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « غافر » هي السورة الأربعون في ترتيب المصحف أما ترتيبها في النزول فهي السورة التاسعة والخمسون من السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة « الزمر ».
ويبدو - واللّه أعلم - أن الحواميم ، كان نزولها على حسب ترتيبها في المصحف ، فقد ذكر صاحب الإتقان عند حديثه عن المكي والمدني من القرآن ، وعن ترتيب السور على حسب النزول ..ذكر سورة الزمر ، ثم غافر ، ثم فصلت ، ثم الشورى ، ثم الزخرف ، ثم الدخان ، ثم الجاثية ، ثم الأحقاف .
2 - والمحققون من العلماء على أن سورة « غافر » من السور المكية الخالصة ، وقد حكى أبو حيان الإجماع على ذلك ، كما أن الإمام ابن كثير قال عنها بأنها مكية دون أن يستثنى منها شيئا.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (24 / 141)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (12 / 1202)(1/972)
وقيل : كلها مكية إلا قوله - تعالى - : إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ ... الآية.
ولكن هذا القيل وغيره لم تنهض له حجة يعتمد عليها ، فالرأى الصحيح أنها جميعها مكية.
3 - وهذه السورة تسمى - أيضا - بسورة « المؤمن » لاشتمالها على قصة مؤمن آل فرعون. كما تسمى بسورة « الطول » لقوله - تعالى - في أوائلها : غافِرِ الذَّنْبِ ، وَقابِلِ التَّوْبِ ، شَدِيدِ الْعِقابِ ، ذِي الطَّوْلِ ....
وعدد آياتها خمس وثمانون آية في المصحف الكوفي والشامي ، وأربع وثمانون في الحجازي ، واثنتان وثمانون في البصري ..
4 - وسورة « غافر » هي أول السور السبعة التي تبدأ بقوله - تعالى - حم والتي يطلق عليها لفظ « الحواميم ».
وقد ذكر الإمام ابن كثير جملة من الآثار في فضل هذه السور ، منها : ما روى عن ابن مسعود أنه قال : « آل حم » ديباج القرآن .. ومنها ما روى عن ابن عباس أنه قال : « إن لكل شيء لبابا ، ولباب القرآن آل حم » أو قال « الحواميم » .
5 - وقد افتتحت السورة الكريمة بالثناء على اللّه - تعالى - ، وبتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما لقيه من أذى المشركين ومن جدالهم ، وببيان وظيفة الملائكة الذين يحملون عرشه - تعالى - ، وأن منها الاستغفار للمؤمنين ، والدعاء لهم بقولهم - كما حكى القرآن عنهم - :
... رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ، وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
6 - ثم دعا - سبحانه - عباده إلى إخلاص الطاعة له ، وذكرهم بأهوال يوم القيامة ، وأن الملك في هذا اليوم إنما هو للّه - تعالى - وحده.قال - تعالى - : فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ، رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
7 - وبعد أن وبخ - سبحانه - الغافلين على عدم اعتبارهم بسوء عاقبة من سبقهم من الكافرين ، أتبع ذلك بجانب من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وهامان وقارون ، وحكى ما دار بين موسى - عليه السلام - وبين هؤلاء الطغاة من محاورات.كما حكى ما وجهه الرجل المؤمن من آل فرعون إلى قومه من نصائح حكيمة ، منها قوله - كما حكى القرآن عنه - : وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ(1/973)
عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ. وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ.
8 - وبعد أن ساق - سبحانه - تلك التوجيهات الحكيمة التي وجهها ذلك الرجل المؤمن - الذي يكتم إيمانه - إلى قومه .. أتبع ذلك بحكاية جانب من المحاورات التي تدور بين الضعفاء والمتكبرين بعد أن ألقى بهم جميعا في النار.
كما حكى - سبحانه - ما يقولونه لخزنة جهنم على سبيل الاستعطاف والتذلل فقال :
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ. قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ.
9 - ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ألوانا من نعمه على عباده ، لكي يشكروه عليها ، ومن تلك النعم : إيجاده الليل والنهار ، وجعله الأرض قرارا والسماء بناء ، وتصويره الناس في أحسن تقويم ، وتحليله لهم الطيبات ، وخلقه لهم في أطوار متعددة.قال - تعالى - : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
10 - ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن الذين يجادلون في آيات اللّه بغير علم ، فوبختهم على جهالاتهم وعنادهم ، وهددتهم بسوء المصير ، وأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر على أذاهم ، وذكرته بأحوال الرسل السابقين مع أقوامهم ، وأنذرت مشركي مكة بأن مصيرهم سيكون كمصير المشركين من قبلهم ، إذ ما استمروا في طغيانهم وكفرهم ، وأنهم لن ينفعهم الإيمان عند حلول العذاب بهم.قال - تعالى - : فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ، سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ.
11 - هذا ، والمتدبر في سورة « غافر » بعد هذا العرض المجمل لآياتها يراها قد أقامت أنصع الأدلة وأقواها على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته ، كما يراها قد ساقت ألوانا من التسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما لحقه من قومه ، تارة عن طريق قصص الأنبياء السابقين مع أقوامهم ، وتارة عن طريق التصريح بأن العاقبة ستكون له ولأتباعه ، كما في قوله - تعالى - : إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ.
كما يراها قد فصلت الحديث عن تكريم اللّه - تعالى - لعباده المؤمنين ، تارة عن طريق استغفار الملائكة لهم ، وتضرعهم إلى خالقهم أن يبعد الذين آمنوا عن عذاب الجحيم.قال - تعالى - : الَّذِينَ يَحْمِلُونَ(1/974)
الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ، رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ.
وتارة عن طريق وعدهم بإجابة دعائهم ، كما في قوله - تعالى - : وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ. كما يرها قد اهتمت بالحديث عن مصارع الغابرين ، بأسلوب يغرس الخوف في القلوب ، ويبعث على التأمل والتدبر.كما في قوله - تعالى - : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ، وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ، فَأَخَذْتُهُمْ ، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ.
وكما في قوله - تعالى - : أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ.
كما يراها قبل كل ذلك وبعد كل ذلك لها أسلوبها البليغ المؤثر في إحقاق الحق وإبطال الباطل ، وفي تثبيت المؤمن وزلزلة الكافر ، وفي تعليم الدعاة كيف يخاطبون غيرهم بأسلوب مؤثر حكيم ، نراه متمثلا في تلك النصائح الغالية التي وجهها مؤمن آل فرعون إلى قومه ، والتي حكاها القرآن في قوله وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ. (1)
في هذه السورة حملة شديدة على الكفار وحكاية لمواقفهم الجدلية والساخرة. وإنذار لهم بالخزي في الدنيا والآخرة. ولفت نظر إلى مشاهد قدرة اللّه تعالى ونواميسه وأفضاله وتطمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتنويه بالمؤمنين واختصاصهم باستغفار الملائكة وشفاعتهم دون المشركين. وإشارة تذكيرية إلى ما كان من مواقف الكفار الأولين من رسل اللّه وعاقبتهم وندمهم وحسرتهم وعدم انتفاعهم بالإيمان بعد فوات الفرصة. وفيها فصل قصصي عن موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون بسبيل التذكير والعظة.
وقد سميت السورة باسم (المؤمن) أيضا اقتباسا من ذكر مؤمن آل فرعون ، وهي أولى سلسلة السور المعروفة بالحواميم. وقد روي عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " آلُ حم دِيبَاجُ الْقُرْآنِ " (2) . وروي وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابًا ، وَإِنَّ لُبَابَ الْقُرْآنِ آلُ حم ، أَوْ قَالَ : الْحَوَامِيمُ " (3) . ولقد
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (12 / 255)
(2) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِي(2369 )وفَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ(406 ) فيه انقطاع
(3) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (404 ) حسن موقوف(1/975)
كثر في هذه السور ذكر القرآن على سبيل التنويه والتعظيم وفي معرض لجاج الكفار فيه وفي طرق وحيه ولعل ما روي متصل بذلك.
وفصول هذه السورة مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة ، ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيتين [56 - 57] مدنيتان والرواية تتحمل الشك والتوقف. (1)
سورة غافر أو : المؤمن مكيّة ، وهي خمس وثمانون آية.
تسميتها : تسمى هذه السورة سورة غافر ، لافتتاحها بتنزيل القرآن من اللّه غافر الذنب وقابل التوب ، والغافر من صفات اللّه وأسمائه الحسنى. وتسمى أيضا سورة (المؤمن) ، لاشتمالها على قصة مؤمن آل فرعون.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبه هذه السورة لما قبلها من ناحيتين :
الأولى - التشابه في الموضوع : فقد ذكر في كل من السورتين أحوال يوم القيامة وأحوال الكفار في يوم المحشر.
الثانية - الترابط بين خاتمة السورة السابقة ومطلع هذه السورة ، فقد ذكر في نهاية سورة الزمر أحوال الكفار الأشقياء والمتقين السعداء ، وافتتحت سورة غافر بأن اللّه غافر الذنب لحث الكافر على الإيمان وترك الكفر.
ومناسبة الحواميم السبع لسورة الزمر : تشابه الافتتاح بتنزيل الكتاب ورتبت الحواميم إثر بعضها ، لاشتراكها بفاتحة حم وبذكر الْكِتابِ بعد حم وأنها مكية ، بل ورد في حديث أنها نزلت جملة واحدة ، وفيها شبه من ترتيب ذوات (الراء) الست. ذكر السيوطي عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب السور : أن الحواميم نزلت عقب الزمر ، وأنها نزلت متتاليات كترتيبها في المصحف : المؤمن ، ثم السجدة ، ثم الشورى ، ثم الزخرف ، ثم الدخان ، ثم الجاثية ، ثم الأحقاف ، ولم يتخللها نزول غيرها ، وذلك مناسبة واضحة لوضعها هكذا...
سورة غافر والحواميم السبع مكية ، فهي تعنى بأصول العقيدة كسائر السور المكية ، لذا جاءت آياتها عنيفة شديدة التأثير لإثبات وحدانية اللّه وتنزيل القرآن والبعث ، ووصف ملائكة العرش ، وإنهاء الصراع بين أهل الحق وبين أهل الباطل أو فريق الهدى وفريق الضلال.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (4 / 350)(1/976)
وقد ابتدأت بإعلان تنزيل الكتاب الكريم من اللّه المتصف بالصفات الحسنى ، وهاجمت الكفار الذين يجادلون بالباطل ، ثم وصفت مهام ملائكة العرش.
وأخبرت عن طلب أهل النار الخروج منها لشدة العذاب ، ورفض هذا الطلب ، وأقامت الأدلة على وجود اللّه القادر ، وخوّفت من أهوال القيامة ، وأنذرت الكفار من شدائد ذلك اليوم.
ثم لفتت الأنظار لموضع العبرة من إهلاك الأمم الغابرة وهو كفرهم بالآيات البيّنات التي جاؤوا بها ، وخصّت بالذكر قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون ، وما دار من حوار بين فرعون وقومه وبين رجل من آل فرعون يكتم إيمانه ، وما فعله فرعون الطاغية من قتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم ، خشية انتشار الإيمان في قومه ، وانتهاء القصة بهلاك فرعون بالغرق في البحر مع جنوده ، ونجاة موسى وقومه جند الإيمان في ذلك العصر.
وتلك هي قصة الإيمان والطغيان.
وقد أردف ذلك بإعلان خذلان الكافرين ، ونصر الرسل والمؤمنين نصرا مؤزرا في الدنيا والآخرة.
وختمت القصة بأمر النبي ص بالصبر على أذى قومه كما صبر موسى وغيره من أولي العزم.
ثم أوردت السورة الأدلة الكونية الدالة على وحدانية اللّه وقدرته ، وضربت المثل للمؤمن بالبصير ، وللكافر بالأعمى ، فالمؤمن نيّر القلب والبصيرة بنور اللّه ، والكافر مظلم النفس يعيش في ظلمة الكفر.
وأتبعت ذلك ببيان نعم اللّه على عباده من الأنعام والفلك وغيرها.
وختمت السورة بما يؤكد الغرض المهم منها : وهو الاعتبار بمصرع الظالمين المكذبين ، وما يلقونه من أصناف العذاب ، ومبادرتهم إلى الإيمان حين رؤية العذاب ، ولكن لا ينفعهم ذلك ، فإن سنّة اللّه الثابتة ألا يقبل إيمان اليأس أو حال رؤية البأس. (1)
وتسمى سورة المؤمن ، وسورة الطول ، وهي مكية كلها في قول أكثر القراء ، وعن ابن عباس : هي مكية إلا آيتين منها هما إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ والتي بعدها ، وهي خمس وثمانون آية.
والسور المبدوءة في القرآن بلفظ حم سبع سور وكلها مكية ، وهي عرائس القرآن ، وروى عن أنس قول النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الحواميم ديباج القرآن.
وسورة غافر تدور آياتها حول مناقشة المجادلين في آيات اللّه المشتملة على التوحيد وإثبات البعث والرسالة ، ويتطرق الكلام إلى وصف حال المشركين والمجادلين يوم القيامة ، ثم ذكر قصة فرعون وهامان وقارون للمشركين ، وفي خلال ذلك سيقت آيات تثبت وصف اللّه بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص. (2)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (24 / 68) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (24 / 41)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 288)(1/977)
وتسمى سورة غافر وسورة الطول ، وهي كما روي عن ابن عباس وابن الزبير ومسروق وسمرة بن جندب مكية ، وحكى أبو حيان الإجماع على ذلك ، وعن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى : وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [غافر : 55] لأن الصلوات نزلت بالمدينة وكانت الصلاة بمكة ركعتين من غير توقيت. وأنت تعلم أن الحق قول الأكثرين : إن الخمس نزلت بمكة على أنه لا يتعين إرادة الصلاة بالتسبيح في الآية ، وقيل : هي مكية إلا قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ [غافر : 35] الآية فإنها مدنية ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية وغيره أنها نزلت في اليهود لما ذكروا الدجال ، وهذا ليس بنص على أنها نزلت بالمدينة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قولهم نزلت الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول : عني بهذه الآية كذا ، وقال الزركشي في البرهان : قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع. نعم سيأتي إن شاء اللّه تعالى عن أبي العالية ما هو كالنص على ذلك.
وآيها خمس وثمانون في الكوفي والشامي ، وأربع في الحجازي ، واثنتان في البصري ، وقيل : ست وثمانون ، وقيل : ثمان وثمانون ، ووجه مناسبة أولها لآخر الزمر أنه تعالى لما ذكر سبحانه هناك ما يؤول إليه حال الكافر وحال المؤمن ذكر جل وعلا هنا أنه تعالى غافر الذنب وقابل التوب ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عما هو فيه ، وبين السورتين أنفسهما أوجه من المناسبة ، ويكفي فيها أنه ذكر في كل من أحوال يوم القيامة وأحوال الكفرة فيه وهم في المحشر وفي النار ما ذكر ، وقد فصل في هذه من ذلك ما لم يفصل منه في تلك.
وفي تناسق الدرر وجه إيلاء الحواميم السبع لسورة الزمر تواخي المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب. وفي مصحف ابن مسعود أول الزمر حم وتلك مناسبة جليلة ، ثم إن الحواميم ترتبت لاشتراكها في الافتتاح - بحم - وبذكر الكتاب وأنها مكية بل ورد عن ابن عباس وجابر بن زيد أنها نزلت عقب الزمر متتاليات كترتيبها في المصحف (1)
سورة غافر مكية ، وهي تعنى بأمور العقيدة كشأن سائر السور المكية ، ويكاد يكون موضوع السورة البارز ، هو المعركة بين (الحق ) و(الباطل ) و(الهدى ) و(الضلال ) ولهذا جاء جو السورة مشحونا بطابع
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (12 / 293)(1/978)
العنف والشدة ، وكأنه جو معركة رهيبة ، يكون فيها الطعن والنزال ، ثم تسفر عن مصارع الطغاة ، فإذا بهم حطأم وركام .
* ابتدأت السورة الكريمة بالإشادة بصفات الله الحسنى ، وآيته العظمى ، ثم عرضت لمجادلة الكافرين في آيات الله ، فمع وضوح الحق وسطوعه ، جادل فيه المجادلون ، وكابر فيه المكابرون [ حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. . ] .
* وعرضت السورة لمصارع الغابرين وقد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، فلم يفلت منهم إنسان [ كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم . . ] الآيات .
* وفي ثنايا هذا الجو الرهيب ، يأتي مشهد حملة العرش ، في دعائهم الخاشع المنيب [ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم . . ] الآيات .
* وتحدثت السورة عن بعض مشاهد الآخرة وأهوالها ، فإذا العباد واقفون للحساب ، بارزون أمام الملك الديان ، يغمرهم رهبة وخشوع ، وإذا القلوب لدى الحناجر ، تكاد لشدة الفزع والهول تنخلع ، وفي ذلك الموقف الرهيب ، واليوم العصيب ، يلقى الإنسان جزاءه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر [ يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شىء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت . . ] الآيات .
* ثم يأتي الحديث عن قصة الإيمان والطغيان ، ممثلة في دعوة موسى عليه السلام لفرعون الطاغية الجبار ، ففرعون يريد - بكبريائه وجبروته - أن يقضي على موسى وأتباعه ، خشية أن ينتشر الإيمان بين الأقوام ، وتبرز في ثنايا هذه القصة حلقة جديدة ، لم تعرض في قصة موسى من قبل ، ألا وهي ظهور رجل (مؤمن من آل فرعون ) يخفي إيمانه ، يصدع بكلمة الحق في تلطف وحذر ، ثم في صراحة ووضوح ، وتنتهي القصة بهلاك فرعون الطاغية الجبار بالغرق في البحر مع أعوانه وأنصاره ، وبنجاة الداعية المؤمن وسائر المؤمنين [ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين . إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب . . ] الآيات .
* ثم تعرض السورة إلى بعض الآيات الكونية ، الشاهدة بعظمة الله ، الناطقة بوحدانيته وجلاله ، الذي يشركون به ويكفرون بآياته ، وتضرب مثلا للمؤمن والكافر : بالبصير والأعمى ، فالمؤمن على نور من الله وبصيرة ، والكافر يتخبط في الظلام [ وما يستوي الأعمى والبصير ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون . أن الساعة لآتية لا ريب فيها . . ] الآيات .(1/979)
* وتختم السورة الكريمة بالحديث عن مصارع المكذبين ، والطغاة المتجبرين ، ومشهد العذاب يأخذهم وهم في غفلتهم سادرون [ فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون . . ] إلى نهاية السورة الكريمة .
التسمية : سميت " سورة غافر " لأن الله تعالى ذكر هذا الوصف الجليل - الذي هو من صفات الله الحسنى - في مطلع السورة الكريمة [ غافر الذنب وقابل التوب ] وكرر ذكر المغفرة في دعوة الرجل المؤمن [ وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ] وتسمى سورة " المؤمن " لذكر قصة مؤمن آل فرعون . (1)
سورة غافر مكية - آياتها خمس وثمانون وتسمى سورة المؤمن والطول مقصودها الاستدلال على آخر التي قبلها من تصنيف الناس في الآخرة إلى صنفين ، وتوفية كل ما يستحقه على سبيل العدل ، بأن الفاعل ذلك له العزة الكاملة والعلم الشامل ، وقد بين ما يغضبه وما يرضيه غاية البيان على وجه الحكمة ، فمن لم يسلم أمره كله إليه وجادل في آياته الدالة على القيامة أو غيرها بقوله أو فعله فإنه يخزيه فيعذبه ويرديه ، وعلى ذلك دلت تسميتها بغافر ، فإنه لا يقدر على غفران ما يشاء لمن يشاء إلا كامل العزة ، ولا يعلم جميع الذنوب ليسمى غافراً لها إلا بالغ العلم ، وكذا في جميع الأوصاف التي في الآية من المثاب والعقاب ، وكذا الطول فإنه لا يقدر على التطول المطلق إلا من كان كذلك ، فإن من كان ناقص العزة فهو قابل لأنه يمنعه من بعض التطولات مانع ، ولن يكون ذلك إلا بنقصان العلم ، وكذا الدلالة بتسميتها بالمؤمن فإن قصته تدل على هذا المقصد ولا سيما أمر القيامة الذي هو جل المقصود والمدار الأعظم لمعرفة المعبود (2)
هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل. قضية الإيمان والكفر. قضية الدعوة والتكذيب وأخيرا قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق ، وبأس اللّه الذي يأخذ العالين المتجبرين .. وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر اللّه إياهم ، واستغفار الملائكة لهم ، واستجابة اللّه لدعائهم ، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم.
وجو السورة كله - من ثم - كأنه جو معركة. وهي المعركة بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والطغيان ، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس اللّه الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل. تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين! ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين ، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة - وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر - وتعرض في
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 145)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (6 / 482)(1/980)
صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله ، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة.
ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة بإيقاعات ذات رنين خاص : «غافِرِ الذَّنْبِ. وَقابِلِ التَّوْبِ. شَدِيدِ الْعِقابِ. ذِي الطَّوْلِ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» .. فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس ثابتة الوقع ، مستقرة المقاطع ، ومعانيها كذلك مساندة لإيقاعها الموسيقي! كذلك نجد كلمة البأس. وبأس اللّه. وبأسنا .. مكررة تتردد في مواضع متفرقة من السورة. وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها.
وعلى العموم فإن السورة كلها تبدو وكأنها مقارع ومطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين. وقد ترق أحيانا فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس هذا القلب برفق ، وهي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين ، أو وهي تعرض عليه الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية.
ونضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة وظلها من هذه وتلك ..من مصارع الغابرين : «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ، وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ. فَأَخَذْتُهُمْ. فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟» .. «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ، إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
ومن مشاهد القيامة : «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ. ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ» .. «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ..»
ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب : «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا. رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ، وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ. وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ..
ومن اللمسات الموحية عرض آيات اللّه في الأنفس وفي الآفاق : «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ(1/981)
قَبْلُ ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى ، وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ..
«اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟» .. «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ. وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ. فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ».
وهذه وتلك تصور جو السورة وترسم ظلها ، وتتناسق مع موضوعها وطابعها.
ويجري سياق السورة بموضوعاتها في أربعة أشواط متميزة.
يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة : «حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» تتلوها تلك الإيقاعات الرصينة الثابتة : «غافِرِ الذَّنْبِ. وَقابِلِ التَّوْبِ. شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» .. ثم تقرر أن الوجود كله مسلم مستسلم للّه. وأنه لا يجادل في آيات اللّه إلا الذين كفروا فيشذون عن سائر الوجود بهذا الجدال. ومن ثم فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مهما تقلبوا في الخير والمتاع. فإنما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذبين قبلهم وقد أخذهم اللّه أخذا ، بعقاب يستحق العجب والإعجاب!
ومع الأخذ في الدنيا فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك .. ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربهم ، ويتوجهون إليه بالعبادة ، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض ، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح .. وفي الوقت ذاته يعرض مشهد الكافرين يوم القيامة وهم ينادون من أرجاء الوجود المؤمن المسلم المستسلم : «لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ» ..
وهم في موقف الذلة والانكسار بعد الاستكبار ، يقرون بذنبهم ، ويعترفون بربهم ، فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار ، إنما يذكرون بما كان منهم من شرك واستكبار .. ومن هذا الموقف بين يدي اللّه في الآخرة يعود بالناس إلى اللّه في الدنيا .. «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» ويذكرهم لينيبوا إلى ربهم ويوحدوه : «فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ». ويشير إلى الوحي والإنذار بذلك اليوم العصيب. ويستطرد إلى مشهدهم يوم القيامة : «يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ» وقد توارى الجبارون والمتكبرون والمجادلون : «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ». ويستمر في عرض صور من هذا اليوم الذي يتفرد اللّه جل جلاله فيه بالحكم والقضاء. ويتوارى فيه ويضمحل ما يعبدون من دونه ، كما يتوارى الطغاة والفجار ..(1/982)
ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم. مقدمة لعرض جانب من قصة موسى - عليه السّلام - مع فرعون وهامان وقارون. تمثل موقف الطغيان من دعوة الحق. وتعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل ، ولا تعرض إلا في هذه السورة. وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه. يدفع عن موسى ما هموا بقتله ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطف وحذر في أول الأمر ، ثم في صراحة ووضوح في النهاية. ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه قوية ناصعة ويحذرهم يوم القيامة ، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر ويذكرهم موقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف - عليه السّلام - ورسالته ..
ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة. فإذا هم هناك. وإذا هم يتحاجون في النار. وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا ، وحوار لهم جميعا مع خزنة جهنم يطلبون فيه الخلاص. ولات حين خلاص!
وفي ظل هذا المشهد يوجه اللّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبر والثقة بوعد اللّه الحق ، والتوجه إلى إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار.
فأما الشوط الثالث فيبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات اللّه بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق ، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر. ويوجه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه اللّه ، وهو أكبر من الناس جميعا. لعل المتكبرين يتصاغرون أمام عظمة خلق اللّه وتتفتح بصيرتهم فلا يكونون عميا : «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِي ءُ. قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ».
ويذكرهم بمجيء الساعة ، ويوجههم إلى دعوة اللّه الذي يستجيب للدعاء. فأما الذين يستكبرون فسيدخلون جهنم أذلاء صاغرين. ويعرض في هذا الموقف بعض آيات اللّه الكونية التي يمرون عليها غافلين. يعرض الليل سكنا والنهار مبصرا. والأرض قرارا والسماء بناء. ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم فأحسن صورهم. ويوجههم إلى دعوة اللّه مخلصين له الدين. ويلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبرأ من عبادتهم ، ويعلن نهي ربه له عن آلهتهم ، وأمره له بالإسلام لرب العالمين. ويلمس قلوبهم بأن اللّه الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة .. وهو الذي يحيي ويميت. ثم يعود فيعجب رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر الذين يجادلون في اللّه وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف : «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» .. وإذ يتخلى عنهم ما أشركوا وينكرون هم أنهم كانوا يعبدون شيئا! وينتهي بهم الأمر إلى جهنم يقال لهم : «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى(1/983)
الْمُتَكَبِّرِينَ» .. وعلى ضوء هذا المشهد يوجه اللّه رسوله إلى الصبر مرة أخرى ، والثقة بأن وعد اللّه حق. سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه. فسيتم الوعد هناك ..
والشوط الأخيرفي السورة يتصل بالشوط الثالث. فبعد توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - للصبر والانتظار يذكر أن اللّه قد أرسل رسلا قبله كثيرين. «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» .. على أن في الكون آيات قائمة ، وبين أيديهم آيات قريبة ولكنهم يغفلون عن تدبرها .. هذه الأنعام المسخرة لهم. من سخرها؟.
وهذه الفلك التي تحملهم أليست آية يرونها! ومصارع الغابرين ألا تثير في قلوبهم العظة والتقوى؟ ويختم السورة بإيقاع قوي على مصرع من مصارع المكذبين ، وهم يرون بأس اللّه فيؤمنون «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا. سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ» .. هذا الختام الذي يصور نهاية المتكبرين ، ويتفق مع جو السورة وظلها وطابعها الأصيل. (1)
مجمل ما حوته السورة الكريمة
(1) وصف الكتاب الكريم.
(2) الجدل بالباطل في آيات اللّه.
(3) وصف الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله.
(4) طلب أهل النار الخروج منها لشدة الهول ثم رفض هذا الطلب.
(5) إقامة الأدلة على وجود الإله القادر.
(6) إنذار المشركين بأهوال يوم القيامة.
(7) قصص موسى عليه السلام مع فرعون وما دار من الحوار بين فرعون وقومه والذي يكتم إيمانه.
(8) أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل.
(9) تعداد نعم اللّه على عباده في البر والبحر. (2)
=============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3065)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (24 / 101)(1/984)
(41) سورة فصلت
تسمى حم السجدة بإضافة حم إلى السجدة كما قدمناه في أول سورة المؤمن، وبذلك ترجمت في صحيح البخاري وفي جامع الترمذي لأنها تميزت عن السور المفتتحة بحروف حم بأن فيها سجدة القرآن. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن خليل بن مرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ: تبارك، وحم السجدة.
وسميت في معظم مصاحف المشرق والتفاسيرسورة السجدة، وهو اختصار قولهم حم السجدة وليس تمييزا لها بذات السجدة. وسميت هذه السور في كثير من التفاسير سورة فصلت
واشتهرت تسميتها في تونس والمغرب سورة فصلت لوقوع كلمة {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} في أولها فعرفت بها تمييزا لها من السور المفتتحة بحروف حم. كما تميزت سورة المؤمن باسم سورة غافر عن بقية السور المفتتحة بحروف حم.
وقال الكواشي: وتسمى سورة المصابيح لقوله تعالى فيها {وَ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت:3]، وتسمى سورة الأقوات لقوله تعالى {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10]
وقال الكواشي في التبصرة: تسمى سجدة المؤمن ووجه هذه التسمية قصد تمييزها عن سورة الم السجدة المسماة سورة المضاجع فأضافوا هذه إلى السورة التي قبلها وهي سورة المؤمن، كما ميزوا سورة المضاجع باسم سجدة لقمان لأنها واقعة بعد سورة لقمان.
وهي مكية بالاتفاق نزلت بعد سورة غافر وقبل سورة الزخرف، وعدت الحادية والستين في ترتيب نزول السور. وعدت آيها عند أهل المدينة وأهل مكة ثلاثا وخمسين، وعند أهل الشام والبصرة اثنتين وخمسين، وعند أهل الكوفة أربع وخمسين.
أغراضها
التنويه بالقرآن والإشارة إلى عجزهم عن معارضته. وذكر هديه، وأنه معصوم من أن يتطرقه الباطل، وتأييده بما أنزل إلى الرسل من قبل الإسلام. وتلقى المشركين له بالإعراض وصم الآذان. وإبطال مطاعن المشركين فيه وتذكيرهم بأن القرآن نزل بلغتهم فلا عذر لهم أصلا في عدم انتفاعهم بهديه. وزجر المشركين وتوبيخهم على كفرهم بخالق السماوات والأرض مع بيان ما في خلقها من الدلائل على تفرده بالإلهية.(1/985)
وإنذارهم بما حل بالأمم المكذبة من عذاب الدنيا ووعيدهم بعذاب الآخرة وشهادة سمعهم وأبصارهم وأجسادهم عليهم وتحذيرهم من القرناء المزينين لهم الكفر من الشياطين والناس وأنهم سيندمون يوم القيامة على اتباعهم في الدنيا وقوبل ذلك بما للموحدين من الكرامة عند الله.
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدفعهم بالتي هي أحسن وبالصبر على جفوتهم وأن يستعيذ بالله من الشيطان وذكرت دلائل تفرد الله بخلق المخلوقات العظيمة كالشمس والقمر. ودلائل إمكان البعث وأنه واقع لا محالة ولا يعلم وقته إلا الله تعالى وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بتأييد الله إياهم بتنزل الملائكة بالوحي، وبالبشارة للمؤمنين وتخلل ذلك أمثال مختلفة في ابتداء خلق العوالم وعبر في تقلبات أهل الشرك. والتنويه بإيتاء الزكاة. (1)
مناسبتها لما قبلها
كان مما ختمت به سورة غافر ، قوله تعالى : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ».. ثم جاءت الآيات بعد هذا لتذكّر بآيات اللّه الممثلة فى نعمه التي أنعم اللّه بها على عباده من الأنعام .. وتلتها آيات أخرى ، تذكر بآيات اللّه فيما أخذ به الظالمين المكذبين من نقم ، وقد كانوا أشد قوة وأكثر جمعا من هؤلاء المشركين ، فما أغنى عنهم ذلك من بأس اللّه من شىء ، وأنهم حين رأوا بأس اللّه فزعوا إلى الإيمان ، ولكن بعد فوات الأوان ، فلم يكن ينفعهم إيمانهم هذا ..ثم جاءت سورة فصلت ، لتصل هذا الحديث ، الذي يذكّر بآيات اللّه ، وينذر المكذبين الضالين بعذاب شديد ، فتبدأ السورة بذكر القرآن الكريم وما يحمل من آيات بينات ، فصّلت بلسان عربى مبين .. فإذا كان المشركون قد عموا عن أن ينظروا فى هذه النعم التي بين أيديهم ، والتي تتمثل فى الأنعام ، التي منها ركوبهم ، ومنها يأكلون ، ثم عموا كذلك عن أن يروا ديار القوم الظالمين ، وما نزل بها من نقم ، اللّه وأنها قد أصبحت ترابا يمشون عليه ، وقد اختلط فيه الآدميون بالحيوان ، والنبات ، والأثاث ـ إذا كان المشركون قد عميت أبصارهم عن أن ترى هذه الآيات ، أو تلك ، فليسمعوا بآذانهم هذه الآيات ، التي هى كلمات اللّه إليهم ، تدعوهم إليه بلسان عربى مبين ، وتكشف لهم معالم الطريق إلى الهدى ودين الحق .. (2)
مقدمة وتمهيد
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (25 / 5)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (12 / 1277)(1/986)
1 - سورة « فصلت » هي السورة الحادية والأربعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة « غافر ».
وهي من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها ثنتان وخمسون آية في المصحف البصري والشامي ، وثلاث وخمسون في المصحف المكي والمدني ، وأربع وخمسون في المصحف الكوفي.
وسورة « فصلت » تسمى - أيضا بسورة السجدة ، وحم السجدة ، وبسورة المصابيح ، وبسورة الأقوات
2 - والذي يقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها في مطلعها تمدح القرآن الكريم :
وتذكر موقف المشركين منه ومن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجواب الذي يكبتهم ، وتهددهم بالعذاب الأليم.
قال - تعالى - : حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ.
3 - ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن مظاهر قدرة اللّه - تعالى - ، عن طريق بيان خلقه للأرض وما اشتملت عليه من جبال وأقوات ، وعن طريق خلق السماء بطبقاتها المتعددة ، وعن طريق تزيين السماء الدنيا بمصابيح وحفظها.
قال - تعالى - : قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها ، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ.
4 - وبعد أن هدد اللّه - تعالى - مشركي مكة بالعذاب الذي أصاب من قبلهم قوم عاد وثمود ، وفصل لهم موقف هؤلاء الأقوام من رسلهم وكيف أنهم عند ما كذبوا رسلهم واستحبوا العمى على الهدى ، أخذتهم صاعقة العذاب الهون ..
بعد كل ذلك تحدثت عن أحوالهم السيئة يوم يحشرون للحساب يوم القيامة ، وكيف أن حواسهم تشهد عليهم في هذا اليوم العصيب.
ولنتدبر قوله - تعالى - : وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ : لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ، قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.(1/987)
5 - وكعادة القرآن الكريم في قرنه الترغيب بالترهيب أو العكس ، وفي بيان عاقبة الأخيار والأشرار ، أتبعت السورة الحديث عن المشركين وسوء عاقبتهم ، بالحديث عن المؤمنين وحسن مصيرهم ، فقال - تعالى - : إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ.
6 - ثم ساقت سورة « فصلت » أنواعا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته ، قال - تعالى - : وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ.
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
7 - ثم أخذت السورة في تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي إقامة الأدلة الساطعة على أن هذا القرآن من عند اللّه.قال - تعالى - : ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ. وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ، ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.
8 - ثم ختم - سبحانه السورة الكريمة ، ببيان أن مرد علم قيام الساعة إليه - تعالى - وحده ، وببيان طبيعة الإنسان في حالتي اليسر والعسر ، وببيان أن حكمته - سبحانه - اقتضت أن يطلع الناس في كل وقت على بعض من آياته الدالة على وحدانيته وقدرته. قال - تعالى - سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ.
9 - وبعد : فهذا عرض إجمالى لسورة فصلت ، ومنه نرى : أنها اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته ، وبأن هذا القرآن من عند اللّه - تعالى - ، وبأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما يبلغه عن ربه ، وبأن يوم القيامة حق لا ريب فيه.
كما اهتمت بالحديث عن مصارع الغابرين الذين استحبوا العمى على الهدى وببيان أحوالهم يوم القيامة ... وببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وأحسنوا القول والدعوة إلى اللّه (1) ...
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (12 / 321)(1/988)
في السورة تنويه بالقرآن وإحكامه ولغته وحكاية لما كان من مواقف الكفار الحجاجية وشدة إنكارهم وإعراضهم وتحدّيهم للقرآن وردود عليهم وإنذارهم وتذكير لهم بما كان من أمثالهم. وفيها صور لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة من خزي وحسرة. وفيها لفت نظر إلى مشاهد قدرة اللّه وعظمته في الكون واستحقاقه للعبادة والخضوع وحده ، وتنويه بالمؤمنين ومصائرهم وبشرى لهم وحثّ على مكارم الأخلاق والتزامها وتطمين بنصر اللّه وتأييده وإرغام الجاحدين في الدنيا قبل الآخرة.
وفصول السورة مترابطة تلهم أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة ، وتسمى السورة باسم السجدة أيضا اقتباسا مما ورد فيها كما هو شأن الاسم الأول الموضوع عنوانا. (1)
سورة فصّلت أو : السجدة مكيّة ، وهي أربع وخمسون آية.
تسميتها : سمّيت سورة فصلت لافتتاحها بقوله تعالى : كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ .. وقد فصّل اللّه تعالى فيها الآيات ، وأوضح الأدلة والبراهين على وجوده وقدرته ووحدانيته ، من خلقه هذا الكون العظيم وتصرفه فيه. وتسمى أيضا حم ، السجدة لأن رسول اللّه ص عند قراءة أولها على زعماء قريش حتى انتهى إلى السجدة منها ، سجد.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبتها لما قبلها وهي سورة غافر من وجهين :
الأول - افتتاح كلتيهما بوصف الكتاب الكريم وهو القرآن العظيم.
الثاني - اشتراكهما في تهديد ووعيد وتقريع المشركين المجادلين في آيات اللّه في مكة وغيرها ، ففي آخر السورة المتقدمة توعدهم بقوله : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [82] ، وفي القسم الأول من هذه السورة هددهم مرة أخرى بقوله :
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [13]. وهذا كله مناسب لآخر سورة المؤمن من عدم انتفاع مكذّبي الرّسل حين رؤية العذاب ، كما أن قريشا لم ينتفعوا حينما حلّ بصناديدهم القتل والأسر والنهب والسّبي ، واستؤصلوا مثلما حلّ بعاد وثمود من استئصال.
مشتملاتها :
موضوع هذه السورة مثل موضوع باقي السّور المكية وهو إثبات أصول العقيدة : «الوحدانية ، الرّسالة والوحي ، البعث والجزاء».
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (4 / 404)(1/989)
ابتدأت بوصف القرآن العظيم بأنه المنزّل من عند اللّه بلسان عربي مبين ، والذي يبيّن أدلة قدرة اللّه وتوحيده ، وكونه المبشّر المنذر ، والذي يثبت صدق النّبي محمد ص فيما جاء به من عند ربّه.
وأبانت موقف المشركين وإعراضهم عن تدبّره ، وقررت حقيقة الرسول ص وأنه بشر خصّه اللّه تعالى بالوحي المتضمن إعلان وحدانية اللّه عزّ وجلّ ، وإيضاح جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات.
ثم أنكرت على المشركين الكفر ، وأقامت الأدلة على وحدانية اللّه من خلق السموات والأرض ، وأنذرتهم بإنزال عقاب مماثل لعقوبة الأمم الغابرة ، كعاد وثمود الذين أهلكوا ودمرت ديارهم بسبب تكذيب رسل اللّه ، ولكن بعد إنجاء المؤمنين المتّقين.
وحذّرت من حساب القيامة ، وأخبرت بأن أعضاء الإنسان تشهد عند الحشر على أصحابها ، وأن قرناء السوء زيّنوا لهم أعمالهم ، وأنّهم هم صدّوا عن سبيل اللّه ودينه ، وقالوا : لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ وطلبوا إهانة من أضلوهم ليكونوا من الأسفلين.
وفي مواجهة أولئك أشاد تعالى بأهل الاستقامة وبشّرهم بالجنة والكرامة ، ووصف من يلقّى الجنة وهم الصابرون على طاعة اللّه تعالى.
ثم عاد اللّه تعالى إلى إيراد أدلة أخرى من إيجاد العالم العلوي والسفلي على وجود اللّه ووحدانيته وقدرته ، وبيان إحكام القرآن وكونه كتاب هداية وشفاء ورحمة ، وأن من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها دون جور ولا ظلم.
وأعقب ذلك التعريف بعلم اللّه المحيط بكل شيء ، والإشارة لعظيم قدرته ، والكشف عن طبع الإنسان من التّكبر عند الرّخاء ، والتّضرع عند الشدة والعناء.
وختمت السورة بوعد اللّه أن يطلع الناس في كل زمان على بعض أسرار الكون والتّعرف على آيات اللّه في الآفاق والأنفس الدالة على الوحدانية والقدرة الإلهية ، ثم ذكرت أن المشركين يشكون في البعث والحشر ، ولكن اللّه محيط بهم وبكل شيء ، وذلك ردّ حاسم عليهم. (1)
وتسمى سورة السجدة ، أو سورة المصابيح ، وهي مكية عند الجميع ، وعدد آياتها أربع وخمسون آية .. وتشتمل هذه السورة على الكلام على القرآن ، وموقف المشركين منه والتعرض لمظاهر القدرة في خلق الأرض والسماء ، ثم تهديد المشركين بمثل ما حل بعاد وثمود ، وتهديدهم بما يحصل لهم يوم القيامة ، ثم الكلام على المؤمنين المستقيمين وبيان نهايتهم في الدنيا والآخرة وذكر بعض أخلاقهم ، ثم ذكر بعض آياته
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (24 / 179) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (24 / 102)(1/990)
مع الكلام على القرآن الكريم ، وبعض أخلاق الإنسان وطباعه ، وغير ذلك مما يذكر في ثنايا الكلام فتفتح به القلوب ، وتنار به البصائر ، وتزكو به النفوس. (1)
وتسمى سورة السجدة وسورة حم السجدة وسورة المصابيح وسورة الأقوات ، وهي مكية بلا خلاف ولم أقف فيها على استثناء ، وعدد آياتها كما قال الداني خمسون وآيتان بصري وشامي وثلاث مكي ومدني وأربع كوفي ، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر قبل أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [غافر : 82] إلخ وكان ذلك متضمنا تهديدا وتقريعا لقريش وذكر جل شأنه هنا نوعا آخر من التهديد والتقريع لهم وخصهم بالخطاب في قوله تعالى : فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت : 13] ثم بين سبحانه كيفية إهلاكهم وفيه نوع بيان لما في قوله تعالى : أَفَلَمْ يَسِيرُوا الآية ، وبينهما أوجه من المناسبة غير ما ذكر. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الخليل بن مرة أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة. (2)
هذه السورة الكريمة مكية ، وهي تتناول جوانب العقيدة الإسلامية (الوحدانية ، الرسالة ، البعث والجزاء) وهي الأهداف الأساسية لسائر السور المكية التي تهتم بأركان الإيمان
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن ، المنزل من عند الرحمن ، بالحجج الواضحة ، والبراهين الساطعة ، الدالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام ، فهو المعجزة الدائمة الخالدة للنبي الكريم .
* وتحدثت السورة عن أمر " الوحي والرسالة " فقررت حقيقة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأنه بشر خصه الله تعالى بالوحي ، وأكرمه بالنبوة ، وإختاره من بين سائر الخلق ليكون داعيا إلى الله ، مرشدا إلى دينه المستقيم .
* ثم انتقلت السورة للحديث عن مشهد الخلق الأول للحياة ، خلق السموات والأرض ، بذلك الشكل الدقيق المحكم ، الذي يلفت أنظار المعرضين عن آيات الله ، للنظر والتفكر والتدبر ، ولكن ظلمات الكفر هي التي تحول بينهم وبين الإيمان ، فالكون كله ناطق بعظمة الله ، شاهد بوحدانيته جل وعلا .
* وعرضت السورة للتذكير بمصارع المكذبين ، وضربت على ذلك الأمثلة بأقوى الأمم وأعتاها ، قوم " عاد " الذين بلغ من جبروتهم أن يقولوا [ من أشد منا قوة ] ؟ وذكرت ما حل بهم وبثمود من الدمار الشامل ، والهلاك المبين ، حين تمادوا في الطغيان وكذبوا رسل الله .
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 323)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (12 / 347)(1/991)
* وبعد الحديث عن المجرمين يأتي الحديث عن المؤمنين المتقين ، الذين استقاموا على شريعة الله ودينه ، فأكرمهم الله بالأمن والأمان في دار الجنان ، مع النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين .
* ثم تحدثت السورة عن الآيات الكونية المعروضة للأنظار ، في هذا الكون الفسيح ، الزاخر بالحكم والعجائب ، وموقف الملحدين بآيات الله ، المتعامين عن كل تلك الآيات الظاهرة الباهرة .
* وختمت السورة بوعد الله للبشرية ، بأن يطلعهم على بعض أسرار هذا الكون في آخر الزمان ، ليستدلوا على صدق ما أخبر عنه القرآن [ سنريهم آياتنا في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق ، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ] .
التسمية : سميت " سورة فصلت " لأن الله تعالى فصل فيها الآيات ، ووضح فيها الدلائل على قدرته ووحدانيته ، وأقام البراهين القاطعة على وجوده وعظمته ، وخلقه لهذا الكون البديع ، الذي ينطق بجلال الله وعظيم سلطانه !! (1)
سورة فصلت مكية - آياتها أربع وخمسون وتسمى حم السجدة مقصودها الإعلام بأن العلم إنما هو ما اختاره المحيط بكل شيء قدره وعلماً من علمه لعباده فشرعه ، لهم ، فجاءتهم به عنه رسله ، وذلك العلم هو الحامل على الإيمان بالله والاستقامة على طاعته المقترن بهما - كما تقدم في الزمر في قوله ) ) هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( ) [ آية : 9 ] فتكون عاقبته الكشف الكلي حين يكون سبحانه سمع العالم الذي يسمع به ، ( بصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ) - إلى آخر الحديث القدسي الذي معناه أنه يوفقه سبحانه فلا يفعل إلا ما يرضيه ، وعلى ذلك دل اسمها ) فصلت ( بالإشارة إلى ما في الآية المذكورة فيها هذه الكلمة من الكتاب المفصل لقوم يعلمون .
والسجدة بالإشارة إلى ما في آيتها من الطاعة له بالسجود الذي هو أقرب مقرب من الملك الديان ، والتسبيح الذي هو المدخل الأول للإيمان (2)
قضية العقيدة بحقائقها الأساسية هي التي تعالجها هذه السورة .. الألوهية الواحدة. والحياة الآخرة. والوحي بالرسالة. يضاف إليها طريقة الدعوة إلى اللّه وخلق الداعية.
وكل ما في السورة هو شرح لهذه الحقائق ، واستدلال عليها. وعرض لآيات اللّه في الأنفس والآفاق ، وتحذير من التكذيب بها ، وتذكير بمصارع المكذبين في الأجيال السابقة ، وعرض لمشاهد المكذبين يوم القيامة. وبيان أن المكذبين من الجن والإنس هم وحدهم الذين لا يسلمون بهذه الحقائق ولا يستسلمون
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 160)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (6 / 547)(1/992)
للّه وحده بينما السماء والأرض والشمس والقمر والملائكة ... كلهم يسجدون للّه ويخشعون ويسلمون ويستسلمون.
فعن حقيقة الألوهية الواحدة يرد في مطلع السورة : «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» .. و : «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً؟ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ» .. ويحكى عن عاد وثمود أن رسلهم قالت لهم هذه الحقيقة ذاتها : «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» .. وفي وسطها يرد : «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ» .. وفي نهايتها يرد عن الحقيقة ذاتها : «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي؟ قالُوا : آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» ..
وعن قضية الآخرة يرد تهديد للذين لا يؤمنون بالآخرة : «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» .. وتختم بقوله : «أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» .. كما يرد ذكر هذه القضية في مشاهد القيامة وهي عرض لما يقع فيها يقوم على تأكيد وقوعها طبعا. بل إن هذا الطريق أشد توكيدا لهذه القضية وتشخيصا.
وعن قضية الوحي يرد كلام كثير يكاد يجعل هذا الموضوع هو موضوع السورة الرئيسي. فهي تفتتح به في تفصيل : «حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ. قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ..» ... وفي وسطها يجيء عن استقبال المشركين لهذا القرآن : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» .. ثم يرد تفصيل كثير لهذا الاستقبال والرد على أقوالهم فيه : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. ما يُقالُ لَكَ : إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ. وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا : لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ؟ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟ قُلْ : هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى. أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ...» ..
وأما عن طريقة الدعوة وخلق الداعية فيرد قوله : «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً ، وَقالَ : إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..(1/993)
هذه القضايا تعرض في حشد من المؤثرات الشعورية العميقة. تعرض في المجال الكوني الحافل بالآيات العظام.
وتعرض في عالم النفس البشرية العجيبة التكوين. وتعرض في مجال بشري من مصارع الغابرين. وأخيرا تعرض في جو من مشاهد القيامة وتأثيرها العميق وبعض هذه المشاهد فريد في صوره ومواقفه يثير الدهش الشديد.
ومن بين المشاهد الكونية في هذه السورة مشهد الخلق الأول للأرض والسماء بكثير من التفصيل المثير : «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً؟ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً. قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها. وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» .. ومن بينها كذلك آيات الليل والنهار والشمس والقمر وعبادة الملائكة وخشوع الأرض بالعبادة ونبضها بالحياة : «وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ. إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
أما النفس البشرية فيكشف عن حقيقتها في هذه السورة ، وتعرض على أصحابها عارية من كل ستار : «لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ ، وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ ، وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ : هذا لِي ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ، فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» ..
ومن مصارع الغابرين يصور مصرع عاد ومصرع ثمود : «فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَقالُوا : مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ، وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ. وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ، فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» ..
ومن مشاهد القيامة المؤثرة في هذه السورة : «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ : لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟(1/994)
قالُوا : أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ. وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .. ومنها كذلك مشهد الحنق الواضح من المخدوعين على الخادعين : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ، لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ!» ..
وهكذا تعرض حقائق العقيدة - في السورة - في هذا الحشد من المؤثرات العميقة. ولعل هذا الحشد المنوع من تلك المؤثرات يصف جو السورة ، ويصور طابعها ، ويرسم ظلالها .. والواقع أن القلب يجد أنه منذ مطلع السورة إلى ختامها أمام مؤثرات وإيقاعات تجول به في ملكوت السماوات والأرض ، وفي أغوار النفس ، وفي مصارع البشر ، وفي عالم القيامة ، وتوقع على أوتاره إيقاعات شتى كلها مؤثر عميق ..
ويجري سياق السورة بموضوعاتها ومؤثراتها في شوطين اثنين ، متماسكي الحلقات ..
الشوط الأول يبدأ بالآيات التي تتحدث عن تنزيل الكتاب وطبيعته وموقف المشركين منه. وتليها قصة خلق السماء والأرض. فقصة عاد وثمود. فمشهدهم في الآخرة تشهد عليهم الأسماع والأبصار والجلود. ومن هنا يرتد إلى الحديث عنهم في الدنيا وكيف ضلوا هذا الضلال ، فيذكر أن اللّه قيض لهم قرناء سوء من الجن والإنس.
يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم. ومن آثار هذا قولهم : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون.
ثم موقفهم يوم القيامة حانقين على هؤلاء الذين خدعوهم من قرناء الجن والإنس! وعلى الضفة الأخرى الذين قالوا : ربنا اللّه ثم استقاموا. وهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة - لا قرناء السوء - يطمئنونهم ويبشرونهم ويعلنون ولايتهم لهم في الدنيا والآخرة. ويلي هذا ما جاء عن الدعوة والداعية .. وبذلك ينتهي هذا الشوط.
ويليه الشوط الثاني يتحدث عن آيات اللّه من الليل والنهار والشمس والقمر والملائكة العابدة ، والأرض الخاشعة ، والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات. ويلي هذا الحديث عن الذين يلحدون في آيات اللّه وفي كتابه ، وهنا يجيء ذلك الحديث عن هذا الكتاب. ويشار إلى كتاب موسى واختلاف قومه فيه. ويوكل أمرهم إلى اللّه بعد الأجل المضروب. وهنا يرد حديث عن الساعة واختصاص علم اللّه بها. وعلمه بما تكنه الأكمام من ثمرات ، وما تكنه الأرحام من أنسال. ويعرض مشهد الكافرين وهم يسألون عن الشركاء. يلي هذا الحديث عن النفس البشرية عارية من أستارها. ومع حرص الإنسان على نفسه هكذا فإنه لا يحتاط لها فيكذب ويكفر ، غير محتاط لما يعقب هذا التكذيب من دمار وعذاب.(1/995)
وتختم السورة بوعد من اللّه أن يكشف للناس عن آياته في الأنفس والآفاق حتى يتبينوا ويثقوا : «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ. أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» ..
وتختم السورة بهذا الإيقاع الأخير .. (1)
مجمل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
(1) وصف الكتاب الكريم.
(2) إعراض المشركين عن تدبره.
(3) جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين.
(4) إقامة الأدلة على الوحدانية.
(5) إنذار المشركين بأنه سيحل بهم ما حل بالأمم قبلهم.
(6) شهادة الأعضاء عند الحشر على أربابها.
(7) ما يفعله قرناء السوء من التصليل والصد عن سبيل اللّه.
(8) ما كان يفعله المشركون حين سماع القرآن.
(9) طلب المشركين إهانة من أضلوهم انتقاما منهم.
(10) ما يلقاه المؤمنون من الكرامة يوم العرض والحساب.
(11) إعادة الأدلة على الوحدانية.
(12) القرآن هداية ورحمة.
(13) إحاطة علم اللّه وعظيم قدرته.
(14) من طبع الإنسان التكبر عند الرخاء والتضرع وقت الشدة.
(15) آيات اللّه فى الآفاق والأنفس الدالة على وحدانيته وقدرته.
(16) شك المشركين فى البعث والنشور ثم الرد عليهم. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3105)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (25 / 12)(1/996)
(42) سورة الشورى
اشتهرت تسميتها عند السلف حم عسق، وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير والترمذي في جامعه، وكذلك سميت في عدة من كتب التفسير وكثير من المصاحف. وتسمى سورة الشورى بالألف واللام كما قالوا سورة المؤمن ، وبذلك سميت في كثير من المصاحف والتفاسير، وربما قالوا سورة شورى بدون ألف ولام حكاية للفظ القرآن. وتسمى سورة عسق بدون لفظ {حم} لقصد الاختصار. ولم يعدها في الإتقان في عداد السور ذات الاسمين فأكثر. ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء في تسميتها.
وهي مكية كلها عند الجمهور، وعدها في الإتقان في عداد السور المكية، وقد سبقه إلى ذلك الحسن بن الحصار في كتابه في الناسخ والمنسوخ كما عزاه إليه في الإتقان.
وعن ابن عباس وقتادة استثناء أربع آيات أولاها قوله {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] إلى آخر الأربع الآيات.
وعن مقاتل استثناء قوله تعالى {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى: 24]. رؤي أنها نزلت في الأنصار وهي داخلة في الآيات الأربع التي ذكرها ابن عباس. وفي أحكام القرآن لابن الفرس عن مقاتل: أن قوله تعالى {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} [الشورى: 27] الآية نزل في أهل الصفة فتكون مدنية، وفيه عنه أن قوله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} إلى قوله {مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41,39] نزل بالمدينة.
نزلت بعد سورة الكهف وقبل سورة إبراهيم وعدت التاسعة والستين في ترتيب نزول السور عند الجعبري المروي عن جابر بن زيد. وإذا صح أن آية {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28] نزلت في انحباس المطر عن أهل مكة كما قال مقاتل تكون السورة نزلت في حدود سنة ثمان بعد البعثة، ولعل نزولها استمر إلى سنة تسع بعد أن آمن نقباء الأنصار ليلة العقبة فقد قيل: إن قوله {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] أريد به الأنصار قبل الهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة.
وعدت آيها عند أهل المدينة ومكة والشام والبصرة خمسين، وعند أهل الكوفة ثلاثا وخمسين.
أغراض هذه السورة
أول أغراضها الإشارة إلى تحدي الطاعنين في أن القرآن وحي من الله بأن يأتوا بكلام مثله، فهذا التحدي لا تخلو عنه السور المفتتحة بالحروف الهجائية المقطعة، كما تقدم في سورة البقرة. واستدل الله على(1/997)
المعاندين بأن الوحي إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ما هو إلا كالوحي إلى الرسل من قبله لينذر أهل مكة ومن حولها بيوم الحساب. وأن الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض لا تعارض قدرته ولا يشك في حكمته، وقد خضعت له العوالم العليا ومن فيها وهو فاطر المخلوقات فهو يجتبي من يشاء لرسالته فلا بدع أن يشرع للأمة المحمدية من الدين مثل ما شرع لمن قبله من الرسل، وما أرسل الله الرسل إلا من البشر يوحي إليهم فلم يسبق أن أرسل ملائكة لمخاطبة عموم الناس مباشرة. وأن المشركات بالله لا حجة لهم إلا تقليد أئمة الكفر الذين شرعوا لهم الإشراك وألقوا إليهم الشبهات. وحذرهم يوم الجزاء واقتراب الساعة وما سيلقى المشركون يوم الحساب من العذاب مع إدماج التعريض بالترغيب فيما سيلقاه المؤمنون من الكرامة، وأنهم لو تدبروا لعلموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأتي عن الله من تلقاء نفسه لأن الله لا يقره على أن يقول عليه ما لم يقله. وذكرت دلائل الوحدانية وما هو من تلك الآيات نعمة على الناس مثل دليل السير في البحر وما أوتيه الناس من نعم الدنيا.
وتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الله هو متولي جزاء المكذبين وما على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حسابهم من شيء فما عليه إلا الاستمرار على دعوتهم إلى الحق القويم. ونبههم إلى أنه لا يبتغي منهم جزاء على نصحه لهم وإنما يبتغي أن يراعوا أواصر القرابة بينه وبينهم. وذكرهم نعم الله عليهم، وحذرهم من التسبب في قطعها بسوء أعمالهم، وحرضهم على السعي في أسباب الفوز في الآخرة والمبادرة إلى ذلك قبل الفوات، فقد فاز المؤمنون المتوكلون، ونوه بجلائل أعمالهم وتجنبهم التعرض لغضب الله عليهم. وتخلل ذلك تنبيه على آيات كثيرة من آيات انفراده تعالى بالخلق والتصرف المقتضي إنفراده بالإلهية إبطالا للشرك.
وختمها بتجدد المعجزة الأمية بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاءهم بهدى عظيم من الدين وقد علموا أنه لم يكن ممن تصدى لذلك في سابق عمره وذلك أكبر دليل على أن ما جاء به أمر قد أوحي إليه به فعليهم أن يهتدوا بهديه فمن اهتدى بهديه فقد وافق مراد الله.
وختم ذلك بكلمة جامعة تتضمن التفويض إلى الله وانتظار حكمه وهي كلمة {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 53]. (1)
مناسبتها لما قبلها
تكاد سور الحواميم تكون سورة واحدة فى نظمها وفى مضمونها ..فهى جميعها مكية النزول ، وقد خلت من القصص ، ومن التشريع ، وجاءت مساقاتها كلّها فى مواجهة المشركين بشركهم وضلالهم ، وتكذيبهم لرسول اللّه ، وشكّهم فى البعث ، وفى لقاء ربهم .. ولقد لقيهم القرآن الكريم فى هذه السّور
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (25 / 96)(1/998)
بكل طريق ، ودخل على مشاعرهم وتصوراتهم من كل باب ، فلم يدع خاطرة تدور فى رءوسهم من خواطر الشكّ والارتياب إلّا كشف لهم عنها ، وأراهم باطلها وضلالها .. ثم نصب لهم معالم الهدى ، ودعاهم إلى أخذ الطريق القاصد إليه .. وإلا فالنار موعدهم ..وهذه السورة ـ سورة الشورى ـ تتصل بسورة فصلت التي سبقتها اتصالا وثيقا ، فتعيد على أسماع المشركين عرض تلك القضايا التي عرضتها السورة السابقة من شركهم باللّه ، وتكذيبهم لرسول اللّه ، وارتيابهم فى البعث ، والحساب والجزاء .. وفى هذا العرض المتجدّد ، يرى المشركون تلك القضايا ، وقد طلعت عليهم بمعاول جديدة ، تهدم تلك الجدر المتداعية من بناء معتقداتهم الفاسدة ، حتى لتكاد تسقط عليهم ، وتدفنهم تحت أنقاضها .. (1)
مقدّمة
1 - سورة « الشورى » هي السورة الثانية والأربعون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد نزول سورة « فصلت ». وعدد آياتها ثلاث وخمسون آية.
وتسمى - أيضا - سورة حم عسق ، لافتتاحها بذلك.والرأى الصحيح أن سورة الشورى من السور المكية الخالصة. وقيل هي مكية إلا أربع آيات منها تبدأ من قوله - تعالى - : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى .
ولكن هذا القيل لا يعتمد على دليل صحيح ، بل الصحيح أن السورة كلها مكية.
2 - وتبدأ سورة الشورى ببيان أن اللّه - تعالى - قد أوحى إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما أوحى إلى غيره من الأنبياء ، وببيان مظاهر قدرته - عز وجل - ، وأنه - تعالى - قادر على أن يجعل الناس أمة واحدة.
قال - تعالى - : وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ، وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.
3 - وبعد أن أنكر - سبحانه - على المشركين إشراكهم ، وساق الأدلة على بطلان هذا الشرك ، وأمر بالرجوع إلى حكم اللّه - تعالى - فيما اختلفوا فيه.
بعد كل ذلك بين - سبحانه - أن الشريعة التي جاء بها الأنبياء واحدة في جوهرها ، وأن تفرق الناس في عقائدهم ، مرجعه إلى بغيهم وأهوائهم.قال - تعالى - : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ، اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (13 / 14)(1/999)
4 - ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر نعم اللّه - تعالى - على عباده ، عن طريق ما أودع فيهم من عقول : وما أنزله لهم من شرائع ، وما حباهم به من أرزاق ...
ووبخت الكافرين على كفرهم مع كل هذه النعم التي أنعم بها عليهم ، وبينت ما سيكونون عليه يوم القيامة من حسرة وندامة ، وما سيكون عليه المؤمنون الصادقون من فرح وحبور.
قال - تعالى - : تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ، وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ.
5 - ثم واصلت السورة حديثها عن مظاهر قدرة اللّه - تعالى - وعن ألوان نعمه على خلقه ، فتحدثت عن فضله - تعالى - في قبوله لتوبة التائبين ، وعفوه عن سيئاتهم ، وإجابته لدعائهم وإنزاله الغيث عليهم من بعد قنوطهم ويأسهم ، وخلقه السموات والأرض وما فيهما من أجل مصلحة الناس ومنفعتهم ، ورعايته لهم وهم في سفنهم داخل البحر.
قال - تعالى - : وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ.
6 - ثم بين - سبحانه - صفات المؤمنين الصادقين ، وأثنى عليهم ثناء عاطرا ، يحمل العقلاء على الاقتداء بهم ، وعلى التحلي بصفاتهم.
قال - سبحانه - : وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ، وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ، فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ.
7 - وكعادة القرآن في المقارنة بين عاقبة الأشرار وعاقبة الأخيار ، أتبع القرآن هذه الصفات الكريمة للمؤمنين ، ببيان الأحوال السيئة التي سيكون عليها الظالمون يوم القيامة ، ودعتهم إلى الدخول في الدين الحق من قبل فوات الأوان.قال - تعالى - : اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ، ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ.
8 - ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان جانب من مظاهر فضله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ(1/1000)
مِنْ عِبادِنا ، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.
9 - ومن هذا العرض الإجمالى لآيات سورة الشورى. نراها زاخرة بالحديث عن الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته ، وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند اللّه - تعالى - .
كما نراها زاخرة - أيضا - بالحديث عن نعم اللّه على عباده ، وعن حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين وعن مشاهد يوم القيامة وما فيه من أهوال. وعن شبهات المشركين والرد عليها بما يدحضها. (1)
في السورة حملة على المشركين وإفحام لهم في سياق مواقف ومشاهد حجاجية وجدلية. وتقرير لوحدة المنبع والمبادئ بين الدعوة المحمدية ودعوة الأنبياء السابقين وتعليل اختلاف أهل الكتاب وعزوه إلى البغي والهوى ونفي كونه من أصل طبيعة الدعوة الربانية وتثبيت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته وموقفه. وتنويه بأخلاق المؤمنين وتوجيههم إلى خير سبل الحق والعدل والكرامة والقوة وتنويه بمصيرهم ومصير الكافرين ولفت نظر إلى بعض مشاهد قدرة اللّه وعظمته وشمول حكمه ومشيئته ، وبيان لطرق اتصال اللّه بأنبيائه.
وخاتمة السورة متصلة بمطلعها كما أن فصولها مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة ، وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [23 - 25] مدنيات ، وسياقها وأسلوبها يسوغان الشك في ذلك. (2)
سورة الشورى مكيّة ، وهي ثلاث وخمسون آية.
تسميّتها : سميت (سورة الشورى) لوصف المؤمنين فيها بالتشاور في أمورهم :
وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [38] ولأن الشورى في الإسلام قاعدة النظام السياسي والاجتماعي بل والخاص في الحياة ، لما لها من مكانة ، وأهمية بالغة في تحقيق المصلحة والغاية الناجحة ، ولأن الاستبداد يؤدي دائما إلى أوخم العواقب :
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به على الدوام ورأي الفرد يشقيها «
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها فيما يلي :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (13 / 7)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (4 / 435)(1/1001)
1 - وصف الكتاب العزيز ، وتأكيد نزول الوحي به على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإثبات الساعة (يوم القيامة).
2 - مناقشة عقائد الكفار وتهديدهم ووعيدهم ، وإثبات وجود اللّه ووحدانيته وحكمته وقدرته بالأدلة الكونية المشاهدة ، وبالمخلوقات الأرضية الصناعية وغيرها.
3 - ترغيب المؤمنين بالاستقامة المؤدية إلى الجنة ونعيمها ، وتحذير الكافرين من الانحراف أو الإعراض عن هداية اللّه المؤدي إلى النار وأهوالها.
4 - تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يلقاه من أذى قومه ومطاعنهم.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية مختص بالعقيدة القائمة على الإيمان بوحدانية اللّه ، وصحة الرسالة النبوية ، والتصديق بالبعث والجزاء ، ومحورها الأساسي الكلام عن ظاهرة الوحي.
لذا ابتدأت بالحديث عن الوحي الذي أنزله اللّه على جميع الأنبياء والمرسلين الذين اصطفاهم اللّه لتبليغ رسالته إلى الناس.
ثم عرضت لما للّه من هيبة وجلال تكاد السموات تتفطر منهما ، وأن الملائكة تستغرق في تسبيحه وتمجيده ، وأنه الرقيب على أعمال المشركين ، ثم انتقلت إلى بيان كون القرآن عربيا ، وأن الإيمان باللّه اختياري لا قسري.
ثم أبانت أسباب الاختلاف في الأمة المسلمة وطريق علاجها بتحكيم كتاب اللّه ، وأوضحت ضرورة اختلاف الشرائع الإلهية الموحى بها في الجزئيات حسبما يتفق مع مصلحة البشر ، مع اتفاقها في الأصول الاعتقادية والإصلاحية والعبادات ، ثم نددت بالمختلفين في الأديان وجعلت خلافهم بغيا وعدوانا وظلما ، فالدين واحد في أصله ، ورسالات الأنبياء تكمل بعضها بعضا ، وبينها قدر مشترك هو الإسلام ، أي الانقياد والخضوع للّه عز وجل : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ... الآية [13].
ثم فنّدت حجة المنكرين لرسالة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد أن تبين صدقها وصحتها ، وهددت باقتراب الساعة التي يستعجل بها المشركون ويشفق منها المؤمنون ، وقرنت التفنيد والتهديد بتهويل العذاب الشديد المنتظر يوم القيامة ، وبوصف نعيم الجنان وروضاتها لتبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات.
وتحدثت عن مبدأين ضروريّي المعرفة لكل إنسان في الدنيا : وهما أن الرزق بيد اللّه ينزله بحسب المصلحة ، وأن العامل للدنيا وحدها يحرم خير الآخرة ، والعامل للآخرة يمنح خير الدنيا معها.
ثم أقامت الأدلة على وجود اللّه من خلق السموات والأرض وما فيهما والتصرف بهما والقدرة عليهما ، وإجراء السفن في البحار ، فكل ذلك أثر صنع اللّه.(1/1002)
وأعقبت ذلك بالإشادة بمن يعمل للآخرة ، ويجتنب الفواحش ، ويعفو عند المقدرة ، ويستحب لربه ، ويقيم الصلاة ، ويستشير أهل الخبرة والمعرفة ، وينتصر من أهل البغي والعدوان ، ويؤثّر العفو والصفح والصلح ، ويقتصر على الجزاء بالمثل ، ويصبر في المحنة.
وأردفت ذلك ببيان أهوال النار وخسارة أهلها ، وفقدانها النصر ، وتمنيهم العودة إلى الدنيا حين رؤية العذاب ، وهم أذلة صاغرون. وناسب هذا دعوة الناس جميعا إلى الاستجابة لدعوة اللّه والانقياد لحكمه وشرعه قبل المفاجأة بيوم القيامة الذي لا شك فيه ولا مرد له : اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ ... [47].
والاستجابة تكون تلقائية اختيارية لا قهر فيها ، وما على الرسول إلا البلاغ.
ثم ختمت السورة أولا بتأكيد كون ملك السموات والأرض للّه ، يهب الأولاد أو لا يهب بحسب المشيئة ، وثانيا ببيان أقسام الوحي ، وعظمة القرآن خاتم الكتب السماوية ، والذي هو نور اللّه الهادي إلى صراط مستقيم ، ليتناسق الختام مع مطلق السورة بالحديث عن هذا الكتاب العزيز : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [52]. (1)
وتسمى سورة حم عسق ، وهي مكية عند الجمهور ، وحكى عن ابن عباس أنها مكية إلا أربع آيات أولها قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً وقيل : المدني من قوله تعالى ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إلى قوله : إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ومن قوله : وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ .. إلى قوله : ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ والأفضل قول الجمهور.
وهذه السورة كأخواتها المكية يدور بحثها حول التوحيد والنبوة وإثبات البعث ، وركزت أبحاثها في القرآن المنزل على محمد من عند اللّه الموصوف بصفات الكمال والجلال والقدرة والعلم والحكمة ، وإثبات أن هذا الشرع المحمدي يتفق مع الشرائع السابقة في الأصول العامة ، فلا عذر لمن كفر ولا حجة له ، مع تهديدهم ببيان ما أعد للكفار ، وما أعد للمؤمنين ، مع ذكر بعض آياته ، وبيان أن كل أفعاله موافق للحكمة والمصلحة ، مع بيان صفات المؤمنين وصفات غيرهم ، وقد بدأ السورة بالكلام على الوحى وختمها كذلك ببيان كيفية اتصاله بالأنبياء. (2)
سورة الشورى مكية - آياتها ثلاث وخمسون وتسمى حم عسق مقصودها الاجتماع على الدين الذي أساسه الإيمان , وأهم دعائمه الصلاة , وروح أمره الألفة بالمشاورة المقتضية لكل أهل الدين كلهم في سواء كما أنهم في العبودية لشارعه سواء , وأعظم نافع في ذلك الإنفاق والمؤاساة فيما في اليد , والعفو
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (25 / 20)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 355)(1/1003)
والصفح عن المسيء , والإذعان للحق وإن صعب وشق , وذلك كله الداعي إليه هذا الكتاب الذي هو روح جسد هذا الدين المعبر عما دعا إليه من محاسن الأعمال , وشرائف الخلال بالصراط المستقيم , وإلى ذلك لوح آخر آخر السورة الماضية {حتى يتبين لهم أنه الحق} {ألا إنه بكل شيء محيط} وصرح ما في هذه من قوله : {أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه إلا المودة في القربى} {استجيبوا لربكم} {نهدي به من نشاء من عبادنا} {وإنك لتهدي إلى صارط مستقيم} {ألا إلى الله تصير الأمور} وتسميتها بالشورى واضح المطابقة لذلك لما في الانتهاء وكذلك بالأحرف المتقطعة فإنها جامعة للمخارج الثلاثة : الحلق والشفة واللسان , وكذا جمعها لصنفي المنقطوطة والعاطلة , ووصفي المجهورة والمهموسة , وهي واسطة جامعة بين حروف أم الكتاب الذكر الأول , وحروف الرقآن العظيم , وهذا المقصود هو غاية المقصود من أختها سورة مريم الموافقة لها في الابتداء بالتساوي في عدد الحروف المقطعة , وفي الانتهاء من حيث أن من اختص بمصير الأمور , كان المختص بالقدرة على إهلاك القرون , وذلك لأن مقصودها اتصافه تعالى بشمول الرحمة بإفاضة جميع النعم على جميع خلقه , وغاية هذه الاجتماع على الدين , ولما توافقتا في المقصود في الابتداء والانتهاء , واختصت الشورى بأن حروفها اثنان , دل سبحانه بذلك أرباب البصائر على أنه إشارة إلى أن الدين قسمان : أصول وفروع , دلت مريم على الأصول {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه تمترون} [مريم : 34] , وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم , {هل تعلم له سميا} [مريم : 65] والشورى على مجموع الدين أصولاً وفروعاً {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك} الآية , هذا موافقة البداية , وأما موافقة النهاية فهو أنهما ختمتا بكلمتين : أول كل منهما آخر الأخرى وآخر كل أول الأخرى وإيذاناً بأن السورتين دائرة واحدة محيطة بالدين متصلة لا انفصام لها , وذلك أن آخر مريم أول الشورى وآخر الشورى أو مريم {فإنما يسرناه بلسانك} , الآية {هو كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} إلى آخرها هو {ذكر رحمة ربك عبده زكريا} - إلى آخر القصة في الدعاء بارث الحكمة والنبوة الذي روحه الوحي والله الهادي , وكذا تسميتها ببعضها بدلالة الجزء على الكل (1)
هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية ولكنها تركز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة ، حتى ليصح أن يقال : إنها هي المحور الرئيسي الذي ترتبط به السورة كلها وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعا لتلك الحقيقة الرئيسية فيها.
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (6 / 883)(1/1004)
هذا مع أن السورة تتوسع في الحديث عن حقيقة الوحدانية ، وتعرضها من جوانب متعددة كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها. وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين وأخلاقهم التي يمتازون بها. كما تلم بقضية الرزق : بسطه وقبضه وصفة الإنسان في السراء والضراء.
ولكن حقيقة الوحي والرسالة ، وما يتصل بها ، تظل - مع ذلك - هي الحقيقة البارزة في محيط السورة ، والتي تطبعها وتظللها. وكأن سائر الموضوعات الأخرى مسوقة لتقوية تلك الحقيقة الأولى وتوكيدها.
ويسير سياق السورة في عرض تلك الحقيقة ، وما يصاحبها من موضوعات أخرى بطريقة تدعو إلى مزيد من التدبر والملاحظة. فهي تعرض من جوانب متعددة. يفترق بعضها عن بعض ببضع آيات تتحدث عن وحدانية الخالق. أو وحدانية الرازق. أو وحدانية المتصرف في القلوب. أو وحدانية المتصرف في المصير .. ذلك بينما يتجه الحديث عن حقيقة الوحي والرسالة إلى تقرير وحدانية الموحي - سبحانه - ووحدة الوحي. ووحدة العقيدة. ووحدة المنهج والطريق. وأخيرا وحدة القيادة البشرية في ظل العقيدة.
ومن ثم يرتسم في النفس خط الوحدانية بارزا واضحا ، بشتى معانيه وشتى ظلاله وشتى إيحاءاته ، من وراء موضوعات السورة جميعا .. ونضرب بعض الأمثلة من السورة إجمالا ، قبل أن نأخذ في التفصيل :
تبدأ بالأحرف المقطعة : «حا. ميم. عين. سين. قاف» .. يليها : «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. مقررا وحدة مصدر الوحي في الأولين والآخرين : «إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» ..
ثم يستطرد السياق في صفة اللّه العزيز الحكيم : «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» ..
مقررا وحدانية المالك لما في السماوات والأرض واستعلاءه وعظمته على وجه الانفراد.
ثم يستطرد استطرادا آخر في وصف حال الكون تجاه قضية الإيمان بالمالك الواحد ، وتجاه الشرك الذي يشذ به بعض الناس : «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ، وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ، أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ، اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» .. فإذا الكون كله مشغول بقضية الإيمان والشرك حتى إن السماوات ليكدن يتفطرن من شذوذ بعض أهل الأرض ، بينما الملائكة يستغفرون لمن في الأرض جميعا من هذه الفعلة الشنعاء التي جاء بها بعض المنحرفين!
وبعد هذه الجولة يعود السياق إلى الحقيقة الأولى : «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» ..(1/1005)
ثم يستطرد مع «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» .. فيقرر أن لو شاء اللّه لجعلهم أمة واحدة. ولكن مشيئته اقتضت - بما له من علم وحكمة - أن يدخل من يشاء في رحمته «وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..
ويقرر أن اللّه وحده هو الولي «وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى ، حقيقة الوحي والرسالة ، فيقرر أن الحكم فيما يختلف فيه البشر من شيء هو اللّه الذي أنزل هذا القرآن ليرجع إليه الناس في كل اختلاف : «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» ..
ويستطرد مع الربوبية إلى وحدانية الخالق ، وتفرد ذاته. ووحدانية المتصرف في مقادير السماوات والأرض ، وفي بسط الرزق وقبضه. وفي علمه بكل شي ء : «فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ، وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً ، يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
ثم يعود إلى الحقيقة الأولى : «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى : أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ : آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ ... إلخ» ..
وعلى مثل هذا النسق تمضي السورة في عرض هذه الحقيقة محوطة بمثل هذا الجو ، وهذه الاستطرادات المتعلقة بقضايا العقيدة الأخرى ، المثبتة في الوقت ذاته للحقيقة الأولى التي تبدو كأنها موضوع السورة الرئيسي.
وهذا النسق واضح وضوحا كاملا في هذا الدرس الأول من السورة. فالقارئ يلتقي بعد كل بضع آيات بحقيقة الوحي والرسالة في جانب من جوانبها.
فأما الدرس الثاني ويؤلف بقية السورة ، فيبدأ باستعراض بعض آيات اللّه في بسط الرزق وقبضه وفي تنزيل الغيث برحمته وفي خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام.
ويستطرد من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تفردهم وتميز جماعتهم. فإلى مشهد من مشاهد القيامة يعرض صورة الظالمين لما رأوا العذاب : «يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ، وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ(1/1006)
مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» .. واستعلاء المؤمنين يومئذ ووقوفهم موقف المقرر لحال الظالمين :«وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا : إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ» ..
وفي ظل هذا المشهد يدعو الناس إلى إنقاذ أنفسهم من مثل هذا الموقف قبل فوات الأوان : «اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ، ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ ، وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ» ..
ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى في السورة. حقيقة الوحي والرسالة. في جانب من جوانبها : «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ...».
ويمضي سياق السورة حتى ختامها يدور حول هذا المحور مباشرة أو غير مباشرة ، مع طابع الاستطراد بين كل إشارة وإشارة إلى تلك الحقيقة ، حتى يكون ختام السورة هذا البيان في شأن الوحي والرسالة : «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ، إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» ..
وبعد فمن وراء التركيز على حقيقة الوحي والرسالة في سياق السورة كله يبرز هدف خاص لعرضها على هذا النحو وفي هذا التتابع.
هذا الهدف هو تعيين القيادة الجديدة للمبشرين ممثلة في الرسالة الأخيرة ، ورسولها ، والأمة المسلمة التي تتبع نهجه الإلهي الثابت القويم.
وتبدأ أول إشارة مع مطلع السورة «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. لتقرر أن اللّه هو الموحي بجميع الرسالات لجميع الرسل ، وأن الرسالة الأخيرة هي امتداد لأمر مقرر مطرد من قديم.
وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل : «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» .. لتقرر مركز القيادة الجديدة التي سترد الإشارة إليها فيما بعد.
وفي الإشارة الثالثة يقرر وحدة الرسالة بعد ما قرر في الإشارة الأولى وحدة المصدر : «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» ..(1/1007)
وتستطرد هذه الإشارة إلى تقرير أن التفرق قد وقع ، مخالفا لهذه التوصية ، ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ولكن عن علم. وقع بغيا وظلما وحسدا : «وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» ..
ثم تستطرد كذلك إلى بيان حال الذين جاءوا من بعد أولئك الذين اختلفوا : «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» ..
وعند هذا الحد يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب ، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم .. فرسالة السماء التي تقود البشرية قد آلت إلى اختلاف بين أتباعها. والذين جاءوا من بعدهم تلقوها في ريبة وفي شك لا تستقيم معهما قيادة راشدة.
ومن ثم يعلن انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها - صلى الله عليه وسلم - لهذه القيادة : «فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ. وَقُلْ : آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ. اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ ..إلخ» .. ومن ثم تجيء صفة الجماعة المؤمنة المميزة لها طبيعية في سياق هذه السورة - في الدرس الثاني - بوصفها الجماعة التي ستقوم على قيادة هذه البشرية على ذلك النهج الثابت القويم.
وعلى ضوء هذه الحقيقة يصبح سياق السورة وموضوعها الرئيسي والموضوعات الأخرى فيه واضحة القصد والاتجاه. وتتبع هذا السياق بالتفصيل يزيد هذا الأمر وضوحا .. (1)
خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات
(1) إنزال الوحى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
(2) اختلاف الأديان ضرورى للبشر.
(3) أصول الشرائع واحدة لدى جميع الرسل.
(4) اختلاف المختلفين فى الأديان بغى وعدوان منهم.
(5) إنكار نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد أن قامت الأدلة على صدقه.
(6) استعجال المشركين لمجىء الساعة وإشفاق المؤمنين منها.
(7) من يعمل للدنيا يؤت منها وماله حظ فى الآخرة ، ومن يعمل للآخرة يوفقه اللّه للخير.
(8) ينزل اللّه الرزق بقدر بحسب ما يرى من المصلحة.
(9) من الأدلة على وجود الخالق خلق السموات والأرض وجرى السفن فى البحار.
(10) متاع الآخرة خير وأبقى من متاع الدنيا.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3136)(1/1008)
(11) جزاء السيئة سيئة مثلها ، فمن عفا وأصلح فأجره على اللّه.
(12) يتمنى المشركون يوم القيامة العودة إلى الدنيا حين يرون العذاب.
(13) إذا عرض المشركون على النار نظروا إليها من طرف خفىّ وهم خاشعون أذلاء.
(14) ليس على الرسول إلا البلاغ.
(15) يهب اللّه لمن يشاء الإناث ويهب لمن يشاء الذكور ، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما.
(16) أقسام الوحى إلى البشر.
(17) الرسول قبل الوحى ما كان يدرى شيئا من الشرائع. (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (25 / 66)(1/1009)
(43) سورة الزخرف
سميت في المصاحف العتيقة والحديثة سورة الزخرف وكذلك وجدتها في جوء عتيق من مصحف كوفي الخط مما كتب في أواخر القرن الخامس، وبذلك ترجم لها الترمذي في كتاب التفسير من جامعة، وسميت كذلك في كتب التفسير. وسماها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه سورة حم الزخرف وإضافة كلمة حم إلى الزخرف على نحو ما بيناه في تسمية سورة حم المؤمن روى الطبرسي عن الباقر أنه سماها كذلك. ووجه التسمية أن كلمة {وَزُخْرُفاً} [35] وقعت فيها ولم تقع في غيرها من سور القرآن فعرفوها بهذه الكلمة.
وهي مكية: وحكى ابن عطية الاتفاق على أنها مكية، وأما ما روى عن قتادة وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم أن آية {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]
نزلت بالمسجد الأقصى فإذا صح لم يكن منافيا لهذا لأن المراد بالمكي ما أنزل قبل الهجرة.
وهي معدودة السور الثانية والستين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة فصلت وقبل سورة الدخان. وعدت آيها عند العادين من معظم الأمصار تسعا وثمانين، وعدها أهل الشام ثمانيا وثمانين.
أغراضها
أعظم ما اشتملت عليه هذه السورة من الأغراض:
التحدي بإعجاز القرآن لأنه آية صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به والتنويه به عدة مرات وأنه أوحى الله به لتذكيرهم وتكرير تذكيرهم وإن أعرضوا كما أعرض من قبلهم عن رسلهم.
وإذ قد كان باعثهم على الطعن في القرآن تعلقهم بعبادة الأصنام التي نهاهم القرآن عنها كان من أهم أغراض السورة، التعجيب من حالهم إذ جمعوا بين الاعتراف بأن الله خالقهم والمنعم عليهم وخالق المخلوقات كلها. وبين اتخاذهم آلهة يعبدونها شركاء لله، حتى إذا انتقض أساس عنادهم اتضح لهم ولغيرهم باطلهم. وجعلوا بنات لله مع اعتقادهم أن البنات أحط قدرا من الذكور فجمعوا بذلك بين الإشراك والتنقيص. وإبطال عبادة كل ما دون الله على تفاوت درجات المعبودين في الشرف فإنهم سواء في عدم الإلهية للألوهية ولبنوة الله تعالى. وعرج على إبطال حججهم ومعاذيرهم، وسفه تخييلاتهم وترهاتهم. وذكرهم بأحوال الأمم السابقين مع رسلهم، وأنذرهم بمثل عواقبهم، وحذرهم من الاغترار بإمهال الله وخص بالذكر رسالة إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. وخص إبراهيم بأنه جعل كلمة(1/1010)
التوحيد باقية في جمع من عقبه وتوعد المشركين وأنذرهم بعذاب الآخرة بعد البعث الذي كان إنكارهم وقوعه من مغذيات كفرهم وإعراضهم لاعتقادهم أنهم في مأمن بعد الموت.
وقد رتبت هذه الأغراض وتفاريعها على نسخ بديع وأسلوب رائع في التقديم والتأخير والأصالة والاستطراد على حسب دواعي المناسبات التي اقتضتها البلاغة، وتجديد نشاط السامع لقبول ما يلقى إليه. وتخلل في خلاله من الحجج والأمثال والمثل والقوارع والترغيب والترهيب، شيء عجيب، مع دحض شبه المعاندين بأفانين الإقناع بانحطاط ملة كفرهم وعسف معوج سلوكهم. وأدمج في خلال ذلك ما في دلائل الوحدانية من النعم على الناس والإنذار والتبشير.
وقد جرت آيات هذه السورة على أسلوب نسبة الكلام إلى الله تعالى عدا ما قامت القرينة على الإسناد إلى غيره. (1)
مناسبة السورة لما قبلها
جاء فى أول سورة الشورى : « حم ، عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ».. وقد قلنا فى تأويل هذه الآية : إن الوحى المشار إليه هنا ، هو الوحى بتلك الحروف المقطعة ، التي هى من كلام اللّه سبحانه وتعالى ، لنبيه الكريم ، من غير وساطة ملك ، وإن هذا الوحى هو أشبه بالرمز والإشارة ، بحيث لا يفهم ماوراء الرمز والإشارة إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ..
ثم جاء قوله تعالى : فى أول سورة الزخرف هذه : « حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » فكان فى هذا إشارة إلى ما يوحى إلى النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ من آيات اللّه وكلماته ، عن طريق الرسول السماوي ، جبريل عليه السلام ، مع ما تلقاه وحيا مباشرا من ربه ..وهذا الوحى به عن هذا الطريق ، ـ طريق الرسول السماوي ـ هو الذي يشارك أهل اللسان العربي ، النبىّ ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فى فهم دلالات ألفاظه ، ومعانى آياته ، لأنه بلسانهم الذي يتكلمون به ، وبألفاظهم التي يتعاملون بها .. فليس إذن كلّ القرآن من هذا الوحى الرمزى ، الذي اختصّ النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ بفهمه والعمل به ، دون أن يطالب غيره من المؤمنين بالبحث عن دلالته ، وإن كانوا مطالبين بالتعبد بتلاوته.
ومن جهة أخرى ، فإنه قد جاء فى ختام سورة الشورى : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ »..ثم كان قوله تعالى فى مفتتح سورة الزخرف : « إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (25 / 209)(1/1011)
لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ » ـ بيانا لهذا النور ، الذي يهدى إلى صراط اللّه ، وهو أنه قرآن كريم ، بلسان عربى مبين ، وأنه بهذا اللسان هو نعمة جليلة أنعم اللّه بها على العرب ، الذين كان معهم وحدهم مفاتح الطريق إلى هذا النور ، وكان إليهم قيادة الناس جميعا إلى الهدى .. ثم كان قوله تعالى بعد ذلك : « أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ » ـ تهديدا لهؤلاء الذين جعل اللّه إلى أيديهم مفاتح هذا النور أن يصرف عنهم هذا العطاء الجزيل ، إذا هم لم يقبلوه ، ويحسنوا الانتفاع به .. وبهذا ، وبكثير غيره مما سنراه عند وقوفنا بين يدى هذه السورة ، نجد التآخى بين السورتين ، ذلك التآخى الموصول بين آيات القرآن كلها ، وسوره .. آية آية ، وسورة سورة .. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الزخرف » من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها تسع وثمانون آية ، وكان نزولها بعد سورة « الشورى ».
2 - وقد افتتحت سورة « الزخرف » بالثناء على القرآن الكريم ، وبتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه ، وببيان جانب من مظاهر قدرته - تعالى - ، ومن أنواع نعمه.قال - تعالى - : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ ، فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ...
3 - ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن جهالات المشركين ، وعن دعاواهم الكاذبة ، وعن أقوالهم الفاسدة عند ما يدعون إلى الدخول في الدين الحق.قال - تعالى - : وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ، سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ. وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ، ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ........ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
4 - وبعد أن ساقت السورة الكريمة جانبا من دعوة إبراهيم - عليه السلام - لقومه ، واصلت حديثها عن موقف المشركين من دعوة الحق ، وعن اعتراضهم على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أخذت في تفنيد هذه الاعتراضات ، وفي تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه منهم ، وبينت سوء عاقبتهم في الدنيا والآخرة.قال - تعالى - : وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ، نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ..
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (13 / 101)(1/1012)
5 - ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك جانبا من قصة موسى - عليه السلام - وكيف أن اللّه - تعالى - دمر فرعون وقومه ، بسبب بغيهم وإصرارهم على كفرهم.قال - تعالى - : وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ ، قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ، وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ. فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ. فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ. فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ.
6 - ثم أتبعت السورة حديثها عن جانب من قصة موسى مع فرعون وقومه ، بالحديث عن موقف المشركين من عيسى - عليه السلام - الذي جاء قومه بالحق والحكمة ، فقال - تعالى - : وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ.
7 - ثم وجه - سبحانه - نداء إلى عباده المؤمنين ، بشرهم فيه برضوانه وجنته ، فقال - تعالى - : يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ. يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ.
8 - وكعادة القرآن الكريم في المقارنة بين عاقبة الأخيار والأشرار ، أتبع القرآن حديثه عن ثواب المتقين ، بالحديث عن عقاب الكافرين ، فقال - تعالى - : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ. وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ.
9 - ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بتلقين النبي - صلى الله عليه وسلم - الجواب الذي يخرس به ألسنة المشركين ، ويسليه عن كيدهم ولجاجهم ويسلحه بالحق الذي لا يحوم حوله باطل. قال - تعالى - : قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ. سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ.إلى أن يقول - سبحانه - : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ. وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ. فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
10 - وبعد فهذا عرض إجمالى لبعض المقاصد التي اشتملت عليها سورة « الزخرف » ، ومنه نرى أن السورة الكريمة تهتم اهتماما واضحا بالحديث عن العقبات التي وضعها المشركون في طريق الدعوة الإسلامية ، وكيف أن اللّه - تعالى - قد أعطى نبيه - صلى الله عليه وسلم - السلاح الذي يهدم به هذه العقبات كما اهتمت(1/1013)
ببيان مظاهر قدرة اللّه - تعالى - ونعمه على خلقه ، وببيان جانب من قصص بعض الأنبياء. كإبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام - لتسليته - صلى الله عليه وسلم - عما لحقه من أذى المشركين ، كما اهتمت بالمقارنة بين عاقبة الأخيار والأشرار ، وبإقامة البراهين الساطعة على وحدانية اللّه - عز وجل -–
في السورة حملة على المشركين بسبب عقيدتهم بأن الملائكة بنات اللّه وتمسكهم الأعمى بتقاليد الآباء واستكبارهم عن الاستجابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يكن من العظماء. وحكاية لاعترافهم بأن اللّه خالق السموات والأرض وخالقهم أيضا.
وفصول من المناظرة بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - حول عقائدهم. وتذكير بإبراهيم وموقفه من قومه وبموسى ورسالته لفرعون وبعيسى ورسالته وتقرير لمسؤولية قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القرآن ورسالته ، وتطمين للنبي وتسليته. وتنويه بعظمة اللّه وشمول ربوبيته ، ووصف رائع لمصائر المتقين والمجرمين في الآخرة.
وفصول السورة مترابطة ومتساوقة ، وبدايتها مرتبطة بنهايتها أيضا مما فيه الدلالة على نزولها دفعة واحدة أو متتابعة.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [54] مدنية ، وهي منسجمة في السياق والموضوع انسجاما تاما وهذا ما يحمل على الشك في تلك الرواية. (1)
سورة الزخرف مكيّة ، وهي تسع وثمانون آية.
تسميتها : سميت (سورة الزخرف) لاشتمالها على وصف بعض مظاهر الحياة الدنيا ومتاعها الفاني وهو الزخرف ، أي الذهب أو الزينة المزوقة ومقارنته بنعيم الآخرة الخالد في قوله تعالى : ... وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ ، وَزُخْرُفاً ، وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [34 - 35].
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من آل حم من وجهين :
الأول - تشابه مطلع هذه السورة مع مطلع وخاتمة السورة المتقدمة في وصف القرآن الكريم ، وبيان مصدره : وهو الوحي الإلهي.
الثاني - التشابه في إيراد الأدلة القاطعة على وجود اللّه عز وجل ووحدانيته ، ووصف أحوال الآخرة ومخاوفها وأهوال النار التي يتعرض لها الكفار ، ومقارنته بنعيم الجنة وإعداده للمؤمنين المتقين.
مشتملاتها :
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (4 / 488)(1/1014)
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية يتعلق بغرس أصول العقيدة الإسلامية في النفوس ، وهي : الإيمان باللّه عز وجل وحده لا شريك له ، والرسالة والنبوة والوحي ، والبعث والجزاء.
بدأت السورة ببيان مصدر القرآن العظيم وهو الوحي الإلهي وتأكيد عربيته ومصداقيته ، وجعله معجزة الإسلام والنبي - صلى الله عليه وسلم - الخالدة إلى يوم القيامة ، وكونه أداة إنذار قريش وقبائل العرب الذين أسرفوا في متع الدنيا ، وكذبوا رسولهم كتكذيب من سبقهم من الأمم.
ثم أبانت بنحو قاطع أدلة وجود اللّه عز وجل وقدرته ووحدانيته من خلق السموات ، والأرض وتذليلها وتمهيدها وإيجاد طرقها ، وإنزال الغيث النافع عليها ، وخلق أصناف (أزواج) الأشياء والفلك (السفن) والأنعام لأهلها ، واعتراف المشركين صراحة بأن الخالق هو اللّه عز وجل.
ولكنهم لوثوا ذلك الاعتراف بالوثنية والخرافة ، فعبدوا الأصنام والأوثان ، وزعموا أن الملائكة بنات اللّه ، ولم يجدوا مسوغا لتدينهم الفاسد إلا تقليد الآباء والأجداد ، فصححت لهم آي القرآن انحرافهم ، ونعت جهلهم وسفههم بتلك العبادة الباطلة ، والزعم الذي لا دليل عليه ، وحذرتهم من إنزال مثل العقاب الذي أهلك به اللّه أمثالهم من الأمم الغابرة.
وأوردت قصص بعض الأنبياء من أولي العزم كإبراهيم الخليل وموسى وعيسى عليهم السلام ليعتبروا بها ويتعظوا بأحداثها ونتائجها. وأردفت قصة إبراهيم بتفنيد شبهة المشركين حول رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حيث اقترحوا إنزالها على أحد رجلين عظيمين من أهل الجاه والثراء في مكة والطائف ، لا على يتيم فقير ، فرد اللّه عليهم بأن ميزان الاصطفاء للنبوة هو مقومات أدبية خلقية إنسانية ، لا مادية رخيصة ، فالدنيا لا تساوي شيئا عند اللّه تعالى ، وأنه خشية أن يكون الناس أمة واحدة على ملة الكفر ، لمنحها بجميع زخارفها وأمتعتها الكفار ، ومنعها المؤمنين.
وحذرتهم عقب ذلك من الإعراض عن ذكر اللّه ، ورغّبتهم في النعيم الأبدي في الآخرة ، وامتنّت عليهم بأن القرآن شرف لنبي اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولهم على السواء :
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [44].
ثم ختمت السورة ببيان وصف نعيم الجنة الذي لا مثيل له ، والمخصّص للمؤمنين بآيات اللّه المسلمين المنقادين لربهم ، وإيضاح أهوال القيامة وشدائد الأشقياء أهل النار حيث يتقلّبون في عذاب جهنم ، وإفلاسهم من شفاعة الأصنام والآلهة المزعومة ، وإعلان اليأس من إيمان هؤلاء المشركين والإعراض عنهم ، فسوف يعلمون ما يلقونه من العذاب. (1)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (25 / 112)(1/1015)
وهي مكية بالإجماع. وعدد آياتها تسع وثمانون آية. وهي تدور حول الكلام على القرآن ونقاش المشركين ، والاستدلال على وجود اللّه وصفاته بآثاره ونعمه على الناس. وتمتاز هذه السورة بتعداد أباطيلهم ومعتقداتهم الفاسدة والرد عليهم بما يفحمهم ثم الاستشهاد ببعض الرسل السابقين كموسى وعيسى.مع التعرض لأحوال يوم القيامة بالنسبة للمؤمنين والكافرين إلى غير ذلك من الآيات والحكم القرآنية. (1)
مكية كما روي عن ابن عباس وحكى ابن عطية إجماع أهل العلم على ذلك ولم ينقل استثناء ، وقال مقاتل : إلا قوله تعالى : وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف : 45] فإنها نزلت ببيت المقدس كذا في مجمع البيان ، وفي الإتقان نزلت بالسماء ، وقيل : بالمدينة ، وعدد آيها ثمان وثمانون في الشامي وتسع وثمانون في غيره ، ووجه مناسبة مفتتحها لمختتم ما قبلها ظاهر. (2)
* سورة الزخرف مكية ، وقد تناولت أسس العقيدة الإسلامية وأصول الإيمان ، (الإيمان بالوحدانية ، وبالرسالة ، وبالبعث والجزاء) كشأن سائر السور المكية
* عرضت السورة لإثبات مصدر الوحي ، وصدق هذا القرآن ، الذي أنزله الله على النبي الأمي ، بأفصح لسان ، وأنصع بيان ، ليكون معجزة واضحة للنبي العربي [ حم . والكتاب المبين . إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون . . ] الآيات .
* ثم عرضت لذكر دلائل قدرته تعالى ووحدانيته ، منبثة في هذا الكون الفسيح ، في السماء والأرض ، والجبال والوهاد ، والبحار والأنهار ، والماء آلهأطل من السماء ، والسفن التي تسير فوق سطح الماء ، والأنعام التي سخرها الله للبشر ، ليأكلوا لحومها ويركبوا ظهورها [ الذي جعل لكم الأرض مهدا ، وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون
* والذى نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون . . ] الآيات .
*ثم تناولت السورة ما كان عليه (المجتمع الجاهلي ) من الخرافات والوثنيات ، فقد كانوا يكرهون البنات ، ومع ذلك اختاروا لله البنات سفها وجهلا ، فزعموا أن الملائكة بنات الله ، فجاءت الآيات لتصحيح تلك الإنحرافات ، وترد النفوس إلى الفطرة ، وإلى الحقائق الأولى القطعية [ وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين . أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين . . ] ؟ الآيات .
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 382)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (13 / 63)(1/1016)
*وتحدثت السورة بايجاز عن دعوة (الخليل إبراهيم ) عليه السلام ، الذي يزعم المشركون أنهم من سلالته وعلى ملته ، فكذبتهم قي تلك الدعوى ، وبينت الآيات أن إبراهيم أول من تبرأ من الأوثان [ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون . . ] الآيات .
* ثم انتقلت إلى تفنيد تلك الشبهة السقيمة ، التي أثارها المشركون حول رسالة محمد عليه السلام ، فقد اقترحوا أن تتنزل الرسالة على رجل من أهل الجاه والثراء ، لا على يتيم فقير كمحمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) فجاءت الآيات لتقرير أن الجاه والثراء ليسا ميزانا لكرامة الإنسان ، واستحقاقه المناصب الرفيعة ، وأن الدنيا من الحقارة والمهانة ، بحيث لو شاء الله لأغدقها على الكافرين ، ومنعها عباده المؤمنين [ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ؟ أهم يقسمون رحمة ربك . . ] الآيات .
* وذكرت السورة قصة (موسى وفرعون لتأكيد تلك الحقيقة السابقة ، فها هو فرعون الجبار ، يعتز ويفخر على موسى بملكه وسلطانه ، كما يعتز الجاهلون من رؤساء قريش على النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ثم تكون نتيجته الغرق والدمار
[ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين . فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون . . ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة ببيان بعض أحوال الآخرة وشدائدها وأهوالها ، وبيان حال الأشقياء المجرمين ، وهم يتقلبون في غمرات الجحيم [ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين . . ] آلايات إلى نهاية السورة الكريمة .
التسمية : سميت سورة " الزخرف " لما فيها من التمثيل الرائع - لمتاع الدنيا الزائل وبريقها الخادع - بالزخرف اللامع ، الذي ينخدع به الكثيرون ، مع أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة ، ولهذا يعطيها الله للأبرار والفجار ، وينالها الأخيار والأشرار ، أما الآخرة فلا يمنحها الله إلا لعباده المتقين ، فالدنيا دار الفناء ، والآخرة دار البقاء . (1)
مقصدوها البشارة بإعلاء هذه الأمة بالعقل والحكمة حتى يكونوا أعلى الأمم في العلم وما ينشأ عنه شأناً لأن هدايتهم بأمر لدني هو من أغرب الغريب الذي هو للخواص , فهو في الرتبة الثانية من الغرابة وأن ذلك أمر لا بد لهم منه وإن اشتدت نفرتهم منه وإعراضهم عنهوأنه لذكر لك ولقومك حتى تكونوا أهلاً للجنة وفيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون , ولم يقل : وهم , وعلى ذلك دلت تسميتها بالزخرف لما في آيتها من أنه لو أراد أن يعم الكفر جميع الناس لعمهم بسبوغ النعم , ولكنه لم
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 183)(1/1017)
يعمهم بذلك , بل فاوت بينهم فأفقر بعضهم وأكثر بؤسهم وضرهم وفرق أمرهم , ليسهل ردهم عن الكفر الذي أدتهم إليه طبائعهم وحظوظهم ونقائصهم بما يشهدون من قباحة الظلم والعدوان إلى ما يرونه من محاسن الدين والإيمان , ولذة الخضوع للملك الديان , فتخضع لهم الملوك والأعيان , ويصير لهم الفرقان على جميع أهل العصيان (1)
تعرض هذه السورة جانبا مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات ومن جدال واعتراضات.
وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس وكيف يقرر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلية الزائفة ، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك ، ولا يزال جانب منها قائما في النفوس في كل زمان ومكان.
كانت الوثنية الجاهلية تقول : إن في هذه الأنعام التي سخرها اللّه للعباد ، نصيبا للّه ، ونصيبا لآلهتهم المدعاة. «وجعلوا للّه مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا. فقالوا : هذا للّه - بزعمهم - وهذا لشركائنا. فما كان لشركائهم فلا يصل إلى اللّه ، وما كان للّه فهو يصل إلى شركائهم» .. وكانت لهم في الأنعام أساطير شتى وخرافات أخرى كلها ناشئ من انحرافات العقيدة. فكانت هناك أنواع من الأنعام محرمة ظهورها على الركوب - وأنواع محرمة لحومها على الأكل : «وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها افتراء عليه» ..
وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية ورد النفوس إلى الفطرة وإلى الحقائق الأولى.
فالأنعام من خلق اللّه ، وهي طرف من آية الحياة ، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعا. وقد خلقها اللّه وسخرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها لا ليجعلوا له شركاء ، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به اللّه بينما هم يعترفون بأن اللّه هو الخالق المبدع ثم هم ينحرفون عن مقتضى هذه الحقيقة التي يقرون بها ، ويعزلونها عن حياتهم الواقعة ، ويتبعون خرافات وأساطير : «ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن : خلقهن العزيز العليم ، الذي جعل لكم الأرض مهدا ، وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون ، والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا ، كذلك تحزجون ، والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ، لتستووا على ظهوره ، ثم تذكروا
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 3)(1/1018)
نعمة ربكم إذا استويتم عليه ، وتقولوا :سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون» ..
وكانت الوثنية الجاهلية تقول : إن الملائكة بنات اللّه ومع أنهم هم يكرهون مولد البنات لهم ، فإنهم كانوا يختارون للّه البنات! ويعبدونهم من دونه ، ويقولون : إننا نعبدهم بمشيئة اللّه ولو شاء ما عبدناهم! وكانت مجرد أسطورة ناشئة من انحراف العقيدة.
وفي هذه السورة يواجههم بمنطقهم هم ويحاجهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح ، حول هذه الأسطورة التي لا تستند إلى شيء على الإطلاق : «وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ .. أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ ، وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ؟ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ. وَقالُوا : لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ! ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ؟ بَلْ قالُوا : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ!» ..
ولما قيل لهم : إنكم تعبدون أصناما وأشجارا وإنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم ، وقيل لهم : إن كل معبود من دون اللّه هو وعابدوه في النار. حرفوا الكلام الواضح البين ، واتخذوا منه مادة للجدل. وقالوا :فما بال عيسى وقد عبده قومه؟ أهو في النار؟! ثم قالوا : إن الأصنام تماثيل الملائكة والملائكة بنات اللّه. فنحن في عبادتنا لهم خير من عبادة النصارى لعيسى وهو بشر له طبيعة الناس! وفي هذه السورة يكشف عن التوائهم في هذا الجدل ويبرىء عيسى - عليه السّلام - مما ارتكبه أتباعه من بعده وهو منه بري ء : «ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون. وقالوا : أآلهتنا خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلا. بل هم قوم خصمون. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ..» ..
وقد كانوا يزعمون أنهم على ملة أبيهم إبراهيم ، وأنهم بذلك أهدى من أهل الكتاب وأفضل عقيدة. وهم في هذه الجاهلية الوثنية يخبطون.
فبين لهم في هذه السورة حقيقة ملة إبراهيم ، وأنها ملة التوحيد الخالص ، وأن كلمة التوحيد باقية في عقبه ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد جاءهم بها ، ولكنهم استقبلوها واستقبلوه بغير ما كان ينبغي من ذرية إبراهيم : «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ. وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا : هذا سِحْرٌ ، وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ ..» ..(1/1019)
ولم يدركوا حكمة اختيار اللّه - سبحانه - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ووقفت في وجوههم القيم الأرضية الزائفة الزهيدة التي اعتادوا أن يقيسوا بها الرجال.
وفي هذه السورة يحكي تصوراتهم وأقوالهم في هذا الصدد ويرد عليها ببيان القيم الحقيقية ، وزهادة القيم التي يعتبرونها هم ويرفعونها : «وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم : أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ، ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ، ورحمة ربك خير مما يجمعون. ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون ، وزخرفا. وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ، والآخرة عند ربك للمتقين» ..
ثم جاء بحلقة من قصة موسى - عليه السّلام - مع فرعون ، يبدو فيها اعتزاز فرعون بمثل تلك القيم الزائفة ، وهوانها على اللّه ، وهوان فرعون الذي اعتز بها ، ونهايته التي تنتظر المعتزين بمثل ما اعتز به : «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ، فَقالَ : إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ. وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَقالُوا : يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ، إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ. وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ : يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ، وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ، أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ! فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ، فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ» ..
حول تلك الأساطير الوثنية والانحرافات الاعتقادية ، وحول تلك القيم الصحيحة والزائفة ، تدور السورة ، وتعالجها على النحو الذي تقدم. في أشواط ثلاثة تقدم أولها - قبل هذا - وأشرنا إلى بعض مادة الأشواط الأخرى في بعض المقتطفات من آيات السورة. (1)
خلاصة ما تضمنته السورة من المقاصد
(1) وصف القرآن الكريم.
(2) الأمر بإنذار قومه - صلى الله عليه وسلم - مع غفلتهم وإسرافهم فى لذات الدنيا ، (3) شأن هؤلاء المشركين فى تكذيبهم للرسول شأن غيرهم من المكذبين من قبلهم.
(4) اعترافهم بأن اللّه هو خالق السموات والأرض مع عبادتهم للأصنام والأوثان.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3174)(1/1020)
(5) اعتقادهم أن الملائكة بنات اللّه ثم نعى ذلك عليهم.
(6) تمسكهم بتقليد الآباء والأجداد فى شئونهم الدينية.
(7) قصص الأنبياء من أولى العزم كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
(8) وصف نعيم الجنة.
(9) الأهوال التي يلقاها أهل النار حتى يتمنّوا الموت ليستريحوا مما هم فيه.
(10) متاركة أهل الباطل والصفح عنهم حتى يأتى وعد اللّه. (1)
=================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (25 / 117)(1/1021)
(44) سورة الدخان
سميت هذه السورة حم الدخان روى الترمذي بسندين ضعيفين يعضد بعضهما بعضا: عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "من قرأ حم الدخان في ليلة أو في ليلة الجمعة" الحديث.
واللفظان بمنزلة اسم واحد لأن كلمة {حم} غير خاصة بهذه السورة فلا تعد علما لها، ولذلك لم يعدها صاحب الإتقان في عداد السور ذوات أكثر من اسم وسميت في المصاحف وفي كتب السنة سورة الدخان.
ووجه تسميتها بالدخان وقوع لفظ الدخان فيها المراد به آية من آيات الله أيد الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلذلك سميت به اهتماما بشأنه، وإن كان لفظ "الدخان" بمعنى آخر قد وقع في سورة حم تنزيل في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] وهي نزلت قبل هذه السورة على المعروف من ترتيب تنزيل سور القرآن عن رواية جابر بن زيد التي اعتمدها الجعبري وصاحب الإتقان على أن وجه التسمية لا يوجبها.
وهي مكية كلها في قول الجمهور. قال ابن عطية: هي مكية لا أحفظ خلافا في شيء منها. ووقع في الكشاف استثناء قوله {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15] ولم يعزه إلى قائل، ومثله القرطبي، وذكره الكواشي قولا وما عزاه إلى معين. وأحسب أنه قول نشأ عما فهمه القائل، وسنبينه في موضعه.
وهي السورة الثالثة والستون في عد نزول السور في قول جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الزخرف وقبل سورة الجاثية في مكانها هذا وعدت آيها ستا وخمسين عند أهل المدينة ومكة والشام، وعدت عند أهل البصرة سبعا وخمسين، وعند أهل الكوفة تسعا وخمسين.
أغراضها
أشبه افتتاح هذه السورة فاتحة سورة الزخرف من التنويه بشأن القرآن وشرفه وشرف وقت ابتداء نزوله ليكون ذلك مؤذنا أنه من عند الله ودالا على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وليتخلص منه إلى أن المعرضين عن تدبر القرآن ألهاهم الاستهزاء واللمز عن التدبر فحق عليهم دعاء الرسول بعذاب الجوع، إيقاظا لبصائرهم بالأدلة الحسية حين لم تنجع فيهم الدلائل العقلية، ليعلموا أن إجابة الله دعاء رسوله - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنه أرسله ليبلغ عنه مراده.
فأنذرهم بعذاب يحل بهم علاوة على ما دعا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - تأييدا من الله له بما هو زائد على مطلبه.(1/1022)
وضرب لهم مثلا بأمم أمثالهم عصوا رسل الله إليهم فحل بهم من العقاب من شأنه أن يكون عظة لهؤلاء، تفصيلا بقوم فرعون مع موسى ومؤمني قومه، ودون التفصيل بقوم تبه، وإجمالا وتعميما بالذين من قبل هؤلاء.
وإذ كان إنكار البعث وإحالته من أكبر الأسباب التي أغرتهم على إهمال التدبر في مراد الله تعالى انتقل الكلام إلى إثباته والتعريف بما يعقبه من عقوبة المعاندين ومثوبة المؤمنين ترهيبا وترغيبا.
وأدمج فيها فضل الليلة التي أنزل فيها القرآن، أي ابتدئ إنزاله وهي ليلة القدر وأدمج في خلال ذلك ما جرت إليه المناسبات من دلائل الوحدانية وتأييد الله من آمنوا بالرسل، ومن إثبات البعث.
وختمت بالشد على قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بانتظار النصر وانتظار الكافرين القهر. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « الزخرف » التي سبقت هذه السورة بقوله تعالى : « فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ».. وقد قلنا إن هذا الختام يتّسق مع السورة التي كانت تمثّل مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية فى مواجهة المشركين ، وأن هذه المرحلة كانت أشبه بالهدنة بعد هذا الصراع الذي كان محتدما بين النبي والمشركين ..
وقد بدئت سورة « الدخان » ، بذكر القرآن الكريم ، وأنه نزل فى ليلة مباركة ، يفرق فيها كل « أَمْرٍ حَكِيمٍ » وهذا البدء ، هو تحريك لمسيرة الدعوة ، بعد تلك الهدنة ، ومن أول المسيرة يواجه المشركون بالقرآن الكريم ، وما يحمل إليهم من خير وبركة ، وأنه إذا كان قد أنذرهم وتوعدهم بالعذاب ، فإنما ذلك لأنه حريص على هدايتهم ، ضنين بهم على النار التي أعدت للكافرين .. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الدخان » من السور المكية ، وعدد آياتها : تسع وخمسون آية في المصحف الكوفي ، وسبع وخمسون في البصري ، وست وخمسون في غيرهما. وكان نزولها بعد سورة « الزخرف ».
2 - وقد افتتحت بالثناء على القرآن الكريم ، وأنه قد أنزله - سبحانه - في ليلة مباركة ، قال - تعالى - : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ...
3 - ثم تحدثت عن جانب من العقوبات الدنيوية التي عاقب اللّه - تعالى - بها كفار قريش ، وذكرت ما تضرعوا به إلى اللّه لكي يكشف عنهم ما نزل بهم من بلاء ، فلما كشفه - تعالى - عنهم عادوا إلى
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (25 / 306)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (13 / 180)(1/1023)
كفرهم وعنادهم ...قال - تعالى - : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ. فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ. رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ...
4 - ثم ساقت جانبا من قصة فرعون مع موسى - عليه السلام - ، فبينت أن موسى دعا فرعون وقومه إلى وحدانية اللّه - تعالى - ، ولكنهم أصروا على كفرهم ، فكانت عاقبتهم الإغراق في البحر ، دون أن يحزن لهلاكهم أحد ، وأنهم قد تركوا من خلفهم ما تركوا من جنات ونعيم ..قال - تعالى - : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ..
5 - وبعد أن هددت السورة الكريمة مشركي مكة على أقوالهم الباطلة في شأن البعث ، وردت عليهم بما يدحض حجتهم ، أتبعت ذلك ببيان سوء عاقبة الكافرين ، وحسن عاقبة المؤمنين ، وختمت بتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من أذى ، ووعدته بالنصر على أعدائه ، قال - تعالى - : فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ.
6 - هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة يراها تمتاز بقصر الآيات ، وبأسلوبها الذي تبرز فيه ألوانا متعددة من تهديد المشركين ، تارة عن طريق تذكيرهم بالقحط الذي نزل بهم ، وتارة عن طريق ما حل بالمكذبين من قبلهم ، وتارة عن طريق ما ينتظرهم من عذاب مهين ، إذا ما استمروا على كفرهم ...
كما يراها تثنى على القرآن بألوان متعددة من الثناء ، وتبشر المتقين ببشارات متنوعة ، وتطوف بالنفس الإنسانية في عوالم شتى ، لتهديها إلى الصراط المستقيم ، ولترشدها إلى طريق الحق واليقين. (1)
في السورة تنويه بليلة نزول الوحي بالقرآن ورسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس ، وتوكيد بصدق ذلك وتنديد بالكفار على إصرارهم على الكفر والعناد وإنذار لهم ، وتذكير بما كان من موقف فرعون وقومه المماثل من رسالة موسى وما كان من إغراقهم ونجاة بني إسرائيل ونعمة اللّه عليهم بسبب استجابتهم للدعوة. وحكاية لما كان يقوله الكفار في صدد إنكار البعث وتسفيه لقولهم وتوكيد حكمة اللّه وعدله في خلق الكون ومجيء يوم القيامة وبيان لمصير الكفار والمتقين فيه.
وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة مما يسوّغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.
ولقد روى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» «1». وروى الترمذي عن أبي هريرة أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «من قرأ حم
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (13 / 113)(1/1024)
الدخان في ليلة الجمعة غفر له» «2» ، وأخرج الطبراني حديثا جاء فيه : «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم جمعة بنى اللّه له بيتا في الجنة» «3».
وينطوي في الأحاديث تنويه نبوي بهذه السورة لا بدّ له من حكمة ، ولعلّ منها ما انطوى فيها من مواعظ وتنويه بالقرآن وليلة نزوله وبالإضافة إلى ذلك فيها دلالة على أن السورة كانت تامة الشخصية معروفة الاسم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - . (1)
سورة الدخان مكيّة ، وهي تسع وخمسون آية.
تسميتها : سمّيت (سورة الدّخان) لما فيها من تهديد المشركين في الماضي بالجدب والقحط الذي يجعل الجائع كأنه يرى في الفضاء دخانا من شدة الجوع ، وتهديد الأجيال المقبلة بظهور الدّخان في السماء مدة أربعين يوما والذي يعدّ أمارة من أمارات السّاعة.
مناسبتها لما قبلها :
تتجلّى مناسبة هذه السورة لما قبلها من آل حاميم من وجوه ثلاثة :
1 - افتتاح كلتا السّورتين بالقسم بالقرآن العظيم تنويها به ، في قوله تعالى : حم ، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ.
2 - تشابه خاتمة السّورة المتقدّمة ومطلع هذه السّورة ، حيث ختمت سورة الزّخرف بالتّهديد والوعيد في قوله تعالى : فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [83] فذكر يوما غير معيّن ولا موصوفا ، ثم أبان وصفه في سورة الدّخان في القسم الأول منها حيث أنذر تعالى المشركين في قوله :فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [10].
3 - حكاية ما قاله النّبي - صلى الله عليه وسلم - لقومه وما قاله أخوه موسى عليه السّلام لقوم فرعون ، فقال النّبي - صلى الله عليه وسلم - في السّورة المتقدّمة : يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ [88] ، ثم قال اللَّه له : فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ : سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [89] ، وحكى اللَّه عن موسى في هذه السّورة : فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [22] ، وقال موسى : وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [20 - 21] ، والتّشابه واضح في الموقفين.
ما اشتملت عليه السّورة :
موضوع سورة الدّخان المكيّة كسائر موضوعات السّور المكيّة وسور آل حاميم السّبع ، وهو بيان أصول العقيدة الإسلاميّة : التوحيد ، والنّبوة والرّسالة ، والبعث.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (4 / 534)(1/1025)
بدئت السورة ببيان تاريخ بدء إنزال القرآن في ليلة القدر من رمضان ، رحمة من اللَّه بعباده ، وأن منزله هو مالك الكون كله والمخلوقات جميعها ، وأنه هو الإله الحقّ الواحد الذي لا شريك له ، غير أن المشركين في شكّ وارتياب من أمر القرآن.
ثم أعدتهم بالعذاب الشديد ، وبالدّخان المخيف الذي ينذرهم بأسوأ العواقب ، ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا.
وأردفت ما سبق بعظتهم بقصة فرعون وقومه مع موسى عليه السّلام ، حيث نجّى اللَّه المؤمنين ، وأغرق الكافرين في البحر.
ثم وصفت مشركي مكة بأنهم قوم منكرون للبعث في قوله تعالى : إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى ، وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [35] ، وهدّدتهم بالإهلاك كما أهلك المجرمين الأشدّاء من قبلهم ، مثل قوم تبّع الحميري ، مع إيراد الدّليل على قدرة اللَّه عزّ وجلّ على كلّ شيء.
ثمّ وصفت لهم أهوال يوم القيامة وما فيه من الحساب والعقاب وطعام الزّقوم في نار جهنم وغير ذلك مما يرهب ويرعب ، ويثير المخاوف الشّديدة في النّفوس.
وختمت السّورة بنعت وبيان مصير الأبرار ومصير الفجّار ، لترغيب الفريق الأول وتبشيره بالعاقبة الحميدة ، وترهيب الفريق الثاني وإنذاره بالنّكال والعذاب الشّديد. (1)
سورة الدخان مكية باتفاق ، وهي سبع وخمسون آية. وتشمل على بيان عظمة القرآن ، وتهديد المشركين. وضرب الأمثال لهم بفرعون وقومه ونهايته ، ثم إثبات البعث ومناقشتهم فيه ، وبيان بعض أحواله الخاصة بالكفار والمؤمنين. ثم ختمت كما بدئت بالكلام على القرآن. (2)
مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم واستثنى بعض قوله تعالى : إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدخان : 15] وآيها كما قال الداني تسع وخمسون في الكوفي وسبع في البصري وست في عدد الباقين. واختلافها على ما في مجمع البيان أربع آيات حم [الدخان : 1] وإِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ [الدخان :
34] كوفي شَجَرَةَ الزَّقُّومِ [الدخان : 43] عراقي شامي والمدني الأول في الْبُطُونِ [الدخان : 45] عراقي مكي والمدني الأخير. ووجه مناسبتها لما قبلها أنه عزّ وجلّ ختم ما قبل بالوعيد والتهديد وافتتح هذه بشيء من الإنذار الشديد وذكر سبحانه هناك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (25 / 202) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (25 / 118)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 410)(1/1026)
[الزخرف : 88] وهنا نظيره فيما حكي عن أخيه موسى عليهما الصلاة والسلام بقوله تعالى فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [الدخان : 22] وأيضا ذكر فيما تقدم فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزخرف : 89] وحكى سبحانه عن موسى عليه السلام إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان : 20 ، 21] وهو قريب من قريب إلى غير ذلك ، وهي إحدى النظائر التي كان يصلي بهن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كما أخرج الطبراني عن ابن مسعود الذاريات والطور والنجم واقتربت والرحمن والواقعة ونون والحاقة والمزمل ولا أقسم بيوم القيامة وهل أتى على الإنسان والمرسلات وعم يتساءلون والنازعات وعبس وويل للمطففين وإذا الشمس كورت والدخان (1)
* سورة الدخان مكية وهي تتناول أهداف السور المكية (التوحيد ، الرسالة ، البعث ) لترسيخ العقيدة وتثبيت دعائم الإيمان .
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن العظيم - المعجزة الخالدة - الباقي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وإليه يرجعون ، وقد تحدثت عن إنزال الله تعالى له في ليلة مباركة ، من أفضل ليالي العمر هي " ليلة القدر " وبينت شرف تلك الليلة العظيمة التي تفضل وتدبر فيها أمور الخلق ، والتي اختارها الله لإنزال خاتمة الكتب السماوية ، على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) [ حم
* والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . . ] الآيات .
* ثم تحدثت عن موقف المشركين من هذا القرآن العظيم ، وأنهم في شك وارتياب من أمره ، مع وضوح آياته ، وسطوع براهينه ؟ وأنذرتهم بالعذاب الشديد [ بل هم في شك يلعبون فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين 00 ] الآيات .
* ثم تحدثت عن قوم فرعون ، وما حل بهم من العذاب والنكال ، نتيجة الطغيان والإجرام ، وعن الآثار التي تركوها بعد هلاكهم ، من قصور ودور ، وحدائق وبساتين ، وأنهار وعيون ، وعن ميراث بني إسرائيل لهم ، لم ما حدث لهم من تشرد وضياع ، بسبب عصيانهم لأوامر الله [ كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين . . ] الآيات .
* وتناولت السورة الكريمة مشركي قريش ، وإنكارهم للبعث والنشور ، واستبعادهم للحياة مرة أخرى ، ولذلك كذبوا الرسول ، وبينت أن هؤلاء المكذبين ليسوا بإلىرم على الله ، ممن سبقهم من الأمم الطاغية ، وأن سنة الله لا تتخلف في إهلإلى الطغاة المجرمين [ أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين . ] الآيات .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (13 / 109)(1/1027)
* وختمت السورة الكريمة ببيان مصير الأبرار ومصير إلىجار ، بطريق الجمع بين الترغيب والترهيب ، والتبشير والإنذار [ إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم . . ] الآيات إلى نهاية السورة الكريمة .
التسمية : سميت " سورة الدخان " لأن الله تعالى جعله آية لتخويف الكفار ، حيث أصيبوا بالقحط والمجاعة ، بسبب تكذيبهم للرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وبعث الله عليهم الدخان حتى كادوا يهلكون ، ثم نجاهم الله بعد ذلك ببركة دعاء النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) (1) .
مقصودها الإنذار من الهلكة لمن لم يقبل ما في الذكر الكريم الحكيم من الخير والبركة رحمة جعلها بين عامة مشتركة , وعلى ذلك دل اسمها الدخان إذا تؤملت آياته وإفصاح ما فيها وإشاراته (2)
يشبه إيقاع هذه السورة المكية ، بفواصلها القصيرة ، وقافيتها المتقاربة ، وصورها العنيفة ، وظلالها الموحية ..
يشبه أن يكون إيقاعها مطارق على أوتار القلب البشري المشدودة.
ويكاد سياق السورة أن يكون كله وحدة متماسكة ، ذات محور واحد ، تشد إليه خيوطها جميعا. سواء في ذلك القصة ، ومشهد القيامة ، ومصارع الغابرين ، والمشهد الكوني ، والحديث المباشر عن قضية التوحيد والبعث والرسالة. فكلها وسائل ومؤثرات لإيقاظ القلب البشري واستجاشته لاستقبال حقيقة الإيمان حية نابضة ، كما يبثها هذا القرآن في القلوب.
وتبدأ السورة بالحديث عن القرآن وتنزيله في ليلة مباركة فيها يفرق كل أمر حكيم ، رحمة من اللّه بالعباد وإنذارا لهم وتحذيرا. ثم تعريف للناس بربهم : رب السماوات والأرض وما بينهما ، وإثبات لوحدانيته وهو المحيي المميت رب الأولين والآخرين.
ثم يضرب عن هذا الحديث ليتناول شأن القوم : «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ»! ويعاجلهم بالتهديد المرعب جزاء الشك واللعب : «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ» .. ودعاءهم بكشف العذاب عنهم وهو يوم يأتي لا يكشف. وتذكيرهم بأن هذا العذاب لم يأت بعد ، وهو الآن عنهم مكشوف ، فلينتهزوا الفرصة ، قبل أن يعودوا إلى ربهم ، فيكون ذلك العذاب المخوف : «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» ..
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 197)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 94)(1/1028)
ومن هذا الإيقاع العنيف بمشهد العذاب ومشهد البطشة الكبرى والانتقام ينتقل بهم إلى مصرع فرعون وملئه يوم جاءهم رسول كريم ، وناداهم : «أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ» ..
فأبوا أن يسمعوا حتى يئس منهم الرسول. ثم كان مصرعهم في هوان بعد الاستعلاء والاستكبار : «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» ..
وفي غمرة هذا المشهد الموحي يعود إلى الحديث عن تكذيبهم بالآخرة ، وقولهم : «إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ، فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ليذكرهم بمصرع قوم تبع ، وما هم بخير منهم ليذهبوا ناجين من مثل مصيرهم الأليم.
ويربط بين البعث ، وحكمة اللّه في خلق السماوات والأرض ، «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
ثم يحدثهم عن يوم الفصل : «مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ». وهنا يعرض مشهدا عنيفا للعذاب بشجرة الزقوم ، وعتل الأثيم ، وأخذه إلى سواء الجحيم ، يصب من فوق رأسه الحميم. مع التبكيت والترذيل : «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ» ..
وإلى جواره مشهد النعيم عميقا في المتعة عمق مشهد العذاب في الشدة. تمشيا مع ظلال السورة العميقة وإيقاعها الشديد ..
وتختم السورة بالإشارة إلى القرآن كما بدأت : «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .. وبالتهديد الملفوف العنيف : «فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ».
إنها سورة تهجم على القلب البشري من مطلعها إلى ختامها ، في إيقاع سريع متواصل. تهجم عليه بإيقاعها كما تهجم عليه بصورها وظلالها المتنوعة المتحدة في سمة العنف والتتابع. وتطوف به في عوالم شتى بين السماء والأرض ، والدنيا والآخرة ، والجحيم والجنة ، والماضي والحاضر ، والغيب والشهادة ، والموت والحياة ، وسنن الخلق ونواميس الوجود .. فهي - على قصرها نسيبا - رحلة ضخمة في عالم الغيب وعالم الشهود .. (1)
خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد
(1) بيان بدء نزول القرآن.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3206)(1/1029)
(2) وعيد الكافرين بحلول الجدب والقحط بهم.
(3) عدم إيمانهم مع توالى النكبات بهم.
(4) عظة الكافرين بقصص فرعون وقومه مع موسى عليه السلام ، وقد أنجى اللّه المؤمنين ، وأهلك الكافرين.
(5) إنكار المشركين للبعث وقولهم : إن هى إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين (6) إقامة الدليل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
(7) وصف أهوال يوم القيامة.
(8) وصف ما يلاقيه المجرمون من النكال والوبال.
(9) وصف نعيم المتقين وحصولهم على كل ما يرغبون. (1)
=================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (25 / 139)(1/1030)
(45) سورة الجاثية
سميت هذه السورة في كثير من المصاحف العتيقة بتونس وكتب التفسير وفي صحيح البخاري سورة الجاثية معرفا باللام.
وتسمى حم الجاثية لوقوع لفظ {جَاثِيَةً} [الجاثية: 28] فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن، واقتران لفظ "الجاثية" بلام التعريف في اسم السورة مع أن اللفظ المذكور فيها خلي عن لام التعريف لقصد تحسين الإضافة، والتقدير: سورة هذه الكلمة، أي السورة التي تذكر فيها هذه الكلمة، وليس لهذا التعريف فائدة غير هذه. وذلك تسمية حم غافر، وحم الزخرف.
وتسمى سورة شريعة لوقوع لفظ {شريعة} [الجاثية: 18] فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن. وتسمى سورة الدهر لوقوع {مَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] فيها ولم يقع لفظ الدهر في ذوات حم الأخر.
وهي مكية قال ابن عطية: بلا خلاف، وفي القرطبي عن ابن عباس وقتادة استثناء قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} إلى {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] نزلت بالمدينة. وعن ابن عباس أنها نزلت عن عمر بن الخطاب شتمه رجل من المشركين بمكة فأراد أن يبطش به فنزلت.
وهي السورة الرابعة والستون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الدخان وقبل الأحقاف. وعدد آيها في عد المدينة ومكة والشام والبصرة ست وثلاثون. وفي عد الكوفة سبع وثلاثون لاختلافهم في عد لفظ {حم} آية مستقلة.
أغراضها
الابتداء بالتحدي بإعجاز القرآن وأنه جاء بالحق توطئة لما سيذكر بأنه حق كما اقتضاه قوله {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 6]
وإثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلائل ما في السماوات والأرض من آثار خلقه وقدرته في جواهر الموجودات وأعراضها وإدماج ما فيها مع ذلك من نعم يحق على الناس شكرها لا كفرها.
ووعيد الذين كذبوا على الله والتزموا الآثام بالإصرار على الكفر والإعراض عن النظر في آيات القرآن والاستهزاء بها. والتنديد على المشركين إذ اتخذوا آلهة على حسب أهوائهم وإذ جحدوا البعث، وتهديدهم بالخسران يوم البعث، ووصف أهوال ذلك، وما أعد فيه من العذاب للمشركين ومن رحمة للمؤمنين. ودعاء المسلمين للإعراض عن إساءة الكفار لهم والوعد بأن الله سيخزي المشركين.(1/1031)
ووصف بعض أحوال يوم الجزاء. ونظر الذين أهملوا النظر في آيات الله مع تبيانها وخالفوا على رسولهم - صلى الله عليه وسلم - فيما فيه صلاحهم بحال بني إسرائيل في اختلافهم في كتابهم بعد أن جاءهم العلم وبعد أن اتبعوه فما ظنك بمن خالف آيات الله من أول وهلة تحذيرا لهم من أن يقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل من تسليط الأمم عليهم وذلك تحذير بليغ. وذلك تثبيت للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن شأن شرعه مع قومه كشأن شريعة موسى لا تسلم من مخالف، وأن ذلك لا يقدح فيها ولا في الذي جاء بها، وأن لا يعبأ بالمعاندين ولا بكثرتهم إذ لا وزن لهم عند الله. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الدخان بقوله تعالى : « فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ».. وقد قلنا إن هذا الختام هو دعوة إلى النبي أن ينتظر ما ستأتى به الأيام من قومه ، ولن ييأس منهم ..
كما أن هذا الختام هو دعوة للمشركين أن يأخذوا حظّهم من هذه الرحمة المنزلة عليهم من السماء ، والتي يسر اللّه سبحانه وتعالى مواردهم إليها ، فجعل القرآن بلسان عربى مبين ، ولو كان بغير اللسان العربي ، لما كان لهم سبيل إليه ..وهنا تبدأ « سورة الجاثية » بالحديث عن هذا القرآن ، وأنه كتاب منزّل من اللّه العزيز الحكيم .. ثم تعرض الآيات بعد هذا بعض ما اشتمل عليه هذا القرآن من هدى ، ونور .. فكان هذا البدء متلاقيا مع ختام السورة قبلها ، معانقا له. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الجاثية » هي السورة الخامسة والأربعون في ترتيب المصحف. وكان نزولها بعد سورة « الدخان ». وعدد آياتها سبع وثلاثون آية في المصحف الكوفي ، وست وثلاثون في غيره ، لاختلافهم في قوله - تعالى - حم ، هل هو آية مستقلة أولا.
2 - وقد افتتحت هذه السورة بالثناء على القرآن الكريم ، وبدعوة الناس إلى التدبر والتأمل في هذا الكون العجيب ، وما اشتمل عليه من سموات وأرض ، ومن ليل ونهار ، ومن أمطار ورياح .. فإن هذا التأمل من شأنه أن يهدى إلى الحق ، وإلى أن لهذا الكون إلها واحدا قادرا حكيما ، هو اللّه رب العالمين.قال - تعالى - : تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (25 / 346)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (13 / 219)(1/1032)
3 - ثم توعد - سبحانه - بعد ذلك الأفاكين بأشد أنواع العذاب ، لإصرارهم على كفرهم ، واتخاذهم آيات اللّه هزوا.قال - تعالى - : وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.
4 - ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان جانب من نعم اللّه - تعالى - على خلقه ، تلك النعم التي تتمثل في البحر وما اشتمل عليه من خيرات ، وفي السموات والأرض وما فيهما من منافع.قال - سبحانه - : اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
5 - ثم بين - سبحانه - موقف بنى إسرائيل من نعم اللّه - تعالى - ، وكيف أنهم قابلوا ذلك بالاختلاف والبغي ، ونهى - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الاستماع إليهم ، وبين أنه لا يستوي عنده - عز وجل - الذين اجترحوا السيئات ، والذين عملوا الصالحات.فقال - تعالى - : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ ، أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ. وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
ثم حكى بعض الأقوال الباطلة التي تفوه بها الكافرون ، ورد عليها بما يزهقها ويثبت كذبها ، قال - تعالى - : وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ، وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
6 - ثم أخذت السورة الكريمة في أواخرها ، في بيان أهوال يوم القيامة ، وفي بيان عاقبة الأخيار وعاقبة الأشرار.قال - تعالى - : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ، أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ، فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ.
7 - ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالثناء على ذاته بما هو أهله ، فقال - تعالى - : فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ ، رَبِّ الْعالَمِينَ ، وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
هذا ، والمتدبر في هذه السورة الكريمة ، يراها تدعو الناس إلى التفكر فيما اشتمل عليه هذا الكون من آيات دالة على وحدانية اللّه - تعالى - وكمال قدرته ، كما أنه يراها تحكى بشيء من التفصيل أقوال المشركين وترد عليها ، وتبين سوء عاقبتهم كما يراها تسوق ألوانا من نعم اللّه على خلقه ، وتدعو المؤمنين إلى التمسك بكتاب ربهم ، وتبشرهم بأنهم متى فعلوا ذلك ظفروا برضوان اللّه تعالى وثوابه.
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ، ذلك هو الفوز المبين ، كما يراها تهتم بتفصيل الحديث عن أهوال يوم القيامة ، لكي يفيء الناس إلى رشدهم ، ويستعدوا لاستقبال هذا اليوم(1/1033)
بالإيمان والعمل الصالح.قال - تعالى - : وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (1)
في السورة صور عن مواقف وأقوال الكفار وعنادهم وتعصبهم الأعمى في صدد الدعوة النبوية والبعث والحساب. وحملة شديدة عليهم وإنذار بالخزي والعذاب الأبدي وتطمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين وتثبيت لهم ودعوتهم إلى التسامح.
وتذكير بحالة بني إسرائيل وتعداد ما للّه على الناس من أفضال وما في بعض مشاهد الكون من دلائل على عظمة اللّه وربوبيته الشاملة.
وفصول السورة مترابطة متساوقة مما يسوّغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [14] مدنية وانسجامها في سياقها موضوعا وسبكا يحمل على الشك في الرواية. (2)
سورة الجاثية مكيّة ، وهي سبع وثلاثون آية.
تسميتها : سميت (سورة الجاثية) أخذا من الآية المذكورة فيها : وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [28] أي كل أمة باركة على الرّكب لشدة الأهوال التي يشاهدها الناس يوم القيامة ، انتظارا للحساب ، قبل قسمة الخلائق فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين :
1 - ابتدأت هذه السورة بالكلام عن تنزيل القرآن من اللَّه تعالى ، والذي هو مكمّل لما ختمت به السورة المتقدمة من جعل القرآن بلغة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولغة قومه العرب ، فهو عربي اللسان نصا وفحوى ، ومعنى وأسلوبا ، وفي ذلك حث على اتباعه والإيمان به.
2 - تشابه السورتين في الغايات الكبرى التي يستهدفها القرآن : وهي إثبات وحدانية اللَّه من خلال بيان أدلة القدرة الإلهية في خلق السموات والأرض ، ومناقشة المشركين في عقائدهم الفاسدة ، وضرب الأمثال من مصائر الأمم الغابرة التي أهلكها اللَّه لتكذيبهم الرسل.
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (13 / 139)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (4 / 557)(1/1034)
موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المكية ، وبخاصة آل حم السور السبعة ، وهو تأصيل عقيدة الإسلام الأساسية وإثبات عناصرها وأركانها الثلاثة :
وهي الإيمان باللّه تعالى وتوحيده ، والاعتقاد بنزول القرآن من عند اللَّه ، وبنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته ، والتصديق باليوم الآخر والحساب والبعث والجزاء.
ابتدأت السورة ببيان مصدر القرآن الكريم وهو اللَّه تعالى ، وإثبات وجود الخالق ووحدانيته بخلق السموات والأرض ، وخلق البشر والدواب ، وتعاقب الليل والنهار ، وإنزال المطر سبب الحياة ، وتسخير الرياح.
ثم هددت وأوعدت كل من كذّب بآيات اللَّه ، واستكبر عنها ، واتخذها هزوا بعذاب جهنم.
وأخبرت عن نعم اللَّه العظمى وأولها كون القرآن هدى للناس ، ثم تسخير البحر لجريان السفن فيه والاتجار بين الأقطار ، وتسخير جميع ما في الكون لعباد اللَّه تعالى.
وأردفت ذلك بمبادئ خلقية واجتماعية إنسانية سلمية هي عفو المؤمنين وترفعهم عن زلات الكافرين ، فالعمل الصالح أو الفاسد يعود أثره على صاحبه ، وتذكير بني إسرائيل بما امتن اللَّه عليهم من نعم روحية ومادية هي التوراة ، والحكمة والفقه وفصل الخصومات بين الناس ، والنبوة ، ورزق الطيبات ، والتفضيل على العالمين في عصرهم ، والإتيان بالبينات وهي الآيات والمعجزات ، وأمر الرسول بعدم إطاعة المشركين واتباع أهوائهم ، والتعجب من حالهم ، وتجرؤهم على إنكار البعث ، واتخاذهم الهوى إلها ومعبودا.
وفي مقابل ذلك بيان استقلال الشريعة الإسلامية وإثبات ذاتيتها ، وأمر الرسول والمؤمنين باتباعها وحدها دون ما عداها ، والاعتزاز والثقة باللّه الذي يمدّ نبيه بالعون وأنه ولي المتقين ، والتزام منهج اللَّه وهدايته ورحمته وهو القرآن العظيم ، ومعرفة قانون اللَّه وعدله وحكمته في التفرقة بين المؤمنين الأبرار والمجرمين الأشرار ، وبين المتبصرين بآيات اللَّه ، ومن أغلق على نفسه منافذ الهداية ، فحجب السمع والبصر والقلب عن نور اللَّه.
ثم رد اللَّه تعالى على المشركين منكري البعث بأن اللَّه هو المحيي والمميت وجامع الناس ليوم القيامة ، فهو صاحب القدرة العجيبة ومالك السموات والأرض ، والمتفرد بالسلطان الأعظم في الآخرة ذات الأهوال الرهيبة في العرض والحساب وشهادة صحف الأعمال على أصحابها.
وختمت السورة ببيان الجزاء الحق العادل ، وقسمة الناس فريقين : فريق الجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وفريق النار الذين كفروا باللّه ورسوله ، واقترفوا السيئات والمعاصي ، وهزئوا بآيات اللَّه ، واغتروا بالحياة الدنيا.(1/1035)
وذلك كله يستوجب الحمد للّه رب السموات ورب الأرض رب العالمين ، وله وحده الكبرياء في السموات والأرض ، وهو العزيز الحكيم. (1)
مكية على الصحيح. وهي سبع وثلاثون آية. وهي كأخواتها من السور المكية ، في الكلام على التوحيد وإثبات البعث والنبوة وغير ذلك مما يفتح القلوب الغلف ، وتمتاز هذه السورة بأنها اتجهت نحو بيان آيات اللّه الكونية كدليل على قدرة اللّه ووحدانيته وإمكان البعث ، وتصديق أن القرآن كلام اللّه. (2)
وتسمى سورة الشريعة وسورة الدهر كما حكاه الكرماني في العجائب لذكرهما فيها ، وهي مكية قال ابن عطية : بلا خلاف ، وذكر الماوردي إلا قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا [الجاثية : 14] الآية فمدنية ، وحكى هذا الاستثناء في جمال القراء عن قتادة ، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى. وهي سبع وثلاثون آية في الكوفي وست وثلاثون في الباقية لاختلافهم في «حم» هل هي آية مستقلة أو لا ، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح. (3)
* سورة الجاثية مكية ، وقد تناولت العقيدة الإسلامية في إطارها الواسع الإيمان بالله تعالى ، ووحدانيته ، والإيمان بالقرآن ، ونبوة محمد عليه السلام ، والإيمان بالآخرة والبعث والجزاء ويكاد يكون المحور الذي تدور حوله السورة الكريمة ، هو : إقامة الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين .
*تبتدىء السورة الكريمة بالحديث عن القرآن ومصدره ، وهو الله العزيز في ملكه ، الحكيم في خلقه ، الذي أنزل كتابه المجيد رحمة بعباده ، ليكون نبراسا مضيئاآ ، ينير للبشرية طريق السعادة والخير [ حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين 00 الآيات .
* ثم ذكرت بعض الآيات الكونية المنبثة في هذا العالم الفسيح ، ففي السموات البديعة آيات ، وفي الأرض الفسيحة آيات ، وفي خلق البشر وسائر الأنعام والمخلوقات آيات ، وفي تعاقب الليل وإلىهار ، وتسخير الرياح الأمطار آيات ، وكلها شواهد ناطقة بعظمة الله وجلاله ، وقدرته ووحدانيته ، ثم تحدثت عن المجرمين المكذبين بالقرآن ، الذين يسمعون آياته المنيرة ، فلا يزدادون إلا استكبارا وطغيانا ، وأنذرتهم بالعذاب الأليم ، في دركات الجحيم [ ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها . . ] الآيات .
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (25 / 246)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 422)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (13 / 136)(1/1036)
* وتحدثت السورة عن نعم الله الجليلة على عباده ليشكروه ، ويتفكروا في آلائه التي أسبغها عليهم ، ويعلموا أن الله وحده هو مصدر هذه إلىعم ، الظاهرة والباطنة ، وإنه لا خالق ولا رازق إلا الله [ الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . . ] الآيات .
* وتحدثت عن إكرام الله لبني إسرائيل بأنواع التكريم ، ومقابلتهم ذلك الفضل والإحسان ، بالجحود والعصيان ، وذكرت موقف الطغاة المجرمين من دعوة الرسل الكرام ، وبينت أنه لا يتساوى في عدل الله وحكمته ، أن يجعل المجرمين كالمحسنين ، ولا أن يجعل الأشرار كالأبرار ، ثم بينت سبب ضلال المشركين ، وهو إجرامهم واتخاذهم الهوى إلها ومعبودا حتى طمست بصيرتهم فلم يهتدوا إلى الحق أبدا [ ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم وإلىبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم . . ] الآيات .
* وختمت السورة بذكر الجزاء العادل يوم الدين ، حيث تنقسم الإنسانية إلى فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير [ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين ] الآيات إلى نهاية السورة الكريمة ] .
التسمية : سميت " سورة الجاثية " للأهوال التي يلقاها الناس يوم الحساب ، حيث تجثو الخلائق من الفزع على الركب في انتظار الحساب ، ويغشى الناس من الأهوال ما لا يخطر على البال [ وترى كل أمة جاثية ، كل أمين تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون ] وحقا إنه ليوم رهيب ، يشيب له الولدان !! (1)
مقصودها الدلالة على أن منزل هذا الكتاب - كما دل عليه في الدخان - ذو العزة لأنه لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء , والحكمة لأنه لم يضع شيئاً إلا في أحكم مواضعه , فعلم أنه المختص بالكبرياء , فوضع شرعاً هو في غاية الاستقامة لا تستقل العقول بإدراكه ولا يخرج شيء منه عنه , أمر فيه ونهى , ورغب ورهب ثم بطن حتى أنه لا يعرف , ثم ظهر حتى أنه لا يجهل , فمن المكلفين من حكم عقله وجانب هواه فشهد جلاله فسمع وأطاع , ومنه من تبع هواه فضل عن نور العقل فزاغ وأضاع فاقتضت الحكمة ولا بد أن يجمع سبحانه الخلق ليوم الفصل فيظهر كل الظهور ويدبن عباده ليشهد رحمته المطيع وكبرياءه العاصي , وينشر العدل ويظهر الفضل , ويتجلى في جميع صفاته لجميع خلقه , وعلى ذلك دل اسمها الشريعه , واسمها الجاثية واضح الدلالة فيه إذا تؤمل كل من آيتهما - والله سبحانه وتعالى الهادي. (2)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 205)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 132)(1/1037)
هذه السورة المكية تصور جانبا من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية ، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها ، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها ، واتباعهم للهوى اتباعا كاملا في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ذي سلطان. كذلك تصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة الشاردة مع الهوى ، المغلقة دون الهدى وهو يواجهها بآيات اللّه القاطعة العميقة التأثير والدلالة ، ويذكرهم عذابه ، ويصور لهم ثوابه ، ويقرر لهم سننه ، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود.
ومن خلال آيات السورة وتصويرها للقوم الذين واجهوا الدعوة في مكة ، نرى فريقا من الناس مصرا على الضلالة ، مكابرا في الحق ، شديد العناد ، سيىء الأدب في حق اللّه وحق كلامه ، ترسمه هذه الآيات ، وتواجهه بما يستحقه من الترذيل والتحذير والتهديد بعذاب اللّه المهين الأليم العظيم : «وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ، وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
ونرى جماعة من الناس ، ربما كانوا من أهل الكتاب سيئي التصور والتقدير لا يقيمون وزنا لحقيقة الإيمان الخالصة ، ولا يحسون بالفارق الأصيل بينهم وهم يعملون السيئات وبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات.
والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقا أصيلا في ميزان اللّه بين الفريقين ، ويقرر سوء حكمهم وسوء تصورهم للأمور وقيام الأمر في ميزان اللّه على العدل الأصيل في صلب الوجود كله منذ بدء الخلق والتكوين : «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ! وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»
ونرى فريقا من الناس لا يعرف حكما يرجع إليه إلا هواه ، فهو إلهه الذي يتعبده ، ويطيع كل ما يراه.
نرى هذا الفريق من الناس مصورا تصويرا فذا في هذه الآية وهو يعجب من أمره ويشهر بغفلته وعماه :«أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ، وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ ، وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً؟ فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» ..
ونرى هذا الفريق من الناس ينكر أمر الآخرة ، ويشك كل الشك في قضية البعث والحساب ، ويتعنت في الإنكار وفي طلب البرهان بما لا سبيل إليه في هذه الأرض. والقرآن يوجه هذا الفريق إلى الدلائل القائمة الحاضرة على صدق هذه القضية ، وهم عنها معرضون :«وَقالُوا : ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ. وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ(1/1038)
ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلِ : اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
ويجوز أن يكون هؤلاء جميعا فريقا واحدا من الناس يصدر منه هذا وذاك ، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك. كما يجوز أن يكونوا فرقا متعددة ممن واجهوا الدعوة في مكة. بما في ذلك بعض أهل الكتاب ، وقليل منهم كان في مكة. ويجوز أن تكون هذه إشارة عن هذا الفريق ليعتبر بها أهل مكة دون أن يقتضي هذا وجوده في مكة بالذات في ذلك الحين.
وعلى أية حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم ، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث .. كذلك واجههم بآيات اللّه في الآفاق وفي أنفسهم ، وحذرهم حساب يوم القيامة ، وبصرهم بما جرى لمن قبلهم ممن انحرفوا عن دين اللّه القويم.
واجههم بآيات اللّه في هذا الأسلوب البسيط المؤثر العميق :«إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ؟» ..
وواجههم بها مرة أخرى في صورة نعم من أنعم اللّه عليهم يغفلون عن تذكرها وتدبرها :
«اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ..
كذلك واجههم بحالهم يوم القيامة الذي ينكرونه أو يمارون فيه :«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ. وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً. كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ؟ وَإِذا قِيلَ : إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها. قُلْتُمْ : ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ، وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. وَقِيلَ : الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ، وَمَأْواكُمُ النَّارُ ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ : ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» ..
كذلك لم يدع أي لبس أو شك في عدالة الجزاء وفردية التبعة فبين أن هذا الأصل عميق في تكوين الوجود كله ، وعليه يقوم هذا الوجود. ذلك حين يقول : «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» ..(1/1039)
وحين يرد على من يحسبون وهم يجترحون السيئات أنهم عند اللّه كالمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، فيقول : «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
والسورة كلها وحدة في علاج موضوعها ولكننا قسمناها إلى درسين اثنين لتيسير عرضها وتفصيلها.
وهي تبدأ بالأحرف المقطعة : «حا. ميم». والإشارة إلى القرآن الكريم : «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» .. وتختم بحمد اللّه وربوبيته المطلقة ، وتمجيده وتعظيمه ، إزاء أولئك الذين يغفلون عن آياته ويستهزئون بها ويستكبرون عنها : «فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
ويسير سياق السورة في عرض موضوعها في يسر وهوادة وإيضاح هادى ء ، وبيان دقيق عميق. على غير ما يسير سياق سورة الدخان قبلها في إيقاع عنيف كأنه مطارق تقرع القلوب.
واللّه خالق القلوب ، ومنزل هذا القرآن ، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق. وتارة باللمس الناعم الرفيق ، وتارة بالبيان الهادئ الرقيق. حسب تنوعها هي واختلافها. وحسب تنوع حالاتها ومواقفها في ذاتها. وهو اللطيف الخبير. وهو العزيز الحكيم .. (1)
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد
(1) إقامة الأدلة على وجود الخالق سبحانه.
(2) وعيد من كذب بآياته واستكبر عن سماعها.
(3) طلب العفو من المؤمنين عن زلات الكافرين.
(4) الامتنان على بنى إسرائيل بما آتاهم من النعم الروحية والمادية.
(5) أمر رسوله ألا يطيع المشركين ولا يتبع أهواءهم.
(6) التعجب من حال المشركين الذين أضلهم اللّه على علم.
(7) إنكار المشركين للبعث.
(8) ذكر أهوال العرض والحساب ، وشهادة صحائف الأعمال على الإنسان.
(9) حلول العذاب بالمشركين بعد أن تتبين لهم قبائح أعمالهم.
(10) ثناء المولى سبحانه على نفسه وإثبات الكبرياء والعظمة له. (2)
==================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3219)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (25 / 168)(1/1040)
(46) سورة الأحقاف
سميت هذه السورة "سورة الأحقاف" في جميع المصاحف وكتب السنة، ووردت تسميتها بهذا الاسم في كلام عبد الله بن عباس. روى أحمد بن حنبل بسند جيد عن ابن عباس قال أقرأني رسول الله سورة من آل حم وهي الأحقاف، وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين. وكذلك وردت تسميتها في كلام عبد الله بن مسعود أخرج الحاكم بسند صححه عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله سورة الأحقاف الحديث. وحديث ابن عباس السابق يقتضي أنها تسمى ثلاثين إلا أن ذلك لا يختص بها فلا يعد من أسمائها. ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.
ووجه تسميتها "الأحقاف" ورود لفظ الأحقاف فيها ولم يرد في غيرها من سور القرآن.
وهي مكية قال القرطبي: باتفاق جميعهم، وفي إطلاق كثير من المفسرين. وبعض المفسرين نسبوا استثناء آيات منها الى بعض القائلين، فحكى ابن عطية استثناء آيتين هما قوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} إلى {الظالمين} فإنها أشارت إلى إسلام عبد الله بن سلام وهو إنما أسلم بعد الهجرة، وقوله {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: 35]. وفي الإتقان ثلاثة أقوال باستثناء آيات ثلاث منها الاثنتان اللتان ذكرهما ابن عطية والثالثة {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} إلى قوله {خاسرين} . [الأحقاف: 15-18] وسيأتي ما يقتضي أنها نزلت بعد مضي عامين من البعثة وأسانيد جميعها متفاوتة. وأقواها ما روي في الآية الأولى منها، وسنبين ذلك عند الكلام عليها في مواضعها.
وهذه السورة معدودة الخامسة والستين في عداد نزول السور، نزلت بعد الجاثية وقبل الذاريات.
وعدت آيها عند جمهور أهل الأمصار أربعا وثلاثين، وعدها أهل الكوفة خمسا وثلاثين والاختلاف في ذلك مبني على أن {حم} تعتبر آية مستقلة أو لا.
أغراضها
من الأغراض التي اشتملت عليها أنها افتتحت مثل سورة الجاثية بما يشير إلى إعجاز القرآن للاستدلال على أنه منزل من عند الله. والاستدلال بإتقان خلق السماوات والأرض على التفرد بالإلهية، وعلى إثبات جزاء الأعمال. والإشارة إلى وقوع الجزاء بعد البعث وأن هذا العالم صائر إلى فناء. وإبطال الشركاء في الإلهية. والتدليل على خلوهم عن صفات الإلهية. وإبطال أن يكون القرآن من صنع غير الله. وإثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - واستشهاد الله تعالى على صدق رسالته واستشهاد شاهد بني إسرائيل وهو عبد الله بن سلام. والثناء على الذين آمنوا بالقرآن وذكر بعض خصالهم الحميدة وما يضادها من خصال أهل الكفر(1/1041)
وحسدهم الذي بعثهم على تكذيبه. وذكرت معجزة إيمان الجن بالقرآن. وختمت السورة بتثبيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وأقحم في ذلك معاملة الوالدين والذرية مما هو من خلق المؤمنين، وما هو من خلق أهل الضلالة.
والعبرة بضلالهم مع ما كانوا عليه من القوة، وأن الله أخذهم بكفرهم وأهلك أمما أخرى فجعلهم عظة للمكذبين وأن جميعهم لم تغن عنهم أربابهم المكذوبة. وقد أشبهت كثيرا من أغراض سورة الجاثية مع تفنن. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الجاثية بحمد اللّه ، من عباده المؤمنين ، الذين نظروا فى آيات اللّه القرآنية والكونية ، وفرأوا فيها دلائل قدرة اللّه ، وعلمه ، وحكمته .. ومن ثمّ كان إيمانهم باللّه ، وحمدهم له ، أن هداهم إلى الإيمان ..وهنا تبدأ سورة الأحقاف ، فتكشف عن الوجه الآخر من وجوه الناس ، وموقفهم من آيات اللّه .. وهؤلاء هم المشركون ، الكافرون ، الذين عرضت عليهم آيات اللّه ، فأعرضوا عنها ، وتليت عليهم آياته ، فصمّووا آذانهم عنها .. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الأحقاف » هي السورة السادسة والأربعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فقد كان بعد سورة « الجاثية ».
والذي يراجع ما كتبه العلماء في ترتيب سور القرآن الكريم ، يجد أن الحواميم قد نزلت مرتبة كترتيبها في المصحف.
2 - وسورة « الأحقاف » عدد آياتها خمس وثلاثون آية في المصحف الكوفي ، وأربع وثلاثون آية في غيره ، وهي من السور المكية.
قال الآلوسى : أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة ، فأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء ..
واستثنى بعضهم قوله - تعالى - : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَكَفَرْتُمْ بِهِ ، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (26 / 5)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (13 / 258)(1/1042)
واستثنى بعضهم قوله - تعالى - : وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ... إلى قوله - تعالى - : إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ.
3 - وقد افتتحت السورة الكريمة بالثناء على القرآن الكريم ، وبيان جانب من مظاهر قدرة اللّه - تعالى - ، وبتلقين النبي - صلى الله عليه وسلم - الجواب السديد الذي يرد به على المشركين ، فقال - تعالى - : قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ، ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا ، أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
ثم تحكى السورة الكريمة بعض الأعذار الزائفة التي اعتذر بها الكافرون وردت عليهم بما يبطلها ، فقال - تعالى - : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ ....
4 - ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن حسن عاقبة الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا ، وعن الوصايا الحكيمة التي أوصى اللّه - تعالى - بها الأبناء نحو آبائهم ، وعن حسن عاقبة الذين يعملون بتلك الوصايا ، فقال - تعالى - : أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ، وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ ، وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ.
كما بينت السورة الكريمة سوء عاقبة الكافرين ، الذين أعرضوا عن دعوة الحق ، قال - تعالى - : وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ، أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ، وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها ، فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ.
5 - ثم حذرت السورة المشركين من الإصرار على شركهم ، وذكرتهم بما حل بالمشركين من قبلهم كقوم عاد وثمود ... وبينت لهم أن هؤلاء الكافرين لم تغن عنهم أموالهم ولا قوتهم شيئا ، عند ما حاق بهم عذاب اللّه - تعالى - ، فقال - سبحانه - : وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ، وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ ، إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى ، وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
6 - ثم أخذت السورة الكريمة في أواخرها ، في تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي إدخال السرور على قلبه بأن ذكرته بحضور نفر من الجن إليه ، للاستماع إلى القرآن الكريم ، وكيف أنهم عند ما استمعوا إليه أوصى بعضهم بعضا بالإنصات وحسن الاستماع ، وكيف أنهم عند ما عادوا إلى قومهم دعوهم إلى الإيمان بالحق الذي استمعوا إليه ، وبالنبي الذي جاء به ، فقال - تعالى - حكاية عنهم : يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ.(1/1043)
ثم ختمت السورة الكريمة بأمره - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أذى قومه ، فقال - تعالى - : فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ، بَلاغٌ ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ.
7 - والمتأمل في سورة « الأحقاف » يراها ، قد أقامت الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - ، وعلى كمال قدرته. وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند اللّه ، وعلى أن يوم القيامة حق.
أقامت الأدلة على كل ذلك ، بأبلغ الأساليب وأحكمها ، ومن ذلك أنها ساقت ألوانا من مظاهر قدرة اللّه - تعالى - في خلقه ، كما ذكرت شهادة شاهد من بنى إسرائيل على أن الإسلام هو الدين الحق ، كما طوفت بالناس في أعماق التاريخ لتطلعهم على مصارع الغابرين ، الذين أعرضوا عن دعوة الحق ، كما عقدت عدة مقارنات بين مصير الأخيار ومصير الأشرار .. وبذلك تكون السورة قد ساقت من الأدلة ما فيه الكفاية والإقناع لأولى الألباب ، على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما يبلغه عن ربه. (1)
في السورة حكاية لمواقف وأقوال الكفار وصور من الجدل والمناظرة بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وردود تنديدية وحجج مفحمة في سياقها ، وإنذار للكافرين وتطمين للمؤمنين بمصائر كل منهم يوم القيامة. واستشهاد على صحة الدعوة المحمدية وصدق القرآن بالتوراة وموسى وإسلام بعض بني إسرائيل. وتنويه بالأبناء الصالحين وتنديد بالعاقّين ، وتذكير بما كان من أمر عاد ورسولهم وهلاكهم. وحكاية لاستماع جماعة من الجن للقرآن وتأثرهم به وتدليل على قدرة اللّه على بعث الموتى.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [10 و15 و35] مدنيات ، وانسجامها في السياق والموضوع وما يبدو عليها من طابع العهد المكي بقوة يسوّغ التوقف في الرواية.
وفصول السورة مترابطة مما فيه الدليل على نزولها دفعة واحدة أو متتابعة. (2)
سورة الأحقاف مكيّة ، وهي خمس وثلاثون آية.
تسميتها : سميت (سورة الأحقاف) للحديث فيها عن الأحقاف : وهي مساكن عاد في اليمن الذين أهلكهم اللَّه بريح صرصر عاتية بسبب كفرهم وطغيانهم ، في قوله تعالى : وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ .. [21].
مناسبتها لما قبلها :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (13 / 173)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 7)(1/1044)
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة هي :
1 - تطابق مطلع السورتين في : حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
2 - تشابه موضوع السورتين وهو إثبات التوحيد والنبوة والوحي والبعث والمعاد.
3 - ختمت السورة السابقة بتوبيخ المشركين على الشرك ، وبدئت هذه السورة بتوبيخهم على شركهم ، ومطالبتهم بالدليل عليه ، وبيان عظمة الإله الخالق المجيب من دعاه ، على عكس تلك الأصنام التي لا تستجيب لدعاتها إلى يوم القيامة.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المكية وهو إثبات أصول العقيدة الإسلامية الثلاثة : وهي التوحيد ، والرسالة والوحي ، والبعث والجزاء.
بدأت السورة بالحديث عن تنزيل الكتاب وهو القرآن من اللَّه تعالى ، وإنما كرر لأنه بمنزلة عنوان الكتب (الكتابة) ثم أقامت الأدلة على وجود الإله والتوحيد والحشر ، وذمّت المشركين عبدة الأصنام ، وردّت عليهم ردا دامغا مقنعا ، وأجابت عن شبهاتهم حول الوحي والنبوة.
ثم ذكرت حال فريقين : فريق أهل الاستقامة الذين أقروا بتوحيد اللَّه واستقاموا على ملّته ، وأطاعوا والديهم وأحسنوا إليهم ، فكانوا أصحاب الجنة ، وفريق الكافرين الخارجين عن هدي الفطرة ، المنهمكين في شهوات الدنيا ، المنكرين البعث والحساب ، العاقين لوالديهم ، بالتنكر للإيمان والمعاد ، فكانوا أصحاب النار.
ثم ضربت المثل بقصة هود عليه السلام مع قومه «عاد» الطغاة الذين اغتروا بقوتهم ، وأصروا على عبادة الأصنام ، فأهلكهم اللَّه بريح عاتية ، تدمّر كل شيء بأمر ربها ، إرهابا لكفار قريش ، وتحذيرا من استبدادهم وتكذيبهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وإنذارا بعذاب مماثل جزاء استهزائهم.
كما ذكّرتهم بإهلاك القرى المجاورة ، وبمبادرة الجن إلى الإيمان بما سمعوه من آيات القرآن ، ودعوة قومهم إلى إجابة نبي اللَّه والإيمان برسالته ، فإن من عاند وأعرض عن إجابة داعي اللَّه ، فهو في ضلال مبين.
ثم ختمت السورة بالتأكيد على قدرة اللَّه على البعث ، لأنه خالق السموات والأرض ، وبأن تعذيب الكافرين بالنار حق كائن لا محالة ، وبالتهديد بأهوال القيامة ، وبأن العذاب أو الهلاك لا يكون إلا للقوم الفاسقين الخارجين عن حدود اللَّه وطاعته ، فما على الرسول إلا الصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، وعدم استعجال العذاب. (1)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (26 / 5)(1/1045)
وهي سورة مكية على الصحيح ، وعدد آياتها أربع وثلاثون آية وتشتمل كغيرها من السور المكية على إثبات التوحيد ونفى الشركاء ، وإثبات النبوة وصدق محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما ادعاه عن ربه ، ورد شبهاتهم في القرآن والنبوة ، ثم تسلية النبي ببيان موقف الأولاد من آبائهم. وضرب الأمثال للمشركين بقوم هود وغيرهم ، ثم بيان انقياد الجن له حتى يطمئن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم بعد ذلك أثبت المعاد والبعث ، وختم السورة بالنصيحة الغالية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكل من يقوم بالدعوة إلى اللّه. (1)
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة فأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء ، واستثنى بعضهم قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأحقاف : 10] الآية ، فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي أنها نزلت بالمدينة في قصة إسلام عبد اللّه بن سلام ، وروي ذلك عن محمد بن سيرين.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : ما سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على وجه الأرض : إنه من أهل الجنة إلا لعبد اللّه بن سلام وفيه نزلت وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الأحقاف : 10] وفي نزولها فيه رضي اللّه تعالى عنه أخبار كثيرة ، وظاهر ذلك أنها مدنية لأن إسلامه فيها بل في الأخبار ما يدل على مدنيتها من وجه آخر ، وعكرمة ينكر نزولها فيه ويقول : هي مكية كما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه وكذا مسروق ، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية : واللّه ما نزلت في عبد اللّه بن سلام ما نزلت إلا بمكة وإنما كان إسلام ابن سلام بالمدينة وإنما كانت خصومة خاصم بها محمد - صلى الله عليه وسلم - ، واستثنى بعضهم وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ [الأحقاف : 17] الآيتين ، وزعم مروان من لعن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أباه وهو في صلبه أنهما نزلتا في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي اللّه تعالى عنهما فكذبته عائشة وقالت : كذب مروان مرتين واللّه ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان فضض أي قطعة من لعنة اللّه تعالى ، وفي رواية أنها قالت : إنما نزلت في فلان بن فلان وسمت رجلا آخر ، واستثنى آخر وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ [الأحقاف : 15] الآيات الأربع كما حكاه في جمال القراء ، وحكى أيضا استثناء فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ [الأحقاف : 35] الآية ونقله في البحر عن ابن عباس. وقتادة ، وكذا نقل فيه عنهما استثناء قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلخ ، وتمام الكلام في ذلك سيأتي إن شاء اللّه تعالى. وآيها خمس وثلاثون في الكوفي وأربع وثلاثون في غيره والاختلاف في «حم» وتسمى لمجاوزتها الثلاثين ثلاثين.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 437)(1/1046)
أخرج أحمد بسند جيد عن ابن عباس قال : أقرأني رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - سورة من آل حم وهي الأحقاف وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين ،
وروي أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قرأها على وجهين.
أخرج ابن الضريس والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : أقرأني رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - سورة الأحقاف فسمعت رجلا يقرؤها خلاف ذلك فقلت : من أقرأكها؟ قال : رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقلت : واللّه لقد أقرأني رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - غير ذا فأتينا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول اللّه ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال : بلى فقال الآخر : ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال : بلى فتمعّر وجه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال : «ليقرأ كل واحد منكما ما سمع فإنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف».
وأنت تعلم أن ما تواتر هو القرآن. ووجه اتصالها أنه تعالى لما ختم السورة التي قبلها بذكر التوحيد وذم أهل روح المعانى ـ نسخة محققة - (13 / 161)
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة فأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء ، واستثنى بعضهم قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأحقاف : 10] الآية ، فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي أنها نزلت بالمدينة في قصة إسلام عبد اللّه بن سلام ، وروي ذلك عن محمد بن سيرين.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : ما سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على وجه الأرض : إنه من أهل الجنة إلا لعبد اللّه بن سلام وفيه نزلت وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الأحقاف : 10] وفي نزولها فيه رضي اللّه تعالى عنه أخبار كثيرة ، وظاهر ذلك أنها مدنية لأن إسلامه فيها بل في الأخبار ما يدل على مدنيتها من وجه آخر ، وعكرمة ينكر نزولها فيه ويقول : هي مكية كما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه وكذا مسروق ، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية : واللّه ما نزلت في عبد اللّه بن سلام ما نزلت إلا بمكة وإنما كان إسلام ابن سلام بالمدينة وإنما كانت خصومة خاصم بها محمد - صلى الله عليه وسلم - ، واستثنى بعضهم وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ [الأحقاف : 17] الآيتين ، وزعم مروان من لعن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أباه وهو في صلبه أنهما نزلتا في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي اللّه تعالى عنهما فكذبته عائشة وقالت : كذب مروان مرتين واللّه ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان فضض أي قطعة من لعنة اللّه تعالى ، وفي رواية أنها قالت : إنما نزلت في فلان بن فلان وسمت رجلا آخر ، واستثنى آخر وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ [الأحقاف : 15] الآيات الأربع كما حكاه في جمال القراء ، وحكى أيضا استثناء فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ [الأحقاف : 35] الآية ونقله في البحر(1/1047)
عن ابن عباس. وقتادة ، وكذا نقل فيه عنهما استثناء قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلخ ، وتمام الكلام في ذلك سيأتي إن شاء اللّه تعالى. وآيها خمس وثلاثون في الكوفي وأربع وثلاثون في غيره والاختلاف في «حم» وتسمى لمجاوزتها الثلاثين ثلاثين.
أخرج أحمد بسند جيد عن ابن عباس قال : أقرأني رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - سورة من آل حم وهي الأحقاف وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين ،
وروي أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قرأها على وجهين.
أخرج ابن الضريس والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : أقرأني رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - سورة الأحقاف فسمعت رجلا يقرؤها خلاف ذلك فقلت : من أقرأكها؟ قال : رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقلت : واللّه لقد أقرأني رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - غير ذا فأتينا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول اللّه ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال : بلى فقال الآخر : ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال : بلى فتمعّر وجه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال : «ليقرأ كل واحد منكما ما سمع فإنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف».
وأنت تعلم أن ما تواتر هو القرآن. ووجه اتصالها أنه تعالى لما ختم السورة التي قبلها بذكر التوحيد وذم أهل الشرك والوعيد افتتح هذه بالتوحيد ثم بالتوبيخ لأهل الكفر من العبيد (1)
* هذه السورة مكية وأهدافها نفس أهداف السور المكية ، العقيدة في أصولها الكبرى (الوحدانية ، الرسالة ، البعث والجزاء) ومحور السورة الكريمة يدور حول " الرسالة والرسول " لإثبات صحة رسالة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وصدق القرآن .
* تحدثت السورة في البدء عن القرآن العظيم ، المنزل من عند الله بالحق ، ثم تناولت الأوثان التي عبدها المشركون ، وزعموا أنها آلهة مع الله تشفع لهم عنده ، فبينت ضلالهم وخطأهم في عبادة ما لا يسمع ولا ينفع ، لم تحدثت عن شبهة المشركين حول القرآن ، فردت على ذلك بالحجة الدامغة ، والبرهان الناصع .
* ثم تناولت نموذجين من نماذج البشرية في هدايتها وضلالها ، فذكرت نموذج (الولد الصالح ) المستقيم في فطرته ، البار بوالديه ، الذي كلما زادت سنه وتقدم في العمر ، ازداد تقى وصلاحا وإحسانا لوالديه . . ونموذج (الولد الشقي ) المنحرف عن الفطرة ، العاق لوالديه ، الذي يهزأ ويسخر من الإيمان والبعث والنشور ومال كل منهما .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (13 / 161)(1/1048)
* ثم تحدثت السورة عن قصة " هود " عليه السلام مع قومه الطاغين " عاد " الذين طغوا في البلاد ، واغتروا بما كانوا عليه من القوة والجبروت ، وما كان من نتيجتهم حيث أهكلهم الله بالريح العقيم ، تحذيرا لكفار قريش في طغيانهم واستكبارهم على أوامر الله وتكذيبهم للرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) .
* وختمت السورة الكريمة بقصة النفر من الجن الذين استمعوآ إلى القرآن وآمنوا به ثم رجعوا منذرين إلى قومهم يدعونهم إلى الإيمان ، تذكيرا للمعاندين من الإنس بسبق الجن لهم إلى الاسلام .
التسمية : سميت " سورة الأحقاف " لأنها مساكن عاد الذين أهلكهم الله بطغيانهم وجبروتهم ، وكانت مساكنهم بالأحقاف من أرض اليمن [ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف . . ] الآية . (1)
مقصودها إنذار الكافرين بالدلالة على صدق الوعد في قيام الساعة اللازم للعزة والحكمة الكاشف لهما أتم كشف بما وقع الصدق في الوعد به من إهلاك المكذبين بما يضاد حال بلادهم وأنه لا يمنع من شيء من ذلك مانع لأن فعل ذلك لا شريك له فهو المستحق للإفراد بالعبادة , وعلى ذلك دلت تسميتها بالأحقاف الدالة على هدوء الريح وسكون الجو بما دلت عليه قصة قوم هود عليه الصلاة والسلام من التوحيد وإنذارهم بالعذاب دنيا وأخرى ومن إهلاكهم وعدم إغناء ما عبدوه عنهم ولا يصح تسميتها بهود ولا تسمية هود بالأحقاف لما ذكر من المقصود بكل منهما (2)
هذه السورة المكية تعالج قضية العقيدة .. قضية الإيمان بوحدانية اللّه وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه. والإيمان بالوحي والرسالة وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول سبقته الرسل ، أوحي إليه بالقرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب. والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب ومن إحسان وإساءة.
هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله. ومن ثم عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجا أساسيا ، وظل يتكىء عليها كذلك في سوره المدنية كلما هم بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية. ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية اللّه سبحانه ، وبعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء .. هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها ، وترتبط به أوثق ارتباط فتبقى حية حارة تنبعث من تأثير دائم بذلك الإيمان.
وتسلك السورة بهذه القضية إلى القلوب كل سبيل وتوقع فيها على كل وتر وتعرضها في مجالات شتى ، مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية. كما أنها تجعلها قضية الوجود كله - لا قضية البشر وحدهم
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 213)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 169)(1/1049)
- فتذكر طرفا من قصة الجن مع هذا القرآن كذكرها لموقف بعض بني إسرائيل منه. وتقيم من الفطرة الصادقة شاهدا كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهدا. سواء بسواء.
ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض ، وفي مشاهد القيامة في الآخرة. كما تطوف بهم في مصرع قوم هود وفي مصارع القرى حول مكة. وتجعل من السماوات والأرض كتابا ينطق بالحق كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء.
ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط مترابطة ، كأنها شوط واحد ذو أربعة مقاطع.
يبدأ الشوط الأول وتبدأ السورة معه بالحرفين : حا. ميم. كما بدأت السور الست قلبها. تليهما الإشارة إلى كتاب القرآن والوحي به من عند اللّه : «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» .. وعقبها مباشرة الإشارة إلى كتاب الكون ، وقيامه على الحق ، وعلى التقدير والتدبير : «ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى» .. فيتوافى كتاب القرآن المتلو وكتاب الكون المنظور على الحق والتقدير : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ».
وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع يأخذ في عرض قضية العقيدة مبتدئا بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يقوم على أساس من واقع الكون ، ولا يستند إلى حق من القول ، ولا مأثور من العلم : «قُلْ : أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. ويندد بضلال من يدعو من دون اللّه من لا يسمع لعابده ولا يستجيب.
ثم هو يخاصمه يوم القيامة ويبرأ من عبادته في اليوم العصيب!
ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقولهم له :«هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» .. وترقيهم في الادعاء حتى ليزعمون أنه افتراه. ويلقن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يزد عليهم الرد اللائق بالنبوة ، النابع من مخافة اللّه وتقواه ، وتفويض الأمر كله إليه في الدنيا والآخرة :
«قُلْ : إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً. هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ. كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قُلْ : ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ، وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ، وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» .. ويحاججهم بموقف بعض من اهتدى للحق من بني إسرائيل حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى - عليه السلام - : «فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ» .. ويندد بظلمهم بالإصرار على التكذيب بعد شهادة أهل الكتاب العارفين : «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(1/1050)
ويستطرد في عرض تعلاتهم ومعاذيرهم الواهية عن هذا الإصرار ، وهم يقولون عن المؤمنين : «لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ» .. ويكشف عن علة هذا الموقف المنكر : «وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ : هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ!».
ويشير إلى كتاب موسى من قبله ، وإلى تصديق هذا القرآن له ، وإلى وظيفته ومهمته : «لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ» ..
ويختم هذا الشوط بتفصيل هذه البشرى لمن صدق باللّه واستقام على الطريق : «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
ويعرض الشوط الثاني نموذجين للفطرة البشرية : المستقيمة والمنحرفة ، في مواجهة قضية العقيدة. ويبدأ معهما من النشأة الأولى ، وهما في أحضان والديهم. ويتابع تصرفهما عند بلوغ الرشد والتبعة والاختيار. فأما الأول فشاعر بنعمة اللّه بار بوالديه ، راغب في الوفاء بواجب الشكر ، تائب ضارع مستسلم منيب : «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ ، وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» ..
وأما الآخر فعاق لوالديه كما هو عاق لربه ، وهو جاحد منكر للآخرة ، وهما به ضيقان متعبان : «أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» ..
ويختم هذا الشوط بمشهد سريع من مشاهد القيامة يعرض فيه مصير هذا الفريق : «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ. أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها ، فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» ..
والشوط الثالث يرجع بهم إلى مصرع عاد ، عند ما كذبوا بالنذير. ويعرض من القصة حلقة الريح العقيم ، التي توقعوا فيها الري والحياة فإذا بها تحمل إليهم الهلاك والدمار ، والعذاب الذي استعجلوا به وطلبوه :«فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا : هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ، رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها ، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ ، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» .. ويلمس قلوبهم بهذا المصرع ، وهو يذكرهم بأن عادا كانوا أشد منهم قوة وأكثر ثروة : «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ، وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ. إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .. ويذكرهم في نهاية الشوط مصارع ما حولهم من القرى ، وعجز آلهتهم المدعاة عن نصرتهم ، وظهور إفكهم وافترائهم. لعلهم يتأثرون ويرجعون ..(1/1051)
ويتناول الشوط الرابع قصة نفر من الجن مع هذا القرآن ، حين صرفهم اللّه لاستماعه ، فلم يملكوا أنفسهم من التأثر والاستجابة ، والشهادة له بأنه الحق : «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ» ..وعادوا ينذرون قومهم ويحذرونهم ويدعونهم إلى الإيمان : «يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ، وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..وتتضمن مقالة النفر من الجن الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح الناطق بقدرة اللّه على البدء والإعادة : «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ؟ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وهنا يلمس قلوبهم بمشهد الذين كفروا يوم يعرضون على النار ، فيقرون بما كانوا ينكرون ، ولكن حيث لا مجال لإقرار أو يقين!
وتختم السورة بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبر وعدم الاستعجال لهم بالعذاب ، فإنما هو أجل قصير يمهلونه ، ثم يأتيهم العذاب والهلاك : «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ. بَلاغٌ. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ؟» .. (1)
خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
(1) إقامة الأدلة على التوحيد والرد على عبدة الأصنام والأوثان.
(2) المعارضات التي ابتدعها المشركون للنبوة والإجابة عنها وبيان فسادها.
(3) ذكر حال أهل الاستقامة الذين وحدوا اللّه وصدقوا أنبياءه ، وبيان أن جزاءهم الجنة.
(4) ذكر وصايا للمؤمنين من إكرام الوالدين وعمل ما يرضى اللّه.
(5) بيان حال من انهمكوا فى الدنيا ولذاتها.
(6) قصص عاد ، وفيه بيان أن صرف النعم فى غير وجهها يورث الهلاك.
(7) استماع الجن للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتبليغهم قومهم ما سمعوه.
(8) عظة للنبى - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من أمته.
(9) بيان أن القرآن فيه البلاغ والكفاية فى الإنذار.
(10) من عدل اللّه ورحمته ألا يعذب إلا من خرج من طاعته ولم يعمل بأمره ونهيه. (2)
===================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3252)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (26 / 45)(1/1052)
(47) سورة محمد
سميت هذه السورة في كتب السنة سورة محمد. وكذلك ترجمت في صحيح البخاري من رواية أبي ذر عن البخاري، وكذلك في التفاسير قالوا: وتسمى سورة القتال.
ووقع في أكثر روايات صحيح البخاري سورة الذين كفروا. والأشهر الأول، ووجهه أنها ذكر فيها اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآية الثانية منها فعرفت به قبل سورة آل عمران [144] التي فيها {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} .
وأما تسميتها سورة القتال فلأنها ذكرت فيها مشروعية القتال، ولأنها ذكر فيها لفظه في قوله تعالى {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} مع ما سيأتي أن قوله تعالى {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} إلى قوله {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} [محمد: 20] أن المعني بها هذه السورة فتكون تسميتها سورة القتال تسمية قرآنية.
وهي مدنية بالاتفاق حكاه ابن عطية وصاحب الإتقان. وعن النسفي: أنها مكية. وحكى القرطبي عن الثعلبي وعن الضحاك وابن جبير: أنها مكية. ولعله وهم ناشئ عما روي عن ابن عباس أن قوله تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} [محمد: 13] الآية نزلت في طريق مكة قبل الوصول إلى حراء، أي في الهجرة. قيل نزلت هذه السورة بعد يوم بدر وقيل نزلت في غزوة أحد. وعدت السادسة والتسعين في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة الحديد وقبل سورة الرعد.
وآيها عدت في أكثر الأمصار تسعا وثلاثين، وعدها أهل البصرة أربعين، وأهل الكوفة تسعا وثلاثين.
أغراضها
معظم ما في هذه السورة التحريض على قتال المشركين، وترغيب المسلمين في ثواب الجهاد.
افتتحت بما يثير حنق المؤمنين على المشركين لأنهم كفروا بالله وصدوا عن سبيله، أي دينه.
وأعلم الله المؤمنين بأنه لا يسدد المشركين في أعمالهم وأنه مصلح المؤمنين فكان ذلك كفالة للمؤمنين بالنصر على أعدائهم. وانتقل من ذلك الى الأمر بقتالهم وعدم الإبقاء عليهم. وفيها وعد المجاهدين بالجنة، وأمر المسلمين بمجاهدة الكفار وأن لا يدعوهم إلى السلم، وإنذار المشركين بأن يصيبهم ما أصاب الأمم المكذبين من قبلهم. ووصف الجنة ونعيمها، ووصف جهنم وعذابها. ووصف المنافقين وحال اندهاشهم إذا نزلت سورة فيها الحض على القتال، وقلة تدبرهم القرآن وموالاتهم المشركين.(1/1053)
وتهديد المنافقين بأن الله ينبي رسوله - صلى الله عليه وسلم - بسيماهم وتحذير المسلمين من أن يروج عليهم نفاق المنافقين. وختمت بالإشارة إلى وعد المسلمين بنوال السلطان وحذرهم إن صار إليهم الأمر من الفساد والقطيعة. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الأحقاف بقوله تعالى : « فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ »..وبدئت سورة « محمد » بعدها بقوله تعالى : « الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ »..فكان هذا البدء ـ كما ترى ـ أشبه بالوصف الكاشف عن القوم الفاسقين ، فهم الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه ، الذين أضل اللّه أعمالهم ..فالسورتان ، أشبه بسورة واحدة ، فى تجاوب آياتها والتحام معانيها (2) ..
مقدمة
1 - هذه السورة تسمى بسورة محمد - صلى الله عليه وسلم - لما فيها من الحديث عما أنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - وتسمى - أيضا - بسورة القتال ، لحديثها المستفيض عنه.
وهي من السور المدنية التي يغلب على الظن أن نزولها كان بعد غزوة بدر وقبل غزوة الأحزاب ، وقد ذكروا أن نزولها كان بعد سورة « الحديد » .
وعدد آياتها أربعون آية في البصري ، وثمان وثلاثون في الكوفي ، وتسع وثلاثون في غيرهما.
2 - وتفتتح السورة الكريمة ببيان سوء عاقبة الكافرين ، وحسن عاقبة المؤمنين ، ثم تحض المؤمنين على الإغلاظ في قتال الكافرين ، وفي أخذهم أسارى ، وفي الإعلاء من منزلة المجاهدين في سبيل اللّه.قال - تعالى - : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ...
3 - ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين وعدهم فيه بالنصر متى نصروه وتوعد الكافرين بالتعاسة والخيبة ، ووبخهم على عدم اعتبارهم واتعاظهم ، كما بشر المؤمنين - أيضا - بجنة فيها ما فيها من نعيم.قال - تعالى - : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ، كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (26 / 60)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (13 / 303)(1/1054)
4 - ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن المنافقين ، فذكرت جانبا من مواقفهم السيئة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن دعوته ، ووبختهم على خداعهم وسوء أدبهم.
قال - تعالى - : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ.
5 - ثم صورت السورة الكريمة ما جبل عليه هؤلاء المنافقون من جبن وهلع ، وكيف أنهم عند ما يدعون إلى القتال يصابون بالفزع الخالع.
قال - سبحانه - وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ. طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ، فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ.
6 - وبعد أن بينت السورة الكريمة أن نفاق المنافقين كان بسبب استحواذ الشيطان عليهم ، وتوعدتهم بسوء المصير في حياتهم وبعد مماتهم.
بعد كل ذلك أخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوصافهم الذميمة ، فقال - تعالى - : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ، فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ.
7 - ثم عادت السورة إلى الحديث عن الكافرين وعن المؤمنين ، فتوعدت الكافرين بحبوط أعمالهم. وأمرت المؤمنين بطاعة اللّه ورسوله. ونهتهم عن اليأس والقنوط ، وبشرتهم بالنصر والظفر ، وحذرتهم من البخل ، ودعتهم إلى الإنفاق في سبيل اللّه.قال - تعالى - : ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ. ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ.
8 - هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة - بعد هذا العرض الإجمالى لها - يراها تهتم بقضايا من أهمها ما يأتى :
(أ) تشجيع المؤمنين على الجهاد في سبيل اللّه - تعالى - : وعلى ضرب رقاب الكافرين ، وأخذهم أسرى ، وكسر شوكتهم ، وإذلال نفوسهم .. كل ذلك بأسلوب قد اشتمل على أسمى ألوان التحضيض على القتال.نرى ذلك في قوله - تعالى - : فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ. حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها.وفي قوله - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ.(1/1055)
(ب) بيان سوء عاقبة الكافرين في الدنيا والآخرة ، ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحق ، وإبراز الأسباب التي حملتهم على الجحود والعناد. نرى ذلك في آيات كثيرة منها قوله - تعالى - : وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ. أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ.
(ج) كشفها عن أحوال المنافقين وأوصافهم بصورة تميزهم عن المؤمنين وتدعو كل عاقل إلى احتقارهم ونبذهم. بسبب خداعهم وكذبهم ، وجبنهم واستهزائهم بتعاليم الإسلام.
ولقد توعدهم اللّه - تعالى - بأشد ألوان العذاب ، فقال : أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ. (1)
في هذه السورة تنديد بالكفار وكفرهم وصدهم عن سبيل اللّه. وحض للمؤمنين على قتالهم على أن لا يكون قتل إبادة. وتشريع بحق أسراهم.
ومقايسات بين المسلمين والكفار ومصائر كل من الفريقين. وتنديد بمرضى القلوب ، وصور عن مواقفهم وتآمرهم مع اليهود. وحث للمسلمين على طاعة اللّه ورسوله والجهاد والبذل في سبيله ، وتنديد بمن يبخل أو يتهاون مع الأعداء. وقد روى بعض المفسرين «1» اسما آخر لها هو (سورة القتال) لما فيها من حض على قتال الكفار كما هو المتبادر.
وأسلوب السورة النظمي فريد. ويسوغ القول بوحدة نزولها أو تتابع فصولها حتى تمت. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [13] نزلت لحدتها في طريق هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. وانسجامها مع الآيات يحمل على التوقف في الرواية.
وترتيب هذه السورة في روايات ترتيب النزول التي يرويها المصحف الذي اعتمدنا عليه وغيره «2» بعد سورة الحديد التي جاء ترتيبها في الروايات المذكورة بعد سورة النساء ، ولما كان محتوى سورة الحديد يدل على أنها نزلت بعد الفتح المكي فقد أخرنا تفسيرها فصار ترتيب هذه السورة بعد سورة النساء مباشرة. وبين بعض فصول سورة النساء وفصول هذه السورة تماثل غير يسير. (2)
سورة محمّد عليه الصلاة والسلام مدنيّة ، وهي ثمان وثلاثون آية.
تسميتها : سميت سورة محمد ، لبيان تنزيل القرآن فيها على محمد - صلى الله عليه وسلم - : وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ [2]. ولم يذكر محمد باسمه في القرآن إلا أربع مرات ، في سورة آل عمران : وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [144]
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (13 / 213)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 298)(1/1056)
وفي سورة الأحزاب : ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [40] وهنا في هذه السورة ، وفي سورة الفتح : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [29]. وأما في غير هذه المواضع الأربعة فيذكر بصفة الرسول أو النبي.
وسميت أيضا سورة القتال ، لبيان أحكام قتال الكفار فيها في أثناء المعارك وبعد انتهائها : فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [4].
مناسبتها لما قبلها :
هذه السورة يرتبط أولها ارتباطا قويا بآخر سورة الأحقاف : فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ حتى إنه لو أسقطت البسملة بينهما ، لكان الكلام متصلا مباشرة بما قبله اتصالا لا تنافر فيه ، كالآية الواحدة.
ما اشتملت عليه السورة :
يمكن أن يوصف موضوع هذه السورة بأنه الجهاد في سبيل اللَّه ، وبما أن السورة مدنية ، فهي معنية بأحكام التشريع ، لا سيما أحكام القتال والأسرى والغنائم ووصف الكافرين والمؤمنين وجزاء الفريقين في الدنيا والآخرة ، وأحوال المنافقين والمرتدين ووعدهم ووعيدهم.
بدأت السورة مباشرة وبما يلفت النظر بالحديث عن الكفار أعداء اللَّه والرسول ، وإظهار غضب اللَّه عليهم ، وأردفت ذلك بوصف المؤمنين وبيان رضا اللَّه عليهم ، لإظهار الفرق الواضح بين الفريقين : كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ.
ثم أمرت المؤمنين بقتال الكافرين قتالا عنيفا لا هوادة فيه ، لأنهم كفروا واتبعوا الباطل ، وبشّرت المؤمنين بالنصر إن نصروا دين اللَّه وصبروا في مواجهة الأعداء ، وأبانت خذلان الكافرين لكراهيتهم ما أنزل اللَّه ، وفي هذا تعريف بجزاء المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة.
ثم عنيت بضرب الأمثال لكفار مكة وأمثالهم بالطغاة السابقين وكيفية تدميرهم بسبب طغيانهم : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا ...
ووصفت بعدئذ ألوان نعيم الجنة المعدة للمتقين للترغيب والإقبال على الإيمان والطاعة.
وانتقل البيان إلى وصف المنافقين والمرتدين ووعدهم وتهديدهم : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ .. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ إلى آخر السورة. وذكرت في ثنايا ذلك أن الكافرين الصادّين عن سبيل اللَّه والمعادين للرسول لن يضروا اللَّه شيئا وسيحبط أعمالهم ، ولن يغفر اللَّه لهم ، وذكّرت بوجوب طاعة اللَّه تعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وختمت السورة بما يناسب موضوعها الأصلي وهو الجهاد في سبيل اللَّه ، فدعت المؤمنين إلى تحقيق العزة والكرامة ، وتجنب الضعف والوهن والمسالة المهينة ، وحذّرت من صلح الأعداء حال القوة ، ووصفت(1/1057)
حال الدنيا باللهو واللعب ، ودعت إلى الإنفاق في سبيل اللَّه ، فإن الدنيا فانية زائلة : فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ .. إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ .... (1)
وتسمى سورة القتال ، وهي سورة مدنية ، وقيل : كلها مدني إلا آية وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ وعدد آياتها تسع وثلاثون آية ، وهذه السورة تشتمل على بيان أحوال الكفار والمؤمنين في الدنيا والآخرة ، وعنيت بالتقابل بينهم ، وذكر فيها كثير من أحكام القتال. (2)
وتسمى سورة القتال ، وهي مدنية عند الأكثرين ولم يذكروا استثناء ، وعن ابن عباس وقتادة أنها مدنية إلا قوله تعالى : وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [محمد : 13] إلى آخره فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من مكة إلى الغار التفت إليها وقال : «أنت أحب بلاد اللّه تعالى إلى اللّه وأنت أحب بلاد اللّه تعالى إليّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك»
فأنزل اللّه تعالىذلك فيكون مكيا بناء على أن ما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغها النبي - صلى الله عليه وسلم - . أعني ما نزل في سفر الهجرة. من المكي اصطلاحا كما يؤخذ من أثر أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي بسنده إلى يحيى بن سلام ، وعدة آيها أربعون في البصري وثمان وثلاثون في الكوفي وتسع بالتاء الفوقية وثلاثون فيما عداهما ، والخلاف في قوله تعالى : حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [محمد : 4] وقوله تعالى : لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد : 15] ولا يخفى قوة ارتباط أولها بآخر السورة قبلها واتصاله وتلاحمه بحيث لو سقطت من البين البسملة لكانا متصلا واحدا لا تنافر فيه كالآية الواحدة آخذا بعضه بعنق بعض ، وكان - صلى الله عليه وسلم - على ما أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما يقرؤها في صلاة المغرب. (3)
مقصودها التقدم إلى المؤمنين في حفظ حظيرة الدين بإدامة الجهادة للكفار , حتى يلزموهم الصغار , أو يبطلوا ضلالهم كما أصل الله أعمالهم , لا سيما أهل الردة الذين فسقوا عن محيط الدين إلى أودية الضلال المبين , والتزام هذا الخلق الشريف إلى أن تضع الحرب أوزارها بإسلام أهل الأرض كلهم بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام , وعلى ذلك دل اسمها {الذين كفروا} لأن من المعلوم أن من صدك عن سبيلك قاتلته وأنك إن لم تقاتله كن مثله , واسمعها محمد واضح في ذلك لأن الجهاد كان خلقه عليه أفضل الصلاة والسلام إلى أن توفاه الله تعالى وهو نبي الرحمة بالملحمة لأنه لا يكون حمد وثم نوع ذم كما تقدم
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (26 / 75)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 456)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (13 / 193)(1/1058)
تحقيقه في سورة فاطر وفي سبإ وفي الفاتحة , ومتى كان كف عن أعداء الله كان الذم , وأوضح أسمائها في هذا المقصد القتال , فإن من المعلوم أنه لأهل الضلال (1)
هذه السورة مدنية ، ولها اسم آخر. اسمها سورة القتال. وهو اسم حقيقي لها. فالقتال هو موضوعها. والقتال هو العنصر البارز فيها. والقتال في صورها وظلالها. والقتال في جرسها وإيقاعها.
القتال موضوعها. فهي تبدأ ببيان حقيقة الذين كفروا وحقيقة الذين آمنوا في صيغة هجوم أدبي على الذين كفروا ، وتمجيد كذلك للذين آمنوا ، مع إيحاء بأن اللّه عدو للأولين وليّ للآخرين ، وأن هذه حقيقة ثابتة في تقدير اللّه سبحانه. فهو إذن إعلان حرب منه تعالى على أعدائه وأعداء دينه منذ اللفظ الأول في السورة : «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ - وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ - كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ. ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ».
وعقب إعلان هذه الحرب من اللّه على الذين كفروا ، أمر صريح للذين آمنوا بخوض الحرب ضدهم.
في صيغة رنانة قوية ، مع بيان لحكم الأسرى بعد الإثخان في المعركة والتقتيل العنيف : «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ، حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» ..
ومع هذا الأمر بيان لحكمة القتال ، وتشجيع عليه ، وتكريم للاستشهاد فيه ، ووعد من اللّه بإكرام الشهداء ، وبالنصر لمن يخوض المعركة انتصارا للّه ، وبهلاك الكافرين وإحباط أعمالهم : «ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ، وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» ..
ومعه كذلك تهديد عنيف للكافرين ، وإعلان لولاية اللّه ونصرته للمؤمنين ، وضياع الكافرين وخذلانهم وضعفهم وتركهم بلا ناصر ولا معين : «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» .. كذلك تهديد آخر للقرية التي أخرجت الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ» ..
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 222)(1/1059)
ثم تمضي السورة بعد هذا الهجوم العنيف السافر في ألوان من الحديث حول الكفر والإيمان ، وحال المؤمنين وحال الكافرين في الدنيا والآخرة. فتفرق بين متاع المؤمن بالطيبات وتمتع الكافرين بلذائذ الأرض كالحيوان : «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» .. كما تصف متاع المؤمنين في الجنة بشتى الأشربة الشهية من ماء غير آسن ، ولبن لم يتغير طعمه ، وخمر لذة للشاربين ، وعسل مصفى ، في وفر وفيض .. في صورة أنهار جارية .. ذلك مع شتى الثمرات ، ومع المغفرة والرضوان. ثم سؤال : أهؤلاء «كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ؟» ..
فإذا انقضت هذه الجولة الأولى في المعركة السافرة المباشرة بين المؤمنين والكافرين. أعقبها في السورة جولة مع المنافقين ، الذين كانوا هم واليهود بالمدينة يؤلفون خطرا على الجماعة الإسلامية الناشئة لا يقل عن خطر المشركين الذين يحاربونها من مكة وما حولها من القبائل في تلك الفترة ، التي يبدو من الوقائع التي تشير إليها السورة أنها كانت بعد غزوة بدر ، وقبل غزوة الأحزاب وما تلاها من خضد شوكة اليهود ، وضعف مركز المنافقين (كما ذكرنا في تفسير سورة الأحزاب).
والحديث عن المنافقين في هذه السورة يحمل ظلالها. ظلال الهجوم والقتال ، منذ أول إشارة. فهو يصور تلهيهم عن حديث رسول اللّه ، وغيبة وعيهم واهتمامهم في مجلسه ويعقب عليه بما يدمغهم بالضلال والهوى : «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ : ماذا قالَ آنِفاً؟ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» ..
ويهددهم بالساعة يوم لا يستطيعون الصحو ولا يملكون التذكر : «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً؟ فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها. فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ؟» ..
ثم يصور هلعهم وجبنهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلفهم القتال - وهم يتظاهرون بالإيمان - والفارق بينهم يومئذ وبين المؤمنين الصادقين : «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا : لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ! فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ!».
ويحثهم على الطاعة والصدق والثبات. ويرذل اتجاهاتهم ، ويعلن عليهم الحرب والطرد واللعن : «فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ. فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ؟ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» ..
ويفضحهم في توليهم للشيطان ، وفي تآمرهم مع اليهود ، ويهددهم بالعذاب عند الموت بالفضيحة التي تكشف أشخاصهم فردا فردا في المجتمع الإسلامي ، الذي يدمجون أنفسهم فيه ، وهم ليسوا منه ، وهم يكيدون له : «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ، الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى(1/1060)
لَهُمْ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ : سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ. فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ؟ ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» ..
وفي الجولة الثالثة والأخيرة في السورة عودة إلى الذين كفروا من قريش ومن اليهود وهجوم عليهم : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ - مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى - لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ» ..
وتحذير للذين آمنوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أعداءهم : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» ..
وتحضيض لهم على الثبات عند القتال : «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ» ..
وتهوين من شأن الحياة الدنيا وأعراضها. وحض على البذل الذي يسره اللّه ، ولم يجعله استئصالا للمال كله ، رأفة بهم ، وهو يعرف شح نفوسهم البشرية ، وتبرمها وضيقها لو أحفاهم في السؤال : «إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ. إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ» ..
وتختم السورة بما يشبه التهديد للمسلمين إن هم بخلوا بإنفاق المال ، وبالبذل في القتال : «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» ..
إنها معركة مستمرة من بدء السورة إلى ختامها يظللها جو القتال ، وتتسم بطابعه في كل فقراتها.
وجرس الفاصلة وإيقاعها منذ البدء كأنه القذائف الثقيلة : «أَعْمالَهُمْ. بالَهُمْ. أَمْثالَهُمْ. أَهْواءَهُمْ. أَمْعاءَهُمْ ..»
وحتى حين تخف فإنها تشبه تلويح السيوف في الهواء : «أَوْزارَها. أَمْثالُها. أَقْفالُها ...».
وهناك شدة في الصور كالشدة في جرس الألفاظ المعبرة عنها .. فالقتال أو القتل يقول عنه : «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ» .. والتقتيل والأسر يصوره بشدة : «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ» ..(1/1061)
والدعاء على الكافرين يجيء في لفظ قاس : «فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» .. وهلاك الغابرين يرسم في صورة مدوية ظلا ولفظا : «دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها» .. وصورة العذاب في النار تجيء في هذا المشهد : «وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» .. وحالة الجبن والفزع عند المنافقين تجيء في مشهد كذلك عنيف : «يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ!» .. حتى تحذير المؤمنين من التولي يجيء في تهديد نهائي حاسم : «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» ..
وهكذا يتناسق الموضوع والصور والظلال والإيقاع في سورة القتال .. (1)
اشتملت هذه السورة الكريمة على ثلاثة مقاصد
(1) وصف الكافرين والمؤمنين من أول السورة إلى قوله : « كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ » .
(2) جزاء الفريقين فى الدنيا والآخرة من خذلان ونصر ونار وجنة من قوله :
« فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ - إلى قوله : وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ » .
(3) الوعد والتهديد للمنافقين والمرتدين من قوله : « وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ » إلى آخر السورة. (2)
=================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3278)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (26 / 82)(1/1062)
(48) سورة الفتح
سورة {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] سميت في كلام الصحابة سورة الفتح. ووقع في صحيح البخاري عن عبد الله بن مغفل بغين معجمة مفتوحة وفاء مشددة مفتوحة قال: قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة سورة الفتح فرجع فيها. وفيها حديث سهل بن حنيف لقد رأيتنا يوم الحديبية ولو ترى قتالا لقاتلنا. ثم حكى مقاله عمر إلى أن قال فنزلت سورة الفتح ولا يعرف لها اسم آخر. ووجه التسمية أنها تضمنت حكاية فتح متجه الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي.
وهي مدنية على المصطلح المشهور في أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو كان نزوله في مكان غير المدينة من أرضها أو من غيرها. وهذه السورة نزلت بموضع يقال له كراع الغميم بضم الكاف من كراع وبفتح الغين المعجمة وكسر الميم من الغميم موضع بين مكة والمدينة وهو واد على مرحلتين من مكة وعلى ثلاثة أميال من عسفان وهو من أرض مكة. وقيل نزلت بضجنان بوزن سكران وهو جبل قرب مكة ونزلت ليلا فهي من القرآن الليلي.
ونزولها سنة ست بعد الهجرة منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية وقبل غزوة خيبر. وفي الموطإ عن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسير في بعض أسفاره أي منصرفه من الحديبية ليلا وعمر بن الخطاب يسير معه فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال: عمر ثكلت أم عمر نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر: فحركت بعيري وتقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله فسلمت عليه فقال: "لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب الي مما طلعت عليه الشمس" ثم قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] ومعنى قوله لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس لما اشتملت عليه من قوله {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح: من الآية2].
وأخرج مسلم والترمذي عن أنس قال أنزل على النبي {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} إلى قوله {فَوْزاً عَظِيماً} [الفتح: 2-5] مرجعه من الحديبية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض ثم قرأها.
وهي السورة الثالثة عشرة بعد المائة في ترتيب نزول السور في قول جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الصف وقبل سورة التوبة. وعدة آيها تسع وعشرون. وسبب نزولها ما رواه الواحدي وابن إسحاق عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية وقد حيل بيننا(1/1063)
وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة أنزل الله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} فقال رسول الله: "لقد أنزلت علي آية أحب إلي من الدنيا وما فيها" وفي رواية "من أولها إلى آخرها".
أغراضها
تضمنت هذه السورة بشارة المؤمنين بحسن عاقبة صلح الحديبية وأنه نصر وفتح فنزلت به السكينة في قلوب المسلمين وأزال حزنهم من صدهم عن الاعتمار بالبيت وكان المسلمون عدة لا تغلب من قلة فرأوا أنهم عادوا كالخائبين فأعلمهم الله بأن العاقبة لهم، وأن دائرة السوء على المشركين والمنافقين. والتنويه بكرامة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ربه ووعده بنصر متعاقب. والثناء على المؤمنين الذين عزروه وبايعوه، وأن الله قدم مثلهم في التوراة وفي الإنجيل. ثم ذكر بيعة الحديبية والتنويه بشأن من حضرها. وفضح الذين تخلفوا عنها من الأعراب ولمزهم بالجبن والطمع وسوء الظن بالله وبالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومنعهم من المشاركة في غزوة خيبر، وإنبائهم بأنهم سيدعون إلى جهاد آخر فإن استجابوا غفر لهم تخلفهم عن الحديبية. ووعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بفتح آخر يعقبه فتح أعظم منه وبفتح مكة. وفيها ذكر بفتح من خيبر كما سيأتي في قوله تعالى {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: من الآية20] (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « محمد » (عليه الصلاة والسلام) بدعوة المؤمنين إلى البذل والإنفاق فى سبيل اللّه ، حاملة بين يدى هذه الدعوة ، إشارة إلى أن هذه الدعوة لا تلقى قبولا من بعض ذوى النفوس التي لم يتمكن الإيمان منها ، وأن هؤلاء سيخلون مكانهم لغيرهم من المؤمنين الذي صدقوا اللّه ورسوله ، وهؤلاء المؤمنون هم الذين يتلقاهم اللّه سبحانه وتعالى بالقبول ، ويمنحهم النصر والتأييد الذي وعد عباده المؤمنين ..وقد جاءت سورة « الفتح » تزف إلى المؤمنين هذه البشرى بالفتح والنصر الذي أعز اللّه به نبيه ، وأعز به المؤمنين معه .. كما يقول سبحانه فى مطلع السورة : « هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ».. وكما يقول سبحانه بعد ذلك : « وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً »..ومن جهة أخرى ، فإن سورة « محمد » ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد حملت إلى النبي الكريم هذا الأمر الكريم من ربه : « فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ »
ـ فجاءت سورة « الفتح » مفتتحة بقبول هذا الاستغفار ، وشمول الرسول الكريم بهذا الغفران المطلق ، الشامل لكل ما تقدم من ذنبه وما تأخر ..
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (26 / 119)(1/1064)
ومن جهة ثالثة ـ فإن محمدا ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ الذي حملت السورة السابقة اسمه ، يناسبه أعظم المناسبة أن يجىء فى أعقاب سورته سورة « الفتح » إذ كان هذا الفتح لمحمد عليه صلوات اللّه وسلامه ورحمته وبركاته .. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة الفتح من السور المدنية ، وعدد آياتها تسع وعشرون آية ، وكان نزولها في أعقاب صلح الحديبية.
قال ابن كثير - رحمه اللّه - : نزلت سورة « الفتح » لما رجع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، ليقضى عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتى من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة .. .
2 - والمتدبر للقرآن الكريم ، يرى كثيرا من آياته وسوره ، في أعقاب بعض الغزوات ، ليتعلم المسلمون من تلك الآيات والسور ما ينفعهم وما يصلح من شأنهم.
فمثلا في أعقاب غزوة « بدر » نزلت سورة الأنفال التي سماها ابن عباس سورة بدر.
وفي أعقاب غزوة « أحد » نزلت عشرات الآيات في سورة آل عمران.
وفي أعقاب غزوة « بنى النضير » نزلت آيات من سورة الحشر.
وفي أعقاب غزوة « الأحزاب » نزلت آيات من سورة الأحزاب.
وفي أعقاب صلح الحديبية نزلت هذه السورة الكريمة ، التي تحكى الكثير من الأحداث التي تتعلق بهذا الصلح.
3 - وقبل أن نبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة ، نرى من الخير أن نعطى للقارئ فكرة واضحة عن صلح الحديبية ، التي نزلت في أعقابه هذه السورة .. فنقول - وباللّه التوفيق - : رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه أنه قد دخل المسجد الحرام هو وأصحابه ، وقد صرحت السورة الكريمة بذلك في قوله - تعالى - : لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ... فقص - صلى الله عليه وسلم - هذه الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا بها. وكان المشركون قد منعوهم من دخول مكة ، ومن الطواف بالمسجد الحرام.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (13 / 391)(1/1065)
4 - وخرج - صلى الله عليه وسلم - ومعه حوالى أربعمائة وألف من أصحابه ، ليس معهم من السلاح سوى السيوف في أغمادها ، وساقوا معهم الهدى الذي يتقربون بذبحه إلى اللّه - تعالى - ليكون دليلا على أنهم لا يريدون حرب قريش ، وإنما يريدون الطواف بالبيت الحرام.
وسار - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة ، فلما وصل إلى « عسفان » وهو مكان بين مكة والمدينة - جاءه بشر بن سفيان الكعبي وكان مكلفا من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعرفة أخبار قريش فقال : يا رسول اللّه ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل - أى : ومعهم الإبل التي لم تلد ، والإبل التي ولدت ، قد لبسوا جلود النمور - أى : قد استعدوا لقتالك وقد نزلوا بذي طوى - وهو مكان بالقرب من مكة - ، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم أبدا ..
فقال - صلى الله عليه وسلم - : « يا ويح قريش!! لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابونى كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرنى اللّه عليهم ، دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش؟ فو اللّه لا أزال أجاهد على الذي بعثني اللّه به ، حتى يظهره اللّه أو تنفرد هذه السالفة » أى أو أن أقتل في سبيل اللّه.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : « من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها »؟.
فقال رجل من قبيلة أسلم : أنا يا رسول اللّه ، فسلك بهم طريقا وعرا ، انتهى بهم إلى « الحديبية » وهي قرية على بعد مرحلة من مكة ، أو هي بئر سمى المكان بها.
5 - وفي هذا المكان بركت القصواء - وهي الناقة التي كان يركبها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال الناس : خلأت الناقة أى : حرنت وأبت المشي - ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : « ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش إلى خطة يسألوننى فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ».
ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - الناس بالنزول في هذا المكان ..
6 - وعلمت قريش بنزول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الحديبية ، فبدءوا يرسلون رسلهم لمعرفة الأسباب التي حملت المسلمين إلى المجيء إليهم.
وكان من بين الرسل بديل بن ورقاء الخزاعي .. فلما سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن سبب مجيئه إلى مكة ، أخبره أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت الحرام ، ومعظما لحرمته ..
وعاد بديل إلى مكة ، وأخبر المشركين بما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم لم يقتنعوا ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا. واللّه لا يدخلها علينا عنوة أبدا ...(1/1066)
7 - ثم أرسلت قريش رسلا آخرين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من بينهم ، عروة بن مسعود الثقفي .. فكان مما قاله للرسول - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد ، أجمعت أوشاب الناس - أى : أخلاطهم - ثم جئت بهم إلى أهلك .. إن قريشا قد تعاهدت أنك لن تدخل عليهم مكة عنوة ..
وكان عروة خلال حديثه مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يمد يده إلى لحيته - صلى الله عليه وسلم - فكان المغيرة ابن شعبة يقرع يد عروة ويقول له : اكفف يدك عن وجه رسول اللّه قبل أن لا تصل إليك.
وشاهد عروة ما شاهد من احترام المسلمين لرسولهم - صلى الله عليه وسلم - فعاد إلى المشركين وقال لهم : يا معشر قريش ، إنى قد جئت كسرى في ملكه ، والنجاشيّ في ملكه ، وإنى واللّه ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا ، فروا رأيكم ..
8 - ثم أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قريش عثمان بن عفان - رضى اللّه عنه - لكي يخبرهم بأن المسلمين ما جاءوا لحرب ، وإنما جاءوا للطواف بالبيت.
وذهب إليهم عثمان وأخبرهم بذلك ، ولكنهم صمموا على منع المسلمين من دخول مكة ، قالوا لعثمان : إن شئت أنت أن تطوف بالبيت فطف.
فقال لهم : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - .
وطال مكث عثمان عند قريش ، حتى أشيع بين المسلمين أنه قد قتله المشركون.
فقال - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه أن عثمان قد قتل : « لا نبرح حتى نناجز القوم » ودعا المسلمين إلى مبايعته على الموت ، فبايعه المسلمون على ذلك تحت شجرة الرضوان ...
ثم جاء عثمان بعد ذلك دون أن يصيبه أذى ...
9 - وأخيرا أوفدت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا منهم اسمه سهيل بن عمرو ، ليعقد صلحا مع المسلمين ، وقالوا له : ائت محمدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فو اللّه لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا ..
وعند ما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سهيلا مقبلا نحوه ، قال لأصحابه : لقد سهل اللّه لكم من أمركم ، إن قريشا أرادت الصلح حين بعثت هذا الرجل.
وتم الصلح بين الفريقين على ما يأتى :
أولا : أن يرجع المسلمون دون زيارة البيت هذا العام ، فإذا كان العام التالي : أخلت قريش لهم مكة ثلاثة أيام ، ليطوفوا بالبيت ، وليس معهم إلا السيوف في غمدها ..
ثانيا : أن تضع الحرب أوزارها بين الطرفين عشر سنوات.(1/1067)
ثالثا : من أتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قريش مسلما بغير إذن وليه رده إليهم ، ومن أتى قريشا من المسلمين لم يردوه.
رابعا : من أحب أن يدخل في عقد مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فله ما أراد. ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فله ذلك.
ولقد عز على بعض المسلمين قبول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذه الشروط ، التي ظاهرها الظلم للمسلمين ، حتى قال عمر - رضى اللّه عنه - للرسول - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول اللّه ، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : « إنى رسول اللّه ولست أعصيه وهو ناصري ».
ثم أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى المسلمين أن يتحللوا من عمرتهم ، بأن ينحروا هديهم ، وأن يحلقوا رءوسهم أو يقصروا. ولكنهم لم يسارعوا بالامتثال ، فدخل - صلى الله عليه وسلم - على زوجه أم سلمة - رضى اللّه عنها - ، وقد ظهر الغضب على وجهه.
فقالت له : يا رسول اللّه ، اعذرهم ، وابدأ بما تأمرهم به دون أن تكلم منهم أحدا.
فقام - صلى الله عليه وسلم - فنحر هديه ، ودعا حالقه فحلق له ، فلما رأى المسلمون ذلك من نبيهم ، قاموا فنحروا هديهم ، وجعل بعضهم يحلق بعضا.
ثم أقام المسلمون بعد ذلك عدة أيام بالحديبية ، ثم قفلوا راجعين إلى المدينة ، وعند ما سمع - صلى الله عليه وسلم - بعضهم يقول : لقد رجعنا ولم نصنع شيئا ..
قال - صلى الله عليه وسلم - « بل فتحتم أعظم الفتح ».
وصدق رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في قوله هذا. فقد كان صلح الحديبية فتحا عظيما ، كما نبين ذلك عند تفسيرنا للسورة الكريمة.
وبهذا العرض المجمل لأحداث صلح الحديبية ، نكون قد أعطينا القارئ فكرة مركزة عن هذا الصلح ، وعن الجو العام الذي نزلت في أعقابه سورة الفتح ، ومن أراد المزيد لمعرفة أحداث صلح الحديبية فليرجع إلى كتب السيرة . (1)
في السورة إشارة إلى أحداث ومشاهد سفرة الحديبية وصلحها وما يسّره اللّه للمسلمين من فتح خيبر وغنائمها على ما أجمع عليه المفسرون وكتاب السيرة القدماء. وفيها تثبيت وتطمين ربانيان بمناسبة تلك الأحداث والمشاهد. وإشارة إلى مواقف بعض الأعراب المسلمين منها. وإشارة إلى وجود مؤمنين يكتمون
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (13 / 253)(1/1068)
إيمانهم في مكة. وإيذان جديد بوعد اللّه بإظهار الإسلام على الدين كله. وتنويه بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وما كانوا عليه من ورع وتقوى.
وآيات السورة منسجمة في الموضوع والظرف. وهذا يسوّغ القول بوحدة نزولها ونزول فصولها متتابعة.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن هذه السورة نزلت في طريق عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية إلى المدينة. وقد أورد المفسرون بعض أحاديث مؤيدة لذلك. منها حديث أخرجه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال «كنا مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يردّ عليّ ، فقلت في نفسي : ثكلتك أمّك يا ابن الخطاب ألححت على رسول اللّه ثلاث مرّات فلم يردّ عليك. فركبت راحلتي فحركت بعيري وتقدمت مخافة أن يكون نزل فيّ شيء فإذا أنا بمناد يا عمر فرجعت وأنا أظنّ أنه نزل فيّ شيء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : نزل عليّ البارحة سورة هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» «1» ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا عن مجمع بن حارثة الأنصاري جاء فيه «شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض ما للناس؟ قالوا أوحي إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فخرجنا مع الناس نوجف فإذا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على راحلته عند كراع الغميم فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) فقال رجل من أصحاب رسول اللّه : أي رسول اللّه أو فتح هو؟ قال إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» «1».
ومنها حديث أخرجه ابن جرير عن عبد اللّه بن مسعود جاء فيه «لما أقبلنا من الحديبية عرسنا فنمنا فلم نستيقظ إلّا والشمس قد طلعت. فاستيقظنا ورسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - نائم قال فقلنا أيقظوه فاستيقظ فقال افعلوا ما كنتم تفعلون. وكذلك يفعل من نام أو نسي. وفقدنا ناقة رسول اللّه فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة فأتيته بها فركبها فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه الوحي اشتدّ عليه فلما سرى عنه أخبرنا أنه أنزل عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)» «2». وفي فصل التفسير من صحيحي مسلم والبخاري حديث عن سهل بن حنيف جاء فيه «لقد رأيتنا يوم الحديبية في الصلح الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشركين ولو نرى قتالا لقاتلنا فجاء عمر فقال ألسنا على الحقّ وهم على الباطل. أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار. قال : بلى. قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم اللّه بيننا.
فقال : يا ابن الخطاب إني رسول اللّه ولن يضيعني اللّه أبدا. فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال : ألسنا على الحقّ وهم على الباطل. قال : يا ابن الخطاب إنه رسول اللّه ولن يضيّعه أبدا ، فنزلت سورة الفتح» «3».
وهكذا تتضافر الروايات والأحاديث «4» على أنها نزلت دفعة واحدة في طريق عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين إلى المدينة وهو ما يلهمه انسجام آياتها وترابطها ووحدة سياقها وموضوعها. واللّه أعلم.(1/1069)
ولقد روى البخاري ومسلم عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس. ثم قرأ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وفي رواية «نزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا جميعا» «1».
ومن المحتمل أن يكون ما في السورة من إقرار لما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وبشارات عظمى لما سوف ينتج عنه من فتح ونصر وغفران الذنوب المتقدمة والمتأخرة وإظهار دين اللّه على الدين كلّه مما جعل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يشعر بهذا الشعور بنزول السورة وينوه فيها هذا التنويه العظيم. واللّه أعلم. (1)
سورة الفتح مدنيّة ، وهي تسع وعشرون آية.
تسميتها :سميت سورة الفتح لافتتاحها ببشرى الفتح المبين : إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ...
أخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عبد اللَّه بن مغفّل قال : قرأ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح - أي فتح مكة - في مسيره سورة الفتح على راحلته ، فرجّع فيها ، قال معاوية بن قرّة : لو لا أني أكره أن يجتمع الناس علينا ، لحكيت قراءته.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه :
1 - إن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال ، وقد ورد في الحديث : أنها نزلت مبينة لما يفعل به وبالمؤمنين ، بعد إبهامه في قوله تعالى في سورة الأحقاف : وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [9]. وجاء في سورة محمد تعليم المؤمنين كيفية القتال : فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ .. [4] ثم ذكر هنا بيان الثمرة اليانعة لتلك الكيفية وهو النصر والفتح.
2 - في كلتا السورتين (محمد والفتح) بيان أوصاف المؤمنين والمشركين والمنافقين.
3 - في سورة محمد أمر النبي بالاستغفار لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات [الآية 19] وافتتحت هذه السورة بذكر حصول المغفرة.
ما اشتملت عليه السورة :
هذه السورة كسابقتها مدنية ، نزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن صلح الحديبية ، بعد الانصراف من الحديبية. والسور المدنية كما هو معروف تحدثت عن المنافقين الذين ظهروا في المدينة ، وعنيت بشؤون التشريع في الجهاد والعبادات والمعاملات.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 575)(1/1070)
بدأت السورة الكريمة ببشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفتح الأعظم وانتشار الإسلام بعد فتح مكة الذي كان صلح الحديبية بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين سنة ست من الهجرة بداية طيبة له.
ثم أخبرت بوعد اللَّه المنجز لا محالة للمؤمنين ووعيده للكافرين والمنافقين ، وأبانت مهام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشهادة على أمته وعلى الخلق يوم القيامة والتبشير والإنذار ، من أجل الإيمان باللّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ونصرته.
وأردفت ذلك بأمرين متميزين : أولهما - الإشادة بأهل بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية ، وبيان أن بيعتهم في الحقيقة للّه ، وتسجيل رضوان اللَّه تعالى عليهم ، ووعدهم بالنصر في الدنيا ، وبالجنة في الآخرة : إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ...
والثاني - ذم المنافقين من عرب أسلم وجهينة ومزينة وغفار الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية ، وكانوا من أعراب المدينة.
وأبانت إعفاء أصحاب الأعذار (الأعمى والأعرج والمريض) من فريضة الجهاد ، واكتفت منهم بطاعة أمر اللَّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فذلك مؤذن بدخول الجنة.
وذكّرت بفضل اللَّه تعالى على المؤمنين في إبرام الصلح والكف عن القتال بينهم وبين أهل مكة كفار قريش الذين كفروا وصدوا المؤمنين عن المسجد الحرام ، وتأثرهم بحمية الجاهلية من الأنفة والكبر والعصبية ، ورفضهم كتابة البسملة في مقدمة الصلح ، وكتابة «محمد رسول اللَّه» ، وتثبيت المؤمنين على كلمة التقوى وهي طاعة اللَّه تعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبول شروط الصلح ، بالرغم من إجحاف بنوده في الظاهر بحقوق المسلمين.
وتحدثت بعدئذ عن البشرى بتحقق رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - التي رآها في المدينة المنورة أنهم يدخلون المسجد الحرام (مكة) آمنين مطمئنين ، وتم ذلك بالفعل في العام المقبل حيث دخل المؤمنون مكة معتمرين : لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ...
وختمت السورة بأمور ثلاثة : هي إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ووصف النبي والمؤمنين بالرحمة فيما بينهم والشدة على الكفار الأعداء ، ووعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمغفرة والأجر العظيم.
فضلها :
نزلت هذه السورة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد عودته من الحديبية ،(1/1071)
روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها : إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ».
وفي رواية : «لقد أنزلت علي الليلة آية أحب إلي مما على الأرض»
وفي رواية مسلم عن أنس «.. أحب إلي من الدنيا جميعها».
أضواء من السيرة على سبب نزول السورة (صلح الحديبية وبيعة الرضوان) :
كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قد رأى في المنام وهو في المدينة المنورة أنه دخل مكة ، وطاف بالبيت ، فأخبر أصحابه بذلك ، ففرحوا فرحا عظيما.
فخرج رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة معتمرا (زائرا البيت الحرام) لا يريد حربا ، ومعه ألف وخمس مائة (1500) من المهاجرين والأنصار ومسلمي الأعراب ، وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة من «ذي الحليفة» وخرج معه من نسائه أم سلمة رضي اللَّه عنها.
ولم يكن مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وصحبه غير سلاح المسافر : السيوف في القرب ، فبعث عينا له من خزاعة ، يخبره عن قريش ، فلما أصبح قريبا من «عسفان» - موضع بين مكة والمدينة - على مرحلتين من مكة ، أتاه عينه بشر بن سفيان الكعبي قائلا : يا رسول اللَّه ، هذه قريش علمت بمسيرك ، فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل (النوق ذات اللبن والأولاد) أي عازمين قاصدين طول الإقامة ، وقد نزلوا بذي طوى ، يحلفون باللّه ، لا تدخلها عليهم أبدا ، وقد جمعوا لك الأحابيش (جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة) وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت.
فأرسل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حينئذ عثمان بن عفان إلى قريش يبلّغهم قصد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه لا يريد إلا العمرة ، فبلغ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان قد قتل ، فدعا المسلمين إلى البيعة ، واجتمعوا تحت الشجرة - شجرة الرضوان ، فبايعوه على القتال وألا يفروا ، وتسمى بيعة الشجرة أو بيعة الرضوان ، قال سلمة بن الأكوع رضي اللَّه عنه : «بايعناه وبايعه الناس على عدم الفرار ، وأنه إما الفتح وإما الشهادة». فأرعب ذلك المشركين وأرسلوا داعين إلى الصلح والموادعة ، وكان قد أتى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن الذي بلغه من أمر عثمان كذب.
وقد أنزل اللَّه في هذه البيعة قوله سبحانه : لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ .. [الفتح 48/ 18]. وكان هذا الصلح هو الفتح ، وبعد رجوعه إلى المدينة فتح اللَّه عليه خيبر ، فقسمها على أهل الحديبية لم يشركهم أحد غيرهم ، وكانوا ألفا وخمس مائة ، منهم ثلاث مائة فارس. وهذا قول سعيد بن المسيب ، والمشهور أنهم كانوا أربع عشرة مائة.(1/1072)
ولما علمت قريش بهذا أرسلت سهيل بن عمرو لعقد الصلح ، فلما رآه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مقبلا قال : أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ، وقال : اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا الكاتب علي بن أبي طالب ، وبدأ الاتفاق على بنود المعاهدة ، بعد أن رفض سهيل كتابة «بسم اللَّه الرحمن الرحيم» ، وكتب «باسمك اللهم» ورفض أيضا وصف محمد بالرسالة ، فكتب : «محمد بن عبد اللَّه».
وتم الصلح على أن يكف الفريقان عن الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس ، دون قتال ولا اعتداء ، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه ، رده عليهم ، ومن جاء قريشا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يردوه عليه ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد - صلى الله عليه وسلم - وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
فسارعت خزاعة ، فدخلت في عقد محمد - صلى الله عليه وسلم - وحالفته ، وتواثبت بنو بكر ، فدخلوا في عهد قريش وعقدهم.
وعلى المسلمين الرجوع عن مكة هذا العام ، وإذا كان العام القادم خرجت قريش من مكة ، ودخلها المسلمون ثلاثة أيام ، معهم سلاح الراكب ، السيوف في القرب.
وقد اعترض بعض كبار المسلمين مثل عمر بن الخطاب على الصلح ، لعدم تكافؤ شروطه ، وإجحافه بالمسلمين ، ولكنه كان في الحقيقة نصرا كبيرا ، لأن قريشا اعترفوا بمكانة المسلمين ، وتمت الهدنة التي استراح فيها المسلمون عن الحروب والمعارك التي شغلتهم وأضعفتهم ، وتمكن المسلمون من القيام بدعوة الإسلام في ظل الأمن والسلام ، ودخل في الإسلام كثير من العرب.
فكان ذلك فتحا مبينا ، أو تمهيدا لفتح مكة ، قال الزهري : «فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ..» فقد كان عدد المسلمين وقت الصلح ألفا وخمس مائة أو أربع مائة ، ثم صاروا عام فتح مكة بعد الصلح بسنتين عشرة آلاف ، منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. وقال ابن مسعود وجابر والبراء رضي اللَّه عنهم : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.
وبعد أن نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - هديه حيث أحصر ورجع ، وبعد انصرافه نزل عليه ليلا وهو في الطريق بين مكة والمدينة هذه السورة.
روى أحمد وأبو داود والنسائي وابن جرير عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه يقول : لما أقبلنا من الحديبية عرّسنا فنمنا ، فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت ، فاستيقظنا ، ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نائم ، فقلنا : أيقظوه ، فاستيقظ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ،فقال : «افعلوا ما كنتم تفعلون ، وكذلك يفعل من نام أو نسي»(1/1073)
أي قضاء الصلاة ، قال : وفقدنا ناقة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، فطلبناها ، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة ، فأتيته بها ، فركبها ، فبينا نحن نسير ، إذ أتاه الوحي ، قال : وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه ، فلما سرّي عنه أخبرنا أنه أنزل عليه :إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. (1)
وهي مدنية بالإجماع. وعدد آياتها تسع وعشرون آية. ونزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن صلح الحديبية.
خرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة معتمرا (زائرا للبيت) لا يريد حربا ، وإنما هو مشتاق إلى رؤية بلده الحبيب ، خرج ومعه حوالى 1500 من المهاجرين والأنصار ومن دخل في الإسلام من الأعراب وساق معه الهدى - ما يهدى إلى الحرم من النعم - وأحرم بالعمرة من (ذي الحليفة) وخرج معه من نسائه أم سلمة - رضى اللّه عنها - ولم يكن مع رسول اللّه وصحبه إلا سلاح المسافر :
السيوف في القرب ، فلما أصبح على مرحلتين من مكة لقيه بشر بن سفيان الكعبي قائلا : يا رسول اللّه هذه قريش علمت بمسيرك فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل (النوق ذات اللبن والأولاد) أى : خرجوا عازمين على طول الإقامة ، وقد نزلوا بذي طوى يحلفون باللّه لا تدخلها عليهم أبدا. وأخذت الرسل من قبل قريش تفاوض رسول اللّه وقد أرسل رسول اللّه في هذه الأثناء إلى قريش عثمان بن عفان يبلغهم قصد رسول اللّه وأنه لا يريد إلا العمرة ، وفي غيبة عثمان في مكة مفاوضا أشيع أنه قتل ، فدعا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت شجرة الرضوان ، روى سلمة بن الأكوع - رضى اللّه عنه - قائلا : بايعناه وبايعه الناس على عدم الفرار ، وأنه إما الفتح وإما الشهادة.
علمت قريش بهذا فأرسلت سهيل بن عمرو لعقد الصلح ، وقد تم ذلك وسمى صلح الحديبية ، وخلاصة شروطه : أن يكف الفريقان عن الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس فلا قتال ولا اعتداء ، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يرده عليه ، وأن بين القوم عيبة مكفوفة ، وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده من القبائل دخل فيه. ومن أراد أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، وقد سارعت خزاعة فدخلت في عقد محمد وحالفته ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عهد قريش وعقدهم هذا على أن المسلمين يرجعون عن مكة هذا العام فلا يدخلونها ، وإذا كان العام القابل خرجت قريش من مكة ودخلها المسلمون ثلاثة أيام ، معهم سلاح الراكب : السيوف في القرب.
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (26 / 142)(1/1074)
رجع المسلمون عن مكة بعد الصلح ، وقد كان هذا الصلح مثار اعتراض بعض كبار المسلمين إلا أبا بكر فحينما اعترض عمر بن الخطاب على الصلح قال له : الزم غرزه (أى ركابه وسر مع النبي) يا ابن الخطاب ، وقد أثبتت الأيام أنه كان فتحا جديدا ونصرا مبينا للمسلمين ، ونزلت في شأنه : هذه السورة الكريمة. (1)
نزلت بالمدينة على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم ، والأخبار تدل على أنها نزلت في السفر لا في المدينة نفسها وهو الصحيح. أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال : «أقبلنا من الحديبية مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أي عام ست بعد الهجرة وكان قد خرج إليها عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين هلال ذي القعدة فأقام بها بضعة عشر يوما ، وقيل : عشرين يوما ثم قفل عليه الصلاة والسلام فبينما نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسري عنه وبه من السرور ما شاء اللّه تعالى فأخبرنا أنه أنزل عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح : 1] وأخرج أحمد والبخار والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : «كنا مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت إذ سمعت صارخا يصرخ بي فوجفت وأنا أظن أنه نزل في شيء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد أنزلت علي الليلة سورة أحب إلي من الدنيا وما فيها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح : 1 ، 2] وفي حديث صحيح أخرجه أحمد وأبو داود. وغيرهما عن مجمع بن جارية الأنصاري ما يدل على أنها نزلت بعد منصرفه - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية أيضا وأن ذلك عند كراع الغميم فقرأها عليه الصلاة والسلام على الناس وهو على راحلته ، وفي رواية ابن سعد عنه ما يدل على أنها بضجنان ، ونقل ذلك عن البقاعي ، وضجنان بضاد معجمة وجيم ونونين بينهما ألف بزنة سكران كما في القاموس جبل قرب مكة ، وهذا ونحوه قول بنزولها بين مكة والمدينة ، ومثل ذلك يعد مدنيا على المشهور وهو أن المدني ما نزل بعد الهجرة سواء نزل بالمدينة أم بمكة أم بسفر من الأسفار ، والمكي ما نزل قبل الهجرة ، وأما على القول بأن المكي ما نزل ولو بعد الهجرة بمكة ويدخل فيها كما قال الجلال السيوطي نواحيها كمنى وعرفات والحديبية بل بعضها على ما في الهداية وأكثرها على ما قال المحب الطبري من حرم مكة والمدني ما نزل بالمدينة ويدخل فيها كما قال أيضا نواحيها كأحد. وبدر. وسلع فلا بل يعد على القول بأنه نزل قرب مكة مكيا ، فالقول بأن السورة مدنية بلا خلاف فيه نظر ظاهر ، وهي تسع وعشرون آية بالإجماع ، ولا يخفى حسن وضعها هنا لأن الفتح بمعنى
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 476)(1/1075)
النصر مرتب على القتال ، وفي كل من ذكر المؤمنين المخلصين والمنافقين والمشركين ما فيه ، وقد ذكر أيضا في الأول الأمر بالاستغفار وذكر هنا وقوع المغفرة ، وذكرت الكلمة الطيبة هناك بلفظها الشريف وكني عنها بكلمة التقوى بناء على أشهر الأقوال فيها ، وستعرفها إن شاء اللّه تعالى إلى غير ذلك. وفي البحر وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم وَإِنْ تَتَوَلَّوْا [محمد : 38] الآية وهو خطاب لكفار قريش أخبر سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح العظيم وأنه بهذا الفتح حصل الاستبدال وأمن كل من كان بمكة وصارت دار إيمان وفيه ما لا يخفى. وفي الأخبار السابقة ما يدل على جلالة قدرها. وفي حديث مجمع بن جارية الذي أخرجه عنه ابن سعد لما نزل بها جبريل عليه السلام قال : نهنيك يا رسول اللّه فلما هناه جبريل عليه السلام هناه المسلمون ،ويحكى أنه من قرأها أول ليلة من رمضان حفظ ذلك العام ولم يثبت ذلك في خبر صحيح واللّه تعالى أعلم. (1)
* هذه السورة الكريمة مدنية ، وهي تعنى بجانب التشريع شأن سائر السور المدنية التي تعالج الأسس التشريعية في المعاملات ، والعبادات ، والأخلاق ، والتوجيه إلى مكارم الأخلاق .
* تحدثت السورة الكريمة عن (صلح الحديبية) الذي تم بين الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وبين المشركين سنة ست من الهجرة ، والذي كان بداية للفتح الأعظم " فتح مكة " وبه تم العز والنصر والتمكين للمؤمنين ، ودخل الناس في دين الله أفواجا أفواجا [ إنا فتحنا لك فتحا مبينا . . ] الآيات .
* وتحدثت السورة عن جهاد المؤمنين ، وعن (بيعة الرضوان ) التي بايع فيها الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) على الجهاد في سبيل الله حتى الموت ، وكانت بيعة جليلة الشأن ولذلك باركها الله ، ورضي عن أصحابها ، وسجلها في كتابه العظيم ، في سطور من نور [ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة . ] الآية .
* وتحدثت عن الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) من الأعراب الذين في قلوبهم مرض ، ومن لمنافقين الذين ظنوا الظنون السيئة برسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) وبالمؤمنين ، فلم يخرجوا معهم ، فجاءت الآيات تفضحهم وتكشف سرائرهم [ سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا . . ] الآيات .
* وتحدثت السورة عن الرؤيا التي رأها رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) في منامه -في المدينة المنورة-وحدث بها أصحابه ففرحوا واستبشروا ، وهي دخول الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) والمسلمين مكة آمنين مطمئنين ، وقد
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (13 / 238)(1/1076)
تحققت تلك الرؤيا الصادقة فدخلها المؤمنون معتمرين مع الأمن والطمأنينة [ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لاتخافون ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بالثناء على الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأصحابه الأطهار الأخيار ، وبينت فضلهم ، ورفعت قدرهم ، وقد أكرمهم الله عز وجل بالرضى عنهم ، وإدخالهم جنان الخلد والنعيم ، تكريما لجهادهم وصبرهم [ محمد رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم . . ] آلاية .
التسمية : سميت سورة الفتح لأن الله تعالى بشر فيها المؤمنين بالفتح المبين [ إنا فتحنا لك فتحا مبينا. . الآيات . (1)
لما كانت تلك سورة الجهاد وكانت هذه سورة محمد بشارة للمجاهدين من أهل هذا الدين بالفوز والنصر والظفر على كل من كفر , وهذا كما سيأتي من إيلاء سورة النصر لسورة الكافرون , فأخبرت القتال عن الكافرين بإبطال الأعمال والتدمير وإهلاكهم بالتقال , وإفساد جميع الأحوال , وعن الذين آمنوا بما نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بالهداية وإصلاح البال , وختمها بالتحريض على مجاهدتهم بعد أن ضمن لمن نصره منهم النصر وتثبيت الأقدام , وهدد من أعرض باستبدال غيره به , وإن ذلك البدل لا يتولى عن العدو ولا ينكل عنه , فكان ذلك محتماً لسفول الكفر وعلو الإيمان , وذلك بعينه هو الفتح المبين , فافتتح هذه بقوله على طريق النتيجة لذلك بقوله مؤكداً إعلاماً بأنه لا بد منه وأنه مما ينبغي أن يؤكد لابتهاد النفوس الفاضلة به , وتكذيب من في قلبه مرض وهم أغلب الناس في ذلك الوقت (2) .
هذه السورة مدنية ، نزلت في السنة السادسة من الهجرة ، عقب صلح الحديبية وهي تتناول هذا الحادث الخطير وملابساته وتصور حال الجماعة المسلمة وما حولها في إبانه : فبين وقت نزولها ووقت نزول سورة «محمد» التي تسبقها في ترتيب المصحف ، نحو من ثلاث سنوات ، تمت فيها تغيرات هامة وخطيرة في أحوال الجماعة المسلمة في المدينة. تغيرات في موقفها وموقف المناوئين لها ، وتغيرات أهم في حالتها النفسية وصفتها الإيمانية ، واستوائها على المنهج الإيماني في إدراك ونضج عميق.
وقبل أن نتحدث عن السورة وجوها ودلالتها يحسن أن نمر بصورة للحادث الذي نزلت بصدده. لنعيش في الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه ، وهم يتلقون هذا التنزيل الكريم :
لقد أري رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في منامه أنه يدخل الكعبة هو والمسلمون محلقين رؤوسهم ومقصرين.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 230)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 277)(1/1077)
وكان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخول مكة ، حتى في الأشهر الحرم التي يعظمها العرب كلهم في الجاهلية ، ويضعون السلاح فيها ويستعظمون القتال في أيامها ، والصد عن المسجد الحرام. حتى أصحاب الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة ، ويلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع في وجهه سيفا ، ولا يصده عن البيت المحرم. ولكنهم خالفوا عن تقاليدهم الراسخة في هذا الشأن وصدوا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة. حتى كان العام السادس الذي أري فيه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هذه الرؤيا. وحدث بها أصحابه - رضوان اللّه عليهم - فاستبشروا بها وفرحوا.
ورواية ابن هشام لوقائع الحديبية هي أو فى مصدر نستند إليه في تصورها. وهي في جملتها تتفق مع رواية البخاري ورواية الإمام أحمد ومع تلخيص ابن حزم في جوامع السيرة وغيرهم.
قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة شهر رمضان وشوالا (بعد غزوة بني المصطلق وما جاء في أعقابها من حديث الإفك) وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا. واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بمن معه من المهاجرين والأنصار ، ومن لحق به من العرب وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ، ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.
قال : وكان جابر بن عبد اللّه - فيما بلغني - يقول : كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.
قال الزهري : وخرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بعسفان «1» لقيه بشر بن سفيان الكعبي.
فقال : يا رسول اللّه! هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل «2» ، قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى ، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم أبدا. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم ، قد قدموها إلى كراع الغميم «3». قال : فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب.
ما ذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني اللّه عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش؟ فو اللّه لا أزال أجاهد على الذي بعثني اللّه به حتى يظهره اللّه ، أو تنفرد هذه السالفة «4». ثم قال : «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» ..
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد اللّه بن أبي بكر ، أن رجلا من أسلم قال : أنا يا رسول اللّه. قال : فسلك بهم طريقا وعرا أجرل «5» بين شعاب. فلما خرجوا منه - وقد شق ذلك على المسلمين -(1/1078)
وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ، قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - للناس : «قولوا نستغفر اللّه ونتوب إليه». فقالوا ذلك. فقال : «واللّه إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل ، فلم يقولوها» «6» قال ابن شهاب الزهري : فأمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - الناس فقال : «اسلكوا ذات اليمين» بين ظهري الحمض «7» في طريق على ثنية المرار ، مهبط الحديبية «8» من أسفل مكة قال : فسلك الجيش ذلك الطريق. فلما رأت خيل قريش قترة «1» الجيش ، قد خالفوا عن طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش. وخرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته. فقال الناس : خلأت الناقة «2».
فقال : «ما خلأت. وما هو لها بخلق. ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها - (و في رواية البخاري : والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات اللّه تعالى إلا أعطيتهم إياها). ثم قال للناس : «انزلوا» قيل له : يا رسول اللّه ، ما بالوادي ماء ينزل عليه. فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه. فنزل في قليب «3» من تلك القلب ، فغرزه في جوفه ، فجاش بالرواء ..
فلما اطمأن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي ، في رجال من خزاعة ، فكلموه ، وسألوه ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا ، وإنما جاء زائرا للبيت ، ومعظما لحرمته.
ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد. إن محمدا لم يأت لقتال ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت. فاتهموهم وجبهوهم ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا. فو اللّه لا يدخلها علينا عنوة أبدا ، ولا تحدث بذلك عنا العرب.
وكانت خزاعة عيبة نصح «4» رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مسلمها ومشركها ، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة. ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي. فلما رآه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مقبلا قال : «هذا رجل غادر». فلما انتهى إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وكلمه ، قال له رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - نحوا مما قال لبديل وأصحابه فرجع إلى قريش ، فأخبرهم بما قال له رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان. وكان يومئذ سيد الأحابيش «5» ، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. فلما رآه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : «إن هذا من قوم يتألهون - يعني يتعبدون - فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه». فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إعظاما لما رأى. فقال لهم ذلك. فقالوا له : اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك! قال ابن إسحاق : فحدثني عبد اللّه بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك. وقال : يا معشر قريش ، واللّه ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم. أيصد عن(1/1079)
بيت اللّه من جاء معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال : فقالوا له : مه. كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
قال الزهري : ثم بعثوا إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عروة بن مسعود الثقفي فقال : يا معشر قريش ، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم ، من التعنيف وسوء اللفظ. وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد (وكان نسبه لأمه في بني عبد شمس) وقد سمعت بالذي نابكم ، فجمعت من أطاعني من قومي ، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي. قالوا : صدقت ، ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى جاء رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فجلس بين يديه. ثم قال : يا محمد. أجمعت أوشاب الناس ، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم «1»؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم عنوة أبدا. وأيم اللّه لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. قال : وأبو بكر خلف رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قاعد. فزجره «2» وقال : أنحن نكشف عنه؟ قال : من هذا يا محمد؟ قال : «هذا ابن أبي قحافة». قال. أما واللّه لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها. ولكن هذه بها. قال : ثم جعل يتناول لحية رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو يكلمه. قال : والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في الحديد. قال : فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ويقول : اكفف يدك عن وجه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن لا تصل إليك! قال : فيقول عروة :
ويحك! ما أفظك وأغلظك! قال : فتبسم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال له عروة : من هذا يا محمد؟
قال : «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة». قال : أي غدر «3». وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟
قال ابن هشام : أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف ، فتهايج الحيان من ثقيف : بنو مالك رهط المقتولين. والأحلاف رهط المغيرة. فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية. وأصلح ذلك الأمر.
قال ابن إسحاق : قال الزهري : فكلمه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بنحو مما كلم أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا. فقام من عند رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى ما يصنع به أصحابه : لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش ، إني جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه وإني واللّه ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا. فروا رأيكم.
قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم ، أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة ، وحمله على بعير له يقال له : الثعلب. ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له. فعقروا به جمل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله حتى جاء رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - .(1/1080)
قال ابن إسحاق : وحدثني بعض من لا أتهم ، عن عكرمة مولى ابن عباس (عن ابن عباس) أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم ، أو خمسين رجلا ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا. فأخذوا أخذا ، فأتي بهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فعفا عنهم ، وخلى سبيلهم. وقد كانوا رموا في عسكر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بالحجارة والنبل.
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له. فقال : يا رسول اللّه إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعي. وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها. ولكني أدلك على رجل أعز بها مني. عثمان بن عفان. فدعا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عثمان ابن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.
قال ابن إسحاق : فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ، حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ما أرسله به فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل.
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد اللّه بن أبي بكر ، أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال - حين بلغه أن عثمان قد قتل - : «لا نبرح حتى نناجز القوم». فدعا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. فكان الناس يقولون : بايعهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على الموت. وكان جابر بن عبد اللّه يقول : إن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لم يبايعنا على الموت ، ولكن بايعنا على ألا نفر. فبايع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة. فكان جابر بن عبد اللّه يقول : واللّه لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها «1» ، يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.
قال ابن هشام : وحدثني من أثق به ، عمن حدثه بإسناد له ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عمر ، أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بايع لعثمان ، فضرب بأحدى يديه على الأخرى.
قال ابن إسحاق : قال الزهري : ثم بعثت قريش سهيل بن عمر وأخا بني عامر بن لؤي إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقالوا له : إيت محمدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فو اللّه لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو ، فلما رآه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مقبلا قال : - «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل». فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - تكلم فأطال الكلام. وتراجعا. ثم جرى بينهما الصلح.(1/1081)
فلما التأم الأمر ، ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول اللّه؟ قال : بلى! قال : أولسنا بالمسلمين؟ قال : بلى! قال : أو ليسوا بالمشركين؟ قال : بلى! قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر : يا عمر ، الزم غرزه «2» ، فإني أشهد أنه رسول اللّه. قال عمر : وأنا أشهد أنه رسول اللّه. ثم أتى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول اللّه ، ألست برسول اللّه؟
قال : بلى! قال : أو لسنا بالمسلمين؟ قال : بلى! قال : أو ليسوا بالمشركين؟ قال : بلى! قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال : «أنا عبد اللّه ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيعني». قال : فكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ ، مخافة كلامي الذي تكلمت به ، حين رجوت أن يكون خيرا.
قال : ثم دعا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضوان اللّه عليه - فقال : «اكتب باسم اللّه الرّحمن الرّحيم» قال : فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب باسمك اللهم. فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - «اكتب باسمك اللهم» فكتبها. ثم قال : «اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول اللّه سهيل بن عمرو». قال : فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول اللّه لم أقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. قال : فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه.
سهيل بن عمرو. اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه ، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه ، وأن بيننا عيبة مكفوفة «1». وأنه لا إسلال ولا إغلال «2» ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه - فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن في عقد محمد وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقيدة قريش وعهدهم - وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك ، فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثا ، معك سلاح الراكب : السيوف في القرب ، لا تدخلها بغيرها.
فبينا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، إذ جاء أبو جندل بن سهيل ابن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقد كان أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - خرجوا وهم لا يشكون في الفتح ، لرؤيا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمل عليه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه ، ثم قال : يا محمد ، قد لجت «3» القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال : «صدقت» فجعل ينتره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فزاد الناس إلى ما بهم. فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -(1/1082)
: «يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فإن اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا ، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد اللّه. وإنا لا نغادر بهم». قال : فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ، ويقول : اصبر يا أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب. قال : ويدني قائم السيف منه. قال : يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه. قال : فضن الرجل بأبيه ، ونفذت القضية «4».
فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين : أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد اللّه بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة ، ومكرز بن حفص (و هو يومئذ مشرك) وعلي بن أبي طالب ، وكتب ، وكان هو كاتب الصحيفة.
قال الزهري : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه :«قوموا فانحروا ثم احلقوا» قال : فو اللّه ما قام منهم رجل ، حتى قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك ثلاث مرات.
فلما لم يقم منهم أحد دخل - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة - رضي اللّه عنها - فذكر لها ما لقي من الناس. قالت (أم سلمة) - رضي اللّه عنها - : يا نبي اللّه ، أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بيده ، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد اللّه بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس. قال : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون. فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «يرحم اللّه المحلقين». قالوا : والمقصرين يا رسول اللّه؟ قال : «يرحم اللّه المحلقين». قالوا : والمقصرين يا رسول اللّه؟ قال : «يرحم اللّه المحلقين».
قالوا : والمقصرين يا رسول اللّه؟ قال : «والمقصرين». فقالوا : يا رسول اللّه ، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال : «لم يشكوا» ..
قال الزهري في حديثه .. ثم انصرف رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من وجهه ذلك قافلا. حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح.
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن مجمع بن حارثة الأنصاري - رضي اللّه عنه - وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن. قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟ قالوا : أوحي إلىرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فخرجنا مع الناس نوجف. فإذا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم : «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً(1/1083)
مُبِيناً» .. قال : فقال رجل من أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : أي رسول اللّه أو فتح هو؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : «إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» ..
وروى الإمام أحمد بإسناده - عن عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - قال : كنا مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في سفر. قال : فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي. قال : فقلت ثكلتك أمك يا بن الخطاب.
ألححت. كررت على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ، فلم يرد عليك! قال : فركبت راحلتي ، فحركت بعيري ، فتقدمت ، مخافة أن يكون نزل فيّ شيء. قال : فإذا أنا بمناد يا عمر. قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل فيّ شيء. قال : فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «نزل عليّ البارحة سورة هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر» .. ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك رحمه اللّه ..
هذا هو الجو الذي نزلت فيه السورة. الجو الذي اطمأنت فيه نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى إلهام ربه ، فتجرد من كل إرادة إلا ما يوحيه هذا الإلهام العلوي الصادق ومضى يستلهم هذا الإيحاء في كل خطوة وفي كل حركة ، لا يستفزه عنه مستفز ، سواء من المشركين أو من أصحابه الذين لم تطمئن نفوسهم في أول الأمر لقبول استفزاز المشركين وحميتهم الجاهلية. ثم أنزل اللّه السكينة في قلوبهم ، ففاءوا إلى الرضى واليقين والقبول الخالص العميق كإخوانهم الذين كانوا على هذه الحال منذ أول الأمر ، شأن الصديق أبي بكر الذي لم تفقد روحه لحظة واحدة صلتها الداخلية المباشرة بروح رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ومن ثم بقيت على اطمئنانها دائما ، ولم تفارقها الطمأنينة أبدا.
ومن ثم جاء افتتاح السورة بشرى لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، فرح لها قلبه الكبير فرحا عميقا : «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً».
كما جاء في الافتتاح ، الامتنان على المؤمنين بالسكينة ، والاعتراف لهم بالإيمان السابق وتبشيرهم بالمغفرة والثواب ، وعون السماء بجنود اللّه : «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً - مَعَ إِيمانِهِمْ - وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ، لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ، وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً» .. ذلك مع ما أعده لأعدائهم من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات من غضب وعذاب : «وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ، الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ، عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ، وَساءَتْ مَصِيراً» ..(1/1084)
ثم التنويه ببيعة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - واعتبارها بيعة للّه وربط قلوب المؤمنين مباشرة بربهم عن هذا الطريق ، بهذا الرباط المتصل مباشرة باللّه الحي الباقي الذي لا يموت : «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً».
وبمناسبة البيعة والنكث يلتفت - قبل إكمال الحديث عن المؤمنين ومواقفهم في الحديبية - إلى الأعراب الذين تخلفوا عن الخروج ، فيفضح معاذيرهم ، ويكشف ما جال في خواطرهم من سوء الظن باللّه ، ومن توقع السوء للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه. ويوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ما ينبغي أن يكون موقفه منهم في المستقبل. وذلك في أسلوب يوحي بقوة المسلمين وضعف المخلفين ، كما يوحي بأن هنالك غنائم وفتوحا قريبة يسيل لها لعاب المخلفين المتباطئين : «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ : شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ، قُلْ : فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ، إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً؟ بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً. بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ، وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ، وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ ، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً. وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها : ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ، قُلْ : لَنْ تَتَّبِعُونا. كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ. فَسَيَقُولُونَ : بَلْ تَحْسُدُونَنا. بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ : سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ، فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً».
وفي هذا الصدد يبين المعذورين إذا تخلفوا ، والمعفين من الجهاد لعجزهم عنه ، وهو العذر الوحيد : «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً» ..
وبعد هذه اللفتة يعود سياق السورة للحديث عن المؤمنين ومواقفهم وخوالج نفوسهم حديثا كله رضى وشفافية ووضاءة وتكريم وكله بشريات لهذه النفوس الخالصة القوية ، البائعة المتجردة. حديثا يتجلى فيه اللّه جل جلاله على هذه المجموعة المختارة من البشر. يتجلى عليهم برضوانه وبشرياته وامتنانه وتثبيته. ويبلغهم بأشخاصهم وأعيانهم أنه عنهم راض ، وأنه كان حاضرهم وهم يبايعون في مكان بعينه : «تَحْتَ الشَّجَرَةِ» وأنه اطلع على ما في نفوسهم. وأنه رضيهم ورضي عنهم ، وأنه كتب لهم النصر في المستقبل والغنائم والفتوح ، وربط هذا كله بناموس الوجود وسنة الوجود. وهو أمر يقف له الوجود كله يشهد(1/1085)
ويرقب ويتأثر ويسجل في أطوائه ذلك الحادث العظيم الفريد : «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ، وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً. وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» ..
ويمتن عليهم بأخذ عدوهم النفر الذين أرادوا بهم الأذى ويندد بأعدائهم الذين صدوهم عن المسجد الحرام ، وصدوا الهدي أن يبلغ محله ، ويتلطف معهم فيكشف لهم عن حكمته في كفهم هذا العام عنهم وفضله في ترضيتهم بما كان ، وإنزال سكينته في قلوبهم ، لأمر يراه ، وهو أعظم مما يرون. وهو فتح مكة ثم هيمنة هذا الدين على الدين كله بأمر اللّه وتدبيره : «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ ، أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ ، لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً. إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى ، وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ. فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا ، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» ..
وتختم السورة بالصفة الكريمة الوضيئة التي تميز هذه المجموعة المختارة من البشر ، وتفردها بسمتها الخاصة ، وتنوه بها في الكتب السابقة : التوراة والإنجيل. وبوعد اللّه الكريم بالمغفرة والأجر العظيم : «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً ، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ. وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ ، فَاسْتَغْلَظَ ، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ، لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» ..
وهكذا تصبح نصوص السورة مفهومة واضحة ، تعيش في جوها الذي نزلت فيه ، وتصوره أقوى تصوير ، بأسلوب القرآن الخاص الذي لا يفصل الحوادث بترتيبها وتسلسلها ولكنه يأخذ منها لمحات توجيهية(1/1086)
وتربوية ويربط الحادثة المفردة بالقاعدة الشاملة. والموقف الخاص بالأصل الكوني العام. ويخاطب النفوس والقلوب بطريقته الفذة ومنهجه الفريد.
ومن سياق السورة وجوها ، وبالموازنة بينها وبين إيحاءات سورة محمد التي قبلها في ترتيب المصحف يتبين مدى ما طرأ على الجماعة المسلمة في موقفها كله من تغيرات عميقة ، في مدى السنوات الثلاث ، التي نرجح أنها تفرق بين السورتين في زمن النزول. ويتبين مدى فعل القرآن الكريم ، وأثر التربية النبوية الرشيدة لهذه الجماعة التي سعدت بالنشوء والنمو في ظلال القرآن ، وفي رعاية النبوة. فكانت ما كانت في تاريخ البشرية الطويل.
واضح في جو سورة الفتح وإيحاءاتها أننا أمام جماعة نضج إدراكها للعقيدة ، وتجانست مستوياتها الإيمانية ، واطمأنت نفوسها لتكاليف هذا الدين ولم تعد محتاجة إلى حوافز عنيفة الوقع كي تنهض بهذه التكاليف في النفس والمال بل عادت محتاجة إلى من يخفض حميتها ، وينهنه حدتها ، ويأخذ بزمامها لتستسلم للهدوء ، والمهادنة بعض الوقت ، وفق حكمة القيادة العليا للدعوة.
لم تعد الجماعة المسلمة تواجه بمثل قوله تعالى : «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ» .. ولا بمثل قوله تعالى : «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ».
ولم تعد في حاجة إلى حوافز قوية للجهاد بالحديث عن الشهداء وما أعد اللّه لهم عنده من الكرامة ولا بيان حكمة الابتلاء بالقتال ومشقاته كما في سورة محمد إذ يقول اللّه تعالى : «ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ، وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ».
إنما صار الحديث عن السكينة التي أنزلها اللّه في قلوب المؤمنين ، أو أنزلها عليهم. والمقصود بها تهدئة فورتهم ، وتخفيض حميتهم ، واطمئنان قلوبهم لحكم اللّه وحكمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في المهادنة والملاينة ، وعن رضى اللّه عن المبايعين تحت الشجرة. وكانت هذه الصورة الوضيئة في نهاية السورة للرسول ومن معه.
أما الحديث عن الوفاء بالبيعة والنكث فيها في قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» .. فالإيحاء فيه أكثر إلى تكريم المبايعين وتعظيم شأن البيعة. والإشارة إلى النكث جاءت بمناسبة الحديث عن الأعراب المتخلفين ، وكذلك الإشارة إلى المنافقين والمنافقات فهي إشارة عابرة ، تدل على ضعف(1/1087)
موقف هذه الطائفة ، وعلى خلوص الجماعة المسلمة بالمدينة ونضوجها وتجانسها. وهي على كل حال إشارة عابرة لا تشغل من السورة شيئا مما شغله الحديث عن المنافقين في سورة محمد ، حيث كان للمنافقين شأنهم هم وحلفاؤهم اليهود. وهذا تطور آخر في موقف الجماعة المسلمة من ناحية موقفها الخارجي يساير ذلك التطور الذي تم في نفوسها من الداخل وواضح كذلك قوة المسلمين بالقياس إلى قوة المشركين في جو السورة كلها وفي آيات بنصها والإشارات إلى الفتوح المقبلة ، وإلى رغبة المخلفين في الغنائم السهلة واعتذارهم ، وإلى ظهور هذا الدين على الدين كله ..
كلها تشي بما بلغت إليه قوة المسلمين في هذه الفترة بين نزول السورتين.
ففي حقيقة النفوس ، وفي حال الجماعة ، وفي الظروف المحيطة بها ، حدث تطور واضح ، يدركه من يتلمس خط السيرة في النصوص القرآنية. ولهذا التطور قيمته كما أن له دلالته على أثر المنهج القرآني والتربية المحمدية ، لهذه الجماعة السعيدة الفريدة في التاريخ. ثم إن لهذا التطور إيحاءه للقائمين على الجماعات البشرية.
فلا تضيق صدورهم بالنقص فيها والضعف ورواسب الماضي ومخلفاته ، وآثار البيئة والوسط ، وجواذب الأرض ، وثقلة اللحم والدم .. وكلها تبدو في أول العهد قوية عميقة عنيفة. ولكنها مع المثابرة والحكمة والصبر على العلاج ، تأخذ في التحسن والتطور. والتجارب والابتلاءات تعين على التحسن والتطور ، حين تتخذ فرصة للتربية والتوجيه. وشيئا فشيئا تخف ثقلة الطين ، وتشف كثافة اللحم والدم ، وتتوارى آثار البيئة ، وتصفو رواسب الماضي ، وتستشرف القلوب آفاقا أعلى فأعلى ، حتى ترى النور هناك على الأفق الوضيء البعيد. ولنا في رسول اللّه أسوة حسنة ، ولنا في المنهج القرآني صراط مستقيم. (1)
خلاصة مقاصد هذه السورة
(1) بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفتح وإعزاز دين اللّه.
(2) وعد المؤمنين ووعيد الكافرين والمنافقين.
(3) ذم المخلّفين من عرب أسلم وجهينة ومزينة وغفار.
(4) رضوان اللّه على المؤمنين الذين بايعوا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة ، ووعده إياهم بالنصر فى الدنيا ، وبالجنة فى الآخرة.
(5) البشرى بتحقق رؤيا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين ، وقد تمّ لهم ذلك فى العام المقبل.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3306)(1/1088)
(6) وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه بالرحمة والشدة.
(7) وعد اللّه للذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة والأجر العظيم. (1)
===============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (26 / 118)(1/1089)
(49) سورة الحجرات
سميت في جميع المصاحف وكتب السنة والتفسير سورة الحجرات وليس لها اسم غيره، ووجه تسميتها أنها ذكر فيها لفظ الحجرات. ونزلت في قصة نداء بني تميم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء حجراته، فعرفت بهذه الإضافة. وهي مدنية باتفاق أهل التأويل، أي مما نزل بعد الهجرة، وحكى السيوطي في الإتقان قولا شاذا أنها مكية ولا يعرف قائل هذا القول.
وفي أسباب النزول للواحدي أن قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: من الآية13] الآية نزلت بمكة في يوم فتح مكة كما سيأتي، ولم يثبت أن تلك الآية نزلت بمكة كما سيأتي. ولم يعدها في الإتقان في عداد السور المستثنى بعض آياتها.
وهي السورة الثامنة بعد المائة في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة المجادلة وقبل سورة التحريم وكان نزول هذه السورة سنة تسع، وأول آيها في شأن وفد بني تميم كما سيأتي عند قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: من الآية1] وقوله {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] وعد جميع العادين آيها ثمان عشرة آية.
أغراض هاته السورة
تتعلق أغراضها بحوادث جدت متقاربة كانت سببا لنزول ما فيها من أحكام وآداب.
وأولها تعليم المسلمين بعض ما يجب عليهم من الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في معاملته وخطابه ونداءه، دعا إلى تعليمهم إياها ما ارتكبه وفد بني تميم من جفاء الأعراب لما نادوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من بيوته كما سيأتي عند قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] ووجوب صدق المسلمين فيما يخبرون به، والتثبت في نقل الخبر مطلقا وأن ذلك من خلق المؤمنين، ومجانبة أخلاق الكافرين والفاسقين، وتطرق إلى ما يحدث من التقاتل بين المسلمين، والإصلاح بينهم لأنهم إخوة، وما أمر الله به من آداب حسن المعاملة بين المسلمين في أحوالهم في السر والعلانية، وتخلص من ذلك إلى التحذير من بقايا خلق الكفر في بعض جفاة الأعراب تقويما لأود نفوسهم.
وقال فخر الدين عند تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: من الآية6]: هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي إما مع الله أو مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو مع غيرهما من أبناء الجنس، وهم على صنفين: إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجين عنها وهو الفسوق، والداخل في طائفتهم: إما أن يكون حاضرا عندهم أو غائبا عنهم فهذه(1/1090)
خمسة أقسام، قال: فذكر الله في هذه السورة خمس مرات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وأرشد بعد كل مرة إلى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة، وسنأتي على بقية كلامه عند تفسير الآية الأولى من هذه السورة.
وهذه السورة هي أول سور المفصل بتشديد الصاد ويسمى المحكم على أحد أقوال في المذهب، وهو الذي ارتضاه المتأخرون من الفقهاء وفي مبدأ المفصل عندنا أقوال عشرة أشهرها قولان قيل: إن مبدأه سورة ق وقيل سورة الحجرات، وفي مبدأ وسط المفصل قولان أصحهما أنه سورة عبس، وفي قصاره قولان أصحهما أنها من سورة والضحى.
واختلف الحنفية في مبدأ المفصل على أقوال اثني عشر، والمصحح أن أوله من الحجرات، وأول وسط المفصل سورة الطارق، وأول القصار سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} [الزلزلة: من الآية1].
وعند الشافعية قيل: أول المفصل سورة الحجرات، وقيل سورة ق، ورجحه ابن كثير في التفسير كما سيأتي. وعند الحنابلة أول المفصل سورة ق.
والمفصل هو السور التي تستحب القراءة ببعضها في بعض الصلوات الخمس على ما هو مبين في كتب الفقه. (1)
مناسبتها للسورة قبلها
كان صدّ المسلمين عن البيت الحرام ، وقد جاء بهم النبي صلوات اللّه وسلامه عليه إلى مكة معتمرا ، واعدا إياهم أن يدخلوا المسجد الحرام ، وأن يحلقوا ويقصروا ، وقد كان النبي رأى فى منامه رؤيا تأوّلها هذا التأويل وأخبر أصحابه بها ـ كان هذا الصد داعية إلى إثارة هياج فى نفوس المسلمين ، وإلى جريان كثير من اللغط على ألسنتهم ـ فجاءت سورة الحجرات ، بعد أن رأوا من آيات اللّه مارأوا ، وبعد أن صدقت رؤيا الرسول الكريم ، ودخلوا المسجد الحرام آمنين ومحلقين ـ جاءت تحمل إليهم هذا الأدب الإلهى الذي يؤدبهم اللّه سبحانه وتعالى به ، ويقيمهم على طريقه ، مع النبي الكريم ، وفى الإيمان به إيمان يقين ، لا يخالطه شىء من ريبة أو شك ، كما سنرى ذلك فيما جاء فى مطلع السورة. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الحجرات » من السور المدنية الخالصة ، وعدد آياتها ثماني عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة « المجادلة ».
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (26 / 178)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (13 / 432)(1/1091)
2 - والذي يتدبر هذه السورة الكريمة ، يراها قد اشتملت على أسمى الآداب ، وأبلغ العظات ، وأحكم الهدايات ، فهي تبدأ بنداء للمؤمنين ، تعلمهم فيه ما يجب عليهم نحو خالقهم - سبحانه - ، ونحو نبيهم - صلى الله عليه وسلم - من أدب. قال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ، أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ..
3 - ثم وجهت إليهم نداء ثالثا أمرتهم من خلاله بالتثبت من صحة الأخبار التي تصل إلى مسامعهم ، وبينت لهم جانبا من مظاهر فضل اللّه عليهم.قال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ. وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ، وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ. فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
4 - ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عما يجب على المؤمنين نحو إخوانهم في العقيدة ، إذا ما دب بينهم نزاع أو قتال ، فأمرت بالإصلاح بينهم ، وبمقاتلة الفئة الباغية إذا ما أبت الصلح ، وأصرت على بغيها ..قال - سبحانه - : وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ ، فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
5 - ثم وجهت بعد ذلك إلى المؤمنين نداء رابعا نهتهم فيه عن أن يسخر بعضهم من بعض ، أو أن يلمز بعضهم بعضا. ونداء خامسا أمرتهم فيه باجتناب الظن السيئ بالغير ، دون أن يكون هناك مبرر لذلك ، ونهتهم عن التجسس وعن الغيبة.قال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ، وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ، وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا ، وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ.
6 - وبعد هذه النداءات المتكررة للمؤمنين ، وجهت نداء إلى الناس جميعا ، بينت لهم فيه أنهم جميعا قد خلقوا من ذكر وأنثى ، وأن أكرمهم عند اللّه هو أتقاهم وأخشاهم للّه - تعالى - .ثم ردت على الأعراب الذين قالوا آمنا دون أن يستقر الإيمان في قلوبهم ووضحت صفات المؤمنين الصادقين ، وأمرت كل مؤمن أن يشكر اللّه - تعالى - على نعمة الإيمان.(1/1092)
قال - سبحانه - : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.
7 - وهكذا نجد السورة الكريمة قد رسمت للمؤمنين طريق الحياة السعيدة ، حيث عرفتهم بما يجب عليهم نحو خالقهم - سبحانه - وبما يجب عليهم نحو نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وبما يجب عليهم نحو أنفسهم ، وربما يجب عليهم نحو إخوانهم في العقيدة ، وبما يجب عليهم نحو أفراد المجتمع الإسلامى بصفة عامة.
وقد وضحت لهم كل ذلك بأسلوب بليغ مؤثر ، من شأنه أن يغرس في النفوس الخشوع والطاعة للّه رب العالمين. (1)
في السورة فصول تأديبية وتعليمية وأخلاقية واجتماعية وسياسية وسلوكية فيما يجب على المسلمين تجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وتجاه بعضهم. وفيها مشهد من مشاهد الأعراب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبجحهم بالإسلام. وميزان لصدق إيمان المؤمنين وإفساح المجال للأعراب لدخولهم حظيرة الإسلام والدولة الإسلامية.
والتساوق الموضوعي بين الفصول يسوّغ ترجيح نزولها دفعة واحدة أو متتابعة. أما المناسبات المروية لنزول آياتها فالراجح أنها حدثت قبل نزول السورة فكانت وسيلة لنزول آياتها.
وليس في السورة ما يساعد على القول بصحة ترتيبها وعدمه. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت بعد سورة المجادلة. ومعظم الترتيبات المروية مقاربة لذلك «1». فجارينا رواية المصحف الذي اعتمدناه. واللّه أعلم. (2)
سورة الحجرات مدنيّة ، وهي ثماني عشرة آية.
تسميتها : سميت سورة الحجرات لأن اللَّه تعالى ذكر فيها تأديب أجلاف العرب الذين ينادون رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجرات وهي حجرات (بيوت) نسائه المؤمنات الطاهرات رضي اللَّه عنهن ، وكانت تسعا ، لكل واحدة منهن حجرة ، منعا من إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوفيرا لحرمة بيوت أزواجه.
وتسمى أيضا سورة «الأخلاق والآداب» فقد أرشدت إلى آداب المجتمع الإسلامي وكيفية تنظيمه ، وأشادت بمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال ، ونودي فيها بوصف الإيمان خمس مرات ، وأصول تلك الآداب خمسة وهي : طاعة اللَّه والرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيم شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والتثبت من الأخبار المنقولة ، وتحريم السخرية بالناس ، وتحريم التجسس والغيبة وسوء الظن.
مناسبتها لما قبلها :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (13 / 295)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 496)(1/1093)
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة الفتح من نواح ثلاث ، هي :
1 - في السورة المتقدمة حكم قتال الكفار ، وفي هذه حكم قتال البغاة (أهل الثورة الداخلية).
2 - ختمت السابقة بقوله تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وافتتحت هذه ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .. تذكيرا لهم بحرمتهم عند اللَّه عند ما وصفهم بكونهم أشداء رحماء ، مما يقتضي محافظتهم على هذه الدرجة بطاعة اللَّه تعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - .
3 - في كلتا السورتين تشريف وتكريم لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، خصوصا في مطلع كل منهما ، والتشريف يقتضي من المؤمنين الرضا بما رضي به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صلح الحديبية ، وألا يتركوا شيئا من احترامه قولا وفعلا.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كسابقتها أحكام شرعية لكونهما مدنيتين ، وهي أحكام تتعلق بتنظيم المجتمع الإسلامي على أساس متين من التربية القوية ، والأخلاق الرصينة ، حتى إنها سميت «سورة الأخلاق» فهي في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وآدابها نوعان : خاص وعام.
أما الآداب الخاصة : فهي ماله علاقة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته. وقد ابتدأت السورة بها ، فأوجبت طاعة اللَّه تعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - وحذرت من المخالفة.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا .. ثم أمرت بخفض الصوت أثناء خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إجلالا له وهيبة منه وتعظيما لقدرة : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ .. ثم طالبت المؤمنين بخطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصفة النبوة والرسالة ، لا باسمه وكنيته تعظيما واحتراما له ، وجعلت خفض الصوت عند رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من التقوى ، وذمّت من يناديه من وراء حجرات نسائه كعيينة بن حصن وأشباهه ، وذكرت السورة في آخرها ذمّ الامتنان على اللَّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ ...
ثم تحدثت عن الآداب الاجتماعية العامة : وهي المتصلة بعلاقات الناس بعضهم مع بعض ، مما فيه تقرير فضيلة وذم رذيلة ، لإقامة دعائم المجتمع الفاضل.
فأمرت المؤمنين بالتثبّت من الأخبار وعدم الإصغاء للإشاعات التي يروجها الفسّاق ويتناقلونها : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ .. وأشادت بمقتضى الإيمان ، وكرّهت الكفر والفسوق والعصيان.
ثم أبانت طريق فض المنازعات الداخلية بين فئتين متقاتلتين من المؤمنين وهو الإصلاح ، وقتال الفئة الباغية (البغاة) حتى تعود لصف الجماعة والوحدة :وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.(1/1094)
وأعلنت قيام رابطة الإخاء والود بين المؤمنين ، وحذرت من تفكك الجماعة المؤمنة وإثارة النزاع بين أفرادها ، وتوليد الأحقاد والضغائن والكراهية بسبب السخرية والهمز واللمز والتنابز بالألقاب ، سواء بين الرجال أو النساء ، أو بسبب سوء الظن بالمسلم والتجسس (تتبع العورات) والغيبة والنميمة.
ثم أعلنت مبدأ الإخاء الإنساني ، والمساواة بين الشعوب والأفراد من مختلف الأجناس والألوان والعناصر ، فلا عداوة ولا طبقية ولا عنصرية ، وإنما التفاضل بالتقوى والعمل الصالح ومكارم الأخلاق.
وختمت السورة بالكلام عن الأعراب ، فميّزت بين الإيمان والإسلام ، وذكرت غرر صفات المؤمنين وشروط المؤمن الكامل (الإيمان باللّه ورسوله ، والجهاد بالمال والنفس في سبيل اللَّه) وعابت المنّ على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإسلام ، ووضعت ضابط احترام القيم الدينية والأخلاقية ، وهو رقابة اللَّه جل جلاله لعباده ، وعلمه بغيب السموات والأرض وأهلهما ، وبصره بجميع أعمال الخلق. (1)
وهي مدنية بإجماع العلماء ، وعدد آياتها ثماني عشرة آية ..هذه السورة جمعت مكارم الأخلاق ، وأرشدت المسلمين إليها ، وبينت لهم موقفهم مع اللّه ، ومع رسول اللّه ، وكيف يقابلون أخبار الفساق ؟ وبما ذا يعاملون إخوانهم المؤمنين ، سواء أكانوا حاضرين معهم أم غائبين ، وبينت حقيقة الإيمان والمؤمنين إلى غير ذلك من فضائل الأعمال ، وكريم الخلال .. (2)
مدنية كما قال الحسن وقتادة ، وعكرمة وغيرهم وفي مجمع البيان عن ابن عباس إلا آية وهي قوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات : 13] ولعل من يعتبر ما أخرجه الحاكم في مستدركه. والبيهقي في الدلائل. والبزار في مسنده من طريق الأعمش عن علقمة عن عبد اللّه قال : ما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات : 1 ، 2 ، 6 ، 11 ، 12 ، 15] أنزل بالمدينة وما كان يا أَيُّهَا النَّاسُ فبمكة يقول بمكية ما استثنى ، والحق أن هذا ليس بمطرد. وذكر الخفاجي أنها في قول شاذ مكية ، وهي ثماني عشرة آية بالإجماع ، ولا يخفى تواخيها مع ما قبلها لكونهما مدنيتين ومشتملتين على أحكام وتلك فيها قتال الكفار وهذه فيها قتال البغاة ، وتلك ختمت بالذين آمنوا وهذه افتتحت بالذين آمنوا ، وتلك تضمنت تشريفات له - صلى الله عليه وسلم - خصوصا مطلعها وهذه أيضا في مطلعها أنواع من التشريف له عليه الصلاة والسلام ، وفي البحر مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهر لأنه عز وجل ذكر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثم قال سبحانه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الفتح : 29] إلخ فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه فقال جل وعلا تعليما للمؤمنين وتهذيبا لهم. (3)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (26 / 211)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 498)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (13 / 284)(1/1095)
* هذه السورة الكريمة مدنية ، وهي على وجازتها سورة جليلة ضخمة ، تتضمن حقائق التربية الخالدة ، وأسس المدنية الفاضلة ، حتى سماها بعض المفسرين " سورة الأخلاق
* ابتدأت السورة الكريمة بالأدب الرفيع الذي أدب الله به المؤمنين ، تجاه شريعة الله وأمر رسوله ، وهو ألا يبرموا أمرا ، أو يبدوا رأيا ، أو يقضوا حكما في حضرة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، حتى يستشيروه ، ويستمسكوا بارشاداته الحكيمة [ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ] .
*ثم انتقلت إلى أدب آخر وهو خفض الصوت إذا تحدثوا مع الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) تعظيما لقدره الشريف ، واحتراما لمقامه السامي ، فإنه ليس كعامة الناس بل هو رسول الله ، ومن واجب المؤمنين أن يتأدبوا معه في الخطاب مع التوقير والتعظيم والإجلال [ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي . . ] الآيات .
*ومن الأدب الخاص إلى الأدب العام ، تنتقل السورة لتقرير دعائم المجتمع الفاضل ، فتأمر المؤمنين بعدم السماع للإشاعات ، وتأمر بالتثبت من الأنباء والأخبار ، لاسيما إن كان الخبر صادرا عن شخص غير عدل أو شخص متهم ، فكم من كلمة نقلها فاجر فاسق ، سببت كارثة من الكوارث ، وكم من خبر لم يتثبت منه سامعه ، جر وبالا ، وأحدث انقساما [ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا . . ] الآيات .
* ودعت السورة إلى الإصلاح بين المتخاصمين ، ودفع عدوان الباغين [ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما . . ] الآيات .
* وحذرت السورة من السخرية والهمز واللمز ، ونفرت من الغيبة والتجسس ، والظن السيىء بالمؤمنين ، ودعت إلى مكارم الأخلاق ، والفضائل الاجتماعية ، وحين حذرت من الغيبة جاء النهي في تعبير رائع عجيب ، أبدعه القرآن غاية الإبداع ، صورة رجل يجلس إلى جنب أخ له ميت ينهش منه ويأكل لحمه [ ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ] الآية ويا له من تنفير عجيب إ! .
* وختمت السورة بالحديث عن الأعراب الذين ظنوا الايمان كلمة تقال باللسان ، وجاءوا يمنون على الرسول إيمانهم ، وقد وضحت حقيقة الإيمان ، وحقيقة الإسلام ، وشروط المؤمن تلكامل ، وهو الذي جمع الإيمان ، والإخلاص والجهاد ، وتلعمل تلصالح [ إنما المؤمنون الذي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون . . ] إلى آخر السورة الكريمة .(1/1096)
التسمية : سميت (سورة الحجرات) لأن الله تعالى ذكر فيها حرمة بيوت النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وهي الحجرات التي كان يسكنها أمهات المؤمنين الطاهرات رضوان الله عليهن . (1)
ولما نوه سبحانه في القتال بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابتدائها باسمه الشريق وسمى السورة به , وملأ سورة محمد بتعظيمه , وختمها باسمه , ومدح أتباعه لأجله , افتتح هذه باشتراط الأدب معه في القول والفعل للعد من حزبه والفوز بقربه , ومدار ذلك معالي الأخلاق , وهي إما مع الله سبحانه وتعالى أو مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو مع غيرهما وإن كان كل قسم لا يخلو عن لحظة الآخر , وغيرهما إما أن يكون داخلاً مع المؤمنين في رتبة الطاعة أو خارجاً عنها , وهو الفاسق , والداخل في طاعة المؤمنين السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضراً عندهم أو غائباً عنهم , فهذه خمسة أقسام , فصل النداء بسببها خمس مرات , كل مرة لقسم منها , واففتح بالله لأن الأدب معه هو الأصل الجامع للكل والأس الذي لا يبنى إلا عليه , فقال منادياً للمتسمين بأول أسنان القلوب تنبيهاً على أن سبب نزولها من أفعالهم أهل الكمال , فهو هفوة تقال , وما كان ينبغي أن يقال , وليشمل الخطاب المعهود للأدنى - ولو مع النفاق - من فوقه من باب الأولى. (2)
هذه السورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية ، سورة جليلة ضخمة ، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ، ومن حقائق الوجود والإنسانية. حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقا عالية وآمادا بعيدة وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم ، وقواعد التربية والتهذيب ، ومبادئ التشريع والتوجيه ، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات! وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبر والتفكير.
وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة ، هو أنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة ، لعالم رفيع كريم نظيف سليم متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم والتي تكفل قيامه أولا ، وصيانته أخيرا .. عالم يصدر عن اللّه ، ويتجه إلى اللّه ، ويليق أن ينتسب إلى اللّه .. عالم نقي القلب ، نظيف المشاعر ، عف اللسان ، وقبل ذلك عف السريرة .. عالم له أدب مع اللّه ، وأدب مع رسوله ، وأدب مع نفسه ، وأدب مع غيره. أدب في هواجس ضميره ، وفي حركات جوارحه. وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه ، وله نظمه التي تكفل صيانته. وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب ، وتنبثق منه ، وتتسق معه فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره ، وتتلاقى شرائعه ومشاعره ، وتتوازن دوافعه وزواجره وتتناسق أحاسيسه وخطاه ، وهو يتجه ويتحرك إلى اللّه .. ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 241)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 338)(1/1097)
الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته ، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم. بل يلتقي هذا بذلك في انسجام وتناسق. كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده ، كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها. بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة ، والدولة بالأفراد وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتساق.
هو عالم له أدب مع اللّه ، ومع رسول اللّه. يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب ، والرسول الذي يبلغ عن الرب : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..فلا يسبق العبد المؤمن إلهه في أمر أو نهي ، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم ولا يتجاوز ما يأمر به وما ينهى عنه ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأيا مع خالقه .. تقوى منه وخشية ، وحياء منه وأدبا .. وله أدب خاص فيه خطاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ، أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وهو عالم له منهجه في التثبت من الأقوال والأفعال ، والاستيثاق من مصدرها ، قبل الحكم عليها. يستند هذا المنهج إلى تقوى اللّه ، وإلى الرجوع بالأمر إلى رسول اللّه ، في غير ما تقدم بين يديه ، ولا اقتراح لم يطلبه ولم يأمر به : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ. وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
وهو عالم له نظمه وإجراءاته العملية في مواجهة ما يقع فيه من خلاف وفتن وقلاقل واندفاعات ، تخلخل كيانه لو تركت بغير علاج. وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوة بين المؤمنين ، ومن حقيقة العدل والإصلاح ، ومن تقوى اللّه والرجاء في رحمته ورضاه : «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ..
وهو عالم له آدابه النفسية في مشاعره تجاه بعضه البعض وله آدابه السلوكية في معاملاته بعضه مع بعض : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ(1/1098)
خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ، وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ. بِئْسَ الِاسْمُ : الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ..وهو عالم نظيف المشاعر ، مكفول الحرمات ، مصون الغيبة والحضرة ، لا يؤخذ فيه أحد بظنة ، ولا تتبع فيه العورات ، ولا يتعرض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ، وَلا تَجَسَّسُوا ، وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ فَكَرِهْتُمُوهُ! وَاتَّقُوا اللَّهَ ، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ». وهو عالم له فكرته الكاملة عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناس المتعددة الشعوب وله ميزانه الواحد الذي يقوّم به الجميع. إنه ميزان اللّه المبرأ من شوائب الهوى والاضطراب : «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» ..
والسورة بعد عرض هذه الحقائق الضخمة التي تكاد تستقل برسم معالم ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم ، تحدد معالم الإيمان ، الذي باسمه دعي المؤمنون إلى إقامة ذلك العالم. وباسمه هتف لهم ليلبوا دعوة اللّه الذي يدعوهم إلى تكاليفه بهذا الوصف الجميل ، الحافز إلى التلبية والتسليم : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» .. ذلك النداء الحبيب الذي يخجل من يدعى به من اللّه أن لا يجيب والذي ييسر كل تكليف ويهون كل مشقة ، ويشوق كل قلب فيسمع ويستجيب : «قالَتِ الْأَعْرابُ : آمَنَّا. قُلْ : لَمْ تُؤْمِنُوا ، وَلكِنْ قُولُوا : أَسْلَمْنا. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ. وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. قُلْ : أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»..
وتكشف السورة في ختامها عن ضخامة الهبة الإلهية للبشر. هبة الإيمان التي يمن بها على من يشاء ، وفق ما يعلمه فيه من استحقاق : «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا. قُلْ : لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» ..
فأما الأمر الثاني الذي يبرز للنظر من خلال السورة ، ومن مراجعة المناسبات الواقعية التي صاحبت نزول آياتها ، فهو هذا الجهد الضخم الثابت المطرد ، الذي تمثله توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة ، لإنشاء وتربية تلك الجماعة المسلمة ، التي تمثل ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم ، الذي وجدت حقيقته يوما على هذه الأرض فلم يعد منذ ذلك الحين فكرة مثالية ، ولا حلما طائرا ، يعيش في الخيال! هذه الجماعة المثالية التي تمثلت حقيقة واقعة في فترة من فترات التاريخ لم تنبت فجأة ولم توجد مصادفة ولم تخلق بين يوم وليلة. كذلك لم تظهر نتيجة نفحة تغير طبائع الأشياء كلها في لحظة أو ومضة. بل نمت نموا طبيعيا بطيئا كما تنمو الشجرة الباسقة العميقة الجذور. وأخذت الزمن اللازم لنموها ، كما أخذت(1/1099)
الجهد الموصول الثابت المطرد الضروري لهذا النمو. واحتاجت إلى العناية الساهرة ، والصبر الطويل ، والجهد البصير في التهذيب والتشذيب ، والتوجيه والدفع ، والتقوية والتثبيت. واحتاجت إلى معاناة التجارب الواقعية المريرة والابتلاءات الشاقة المضنية مع التوجيه لعبرة هذه التجارب والابتلاءات .. وفي هذا كله كانت تتمثل الرعاية الإلهية لهذه الجماعة المختارة - على علم - لحمل هذه الأمانة الكبرى وتحقيق مشيئة اللّه بها في الأرض. وذلك مع الفضائل الكامنة والاستعدادات المكنونة في ذلك الجيل وفي الظروف والأحوال المهيأة له على السواء .. وبهذا كله أشرقت تلك الومضة العجيبة في تاريخ البشرية ووجدت هذه الحقيقة التي تتراءى من بعيد وكأنها حلم مرفوف في قلب ، أو رؤيا مجنحة في خيال! (1)
خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة
مباحث هذه السورة قسمان : قسم بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته ، وقسم يخص أمته وهو إما ترك للرذائل وإما تحلية بالفضائل. والقسم الأول هو :
(1) ألا يقضى المؤمنون فى أمر قبل أن يقضى اللّه ورسوله فيه.
(2) الهيبة والإجلال لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، وألا تتجاوز أصواتهم صوته.
(3) ألا يخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضهم بعضا ، بل يخاطبونه بالنبي والرسول.
(4) إن الذين يخفضون أصواتهم عند رسول اللّه أولئك هم المتقون.
(5) إن من نادوه من وراء الحجرات كعيينة بن حصن ومن معه أكثرهم لا يعقلون.
(6) ذمّ المنّ على اللّه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان.
والقسم الثاني هو :
(1) ألا نسمع كلام الفاسق حتى نتثبّت منه وتظهر الحقيقة.
(2) إذا بغت إحدى طائفتين من المؤمنين على أخرى وجب قتال الباغية حتى تفيء إلى أمر اللّه.
(3) حبب اللّه الصلح بين المؤمنين.
(4) النهى عن السخرية واللمز والتنابز.
(5) النهى عن سوء الظن بالمسلم وعن تتبع العورات المستورة وعن الغيبة والنميمة.
(6) الناس جميعا سواسية مخلوقون من ذكر وأنثى ، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3335)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (26 / 149)(1/1100)
(50) سورة ق
سميت في عصر الصحابة سورة ق ينطق بحروف: قاف، بقاف، وألف، وفاء.
فقد روى مسلم عن قطبة بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في صلاة الصبح سورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [قّ:1] وربما قال: {ق} ويعني في الركعة الأولى.
وروى مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلا عن لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها كل يوم على المنبر إذ خطب الناس.
وروى مسلم عن جابر بن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الفجر ب {قاف وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} هكذا رسم قاف ثلاث أحرف، وقوله في الفجر يعني به صلاة الصبح لأنها التي يصليها في المسجد في الجماعة فأما نافلة الفجر فكان يصليها في بيته.
وفي الموطأ ومسلم أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر? فقال: كان يقرأ فيهما ب {قاف} هكذا رسم قاف ثلاثة أحرف مثل ما رسم حديث جابر بن سمرة و {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]
وهي من السور التي سميت بأسماء الحروف الواقعة في ابتدائها مثل طه وص. و ق. ويس لانفراد كل سورة منها بعدد الحروف الواقعة في أوائلها بحيث إذا دعيت بها لا تلتبس بسورة أخرى.
وفي الإتقان أنها تسمى سورة الباسقات. هكذا بلام التعريف، ولم يعزه لقائل والوجه أن تكون تسميتها هذه على اعتبار وصف لموصوف محذوف، أي سورة النخل الباسقات إشارة إلى قوله {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [قّ:10]. وهذه السورة مكية كلها قال ابن عطية: بإجماع من المتأولين.
وفي تفسير القرطبي والإتقان عن ابن عباس وقتادة والضحاك: استثناء آية {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ:38] أنها نزلت في اليهود، يعني في الرد عليهم إذ قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، يعني أم مقالة اليهود سمعت بالمدينة، يعني: وألحقت بهذه السورة لمناسبة موقعها. وهذا المعنى وان كان معنى دقيقا في الآية فليس بالذي يقتضي أن يكون نزول الآية في المدينة فإن الله علم ذلك فأوحى به الى رسوله - صلى الله عليه وسلم - على أن بعض آراء اليهود كان مما يتحدث به أهل مكة قبل الإسلام يتلقونه تلقي القصص والأخبار. وكانوا بعد البعثة يسألون اليهود عن أمر النبوة والأنبياء، على أن إرادة الله إبطال أوهام اليهود لا تقتضي أن يؤخر إبطالها الى سماعها بل قد يجيء ما يبطلها قبل فشوها في الناس كما في قوله تعالى {وَمَا قَدَرُوا(1/1101)
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: من الآية67] فإنها نزلت بمكة. وورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه بعض أحبار اليهود فقال: إن الله يضع السماوات على أصبع والأرضين على إصبع والبحار على أصبع والجبال على إصبع ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض فتلا النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية. والمقصود من تلاوتها هو قوله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} والإيماء إلى سوء فهم اليهود صفات الله.
وهي السورة الرابعة والثلاثون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة المرسلات وقبل سورة {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1].
وقد أجمع العادون على عد آيها خمسا وأربعين.
أغراض هاته السورة
أولها: التنويه بشأن القرآن.
ثانيها: أنهم كذبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه من البشر،
وثالثها: الاستدلال على إثبات البعث وأنه ليس بأعظم من ابتداء خلق السماوات وما فيها وخلق الأرض وما عليها، ونشأة النبات والثمار من ماء السماء وأن ذلك مثل للإحياء بعد الموت.
الرابع: تنظير المشركين في تكذيبهم بالرسالة والبعث ببعض الأمم الخالية المعلومة لديهم، ووعيد هؤلاء أن يحل بهم ما حل بأولئك.
الخامس: الوعيد بعذاب الآخرة ابتداء من وقت احتضار الواحد، وذكر هول يوم الحساب.
السادس: وعد المؤمنين بنعيم الآخرة.
السابع: تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - على تكذيبهم إياه وأمره بالإقبال على طاعة ربه وإرجاء أمر المكذبين إلى يوم القيامة وأن الله لو شاء لأخذهم من الآن ولكن حكمة الله قضت بإرجائهم وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكلف بأن يكرههم على الإسلام وإنما أمر بالتذكير بالقرآن.
الثامن: الثناء على المؤمنين بالبعث بأنهم الذين يتذكرون بالقرآن.
التاسع: إحاطة علم الله تعالى بخفيات الأشياء وخواطر النفوس. (1)
مناسبتها لما قبلها
هذه السورة مكية ، وسورة الحجرات قبلها مدنية ، ومع هذا ، فإن المناسبة بينهما قريبة ، والجامعة بينهما وثيقة ..
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (26 / 227)(1/1102)
فأولا : كانت سورة « الفتح » ـ وهى مدنية أيضا ـ أول بشائر النصر ، الذي تعلو به راية الإسلام ، ويتم به دين اللّه ، ويرى به النبي والمهاجرون والأنصار ثمرة الجهاد فى سبيل اللّه ، وما احتمل النبي وأصحابه من بلاء عظيم ..ثم تلا هذه السورة ، سورة « الحجرات » ، التي كانت أشبه بتعليق وتعقيب على سورة الفتح ، وعلى ما وقع فيها من أحداث وخاصة فى صلح الحديبية ..فجاءت سورة « ق » تذكر النبي وأصحابه بما كان فى بدء الدعوة الإسلامية ، من عناد المشركين وضلالهم وسفههم ، وأن هؤلاء المشركين الضالين السفهاء قد تحولت بهم الأحوال ، وأوشكوا أن يدخلوا فى دين اللّه ، بعد أن كسرت شوكتهم ، وبدأت غشاوة الضلال والسفه تنجلى عن أبصارهم ، بما رأوا من إعزاز اللّه لدينه ، ونصره لأوليائه ..
وثانيا : جاء فى ختام سورة « الحجرات » ما كان من موقف الأعراب من دين اللّه ، وأنهم كانوا من الإسلام فى موقف أشد ضلالا ، وأكثر بعدا من موقف إخوانهم المشركين أهل مكة .. إذ أن المشركين كانوا يعلمون صدق النبي ، ويدركون حقيقة ما يدعو إليه من إيمان باللّه. أما هؤلاء الأعراب ، فإن جفاء طباعهم ، وغلظة أكبادهم ، حالت بينهم وبين أن يدركوا حقيقة هذا الدين ، ولم تتسع عقولهم لاستيعاب مراميه ، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم : « الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ » (97 : التوبة) ـ فجاءت سورة « ق » تحدثهم عن إخوانهم المشركين ، وما كان لهم من تعلّات على دين اللّه .. ثم ها هم أولاء ، وقد دخل كثير منهم فى الإسلام ، ثم الإيمان ، هاهم أولاء قد أصبحوا فى جند اللّه المجاهدين فى سبيل اللّه .. وإذن فليكن لهؤلاء الأعراب أسوة فى إخوانهم هؤلاء ، الذين كانوا على الشرك والضلال ، ثم أصبحوا وقد لبسوا الإسلام دثارا ، والإيمان شعارا ..
وهكذا تبدو سورة « ق » وكأنها تعقيب على سورة « الفتح » واستعادة للماضى وأحداثه ، بين يدى هذا الحاضر المسعد ، والمستقبل المشرق ، فتعظم تلك النعمة التي يعيش المسلمون فيها مع هذا الفتح العظيم ، الذي لم يكن يراود أحلامهم ، فى يوم من الأيام .. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « ق » هي السورة الخمسون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة « المرسلات ».
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (13 / 462)(1/1103)
ويبدو أن نزولها كان في أوائل العهد المكي ، إذ من يراجع ترتيب السور على حسب النزول يرى أنها لم يسبقها سوى اثنتين وثلاثين سورة ، ومعظم السور التي سبقتها كانت من الجزء الأخير من القرآن الكريم « 1 ».
وهي من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها خمس وأربعون آية ، وتسمى - أيضا - بسورة « الباسقات ».
2 - وقد ذكر الإمام ابن كثير في مقدمة تفسيره لها جملة من الأحاديث في فضلها ، منها ما رواه مسلم وأهل السنن ، عن أبى واقد الليثي ، أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيد بسورة « ق » وبسورة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ....
وروى الإمام أحمد عن أم هشام بنت حارثة قالت : ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلا على لسان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، كان يقرؤها كل يوم جمعة إذا خطب الناس.
ثم قال ابن كثير : والقصد أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار ، كالعيد والجمع ، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور ، والمعاد والقيام ، والحساب ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب .. « 2 ».
3 - والحق ، أن المتأمل في هذه السورة الكريمة يراها قد اشتملت على ما ذكره الإمام ابن كثير ، بأسلوب بليغ بديع.
فهي تبدأ بالثناء على القرآن الكريم ، ثم تذكر دعاوى المشركين وترد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ثم توبخهم على عدم تفكرهم في أحوال هذا الكون الزاخر بالآيات والكائنات الدالة على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته.
قال - تعالى - : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ ، كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها ، وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ.
4 - ثم تذكرهم - أيضا - بسوء عاقبة المكذبين من قبلهم ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وقوم فرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة ..
ثم تتبع ذلك بتذكيرهم بعلم اللّه - تعالى - الشامل لكل شيء ، وبسكرات الموت وما يتبعها من بعث وحساب ، وثواب وعقاب ..قال - تعالى - : وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ، ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ، وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ ، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.(1/1104)
5 - ثم تختتم السورة الكريمة ، بتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه ، وترشده إلى العلاج الذي يعينه على مداومة الصبر ، كما تحكى له أحوالهم يوم القيامة ليزداد يقينا على يقينه ، وتأمره بالمواظبة على تبليغهم ، بما أمره اللّه - تعالى - بتبليغه.لنستمع إلى قوله - تعالى - : فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ. وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ، يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ. يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.
وهكذا تطوف بنا السورة الكريمة في أعماق هذا الكون ، وفي أعماق النفس الإنسانية ، منذ ولادتها ، إلى بعثها ، إلى حسابها ، إلى جزائها .. وذلك كله بأسلوب مؤثر بديع ، يشهد بأن هذا القرآن من عند اللّه ، ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. (1)
وفي السورة توكيد للبعث الأخروي وتبشير وإنذار به ، وتدليل على قدرة اللّه عليه ، وحكاية لبعض مشاهده ، وتنديد بالكافرين المكذبين وتنويه بالمتقين ، وبيان مصير هؤلاء وأولئك في الآخرة ، وفيها تذكير بمصير الأقوام السابقة المكذبين ، وتسلية للنبي وتطمين له من مواقف قومه ، وموضوعها عام ليس فيه مشاهد ومواقف شخصية ومعينة ، وانسجام فصولها وترابطها واتساق وزنها يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة ، وقد روي أن الآية [38] مدنية ، وأسلوبها وانسجامها مع بقية الآيات يحملان على الشك في ذلك. (2)
سورة ق مكيّة ، وهي خمس وأربعون آية.
تسميتها : سميت سورة ق تسمية لها بما افتتحت به من أحرف الهجاء ، كقوله تعالى : ص ، ن ، الم ، حم ، طس قال الشعبي : ق : فاتحة السورة.
مناسبتها لما قبلها :
أخبر اللَّه تعالى في آخر سورة الحجرات المتقدمة أن أولئك الأعراب الذين قالوا : آمنا ، لم يكن إيمانهم حقا ، وذلك دليل على إنكار النبوة وإنكار البعث ، فافتتح هذه السورة بوصف إنكار المشركين نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنكار البعث ، ثم رد عليهم بالدليل القاطع.
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (13 / 329)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 220)(1/1105)
بما أن هذه السورة مكية بالإجماع ، فموضوعها مثل موضوعات سائر السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية وهي التوحيد ، والبعث ، والنبوة والرسالة ، ولكنها عنيت بالأصل الثاني وهو البعث وإثباته والرد على منكريه.
لذا ابتدأت بالكلام عن إنكار مشركي العرب وقريش أمر البعث والنشور ، وأمر النبوة ورسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وتعجبهم من إرسال رسول منذر منهم ، ومن إعادة الحياة بعد الممات ، فأقسم اللَّه بالقرآن المجيد قائلا : ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ، فَقالَ الْكافِرُونَ : هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ...
ومن أجل الاستدلال على قدرة اللَّه الباهرة على البعث وغيره ، حثّت الآيات بعدئذ على التأمل في صفحة الكون ، والنظر في السماء وبنائها وزينتها ، وفي الأرض وجبالها وزروعها ونباتاتها وأمطارها : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ ..
الآيات.
ثم أثارت دواعي التفكر وأقامت العبر والعظات في إهلاك الأمم السابقة المكذبة بالرسل ، كقوم نوح وأصحاب الرسّ وثمود وعاد وفرعون ولوط وأصحاب الأيكة قوم شعيب وقوم تبّع ، تحذيرا لكفار مكة أن يصيبهم مثلما أصاب غيرهم : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ .. الآيات.
وانتقلت الآيات للحديث عن الإنسان ومسئوليته وملازمة الملكين له لرصد أعماله وأقواله ومراقبة أحواله ، وطيّ صحيفته بسكرة الموت ، وتعرضه لأهوال الحشر وأهوال الحساب : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ .. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ الآيات ، وأعقبت كل ذلك بضرورة العبرة والتذكر بتلك الأحداث الكبرى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى ...
وختمت السورة الكريمة بمشاهد عظيمة ، من خلق السموات والأرض وما بينهما ، وسماع صيحة الحق للخروج من القبور ، وتشقق الأرض عن الأموات سراعا ، وتخلل ذلك أمر الرسول وأتباعه بالصبر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار ، وعدم المبالاة بإنكار المشركين البعث وتهديدهم عليه ، والتذكير بالقرآن من وعيد اللَّه وعقابه : وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ .. وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ .. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ .. الآيات.
فضل السورة :
تقرأ هذه السورة في الأحداث الكبرى والمجامع العامة ، كالجمع والعيدين ، لتذكير الناس ببدء الخلق ، ومظاهر الحياة ، وعقوبات الدنيا ، والبعث والنشور ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب.(1/1106)
وأدلة سنّية قراءتها في تلك المناسبات أحاديث ، منها حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الفجر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وكانت صلاته بعد تخفيفا.
وأخرج مسلم وأبو داود والبيهقي وابن ماجه عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان ، قالت : ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلا عن لسان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر ، إذا خطب الناس.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ، أنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر؟
فقال : كان يقرأ فيهما ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
والسبب أن العيد يوم الزينة والفرح ، فينبغي ألا ينسى الإنسان خروجه إلى ساحات الحساب ، فلا يكون فرحا فخورا ، ولا فاسقا فاجرا ، فيتذكر بالقرآن كما في بداية السورة : ق وَالْقُرْآنِ ونهايتها : فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ويتأمل في قوله تعالى : ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ وقوله تعالى :كَذلِكَ الْخُرُوجُ وقوله سبحانه : ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ.
أوجه الشبه بين سورة ق وسورة ص :
لاحظ العلماء وجهي شبه بين سورتي ص وق وهما :
أولا - تشترك السورتان في افتتاح أولها بحرف واحد من حروف الهجاء ، والقسم بالقرآن ، وقوله : بَلْ والتعجب. كما أن أول السورتين وآخرهما متناسبان ، ففي أول ص : وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ وفي آخرها : إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ، وفي أول ق : وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وفي آخرها :فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فافتتح بما اختتم به. أي أن السورتين تبدأ ان بحرف هجاء ، وتبتدئان وتنتهيان بالتحدث عن القرآن.
ثانيا - عنيت سورة ص بتقرير الأصل الأول وهو التوحيد ، في قوله تعالى : أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً وقوله تعالى : أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ ، وعنيت سورة ق بتقرير الأصل الثاني وهو الحشر ، في قوله تعالى : أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.
وبدئت وختمت كل سورة بما يناسبها ، فكان افتتاح سورة ص في تقرير المبدأ ، ثم قال تعالى في آخرها : إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ لحكاية بدء الخلق ، لأنه دليل الوحدانية ، وكان افتتاح سورة ق لبيان الحشر ، ثم قال سبحانه في آخرها : يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ فاتفق بدء كل سورة مع خاتمتها. (1)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (26 / 275)(1/1107)
وهي مكية كلها عند الكثير ، وفي رواية لمسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت : لقد كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه السورة كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس
، وفي رواية أخرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الأضحى والفطر ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
وهي كغيرها من السور المكية تعرضت للبعث ومنكريه ، وضربت الأمثال بالأنبياء وأممهم وكيف كانت عاقبتهم ، ثم تعرضت لخلق الإنسان ونهايته ، ولأحوال يوم القيامة وما فيها من جنة ونار ، ونعيم وجحيم ، ويتخلل ذلك ذكر بعض آيات اللّه الشاهدة على إمكان البعث وأنه في قدرته ، فمحور الكلام في هذه السورة يدور حول إمكان البعث وإثباته. (1)
وهي مكية وأطلق الجمهور ذلك ، وفي التحرير عن ابن عباس. وقتادة أنها مكية إلا قوله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [ق : 38] الآية فهي مدنية نزلت في اليهود ، وآيها خمس وأربعون بالإجماع. ولما أشار سبحانه في آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا ويتضمن ذلك إنكار النبوة وإنكار البعث افتتح عز وجل هذه السورة بما يتعلق بذلك ، وكان - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يقرؤها في صلاة الفجر كما في حديث مسلم. وغيره عن جابر ابن سمرة ، وفي رواية ابن ماجه. وغيره عن قطبة بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرؤها في الركعة الأولى من صلاة الفجر. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي عن أبي واقد الليثي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيد بقاف واقتربت ، وأخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن أم هشام ابنة حارثة قالت : «ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق : 1] الا من في رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس»
وفي حديث ابن مردويه عن أبي العلاء رضي اللّه تعالى عنه مرفوعا «تعلموا ق والقرآن المجيد» وكل ذلك يدل على أنها من أعظم السور. (2)
* هذه السورة مكية وهي تعالج أصول العقيدة الإسلامية (الوحدانية ، الرسالة ، البعث ) ولكن المحور الذي تدور حوله هو موضوع (البعث والنشور) حتى ليكاد يكون هو الطابع الخاص للسورة الكريمة ، وقد عالجه القرآن بالبرهان الناصع ، والحجة الدامغة . وهذه السورة رهيبة ، شديدة الوقع على الحس ،
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 516)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (13 / 321)(1/1108)
تهز القلب هزا ، وترج النفس رجا ، وتثير فيها روعة الإعجاب ، ورعشة الخوف ، بما فيها من الترغيب والترهيب .
* ابتدأت السورة بالقضية الأساسية التي أنكرها كفار قريش ، وتعجبوا منها غاية العجب ، وهي قضية الحياة بعد الموت ، والبعث بعد الفناء [ ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد . . ] الآيات .
* ثم لفتت السورة أنظار المشركين - المنكرين للبعث - إلى قدرة الله العظيمة ، المتجلية في صفحات هذا الكون المنظور ، في السماء والأرض ، والماء والنبت ، والثمر والطلع ، والنخيل والزرع ، وكلها براهين قاطعة على قدرة العلي الكبير [ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها . . ] الآيات .
* وانتقلت السورة الكريمة للحديث عن المكذبين من الأمم السالفة ، وما حل بهم من الكوارث وأنواع العذاب ، تحذيرا لكفار مكة أن يحل بهم ما حل بالسابقين [ كذبت قبلهم قوم نوج وأصحاب الرس وثمود . . ] الآيات .
* ثم انتقلت السورة للحديث عن سكرة الموت ، ووهلة الحشر ، وهول الحساب ، وما يلقاه المجرم في ذلك اليوم العصيب ، من أهوال وشدائد تنتهي بإلقائه في الجحيم [ ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد . . ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن " صيحة الحق " وهي الصيحة التي يخرج الناس بها من القبور ، كأنهم جراد منتشر ، ويساقون للحساب والجزاء ، لا يخفى على الله منهم أحد ، وفيه إثبات للبعث والنشور ، الذي كذب به المشركون [ واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج . . ] الآيات . (1)
لما ختم سبحانه الحجرات بإحاطة العلم قال أول هذه : {ق} إشارة إلى أنه هو سبحانه وحده المحيط علماً وقدرة بما له من العلو والشدة والقوة القيومية والقهر ونافذ القضاء والفتح لما أراد من المغلقات , بما أشارت إليه القاف بصفاتها وأظهرته بمخرجها المحيط بما جمعه مسماها من المخارج الثلاث : الحلق واللسان والشفاه.
وقد قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في سر افتتاح المفصل بهذا الحرف فقال في آخر كتابه في هذا الحرف : اعلم أن القرآن منزل مثاني , ضمن ما عدا المفصل منه الذي هو من قاف إلى آخر الكتاب العزيز وفاتحة ما يختص بأولي العلم والفقه من مبسوطات الحكم ومحكمات الأحكام ومطولات الأقاصيص , ومتشابه
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 248)(1/1109)
الآيات , والسورة المفتتحة بالحروف الكلية للإحاطة لغيبية المتهجى المسندة إلى آحاد الأعداد , فلعلو رتبة إيراده وطوله ثنى الحق سبحانه الخطاب وانتظمه في سور كثيرة العدد يسير عدد الآي قصيرة مقدارها , ذكر فيها من أطراف القصص والمواعط والأحكام والثناء وأمر الجزاء ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم سماعه وليأخذوا بحظ مما أخذه الخاصة وليكرر على أسماعهم في قراءة الأئمة له في الصلوات المفروضة التي لا مندوحة لهم عنها ما يكون.لهم خلفاً مما يعلوهم من مضمون سائر السور المطولات , فكان أحق ما افتتح به مفصلهم حرف ق الذي هو وتر الآحاد , والظاهر منها مضمون ما يحتوي عليه مما افتتح بألف لام ميم , وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقرأ في خطبة يوم الجمة إليهم لأنهم صلاة جامعة الظاهر بفاتحة المفصل الخاص بهم , وفي مضمونها من معنى القدرة والقهر المحتاج إليه في إقامة أمر العامة ما فيه كفاية , وشفعت بسورة المطهرة فخصوا بما فيه القهر والإنابة , واختصرت سورة نون من مقتضى العلم بما هو محيط بأمر العامة المنتهي إلى غاية الذكر الشامل للعالمين. (1)
كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها ، في الجماعات الحافلة .. وإن لها لشأنا ..
إنها سورة رهيبة ، شديدة الوقع بحقائقها ، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري ، وصورها وظلالها وجرس فواصلها. تأخذ على النفس أقطارها ، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها ، وتتعقبها في سرها وجهرها ، وفي باطنها وظاهرها. تتعقبها برقابة اللّه ، التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد ، إلى الممات ، إلى البعث ، إلى الحشر ، إلى الحساب. وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة. تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا.
فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا ، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا ، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا. كل نفس معدود. وكل هاجسة معلومة. وكل لفظ مكتوب. وكل حركة محسوبة. والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة على وساوس القلب ، كما هي مضروبة على حركة الجوارح. ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة ، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة ، في كل وقت وفي كل حال.
وكل هذه حقائق معلومة. ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة ، تروع الحس روعة المفاجأة وتهز النفس هزا ، وترجها رجا ، وتثير فيها رعشة الخوف ، وروعة الإعجاب ، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب! وذلك كله إلى صور الحياة ، وصور الموت ، وصور البلى ، وصور
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 374)(1/1110)
البعث ، وصور الحشر. وإلى إرهاص الساعة في النفس وتوقعها في الحس. وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض ، وفي الماء والنبت ، وفي الثمر والطلع .. «تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» ..
وإنه ليصعب في مثل هذه السورة التلخيص والتعريف ، وحكاية الحقائق والمعاني والصور والظلال ، في غير أسلوبها القرآني الذي وردت فيه وفي غير عبارتها القرآنية التي تشع بذاتها تلك الحقائق والمعاني والصور والظلال ، إشعاعا مباشرا للحس والضمير. (1)
موجز لما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات
(1) إنكار المشركين للنبوة والبعث.
(2) الحث على النظر فى السماء وزينتها وبهجة بنائها ، وفى الأرض وجبالها الشامخات ، وزروعها النضرات ، وأمطارها الثجّاجات.
(3) العبرة بالدول الهالكات كعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبّع وما استحقوا من وعيد وعذاب.
(4) تقريع الإنسان على أعماله ، وأنه مسئول عن دخائل نفسه ، فى مجلس أنسه ، وعند إخوته ، وفى خلوته ، وأنه محوط بالكرام الكاتبين ، يحصون أعماله ، ويرقبون أحواله حتى إذا جاءت سكرته ، وحانت منيته ، حوسب على كل قول وكل عمل ، وشهدت عليه الشهود وكشفت له الحجب.
(5) إنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا.
(6) إن القرآن عظة وذكرى لمن كان له قلب واع يستمع ما يلقى إليه.
(7) تسلية رسوله على ما يقول المشركون من إنكار البعث وتهديدهم على ذلك
(8) أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.
(9) أمر الرسول بالتذكير بالقرآن من يخاف وعيد اللّه ويخشى عقابه. (2)
====================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3356)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (26 / 172)(1/1111)
(51) سورة الذاريات
تسمى هذه السورة والذاريات بإثبات الواو تسمية لها بحكاية الكلمتين الواقعتين في أولها. وبهذا عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه وابن عطية في تفسيره والكواشي في تلخيص التفسير والقرطبي. وتسمى أيضا سورة الذاريات بدون الواو اقتصارا على الكلمة التي لم تقع في غيرها من سور القرآن. وكذلك عنونها الترمذي في جامعه وجمهور المفسرين. وكذلك هي في المصاحف التي وقفنا عليها من مشرقية ومغربية قديمة. ووجه التسمية أن هذه الكلمة لم تقع بهذه الصيغة في غيرها من سور القرآن. وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت السورة السادسة والستين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الأحقاف وقبل سورة الغاشية.
واتفق أهل عد الآيات على أن آيها ستون آية.
أغراض هذه السورة
احتوت على تحقيق وقوع البعث والجزاء. وإبطال مزاعم المكذبين به وبرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ورميهم بأنهم يقولون بغير تثبت. ووعيدهم بعذاب يفتنهم. ووعد المؤمنين بنعيم الخلد وذكر ما استحقوا به تلك الدرجة من الإيمان والإحسان.
ثم الاستدلال على وحدانية الله والاستدلال على إمكان البعث وعلى أنه واقع لا محالة بما في بعض المخلوقات التي يشاهدونها ويحسون بها دالة على سعة قدرة الله تعالى وحكمته على ما هو أعظم من إعادة خلق الإنسان بعد فنائه وعلى أنه لم يخلق إلا لجزائه.
والتعريض بالإنذار بما حاق بالأمم التي كذبت رسل الله، وبيان الشبه التام بينهم وبين أولئك. وتلقين هؤلاء المكذبين الرجوع إلى الله وتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبذ الشرك. ومعذرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تبعة إعراضهم والتسجيل عليهم بكفران نعمة الخلق والرزق.
ووعيدهم على ذلك بمثل ما حل بأمثالهم. (1)
مناسبتها لما قبلها
ذكرت سورة « ق » موقف المشركين ومقولاتهم المتكررة للبعث ، كما ذكرت مع هذه المقولات من آيات اللّه ومن دلائل قدرته ، ما يكشف عن ضلال هذه المقولات ، وانحراف هذا الموقف .. ثم ختمت
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (27 / 5)(1/1112)
السورة بتخلية النبىّ بين المشركين المعاندين ، وبين ما ركبوا من ضلال ..ثم تجىء سورة « الذاريات » ، لتلقى هؤلاء المشركين المعاندين ، بحديث مجدّد عن البعث ، والحساب والجزاء ، ولكن لا تلقاهم لقاء مواجها لهم وحدهم ، بل ضمن حديث عام مطلق ، موجّه إلى الناس جميعا .. فإن شاءوا استمعوا إليه ، وكان لهم أن ينتفعوا به ، وإن شاءوا مضوا على ما هم عليه من إعراض ونفور! وذلك ما سنراه فى مطلع هذه السورة الكريمة. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة الذَّارِياتِ من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها ستون آية. وكان نزولها بعد سورة « الأحقاف ».
2 - وقد افتتحت هذه السورة بقسم من اللّه - تعالى - ، ببعض مخلوقاته ، على أن البعث حق ، وعلى أن الجزاء حق.قال - تعالى - : وَالذَّارِياتِ ذَرْواً. فَالْحامِلاتِ وِقْراً. فَالْجارِياتِ يُسْراً. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ.
3 - ثم بينت السورة الكريمة بعد ذلك ، ما أعده - سبحانه - لعباده المتقين ، فقال - تعالى - : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ. كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ.
4 - ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك طرفا من قصة إبراهيم ولوط وهود وصالح وموسى ونوح - عليهم السلام - مع أقوامهم ، ليكون في هذا البيان ما يدعو كل عاقل إلى الاتعاظ والاعتبار ، بحسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار.
5 - ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان ما يدل على كمال قدرته ، وعلى سعة رحمته ، ودعا الناس جميعا إلى إخلاص العبادة والطاعة له ، لأنه - سبحانه - ما خلقهم إلا لعبادته.قال - تعالى - : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ. فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ.
6 - هذا ، والمتدبر في هذه السورة الكريمة ، يراها - كغيرها من السور المكية - قد ركزت حديثها على إقامة الأدلة على أن العبادة لا تكون إلا للّه الواحد القهار ، وعلى أن البعث حق ، والجزاء حق ، وعلى أن سنة اللّه - تعالى - قد اقتضت أن يجعل العاقبة الطيبة لأنبيائه وأتباعهم ، والعاقبة السيئة للمكذبين
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (13 / 500)(1/1113)
لرسلهم ، وعلى أن الوظيفة التي من أجلها خلق اللّه - تعالى - الجن والإنس ، إنما هي عبادته وطاعته. (1)
في السورة توكيد بالبعث والحساب ، وحملة شديدة على المكذبين الجاحدين وتنويه بالمتقين وأعمالهم الصالحة ومصائرهم في الآخرة. وفصل قصصي مقتضب عن بعض الأنبياء والأمم بينه وبين موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - والكفار تماثل ، وتطمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت له ، وآياتها متساوقة متوازية مما يسوّغ القول بأنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. (2)
سورة الذاريات مكيّة ، وهي ستون آية.
تسميتها : سميت (سورة الذاريات) لافتتاحها بالقسم بالذاريات ، وهي الرياح التي نذر والتراب وغيره ، أي تفرقه وتنقله من مكان إلى آخر. والقسم بها دليل على خطورتها ، وأنها من جند اللّه تعالى.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين :
1 - ختمت سورة ق بذكر البعث والجزاء والجنة والنار في قوله تعالى : ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ وافتتحت هذه السورة بالقسم بالرياح والسحب والسفن والملائكة على أن ما وعد به الناس من ذلك صادق ، وأن الجزاء واقع.
2 - ذكر في سورة ق إجمالا إهلاك الأمم المكذبة ، كقوم نوح ، وعاد وثمود ، ولوط وشعيب ، وتبّع ، وفي هذه السورة تفصيل ذلك في قصص إبراهيم ولوط وموسى وهود وصالح ونوح عليهم السلام.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية إثبات أصول العقيدة والإيمان وهي التوحيد والرسالة والبعث ، ونفي أضدادها وهي الشرك ، وتكذيب النبوة ، وإنكار المعاد.
وقد افتتحت ببيان دلائل البعث ووقوع المعاد من عجائب الكون ، بالقسم على حدوثه حتما بأربعة أمور هي الرياح المحركة للأشياء ، والسحب التي تحمل الأمطار ، والسفن الجارية بسهولة في البحار والأنهار الكبرى ، والملائكة التي تقسّم المقدرات الربانية ، وتدبّر أمر الخلق.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 7)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 33)(1/1114)
ثم ذكرت السورة أحوال كفار مكة وغيرهم الذين كذبوا بالقرآن وبالآخرة وما يلقونه من العذاب الشديد في نار جهنم ، كما ذكرت أحوال المؤمنين المتقين وما أعد لهم من جنات ونعيم في اليوم الآخر ، ليدرك العاقل الفرق بينهما ، ويقترن الترهيب بالترغيب للعظة والعبرة.
وتأكيدا لتلك الغاية أشارت الآيات إلى أدلة القدرة الإلهية والوحدانية في الأرض والسماء والأنفس وضمان الأرزاق للعباد ، وأوردت أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها ، فكان مصيرهم الدمار والهلاك ، وهم قوم إبراهيم ولوط وموسى ، وعاد وثمود ، وقوم نوح. وكان في الحديث عن قصص هؤلاء الرسل مع أقوامهم تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عما يلقاه من أذى قومه.
ثم عادت إلى التذكير ببناء السماء وفرش الأرض وإيجاد الزوجين لبقاء النوع الإنساني والحيواني ، وأعقبت ذلك بالتزهيد في الدنيا ، والفرار إلى اللّه من مخاطرها ، والنهي عن الشرك باللّه ، والإخبار عن تكذيب الرسل باستمرار ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن قومه ، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين.
وختمت السورة ببيان الهدف من خلق الجن والإنس وهو معرفة اللّه تعالى وعبادته والإخلاص له ، وأخبرت بكفالة الرزق لكل مخلوق ، وأوعدت الكفار والمشركين الظالمي أنفسهم بعذاب شديد يوم القيامة ، وهددتهم بعذاب في الدنيا مماثل لعذاب أمثالهم ونظرائهم من المكذبين السابقين. (1)
وهي سورة مكية عند الجميع ، وعدد آياتها ستون آية.وعلى الجملة فالسورة تدور حول إثبات البعث بالقسم عليه ، وذكر بعض أحواله مع المؤمنين والكافرين ، ثم قصت قصص بعض الأنبياء ، وخلصت من ذلك كله إلى الأمر بالتوحيد وعدم الشرك ، مع بيان طبائع الناس. (2)
«مكية» كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهما - ولم يحك في ذلك خلاف - وهي ستون آية بالاتفاق كما في كتاب العدد ، ومناسبتها لسورة «ق» أنهما لما ختمت بذكر البعث واشتملت على ذكر الجزاء والجنة والنار وغير ذلك افتتحت هذه بالإقسام على أن ما وعدوا من ذلك لصادق ، وأن الجزاء لواقع ، وأنه قد ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال ، وذكر هنا إهلاك بعضهم على سبيل التفصيل إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل. (3)
* هذه السورة الكريمة من السور المكية التي تقوم على تشييد دعائم الإيمان ، وتوجيه الأبصار إلى قدرة الله الواحد القهار ، وبناء العقيدة الراسخة على أسس التقوى والإيمان
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (27 / 5)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 530)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 3)(1/1115)
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن الرياح التى تذرو الغبار ، وتسير المراكب في البحار ، وعن السحب التي تحمل مياه الأمطار ، وعن السفن الجارية على سطح الماء بقدرة الواحد الأحد ، وعن الملائكة الأطهار المكلفين بتدبير شئون الخلق ، وأقسمت بهذه الأمور الأربعة على أن الحشر كائن لا محالة ، وأنه لابد من البعث والجزاء [ والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق. وأن الدين لواقع ] الآيات .
* ثم انتقلت إلى الحديث عن كفار مكة ، المكذبين بالقرآن وبالدار الآخرة ، فبينت حالهم في الدنيا ، ومالهم في الآخرة ، حيث يعرضون على نار جهنم ، فيصلون عذابها ونكالها [ قتل الخراصون . الذين هم في خوض ساهون . يسألون أيان يوم الدين ؟ يوم هم على النار يفتنون . ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون ] الآيات .
* ثم تحدثت عن المؤمنين المتقين ، وما أعد الله لهم من النعيم والكرامة في الآخرة ، لأنهم كانوا في الدنيا محسنين ، على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب ، والإعذار والإنذار [ إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما أتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . . ] الآيات .
* ثم تحدثت عن دلائل القدرة والوحدانية ، في هذا الكون الفسيح ، في سمائه وأرضه ، وجباله ووهاده ، وفي خلق الإنسان في أبدع صورة وأجمل تكوين ، وكلها دلائل على قدرة رب العالمين [ وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون ؟ وفي السماء رزقكم وما توعدون . . ] الآيات .
* ثم انتقلت للحديث عن قصص الرسل الكرام ، وعن موقف الأمم الطاغية من أنبيائهم ، وما حل بهم من العذاب والدمار ، فذكرت قصة (إبراهيم ) و(لوط ) وقصة (موسى) وقصة الطغاة المتجبرين من قوم عاد وثمود وقوم نوح ، وفي ذكر القصص وتكراره في القرآن تسلية للرسل الكرام ، وعبرة لأولى الأبصار ، يعتبر بها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد [ هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ؟ إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما ، قال سلام قوم منكرون . . ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة ببيان الغاية من خلق الإنس والجن ، وهي معرفة الله جل وعلا ، وعبادته وتوحيده ، وإفراده بالإخلاص والتوجه لوجهه الكريم ، بأنواع القربات والعبادات [ وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين . . ] الآيات إلى نهاية السورة الكريمة . (1)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 255)(1/1116)
مقصودها الدلالة على صدق ما أنذرت به سورة ق تصريحا وبشرت به تلويحا ولا سيما آخرها من مصاب الدنيا وعذاب الآخرة ، واسمها الذاريات ظاهر في ذلك بملاحظة جواب القسم فإنه مع القسم لشدة الارتباط كالآية الواحدة وإن كان خمسا ، والتعبير عن الرياح بالذاريات أتم إشارة إلى ذلك ، فإن تكذيبهم بالوعيد لكونهم لا يشعرون بشيء من أسبابه وإن كانت موجودة معهم كما أن ما يأتي من السحاب من الرحمة والنقمة أسبابه وإن كانت موجودة ، وهي الرياح وإن كانوا لا يرونها ، واريح من شأنها الذرء وهو التفريق ، فإذا أراد الله جمعت فكان ماأراد ، فإنها تفرق الأبخرة ، فإذا أراد الله سبحانه جمعها فحملها ما أوجد فيها فأوقرها به فأجراها إجراء سهلا ، فقسم منها ما أراد تارة برقا وأخرى رعدا ، يصل صليل الحديد على الحديد ، أو الحجر على مثله مع لطافة السحاب ، كل ما يشاهد فيه من الأسباب ، وآونة مطرا شديد الانصباب ومرة بردا ومرة ثلجا يرجى ويهاب نن وحينا صواعق ونيرانا لها أي التهاب ، ووقتا جواهر ومرجانا بديعة الإعجاب ، فتكون مرة سرورا ورضوانا ، وأخرى غموما وأحزانا ، وغبنا وخسرانا ، على أنهم أخيل الناس في يعض ذلك ، يعرفون السحاب الذي يخيل المطر والذي لا يخليه والذي مطرهع دان ، والذي لم يئن له أن يمطر. إلى غير ذلك من أشياء ذكرها أهل الأدب وحملها أهل اللغة عنهم ، وكل ذلك بتصريف الملائكة عن أمر الله ، ولذلك. والله أعلم. (1)
هذه السورة ذات جو خاص. فهي تبدأ بذكر قوى أربعة .. من أمر اللّه .. في لفظ مبهم الدلالة ، يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر. يقسم اللّه - تعالى - على أمر : «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ، فَالْحامِلاتِ وِقْراً ، فَالْجارِياتِ يُسْراً ، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ» ..
والذاريات. والحاملات. والجاريات. والمقسمات .. مدلولاتها ليست متعارفة ، وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار ، كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل. ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة.
وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماء : «وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ» .. يقسم بها اللّه تعالى.على أمر : «إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» .. لا استقرار له ولا تناسق فيه ، قائم على التخرصات والظنون ، لا على العلم واليقين ..
هذه السورة : بافتتاحها على هذا النحو ، ثم بسياقها كله ، تستهدف أمرا واضحا في سياقها كله .. ربط القلب البشري بالسماء وتعليقه بغيب اللّه المكنون وتخليصه من أوهاق الأرض ، وإطلاقه من كل عائق
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 269)(1/1117)
يحول بينه وبين التجرد لعبادة اللّه ، والانطلاق إليه جملة ، والفرار إليه كلية ، استجابة لقوله في السورة : «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ» .. وتحقيقا لإرادته في عباده : «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» ..
ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقد عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره ، وتطمين النفس من جهته ، وتعليق القلب بالسماء في شأنه ، لا بالأرض وأسبابها القريبة.وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها. إما مباشرة كقوله : «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» .. «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» .. وإما تعريضا كقوله يصور حال عباده المتقين مع المال :«وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» .. ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه القلائل - أو من حسبهم ضيوفه من الملائكة - بعجل سمين ، يسارع به إليهم عقب وفودهم إليه ، وبمجرد إلقاء السلام عليه ، وهو لم يعرفهم إلا منذ لحظة! فتخليص القلب من أوهاق الأرض ، وإطلاقه من إسار الرزق ، وتعليقه بالسماء ، ترف أشواقه حولها ، ويتطلع إلى خالقها في علاه ، بلا عائق يحول بينه وبين الانطلاق ، ويعوقه عن الفرار إلى اللّه. هو محور السورة بكل موضوعاتها وقضاياها التي تطرقها. ومن ثم كان هذا الافتتاح ، وكان ذلك الإيقاع الغامض في أولها ، وكان القسم بعده بالسماء ، وكان تكرار الإشارة إلى السماء أيضا ..وفي هذا كانت صورة المتقين التي يرسمها في مطلع السورة : «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ. كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» .. فهي صورة التطلع إلى اللّه ، والتجرد له ، والقيام في عبادته بالليل ، والتوجه إليه في الأسحار. مع إرخاص المال ، والتخلص من ضغطه ، وجعل نصيب السائل والمحروم حقا فيه.وفي هذا كان التوجيه إلى آيات اللّه في الأرض وفي الأنفس مع تعليق القلوب بالسماء في شأن الرزق ، لا بالأرض وما فيها من أسبابه القريبة : «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» ..وفي هذا كانت الإشارة إلى بناء اللّه للسماء على سعة ، وتمهيده للأرض في يسر ، وخلقه ما فيها من أزواج ، والتعقيب على هذا كله بالفرار إلى اللّه : «وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ.وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ»..
وفي هذا كان الإيقاع الأخير البارز في السورة ، عن إرادة اللّه سبحانه في خلق الجن والإنس ، ووظيفتهما الرئيسية الأولى : «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» ..(1/1118)
فهو إيقاع واحد مطرد. ذو نغمات متعددة. ولكنها كلها تؤلف ذلك الإيقاع ، وتطلق ذلك الحداء. الحداء بالقلب البشري إلى السماء! وقد وردت إشارات سريعة إلى حلقة من قصة إبراهيم ولوط ، وقصة موسى ، وقصة عاد ، وقصة ثمود ، وقصة قوم نوح. وفي الإشارة إلى قصة إبراهيم تلك اللمحة عن المال كما أن فيها لمحة عن الغيب المكنون في تبشيره بغلام عليم ، ورزقه هو وامرأته به على غير ما توقع ولا انتظار. وفي بقية القصص إشارة إلى تصديق وعد اللّه الذي أقسم عليه في أول السورة : «إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ» والذي أشار إليه في ختامها إنذارا للمشركين :«فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ» .. بعد ما ذكر أن أجيال المكذبين كأنما تواصت على التكذيب : «كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا : ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ!» ..
فالقصص في السورة - على هذا النحو - مرتبط بموضوعها الأصيل. وهو تجريد القلب لعبادة اللّه ، وتخليصه من جميع العوائق ، ووصله بالسماء. بالإيمان أولا واليقين. ثم برفع الحواجز والشواغل دون الرفرفة والانطلاق إلى ذلك الأفق الكريم. (1)
خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة
(1) دلائل البعث من العجائب الطبيعية والعلوم النفسية.
(2) جزاء المتقين بما يلقونه من النعيم يوم القيامة.
(3) أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها.
(4) تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يلقاه من أذى قومه.
(5) الفرار إلى اللّه من هذه الدنيا المحفوفة بالمخاطر.
(6) النهى عن الإشراك باللّه.
(7) إخبار رسوله بأن قومه ليسوا ببدع فى التكذيب بك فقد كذب رسل من قبلك.
(8) أمره - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عنهم ، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين.
(9) إخباره بأن اللّه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه.
(10) وعيد الكافرين بأن العذاب سيحل بهم يوم القيامة.
(11) إن المشركين سينالهم نصيب من العذاب مثل نصيب نظرائهم من المكذبين. (2)
=================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3373)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (27 / 15)(1/1119)
(52) سورة الطور
سميت هذه السورة عند السلف سورة الطور دون واو قبل الطور. ففي جامع الطواف من الموطإ حديث مالك عن أم سلمة قالت فطفت ورسول الله يصلي إلى جنب البيت يقرأ ب: َالطور وكتاب مسطور ، أي يقرأ بسورة الطور ولم ترد يقرأ بالآية لأن الآية فيها {وَالطُّورِ} بالواو وهي لم تذكر الواو.
وفي باب القراءة في المغرب من الموطأ حديث مالك عن جبير بن مطعم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بالطور في المغرب .
وفي تفسير سورة الطور من صحيح البخاري عن جبير بن مطعم قال سمعت النبي يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية :{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:35،37] كاد قلبي أن يطير. وكان جبير بن مطعم مشركا قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في فداء أسرى بدر وأسلم يومئذ.
وكذلك وقعت تسميتها في ترجمتها من جامع الترمذي وفي المصاحف التي رأيناها، وكثير من التفاسير. وهذا على التسمية بالإضافة، أي سورة ذكر الطور كما يقال: سورة البقرة، وسورة الهدهد، وسورة المؤمنين.
وفي ترجمة هذه السورة من تفسير صحيح البخاري سورة والطور بالواو على حكاية اللفظ الواقع في أولها كما يقال سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
وهي مكية جميعها بالاتفاق. وهي السورة الخامسة والسبعون في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة نوح وقبل سورة المؤمنين.
وعد أهل المدينة ومكة آيها سبعا وأربعين، وعدها أهل الشام وأهل الكوفة تسعا وأربعين، وعدها أهل البصرة ثمانيا وأربعين.
أغراض هذه السورة
أول أغراض هذه السورة التهديد بوقوع العذاب يوم القيامة للمشركين المكذبين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به من إثبات البعث وبالقرآن المتضمن ذلك فقالوا: هو سحر.
ومقابلة وعيدهم بوعد المتقين المؤمنين وصفة نعيمهم ووصف تذكرهم خشية، وثنائهم على الله بما من عليهم فانتقل إلى تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - وإبطال أقوالهم فيه وانتظارهم موته.
وتحديهم بأنهم عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن.(1/1120)
وإبطال خليط من تكاذيبهم بإعادة الخلق وببعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس من كبرائهم وبكون الملائكة بنات الله وإبطال تعدد الآلهة وذكر استهزائهم بالوعيد.
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتركهم وأن لا يحزن لذلك، فإن الوعيد حال بهم في الدنيا ثم في الآخرة وأمره بالصبر، ووعده بالتأييد، وأمر بشكر ربه في جميع الأوقات. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الذاريات التي سبقت هذه السورة بقوله تعالى : « فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ».
. وفى هذا تهديد ووعيد لأهل الكفر والضلال ، بالعذاب الذي أنذروا به ، والذي ينتظرهم يوم القيامة ..وقد بدئت سورة « الطور » هذه ، بهذه الأقسام ، التي أقسم سبحانه وتعالى بها ، وأوقعها على وقوع العذاب بأهل الكفر والضلال يوم القيامة ، وأنه واقع لا شك فيه .. « إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ »..
فالسورتان تتلاقيان ختاما وبدءا ، حتى لكأنهما سورة واحدة ..
وإن الذي ينظمهما فى التلاوة ، دون أن يفصل بينهما بالبسملة ، ليجد هذا الترابط الوثيق بينهما ، فلا يشعر بأن سورة قد انتهت وأخرى قد بدأت ..
وهذا ـ فى رأينا ـ دلالة قاطعة على أن ترتيب السور فى المصحف الكريم ، هو توفيقىّ من عند اللّه ، وبعمل الرسول ، تماما كترتيب الآيات فى سورها ،وأن الخلاف الذي يدور حول ترتيب السور ، وأنه توقيفى ينبغى أن يرتفع ، مع قيام هذه الشواهد التي نراها فى تلاحم السور من أول فاتحة الكتاب إلى سورة الناس .. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الطور » من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي ، وثمان وأربعون في البصري ، وسبع وأربعون في المصحف الحجازي.
وهذه السورة من السور التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها كثيرا في صلاته.
روى الشيخان عن جبير بن مطعم قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (27 / 51)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 541)(1/1121)
وروى البخاري عن أم سلمة قالت : شكوت إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إنى اشتكى. فقال : طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ، فطفت ورسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يصلى إلى جنب البيت ، يقرأ بالطور وكتاب مسطور .
2 - وتفتتح سورة « الطور » بقسم من اللّه - تعالى - ببعض مخلوقاته على أن البعث حق ، وعلى أن الجزاء حق ، وعلى أن كل ذلك كائن يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات.
تفتتح بهذا الافتتاح الذي يبعث الوجل والخوف في النفوس فتقول : وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ. وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ. إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ.
3 - وكعادة القرآن الكريم في المقارنة بين الأخيار والأشرار ، يأتى الحديث عن حسن عاقبة المؤمنين ، بعد الحديث عن سوء عاقبة المكذبين ، فيقول - سبحانه - : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
4 - ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن مفتريات المشركين وأكاذيبهم ، فتحكيها بأمانة. وتقذف بالحق الذي أوحاه - سبحانه - إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإذا بتلك المفتريات والأكاذيب زاهقة وباطلة ، وتسوق ذلك بأسلوب ساحر خلاب فتقول : أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ. قُلْ تَرَبَّصُوا ، فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا ، أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ. أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ.
5 - ثم تختتم السورة الكريمة بما يسلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبما يرسم له العلاج الشافي فتقول : وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ. (1)
في السورة توكيد للبعث والحساب. ووصف لمصائر الكفار المكذبين ، والمؤمنين المخلصين يوم القيامة. وتنزيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكهانة والشعر والجنون والغرض الشخصي. وتنديد مفحم بالكفار لما هم عليه من تناقض وعناد ومكابرة وسوء نيّة وما يبيتونه من المكائد للنبي - صلى الله عليه وسلم - وينسبون إليه من تهم. وإنذار لزعمائهم الذين يتولون كبر هذا الموقف المجرم. وتثبيت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحثّه على الاستمرار في مهمته وتطمين له بأنه موضع عناية اللّه وأن عليه الاعتماد عليه وتفريغ قلبه لعبادته وتسبيحه في كل وقت وانتظار قضائه العادل. وآياتها متوازنة منسجمة مما يبرر القول إنها نزلت دفعة واحدة. (2)
مكيّة ، وهي تسع وأربعون آية.
تسميتها :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 35)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 359)(1/1122)
سميت سورة (الطور) لافتتاحها بقسم اللّه تعالى بجبل الطور الذي يكون فيه أشجار ، كالذي كلّم اللّه عليه موسى ، وأرسل منه عيسى ، فنال بذلك شرفا عظيما على سائر الجبال.
مناسبتها لما قبلها :
تتجلى للمتأمل مناسبة هذه السورة لسورة الذاريات قبلها من وجوه :
1 - تشابه الموضوع : فإن كلتا السورتين مكية ، تضمنت الكلام عن التوحيد والبعث وأحوال الآخرة ، والرسالة النبوية ، وتفنيد معتقدات المشركين الفاسدة.
2 - تماثل الابتداء والانتهاء : ففي مطلع كل منهما وصف حال المتقين في الآخرة : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات 51/ 15]. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطور 52/ 17] وفي ختام كل منهما صفة حال الكفار : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الذاريات 51/ 60]. فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور 52/ 42].
3 - اتحاد القسم بآية كونية : ففي الذاريات أقسم اللّه بالرياح الذاريات النافعة في المعاش ، وفي الطور أقسم اللّه بالجبل الذي حظي بالنور الإلهي بتكليم موسى عليه السلام وإنزال التوراة عليه لنفع الناس في المعاش والمعاد.
4 - تطابق الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن الكافرين ومتابعة تذكير المؤمنين : ففي الذاريات : فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [54] وَذَكِّرْ .. [55] وفي الطور : فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ .. [29] : فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ ..
[45].
ما اشتملت عليه السورة :
لما ختم اللّه تعالى السورة المتقدمة بوقوع اليوم الموعود ، أقسم على ذلك بالطور ، وهو الجبل الذي ذكر مرارا في قصة موسى عليه السلام ، والكتاب المسطور : التوراة ونحوها أو اللوح المحفوظ ، والبيت المعمور : الكعبة المشرفة ، والسقف المرفوع : السماء ، والبحر المسجور : المملوء أو الموقد. فهو قسم بآيات كونية علوية وسفلية على أن العذاب آت لا ريب فيه.
ثم وصف اللّه تعالى عذاب النار الذي يزجّ به المكذبون ، وما يلقونه من الذل والإهانة ، وأردفه بوصف نعيم المتقين أهل الجنة ، وما يتمتعون به من أنواع الملذات في الملبس والمسكن والمطعم والمشرب والزواج بالحور العين.
وأعقب هذا الوصف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمتابعة التذكير ، وتبليغ الرسالة ، وإنذار الكفرة ، والإعراض عن سفاهة المشركين وافترائهم حين يقولون عنه : إنه شاعر ، أو كاهن ، أو مجنون ، أو مفتر على اللّه ، ثم أنكر تعالى عليهم مزاعمهم الباطلة هذه ، وأثبت بالأدلة الدامغة صدق رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأقام البراهين(1/1123)
والحجج القاطعة على الألوهية الحقة والوحدانية ، ونعى على المشركين قولهم : الملائكة بنات اللّه ، ووبخهم وتهكم بهم في عنادهم ومكابرتهم وبلوغهم حد إنكار المحسوسات المشاهدة لهم. وختمت السورة بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بترك الكفار في ضلالهم حتى الهلاك ، وبالصبر في تبليغ رسالته وبالتسبيح والتحميد ليل نهار ، والإخبار بأن اللّه حارسه وعاصمه وحافظه ، وبأن للظالمين عذابين : في الدنيا والآخرة. (1)
وهي مكية كلها في قول الجميع ، وعدد آياتها ثمان وأربعون آية.
وتشتمل هذه السورة على الكلام على البعث ، وما فيه ، واستتبع ذلك وصف الكفار والمؤمنين يوم القيامة ، وأطالت هذه السورة في الكلام على الجنة وما فيها من نعيم مقيم للمتقين ، ثم أخذت في خطاب المشركين ونقاشهم في معتقداتهم الفاسدة ، ثم كان ختام السورة بذكر نصائح للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين بدعوته. (2)
«مكية» كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم ولم نقف على استثناء شيء منها ، وهي تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي ، وثمان وأربعون في البصري ، وسبع وأربعون في الحجازي ، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها اشتمال كل على الوعيد ، وقال الجلال السيوطي : وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين ، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار ، ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الاشتراك في غير ذلك. (3)
* سورة الطور من السور المكية التى تعالج موضوع العقيدة الإسلامية ، وتبحث في أصول العقيدة وهي (الوحدانية ، والرسالة ، والبعث والجزاء) شأنها كشأن سائر السور المكية ، التي تتناول أمور العقيدة الإسلامية .
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن أهوال الآخرة وشدائدها ، وعما يلقاه الكافرون في ذلك الموقف الرهيب " موقف الحساب " وأقسمت على أن العذاب نازل بالكفار لا محالة ، لا يمنعه مانع ، ولا يدفعه د افع ، وكان القسم بأمور خمسة تنبيها على أهمية الموضوع [ والطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقف المرفوع . والبحر المسجور . إن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع . . ] الآيات .
* ثم تناولت الحديث عن المتقين وهم في جنات النعيم ، على سرر متقابلين ، وقد جمع الله لهم أنواع السعادة " الحور العين ، واجتماع الشمل بالذرية والبنين ، والتنعم والتلذذ بأنواع المآكل والمشارب ، من
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (27 / 52) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (27 / 16)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 544)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 27)(1/1124)
فواكه وثمار ، ولحوم متنوعة مما يشتهى ويستطاب ، إلى غير ما هنالك من أنواع النعيم ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر [ إن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم . . ] الآيات .
* ثم تحدثت عن رسالة محمد بن عبد الله صلوات الله عليه ، وأمرته بالاستمرار بالدعوة ، والتذكير والإنذار للكفرة الفجار ، غير عابىء بما يقوله المشركون ، وما يفتريه المفترون ، حول الرسالة والرسول ، فليس محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) بإنعام الله عليه بالنبوة وإكرامه بالرسالة بكاهن ولا مجنون كما زعم المجرمون [ فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون . . ] الآيات .
* ثم أنكرت السورة على المشركين مزاعمهم الباطلة في شأن نبوة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وردت عليهم بالحجج الدامغة والبراهين القاطعة التي تقصم ظهر الباطل ، وآقامت الدلائل على صدق رسالة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - )
[ أم يقولون تقؤله بل لا يؤمنون .فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين صادقين . . ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بالتهكم بالكافرين وأوثانهم بطريق التوبيخ والتقريع ، وبينت شدة عنادهم ، وفرط طغيانهم ، وأمرت الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، بالصبر على تحمل الأذى في سبيل الله ، حتى يأتي نصر الله [ واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم . ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ] .
التسمية : سميت " سورة الطور " لأن الله تعالى بدأ السورة الكريمة بالقسم بجبل الطور الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام ، ونال ذلك الجبل من الأنوار والتجليات والفيوضات الإلهية ما جعله مكانا وبقعة مشرفة على سائر الجبال في بقاع الأرض . (1)
مقصودها تحقيق وقوع العذاب الذي هو مضمون الوعيد المقسم على وقوعه في الذاريات الذي هو مضمون الإنذار المدلول على صدقه في ق ، فإن وقوعه أثبت وأمكن من الجبال التي أخبر الصادق بسيرها ، وجعل دك بعضها آية يمكن عامره وغيره إخرابه ، والسقف الذي يمكن رافعه وضعه ، والبحر الذي يمكن من سجره أن يرسله ، وقد بان أن اسمها أدل ما يكون على ذلك بملاحظة القسم وجوابه حتى بمفردات الألفاظ في خطابه (2)
هذه السورة تمثل حملة عميقة التأثير في القلب البشري. ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات والأباطيل التي تساوره وتتدسس إليه وتختبئ هنا وهناك في حناياه. ودحض لكل حجة وكل عذر قد
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 263)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 291)(1/1125)
يتخذه للحيدة عن الحق والزيغ عن الإيمان .. حملة لا يصمد لها قلب يتلقاها ، وهي تلاحقه حتى تلجئه إلى الإذعان والاستسلام! وهي حملة يشترك فيها اللفظ والعبارة ، والمعنى والمدلول ، والصور والظلال ، والإيقاعات الموسيقية لمقاطع السورة وفواصلها على السواء. ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف ، وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق ، وصورها وظلالها كما لو كانت سياطا لاذعة للحس لا تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام! وتبدأ السورة بقسم من اللّه سبحانه بمقدسات في الأرض والسماء. بعضها مكشوف معلوم! وبعضها مغيب مجهول : «وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ» ..
القسم على أمر عظيم رهيب ، يرج القلب رجا ، ويرعب الحس رعبا. في تعبير يناسب لفظه مدلوله الرهيب وفي مشهد كذلك ترجف له القلوب : «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ ، يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» ..
وفي وسط المشهد المفزع نرى ونسمع ما يزلزل ويرعب ، من ويل وهول ، وتقريع وتفزيع : «فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ. يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ.أَفَسِحْرٌ هذا؟ أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟ اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»..
هذا شوط من حملة المطاردة. يليه شوط آخر من لون آخر. شوط في إطماع القلوب التي رأت ذلك الهول المرعب - إطماعها في الأمن والنعيم. بعرض صورة المتقين وما أعد لهم من تكريم. وما هيئ لهم من نعيم رخي رغيد ، يطول عرضه ، وتكثر تفصيلاته ، وتتعدد ألوانه. مما يستجيش الحس إلى روح النعيم وبرده بعد كرب العذاب وهوله : «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ. وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ. وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالُوا : إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» ..
والآن وقد أحس القلب البشري سياط العذاب في الشوط الأول وتذوق حلاوة النعيم في الشوط الثاني ..
الآن يجيء الشوط الثالث يطارد الهواجس والوساوس ويلاحق الشبهات والأضاليل ويدحض الحجج والمعاذير.(1/1126)
ويعرض الحقيقة بارزة واضحة بسيطة عنيفة. تتحدث بمنطق نافذ لا يحتمل التأويل ، مستقيم لا يحتمل اللف والدوران. يلوي الأعناق ليّا ويلجئها إلى الإذعان والتسليم .. ويبدأ هذا الشوط بتوجيه الخطاب إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ليمضي في تذكيره لهم ، على الرغم من سوء أدبهم معه وليقرعهم بهذا المنطق النافذ القوي المستقيم : «فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ. أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ؟ قُلْ : تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا؟ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ؟ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ؟ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ. أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ؟ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ بَلْ لا يُوقِنُونَ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ؟ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ؟ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ؟ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ؟ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً؟ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ؟ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» ..
وعقب هذه الأسئلة المتلاحقة. بل هذه القذائف الصاعقة. التي تنسف الباطل نسفا ، وتحرج المكابر والمعاند ، وتخرس كل لسان يزيغ عن الحق أو يجادل فيه .. عقب هذا يصور تعنتهم وعنادهم في صورة الذي يكابر في المحسوس : «وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا : سَحابٌ مَرْكُومٌ». والفرق بين قطعة السماء تسقط وبين السحاب واضح ، ولكنهم هم يتلمسون كل شبهة ليعدلوا عن الحق الواضح.
هنا يلقي عليهم بالقذيفة الأخيرة. قذيفة التهديد الرعيب ، بملاقاة ذلك المشهد المرهوب ، الذي عرض عليهم في مطلع السورة : «فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» .. كما يهددهم بعذاب أقرب من ذلك العذاب : «وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
ثم تختم السورة بإيقاع رضي رخي .. إنه موجه إلى الرسول الكريم الذي يقولون عنه : «شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» .. ويقولون : كاهن أو مجنون. موجه إليه من ربه يسليه ويعزيه في إعزاز وتكريم. في تعبير لا نظير له في القرآن كله ولم يوجه من قبل إلى نبي أو رسول : «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ» ..
إنه الإيقاع الذي يمسح على العنت والمشقة اللذين يلقاهما الرسول الكريم ، من أولئك المتعنتين المعاندين ، الذين اقتضت مواجهتهم تلك الحملة العنيفة من المطاردة والهجوم .. (1)
خلاصة ما حوته السورة الكريمة
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3391)(1/1127)
من العظات والزواجر
(1) القسم بالعالم العلوي والسفلى أن العذاب آت لا محالة.
(2) وصف عذاب النار وما يلاقيه المكذبون حينئذ من الذلة والمهانة.
(3) وصف نعيم أهل الجنة وما يتمتعون به من اللذات فى مساكنهم ومطاعمهم ومشاربهم وأزواجهم وخدمهم وحشمهم.
(4) أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالثبات على تبليغ الرسالة والإعراض عن سفاهتهم من نحو قولهم : هو شاعر ، هو كاهن ، هو مجنون ، هو مفتر.
(5) إثبات الألوهية بالبراهين التي لا تقبل جدلا.
(6) النعي على المشركين فى قولهم : الملائكة بنات اللّه.
(7) بيان أنهم بلغوا فى عنادهم حدا ينكرون معه المحسوسات التي لا شك فيها.
(8) أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتركهم وشأنهم حتى يأتى اليوم الذي كانوا يوعدون.
(9) الإخبار بأن الظالمين فى كل أمة وكل جيل يعذبون فى الدنيا قبل عذابهم فى الآخرة.
(10) الإخبار بأن اللّه حارس نبيّه وكالئه ، فلا يصل إليه أذى من خلقه كما قال سبحانه : « وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » .
(11) أمره - صلى الله عليه وسلم - بالذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار ، وفى كل موطن ومجلس يقوم فيه. (1)
==================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (27 / 39)(1/1128)
(53) سورة النجم
سميت سورة النجم بغير واو في عهد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ففي الصحيح عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد فأخذ رجل كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه. وقال: يكفني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا. وهذا الرجل أمية بن خلف. وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون. فهذه تسمية لأنها ذكر فيها النجم.
وسموها سورة والنجم بواو بحكاية لفظ القرآن الواقع في أوله وكذلك ترجمها البخاري في التفسير والترمذي في جامعه .
ووقعت في المصاحف بالوجه وهو من تسمية السورة بلفظ وقع في أولها وهو لفظ النجم أو حكاية لفظ والنجم .
وسموها {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] كما في حديث زيد بن ثابت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فلم يسجد ، أي في زمن آخر غير الوقت الذي ذكره ابن مسعود وابن عباس. وهذا كله اسم واحد متوسع فيه فلا تعد هذه السورة بين السور ذوات أكثر من اسم.
وهي مكية، قال ابن عطية: بإجماع المتأولين. وعن ابن عباس وقتادة: استثناء قوله تعالى {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] الآية قالا: هي آية مدنية. وسنده ضعيف. وقيل: ونسب إلى الحسن البصري: أن السورة كلها مدنية، وهو شذوذ.
وعن ابن مسعود هي أول سورة أعلنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة.
وهي السورة الثالثة والعشرون في عد ترتيب السور. نزلت بعد سورة الإخلاص وقبل سورة عبس.
وعد الجمهور العادين آيها إحدى وستين، وعدها أهل الكوفة أثنتين وستين.
قال ابن عطية: سبب نزولها أن المشركين قالوا: إن محمدا يتقول القرآن ويختلق أقواله، فنزلت السورة في ذلك.
أغراض هذه السورة
أول أغراضها تحقيق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما نبلغه عن الله تعالى وإنه منزه عما ادعوه.
وإثبات أن القرآن وحي من عند الله بواسطة جبريل.
وتقريب صفة نزول جبريل بالوحي في حالين زيادة في تقرير أنه وحي من الله واقع لا محالة.
وإبطال إلهية أصنام المشركين.(1/1129)
وإبطال قولهم في اللات والعزى ومناة بنات الله وأنها أوهام لا حقائق لها وتنظير قولهم فيها بقولهم في الملائكة أنهم إناث.
وذكر جزاء المعرضين والمهتدين وتحذيرهم من القول في هذه الأمور بالظن دون حجة.
وإبطال قياسهم عالم الغيب على عالم الشهادة وأن ذلك ضلال في الرأي قد جاءهم بضده الهدى من الله. وذكر لذلك مثال من قصة الوليدين المغيرة، أو قصة ابن أبي سرح.
وإثبات البعث والجزاء.
وتذكيرهم بما حل بالأمم ذات الشرك من قبلهم وبمن جاء قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - من الرسل أهل الشرائع.
وإنذارهم بحادثة تحل بهم قريبا.
وما تخلل ذلك من معترضات ومستطردات لمناسبات ذكرهم عن أن يتركوا أنفسهم.
وأن القرآن حوى كتب الأنبياء السابقين. (1)
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة الطور مواجهة صريحة بالاتهام للمشركين ، بمفترياتهم على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، وبمقولاتهم الآثمة فيه ، وبأنه شاعر يتربصون به ريب المنون ، وأنهم لهذا لا يقبلون ما يدعوهم إليه من هدى ، يطالعهم به فى آيات اللّه التي يتلوها عليهم ، وأنهم لهذا أيضا ، متمسكون بما معهم من أباطيل وضلالات يدينون بها ، ويقيمون حياتهم الروحية عليها ..وقد ووجهوا بهذه الضلالات ، وضبطوا متلبسين بها ، وسئلوا عن المصدر الذي تلقوها منه ـ فلم يكن لهم هناك جواب إلا الحيرة والوجوم ..وجاءت سورة النجم تعقيبا على هذا الموقف الذي جمد فيه المشركون ، وخرسوا أمام هذه التهم التي تلبسوا بها ، وفى أعينهم نظرات زائغة ..يرمون بها هنا وهناك ليجدوا مخرجا من هذا المأزق الحرج الذي هم فيه ..
وفى هذا التعقيب يعرض على المشركين الوجه الذي ينبغى أن يسلكوه ، إن هم أرادوا الخروج من هذه الحيرة التي لبستهم ..
ومن جهة أخرى ، فإن سورة الطور ، قد ختمت بقوله تعالى : « وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ » على حين بدئت سورة النجم بالقسم بواحد من هذه النجوم ، التي أدبرت مع ضوء الصبح الوليد .. فكان هناك أكثر من مناسبة جمعت بين السورتين .. (2)
مقدمة وتمهيد
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (27 / 95)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 583)(1/1130)
1 - سورة « النجم » من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها ثنتان وستون آية في المصحف الكوفي ، وإحدى وستون في غيره ، وكان نزولها بعد سورة « الإخلاص » ، فهي تعتبر من أوائل ما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من قرآن ، إذ لم يسبقها في النزول سوى اثنتين وعشرين سورة ، أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة الثالثة والخمسون.
2 - ويبدو أنها سميت بهذا الاسم منذ عهد النبوة ..
قال الآلوسى : سورة « والنجم ». وتسمى - أيضا - سورة النجم - بدون واو - .
وهي مكية على الإطلاق. وفي الإتقان : استثنى منها : الذين يجتنبون كبائر الإثم ... إلى آخر الآية ... وهي - كما أخرج ابن مردويه - عن ابن مسعود قال : أول سورة أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءتها ، فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون.
وأخرج البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، عنه قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة سورة « والنجم » ، فسجد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته يأخذ كفا من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا ، وهو أمية بن خلف ..وذكر أبو حيان أن سبب نزولها ، قول المشركين : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يختلق القرآن .. .
3 - وقد افتتحت السورة الكريمة بقسم منه - سبحانه - بالنجم ، على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، ثم وصف - سبحانه - جبريل - عليه السلام - وهو أمين الوحى ، بصفات تدل على قوته وشدته ، وعلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رآه على هيئته التي خلقه اللّه عليها.قال - تعالى - : وَالنَّجْمِ إِذا هَوى . ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى . وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى . وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى . ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى .
4 - ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن الآلهة المزعومة فبينت أن هذه الآلهة إنما هي أسماء أطلقها الجاهلون عليها ، دون أن يكون لها أدنى نصيب من الصحة ، وأن العبادة إنما تكون للّه وحده.قال - سبحانه - : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى . أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى . تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى . إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ.
5 - ثم أرشد اللّه - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطريق الحكيم الذي يجب عليه أن يسلكه في دعوته ، وسلاه عما لحقه من المشركين من أذى ، فقال - سبحانه - : فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى .(1/1131)
6 - وبعد أن ساق - سبحانه - جانبا من مظاهر رحمته بعباده الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ أتبع ذلك ببيان مظاهر عدله في خلقه ، وقدرته على كل شيء ، وساق ما يشهد لذلك من أخبار الغابرين المكذبين الذين لا يخفى حالهم على المشركين المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنذر هؤلاء المشركين بسوء المصير ، إذا لم يعودوا إلى الحق ، ويكفوا عن جحودهم وعنادهم ..قال - تعالى - : هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى . أَزِفَتِ الْآزِفَةُ. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ. أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ. فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا.
7 - هذا ، والمتأمل في هذه السورة الكريمة يراها بجانب إقامتها الأدلة الساطعة على وحدانية اللّه - تعالى - وعلى صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه يراها بجانب ذلك قد ساقت ما ساقت من براهين واضحة ، ومن توجيهات حكيمة .. بأسلوب بليغ أخاذ ، له لفظه المنتقى ، ومعناه السديد ، وتراكيبه الموزونة وزنا بديعا ... مما يشهد بأن هذا القرآن من عند اللّه ، ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. (1)
تتضمن السورة توكيدا بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به من رؤيته المشاهد الربانية والملك الرباني وبصدق صلته بالوحي الرباني. وتزييفا لعقائد العرب بالأصنام والملائكة والشفاعة ، وتنويها بالمؤمنين الصالحين. وتنديدا بالكفار المكذبين. وإنذارا بالآخرة والوقوف بين يدي اللّه ، وتقريرا بعدم انتفاع الإنسان إلّا بسعيه. وتذكيرا ببعض الأقوام السابقة ، وما كان من تنكيل اللّه بهم بسبب تكذيبهم أنبياءه وتمردهم على دعوتهم إلى اللّه. وهي متوازنة الآيات مترابطة الفصول ، مما يلهم أنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [32] مدنية وانسجامها مع ما قبلها وما بعدها نظما وموضوعا يحمل على التوقف في هذه الرواية. (2)
مكيّة ، وهي اثنتان وستون آية.
تسميتها :
سميت سورة النجم ، لأن اللّه تعالى افتتحها بالقسم بالنجم ، وأل للجنس ، أي بنجوم السماء وقت سقوطها وغربها ، لأن النجم إذا كان في وسط السماء لم يهتد به الساري ، لأنه لا يعلم المغرب من المشرق والجنوب من الشمال ، فإذا مال إلى الأفق عرف به هذه الجهات ، والميل إلى أفق المغرب أولى بالذكر ، لأن الناظر إليه يستدل بغروبه على الجهة.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 55)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 74)(1/1132)
مناسبتها لما قبلها :
ترتبط هذه السورة بما قبلها بوجوه أربعة :
1 - إن سورة الطور ختمت بقوله : وَإِدْبارَ النُّجُومِ وافتتحت هذه السورة بقوله : وَالنَّجْمِ.
2 - في سورة الطور ذكر تقوّل القرآن وافتراؤه ، وهذه السورة بدئت بذلك وردت عليه.
3 - ذكر في الطور ذرية المؤمنين ، وأنهم تبع لآبائهم ، وفي هذه السورة ذكرت ذرية اليهود في آية : هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ (32).
4 - في حق الآباء المؤمنين قال تعالى في الطور : أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (21) أي ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين ، مع نفعهم بعمل آبائهم ، وقال في النجم في حق الكفار أو أبناء الكفار الكبار : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39).
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السورة المكية المعنية بأصول العقيدة ، وهو إثبات الرسالة وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تلقي القرآن بالوحي عن اللّه ، والتوحيد والكلام على الأصنام وبيان عدم جدواها ، والتحدث عن قدرة اللّه عز وجل ، وعن البعث والنشور.
افتتحت السورة بإثبات ظاهرة الوحي بوساطة جبريل عليه السلام ، والكلام عن (المعراج) وقرب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه ، ورؤيته عجائب ملكوت اللّه تعالى ، ومشاهدته جبريل على صورته الحقيقية الملكية مرتين.
ثم قرّعت المشركين على عبادة الأوثان والأصنام ، ووصفتها بأنها عبادة باطلة لآلهة مزعومة لا وجود لها ، ووبختهم أيضا على جعل الملائكة إناثا ، وتسميتهم إياها : بنات اللّه ، وبيان أن الملائكة لا تملك الشفاعة إلا بإذن اللّه تعالى.
ثم وصفت الجزاء العادل يوم القيامة ، حيث يجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، وذكرت أوصاف المحسنين ، ونددت بإعراض الكافرين عن الإسلام ، وأعلمت الناس جميعا أن المسؤولية فردية شخصية ، فيسأل كل إنسان عن سعيه وعمله ، ولا تتحمل نفس إثم أو وزر نفس أخرى ، ولا تقبل تزكية المرء نفسه.
وأبانت السورة إحاطة علم اللّه بما في السموات والأرض ومظاهر قدرة اللّه تعالى في الإحياء والإماتة ، والإغناء والإفقار ، وخلق الإنسان من النطفة ، والبعث والحشر والنشر.
وهددت المشركين الذين أنكروا الوحدانية والرسالة والبعث بالإهلاك كإهلاك أقوام أخرى أشداء ، كعاد وثمود وقوم نوح ولوط.(1/1133)
وختمت بالتعجب من استهزاء المشركين بالقرآن وإعراضهم عنه ، وأمر المؤمنين بالعبادة الخالصة للّه تعالى. (1)
مكية على القول الصحيح ، وعدد آياتها ثنتان وستون آية ، وهي أول سورة أعلنها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بمكة.
وتشتمل هذه السورة على إثبات الرسالة وصدق الرسول في أن القرآن من عند اللّه ، ثم الكلام على الأصناف وبيان أنها أسماء لا مسميات لها ، ثم الكلام على الذات الأقدس ببيان آثاره في الوجود ، وذكر حقائق إسلامية وجد بعضها في الكتب السابقة. (2)
وتسمى أيضا سورة - النجم - بدون واو وهي «مكية» على الإطلاق ، وفي الإتقان استثنى منها الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ إلى اتَّقى [النجم : 32] ، وقيل : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [النجم : 33] الآيات التسع ، ومن الغريب حكاية الطبرسي عن الحسن أنها مدنية. ولا أرى صحة ذلك عنه أصلا ، وآيها اثنتان وستون آية في الكوفي ، وإحدى وستون في غيره ، وهي كما
أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم بقراءتها فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون ، وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عنه قال : «أول سورة أنزلت فيها سجدة «والنجم» فسجد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا» وهو أمية بن خلف ، وفي البحر أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب وقال : يكفي هذا
، فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك ، وهي شديدة المناسبة لما قبلها فإن الطور ختمت بقوله تعالى : إِدْبارَ النُّجُومِ [الطور : 49] وافتتحت هذه بقوله سبحانه : «والنجم» وأيضا في مفتتحها ما يؤكد رد الكفرة فيما نسبوه إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من التقول والشعر والكهانة والجنون ، وذكر أبو حيان أن سبب نزولها قول المشركين : إن محمدا عليه الصلاة والسلام يختلق القرآن ، وذكر الجلال السيوطي في وجه مناسبتها أن الطور فيها ذكر ذرية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم وهذه فيها ذكر ذرية اليهود في قوله تعالى : هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النجم : 32] الآية
فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبري وأبو نعيم في المعرفة والواحدي عن ثابت بن الحارث الأنصاري «قال : كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى اللّه تعالى
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (27 / 92) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (27 / 41)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 554)(1/1134)
عليه وسلم فقال : كذبت يهود ما من نسمة يخلقها اللّه في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد فأنزل اللّه تعالى عند ذلك هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية كلها»
وأنه تعالى لما قال هناك في المؤمنين : أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور : 21] إلخ قال سبحانه هنا في الكفار ، أو في الكبار : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم : 39] خلاف ما دخل في المؤمنين الصغار ، ثم قال : وهذا وجه بديع في المناسبة من وادي التضاد ، وفي صحة كون قوله تعالى : هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية نزل لما ذكر نظر عندي ، وكون قوله تعالى أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في الصغار لم يتفق عليه المفسرون كما سمعت غير بعيد ، نعم من تأمل ظهر له وجوه من المناسبات غير ما ذكر فتأمل. (1)
* سورة النجم مكية ، وهي تبحث عن موضوع الرسالة في إطارها العام ، وعن موضوع الإيمان بالبعث والنشور ، شأن سائر السور المكية . " ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن موضوع " المعراج " الذي كان معجزة لرسول الإنسانية محمد بن عبد الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، والذي رأى فيه الرسول الكريم عجائب وغرائب في ملكوت الله الواسع ، مما يدهش العقول ويحير الألباب ، وذكرت الناس بما يجب عليهم من الإيمان والتصديق ، وعدم المجادلة والمماراة في مواضيع الغيب والوحي [ والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحى يوحى . . ] الآيات .
* ثم تلاها الحديث عن الأوثان والأصنام التي عبدها المشركون من دون الله ، وبينت بطلان تلك الآلهة المزعومة ، وبطلان عبادة غير الله ، سواء في ذلك عبادة الأصنام ، أو عبادة الملائكة الكرام [ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى . . ] ؟ الآيات . " ثم تحدثت عن الجزاء العادل يوم الدين ، حيث تجزى كل نفس بما كسبت ، فينال المحسن جزاء إحسانه ، والمسيء جزاء إساءته ، ويتفرق الناس إلى فريقين : أبرار ، وفجار [ ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى . . ] الآيات .
* وقد ذكرت برهانا على الجزاء العادل ، بأن كل إنسان ليس له إلا عمله وسعيه ، وأنه لا تحمل نفس وزر أخرى ، لأن العقوبة لا تتعدى غير المجرم ، وهو شرع الله المستقيم ، وحكمه العادل الذي بينه في القرآن العظيم ، وفي الكتب السماوية السابقة [ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى . . ] الآيات . " وذكرت السورة الكريمة آثار قدرة الله جل وعلا في الإحياء والإماتة ، والبعث بعد الفناء ، والإغناء والإفقار ، وخلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى [ وأن إلى ربك
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 44)(1/1135)
المتتهى وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى . " من نطفة إذا تمنى . . ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بما حل بالأمم الطاغية كقوم عاد ، وثمود ، وقوم نوح ولوط ، من أنواع العذاب والدمار ، تذكيرا لكفار مكة بالعذاب الذي ينتظرهم بتكذيبهم لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وزجرا لأهل البغي والطغيان عن الاستمرار في التمرد والعصيان [ وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى .. ] الآيات إلى نهاية السورة الكريمة. (1)
مقصودها ذم الهوى لأنتاجه الضلال والعمى بالإخلاد إلى الدنيا التي هي دار الكدور والبلاء ، والتصرم والفناء ، ومدح العلم لإثماره الهدى في الإقبال على الأخرى لأنها دار البقاء في السعادة أو الشقاء ، والحث على اتباع النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في نذارتهع التي بينتها سورة ق وصدقتها الذاريات وأوقعتها وعينتها الطور كما تتبع في بشارته لأن علمه هنو العلم لأنه لا ينطق عن الهوى لا في صريح الكناية ولا في بيانه له لأن الكل عن الله الذي له صفات الكمال فلا بد من بعث الخلق إليه وحشرهم لديه لتظهر حكمته غاية الظهور فيرفع أهل التزكي والظهور ، ويضع أهل الفجور ، ويفضح كل متحل بالزور ، متجل للشرور ، وعلى ذلك دل اسمها النجم عن تأمل القسم والجواب وما نظم به من نجوم الكتاب (2)
هذه السورة في عمومها كأنها منظومة موسيقية علوية ، منغمة ، يسري التنغيم في بنائها اللفظي كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة. ويلحظ هذا التنغيم في السورة بصفة عامة ويبدو القصد فيه واضحا في بعض المواضع وقد زيدت لفظة أو اختيرت قافية ، لتضمن سلامة التنغيم ودقة إيقاعه - إلى جانب المعنى المقصود الذي تؤديه في السياق كما هي عادة التعبير القرآني - مثل ذلك قوله : «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى » .. فلو قال ومناة الأخرى ينكسر الوزن. ولو قال : ومناة الثالثة فقط يتعطل إيقاع القافية.
ولكل كلمة قيمتها في معنى العبارة. ولكن مراعاة الوزن والقافية كذلك ملحوظة. ومثلها كلمة «إِذاً» في وزن الآيتين بعدها : «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى !» فكلمة «إِذاً» ضرورية للوزن.
وإن كانت - مع هذا - تؤدي غرضا فنيا في العبارة ... وهكذا.
ذلك الإيقاع ذو لون موسيقي خاص. لون يلحظ فيه التموج والانسياب. وبخاصة في المقطع الأول والمقطع الأخير من السورة. وهو يتناسق بتموجه وانسيابه مع الصور والظلال الطليقة المرفرفة في المقطع
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 270)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 312)(1/1136)
الأول. ومع المعاني واللمسات العلوية في المقطع الأخير. وما بينهما مما هو قريب منهما في الجو والموضوع.
والصور والظلال في المقطع الأول ، تشع من المجال العلوي الذي تقع فيه الأحداث النورانية والمشاهد الربانية التي يصفها هذا المقطع. ومن الحركات الطليقة للروح الأمين وهو يتراءى للرسول الكريم .. والصور والظلال والحركات والمشاهد والجو الروحي المصاحب ، تستمد وتمد ذلك الإيقاع التعبيري وتمتزج به ، وتتناسق معه ، وتتراءى فيه ، في توافق منغم عجيب.
ثم يعم ذلك العبق جو السورة كله ، ويترك آثاره في مقاطعها التالية ، حتى تختم بإيقاع موح شديد الإيحاء مؤثر عميق التأثير. ترتعش له كل ذرة في الكيان البشري وترف معه وتستجيب.
وموضوع السورة الذي تعالجه هو موضوع السور المكية على الإطلاق : العقيدة بموضوعاتها الرئيسية : الوحي والوحدانية والآخرة. والسورة تتناول الموضوع من زاوية معينة تتجه إلى بيان صدق الوحي بهذه العقيدة ووثاقته ، ووهن عقيدة الشرك وتهافت أساسها الوهمي الموهون! والمقطع الأول في السورة يستهدف بيان حقيقة الوحي وطبيعته ، ويصف مشهدين من مشاهده ، ويثبت صحته وواقعيته في ظل هذين المشهدين ويؤكد تلقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - تلقي رؤية وتمكن ودقة ، واطلاعه على آيات ربه الكبرى.
ويتحدث المقطع الثاني عن آلهتهم المدعاة : اللات والعزى ومناة. وأوهامهم عن الملائكة. وأساطيرهم حول بنوتها للّه. واعتمادهم في هذا كله على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا. بينما الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى ما دعاهم إليه عن تثبت ورؤية ويقين.
والمقطع الثالث يلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإعراض عمن يتولى عن ذكر اللّه ويشغل نفسه بالدنيا وحدها ، ويقف عند هذا الحد لا يعلم وراءه شيئا. ويشير إلى الآخرة وما فيها من جزاء يقوم على عمل الخلق ، وعلى علم اللّه بهم ، منذ أنشأهم من الأرض ، ومنذ كانوا أجنة في بطون أمهاتهم. فهو أعلم بهم من أنفسهم ، وعلى أساس هذا العلم المستيقن - لا الظن والوهم - يكون حسابهم وجزاؤهم ، ويصير أمرهم في نهاية المطاف.
والمقطع الرابع والأخير يستعرض أصول العقيدة - كما هي منذ أقدم الرسالات - من فردية التبعة ، ودقة الحساب ، وعدالة الجزاء. ومن انتهاء الخلق إلى ربهم المتصرف في أمرهم كله تصرف المشيئة المطلقة. ومع هذا لفتة إلى مصارع الغابرين المكذبين. تختم بالإيقاع الأخير : «هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى . أَزِفَتِ الْآزِفَةُ. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ. أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ ، وَلا تَبْكُونَ ، وَأَنْتُمْ(1/1137)
سامِدُونَ؟ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا» .. حيث يلتقي المطلع والختام في الإيحاء والصور والظلال والإيقاع العام. (1)
ما تضمنته السورة الكريمة من الأسرار والأحكام
(1) إنزال الوحى على رسوله.
(2) إن الذي علمه إياه هو جبريل شديد القوى.
(3) قرب رسوله من ربه.
(4) إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل على صورته الملكية مرتين.
(5) تقريع المشركين على عبادتهم للأصنام.
(6) توبيخهم على جعل الملائكة إناثا وتسميتهم إياهم بنات اللّه.
(7) مجازاة كل من المحسن والمسيء بعمله.
(8) أوصاف المحسنين.
(9) إحاطة علمه تعالى بما فى السموات والأرض.
(10) النهى عن تزكية المرء نفسه.
(11) الوصايا التي جاءت فى صحف إبراهيم وموسى.
(12) النعي على المشركين فى إنكارهم الوحدانية والرسالة والبعث والنشور.
(13) التعجب من استهزاء المشركين بالقرآن حين سماعه ، وغفلتهم عن مواعظه.
(14) أمر المؤمنين بالخضوع للّه والإخلاص له فى العمل. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3404)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (27 / 73)(1/1138)
(54) سورة القمر
اسمها بين السلف سورة اقتربت الساعة. ففي حديث أبي واقد الليثي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الفطر والأضحى، وبهذا الاسم عنون لها البخاري في كتاب التفسير.
وتسمى سورة القمر وبذلك ترجمها الترمذي. وتسمى سورة اقتربت حكاية لأول كلمة فيها.
وهي مكية كلها عند الجمهور، وعن مقاتل: أنه استثنى منها قوله تعالى {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} إلى قوله : {وَأَمَرُّ} [القمر: 44،46] قال: نزل يوم بدر ولعل ذلك من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية يوم بدر.
وهي السورة السابعة والثلاثون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الطارق وقبل سورة ص.
وعدد آيها خمس وخمسون باتفاق أهل العدد.
وسبب نزولها ما رواه الترمذي عن أنس بن مالك قال سأل أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - آية فانشق القمر بمكة فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} إلى قوله {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1،2].
وفي أسباب النزول للواحدي بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - فقالت قريش هذا سحر ابن أبي كبشة سحركم، فسألوا السفار، فقالوا نعم قد رأينا، فأنزل الله عز وجل {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] الآيات
وكان نزولها في حدود سنة خمس قبل الهجرة ففي الصحيح أن عائشة قالت: أنزل على محمد بمكة وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46].
وكانت عقد عليها في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين، أي في أواخر سنة أربع قبل الهجرة بمكة، وعائشة يومئذ بنت ست سنين، وذكر بعض المفسرين أن انشقاق القمر كان سنة خمس قبل الهجرة وعن ابن عباس كان بين نزول آية {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] وبين بدر سبع سنين.
أغراض هذه السورة
تسجيل مكابرة المشركين في الآيات المبينة، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن مكابرتهم.
وإنذارهم باقتراب القيامة وبما يلقونه حين البعث من الشدائد.
وتذكيرهم بما لقيته الأمم أمثالهم من عذاب الدنيا لتكذيبهم رسل الله وأنهم سيلقون مثل ما لقي أولئك إذ ليسوا خيرا من كفار الأمم الماضية.(1/1139)
وإنذارهم بقتال يهزمون به، ثم لهم عذاب الآخرة وهو أشد.
وإعلامهم بإحاطة الله علما بأفعالهم وأنه مجازيهم شر الجزاء ومجاز المتقين خير الجزاء. وإثبات البعث، ووصف بعض أحواله.
وفي خلال ذلك تكرير التنويه بهدي القرآن وحكمته. (1)
مناسبتها لما قبلها
فى ختام سورة « ق » جاء قوله تعالى : « أَزِفَتِ الْآزِفَةُ » ـ منذرا بقرب يوم القيامة ، ثم فى بدء سورة القمر قوله : « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ » ـ مخبرا عن اقتراب الساعة ، منبئا عن الأحداث التي تقع فى هذا اليوم العظيم ..وبهذا تلاقى ختام « ق » وبدء « القمر » على موضوع واحد ، هو وقوع يوم القيامة ، واقتراب هذا الوقوع ، وأن ختام سورة « ق » يقرر هذه الحقيقة ، وبدء سورة « القمر » يؤكدها ، ويطلع بالإرهاصات التي تقوم بين يديها. (2)
مقدّمة
1 - سورة القمر : هي السورة الرابعة والخمسون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة الطارق ، وقبل سورة « ص ».
ويبلغ عدد السور التي نزلت قبلها ، سبعا وثلاثين سورة.
ويغلب على الظن أن نزولها كان في السنوات الأولى من بعثته - صلى الله عليه وسلم - قال بعض العلماء : وكان نزولها في حدود سنة خمس قبل الهجرة. ففي الصحيح أن عائشة - رضى اللّه عنها - قالت : أنزل على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، وإنى لجارية ألعب ، قوله - تعالى - : بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ .
2 - وتسمى هذه السورة بسورة القمر ، وبسورة اقتربت الساعة ، وتسمى بسورة اقتربت ، حكاية لأول كلمة افتتحت بها.
روى الإمام مسلم وأهل السنن عن أبى واقد الليثي أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيد بسورتى « ق » و« اقتربت الساعة ».
وعدد آياتها : خمس وخمسون آية وهي من السور المكية الخالصة - على الرأى الصحيح - ، وقيل : هي مكية إلا ثلاث آيات منها ، وهي قوله - تعالى - : أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ فإنها نزلت يوم بدر ، وهذا القيل لا دليل له يعتمد
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (27 / 161)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 626)(1/1140)
عليه.ويرده ما أخرجه ابن أبى حاتم عن أبى هريرة قال : أنزل اللّه - تعالى - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل يوم بدر : سيهزم الجمع ويولون الدبر ، وقال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول اللّه أى جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر ، وانهزمت قريش ، نظرت إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم مصلتا بالسيف ، وهو يقول : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فكانت ليوم بدر.
وبذلك نرى أن هذا الحديث ، وحديث عائشة السابق ، يدلان على أن هذه الآيات مكية - أيضا - ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما قرأها في غزوة بدر على سبيل الاستشهاد بها.
3 - والسورة الكريمة قد تحدثت في مطلعها عن اقتراب يوم القيامة ، وعن جحود المشركين للحق بعد إذ جاءهم ، وعما سيكونون عليه يوم القيامة من ندم وحسرة. قال - تعالى - :
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ.
4 - ثم تحدثت السورة الكريمة عن مصارع الغابرين ، فذكرت ما حل من هلاك ودمار ، بقوم نوح ، وهود ، ولوط - عليهم السلام - وما حل أيضا بفرعون وملئه من عقاب.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، ببيان مظاهر قدرته ، وبليغ حكمته ، ودقة نظامه في كونه ، وبشر المتقين بما يشرح صدورهم فقال - تعالى - : إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ. وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
5 - والمتدبر في السورة الكريمة يراها قد اهتمت بالحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن تعنت المشركين وعنادهم ، وعن سنن اللّه - تعالى - في خلقه ، التي من أبرز مظاهرها ، نصر المؤمنين ، وخذلان الكافرين. (1)
في السورة إشارة إلى آية انشقاق القمر وحملة على الكفار لمكابرتهم وتكذيبهم لآيات اللّه. وتذكير لهم بأمثالهم المكذبين السابقين. والسورة ذات خصوصية فنية نثرية. وفصولها مترابطة تامة الانسجام والتوازن. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [44 - 46] مدنيات وانسجامها التام مع الآيات الأخرى يسوغ التوقف في صحة الرواية.
ولقد روى بعض المفسرين ومنهم ابن كثير عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت إن الآية [46] نزلت وهي جارية تلعب وقد يكون في هذا قرينة مؤيدة لنزولها في مكة. (2)
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 93)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 271)(1/1141)
مكيّة ، وهي خمس وخمسون آية.
تسميتها : سميت سورة القمر ، لافتتاحها بالخبر عن انشقاق القمر ، معجزة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - .
مناسبتها لما قبلها :
تتضح مناسبة هذه السورة لما قبلها من نواح ثلاث هي :
1 - اتفاق خاتمة السورة السابقة وفاتحة هذه السورة حول إعلان قرب القيامة ، فقال تعالى في سورة (النجم) : أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) وقال في هذه السورة : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ إلا أنه ذكر هاهنا دليلا على الاقتراب ، وهو قوله : وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
جاء في الصحيحين عن أنس : «أن الكفار سألوا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - آية ، فانشق القمر مرتين».
2 - تناسب التسمية وحسن التناسق ، لما بين النجم والقمر من تقارب ، كما في توالي سورة الشمس ، والليل ، والضحى ، ومن قبلها سورة الفجر.
3 - فصلت هذه السورة أحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم بسبب تكذيب رسلهم في السورة المتقدمة في قوله تعالى : وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ، وَثَمُودَ فَما أَبْقى ، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (50 - 53). وهذا يشابه الأعراف بعد الأنعام ، والشعراء بعد الفرقان ، والصافات بعد يس.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية لتقرير أصول العقيدة الإسلامية ، بدءا من إنزال القرآن بالوحي وتهديد المكذبين بآياته ، وانتهاء بالجزاء الحتمي يوم القيامة ومشاهد عذاب الكفار ، وأنواع ثواب المتقين وتكريمهم.
أخبرت السورة أولا بقرب وقت القيامة ودليل ذلك وهو انشقاق القمر الذي هو أحد المعجزات الكبرى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وموقف المشركين من تلك المعجزة ووصفها بأنها سحر مفترى ، وغفلتهم عما في القرآن من الزواجر.
وتلا ذلك أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عنهم ، وإنذارهم بحشرهم أذلة مسرعين كالجراد المنتشر ، بعبارات تهز المشاعر ، وتثير المخاوف ، وتملأ النفس رعبا وفزعا من أهوال القيامة.(1/1142)
ثم أنذرت كفار مكة بعذاب مشابه لعذاب الأمم السابقة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون جزاء على تكذيبهم الرسل ، وأفردت كل قصة عن الأخرى ، وعقبتها بعبارة مخيفة تدعو للعجب وهي : فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟! وقرنها بقوله : وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
ثم وبخت مشركي قريش على غفلتهم عن هذه النذر ، وحذرتهم مصرعا مماثلا لمصارع أولئك الأقوام ، وهو القتل والهزيمة في الدنيا ، وعذاب الآخرة الأدهى والأمرّ ، الذي يصاحبه الذل والمهانة بالسحب على وجوههم في النار ، فهم في ضلال وسعر.
وختمت السورة ببيان ظاهرة التوازن في خلق الأشياء ، وسرعة نفاذ أمر اللّه ومشيئته كلمح البصر ، وضرورة العظمة والتذكر بهلاك الطغاة ، ورصد جميع أعمال البشر في سجلات محفوظة ، وتبشير المتقين بالجنات والكرامات عند ربهم المليك المقتدر.
والخلاصة : أن السورة حافلة بالوعد والوعيد ، والعظات والعبر بأخبار الماضين ، وتهديد الكفار بعقاب مماثل ، وإكرام المتقين في جنات ونعيم.
فضل السورة :
تقدم في فضل سورة ق إيراد حديث أبي واقد الليثي فيما يرويه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة : «أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر» وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار كالجمع والعيد ، لاشتمالها على ذكر الوعد والوعيد ، وبدء الخلق وإعادته ، والتوحيد وإثبات النبوات وغير ذلك من المقاصد العظيمة. (1)
وهي مكية كلها في قول الجمهور ، وهو الصحيح ، وعدد آياتها خمس وخمسون آية وتشمل على كثير من الوعد والوعيد ، وذكر أخبار الأمم الماضية للعبرة والعظة ثم تهديد الكفار بذكر ما يحل بهم يوم القيامة ، وما يلاقيه المتقون من جزاء في جنات صدق. (2)
وتسمى أيضا «اقتربت» وعن ابن عباس أنها تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه ، أخرجه عنه البيهقي في شعب الإيمان لكن قال : إنه منكر «وهي مكية» في قول الجمهور ، وقيل مما نزل يوم بدر ، وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات أَمْ يَقُولُونَ إلى وَأَمَرُّ [القمر : 44 - 46] واقتصر بعصهم على استثناء سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ [القمر : 45] إلخ ، ورد بما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي هريرة قال : أنزل اللّه تعالى على نبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بمكة قبل
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (27 / 142) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (27 / 74)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 567)(1/1143)
يوم بدر سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ وقال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول اللّه أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم مصلتا بالسيف وهو يقول : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فكانت ليوم بدر ، وفي الدر المنثور : أخرج البخاري عن عائشة قالت : «نزل على محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر : 46]»
ويرد به وبما قبله ما حكي عن مقاتل أيضا ، وقيل : إلا إِنَّ الْمُتَّقِينَ [القمر : 45] الآيتين وآيها خمس وخمسون بالإجماع ، ومناسبة أولها لآخر السورة التي قبلها ظاهرة فقد قال سبحانه : ثم أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النجم : 57] وهنا اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر : 1] وقال الجلال السيوطي : لا يخفى ما في توالي هاتين السورتين من حسن التناسق للتناسب في التسمية لما بين - النجم ، والقمر - من الملابسة ، وأيضا إن هذه بعد تلك - كالأعراف بعد الأنعام ، وكالشعراء بعد الفرقان ، وكالصافات بعد يس - في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله تعالى : وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ [النجم : 50] إلى قوله سبحانه : وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى [النجم : 53]. (1)
* سورة القمر في السور المكية ، وقد عالجت أصول العقيدة الإسلامية ، وهي من بدئها إلى نهايتها ، حملة عنيفة مفزعة على المكذبين بآيات القرآن ، وطابع السورة الخاص ، هو طابع اللهديد والوعيد ، والإعذار ، والإنذار ، مع صور شتى من مشاهد العذاب والدمار .
* ابتدأت السورة الكريمة بذكر تلك " المعجزة الكونية ، معجزة انشقاق القمر ، التي هي إحدى المعجزات العديدة لسيد البشر ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وذلك حين طلب المشركون منه معجزة جلية ، تدل على صدقه ، وخصصوا بالذكر أن يشق لهم القمر ، ليشهدوا له بالرسالة ، ومع ذلك عاندوا وكابروا [ اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر . . ] الآيات .
* ثم انتقلت للحديث عن أهوال القيامة وشدائدها ، بأسلوب مخيف يهز المشاعر هزا ، ويحرك في النفس الرعب والفزع ، من هول ذلك اليوم العصيب [ فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر ] .
* وبعد الحديث عن كفار مكة ، يأتى الحديث عن مصارع المكذبين ، وما نالهم في الدنيا من ضروب العذاب والدمار ، بدءا بقوم نوح [ كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر .. ] .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 73)(1/1144)
* ثم تلاه الحديث عن الطغاة المتجبرين من الأمم السالفة ، الذين كذبوا الرسل ، فأهلكهم الله إهلاكا فظيعا ، ودمرهم عن بكرة أبيهم ، وقد تحدثت الآيات عن قوم (عاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وقوم فرعون ) وغيرهم من الطغاة المتجبرين بشيء من الإسهاب ، مع تصوير أنواع العذاب [ كذبت عاد فكيف كان عذابى ونذر ؟ إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر .. ] الآيات.
* وبعد عرض هذه المشاهد الأليمة - مشاهد العذاب والنكال - الذي حل بالمكذبين لرسل الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) توجهت السورة إلى مخاطبة قريش ، وحذرتهم مصرعا كهذه المصارع ، بل ما هو أشد وأنكى [ سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر .. ] الآيات .
* وختمت السورة ببيان مال المتقين ، بعد ذكر مال الأشقياء المجرمين ، على طريقة القرآن في الجمع بين (الترغيب ) و(الترهيب ) بأسلوبه العجيب [ إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ] . تفسيرسورة القمر (1)
مقصودها بيان آخر النجم في أمر الساعة من تحققها وشدة قربها وتصنيفرآن والضحك والبكاء والعمل - إلى طالب علم مهتد به ، وإلى متبع نفسه هواها وشهواتها ضال بإهمالها فهو خائب ، وذلك لأنه سبحانه وعد بذلك بإخبار نبيه ( - صلى الله عليه وسلم - ) وتحقق صدقه بما أيده به من آياته التي ثبت بها اقتداره على ما يريد من الإيجاد الإعدام ، فثبت تفرده بالملك وأيد اقترابها بالتاثير في آية الليل بما يدل على الاقتدار على نقض السماوات المستلزم لإهلاك. .. فإن ذلك. .. بأنه ما بقي يدل على الاقتدار على نقض السماوات المستلزم لإهلاك. . فإن ذلك. .. بأنه ما بقي إلا تأثير آية النهار وعندما يكون طي الانتشار وعموم البوار المؤذن بالإحضار لدى الواحد القهار ، وأدل ما فيها على هذا الغرض كله أول آياتها ، فلذلك سميت بما تضمنته من الاقتراب المنجم به النجم بالإشارة لا بالعبارة ، ولم تسم بالانشقاق لأنه إذا أطلق انصرف إلى الأتم ، فالسماء أحق به (2)
هذه السورة من مطلعها إلى ختامها حملة رعيبة مفزعة عنيفة على قلوب المكذبين بالنذر ، بقدر ما هي طمأنينة عميقة وثيقة للقلوب المؤمنة المصدقة. وهي مقسمة إلى حلقات متتابعة ، كل حلقة منها مشهد من مشاهد التعذيب للمكذبين ، يأخذ السياق في ختامها بالحس البشري فيضغطه ويهزه ويقول له : «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟» ..
ثم يرسله بعد الضغط والهز ويقول له : «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟».
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 278)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 339)(1/1145)
ومحتويات السورة الموضوعية واردة في سور مكية شتى. فهي مشهد من مشاهد القيامة في المطلع. ومشهد من هذه المشاهد في الختام. وبينهما عرض سريع لمصارع قوم نوح. وعاد وثمود. وقوم لوط. وفرعون وملئه.
وكلها موضوعات تزخر بها السور المكية في صور شتى ..ولكن هذه الموضوعات ذاتها تعرض في هذه السورة عرضا خاصا ، يحيلها جديدة كل الجدة. فهي تعرض عنيفة عاصفة ، وحاسمة قاصمة يفيض منها الهول ، ويتناثر حولها الرعب ، ويظللها الدمار والفزع والانبهار!
وأخص ما يميزها في سياق السورة أن كلا منها يمثل حلقة عذاب رهيبة سريعة لاهثة مكروبة. يشهدها المكذبون ، وكأنما يشهدون أنفسهم فيها ، ويحسون إيقاعات سياطها. فإذا انتهت الحلقة وبدأوا يستردون أنفاسهم اللاهثة المكروبة عاجلتهم حلقة جديدة أشد هولا ورعبا .. وهكذا حتى تنتهي الحلقات السبعة في هذا الجو المفزع الخانق. فيطل المشهد الأخير في السورة. وإذا هو جو آخر ، ذو ظلال أخرى. وإذا هو الأمن والطمأنينة والسكينة. إنه مشهد المتقين : «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» ..
في وسط ذلك الهول الراجف ، والفزع المزلزل ، والعذاب المهين للمكذبين : «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» ..
فأين وأين؟ مشهد من مشهد؟ ومقام من مقام؟ وقوم من قوم؟ ومصير من مصير؟ (1)
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) الإخبار بقرب مجىء الساعة.
(2) تكذيب المشركين للرسول وقولهم فى معجزاته : إنها سحر مفترى.
(3) غفلتهم عما فى القرآن من الزواجر.
(4) أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عنهم حتى يأتى قضاء اللّه فيهم.
(5) إنذارهم بأنهم سيحشرون أذلاء ناكسى الرءوس مسرعين كأنهم جراد منتشر.
(6) قصص المكذبين من سالفى الأمم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون ، وما لا قوه من الجزاء على تكذيبهم.
(7) توبيخ المشركين على ما هم فيه من الغفلة عن الاعتبار بهذه النذر.
(8) ما يلاقونه من الجزاء فى الآخرة إهانة وتحقيرا لهم.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3424)(1/1146)
(9) بيان أن كل ما فى الوجود فهو بقضاء اللّه وقدره.
(10) نفاذ مشيئة اللّه وسلطانه فى الكون.
(11) بيان أنّ كل أعمال المرء فى كتاب قد خطه الكرام الكاتبون.
(12) ما أوتيه المتقون من الكرامة عند ربهم وما لهم من الزلفى لديه. (1)
==================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (27 / 103)(1/1147)
(55) سورة الرحمن
وردت تسميتها بسورة الرحمن بأحاديث منها ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله قال خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه فقرأ سورة الرحمن الحديث.
وفي تفسير القرطبي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - اتل علي ما أنزل عليك، فقرأ عليه سورة الرحمن، فقال: أعدها، فأعادها ثلاثا، فقال: إن له لحلاوة الخ.
وكذلك سميت في كتب السنة وفي المصاحف.
وذكر في الإتقان : أنها تسمى عروس القرآن لما رواه البيهقي في شعب الإيمان عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " لِكُلِّ شَيْءٍ عَرُوسٌ ، وَعَرُوسُ الْقُرْآنِ الرَّحْمَنُ " (1) . وهذا لا يعدوا أن يكون ثناء على هذه السورة وليس هو من التسمية في شيء كما روي أن سورة البقرة فسطاطا القرآن (2) .
ووجه تسميه هذه السورة بسورة الرحمن أنها ابتدئت باسمه تعالى {الرحمن} [الرحمن:1].
وقد قيل: إن سبب نزولها قول المشركين المحكي في قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60] في سورة الفرقان، فتكون تسميتها باعتبار إضافة سورة إلى الرحمن على معنى إثبات وصف الرحمن.
وهي مكية في قول جمهور الصحابة والتابعين، وروى جماعة عن ابن عباس أنها مدنية نزلت في صلح القضية عندما أبى سهيل بن عمرو أن يكتب في رسم الصلح {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
ونسب إلى ابن مسعود أيضا أنها مدنية. وعن ابن عباس: أنها مكية سوى آية منها هي قوله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] والأصح أنها مكية كلها وهي في مصحف ابن مسعود أول المفصل. وإذا صح أن سبب نزولها قول المشركين {وما الرحمن} تكون نزلت بعد سورة الفرقان.
__________
(1) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (2392 ) وسنده واه
(2) - الظاهر أن معنى : لكل شيء عروس ، أي لكل جنس أو نوع واحد من جنسه يزيد تقول العرب : عرائس الإبل لكرائمها فإن العروس تكون مكرمة مزينة مرعية من جمع الأهل بالخدمة والكرامة. ووصف سورة الرحمن بالعروس تشبيه ما تحتوي عليه من ذكر الحبرة والنعيم في الجنة بالعروس في المسرة والبذخ ، تشبه معقول بمحسوس ومن أمثال العرب : لا عطر بعد عروس على أحد تفسيرين للمثل أو تشبيه ما كثر فيها من تكرير {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بما يكثر على العروس من الحلي في كل ما تلبسه.(1/1148)
وقيل سبب نزولها قول المشركين {إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} المحكي في سورة النحل [103]. فرد الله عليهم بأن الرحمن هو الذي علم النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن.
وهي من أول السور نزولا فقد أخرج أحمد في مسنده بسند جيد عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يسمعون يقرأ {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . وهذا يقتضي أنها نزلت قبل سورة الحجر. وللاختلاف فيها لم تحقق رتبتها في عداد نزول سور القرآن. وعدها الجعبري ثامنة وتسعين بناء على قول بأنها مدنية وجعلها بعد سورة الرعد وقبل سورة الإنسان.
وإذ كان الأصح إنها مكية وأنها نزلت قبل سورة الحج وقبل سورة النحل وبعد سورة الفرقان، فالوجه أن تعد ثالثة وأربعين بعد سورة الفرقان وقبل سورة فاطر.
وعد أهل المدينة ومكة آيها سبعا وسبعين، وأهل الشام والكوفة ثمانا وسبعين لأنهم عدوا الرحمن آية، وأهل البصرة ستا وسبعين.
أغراض هذه السورة
ابتدئت بالتنويه بالقرآن قال في الكشاف : أراد الله أن يقدم في عدد آلائه أول شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه وهي نعمة الدين فقدم من نعمة الدين ما هو أعلى مراتبها وأقصى مراقبها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ثم أتبعه إياه ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان اه.
وتبع ذلك من التنويه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله هو الذي علمه القرآن ردا على مزاعم المشركين الذين ويقولون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]، وردا على مزاعمهم أن القرآن أساطير الأولين أو أنه سحر أو كلام كاهن أو شعر.
ثم التذكير بدلائل قدرة الله تعالى في ما أتقن صنعه مدمجا في ذلك التذكير بما في ذلك كله من نعم الله على الناس.
وخلق الجن وإثبات جزائهم.
والموعظة بالفناء وتخلص من ذلك إلى التذكير بيوم الحشر والجزاء. وختمت بتعظيم الله والثناء عليه.
وتخلل ذلك إدماج التنويه بشأن العدل، والأمر بتوفية أصحاب الحقوق حقوقهم، وحاجة الناس إلى رحمة الله فيما خلق لهم، ومن أهمها نعمة العلم ونعمة البيان، وما أعد من الجزاء للمجرمين ومن الثواب والكرامة للمتقين ووصف نعيم المتقين.(1/1149)
ومن بديع أسلوبها افتتاحها الباهر باسمه {الرحمن} وهي السورة الوحيدة المفتتحة باسم من أسماء الله لم يتقدمه غيره.
ومنه التعداد في مقام الامتنان والتعظيم بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إذ تكرر فيها إحدى وثلاثين مرة وذلك أسلوب عربي جليل كما سنبينه. (1)
مناسبتها لما قبلها
بين سورة « الرحمن » هذه ، والسورة التي قبلها « القمر » ـ أكثر من مناسبة :
فأولا : ختمت سورة « القمر » بهذه الآية : « إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ».. ومن صفات المليك المقتدر ، الرحمة ، لا الجبروت ، شأن المالكين المقتدرين ، وبهذه الرحمة التي وسعت كل شىء أرسل الرسل يدعون عباده إليه ، ويطبّون للآفات والعلل التي أوردتهم موارد الضلال .. فاستجاب كثير منهم ، ووجد السلامة والعافية فى هذه الرحمة المرسلة من اللّه سبحانه على يد رسله .. فكان بدء سورة « الرحمن » بهذا الاسم الكريم موصولا بختام سورة « القمر » ، جاعلا منهما سورة واحدة ..
وثانيا : النظم الذي جاءت عليه سورة « القمر » ، يشابه النظم الذي جاءت عليه سورة « الرحمن » ، من حيث تكرار بعض المقاطع مرات متعددة ..فقد كرو فى سورة « القمر » قوله تعالى : « فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ » أربع مرات ، وكذلك قوله تعالى : « وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ».. كرر أربع مرات أيضا ..
وفى سورة « الرحمن » كرر قوله تعالى « فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ » إحدى وثلاثين مرة!
ففى هذه المتتاليات : « فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ » ثم « وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ » ثم « فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ » ـ فى هذه المتتاليات ، تدرّج من الإنذار والتخويف من عذاب اللّه ، إلى عرض وسيلة النجاة من عذاب اللّه وتيسير الاتصال بها والوصول إليها ، وهى القرآن الكريم. إلى مساءلة هؤلاء المدعوّين إلى كتاب اللّه ، كيف يكذبون بآلاء اللّه ونعمه التي من أعظمها وأجلّها هذا الكتاب الذي يدعون إليه ؟ (2)
مقدمة وتمهيد
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (27 / 214)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 650)(1/1150)
1 - سورة « الرحمن » سميت بهذا الاسم ، لافتتاحها بهذا الاسم الجليل من أسماء اللّه - تعالى - .وقد وردت تسميتها بهذا الاسم في الحديث الذي أخرجه الإمام الترمذي عن جابر بن عبد اللّه قال : خرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه فقرأ عليهم سورة « الرحمن » من أولها إلى آخرها ، فسكتوا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : « لقد قرأتها على الجن ، فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله - تعالى - : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا : ولا بشيء من نعمك يا ربنا نكذب فلك الحمد » « 1 ».
وسميت في حديث مرفوع أخرجه البيهقي عن على بن أبى طالب - رضى اللّه عنه :
« عروس القرآن ».
وقد ذكروا في سبب نزولها ، أن المشركين عند ما قالوا : وَمَا الرَّحْمنُ نزلت هذه السورة لترد عليهم ، ولتثنى على اللّه - تعالى - بما هو أهله.
2 - وهي مكية في قول جمهور الصحابة والتابعين ، وروى عن ابن مسعود وابن عباس أنها مدنية ، وقيل هي مكية إلا قوله - تعالى - : يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ....
قال القرطبي : والقول الأول أصح ، لما روى عن عروة بن الزبير قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد اللّه بن مسعود.
وذلك أن الصحابة قالوا : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط ، فمن رجل يسمعهم إياه؟ فقال ابن مسعود : أنا ، فقالوا : نخشى عليك ، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه ، فأبى ، ثم قام عند المقام فقال : بسم اللّه الرحمن الرحيم. الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ... ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها ، فتأملوا وقالوا : ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا : هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه .. وفي هذا دليل على أنها مكية .. .
والحق أن ما ذهب إليه الإمام القرطبي من كون سورة الرحمن مكية ، هو ما تطمئن إليه النفس ، لأن السورة من أولها إلى آخرها فيها سمات القرآن المكي ، الذي يغلب عليه الحديث المفصل عن الأدلة على وحدانية اللّه وقدرته وعظم نعمه على خلقه ، والمقارنة بين حسن عاقبة الأخبار ، وسوء عاقبة الأشرار ...
3 - وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في المصحف الحجازي ، وست وسبعون في المصحف البصري.
4 - وتبدأ السورة الكريمة بالثناء على اللّه - تعالى - ، ثم بالثناء على القرآن الكريم ، ثم ببيان جانب من مظاهر قدرة اللّه - تعالى - ، ومن جميل صنعه ، وبديع فعله .. قال - تعالى - : الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ. وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ.(1/1151)
5 - وبعد أن ساق - سبحانه - ما ساق من ألوان النعم ، أتبع ذلك ببيان أن كل من على ظهر هذه الأرض مصيره إلى الفناء ، وأن الباقي هو وجه اللّه - تعالى - وحده ... وببيان أهوال القيامة ، وسوء عاقبة المكذبين وحسن عاقبة المؤمنين ..
قال - تعالى - : يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ.
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. ذَواتا أَفْنانٍ.
6 - ثم وصفت ما أعده اللّه - تعالى - للمتقين وصفا يشرح الصدور ، ويقر العيون ، فقد أعد - سبحانه - لهم بفضله وكرمه الحور العين ، والفرش التي بطائنها من إستبرق.
قال - تعالى - : حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ.
وهكذا نرى السورة الكريمة تطوف بنا في آفاق هذا الكون ، فتحكى لنا من بين ما تحكى - جانبا من مظاهر قدرة اللّه - تعالى - ونعمه على خلقه - وتقول في أعقاب كل نعمة (1)
في السورة تنويه بنعم اللّه ومشاهد عظمته في الكون وذاته وإشارة إلى عنايته بالإنسان. وتنديد بالمكذبين وإنذار لهم وتنويه بالمتّقين وبشرى لهم. وبيان ما سوف يلقاه الأولون في الآخرة من هول وعذاب والآخرون من نعيم ورفاه.
والسورة فريدة في أسلوبها النظمي ، كما أنها عرض عام للدعوة مثل السور النازلة في وقت مبكّر كالأعلى والشمس والليل والقارعة والمرسلات.
والطابع المكي قوي البروز عليها ومعظم المفسرين يروون مكيتها عن ابن عباس وغيره (2)
سورة الرّحمن جلّ ذكره مكيّة أو : مدنيّة ، وهي ثمان وسبعون آية.
مكيتها :
سورة الرحمن : في رأي ابن مسعود ومقاتل : مدنية كلها ، وقد كتب في بعض المصاحف أنها مدنية ، والأصح كما ذكر القرطبي وابن كثير والجمهور أنها مكية كلها ، وهو قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس : إلا آية منها هي قوله تعالى : يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية. وهي ثمان وسبعون (78) آية. وعدها بعضهم (76) آية.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 125)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (6 / 89)(1/1152)
ودليل الجمهور والرأي الأصح : ما روى عروة بن الزبير قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود ، وذلك أن الصحابة قالوا : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قطّ ، فمن رجل يسمعوه؟ فقال ابن مسعود : أنا ، فقالوا : إنا نخشى عليك ، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه ، فأبى ، ثم قام عند المقام ، فقال : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ ثم تمادى رافعا بها صوته ، وقريش في أنديتها ، فتأملوا وقالوا : ما يقول ابن أمّ عبد؟ قالوا :هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ، ثم ضربوه ، حتى أثّروا في وجهه. وصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام يصلّي الصبح بنخلة ، فقرأ سورة (الرحمن) ومرّ النفر من الجن ، فآمنوا به.وفي الترمذي عن جابر قال : خرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ، فقرأ عليهم سورة (الرحمن) من أولها إلى آخرها ، فسكتوا ، فقال : «لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجن ، فكانوا أحسن مردودا منكم ، كنت كلما أتيت على قوله :فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا : لا بشيء من نعمك ربّنا نكذب ، فلك الحمد» .
وفي هذا دليل على أنها مكية.
تسميتها :
سميت سورة الرحمن ، لافتتاحها باسم من أسماء اللّه الحسنى وهو (الرحمن) وهو اسم مبالغة من الرحمة ، وهو أشد مبالغة من (الرحيم) وهو المنعم بجلائل النّعم ولجميع الخلق ، أما الرحيم : فهو المنعم بدقائق النعم ، والخاص بالمؤمنين.
قال الإمام الطبري : الرحمن : لجميع الخلق ، والرحيم : بالمؤمنين.
وتسمى أيضا في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم اللّه وجهه مرفوعا (عروس القرآن).
فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «لكل شيء عروس ، وعروس القرآن : سورة الرحمن».
مناسبتها لما قبلها :
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه :
1 - هذه السورة بأسرها شرح وتفصيل لآخر السورة التي قبلها ، ففي سورة القمر بيان إجمالي لأوصاف مرارة الساعة وأهوال النار وعذاب المجرمين ، وثواب المتقين ووصف الجنة وأهلها ، وفي هذه السورة تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال وعلى النحو المذكور من وصف القيامة والنار والجنة.
2 - ذكر اللّه تعالى في السورة السابقة أنواع النقم التي حلت بالأمم السابقة قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، وهنا ذكر أنواع الآلاء والنعم الدينية والدنيوية في الأنفس والآفاق على الناس جميعا. وافتتح السورة السابقة بما يدل على العزة والجبروت والهيبة وهو انشقاق القمر ، وافتتح هذه السورة بما يدل على الرحمة والرحموت وهو إنزال القرآن.(1/1153)
3 - ختمت السورة السابقة ببيان صفتين للّه عز وجل يدلان على الهيبة والرهبة والعظمة وهما (المليك المقتدر) أي ملك عظيم الملك ، قادر عظيم القدرة ، وابتدئت هذه السورة بصفة أخرى بجوار ذلك وهي صفة (الرحمن) وبيان مظاهر رحمته وفضله ونعمه على الإنسان وفي الكون كله سمائه وأرضه ، فهو سبحانه عزيز شديد مقتدر بالنسبة إلى الكفار والفجار ، رحمن منعم غافر للأبرار.
ما اشتملت عليه السورة :
سورة الرحمن كسائر السور المكية المتميزة بقصر آياتها ، وشدة تأثيرها ووقعها ، ومزيد رهبتها ، والمتعلقة بأصول الاعتقاد وهي التوحيد وأدلة القدرة الإلهية ، والنبوة والوحي ، والقيامة وما فيها من جنة ونار ، وآلاء ونعم ، وشدائد وأهوال.
عدّد اللّه تعالى في مطلع السورة آلاءه ونعمه العظمى ، وأولها نعمة الدين والوحي ، وإنزال القرآن وتعليمه عباده به ، فهو النعمة الكبرى ، وسنام الكتب السماوية ومصداقها. ثم أتبعه ببيان خلق الإنسان ليعلم أنه إنما خلقه للدين ، والإفادة من الوحي وكتاب اللّه ، ثم ذكر ما تميز به عن سائر الحيوان من البيان :
وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.
ثم أحصى اللّه تعالى أصول النعم الظاهرة الكبرى في الكون من الشمس والقمر ، والنجم (النبات) والشجر ، والسماء القائمة على التوازن الدقيق ، والأرض ذات الفواكه والثمار والأشجار ، والزروع والرياحين ، مع الإشارة إلى خلق عالم آخر غير مادي ولا ملموس وهو الجنّ.
وأضاف إلى ذلك آية على قدرته الباهرة بالفصل بين البحر المالح والعذب ، وإخراج اللؤلؤ والمرجان من الماء المالح ، كإخراج الحب والعصف والريحان من التراب ، وتسيير السفن في أعالي البحار.
ثم يطوى عالم الكون البديع بالفناء الحتمي ، ولا يبقى سوى الحي القيوم ذي الجلال والإكرام ، ويبدأ بعدئذ عالم القيامة وما فيه من أهوال جسام ، ومصير عصيب للمجرمين ، وزجّ في نيران الجحيم.
ويقابل ذلك المشهد المؤلم مشهد النعيم في جنان الخلد لأهل الإيمان واليمين ، والخوف من مقام اللّه ، وفي تلك الجنان أنواع الأغصان ، والعيون والأنهار ، والفواكه ، والفرش الحريرية الوثيرة والأرائك الخضر ، والحور والولدان ، والخيرات الحسان.
وناسب كل ذلك ختم السورة بتمجيد اللّه عزّ وجلّ ، والثناء عليه ، على ما تفضل به وأنعم على عباده : تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ. (1)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (27 / 191) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (27 / 104)(1/1154)
وهي مكية كلها على الصحيح ، وعدد آياتها ثمانية وسبعون آية ، ولقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام يصلى الصبح بنخلة ، فقرأ سورة « الرحمن » ومر النفر من الجن فآمنوا به ، وفي الترمذي عن جابر قال : خرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليهم سورة « الرحمن » من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال النبي : « لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن ردا منكم كنت كلما أتيت على قوله : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ؟ قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد » .
وروى عن على - رضى اللّه عنه - أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : « لكل شيء عروس ، وعروس القرآن سورة الرحمن » .
وتشتمل هذه السورة على ذكر النعم مبتدئة بذكر القرآن الذي هو أكبر نعمة على الإنسان ، ثم بذكر النعم الكونية في السماء والأرض ، ثم خلق الإنسان والجان ، ثم صفة يوم القيامة ، ثم صفة أهل النار ، ثم ختم السورة ببيان الجنة وما فيها من نعيم أعد للسابقين وأصحاب اليمين. (1)
سورة الرّحمن وسميت في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه مرفوعا «عروس القرآن» ورواه موسى بن جعفر رضي اللّه تعالى عنهما عن آبائه الأطهار كذلك
«وهي مكية» في قول الجمهور ، وأخرج ذلك ابن مردويه عن عبد اللّه بن الزبير وعائشة رضي اللّه تعالى عنهم وابن النحاس عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها نزلت بالمدينة ، وحكي ذلك عن مقاتل ، وحكاه في البحر عن ابن مسعود أيضا ، وحكي أيضا قولا آخر عن ابن عباس وهو أنها مدنية سوى قوله تعالى : يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرحمن : 29] الآية ، وحكي الاستثناء المذكور في جمال القراء عن بعضهم ولم يعينه ، وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي ، وسبع وسبعون في الحجازي ، وست وسبعون في البصري.
ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال الجلال السيوطي : أنه لما قال سبحانه في آخر ما قيل بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر : 46] ثم وصف عز وجل حال المجرمين فِي سَقَرَ [القمر : 48] وحال المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر : 54] فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأ بوصف مرارة الساعة ، والإشارة إلى شدّتها ، ثم وصف النار وأهلها ، ولذا قال سبحانه : يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرحمن : 41] ولم يقل الكافرون ، أو نحوه لاتصاله معنى بقوله تعالى هناك : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ [القمر :
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 579)(1/1155)
47] ثم وصف الجنة وأهلها ولذا قال تعالى فيهم : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وذلك هو عين التقوى ولم يقل ولمن آمن ، أو أطاع ، أو نحوه لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل ويعرف بما ذكر أن هذه السورة كالشرح لآخر السورة قبلها ، وقال أبو حيان في ذلك : إنه تعالى لما ذكر هناك مقر المجرمين في سعر ، ومقر المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر : 54] ذكر سبحانه هنا شيئا من آيات الملك وآثار القدرة ، ثم ذكر جل وعلا مقر الفريقين على جهة الإسهاب إذ كان ذكره هناك على جهة الاختصار ، ولما أبرز قوله سبحانه : عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ بصورة التنكير فكأن سائلا يسأل ويقول من المتصف بهاتين الصفتين الجليلتين؟ فقيل : «الرحمن» إلخ ، والأولى عندي أن يعتبر في وجه المناسبة أيضا ما في الإرشاد وهو أنه تعالى لما عدد في السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم اللّه عز وجل ، وبيّن عقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس واتعاظهم ونعى عليهم إعراضهم عن ذلك عدد في هذه السورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية والآفاقية وأنكر عليهم أثر كل فن منها إخلالهم بمواجب شكرها ، وهذا التكرار أحلى من السكر إذ تكرر ، وفي الدرر والغرر لعلم الهدى السيد المرتضى التكرار في سورة «الرحمن» إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة ، فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ فيحسن فيه التكرير لاختلاف ما يقرر به وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم كقول مهلهل يرثي كليبا :
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب إذا رجف العضاه من الدبور
على أن ليس عدلا من كليب إذا خرجت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما أعلنت نجوى الأمور
على أن ليس عدلا من كليب إذا خيف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلا من كليب غداة تأثل الأمر الكبير
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما خار جأش المستجير
ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ولولا خوف الملل لأوردتها ، ولا يرد على ما ذكره أن هذه الآية قد ذكرت بعد ما ليس نعمة لما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى في محله ، وقسم في الإتقان التكرار إلى أقسام ، وذكر أن منه ما هو لتعدد المتعلق بأن يكون المكرر ثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول ثم قال : وهذا القسم يسمى بالترديد وجعل منه قوله تعالى :(1/1156)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من سورة الرحمن فإنها وإن تكررت إحدى وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها ولذلك زادت على ثلاثة ولو كان الجميع عائدا على شيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يزيد عليها كما قال ابن عبد السلام وغيره ، وهو حسن إلا أنه نظر في إطلاق قوله : إن التأكيد إلخ بأن ذلك في التأكيد الذي تابع أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع وإن لزم منه التأكيد فافهم (1)
* سورة الرحمن من السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية ، وهي كالعروس بين سائر السور الكريمة ، ولهذا ورد في الحديث الشريف : (لكل شيء عروس ، وعروس القرآن سورة الرحمن ) .
* ابتدأت السورة بتعديد ألاء الله الباهرة ، ونعمه الكثيرة الظاهرة على العباد ، التي لا يحصيها عد ، وفي مقدمتها نعمة (تعليم القرآن ) بوصفه المنة الكبرى على الإنسان ، تسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته وتعليمه البيان [ آلرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ] .
* ثم فتحت السورة صحائف الوجود ، الناطقة بآلاء الله الجليلة ، وآثاره العظيمة التي لا تخص : الشمس والقمر ، والنجم والشجر ، والسماء المرفوعة بلا عمد ، وما فيها من عجائب القدرة ، وغرائب الصنعة ، والأرض التي بث فيها من أنواع الفواكه ، والزروع ، والثمار ، رزقا للبشر [ الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان .. ] الآيات .
* وتحدثت السورة عن دلانل القدرة الباهرة في تسيير الأفلاك ، وتسخير السفن الكبيرة تمخر عباب البحار ، وكأنها الجبال الشاهقة عظمة وضخامة ، وهى تجري فوق سطح الماء ، بقدرة خالق السماء [ وله الجوار المنشات في البحر كالأعلام . . ] الآيات .
* ثم بعد ذلك الاستعراض السريع لصفحة الكون المنظور ، تطوى صفحات الوجود ، وتتلاشى الخلائق بأسرها ، فيلفها شبح الموت الرهيب ، ويطويها الفناء ، ولا يبقى إلا الحي القيوم ، متفردا بالبقاء [ كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ] .
* وتناولت السورة أهوال القيامة ، فتحدثت عن حال الأشقياء المجرمين ، وما يلاقونه من الفزع والشدائد ، في ذلك اليوم العصيب [ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام ] الآيات.
* وبعد الحديث عن مشهد العذاب للمجرمين ، تناولت السورة مشهد النعيم للمتقين ، في شيء من الإسهاب والتفصيل ، حيث يكونون في الجنان مع الحور والولدان [ ولمن خاف مقام ربه جنتان ] الآيات.
__________
(1) روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 96)(1/1157)
* وختمت السورة بتمجيد الله جل وعلا والثناء عليه ، على ما أنعم على عباده من فنون النعم والإكرام ، وهو أنسب ختام لسورة الرحمن [ تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ] وهكذا يتناسق البدء مع الختام فى أروع صور البيان !! . (1)
مقصودها الدلالة على كا ختمت به سورة من عظيم الملك وتمام الاقتدار بعموم رحمته وسبقها لغضبه ، المدلول عليه بكمال علمه ، اللازم عنه شمول قدرته ، المدلول عليه بتفصيل عجائب مخلوقاته وبدائع مصنوعاته في اسلوب التذكيرلا بنعماته ، والامتنان بجزيل آلائه ، على وجه منتج للعلم بإحاطته بجميع أوصاف الكمال ، فمقصودها بالذات إثبات الاتصاف بعموم الرحمة ترغيبا في إنعامه وإحسانه ، وترهيبا من انتقامه بقطع مزيد امتنانه ، وعلى ذلك دل اسمها الرحمن لأنه العام الامتنان واسمها عروس القرآن واضح البيان في ذلك ، لأنها الحاوية لما فيه من حلى وحلل ، وجواهر وكلل ، والعروس بجميع النعم والجمال ، والبهجة من نوعها والكمال ) بسم الله ( الذي ظهرت إحاطة كماله بما ظهر من عجائب مخلوقاته (2)
هذه السورة المكية ذات نسق خاص ملحوظ. إنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير ، وإعلام بآلاء اللّه الباهرة الظاهرة ، في جميل صنعه ، وإبداع خلقه وفي فيض نعمائه وفي تدبيره للوجود وما فيه وتوجه الخلائق كلها إلى وجهه الكريم .. وهي إشهاد عام للوجود كله على الثقلين : الإنس والجن المخاطبين بالسورة على السواء ، في ساحة الوجود ، على مشهد من كل موجود ، مع تحديهما إن كانا يملكان التكذيب بآلاء اللّه ، تحديا يتكرر عقب بيان كل نعمة من نعمه التي يعددها ويفصلها ، ويجعل الكون كله معرضا لها ، وساحة الآخرة كذلك.
ورنة الإعلان تتجلى في بناء السورة كله ، وفي إيقاع فواصلها .. تتجلى في إطلاق الصوت إلى أعلى ، وامتداد التصويت إلى بعيد كما تتجلى في المطلع الموقظ الذي يستثير الترقب والانتظار لما يأتي بعد المطلع من أخبار ..
الرحمن .. كلمة واحدة. مبتدأ مفردا .. الرحمن كلمة واحدة في معناها الرحمة ، وفي رنتها الإعلان ، والسورة بعد ذلك بيان للمسات الرحمة ومعرض لآلاء الرحمن.
ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان. تسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته وتعليمه البيان.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 286)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 371)(1/1158)
ثم يذكر خلق الإنسان ، ومنحه الصفة الإنسانية الكبرى .. البيان ..
ومن ثم يفتح صحائف الوجود الناطقة بآلاء اللّه .. الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء المرفوعة. والميزان الموضوع. والأرض وما فيها من فاكهة ونخل وحب وريحان. والجن والإنس. والمشرقان والمغربان. والبحران بينهما برزخ لا يبغيان ، وما يخرج منهما وما يجري فيهما.
فإذا تم عرض هذه الصحائف الكبار. عرض مشهد فنائها جميعا. مشهد الفناء المطلق للخلائق ، في ظل الوجود المطلق لوجه اللّه الكريم الباقي. الذي إليه تتوجه الخلائق جميعا ، ليتصرف في أمرها بما يشاء.
وفي ظل الفناء المطلق والبقاء المطلق يجيء التهديد المروع والتحدي الكوني للجن والإنس : «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا. لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ، يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟» ..
ومن ثم يعرض مشهد النهاية. مشهد القيامة. يعرض في صورة كونية. يرتسم فيها مشهد السماء حمراء سائلة ، ومشهد العذاب للمجرمين ، والثواب للمتقين في تطويل وتفصيل.
ثم يجيء الختام المناسب لمعرض الآلاء : «تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» ..
إن السورة كلها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير. إعلان ينطلق من الملأ الأعلى ، فتتجاوب به أرجاء الوجود.
ويشهده كل من في الوجود وكل ما في الوجود .. (1)
=================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3445)(1/1159)
(56) سورة الواقعة
سميت هذه السورة الواقعة بتسمية النبي ( - صلى الله عليه وسلم - )
روى الترمذي عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : ( يا رسول الله قد شبتَ ، قال : شيبْتني هودٌ ، والواقعة ، والمرسلات ، وعمَّ يتساءلون ، وإذا الشمس كورت ) وقال الترمذي : حديث حسن غريب .
وروى ابن وهب والبيهقي عن عبد الله بن مسعود بسند ضعيف أنه سمع رسول الله يقول : ( من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تُصبه فاقة أبداً ) ، وكذلك سمّيت في عصر الصحابة . روى أحمد عن جابر بن سَمرة قال : ( كان رسول الله يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور ) .
وهكذا سميت في المصاحف وكتب السنة فلا يعرف لها اسم غير هذا .
وهي مكية قال ابن عطية : ( بإجماع من يعتدَ به من المفسرين . وقيل فيها آيات مدنية ، أي نزلت في السفر ، وهذا كله غير ثابت ) اه . وقال القرطبي : عن قتادة وابن عباس استثناء قوله تعالى : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( ( الواقعة : 82 ) نزلت بالمدينة .
وقال الكلبي : إلا أربع آيات : اثنتان نزلتا في سفر النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلى مكة وهما ) أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( ( الواقعة : 81 ، 82 ) ، واثنتان نزلتا في سفره إلى المدينة وهما ) ثُلة من الأولين وثلة من الآخرين ( ( الواقعة : 39 ، 40 ) وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنها نزلت في غزوة تبوك .
وهي السورة السادسة والأربعون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة طه وقبل سورة الشعراء .
وقد عدّ أهل المدينة ومكة والشام آيها تسعاً وتسعين وعدها أهل البصرة سبعاً وتسعين وأهل الكوفة ستاً وتسعين .
وهذه السورة جامعة للتذكير قال مسروق : ( من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار ونبأ أهل الدنيا ونبأ أهل الآخرة فليقرأ سورة الواقعة ) اه
أغراض هذه السورة:
التذكيرُ بيوم القيامة, وتحقيقُ وقوعه.
ووصفُ ما يعرض لهذا العالمِ الأَرضيِّ عند ساعة القيامة.
ثم صفةُ أهلِ الجنةِ وبعضِ نعيمهم.(1/1160)
وصفةُ أهل النار وما هم فيه من العذاب وأن ذلك لتكذيبهم بالبعث.
وإثباتُ الحشرِ والجزاءِ, والاستدلالُ على إمكان الخلق الثاني بما أبدعه الله من الموجودات بعد أن لم تكن.
والاستدلالُ بدلائل قدرة الله _تعالى_ والاستدلالُ بنزع اللهِ الأرواحَ من الأجساد والناسُ كارهون لا يستطيع أحدٌ مَنْعَها من الخروج على أن الذي قَدِرَ على نزعها بدون مُدافِعٍ قادرٌ على إرجاعها متى أراد أن يميتهم.
وتأكيدُ أن القرآن مُنَزَّل من عند الله, وأنه نعمةٌ أنعم الله بها عليهم, فلم يشكروها, وكذبوا بما فيه. (1)
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة « الرحمن » السابقة على هذه السورة معرضا جامعا لآلاء اللّه سبحانه وتعالى على عباده ، من جنّ وإنس ، ابتداء من خلقهم ، وعلى امتداد مسيرتهم فى الحياة الدنيا ، وتقبلهم فى شئونها ، إلى موتهم ، وبعثهم ، وحسابهم ، وإنزالهم منازلهم ـ حسب أعمالهم ـ فى الجنّة أو النار ..وقد تضمنت السورة ـ سورة « الرحمن » ـ عرضا مبسوطا ، مفصّلا لنعيم الجنّة ، ومنازل أهلها من هذا النعيم ، حسب أعمالهم كذلك ـ فجاءت سورة الواقعة ، مبتدئة بالكشف عن وجه يوم الجزاء ، وأنه واقع لا شك فيه ..ثم جاءت بعد هذا لتؤكّد ما تقرر فى سورة « الرحمن » من اختلاف أحوال الناس ، فى هذا اليوم ، وتباين درجاتهم .. فى الجنة ، ودركاتهم فى النار. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الواقعة » هي السورة السادسة والخمسون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول ، فقد كان نزولها بعد سورة « طه » وقبل سورة « الشعراء ».
وقد عرفت بهذا الاسم منذ عهد النبوة ، فعن ابن عباس قال : قال أبو بكر - رضى اللّه عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول اللّه قد شبت. قال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت.
وعن عبد اللّه بن مسعود - رضى اللّه عنه - قال : سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا ... » .
2 - وعدد آياتها ست وتسعون آية عند الكوفيين. وسبع وتسعون عند البصريين ، وتسع وتسعون عند الحجازيين والمدنيين.
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (27 / 279)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 703)(1/1161)
3 - وسورة « الواقعة » من السور المكية الخالصة ، واستثنى بعضهم بعض آياتها ، وعدها من الآيات المدنية ، ومن ذلك قوله - تعالى - : ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ.
وقوله - سبحانه - : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ... إلى قوله - تعالى - :
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
والذي تطمئن إليه النفس أن السورة كلها مكية ، وأن ما استثنى منها لم يقم دليل يعتد به على صحته.
4 - وقد افتتحت سورة « الواقعة » بالحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن أقسام الناس في هذا اليوم ..قال - تعالى - : وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ، فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ، وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ....
5 - وبعد أن فصل - سبحانه - الحديث عن كل قسم من هذه الأقسام ، وبين ما أعد له من جزاء عادل ... أتبع ذلك بالحديث عن مظاهر قدرته ، وسعة رحمته ، وعظيم فضله ، فقال - تعالى - : نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ. أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ....أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ....
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ.
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ.
6 - وكما افتتحت السورة الكريمة ببيان أهوال يوم القيامة ، وبيان أنواع الناس في هذا اليوم .. اختتمت - أيضا - بالحديث عن أقسام الناس يوم الحساب ، وعاقبة كل قسم ، قال - تعالى - : فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ، إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.
7 - هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة ، يراها قد ساقت بأسلوب بليغ مؤثر ، ما يحمل الناس على حسن الاستعداد ليوم القيامة ، عن طريق الإيمان العميق ، والعمل الصالح ، وما يبين لهم عن طريق المشاهدة مظاهر قدرة اللّه - تعالى - ووحدانيته ، وما يكشف لهم النقاب عن أقسام الناس في يوم الحساب ، وعن عاقبة كل قسم ، وعن الأسباب التي وصلت بكل قسم منهم إلى ما وصل إليه من جنة أو نار ..
وما يريهم عجزهم المطلق أمام قدرة اللّه - تعالى - وأمام قضائه وقدره .. فهم يرون بأعينهم أعز إنسان عندهم ، تنتزع روحه من جسده .. ومع ذلك فهم عاجزون عن أن يفعلوا شيئا ..وصدق اللّه إذ يقول :(1/1162)
فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ. فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ .. (1)
في السورة توكيد بحقيقة الآخرة ووصف لمنازل الناس فيها. وحكاية لأقوال المكذبين لها ، وردّ وتحدّ وتقريع لهم ، وبرهنة على عظمة اللّه وقدرته على بعث الناس ثانية كما خلقهم أولا وتنويه بالقرآن وخطورة شأنه.
وآيات السورة منسجمة مترابطة متوازنة مما يدل على وحدة نزولها. وفي فاتحتها ما يمكن أن يكون قرينة على صحة نزولها بعد سورة طه.
وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيتين [81 ، 82] مدنيتان. وهما منسجمتان سبكا وموضوعا مع ما قبلهما وما بعدهما مما يحمل على الشك في الرواية. (2)
سورة الواقعة مكيّة ، وهي ست وتسعون آية.
تسميتها : سميت سورة الواقعة ، لافتتاحها بقوله تعالى : إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي إذا قامت القيامة التي لا بدّ من وقوعها.
مناسبتها لما قبلها :
تتصل هذه السورة بسورة الرحمن ، وتتآخى معها من وجوه :
1 - في كل من السورتين وصف القيامة والجنة والنار.
2 - ذكر تعالى في سورة الرحمن أحوال المجرمين وأحوال المتقين في الآخرة وبيّن أوصاف عذاب الأولين في النار ، وأوصاف نعيم الآخرين في الجنان ، وفي هذه السورة أيضا ذكر أحوال يوم القيامة وأهوالها وانقسام الناس إلى ثلاث طوائف : هم أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقون ، فتلك السورة لإظهار الرحمة ، وهذه السورة لإظهار الرهبة ، على عكس تلك السورة مع ما قبلها.
3 - ذكر تعالى في سورة الرحمن انشقاق السماء (تصدعها) وذكر هنا رجّ الأرض ، فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما في الموضوع سورة واحدة ، ولكن مع عكس الترتيب ، فذكر في أول هذه السورة ما ذكره في آخر تلك ، وفي آخر هذه ما في أول تلك.
فافتتح سورة الرحمن بذكر القرآن ثم الشمس والقمر ، ثم النبات ، ثم خلق الإنسان والجان من نار ، ثم صفة يوم القيامة ، ثم صفة النار ، ثم صفة الجنة ، وابتدئت هذه السورة بوصف القيامة وأهوالها ، ثم صفة
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 155)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (3 / 225)(1/1163)
الجنة ، ثم صفة النار ، ثم خلق الإنسان ، ثم النبات ، ثم الماء ، ثم النار ، ثم النجوم التي لم يذكرها في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر ، ثم القرآن ، فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك.
ما اشتملت عليه السورة :
ابتدأت السورة بالحديث عن اضطراب الأرض وتفتت الجبال حين قيام الساعة ، ثم صنفت الناس عند الحساب أقساما ثلاثة : أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقين ، وأخبرت عن مآل كل فريق وما أعده اللّه لهم من الجزاء العادل يوم القيامة.
وأوضحت أن الأولين والآخرين من الخلائق مجتمعون في هذا اليوم.
ثم أقامت الأدلة على وجود اللّه الخالق ووحدانيته وكمال قدرته ، وإثبات البعث والنشور والحساب ، من خلق الإنسان ، وإخراج النبات ، وإنزال الماء ، وخلق قوة الإحراق في النار.
ثم أقسم اللّه عزّ وجلّ بمنازل النجوم على صدق تنزيل القرآن من ربّ العالمين ، وأنه كان في كتاب مكنون ، لا يمسه إلا المطهرون ، وندد بالتشكيك في صحته وصدقه.
ولفت اللّه تعالى النظر إلى ما يلقاه الإنسان عند الاحتضار من شدائد وأهوال. وختمت السورة ببيان عاقبة الطوائف الثلاث وما يجدونه من جزاء ، وهم المقرّبون الأبرار ، السابقون إلى خيرات الجنان ، وأهل اليمين السعداء ، والمكذّبون الضالون أهل الشقاوة ، وأن هذا الجزاء حق ثابت متيقن لا شك فيه.
وكل ذلك يستدعي الإقرار بوجود الخالق وتنزيهه عما لا يليق به من الشرك ونحوه ، وتوبيخ المكذبين على إنكار وجود اللّه تعالى وتوحيده. (1)
وهي مكية على الصحيح ، وعدد آياتها سبع وتسعون آية وقد ورد في فضلها آثار كثيرة ، منها حديث ابن مسعود قال : سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا »
وروى عن أنس عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : « سورة الواقعة سورة الغنى فاقرأوها وعلموها أولادكم »
ويمكن أن نفهم أنها سورة تحبب في العمل للآخرة ، والعزوف عن الدنيا فتولد بها القناعة والرضاء وهما الغنى والسعادة.
وتشتمل على الكلام على القيامة وأحوالها ، ثم بيان ما أعد للمؤمنين السابقين وأصحاب اليمين في الجنة ، ثم ما أعد لأصحاب الشمال في النار ، ثم ذكرت خلق الإنسان ، والنبات والماء ، والنار ، ثم ذكرت النجوم والميزان إلى غير ذلك من دلائل القدرة ، وآيات البعث والقوة. (2)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (27 / 237) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (27 / 130)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 593)(1/1164)
«مكية» كما أخرجه البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس وابن مردويه عن ابن الزبير ، واستثنى بعضهم قوله تعالى : ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة : 39 ، 40] كما حكاه في الإتقان وكذا استثني قوله سبحانه : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ إلى تُكَذِّبُونَ [الواقعة : 75 ، 82] لما أخرجه مسلم في سبب نزوله وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ، وفي مجمع البيان حكاية استثناء قوله تعالى : وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة : 82] عن ابن عباس وقتادة وعدد آيها تسع وتسعون في الحجازي والشامي ، وسبع وتسعون في البصري ، وست وتسعون في الكوفي ، وتفصيل ذلك فيما أعد لمثله ، وهي وسورة الرحمن متواخية في أن في كل منهما وصف القيامة والجنة والنار ، وقال في البحر : مناسبتها لما قبلها أنه تضمن العذاب للمجرمين والنعيم للمؤمنين ، وفاضل سبحانه بين جنتي بعض المؤمنين وجنتي بعض آخر منهم فانقسم المكلفون بذلك إلى كافر ومؤمن فاضل ومؤمن مفضول وعلى هذا جاء ابتداء هذه السورة من كونهم أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين ، وقال بعض الأجلة انظر إلى اتصال قوله تعالى : إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الواقعة : 10] بقوله سبحانه : فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ [الرحمن : 37] وأنه اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء ، وفي الواقعة على ذكر رج الأرض فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة فذكر في كل شيء ، وقد عكس الترتيب فذكر في أول هذه ما في آخر تلك وفي آخر هذه ما في أول تلك فافتتح في سورة الرحمن بذكر القرآن ، ثم ذكر الشمس والقمر ، ثم ذكر النبات ، ثم خلق الإنسان والجان ، ثم صفة يوم القيامة ، ثم صفة النار ، ثم صفة الجنة ، وهذه ابتداؤها بذكر القيامة ، ثم صفة الجنة ، ثم صفة النار ثم خلق الإنسان ، ثم النبات ، ثم الماء ، ثم النار ، ثم ذكرت النجوم ولم تذكر في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر ، ثم ذكر الميزان فكانت هذه كالمقابلة لتلك وكالمتضمنة لرد العجز على الصدر ، وجاء في فضلها آثار. (1)
* تشتمل هذه السورة الكريمة على أحوال يوم القيامة ، وما يكون بين يدي الساعة من أهوال ، وانقسام الناس إلى ثلاث طوائف (أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقون إلى منازل السعداء) .
* وقد تحدثت السورة عن مآل كل فريق ، وما أعده الله تعالى لهم من الجزاء العادل يوم الدين ، كما أقامت الدلائل على وجود الله ووحدانيته ، وكمال قدرته في بديع خلقه وصنعه ، في خلق الإنسان ، وإخراج النبات ، وإنزال الماء ، وما أودعه الله من القوة في النار .. ثم نوهت بذكر القرآن العظيم ، وأنه تنزيل رب العالمين ، وما يلقاه الإنسان عند الاحتضار من شدائد وأهوال .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 128)(1/1165)
* وختمت السورة بذكر الطوائف الثلاث وهم أهل السعادة ، وأهل الشقاوة ، والسابقون إلى الخيرات من أهل النعيم ، وبينت عاقبة كل منهم ، فكان ذلك كالتفصيل لما ورد في أول السورة من إجمال ، والإشادة بذكر مآثر المقربين في البدء والختام . (1)
مقصودها شرح أحوال الأقسام الثلاثة المذكورة في الرحمن للأولياء من السابقين واللاحقين والأعداء المشاققين من المصارحين والمنافقين من الثقلين للدلالة على تمام القدرة بالفعل بالاختيار الذي دل عليه آخر الرحمن بإثبات الكمال ودل عليه آخر هذه بالتنزيه بالنفي لكل شيء به نقص ثم الإثبات بوصف العظمة بجميع الكمال من الجمال والجلال ، ولو استوى الناس لم يكن ذلك من بليغ الحكمة ، فإن استواءهم يكون شبهة لأهل الطبيعة ، واسمها الواقعة دال على ذلك بتأمل آياته وما يتعلق الظرف به ) بسم الله ( الذي له الكمال كله ففاوت بين الناس في الأحوال ) الرحمن ( الذي عم بنعمة البيان وفاضل قبولها بين أهل الإدبار وأهل الإقبال (2)
الواقعة .. اسم للسورة وبيان لموضوعها معا. فالقضية الأولى التي تعالجها هذه السورة المكية هي قضية النشأة الآخرة ، ردا على قولة الشاكين فيها ، المشركين باللّه ، المكذبين بالقرآن : «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟» ..
ومن ثم تبدأ السورة بوصف القيامة. وصفها بصفتها التي تنهي كل قول ، وتقطع كل شك ، وتشعر بالجزم في هذا الأمر .. الواقعة .. «إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ» .. وتذكر من أحداث هذا اليوم ما يميزه عن كل يوم ، حيث تتبدل أقدار الناس ، وأوضاع الأرض ، في ظل الهول الذي يبدل الأرض غير الأرض ، كما يبدل القيم غير القيم سواء : «خافِضَةٌ رافِعَةٌ .. إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا. وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ... إلخ».
ثم تفصل السورة مصائر هذه الأزواج الثلاثة : السابقين وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. وتصف ما يلقون من نعيم وعذاب وصفا مفصلا أوفى تفصيل ، يوقع في الحس أن هذا أمر كائن واقع ، لا مجال للشك فيه ، وهذه أدق تفصيلاته معروضة للعيان. حتى يرى المكذبون رأي العين مصيرهم ومصير المؤمنين. وحتى يقال عنهم هنالك بعد وصف العذاب الأليم الذي هم فيه : «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ. وَكانُوا يَقُولُونَ : أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» .. وكأن العذاب هو الحاضر والدنيا هي الماضي الذي يذكر للترذيل والتقبيح. ترذيل
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 296)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 402)(1/1166)
حالهم في الدنيا وتقبيح ما كانوا عليه من تكذيب! وبهذا ينتهي الشوط الأول من السورة. ويبدأ شوط جديد يعالج قضية العقيدة كلها ، متوخيا توكيد قضية البعث التي هي موضوع السورة الأول بلمسات مؤثرة ، يأخذ مادتها وموضوعها مما يقع تحت حس البشر ، في حدود المشاهدات التي لا تخلو منها تجربة إنسان ، أيا كانت بيئته ، ودرجة معرفته وتجربته.
يعرض نشأتهم الأولى من منيّ يمنى. ويعرض موتهم ونشأة آخرين مثلهم من بعدهم في مجال التدليل على النشأة الأخرى ، التي لا تخرج في طبيعتها ويسرها عن النشأة الأولى ، التي يعرفونها جميعا.
ويعرض صورة الحرث والزرع ، وهو إنشاء للحياة في صورة من صورها. إنشاؤها بيد اللّه وقدرته. ولو شاء اللّه لم تنشأ ، ولو شاء لم تؤت ثمارها.
ويعرض صورة الماء العذب الذي تنشأ به الحياة كلها. وهو معلق بقدرة اللّه ينزله من السحائب. ولو شاء جعله ملحا أجاجا ، لا ينبت حياة ، ولا يصلح لحياة.
وصورة النار التي يوقدون ، وأصلها الذي تنشأ منه .. الشجر .. وعند ذكر النار يلمس وجدانهم منذرا.
ويذكرهم بنار الآخرة التي يشكون فيها.وكلها صور من مألوفات حياتهم الواقعة ، يلمس بها قلوبهم ، ولا يكلفهم فيها إلا اليقظة ليد اللّه وهي تنشئها وتعمل فيها.
كذلك يتناول هذا الشوط قضية القرآن الذي يحدثهم عن «الواقعة» فيشكون في وعيده. فيلوح بالقسم بمواقع النجوم ، ويعظم من أمر هذا القسم لتوكيد أن هذا الكتاب هو قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ، وأنه تنزيل من رب العالمين.
ثم يواجههم في النهاية بمشهد الاحتضار. في لمسة عميقة مؤثرة. حين تبلغ الروح الحلقوم ، ويقف صاحبها على حافة العالم الآخر ويقف الجميع مكتوفي الأيدي عاجزين ، لا يملكون له شيئا ، ولا يدرون ما يجري حوله ، ولا ما يجري في كيانه. ويخلص أمره كله للّه ، قبل أن يفارق هذه الحياة. ويرى هو طريقه المقبل ، حين لا يملك أن يقول شيئا عما يرى ولا أن يشير! ثم تختم السورة بتوكيد الخبر الصادق ، وتسبيح اللّه الخالق : «إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» .. فيلتئم المطلع والختام أكمل التئام .. (1)
خلاصة موضوعات هذه السورة
(1) اضطراب الأرض وتفتت الجبال حين قيام الساعة.
(2) إن الناس عند الحساب أزواج ثلاثة ، وذكر مآل كل زوج منها.
(3) اجتماع الأولين والآخرين فى هذا اليوم.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3461)(1/1167)
(4) إقامة الأدلة على وجود الخالق.
(5) إقامة البرهانات على البعث والنشور والحساب.
(6) إثبات أن هذه الأخبار حق لا شك فيها.
(7) تبكيت المكذبين على إنكار الخالق. (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (27 / 156)(1/1168)
(57) سورة الحديد
هذه السورة تسمى من عهد الصحابة ( سورة الحديد ) ، فقد وقع في حديث إسلام عمر بن الخطاب عند الطبراني والبزار أن عمر دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أولُ سورة الحديد فقرأه حتى بلغ ) آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فأسلم ، وكذلك سُميت في المصاحف وفي كتب السنة ، لوقوع لفظ الحديد فيها في قوله تعالى : وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ( ( الحديد : 25 ) .
وهذا اللفظ وإن ذُكر في سورة الكهف في قوله تعالى : ( آتوني زبر الحديد وهي سابقة في النزول على سورة الحديد على المختار ، فلم تسم به لأنها سميت باسم الكهف للاعتناء بقصة أهل الكهف ، ولأن الحديد الذي ذكر هنا مراد به حديد السلاح من سيوف ودروع وخُوذ ، تنويهاً به إذ هو أثر من آثار حكمة الله في خلق مادته وإلهام الناس صنعه لتحصل به منافع لتأييد الدين ودفاع المعتدين كما قال تعالى : فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ( ( الحديد : 25 ) .
وفي كون هذه السورة مدنية أو مكية اختلاف قوي لم يختلَف مثلَه في غيرها ، فقال الجمهور : مدنية . وحَكى ابن عطية عن النقاش : أن ذلك إجماع المفسرين ، وقد قيل : إن صدرها مكي لما رواه مسلم في ( صحيحه ) والنسائي وابنُ ماجه عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ( ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ) ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله إلى قوله : وكثير منهم فاسقون ( ( الحديد : 16 ) إلا أربع سنين . عبد الله بن مسعود من أول الناس إسلاماً ، فتكون هذه الآية مكية .
وهذا يعارضه ما رواه ابن مردويه عن أنس وابننِ عباس : أن نزول هذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة من ابتداء نزول القرآن ، فيصار إلى الجمع بين الروايتين أو الترجيح ، ورواية مسلم وغيره عن ابن مسعود أصح سنداً ، وكلامُ ابن مسعود يرجّح على ما رُوي عن أنس وابن عباس لأنه أقدم إسلاماً وأعلم بنزول القرآن ، وقد علمت آنفاً أن صدر هذه السورة كان مقروءاً قبل إسلام عمر بن الخطاب . قال ابن عطية ( يشبه صدرها أن يكون مكياً والله أعلم ، ولا خلاف أن فيها قرآناً مدنياً )اه (1) .
وروي أن نزولها كان يوم ثلاثاء؛ استناداً إلى حديث ضعيف رواه الطبراني عن ابن عمر ورواه الديلمي عن جابر بن عبدالله.
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (27 / 353)(1/1169)
وأقول: الذي يظهر أن صدرها مكي كما توسمه ابن عطية، وأن ذلك ينتهي إلى قوله: [وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ] وأن ما بعد ذلك بعضه نزل بالمدينة _كما تقتضيه معانيه مثل حكاية أقوال المنافقين_ وبعضه نزل بمكة مثل آية: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا] الآيةَ، كما في حديث مسلم.
ويشبه أن يكون آخر السورة قوله: [إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] نزل بالمدينة ألحق بهذه السورة بتوقيف من النبي"في خلالها أو في آخرها.
قلت: وفيها آية: [لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ] الآية، وسواء كان المراد بالفتح في تلك الآية فتح مكة أو فتح الحديبية فإنه أطلق عليه اسم الفتح وبه سميت (سورة الفتح) فهي متعينة؛ لأن تكون مدنية؛ فلا ينبغي الاختلاف في أن معظم السورة مدني.
وروي أن نزولها كان يوم الثلاثاء استناداً إلى حديث ضعيف رواه الطبراني عن ابن عمر ورواه الديلمي عن جابر بن عبدالله.
وقد عدت السورة الخامسة والتسعين في ترتيب نزول السور؛ جرياً على قول الجمهور: إنها مدنية فقالوا: نزلت بعد سورة الزلزال، وقبل سورة القتال، وإذا روعي قول ابن مسعود: إنها نزلت بعد البعثة بأربع سنين، وما روي من أن سبب إسلام عمر بن الخطاب أنه قرأ صحيفة لأخته فاطمة فيها صدر سورة الحديد _ لم يستقم هذا العد؛ لأن العبرة بمكان نزول صدر السورة لا نزول آخرها، فيشكل موضعها في عد نزول السورة.
وعلى قول ابن مسعود يكون ابتداء نزولها آخر سنة أربع من البعثة، فتكون من أقدم السور نزولاً، فتكون نزلت قبل سورة الحجر وطه، وبعد غافر؛ فالوجه أن معظم آياتها نزل بعد سورة الزلزال.
وعدت آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام ثماناً وعشرين، وفي عد أهل البصرة والكوفة تسعاً وعشرين.
وورد في فضلها مع غيرها من السور المفتتحة بالتسبيح ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن العرباض بن سارية: =أن النبي " كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول: =إن فيهن آيةً أفضل من ألف آية.وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
وظن ابن كثير أن الآية المشار إليها في حديث العرباض هي قوله _تعالى_: [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] لما ورد في الآثار من كثرة ذكر رسول الله " إياها.
أغراضها:
الأغراضُ التي اشتملت عليها هذه السورة: التذكيرُ بجلال الله _تعالى_ وصفاتِه العظيمة، وسعةِ قدرته وملكوته، وعمومِ تصرفه، ووجوبِ وجوده، وسعةِ علمه، والأمرُ بالإيمان بوجوده، وبما جاء به رسوله"، وما أنزل عليه من الآيات البينات.(1/1170)
والتنبيهُ لما في القرآن من الهُدى وسبيلِ النجاة، والتذكيرُ برحمة الله ورأفته بخلقه.
والتحريضُ على الإنفاق في سبيل الله، وأن المالَ عرضٌ زائل لا يبقى منه لصاحبه إلا ثوابُ ما أنفق منه في مرضاة الله.
والتخلصُ إلى ما أعدَّ اللهُ للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة من خير, وضِدِّ ذلك للمنافقين والمنافقات.
وتحذيرُ المسلمين من الوقوع في مهواة قساوة القلوب التي وقع فيها أهلُ الكتابِ مِنْ قَبْلِهم من إهمالِ ما جاءهم مِنَ الهدى حتى قست قلوبُهم وجرَّ ذلك إلى الفسوق كثيراً منهم.
والتذكيرُ بالبعث, والدعوةِ إلى قلة الاكتراث بالحياة الفانية, والأمرُ بالصبر على النوائب, والتنويهُ بحكمة إرسال الرسلِ والكتبِ؛ لإقامة أمور الناس على العدل العام.
والإيماءُ إلى فضل الجهاد في سبيل الله.
وتنظيرُ رسالةِ محمد"برسالة نوح وإبراهيم _ عليهما السلام _ على أن في ذريتهما مهتدين وفاسقين, وأن اللهَ أَتْبَعَهُما برسلٍ آخرين منهم عيسى _ عليه السلام _ الذي كان آخرَ رسولٍ أُرْسِلَ بشرع قبل الإسلام، وأن أتباعَه كانوا على سُنَّةِ مَنْ سبقهم: منهم مؤمن، ومنهم كافر.
ثم أهاب بالمسلمين أن يُخْلِصوا الإيمانَ؛ تعريضاً بالمنافقين, وَوَعَدَهم بحسن العاقبة, وأن الله فضَّلهم على الأمم؛ لأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء. (1)
مناسبتها لما قبلها
سورة « الواقعة » مكية وسورة « الحديد » هذه مدنية ، ومع هذا فقد انتظمت السورتان فى سلك واحد ، فكان ختام سورة « الواقعة » مصافحا لبدء سورة « الحديد » وكان بدء « الحديد » جوابا وتلبية لهذا الأمر الذي كان ختام سورة « الرحمن ».وتقرأ خاتمة « الواقعة » : « فسبح باسم ربك العظيم » ومفتتح « الحديد » « سبّح للّه ما فى السموات والأرض وهو العزيز الحكيم » فترى الوجود كله فى سمواته وفى أرضه ، فى محراب التسبيح للّه ، وفى موقف الولاء له ، والقنوت لعزته وجلاله وحكمته ..
وهذا التجاوب بين السورتين ، شاهد من الشواهد الكثيرة ، التي تشهد بأن ترتيب السور كما هى عليه فى المصحف ، هو ترتيب توفيقى ، كترتيب الآيات فى سورها ، وأن ترتيب الآيات فى سورها كترتيب الكلمات فى آياتها ، وأن ترتيب الكلمات فى آياتها كترتيب الحروف فى كلماتها .. ولا يكون القرآن قرآنا
__________
(1) - التقريب لتفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور - (1 / 236)(1/1171)
إلا بهذا الترتيب الآيات الذي هو عليه فى اللوح المحفوظ : « إنه لقرآن كريم ..فى كتاب مكنون .. لا يمسه إلا المطهرون .. تنزيل من رب العالمين .. » (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة «الحديد» هي السورة السابعة والخمسون في ترتيب المصحف ، وسميت بذلك لقوله - تعالى - فيها : وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ.
وعدد آياتها تسع وعشرون آية في المصحف الكوفي ، وثمان وعشرون في غيره.
2 - وقد اختلف المفسرون في كونها مدنية أو مكية ، فابن كثير والقرطبي يقولان بأنها مدنية ، ولا يذكران خلافا في ذلك.
بينما نرى صاحب الكشاف يقول إنها مكية ، ولا يذكر - أيضا - خلافا في ذلك.
ومن المفسرين من يرى بأن سورة الحديد منها ما هو مكي ومنها ما هو مدني.
قال الآلوسى : أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة وقال النقاش وغيره : هي مدنية بإجماع المفسرين ، ولم يسلم له ذلك ، فقد قال قوم إنها مكية.
وقال ابن عطية : لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا. لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا ..
ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده ، والطبراني وابن مردويه .. عن عمر - رضى اللّه عنه - أنه دخل على أخته قبل أن يسلم ، فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد ، فقرأه حتى بلغ قوله - تعالى - : آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فأسلم «1».
والذي يبدولنا - بعد تدبرنا لهذه السورة الكريمة - أنها يغلب عليها طابع القرآن المدني ، الذي يتحدث عن الجهاد في سبيل اللّه ، وعن الإنفاق من أجل إعلاء كلمته ، وعن سوء مصير المنافقين ، وعن إرشاد المؤمنين إلى كيفية إقامة الدولة القوية العادلة .. وهذا لا يمنع من أن يكون من بين آياتها ما هو مكي ، متى ثبت ذلك عن طريق النقل الصحيح.
3 - وقد افتتحت السورة الكريمة ببيان أن اللّه - تعالى - قد نزهه عن كل ما لا يليق به ، جميع ما في السموات وما في الأرض ، وأنه - عز وجل - هو مالكها ، وهو الأول والآخر ، والظاهر والباطن والمحيي والمميت والخالق لكل شي ء ، والعليم بكل شي ء.
قال - تعالى - : سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ. هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 745)(1/1172)
4 - ثم حضت السورة الكريمة المؤمنين على الثبات على إيمانهم ، وعلى الإنفاق في سبيل اللّه ، ووعدتهم على ذلك بأجزل الثواب.قال - تعالى - : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ.
5 - ثم تتحدث السورة الكريمة بعد ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر ، عن حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المنافقين ، فتحكى جانبا مما يدور بين الفريقين من محاورات فتقول : يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ ، يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا : بَلى ، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ ، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ ، حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
6 - وبعد أن تنتقل السورة الكريمة إلى حث المؤمنين على الخشوع للّه ، وعلى تذكر الموت ، وعلى البذل في سبيل اللّه ... بعد كل ذلك تبين لهم مصير الحياة الدنيا ، وتدعوهم إلى إيثار الآجلة على العاجلة ، والباقية على الفانية فتقول : اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ، وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ، سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
7 - ثم تقرر السورة بعد ذلك أن كل شي ء بقضاء اللّه وقدره ، وأنه - سبحانه - قد أرسل رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وأمرهم بنشر العدل بين الناس ، كما أمرهم بإعداد القوة لإرهاب أعداء الحق ، لأن الناس في كل زمان ومكان فيهم المهتدون ، وفيهم الضالون ، كما قال - تعالى - : فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
8 - ثم ختم - سبحانه - السورة بهذا النداء الحكيم للمؤمنين فقال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
9 - وبعد ، فهذا عرض مجمل لسورة «الحديد» ومنه نرى أنها زاخرة بالحديث عن مظاهر قدرة اللّه - تعالى - ، وعن صفاته الجليلة .. وعن دعوة المؤمنين إلى التمسك بتعاليم دينهم ، تمسكا يكون مقدما(1/1173)
على كل شي ء من زينة هذه الحياة الدنيا ، لأن هذا التمسك يجعلهم يعيشون سعداء في دنياهم ، وينالون بسببه الفوز والفلاح في أخراهم وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم. (1)
في هذه السورة دعوة إلى الإخلاص في الإيمان. والبذل في سبيل اللّه.
وتحذير للمسلمين من قسوة القلوب والاستغراق في الدنيا وأغراضها كما صار إليه أهل الكتاب. وحضّ على الخير والتسابق فيه مع الاعتماد على اللّه. وتنديد بالبخلاء المختالين. وتنويه بالمؤمنين المخلصين وتقريع وإنذار للمنافقين بمناسبة موقف ممضّ وقفه بعض مرضى القلوب المنافقين. وفيها تشبيهات واستطرادات إلى حكمة إرسال الرسل لهداية الناس وتوطيد العدل وما كان من أمر الأمم السابقة وانحراف أكثرهم مما فيه توطيد لفكرة السلطان وهدفه. وفيها إشارة تنويهية إلى أخلاق الذين اتبعوا عيسى عليه السلام مع الإشارة إلى فسق كثير منهم أيضا.
وفصول السورة غير منقطعة عن بعضها بحيث يسوغ القول بأنها نزلت متتابعة. والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أنها نزلت بعد سورة الزلزلة التي يروى أن سورة النساء نزلت بعدها وقبل سورة محمد. ومعظم رواة ترتيب النزول يجعلون ترتيبها مثل ترتيبها في هذا المصحف «1» في حين أن فيها آية تفيد بصراحة أنها نزلت بعد الفتح الذي يتفق معظم المؤولين على أنه فتح مكة «2».
وليس في السورة ما يمكن أن يساعد على القول بأن فصولا منها نزلت قبل هذا الفتح. وهذا ما جعلنا نؤخر ترتيبها عن الترتيب المروي للتوفيق بين ظروف نزولها ونزول سورة الممتحنة التي نزلت بعد صلح الحديبية وقبيل الفتح المكي.
ولقد وردت كلمة الفتح في سورة النصر ، والجمهور على أنه فتح مكة أيضا غير أن الإشارة جاءت فيها بأسلوب التذكير والتنويه ، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن السورة هي آخر سور القرآن نزولا. وقد ذكر ذلك الزمخشري. وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أنها نزلت في حجة الوداع التي لم يعش النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدها إلا نحو ثمانين يوما. وروى حديثا عن ابن عباس أن السورة لما نزلت دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة رضي اللّه عنها وقال إنه قد نعيت إليّ نفسي. وحديثا عن عبد اللّه بن عقبة «أنّ ابن عباس سأله أتعلم آخر سورة نزلت من القرآن؟ قال نعم إنها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ. فقال صدقت. وحديثا عن ابن عباس أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : «نعيت إليّ نفسي بها وإني مقبوض هذه السنة». وقال النيسابوري : إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعش بعد نزولها إلّا سبعين يوما. حيث تتضافر هذه الروايات على أنها نزلت قبل قليل من وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كانت بعد فتح مكة بنحو سنتين. ولقد احتوت سورة التوبة آيات تفيد بصراحة أنها نزلت بعد فتح مكة
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 193)(1/1174)
منها هذه الآية : وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ... [3] وهذه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ... [28].
وبناء على ما تقدم وضعنا سورة الحديد بعد سورة الممتحنة لأن الفتح المكي وقع بعد نزول هذه السورة وفي ظروف نزول سورة الحديد. واللّه تعالى أعلم. (1)
سورة الحديد مكيّة ، وهي تسع وعشرون آية.
مدنيتها : هي كما ذكر القرطبي مدنية في قول الجميع ، وهو الظاهر ، وقيل : إنها مكية وهو رأي مرجوح.
تسميتها : سميت سورة الحديد ، للإشارة في الآية (25) منها إلى منافع الحديد ، واعتماد مظاهر المدنية والعمران والحضارة عليه ، سواء في السلم والحرب.
مناسبتها لما قبلها :
وجه اتصال هذه السورة بالواقعة من ناحيتين.
1 - ختمت سورة الواقعة بالأمر بالتسبيح ، وبدئت هذه بذكر التسبيح من كل ما في السموات والأرض.
2 - إن سورة الحديد واقعة موقع العلة للأمر بالتسبيح في الواقعة ، فكأنه قيل : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لأنه سبح له ما في السموات والأرض ، فاللّه أمر بالتسبيح ، ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله ، والتزمه كل ما في السموات والأرض.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالعقيدة والإيمان ، والجهاد والإنفاق في سبيل اللّه ، والترفع عن مفاتن الدنيا ، وبيان أصول الحكم الإسلامي ، وكشف مخازي المنافقين ، وشرائع الأنبياء في الحياة الخاصة والعامة.
ابتدأت بالحديث عن صفات اللّه وأسمائه الحسنى ، وظهور آثار عظمته في خلق الكون. ثم دعت المسلمين إلى الإنفاق في سبيل اللّه لإعلاء كلمة اللّه ، وإعزاز الإسلام ، ورفع مجده وشأنه.
وقارنت أثر هذه الدعوة إلى البذل والجهاد بين المؤمنين المجاهدين الذين يتميزون بأنوارهم في الآخرة ، وبين المنافقين الذين يبخلون ويجبنون ، ويتخبطون في ظلمات الجهل والكفر.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (9 / 296)(1/1175)
ثم أبانت السورة حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة ، فالدنيا دار الفناء واللهو واللعب ، والآخرة دار الخلود والبقاء والسعادة والراحة الكبرى ، وفي ذلك تحذير من الاغترار بالدنيا ، وترغيب في الآخرة والعمل من أجلها. ونصحت المؤمنين بالصبر على المصائب ، وذمت أهل الاختيال والكبر والبخلاء ، وحضّت على العدل وعمارة الكون ، وأبانت الغاية من بعثة الرسل الكرام ، وأمرت بتقوى اللّه ، واتّباع هدي الرسل والأنبياء.
وختمت السورة بالاعتبار بالأمم السابقة ، وبقصص نوح وإبراهيم وأحفادهم الرسل ، وبقصة عيسى بن مريم ، وموقف أتباعه من دعوته ، وأوضحت ثواب المتقين ، ومضاعفة أجر المؤمنين برسلهم ، وأبانت أن الرسالة اصطفاء من اللّه ، وفضل يختص به من يشاء من عباده. (1)
حكى القرطبي أنها مدنية بالإجماع ، وبعضهم نقل في سبب إسلام عمر بن الخطاب : أنه سمع آيات من أول سورة الحديد عند أخته فأسلم ، وعلى هذا تكون هذه الآيات مكية ، والظاهر أنها مدنية كلها كما حكى القرطبي ، وعدد آياتها تسع وعشرون آية وتشمل هذه السور الحث على التسبيح للّه ، ثم طلب الإيمان والإنفاق ، ثم التعرض لجزاء الإيمان والإنفاق يوم القيامة ، ووعظ المؤمنين بالعظات البالغات ، ثم بيان الدنيا وحقيقتها ، وبيان دعائم الحكم ، وضرب الأمثال بالأنبياء وأممهم ، وعلى العموم فالسورة تدور حول الحث على الإنفاق والبذل في سبيل اللّه. (2)
أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة ، وقال النقاش وغيره : هي مدنية بإجماع المفسرين ولم يسلم له ، فقد قال قوم : إنها مكية ، نعم الجمهور - كما قال ابن الفرس - على ذلك.
وقال ابن عطية : لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا ، ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي وابن عساكر عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد : 7] فأسلم ، ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا اللّه تعالى بهذه الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد : 16] إلا أربع سنين ، وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد اللّه بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم اللّه تعالى بها إلا أربع سنين وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (27 / 287) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (27 / 157)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 609)(1/1176)
[الحديد : 16] الآية لكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى آثار تدل على مدنية ما ذكر ولعلها لا تصلح للمعارضة.
ونزلت يوم الثلاثاء على ما أخرج الديلمي عن جابر مرفوعا لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت عليّ يوم الثلاثاء ، وفيه أيضا خبر رواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما بسند ضعيف ، وهي تسع وعشرون آية في العراقي ، وثمان وعشرون في غيره ، ووجه اتصالها - بالواقعة - أنها بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمر به ، وكان أولها واقعا موقع العلة للأمر به فكأنه قيل : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة : 74 ، 96 ، الحاقة : 52] لأنه سبح له ما في السماوات والأرض (1)
* هذه السورة الكريمة من السور المدنية ، التي تعنى بالتشريع والتربية والتوجيه ، وتبنى المجتمع الإسلامي على أساس العقيدة الصافية ، والخلق الكريم ، والتشريع الحكيم .
* وقد تناولت السورة الكريمة " سورة الحديد " ثلاثة مواضيع رئيسية هي :
أولا : أن الكون كله لله جل وعلا ، هو خالقه ومبدعه ، والمتصرف فيه بما يشاء .
ثانيا : وجوب التضحية بالنفس والنفيس ، لإعزاز دين الله ، ورفع منار الإسلام ، الذي ختم الله به الرسالات السماوية . ثالثا : تصوير حقيقة الدنيا بما فيها من بهرج ومتاع خادع ، حتى لا يغتر بها الإنسان ، وينسى الآخرة .
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن عظمة الخالق جل وعلا ، الذي سبح له كل ما في الكون ، من شجر ، وحجر ، ومدر ، وإنسان ، وحيوان ، وجماد ، فالكل ناطق بعظمته ، شاهد بوحدانيته [ سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ] الآيات .
* ثم ذكرت صفات الله الحسنى ، وأسماءه العليا ، فهو الأول بلا بداية ، والآخر بلا نهاية ، والظاهر بآثار مخلوقاته ، والباطن الذي لا يعرف كنه حقيقته أحد ، وهو الخالق للإنسان ، والمدبر للأكوان [ له ملك السموات والأرض يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير هو الأول والأخر والظاهر والباطن .. ] الآيات .
* ثم تلتها الآيات وهي تدعو المسلمين إلى البذل والسخاء والإنفاق في سبيل الله ، بما يحقق عزة الإسلام ورفعة شأنه ، فلابد للمؤمن من الجهاد بالنفس والمال لينال السعادة في الدنيا ، والمثوبة في الآخرة [ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ] الآيات .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 164)(1/1177)
* وتحدثت السورة عن أهل الإيمان ، وأهل النفاق ، فالمؤمنون يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، والمناققون يتخبطون في الظلمات ، كما كانوا في الدنيا يعيشون كالبهائم ، في ظلمات الجهل والغي والضلال [ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم .. ] الآيات .
* وتحدثت السورة عن حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة ، وصورتهما أدق تصوير ، فالدنيا دار الفناء ، فهي زائلة فانية ، كمثل الزرع الزاهي الخصيب ، الذي ينبت بقوة بنزول الغيث ، ثم يصفر ويذبل ، حتى يصير هشيما وحطاما تذروه الرياح ، بينما الآخرة دار الخلود ، والبقاء ، التي لا نصب فيها ولا تعب ، ولا هم ولا شقاء [ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو ، وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد . . ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بالغاية من بعثة الرسل الكرام ، والأمر بتقوى الله عز وجل ، والاقتداء بهدي رسله وأنبيائه [ ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ... ] الآيات إلى نهاية السورة الكريمة .
التسمية : سميت السورة " سورة الحديد " لذكر الحديد فيها ، وهو قوة الإنسان فى السلم والحرب ، وعدته في البنيان والعمران ، فمن الحديد تبنى الجسور الضخمة ، وتشاد العمائر ، وتصنع الدروع ، والسيوف والرماح ، وتكون الدبابات والغواصات والمدافع الثقيلة إلى غير ما هنالك من منافع . (1)
مقصودها بيان عموم الرسالة لعموم الإلهية بالبعث إلى الأزواج الثلاثة المذكورة في السورتين الماضيتين من الثقلين تحقيقا لأنه سبحانه مختص بجميع صفات الكمال تحقيقا لتنزهه عن كل شائبة نقص المبدوء به هذه السورة المختوم به ما قبلها الراد لقولهم ) أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون ) [ الواقعة : 47 - 48 ] المقتضي لجهاد من يحتاج إلى الجهاد ممن عصى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالسيف وما ترتب عليه من النفقة ردا لهم عن النقائص الجسمانية وإعلاء إلى الكمالات الروحانية التي دعا إليها الكتاب حذرا من سوء الحساب يوم التجلي للفصل بين العباد بالعدل ليدخل أهل الكتاب وغيرهم في الدين طوعا أو كرها ، ويعلم أهل الكتاب الذين كانوا يقولون : ليس أحد أفضل منهم ، فضيلة هذا الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) على جميع من تقدمه من الرسل عليهم الصلاة والسلام بعموم رسالته وشمول خلافته ، وانتشار دعوته وكثرة أمته تحقيقا لأنه لا حد لفائض رحمته سبحانه لتكون هذه السورة التي هي آخر النصف الأول والتي بعدها التي هي أول النصف الثاني من حيث العدد غاية للمقصود من السورة التي هي أوله عند الالتفات والرد كما كانت السورة التي غاية النصف الأول في المقدار وهي الإسراء ، وكذا السورة التي هي أول النصف الثاني وهي
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 307)(1/1178)
الكهف كاشفتين لمقصد الأولى فيما دعت إليه من الهداية وشدت إليه من الإنذار ، على ذلك دل اسمها الحديد يتأمل آياته وتدبر سر ما ذكر فيه وغاياته (1)
هذه السورة بجملتها دعوة للجماعة الإسلامية كي تحقق في ذاتها حقيقة إيمانها. هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة اللّه فلا تضن عليها بشي ء ، ولا تحتجز دونها شيئا .. لا الأرواح ولا الأموال ولا خلجات القلوب ولا ذوات الصدور .. وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانية بينما تعيش على الأرض. موازينها هي موازين اللّه ، والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين. كما أنها هي الحقيقة التي تشعر القلوب بحقيقة اللّه ، فتخشع لذكره ، وترجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه.
وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة تدعو السورة الجماعة الإسلامية إلى البذل في سبيل اللّه. بذل النفس وبذل المال : «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ. فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ، وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى . وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».
وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة كذلك تدعو الجماعة الإسلامية إلى الخشوع لذكر اللّه وللحق الذي أنزله اللّه ليجيء البذل ثمرة لهذا الخشوع المنبعث من الحقيقة الإيمانية الأولى : «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ ، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» ..
وكذلك تضع قيم الدنيا وقيم الآخرة في ميزان الحق وتدعو الجماعة الإسلامية لاختيار الكفة الراجحة ، والسباق إلى القيمة الباقية : «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً. وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ : سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ..
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 432)(1/1179)
وظاهر من سياق السورة - إلى جانب عمومية الدعوة الدائمة إلى تلك الحقيقة - أنها كانت تعالج كذلك حالة واقعة في الجماعة الإسلامية عند نزول هذه السورة في المجتمع المدني في فترة تمتد من العام الرابع الهجري إلى ما بعد فتح مكة.
فإلى جانب السابقين من المهاجرين والأنصار ، الذين ضربوا أروع مثال عرفته البشرية ، في تحقيق حقيقة الإيمان في نفوسهم ، وفي البذل والتضحية بأرواحهم وأموالهم ، في خلوص نادر ، وتجرد كامل ، وانطلاق من أوهاق الأرض وجوانب الغريزة ومعوقات الطريق إلى اللّه ...
إلى جانب هذه الفئة الممتازة الفذة ، كانت هناك - في الجماعة الإسلامية - فئة أخرى ليست في هذا المستوي الإيماني الخالص الرفيع - وبخاصة بعد الفتح عند ما ظهر الإسلام ، ودخل فيه الناس أفواجا ، وكان من بينهم من لم يدركوا بعد حقيقة الإيمان الكبيرة ، ولم يعيشوا بها ولها كما عاشت تلك الفئة السابقة الخالصة المخلصة للّه.
هؤلاء المسلمون من الفئة الأخرى كان يصعب عليهم البذل في سبيل اللّه وتشق عليهم تكاليف العقيدة في النفس والمال وتزدهيهم قيم الحياة الدنيا وزينتها فلا يستطيعون الخلاص من دعائها وإغرائها.
وهؤلاء - بصفة خاصة - هم الذين تهتف بهم هذه السورة تلك الهتافات الموحية التي أسلفنا نماذج منها ، لتخلص أرواحهم من تلك الأوهاق والجواذب ، وترفعها إلى مستوى الحقيقة الإيمانية الكبرى ، التي تصغر معها كل قيم الأرض ، وتذوب في حرارتها كل عوائقها! كذلك كانت هنالك طائفة أخرى - غير هؤلاء وأولئك - هي طائفة المنافقين ، مختلطة غير متميزة.
وبخاصة حين ظهرت غلبة الإسلام ، واضطر المنافقون إلى التخفي والانزواء مع بقاء قلوبهم مشوبة غير خالصة ولا مخلصة يتربصون الفرص وتجرفهم الفتن. وهؤلاء تصور السورة مصيرهم يوم يميزون ويعزلون عن المؤمنين : «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا : انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ. قِيلَ : ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً. فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ ، يُنادُونَهُمْ : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا بَلى ! وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ ، حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ ، وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
وهذا إلى جانب من بقي في الجزيرة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى. والسورة تشير إلى شيء من أحوالهم ومواقفهم السابقة والحاضرة في ذلك الأوان كالإشارة السابقة إلى قسوة قلوبهم عند تحذير الذين آمنوا أن يكونوا «كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ» .. وهي إشارة إلى(1/1180)
اليهود خاصة في الغالب .. وكالإشارة إلى النصارى قرب نهاية السورة في قوله : «ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ ، وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ. فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها. فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» ..
ولما كان مدار السورة على تحقيق حقيقة الإيمان في القلب وما ينبثق عن هذه الحقيقة من خشوع وتقوى ، ومن خلوص وتجرد ، ومن بذل وتضحية ، فقد سارت في إقرار هذه الحقيقة في النفوس التي كانت تواجهها - والتي توجد في كل مجتمع إسلامي - على نسق مؤثر ، أشبه ما يكون بنسق السور المكية ، حافل بالمؤثرات ذات الإيقاع الآسر للقلب والحس والمشاعر!
وكان مطلعها خاصة مجموعة إيقاعات بالغة التأثير تواجه القلب البشري بمجموعة من صفات اللّه سبحانه.
فيها تعريف به مع الإيحاء الآسر بالخلوص له ، نتيجة للشعور بحقيقة الألوهية المتفردة ، وسيطرتها المطلقة على الوجود ، ورجعة كل شيء إليها في نهاية المطاف ، مع نفاذ علمها إلى خبايا القلوب وذوات الصدور ، واتجاه كل شيء إليها بالعبادة والتسبيح : «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها ، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ»..
وهذا المطلع بذاته وبإيقاعاته كاف وحده ليهز القلوب هزا. ويوقع فيها الرهبة والخشية والارتعاش ، كما يوقع فيها الرغبة الحية في الخلوص للّه والالتجاء إليه ، والتجرد من العوائق والأثقال المعوقة عن تلبية الهتاف إلى الخلاص من الشح بالأنفس والأموال. ولكن سياق السورة تضمن كثيرا من المؤثرات تتخلل ذلك الهتاف وتؤكده في مواضع شتى. كتلك الصورة الوضيئة للمؤمنين والمؤمنات «يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ» ..
وتلك الصورة التي تقرر ضآلة الحياة الدنيا وقيمها إلى جانب قيم الآخرة وما يتم فيها من الأمور الكبار.
كذلك جاءت لمسة أخرى ترد القلوب إلى حقيقة القدر المسيطرة على الوجود : «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ،(1/1181)
وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» .. كي تستقر النفس وتطمئن لما يصيبها من خير أو شر ، وهي في طريقها إلى اللّه.
فلا تطير جزعا ، ولا تبطر فرحا ، وهي تواجه الضراء والسراء. ولا تشرك باللّه سببا ولا ظرفا ولا حادثا. فكله بقدر مقسوم لأجل معلوم. ومرد الأمر كله في النهاية إلى اللّه.
وقد سار سياق السورة في علاج موضوعها في شوطين اثنين أثبتنا أولهما في صدر هذا التقديم. وجاءت فقرات كثيرة من الشوط الثاني في خلاله. وهما مترابطان مطردان. فنكتفي بهذا القدر (1)
خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
(1) صفات اللّه وأسماؤه الحسنى ، وظهور آثاره فى بدائع خلقه.
(2) الحض على الإنفاق.
(3) بشرى المؤمنين بالنور يوم القيامة.
(4) ثواب المتصدقين الذين أقرضوا اللّه قرضا حسنا.
(5) ذم الدنيا وأنها لهو ولعب.
(6) الترغيب فى الآخرة وتشمير العزيمة للعمل لها.
(7) التسلية على المصايب.
(8) ذم الاختيال والفخر والبخل.
(9) الحث على العدل.
(10) الاعتبار بالأمم السالفة.
(11) قصص نوح وإبراهيم.
(12) إن أهل الكتاب الذين آمنوا برسلهم وآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يضاعف لهم الأجر عند ربهم.
(13) اللّه يصطفى من رسله من يشاء ، فهو أعلم حيث يجعل رسالته. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3475)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (27 / 189)(1/1182)
(58) سورة المجادلة
سميت هذه السورة في كتب التفسير وفي المصاحف وكتب السنة سورة المجادلة بكسر الدال أو بفتحه كما سيأتي. وتسمى سورة قد سمع وهذا الاسم مشتهر في الكتاتيب في تونس، وسميت في مصحف أبي بن كعب سورة الظهار.
ووجه تسميتها سورة المجادلة لأنها افتتحت بقضية مجادلة امرأة أوس بن الصامت لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن مظاهرة زوجها.
ولم يذكر المفسرون ولا شاركوا كتب السنة ضبطه بكسر الدال أو فتحها. وذكر الخفاجي في "حاشية البيضاوي" عن "الكشف" أن كسر الدال هو المعروف ولم أدر ما أراد الخفاجي بالكشف الذي عزا إليه هذا، فكشف القزويني على الكشاف لا يوجد فيه ذلك، ولا في تفسير المسمى الكشف والبيان للثعلبي. فلعل الخفاجي رأى ذلك في الكشف الذي ينقل عنه الطيبي في مواضع تقريرات لكلام الكشاف وهو غير معروف في عداد شروح الكشاف ، وكسر الدال أظهر لأن السورة افتتحت بذكر التي تجادل في زوجها فحقيقة أن تضاف إلى صاحبة الجدال، وهي التي ذكرها الله بقوله: {الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]. ورأيت في نسخة من حاشية محمد الهمذاني على الكشاف المسماة توضيح المشكلات، بخط مؤلفها جعل علامة كسرة تحت دال المجادلة. وأما فتح الدال فهو مصدر مأخوذ من فعل {تجادلك} كما عبر عنها بالتحاور في قوله {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1].
وهذه السورة مدنية قال ابن عطية بالإجماع. وفي تفسير القرطبي عن عطاء: أن العشر الأولى منها مدني وباقيها مكي. وفيه عن الكلبي أنها مدنية إلا قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية نزلت بمكة.
وهي السورة المائة وثلاث من عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة المنافقين وقبل سورة التحريم.
والذي يظهر أن سورة المجادلة نزلت قبل سورة الأحزاب لأن الله تعالى قال في سورة الأحزاب {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب: 4]، وذلك يقتضي أن تكون هذه الآية نزلت بعد إبطال حكم الظهار بما في سورة المجادلة لأن قوله: {ما جعل} يقتضي إبطال التحريم بالمظاهرة. وإنما أبطل بآية سورة المجادلة. وقال السخاوي: نزلت سورة المجادلة بعد سورة المنافقين وقبل سورة الحجرات.
وآيها في عد أهل المدينة وأهل مكة إحدى وعشرون، وفي عد أهل الشام والبصرة والكوفة إثنتان وعشرون.(1/1183)
أغراض هذه السورة
الحكم في قضية مظاهرة أوس بن الصامت من زوجه خولة.
وإبطال ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهر منها زوجها وإن عمله المخالف لما أراده الله وأنه من أوهامهم وزورهم التي كبتهم الله بإبطالها. وتخلص من ذلك إلى ضلالات المنافقين ومنها مناجاتهم بمرأى المؤمنين ليغيضوهم ويحزنوهم.
ومنها موالاتهم اليهود. وحلفهم على الكذب. وتخلل ذلك التعرض بآداب مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وشرع التصدق قبل مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . والثناء على المؤمنين في مجافاتهم اليهود والمشركين. وأن الله ورسوله وحزبهما هم الغالبون. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الحديد بقوله تعالى : « وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ». وبدأت سورة المجادلة بعدها بقوله تعالى : « قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ». .. الآيات.
وفى هذا البدء فضل من هذا الفضل العظيم الذي بيد اللّه ، إذ قد سمع قول هذه المرأة ، التي تشتكى إليه فى مجادلتها مع النبىّ فى هذا الظّهار الذي أوقعه زوجها عليها ، والذي من شأنه أنه لو مضى إلى غايته لبدّد شملها ، وأفسد عليها حياتها ، وأخرجها من هذا العشّ الذي يضمها ويضم صغارها. استجاب اللّه سبحانه وتعالى لشكاة هذه المرأة ، وسفّه زوجها الذي أتى هذا الأمر المنكر معها ، وأمسك بالمرأة وصغارها فى هذا العش الذي كانوا مهددين بالطرد منه. كما سنرى ذلك فى تفسير هذه الآيات. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « المجادلة » - بفتح الدال وكسرها والثاني أظهر ، لأن افتتاح السورة في المرأة التي جادلت النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن زوجها - .
وهذه السورة : هي السورة الثامنة والخمسون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة « المنافقون » ، وقبل سورة « التحريم ».
وعدد آياتها ثنتان وعشرون آية في المصحف الكوفي والبصري والشامي ، وإحدى وعشرون آية في المصحف المكي والمدني.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (28 / 5)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 807)(1/1184)
2 - وهي من السور المدنية الخالصة. ومن قال بأن فيها آيات مكية ، لم يأت بدليل يعتمد عليه في ذلك.
قال القرطبي : « هذه السورة مدنية في قول الجميع ، إلا رواية عن عطاء : أن العشر الأول منها مدني ، وباقيها مكي. وقال الكلبي : نزل جميعها بالمدينة. غير قوله - تعالى - : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ نزلت بمكة » .
3 - وقد افتتحت سورة « المجادلة » بالحديث عن المرأة التي جادلت النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن زوجها ، وقد أصدر - سبحانه - حكمه العادل في مسألتها ، مبينا حكم الظهار فقال - تعالى - : وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ، ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ، ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ.
4 - ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن الذين يحادون اللّه ورسوله فبينت سوء عاقبتهم ، لأن اللّه - تعالى - لا يخفى عليه شيء من أحوالهم ، فهو - سبحانه - ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
5 - ثم وجه - سبحانه - ثلاثة نداءات إلى المؤمنين ، أمرهم في أول نداء بأن يتناجوا بالبر والتقوى .. وأمرهم في النداء الثاني أن يفسح بعضهم لبعض في المجالس .. وأمرهم في النداء الثالث إذا ما ناجوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقدموا بين يدي نجواهم صدقة.
قال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ، ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
6 - وبعد أن عجبت السورة الكريمة من أحوال المنافقين ، وبينت سوء عاقبتهم ، وكيف أن الشيطان قد استحوذ عليهم ، فأنساهم ذكر اللّه.
بعد كل ذلك ختمت السورة الكريمة ببيان حسن عاقبة المؤمنين الصادقين وببيان صفاتهم الكريمة ، فقال - عز وجل - لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
7 - هذا ، والمتأمل في سورة المجادلة ، يراها قد بينت حكم الظهار ، وأبطلت ما كان شائعا من أن الرجل إذا ظاهر من زوجته لا تحل له .. وساقت جانبا من فضل اللّه - تعالى - على عباده ، حيث(1/1185)
أجاب دعاء امرأة قد اشتكت إليه ، وقضى في مساءلتها قبل أن تقوم من مكانها ، وهي بجانب النبي - صلى الله عليه وسلم - تجادله في شأن زوجها.
كما يراها قد كشفت القناع عن المنافقين ، وفضحتهم على أقوالهم الباطلة ، وأفعالهم الذميمة ، وموالاتهم لأعداء اللّه ورسوله.
كما يراها قد ساقت ألوانا متعددة من الآداب التي يجب على المؤمنين أن يتحلوا بها ، وبشرتهم برضا اللّه - تعالى - عنهم ، متى أخلصوا له - سبحانه - العبادة والطاعة. (1)
في السورة تسفيه لعادة الظهار وتشريع فيها. وحكاية لشكوى وجدال امرأة مسلمة في سياق ذلك. وتنديد بفريق كان يتآمر بالسرّ بما فيه إثم وعدوان ، ونهي للمسلمين عن مثل هذا الخلق ، وتعليم لهم بما هو الأمثل بهم. وتعليم للمسلمين كذلك آداب المجالس. وتلقينهم الاهتمام بالأخلاق والعلم وأهلهما. ومشهد فيه حثّ للمسلمين على تقديم صدقات عند اجتماعهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - اجتماعا خاصا ، وحكاية لاستثقالهم ذلك وعتاب لهم ونسخ للتكليف بسبب ذلك. وحملة شديدة على المنافقين لموادتهم لمن غضب اللّه عليهم الذين تتفق الروايات والأقوال على أنهم اليهود. وتنزيه للمخلصين عن مثل هذا الموقف.
وبعض عبارات الحملة على المنافقين مشابهة لما ورد فيهم في السورة السابقة ، مما قد يكون قرينة على صحة ترتيب السورة بعد تلك.
ولقد احتوت السورة فصولا متنوعة : منها ما لا يلمح بينه وبين سابقه ولا حقه صلة موضوعية أو ظرفية. ومنها ما يمكن أن يلمح فيه مثل هذه الصلة.
وقد تكون هذه الفصول نزلت متعاقبة فوضع بعضها بعد بعض. وإلا فتكون السورة قد جمعت في وقت متأخر نوعا ما بعد أن تمّ نزول ما اقتضت الحكمة نزوله وجمعه في سورة واحدة من فصولها.
وجمهور المفسرين على أن الذين حكت بعض آيات السورة موالاة المنافقين لهم هم من اليهود. وفحوى الآيات قد يؤيد ذلك. وكذلك فإن هناك رواية يرويها معظم المفسرين تفيد أن اليهود كانوا من الفريق المتآمر بالسرّ بما فيه إثم وعدوان.
ولما كان من بقي من اليهود في المدينة وهم بنو قريظة قد نكل بهم عقب وقعة الخندق على ما حكته بعض آيات سورة الأحزاب فيكون ذلك قرينة على أن بعض آيات السورة قد نزل قبل سورة الأحزاب أو على الأقل قبل فصلها الذي يشير إلى التنكيل بيهود بني قريظة.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 241)(1/1186)
وهناك مسألة مشتركة أخرى بين هذه السورة وسورة الأحزاب وهي عادة الظهار الجاهلية. فقد احتوى مطلع سورة الأحزاب تنديدا بهذه العادة ولكنه مترافق مع التنديد بعادة التبني الجاهلية. ثم احتوى تشريعا في إلغاء التبني دون الظهار.
في حين أن التنديد بالظهار في هذه السورة رافقه تشريع. بحيث يحتمل أن يكون تنديد سورة الأحزاب هو السابق كخطوة أولى ثم جاء التشريع في هذه السورة كخطوة ثانية وبحيث قد يصح أن يكون في هذا قرينة على سبق فصل سورة الأحزاب على فصل الظهار في هذه السورة : واللّه أعلم. (1)
مدنيّة ، وهي اثنتان وعشرون آية.
مدنيتها :هذه السورة مدنية على الصحيح ، وروي عن الكلبي أنه قال : نزلت كلها بالمدينة إلا قوله تعالى : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ .. فإنها نزلت بمكة. وعن عطاء : العشر الأول منها مدني ، وباقيها مكي.
تسميتها :
سميت سورة المجادلة ، لافتتاحها بقوله تعالى : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها .. وهذه المرأة هي خولة امرأة أوس بن الصامت.
مناسبة السورة لما قبلها :
تتضح صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة هي :
1 - ذكر في مطلع سورة الحديد صفات اللّه الجليلة ، ومنها الظاهر والباطن ، والعالم بما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو مع خلقه أينما كانوا ، وذكر في مطلع هذه السورة ما يدل على ذلك وهو سماع قول المجادلة التي تشتكي إلى اللّه ، ولهذا قالت عائشة رضي اللّه عنها حين نزلت : «سبحان الذي وسع سمعه الأصوات ، إني في ناحية البيت لا أعرف ما تقول» أي المجادلة.
2 - ختمت السورة السابقة ببيان فضل اللّه ، وافتتحت هذه السورة بما يشير إلى بعض الفضل.
3 - ذكر في المجادلة : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ .. الآية (7) وهي تفصيل لإجمال قوله تعالى في السورة السابقة :وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية بيان الأحكام التشريعية ، وقد تضمنت حكم الظهار وكفارته ، وحكم التناجي ، وأدب المجالس ، وتقديم الصدقة في بدء الأمر قبل مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 467)(1/1187)
وحكم المنافقين وجزائهم وتكذيبهم ووصفهم بأنهم حزب الشيطان ، وموادة أعداء اللّه وموالاتهم. وتميزت الآيات كلها في هذه السورة باشتمال كل آية على لفظ الجلالة : (اللّه) لتربية المهابة منه في النفوس ، وعدم التجرؤ على مخالفة أحكامها.
بدئت السورة ببيان سماع اللّه صوت امرأة هي خولة بنت ثعلبة ، تجادل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في شأن مصيرها من زوجها أوس بن الصامت الذي ظاهر منها قائلا لها : «أنت علي كظهر أمي» وحكم الظهار في الجاهلية تحريم الزوجة تحريما مؤبدا ، فبدّل اللّه ذلك الحكم ، وجعل حكم الظهار التحريم المؤقت الذي يزول بإخراج كفارة الظهار المنصوص عليها في الآيات الأولى من هذه السورة : عتق رقبة ، فصيام شهرين متتابعين ، فإطعام ستين مسكينا (الآيات : 1 - 4) وأعقبت ذلك بالحكم بإذلال وخزي الذين يعادون اللّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإحصاء أعمالهم وشهادته عليهم (الآيتان : 5 - 6).
ثم ذكرت أدب التناجي في المجالس : وهو الكلام سرا بين اثنين فأكثر أمام الآخرين ، وحرّمته إذا كان تناجيا بالإثم والعدوان ، كما كان يفعل اليهود والمنافقون ، وأخبرت بأن اللّه يعلم سر الحديث الدائر بين اثنين فأكثر ، وفضحت خبث اليهود ومكرهم وخداعهم حينما كانوا يحيون رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بتحية ظاهرها السلام ، وباطنها الأذى والسب ، قائلين : السام عليك يا محمد ، أي الموت (الآيات : 7 - 10).
وأردفت ذلك ببيان أدب التفسح في المجالس ، وطلب مغادرتها ، وأشادت بالمؤمنين الذين يمتثلون أوامر اللّه وأوامر رسوله ، وامتدحت العلماء منهم خاصة ، وأوجبت تقديم الصدقة عند مناجاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم رفعت الحكم تخفيفا على المؤمنين وتيسير لقاء نبيهم ، وجعلت محله الاشتغال بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة اللّه ورسوله (الآيات : 11 - 13).
ثم أبانت مخازي المنافقين الذين يوالون اليهود ويحبونهم ، ويفشون أسرار المؤمنين لهم ، ويحلفون الأيمان الكاذبة ، ويعادون اللّه تعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ويخالفون أمرهما ، فهم مخذولون مهزومون ، والمؤمنون أعزة منصورون (الآيات : 14 - 21).
وختمت السورة الكريمة بأمر المؤمنين بتجنب الخونة الذين يوالون أعداء الأمة ولو كانوا أقرب الناس إليهم ، وينافقون ويتذبذبون بين هؤلاء وهؤلاء ، لإضعاف كيان أمتهم وتفريق جمعهم ، أما الأمة المتماسكة المتحابّة ، فهي أمة الإيمان الحق ، وأهل الجنة خالدين فيها أبدا.(1/1188)
والتفريق بين الموقفين : موقف الإيمان وموقف الكفر والنفاق يبين أن الحب ينبغي أن يكون للّه ، والبغض للّه ، وأن اكتمال الإيمان يتطلب معاداة أعداء اللّه (الآية : 22). (1)
مدنية على الصحيح ، وعدد آياتها اثنتان وعشرون آية.وهي كيفية السور المدنية تعالج أمراض المجتمع ببيان التشريع السليم للمشكلات وبيان الآداب الإسلامية في المجتمعات ، مع لفت أنظار المسلمين إلى أعدائهم في الدين وتحديد علاقتهم بهم. (2)
بفتح الدال وكسرها ، والثاني هو المعروف ، وتسمى سورة - قد سمع - وسميت في مصحف أبيّ رضي اللّه تعالى عنه الظهار ، وهي على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم مدنية وقال الكلبي وابن السائب إلا قوله تعالى : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة : 7] ، وعن عطاء : العشر الأول منها مدني وباقيها مكي ، وقد انعكس ذلك على البيضاوي ، وأنها إحدى وعشرون في المكي والمدني الأخير ، واثنتان وعشرون في الباقي ، وفي التيسير هي عشرون وأربع آيات وهو خلاف المعروف في كتاب العدد.
ووجه مناسبتها لما قبلها أن الأولى ختمت بفضل اللّه تعالى وافتتحت هذه بما هو من ذلك ، وقال بعض الأجلة في ذلك : لما كان في مطلع الأولى ذكر صفاته تعالى الجليلة ، ومنها الظاهر والباطن ، وقال سبحانه : يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد : 4] افتتح هذه بذكر أنه جل وعلا سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى ، ولهذا قالت عائشة فيما رواه النسائي وابن ماجة والبخاري تعليقا حين نزلت : «الحمد للّه الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل اللّه تعالى قَدْ سَمِعَ [المجادلة : 1]» إلخ ، وذكر سبحانه بعد ذلك أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ الآية ، وهي تفصيل لإجمال قوله تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين الحديد والحشر مع تواخيهما في الافتتاح - بسبح - إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتأمل. (3)
* سورة المجادلة مدنية ، وقد تناولت أحكاما تشريعية كثيرة كأحكأم الظهار ، والكفارة التي تجب على المظاهر ، وحكم التناجى ، وآداب المجالس ، وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وعدم مودة أعداء الله ، إلى غير ذلك ، كما تحدثت عن المنافقين وعن اليهود .
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (28 / 5) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (26 / 119)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 627)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 197)(1/1189)
* ابتدأت السورة الكريمة ببيان قصة المجادلة (خولة بنت ثعلبة) التي ظاهر منها زوجها - على عادة أهل الجاهلية في تحريم الزوجة بالظهار - وقد جاءت تلك المرأة رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) تشكو ظلم زوجها لها وقالت يا رسول الله : " أكل مالي ، وأفنى شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبرت سني ، وانقطع ولدي ، ظاهر مني ) ورسول الله ، يقول لها : (ما أراك إلا قد حرمت عليه ) ، فكانت تجادله وتقول يا رسول الله : ما طلقني ولكنه ظاهر مني ، فيرد عليها قوله السابق ، لم قالت : اللهم إني أشكو إليك ، فاستجاب الله دعاءها ، وفرج كربتها وشكواها [ قد سمع الله قول التى تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله .. ] الآيات .
* ثم تناولت حكم كفارة الظهار [ الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ، وإن الله لعفو غفور . . ] الآيات .
* ثم تحدثت عن موضوع التناجي ، وهو الكلام سرا بين اثنين فأكثر ، وقد كان هذا من دأب اليهود والمنافقين لإيذاء المؤمنين ، فبينت حكمه وحذرت المؤمنين من عواقبه [ ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم . . ] الآيات .
* وتحدثت السورة عن اليهود اللعناء ، الذين كانوا يحضرون مجلس الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) فيحيونه بتحية ملغوزة ، ظاهرها التحية والسلام ، وباطنها الشتيمة والمسئة ، كقولهم : السام عليك يا محمد يعنون الموت [ وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ] الآيات .
* وتناولت السورة الحديث عن المنافقين بشيء من الإسهاب ، فقد اتخذوا اليهود بخاصة أصدقاء ، يحبونهم ويوالونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين ، فكشفت الستار عن هؤلاء المذبذبين وفضحتهم [ ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم .. ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة ببيان حقيقة الحب في الله ، والبغض في الله ، الذي هو أصل الإيمان ، وأوثق عرى الدين ، ولا بد في اكتمال الإيمان من معاداة أعداء الله [ لا تجد قومآ يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم ، أو أبناءهم ، أو إخوانهم ، أو عشيرتهم ، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان . . ] إلى آخر السورة الكريمة . (1)
مقصودها الإعلام بإيقاع البأس الشديد ، الذي أشارت إليه الحدسيد ، بمن حاد الله ورسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) لما له سبحانه من تمام العلم ، اللازم عنه تمام القدرة ، اللازم عنه الإحاطة بجميع صفات الكمال ، وعلى ذلك
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 318)(1/1190)
دلت تسميتها بالمجادلة بأول قصتها وآخرها ، وعلى تكرير الاسم الأعظم الجامع في القصة وجميع السورة تكريرا لم يكن في سواها بحيث لم تخل منه آية ، وأما الآيات التي تكرر في كل منها المرتين فأكثر فكثرة كل ذلك ، للدلالة على أن الأكثر منها المراد فيها بالخطاب من يصح أن ينظر إليه تارة بالجلال ، وتارة بالكمال ، فيجمع له الوصفان ، وهو من آمن ووقع منه هفوة أو عصيان ، ولهذا ضمتها أشياء شدد النكير فيها حين وقع بعض أهل الإيمان ، ولم يبحها لهم عند وقوعهم فيها ردا للشرع إلى ما دعا إليه الطبع كما فعل في غيرها كالأكل والجماع في ليل رمضان من غير تقييد بيقظة ولا منام ، لمنابذتها للحكمة ، وبعدها عن موجبات الرحمة ، وهذا مؤيد لما تقدم من سر إخلاء الواقعة والرحمن والقمر من هذا الاسم الجامع. والله الموفق (1)
نحن في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله تقريبا - مع أحداث السيرة في المجتمع المدني. مع الجماعة المسلمة الناشئة حيث تربى وتقوّم ، وتعد للنهوض بدورها العالمي ، بل يدورها الكوني ، الذي قدره اللّه لها في دورة هذا الكون ومقدّراته. وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل لهذه الحياة ، في نفوس هذه الجماعة ، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور ، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك .. وهو دور ضخم إذن يقتضي إعدادا كاملا.
ولقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم ، ناسا من الناس. منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم ، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة ، وخلصت نفوسهم لها ، ووصلوا ..
وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود ، فأصبحوا بهذا طرفا من قدر اللّه في الكون لا يجدون في أنفسهم عوجا عنه ، ولا يجدون في خطاهم تخلفا عن خطاه ، ولا يجدون في قلوبهم شيئا إلا اللّه .. كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة : «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ. أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد - وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب - حتى قبل الفتح - ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي ، ولم
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 474)(1/1191)
يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة. كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دخل في القلوب ، وتربص بالفرص ، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين. سواء معسكرات المشركين أو اليهود!
ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهودا ضخمة ، وصبرا طويلا ، وعلاجا بطيئا ، في صغار الأمور وفي كبارها .. كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام ، وقام بها رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، وتقوم على منهج اللّه ، تفهمه وتحققه ، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة ، لا في صحائف وكلمات.
ونحن نشهد في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله - طرفا من تلك الجهود الضخمة ، وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات كما نشهد جانبا من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين.
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية اللّه للجماعة الناشئة وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده - سبحانه - معها في أخص خصائصها ، وأصغر شؤونها ، وأخفى طواياها وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره وأخذها في حماه وكنفه ، وضمها إلى لوائه وظله وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف اللّه ، وتنتسب إليه ، وتؤلف حزبه في الأرض ، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعا.
ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية. فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة ، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة : «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» .. فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة ، لتقرر حكم اللّه في قضيتها ، وقد سمع - سبحانه - للمرأة وهي تحاور رسول اللّه فيها ، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها! وهي صورة تملأ القلب بوجود اللّه وقربه وعطفه ورعايته.
يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون اللّه ورسوله - وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف اللّه - مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، والعذاب المهين في الآخرة ، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه اللّه عليهم ، ونسوه هم وهم فاعلوه! «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» ..(1/1192)
ثم توكيد وتذكير بحضور اللّه - سبحانه - وشهوده لكل نجوى في خلوة ، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها. واللّه معهم أينما كانوا : «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود اللّه وحضوره ، كما تملؤه برقابته واطلاعه.
وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين ، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس. تهديد بأن أمرهم مكشوف ، وأن عين اللّه مطلعة عليهم ، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة ، وأن اللّه آخذهم بها ومعذبهم عليها. ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى ، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص.
ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ومجالس العلم والذكر. كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والجد في هذا الأمر والتوقير.
أما بقية السورة بعد هذا فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود ويتآمرون معهم ، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين. وتصورهم في الآخرة كذلك حلافين كذابين يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب اللّه ، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول اللّه والمؤمنين! مع توكيد أن الذين يحادون اللّه ورسوله كتب اللّه عليهم أنهم في الأذلين وأنهم هم الأخسرون. كما كتب أنه ورسله هم الغالبون. وذلك تهوينا لشأنهم ، الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام - وبعض المسلمين - يستعظمه ، فيحافظ على مودته معهم ، ولا يدرك ضرورة تميز الصف المسلم تحت راية اللّه وحدها ، والاعتزاز برعاية اللّه وحده ، والاطمئنان إلى حراسته الساهرة للفئة التي يصنعها على عينه ، ويهيئها لدورها الكوني المرسوم.
وفي ختام السورة تجيء تلك الصورة الوضيئة لحزب اللّه. هذه الصورة التي كان يمثلها بالفعل أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار. والتي كانت الآية الكريمة تشير لها كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعد في الطريق!
«لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ..» إلخ الآية ... كما وردت في أول هذا التقديم .. (1)
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) ألفة الأزواج فى المنازل.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3503)(1/1193)
(2) ألفة الأصحاب فى المجالس.
(3) الأدب مع الحكام بترك مضايقتهم ، لكثرة أعمالهم.
(4) رفق الحكام بالمحكومين إذا رأوا أمرا يثقلهم.
(5) مجانبة خيانة الأمة بموالاة أعدائها ، وبالنفاق والشقاق ، فإن ذلك يضعفها ويفرق جمعها ويذلها. (1)
=================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 29)(1/1194)
(59) سورة الحشر
اشتهرت تسمية هذه السورة سورة الحشر. وبهذا الاسم دعاها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
روي الترمذي عن معقل بن يسار قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قال حين يصبح ثلاث مراد أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر" الحديث، أي الآيات التي أولها {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22] إلى آخر السورة.
وفي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس سورة الحشر قال قل بني النضير، أي سورة بني النضير فابن جبير سماها باسمها المشهور. وأبن عباس يسميها سورة بني النضير. ولعله لم يبلغه تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها سورة الحشر لأن ظاهر كلامه أنه يرى تسميتها سورة بني النضير لقوله أن جبير قل بني النضير.
وتأول أبن حجر كلام أبن عباس على أنه كره تسميتها ب{الحشر} لئلا يظن أن المراد بالحشر يوم القيامة. وهذا تأويل بعيد. وأحسن من هذا أن أبن عباس أراد أن لها اسمين، وأن الأمر في قوله: قل، للتخيير.
فأما وجه تسميتها الحشر فلوقوع لفظ {الحشر} [الحشر:2] فيها. ولكونها ذكر فيها حشر بني النضير من ديارهم أي من قريتهم المسماة الزهرة قريبا من المدينة. فخرجوا إلى بلاد الشام إلى أريحا وأذرعات، وبعض بيوتهم خرجوا إلى خيبر، وبعض بيوتهم خرجوا إلى الحيرة.
وأما وجه تسميتها سورة بني النضير فلأن قصة بني النضير ذكرت فيها.
وهي مدينة بالاتفاق. وهي الثامنة والتسعون في عداد نزول السور عند جابر بن زيد.
نزلت بعد سورة البينة وقبل سورة النصر.
وكان نزولها عقب إخراج بني النضير من بلادهم سنة أربع من الهجرة. وعدد آيها أربع وعشرون باتفاق العادين.
أغراض هذه السورة
وفق الاتفاق على أنها نزلت في شأن بني النضير ولم يعينوا ما هو الغرض الذي نزلت فيه. ويظهر أن المقصد منها حكم أموال بني النضير بعد الانتصار عليهم، كما سنبينه في تفسير الآية الأولى منها.
وقد اشتملت إلى أن ما في السماوات وما في الأرض دال على تنزيه الله، وكون في السماوات والأرض ملكه، وأنه الغالب المدبر.(1/1195)
وعلى ذكر نعمة الله على ما يسر من إجلاء بني النضير مع ما كانوا عليه من المنعة والحصون والعدة. وتلك آية من آيات تأييد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغلبته على أعدائه.
وذكر ما أجراه المسلمون من إتلاف أموال بني النضير وأحكام ذلك في أموالهم وتعيين مستحقيه من المسلمين.
وتعظيم شأن المهاجرين والأنصار والذين يجيئون بعدهم من المؤمنين.
وكشف دخائل المنافقين ومواعيدهم لبني النضير أن ينصروهم وكيف كذبوا وعدهم.
وأنحى على بني النضير والمنافقين بالجبن وتفرق الكلمة وتنظير حال تغرير المنافقين لليهود بتغرير الشيطان للذين يكفرون بالله، وتنصله من ذلك يوم القيامة فكان عاقبة الجميع الخلود في النار.
ثم خطاب المؤمنين بالأمر بالتقوى والحذر من أحوال أصحاب النار والتذكير بتفاوت حال الفريقين.
وبيان عظمة القرآن وجلالته واقتضائه خشوع أهله.
وتخلل ذلك إيماء إلى حكمة شرائع انتقال الأموال بين المسلمين بالوجوه التي نظمها الإسلام بحيث لا تشق على أصحاب الأموال.
والآمر باتباع ما يشرعه الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وختمت بصفات عظيمة من الصفات الإلهية وأنه {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحشر: 24] تزكيه لحال المؤمنين وتعريضا بالكافرين. (1)
مناسبتها لما قبلها
كان مما تحدثت عنه سورة المجادلة فضح وجوه المنافقين ، الذين يتناجون مع اليهود الذين يكيدون للإسلام ، ويدبرون معهم ما يكيدون به للمؤمنين .. وقد توعد اللّه هؤلاء المنافقين بالخزي فى الدنيا ، والمذلة والخسران والعذاب الأليم فى الآخرة ..وهنا فى سورة الحشر ، يعرض على المنافقين بعض ما لقى أحلافهم وأولياؤهم من اليهود ، من خزى ، وذلة ، ونكال ، فى هذه الدنيا .. وإن هذا الخزي والذلة والنكال ، ليتربص بهؤلاء المنافقين ، إن هم ظلوا على نفاقهم ، وسيلحقهم بإخوانهم الذين رأوا بأعينهم ما حلّ بهم (2)
مقدمة وتمهيد
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (28 / 56)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 846)(1/1196)
1 - سورة « الحشر » من السور المدنية الخالصة ، وقد عرفت بهذا الاسم منذ العهد النبوي ، وسماها ابن عباس بسورة « بنى النضير » فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الحشر. قال : « سورة بنى النضير » ولعل ابن عباس - رضى اللّه عنهما - سماها بهذا الاسم لحديثها المفصل عن غزوة بنى النضير.
2 - وعدد آياتها أربع وعشرون آية ، وكان نزولها بعد سورة « البينة » وقبل سورة « النصر » أى : أنها تعتبر من أواخر ما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من سور قرآنية فهي السورة الثامنة والتسعون في ترتيب النزول.
أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة التاسعة والخمسون.
3 - وقد افتتحت سورة « الحشر » بتنزيه اللّه - تعالى - عما لا يليق به ، ثم تحدثت عن غزوة « بنى النضير » ، فذكرت جانبا من نصره لعباده المؤمنين ومن خذلانه لأولئك الضالين ..قال - تعالى - : هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ، ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ ، فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ...
4 - ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن تقسيم أموال بنى النضير ، وعن حكمة اللّه - تعالى - في إرشاده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا التقسيم ، فقال - سبحانه - : ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ، فَلِلَّهِ ، وَلِلرَّسُولِ ، وَلِذِي الْقُرْبى ، وَالْيَتامى ، وَالْمَساكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ ، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ 5 - وبعد أن أثنت السورة الكريمة على المهاجرين لبلائهم وإخلاصهم وعفة نفوسهم ، كما أثنت على الأنصار لسخائهم ، وطهارة قلوبهم ... بعد كل ذلك أخذت السورة في التعجيب من حال المنافقين ، الذين تحالفوا مع اليهود ضد المؤمنين ، وذكرت جانبا من أقوالهم الكاذبة ، ووعودهم الخادعة .. فقال - تعالى - : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ، لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.
6 - ثم وجهت السورة في أواخرها نداء إلى المؤمنين ، أمرتهم فيه بتقوى اللّه ، ونهتهم عن التشبه بالفاسقين عن أمر اللّه ، الذين تركوا ما أمرهم به - سبحانه - ، فكانت عاقبة أمرهم خسرا ..
وختمت بذكر جانب من أسماء اللّه - تعالى - وصفاته ، فقال - تعالى - : هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ ، لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.(1/1197)
7 - وبذلك نرى السورة الكريمة قد طوفت بنا مع بعض مغازي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ومع التشريعات الحكيمة التي شرعها اللّه - تعالى - في تقسيم الغنائم ، ومع صور زاهية كريمة من أخلاق المهاجرين والأنصار ، ومع صور قاتمة كريهة من أخلاق المنافقين وإخوانهم من اليهود ..
ومع جانب من أسماء اللّه - تعالى - وصفاته ، التي تليق به - عز وجل - . (1)
جلّ هذه السورة في صدد إجلاء فريق من اليهود عن المدينة. وما كان من مواقف المنافقين فيه وتشريع للفيء ومداه وما كان من تشادّ حوله. وفيها أكبر مجموعة لأسماء اللّه الحسنى والمرجح أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة حسب ما جاءت في المصحف.
والمفسرون وكتّاب السيرة متفقون «1» على أن الفريق اليهودي هم بنو النضير إحدى قبائل اليهود الإسرائيليين الذين كانوا يقيمون في المدينة. ومتفقون «2» كذلك على أن حادثهم وقع بعد نحو خمسة أشهر من وقعة أحد. والمعقول أن يكون ترتيبها بعد سورة آل عمران التي احتوت مشاهد وظروف هذه الواقعة. غير أن الذين يروون ترتيب السور المدينة حسب النزول يجعلونها الخامسة عشرة ويجعلون سورة الممتحنة التي احتوت الإشارة إلى أحداث وقعت بعد صلح الحديبية مكانها بعد سورة آل عمران ثم يجعلون بعد الممتحنة سورة الأحزاب التي احتوت الإشارة إلى وقعتي الأحزاب أو الخندق وبني قريظة اللتين وقعتا بعد مدة ما من وقعة بني النضير وليس في هاتين السورتين ما يبرر تقديمهما على سورة الحشر وليس في سورة الحشر ما يبرر تأخيرها عنهما بل وعن غيرهما حتى تكون الخامسة عشرة في الترتيب. ومن العجيب أن رواة الترتيب لم ينتبهوا إلى ما في ذلك من شذوذ واستحالة. ويبدو لنا أنهم خلطوا بين سورتي الحشر والممتحنة وبدلا من أن يجعلوا الحشر بعد آل عمران جعلوا الممتحنة غلطا «1».
ولما كان هذا عندنا في درجة اليقين لأنه قائم على واقع متفق عليه فقد رأينا أن نخلّ بالترتيب الذي تابعنا فيه المصحف الذي اعتمدناه وجلّ روايات الترتيب معا ، فنجعل سورة الحشر بعد آل عمران بدلا من سورة الممتحنة ونقدم سورة الفتح التي يؤخرها الرواة كثيرا حتى يجعلوها الثانية والعشرين أو السادسة والعشرين والتي نزلت في حادث صلح الحديبية بدون أي مبرر ثم نجعل بعدها سورة الممتحنة لأن ذلك يتسق مع التسلسل الزمني لوقائع السيرة النبوية. وهو الذي قصدنا إليه حينما اعتزمنا على جعل تفسيرنا للسور وفق روايات ترتيب النزول.
هذا ، ويسمي المفسرون سورة الحشر باسم بني النضير عزوا إلى ابن عباس وغيره «2» لأنها نزلت في صدد وقعتهم. (2)
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 279)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (7 / 302)(1/1198)
سورة الحشر مدنيّة ، وهي أربع وعشرون آية.
تسميتها : سميت سورة الحشر ، لقوله تعالى : هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ .. أي الحشر الأول وهو الجمع الأول الذي حشروا فيه وأخرجوا في عهد النبوة من المدينة إلى بلاد الشام ، والحشر الثاني :إجلاؤهم وإخراجهم في عهد عمر من خيبر إلى الشام.
وتسمى أيضا سورة بني النضير ، لاشتمالها على قصة إجلاء يهود بني النضير ، في غزوة بني النضير ، وهم اليهود الذين نقضوا العهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأجلاهم عن المدينة المنورة.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة :
1 - ذكر في السورة السابقة من حادّ اللّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن قتل من الصحابة أقرباءه يوم بدر ، وفي أول هذه السورة ذكر من شاقّ اللّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وما جرى بعد غزوة بني النضير من إجلاء اليهود ، وقد حدثت الغزوة بعد بدر.
2 - أخبر اللّه في آخر السابقة عن نصر الرسل : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وأفاد في أول هذه إنجاز النصر على اليهود : فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
.
3 - كشف اللّه في السورة المتقدمة حال المنافقين واليهود وموادة بعضهم بعضا ، وذكر في هذه السورة ما حلّ بيهود بني النضير.
ما اشتملت عليه السورة :
سورة الحشر كسائر السور المدنية عنيت بالأحكام التشريعية ، مثل إجلاء يهود بني النضير من المدينة ، وأحكام الفيء والغنائم ، والأمر بالتقوى. كما أن فيها تحليلا لعلاقة المنافقين باليهود ، وبيان عظمة القرآن ، وإيراد بعض أسماء اللّه الحسنى.
افتتحت السورة بتنزيه اللّه نفسه عن كل نقص ، وتمجيده من جميع ما في الكون من إنسان وحيوان ونبات وجماد ، وشهادتهم بوحدانيته وقدرته ، والنطق بعظمته.
وأردفت ذلك بالإشادة بالنصر على أعداء اللّه تعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإجلاء يهود بني النضير من المدينة المنورة ، وتهديم قلاعهم وحصونهم.(1/1199)
ثم أبانت حكم الفيء وهو الأراضي والدور والأموال الآيلة من العدو للمسلمين من غير قتال ، ببيان مصارفه وتوزيعه على مختلف فئات المسلمين ، وحكمة ذلك التوزيع.
وفي ثنايا آيات الفيء امتدح اللّه تعالى مواقف المهاجرين ، وأشاد بمآثر الأنصار ، وانتدب الذين جاؤوا من بعدهم للثناء على من سبقهم والدعاء لهم بالمغفرة.
وقارن ذلك بعلاقة المنافقين باليهود ، وتحالفهم على الباطل ، وكشف أخلاق الفريقين ، ومنها خذلان المنافقين من يحالفونهم وقت الأزمة ، وجبن اليهود وخوفهم من مواجهة المؤمنين ، وتشبيه المنافقين بالشيطان الذي يغري الإنسان بالسوء والضلال ، ثم يتخلى عنه في الوقت العصيب.
ثم أمر اللّه المؤمنين بالتقوى ، والاستعداد ليوم القيامة وما فيه من أهوال جسام ، والاعتبار بأحوال الماضين ، وتذكر الفرق العظيم بين أهل الجنة وأهل النار ، ومصير السعداء والأشقياء في دار الخلود.
وختمت السورة ببيان عظمة القرآن الكريم ، وعظمة من أنزله واتصافه بأوصاف الجلال ، وتسميته بالأسماء الحسنى. (1)
وتسمى سورة بنى النضير ، وهي مدنية بالإجماع ، وعدد آياتها أربع وعشرون آية ، وتشتمل السورة على قصة إجلاء بنى النضير ، وحكم الفيء في الإسلام ، وموقف المنافقين من بنى النضير ، ثم وعظ المسلمين بالتقوى وموجباتها. (2)
قال البقاعي : وتسمى سورة - بني النضير - وأخرج البخاري وغيره عن ابن جبير قال : قلت لابن عباس سورة الحشر ، قال : قل : سورة بني النضير ، قال ابن حجر : كأنه كره تسميتها بالحشر لئلا يظن أن المراد به يوم القيامة وإنما المراد هاهنا إخراج بني النضير.
وهي مدنية ، وآيها أربع وعشرون بلا خلاف ، ومناسبتها لما قبلها أن في آخر تلك كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة : 21] وفي أول هذه فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر : 2] وفي آخر تلك ذكر من حادّ اللّه ورسوله ، وفي أول هذه ذكر من شاقّ اللّه ورسوله ، وأن في الأولى ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضا ، وفي هذه ذكر ما حل باليهود وعدم إغناء تولي المنافقين إياهم شيئا ، فقد روي أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعت في التوراة لا تردّ له راية فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (28 / 62) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 30)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 641)(1/1200)
فخالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأخبر جبريل عليه السلام الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس بعد أن أخذ بفود رأسه أخوه رضاعا أو نائلة سلكان بن سلامة أحد بني عبد الأشهل ، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح الحجر عليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فعصمه اللّه تعالى ، وبعد أن قتل كعب بأشهر على الصحيح لا على الأثر كما قيل : أمر صلى اللّه تعالى عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وكان ذلك سنة أربع في شهر ربيع الأول وكانوا بقرية يقال لها : الزهرة فسار المسلمون معه عليه الصلاة والسلام وهو على حمار مخطوم بليف.
وقيل : على جمل واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم حتى إذا نزل صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بهم وجدهم ينوحون على كعب ، وقالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك فقال : اخرجوا من المدينة فقالوا : الموت أقرب لنا من ذلك فتنادوا بالحرب ، وقيل : استمهلوه عليه الصلاة والسلام عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ودس المنافقون عبد اللّه بن أبيّ وأضرابه إليهم أن لا يخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم أجمعوا على الغدر برسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فقالوا : اخرج في ثلاثين من أصحابك ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك فإن صدقوك آمنا كلنا ففعل فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون اخرج في ثلاثة ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ففعل عليه الصلاة والسلام فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا فأسرع إلى الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فسارّه بخبرهم قبل أن يصل إليهم فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم - على ما قال ابن هشام في سيرته - ست ليال ، وقيل : إحدى وعشرين ليلة فقذف اللّه تعالى في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فطلبوا الصلح فأبى عليه الصلاة والسلام عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من المتاع فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل سلام ابن أبي الحقيق وآل كنانة بن الربيع ابن أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فلحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة وقبض النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم أموالهم وسلاحهم فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا وكان ابن أبيّ قد قال لهم : معي ألفان من قومي وغيرهم أمدكم بها وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فلما نازلهم صلّى(1/1201)
اللّه تعالى عليه وسلم اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان فأنزل اللّه تعالى قوله عز وجل (1)
* سورة الحشر مدنية وهي تعنى بجانب التشريع شأن سائر السور المدنية ، والمحور الرئيسي الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث عن (غزوة بنى النضير) وهم اليهود الذين نقضوا العهد مع الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) فأجلاهم عن المدينة المنورة ، ولهذا كان ابن عباس يسمي هذه السورة (سورة بنى النضير) وفي هذه السورة الحديث عن المنافقين ، الذين تحالفوا مع اليهود ، وبإيجاز هي سورة " الغزوات والجهاد " والفيء والغنائم ، وأخبار اليهود .
* ابتدأت السورة الكريمة بتنزيه الله وتمجيده ، فالكون كله بما فيه من إنسان ، وحيوان ، ونبات ، وجماد ، شاهد بوحدانية الله ، وقدرته وجلاله ، ناطق بعظمته وسلطانه [ سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ] الآيات .
* ثم ذكرت السورة بعض آثار قدرته ، ومظاهر عزته ، بإجلاء اليهود من ديارهم وأوطانهم ، مع ما كانوا فيه من الحصون والقلاع ، وقد كانوا يعتقدون أنهم في عزة ومنعة ، لا يستطيع أحد عليهم ، فجاءهم بأس الله وعذابه من حيث لم يكن في حسابهم [ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . . ] الآيات .
* ثم تناولت السورة موضوع الفيء والغنيمة ، فبينت شروطه وأحكامه ، ووضحت الحكمة من تخصيص الفيء بالفقراء ، لئلا يستأثر به الأغنياء ، وليكون هناك بعض التعادل بين طبقات المجتمع ، بما فيه خير الفريقين ، وبما يحقق المصلحة العامة [ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين . . ] الآيات .
* وتناولت السورة أصحاب رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالثناء العاطر ، فنوهت بفضائل المهاجرين ، ومآثر الأنصار ، فالمهاجرون هجروا الديار والأوطان حبا في الله ، والأنصار نصروا دين الله ، وآاثروا إخوانهم - المهاجرين - بالأموال والديار على أنفسهم ، مع فقرهم وحاجتهم [ للفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالمم يبتغون فضلا من الله ورضوانا . . ] الآيات .
* وفي مقابلة ذكر المهاجرين والأنصار ، ذكرت السورة المنافقين الأشرار ، الذين تحالفوا مع اليهود ضد الإسلام ، وضربت لهم أسوأ الأمثال ، فمثلتهم بالشيطان الذي يغري الإنسان بالكفر والضلال ، ثم
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 232)(1/1202)
يتخلى عنه ويخذله ، وهكذا كان شأن المنافقين مع إخوانهم اليهود [ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم . . ] الآيات .
* ووعظت السورة المؤمنين بتذكر ذلك اليوم الرهيب ، الذي لا ينفع فيه حسب ولا نسب ، ولا يفيد فيه جاه ولا مال ، وبينت الفارق الهائل بين أهل الجنة وأهل النار ، ومصير السعداء ومصير الأشقياء في دار العدل والجزاء [ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد . . ] الآيات.
* وختمت السورة بذكر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا وبتنزيهه عن صفات النقص [ هو الله الذي لا إله إلا هو.. ] الآيات إلى نهاية السورة الكريمة ، وهكذا يتناسق البدء مع الختام ، في أبدع تناسق ووئام !! (1)
مقصودها بيان ما دل عليه آخر المجادلة من التنزه عن شوائب النقص بإثبات القدرة الشاملة بدليل شهودي على أنه يغلب هو ورسله ، ومن حاده في الأذلين ، لأنه قوي عزيز ، المستلزمة للعلم التام المستلزم الحكمة البالغة المستلزمة للحشر المظهر لفلاح المفلح وخسار الخاسر على زجه الثبات الكاشف أتم كشف لجميع صفات الكمال ، وأدل ما فيها على ذلكط تأمل قصة بني النضير المعلم بأول الحشر المؤذن بالحشر الحقيقي بالقدرة عليه بعد إطباق الولي والعدو على ظن أنه لا يكون ، فلذا سميت الحشر وببني النضير لأنه سبحانه وتعالى حشرهم بقدرته من المدينة الشريفة إلى خيبر والشام والحيرة ثم حشرهم وغيرهم من اليهود الحشر الثاني من خيبر إلى الشام الذي هو آية الحشر الأعظم إلى أرض الحشر لقهر هذا النبي الكريم أهل الكتاب المدعين لأنهم أفضل الناس وأنهم مؤيدون بما لهم من الدين الذي أصله قويم بما لوحت إليه الحديد كما قهر أهل الأوثان الذين هم عالمون بأنهم بدلوا الدين الصحيح فثبتت بظهور دينه على كل دين على حد سواء كما وعد به سبحانه صدقه في كل ما جاء به بعد التوحيد - الإيمان بالبعث الآخر لأنه محط الحكمة وموضع إظهار النقمة والرحمة (2)
نزلت هذه السورة في حادث بني النضير - حي من أحياء اليهود - في السنة الرابعة من الهجرة. تصف كيف وقع؟ ولما ذا وقع؟ وما كان في أعقابه من تنظيمات في الجماعة الإسلامية .. ترويها بطريقة القرآن الخاصة ، وتعقب على الأحداث والتنظيمات بطريقة القرآن كذلك في تربية تلك الجماعة تربية حية بالأحداث والتوجيهات والتعقيبات.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 328)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 509)(1/1203)
وقبل أن نستعرض النصوص القرآنية في السورة ، نعرض شيئا مما ذكرته الروايات عن ذلك الحادث الذي نزلت السورة بشأنه لنرى ميزة العرض القرآني ، وبعد آماده وراء الأحداث التي تتنزل بشأنها النصوص ، فتفي بمقتضيات الأحداث ، وتمتد وراءها وحولها في مجالات أوسع وأشمل من مقتضيات تلك الأحداث المحدودة بالزمان والمكان.
كانت وقعة بني النضير في أوائل السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أحد وقبل غزوة الأحزاب. ومما يذكر عنها أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ذهب مع عشرة من كبار أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلي - رضي اللّه عنهم - إلى محلة بني النضير ، يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين بحكم ما كان بينه وبينهم من عهد في أول مقدمه على المدينة. فاستقبله يهود بني النضير بالبشر والترحاب ووعدوا بأداء ما عليهم ، بينما كانوا يدبرون أمرا لا غتيال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ومن معه. وكان - صلى الله عليه وسلم - جالسا إلى جدار من بيوتهم. فقال بعضهم لبعض : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه. فمن رجل منكم يعلو هذا البيت ، فيلقي عليه صخرة ، فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب. فقال : أنا لذلك. فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال. فألهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ما يبيت اليهود من غدر.
فقام كأنما ليقضي أمرا. فلما غاب استبطأه من معه ، فخرجوا من المحلة يسألون عنه ، فعلموا أنه دخل المدينة.وأمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بالتهيؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم ، ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم. وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف - من بني النضير - في هجاء رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وتأليبه الأعداء عليه. وما قيل من أن كعبا ورهطا من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قيام ذلك العهد بينهم وبينه. مما جعل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يأذن لمحمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف. فقتله.فلما كان التبييت للغدر برسول اللّه في محلة بني النضير لم يبق مفر من نبذ عهدهم إليهم. وفق القاعدة الإسلامية : «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» .. فتجهز رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وحاصر محلة بني النضير ، وأمهلهم ثلاثة أيام - وقيل عشرة - ليفارقوا جواره ويجلوا عن المحلة على أن يأخذوا أموالهم ، ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم. ولكن المنافقين في المدينة - وعلى رأسهم عبد اللّه بن أبي بن سلول رأس النفاق - أرسلوا إليهم يحرضونهم على الرفض والمقاومة ، وقالوا لهم : أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم. إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم.
وفي هذا يقول اللّه تعالى : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ : لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.(1/1204)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ...».
فتحصن اليهود في الحصون فأمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بقطع نخيلهم والتحريق فيها. فنادوه : أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه : فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ وفي الرد عليهم نزل قوله تعالى : «ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ» ..
ولما بلغ الحصار ستا وعشرين ليلة ، يئس اليهود من صدق وعد المنافقين لهم ، وقذف اللّه في قلوبهم الرعب ، فسألوا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يجليهم ويكف عن دمائهم ، كما سبق جلاء بني قينقاع (و قد ذكرنا سببه وظروفه في تفسير سورة الأحزاب في الجزء الحادي والعشرين ) على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح. فأجابهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل. فكان الرجل منهم يهدم بيته عن خشبة بابه فيحمله على ظهر بعيره أو يخربه حتى لا يقع في أيدي المسلمين وكان المسلمون قد هدموا وخربوا بعض الجدران التي اتخذت حصونا في أيام الحصار.
وفي هذا يقول اللّه في هذه السورة : «هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ ، فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم ْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ. وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ»..
وكان منهم من سار إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام. وكان من أشرافهم ممن سار إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وحي بن أخطب ، ممن ورد ذكرهم بعد ذلك في تأليب المشركين على المسلمين في غزوة الأحزاب ووقعة بني قريظة (في سورة الأحزاب) وكان لبعضهم كذلك ذكر في فتح خيبر (في سورة الفتح).
وكانت أموال بني النضير فيئا خالصا للّه وللرسول لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا جمال. فقسمها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين هما سهل بن حنيف ، وأبو دجانة سماك بن خرشة. وذلك أن المهاجرين لم يكن لهم مال بعد الذي تركوه في مكة وتجردوا منه كله لعقيدتهم. وكان الأنصار قد أنزلوهم دورهم وشاركوهم مالهم في أريحية عالية ، وأخوة صادقة ، وإيثار عجيب. فلما وأتت هذه الفرصة سارع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لإقامة الأوضاع الطبيعية في المجتمع الإسلامي ، كي يكون للفقراء مال خاص ، وكي لا يكون المال متداولا في الأغنياء وحدهم. ولم يعط من الأنصار إلا الفقيرين اللذين يستحقان لفقرهما ..(1/1205)
وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم - والراجح أنهم من المنافقين - فقال تعالى : «وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ، وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - للأنصار : «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة. وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة» فقالت الأنصار : بل نقسم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها.
وفي هذا نزل قوله تعالى : «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً ، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
فهذا هو الحادث الذي نزلت فيه هذه السورة ، وتعلقت به نصوصها ، بما في ذلك خاتمة السورة التي يتوجه فيها الخطاب للذين آمنوا ممن شهدوا هذا الحادث وممن يعرفونه بعد ذلك. على طريقة القرآن في تربية النفوس بالأحداث وبالتعقيب عليها ، وربطها بالحقائق الكلية الكبيرة .. ثم الإيقاع الأخير في السورة بذكر صفات اللّه الذي يدعو الذين آمنوا ويخاطبهم بهذا القرآن. وهي صفات ذات فاعلية وأثر في هذا الكون وعلى أساس تصور حقيقتها يقوم الإيمان الواعي المدرك البصير.
وتبدأ السورة وتختم بتسبيح اللّه الذي له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم : فيتناسق البدء والختام ، مع موضوع السورة ، ومع دعوة المؤمنين للتقوى والخشوع والتفكر في تدبير اللّه الحكيم. (1)
==================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3518)(1/1206)
(60) سورة الممتحنة
عرفت هذه السورة في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف بـ"سورة الممتحنة". قال القرطبي: والمشهور على الألسنة النطق في كلمة الممتحنة بكسر الحاء وهو الذي جزم به السهيلي.
ووجه التسمية أنها جاءت فيها آية امتحان إيمان النساء اللاتي يأتين من مكة مهاجرات إلى المدينة وهي آية {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى قوله: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. فوصف الناس تلك الآية بالممتحنة لأنها شرعت الامتحان. وأضيفت السورة إلى تلك الآية.
وقال السهيلي: أسند الامتحان إلى السورة مجازا كما قيل لسورة براءة الفاضحة. يعني أن ذلك الوصف مجاز عقلي.
وروي بفتح الحاء على اسم المفعول قال ابن حجر: وهو المشهور أي المرأة الممتحنة على أن التعريف تعريف العهد والمعهود أول امرأة امتحنت في إيمانها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط امرأة عبد الرحمان بن عوف. كما سميت سورة قد سمع الله سورة المجادلة بكسر الدال.
ولك أن تجعل التعريف تعريف الجنس، أي النساء الممتحنة.
قال في الإتقان : وتسمى سورة الامتحان، وسورة المودة، وعزا ذلك إلى كتاب جمال القراء لعلي السخاوي ولم يذكر سنده. وهذه السورة مدنية بالاتفاق.
واتفق أهل العدد على عد آيها ثلاث عشرة آية. وآياتها طوال.
واتفقوا على أن الآية الأولى نزلت في شأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين من أهل مكة.
روى البخاري من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار يبلغ به إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ثم قال: قال عمرو بن دينار: نزلت فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الممتحنة: 1] قال سفيان: هذا في حديث الناس لا أدري في الحديث أو قول عمرو. حفظته من عمرو وما تركت منه حرفا اهـ.
وفي صحيح مسلم وليس في حديث أبي بكر وزهير من الخمسة الذين روى عنهم مسلم يروون عن سفيان بن عيينة ذكر الآية. وجعلها إسحاق أي بن إبراهيم أحد من روى عنهم مسلم هذا الحديث في روايته من تلاوة سفيان اهـ. ولم يتعرض مسلم لرواية عمرو الناقد وابن أبي عمر عن سفيان فلعلهما لم يذكرا شيئا في ذلك.(1/1207)
واختلفوا في آن كتابة إليهم أكان عند تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحديبية وهو قول قتادة ودرج عليه ابن عطية وهو مقتضى رواية الحارث عن علي بن أبي طالب عند الطبري، قال: لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي مكة أفشى في الناس أنه يريد خيبر وأسر إلى ناس من أصحابه منهم حاطب بن أبي بلتعة أنه يريد مكة. فكتب حاطب إلى أهل مكة... إلى آخره، فإن قوله: أفشى، أنه يريد خيبر يدل على أن إرادته مكة إنما هي إرادة عمر الحديبية لا غزو مكة لأن خيبر فتحت قبل فتح مكة. ويؤيد هذا ما رواه الطبري أن المرأة التي أرسل معها حاطب كتابه كان مجيئها المدينة بعد غزوة بدر بسنتين: وقال ابن عطية: نزلت هذه السورة سنة ست.
وقال جماعة: كان كتاب حاطب إلى أهل مكة عند تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفتح مكة، وهو ظاهر صنيع جمهور أهل السير وصنيع البخاري في كتاب المغازي من صحيحه في ترتيبه للغزوات، ودرج عليه معظم المفسرين.
ومعظم الروايات ليس فيها تعيين ما قصده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تجهزه إلى مكة أهو لأجل العمرة أم لأجل الفتح فإن كان الأصح الأول وهو الذي نختاره كانت السورة جميعها نازلة في مدة متقاربة فإن امتحان أم كلثوم بنت عقبة كان عقب صلح الحديبية. ويكون نزول السورة مرتبا على ترتيب آياتها وهو الأصل في السور.
وعلى القول الثاني يكون صدور السورة نازلا بعد آيات الامتحان وما بعدها حتى قال بعضهم: إن أول السورة نزل بمكة بعد الفتح، وهذا قول غريب لا ينبغي التعويل عليه.
وهذه السورة قد عدت الثانية والتسعين في تعداد نزول السور. عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة العقود وقبل سورة النساء.
أغراض هذه السورة
اشتملت من الأغراض على تحذير المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياء مع أنهم كفروا بالدين الحق وأخرجوهم من بلادهم.
وإعلامهم بأن اتخاذهم أولياء ضلال وأنهم لو تمكنوا من المؤمنين لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصر القرابة لا يعتد به تجاه العداوة في الدين، وضرب لهم مثلا في ذلك قطيعة إبراهيم لأبيه وقومه.
وأردف ذلك باستئناس المؤمنين برجاء أن تحصل مودة بينهم وبين الذين أمرهم الله بمعاداتهم أي هذه معاداة غير دائمة.(1/1208)
وأردف بالرخصة في حسن معاملة الكفرة الذين لم يقاتلوا المسلمين قتال عداوة في دين ولا أخرجوهم من ديارهم. وهذه الأحكام إلى نهاية الآية التاسعة.
وحكم المؤمنات اللاء يأتين مهاجرات واختبار صدق إيمانهن وأن يحفظن من الرجوع إلى دار الشرك ويعوض أزواجهن المشركون ما أعطوهن من المهور ويقع التراد كذلك مع المشركين.
ومبايعة المؤمنات المهاجرات ليعرف التزامهن لأحكام الشريعة الإسلامية. وهي الآية الثانية عشرة.
وتحريم تزوج المسلمين المشركات وهذا في الآيتين العاشرة والحادية عشرة.
والنهي عن موالاة اليهود وأنهم أشبهوا المشركين وهي الآية الثالثة عشرة. (1)
مناسبتها لما قبلها
كان مما تحدثت به السورة السابقة (الحشر) هذا الحديث الذي يكشف عن وجوه المنافقين ، الذي جعلوا بينهم وبين الذين كفروا من أهل الكتاب مودة قائمة على العداوة والكيد ، للنبى وللمؤمنين ، وأن هذه المودة قد كانت شؤما وبلاء على أهلها من هؤلاء وأولئك جميعا ..
وتبدأ سورة الممتحنة بهذا التحذير للمؤمنين ، أن يأخذوا هذا الاتجاه المهلك الذي اتخذه الذين نافقوا ممن كانوا فى المؤمنين .. فهذا التحذير الذي يجىء عقب هذا البلاء الذي حلّ بأحلاف الضلال ـ هو أشبه بالضرب على الحديد وهو ساخن ـ كما يقولون ـ حيث يظهر أثر هذا الضرب عليه ، ويستجيب للصورة التي يراد تشكيله عليها .. فإنه ما إن ينتهى الذي يتلو سورة (الحشر) من تلاوتها ، حتى تلقاه سورة (الممتحنة) لتعيده مرة أخرى إلى هذه الصورة التي تمثلت له مما حل بالمنافقين وأحلافهم من اليهود ، ولتقيم بين يديه منها ، هاوية يهوى إليها كل من يأخذ هذا الطريق الضال ، فيجعل بينه وبين أعداء اللّه ورسوله ألفة ومودة. فإنه إن يفعل تردّى فى هذه الهاوية السحيقة التي تردّى فيها المنافقون الذين وقف على مصارعهم منذ قليل .. فلينظر من كان له نظر .. وليختر الطريق الذي يحلوله ..!! (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الممتحنة » هي السورة الستون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة الأحزاب ، وقبل سورة النساء ، وهي من السور المدنية الخالصة ، وعدد آياتها ثلاث عشرة آية.
واشتهرت بهذا الاسم منذ العهد النبوي ، إلا أن منهم من يقرؤها بفتح الحاء ، على أنها صفة للمرأة التي نزلت فيها ، ومنهم من يقرؤها بكسر الحاء على أنها صفة للسورة.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (28 / 115)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 889)(1/1209)
قال القرطبي : الممتحنة - بكسر الحاء - أى : المختبرة ، أضيف الفعل إليها محازا ، كما سميت سورة براءة بالفاضحة ، لما كشفت من رذائل المنافقين ، ومن قال في هذه السورة الممتحنة - بفتح الحاء - فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها. وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط. قال اللّه - تعالى - : فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ، ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن .
وقال صاحب الإتقان : وتسمى « سورة الامتحان » و« سورة المودة ».
2 - وقد افتتحت هذه السورة بتوجيه نداء إلى المؤمنين ، نهتهم فيه عن اتخاذ أعداء اللّه وأعدائهم أولياء ، وبينت لهم ما جبل عليه هؤلاء الأعداء من كراهية للحق ، كما بينت لهم سوء عاقبة من يوالى هؤلاء الأعداء.قال - تعالى - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ، إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي. وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ ، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
3 - ثم انتقلت السورة الكريمة إلى دعوتهم إلى الاقتداء بأبيهم إبراهيم - عليه السلام - الذي قطع صلته بأقرب الناس إليه ، عند ما رآه مصرا على كفره ، وأعلن أنه عدو لكل من أشرك مع اللّه - تعالى - في العبادة آلهة أخرى. قال - تعالى - : قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، كَفَرْنا بِكُمْ ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ، لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ، رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
4 - ثم بشر - سبحانه - المؤمنين ، بأنه - بفضله وكرمه - سيجمع شملهم بأقاربهم الذين تشددوا في عداوتهم ، بأن يهدى هؤلاء الأقارب إلى الحق ، فيتصل حبل المودة بينهم جميعا ، ببركة اجتماعهم تحت كلمة الإسلام ، فقال - تعالى - : عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ، وَاللَّهُ قَدِيرٌ ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
5 - وبعد أن رخص للمؤمنين في مودة الكفار الذين لم يقاتلوهم ولم يلحقوا بهم أذى ..
ونهاهم عن مودة الكفار الذين قاتلوهم وآذوهم .. بعد كل ذلك وجه - سبحانه - نداء ثانيا إلى المؤمنين بين لهم حكم النساء اللائي أتين مؤمنات إليهم ، بعد أن تركن أزواجهن الكفار ، وفصل - سبحانه - هذه الأحكام حرصا على النساء المؤمنات.فقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ.(1/1210)
6 - ثم أمر - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبايع النساء المؤمنات على ما بايع عليه الرجال ، وأن يأخذ عليهن العهود على الطاعة للّه - تعالى - والبعد عن محارمه.
قال - تعالى - : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً ، وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ، وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ، وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ، فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
7 - ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بتوجيه نداء ثالث إلى المؤمنين نهاهم فيه مرة أخرى عن موالاة أعداء اللّه وأعدائهم .. فقال - سبحانه - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ.
8 - هذا والمتأمل في هذه السورة الكريمة ، يراها قد ساقت للمؤمنين ألوانا من التربية التي تغرس العقيدة السليمة في قلوبهم ، وتجعلهم يضحون من أجلها بكل شيء ، ويقدمونها في تصرفاتهم على محبة الآباء والأبناء والعشيرة والأموال ، وتكشف لهم عن سوء نيات الكافرين نحوهم ، وعن حرصهم على إنزال الضرر بهم ، كما ضربت لهم الأمثال بإبراهيم - عليه السلام - لكي يقتدوا به في قوة إيمانه ، وفي إخلاصه لدينه ، كما بينت لهم من يجوز لهم مودتهم من الكافرين ، ومن لا يجوز لهم ذلك منهم .. ثم ختمت ببيان بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء المؤمنات المتزوجات من الكافرين ، وبالنساء اللائي جئن إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكي يبايعنه على الإيمان والطاعة. (1)
في السورة نهي عن موالاة الكفار الأعداء المعتدين مهما ربطت بينهم وبين المسلمين أرحام. ودعوة للتأسي بإبراهيم والمؤمنين معه في موقفهم من قومهم الكافرين. وتأميل باهتداء الكفار. وتقرير بأن النهي لا يتناول المسالمين بحيث لا حرج على المسلمين من موادة هؤلاء والبرّ بهم. وإنما يتناول الأعداء المؤذين والمتظاهرين معهم على الإسلام والمسلمين. وأمر بعدم إرجاع المسلمات المهاجرات إلى الكفار. وتحريم بقاء المسلمين مرتبطين بزوجاتهم الكافرات.
وأمر بمبايعة المسلمات وأخذ العهد عليهن استقلالا. وانطوى في السورة صور عديدة من السيرة النبوية. وتلقينات جليلة المدى.
وهي فصلان مستقلان في الموضوع متناسبان في الظروف. وإذا صحت الروايات التي سوف نوردها بعد فإن الأمر بمبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء المسلمات يكون قد نزل بعد الفتح المكي. وعلى كل حال فالذي
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 317)(1/1211)
نرجحه أنها من السور التي ألفت تأليفا في وقت متأخر بعد نزول ما اقتضت حكمة اللّه ورسوله أن تحتويه من فصول.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه وكذلك روايات ترتيب النزول الأخرى «1» تذكر أن هذه السورة نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الفتح التي احتوت إشارة إلى رحلة الحديبية وصلحها بسور عديدة. في حين أن مضامينها والروايات الواردة في صددها تسوغ القول - بقوة - بأنها نزلت بعد ذلك الصلح ، بل وبين يدي فتح مكة الذي كان بعد ذلك الصلح بسنتين. وهذا ما جعلنا نخالف روايات الترتيب فيها كما فعلنا في بعض السور ونؤخرها إلى ما بعد سورة الفتح التي نزلت عقب ذلك الصلح مباشرة ثم إلى ما بعد سورة المائدة التي نزل فصلها الأول كذلك عقبه على ما شرحناه في سياق تفسير السورتين. وبذلك يتم التساوق في ترتيب النزول في نطاق ما هو معروف من صحيح الوقائع. واللّه أعلم. (1)
سورة الممتحنة مدنيّة ، وهي ثلاث عشرة آية.
تسميتها : سميت سورة الممتحنة (بكسر الحاء) أي المختبرة ، بإضافة الفعل إلى المرأة مجازا ، كما سميت سورة (براءة) : المبعثرة والفاضحة ، لما كشفت عيوب المنافقين. ويقال : (الممتحنة) بفتح الحاء وهو المشهور بإضافة الفعل حقيقة إلى المرأة التي نزلت فيها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، قال اللّه تعالى :فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ [10] الآية. وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ، ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة الحشر من وجهين :
1 - ذكر في الحشر موالاة المؤمنين بعضهم بعضا ، ثم موالاة الذين نافقوا للكفار من أهل الكتاب ، وافتتحت هذه السورة بنهي المؤمنين عن اتخاذ الكافر أولياء ، لئلا يشابهوا المنافقين في ذلك ، وكرر النهي في السورة ، ثم ختمت به.
2 - كانت سورة الحشر في المعاهدين من أهل الكتاب ، وهذه السورة للمعاهدين من المشركين ، لأنها نزلت في صلح الحديبية ، فالسورتان تشتركان في بيان علاقات المسلمين مع غيرهم.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية في بيان الأحكام التشريعية ، وهي هنا أحكام المتعاهدين من المشركين ، والذين لم يقاتلوا المسلمين ، والمؤمنات المهاجرات وامتحانهن.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (9 / 266)(1/1212)
ابتدأت السورة بالنهي عن موالاة المشركين وأسباب ذلك وهي إيذاء المؤمنين وعداوتهم للّه ولمن آمنوا ، وإلجاؤهم إلى الهجرة وترك الديار والأوطان.
ثم ذكرت أن القرابة أو الصداقة غير نافعة يوم القيامة ، وإنما النافع للإنسان هو الإيمان والعمل الصالح : لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...
وأعقبت ذلك بضرب الأمثال بقصة إبراهيم ومن معه من المؤمنين ، وتبرؤهم من قومهم المشركين ، ليتخذ المؤمن أبا الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن قدوة وأسوة طيبة : قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ .. الآيات.
ثم وضعت أصول العلاقات بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب في حالتي السلم والحرب ، والمودة والعداوة : لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ .. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ الآيات.
وانتقل البيان عقب ما ذكر إلى حكم العلاقات مع المشركين فيما يتعلق بالنساء المؤمنات ، وضرورة امتحانهن عند الهجرة لدار الإسلام ، وعدم ردهن إلى الكفار في دار الكفر وإيتاء أزواجهن مهورهن : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ .. الآيات.
واستتبع ذلك بيان حكم مبايعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهن ، وشروط البيعة وبنودها ، وأصولها في الإسلام وداره.
وختمت السورة بتأكيد النهي عن موالاة أعداء المؤمنين من المشركين والكفار ، حرصا على وحدة الأمة والملة : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً .... (1)
وهي مدنية في قول الجميع ، وعدد آياتها ثلاث عشرة آية. وهذه السورة تحدد موقف المسلمين من المشركين تحديدا تامّا من ناحية الصلة والمودة ، ومن ناحية القتال والمسالمة ، ومن ناحية العلاقة الزوجية القائمة بين المسلم وغيره ، وكيف بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء ، وفي الختام - كما في البدء - النهى عن موالاة الكفار. (2)
قال ابن حجر : المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء وقد تكسر فعلى الأول هي صفة المرأة التي أنزلت بسببها ، وعلى الثاني صفة السورة كما قيل لبراءة : الفاضحة ، وفي جمال القراء تسمى أيضا سورة الامتحان وسورة المودة ، وأطلق ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم القول بمدنيتها ، وذكر بعضهم أن أولها نزل يوم فتح مكة فكونها مدنية إما من باب التغليب أو مبني على أن المدني ما نزل بعد الهجرة ، وهي ثلاث عشرة آية بالاتفاق.
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (28 / 115) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 60)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 655)(1/1213)
ومناسبتها لما قبلها أنه ذكر فيما قبل موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب ، وذكر في هذه نهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء لئلا يشابهوا المنافقين ، وبسط الكلام فيه أتم بسط وقيل في ذلك أيضا : إن فيما قبل ذكر المعاهدين من أهل الكتاب وفي هذه ذكر المعاهدين من المشركين لأن فيها ما نزل في صلح الحديبية ، ولشدة اتصالها بالسورة قبلها فصل بها بينها وبين الصف مع تواخيهما في الافتتاح - بسبح - . (1)
* هذه السورة الكريمة من السور المدنية ، التي تهتم بجانب التشريع ، ومحور السورة يدور حول فكرة (الحب والبغض في الله)الذي هو أوثق عرى الإيمان ، وقد نزل صدر السورة عتابا لحاطب بن أبي بلتعة ، حين كتب كتابا لأهل مكة ، يخبرهم أن الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد تجهز لغزوهم ، كما ذكر تعإلى حكم موالاة أعداء الله ، وضرب الأمثال في إبراهيم والمؤمنين في تبرؤهم من المشركين ، وبين حكم الذين لم يقاتلوا المسلمين ، وحكم المؤمنات المهاجرات وضرورة امتحانهن ، وغير ذلك من الأحكام التشريعية .
* ابتدأت السورة الكريمة بالتحذير من موالاة أعداء الله ، الذين آذوا المؤمنين حتى اضطروهم إلى الهجرة ، وترك ا لديار والأوطان [ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء .. ] الآيات .
* ثم بينت السورة أن القرابة والنسب والصداقة في هذه الحياة ، لن تنفع الإنسان أبدا يوم القيامة ، حيث لا ينفع الإنسان إلا الإيمان والعمل الصالح [ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة .. ] الآيات .
* ثم ضربت المثل في إيمان إبراهيم عليه السلام وأتباعه المؤمنين ، حين تبرءوا من قومهم المشركين ، ليكون ذلك حافزا لكل مؤمن ، على الاقتداء بأبي الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن [ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا .. ] الآيات .
* وتحدثت السورة عن حكم الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم [ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم . . ] وحكم الذين قاتلوا المؤمنين وآذوهم [ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين . . ] الآيات .
* وبينت السورة وجوب امتحان المؤمنات عند الهجرة ، وعدم ردهن إلى الكفار ، إذا ثبت إيمانهن ، وقررت عدم الاعتداد بعصمة الكافر ، ثم بين تعالى حكم الهجرة ، ومبايعة النساء للرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وشروط هذه البيعة [ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن . . ] الآيات وقوله : [ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا . . ] الآيات .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 259)(1/1214)
* وختمت السورة بتحذير المؤمنين من موالاة الكفرة المجرمين أعداء الله [ يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ، قد يئسوا من الأخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ] وهكذا ختمت السورة بمثل ما بدأت به من التحذير من موالاة أعداء الله ، ليتناسق الكلام في البدء والختام .
قال الله تعالى : [ ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ... ] إلى قوله سبحانه [ كما يئس الكفار من أصحاب القبور ] من آية (1) إلى آية (13) نهاية السورة الكريمة . (1)
مقصودها براءة من أقر بالإيمان ممن اتسم بالعدوان دلالة على صحة مدعاه كما أن الكفار تبرؤوا من المؤمنين وكذبوا بما جاءهم من الحق لئلا يكونوا على باطلهم أحرص من المؤمنين على حقهم ، وتسميتها بالممتحنة أوضح شيء فيها وأدله على ذلك لأن الصهر أعظم الوصل وأشرفها بعد الدين ، فإذا نفى ومنع دل على أعظم المقاطعة لدلالته على الامتهان بسبب الكفران الذي هو أقبح العصيان (2)
هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني. حلقة من تلك السلسلة الطويلة ، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة ، التي ناط بها اللّه تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية ، في صورة واقعية عملية ، كيما يستقر في الأرض نظاما ذا معالم وحدود وشخصية مميزة تبلغ إليه البشرية أحيانا ، وتقصر عنه أحيانا ، ولكنها تبقى معلقة دائما بمحاولة بلوغه وتبقى أمامها صورة واقعية منه ، تحققت يوما في هذه الأرض.
وقد اقتضى هذا - كما قلنا في أول هذا الجزء - إعدادا طويلا في خطوات ومراحل. وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة ، أو تتعلق بها ، مادة من مواد هذا الإعداد. مادة مقدرة في علم اللّه ، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه.
وفي مضطرب الأحداث ، وفي تيار الحياة المتدفق ، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض. فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد ، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة. وكانت التربية المستمرة متجهة دائما إلى إنشاء هذا التصور الإيماني الخاص المميز ، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك ، وفي الجزيرة العربية بصفة خاصة. أما الناس الذين ينشأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة ومضطرب الأحداث ، بل كانوا يصهرون في بوتقة الحوادث يوما بعد يوم ، ومرة بعد مرة ، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة ، وتحت مؤثرات متنوعة لأن اللّه الذي خلق هذه
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 337)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 547)(1/1215)
النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى. وكان يعلم أن رواسب الماضي ، وجواذب الميول الطبيعية ، والضعف البشري ، وملامسات الواقع ، وتحكم الإلف والعادة ، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة. وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير المتكرر ، والصهر المتوالي .. فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر اللّه ، وتتوالى الموعظة بها. والتحذير على ضوئها ، والتوجيه بهديها ، مرة بعد مرة.
وكان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير ، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة ، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس. والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه - صلى الله عليه وسلم - حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين اللّه. بتوفيق اللّه. على يدي رسول اللّه.
هذه السورة حلقة في سلسلة ذلك الإعداد الطويل ، تستهدف - مع غيرها مما جاء في مثل موضوعها - إقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم. عالم محوره الإيمان باللّه وحده ، يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده ، بعروة واحدة لا انفصام لها ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى. عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة. ليجعل في مكانها جميعا عقدة واحدة. هي عقدة الإيمان باللّه. والوقوف تحت راية اللّه.في حزب اللّه.
إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني. رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه اللّه وحكمه ، ويتجه إلى اللّه بكل شعوره وعمله. وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله - في رحاب العقيدة - وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب. وسائر ما يميز إنسانا عن إنسان ، عدا عقيدة الإيمان. وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على اللّه ، المتضمن كيانه نفحة من روح اللّه.
ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة - كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم - عقبات من التعصب للبيت ، والتعصب للعشيرة ، والتعصب للقوم ، والتعصب للجنس ، والتعصب للأرض.
كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس وأهواء القلوب ، من الحرص والشح وحب الخير للذات ، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية .. وألوان غيرها كثير من ذوات الصدور! وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج اللّه في الأرض في صورة عملية واقعة. وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل.
وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم ، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى. وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من(1/1216)
العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم ، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات! وكان اللّه يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج ، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه.
وهو - سبحانه - يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعا - وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت - فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث ، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن! وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة. وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر. ولكن مدى النصوص القرآنية دائما أبعد من الحوادث المباشرة.
وقد قيل في هذا الحادث : إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من المهاجرين. وكان من أهل بدر أيضا.
وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان. فلما عزم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم ، وقال : «اللهم عمّ عليهم خبرنا» .. وأخبر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه بوجهته ، كان منهم حاطب.
فعمد حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة مشركة - قيل من مزينة - جاءت المدينة تسترفد - إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على غزوهم ، ليتخذ بذلك عندهم يدا. فأطلع اللّه - تعالى - رسوله على ذلك استجابة لدعائه. وإمضاء لقدره في فتح مكة. فبعث في أثر المرأة ، فأخذ الكتاب منها.
وقد روى البخاري في المغازي ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبد الرحمن ، عن سعد ابن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي - رضي اللّه عنه - قال : «بعثني رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأبا مرثد والزبير بن العوام - وكلنا فارس - وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين». فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : الكتاب؟ فقالت ما معي كتاب. فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا.
فقلنا : ما كذب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ، وهي محتجزة بكساء ، فأخرجته. فانطلقنا به إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر : يا رسول اللّه. قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضربن عنقه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ما حملك على ما صنعت؟» قال حاطب : واللّه ما بي إلا أن أكون مؤمنا باللّه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أردت أن تكون لي عند القوم يد. يدفع اللّه بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع اللّه به عن أهله(1/1217)
وماله. فقال : «صدق لا تقولوا إلا خيرا». فقال عمر : إنه قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه. فقال : «أليس من أهل بدر؟ - فقال - : لعل اللّه اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو - قد غفرت لكم» فدمعت عينا عمر ، وقال : اللّه ورسوله أعلم .. وزاد البخاري في كتاب المغازي : فأنزل اللّه السورة : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» .. وفي رواية أخرى أن الذين أرسلوا كانوا هم علي والزبير والمقداد.
والوقوف قليلا أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن «ظلال القرآن» والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - القائد المربي العظيم ..
وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب ، وهو المسلم المهاجر ، وهو أحد الذين أطلعهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على سر الحملة .. وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة ، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها وأن لا عاصم إلا اللّه من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها.
ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يعجل حتى يسأل : «ما حملك على ما صنعت» في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه ، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق ، ومن ثم يكف الصحابة عنه : «صدق لا تقولوا إلا خيرا» .. ليعينه وينهضه من عثرته ، فلا يطارده بها ولا يدع أحدا يطارده. بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر : «إنه قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين.
فدعني فلأضرب عنقه» .. فعمر - رضي اللّه عنه - إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم. أما رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها ، ومن كل جوانبها ، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية. في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف ..
ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب ، وهو في لحظة ضعفه ، ولكن تصوره لقدر اللّه وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح .. ذلك حين يقول : «أردت أن تكون لي عند القوم يد .. يدافع اللّه بها عن أهلي ومالي» .. فاللّه هو الذي يدفع ، وهذه اليد لا تدفع بنفسها ، إنما يدفع اللّه بها. ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول : «وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدافع .. اللّه .. به عن أهله وماله» فهو اللّه حاضر في تصوره ، وهو الذي يدفع لا العشيرة. إنما العشيرة أداة يدفع اللّه بها ..(1/1218)
ولعل حس رسول اللّه الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل ، فكان هذا من أسباب قوله - صلى الله عليه وسلم - : «صدق. لا تقولوا إلا خيرا» ..
وأخيرا يقف الإنسان أمام تقدير اللّه في الحادث وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بسر الحملة. وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة. ثم يجري قدر اللّه بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين. كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع ، ولا تنفج بالقول : ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه ، ولو أودعناه نحن ما بحنا به! فلم يرد من هذا شيء. مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم ، وتواضعهم في الظن بأنفسهم ، واعتبارهم بما حدث لأخيهم ...
والحادث متواتر الرواية. أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات البخاري. ولا نستبعد صحة هذه الرواية ولكن مضمون النص القرآني - كما قلنا - أبعد مدى ، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات ، بمناسبة وقوع هذا الحادث ، على طريقة القرآن.
كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة ، والعصبيات الصغيرة ، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني.
وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة ، وقيما جديدة ، وموازين جديدة ، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان ، ووظيفة المؤمنين في الأرض ، وغاية الوجود الإنساني.
وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف اللّه ليعلمهم اللّه ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته ، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد ، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه ، وأنه يريد بهم أمرا ، ويحقق بهم قدرا. ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته ، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا. في الدنيا والآخرة. وإذن فليكونوا خالصين له ، منقطعين لولايته ، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته. في عالم الشعور وعالم السلوك.
والسورة كلها في هذا الاتجاه. حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات ، ومبايعة من يدخلن في الإسلام ، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار. وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر .. فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام ثم ختام السورة كما بدأت بالنهي عن موالاة أعداء اللّه ، ممن غضب عليهم اللّه ، سواء من المشركين أو من اليهود. ليتم التميز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3536)(1/1219)
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) النهى عن موالاة المشركين مع ذكر أسباب ذلك.
(2) ضرب المثل بقصص إبراهيم وقومه.
(3) امتحان النساء المؤمنات المهاجرات وعدم إرجاعهن إلى دار الكفر.
(4) مبايعة النساء المؤمنات فى دار الإسلام.
(5) تأكيد النهى عن موالاة المشركين ، حرصا على شئون الملة ، ونشر الدعوة. (1)
=================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 78)(1/1220)
(61) سورة الصف
اشتهرت هذه السورة باسم سورة الصف وكذلك سميت في عصر الصحابة.
روى ابن أبي حاتم سنده إلى عبد الله بن سلام أن ناسا قالوا: لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى أن قال فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك النفر حتى جمعهم ونزلت فيهم سورة سبح لله الصف الحديث، رواه ابن كثير، وبذلك عنونت في صحيح البخاري وفي جامع الترمذي ، وكذلك كتب اسمها في المصاحف وفي كتب التفسير.
ووجه التسمية وقوع لفظ {صفا} [الصف:4] فيها وهو صف القتال، فالتعريف باللام تعريف العهد.
وذكر السيوطي في الإتقان : أنها تسمى سورة الحواريين ولم يسنده. وقال الآلوسي تسمى سورة عيسى ولم أقف على نسبته لقائل. وأصله للطبرسي فلعله أخذ من حديث رواه في فضلها عن أبي بن كعب بلفظ سورة عيسى. وهو حديث موسوم بأنه موضوع. والطبرسي يكثر من تخريج الأحاديث الموضوعة. فتسميتها سورة الحواريين لذكر الحواريين فيها. ولعلها أول سورة نزلت ذكر فيها لفظ الحواريين.
وإذا ثبت تسميتها سورة عيسى فلما فيها من ذكر {عِيسَى} [الصف:6 ،14] مرتين.
وهي مدنية عند الجمهور كما يشهد لذلك حديث عبد الله بن سلام. وعن ابن عباس ومجاهد وعطاء أنها مكية ودرج عليه في الكشاف والفخر. وقال ابن عطية: الأصح أنها مدنية ويشبه أن يكون فيها المكي.
واختلف في سبب نزولها وهل نزلت متتابعة أو متفرقة متلاحقة.
وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله تعالى {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:1،2] قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله. وأخرجه الحاكم وأحمد في مسنده وابن أبي حاتم والدرامي بزيادة فقرأها علينا رسول الله حتى ختمها أو فقراها كلها.
فهذا يقتضي أنهم قيل لهم: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} قبل أن يخلفوا ما وعدوا به فيكون الاستفهام مستعملا مجازا في التحذير من عدم الوفاء بما نذروه ووعدوا به.
وعن علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فأخبر الله أن أحب الأعمال: إيمان به وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به.(1/1221)
فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم. فأنزل الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} .
ومثله عن أبي صالح أن السورة نزلت بعد أن أمروا بالجهاد بآيات غير هذه السورة. وبعد أن وعدوا بالانتداب للجهاد ثم تقاعدوا عنه وكرهوه. وهذا المروي عن ابن عباس وهو أوضح وأوفق بنظم الآية، والاستفهام فيه للتوبيخ واللوم وهو المناسب لقوله بعده {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3].
وعن مقاتل بن حيان: قال المؤمنون: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به فدلهم الله فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف:4]، فابتلوا يوم أحد بذلك فولوا مدبرين فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} . ونسب الواحدي مثل هذا للمفسرين وهو يقتضي أن صدر الآية نزل بعد آخرها.
وعن الكلبي: أنهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها فنزلت {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] الآية. فابتلوا يوم أحد فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} تعيرهم بترك الوفاء. وهو يقتضي أن معظم السورة قبل نزول الآية التي في أولها.
وهي السورة الثامنة والمائة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد. نزلت بعد سورة التغابن وقبل سورة الفتح. وكان نزولها بعد وقعة أحد.
وعدد آيها أربع عشرة آية باتفاق أهل العدد.
أغراضها
أول أغراضها التحذير من إخلاف الوعد والالتزام بواجبات الدين.
والتحريض على الجهاد في سبيل الله والثبات فيه، وصدق الإيمان.
والثبات في نصرة الدين.
والائتساء بالصادقين مثل الحواريين.
والتحذير من أذى الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعريضا باليهود مثل كعب بن الأشرف.
وضرب المثل لذلك بفعل اليهود مع موسى وعيسى عليهما السلام.
والتعريض بالمنافقين.
والوعد على إخلاص الإيمان والجهاد بحسن مثوبة الآخرة والنصر والفتح. (1)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (28 / 153)(1/1222)
مناسبتها لما قبلها
كانت السورة السابقة « الممتحنة » حديثا متصلا إلى المؤمنين ، وما ينبغى أن يكون عليه موقفهم من المشركين ، والذين يكيدون للإسلام والمسلمين ، وأن هذا الموقف يقتضيهم أن يقطعوا ما بينهم وبين هؤلاء وهؤلاء من صلات القربى والمودة ، وأن يجعلوا ولاءهم خالصا لدين اللّه والمؤمنين باللّه ـ وهذه حال من شأنها أن تكشف عن ضعف بعض النفوس التي لا تحتمل هذه التجربة ، ولا تصبر على هذا الامتحان ، وهنا تكثر الأقوال التي يدّعى أصحابها دعاوى تحدّث عن موقفهم من المشركين ، والمنافقين ، على حين أن حالة أفعالهم أو ما فى قلوبهم ، تخالف هذه الأقوال .. فكان أن بدأت سورة (الصف) بالتسبيح بحمد اللّه الذي هدى المؤمنين إلى الإيمان ، ثم ببيان المنهج الذي ينهجه المؤمنون ، كى يبقى هذا الإيمان سليما قوبا فى صدورهم ..وأساس هذا المنهج هو الأفعال لا الأقوال .. الأفعال التي تصدر عن قلب مؤمن ، وعن مشاعر مستجيبة لهذا الإيمان ، لا الأقوال التي لا يصدّقها العمل ، ولا يزكيها الإيمان .. « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ »..وهكذا تبدأ سورة « الصفّ » فتتصل هذا الاتصال الوثيق بسورة « الممتحنة » قبلها. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الصف » من السور المدنية الخالصة ، وقد اشتهرت بهذا الاسم منذ عهد النبوة.
فقد أخرج الإمام أحمد عن عبد اللّه بن سلام قال : تذاكرنا : أيكم يأتى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فيسأله عن أحب الأعمال إلى اللّه؟ فلم يقم أحد منا ، فأرسل إلينا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - رجلا ، فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة ، يعنى سورة الصف كلها .
قال الآلوسى : وتسمى - أيضا - سورة الحواريين ، وسورة عيسى - عليه السلام - .
وعدد آياتها أربع عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة « التغابن » وقبل سورة « الفتح ».
2 - وقد افتتحت بتسبيح اللّه - تعالى - عن كل ما لا يليق به ، ثم وجهت نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه أن يقولوا قولا لم تطابقه أفعالهم ، فقال - تعالى - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ.
وبعد أن ذكر - سبحانه - جانبا مما قاله موسى - عليه السلام - لقومه ، وما قاله عيسى - عليه السلام - لقومه ، أتبع ذلك ببيان ما جبل عليه الكافرون من كذب على الحق ومن كراهية لظهور نوره ، فقال
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 914)(1/1223)
- تعالى - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
3 - ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين ، دعاهم فيه - بأبلغ أسلوب - إلى الجهاد في سبيله ، بالأنفس والأموال ، وحضهم على أن يقتدوا بالحواريين فقال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ ، قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ ، فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ ، فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ.
4 - وهكذا نجد السورة الكريمة تفتتح بتنزيه اللّه - تعالى - عن كل نقص ، وتنهى عن أن تكون الأقوال مخالفة للأفعال ، وتبشر الذين يجاهدون في سبيل اللّه - تعالى - بمحبته ورضوانه ، وتذم الذين آذوا رسل اللّه - تعالى - وأنكروا نبوتهم بعد أن جاءوهم بالبينات ، وترشد إلى التجارة الرابحة التي توصل إلى الفوز العظيم. (1)
في السورة كسابقتها تقرير بتسبيح كل ما في السموات والأرض للّه. وتنديد ببعض المسلمين الذين يقولون ما لا يفعلون. ودعوة للصدق والتضامن في القتال في سبيل اللّه وإيذان بحب اللّه لمن يفعلون ذلك. وتذكير تحذيري بما كان من بني إسرائيل إزاء موسى عليه السلام من إزعاج وأذى. وحكاية لقول عيسى عليه السلام لقومه بماهية رسالته وبشارته بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بعده. وإيذان بأن اللّه قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليكون الدين الظاهر على جميع الأديان وبأن سيتم نوره ويحبط جهد الذين يريدون إطفاءه. وبشارة دنيوية وأخروية للمجاهدين في سبيل اللّه وحثّ على الجهاد. ودعوة للتأسي بالحواريين في نصر دين اللّه.
وآيات السورة مترابطة ووحدة تامة وفيما جاء في صدد موسى وعيسى عليهما السلام تدعيم موقف النبي من الدعوة إلى الجهاد مما يحمل على الترجيح بنزولها دفعة واحدة أو متتابعة مع التنبيه إلى أن هناك حديثا يذكر أنها نزلت دفعة واحدة في مناسبة معينة على ما سوف يرد بعد «1».
وقد قال الزمخشري إن السورة مكية. وروى بعضهم هذا عن عطاء أيضا «2».
وهذا عجيب ، وفيه مثال للاهتمام بالرواية أكثر من النصّ. فحثّ المؤمنين على الجهاد والقتال في السورة والتنديد بالمقصرين فيه يجعلان احتمال مكيتها مستحيلا. لأن القتال إنما فرض وحرّض عليه بعد الهجرة. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأذن للمسلمين في مكة حتى ولا بمقابلة المشركين بأذى على أذاهم وقد هدّأهم القرآن وطلب منهم التسامح في آية سورة الجاثية هذه قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [14]
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 351)(1/1224)
على ما شرحناه في سياقها. وإلى هذا المعنى أشارت آية سورة النساء هذه أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77).
وفي السورة آيات قد تكون قرينة على كونها نزلت قبيل صلح الحديبية ووقعة خيبر.
وهاتان الوقعتان قد أشير إليهما في سورة الفتح التي يأتي ترتيبها بعد هذه السورة ، حيث يكون في ذلك قرينة على صحة ترتيبها. واللّه أعلم. (1)
سورة الصف مدنيّة ، وهي أربع عشرة آية.
تسميتها : سميت سورة الصف ، لقوله تعالى في مطلعها : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ، كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [4].
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين :
1 - نهت السورة السابقة في مطلعها وأثنائها وختامها عن موالاة الكفار من دون المؤمنين ، وأمرت هذه السورة بوحدة الأمة ووقوفها صفا واحدا تجاه الأعداء.
2 - ذكرت السورة المتقدمة أحكام العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم داخل الدولة الإسلامية وخارجها ، وقت السلم ، وحرضت هذه السورة على الجهاد ورغبت فيه بسبب العدوان ، وأنّبت التاركين للقتال وشبهتهم ببني إسرائيل الذين عصوا موسى عليه السلام حين ندبهم للقتال ، ثم عصوا عيسى عليه السلام حين أمرهم باتباعه بعد إتيانه بالبينات والمعجزات ، واتباع النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي بشر به.
ما اشتملت عليه السورة :
إن محور السورة وموضوعها هو القتال وجهاد الأعداء ، والتضحية في سبيل اللّه تعالى ، وبيان ثواب المجاهدين العظيم ، وذلك من الأحكام التشريعية التي تعنى بها السور المدنية عادة.
وقد بدئت السورة بتسبيح اللّه سبحانه وتنزيهه وتمجيده تنبيها لعظمة منزلها ، وبيان خطورة ما ترشد إليه من وجوب الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية ، ووقوفها صفا واحدا في قتال الأعداء ، لرفع منار الحق ، وإعلاء كلمة اللّه تعالى ، ثم لوم الذين يخالفون بعملهم أقوالهم.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 555)(1/1225)
ثم حذرت من الفرقة والعصيان والمخالفة شأن بني إسرائيل الذين عصوا أمر موسى وعيسى عليهما السلام حينما أمرهم موسى بقتال الجبارين ، وأمرهم عيسى باتباعه واتباع الرسول أحمد - صلى الله عليه وسلم - الذي يأتي بعده وتلك بشارة به : وَإِذْ قالَ مُوسى .. وَإِذْ قالَ عِيسَى .. الآية ، ثم ضربت المثل للمشركين بمن يريد إطفاء نور اللّه بأفواههم : يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا ...
وأردفت ذلك بالبشارة والإخبار بنصرة الإسلام ودعوته وتفوقه وغلبته على سائر الأديان ، فهو دين الهدى والحق.
ثم رسمت طريق الهدى ، وأوضحت منهاج السعادة الكبرى وسبيل النجاة من العذاب الأخروي بإعلان الإيمان باللّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والجهاد في سبيل اللّه بالأموال والأنفس ، وبيان ثمرة الجهاد وهو النصر في الدنيا وثواب المجاهدين في الآخرة ، وأكدت ذلك بالأمر بنصرة دين اللّه عز وجل ، كمناصرة الحواريين دين عيسى عليه السلام : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ .. الآيات ، وبالدعوة إلى نصرة دين اللّه يتناسب ختام السورة مع بدايتها. (1)
هذه السورة مدنية كلها على الصحيح ، وآياتها أربع عشرة آية ، ونزلت بعد التغابن.
وتشتمل على تنبيه المؤمنين لبعض الواجب عليهم ، وتحذيرهم من أن يكونوا كقوم موسى وعيسى ، مع بيان أن الإسلام هو دين اللّه ، وأنه غالب على الأديان ، ثم رسمت طريق الهدى الموصل إلى النجاة من العذاب. (2)
وتسمى أيضا سورة الحواريين وسورة عيسى عليه السلام ، وهي مدنية في قول الجمهور ، وروي ذلك عن ابن الزبير وابن عباس والحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد ، وقال ابن يسار : مكية ، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد أيضا ، والمختار الأول ، ويدل له ما أخرجه الحاكم وغيره عن عبد اللّه بن سلام قال : قعدنا نقرأ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى اللّه تعالى لعملناه فأنزل اللّه سبحانه سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف : 1 ، 2] قال عبد اللّه فقرأها علينا رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم حتى ختمها ، وروي هذا الحديث مسلسلا يقرأها علينا ، وهو حديث صحيح على شرط الشيخين أخرجه الإمام أحمد والترمذي وخلق كثير حتى قال الحافظ ابن حجر : إنه أصح مسلسل يروي في الدنيا إن وقع في المسلسلات مثله في مزيد علوه ، وكذا ما روي في سبب النزول عن الضحاك
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (28 / 157) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 79)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 664)(1/1226)
من أنه قول شباب من المسلمين : فعلنا في الغزو كذا ولم يفعلوا ، وما روي عن ابن زيد من أنه قول المنافقين للمؤمنين :
نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك.
وآيها أربع عشرة آية بلا خلاف ، ومناسبتها لما قبلها اشتمالها على الحث على الجهاد والترغيب فيه ، وفي ذلك من تأكيد النهي عن اتخاذ الكفار أولياء الذي تضمنه ما قبل ما فيه. (1)
* سورة الصف هي إحدى السور المدنية ، التي تعنى بالأحكام التشريعية ، وهذه السورة تتحدث عن موضوع (القتال ) وجهاد أعداء الله ، والتضحية في سبيل الله ، لإعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، وعن التجارة الرابحة التي بها سعادة المؤمن في الدنيا والآخرة ، ولكن المحور الذي تدور عليه السورة هو (القتال والجهاد لإعلاء كلمة الله ) ولهذا سميت سورة الصف ، لأن المراد به اصطفاف المجاهدين للحرب .
* ابتدأت السورة الكريمة - بعد تسبيح الله وتمجيده - بتحذير المؤمنين من إخلاف الوعد ، وعدم الوفاء بما التزموا به [ سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ] ؟ .
* ثم تحدثت عن قتال أعداء الله بشجاعة المؤمن وبسالته ، لأنه يقاتل من أجل غرض نبيل ، وهو رفع منار الحق ، وإعلاء كلمة الله [ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ] .
* وتناولت السورة بعد ذلك موقف اليهود من دعوة (موسى وعيسى) عليهما السلام ، وما أاصابهما من الأذى في سبيل الله ، وذلك تسلية لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) فيما ناله من كفار مكة [ وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني . . ] الآيات .
* وتحدثت السورة عن سنة الله في نصرة دينه ، وأنبيائه ، وأوليائه ، وضربت المثل للمشركين في عزمهم على محاربة دين الله ، بمن يريد إطفاء نور الشمس بفمه الصغير الحقير [ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ولو كره الكافرون ] .
* ودعت السورة المؤمنين إلى التجارة الرابحة ، وحرضتهم على الجهاد في سبيل الله ، بالنفس والنفيس ، لينالوا السعادة الدائمة الكبيرة ، مع النصرة العاجلة في الدنيا ، وخاطبتهم بأسلوب الترغيب والتشويق [ يا أيها الذبن آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ؟ تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله .. ] الآيات .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 277)(1/1227)
* وختمت السورة بدعوة أهل الإيمان إلى نصرة (دين الرحمن ) ، كما فعل الحواريون أصحاب عيسى ، حين دعاهم إلى نصرة دين الله ، فاستجابوا ونصروا الحق والرسول [ يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ] . وهكذا يتناسق البدء مع الختام فى أبدع بيان وإحكام . (1)
مقصودها الحث على الاجتهاد التام في الاجتماع على قلب واحد في جهاد من دعت الممتحنة إلى البراءة منهم ، بحملهم على الدين الحق ، أو محقهم عن جديد الأرض أقصى المحق ، تنزيها للملك الأعلى عن الشرك ، وصيانة لجنابه الأقدس عن الإفك ، ودلالة على الصدق في البراءة منهم والعداوة لهم ، فهي نتيجة سورة التوبة ، وأدل عما فيها على هذا المقصد الصف بتأمل آيته ، وتدبر ما له من جليل النفع في أوله وأثنائه وغايته ، وكذا الحواريون (2)
هذه السورة تستهدف أمرين أساسيين واضحين في سياقها كل الوضوح ، إلى جانب الإشارات والتلميحات الفرعية التي يمكن إرجاعها إلى ذينك الأمرين الأساسيين :
تستهدف أولا أن تقرر في ضمير المسلم أن دينه هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة ، سبقته صور منه تناسب أطوارا معينة في تاريخ البشرية ، وسبقته تجارب في حياة الرسل وحياة الجماعات ، تمهد كلها لهذه الصورة الأخيرة من الدين الواحد ، الذي أراد اللّه أن يكون خاتمة الرسالات. وأن يظهره على الدين كله في الأرض ..
ومن ثم يذكر رسالة موسى ليقرر أن قومه الذين أرسل إليهم آذوه وانحرفوا عن رسالته فضلوا ، ولم يعودوا أمناء على دين اللّه في الأرض : «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ. فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» .. وإذن فقد انتهت قوامة قوم موسى على دين اللّه فلم يعودوا أمناء عليه ، مذ زاغوا فأزاغ اللّه قلوبهم ، ومذ ضلوا فأضلهم اللّه واللّه لا يهدي القوم الفاسقين.
ويذكر رسالة عيسى ليقرر أنه جاء امتدادا لرسالة موسى ، ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وممهدا للرسالة الأخيرة ومبشرا برسولها ووصلة بين الدين الكتابي الأول والدين الكتابي الأخير : «وَإِذْ قالَ عِيسَى
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 344)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 570)(1/1228)
ابْنُ مَرْيَمَ : يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» ..
وإذن فقد جاء ليسلم أمانة الدين الإلهي التي حملها بعد موسى إلى الرسول الذي يبشر به.
وكان مقررا في علم اللّه وتقديره أن تنتهي هذه الخطوات إلى قرار ثابت دائم ، وأن يستقر دين اللّه في الأرض في صورته الأخيرة على يدي رسوله الأخير : «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».
هذا الهدف الأول الواضح في السورة يقوم عليه الهدف الثاني. فإن شعور المسلم بهذه الحقيقة ، وإدراكه لقصة العقيدة ، ولنصيبه هو من أمانتها في الأرض .. يستتبع شعوره بتكاليف هذه الأمانة شعورا يدفعه إلى صدق النية في الجهاد لإظهار دينه على الدين كله - كما أراد اللّه - وعدم التردد بين القول والفعل ويقبح أن يعلن المؤمن الرغبة في الجهاد ثم ينكص عنة ، كما يبدو أنه حدث من فريق من المسلمين كما تذكر الروايات ..
ومن ثم يجيء في مطلع السورة بعد إعلان تسبيح الكون وما فيه للّه .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ».
ثم يدعوهم في وسط السورة إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرى تُحِبُّونَها : نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ».
ثم يختم السورة بنداء أخير للذين آمنوا ، ليكونوا أنصار اللّه كما كان الحواريون أصحاب عيسى أنصاره إلى اللّه ، على الرغم من تكذيب بني إسرائيل به وعدائهم للّه : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ : مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ. فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ ، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ» ..
هذان الخطان واضحان في السورة كل الوضوح ، يستغرقان كل نصوصها تقريبا. فلا يبقى إلا التنديد بالمكذبين بالرسالة الأخيرة - وهذه قصتها وهذه غايتها - وهذا التنديد متصل دائما بالخطين الأساسيين فيها.(1/1229)
وذلك قول اللّه تعالى ، عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بعد ذكر تبشير عيسى - عليه السلام - به : «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ؟ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» ..
وفيه يتضح في ضمير المسلم أن دينه هو دين اللّه في صورته الأخيرة في الأرض وأن أمانة العقيدة في البشرية كلها موكولة إليه يعلم أنه مكلف أن يجاهد في سبيل اللّه ، كما يحب اللّه ويتضح طريقة ، فلا يبقى في تصوره غبش ، ولا يبقى في حياته مجال للتمتمة والغمغمة في هذه القضية ، أو للتردد والتلفت عن الهدف المرسوم والنصيب المقسوم في علم اللّه وتقديره منذ بعيد.
وفي أثناء توجيهه إلى هذا الهدف الواضح يوجه كذلك إلى خلق المسلم وطبيعة ضميره. وهو أن لا يقول ما لا يفعل ، وألا يختلف له قول وفعل ، ولا ظاهر وباطن ، ولا سريرة وعلانية. وأن يكون هو نفسه في كل حال. متجردا للّه. خالصا لدعوته. صريحا في قوله وفعله. ثابت الخطو في طريقه. متضامنا مع إخوانه. كالبنيان المرصوص .. (1)
ما جاء فى أثناء السورة من موضوعات
(1) اللوم والتعنيف على مخالفة القول للعمل.
(2) البشارة بمحمد على لسان عيسى.
(3) محمد - صلى الله عليه وسلم - أرسل بالهدى والدين الحق.
(4) التجارة الرابحة عند اللّه هى الإيمان والجهاد فى سبيله.
(5) الأمر بنصرة الدين كما نصر الحواريون دينهم. (2)
=================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3550)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 92)(1/1230)
(62) سورة الجمعة
سميت هذه السورة عند الصحابة وفي كتب السنة والتفاسير "سورة الجمعة" ولا يعرف لها اسم غير ذلك. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي فأنزلت عليه سورة الجمعة الحديث. وسيأتي عند تفسير قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3].
ووجه تسميتها وقوه لفظ {الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] فيها وهو اسم لليوم السابع من أيام الأسبوع في الإسلام.
وقال ثعلب: إن قريشا كانت تجتمع فيه عند قصي بدار الندوة. ولا يقتضي في ذلك أنهم سموا ذلك اليوم الجمعة.
ولم أر في كلام العرب قبل الإسلام ما يثبت أن اسم الجمعة أطلقوه على هذا اليوم.
وقد أطلق اسم {الجمعة} على الصلاة المشروعة فيه على حذف المضاف لكثرة الاستعمال. وفي حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" ، ووقع في كلام عائشة كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي الخ.
وفي كلام أنس كنا نقيل بعد الجمعة، ومن كلام ابن عمر كان رسول الله لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، أي من المسجد. ومن كلام سهل بن سعد ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. فيحتمل أن يكون لفظ الجمعة الذي في اسم هذه السورة معنيا به صلاة الجمعة لأن في هذه السورة أحكاما لصلاة الجمعة. ويحتمل أن يراد به يوم الجمعة لوقوع لفظ يوم الجمعة في السورة في آية صلاة الجمعة.
وهي مدنية بالاتفاق.
ويظهر أنها نزلت سنة ست وهي سنة خيبر، فظاهر حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه آنفا أن هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر لأن أبا هريرة أسلم يوم خيبر.
وظاهره أنها نزلت دفعة واحدة فتكون قصية ورود العير من الشام هي سبب نزول السورة وسيأتي ذكر ذلك.
وكان فرض صلاة الجمعة متقدما على وقت نزول السورة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرضها في خطبة خطب بها للناس وصلاها في أول يوم جمعة بعد يوم الهجرة في دار لبني سالم بن عوف. وثبت أن أهل المدينة صلوها قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة كما سيأتي. فكان فرضها ثابتا بالسنة قولا وفعلا. وما ذكر في هذه السورة(1/1231)
من قوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ورد مورد التأكيد لحضور صلاة الجمعة وترك البيع، والتحذير من الانصراف عند الصلاة قبل تمامها كما سيأتي.
وقد عدت هذه السورة السادسة بعد المائة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة التحريم وقبل سورة التغابن.
وظاهر حديث أبي هريرة يقتضي أن هذه السورة أنزلت دفعة واحدة غير منجمة.
وعدت آيها إحدى عشرة آية باتفاق العادين من قراء الأمصار.
أغراضها
أول أغراضها ما نزلت لأجله وهو التحذير من التخلف عن صلاة الجمعة والأمر بترك ما يشغل عنها في وقت أدائها. وقدم لذلك: التنويه بجلال الله تعالى.
والتنويه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - . وأنه رسول إلى العرب ومن سيلحق بهم.
وأن رسالته لهم فضل من الله.
وفي هذا توطئة لذم اليهود لأنهم حسدوا المسلمين على تشريفهم بهذا الدين.
ومن جملة ما حسدوهم عليه ونقموه أن جعل يوم الجمعة اليوم الفاضل في الأسبوع بعد أن كان يوم السبت وهو المعروف في تلك البلاد.
وإبطال زعمهم أنهم أولياء الله.
وتوبيخ قوم انصرفوا عنها لمجيء عير تجارة من الشام. (1)
مناسبتها لما قبلها
جاء فى سورة « الصف » السابقة على هذه السورة ، قوله تعالى : « وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ». . ثم جاء فى سورة « الجمعة » : هذه قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ».. فكان ذلك تصديقا لهذه البشرى ، وتحقيقا لما أخبر به المسيح ، من مجىء رسول من بعده اسمه أحمد .. فهذا الرسول ، هو هذا النبي الذي بعثه اللّه فى الأميين ، وهو محمد صلوات اللّه وسلامه عليه ـ فناسب ذلك أن تجىء سورة « الجمعة » على هذا الترتيب فى المصحف ، آخذة مكانها بعد سورة « الصف ».. وفى
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (28 / 183)(1/1232)
هذا شاهد من شواهد كثيرة ، تقطع بأن ترتيب السور فى المصحف ، توفيقى من عند اللّه ، أشبه بترتيب الآيات فى السور .. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الجمعة » من السور المدنية الخالصة.
قال الآلوسى : هي مدنية ، كما روى عن ابن عباس وابن الزبير ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وإليه ذهب الجمهور.
وقال ابن يسار : هي مكية ، وحكى ذلك عن ابن عباس ومجاهد : والأول هو الصحيح. لما رواه البخاري وغيره عن أبى هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت سورة الجمعة ، فتلاها ، فلما بلغ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ... قال له رجل : يا رسول اللّه - من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع - صلى الله عليه وسلم - يده على سلمان الفارسي ، وقال : « والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء ... ».
ومن المعروف أن إسلام أبى هريرة كان بعد الهجرة بمدة بالاتفاق .. .
2 - وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة « التحريم » ، وقبل سورة « التغابن ».
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يقرؤها في صلاة الجمعة ، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس - رضى اللّه عنهما - أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة « الجمعة والمنافقون ».
وأخرج ابن حيان والبيهقي عن جابر بن سمرة أنه قال : كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة بسورة « الكافرون » وبسورة « قل هو اللّه أحد ... » ، وكان يقرأ في صلاة العشاء الأخيرة من ليلة الجمعة ، بسورة « الجمعة » ، وبسورة « المنافقون » ..
وسميت بهذا الاسم لحديثها عن يوم الجمعة ، وعن وجوب السعى إلى صلاتها.
3 - وقد اشتملت السورة الكريمة ، على الثناء على اللّه - عز وجل - ، وعلى مظاهر نعمه على عباده ، حيث أرسل فيهم رسولا كريما ، ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ..
كما اشتملت على توبيخ اليهود وذمهم ، لعدم عملهم بالكتاب الذي أنزله - سبحانه - لهدايتهم وإصلاح حالهم ..
كما اشتملت على دعوة المؤمنين ، إلى المحافظة على صلاة الجمعة ، وعلى المبادرة إليها دون أن يشغلهم عنها شاغل. (2)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 940)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 373)(1/1233)
هذه السورة فصلان. في أولهما تنديد باليهود بسبب تفاخرهم باختصاص اللّه إيّاهم بالفضل على غيرهم وتكذيبهم وتحدّ لهم. وبيان ما كان من فضل اللّه على العرب الأميين في إرسال نبي منهم إليهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وفي ثانيهما تنديد بفريق من المسلمين كانوا يتركون النبي يوم الجمعة وهو يخطب ويخرجون من المسجد إذا ما رأوا لهوا أو تجارة. وحظر للبيع في وقت صلاة الجمعة. وإيجاب للسعي إليها. وإباحة ابتغاء فضل اللّه بالتجارة بعدها.
ولا يبدو تناسب موضوعي وظرفي بين فصلي السورة مع اقتصارها عليهما.
ولا يبدو حكمة ذلك واضحة إلى أن يكون اليهود قد أنكروا بعث اللّه تعالى نبيّا من الأميين ثم فاخروا المسلمين بأن توراتهم احتوت تحديد يوم للّه من أيام الأسبوع ثم تفاخروا بأنهم هم وحدهم أولياء اللّه. فأوحى اللّه بفصول السورة على سبيل الردّ والتنديد والتحدي. ولقد روى البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة سنورده في سياق تفسير الآيات الأولى من السورة تفيد عبارته أن سورة الجمعة نزلت دفعة واحدة. وقد يدعم هذا ما خمنّاه وما هو نتيجة ذلك من ترابط فصلي السورة. واللّه تعالى أعلم.
وترتيب هذه السورة في ترتيب النزول الذي يرويه المصحف الذي اعتمدناه هو الرابع والعشرون. والتراتيب المروية الأخرى مقاربة لذلك «1». مع أن محتوى السورة يدل على أنها نزلت في وقت كان في المدينة فيه فريق من اليهود وكانوا على شيء من القوة والاعتداد. ولما كان يهود بني قريظة هم آخر من بقي من اليهود في المدينة وقد نكّل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم في السنة الهجرية الخامسة بعد وقعة الخندق. وقد أشير إلى ذلك في سورة الأحزاب. فعلى أقل تقدير تكون سورة الجمعة قد نزلت قبل ذلك وبالتبعية قبل سورة الأحزاب. وهذا ما يبرر تقديم تفسيرها على هذه السورة. واللّه تعالى أعلم. (1)
سورة الجمعة مدنيّة ، وهي إحدى عشرة آية.
تسميتها :سميت سورة الجمعة لاشتمالها على الأمر بإجابة النداء لصلاة الجمعة ، في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ....
مناسبتها لما قبلها :
يتضح وجه اتصال هذه السورة بما قبلها من نواح أربع هي :
1 - ذكر تعالى في السورة التي قبلها حال موسى مع قومه ، وإيذاءهم له ، مؤنبا لهم ، وذكر في هذه السورة حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفضل أمته ، تشريفا لهم ، ليظهر الفرق بين الأمتين وفضل الأمة الاسلامية.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (7 / 328)(1/1234)
2 - بشّر عيسى عليه السلام في السورة المتقدمة بمحمد أو أحمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ذكر في هذه السورة أنه هو الذي بشّر به عيسى : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ.
3 - ختم اللّه تعالى سورة الصف السابقة بالأمر بالجهاد وسماه تِجارَةً وختم هذه السورة بالأمر بالجمعة ، وأخبر أنه خير من التجارة الدنيوية.
4 - في السورة المتقدمة أمر اللّه المؤمنين بأن يكونوا صفا واحدا في القتال ،فناسب تعقيب سورة القتال بسورة صلاة الجمعة التي تستلزم الصف ، لأن الجماعة شرط فيها دون سائر الصلوات .
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كالسور المدنية بيان أحكام التشريع ، والهدف منها هنا بيان أحكام صلاة الجمعة المفروضة بدلا عن الظهر في يوم الجمعة.
بدأت السورة كسابقتها بتنزيه اللّه وتمجيده ووصفه بصفات الكمال. ثم أشادت بأوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين ورحمة اللّه المهداة وهي عروبته وتلاوته آيات القرآن على قومه وتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والسنة ، سواء في زمنه أم للأجيال المتلاحقة ، وبيان كون ذلك فضلا من اللّه ونعمة ورحمة.
ثم نعت على اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة ، وتشبيههم بالحمار الذي يحمل على ظهره الكتب النافعة ، ولكنه لا يفهم منها شيئا ، ولا يناله إلا التعب ، وذلك الشقاء بعينه.
ثم ذكرت طلب مباهلة اليهود إن كانوا أولياء اللّه بتمني الموت.
وختمت السورة بالحث على أداء صلاة الجمعة وإيجاب السعي لها بمجرد النداء الذي ينادى لها بالأذان والإمام على المنبر ، وأباحت السعي وكسب الرزق عقب انتهاء الصلاة ، وعاتبت المؤمنين الذين تركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يخطب على المنبر ، ومسارعتهم لرؤية قافلة التجارة. (1)
مدنية بالإجماع ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية.وقد تكلمت السورة على فضل اللّه بإرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - من العرب وتناولت اليهود حيث لم يحافظوا على شريعتهم ، ثم بعد ذلك أتت بحكم تتعلق بالجمعة. (2)
مدنية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة وإليه ذهب الجمهور ، وقال ابن يسار : هي مكية ، وحكي ذلك عن ابن عباس ومجاهد والأول هو الصحيح لما في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة الحديث ، وسيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى ، وإسلامه رضي اللّه تعالى عنه بعد الهجرة بمدة بالاتفاق ، ولأن
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (28 / 181) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 93)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 671)(1/1235)
أمر الانفضاض الذي تضمنه آخر السورة وكذا أمر اليهود المشار إليه بقوله سبحانه : قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ [الجمعة : 6] إلخ - لم يكن إلا بالمدينة - وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف ، ووجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما ذكر فيما قبل حال موسى عليه السلام مع قومه وأذاهم له ناعيا عليهم ذلك ذكر في هذه السورة حال الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم وفضل أمته تشريفا لهم لينظر فضل ما بين الأمتين ، ولذا تعرض فيها لذكر اليهود ، وأيضا لما حكي هناك قول عيسى عليه السلام وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف : 6] قال سبحانه هنا : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة : 2] إشارة إلى أنه الذي بشر به عيسى ، وأيضا لما ختم تلك السورة بالأمر بالجهاد وسماه تِجارَةٍ [الصف : 10] ختم هذه بالأمر بالجمعة وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية. وأيضا في كلتا السورتين إشارة إلى اصطفاف في عبادة ، أما في الأولى فظاهر ، وأما في هذه فلأن فيها الأمر بالجمعة ، وهي يشترط فيها الجماعة التي تستلزم الاصطفاف إلى غير ذلك ، وقد كان صلّى اللّه تعالى عليه وسلم - كما أخرج مسلم - وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس - يقرأ في الجمعة بسورتها - وإِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ [المنافقون : 1].
وأخرج ابن حبان والبيهقي في سننه عن جابر بن سمرة أنه قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون : 1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص : 1] وكان يقرأ في صلاة العشاء الأخيرة ليلة الجمعة سورة الجمعة. والمنافقون - وفي ذلك دلالة على مزيد شرف هذه السورة. (1)
* هذه السورة الكريمة مدنية وهي تتناول جانب التشريع ، والمحور الذي تدور عليه السورة بيان أحكام " صلاة الجمعة " التي فرضها الله على المؤمنين .
* تناولت السورة الكريمة بعثة خاتم الرسل محمد بن عبد الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) وبينت أنه الرحمة المهداة ، أنقذ الله به العرب والعالم ، من ظلام الشرك والضلال ، وأكرم به الإنسانية ، فكانت رسالته بلسما لأمراض المجتمع البشري ، بعد أن كان يتخبط في الظلام .
* ثم تحدثت السورة عن اليهود ، وانحرافهم عن شريعة الله ، حيث كلفوا بالعمل بأحكام التوراة ، ولكنهم أعرضوا عنها ، ونبذوها وراء ظهورهم ، وضربت مثلا لهم بالحمار ، الذي يحمل على ظهره الكتب الكبيرة النافعة ، ولكنه لا يناله منها إلا العناء والتعب ، وذلك نهاية الشقاء والتعاسة .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 287)(1/1236)
* ثم تناولت أحكام " صلاة الجمعة " فدعت المؤمنين إلى المسارعة لأداء الصلاة ، وحرمت عليهم البيع وقت الأذان ، ووقت النداء لها ، وختمت بالتحذير من الإنشغال عن الصلاة ، بالتجارة واللهو ، كحال المنافقين ، الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى متثاقلين . (1)
مقصودها بيان مسمى الصف بدليل هو أوضح شرائع الدين وأوثق عرى الإسلام وهو الجمعة التي اسمها مبين للمراد منها من فرضية الاحتماع فيها وإيجاب الإقبال عليها وهو التجرد عن غيرها والانقطاع لما وقع من التفرق حال الخطبة عمن بعث للتزكية بالاجتماعه عليه في الجهاد وغيره في العسر واليسر والمنشط والمكره ، واسمها الجمعة أنسب شيء فيها لهذا المقصد بتدبر آياته وتأمل أوائله وغاياته ، الحاثة على قوة التواصل والاجتماع ، والحاملة على دوام الإقبال على المزكي والحب له والاتباع (2)
نزلت هذه السورة بعد سورة «الصف» السابقة. وهي تعالج الموضوع الذي عالجته سورة الصف ، ولكن من جانب آخر ، وبأسلوب آخر ، وبمؤثرات جديدة.
إنها تعالج أن تقر في أخلاد الجماعة المسلمة في المدينة أنها هي المختارة أخيرا لحمل أمانة العقيدة الإيمانية وأن هذا فضل من اللّه عليها وأن بعثة الرسول الأخير في الأميين - وهم العرب - منة كبرى تستحق الالتفات والشكر ، وتقتضي كذلك تكاليف تنهض بها المجموعة التي استجابت للرسول ، واحتملت الأمانة وأنها موصولة على الزمان غير مقطوعة ولا منبتة ، فقد قدر اللّه أن تنمو هذه البذرة وتمتد. بعد ما نكل بنو إسرائيل عن حمل هذه الأمانة وانقطعت صلتهم بأمانة السماء وأصبحوا يحملون التوراة كالحمار يحمل أسفارا ، ولا وظيفة له في إدراكها ، ولا مشاركة له في أمرها!
تلك هي الحقيقة الرئيسية التي تعالج السورة إقرارها في قلوب المسلمين. من كان منهم في المدينة يومذاك على وجه الخصوص ، وهم الذين ناط اللّه بهم تحقيق المنهج الإسلامي في صورة واقعة. ومن يأتي بعدهم ممن أشارت إليهم السورة ، وضمتهم إلى السلسلة الممتدة على الزمان.وفي الوقت ذاته تعالج السورة بعض الحالات الواقعة في تلك الجماعة الأولى في أثناء عملية البناء النفسي العسيرة المتطاولة الدقيقة. وتخلصها من الجواذب المعوّقة من الحرص والرغبة العاجلة في الربح ، وموروثات البيئة والعرف. وبخاصة حب المال وأسبابه الملهية عن الأمانة الكبرى ، والاستعداد النفسي لها. وتشير إلى حادث معين. حيث كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية فما إن أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به - على عادة الجاهلية - من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة! وتركوا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قائما. فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون!
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 349)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 590)(1/1237)
كما تذكر الروايات ، التي قد لا تكون دقيقة من حيث العدد ، ولكنها ثابتة من حيث وقوع هذه الحركة من عدد من الحاضرين اقتضى التنبيه إليها في القرآن الكريم.وهي حادثة تكشف بذاتها عن مدى الجهد الذي بذل في تربية تلك الجماعة الأولى حتى انتهت إلى ما انتهت إليه وحتى صارت ذلك النموذج الفريد في تاريخ الإسلام وفي تاريخ البشرية جميعا. وتلهمنا الصبر على مشقة بناء النفوس في أي جيل من الأجيال ، لتكوين الجماعة المسلمة التي تنهض بحمل أمانة هذه العقيدة ، وتحاول تحقيقها في عالم الواقع كما حققتها الجماعة الأولى.
وفي السورة مباهلة مع اليهود ، بدعوتهم إلى تمني الموت للمبطلين من الفريقين وذلك ردا على دعواهم أنهم أولياء اللّه من دون الناس ، وأنهم شعب اللّه المختار ، وأن بعثة الرسول في غيرهم لا تكون!
كما كانوا يدعون! مع جزم القرآن بأنهم لن يقبلوا هذه المباهلة التي دعوا إليها فنكلوا عنها لشعورهم ببطلان دعواهم. وتعقب السورة على هذا بتقرير حقيقة الموت الذي يفرون منه ، وأنه ملاقيهم مهما فروا ، وأنهم مردودون إلى عالم الغيب والشهادة فمنبئهم بما كانوا يعملون .. وهو تقرير لا يخص اليهود وحدهم ، إنما يلقيه القرآن ويدعه يفعل فعله في نفوس المؤمنين كذلك. فهذه الحقيقة لا بد أن تستقر في نفوس حملة أمانة اللّه في الأرض ، لينهضوا بتكاليفها وهم يعرفون الطريق!
هذا هو اتجاه السورة ، وهو قريب من اتجاه سورة الصف قبلها ، مع تميز كل منهما بالجانب الذي تعالجه ، وبالأسلوب الذي تأخذ القلوب به ، والظلال التي تلقيها هذه وتلك في الاتجاه الواحد العام. فلننظر كيف يتناول الأسلوب القرآني هذا الاتجاه .. (1)
خلاصة موضوعات السورة
(1) وصفه تعالى نفسه بصفات الكمال.
(2) صفات النبي الأمىّ الذي بعثه اللّه رحمة للعالمين.
(3) النعي على اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة.
(4) طلب مباهلة اليهود.
(5) الحث على السعى للصلاة يوم الجمعة حين النداء والإمام على المنبر.
(6) الأمر بالسعي على الأرزاق بعد انقضاء الصلاة.
(7) عتاب المؤمنين على تركهم النبىّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب قائما وتفرقهم لرؤية التجارة أو اللهو. (2)
===============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3562)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 104)(1/1238)
(63) سورة المنافقون
سميت هذه السورة في كتب السنة وكتب التفسير سورة المنافقين اعتبارا بذكر أحوالهم وصفاتهم فيها.
ووقع هذا الاسم في حديث زيد بن أرقم عند الترمذي قوله: "فلما أصبحنا قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة المنافقين" . وسيأتي قريبا، وروى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين، وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين.
ووقع في صحيح البخاري وبعض كتب التفسير تسميتها سورة المنافقون على حكاية اللفظ الواقع في أولها وكذلك ثبت في كثير من المصاحف المغربية والمشرقية.
وهي مدنية بالاتفاق.
واتفق العادون على عد آيها إحدى عشرة آية.
وقد عدت الثانية بعد المائة في عداد نزول السور عند جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الحج وقبل سورة المجادلة.
والصحيح أنها نزلت في غزوة بني المصطلق ووقع في جامع الترمذي عن محمد بن كعب القرظي أنها نزلت في غزوة تبوك. ووقع فيه أيضا عن سفيان: أن ذلك في غزوة بني المصطلق وغزوة بني المصطلق سنة خمس، وغزوة تبوك سنة تسع.
ورجح أهل المغازي وابن العربي في العارضة وابن كثير: أنها نزلت في غزوة بني المصطلق وهو الأظهر. لأن قول عبد الله بن أبي بن سلول: ليخرجن الأعز منها الأذل، يناسب الوقت الذي لم يضعف فيه شأن المنافقين وكان أمرهم كل يوم في ضعف وكانت غزوة تبوك في آخر سني النبوة وقد ضعف أمر المنافقين.
وسبب نزولها ما روي عن زيد بن أرقم أنه قال: كنا في غزاة فكسع1 رجل من المهاجرين رجلا جهنيا حليفا للأنصار فقال الجهني: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين: فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما بال دعوى الجاهلية،" قالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال "دعوها فإنها منتنة" أي اتركوا دعوة الجاهلية: يآل كذا فسمع هذا الخبر عبد الله بن أبي فقال: أقد فعلوها أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وقال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، قال زيد بن أرقم: فسمعت ذلك فأخبرت به عمي فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاني فحدثته فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فكذبت رسول الله وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله(1/1239)
فقال عمي ما أردت إلا أن كذبك رسول الله، وفي رواية: إلى أن كذبك، فلما أصبحنا قرأ رسول الله سورة المنافقين وقال لي: "إن الله قد صدقك".
وفي رواية للترمذي في هذا الحديث: أن المهاجري أعرابي وأن الأنصاري من أصحاب عبد الله بن أبي، وأن المهاجري ضرب الأنصاري على رأسه بخشبة فشجه، وأن عبد الله بن أبي قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله يعني الأعراب، وذكر أهل السير أن المهاجري من غفار اسمه جهجاه أجير لعمر بن الخطاب. وأن الأنصاري جهني اسمه سنان حليف لبن أبي، ثم يحتمل أن تكون الحادثة واحدة. واضطرب الراوي عن زيد بن أرقم في صفتها؛ ويجوز أن يكون قد حصل حادثتان في غزاة واحدة.
وذكر الواحدي في أسباب النزول : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى عبد الله بن أبي وقال له: "أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني"، فقال عبد الله بن أبي: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من هذا وإن زيدا لكاذب.
والظاهر أن المقالة الأولى قالها ابن أبي في سورة غضب تهييجا لقومه ثم خشي انكشاف نفاقه فأنكرها.
وأما المقالة الثانية فإنما أدرجها زيد بن أرقم في حديثه وإنما قالها ابن أبي في سورة الناصح كما سيأتي في تفسير حكايتها.
وعلى الأصح فهي قد نزلت قبل سورة الأحزاب، وعلى القول بأنها نزلت في غزوة تبوك تكون نزلت مع سورة براءة أو قبلها بقليل وهو بعيد.
أغراضها
فضح أحوال المنافقين بعد كثير من دخائلهم وتولد بعضها عن بعض من كذب، وخيس بعهد الله، واضطراب في العقيدة، ومن سفالة نفوس في أجسام تغر وتعجب، ومن تصميم على الإعراض عن طلب الحق والهدى، وعلى صد الناس عنه، وكان كل قسم من آيات السورة المفتتح ب {إذا} خص بغرض من هذه الأغراض. وقد علمت أن ذلك جرت إليه الإشارة إلى تكذيب عبد الله بن أبي بن سلول فيما حلف عليه من التنصل مما قاله.
وختمت بموعظة المؤمنين وحثهم على الإنفاق والادخار للآخرة قبل حلول الأجل. (1)
مناسبتها لما قبلها
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (28 / 207)(1/1240)
كان ختام سورة « الجمعة » كاشفا عن وجه من وجوه المنافقين ، الذين كانوا يشهدون صلاة الجمعة مع النبىّ ، حتى إذا سمعوا لهوا ، أو أحسّوا قدوم تجارة ، أسرعوا إلى هذا اللهو ، أو تلك التجارة ، دون أن يشعروا بأنهم بين يدى النبىّ ، وفى مقام ذكر اللّه .. لأن قلوبهم خالية من هذه المشاعر التي تصلهم باللّه ، وبرسول اللّه .. إنهم ما جاءوا رغبة فى مرضاة اللّه ، ولا شهودا لذكر اللّه ، وإنما جاءوا حتى يراهم المؤمنون أنهم على الإيمان باللّه ، مداراة لنفاقهم ، وسترا لكفرهم .. ثم إنهم ما إن تهبّ عليهم سحابة ريح من أي اتجاه ، حتى تعرّبهم من هذا الثوب الزائف الذي لبسوه ، ودخلوا به فى زمرة المؤمنين ـ وقد ناسب ذلك أن تجىء سورة المنافقين ، فى أعقاب سورة الجمعة لتكشف عن أكثر من وجه من وجوه النفاق .. كما سترى ذلك ، فيما حدّثت به السورة عن النفاق والمنافقين.هذا ، ويلاحظ أن ما جاء فى ختام سورة « الجمعة » عن المنافقين قد جاء تلميحا .. وأن ما جاءت به سورة « المنافقين » عنهم ـ كان تصريحا يكشف عن هذا التلميح .. وهذا من أروع وأعجب ما يرى من إعجاز القرآن ، حيث يمسك ختام سورة « الجمعة » ، وبدء سورة « المنافقين » بالصورة الكاملة للمنافقين ، فى ظاهرهم وباطنهم جميعا .. فهم فى الظاهر مؤمنون ، يشهدون مشاهد المؤمنين فى الصلاة وغيرها ، وهم فى الباطن منافقون ، كاذبون! (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « المنافقون » من السور المدنية الخالصة ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة « الحج » ، وقبل سورة « المجادلة » .
وقد عرفت بهذا الاسم منذ عهد النبوة ، فقد جاء في حديث زيد بن أرقم - الذي سنذكره خلال تفسيرنا لها - أنه قال : « فلما أصبحنا قرأ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - سورة المنافقين ».
وقال الآلوسى : أخرج سعيد بن منصور ، والطبراني في الأوسط - بسند حسن - عن أبى هريرة ، قال : كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى بسورة الجمعة ، فيحرض بها المؤمنين ويقرأ في الركعة الثانية بسورة المنافقين ، فيقرع بها المنافقين.
2 - والمحققون من العلماء على أن هذه السورة ، نزلت في غزوة بنى المصطلق ، وقد جاء ذلك في بعض الروايات التي وردت في سبب نزول بعض آياتها ، والتي سنذكرها خلال تفسيرنا لها - بإذن اللّه - وكانت هذه الغزوة في السنة الخامسة من الهجرة.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 954)(1/1241)
وذكر بعضهم أنها نزلت في غزوة « تبوك » ، ومما يشهد لضعف هذا القول ، أن المنافقين في هذا الوقت - وهو السنة التاسعة من الهجرة ، كانوا قد زالت دولتهم ، وضعف شأنهم ، وما كان لواحد منهم أن يقول : لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ.
3 - وسميت هذه السورة بسورة « المنافقون » ، لأنها فضحتهم ، ووصفتهم بما هم أهله من صفات ذميمة ، ومن طباع قبيحة ، ومن مسالك سيئة ... ويكاد حديثها يكون مقصورا عليهم ، وعلى أكاذيبهم ودسائسهم.
وحديث القرآن عن النفاق والمنافقين ، قد ورد في كثير من السور المدنية ، ففي سورة البقرة نجد حديثا مستفيضا عنهم ، يبدأ بقوله - تعالى - : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
وفي سورة آل عمران نجد توبيخا من اللّه - تعالى - لهم ، كما في قوله - عز وجل - :
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا ، لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا ، قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
وفي سورة النساء نجد آيات متعددة تتحدث عن قبائحهم ، ومن ذلك قوله - تعالى - :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ، وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ، رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً.
أما سورة « التوبة » فهي أكثر السور حديثا عنهم ، ولذا سميت بالفاضحة لأنها فضحتهم على رءوس الأشهاد ، كما سميت بالمنقرة ، لأنها نقرت عما في قلوبهم ، وكشفت عنه ، كما سميت بالمبعثرة لأنها بعثرت أسرارهم ...
والحق أنه لا تكاد تخلو سورة من السور المدنية ، من الحديث عن المنافقين وعن سوء سلوكهم وأخلاقهم. ووجوب ابتعاد المؤمنين عنهم.
4 - والنفاق إنما يظهر ويفشو حيث تكون القوة ، لذا لم يكن للمنافقين أثر في العهد المكي ، لأن المؤمنين كانوا قلة مستضعفين في الأرض ، ومن كان هذا شأنه لا ينافقه الناس ، فضلا عن أن مشركي مكة كانوا بطبيعتهم جبابرة ، وكانوا يعلنون حربهم على الدعوة الإسلامية إعلانا سافرا. لا التواء معه ولا مداهنة.
أما المؤمنون في العهد المدني ، فقد كانوا أقوياء خصوصا بعد أن أسسوا دولتهم ، وانتصروا على المشركين في غزوة بدر .. كما انتصروا على اليهود .. فظهرت حركة النفاق في المدينة ، لمداهنة المؤمنين(1/1242)
، وللحصول على نصيبهم من الغنائم التي يغنمها المؤمنون .. ولغير ذلك من الأسباب التي ذكرها العلماء والمؤرخون ... .
وسورة « المنافقون » فضحت أحوالهم ، وكشفت عن دخائلهم وعن خسة نفوسهم ..
وختمت بموعظة المؤمنين ، وبحثهم على الإنفاق في سبيل اللّه ، وعلى تقديم العمل الصالح ، الذي ينفعهم في دنياهم وفي آخرتهم. (1)
في السورة حملة شديدة على المنافقين. وحكاية لأقوال ومواقف خطيرة صدرت منهم فيها كيد وعداء وتحريض على النبي والمهاجرين وردود تسفيه عليهم. وتثبيت وتطمين للنبي والمؤمنين. وفيها تحذير للمؤمنين عن الاستغراق في حبّ المال والولد عن ذكر اللّه وحثّ لهم على الإنفاق وهم في سعة من الوقت والعمر. وآيات السورة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو أن فصل المنافقين جميعه نزل دفعة واحدة ثم تبعه الفصل التحذيري الأخير.
ولقد روي أن الأقوال التي حكتها بعض آيات السورة صدرت من زعيم المنافقين أثناء غزوة المريسيع التي أثير فيها حديث الإفك ضد أم المؤمنين عائشة الذي تضمنت سورة النور الإشارة إليه حيث يبدو من ذلك صحة رواية ترتيب نزول السورة بعد سورة النور.
وفي سورة النور مقاطع عديدة فيها حملات تنديدية على المنافقين. وصور من مواقفهم على ما مرّ شرحه فيها. وفي هذه السورة حملة أخرى فيها مواقف أخرى.
حيث يمكن أن يكون في هذا قرينة أخرى على صحة رواية نزول هذه السورة بعد سورة النور. على أن هناك ما يحسن التنبيه عليه أيضا. فالروايات تذكر أن وقعة المريسيع كانت قبل وقعة الأحزاب أو الخندق التي أشير إليها في سورة الأحزاب.
مع أن الروايات تذكر أن سورة الأحزاب في الترتيب سابقة لسورتي النور والمنافقون.
فإما أن يكون في روايات تواريخ الوقائع الجهادية النبوية شيء من الخطأ وإما أن تكون هذه السورة نزلت قبل سورة الأحزاب. ولقد أوردنا في مقدمة سورة النور احتمال أن تكون هذه السورة أيضا قد نزلت قبل سورة الأحزاب. وتظل قوة قرينة نزول سورة (المنافقون) بعد سورة النور على كل حال قائمة. واللّه تعالى أعلم. (2)
سورة المنافقون مدنيّة ، وهي إحدى عشرة آية.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 397)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 457)(1/1243)
تسميتها : سميت سورة (المنافقون) لافتتاحها بذلك ، وتحدثها عن أوصاف المنافقين ، ومواقفهم المعادية لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين.
مناسبتها لما قبلها :
تبدو صلة هذه السورة بما قبلها بعقد مقارنة وإجراء تقابل بين المؤمنين والمنافقون ، ففي سورة الجمعة ذكر المؤمنون ، وفي هذه ذكر أضدادهم وهم المنافقون ، لذا
أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة : أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الجمعة سورة الجمعة ، يحرّض بها المؤمنين ، وسورة المنافقين يقرّع بها المنافقين.
كما أن سورة الجمعة مشتملة على ذكر من كان يكذب ببعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قلبا ولسانا وهم اليهود ، وتذكر هذه السورة من كان يكذبه قلبا دون اللسان ويصدقه لسانا دون القلب ، وهم المنافقون.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كسائر السور المدنية هو الحديث عن التشريعات والأحكام وما تمخض عنه مجتمع المدينة بعد الهجرة من بروز ظاهرة النفاق.
وابتدأت السورة بإيراد صفات المنافقين التي من أهمها الكذب في ادعاء الإيمان ، وحلف الأيمان الفاجرة الكاذبة ، وجبنهم وضعفهم وتآمرهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين ، وصدهم الناس عن دين اللّه.
ثم ذكرت موقفهم المخزي والمستعلي وهو ادعاؤهم العزة وزعمهم بأنهم بعد العودة من غزوة بني المصطلق سيخرجون الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من المدينة.
وختمت السورة بحثّ المؤمنين على التضامن والطاعة وعبادة اللّه ، وإنفاق الأموال في سبيل اللّه لمواجهة الأعداء في الداخل والخارج ، قبل انقضاء الأجل أو فوات الأوان ، فإن الأجل لا يتأخر لحظة. (1)
مدنية في قول الجميع ، وهي إحدى عشرة آية ، وقد تعرضت لذكر المنافقين وأعمالهم وصفاتهم ثم ختمت السورة بإرشادات هامة للمؤمنين. (2)
مدنية وعدد آياتها إحدى عشرة آية بلا خلاف ، ووجه اتصالها أن سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون ، وهذه ذكر فيها أضدادهم وهم المنافقون ، ولهذا أخرج سعيد بن منصور والطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين. وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرّع بها المنافقين ، وقال أبو حيان في ذلك : إنه
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (28 / 212) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 105)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 677)(1/1244)
لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلا عن المنافقين واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة إذ كان الوقت وقت مجاعة ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان وأتبع بقبائح أفعالهم وأقوالهم ، والأول أولى. (1)
* سورة (المنافقون ، مدنية ، شأنها شأن سائر السور المدنية ، التي تعالج " التشريعات والأحكام لما وتتحدث عن الإسلام من زاويته العملية وهي القضايا التشريعية .
* والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة ، هو الحديث بإسهاب عن (النفاق والمنافقين ) ، حتى سميت السورة بهذا الاسم الفاضح ، الكاشف لأستار النفاق " سورة المنافقون " لبيان عظيم خطرهم ، وجسيم ضررهم .
* تناولت السورة الكريمة في البدء أخلاق المنافقين ، وصفاتهم الذميمة التي من أظهرها الكذب ، ومخالفة الظاهر للباطن ، فإنهم يقولون بألسنتهم ، ما لا تعتقده قلوبهم ، ثم تآمرهم على الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وعلى المسلمين ، وقد فضحتهم السورة وكشفت عن مخازيهم وإجرامهم ، فهم بتظاهرهم بالإسلام يصدون الناس عن دين الله ، وينالون من دعوة الإسلام ، ما لا يناله الكافر المعلن لكفره ، ولذلك كان خطرهم أعظم ، وضررهم أكبر وأجسم [ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ] ولهذا بدأت السورة بالكشف عن أستارهم ، قال الله تعالى : [ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله ، والله يعلم إنك لرسوله ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ] الآيات .
* كما تحدثت السورة الكريمة عن مقالاتهم الشنيعة في حق الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، واعتقادهم بأن دعوته ستضمحل وتتلاشى ، وأنهم بعد عودتهم من " غزوة بني المصطلق " سيطردون الرسول والمؤمنين من المدينة المنورة ، إلى غير ما هنالك من أقوال فظيعة وشنيعة [ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل 0 ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بتحذير المؤمنين من أن ينشغلوا بزينة الدنيا ولهوها ومتاعها ، عن طاعة الله وعبادته شأن المنافقين ، وبينت أن ذلك طريق الخسران ، وأمرت بالإنفاق في سبيل الله ، ابتغاء مرضاة الله ، قبل أن يفوت الأوان بانتهاء الأجل ، فيتحسر الإنسان ويندم ، حيث لا تنفع الحسرة والندم [ يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله . . ] إلى نهاية السورة الكريمة . (2)
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 303)
(2) -
صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 354)(1/1245)
مقصودها كمال التحذير مما يثلم الإيمان من الأعمال الباطنة ، والترهيب مما يقدح في الإسلام من الأحوال الظاهرة ، بمخالفة الفعل للقول فإنه نفاق في الجملة فيوشك يجر إلى كمال النفاق فيخرج من الدين ويدخل الهاوية ، ليكون هذا التحذير سببا في صدق الأقوال ثم صدق الأعمال ثم صدق الأخلاق ثم صدق الأحوال ثم قف الأنفاس ، فصدق القول أن لا يقول القائل إلا عن برهان ، وصدق العمل أن لا يكطون للبدعة عليه سلطان ، وصدق الأخلاق أن لا يلاحظ ما يبدو منه من الإحسان بعد المبالغة فيه بعين النقصان ، وصدق الأحوال أن يكون على كشف وبيان وصدق الأنفاس أن لا يتنفس إلا عن وجود كالعيان ، وتسميتها بالمنافقين واضحة في ذلك (1)
هذه السورة التي تحمل هذا الاسم الخاص «المنافقون» الدال على موضوعها .. ليست هي السورة الوحيدة التي فيها ذكر النفاق والمنافقين ، ووصف أحوالهم ومكائدهم. فلا تكاد تخلو سورة مدينة من ذكر المنافقين تلميحا أو تصريحا. ولكن هذه السورة تكاد تكون مقصورة على الحديث عن المنافقين ، والإشارة إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم.
وهي تتضمن حملة عنيفة على أخلاق المنافقين وأكاذيبهم ودسائسهم ومناوراتهم ، وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين ، ومن اللؤم والجبن وانطماس البصائر والقلوب.
وليس في السورة عدا هذا إلا لفتة في نهايتها إلى الذين آمنوا لتحذيرهم من كل ما يلصق بهم صفة من صفات المنافقين ، ولو من بعيد. وأدنى درجات النفاق عدم التجرد للّه ، والغفلة عن ذكره اشتغالا بالأموال والأولاد ، والتقاعس عن البذل في سبيل اللّه حتى يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه البذل والصدقات.
وحركة النفاق التي بدأت بدخول الإسلام المدينة ، واستمرت إلى قرب وفاة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولم تنقطع في أي وقت تقريبا ، وإن تغيرت مظاهرها ووسائلها بين الحين والحين .. هذه الحركة ذات أثر واضح في سيرة هذه الفترة التاريخية وفي أحداثها وقد شغلت من جهد المسلمين ووقتهم وطاقتهم قدرا كبيرا وورد ذكرها في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف مرات كثيرة تدل على ضخامة هذه الحركة ، وأثرها البالغ في حياة الدعوة في ذلك الحين.
وقد ورد عن هذه الحركة فصل جيد في كتاب : «سيرة الرسول : صور مقتبسة من القرآن الكريم» لمؤلفه الأستاذ «محمد عزة دروزة» نقتطف منه فقرات كاشفة :
«وعلة ظهور تلك الحركةفي المدينة واضحة ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون الأولون في مكة لم يكونوا من القوة والنفوذ في حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم أو ترجو خيرهم ، فتتملقهم وتتزلف إليهم في
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (7 / 605)(1/1246)
الظاهر ، وتتآمر عليهم وتكيد لهم وتمكر بهم في الخفاء ، كما كان شأن المنافقين بوجه عام. ولقد كان أهل مكة وزعماؤها خاصة يناوئون النبي جهارا ، ويتناولون من استطاعوا من المسلمين بالأذى الشديد ، ويقاومون الدعوة بكل وسيلة دون ما تحرز أو تحفظ وكانت القوة لهم حتى اضطر المسلمون إلى الهجرة فرارا بدينهم ودمهم إلى الحبشة أولا ، ثم إلى يثرب وحتى فتن بعضهم عن دينه بالعنف والإكراه ، أو بالإغراء والتهويش وحتى تزلزل بعضهم وتبرم ونافق المشركين ، وحتى مات بعض من ناله الأذى ممن ثبت على دينه نتيجة للتعذيب ...
«أما في المدينة فقد كان الأمر مختلفا جدا. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - استطاع قبل أن يهاجر إليها أن يكسب أنصارا أقوياء من الأوس والخزرج ولم يهاجر إلا بعد أن استوثق من موقفه ، ولم يبق تقريبا بيت عربي فيها لم يدخله الإسلام. ففي هذه الحالة لم يكن من الهين أن يقف الذين لم يؤمنوا به - إما عن جهالة وغباء ، وإما عن غيظ وحقد وعناد ، لأنهم رأوا في قدوم النبي حدا لنفوذهم وسلطانهم - موقف الجحود والعداء العلني للنبي والمسلمين من المهاجرين والأنصار وكان للعصبية في الوقت نفسه أثر غير قليل في عدم الوقوف هذا الموقف ، لأن سواد الأوس والخزرج أصبحوا أنصار النبي ، ومرتبطين به بمواثيق الدفاع والنصر ، إلى أن جلهم قد حسن إسلامهم ، وغدوا يرون في النبي رسول اللّه ، وقائدهم الأعلى الواجب الطاعة ، ومرشدهم الأعظم الواجب الاتباع ، فلم يكن يسع الذين ظلت تغلبهم نزعة الشرك ، ويتحكم فيهم مرض القلب والمكابرة والحقد ، ويحملهم ذلك على مناوأة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته ونفوذه - أن يظهروا علنا في نزعتهم وعدائهم ، ولم يكن أمامهم إلا التظاهر بالإسلام ، والقيام بأركانه ، والتضامن مع قبائلهم. وجعل مكرهم وكيدهم ودسهم ومؤامراتهم بأسلوب المراوغة والخداع والتمويه ، وإذا كانوا وقفوا أحيانا مواقف علنية فيها كيد ودس ، وعليها طابع من النفاق بارز ، فإنما كان هذا منهم في بعض الظروف والأزمات الحادة التي كانت تحدق بالنبي والمسلمين ، والتي كانوا يتخذونها حجة لتلك المواقف بداعي المصلحة والمنطق والاحتياط ولم يكونوا على كل حال يعترفون بالكفر أو النفاق ، غير أن نفاقهم وكفرهم ومواقفهم في الكيد والدس والتآمر لم تكن لتخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمخلصين من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، كما أن المواقف العلنية التي كانوا يقفونها في فرص الأزمات كانت مما تزيد كفرهم ونفاقهم فضيحة ومقتا. وقد كانت الآيات القرآنية توجه إليهم كذلك الفضائح المرة بعد المرة ، وتدل عليهم بما يفعلون أو يمكرون ، وتدمغهم بشرورهم وخبثهم ومكايدهم ، وتحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين منهم في كل ظرف ومناسبة.
«ولقد كانت مواقف المنافقين ومكايدهم بعيدة المدى والأثر على ما تلهم الآيات المدنية ، حتى لكأنه نضال قوي ، يذكر بما كان من نضال بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وزعماء مكة ، وإن اختلفت الأدوار والنتائج إذ(1/1247)
أن النبي لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد ، ودائرة الإسلام تتسع ، وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز وإذ لم يكن المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية خاصة بارزة ، وكان ضعفهم وضآلة عددهم وشأنهم يسيران سيرا متناسبا عكسيا مع ما كان من تزايد قوة النبي - صلى الله عليه وسلم - واتساع دائرة الإسلام ، وتوطد عزته وسلطانه.
«ويكفيك لأجل أن تشعر بخطورة الدور الذي قام به المنافقون ، وخاصة في أوائل العهد ، أن تلاحظ أن المنافقين كانوا أقوياء نسبيا بعصبياتهم التي كانت ما تزال قوية الأثر في نفوس سواد قبائلهم ، كما أنهم لم يكونوا مفضوحين فضيحة تامة ، ولم يكن الإسلام قد رسخ في هذا السواد رسوخا كافيا وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان محوطا بالمشركين الجاحدين من كل جانب ، وأهل مكة خصومه الألداء ، وهم قبلة الجزيرة يتربصون به الدوائر ، ويتحينون كل فرصة ووسيلة للقضاء عليه واليهود في المدينة وحولها قد تنكروا له منذ عهد مبكر وتطيروا به ، ثم جاهروه بالكفر والعداء والمكر ولم يلبث أن انعقد بينهم وبين المنافقين حلف طبيعي على توحيد المسعى ، والتضامن في موقف المعارضة والكيد ، حتى ليمكن القول : إن المنافقين لم يقووا ويثبتوا ويكن منهم ذلك الأذى الشديد والاستمرار في الكيد والدس إلا بسبب ما لقوه من اليهود من تعضيد ، وما انعقد بينهم من تضامن وتواثق ، ولم يضعف شأنهم ويخف خطرهم إلا بعد أن مكن اللّه للنبي من هؤلاء وأظهره عليهم ، وكفاه شرهم». (1)
تضمنت هذه السورة شيئين
(1) وصف المنافقين وبيان سيىء خصالهم من الكذب والأيمان الفاجرة والجبن.
(2) حث المؤمنين على الطاعة وإنفاق المال قبل انقضاء الأجل. (2)
===============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3572)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 117)(1/1248)
(64) سورة التغابن
سميت هذه السورة سورة التغابن ولا تعرف بغير هذا الاسم ولم ترد تسميتها بذلك في خبر مأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى ما ذكره ابن عطية عن الثعلبي عن ابن عمر من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مولود إلا وفي تشابيك مكتوب خمس آيات فاتحة سورة التغابن". والظاهر أن منتهى هذه الآيات قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن: 4] فتأمله. ورواه القرطبي عن ابن عمر ولم ينسبه إلى التعليق فلعله أخذه من تفسير ابن عطية.
ووجه التسمية وقوع لفظ {التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] فيها ولم يقع في غيرها من القرآن.
وهي مدنية في قول الجمهور وعن الضحاك هي مكية. وروى الترمذي عن عكرمة عن ابن عباس أن تلك الآيات نزلت في رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا الهجرة فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. وقال مجاهد: نزلت في شأن عوف الأشجعي كما سيأتي.
وهي معدودة السابعة والمائة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة الجمعة وقبل سورة الصف بناء على أنها مدنية.
وعدد آيها ثمان عشرة.
أغراضها
واشتملت هذه السورة على التذكير بأن من في السماء ومن في الأرض يسبحون لله، أي تنزهونه عن النقائض تسبيحا متجددا.
وأن الملك لله وحده فهو الحقيق بأفراده بالحمد لأنه خالق الناس كلهم فآمن بوحدانيته ناس وكفر ناس ولم يشكروا نعمة إذ خلقهم في أحسن صورة وتحذيرهم من إنكار رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وإنذارهم على ذلك ليعتبروا بما حل بالأمم الذين كذبوا رسلهم وجحدوا بيناتهم تكبرا أن يهتدوا بإرشاد بشر مثلهم.
والإعلام بأن الله عليم بالظاهر والخفي في السماوات والأرض فلا يجري أمر في العالم إلا على ما اقتضته حكمته.
وأنحى عليهم إنكار البعث وبين لهم عدم استحالته وهددهم بأنهم يلقون حين يبعثون جزاء أعمالهم فإن أرادوا النجاة فليؤمنوا بالله وحده وليصدقوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - والكتاب الذي جاء به ويؤمنوا بالبعث فإنهم إن آمنوا كفرت عنهم سيئاتهم وإلا فجزاؤهم النار خالدين فيها.(1/1249)
ثم تثبيت المؤمنين على ما يلاقونه من ضر أهل الكفر بهم فليتوكلوا على الله في أمورهم.
وتحذير المؤمنين من بعض قرابتهم الذين تغلغل الإشراك في نفوسهم تحذيرا من أن يثبطوهم عن الإيمان والهجرة.
وعرض لهم بالصبر على أموالهم التي صادرها المشركون.
وأمرهم بإنفاق المال في وجوه الخير التي يرضون بها ربهم وبتقوى الله والسمع له والطاعة. (1)
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة المنافقين حديثا متصلا عن النفاق وأهله ، وأن هذا الفريق من الناس لن يقبل خيرا ، ولن يهتدى من ضلال ، أو يستقيم على هدى ..هكذا المنافقون ، هم على هذه الطبيعة النكدة ، التي لا يصلح من اعوجاجها شىء أبدا ..
وقد كان من بداية سورة التغابن هذه ، قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ » ـ ليقرر هذه الحقيقة العاملة فى الناس ، والمفرقة بينهم فى مقام الكفر والإيمان ، والضلال والهدى. فهكذا خلقهم اللّه .. كافرين ، ومؤمنين.
فاللّه سبحانه يخلق ما يشاء ، كما يشاء .. « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ » (54 : الأعراف) فكما فرق سبحانه بين عوالم المخلوقات ، من حيوان ، ونبات ، وجماد ـ فرّق سبحانه كذلك فى صور هذه العوالم ، فجعل من كل عالم أنواعا ، وأشكالا لا حصر لها ..«وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45 : النور) .. « وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ »(4 : الرعد) .. « وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ » (27 ، 28 : فاطر) فهذا الاختلاف والتنوع بين المخلوقات ، هو من دلائل قدرة اللّه ، وإنه ليس لمخلوق أن يعترض على الخلق الذي أقامه اللّه سبحانه وتعالى فيه : « لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ » : (23 : الأنبياء) فهذا البدء الذي بدئت به سورة « التغابن » هو إلفات للمؤمنين الذين رأوا فى صور المنافقين ما يكره وبذمّ .. إلفات لهم إلى فضل اللّه عليهم ، وأنه سبحانه .. خلقهم للإيمان ، وهداهم إليه ، ولو شاء سبحانه لجعلهم فى هؤلاء المنافقين ، وألبسهم ثوب النفاق وهم فى عالم الخلق والتكوين.وإنه لمطلوب من المؤمنين إزاء هذا الإحسان ، أن يستجيبوا لما دعاهم اللّه سبحانه وتعالى إليه ، من الإنفاق مما رزقهم اللّه ،
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (28 / 231)(1/1250)
بعد أن يتخففوا من سلطان الأثرة والشح الذي يمسك الأيدى عن الإنفاق ، وهو الحب الشديد للمال والولد ذلك الحب الذي يلهى عن ذكر اللّه ، ويشغل عن طاعته.وإنه لمطلوب منهم كذلك أن يسبّحوا بحمد اللّه ، وأن ينتظموا فى موكب الوجود كله فى هذه الصلوات الخاشعة الضارعة للّه سبحانه ، وفى هذا الولاء لجلاله وعظمته. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة التغابن هي السورة الرابعة والستون في ترتيب المصحف ، أما نزولها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان - كما ذكره صاحب الإتقان بعد سورة « الجمعة » وقبل سورة « الصف ».
وعدد آياتها ثماني عشرة آية.
2 - وجمهور المفسرين على أنها من السور المدنية.
قال الشوكانى : وهي مدنية في قول الأكثر ، وقال الضحاك : هي مكية ، وقال الكلبي :
هي مكية ومدنية.
أخرج ابن الضريس عن ابن عباس أنه قال : نزلت سورة التغابن بالمدينة.
وفي رواية أخرى عنه : أنها نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعى ، شكا إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - جفاء أهله وولده ، فأنزل اللّه - تعالى - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ .. إلى آخر السورة .
ويبدو لنا أن بعض آيات هذه السورة يغلب عليها طابع القرآن المكي ، كالآيات التي تتحدث عن مظاهر قدرة اللّه - تعالى - وعن إنكار المشركين للبعث والرد عليهم.
لذا نرجح - واللّه أعلم - أن النصف الأول منها من القرآن المكي ، والنصف الأخير من القرآن المدني.
3 - والسورة الكريمة بعد ذلك من أهم مقاصدها : تنزيه اللّه - تعالى - عن الشريك أو الولد ، وبيان ألوان من مظاهر قدرته ومننه على خلقه ، والرد على المشركين الذين زعموا أنهم لن يبعثوا ، والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار ، وبيان أن كل شيء يقع في هذا الكون هو بقضاء اللّه وقدره. وتحريض المؤمنين على تقوى اللّه - تعالى - وعلى إيثار ما عنده على كل شيء من شهوات هذه الدنيا (2) .
في السورة تقرير تسبيحي وتنزيهي من كل ما في السموات والأرض للّه.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 970)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 419)(1/1251)
وإشارة إلى خضوع كل شيء له. ومظاهر عظمته وقدرته في الكون والخلق وشمول علمه. وتذكير بالكافرين السابقين ونكال اللّه فيهم. وحكاية لإنكار الكفار للبعث وتوكيده وإنذار به. وتوطيد لواجب الطاعة للّه ورسوله والإنفاق في سبيل اللّه.
وتحذير من أن يكون الأولاد والأزواج والأموال من المانعين لذلك.
والسورة من السور التي يختلف الرواة في مكيتها ومدنيتها. غير أن معظم روايات ترتيب نزول السور تسلكها في سلك السور المدنية. ومنها المصحف الذي اعتمدنا عليه. وفحوى آيات السورة يؤيد مدنيتها ويؤيد كونها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. ومن الفحوى الذي يدل على مدنيتها الأمر بطاعة اللّه ورسوله والتحذير من الزوجات والأولاد فهذا أسلوب مدني واللّه أعلم.
وبعض الروايات التي تذكر أنها مكية تذكر أن الآيات [14 - 16] مدنية «1».
وآيات السورة منسجمة مع هذه الآيات بحيث يسوغ القول إنها سياق واحد نزلت في ظرف واحد.
وليس في السورة علامة مميزة تساعد على القول بصحة ترتيب نزولها بعد سورة التحريم وعدمه. وقد جعلناها بعد سورة التحريم أخذا برواية المصحف الذي اعتمدنا عليه وبعض روايات التراتيب الأخرى «2» واللّه أعلم. (1)
سورة التغابن مدنيّة ، وهي ثماني عشرة آية.
تسميتها : سميت التغابن تذكيرا بيوم القيامة الذي يظهر فيه غبن الكافر وخسارته بتركه الإيمان ، وهو المذكور في قوله تعالى : يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ، ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ (9).
مناسبتها لما قبلها :
تتضح مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة :
1 - في السورة السابقة ذكر اللّه أوصاف المنافقين ، وحذر المؤمنين من أخلاق المنافقين ، وهنا حذر تعالى من صفات الكافرين : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ .. وقسم الناس في الجملة قسمين : مؤمن وكافر ، وبشر المؤمن بالجنة ، وهدد الكافر بالنار.
2 - نهى اللّه تعالى في السورة المتقدمة عن الاشتغال بالأموال والأولاد عن ذكر اللّه : لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وفي هذه السورة ذكر أن الأموال والأولاد فتنة : نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ،وهذا كالتعليل لما سبق.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 544)(1/1252)
3 - أمر اللّه في آخر سورة (المنافقون) السالفة بالإنفاق في سبيل اللّه : وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ .. كذلك أمر بالإنفاق في أواخر هذه السورة : وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ .. كما أن سورة التغابن تدل على أنه يغبن الناس في يوم القيامة بعضهم بعضا بترك الإيمان والعمل الصالح والإنفاق في سبيل اللّه.
ويلاحظ الترتيب بين السور الست التالية ، فإنها اشتملت على أصناف الأمم ، فسورة الحشر : في ذكر المعاهدين من أهل الكتاب ، فإنها نزلت في بني النضير حين نبذوا العهد وقوتلوا ، وسورة الممتحنة : في ذكر المعاهدين من المشركين ، وسورة الصف : ذكر فيها أهل الكتاب : اليهود والنصارى ، والمؤمنون ، وكذلك سورة الجمعة : ذكر فيها اليهود وأهل الإيمان ، وسورة (المنافقون) : في أهل النفاق ، وسورة التغابن : ذكر فيها المشركون والكفار بنحو عام. وبه يتبين أن الفصل بين المسبّحات التي هي نظائر (و هي الحشر والصف والجمعة والتغابن) جاء لحكمة دقيقة هي الكلام الشامل عن هذه الأمم.
ما اشتملت عليه السورة :
سورة التغابن من السور المدنية التي عنيت خلافا للمعتاد بأمور متعلقة بالعقائد.
ابتدأت ببيان بعض صفات اللّه الحسنى المتصلة بجلال اللّه وقدرته وعلمه وخلقه الإنسان الذي يؤول أمره إلى أحد قسمين : مؤمن وكافر.
ثم أنذرت الكفار بما حل بالأمم الماضية التي كذبت الرسل بسبب بشريتهم ، وإنكارهم البعث ، والرد عليهم بقسم اللّه بوقوعه وأنه حق ، وبجزائه على الأعمال.
ودعت بعدئذ إلى الإيمان باللّه تعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن النور الذي أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهددت بما يلقاه الناس يوم القيامة يوم يغبن فيه الكافر بتركه الإيمان ، ويغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان ، ويدخل المؤمنون الذين يعملون الصالحات الجنان ، ويدخل الكافرون النيران ، وفي ذلك أمر بالطاعة وتحذير من المعصية.
ثم أبانت أن كل ما يحدث في الكون بإرادة اللّه ومشيئته ، وأكدت الأمر بطاعة اللّه تعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - والتوكل على اللّه وحده ، فإن أعرضوا فلا يضير رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بقاءهم على الكفر.
ثم حذرت من عداوة بعض الأزواج والأولاد الذين يمنعون الإنسان أحيانا عن الجهاد ، وأوصت بالعفو والصفح عن المسيء ، وأخبرت بأن الأموال والأولاد فتنة واختبار.
وختمت السورة بالأمر بالتقوى والإنفاق في سبيل اللّه لإعلاء دينه ، وحذرت من الشح والبخل ، وأبانت مضاعفة الثواب للمحسنين المنفقين من أجل إعلاء كلمة اللّه تعالى. (1)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (28 / 232) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 118)(1/1253)
مدنية عند الأكثرين ، وقال بعضهم : مكية إلا قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ إلى آخر السورة. وعدد آياتها ثماني عشرة آية ، وهي في بيان قدرة اللّه وعلمه. (1)
مدنية في قول الأكثرين ، وعن ابن عباس وعطاء بن يسار أنها مكية إلا آيات من آخرها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ [التغابن : 14] إلخ ، وعدد آيها تسع عشرة آية بلا خلاف ، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر هناك حال المنافقين وخاطب بعد المؤمنين ، وذكر جل وعلا هنا تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر ، وأيضا في آخر تلك لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ [المنافقون : 9] وفي هذه نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن : 15] وهذه الجملة على ما قيل : كالتعليل لتلك ، وأيضا في ذكر التغابن نوع حث على الإنفاق قبل الموت المأمور به فيما قبل ، واستنبط بعضهم عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا وستين من قوله تعالى في تلك السورة : وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [المنافقون : 10] فإنها رأس ثلاث وستين سورة ، وعقبها سبحانه بالتغابن ليظهر التغابن في فقده عليه الصلاة والسلام. (2)
* سورة التغابن من السور المدنية التي تعنى بالتشريع ، ولكن جوها جو السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية .
* تحدثت السورة الكريمة عن جلال الله وعظمته وآثار قدرته ، ثم تناولت موضوع الإنسان المعترف بربه ، والإنسان الكافر الجاحد بآلاء الله [ يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن . . ] الآيات .
* وضربت الأمثال بالقرون الماضية ، والأمم الخالية ، التي كذبت رسل الله ، وما حل بهم من العذاب والدمار ، نتيجة لكفرهم وعنادهم وضلالهم [ ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم . . ] الآيات .
* وأقسمت السورة على أن البعث حق لابد منه ، أقر به المشركون أو أنكروه [ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا ، قل بلى وربى لتبعثن . . ] الآيات .
* وأمرت بطاعة الله وطاعة رسوله ، وحذرت من الإعراض عن دعوة الله [ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين ، .
* كما حذرت من عداوة بعض الزوجات والأولاد ، فإنهم كثيرا ما يمنعون الإنسان عن الجهاد والهجرة [ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم . . ] الآيات .
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 683)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 314)(1/1254)
* وختمت السورة بالأمر بالإنفاق في سبيل الله لإعلاء دينه ، وحذرت من الشح والبخل ، فإن من صفات المؤمن ، الإنفاق في سبيل الله ابتغاء مرضاته ، وهو شطر الجهاد ، حيث ينقسم إلى قسمين : جهاد بالنفس ، وجهاد بالمال [ وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . . ] الآيات إلى نهاية السورة الكريمة . (1)
هذه السورة أشبه شيء بالسور المكية في موضوعها وفي سياقها وفي ظلالها وإيحاءاتها ، وبخاصة المقاطع الأولى منها. فلا يكاد الجو المدني يتبين إلا في فقراتها الأخيرة.
والفقرات الأولى إلى ابتداء النداء : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» .. تستهدف بناء أسس العقيدة ، وإنشاء التصور الإسلامي في القلوب بأسلوب السور المكية التي تواجه الكفار المشركين ابتداء ، وتخاطبهم بهذا التصور خطاب المبتدئ في مواجهته. ثم هي تستخدم المؤثرات الكونية والنفسية كما تستعرض مصائر الغابرين من المكذبين قبلهم وتعرض عليهم مشاهد القيامة لإثبات البعث ، وتوكيده توكيدا شديدا ، يدل على أن المخاطبين به من المنكرين الجاحدين.
فأما الفقرات الأخيرة فهي تخاطب الذين آمنوا بما يشبه خطابهم في السور المدنية ، لحثهم على الإنفاق ، وتحذرهم فتنة الأموال والأولاد. وهي الدعوة التي تكررت نظائرها في العهد المدني بسبب مقتضيات الحياة الإسلامية الناشئة فيها. كما أن فيها ما قد يكون تعزية عن مصاب أو تكاليف وقعت على عاتق المؤمنين ، ورد الأمر فيها إلى قدر اللّه ، وتثبيت هذا التصور .. وهو ما يتكرر في السور المدنية وبخاصة بعد الأمر بالجهاد وما ينشأ عنه من تضحيات.
ولقد وردت روايات أن السورة مكية ، ووردت روايات أخرى أنها مدنية مع ترجيحها. وكدت أميل إلى اعتبارها مكية تأثرا بأسلوب الفقرات الأولى فيها وجوها. ولكني أبقيت اعتبارها مدنية - مع الرأي الراجح فيها - لأنه ليس ما يمنع أن تكون الفقرات الأولى فيها خطابا للكفار بعد الهجرة سواء كانوا كفار مكة أم الكفار القريبين من المدينة. كما أنه ليس ما يمنع أن يستهدف القرآن المدني في بعض الأحيان جلاء أسس العقيدة ، وإيضاح التصور الإسلامي ، بهذا الأسلوب الغالب على أسلوب القرآن المكي .. واللّه أعلم ..
والمقطع الأول في السورة يستهدف بناء التصور الإيماني الكوني ، وعرض حقيقة الصلة بين الخالق - سبحانه - وهذا الكون الذي خلقه. وتقرير حقيقة بعض صفات اللّه وأسمائه الحسنى وأثرها في الكون وفي الحياة الإنسانية : «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 359)(1/1255)
شَيْءٍ قَدِيرٌ. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» ..
وهذا التصور الكوني الإيماني هو أدق وأوسع تصور عرفه المؤمنون في تاريخ العقيدة. ولقد جاءت الرسالات الإلهية كلها بوحدانية اللّه ، وإنشائه لهذا الوجود ولكل مخلوق ، ورعايته لكل كائن في الوجود .. لا نشك في هذا لأن القرآن يحكيه عن الرسل وعن الرسالات كلها. ولا عبرة بما نجده في الكتب المفتراة والمحرفة أو فيما يكتبه عن الديانات المقارنة أناس لا يؤمنون بالقرآن كله أو بعضه. إنما جاء الانحراف عن العقيدة الإيمانية من أتباعها ، فبدا أنها لم تأت بالتوحيد الخالص ، أو لم تأت بهيمنة اللّه واتصاله بكل كائن. فهذا من التحريف الطارئ لا من أصل الديانة. فدين اللّه واحد منذ أولى الرسالات إلى خاتمة الرسالات. ويستحيل أن ينزل اللّه دينا يخالف هذه القواعد ، كما يزعم الزاعمون بناء على ما يجدونه في كتب مفتراة أو محرفة باسم الدين! ولكن تقرير هذه الحقيقة لا ينافي أن التصور الإسلامي عن الذات الإلهية ، وصفاتها العلوية ، وآثار هذه الصفات في الكون وفي الحياة الإنسانية .. أن هذا التصور أوسع وأدق وأكمل من كل تصور سابق في الديانات الإلهية .. وهذا متفق مع طبيعة الرسالة ومهمتها الأخيرة. ومع الرشد البشري الذي جاءت هذه الرسالة لتخاطبه وتوجهه وتنشئ فيه هذا التصور الشامل الكامل بكل مقتضياته وفروعه وآثاره.
ومن شأن هذا التصور أن يدرك القلب البشري - بمقدار ما يطيق - حقيقة الألوهية وعظمتها ، ويشعر بالقدرة الإلهية ويراها في آثارها المشهودة في الكون ، ويحسها في ذوات الأنفس بآثارها المشهودة والمدركة ويعيش في مجال هذه القدرة وبين آثارها التي لا تغيب عن الحس والعقل والإلهام. ويراها محيطة بكل شي ء ، مهيمنة على كل شي ء ، مدبرة لكل شي ء ، حافظة لكل شي ء ، لا يند عنها شيء. سواء في ذلك الكبير والصغير والجليل والحقير.
ومن شأنه كذلك أن يعيش القلب البشري في حساسية مرهفة ، وتوفز دائم ، وخشية وارتقاب ، وطمع ورجاء وأن يمضي في الحياة معلقا في كل حركة وكل خالجة باللّه ، شاعرا بقدرته وهيمنته ، شاعرا بعلمه ورقابته ، شاعرا بقهره وجبروته ، شاعرا برحمته وفضله ، شاعرا بقربه منه في كل حال.
وأخيرا فإن من شأنه أن يحس بالوجود كله متجها إلى خالقه فيتجه معه ، مسبحا بحمد ربه فيشاركه تسبيحه ، مدبرا بأمره وحكمته فيخضع لشريعته وقانونه .. ومن ثم فهو تصور إيماني كوني بهذا المعنى ،(1/1256)
وبمعان أخرى كثيرة تتجلى في المواضع المتعددة في القرآن التي تضمنت عرض جوانب من هذا التصور الإيماني الشامل الكامل المحيط الدقيق. وأقرب مثل منها ما ورد في ختام سورة الحشر ، في هذا الجزء . (1)
خلاصة ما حوته السورة
(1) صفات اللّه الحسنى.
(2) إنذار المشركين بذكر ما حل بمن قبلهم من الأمم مع بيان السبب فيما نالهم من ذلك.
(3) إنكار المشركين للبعث.
(4) بيان أن ما يحدث فى الكون فهو بأمر اللّه وتقديره.
(5) تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يضيره إصرارهم على الكفر.
(6) إن من الأزواج والأولاد أعداء للمرء.
(7) الأموال والأولاد فتنة وابتلاء.
(8) الحث على التقوى والإنفاق فى سبيل اللّه. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3583)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 132)(1/1257)
(65) سورة الطلاق
سورة {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [لطلاق:1] الخ شاعت تسميتها في المصاحف وفي كتب التفسير وكتب السنة: سورة الطلاق ولم ترد تسميتها بهذا في حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موسوم بالقبول.
وذكر في الإتقان أن عبد الله بن مسعود سماها سورة النساء القصرى أخذا مما أخرجه البخاري وغيره عن مالك بن عامر قال: كنا عند عبد الله بن مسعود فذكر عنده أن الحامل المتوفى عنها تعتد أقصى الأجلين أي أجل وضع الحمل إن كان أكثر من أربعة أشهر وعشر، وأجل الأربعة الأشهر وعشر فقال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] اهـ. وفي الاتقان عن الداودي إنكار أن تدعى هذه السورة بالقصرى للتنزه عن وصف القرآن بصفة نقص ورده ابن حجر بأن القصر أمر نسبي أي ليس مشعرا بنقص على الإطلاق. وابن مسعود وصفها بالقصرى احترازا عن السورة المشهورة باسم سورة النساء التي هي السورة الرابعة في المصحف التي أولها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1]. وأما قوله الطولى فهو صفة لموصوف محذوف أي بعد السورة الطولى يعني سورة البقرة لأنها أطول سور القرآن ويتعين أن ذلك مراده لأن سورة البقرة هي التي ذكرت فيها عدة المتوفى عنها. وقد يتوهم أن سورة البقرة تسمى سورة النساء الطولى من مقابلتها بسورة النساء القصرى في كلام ابن مسعود. وليس كذلك كما تقدم في سورة النساء.
وهي مدنية بالاتفاق.
وعدد آيها اثنتا عشرة آية في عدد الأكثر. وعدها أهل البصرة إحدى عشرة آية.
وهي معدودة السادسة والتسعين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة الإنسان وقبل سورة البينة.
وسبب نزولها ما رواه مسلم عن طريق ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمان بن أيمن يسأل ابن عمر كيف ترى في الرجل طلق امرأته حائضا فقال طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "ليراجعها"، فردها وقال: "إذا طهرت فليطلق أو ليمسك". قال ابن عمر وقرأ النبي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1].
وظاهر قوله وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - الخ. إنها نزلت عليه ساعتئذ. ويحتمل أن تكون نزلت قبل هذه الحادثة. وقال الواحدي عن السدي: أنها نزلت في قضية طلاق ابن عمر وعن قتادة أنها نزلت بسبب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلق(1/1258)
حفصة ولم يصح. وجزم أبو بكر بن العربي بأن شيئا من ذلك لم يصح وأن الأصح أن الآية نزلت بيانا لشرع مبتدأ.
أغراضها
الغرض من آيات هذه السورة تحديد أحكام الطلاق وما يعقبه من العدة والإرضاع والإنفاق والإسكان. تتميما للأحكام المذكورة في سورة البقرة.
والإيماء إلى حكمة شرع العدة والنهي عن الإضرار بالمطلقات والتضييق عليهن.
والإشهاد على التطليق وعلى المراجعة.
وإرضاع المطلقة ابنها بأجر على الله.
والأمر بالائتمار والتشاور بين الأبوين في شأن أولادهما.
وتخلل ذلك الأمر بالمحافظة الوعد بأن الله يؤيد من يتقي الله ويتبع حدوده ويجعل له من أمره يسرا ويكفر عنه سيئاته.
وأن الله وضع لكل شيء حكمه لا يعجزه تنفيذ أحكامه.
وأعقب ذلك بالموعظة بحال الأمم الذين عتوا عن أمر الله ورسله وهو حث للمسلمين على العمل بما أمرهم به الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لئلا يحق عليهم وصف العتو عن الأمر.
وتشريف وحي الله تعالى بأنه منزل من السماوات وصادر عن علم الله وقدرته تعالى. (1)
مناسبتها لما قبلها
كان مما تضمنته السورة السابقة : « التغابن » ـ قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ».. وفى هذا ـ كما قلنا ـ تحذير من فتنة الأزواج ، والأولاد ، وأن هذه الفتنة قد تعظم ويشتد خطرها ، فلا يمكن مدافعتها والنجاة منها إلا بالفرقة ، وقطع علائق الصلة ..
ولما كانت الفرقة بين الرجل وزوجه لا تكون إلا بالطلاق ، فقد كان من المناسب فى هذا المقام أن تبيّن بعد ذلك أحكام الطلاق ، والصورة التي يكون عليها ، حتى لا يؤدّى ذلك إلى جور وعدوان ، بل ينبغى أن يكون الرفق ، والحكمة ، من الأدوات العاملة فى حلّ عرا الزوجية بين الزوجين ، إذا لم يكن بدّ من حلّها ، امتثالا لقوله تعالى : « فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » (229 : البقرة).هذا ، وفى مجىء سورة الطلاق عقب الحديث عن فتنة الأزواج والأولاد ـ فى هذا ما يشير ، فى إعجاز مبين ، إلى أن
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (28 / 262)(1/1259)
الطلاق لا يكون إلا فى حال يتحكم فيها الخلاف بين الرجل والمرأة ، حتى يكاد يكون فتنة ، لا يمكن الخلاص منها إلا بهذا الدواء المرّ ، وإلا بهذا الداء الذي يذهب به داء أشد منه .. وإن فى الشر خيارا ..
وبعض السمّ ترياق لبعض وقد يشفى العضال من العضال (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الطلاق » من السور المدنية الخالصة ، وقد سماها عبد اللّه بن مسعود بسورة النساء القصرى ، أما سورة النساء الكبرى فهي التي بعد سورة آل عمران.
وكان نزولها بعد سورة « الإنسان » وقبل سورة « البينة » ، وترتيبها بالنسبة للنزول :
السادسة والتسعون ، أما ترتيبها بالنسبة لترتيب المصحف ، فهي السورة الخامسة والستون.
2 - وعدد آياتها إحدى عشرة آية في المصحف البصري ، وفيما عداه اثنتا عشرة آية.
3 - ومعظم آياتها يدور حول تحديد أحكام الطلاق ، وما يترتب عليه من أحكام العدة ، والإرضاع ، والإنفاق ، والسكن ، والإشهاد على الطلاق ، وعلى المراجعة.
وخلال ذلك تحدثت السورة الكريمة حديثا جامعا عن وجوب تقوى اللّه - تعالى - وعن مظاهر قدرته ، وعن حسن عاقبة التوكل عليه ، وعن يسره في تشريعاته ، وعن رحمته بهذه الأمة حيث أرسل فيها رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليتلو على الناس آيات اللّه - تعالى - ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بإذنه - سبحانه - . (2)
في السورة تشريعات تكميلية وإيضاحية لأحكام الطلاق والعدة والرضاع.
وتوكيد وتشديد بالتزام الحدود التي رسمها القرآن في هذا الموضوع والتي تهدف إلى الرفق بالمرأة ورعاية الحياة الزوجية. والفصل الآخر منها وإن لم يكن متصلا بموضوع فصلها الأول المذكور آنفا اتصالا مباشرا فإن فيه تدعيما له على ما سوف يأتي شرحه. وهو مقفى بعض الشيء مثله مما يسوغ القول إنه نزل معه أو بعده كتعقيب عليه. وقد روي «1» عن ابن مسعود اسم آخر للسورة وهو (سورة النساء الصغرى) والراجح أن هذا الاسم مقتبس من موضوع السورة أيضا كما هو شأن اسمها المشهور.
وترتيب هذه السورة في المصحف الذي اعتمدناه يأتي بعد سورة الإنسان التي تأتي بعد سورة الرحمن التي تأتي بعد سورة الرعد التي تأتي بعد سورة محمد.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 1000)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 439)(1/1260)
والسور الثلاث المذكورة قد فسرناها في سلسلة السور المكية لرجحان مكيتها على ما شرحناه قبل ، فصار ترتيب هذه السورة بعد سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - مباشرة. وهي السورة الثانية التي تبدأ بتوجيه الخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والأولى هي سورة الأحزاب. (1)
سورة الطلاق مدنية ، وهي اثنتا عشرة آية.
تسميتها : سميت سورة الطلاق ، لبيان أحكام الطلاق والعدة فيها ، وافتتاحها بقوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ...
مناسبتها لما قبلها :
تتعلق هذه السورة بما قبلها من وجهين :
1 - أنه قال في أواخر التغابن : إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ ولما كانت عداوة الأزواج قد تفضي إلى الطلاق ، وعداوة الأولاد قد تؤدي إلى القسوة وترك الإنفاق عليهم ، عقب ذلك بسورة فيها أحكام الطلاق والإنفاق على الأولاد وعلى المطلقات.
2 - أشار اللّه تعالى في آخر التغابن إلى كمال علمه بقوله : عالِمُ الْغَيْبِ وأشار في آخر هذه السورة إلى كمال علمه بمصالح النساء وبالأحكام الخاصة بطلاقهن ، فكأنه بيّن ذلك العلم الكلي بهذه الجزئيات.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة المدنية بيان الأحكام التشريعية التي تنظم حال الأسرة أثناء قيامها وبعد انفصال الزوجين.
شرعت السورة في الكلام على أحكام الطلاق السّنّي الذي يستقبل به العدة ، وأحكام العدة وإحصاء وقتها مع تقوى اللّه ورقابته في إعلان انقضائها.
وأمرت الأزواج بعدئذ بالإمساك بالمعروف أو المفارقة بالإحسان. وأشادت في مجال العلاقات الزوجية وغيرها بتقوى اللّه والتوكل عليه.
ثم أبانت حكم عدة المرأة اليائس من المحيض التي انقطع دمها لكبر أو مرض ، وعدة الصغيرة التي لم تحض ، ومدتهما واحدة وهي ثلاثة أشهر. وأردفت ذلك ببيان عدة المرأة الحامل وهي وضع الحمل.
واقتضى البيان توضيح حكم النفقة والسكنى أثناء العدة ، وحكم إعطاء الأجر على الرضاع ، وتقدير النفقة يسارا وإعسارا ، وتخلل ذلك الأمر بالتقوى منعا من الظلم وتجاوز الحدود.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 333)(1/1261)
وختمت السورة بالتحذير من مخالفة الأحكام وتعدي حدود اللّه ، وهددت بالعقوبة المماثلة لعقوبات الأمم الباغية التي تخطت أوامر اللّه ، وكررت الأمر بالتقوى ، وذكّرت بمهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي تلاوة آيات اللّه لإخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور ، وأوضحت جزاء الإيمان والعمل الصالح ، ثم أوردت البرهان القاطع على قدرة اللّه الشاملة وعلمه الواسع بخلق السموات السبع والأرضين السبع ، وتنزل وحي اللّه وأمره وقضائه بين السموات والأرض. (1)
مدنية بالإجماع ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، أو اثنتا عشرة آية.وتشتمل على أحكام تتعلق بالعدة وأحكامها ، ثم تهديد بذكر عاقبة المخالفين. (2)
وتسمى سورة - النساء القصرى - كذا سماها ابن مسعود كما أخرجه البخاري وغيره ، وأنكره الداودي ، فقال : لا أرى القصرى محفوظا ولا يقال لشيء من سورة القرآن : قصرى ولا صغرى ، وتعقبه ابن حجر بأنه رد للاخبار الثابتة بلا مستند والقصر والطول أمر نسبي ، وقد أخرج البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال : طولى الطوليين ، وأراد بذلك سورة الأعراف - وهي مدنية بالاتفاق .. واختلف في عدد آياتها ففي البصري إحدى عشرة آية ، وفيما عداه اثنتا عشرة آية ، ولما ذكر سبحانه فيما تقدم إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [التغابن : 14] وكانت العداوة قد تفضي إلى الطلاق ذكر جل شأنه هنا الطلاق وأرشد سبحانه إلى الانفصال منهن على الوجه الجميل ، وذكر عز وجل أيضا ما يتعلق بالأولاد في الجملة (3)
* سورة الطلاق مدنية وقد تناولت بعض الأحكام التشريعية المتعلقة بأحوال الزوجين ، كبيان أحكام الطلاق وكيفيته ، وما يترتب على الطلاق من (العدة ، والنفقة ، والسكنى ، وأجر المرضع ) إلى غير ما هنالك من أحكام .
* تناولت السورة الكريمة في البدء أحكام الطلاق (الطلاق السني ) و(الطلاق البدعي ) فأمرت المؤمنين بسلوك أفضل الطرق ، عند تعذر استمرار الحياة الزوجية ، ودعت إلى تطليق الزوجة في الوقت المناسب ، وعلى الوجه المشروع ، وهو أن يطلقها طاهرا من غير جماع ، ثم يتركها إلى انقضاء عدتها [ يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن . . ] الآيات .
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (28 / 261)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 691)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 324)(1/1262)
* وفي هذا التوجيه الإلهي دعوة للرجال أن يتمهلوا ، ولا يتسرعوا في فصل عرى الزوجية ، فإن الطلاق أبغض الحلال إلى الله ، ولولا الضرورات القسرية لما أبيح الطلاق لأنه هدم للأسرة [ فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ] الآيات .
* ودعت السورة إلى إحصاء العدة لضبط انتهائها ، لئلا تختلط الأنساب ، ولئلا يطول الأمد على المطلقة ، فيلحقها الضرر ، ودعت إلى الوقوف عند حدود الله ، وعدم عصيان أوامره [ وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه . . ] الآيات .
* وتناولت السورة أحكام العدة ، فبينت عدة اليائس التي انقطع عنها دم الحيض لكبر أو مرض ، وكذلك عدة الصغيرة ، وعدة الحامل ، فبينته أوضح بيان مع التوجيه والإرشاد [ واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن . . ] الآيات .
* وفي خلال تلك الأحكام التشريعية ، تكررت الدعوة إلى " تقوى الله " بالترغيب تارة ، وبالترهيب أخرى ، لئلا يقع حيف أو ظلم من أحد الزوجين ، كما وضحت أحكام السكنى والنفقة [ ذلك أمر الله أنزله إليكم ، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. . ] الآيات .
* وختمت السورة بالتحذير من تعدي حدود الله ، وضربت الأمثلة بالأمم الباغية التي عتت عن أمر الله ، وما ذاقت من الوبال والدمار ، ثم أشارت إلى قدرة الله في خلق سبع سموات طباق ، وخلق الأرضين ، وكلها براهين على وحدانية رب العالمين [ وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا . . ] الآيات إلى نهاية السورة الكريمة . (1)
لمقصودها تقدير حسن التدبير في المفارقة والمهاجرة بتهذيب الأخلاق ، بالتقوى لا سيما في الإنفاق ، لا سيما إن كان ذلك عند الشقاق ، لا سيما إن كان في أمر النساء لا سيما عند الطلاق ، ليكونالفراق على نحو التواصل والتلاق ، واسمها الطلاق أجمع ما يكون لذلك ، فلذا سميت به وكذا سورة النساء القصرى لأن العدل في الفراق بعض مطلق العدل الذي هو محط مقصود سورة النساء (2)
هذه سورة الطلاق ، يبين اللّه فيها أحكامه ، ويفصل فيها الحالات التي لم تفصل في السورة الأخرى (سورة البقرة) التي تضمنت بعض أحكام الطلاق ويقرر فيها أحكام الحالات المتخلفة عن الطلاق من شؤون الأسرة.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 364)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 23)(1/1263)
وقد تضمنت هذه السورة بيان الوقت الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق الذي يقبله اللّه ويجري وفق سنته : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» ..
وحق المطلقة وواجبها في البقاء في بيتها - وهو بيت مطلقها - فترة العدة لا تخرج ولا تخرج إلا أن تأتي بفاحشة مبينة : «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» ..
وحقها بعد انقضاء العدة في الخروج لتفعل بنفسها ما تشاء ، ما لم يكن الزوج قد راجعها وأمسكها في فترة العدة ، لا ليضارها ويؤذيها بهذا الإمساك ويعطلها عن الزواج ، ولكن لتعود الحياة الزوجية بينهما بالمعروف :
«فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» .. وهذا مع الإشهاد على الإمساك أو الفراق :
«وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» ..
وفي سورة البقرة بين مدة العدة للمطلقة ذات الحيض - وهي ثلاثة قروء بمعنى ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف فقهي - وهنا بين هذه المدة بالنسبة للآيسة التي انقطع حيضها وللصغيرة التي لم تحض : «وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ» ..
وبين عدة الحامل : «وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» ..
ثم فصل حكم المسكن الذي تعتد فيه المعتدة ونفقة الحمل حتى تضع : «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ، وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ. وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» ..
ثم حكم الرضاعة لولد المطلقة حين تضعه ، وأجر الأم على الرضاعة في حالة الاتفاق بينها وبين أبيه على مصلحة الطفل بينهما ، وفي حالة إرضاعه من أخرى : «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ. وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى » ..
ثم زاد حكم النفقة والأجر في جميع الحالات تفصيلا ، فجعله تابعا لحالة الزوج وقدرته : «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها» ..
وهكذا تتبعت النصوص سائر الحالات ، وما يتخلف عنها ، بأحكام مفصلة دقيقة ، ولم تدع شيئا من أنقاض الأسرة المفككة بالطلاق إلا أراحته في مكانه ، وبينت حكمه ، في رفق وفي دقة وفي وضوح ..
ويقف الإنسان مدهوشا أمام هذه السورة وهي تتناول أحكام هذه الحالة ومتخلفاتها. وهي تحشد للأمر هذا الحشد العجيب من الترغيب والترهيب ، والتعقيب على كل حكم ، ووصل هذا الأمر بقدر اللّه في السماوات والأرضين ، وسنن اللّه في هلاك العاتين عن أمره ، وفي الفرج والسعة لمن يتقونه. وتكرار الأمر(1/1264)
بالمعروف والسماحة والتراضي ، وإيثار الجميل. والإطماع في الخير. والتذكير بقدر اللّه في الخلق وفي الرزق ، وفي اليسر والعسر ..
يقف الإنسان مدهوشا أمام هذا الحشد من الحقائق الكونية الكبرى في معرض الحديث عن الطلاق أمام هذا الاحتفال والاهتمام - حتى ليوجه الخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بشخصه ، وهو أمر عام للمؤمنين وحكم عام للمسلمين ، زيادة في الاهتمام وإشعارا بخطورة الأمر المتحدث فيه. وأمام هذا التفصيل الدقيق للأحكام حالة حالة ، والأمر المشدد في كل حكم بالدقة في مراعاته ، وتقوى اللّه في تنفيذه ، ومراقبة اللّه في تناوله. والإطالة في التعقيب بالترغيب والترهيب ، إطالة تشعر القلب كأن هذا الأمر هو الإسلام كله! وهو الدين كله! وهو القضية التي تفصل فيها السماء ، وتقف لتراقب تنفيذ الأحكام! وتعد المتقين فيها بأكبر وأسمى ما يتطلع إليه المؤمن وتوعد الملتوين والمتلكئين والمضارّين بأعنف وأشد ما يلقاه عاص وتلوح للناس بالرجاء الندي والخير المخبوء وراء أخذ الأمر بالمعروف والسماحة والتجمل والتيسير.
ويقرأ القارئ في هذه السورة .. «وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ» .. «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» .. «لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» .. «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ» ..
«ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» .. «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ .. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» .. «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً». «ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ» «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً» ..
«سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» ..
كما يقرأ ذلك التهديد العنيف الطويل المفصل : «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً ، وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً. فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً» ..
يعقبه التحذير من مثل هذا المصير ، والتذكير بنعمة اللّه بالرسول وما معه من النور ، والتلويح بالأجر الكبير : «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا ، قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً : رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً» ..
ثم يقرأ هذا الإيقاع الهائل الضخم في المجال الكوني الكبير : «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً» ..(1/1265)
يقرأ هذا كله تعقيبا على أحكام الطلاق. ويجد سورة كاملة في القرآن ، من هذا الطراز ، كلها موقوفة على تنظيم هذه الحالة ومتخلفاتها كذلك! وربطها هكذا بأضخم حقائق الإيمان في المجال الكوني والنفسي.
وهي حالة تهدم لا حالة بناء ، وحالة انتهاء لا حالة إنشاء .. لأسرة .. لا لدولة .. وهي توقع في الحس أنها أضخم من إنشاء دولة! علام يدل هذا؟
إن له عدة دلالات تجتمع كلها عند سمو هذا الدين وجديته وانبثاقه من نبع غير بشري على وجه التأكيد.
حتى لو لم تكن هناك دلالة أخرى سوى دلالة هذه السورة! إنه يدل ابتداء على خطورة شأن الأسرة في النظام الإسلامي : فالإسلام نظام أسرة. البيت في اعتباره مثابة وسكن ، في ظله تلتقي النفوس على المودة والرحمة والتعاطف والستر والتجمل والحصانة والطهر وفي كنفه تنبت الطفولة ، وتدرج الحداثة ومنه تمتد وشائج الرحمة وأواصر التكافل.
ومن ثم يصور العلاقة البيتية تصويرا رفافا شفيفا ، يشع منه التعاطف ، وترف فيه الظلال ، ويشيع فيه الندى ، ويفوح منه العبير : «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» .. «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» .. فهي صلة النفس بالنفس ، وهي صلة السكن والقرار ، وهي صلة المودة والرحمة ، وهي صلة الستر والتجمل. وإن الإنسان ليحس في الألفاظ ذاتها حنوا ورفقا ، ويستروح من خلالها نداوة وظلا. وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق. ذلك في الوقت الذي يلحظ فيه أغراض ذلك الرباط كلها ، بما فيها امتداد الحياة بالنسل ، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة ، ويعترف بطهارتها وجديتها ، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها. ذلك حين يقول : «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ». فيلحظ كذلك معنى الإخصاب والإكثار.
ويحيط الإسلام هذه الخلية ، أو هذا المحضن ، أو هذه المثابة بكل رعايته وبكل ضماناته. وحسب طبيعة الإسلام الكلية ، فإنه لا يكتفي بالإشعاعات الروحية ، بل يتبعها التنظيمات القانونية والضمانات التشريعية .
والذي ينظر في تشريعات الأسرة في القرآن والسنة في كل وضع من أوضاعها ولكل حالة من حالاتها ، وينظر في التوجيهات المصاحبة لهذه التشريعات ، وفي الاحتشاد الظاهر حولها بالمؤثرات والمعقبات وفي ربط هذا الشأن باللّه مباشرة في كل موضع ، كما هو الحال في هذه السورة وفي غيرها .. يدرك إدراكا كاملا ضخامة شأن الأسرة في النظام الإسلامي ، وقيمة هذا الأمر عند اللّه ، وهو يجمع بين تقواه - سبحانه - وتقوى الرحم في أول سورة النساء حيث يقول : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ(1/1266)
نَفْسٍ واحِدَةٍ ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» ..
كما يجمع بين عبادة اللّه والإحسان للوالدين في سورة الإسراء وفي غيرها : «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» .. وبين الشكر للّه والشكر للوالدين في سورة لقمان : «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» ..
وإن هذه العناية القصوى بأمر الأسرة لتتناسق مع مجرى القدر الإلهي بإقامة الحياة البشرية ابتداء على أساس الأسرة ، حين جرى قدر اللّه أن تكون أول خلية في الوجود البشري هي أسرة آدم وزوجه ، وأن يتكاثر الناس بعد ذلك من هذه الخلية الأولى. وكان اللّه - سبحانه - قادرا على أن يخلق الملايين من الأفراد الإنسانيين دفعة واحدة. ولكن قدره جرى بهذا لحكمة كامنة في وظيفة الأسرة الضخمة في حياة هذا المخلوق ، حيث تلبي حياة الأسرة فطرته واستعداداته ، وحيث تنمي شخصيته وفضائله ، وحيث يتلقى فيها أعمق المؤثرات في حياته.
ثم جرت هذه العناية في النظام الإسلامي - منهج اللّه الأخير في الأرض - مع القدر الإلهي في خلقة الإنسان ابتداء. كما هو الشأن في تناسق كل ما يصدر عن اللّه بلا تفاوت ولا اختلاف.
والدلالة الثانية لسياق السورة ، وللاحتفال بشأن العلاقات الزوجية والعائلية هذا الاحتفال في القرآن كله ، هي اتجاه النظام الإسلامي لرفع هذه العلاقات الإنسانية إلى مستوى القداسة المتصلة باللّه واتخاذها وسيلة للتطهر الروحي والنظافة الشعورية - لا كما كان ينظر إليها في العقائد الوثنية ، وعند أتباع الديانات المحرفة ، البعيدة بهذا التحريف عن فطرة اللّه التي فطر الناس عليها.
«إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها ، إنما ينظمها ويطهرها ، ويرفعها عن المستوي الحيواني ، ويرقيها حتى تصبح هي المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية. ويقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية ، التي تجعل من التقاء جسدين ، التقاء نفسين وقلبين وروحين. وبتعبير شامل التقاء إنسانين ، تربط بينهما حياة مشتركة ، وآمال مشتركة ، وآلام مشتركة ، ومستقبل مشترك ، يلتقي في الذرية المرتقبة ، ويتقابل في الجيل الجديد ، الذي ينشأ في العش المشترك ، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان» .
ويعد الإسلام الزواج وسيلة للتطهر والارتفاع فيدعو الأمة المسلمة لتزويج رجالها ونسائها إذا قام المال عقبة دون تحقيق هذه الوسيلة الضرورية لتطهير الحياة ورفعها : «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ، إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» .. ويسمي الزواج إحصانا أي وقاية وصيانة. ويستقر في أخلاد(1/1267)
المؤمنين أن البقاء بدون إحصان ولو فترة قصيرة لا ينال رضى اللّه. فيقول الإمام علي - كرم اللّه وجهه - وقد سارع بالزواج عقب وفاة زوجه فاطمة بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «لقد خشيت أن ألقى اللّه وأنا عزب» .. فيدخل الزواج في عرف المؤمن في الطاعات التي يتقرب بها إلى ربه. وترتفع هذه الصلة إلى مكان القداسة في ضميره بما أنها إحدى الطاعات لربه.
والدلالة الثالثة لسياق سورة الطلاق ونظائرها هي واقعية هذا النظام الإسلامي ومعاملته للحياة وللنفس البشرية كما هي في فطرتها ، مع محاولة رفعها إلى ذلك المستوي الكريم ، عن طريق استعداداتها وملابسات حياتها.
ومن ثم لا يكتفي بالتشريع الدقيق في هذا الأمر الموكول إلى الضمير. ولا يكتفي بالتوجيه. ويستخدم هذا وذاك في مواجهة واقع النفس وواقع الحياة.
إن الأصل في الرابطة الزوجية هو الاستقرار والاستمرار. والإسلام يحيط هذه الرابطة بكل الضمانات التي تكفل استقرارها واستمرارها. وفي سبيل هذه الغاية يرفعها إلى مرتبة الطاعات ، ويعين على قيامها بمال الدولة للفقراء والفقيرات ، ويفرض الآداب التي تمنع التبرج والفتنة كي تستقر العواطف ولا تتلفت القلوب على هتاف الفتنة المتبرجة في الأسواق! ويفرض حد الزنا وحد القذف ويجعل للبيوت حرمتها بالاستئذان عليها والاستئذان بين أهلها في داخلها.
وينظم الارتباطات الزوجية بشريعة محددة ، ويقيم نظام البيت على أساس قوامة أحد الشريكين وهو الأقدر على القوامة ، منعا للفوضى والاضطراب والنزاع .. إلى آخر الضمانات والتنظيمات الواقية من كل اهتزاز.
فوق التوجيهات العاطفية. وفوق ربط هذه العلاقة كلها بتقوى اللّه ورقابته.
ولكن الحياة الواقعية للبشر تثبت أن هناك حالات تتهدم وتتحطم على الرغم من جميع الضمانات والتوجيهات.
وهي حالات لا بد أن تواجه مواجهة عملية ، اعترافا بمنطق الواقع الذي لا يجدي إنكاره حين تتعذر الحياة الزوجية ، ويصبح الإمساك بالزوجية عبثا لا يقوم على أساس! «والإسلام لا يسرع إلى رباط الزوجية المقدسة فيفصمه لأول وهلة ، ولأول بادرة من خلاف. إنه يشد على هذا الرباط بقوة ، فلا يدعه يفلت إلا بعد المحاولة واليأس.
«إنه يهتف بالرجال : «وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» .. فيميل بهم إلى التريث والمصابرة حتى في حالة الكراهية ، ويفتح لهم تلك النافذة المجهولة :(1/1268)
«فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» فما يدريهم أن في هؤلاء النسوة المكروهات خيرا ، وأن اللّه يدخر لهم هذا الخير. فلا يجوز أن يفلتوه. إن لم يكن ينبغي لهم أن يستمسكوا به ويعزوه! وليس أبلغ من هذا في استحياء الانعطاف الوجداني واستثارته ، وترويض الكره وإطفاء شرته.
«فإذا تجاوز الأمر مسألة الحب والكره إلى النشوز والنفور ، فليس الطلاق أول خاطر يهدي إليه الإسلام.
بل لا بد من محاولة يقوم بها الآخرون ، وتوفيق يحاوله الخيرون : «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ ، وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً» .. «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» ..
«فإذا لم تجد هذه الوساطة ، فالأمر إذن جد ، وهناك ما لا تستقيم معه هذه الحياة ، ولا يستقر لها قرار.
وإمساك الزوجية على هذا الوضع إنما هو محاولة فاشلة ، يزيدها الضغط فشلا ، ومن الحكمة التسليم بالواقع ، وإنها هذه الحياة على كره من الإسلام ، فإن أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق .
فإذا أراد أن يطلق فليس في كل لحظة يجوز الطلاق. إنما السنة أن يكون في طهر لم يقع فيه وطء .. وفي هذا ما يؤجل فصم العقدة فترة بعد موقف الغضب والانفعال. وفي خلال هذه الفترة قد تتغير النفوس ، وتقر القلوب ، ويصلح اللّه بين المتخاصمين فلا يقع الطلاق! ثم بعد ذلك فترة العدة. ثلاثة قروء للتي تحيض وتلد. وثلاثة أشهر للآيسة والصغيرة. وفترة الحمل للحوامل.
وفي خلالها مجال للمعاودة إن نبضت في القلوب نابضة من مودة ، ومن رغبة في استئناف ما انقطع من حبل الزوجية.
ولكن هذه المحاولات كلها لا تنفي أن هناك انفصالا يقع ، وحالات لا بد أن تواجهها الشريعة مواجهة عملية واقعية ، فتشرع لها ، وتنظم أوضاعها ، وتعالج آثارها. وفي هذا كانت تلك الأحكام الدقيقة المفصلة ، التي تدل على واقعية هذا الدين في علاجه للحياة ، مع دفعها دائما إلى الأمام. ورفعها دائما إلى السماء.
والدلالة الرابعة للسورة وما فيها من الترغيب والترهيب والتعقيب والتفصيل الشديد والتوكيد ، هو أنها كانت تواجه حالات واقعة في الجماعة المسلمة متخلفة من رواسب الجاهلية ، وما كانت تلاقيه المرأة من العنت والخسف ، مما اقتضى هذا التشديد ، وهذا الحشد من المؤثرات النفسية ، ومن التفصيلات الدقيقة ، التي لا تدع مجالا للتلاعب والالتواء مع ما كان مستقرا في النفوس من تصورات متخلفة عن علاقات الجنسين ، ومن تفكك وفوضى في الحياة العائلية .(1/1269)
ولم يكن الحال هكذا في شبه الجزيرة وحدها ، إنما كان شائعا في العالم كله يومذاك. فكان وضع المرأة هو وضع الرقيق أو ما هو أسوأ من الرقيق في جنبات الأرض جميعا. فوق ما كان ينظر إلى العلاقات الجنسية نظرة استقذار ، وإلى المرأة كأنها شيطان يغري بهذه القذارة.
ومن هذه الوهدة العالمية ارتفع الإسلام بالمرأة وبالعلاقات الزوجية إلى ذلك المستوي الرفيع الطاهر الكريم الذي سبقت الإشارة إليه. وأنشأ للمرأة ما أنشأ من القيمة والاعتبار والحقوق والضمانات .. وليدة لا توأد ولا تهان. ومخطوبة لا تنكح إلا بإذنها ثيبا أو بكرا. وزوجة لها حقوق الرعاية فوق ضمانات الشريعة. ومطلقة لها هذه الحقوق المفصلة في هذه السورة وفي سورة البقرة وغيرها ..
شرع الإسلام هذا كله. لا لأن النساء في شبه الجزيرة أو في أي مكان في العالم حينذاك شعرن بأن مكانهن غير مرض! ولا لأن شعور الرجال كذلك قد تأذى بوضع النساء. ولا لأنه كان هناك اتحاد نسائي عربي أو عالمي! ولا لأن المرأة دخلت دار الندوة أو مجلس الشورى! ولا لأن هاتفا واحدا في الأرض هتف بتغيير الأحوال .. إنما كانت هي شريعة السماء للأرض. وعدالة السماء للأرض. وإرادة السماء بالأرض .. أن ترتفع الحياة البشرية من تلك الوهدة ، وأن تتطهر العلاقات الزوجية من تلك الوصمة ، وأن يكون للزوجين من نفس واحدة حقوق الإنسان وكرامة الإنسان...
هذا دين رفيع .. لا يعرض عنه إلا مطموس. ولا يعيبه إلا منكوس ، ولا يحاربه إلا موكوس. فإنه لا يدع شريعة اللّه إلى شريعة الناس إلا من أخلد إلى الأرض واتبع هواه.
والآن نستعرض الأحكام في سياق السورة - بعد هذا الاستطراد الذي لا يبعد كثيرا عن جو هذا الجزء وما فيه من تنظيم وبناء للجماعة المسلمة - والأحكام في سياق السورة شيء آخر غير ذلك التلخيص. شيء حي. فيه روح. وفيه حركة. وفيه حياة. وفيه إيحاء .. وله إيقاع. وهذا هو الفارق الأصيل بين مدارسة الأحكام في القرآن ومدارستها في كتب الفقه والأصول. (1)
===============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3593)(1/1270)
(66) سورة التحريم
سورة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] الخ سميت سورة التحريم في كتب السنة وكتب التفسير. ووقع في رواية أبي ذر الهروي لصحيح البخاري تسميتها باسم سورة اللم تحرم بتشديد اللام، وفي الإتقان وتسمى سورة اللم تحرم، وفي تفسير الكواشي أي بهمزة وصل وتشديد اللام مكسورة وبفتح الميم وضم التاء محققه وتشديد الراء مكسورة بعدها ميم على حكاية جملة {لم تحرم} وجعلها بمنزلة الاسم وإدخال لام تعريف العهد على ذلك اللفظ وإدغام اللامين.
وتسمى سورة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الآلوسي: إن ابن الزبير سماها سورة النساء. قلت ولم أقف عليه ولم يذكر صاحب الإتقان هذين في أسمائها.
واتفق أهل العدد على أن عدة آيها اثنتا عشرة.
وهي مدنية. قال ابن عطية: بإجماع أهل العلم وتبعه القرطبي. وقال في الإتقان عن قتادة: إن أولها إلى تمام عشر آيات وما بعدها مكي، كما وقعت حكاية كلامه. ولعله أراد إلى عشر آيات، أي أن الآية العاشرة من المكي إذ من البعيد أن تكون الآية العاشرة مدنية والحادية عشر مكية.
وهي معدودة الخامسة بعد المائة في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الحجرات وقبل سورة الجمعة.
ويدل قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] أنها نزلت بعد سورة المائدة كما سيأتي. وسبب نزولها حادثتان حدثتا بين أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - .
إحداهما: ما ثبت في الصحيح عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان شرب عسلا عند إحدى نسائه اختلف في أنها زينب بنت جحش، أو حفصة، أو أم سلمة، أو سودة بنت زمعة. والأصح أنها زينب. فعلمت بذلك عائشة فتواطأت هي وحفصه على أن أيتهما دخل عليها تقول له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير والمغافير صمغ شجر العرفط وله رائحة مختمرة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره أن توجد منه رائحة وإنما تواطأتا على ذلك غيرة منهما أن يحتبس عند زينب زمانا يشرب فيه عسلا. فدخل على حفصة فقالت له ذلك، فقال: "بل شربت عسلا عند فلانة ولن أعود له"، أراد بذلك استرضاء حفصة في هذا الشأن وأوصاها أن لا تخبر بذلك عائشة لأنه يكره غضبها فأخبرت حفصة عائشة فنزلت الآيات.
هذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآيات. والتحريم هو قوله: "ولن أعود له" لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا صدقا وكانت سودة تقول لقد حرمناه.(1/1271)
والثانية ما رواه ابن القاسم في المدونة عن مالك عن زيد بن أسلم قال: حرم رسول الله أم إبراهيم جاريته فقال "والله لا أطؤك" ثم قال: "هي علي حرام" فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1].
وتفصيل هذا الخبر ما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأم ولده مارية في بيت حفصة فوجدته حفصة معها، وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها. فقالت حفصة: تدخلها بيتي ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: "لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها". قيل: فقالت له حفصة: كيف تحرم عليك وهي جاريتك فحلف لها أن لا يقربها فذكرته حفصة لعائشة فآلى أن لا يدخل على نسائه شهرا فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} . وهو حديث ضعيف.
أغراض هذه السورة
ما تضمنه سبب نزولها أن أحدا لا يحرم على نفسه ما أحل الله له لإرضاء أحد إذ ليس ذلك بمصلحة له ولا للذي يسترضيه فلا ينبغي أن يجعل كالنذر إذ لا قربة فيه وما هو بطلاق لأن التي حرمها جارية ليست بزوجة، فإنما صلاح كل جانب فيما يعود بنفع على نفسه أو ينفع به غيره نفعا مرضيا عند الله وتنبيه نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن غيرة الله على نبيه أعظم من غيرتهن عليه وأسمى مقصدا.
وأن الله يطلعه على ما يخصه من الحادثات.
وأن من حلف على يمين فرأى حنثها خيرا من برها أن يكفر عنها ويفعل الذي هو خير. وقد ورد التصريح بذلك في حديث وقد عبد القيس عن رواية أبي موسى الأشعري، وتقدم في سورة براءة.
وتعليم الأزواج أن لا يكثرن من مضايقة أزواجهن فإنها ربما أدت إلى الملال فالكراهية فالفراق.
وموعظة الناس بتربية بعض الأهل بعضا ووعظ بعضهم بعضا.
وأتبع ذلك بوصف عذاب الآخرة ونعيمها وما يفضي إلى كليهما من أعمال الناس صالحاتها وسيئاتها.
وذيل ذلك بضرب مثلين من صالحات النساء وضدهن لما في ذلك من العظمة لنساء المؤمنين ولأمهاتهم (1) .
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة « الطلاق » ـ قبل هذه السورة ـ وقد بينت للمؤمنين الحدود التي ينبغى للمؤمنين أن يلزموها فى العلاقات التي بين رجالهم ونسائهم ، فى حال ينتهى الأمر فيها إلى الطلاق ، وحلّ عرا
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (28 / 307)(1/1272)
الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة ..ولما كان لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ـ كبشر ـ علاقات زوجية ، كالعلاقات التي بين رجال المؤمنين ونسائهم ، وأن هذه العلاقات ، قد يعرض لها ما يعرض للعلاقات بين المرء وزوجه ، فكان من المناسب أن تجىء سورة « التحريم » عقب سورة « الطلاق » لما كان فيها من حديث عن النبىّ خاصة ، وعمّا يقع فى محيط حياته الزوجية .. وفى هذا التخصيص تكريم للنبى الكريم ، ورفع لقدره عند ربّه. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « التحريم » من السور المدنية الخالصة ، وتسمى - أيضا - بسورة لِمَ تُحَرِّمُ وبسورة « النبي » - صلى الله عليه وسلم - وعدد آياتها اثنتا عشرة آية.
2 - وكان نزولها بعد سورة « الحجرات » وقبل سورة « الجمعة » فهي السورة الخامسة بعد المائة بالنسبة لترتيب نزول السور القرآنية ، أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة السادسة والستون.
3 - والسورة الكريمة في مطلعها تحكى جانبا مما دار بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين بعض زوجاته فتعرض صفحة من حياته - صلى الله عليه وسلم - في بيته ، ومن عتاب اللّه - تعالى - له ومن فضله عليه ، ودفاعه عنه.
4 - ثم وجهت نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يداوموا على العمل الصالح الذي ينجيهم من عذاب اللّه - تعالى - وحرضتهم على التسلح بالتوبة النصوح لأنها على رأس الأسباب التي تؤدى إلى تكفير سيئاتهم.
5 - ثم ختمت السورة الكريمة بضرب مثلين أحدهما للذين آمنوا ، ويتمثل في امرأة فرعون وفي مريم ابنة عمران ، والآخر للذين كفروا ويتمثل في امرأة نوح وامرأة لوط - عليهما السلام - والغرض من ذلك العظة والاعتبار. (2)
في السورة إشارة إلى حادث وقع بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعض زوجاته. واستطرادات متصلة به استهدفت العظة والإنذار والتمثيل والتذكير. ومن المحتمل أن يكون فصل الحادث نزل لحدته ثم نزلت الفصول الاستطرادية بعده تباعا حتى تمت السورة. واللّه أعلم. وقد ذكر الزمخشري أنها تسمى سورة النبي أيضا ولم يذكر لذلك سندا.
وليس في السورة أمارة مميزة يمكن أن تساعد على القول بصحة ترتيبها وعدمه. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت بعد الحجرات ، وروي هذا في ترتيبات أخرى «1» فجارينا هذه الروايات. (3)
سورة التحريم مدنيّة ، وهي اثنتا عشرة آية.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 1021)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (14 / 465)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 529)(1/1273)
تسميتها : سميت سورة «التحريم» ، لتحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا على نفسه ، وافتتاح السورة بعتابه على سبيل التلطف في قوله سبحانه : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ...
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة :
1 - افتتاح السورتين كلتيهما بخطاب النّبي - صلى الله عليه وسلم - : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ.
2 - اشتراك السورتين في الأحكام المخصوصة بالنساء ، فالأولى سورة الطلاق في بيان أحكام الطلاق والعدة وحقوق المعتدة وحسن المعاشرة ، وهذه السورة في موقف بعض نساء النّبي - صلى الله عليه وسلم - وكيفية معاملة النّبي - صلى الله عليه وسلم - لهنّ بالحسنى واللين والنصح.
3 - إن سورة الطلاق المتقدمة في تحريم ما أحل اللّه بالطلاق ، وإنهاء خصومة بعض نساء الأمة ، وهذه السورة في تحريم ما أحل اللّه من نوع آخر بالإيلاء ، وإنهاء خصومة نساء النّبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإفرادها بأحكامهن تعظيما لهن ، لذا ختمت بذكر زوجته في الجنة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران.
ما اشتملت عليه السورة :
هذه السورة المدنية تتضمن بعض أحكام التشريع الخاصة بأمهات المؤمنين لتكون نموذجا يحتذي لجميع الأمة.
ابتدأت السورة بعتاب لطيف للنّبي - صلى الله عليه وسلم - على تحريمه على نفسه شيئا مباحا وهو العسل كما ثبت في الصحيح إرضاء لبعض أزواجه : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ، تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ .. الآية.
ثم وجّهت العتاب لبعض أزواج النبي لإفشائهن السرّ حين أسرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زوجته حفصة ، فأخبرت به عائشة ، مما أغضب النّبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهمّ بتطليق أزواجه ، وهدّدهن اللّه بإبداله أزواجا خيرا منهن : وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ ...
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ ...
وناسب هذا التذكير باتقاء أهل بيت الإيمان النار والترهيب من الجزاء ، وبالتوبة النصوح ، وبجهاد الكفار والمنافقين من غير انشغال بأحوال البيت والأسرة من أزواج وأولاد.
وختمت السورة بضرب مثلين عظيمين : أحدهما للكافرين ، والثاني للمؤمنين ، والأول مثل الزوجة الكافرة : امرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام ، عند الرجل المؤمن الصالح ، والثاني مثل الزوجة المؤمنة : امرأة فرعون ، عند الرجل الكافر الفاجر ، ومثل المرأة الحرة التقية البتول في غير عصمة أحد ، تنبيها(1/1274)
للناس على وجوب اعتماد الإنسان على نفسه ، وأنه لا يغني في الآخرة أحد عن أحد ، ولا ينفع حسب ولا نسب إذا ساء العمل. (1)
مدنية بالإجماع ، وعدد آياتها اثنتا عشرة آية وتسمى سورة النبي ، ولذا تعرضت إليه كزوج وإلى بعض ما حدث من زوجاته ، وذكرت مع بعض توجيهات مواعظ وأمثلة. (2)
ويقال لها : سورة المتحرم وسورة لم تحرم وسورة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن ابن الزبير - سورة النساء - والمشهور أنها مدنية ، وعن قتادة أن المدني منها إلى رأس العشر ، والباقي مكي ، وآيها اثنتا عشرة آية بالاتفاق ، وهي متوخية مع التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ، وتلك مشتملة على طلاق النساء ، وهذه على تحريم الإماء ، وبينهما من الملابسة ما لا يخفى ، ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة ذكر في هذه خصومة نساء المصطفى صلّى اللّه تعالى عليه وسلم إعظاما لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة فأفردن بسورة خاصة ولذا ختمت بذكر زوجيه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم في الجنة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة. (3)
* سورة التحريم من السور المدنية التي تتناول الشئون التشريعية ، وهي هنا تعالج قضايا وأحكامأ تتعلق " ببيت النبوة " وبأمهات المؤمنين أزواج رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) الطاهرات ، وذلك في إطار تهيئة (البيت المسلم ) ، والنموذج الأكمل للأسرة السعيدة ، المتمسكة بآداب بالإسلام .
* تناولت السورة الكريمة في البدء الحديث عن تحريم الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) لجاريته ومملوكته " مارية القبطية " على نفسه ، وامتناعه عن معاشرتها إرضاء لرغبة بعض زوجاته الطاهرات ، وجاء العتاب له لطيفا رقيقا ، يشف عن عناية الله بعبده ورسوله محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) أن يضيق على نفسه ما وسعه الله له [ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك . . ] الآية .
* ثم تناولت السورة أمرا على جانب كبير من الخطورة ، ألا وهو " إفشاء السر " الذي يكون بين الزوجين ، والذي يهدد الحياة الزوجية ، وضربت المثل على ذلك برسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) حين أسر إلى حفصة بسر واستكتمها إياه ، فأفشته إلى عائشة ، حتى شاع الأمر وذاع ، مما أغضب الرسول حتى هم بتطليق أزواجه [ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حدبثا . . ] الآية .
* وحملت السورة الكريمة حملة شديدة عنيفة ، على أزواج النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) حين حدث ما حدث بينهن من التنافس ، وغيرة بعضهن من بعض ، لأمور يسيرة ، وتوعدتهن بإبدال الله لرسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بنساء خير
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (28 / 300) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 154)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 700)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (14 / 341)(1/1275)
منهن ، انتصارا لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) [ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ، مسلمات ، مؤمنات ، قانتات ، تائبات . . ] ا لآية .
* وختمت السورة بضرب مثلين : مثل (للزوجة الكافرة) في عصمة الرجل الصالح المؤمن ، ومثل! (للزوجة المؤمنة) في عصمة الرجل الفاجر الكافر ، تنبيها للعباد على أنه لا يغني في الآخرة أحد عن أحد ، ولا ينفع حسب ولا نسب ، إذا لم يكن عمل الإنسان صالحا [ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما - أي كفرتا بالله ولم تؤمنا - فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل أدخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة . . ] الآيات . وهو ختم رائع يتناسق مع جو السورة وهدفها في ترسيخ دعائم الفضيلة والإيمان . (1)
مقصودها الحث على تقدير التدبير في الأدب مع الله ومع رسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ومع سائر العباد والندب إلى التخلق بالأدب الشرعي وحسن المباشرة لا سيما للنساء اقتداء بالنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في حسن عشرته وكريم صحبته وبيان ان الأ ب الشرعي تارة يكون باللين والأناة ، وأخرى بالسوط وما داناه ومرة بالسيف وما والاه ، وكل من اسميها التحريم والنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) موضح لذلك (2)
عندما جرى قدر اللّه أن يجعل الإسلام هو الرسالة الأخيرة وأن يجعل منهجه هو المنهاج الباقي إلى آخر الخليقة وأن تجري حياة المؤمنين به وفق الناموس الكوني العام وأن يكون هذا الدين هو الذي يقود حياة البشرية ويهيمن على نشاطها في كل ميدان ..
عندما جرى قدر اللّه بهذا كله جعل اللّه هذا المنهج في هذه الصورة ، شاملا كاملا متكاملا ، يلبي كل طاقات البشر واستعداداتهم ، في الوقت الذي يرفع هذه الطاقات وهذه الاستعدادات إلى الأفق اللائق بخليفة اللّه في الأرض ، وبالكائن الذي كرمه اللّه على كثير من عباده ، ونفخ فيه من روحه.
وجعل طبيعة هذا الدين الانطلاق بالحياة إلى الأمام : نموا وتكاثرا ، ورفعة وتطهرا ، في آن واحد. فلم يعطل طاقة بانية ، ولم يكبت استعدادا نافعا. بل نشط الطاقات وأيقظ الاستعدادات وفي الوقت ذاته حافظ على توازن حركة الاندفاع إلى الأمام مع حركة الارتفاع إلى الأفق الكريم ، الذي يهيئ الأرواح في الدنيا لمستوى نعيم الآخرة ، ويعد المخلوق الفاني في الأرض للحياة الباقية في دار الخلود.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 370)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 43)(1/1276)
وعند ما جرى قدر اللّه أن يجعل طبيعة هذه العقيدة هكذا جرى كذلك باختيار رسولها - صلى الله عليه وسلم - إنسانا تتمثل فيه هذه العقيدة بكل خصائصها ، وتتجسم فيه بكل حقيقتها ، ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها. إنسانا قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلها. ضليع التكوين الجسدي ، قوي البنية ، سليم البناء صحيح الحواس ، يقظ الحس ، يتذوق المحسوسات تذوقا كاملا سليما. وهو في ذات الوقت ضخم العاطفة ، حي الطبع ، سليم الحساسية ، يتذوق الجمال ، متفتح للتلقي والاستجابة. وهو في الوقت ذاته كبير العقل ، واسع الفكر ، فسيح الأفق ، قوي الإرادة ، يملك نفسه ولا تملكه .. ثم هو بعد ذلك كله .. النبي .. الذي تشرق روحه بالنور الكلي ، والذي تطيق روحه الإسراء والمعراج ، والذي ينادى من السماء ، والذي يرى نور ربه ، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كل شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر ، فيسلم عليه الحصى والحجر ، ويحن له الجذع ، ويرتجف به أحد - الجبل ..! .. ثم تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلها. فإذا هو التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها ..
ثم يجعل اللّه حياته الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمته وللبشرية كلها ، تقرأ فيه صور هذه العقيدة ، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية. ومن ثم لا يجعل فيها سرا مخبوءا ، ولا سترا مطويا. بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن ، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي. حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر. بل إن الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للناس! إنه ليس له في نفسه شيء خاص. فهو لهذه الدعوة كله. فعلام يختبئ جانب من حياته - صلى الله عليه وسلم - أو يخبأ؟ إن حياته هي المشهد المنظور القريب الممكن التطبيق من هذه العقيدة وقد جاء - صلى الله عليه وسلم - ليعرضها للناس في شخصه ، وفي حياته ، كما يعرضها بلسانه وتوجيهه. ولهذا خلق. ولهذا جاء.
ولقد حفظ عنه أصحابه - صلى الله عليه وسلم - ونقلوا للناس بعدهم - جزاهم اللّه خيرا - أدق تفصيلات هذه الحياة. فلم تبق صغيرة ولا كبيرة حتى في حياته اليومية العادية ، لم تسجل ولم تنقل .. وكان هذا طرفا من قدر اللّه في تسجيل حياة هذا الرسول ، أو تسجيل دقائق هذه العقيدة مطبقة في حياة الرسول. فكان هذا إلى جانب ما سجله القرآن الكريم من هذه الحياة السجل الباقي للبشرية إلى نهاية الحياة.
وهذه السورة تعرض في صدرها صفحة من الحياة البيتية لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وصورة من الانفعالات والاستجابات الإنسانية بين بعض نسائه وبعض ، وبينهن وبينه! وانعكاس هذه الانفعالات والاستجابات في حياته - صلى الله عليه وسلم - وفي حياة الجماعة المسلمة كذلك .. ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ما وقع في بيوت رسول اللّه وبين أزواجه.
والوقت الذي وقعت فيه الأحداث التي تشير إليها السورة ليس محددا. ولكن بالرجوع إلى الروايات التي جاءت عنه يتأكد أنه بعد زواج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش قطعا.(1/1277)
ولعله يحسن أن نذكر هنا ملخصا عن قصة أزواج النبي ، وعن حياته البيتية يعين على تصور الحوادث والنصوص التي جاءت بصددها في هذه السورة. ونعتمد في هذا الملخص على ما أثبته الإمام ابن حزم في كتابه : «جوامع السيرة» .. وعلى السيرة لابن هشام مع بعض التعليقات السريعة :
أول أزواجه - صلى الله عليه وسلم - خديجة بنت خويلد. تزوجها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل ثلاث وعشرون ، وسنها - رضي اللّه عنها - أربعون أو فوق الأربعين ، وماتت - رضي اللّه عنها - قبل الهجرة بثلاث سنوات ، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت. وقد تجاوزت سنه الخمسين.
فلما ماتت خديجة تزوج عليه السلام سودة بنت زمعة - رضي اللّه عنها - ولم يرو أنها ذات جمال ولا شباب.
إنما كانت أرملة للسكران بن عمرو بن عبد شمس. كان زوجها من السابقين إلى الإسلام من مهاجري الحبشة.
فلما توفي عنها ، تزوجها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - .
ثم تزوج عائشة - رضي اللّه عنها - بنت الصديق أبي بكر - رضي اللّه عنه وأرضاه - وكانت صغيرة فلم يدخل بها إلا بعد الهجرة. ولم يتزوج بكرا غيرها. وكانت أحب نسائه إليه ، وقيل كانت سنها تسع سنوات وبقيت معه تسع سنوات وخمسة أشهر. وتوفي عنها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - .
ثم تزوج حفصة بنت عمر - رضي اللّه عنه وعنها - بعد الهجرة بسنتين وأشهر. تزوجها ثيبا. بعد ما عرضها أبوها على أبي بكر وعلى عثمان فلم يستجيبا. فوعده النبي خيرا منهما وتزوجها! ثم تزوج زينب بنت خزيمة. وكان زوجها الأول عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب قد قتل يوم بدر.
وتوفيت زينب هذه في حياته - صلى الله عليه وسلم - . وقيل كان زوجها قبل النبي هو عبد اللّه بن جحش الأسدي المستشهد يوم أحد. ولعل هذا هو الأقرب.
وتزوج أم سلمة. وكانت قبله زوجا لأبي سلمة ، الذي جرح في أحد ، وظل جرحه يعاوده حتى مات به.
فتزوج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أرملته. وضم إليه عيالها من أبي سلمة.
وتزوج زينب بنت جحش. بعد أن زوجها لمولاه ومتبناه زيد بن حارثة فلم تستقم حياتهما فطلقها. وقد عرضنا قصتها في سورة الأحزاب في الجزء الثاني والعشرين ، وكانت جميلة وضيئة. وهي التي كانت عائشة - رضي اللّه عنها - تحس أنها تساميها ، لنسبها من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهي بنت عمته ، ولو ضاءتها! ثم تزوج جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد غزوة بني المصطلق في أواسط السنة السادسة الهجرية.(1/1278)
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي اللّه عنها.
قالت : «لما قسم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في أسهم الثابت ابن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها ، وكانت امرأة حلوة مليحة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه ، فأتت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - تستعينه في كتابتها. قالت عائشة : فو اللّه ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها! وعرفت أنه سيرى منها - صلى الله عليه وسلم - ما رأيت ، فدخلت عليه فقالت : يا رسول اللّه. أنا جويرية بنت الحارث بن أبي صرار سيد قومه. وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس - أو لابن عم له - فكاتبته على نفسي ، فجئت أستعينك على كتابتي. قال : «فهل لك في خير من ذلك؟ قالت : وما هو يا رسول اللّه؟ قال : «أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؟» قالت : نعم يا رسول اللّه. قال : «قد فعلت» ..
ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بعد الحديبية. وكانت مهاجرة مسلمة في بلاد الحبشة ، فارتد زوجها عبد اللّه بن جحش إلى النصرانية وتركها. فخطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهرها عنه نجاشي الحبشة.وجاءت من هناك إلى المدينة.
وتزوج إثر فتح خيبر بعد الحديبية صفية بنت حيي بن أخطب زعيم بني النضير. وكانت زوجة لكنانة ابن أبي الحقيق وهو من زعماء اليهود أيضا. ويذكر ابن إسحاق في قصة زواجه - صلى الله عليه وسلم - منها :
أنه أتي بها وبأخرى معها من السبي ، فمر بهما بلال - رضي اللّه عنه - على قتلى من قتلى اليهود فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها. فقال - صلى الله عليه وسلم - : «اعزبوا عني هذه الشيطانة» وأمر بصفية فحيزت خلفه ، وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قد اصطفاها لنفسه. فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لبلال - فيما بلغني - حين رأى بتلك اليهودية ما رأى : «أنزعت منك الرحمة يا بلال؟ حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟».
ثم تزوج ميمونة بنت الحارث بن حزن. وهي خالة خالد بن الوليد وعبد اللّه بن عباس. وكانت قبل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عند أبي رهم بن عبد العزى. وقيل حويطب بن عبد العزى. وهي آخر من تزوج - صلى الله عليه وسلم - .
وهكذا ترى أن لكل زوجة من أزواجه - صلى الله عليه وسلم - قصة وسببا في زواجه منها. وهن فيمن عدا زينب بنت جحش ، وجويرية بنت الحارث ، لم يكن شواب ولا ممن يرغب فيهن الرجال لجمال. وكانت عائشة - رضي اللّه عنها - هي أحب نسائه إليه. وحتى هاتان اللتان عرف عنهما الجمال والشباب كان هناك عامل نفسي وإنساني آخر - إلى جانب جاذبيتهن - ولست أحاول أن أنفي عنصر الجاذبية الذي لحظته عائشة في جويرية مثلا ، ولا عنصر الجمال الذي عرفت به زينب. فلا حاجة أبدا إلى نفي مثل هذه(1/1279)
العناصر الإنسانية من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وليست هذه العناصر موضع اتهام يدفعه الأنصار عن نبيهم. إذا حلا لأعدائه أن يتهموه! فقد اختير ليكون إنسانا. ولكن إنسانا رفيعا. وهكذا كان. وهكذا كانت دوافعه في حياته وفي أزواجه - صلى الله عليه وسلم - على اختلاف الدوافع والأسباب.
ولقد عاش في بيته مع أزواجه بشرا رسولا كما خلقه اللّه ، وكما أمره أن يقول : «قل : سبحان ربي! هل كنت إلا بشرا رسولا؟» ..
استمتع بأزواجه وأمتعهن ، كما قالت عائشة - رضي اللّه عنها - عنه : «كان إذا خلا بنسائه ألين الناس.وأكرم الناس ضحاكا بساما » .. ولكنه إنما كان يستمتع بهن ويمتعهن من ذات نفسه ، ومن فيض قلبه ، ومن حسن أدبه ، ومن كريم معاملته. فأما حياتهن المادية فكانت في غالبها كفافا حتى بعد أن فتحت له الفتوح وتبحبح المسلمون بالغنائم والفيء. وقد سبق في سورة الأحزاب قصة طلبهن الوسعة في النفقة ، وما أعقب هذا الطلب من أزمة ، انتهت بتخييرهن بين اللّه ورسوله والدار الآخرة ، أو المتاع والتسريح من عصمته - صلى الله عليه وسلم - فاخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة .
ولكن الحياة في جو النبوة في بيوت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لم تكن لتقضي على المشاعر البشرية ، والهواتف البشرية في نفوس أزواجه - رضي اللّه عنهن - فقد كان يبدر أو يشجر بينهن ، ما لا بد أن يشجر في قلوب النساء في مثل هذه الحال. وقد سلف في رواية ابن إسحاق عن عائشة - رضي اللّه عنها - أنها كرهت جويرية بمجرد رؤيتها لما توقعته من استملاح رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لها إذا رآها. وصح ما توقعته فعلا! وكذلك روت هي نفسها حادثا لها مع صفية. قالت. «قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : حسبك من صفية كذا وكذا. قال الراوي : تعني قصيرة! فقال - صلى الله عليه وسلم - : «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته «3»» .. كذلك روت عن نفسها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت آية التخيير التي في الأحزاب ، فاختارت هي اللّه ورسوله والدار الآخرة ، طلبت إليه ألا يخبر زوجاته عن اختيارها! - وظاهر لماذا طلبت هذا! - فقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن اللّه تعالى لم يبعثني معنفا ، ولكن بعثني معلما ميسرا.لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها .. ».
وهذه الوقائع التي روتها عائشة - رضي اللّه عنها - عن نفسها - بدافع من صدقها ولتربيتها الإسلامية الناصعة - ليست إلا أمثلة لغيرها تصور هذا الجو الإنساني الذي لا بد منه في مثل هذه الحياة. كما تصور كيف كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤدي رسالته بالتربية والتعلية في بيته كما يؤديها في أمته سواء.
وهذا الحادث الذي نزل بشأنه صدر هذه السورة هو واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي حياة أزواجه. وقد وردت بشأنه روايات متعددة ومختلفة سنعرض لها عند استعراض النصوص القرآنية في السورة.(1/1280)
وبمناسبة هذا الحادث وما ورد فيه من توجيهات. وبخاصة دعوة الزوجتين المتآمرتين فيه إلى التوبة. أعقبه في السورة دعوة إلى التوبة وإلى قيام أصحاب البيوت على بيوتهم بالتربية ، ووقاية أنفسهم وأهليهم من النار.
كما ورد مشهد للكافرين في هذه النار. واختتمت السورة بالحديث عن امرأة نوح وامرأة لوط كمثل للكفر في بيت مؤمن. وعن امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر ، وكذلك عن مريم ابنة عمران التي تطهرت فتلقت النفخة من روح اللّه وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين .. (1)
ما تضمنته هذه السورة
اشتملت هذه السورة على شيئين :
(1) أخبار نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحلفه - صلى الله عليه وسلم - ألا يشرب العسل إرضاء لبعضهنّ ، واطلاع اللّه له على ما أفشين من سرّ أمرهنّ بكتمه ، من أول السورة إلى قوله : « وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » .
(2) ضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3609)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (28 / 170)(1/1281)
(67) سورة الملك
سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - "سورة تبارك الذي بيده الملك" في حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفرت له وهي "سورة تبارك الذي بيده الملك" قال الترمذي هذا حديث حسن.
فهذا تسمية للسورة بأول جملة وقعت فيها فتكون تسمية بجملة كما سمي ثابت بن جابر تأبط شرا. ولفظ سورة مضاف إلى تلك الجملة المحكية.
وسميت أيضا "تبارك الملك" بمجموع الكلمتين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبسمع منه فيما رواه الترمذي عن ابن عباس أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان أي دفين فيه يقرأ سورة "تبارك الملك" حتى ختمها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر" حديث حسن غريب يكون اسم السورة مجموع هذين اللفظين على طريقة عد الكلمات في اللفظ دون إضافة إحداهما إلى الأخرى مثل تسمية لام ألف. ونظيره أسماء السور بالأحرف المقطعة التي في أولها على بعض الأقوال في المراد منها وعليه فيحكى لفظ "تبارك" بصيغة الماضي ويحكى لفظ "الملك" مرفوعا كما هو في الآية، فيكون لفظ سورة مضافا من إضافة المسمى إلى الاسم. لأن المقصود تعريف السورة بهاتين الكلمتين على حكاية اللفظين الواقعين في أولها مع اختصار ما بين الكلمتين وذلك قصدا للفرق بينهما وبين تبارك الفرقان. كما قالوا: عبيد الله الرقيات، بإضافة مجموع عبيد الله إلى الرقيات تمييزا لعبيد الله بن قيس العامر1 الشاعر عن غيره ممن يشبه اسمه اسمه مثل عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود أو لمجرد اشتهاره بالتشبيه في نساء كان اسم كل واحدة منهن رقية1 وهن ثلاث. ولذلك يجب أن يكون لفظ "تبارك" في هذا المركب مفتوح الآخر. ولفظ "الملك" مضموم الكاف. وكذلك وقع ضبطه في نسخة جامع الترمذي وكلتاهما حركة حكاية.
والشائع في كتب السنة وكتب التفسير وفي أكثر المصاحف تسمية هذه السورة سورة الملك وكذلك ترجمها الترمذي: باب ما جاء في فضل سورة الملك. وكذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه .
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال كنا نسميها على عهد رسول الله المانعة، أي أخذا من وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها بأنها المانعة المنجية كما في حديث الترمذي المذكور آنفا وليس بالصريح في التسمية.(1/1282)
وفي الإتقان عن تاريخ ابن عساكر من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سماها "المنجية" ولعل ذلك من وصفه إياها بالمنجية في حديث الترمذي وليس أيضا بالصريح في أنه اسم.
وفي الإتقان عن كتاب جمال القراء تسمى أيضا الواقية، وتسمى المناعة بصيغة المبالغة.
وذكر الفخر: أن ابن عباس كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن قارئها عند سؤال الملكين ولم أره لغير الفخر.
فهذه ثمانية أسماء سميت بها هذه السورة.
وهي مكية قال ابن عطية والقرطبي: باتفاق الجميع.
وفي الإتقان أخرج جويبر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس نزلت تبارك الملك في أهل مكة إلا ثلاث آيات اه. فيحتمل أن الضحاك عنى استثناء ثلاث آيات نزلت في المدينة. وهذا الاحتمال هو الذي يقتضيه إخراج صاحب الإتقان هذا النقل في عداد السور المختلف في بعض آياتها، ويحتمل أن يريد أن ثلاث آيات منها غير مخاطب بها أهل مكة، وعلى كلا الاحتمالين فهو لم يعين هذه الآيات الثلاث وليس في آيات السورة ثلاث آيات لا تتعلق بالمشركين خاصة بل نجد الخمس الآيات الأوائل يجوز أن يكون القصد منها الفريقين من أول السورة إلى قوله: {عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5].
وقال في "الإتقان" أيضا فيها قول غريب لم يعزه أن جميع السورة مدني. وهي السادسة والسبعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة المؤمنين وقبل سورة الحاقة.
وآيها في عد أهل الحجاز إحدى وثلاثون وفي عد غيرهم ثلاثون.
أغراض السورة
والأغراض التي في هذه السورة جارية على سنن الأغراض في السور المكية.
ابتدأت بتعريف المؤمنين معاني من العلم بعظمة الله تعالى وتفرده بالملك الحق؛ والنظر في إتقان صنعه الدال على تفرده بالإلهية فبذلك يكون في تلك الآيات حظ لعظة المشركين.
ومن ذلك التذكير بأنه أقام نظام الموت والحياة لتظهر في الحالين مجاري أعمال العباد في ميادين السبق إلى أحسن الأعمال ونتائج مجاريها.
وأنه الذي يجازي عليها.
وانفراده بخلق العوالم خلقا بالغا غاية الإتقان فيما تراد له.
وأتبعه بالأمر بالنظر في ذلك وبالإرشاد إلى دلائله الإجمالية وتلك دلائل على انفراده بالإلهية.(1/1283)
متخلصا من ذلك إلى تحذير الناس من كيد الشياطين، والارتباق معهم في ربقة عذاب جهنم وأن في اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - نجاة من ذلك وفي تكذيبه الخسران، وتنبيه المعاندين للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى علم الله بما يحوكونه للرسول ظاهرا وخفية بأن علم الله محيط بمخلوقاته.
والتذكير بمنة خلق العالم الأرضي، ودقة نظامه، وملاءمته لحياة الناس، وفيها سعيهم ومنها رزقهم.
والموعظة بأن الله قادر على إفساد ذلك النظام فيصبح الناس في كرب وعناء يتذكروا قيمة النعم بتصور زوالها.
وضرب لهم مثلا في لطفه تعالى بهم بلطفه بالطير في طيرانها.
وأيسهم من التوكل على نصرة الأصنام أو على أن ترزقهم رزقا.
وفظع لهم حالة الضلال التي ورطوا أنفسهم فيها.
ثم وبخ المشركين على كفرهم نعمة الله تعالى وعلى وقاحتهم في الاستخفاف بوعيده وأنه وشيك الوقوع بهم.
ووبخهم على استعجالهم موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستريحوا من دعوته.
وأوعدهم بأنهم سيعلمون ضلالهم حين لا ينفعهم العلم، وأنذرهم بما قد يحل بهم من قحط وغيره. (1)
مناسبتها لما قبلها
كانت الآيات التي ختمت بها سورة « التحريم » السابقة على هذه السورة ، معرضا للصراع بين الخير والشر ، والحرب بين الإيمان ، والكفر ـ فيما كان من امرأة نوح وامرأة لوط ، وخروجهما من المعركة خاسرتين كافرتين .. ثم ما كان من امرأة فرعون ، وصراعها مع قوى الشر المحدقة بها من كل جهة ، ثم انتصارها ، وخروجها من وسط هذا الظلام المطبق ، إلى حيث النور والهدى ..ثم كان مما بدئت به سورة « الملك » قوله تعالى : « الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » ليقرر أن نتيجة هذا الصراع بين المحقّين والمبطلين ، والمحسنين والمسيئين ـ إنما تظهر على حقيقتها كاملة يوم القيامة ، ولهذا كان مما قضت به حكمة اللّه سبحانه وتعالى أن يكون موت ، ثم تكون حياة بعد هذا الموت ، ليحاسب الناس على ما عملوا فى الدنيا ، من خير أو شر ..فكان من المناسب أن تلتقى هذه الحقيقة التي قررتها سورة « الملك » مع تلك الحقيقة التي ختمت بها سورة « التحريم ».
. وبذلك يتأكد المراد منهما معا. (2)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 5)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1043)(1/1284)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الملك » من السور المكية الخالصة ، ومن السور ذات الأسماء المتعددة ، قال الآلوسى : وتسمى « تبارك » و« المانعة » و« المنجية » و« المجادلة ».
فقد أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : كنا نسميها على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - « المانعة ».
وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال : ضرب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خباءه على قبر ، وهو لا يحسب أنه قبر ، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال - صلى الله عليه وسلم - : هي المانعة ، هي المنجية ، تنجيه من عذاب القبر.
وفي رواية عن ابن عباس أنه قال لرجل : ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال : بلى. قال :
اقرأ سورة « تبارك الذي بيده الملك » وعلمها أهلك ، وجميع ولدك ... فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها ..
وقد جاء في فضلها أخبار كثيرة ، منها - سوى ما تقدم - ما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ، عن أبى هريرة أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : إن سورة من كتاب اللّه ، ما هي إلا ثلاثون آية ، شفعت لرجل حتى غفر له ، تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ... « 1 ».
وكان نزولها بعد سورة « المؤمنون » وقبل سورة « الحاقة » .. وعدد آياتها إحدى وثلاثون آية في المصحف المكي .. وثلاثون آية في غيره.
2 - والسورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أدلة وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته وعن مظاهر فضله ورحمته بعباده ، وعن بديع خلقه في هذا الكون ، وعن أحوال الكافرين ، وأحوال المؤمنين يوم القيامة ، وعن وجوب التأمل والتدبر في ملكوت السموات والأرض .. وعن الحجج الباهرة التي لقنها - سبحانه - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لكي يقذف بها في وجوه المبطلين ، والتي تبدأ في بضع آيات بقوله - تعالى - قُلْ.ومن ذلك قوله - سبحانه - : قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ ، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا ، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ. (1)
في السورة لفت نظر إلى عظمة اللّه وقدرته في مشاهد الكون ونواميسه ، وتقرير كون اللّه إنما خلق الناس وقدّر عليهم البعث بعد الموت لاختبارهم. وتذكير بأفضال اللّه ونعمه على الناس. ووصف لمصير الكفار
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 5)(1/1285)
والمؤمنين الأخروي ، وحملة تنديد وإنذار على الكفار وردود على ما كانوا يقولونه في مواقف الجدل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . وآياتها منسجمة متوازنة مما يسوغ القول بوحدة نزولها.
ولقد روى بعض أصحاب الكتب الخمسة بعض الأحاديث في فضل هذه السورة. منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
«سورة من القرآن ثلاثون آية تشفع لصاحبها حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك» «1». وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال : «ضرب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خباءه على قبر وهو لا يعلم فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها فأتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول اللّه ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ تبارك حتى ختمها ، فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» «2». (1)
سورة الملك ، أو : تبارك مكيّة ، وهي ثلاثون آية.
تسميتها : سميت سورة الملك لافتتاحها بتقديس وتعظيم اللّه نفسه الذي بيده الملك - ملك السموات والأرض ، وله وحده مطلق السلطان ، والتصرف في الأكوان كيفما يشاء ، يحيي ويميت ، ويعز ويذل ، ويغني ويفقر ، ويعطي ويمنع. وتسمى السورة أيضا «الواقية» و«المنجية» لأنها تقي وتنجي من عذاب القبر وتشفع لصاحبها كما سأبيّن. وكان ابن عباس يسميها «المجادلة» لأنها تجادل عن قارئها في القبر.
مناسبتها لما قبلها :
وجه تعلق هذه السورة بما قبلها من وجهين :
1 - وجه عام : وهو أن هذه السورة تؤكد مضمون السورة السابقة في جملتها ، فالسورة المتقدمة تبيّن مدى قدرة اللّه وهيمنته وتأييده لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة احتمال ظهور تآمر امرأتين ضعيفتين من نسائه عليه ، وهذه السورة توضح بصيغة عامة أن بيد اللّه ملك السموات والأرض ومن فيهن ، وأنه القدير على كل شيء. وجه خاص : وهو أنه تعالى ذكر في أواخر «التحريم» مثالين فريدين متمثلين بامرأتي نوح ولوط للكافرين ، وبامرأة فرعون المؤمنة ، ومريم العذراء البتول للمؤمنين ، وهذه السورة تدل على إحاطة علم اللّه تعالى وتدبيره وإظهاره في خلقه ما يشاء من العجائب والغرائب ، فإن كفر امرأتي نوح ولوط لم يمنع اتصالهما بنبيين كريمين ، وإيمان امرأة فرعون ، لم يضر به اتصالها بفرعون الطاغية الجبار العنيد ، كما لم يزعزع إيمان مريم حملها غير المعهود بعيسى عليه السلام.
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 373)(1/1286)
سورة الملك كسائر السور المكية تعنى بأصول العقيدة الأساسية وهي إثبات وجود اللّه ، وعظمته ، وقدرته على كل شيء والاستدلال على وحدانيته ، والإخبار عن البعث والحشر والنشر.
بدئت بالحديث عن تمجيد اللّه سبحانه ، وإظهار عظمته ، وتفرده بالملك والسلطان ، وهيمنته على الأكوان ، وتصرفه في الوجود بالإحياء والإماتة (الآيات : 1 - 2).
ثم أكدت الاستدلال على وجود اللّه عز وجل بخلقه السموات السبع ، وما زيّنها به من الكواكب والنجوم المضيئة ، وتسخيرها لرجم الشياطين ونحو ذلك من مظاهر قدرته وعلمه (الآيات : 3 - 5) مما يدل على أن نظام العالم نظام محكم لا خلل فيه ولا تغاير.
ومن مظاهر قدرته تعالى : إعداد عذاب جهنم للكافرين ، وتبشير المؤمنين بالمغفرة والأجر الكبير ، وذلك جمع بين الترهيب والترغيب على طريقة القرآن الكريم (الآيات : 6 - 12).
ومن مظاهر علمه وقدرته ونعمه : علمه بالسر والعلن ، وخلقه الإنسان ورزقه ، وتذليل الأرض للعيش الهني عليها وحفظها من الخسف ، وحفظ السماء من إنزال الحجارة المحرقة المدمرة للبشر ، كما دمرت الأمم السابقة المكذبة رسلها ، وإمساك الطير ونحوها من السقوط ، وتحدي الناس أن ينصرهم غير اللّه إن أراد عذابهم (الآيات : 13 - 20).
وأردفت ذلك في الخاتمة بإثبات البعث ، وحصر علمه باللّه تعالى ، وإنذار المكذبين بدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتحذيرهم من إيقاع العذاب بهم ، وإعلان وجوب التوكل على اللّه ، والتهديد بتغوير الماء الجاري في الأنهار والينابيع دون أن يتمكن أحد بإجرائه والإتيان ببديل عنه (الآيات : 25 - 30).
والخلاصة : أن السورة إثبات لوجود اللّه تعالى ووحدانيته ببيان مظاهر علمه وقدرته ، وإنذار بأهوال القيامة ، وتذكير بنعم اللّه على عباده ، وربط الرزق بالسعي في الأرض ثم التوكل على اللّه تعالى. (1)
وتسمى الواقية والمنجية ، لأنها تقى وتنجي من عذاب القبر ، وهي مكية على الصحيح ، وعدد آياتها ثلاثون آية ، وتشتمل كأخواتها المكيات على إثبات وجود اللّه ببيان مظاهر قدرته وعلمه ، وقد تعرضت لما يلاقيه الناس يوم القيامة ، ولبيان بعض نعمه على عباده ، والسورة على العموم تدور حول بيان النعم. (2)
وتسمى تبارك والمانعة والمنجية والمجادلة ، فقد أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : كنا نسميها على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - المانعة. وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال : ضرب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 5) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 3)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 709)(1/1287)
خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال رسول اللّه عليه الصلاة والسلام : «هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر»
وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه وعبد بن حميد في مسنده واللفظ له عن ابن عباس أنه قال لرجل : ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال : بلى قال اقرأ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك : 1] وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن تنجيه من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر الخبر.
وفي جمال القراء تسمى أيضا الواقية المناعة وهي مكية على الأصح. وقيل غير ثلاث آيات منها وأخرج ابن جويبر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس ، وفي قول غريب إنها مدنية وآيها إحدى ثلاثون آية في المكي والمدني الأخير وثلاثون في الباقي وسيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا ما يرجحه.
ووجه مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة وإن كانتا تحت نبيين عظيمين ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وهما محتوم لهما بالسعادة وإن أكثر قومهما كفار ، افتتح هذه بما يدل على إحاطته عز وجل وقهره وتصرفه في ملكه على ما سبق به قضاؤه. وقيل إن أول هذه متصل بقوله تعالى آخر الطلاق اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ [الطلاق : 12] لما فيه من مزيد البسط لما يتعلق بذلك وفصل بسورة التحريم لأنها كالقطعة من سورة الطلاق والتتمة لها ، وقد جاء في فضلها أخبار كثيرة منها ما مر آنفا ومنها ما أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «إن سورة من كتاب اللّه ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له» تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ومنها ما جاء في حديث رواه الطبراني وابن مردويه بسند جيد عن ابن مسعود وآخر رواه عنه جماعة وصححه الحاكم : «من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب»
وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ كل ليلة لا يدعهما سفر ولا حضر ، ولهذا ونحوه قيل يندب قراءتها كل ليلة. والحمد للّه الذي وفقني لقراءتها كذلك منذ بلغت سن التمييز إلى اليوم ، وأسأل اللّه تعالى التوفيق لما بعد والقبول. ورأيت في بعض شروح البخاري ندب قراءتها عند رؤية الهلال رجاء الحفظ من المكاره في ذلك الشهر ببركة آيها الثلاثين واللّه تعالى الموفق. (1)
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 3)(1/1288)
* سورة الملك من السور المكية ، شأنها شأن سائر السور المكية ، التي تعالج موضوع العقيدة في أصولها الكبرى ، وقد تناولت هذه السور أهدافا رئيسية ثلاثة وهي (إثبات عظمة الله وقدرته على الإحياء والإماتة . . وإقامة الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين . . ثم بيان عاقبة المكذبين الجاحدين للبعث والنشور) .
* ابتدأت السورة الكريمة بتوضيح الهدف الأول ، فذكرت أن الله جل وعلا بيده الملك والسلطان ، وهو المهيمن على الأكوان ، الذي تخضع لعظمته الرقاب ، وتعنو له الجباه ، وهو المتصرف في الكائنات بالخلق والإيجاد ، والإحياء والإماتة [ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ] الآيات .
* ثم تحدثت عن خلق السموات السبع ، وما زين الله به السماء الدنيا من الكواكب الساطعة ، والنجوم اللامعة ، وكلها أدلة على قدرة الله ووحدانيته [ الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت . . ] الآيات .
* ثم تناولت الحديث عن المجرمين بشيء من الإسهاب ، وهم يرون جهنم تتلظى ، وتكاد تتقطع من شدة الغضب ، والغيظ على أعداء الله ، وقارنت بين مآل الكافرين والمؤمنين ، على طريقة القرآن في الجمع بين الترهيب والترغيب [ إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور . . ] الآيات .
* وبعد أن ساقت بعض الأدلة والشواهد على عظمة الله وقدرته ، حذرت من عذابه وسخطه ، أن يحل بأولئك الكفرة الجاحدين [ ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور . . ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بالإنذار والتحذير للمكذبين بدعوة الرسول ، من حلول العذاب بهم في الوقت الذي كانوا يتمنون فيه موت الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وهلاك المؤمنين [ قل أرآيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ] ؟ الآيات ، ويا له من وعيد شديد ، ترتعد له الفرائص !! . (1)
تسمى تبارك والمانعة والواقية والمنجية ، قال الولي الملوي : هذه السورة كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يحبها لكثرة علومها ، وقال : " وددت لو كانت في صدر كل مسلم ". مقصودها الخضوع لله لاتصافه بكمال الملك الدال عليه تمام القدرة الدال عليه قطعا أحكام المكونات الدال عليه تمام العلم الدال عليه أحكام المصنوعات علم ما في الصدور لينتج ذلك العلم بتحتم البعث لدينونة العباد على ما هم عليه من الصلاح والعناد كما هي عادة الملوك في دينونة رعاياهم لتكمل الحكمة وتتم النعمة وتظهر سورة الملك ، واسمها الملك واضح في ذلك لأن الملك محل الخضوع من كل من يرى الملك وكذا تبارك لأن من كان كذلك
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 377)(1/1289)
كان له تمام الثبات والبقاء ، وكان له من كل شيء كمال الخضوع ولالاتقاء ، وكذا اسمها المانعة والواقية والمنجية لأن الخضوع حامل على لزوم طريق السعادة ، ومن لزمها نجا مما يخاف ومنع من كل هول ووقي كل مخلوق ، وترد السؤال عمن لازم عليها وهذا من أهم الأمور (1)
هذ الجزء كله من السور المكية. كما كان الجزء الذي سبقه كله من السور المدنية. ولكل منهما طابع مميز ، وطعم خاص .. وبعض مطالع السور في هذا الجزء من بواكير ما نزل من القرآن كمطلع سورة «المدثر» ومطلع سورة «المزمل». كما أن فيه سورا يحتمل أن تكون قد نزلت بعد البعثة بحوالي ثلاث سنوات كسورة «القلم».
وبحوالي عشر سنوات كسورة «الجن» التي يروى أنها نزلت في عودة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من الطائف ، حيث أوذي من ثقيف. ثم صرف اللّه إليه نفرا من الجن فاستمعوا إليه وهو يرتل القرآن ، مما حكته سورة الجن في هذا الجزء. وكانت هذه الرحلة بعد وفاة خديجة وأبي طالب قبيل الهجرة بعام أو عامين. وإن كانت هناك رواية أخرى هي الأرجح بأن السورة نزلت في أوائل البعثة.
والقرآن المكي يعالج - في الغالب - إنشاء العقيدة. في اللّه وفي الوحي ، وفي اليوم الآخر. وإنشاء التصور المنبثق من هذه العقيدة لهذا الوجود وعلاقته بخالقه. والتعريف بالخالق تعريفا يجعل الشعور به حيا في القلب ، مؤثرا موجها موحيا بالمشاعر اللائقة بعبد يتجه إلى رب ، وبالأدب الذي يلزمه العبد مع الرب ، وبالقيم والموازين التي يزن بها المسلم الأشياء والأحداث والأشخاص. وقد رأينا نماذج من هذا في السور المكية السابقة ، وسنرى نماذج منه في هذا الجزء.
والقرآن المدني يعالج - في الغالب - تطبيق تلك العقيدة وذاك التصور وهذه الموازين في الحياة الواقعية وحمل النفوس على الاضطلاع بأمانة العقيدة والشريعة في معترك الحياة ، والنهوض بتكاليفها في عالم الضمير وعالم الظاهر سواء. وقد رأينا نماذج من هذا في السور المدنية السابقة ومنها سور الجزء الماضي.
وهذه السورة الأولى - سورة تبارك - تعالج إنشاء تصور جديد للوجود وعلاقاته بخالق الوجود. تصور واسع شامل يتجاوز عالم الأرض الضيق وحيز الدنيا المحدود ، إلى عوالم في السماوات ، وإلى حياة في الآخرة. وإلى خلائق أخرى غير الإنسان في عالم الأرض كالجن والطير ، وفي العالم الآخر كجهنم وخزنتها. وإلى عوالم في الغيب غير عالم الظاهر تعلق بها قلوب الناس ومشاعرهم ، فلا تستغرق في الحياة الحاضرة الظاهرة ، في هذه الأرض.
كما أنها تثير في حسهم التأمل فيما بين أيديهم وفي واقع حياتهم وذواتهم مما يمرون به غافلين.
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 62)(1/1290)
وهي تهز في النفوس جميع الصور والانطباعات والرواسب الجامدة الهامدة المتخلفة من تصور الجاهلية وركودها وتفتح المنافذ هنا وهناك ، وتنفض الغبار ، وتطلق الحواس والعقل والبصيرة ترتاد آفاق الكون ، وأغوار النفس ، وطباق الجو ، ومسارب الماء ، وخفايا الغيوب ، فترى هناك يد اللّه المبدعة ، وتحس حركة الوجود المنبعثة من قدرة اللّه. وتؤوب من الرحلة وقد شعرت أن الأمر أكبر ، وأن المجال أوسع. وتحولت من الأرض - على سعتها - إلى السماء. ومن الظواهر إلى الحقائق. ومن الجمود إلى الحركة. مع حركة القدر ، وحركة الحياة ، وحركة الأحياء.
الموت والحياة أمران مألوفان مكروران. ولكن السورة تبعث حركة التأمل فيما وراء الموت والحياة من قدر اللّه وبلائه ، ومن حكمة اللّه وتدبيره : «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ».
والسماء خلق ثابت أمام الأعين الجاهلة لا تتجاوزه إلى اليد التي أبدعته ، ولا تلتفت لما فيه من كمال. ولكن السورة تبعث حركة التأمل والاستغراق في هذا الجمال والكمال وما وراءها من حركة وأهداف : «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ .. وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ..».
والحياة الدنيا تبدو في الجاهلية غاية الوجود ، ونهاية المطاف. ولكن السورة تكشف الستار عن عالم آخر هو حاضر للشياطين وللكافرين. وهو خلق آخر حافل بالحركة والتوفز والانتظار : «وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ. وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ. كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا : بَلى ! قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ!».
والنفوس في الجاهلية لا تكاد تتجاوز هذا الظاهر الذي تعيش فيه ، ولا تلقي بالا إلى الغيب وما يحتويه. وهي مستغرقة في الحياة الدنيا محبوسة في قفص الأرض الثابتة المستقرة. فالسورة تشد قلوبهم وأنظارهم إلى الغيب وإلى السماء وإلى القدرة التي لم ترها عين ، ولكنها قادرة تفعل ما تشاء حيث تشاء وحين تشاء وتهز في حسهم هذه الأرض الثابتة التي يطمئنون إليها ويستغرقون فيها «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ. وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.(1/1291)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ؟ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً؟ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ»..
والطير. إنه خلق يرونه كثيرا ولا يتدبرون معجزته إلا قليلا. ولكن السورة تمسك بأبصارهم لتنظر وبقلوبهم لتتدبر ، وترى قدرة اللّه الذي صور وقدر : «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ؟ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ».
وهم آمنون في دارهم ، مطمئنون إلى مكانهم ، طمأنينة الغافل عن قدرة اللّه وقدره. ولكن السورة تهزهم من هذا السبات النفسي ، بعد أن هزت الأرض من تحتهم وأثارت الجو من حولهم ، تهزهم على قهر اللّه وجبروته الذي لا يحسبون حسابه : «أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ؟ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ».
والرزق الذي تناله أيديهم ، إنه في حسهم قريب الأسباب ، وهي بينهم تنافس وغلاب. ولكن السورة تمد أبصارهم بعيدا هنالك في السماء ، ووراء الأسباب المعلومة لهم كما يظنون : «أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ» ..
وهم سادرون في غيهم يحسبون أنهم مهتدون وهم ضالون. فالسورة ترسم لهم حقيقة حالهم وحال المهتدين حقا ، في صورة متحركة موحية : «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى ؟ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟».
وهم لا ينتفعون بما رزقهم اللّه في ذوات أنفسهم من استعدادات ومدارك ولا يتجاوزون ما تراه حواسهم إلى التدبر فيما وراء هذا الواقع القريب. فالسورة تذكرهم بنعمة اللّه فيما وهبهم ، وتوجههم إلى استخدام هذه الهبة في تنور المستقبل المغيب وراء الحاضر الظاهر ، وتدبر الغاية من هذه البداية : «قُلْ : هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ. قُلْ : هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» ..وهم يكذبون بالبعث والحشر ، ويسألون عن موعده. فالسورة تصوره لهم واقعا مفاجئا قريبا يسوؤهم أن يكون : «وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَقِيلَ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ!» ..وهم يتربصون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه أن يهلكوا فيستريحوا من هذا الصوت الذي يقض عليهم مضجعهم بالتذكير والتحذير والإيقاظ من راحة الجمود! فالسورة تذكرهم بأن هلاك الحفنة المؤمنة أو بقاءها لا يؤثر فيما ينتظرهم هم من عذاب اللّه على الكفر والتكذيب ، فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم وحالهم قبل ذلك اليوم العصيب : «قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟ قُلْ : هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ».(1/1292)
وتنذرهم السورة في ختامها بتوقع ذهاب الماء الذي به يعيشون ، والذي يجريه هو اللّه الذي به يكفرون! «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ؟» ..إنها حركة. حركة في الحواس ، وفي الحس ، وفي التفكير ، وفي الشعور.ومفتاح السورة كلها ، ومحورها الذي تشد إليه تلك الحركة فيها ، هو مطلعها الجامع الموحي : «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وعن حقيقة الملك وحقيقة القدرة تتفرع سائر الصور التي عرضتها السورة ، وسائر الحركات المغيبة والظاهرة التي نبهت القلوب إليها ..فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة ، وكان الابتلاء بهما. وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح وجعلها رجوما للشياطين. وكان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها. وكان العلم بالسر والجهر. وكان جعل الأرض ذلولا للبشر. وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذبين الأولين. وكان إمساك الطير في السماء. وكان القهر والاستعلاء. وكان الرزق كما يشاء. وكان الإنشاء وهبة السمع والأبصار والأفئدة. وكان الذرء في الأرض والحشر.
وكان الاختصاص بعلم الآخرة. وكان عذاب الكافرين. وكان الماء الذي به الحياة وكان الذهاب به عند ما يريد ..فكل حقائق السورة وموضوعاتها ، وكل صورها وإيحاءاتها مستمدة من إيحاء ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير : «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»!! وحقائق السورة وإيحاءاتها تتوالى في السياق ، وتتدفق بلا توقف ، مفسرة مدلول المطلع المجمل الشامل ، مما يصعب معه تقسيمها إلى مقاطع! (1)
ما حوته السورة من موضوعات
(1) وصف السموات
(2) بيان أن نظام العالم لا عوج فيه ولا اختلاف.
(3) وصف عذاب الكافرين فى الدنيا والآخرة.
(4) التذكير بخلق الإنسان ورزقه وأشباه ذلك. (2)
===============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3628)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 25)(1/1293)
(68) سورة القلم
سميت هذه السورة في معظم التفاسير وفي "صحيح البخاري" "سورة نْ وَالْقَلَمِ" على حكاية اللفظين الواقعين في أولها، أي سورة هذا اللفظ.
وترجمها الترمذي في جامعه وبعض المفسرين سورة {نْ} بالاقتصار على الحرف المفرد الذي افتتحت به مثل ما سميت سورة {ص} وسورة {ق} .
وفي بعض المصاحف سميت "سورة وَالْقَلَمِ" وكذلك رأيت تسميتها في مصحف مخطوط بالخط الكوفي في القرن الخامس.
وهي مكية قال ابن عطية: لا خلاف في ذلك بين أهل التأويل.
وذكر القرطبي عن الماوردي: أن ابن عباس وقتادة قالا: أولها مكي، إلى قوله: {عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 16]، ومن قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} إلى {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:17- 33]مدني، ومن قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} إلى قوله: {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور:34- 41] مكي ومن قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:48- 50] مدني، ومن قوله: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [االقلم: 51] إلى آخر السورة مكي.
وفي الإتقان عن السخاوي: أن المدني منها من قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} إلى {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:17 33] ومن قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:48- 50] فلم يجعل قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} إلى قوله: {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور:34- 41] مدنيا خلافا لما نسبه الماوردي إلى ابن عباس.
وهذه السورة عدها جابر بن زيد ثانية السور نزولا قال: نزلت بعد سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وبعدها سورة المزمل ثم سورة المدثر، والأصح حديث عائشة أن أول ما أنزل سورة اقرأ باسم ربك ثم فتر الوحي ثم نزلت سورة المدثر.
وما في حديث جابر بن عبد الله أن سورة المدثر نزلت بعد فترة الوحي يحمل على أنها نزلت بعد سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} جمعا بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها.
وفي "تفسير القرطبي" : أن معظم السورة نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل.
واتفق العادون على عد آيها ثنتين وخمسين.
أغراضها(1/1294)
جاء في هذه السورة بالإيماء بالحرف الذي في أولها إلى تحدي المعاندين بالتعجيز عن الإتيان بمثل سور القرآن وهذا أول التحدي الواقع في القرآن إذ ليس في سورة العلق ولا في المزمل ولا في المدثر إشارة إلى التحدي ولا تصريح.
وفيها إشارة إلى التحدي بمعجزة الأمية بقوله: {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1].
وابتدئت بخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تأنيسا له وتسلية عما لقيه من أذى المشركين.
وإبطال مطاعن المشركين في النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وإثبات كمالاته في الدنيا والآخرة وهديه وضلال معانديه وتثبيته.
وأكد ذلك بالقسم بما هو من مظاهر حكمة الله تعالى في تعليم الإنسان الكتابة فتضمن تشريف حروف الهجاء والكتابة والعلم لتهيئة الأمة لخلع دثار الأمية عنهم وإقبالهم على الكتابة والعلم لتكون الكتابة والعلم سببا لحفظ القرآن.
ثم أنحى على زعماء المشركين مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة بمذمات كثيرة وتوعدهم بعذاب الآخرة وببلايا في الدنيا بأن ضرب لهم مثلا بمن غرهم عزهم وثراؤهم، فأزال الله ذلك عنهم وأباد نعمتهم.
وقابل ذلك بحال المؤمنين المتقين وأن الله اجتباهم بالإسلام، وأن آلهتهم لا يغنون عنهم شيئا من العذاب في الدنيا ولا في الآخرة.
ووعظهم بأن ما هم فيه من النعمة استدراج وإملاء جزاء كيدهم. وأنهم لا معذرة لهم فيما قابلوا به دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - من طغيانهم ولا حرج عليهم في الإنصات إليها.
وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر في تبليغ الدعوة وتلقي أذى قومه، وأن لا يضجر في ذلك ضجرا عاتب الله عليه نبيه يونس عليه السلام. (1)
مناسبتها لما قبلها
بين هذه السورة ، وسورة الملك قبلها ، أكثر من مناسبة ..
فأولا :ختمت سورة « الملك » بقوله تعالى : « قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ».. وفى هذا ـ كما قلنا ـ تهديد للمشركين بذهاب هذا النور الذي يرفعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبصارهم ، من آيات اللّه ، وكلماته ..وبدئت سورة القلم بقوله تعالى : « ن. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ».. لتلفت المشركين إلى هذا النور القرآنىّ الذي يكتبه الكاتبون ، بعد أن يتلقاه النبىّ من ربّه ، وأنهم إن لم يبادروا إلى الإمساك به فى قلوبهم ، وحفظه فى صدورهم ، يوشك أن يفلت من بين أيديهم ، فلا يلقوه أبدا ..كما أن فى ذكر
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 54)(1/1295)
القلم وما يسطر به الكاتبون ، إلفاتا عامّا إلى شأن الكتابة والكاتبين ، الذين هم أهل العلم والمعرفة ، وأن هؤلاء المشركين امّيون لم ينالوا حظّا من العلم عن طريق الكتابة والكتاب ، وها هم أولاء وقد جاءهم رسول كريم ، كان مفتتح دعوته دعوة آمرة بالقراءة ، ثم تلاها بعد ذلك هذا القسم بحروف الكتابة ، وأدواتها ـ وذلك ليخرجوا من ظلام هذا الجهل الذي غطّى على أعينهم ، وحال بينهم وبين أن يهتدوا إلى هذا النور الذي يدعوهم الرسول الكريم إليه .. فالجهل هو الآفة التي أفسدت على هؤلاء المشركين رأيهم فى دعوة السماء لهم إلى الإيمان ، ولو أنهم أخذوا حظّا من العلم ، لاستقام طريقهم على الحق ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ » (2 : الجمعة).
وثانيا : جاء فى ختام سورة « الملك » قوله تعالى : « قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا » ـ وفى هذا ما يشير إلى نظرة الكراهية والاستثقال التي ينظر بها المشركون إلى النبي ، وإلى مقامه فيهم ، حتى إنهم ليتمنون زواله من بينهم .. وجاء فى مفتتح سورة « القلم » ما يضفى على النبىّ الكريم حلل التكريم والتمجيد التي خلعها عليه ربّه ، فوصفه سبحانه بهذا الوصف الربّانىّ ، الذي لو قسّم فى الخلق جميعا لأرضاهم ، وأغناهم ، وأسعدهم ، فيقول اللّه سبحانه « وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ».. وفى هذا ما يكبت المشركين ، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « ن » أو « القلم » تعتبر من أوائل السور القرآنية ، التي نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ذكر السيوطي في كتابه « الإتقان » أنها السورة الثانية في النزول ، بعد سورة « العلق ».
ويرى بعض العلماء أنها السورة الرابعة في النزول ، فقد سبقتها سور : العلق ، والمدثر ، والمزمل ، وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية.
2 - والمحققون على أنها من السور المكية الخالصة ، فقد ذكر الزمخشري وابن كثير .. أنها مكية ، دون أن يذكرا في ذلك خلافا.
وقال الآلوسى : هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة ، فقد نزلت - على ما روى عن ابن عباس - اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... ثم هذه ، ثم المزمل ، ثم المدثر ، وفي البحر أنها مكية بلا خلاف فيها ، بين أهل التأويل.وفي الإتقان : استثنى منها : إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا ... إلى قوله - تعالى - : لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1074)(1/1296)
3 - والذي تطمئن إليه النفس ، أن سورة ن من السور المكية الخالصة ، لأنه لم يقم دليل مقنع. على أن فيها آيات مدنية ، بجانب أن أسلوبها وموضوعاتها تشير إلى أنها من السور المكية الخالصة.
كذلك نميل إلى أن بعض آياتها قد نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن جهر بدعوته.
4 - وقد فصل هذا المعنى بعض العلماء فقال ما ملخصه : لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة ، سواء مطلعها أو جملتها.
والروايات التي تقول : إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة ، ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها ، يجعلنا نرجح غير هذا ، حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة ، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية ، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها ، وتصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما هو برىء منه ، كذلك ذكرت بعض الروايات في السورة آيات مدنية ، ونحن نستبعد هذا كذلك ، ونعتقد أن السورة كلها مكية ، لأن طابع آياتها عميق في مكيته.
والذي نرجحه بشأن السورة كلها ، أنها ليست الثانية في ترتيب النزول وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية ، بل بعد الجهر بالدعوة ، وبعد أن أخذت قريش في محاربتها بصورة عنيفة.
والسورة قد أشارت إلى شيء من عروض المشركين : وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية ، إنما تكون بعد ظهورها ، وشعور المشركين بخطرها .. .
5 - والذي يتدبر هذه السورة الكريمة ، يراها قد اشتملت على مقاصد من أبرزها : تحدى المشركين بهذا القرآن الكريم ، والثناء على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأفضل أنواع الثناء ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
والتسلية الجميلة له - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من أعدائه فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن مهادنة المشركين أو ملاينتهم أو موافقتهم على مقترحاتهم الماكرة ، قال - تعالى - : وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ.
ثم نراها تضرب الأمثال لأهل مكة ، لعلهم يتعظون ويعتبرون ، ويتركون الجحود والبطر .. إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ ، إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ. وَلا يَسْتَثْنُونَ. فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ.
ثم نرى من مقاصدها كذلك : المقارنة بين عاقبة الأخيار والأشرار ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة.(1/1297)
وتسفيه أفكار المشركين وعقولهم ، بأسلوب مؤثر خلاب : أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ..
وتهديدهم بأقصى ألوان التهديد : فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ...
ثم تختتم بتكرار التسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وبأمره بالصبر على أذى أعدائه : فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ ، لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ، فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ.
وبعد : فهذه كلمة مجملة عن سورة « القلم » تكشف عن زمان ومكان نزولها. وعن أهم المقاصد والأهداف ، التي اشتملت عليها. (1)
في السورة تثبيت وتطمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وثناء عليه وحملة على المكذبين وإنذار لهم ، وصور لمواقفهم من الدعوة. وفيها قصة جاءت في معرض التذكير والإنذار كما فيها إشارة إلى قصة يونس في معرض تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ومضمون الآيات الأربع الأولى منها والتالية لها يحتمل أن تكون الآيات الأربع نزلت لحدة ، وأن تكون بقية الآيات نزلت بعد مدة ما ، كما يحتمل أن تكون جميعها نزلت دفعة واحدة. وترتيبها كثانية السور نزولا هو بناء على احتمال نزول الآيات الأربع لحدتها. وعقب آيات سورة العلق الخمس الأولى. فإذا لم يكن هذا الاحتمال صحيحا وكانت الآيات الأربع وما بعدها قد نزلت معا ، فلا يكون ترتيبها هذا صحيحا والحالة هذه ، ويقتضي أن تكون نزلت متأخرة بعض الشي ء. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [17 - 33] و[48 - 50] مدنيات. وأسلوبها ومضمونها يلهمان عدم صحة ذلك.
وآيات السور منسجمة في موضوعها وتسلسلها وسبكها. وهذا يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة ، مع ملاحظة ما ذكرناه في صدد آياتها الأربع الأولى. (2)
سورة القلم مكيّة ، وهي اثنتان وخمسون آية.
تسميتها : سميت سورة القلم لافتتاحها بما أقسم اللّه تعالى به وهو ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ وأقسم بالقلم تعظيما له لما له في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 33)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 353)(1/1298)
بها الوصف ، كما قال صاحب الكشاف. والمراد بالقلم عند الأكثرين : الجنس ، أقسم اللّه سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض.
وقيل : سورة ن.
مناسبتها لما قبلها :
هناك وجهان لتعلق السورة بما قبلها :
1 - ذكر اللّه تعالى في آخر سورة تبارك الملك تهديد المشركين بتغوير الماء ، وذكر في هذه السورة دليلا على ذلك وهو إذهاب ثمر البستان في ليلية بطائف طاف عليه ، وهو نار من السماء أحرقته ، وهم نائمون ، فلم يجدوا له أثرا.
2 - ذكر اللّه تعالى في سورة الملك أدلة قدرته الباهرة وعلمه الواسع ، وأثبت البعث ، وهدد المشركين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، وحثهم على الإيمان باللّه وحده لا شريك له وبالبعث وبالرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم برّأ اللّه نبيّه - صلى الله عليه وسلم - في مطلع هذه السورة من أباطيل المشركين ونسبتهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى السحر أو الشعر أو الجنون ، وأثنى عليه بالخلق العظيم.
ما اشتملت عليه السورة :
عنيت هذه السورة المكية كسابقتها بأصول العقيدة الإسلامية الصحيحة وهي هنا إثبات النبوة والرسالة ، والبعث والآخرة ، وبيان مصير المسلمين والمجرمين في القيامة.
بدئت السورة بالقسم بالقلم تعظيما له لنفي تهم المشركين ومزاعمهم الباطلة ، ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخلق العظيم : ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ إلى قوله :
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
وأردفت ذلك ببيان سوء أخلاق بعض الكفار وافترائهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتهديدهم بما أعدّ اللّه لهم من العذاب الأليم : فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ إلى قوله : سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ.
ثم ضربت المثل لكفار مكة بأصحاب الجنة (البستان) بإحراقه وإتلافه ، بسبب كفرهم وجحودهم نعمة اللّه ، وعزمهم على منع حقوق الفقراء والمساكين : إِنَّا بَلَوْناهُمْ .. إلى قوله : لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
وقارنت بين المؤمنين والمجرمين ، ووبخت المشركين على أحكامهم الفاسدة ، وفنّدت دعاويهم ، وأقامت الحجج عليهم ، وأبانت أحوالهم في الآخرة وموقفهم المخزي : أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ .. إلى قوله : وَهُمْ سالِمُونَ.
ثم هددت المشركين المكذبين بالقرآن : فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ...(1/1299)
وختمت السورة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أذى المشركين ، وحذرته من التبرم والتضجر في تبليغ دعوته ، حتى لا يكون مثل يونس عليه السلام :
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ .. وأعلنت حمايته من أذاهم ، ودحضت افتراءهم بأنه مجنون ، وردت عليهم بأن القرآن عظة وعبرة للعالمين ، فكيف يكون المنزل عليه مجنونا : وَإِنْ يَكادُ .. إلى آخر السورة. (1)
وتسمى سورة القلم ، وهي مكية على الصحيح ، وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية وتشمل بيان بعض صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - وإرشاده إلى مخالفة المكذبين ثم ذكر قصة أصحاب البستان تهديدا للكفار ، ثم مناقشتهم وإبطال حججهم ، وبعد ذلك أمر النبي بالصبر على أذاهم ، مع بيان شدة بغضهم للنبي والقرآن. (2)
هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة فقد نزلت على ما روي عن ابن عباس اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق : 1] ثم هذه ثم المزمل ثم المدثر. وفي البحر أنها مكية بلا خلاف فيها بين أهل التأويل وفي الإتقان استثني منها إِنَّا بَلَوْناهُمْ - إلى - يَعْلَمُونَ [القلم : 17 - 33] ومن فَاصْبِرْ - إلى - الصَّالِحِينَ [القلم : 48 - 50] فإنه مدني حكاه السخاوي وفي جمال القراء وآيها ثنتان وخمسون آية بالإجماع ومناسبتها لسورة الملك على ما قيل من جهة ختم تلك بالوعيد وافتتاح هذه به. وقال الجلال السيوطي في ذلك : إنه تعالى لما ذكر في آخر الملك التهديد بتغوير الماء استظهر عليه في هذه بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة بطائف طاف عليهم وهم نائمون فأصبحوا ولم يجدوا له أثرا حتى ظنوا أنهم ضلوا الطريق ، وإذا كان هذا في الثمار وهي أجرام كثيفة فالماء الذي هو لطيف أقرب إلى الإذهاب ولهذا قال سبحانه هنا وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم : 19 ، 20] وقال جل وعلا هنا إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الملك : 30] إشارة إلى أنه يسرى عليه في ليلة كما أسرى على الثمر في ليلة انتهى ، ولا يخلو عن حسن. وقال أبو حيان فيه : إنه ذكر فيما قبل أشياء من أحوال السعداء والأشقياء وذكر قدرته الباهرة وعلمه تعالى الواسع ، وأنه عز وجل لو شاء لخسف بهم الأرض أو لأرسل عليهم حاصبا وكان ما أخبر به سبحانه هو ما أوحى به إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فتلاه عليه الصلاة والسلام وكان الكفار ينسبونه في ذلك مرة إلى الشعر ومرة إلى السحر ومرة إلى الجنون فبدأ جل شأنه هذه السورة الكريمة ببراءته - صلى الله عليه وسلم - مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون وتعظيم أجره على صبره على أذاهم ، وبالثناء على خلقه (3)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 41) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 26)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 720)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 26)(1/1300)
* سورة القلم من السور المكية التي تعنى بأصول العقيدة والإيمان ، وقد تناولت هذه السورة ثلاثة مواضيع أساسية وهي :
أ - موضوع الرسالة ، والشبه التي أثارها كفار مكة حول دعوة محمد بن عبد الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) .
ب - قصة أصحاب الجنة " البستان " لبيان نتيجة الكفر بنعم الله تعالى.
ج - الآخرة وأهوالها وشدائدها ، وما أعد الله للفريقين : المسلمين والمجرمين . ولكن المحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هو موضوع (إثبات نبوة محمد) - صلى الله عليه وسلم - .
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم على رفعة قدر الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وشرفه وبراءته مما ألصقه به المشركون من اتهامه - وحاشاه - بالجنون ، وبينت أخلاقه العظيمة ، ومناقبه السامية [ ن والقلم وما يسطرون ما انت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم ] الآيات .
* ثم تناولت موقف المجرمين من دعوة رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ما أعد الله لهم من العذاب والنكال في دار الجحيم [ فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين . . ] الآيات .
* ثم ضربت مثلا لكفار مكة في كفرانهم (نعمة الله ) العظمى عليهم ، ببعثة خاتم الرسل ( - صلى الله عليه وسلم - ) إليهم ، وتكذيبهم به ، بقصة أصحاب الجنة " الحديقة " ذات الأشجار والزروع والثمار ، حيث جحدوا نعمة الله ، ومنعوا حقوق الفقراء والمساكين ، فأحرق الله حديقتهم وجعل قصتهم عبرة للمعتبرين [ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم ] الآيات .
* ثم قارنت السورة بين المؤمنين والمجرمين ، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب [ أفنجعل المسلمين كالمجرمين . . ] ؟ الآيات .
* وتناولت السورة الكريمة ، القيامة وأحوالها وأهوالها ، وموقف المجرمين في ذلك اليوم العصيب ، الذي يكلفون فيه بالسجود لرب العالمين فلا يقدرون [ يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالصبر على أذى المشركين ، وعدم التبرم والضجر بما يلقاه في سبيل تبليغ دعوة الله ، كما حدث من يونس عليه السلام ، حين ترك قومه وسارع إلى ركوب البحر ، دون إذن من الله [ فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ] الآيات . (1)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 384)(1/1301)
مقصودها إظهار ما استتر ، وبيان ما أبهم في آية ) فستعلمون من هو في ضلال مبين ( بتعيين النهتدي الذي برهن على هدايته حيازته العلم الذي هو النور الأعظم الذي لا يضل بمصاحبته بتقبل القرآن والتخلق بالفرقان الذي هو صفة الرحمن بقدر الإمكان الذي تصل إليه قوة الإنسان ، وأدل ما فيها على هذا الغرض " ن " وكذا " القم " فلذا سميت بكل منهما ، وبالكلام على كل منهما يعرف ذلك ، وحاصله أن النون مبين محيط يفيبيانه كما يحيط ضوء الشمس بما يظهره وكما تحيط الدواة بمدادها بآية ما دل عليه بمخرجه وصفاته ، واستقر الكلام الواقع فيها وفي المعهاني التي اشتركت في لفظه ، وأمات القلم فإبانته للمعارف أمر لا ينكر (1)
لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة سواء مطلعها أو جملتها. كما أنه لا يمكن الجزم بأن مطلعها قد نزل أولا ، وأن سائرها نزل أخيرا - ولا حتى ترجيح هذا الاحتمال. لأن مطلع السورة وختامها يتحدثان عن أمر واحد ، وهو تطاول الذين كفروا على شخص رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقولهم :
إنه مجنون! والروايات التي تقول : إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة ، ومن المتفق عليه في ترتيب المصاحف المختلفة أنها هي السورة الثانية ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها يجعلنا نرجح غير هذا. حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة ، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية ، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها ، فتقول عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - تلك القولة الفاجرة وأخذ القرآن يردها وينفيها ، ويهدد المناهضين للدعوة ، ذلك التهديد الوارد في السورة.
واحتمال أن مطلع السورة نزل مبكرا وحده بعد مطلع سورة العلق. وأن الجنون المنفي فيه : «ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» .. جاء بمناسبة ما كان يتخوفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه في أول الوحي ، من أن يكون ذلك جنونا أصابه .. هذا الاحتمال ضعيف. لأن هذا التخوف ذاته على هذا النحو ليست فيه رواية محققة ، ولأن سياق السورة المتماسك يدل على أن هذا النفي ينصب على ما جاء في آخرها من قوله تعالى : «وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ» .. فهذا هو الأمر الذي افتتح السورة بنفيه ، كما يتبادر إلى الذهن عند قراءة السورة المتماسكة الحلقات.
كذلك ذكرت بعض الروايات أن في السورة آيات مدنية من الآية السابعة عشرة إلى نهاية الآية الثالثة والثلاثين. وهي الآيات التي ذكرت قصة أصحاب الجنة وابتلاءهم ، والآيات من الثانية والأربعين إلى نهاية الخمسين وهي التي تشير إلى قصة صاحب الحوت .. ونحن نستبعد هذا كذلك. ونعتقد أن السورة كلها
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 89)(1/1302)
مكية. لأن طابع هذه الآيات عميق في مكيته. وهو أنسب شيء لأن يجيء في سياق السورة عند نزولها متسقا مع الموضوع ومع الحالة التي تعالجها.
والذي نرجحه بشأن السورة كلها أنها ليست الثانية في ترتيب النزول وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية بعد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة العامة. وبعد قول اللّه تعالى له : «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ».
وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم ، التي قال عنها قائلهم : «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ..
وبعد ما أصبحت قريش مدعوة إلى الإسلام كافة ، وأصبحت تدفع هذه الدعوة بالاتهامات الباطلة والحرب العنيفة التي اقتضت تلك الحملة العنيفة الواردة في السورة على المكذبين ، والتهديد القاصم في أولها وفي آخرها على السواء .. والمشهد الأخير في السورة يوحي بهذا كذلك : «وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ» .. فهو مشهد دعوة عامة لمجموعات كبيرة. ولم يكن الأمر كذلك في أول الدعوة. إنما كانت الدعوة توجه إلى أفراد. بوسيلة فردية. ولا تلقى إلى الذين كفروا وهم متجمعون.
ولم يقع شيء من هذا - كما تقول الروايات الراجحة - إلا بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة.
والسورة تشير إلى شيء من عروض المشركين على النبي - صلى الله عليه وسلم - للالتقاء في منتصف الطريق ، والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة : «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» .. وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية ، ولا خطر منها. إنما تكون بعد ظهورها ، وشعور المشركين بخطرها.
وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة عن أيام الدعوة الأولى. وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل - قابلة للزيادة - بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها. ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن. والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة ، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة ، تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها.
ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة. وإن لم يكن ذلك أول ما نزل كما هو وارد في المصاحف ، للأسباب التي أوردناها هنا. وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر.
لقد كانت هذه الغرسة - غرسة العقيدة الإسلامية - تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة. وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة ، لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في أنحاء الأرض جميعا.(1/1303)
وكانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش ، ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم ، وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقيمة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد - صلى الله عليه وسلم - متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى - دين إبراهيم عليه السلام - وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض ، الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان.
وكانت النقلة عظيمة بين الشرك باللّه وتعدد الأرباب ، وعبادة الملائكة وتماثيلها ، والتعبد للجن وأرواحها ، وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها العقيدة الجاهلية .. وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة وعظمتها وقدرتها ، وتعلق إرادتها بكل مخلوق.
كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة ، والكهانة السائدة في ديانتها ، واختصاص طبقات بالذات بالسيادة والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين .. وبين البساطة والمساواة أمام اللّه والاتصال المباشر بينه وبين عباده كما جاء بها القرآن.
ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها ، وجاء محمد - صلى الله عليه وسلم - يدعو إليها ويمثلها.
وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها. ولكن هذه لم تكن وحدها. فقد كان إلى جانبها اعتبارات - ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها - على ضخامتها.
كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم : «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ!» .. والقريتان هما مكة والطائف. فإن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مع شرف نسبه ، وأنه في الذؤابة من قريش ، لم تكن له مشيخة فيهم ولا رياسة قبل البعثة. بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما ، في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار. فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء المشيخة! وكانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلا كأبي جهل (عمرو بن هشام) يأبى أن يسلم بالحق الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية ، لأن نبيها من بني عبد مناف .. وذلك كما ورد في قصته مع الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب ، حين خرجوا ثلاث ليال يستمعون القرآن خفية ، وهم في كل ليلة يتواعدون على عدم العودة خيفة أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء. فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من محمد كان جوابه : «ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء.(1/1304)
فمتى ندرك مثل هذه؟ واللّه لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!».
وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة قبل أن تثبت جذورها وتتعمق ، وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك. وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية وأمر اللّه تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجهر بالدعوة وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز ، كما أخذ القرآن يتنزل بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو أنه نبي ، ولو أنه يتلقى من ربه الوحي ، ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى ..
هو بشر ، تخالجه مشاعر البشر. وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة ، وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون ، ويعاني وقعها العنيف الأليم ، هو والحفنة القليلة التي آمنت به على كره من المشركين.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يسمع والمؤمنون به يسمعون ، ما كان يتقوله عليه المشركون ، ويتطاولون به على شخصه الكريم ، «وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ» .. ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة ، التي حكاها القرآن في السور الأخرى والتي كانت توجه إلى شخصه - صلى الله عليه وسلم - وإلى الذين آمنوا معه.
وغير الأذى الذي كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين! والسخرية والاستهزاء - مع الضعف والقلة - مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية ، ولو كانت هي نفس رسول.
ومن ثم نرى في السور المكية - كسور هذا الجزء - أن اللّه كأنما يحتضن - سبحانه - رسوله والحفنة المؤمنة معه ، ويواسيه ويسري عنه ، ويثني عليه وعلى المؤمنين. ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم. وينفي ما يقوله المتقولون عنه ، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه هو يتولى عنهم حرب أعدائهم ، ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء! ونجد من هذا في سورة القلم مثل قوله تعالى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :«ن. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ..
وقوله تعالى عن المؤمنين :«إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟!» ..
ويقول عن أحد أعداء النبي البارزين :«وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ. أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ. إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين. سنسمه على الخرطوم!» ..
ثم يقول عن حرب المكذبين عامة :
«فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» ..(1/1305)
وذلك غير عذاب الآخرة المذل للمتكبرين :«يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ. وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ» ..
ويضرب لهم أصحاب الجنة - جنة الدنيا - مثلا على عاقبة البطر تهديدا لكبراء قريش المعتزين بأموالهم وأولادهم ممن لهم مال وبنون الكائدون للدعوة بسبب مالهم من مال وبنين.
وفي نهاية السورة يوصي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبر الجميل : «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ..».
ومن خلال هذه المواساة وهذا الثناء وهذا التثبيت ، مع الحملة القاصمة على المكذبين والتهديد الرهيب ، يتولى اللّه - سبحانه - بذاته حربهم في ذلك الأسلوب العنيف .. من خلال هذا كله نتبين ملامح تلك الفترة ، فترة الضعف والقلة ، وفترة المعاناة والشدة ، وفترة المحاولة القاسية لغرس تلك الغرسة الكريمة في تلك التربة العنيدة! كذلك نلمح من خلال أسلوب السورة وتعبيرها وموضوعاتها ملامح البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها. وهي ملامح فيها سذاجة وبدائية في التصور والتفكير والمشاعر والاهتمامات والمشكلات على السواء.
نلمح هذه السذاجة في طريقة محاربتهم للدعوة بقولهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ»!
وهو اتهام لا حبكة فيه ولا براعة ، وأسلوب من لا يجد إلا الشتمة الغليظة يقولها بلا تمهيد ولا برهان ، كما يفعل السذج البدائيون.
ونلمحها في الطريقة التي يرد اللّه بها عليهم فريتهم ردا يناسب حالهم : «ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» .. وكذلك في التهديد المكشوف العنيف : «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» ..
ونلمحها في رد هذا السب على رجل منهم : «وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ...».
ونلمحها في القصة - قصة أصحاب الجنة - التي ضربها اللّه لهم. وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وتصورهم وبطرهم ، وفي حركاتهم كذلك وأقوالهم «وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ..» إلخ.
وأخيرا نلمح سذاجتهم من خلال ما يوجهه إليهم من الجدل : «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ : إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ؟ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ؟ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ؟» ...(1/1306)
وهي ملامح تظهر بوضوح من خلال التعبير القرآني ، وتفيد في دراسة السيرة ووقائعها وخطوات الدعوة فيها ومدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة وبتلك الجماعة في أواخر عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومدى ما نقلها من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام. كما يتضح في أساليب الخطاب فيما بعد ، وفي الحقائق والمشاعر والتصورات والاهتمامات بعد عشرين عاما لا تزيد. وهي في حياة الأمم ومضة لا تذكر. ولا تقاس إليها تلك النقلة الواسعة الشاملة .. التي انتقلتها الجماعة في هذا الوقت القصير. والتي تسلمت بها قيادة البشرية فارتفعت بتصوراتها وأخلاقها إلى القمة التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية ، لا من ناحية طبيعة العقيدة ، ولا من ناحية آثارها الواقعية في حياة الإنسان في الأرض ، ولا من ناحية السعة والشمول لتضم الإنسانية كلها بين جوانحها في سماحة وعطف ، وفي تلبية لكل حاجاتها الشعورية ، وحاجاتها الفكرية ، وحاجاتها الاجتماعية ، وحاجاتها التنظيمية في شتى الميادين ..
إنها المعجزة تتجلى في النقلة من هذه السذاجة التي تبدو ملامحها من خلال مثل هذه السورة إلى ذلك العمق والشمول. وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة ، والضعف إلى قوة ، لأن بناء النفوس والعقول أعسر من بناء الأعداد والصفوف. (1)
ما تضمنته هذه السورة من موضوعات
(1) محاسن الأخلاق النبوية إلى قوله : « وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » .
(2) سوء أخلاق بعض الكفار وجزاؤهم من قوله : « فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ » إلى قوله : « سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ » .
(3) ضرب المثل لهم بأصحاب الجنة من قوله : « إِنَّا بَلَوْناهُمْ إلى قوله « لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » (4) تقريع المجرمين وتوبيخهم وإقامة الحجج عليهم.
(5) تهديد المشركين المكذبين بالقرآن بقوله : « فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ » إلخ.
(6) أمره - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أذى المشركين حتى لا يكون كصاحب الحوت. (2)
===============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3650)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 48)(1/1307)
(69) سورة الحاقة
سميت "سورة الحاقة" في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - . وروى أحمد بن حنبل أن عمر ابن الخطاب قال خرجت يوما بمكة أتعرض لرسول الله قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد الحرام فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت: هذا والله شاعر، أي قلت في خاطري، فقرأ {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:41] قلت: كاهن، فقرأ {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 42-43] إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع.
وباسم {الحاقة} عنونت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير. وقال الفيروز أبادي في "بصائر ذوي التمييز": إنها تسمى أيضا "سورة السلسلة" لقوله: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} [الحاقة: 32] وسماها الجعبري في منظومته في ترتيب نزول السور الواعية ولعله أخذه من وقوع قوله: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12] ولم أر سلفا في هذه التسمية.
ووجه تسميتها "سورة الحاقة" وقوع هذه الكلمة في أولها ولم تقع في غيرها من سور القرآن.
وهي مكية بالاتفاق. ومقتضى الخبر المذكور عن عمر بن الخطاب أنها نزلت في السنة الخامسة قبل الهجرة فإن عمر أسلم بعد هجرة المهاجرين إلى الحبشة وكانت الهجرة إلى الحبشة سنة خمس قبل الهجرة إلى المدينة.
وقد عدت هذه السورة السابعة والسبعين في عداد ترتيب النزول. نزلت بعد سورة تبارك وقبل سورة المعارج.
واتفق العادون من أهل الأمصار على عد آيها إحدى وخمسين آية.
أغراضها
اشتملت هذه السورة على تهويل يوم القيامة. وتهديد المكذبين بوقوعه.
وتذكيرهم بما حل بالأمم التي كذبت به من عذاب في الدنيا ثم عذاب الآخرة وتهديد المكذبين برسل الله تعالى بالأمم التي أشركت وكذبت.
وأدمج في ذلك أن الله نجى المؤمنين من العذاب، وفي ذلك تذكير بنعمة الله على البشر إذ أبقى نوعهم بالإنجاء من الطوفان.
ووصف أهوال من الجزاء وتفاوت الناس يومئذ فيه، ووصف فظاعة حال العقاب على الكفر وعلى نبذ شريعة الإسلام، والتنويه بالقرآن.(1/1308)
وتنزيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن أن يكون غير رسول.
وتنزيه الله تعالى عن أن يقر من يتقول عليه.
وتثبيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وإنذار المشركين بتحقيق الوعيد الذي في القرآن.
[1-3] { الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} .
{الْحَاقَّةُ} صيغة فاعل من: حق الشيء، إذا ثبت وقوعه، والهاء فيها لا تخلو عن أن تكون هاء تأنيث فتكون {الْحَاقَّةُ} وصفا لموصوف مقدر مؤنث اللفظ، أو أن تكون هاء مصدر على وزن فاعلة مثل الكاذبة للكذب، والخاتمة للختم، والباقية للبقاء، والطاغية للطغيان، والنافلة، والخاطئة، وأصلها تاء المرة، ولكنها لما أريد المصدر قطع النظر عن المرة مثل كثير من المصادر التي على وزن فعلة غير ما رد به المرة مثل قولهم ضربة لازب. فالحاقة إذن بمعنى الحق كما يقال من حاق كذا، أي من حقه.
وعلى الوجهين فيجوز أن يكون المراد بالحاقة المعنى الوصفي، أي حاثة تحقق أو حق يحق.
ويجوز أن يكون المراد بها لقبا ليوم القيامة، وروي ذلك عن ابن عباس وأصحابه وهو الذي درج عليه المفسرون فلقب بذلك يوم القيامة لأنه يوم محقق وقوعه، كما قال تعالى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى: 7]، أو لأنه تحقق فيه الحقوق ولا يضاع الجزاء عليها، قال تعالى: {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77] وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].
وإيثار هذه المادة وهذه الصيغة يسمح باندراج معان صالحة بهذا المقام فيكون ذلك من الإيجاز البديع لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحق حلوله بهم.
فيجوز أيضا أن تكون {الحاقة} وصفا لموصوف محذوف تقديره: الساعة الحاقة، أو الواقعة الحاقة، فيكون تهديدا بيوم أو وقعة يكون فيها عقاب شديد للمعرض بهم مثل يوم بدر أو وقعته وأن ذلك حق لا ريب في وقوعه؛ أو وصفا للكلمة، أي كلمة الله التي حقت على المشركين من أهل مكة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6]، أو التي حقت للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينصره الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} [الصافات: 171-174].
ويجوز أن تكون مصدرا بمعنى الحق، فيصح أن يكون وصفا ليوم القيامة بأنه حق كقوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 97]، أو وصفا للقرآن كقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران:62]، أو أريد به الحق كله كما جاء به القرآن من الحق قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية:(1/1309)
29] وقال: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} [الاحقاف: 30].
وافتتاح السورة بهذا اللفظ ترويع للمشركين. (1)
مناسبتها لما قبلها
كان ختام سورة « القلم » دعوة من اللّه سبحانه وتعالى ، إلى النبي الكريم أن يصبر على موقفه من قومه ، وألا يتحول عنه ، كما تحول صاحب الحوت ، وإن لقى من قومه أشدّ العداوة ، والشنآن ، وأن يمضى فى طريقه معهم منتظرا حكم اللّه بينه وبينهم ، كما حكم اللّه بين إخوانه النبيين وأقوامهم ..وتجىء سورة « الحاقة » مفتتحة بهذه المعارض التي يتجلى فيها ما حكم اللّه سبحانه به بين بعض أنبيائه وأقوامهم ، وما لقى المكذبون المعاندون منهم من مرسلات الهلاك عليهم فى الدنيا ، التي أخذتهم مرة واحدة ، فما أبقت منهم باقية .. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الحاقة » من السور المكية الخالصة ، وكان نزولها بعد سورة « الملك » وقبل سورة « المعارج » ، وعدد آياتها إحدى وخمسون آية ، وعند بعضهم اثنتان وخمسون آية.
قال الآلوسى : « ويدل على مكيتها ما أخرجه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال :
« خرجت أتعرض لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن أسلم ، فوجدته قد سبقني إلى المسجد ، فوقفت خلفه ، فاستفتح بسورة (الحاقة) ، فجعلت أعجب من تأليف القرآن ، فقلت - أى في نفسي - : هذا واللّه شاعر ، فقرأ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ فقلت :كاهن ، فقرأ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى آخر السورة. فوقع الإسلام في قلبي كل موقع » « 1 ».
وعلى هذا الحديث يكون نزولها في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة لأن إسلام عمر - رضى اللّه عنه - كان - تقريبا - في ذلك الوقت.
2 - والسورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن مصارع المكذبين ، وعن أحوال أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وعن إقامة الأدلة المتعددة على أن هذا القرآن من عند اللّه - تعالى - وعلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما يبلغه عن ربه - عز وجل - .
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 102)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1122)(1/1310)
وتمتاز هذه السورة بقصر آياتها ، وبرهبة وقعها على النفوس ، إذ كل قارئ لها بتدبر وتفكر ، يحس عند قراءتها بالهول القاصم ، وبالجد الصارم ، وببيان أن هذا الدين حق لا يشوبه باطل. وأن ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - صدق لا يحوم حوله كذب.
نرى ذلك كله في اسمها ، وفي حديثها عن مصارع الغابرين ، وعن مشاهد يوم القيامة التي يشيب لها الولدان. (1)
في السورة إنذار للكفار بعذاب اللّه. وتذكير بما حلّ بأمثالهم الأولين.
ووصف لهول يوم القيامة. ومصائر المؤمنين والكفّار فيه. وتوكيد قوي بصحة صلة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوحي الرباني وصدور القرآن عنه. ونفي الافتراء والشعر والكهانة عنه.
وآياتها متوازنة مقفاة ومترابطة مما يسوّغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. (2)
سورة الحاقة مكيّة ، وهي اثنتان وخمسون آية.
تسميتها : سميت سورة الحاقة لافتتاحها بالاستفهام عنها ، تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها ، والْحَاقَّةُ اسم من أسماء يوم القيامة لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد ، ولهذا عظم اللّه أمرها بالسؤال عنها ، أو هي الساعة الواجبة الوقوع ، الثابتة المجيء ، التي هي آتية لا ريب فيها.
مناسبتها لما قبلها :
تتعلق السورة بما قبلها من وجهين :
1 - وقع في سورة (ن) ذكر يوم القيامة مجملا ، في قوله تعالى : يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [42] وفي هذه السورة أوضح تعالى نبأ هذا اليوم وشأنه العظيم : الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ.
2 - هدد اللّه تعالى في السورة السابقة كل من كذب بالقرآن وتوعده بقوله :
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ .. [44] وفي هذه السورة ذكر أحوال الأمم التي كذبت الرسل وما عوقبوا به ، للعظة والزجر والعبرة للمعاصرين.
ما اشتملت عليه السورة :
هذه السورة كغيرها من السور المكية التي عنيت بأصول العقيدة ، وتحدثت عن أهوال القيامة ، وصدق الوحي ، وكون القرآن كلام اللّه ، وتبرئة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من افتراءات الكفار واتهامات الضالين.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 65)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 384)(1/1311)
بدئت بتفخيم شأن القيامة وتعظيم هولها ، وتكذيب الأقوام السابقة بها ، مثل ثمود ، وعاد ، وقوم لوط ، وفرعون وأتباعه ، وقوم نوح ، وإهلاكهم بسبب تكذيبهم بها وتكذيب رسلهم ، من أول السورة إلى قوله تعالى : أُذُنٌ واعِيَةٌ .
ثم وصفت وقائع عذاب الآخرة جزاء على إنكاره في الدنيا في قوله تعالى :فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ .. إلى لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ.
وأردفت ذلك ببيان حال السعداء والأشقياء يوم القيامة : فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ .. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ إلى قوله : لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ.
ثم أقسم رب العزة قسما بليغا على صدق الوحي والقرآن وأنه كلام اللّه المنزل على قلب رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه ليس بقول شاعر ولا كاهن : فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ إلى قوله : تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
وختمت السورة ببيان البرهان القاطع على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأمانته في تبليغ الوحي ، وأن القرآن تذكرة وعظة وخبر حق لا مرية فيه ، ورحمة للمؤمنين وحسرة على الكافرين : وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ .. إلخ السورة. (1)
وهي مكية بالإجماع وعدد آياتها إحدى وخمسون آية ، وهي تشمل الكلام على يوم القيامة ، ومن كذب به من الأمم السابقة ونهايتهم ، ثم وصفا عامّا لهذا اليوم وما يلاقيه المؤمن والكافر ، ثم تعرضت للقرآن وأثبتت أنه من عند اللّه بلا شك ، وأن الواجب على النبي هو الصبر والتسبيح للّه. (2)
مكية وآيها إحدى وخمسون آية بلا خلاف فيهما ويدل للأول ما أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه قال : خرجت أتعرض لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن هذا واللّه شاعر فقال وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ [الحاقة : 41] قلت كاهن فقال لا وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ [الحاقة : 42 ، 43] إلى آخر السورة فوقع الإسلام في قلبي كل موقع ولما وقع في نون ذكر يوم القيامة مجملا شرح سبحانه في هذه السورة الكريمة نبأ ذلك اليوم وشأنه العظيم وضمنه عز وجل ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل عليهم السلام وما جرى عليهم ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام (3)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 79) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 49)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 733)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 45)(1/1312)
* سورة الحاقة من السور المكية ، شأنها شأن سائر السور المكية في تثبيت العقيدة والإيمان ، وقد تناولت أمورا عديدة كالحديث عن القيامة وأهوالها ، والساعة وشدائدها ، والحديث عن المكذبين وما جرى لهم ، مثل " قوم عاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وفرعون ، وقوم نوح " وغيرهم من الطغاة المفسدين في الأرض ، كما تناولت ذكر السعداء والأشقياء ، ولكن المحور الذي تدور عليه السورة هو " إثبات صدق " القرآن ، وأنه كلام الحكيم العليم ، وبراءة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، مما اتهمه به أهل الضلال من الافتراء على الله .
* ابتدأت السورة الكريمة ببيان أهوال القيامة والمكذبين بها ، وما عاقب تعالى به أهل الكفر والعناد [ الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ] الآيات .
* ثم تناولت الوقائع والفجائع التي تكون عند النفخ في الصور ، من خراب العالم ، واندكاك الجبال ، وانشقاق السموات إلخ [ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة . . ] الآيات .
* ثم ذكرت حال السعداء والأشقياء في ذلك اليوم المفزع ، حيث يعطى المؤمن كتابه بيمينه ، ويلقى الإكرام والإنعام ، ويعطى الكافر كتابه بشماله ، ويلقى الذل والهوان [ فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه . . . وأما من أوتي كتابه بشماله . . ] الآيات .
* وبعد هذا العرض لأحوال الأبرار والفجار ، جاء القسم البليغ بصدق الرسول ، وصدق ما جاء به من الله ، ورد افتراءات المشركين الذين زعموا أن القرآن سحرا وكهانة [ فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم ] الآيات .
* ثم ذكرت البرهان القاطع على صدق القرآن ، وأمانة رسول الله في تبليغه الوحي كما نزل عليه ، بذلك التصوير الذي يهز القلب هزا ويثير في النفس الخوف والفزع ، من هول الموضوع [ ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين . . ] الآيات .
* وختمت السورة بتمجيد القرآن وبيان أنه رحمة للمؤمنين وحسرة على الكافرين [ وإنه لتذكرة للمتقين وإنه لحسرة على الكافرين " وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم ] (1)
لما قدم سبحانه في " نون " الإنكار الشديد لأن يسوي المسيء بالمحسن , وذكر القايمة وبينها بيوم كشف الساق وزيادة المشاق , وهدد التهديد العظيم بآية الاستدراج الذي لا يدفع بعلاج , وختم بأن القرآن ذكر - أي شرف - وتذكير , ومواعظ للعالمين في شمولهم كلهم برحمته , أما من بعد إنزاله فبوعيده
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 392)(1/1313)
ووعده ووعظه وقصه وأمره ونهيه , وأما منقبل إنزاله فبالشهادة لهم وعليهم , وكان تأويل ذلك وجميع آثاره إننما يظهر ظهوراً تاماً يوم الجمع الأكبر , وكان ذلك اليوم أعظم مذكر للعالمين وواعظ لهم وزاجر , تنبني جميع الخيرات على تذكره وتذكر العرض على الملك الديان , والسر في إنزال القرآن هو التذكير بذلك اليوم الذي هو نظام الوجود (1)
هذه سورة هائلة رهيبة قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة وهي منذ افتتاحها إلى ختامها تقرع هذا الحس ، وتطالعه بالهول القاصم ، والجد الصارم ، والمشهد تلو المشهد ، كله إيقاع ملح على الحس ، بالهول آنا وبالجلال آنا ، وبالعذاب آنا ، وبالحركة القوية في كل آن! والسورة بجملتها تلقي في الحس بكل قوة وعمق إحساسا واحدا بمعنى واحد .. أن هذا الأمر ، أمر الدين والعقيدة ، جد خالص حازم جازم. جد كله لا هزل فيه. ولا مجال فيه للهزل. جد في الدنيا وجد في الآخرة ، وجد في ميزان اللّه وحسابه. جد لا يحتمل التلفت عنه هنا أو هناك كثيرا ولا قليلا. وأي تلفت عنه من أي أحد يستنزل غضب اللّه الصارم ، وأخذه الحاسم. ولو كان الذي يتلفت عنه هو الرسول. فالأمر أكبر من الرسول وأكبر من البشر .. إنه الحق. حق اليقين. من رب العالمين.
يبرز هذا المعنى في اسم القيامة المختار في هذه السورة ، والذي سميت به السورة : «الحاقة» .. وهي بلفظها وجرسها ومعناها تلقي في الحس معنى الجد والصرامة والحق والاستقرار. وإيقاع اللفظ بذاته أشبه شيء برفع الثقل طويلا ، ثم استقراره استقرارا مكينا. رفعه في مدة الحاء بالألف ، وجده في تشديد القاف بعدها ، واستقراره بالانتهاء بالتاء المربوطة التي تنطق هاء ساكنة.
ويبرز في مصارع المكذبين بالدين وبالعقيدة وبالآخرة قوما بعد قوم ، وجماعة بعد جماعة ، مصارعهم العاصفة القاصمة الحاسمة الجازمة : «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ. فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى ، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ؟ وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ ، فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ، فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً. إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» .. وهكذا كل من تلفت عن هذا الأمر أخذ أخذة مروعة داهمة قاصمة ، تتناسب مع الجد الصارم الحاسم في هذا الأمر العظيم الهائل ، الذي لا يحتمل هزلا ، ولا يحتمل لعبا ، ولا يحتمل تلفتا عنه من هنا أو هناك! ويبرز في مشهد القيامة المروع ، وفي نهاية الكون الرهيبة ، وفي جلال التجلي كذلك وهو أروع وأهول :«فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 179)(1/1314)
دَكَّةً واحِدَةً ، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ .. وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ»..
ذلك الهول. وهذا الجلال. يخلعان الجد الرائع الجليل على مشهد الحساب عن ذلك الأمر المهول. ويشاركان في تعميق ذلك المعنى في الحس مع سائر إيقاعات السورة وإيحاءاتها. هو وما بعده من مقالة الناجين والمعذبين :«فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ : هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» .. فقد نجا وما يكاد يصدق بالنجاة .. «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ : يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» .. بهذا التفجع الطويل ، الذي يطبع في الحس وقع هذا المصير ..
ثم يبدو ذلك الجد الصارم والهول القاصم في النطق العلوي بالقضاء الرهيب الرعيب ، في اليوم الهائل ، وفي الموقف الجليل : «خُذُوهُ. فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ» .. وكل فقرة كأنها تحمل ثقل السماوات والأرض ، وتنقض في جلال مذهل ، وفي هول مروع ، وفي جد ثقيل ..
ثم ما يعقب كلمة القضاء الجليل ، من بيان لموجبات الحكم الرهيب ونهاية المذنب الرعيبة : «إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ. وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ» ..
ثم يبرز ذلك المعنى في التلويح بقسم هائل ، وفي تقرير اللّه لحقيقة الدين الأخير : «فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ، وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ ، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ».
وأخيرا يبرز الجد في الإيقاع الأخير. وفي التهديد الجازم والأخذ القاصم لكل من يتلاعب في هذا الأمر أو يبدل.
كائنا من كان ، ولو كان هو محمدا الرسول : «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» .. فهو الأمر الذي لا تسامح فيه ولا هوادة ولا لين ..
وعندئذ تختم السورة بالتقرير الجازم الحاسم والقول الفصل الأخير عن هذا الأمر الخطير : «وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ. وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ. وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ .. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» .. وهو الختام الذي يقطع كل قول ، ويلقي بكلمة الفصل ، وينتهي إلى الفراغ من كل لغو ، والتسبيح باسم اللّه العظيم ..(1/1315)
ذلك المعنى الذي تتمحض السورة لإلقائه في الحس ، يتكفل أسلوبها وإيقاعها ومشاهدها وصورها وظلالها بإلقائه وتقريره وتعميقه بشكل مؤثر حي عجيب :
إن أسلوب السورة يحاصر الحس بالمشاهد الحية ، المتناهية الحيوية ، بحيث لا يملك منها فكاكا ، ولا يتصور إلا أنها حية واقعة حاضرة ، تطالعه بحيويتها وقوتها وفاعليتها بصورة عجيبة! فهذه مصارع ثمود وعاد وفرعون وقرى لوط (الْمُؤْتَفِكاتُ) حاضرة شاخصة ، والهول المروع يجتاح مشاهدها لا فكاك للحس منها. وهذا مشهد الطوفان وبقايا البشرية محمولة في الجارية مرسوما في آيتين اثنتين سريعتين ..
ومن ذا الذي يقرأ : «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ؟» .. ولا يتمثل لحسه منظر العاصفة المزمجرة المحطمة المدمرة. سبع ليال وثمانية أيام. ومشهد القوم بعدها صرعى مجدلين «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ!».
وهو مشهد حي ماثل للعين ، ماثل للقلب ، ماثل للخيال! وكذلك سائر مشاهد الأخذ الشديد العنيف في السورة.
ثم هذه مشاهد النهاية المروعة لهذا الكون. هذه هي تخايل للحس ، وتقرقع حوله ، وتغمره بالرعب والهول والكآبة. ومن ذا الذي يسمع : «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» .. ولا يسمع حسه القرقعة بعد ما ترى عينه الرفعة ثم الدكة!! ومن الذي يسمع : «وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ. وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها» ..
ولا يتمثل خاطره هذه النهاية الحزينة ، وهذا المشهد المفجع للسماء الجميلة المتينة؟! ثم من الذي لا يغمر حسه الجلال والهول وهو يسمع : «وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» ..
ومشهد الناجي الآخذ كتابه بيمينه والدنيا لا تسعه من الفرحة ، وهو يدعو الخلائق كلها لتقرأ كتابه في رنة الفرح والغبطة : «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ»! ومشهد الهالك الآخذ كتابه بشماله. والحسرة تئن في كلماته ونبراته وإيقاعاته : «يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ».
ومن ذا الذي لا يرتعش حسه ، وهو يسمع ذلك القضاء الرهيب : «خُذُوهُ ، فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ...» إلخ .. وهو يشهد كيف يتسابق المأمورون إلى تنفيذ الأمر الرهيب الجليل في ذلك البائس الحسير! وحاله هناك : «فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ ، وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ».(1/1316)
وأخيرا فمن ذا الذي لا تأخذه الرجفة وتلفه الرهبة ، وهو يتمثل في الخيال صورة التهديد الشديد : «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ!» ..
إنها مشاهد من القوة والحيوية والحضور بحيث لا يملك الحس أن يتلفت عنها طوال السورة ، وهي تلح عليه ، وتضغط ، وتتخلل الأعصاب والمشاعر في تأثير حقيقي عنيف! ويشارك إيقاع الفاصلة في السورة ، برنته الخاصة ، وتنوع هذه الرنة ، وفق المشاهد والمواقف في تحقيق ذلك التأثير الحي العميق .. فمن المد والتشديد والسكت في مطلع السورة :
«الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ؟ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟» .. إلى الرنة المدوية في الياء والهاء الساكنة بعدها. سواء كانت تاء مربوطة يوقف عليها بالسكون ، أو هاء سكت مزيدة لتنسيق الإيقاع ، طوال مشاهد التدمير في الدنيا والآخرة ، ومشاهد الفرحة والحسرة في موقف الجزاء. ثم يتغير الإيقاع عند إصدار الحكم إلى رنة رهيبة جليلة مديدة : «خُذُوهُ. فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ...» .. ثم يتغير مرة أخرى عند تقرير أسباب الحكم ، وتقرير جدية الأمر ، إلى رنة رزينة جادة حاسمة ثقيلة مستقرة على الميم أو النون : «إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ» .. «وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» ..وهذا التغير في حرف الفاصلة وفي نوع المد قبلها وفي الإيقاع كله ظاهرة ملحوظة تتبع تغير السياق والمشاهد والجو ، وتتناسق مع الموضوع والصور والظلال تمام التناسق. وتشارك في إحياء المشاهد وتقوية وقعها على الحس.في السورة القوية الإيقاع العميقة التأثير.
إنها سورة هائلة رهيبة. قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة. وهي بذاتها أقوى من كل استعراض ومن كل تحليل ، ومن كل تعليق! (1)
ما تضمنته هذه السورة الكريمة
تضمنت هذه السورة ثلاثة مقاصد :
(1) هلاك الأمم المكذبة لرسلها فى الدنيا من أول السورة إلى قوله : « أُذُنٌ واعِيَةٌ »
(2) عذاب الآخرة جزاء على التكذيب فى الدنيا.
(3) إثبات أن القرآن العظيم وحي من عند اللّه وليس بقول شاعر ولا كاهن. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3674)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 64)(1/1317)
(70) سورة المعارج
سميت هذه السورة في كتب السنة وفي "صحيح البخاري" و "جامع الترمذي" ، وفي "تفسير الطبري" وان عطية وابن كثير "سورة سأل سائل". وكذلك رأيتها في بعض المصاحف المخطوطة بالخط الكوفي بالقيروان في القرن الخامس.
وسميت في معظم المصاحف المشرقية والمغربية وفي معظم التفاسير "سورة المعارج". وذكر في "الإتقان" أنها تسمى "سورة الواقع".
وهذه الأسماء الثلاثة مقتبسة من كلمات وقعت في أولها، وأخصها بها جملة {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج:1] لأنها لم يرد مثلها في غيرها من سور القرآن إلا أنها غلب عليها اسم "سورة المعارج" لأنه أخف.
وهي مكية بالاتفاق. وشذ من ذكر أن آية {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] مدنية.
وهي السورة الثامنة والسبعون في عداد نزول سور القرآن عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة الحاقة وقبل سورة النبأ.
وعد جمهور الأمصار آبها أربعا وأربعين. وعدها أهل الشام ثلاثا وأربعين.
أغراضها
حوت من الأغراض تهديد الكافرين بعذاب يوم القيامة، وإثبات ذلك اليوم ووصف أهواله.
ووصف شيء من جلال الله فيه، وتهويل دار العذاب وهي جهنم. وذكر أسباب استحقاق عذابها.
ومقابلة ذلك بأعمال المؤمنين التي أوجبت لهم دار الكرامة وهي أضداد صفات الكافرين.
وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - . وتسليته على ما يلقاه من المشركين.
ووصف كثير من خصال المسلمين التي بثها الإسلام فيهم، وتحذير المشركين من استئصالهم وتبديلهم بخير منهم. (1)
مناسبتها لما قبلها
كان مما تحدثت عنه آيات سورة « الحاقة » ما يلقى الكافرين من عذاب ونكال يوم القيامة .. وأنهم يسحبون فى سلاسل إلى النار ، ويسجرون فيها ، ثم يطعمون غسلينها وزقومها ..
وهذا الحديث عن النار ، وما يلقى فيها المكذبون بآيات اللّه وبرسل اللّه ، من عذاب وهوان ـ هذا الحديث لا يلقى من المشركين إلا الهزء والسخرية ، والتحدّى ، لأنهم لا يؤمنون بالبعث .. ومن ثم فلا
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 141)(1/1318)
يصدقون بما وراء البعث من من حساب وجزاء .. وإنه لتبلغ بهم الجرأة فى التكذيب أن يقول قائلهم : « اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ » (32 : الأنفال).ولهذا جاءت سورة « المعارج » مفتتحة بهذا الوعيد ، لتواجه به المكذبين بيوم القيامة ، ولتلقاهم بالعذاب الذي أنذروا به ، والذي يستعجلونه ، هزؤا به ، وسخرية منه.وبهذا نجد التلاحم بين السورتين ، أكثر من أن يكون تلاحم جوار ، وإنما هو تلاحم نسب وقرابة. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة (المعارج) هي السورة السبعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فهي السورة الثامنة والسبعون ، وكان نزولها بعد سورة (الحاقة) وقبل سورة (النبأ).
وتسمى - أيضا - بسورة (سأل سائل) ، وذكر السيوطي في كتابه (الإتقان) أنها تسمى كذلك بسورة (الواقع).
وهذه الأسماء الثلاثة قد وردت ألفاظها في السورة الكريمة. قال - تعالى - سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ. مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ.
وهي من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها أربع وأربعون آية في عامة المصاحف ، وفي المصحف الشامي ثلاث وأربعون آية.
والسورة الكريمة نراها في مطلعها ، تحكى لنا جانبا من استهزاء المشركين بما أخبرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعث وثواب وعقاب .. وترد عليهم بما يكبتهم ، حيث تؤكد أن يوم القيامة حق ، وأنه واقع ، وأن أهواله شديدة.قال - تعالى - سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ. مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً. يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً.
3 - ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى تصوير طبيعة الإنسان ، وتمدح المحافظين على صلاتهم ، وعلى أداء حقوق اللّه - تعالى - في أموالهم ، كما تمدح الذين يؤمنون بأن البعث حق ،ويستعدون لهذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح.قال - تعالى - إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ.
4 - ثم أخذت السورة الكريمة في أواخرها في تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي توبيخ الكافرين على مسالكهم الخبيثة بإزاء الدعوة الإسلامية ، وفي بيان أن يوم القيامة الذي يكذبون به آت لا ريب فيه.قال - تعالى -
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1155)(1/1319)
: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ. يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ.
5 - هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة ، يرى أن على رأس القضايا التي اهتمت بالحديث عنها : التذكير بيوم القيامة ، وبأهواله وشدائده ، وببيان ما فيه من حساب ، وجزاء ، وثواب وعقاب.
والحديث عن النفس الإنسانية بصفة عامة في حال عسرها ويسرها ، وصحتها ومرضها ، وأملها ويأسها ... واستثناء المؤمنين الصادقين ، من كل صفة لا يحبها اللّه - تعالى - وأنهم بسبب إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح ، سيكونون يوم القيامة. في جنات مكرمين.
كما أن السورة الكريمة اهتمت بالرد على الكافرين ، وبتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما لحقه منهم ، وببيان مظاهر قدرة اللّه - تعالى - التي لا يعجزها شيء. (1)
في السورة توكيد بوقوع عذاب اللّه الموعود. وتذكير بعظمة المشاهد السماوية ووصف لهول يوم القيامة وما تكون عليه حالة الكفار فيه. وتقرير لبعض طبائع الإنسان السيئة واستثناء المؤمنين المصلّين الذين يخافون اللّه والآخرة على اعتبار أن ذلك يحسّن هذه الطبائع ويحفّز على الخير والبرّ والعدل والحق والعفاف. وصورة من صور الهزء التي كانت تبدو من الكفّار نحو النبي ، وتسلية للنبي وتنديد بالكفار بسببها.
وآيات السورة متوازنة منسجمة مما يسوغ القول بنزولها دفعة واحدة. (2)
سورة المعارج مكيّة ، وهي أربع وأربعون آية.
تسميتها :سميت سورة المعارج لافتتاحها بقوله تعالى : تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ أي تصعد إليه الملائكة وجبريل الأمين الذي خصه اللّه بنقل الوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم السلام ، وخصه بالذكر لشرفه وفضل منزلته ، وهو المسمّى بالروح في قوله تعالى : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء 26/ 193].
مناسبتها لما قبلها :
نزلت هذه السورة بعد الْحَاقَّةُ وهي كالتتمة لها في بيان أوصاف يوم القيامة والنار ، وأحوال المؤمنين والمجرمين في الآخرة.
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 89)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 392)(1/1320)
هذه السورة كبقية السور المكية تتحدث عن أصول العقيدة الصحيحة ، وفي قمّتها إثبات البعث والنشور ، والجزاء والحساب ، وأوصاف العذاب والنار.
شرعت السورة ببيان موقف أهل مكة من دعوة الرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - واستهزائهم به ، وسؤال الكفار عن عذاب اللّه واستعجالهم به استهزاء وسخرية وعنادا متمثلا ذلك بالنضر بن الحارث بن كلدة حين طلب إيقاع العذاب ،والعذاب واقع بهم : سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ..[الآيات : 1 - 7].
ثم وصف يوم القيامة وأهواله ، والنار وعذابها ، وأحوال المجرمين في ذلك اليوم الرهيب : يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ .. [الآيات : 8 - 18].
وناسب ذلك الحديث الاستطرادي عن طبيعة الإنسان وصفاته التي أوجبت له النار ، ومدارها الجزع عند الشدة ، والبطر عند النعمة ، والبخل والشح عند الحاجة والأزمة وعلاج الفقر : إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً .. [الآيات : 19 - 21].
واستثنت من ذلك المؤمنين المصلين الذين يتحلّون بمكارم الأخلاق ، فيؤدون حقوق اللّه وحقوق العباد معا فيستحقون الخلود في الجنان : إِلَّا الْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ .. [الآيات : 22 - 35].
ثم نددت السورة بالكفار ، وهددتهم بالفناء والتبديل ، وأوعدتهم بما يلاقونه يوم القيامة ، ووصفت أحوالهم السيئة في الآخرة وقت البعث والنشور : فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ .. [الآيات : 36 - 70]. (1)
مكية بالإجماع ، وعدد آياتها أربع وأربعون آية.وتشمل تهديد المشركين بعذاب واقع ، مع التعرض لوصف القيامة ، ثم الكلام على الإنسان وطبعه وعلاجه ، ثم ختام السورة بمثل ما بدئت به. (2)
وتسمى سورة المواقع وسورة سأل وهي مكية بالاتفاق على ما قال القرطبي وفي مجمع البيان عند الحسن إلا قوله تعالى وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج : 24] وآيها ثلاث وأربعون في الشامي واثنتان وأربعون في غيره وهي كالتتمة لسورة الحاقة في بقية وصف القيامة والنار وقد قال ابن عباس إنها نزلت عقيب سورة الحاقة. (3)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 109)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 742)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 62)(1/1321)
* سورة المعارج من السور المكية ، التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية ، وقد تناولت الحديث عن القيامة وأهوالها ، والآخرة وما فيها من سعادة وشقاوة ، وراحة ونصب ، وعن أحوال المؤمنين والمجرمين ، في دار الجزاء والخلود ، والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث عن كفار مكة وإنكارهم للبعث والنشور ، واستهزاؤهم بدعوة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) .
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن طغيان أهل مكة ، وعن تمردهم على طاعة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، واستهزائهم بالإنذار والعذاب الذي خوفوا به ، وذكرت مثلا لطغيانهم بما طلبه بعض صناديدهم وهو " النضر بن الحارث " حين دعا أن ينزل الله عليه وعلى قومه العذاب العاجل ، ليستمتعوا به في الدنيا قبل الآخرة ، وذلك مكابرة في الجحود والعناد [ سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج . . ] الآيات
* ثم تناولت الحديث عن المجرمين في ذلك اليوم الفظيع الذي تتفطر فيه السموات ، وتتطاير فيه الجبال ، فتصير كالصوف الملون ألوانا غريبة [ يوم تكون السماء كالمهل " وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التى تئويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه ] .
* ثم استطردت السورة إلى ذكر طبيعة الإنسان ، فإنه يجزع عند الشدة ، ويبطر عند النعمة فيمنع حق الفقير والمسكين [ إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ] .
* ثم تحدثت عن المؤمنين ، وما اتصفوا به من جلائل الصفات ، وفضائل الأخلاق ، وبينت ما أعد الله لهم من عظيم الأجر ، في جنات الخلد والنعيم [ إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ] الايأت .
* ثم تناولت الكفرة المستهزئين بالرسول ، الطامعين في دخول جنات النعيم [ فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون ] .
* وختمت السورة الكريمة بالقسم الجليل برب العالمين ، على أن البعث والجزاء حق لا ريب فيه ، وعلى أن الله تعالى قادر على أن يخلق خيرا منهم [ فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين . . ] إلى قوله تعالى [ خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا(1/1322)
يوعدون ] نهاية السورة الكريمة ، وهو ختم يناسب موضوع السورة ، في عقاب الكفرة المجرمين ، المكذبين بالبعث والنشور . (1)
مقصودها إثبات القيامة وأنذار من كفر بها وتصوير عظمتها بعظمة ملكها وطول يومها وتسلية المنذر بها بما لمن كذبه بما له من الصغار والذل والتبار ، ودل على وجوب وقوعها سابقا بما ختمه بتسميتها في السورة الماضية بالحاقة تنبيها على أنه لا بد منها ولا محيد عنها ، ودل على ذلك بالقدرة في أولها والعلم في أثنائها والتنزه عما في إهمالها من النقص في آخرها ولا خفاء بما أخبر من أنه أرسل جميع رسله بالتحذير منها فأرسل نوحا عليه السلام في الزمان الأقدم كما ذكر في سورته عند ما اختلف الناس بعدما كانوا عليه في زمان أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام من الاتفاق على الدين الحق فافترقوا إلى مصدق ومكذب ، فعلم منه أن من بعده أولى بذلك لقربهم منها وأتبع ذلك الإعلام أنه دعا إلى ذلك الجن الذين كان سبيلهم فيها سبيل الآدميين ، وأتبع ذلك بعد إرسال أول الرسل بها زمانا - آخرهم زمانا وأولهم نبوة حين كان نبيا وآدم بين الروح والجسد ، فبدأ بسورة المزمل بنبوته ومزيد تزكيته وتقديسه ورفعته والإخبار عن رسالته والتحدي من مخالفته ، وأتبع ذلك الإنذار بها بالصدع بالرسالة بمحو كل ضلالة ، فلما تقررت نبوته وثبتت رسالته على أجمل الوجوه وأجلاها وأبينها وأعلاها ، اشرفها وأولاها ، جعل سبحانه سورة القيامة كلها لها إعلاما بأن الأمر عظيم جدا يجب الاعتناء به والتأهب له والاجتهاد بغاية القوة وإفراغ الجهد ، ثم اتبع ذلك الإنسان دلالة على أنه المقصود بالذات من الأكوان ، فلا يسوغ في الحكمة أن يجعله سبحانه سدى وبين كثيرا من أحوالها ثم أقسم في المرسلات أن أملاها حق لا بد منه ولا مندوحة عنه ، ثم عجب في " عم " منهم في تساؤلهم عنها وتعجيبهم منها ثم أقسم على وقوعها في النازعات وصور من أمرها وهزاهزها ما أراد ، ثم أولى ذلك الدلالة في سورة عبس على أن من الناس من طبع على قلبه فلا حيلة في تصديقه بها مع ما تبين بالسورة الماضية وغيرها من أمرها ، ثم صورها في " كورت " تصوير صارت من رأي عين لو كشف الغطاء ما ازداد الموقنون بها يقينا ، ثم بين في الانفطار أن الأمور فيها ليست على منهاج الأمور هنا ، بل الأسباب كلها منقطعة والأنساب مرتفعة ، والكل خاضعون مخبتون خاشعون ، أعظمهم في الدنيا تجبرا أشدهم هنالك صغارا وتحسرا ، ثم أتبع ذلك من يستحق هنالك النكال والسلاسل والأغلال ، ثم أولاه رفعة أهل الإيمان الذين طبعهم على الإقرار بها والعرفان ، واستمر على هذا إلى آخر القرآن قلَّ أن تأتي سورة إلا وهي معرفة بها غاية المعرفة إلى أن ختمت بالدين إشارة بذلك إلى أن معرفتها هي الدين وأشار في " تبت " إليها وأتبعها الإخلاص إشارة إلى أنه لا يسلم فيها إلا
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 398)(1/1323)
الموحدون المعاذون من الفتن الظاهرة والباطنة ، المتصفون بالمحامد المتعاظمة المتكاثرة ، فآذن ذلك أن أكثر غاية القرآن في أمرها العظيم الشأن لأنه لا كتاب بعد هذا الكتاب ينتظر ولا أمة أشرف من هذه تخص ببيان أعظم من بيانها وهو أحد الأوجه التي فاق بها القرآن على الكتب الماضية والصحف الكائنة في القرون الخالية ، وآذن ذلك بأن الأمر قد قرب والهول قد دهم والخوف قد قدح ، ليشمر أهل الاختصاص في النجاة من عذابها والخلاص حين لا مفر ولا ملجأ ولات حين مناص ، نسأل الله العافية في يومها والعيشة الراضية ، وعلى هذا المقصد دل اسمها " سأل " وكذا المعارج وهما أنسب ما فيها للدلالة على ذلك ، وقانا الله سبحانه وتعالى من آفاتها والمهالك آمين . (1)
هذه السورة حلقة من حلقات العلاج البطي ء ، المديد ، العميق ، الدقيق ، لعقابيل الجاهلية في النفس البشرية كما واجهها القرآن في مكة وكما يمكن أن يواجهها في أية جاهلية أخرى مع اختلافات في السطوح لا في الأعماق! وفي الظواهر لا في الحقائق! أو هي جولة من جولات المعركة الطويلة الشاقة التي خاضها في داخل هذه النفس ، وفي خلال دروبها ومنحنياتها ، ورواسبها وركامها. وهي أضخم وأطول من المعارك الحربية التي خاضها المسلمون - فيما بعد - كما أن هذه الرواسب وتلك العقابيل هي أكبر وأصعب من القوى التي كانت مرصودة ضد الدعوة الإسلامية والتي ما تزال مرصودة لها في الجاهليات القديمة والحديثة! والحقيقة الأساسية التي تعالج السورة إقرارها هي حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء وعلى وجه الخصوص ما فيها من عذاب للكافرين ، كما أوعدهم القرآن الكريم. وهي تلم - في طريقها إلى إقرار هذه الحقيقة - بحقيقة النفس البشرية في الضراء والسراء. وهي حقيقة تختلف حين تكون مؤمنة وحين تكون خاوية من الإيمان.
كما تلم بسمات النفس المؤمنة ومنهجها في الشعور والسلوك ، واستحقاقها للتكريم. وبهوان الذين كفروا على اللّه وما أعده لهم من مذلة ومهانة تليق بالمستكبرين .. وتقرر السورة كذلك اختلاف القيم والمقاييس في تقدير اللّه وتقدير البشر ، واختلاف الموازين ...
وتؤلف بهذه الحقائق حلقة من حلقات العلاج الطويل لعقابيل الجاهلية وتصوراتها ، أو جولة من جولات المعركة الشاقة في دروب النفس البشرية ومنحنياتها. تلك المعركة التي خاضها القرآن فانتصر فيها في النهاية مجردا من كل قوة غير قوته الذاتية. فقد كان انتصار القرآن الحقيقي في داخل النفس البشرية - ابتداء - قبل أن يكون له سيف يدفع الفتنة عن المؤمنين به فضلا على أن يرغم به أعداءه على الاستسلام له! والذي يقرأ هذا القرآن - وهو مستحضر في ذهنه لأحداث السيرة - يشعر بالقوة الغالبة والسلطان
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 143)(1/1324)
البالغ الذي كان هذا القرآن يواجه به النفوس في مكة ويروضها حتى تسلس قيادها راغبة مختارة. ويرى أنه كان يواجه النفوس بأساليب متنوعة تنوعا عجيبا .. تارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر من الدلائل الموحية والمؤثرات الجارفة! وتارة يواجهها بما يشبه الهراسة الساحقة التي لا يثبت لها شيء مما هو راسخ في كيانها من التصورات والرواسب! وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللاذعة تلهب الحس فلا يطيق وقعها ولا يصبر على لذعها! وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة ، والمسارة الودود ، التي تهفو لها المشاعر وتأنس لها القلوب! وتارة يواجهها بالهول المرعب ، والصرخة المفزعة ، التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب! وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة لا تدع مجالا للتلفت عنها ولا الجدال فيها. وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح والأمل الندي الذي يهتف لها ويناجيها.
وتارة يتخلل مساربها ودروبها ومنحنياتها فيلقي عليها الأضواء التي تكشفها لذاتها فترى ما يجري في داخلها رأي العين ، وتخجل من بعضه ، وتكره بعضه ، وتتيقظ لحركاتها وانفعالاتها التي كانت غافلة عنها! .. ومئات من اللمسات ، ومئات من اللفتات ، ومئات من الهتافات ، ومئات من المؤثرات .. يطلع عليها قارئ القرآن ، وهو يتبع تلك المعركة الطويلة ، وذلك العلاج البطيء. ويرى كيف انتصر القرآن على الجاهلية في تلك النفوس العصية العنيدة.
وهذه السورة تكشف عن جانب من هذه المحاولة في إقرار حقيقة الآخرة ، والحقائق الأخرى التي ألمت بها في الطريق إليها.
وحقيقة الآخرة هي ذاتها التي تصدت لها سورة الحاقة ، ولكن هذه السورة تعالجها بطريقة أخرى ، وتعرض لها من زاوية جديدة ، وصور وظلال جديدة ..
في سورة الحاقة كان الاتجاه إلى تصوير الهول والرعب في هذا اليوم ، ممثلين في حركات عنيفة في مشاهد الكون الهائلة : «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» .. وفي الجلال المهيب في ذلك المشهد المرهوب : «وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» .. وفي التكشف الذي ترتج له وتستهوله المشاعر : «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» ..
كذلك كان الهول والرعب يتمثلان في مشاهد العذاب ، حتى في النطق بالحكم بهذا العذاب : «خُذُوهُ. فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ» .. كما يتجلى في صراخ المعذبين وتأوهاتهم وحسراتهم : «يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ..»(1/1325)
فأما هنا في هذه السورة فالهول يتجلى في ملامح النفوس وسماتها وخوالجها وخطواتها ، أكثر مما يتجلى في مشاهد الكون وحركاته. حتى المشاهد الكونية يكاد الهول يكون فيها نفسيا! وهو على كل حال ليس أبرز ما في الموقف من أهوال. إنما الهول مستكن في النفس يتجلى مداه في مدى ما يحدثه فيها من خلخلة وذهول وروعة : «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ» ..
وجهنم هنا «نفس» ذات مشاعر وذات وعي تشارك مشاركة الأحياء في سمة الهول الحي : «إِنَّها لَظى . نَزَّاعَةً لِلشَّوى . تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى » ..
والعذاب ذاته يغلب عليه طابع نفسي أكثر منه حسيا : «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» ..
فالمشاهد والصور والظلال لهذا اليوم تختلف في سورة المعارج عنها في سورة الحاقة ، باختلاف طابعي السورتين في عمومه. مع اتحاد الحقيقة الرئيسية التي تعرضها السورتان في هذه المشاهد.
ومن ثم فقد تناولت سورة المعارج - فيما تناولت - تصوير النفس البشرية في الضراء والسراء ، في حالتي الإيمان والخواء من الإيمان. وكان هذا متناسقا مع طابعها «النفسي» الخاص : فجاء في صفة الإنسان : «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ... إلخ» ..
واستطرد السياق فصور هنا صفات النفوس المؤمنة وسماتها الظاهرة والمضمرة تمشيا مع طبيعة السورة وأسلوبها : «إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ. وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ. وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ...»..
ولقد كان الاتجاه الرئيسي في سورة الحاقة إلى تقرير حقيقة الجد الصارم في شأن العقيدة. ومن ثم كانت حقيقة الآخرة واحدة من حقائق أخرى في السورة ، كحقيقة أخذ المكذبين أخذا صارما في الأرض وأخذ كل من يبدل في العقيدة بلا تسامح .. فأما الاتجاه الرئيسي في سورة المعارج فهو إلى تقرير حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء ، وموازين هذا الجزاء. فحقيقة الآخرة هي الحقيقة الرئيسية فيها.(1/1326)
ومن ثم كانت الحقائق الأخرى في السورة كلها متصلة اتصالا مباشرا بحقيقة الآخرة فيها. من ذلك حديث السورة عن الفارق بين حساب اللّه في أيامه وحساب البشر ، وتقدير اللّه لليوم الآخر وتقدير البشر : «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً ...» إلخ وهو متعلق باليوم الآخر.
ومنه ذلك الفارق بين النفس البشرية في الضراء والسراء في حالتي الإيمان والخلو من الإيمان. وهما مؤهلان للجزاء في يوم الجزاء.
ومنه غرور الذين كفروا وطمعهم أن يدخلوا كلهم جنات نعيم ، مع هوانهم على اللّه وعجزهم عن سبقه والتفلت من عقابه. وهو متصل اتصالا وثيقا بمحور السورة الأصيل.
وهكذا تكاد السورة تقتصر على حقيقة الآخرة وهي الحقيقة الكبيرة التي تتصدى لإقرارها في النفوس. مع تنوع اللمسات والحقائق الأخرى المصاحبة للموضوع الأصيل.
ظاهرة أخرى في هذا الإيقاع الموسيقي للسورة ، الناشئ من بنائها التعبيري .. فقد كان التنوع الإيقاعي في الحاقة ناشئا من تغير القافية في السياق من فقرة لفقرة. وفق المعنى والجو فيه .. فأما هنا في سورة المعارج فالتنوع أبعد نطاقا ، لأنه يشمل تنوع الجملة الموسيقية كلها لا إيقاع القافية وحدها. والجملة الموسيقية هنا أعمق وأعرض وأشد تركيبا. ويكثر هذا التنوع في شطر السورة الأول بشكل ملحوظ.
ففي هذا المطلع ثلاث جمل موسيقية منوعة - مع اتحاد الإيقاع في نهاياتها - من حيث الطول ومن حيث الإيقاعات الجزئية فيها على النحو التالي :
«سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ. مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ. فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا» .. حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس.
«إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً» .. حيث يتكرر الإيقاع بمد الألف مرتين.
«يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» .. حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الثالث. مع تنوع الإيقاع في الداخل.
« يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ. كَلَّا إِنَّها لَظى » .. حيث ينتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس كالأول.
«نَزَّاعَةً لِلشَّوى .. تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى. وَجَمَعَ فَأَوْعى . إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» .. حيث يتكرر إيقاع المد بالألف خمس مرات منهما اثنتان في النهاية تختلفان عن الثلاثة الأولى.
ثم يستقيم الإيقاع في باقي السورة على الميم والنون وقبلهما واو أو ياء ..(1/1327)
والتنويع الإيقاعي في مطلع السورة عميق وشديد التعقيد في الصياغة الموسيقية بشكل يلفت الأذن الموسيقية إلى ما في هذا التنويع المعقد الراقي - موسيقيا - من جمال غريب على البيئة العربية وعلى الإيقاع الموسيقي العربي.
ولكن الأسلوب القرآني يطوعه ويمنحه اليسر الذي يدخل به إلى الأذن العربية فتقبل عليه ، وإن كان فنا إبداعيا عميقا جديدا على مألوفها الموسيقي (1)
خلاصة ما جوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد :
(1) وصف يوم القيامة وأهواله.
(2) وصف النار وعذابها.
(3) صفات الإنسان التي أوجبت له الجحيم ، وكيف يجتهد لإزالة ما به من النقص حتى يرتقى إلى المعارج ، ويخرج من عالم المادة.
(4) وعيد الكافرين على ما يلاقونه فى ذلك اليوم. (2)
==============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3692)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 77)(1/1328)
(71) سورة نوح
بهذا الاسم سميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير، وترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" بترجمة "سورة إنا أرسلنا نوحا". ولعل ذلك كان الشائع في كلام السلف ولم يترجم لها الترمذي في "جامعه" .
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت الثالثة والسبعين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد نزول أربعين آية من سورة النحل وقبل سورة الطور.
وعد العادون بالمدينة ومكة آيها ثلاثين آية، وعدها أهل البصرة والشام تسعا وعشرين آية، وعدها أهل الكوفة ثمانا وعشرين آية.
أغراضها
أعظم مقاصد السورة ضرب المثل للمشركين بقوم نوح وهم أول المشركين الذين سلط عليهم عقاب في الدنيا، وهو أعظم عقاب أعني الطوفان. وفي ذلك تمثيل لحال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قومه بحالهم.
وفيها تفصيل كثير من دعوة نوح عليه السلام إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام وإنذاره قومه بعذاب أليم واستدلاله لهم ببدائع صنع الله تعالى وتذكيرهم بيوم البعث.
وتصميم قومه على عصيانه وعلى تصلبهم في شركهم.
وتسمية الأصنام التي كانوا يعبدونها.
ودعوة نوح على قومه بالاستئصال.
وأشارت إلى الطوفان.
ودعاء نوح بالمغفرة له وللمؤمنين، وبالتبار للكافرين كلهم.
وتخلل ذلك إدماج وعد المطيعين بسعة الأرزاق وإكثار النسل ونعيم الجنة. (1)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة « المعارج » بعرض هذا الموقف الذي يقفه المشركون من النبىّ ، وبدعوة النبي من اللّه سبحانه ، أن يتركهم فيما هم فيه ، ليخوضوا ، ويلعبوا ، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ..وبدئت سورة « نوح » بذكر موقف قوم نوح منه ، وتأبّيهم عليه ، وأنه لبث فيهم عمرا طويلا امتد ألف سنة
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 172)(1/1329)
إلا خمسين عاما ، يغدو ويروح بينهم بدعوته ، يعرضها عليهم فى كل معرض ، ويلقاهم بها على كل وجه ، فما استجابوا له .. ثم كانت عاقبتهم هذا العذاب الذي أخذهم اللّه به فى الدنيا ، وإن لهم فى الآخرة لعذابا أشد وأنكى ..فالمناسبة بين السورتين قريبة ، تجعل منهما سورة واحدة ، لموقف واحد .. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « نوح » - عليه السلام - من السور المكية الخالصة ، وسميت بهذا الاسم لاشتمالها على دعوته - عليه السلام - وعلى مجادلته لقومه ، وعلى موقفهم منه ، وعلى دعائه عليهم.
وكان نزولها بعد سورة « النحل » وقبل سورة « إبراهيم ».
وعدد آياتها ثمان وعشرون آية في المصحف الكوفي. وتسع وعشرون في المصحف البصري والشامي ، وثلاثون آية في المصحف المكي والمدني.
2 - وهذه السورة الكريمة من أولها إلى آخرها ، تحكى لنا ما قاله نوح لقومه ، وما ردوا به عليه ، كما تحكى تضرعه إلى ربه - عز وجل - وما سلكه مع قومه في دعوته لهم إلى الحق ، تارة عن طريق الترغيب وتارة عن طريق الترهيب ، وتارة عن طريق دعوتهم إلى التأمل والتفكر في نعم اللّه - تعالى - عليهم ، وتارة عن طريق تذكيرهم بخلقهم.
كما تحكى أنه - عليه السلام - بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما - دعا اللّه - تعالى - أن يستأصل شأفتهم. فقال : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً. رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً. (2)
هذه السورة قاصرة على رسالة نوح عليه السلام لقومه ومناجاته لربّه بسبب جحود قومه ومواقفهم من رسالته. وهي شاذة بين السور المعقودة على أسماء الأنبياء التي احتوت إلى قصة النبي المعقودة باسمه قصص الأنبياء الأخرى وفصولا وعظية وتذكيرية أخرى موجهة إلى كفار العرب. وهي شاذة كذلك بالنسبة للفصول القصصية التي جاءت في سور أخرى في معرض التذكير والتنديد. ومع ذلك فإن أسلوبها متماثل مع أسلوب القصص القرآنية ، وأهدافها متسقة مع أهداف هذه القصص. (3)
سورة نوح عليه السلام مكيّة ، وهي ثمان وعشرون آية.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1192)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 109)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 207)(1/1330)
تسميتها : سميت سورة نوح باسم نبي اللّه عليه السلام وقصته مع قومه من بداية دعوته إلى الطوفان ، كما جاء في مطلع السورة : إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ...
مناسبتها لما قبلها :
هناك وجهان لاتصال هذه السورة بما قبلها :
1 - تشابه مطلع السورتين في ذكر العذاب الذي وعد به الكفار : قوم محمد - صلى الله عليه وسلم - في سورة المعارج ، وقوم نوح عليه السلام في هذه السورة.
2 - لما قال تعالى في أواخر المعارج : إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ [41] عقبه بقصة نوح المشتملة على إغراق قومه إلا من آمن ، وتبديلهم بمن هم خير منهم ، فوقعت موقع الاستدلال وإثبات خبر القدرة على التبديل ، كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع الاستدلال على ما ختم به تَبارَكَ.
ما اشتملت عليه السورة :
هذه السورة كغيرها من السور المكية التي عنيت بغرس أصول العقيدة ،وتبيان عناصر الإيمان ، من عبادة اللّه وطاعته ، وإبطال عبادة الأصنام والأوثان ، والاستدلال على وجود اللّه ووحدانيته وقدرته.
افتتحت السورة ببيان إرسال اللّه تعالى نوحا إلى قومه ، وقيامه بإنذارهم ومطالبتهم بالإقلاع عن ذنوبهم ، ليغفر اللّه لهم ، وليمدهم بالأموال والبنين ، وليجعل لهم جنات ، يفجر فيها الأنهار ، ولكنهم أبوا دعوته ، وأمعنوا في الضلال والعصيان : إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً .. [الآيات 1 - 14].
ثم أمرهم تعالى للاستدلال على وجوده ووحدانيته وقدرته والإقبال على طاعته وتعرف نعمه بالنظر في خلق السموات والأرض ، والتأمل في خلق الإنسان ، وفيما أنعم به على الناس من تذليل الأرض وتسخيرها للنفع ، وإيداع لكنوز والمعادن فيها ، والتنقل في نواحيها ، وسلوك السبل الواسعة فيها : أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً .. [الآيات 15 - 20].
وختمت السورة ببيان كفر قومه وإصرارهم على عبادة الأصنام ، وعقابهم في الدنيا والآخرة ، ودعاء نوح عليه السلام على قومه بالهلاك والدمار بعد جهاد طويل في الدعوة دام تسع مائة وخمسين سنة ، دون أن يقلعوا عن الشرك ، ولم ينتفعوا بالإنذار والتذكير : قالَ نُوحٌ : رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ..[الآيات 21 - 28]. (1)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 133) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 78)(1/1331)
وهي مكية بالإجماع. وعدد آياتها ثمان وعشرون آية .. وهي تشتمل على بعض من قصة نوح عليه السلام مع قومه. (1)
مكية بالاتفاق وهي ثمان وعشرون آية في الكوفي وتسع في البصري والشامي وثلاثون فيما عدا ذلك ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي وأشار إليه غيره أنه سبحانه لما قال في سورة المعارج إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ [المعارج : 4 ، 41] عقبه تعالى بقصة قوم نوح عليه السلام المشتملة على إغراقهم عن آخرهم بحيث لم يبق منهم في الأرض ديار وبدل خيرا منهم فوقعت موقع الاستدلال والاستظهار لتلك الدعوى كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع الاستظهار لما ختم به تبارك هذا مع تواخي مطلع السورتين في ذلك العذاب الموعد به الكافرون ووجه الاتصال على قول من زعم أن السائل هو نوح عليه السلام ظاهر وفي بعض الآثار ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها على قوم نوح عليه السلام يوم القيامة أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا قال : «إن اللّه تعالى يدعو نوحا وقومه يوم القيامة أول الناس فيقول : ماذا أجبتم نوحا؟ فيقولون : ما دعانا وما بلّغنا ولا نصحنا ولا أمرنا ولا نهانا ، فيقول نوح عليه السلام : دعوتهم يا رب دعاء فاشيا في الأولين والآخرين أمة بعد أمة حتى انتهى إلى خاتم النبيين أحمد - صلى الله عليه وسلم - فانتسخه وقرأه وآمن به وصدقه فيقول اللّه عز وجل للملائكة عليهم السلام : ادعوا أحمد وأمته فيدعونهم فيأتي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأمته يسعى نورهم بين أيديهم فيقول نوح عليه السلام لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته : هل تعلمون أني بلغت قومي الرسالة واجتهدت لهم بالنصيحة وجهدت أن أستنقذهم من النار سرا وجهارا فلم يزدهم دعائي إلّا فرارا؟ فيقول رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأمته : فإنّا نشهد بما أنشدتنا أنك في جميع ما قلت من الصادقين. فيقول قوم نوح عليه السلام : وأنى علمت هذا أنت وأمتك ونحن أول الأمم وأنت آخر الأمم ، فيقول رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : بسم اللّه الرحمن الرحيم إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح : 1] حتى يختم السورة ، فإذا ختمها قالت أمته نشهد إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا اللّه وإن اللّه لهو العزيز الحكيم. فيقول اللّه عز وجل عند ذلك : امتازوا اليوم أيها المجرمون» (2)
* سورة نوح مكية ، شأنها شأن سائر السور المكية التي تعنى بأصول العقيدة ، وتثبيت قواعد الإيمان ، وقد تناولت السورة تفصيلا قصة شيخ الأنبياء (نوح عليه السلام ) من بدء دعوته حتى نهاية (حادثة الطوفان ) التى أغرق الله بها المكذبين من قومه ، ولهذا سميت " سورة نوح " ، وفي السورة بيان لسنة الله
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 751)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 75)(1/1332)
تعالى في الأمم التي انحرفت عن دعوة الله ، وبيان لعاقبة المرسلين ، وعاقبة المجرمين ، في شتى العصور والأزمان .
* ابتدأت السورة الكريمة بارسال الله تعالى لنوح عليه السلام ، وتكليفه بتبليغ الدعوة ، وإنذار قومه من عذاب الله [ إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم ] الآيات .
* ثم ذكرت السورة جهاد نوح عليه السلام ، وصبره ، وتضحيته في سبيل تبليغ الدعوة ، فقد دعا قومه ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ، فلم يزدهم ذلك إلا إمعانا في الضلال والعصيان [ قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائى إلا فرارا ] . الآيات
* ثم تتابعت السورة تذكرهم بإنعام الله وأفضاله على لسان نوح عليه السلام ، ليجدوا فى طاعة الله ، ويروا آثار قدرته ورحمته في هذا الكون الفسيح [ ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ] ! ! . ومع كل هذا التذكير والنصح والإرشاد ، فقد تمادى قومه فى الكفر والضلال والعناد ، واستخفوا بدعوة نبيهم (نوح ) عليه السلام ، حتى أهلكهم الله بالطوفان [ قال نوح رب أنهم عصونى واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا . . ] الآيات.
* وختمت السورة الكريمة بدعاء نوح عليه السلام على قومه بالهلاك والدمار ، بعد أن مكث فيهم تسعمائة وخمسين سنة ، يدعوهم إلى الله ، فما لانت قلوبهم ، ولا انتفعت بالتذكير والإنذار [ وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا رب اغفر لي ولوالدى ولمن دخل بيتى مؤمنا ، وللمؤمنين والمؤمنات ، ولا تزد الظالمين إلا تبارا ] (1) .
مقصودها الدلالة على تمام القدرة على ما أنذر به آخر " سأل " من إهلاك المنذرين وتبديل خير منهم ، ومن القدرة على إيجاد يوم القيامة الذي طال إنذارهم به وهم عنه معرضون وبه مكذبون وبه لا هون ، وتسميتها بنوح عليه السلام أدل ما فيها على ذلك ، فإن أمره في إهلاك قومه بسبب تكذيبهم له في قصته في هذه السورة مقرر ومسطور (2)
هذه السورة كلها تقص قصة نوح - عليه السلام - مع قومه وتصف تجربة من تجارب الدعوة في الأرض وتمثل دورة من دورات العلاج الدائم الثابت المتكرر للبشرية ، وشوطا من أشواط المعركة الخالدة بين الخير والشر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 404)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 162)(1/1333)
هذه التجربة تكشف عن صورة من صور البشرية العنيدة ، الضالة ، الذاهبة وراء القيادات المضللة ، المستكبرة عن الحق ، المعرضة عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، المعروضة أمامها في الأنفس والآفاق ، المرقومة في كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون.
وهي في الوقت ذاته تكشف عن صورة من صور الرحمة الإلهية تتجلى في رعاية اللّه لهذا الكائن الإنساني ، وعنايته بأن يهتدي. تتجلى هذه العناية في إرسال الرسل تترى إلى هذه البشرية العنيدة الضالة الذاهبة وراء القيادات المضللة المستكبرة عن الحق والهدى.
ثم هي بعد هذا وذلك تعرض صورة من صور الجهد المضني ، والعناء المرهق ، والصبر الجميل ، والإصرار الكريم من جانب الرسل - صلوات اللّه عليهم - لهداية هذه البشرية الضالة العنيدة العصية الجامحة. وهم لا مصلحة لهم في القضية ولا أجر يتقاضونه من المهتدين على الهداية ، ولا مكافأة ولا جعل يحصلونه على حصول الإيمان! كالمكافأة أو النفقة التي تتقاضاها المدارس والجامعات والمعاهد والمعلمون ، في زماننا هذا وفي كل زمان في صورة نفقات للتعليم! هذه الصورة التي يعرضها نوح - عليه السلام - على ربه ، وهو يقدم له حسابه الأخير بعد ألف سنة إلا خمسين عاما قضاها في هذا الجهد المضني ، والعناء المرهق ، مع قومه المعاندين ، الذاهبين وراء قيادة ضالة مضللة ذات سلطان ومال وعزوة. وهو يقول :«رَبِّ. إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً. وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ، وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً. ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً. ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً. فَقُلْتُ : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً. ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً؟ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً؟ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً؟ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً؟ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً» ..
ثم يقول بعد عرض هذا الجهد الدائب الملح الثابت المصر : «رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً. وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً. وَقالُوا : لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ...» ..
وهي حصيلة مريرة. ولكن الرسالة هي الرسالة! هذه التجربة المريرة تعرض على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي انتهت إليه أمانة دعوة اللّه في الأرض كلها في آخر الزمان ، واضطلع بأكبر عبء كلفه رسول .. يرى فيها صورة الكفاح النبيل الطويل لأخ له من قبل ، لإقرار حقيقة الإيمان في الأرض. ويطلع منها على(1/1334)
عناد البشرية أمام دعوة الحق وفساد القيادة الضالة وغلبتها على القيادة الراشدة. ثم إرادة اللّه في إرسال الرسل تترى بعد هذا العناد والضلال منذ فجر البشرية على يدي جدها نوح عليه السلام.
وتعرض على الجماعة المسلمة في مكة ، وعلى الأمة المسلمة بعامة ، وهي الوارثة لدعوة اللّه في الأرض ، وللمنهج الإلهي المنبثق من هذه الدعوة ، القائمة عليه في وسط الجاهلية المشتركة يومذاك ، وفي وسط كل جاهلية تالية .. ترى فيها صورة الكفاح والإصرار والثبات هذا المدى الطويل من أبي البشرية الثاني. كما ترى فيها عناية اللّه بالقلة المؤمنة ، وإنجاءها من الهلاك الشامل في ذلك الحين.
وتعرض على المشركين ليروا فيها مصير أسلافهم المكذبين ويدركوا نعمة اللّه عليهم في إرساله إليهم رسولا رحيما بهم ، لا يدعو عليهم بالهلاك الشامل وذلك لما قدره اللّه من الرحمة بهم وإمهالهم إلى حين. فلم تصدر من نبيهم دعوة كدعوة نوح ، بعد ما استنفد كل الوسائل ، وألهم الدعاء على القوم بما ألهم :
«وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» ..
«وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» ..
ومن خلال عرض هذه الحلقة من حلقات الدعوة الإلهية على البشرية تتجلى حقيقة وحدة العقيدة وثبات أصولها ، وتأصل جذورها. كما يتجلى ارتباطها بالكون وبإرادة اللّه وقدره ، وأحداث الحياة الواقعة وفق قدر اللّه. وذلك من خلال دعوة نوح لقومه : «قالَ : يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ. يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ، لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .. وفي حكاية قوله لهم : «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً؟ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً؟ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً؟ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً» ..
ولإقرار هذه الحقيقة في نفوس المسلمين قيمته في شعورهم بحقيقة دعوتهم ، وحقيقة نسبهم العريق! وحقيقة موكبهم المتصل من مطلع البشرية. وحقيقة دورهم في إقرار هذه الدعوة والقيام عليها. وهي منهج اللّه القويم القديم.
وإن الإنسان ليأخذه الدهش والعجب ، كما تغمره الروعة والخشوع ، وهو يستعرض - بهذه المناسبة - ذلك الجهد الموصول من الرسل - عليهم صلوات اللّه وسلامه - لهداية البشرية الضالة المعاندة. ويتدبر إرادة اللّه المستقرة على إرسال هؤلاء الرسل واحدا بعد واحد لهذه البشرية المعرضة العنيدة.(1/1335)
وقد يعن للإنسان أن يسأل : ترى تساوي الحصيلة هذا الجهد الطويل ، وتلك التضحيات النبيلة ، من لدن نوح - عليه السلام - إلى محمد - عليه الصلاة والسلام - ثم ما كان بينهما وما تلاهما من جهود المؤمنين بدعوة اللّه وتضحياتهم الضخام؟
ترى هل تساوي هذا الجهد الذي وصفه نوح في هذه السورة وفي غيرها من سور القرآن ، وقد استغرق عمرا طويلا بالغ الطول ، لم يكتف قومه فيه بالإعراض ، بل أتبعوه بالسخرية والاتهام. وهو يتلقاهما بالصبر والحسنى ، والأدب الجميل والبيان المنير.
ثم تلك الجهود الموصولة منذ ذلك التاريخ ، وتلك التضحيات النبيلة التي لم تنقطع على مدار التاريخ.
من رسل يستهزأ بهم ، أو يحرقون بالنار ، أو ينشرون بالمنشار ، أو يهجرون الأهل والديار .. حتى تجيء الرسالة الأخيرة ، فيجهد فيها محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك الجهد المشهود المعروف ، هو والمؤمنون معه. ثم تتوالى الجهود المضنية والتضحيات المذهلة من القائمين على دعوته في كل أرض وفي كل جيل؟؟
ترى تساوي الحصيلة كل هذه الجهود ، وكل هذه التضحيات ، وكل هذا الجهاد المرير الشاق؟ ثم ..
ترى هذه البشرية كلها تساوي تلك العناية الكريمة من اللّه ، المتجلية في استقرار إرادته سبحانه على إرسال الرسل تترى بعد العناد والإعراض والإصرار والاستكبار ، من هذا الخلق الهزيل الصغير المسمى بالإنسان؟!
والجواب بعد التدبر : أن نعم .. وبلا جدال ..!
إن استقرار حقيقة الإيمان باللّه في الأرض يساوي كل هذا الجهد ، وكل هذا الصبر ، وكل هذه المشقة ، وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين في كل جيل! ولعل استقرار هذه الحقيقة أكبر من وجود الإنسان ذاته بل أكبر من الأرض وما عليها بل أكبر من هذا الكون الهائل الذي لا تبلغ الأرض أن تكون فيه هباءة ضائعة لا تكاد تحس أو ترى! وقد شاءت إرادة اللّه أن يخلق هذا الكائن الإنساني بخصائص معينة ، تجعل استقرار هذه الحقيقة في ضميره وفي نظام حياته موكولا إلى الجهد الإنساني ذاته ، بعون اللّه وتوفيقه. ولسنا نعلم لم خلق اللّه هذا الكائن بهذه الخصائص. ووكله إلى إدراكه وجهده وإرادته في تحقيق حقيقة الإيمان في ذاته وفي نظام حياته ولم يجبله على الإيمان والطاعة لا يعرف غيرهما كالملائكة ، أو يمحضه للشر والمعصية لا يعرف غيرهما كإبليس.
لسنا نعلم سر هذا. ولكننا نؤمن بأن هنالك حكمة تتعلق بنظام الوجود كله في خلق هذا الكائن بهذه الخصائص! وإذن فلا بد من جهد بشري لإقرار حقيقة الإيمان في عالم الإنسان. هذا الجهد اختار اللّه له صفوة من عباده هم الأنبياء والرسل. وثلة مختارة من أتباعهم هم المؤمنون الصادقون. اختارهم لإقرار هذه الحقيقة في الأرض ، لأنها تساوي كل ما يبذلون فيها من جهود مضنية مريرة ، وتضحيات شاقة نبيلة.(1/1336)
إن استقرار هذه الحقيقة في قلب معناه أن ينطوي هذا القلب على قبس من نور اللّه وأن يكون مستودعا لسر من أسراره وأن يكون أداه من أدوات قدره النافذ في هذا الوجود .. وهذه حقيقة لا مجرد تصوير وتقريب ..
وهي حقيقة أكبر من الإنسان ذاته ومن أرضه وسمائه ، ومن كل هذا الكون الكبير! كما أن استقرار حقيقة الإيمان في حياة البشر - أو جماعة منهم - معناه اتصال هذه الحياة الأرضية بالحياة الأبدية ، وارتفاعها إلى المستوي الذي يؤهلها لهذا الاتصال. معناه اتصال الفناء بالبقاء والجزء بالكل والمحدود الناقص بالكمال المطلق ... وهي حصيلة تربى على كل جهد وكل تضحية ولو تحققت على الأرض يوما أو بعض يوم في عمر البشرية الطويل ، لأن تحققها - ولو في هذه الصورة - يرفع أمام البشرية في سائر أجيالها مشعل النور في صورة عملية واقعية ، تجاهد لتبلغ إليها طوال الأجيال! ولقد أثبت الواقع التاريخي المتكرر أن النفس البشرية لم تبلغ إلى آفاق الكمال المقدر لها بأية وسيلة كما بلغتها باستقرار حقيقة الإيمان باللّه فيها. وأن الحياة البشرية لم ترتفع إلى هذه الآفاق بوسيلة أخرى كما ارتفعت بهذه الوسيلة. وأن الفترات التي استقرت فيها هذه الحقيقة في الأرض ، وتسلم أهلها قيادة البشرية كانت قمة في تاريخ الإنسان سامقة ، بل كانت حلما أكبر من الخيال ، ولكنه متمثل في واقع يحياه الناس.
وما يمكن أن ترتقي البشرية ولا أن ترتفع عن طريق فلسفة أو علم أو فن أو مذهب من المذاهب أو نظام ، إلى المستوي الذي وصلت أو تصل إليه عن طريق استقرار حقيقة الإيمان باللّه في نفوس الناس وحياتهم وأخلاقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم .. وهذه الحقيقة ينبثق منها منهج حياة كامل ، سواء جاءت مجملة كما هي في الرسالات الأولى ، أو مفصلة شاملة دقيقة كما هي في الرسالة الأخيرة.
والدليل القاطع على أن هذه العقيدة حقيقة من عند اللّه هو هذا الذي أثبته الواقع التاريخي من بلوغ البشرية باستقرار حقيقة الإيمان في حياتها ما لم تبلغه قط بوسيلة أخرى من صنع البشر : لا علم ، ولا فلسفة ، ولا فن ، ولا نظام من النظم. وأنها حين فقدت قيادة المؤمنين الحقيقيين لم ينفعها شيء من ذلك كله بل انحدرت قيمها وموازينها وإنسانيتها ، كما غرقت في الشقاء النفسي والحيرة الفكرية والأمراض العصبية ، على الرغم من تقدمها الحضاري في سائر الميادين ، وعلى الرغم من توافر عوامل الراحة البدنية والمتاع العقلي ، وأسباب السعادة المادية بجملتها. ولكنها لم تنل السعادة والطمأنينة والراحة الإنسانية أبدا. ولم يرتفع تصورها للحياة قط كما ارتفع في ظل الحقيقة الإيمانية ، ولم تتوثق صلتها بالوجود قط كما توثقت في ظل هذه العقيدة ، ولم تشعر بكرامة «النفس الإنسانية» قط كما شعرت بها في تلك الفترة التي استقرت فيها تلك الحقيقة. والدراسة الواعية للتصور الإسلامي لغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني تنتهي حتما إلى هذه النتيجة.(1/1337)
وهذا كله يستحق - بدون تردد - كل ما يبذله المؤمنون من جهود مضنية ، ومن تضحيات نبيلة ، لإقرار حقيقة الإيمان باللّه في الأرض. وإقامة قلوب تنطوي على قبس من نور اللّه ، وتتصل بروح اللّه. وإقامة حياة إنسانية يتمثل فيها منهج اللّه للحياة. وترتفع فيها تصورات البشر وأخلاقهم ، كما يرتفع فيها واقع حياتهم إلى ذلك المستوي الرفيع ، الذي شهدته البشرية واقعا في فترة من فترات التاريخ.
وستعرض البشرية كما أعرضت عن دعوة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم الكرام. وستذهب مع القيادات الضالة المضلة الممعنة في الضلال. وستعذب الدعاة إلى الحق أنواعا مختلفة من العذاب ، وتنكل بهم ألوانا شتى من النكال. كما ألقت إبراهيم في النار ، ونشرت غيره بالمنشار ، وسخرت واستهزأت بالرسل والأنبياء على مدار التاريخ.
ولكن الدعوة إلى اللّه لا بد أن تمضي في طريقها كما أراد اللّه. لأن الحصيلة تستحق الجهود المضنية والتضحيات النبيلة ، ولو صغرت فانحصرت في قلب واحد ينطوي على قبس من نور اللّه ، ويتصل بروح اللّه! إن هذا الموكب المتصل من الرسل والرسالات من عهد نوح - عليه السلام - إلى عهد محمد - عليه أزكى السلام - لينبئ عن استقرار إرادة اللّه على اطراد الدعوة إلى حقيقة الإيمان الكبيرة ، وعلى قيمة هذه الدعوة وقيمة الحصيلة. وأقل نسبة لهذه الحصيلة هي أن تستقر حقيقة الإيمان في قلوب الدعاة أنفسهم حتى يلاقوا الموت وما هو أشد من الموت في سبيلها ولا ينكصون عنها. وبهذا يرتفعون على الأرض كلها وينطلقون من جواذبها ، ويتحررون من ربقتها. وهذا وحده كسب كبير ، أكبر من الجهد المرير. كسب للدعاة. وكسب للإنسانية التي تشرف بهذا الصنف منها وتكرم. وتستحق أن يسجد اللّه الملائكة لهذا الكائن ، الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء. ولكنه يتهيأ - بجهده هو ومحاولته وتضحيته - لاستقبال قبس من نور اللّه. كما يتهيأ لأن ينهض - وهو الضعيف العاجز - بتحقيق قدر اللّه في الأرض ، وتحقيق منهجه في الحياة. ويبلغ من الطلاقة والتحرر الروحي أن يضحي بالحياة ، ويحتمل من المشقة ما هو أكبر من ضياع الحياة ، لينجو بعقيدته وينهض بواجبه في محاولة إقرارها في حياة الآخرين ، وتحقيق السعادة لهم والتحرر والارتفاع. وحين يتحقق لروح الإنسان هذا القدر من التحرر والانطلاق ، يهون الجهد ، وتهون المشقة ، وتهون التضحية ، ويتوارى هذا كله ، لتبرز تلك الحصيلة الضخمة التي ترجح الأرض والسماء في ميزان اللّه ... (1)
مقاصد هذه السورة
اشتملت هذه السورة على مقصدين :
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3706)(1/1338)
(1) دعوة نوح قومه إلى الإيمان وقد حوت :
(ا) طلب تركهم للذنوب ، وأنهم إذا فعلوا ذلك أكثر اللّه لهم المال والبنين.
(ب) النظر فى خلق السموات والأرض والأنهار والبحار.
(ح) النظر فى خلق الإنسان وأنه بخلق فى الأرض كما يخلق النبات ، وأن الأرض مسخرة له يتصرف فيها كما يشاء.
(2) كفر قومه وعقابهم فى الدنيا والآخرة (1)
===============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 91)(1/1339)
(72) سورة الجن
سميت في كتب التفسير وفي المصاحف التي رأيناها ومنها لكوفي المكتوب بالقيروان في القرن الخامس "سورة الجن". وكذلك ترجمها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه ، وترجمها البخاري في كتاب التفسير "سورة قل أوحي ألي".
واشتهر على ألسنة المكتبين والمتعلمين في الكتاتيب القرآنية باسم {قُلْ أُوحِيَ} [الجن:1].
ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور التي لها أكثر من اسم ووجه التسميتين ظاهر.
وهي مكية بالاتفاق.
ويظهر أنها نزلت في حدود سنة عشر من البعثة. ففي الصحيحين وجامع الترمذي من حديث ابن عباس أنه قال: انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وأنه استمع فريق من الجن إلى قراءته فرجعوا إلى طائفتهم فقالوا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] وأنزل اله على نبيه {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ} [الجن:1].
وذكر ابن إسحاق أن نزول هذه السورة بعد سفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف، أي وذلك يكون في سنة عشر بعد البعثة وسنة ثلاث قبل الهجرة.
وقد عدت السورة الأربعين في نزول السور نزلت بعد الأعراف وقبل يس.
واتفق أهل العدد على عد آيها ثمانا وعشرين.
أغراضها
إثبات كرامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن دعوته بلغت إلى جنس الجن وإفهامهم فهم معان من القرآن الذي استمعوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفهم ما يدعوا إليه من التوحيد والهدى، وعلمهم بعظمة الله وتنزيهه عن الشريك والصاحبة والولد.
وإبطال عبادة ما يبعد من الجن.
وإبطال الكهانة وبلوغ علم الغيب إلى غير الرسل الذين يطلعهم الله على ما يشاء.
وإثبات أن لله خلقا يدعون الجن وأنهم أصناف منهم الصالحون ومنهم دون ذلك بمراتب، وتضليل الذين يقولون على الله ما لم يقله، والذين يعبدون الجن، والذين ينكرون البعث، وأن الجن لا يفلتون من سلطان الله تعالى.(1/1340)
وتعجبهم من الإصابة برجوم الشهب المانعة من استراق السمع، وفي المراد من هذا المنع والتخلص من ذلك إلى ما أوحى الله إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - من في شأن القحط الذي أصاب المشركين لشركهم ولمنعهم مساجد الله، وإنذارهم بأنهم سيندمون على تألبهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحاولتهم منهم العدول عن الطعن في دينهم. (1)
مناسبتها لما قبلها
تكشف سورة الجن فى صورة عملية ، عما فى الإنسان من جانبى الخير والشر ، وأنه حين تنتكس طبيعته ، ويغتال جانب الشر فيه جانب الخير ، يتحول إلى شيطان رجيم ، تعوذ منه الشياطين ، أو تتلمذ عليه! وهذا الإنسان الشيطاني يبدو على أتم صورته المنكوسة تلك ، فى قوم « نوح » كما يبدو هذا الإنسان على صورة مجسدة فى كثير من مشركى قريش ، كأبى جهل ، والوليد بن عقبة ، وعقبة بن أبى معيط ، وغيرهم من شياطين قريش ، الذين تصدوا للدعوة الإسلامية ، وكادوا لرسول اللّه وللمسلمين أعظم الكيد ، فلم يدعوا وسيلة يتوسلون بها إلى أذى النبي وأصحابه إلا تواصوا بها ، واجتمعوا عليها.وفى سورة الجن صورة للخير ينبت فى منابت الشر ، ويطلع ثمره الطيب ، من بين وسط هذا اللهب المتضرم. فمن عالم الجن العاصف بالشرور المحرقة ، تهب تلك الأنسام الرقيقة المنعشة ، فى صورة جماعة مؤمنة منهم ، لم تكد تستمع إلى آيات اللّه ، يتلوها رسول اللّه فى ليلة من لياليه مع ربه ـ وكل لياليه لربه ، ومع ربه ـ حتى أنصتوا إليه ، وآمنوا به ، ثم انقلبوا إلى قومهم منذرين!
فبين سورة « نوح » وسورة « الجن » مقابلة بين عالمين : عالم الإنس ، وعالم الجن ، وفى عالم الإنس شرّ كان حريّا أن يكون خيرا ، وفى عالم الجن خير ، كان متوقعا أن يكون شرا .. وفى هذا عبرة ، وذكرى لأولى الألباب. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « الجن » من السور المكية الخالصة ، وتسمى بسورة قُلْ أُوحِيَ ... ، وعدد آياتها ثمان وعشرون آية بلا خلاف ، وكان نزولها بعد سورة « الأعراف » وقبل سورة « يس » وقد سبقها في ترتيب النزول ثمان وثلاثون سورة ، إذ هي السورة التاسعة والثلاثون - كما ذكر السيوطي - .
أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة الثانية والسبعون.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 201)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1208)(1/1341)
2 - والمتدبر لهذه السورة الكريمة ، يراها قد أعطتنا صورة واضحة عن عالم الجن ، فهي تحكى أنهم أعجبوا بالقرآن الكريم ، وأن منهم الصالح ومنهم غير الصالح ، وأنهم لا يعلمون الغيب ، وأنهم أهل للثواب والعقاب ، وأنهم لا يملكون النفع لأحد ، وأنهم خاضعون لقضاء اللّه - تعالى - فيهم.
كما أن هذه السورة قد ساقت لنا ألوانا من سنن اللّه التي لا تتخلف ، والتي منها : أن الذين يستقيمون على طريقه يحيون حياة طيبة في الدنيا والآخرة ..
كما أنها لقنت النبي - صلى الله عليه وسلم - الإجابات التي يرد بها على شبهات المشركين وأكاذيبهم ، وساقت له ما يسليه عن سفاهاتهم ، وما يشرح صدره ، ويعينه على تبليغ رسالة ربه ..
ويبدو أن نزول هذه السورة الكريمة كان في حوالى السنة العاشرة ، أو الحادية عشرة ، من البعثة - كما سنرى ذلك من الروايات - ، وأن نزولها كان دفعة واحدة .. (1)
في السورة حكاية لقصة استماع نفر من الجن للقرآن وأثرها ومواعظ ومبادئ قرآنية بمناسبتها. وأسلوب الآيات يدلّ على تساوق فصليها ووحدة نزولها أو نزولهما الواحد بعد الآخر تتابعا. (2)
سورة الجن مكيّة ، وهي ثمان وعشرون آية.
تسميتها : سميت سورة الجن لتعلقها بأحوالهم فإنهم لما سمعوا القرآن ، آمنوا به ، ثم أبانوا علاقتهم بالإنس ، ومحاولتهم استراق السمع ، ورميهم بالشهب المحرقة ، وغير ذلك من حديث الجن العجيب الذين منهم المؤمن ومنهم الكافر ، والجن عالم لا نراه ولا طريق لمعرفة شيء عنه إلا بالوحي الإلهي. ويلاحظ أن تسميات السور تبعث على النظر والتفكير.
مناسبتها لما قبلها :
ترتبط بالسورة بما قبلها من وجهين :
1 - قال اللّه سبحانه في سورة نوح : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً [10 - 11] وقال تعالى في هذه السورة لكفار مكة : وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [16].
2 - ذكر في السورتين شيء يتعلق بالسماء ، كما ذكر فيهما عذاب العصاة ، فقال تعالى في سورة نوح : أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [15] وقال عز وجل هنا : وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 127)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (3 / 7)(1/1342)
... [8] وقال في السورة المتقدمة : مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً .. [25] وقال هنا : وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [23].
ما اشتملت عليه السورة :
هناك موضوعان بارزان في السورة هما : الإخبار عن حقائق تتعلق بالجن ، وتوجيهات للنبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه الدعوة إلى الناس.
افتتحت السورة بالإخبار عن إيمان فريق من الجن بالقرآن العظيم حين سمعوا تلاوته من النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته في منى بعد عودته من الطائف قبيل الإسراء والمعراج : قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ .. [الآيات : 1 - 2] فهو كما قالوا كتاب يهدي إلى الرشد.
ثم أبانت تمجيدهم اللّه عز وجل وإفرادهم له بالعبادة وتنزيههم له عن اتخاذ الصاحبة والولد ، وتسفيههم من جعل للّه ولدا وعلاقة الجن بالإنس : وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا .. [الآيات : 3 - 7].
وأعقبت ذلك بالإخبار عن محاولات الجن استراق السمع من السماء ، للتعرف على خبر العالم العلوي ، ومنعهم منه لإحاطة السماء بالحرس الملائكي ، وإحراقهم بالشهب النارية بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتعجبهم من هذا الحديث السماوي ، وتساؤلهم : هل يراد به تعذيب أهل الأرض : وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ .. [الآيات : 8 - 10].
وصرح الجن بعدئذ بانقسامهم إلى فريقين : مؤمنين وكفار ، مع تبشير المؤمنين بخير الدنيا والآخرة وعزمها ، وإنذار الكافرين المعرضين عن هدي اللّه وكتابه بالعذاب الشديد : وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ .. [الآيات : 11 - 18].
ووصفوا تجمعهم حول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمعوه يتلو القرآن : وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ .. [الآية : 19].
واشتمل القسم الثاني من السورة على توجيهات للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأمره بتبليغ دعوته إلى الناس وإخلاص العمل للّه وكونه لا يشرك بربه أحدا ، وإعلامه بأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، وأنه لا ينجيه أحد من اللّه إن عصاه ، وأنه لا يدري بوقت العذاب : قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً .. [الآيات : 20 - 25].
وختمت السورة ببيان استئثار اللّه واختصاصه بمعرفة علم الغيب ، وإحاطته بجميع ما لدى الخلائق وإحصاء أعدادهم : عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً .. [26 - 28]. (1)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 155) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 92)(1/1343)
وهي مكية باتفاق الجميع ، وعدد آياتها ثمان وعشرون آية. وهي تتضمن حقائق إسلامية نطق بها القرآن على لسان الجن ، مع ذكر توجيهات إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحقائق تتعلق بالرسالة. (1)
وتسمى قل أوحى إليّ وهي مكية بالاتفاق وآيها بلا خلاف ثمان وعشرون آية ووجه اتصالها قال الجلال السيوطي فكرت فيه مدة فلم يظهر لي سوى أنه سبحانه قال في سورة [نوح : 10 ، 11] اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وقال عز وجل في هذه السورة لكفار مكة وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [الجن : 16] وهذا وجه بين في الارتباط انتهى وفي قوله لكفار مكة شيء ستعلمه إن شاء اللّه تعالى ويجوز أن يضم إلى ذلك اشتمال هذه السورة على شيء مما يتعلق بالسماء كالسورة السابقة وذكر العذاب لمن يعصي اللّه عز وجل في قوله سبحانه وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [الجن : 23] فإنه يناسب قوله تعالى أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً [نوح : 25] على وجه وقال أبو حيان في ذلك أنه تعالى لما حكى تمادي قوم نوح في الكفر والعكوف على عبادة الأصنام وكان أول رسول إلى أهل الأرض كما أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - آخر رسول إلى أهل الأرض والعرب الذين هو منهم - صلى الله عليه وسلم - كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء أي أو عينها وكان ما جاء به عليه الصلاة والسلام هاديا إلى الرشد وقد سمعته العرب وتوقف عن الإيمان به أكثرهم أنزل اللّه تعالى سورة الجن وجعلها إثر سورة نوح تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطؤوا عن الإيمان وكانت الجن خيرا منهم إذ أقبل للإيمان من أقبل منهم وهم من غير جنس الرسول عليه الصلاة والسلام حتى كادوا يكونون عليه لبدا ومع ذلك التباطي فهم مكذبون له ولما جاء به حسدا وبغيا أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده (2)
* سورة الجن مكية وهي تعالج أصول العقيدة الإسلامية (الوحدانية ، الرسالة ، البعث والجزاء) ومحور السورة يدور حول الجن ، وما يتعلق بهم من أمور خاصة ، بدءا من استماعهم للقرآن ، إلى دخولهم فى الإيمان ، وقد تناولت السورة بعض الأنباء العجيبة الخاصة بهم ، كاستراقهم للسمع ، ورميهم بالشهب المحرقة ، واطلاعهم على بعض الأسرار الغيبية ، إلى غير ذلك من الأخبار المثيرة .
* ابتدأت السورة الكريمة بالإخبار عن استماع فريق من الجن للقرآن ، وتأثرهم بما فيه من روعة البيان ، حتى آمنوا به فور استماعه ، ودعوا قومهم إلى الإيمان [ قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرانا عجبا . . ] الآيات .
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 757)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 91)(1/1344)
* ثم انتقلت للحديث عن تمجيدهم وتنزيههم لله جل وعلا ، وإفرادهم له بالعبادة ، وتسفيههم لمن جعل لله ولدا [ وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا. . ] الآيات .
* ثم تحدثت السورة عن استراق الجن للسمع ، وإحاطة السماء بالحرس من الملائكة ، وإرسال الشهب على الجن ، بعد بعثة رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، خاتم النبيين ، وتعجبهم من هذا الحدث الغريب [ وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا. . ] الآيات .
* ثم تحدثت السورة عن انقسام الجن إلى فريقين : مؤمنين ، وكافرين ومآل كل من الفريقين [ وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ] .
* ثم انتقلت للحديث عن دعوة رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وعن التفاف الجن حوله حين سمعوه يتلو القرآن [ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربى ولا أشرك به أحدا ] .
* ثم أمرت الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) بأن يعلن استسلامه وخضوعه لله ، ويفرده جل وعلا بإخلاص العمل ، وأن يتبرأ من الحول والطول [ قل إنما أدعو ربى ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ] . " وختمت السورة ببيان اختصاص الله جل وعلا بمعرفة الغيب ، وإحاطته بعلم جميع ما فى الكائنات [ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا. . ] الآيات إلى آخر السورة الكريمة . (1)
مقصودها إظهار الشرف لهذا النبي الكريم الفاتح ( - صلى الله عليه وسلم - ) وعلى أنه وأصحابه وذريته ، أهل بيته حيث لين له قلوب الإنس والجن وغيرهما ، فصار مالكا لقلوب المجانس وغيره ، وذلك لعظمة هذا القرآ ، ولطف ما له من غريب الشأن ، هذا والزمان في آخره وزمان لبثه في قومه دون ربع العشر من زمن نوح عليه السلام أول نبي بعثه الله تعالى إلى المخالفين وما آمن معه من قومه إلا قليل ، وعلى ذلك دلت تسميتها بالجن ويقل أوحي ، وبتأمل الآية المشتملة على ذلك وما فيها من لطيف المسالك ، أعاذنا الله بمنه وكرمه من الوقوع في المهالك (2)
هذه السورة تبده الحس - قبل أن ينظر إلى المعاني والحقائق الواردة فيها - بشيء آخر واضح كل الوضوح فيها .. إنها قطعة موسيقية مطردة الإيقاع ، قوية التنغيم ، ظاهرة الرنين مع صبغة من الحزن في
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 410)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 180)(1/1345)
إيقاعها ، ومسحة من الأسى في تنغيمها ، وطائف من الشجى في رنينها ، يساند هذه الظاهرة ويتناسق معها صور السورة وظلالها ومشاهدها ، ثم روح الإيحاء فيها. وبخاصة في الشطر الأخير منها بعد انتهاء حكاية قول الجن ، والاتجاه بالخطاب إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هذا الخطاب الذي يثير العطف على شخص الرسول في قلب المستمع لهذه السورة ، عطفا مصحوبا بالحب وهو يؤمر أن يعلن تجرده من كل شيء في أمر هذه الدعوة إلا البلاغ ، والرقابة الإلهية المضروبة حوله وهو يقوم بهذا البلاغ : «قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً .. قُلْ : إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً .. قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً .. قُلْ : إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ، عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ، وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» ..
وذلك كله إلى جانب الإيقاع النفسي للحقائق التي وردت في حكاية قول الجن ، وبيانهم الطويل المديد.
وهي حقائق ذات ثقل ووزن في الحس والتصور والاستجابة لها تغشى الحس بحالة من التدبر والتفكير ، تناسب مسحة الحزن ورنة الشجى المتمشية في إيقاع السورة الموسيقي! وقراءة هذه السورة بشيء من الترتيل الهادئ ، توقع في الحس هذا الذي وصفناه من المسحة الغالبة عليها ..
فإذا تجاوزنا هذه الظاهرة التي تبده الحس إلى موضوع السورة ومعانيها واتجاهها فإننا نجدها حافلة بشتى الدلالات والإيحاءات.
إنها ابتداء شهادة من عالم آخر بكثير من قضايا العقيدة التي كان المشركون يجحدونها ويجادلون فيها أشد الجدل ، ويرجمون في أمرها رجما لا يستندون فيه إلى حجة ، ويزعمون أحيانا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يتلقى من الجن ما يقوله لهم عنها! فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئا. والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد - صلى الله عليه وسلم - فهالهم وراعهم ومسهم منه ما يدهش ويذهل ، وملأ نفوسهم وفاض حتى ما يملكون السكوت على ما سمعوا ، ولا الإجمال فيما عرفوا ، ولا الاختصار فيما شعروا. فانطلقوا يحدثون في روعة المأخوذ ، ووهلة المشدوه ، عن هذا الحادث العظيم ، الذي شغل السماء والأرض والإنس والجن والملائكة والكواكب.
وترك آثاره ونتائجه في الكون كله! .. وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشرية حتما.(1/1346)
ثم إنها تصحيح لأوهام كثيرة عن عالم الجن في نفوس المخاطبين ابتداء بهذه السورة ، وفي نفوس الناس جميعا من قبل ومن بعد ووضع حقيقة هذا الخلق المغيب في موضعها بلا غلو ولا اعتساف. فقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعتقدون أن للجن سلطانا في الأرض ، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر ، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض ، فقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه .. ثم بات آمنا! كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتخبر به الكهان فيتنبأون بما يتنبأون. وفيهم من عبد الجن وجعل بينهم وبين اللّه نسبا ، وزعم له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة! والاعتقاد في الجن على هذا النحو أو شبهه كان فاشيا في كل جاهلية ، ولا تزال الأوهام والأساطير من هذا النوع تسود بيئات كثيرة إلى يومنا هذا!!! وبينما كانت الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم وتصوراتهم عن الجن في القديم ، وما تزال ..
نجد في الصف الآخر اليوممنكرين لوجود الجن أصلا ، يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنه حديث خرافة ..
وبين الإغراق في الوهم ، والإغراق في الإنكار ، يقرر الإسلام حقيقة الجن ، ويصحح التصورات العامة عنهم ، ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم :
فالجن لهم حقيقة موجودة فعلا وهم كما يصفون أنفسهم هنا : «وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» .. ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون : «وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً ، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» .. وهم قابلون للهداية من الضلال ، مستعدون لإدراك القرآن سماعا وفهما وتأثرا : «قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا : إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» .. وأنهم قابلون بخلقتهم لتوقيع الجزاء عليهم وتحقيق نتائج الإيمان والكفر فيهم : «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً. وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ ، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ، وَأَمَّا الْقاسِطُونَ ، فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» .. وأنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهم : «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» .. وأنهم لا يعلمون الغيب ، ولم تعد لهم صلة بالسماء : «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً ، وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» .. وأنهم لا صهر بينهم وبين اللّه - سبحانه وتعالى - ولا نسب : «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» ..
وأن الجن لا قوة لهم مع قوة اللّه ولا حيلة : «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً»..(1/1347)
وهذا الذي ذكر في هذه السورة عن الجن بالإضافة إلى ما جاء في القرآن من صفات أخرى كتسخير طائفة من الشياطين لسليمان - وهم من الجن - وأنهم لم يعلموا بموته إلا بعد فترة ، فدل هذا على أنهم لا يعلمون الغيب : «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ » ..
ومثل قوله تعالى عن خصيصة من خصائص إبليس وقبيله - وهو من الجن - غير أنه تمحض للشر والفساد والإغراء : «إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ » .. وما يدل عليه من أن كيان الجن غير مرئي للبشر ، في حين أن كيان الإنس مرئي للجن.
هذا بالإضافة إلى ما قرره في سورة الرحمن عن المادة التي منها كيان الجن والمادة التي منها كيان الإنسان في قوله : «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» .. يعطي صورة عن ذلك الخلق المغيب ، تثبت وجوده ، وتحدد الكثير من خصائصه وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير ، العالقة بالأذهان عن ذلك الخلق ، وتدع تصور المسلم عنه واضحا دقيقا متحررا من الوهم والخرافة ، ومن التعسف في الإنكار الجامح كذلك! وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون. أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقا ، فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار ، بصيغة الجزم والقطع ، والسخرية من الاعتقاد بوجوده ، وتسميته خرافة! ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدا من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم. وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيرا مما يكشف وجوده يوما بعد يوم ، ولم يقل أحد إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام! ألأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدا لا يدعي هذه الدعوى.
فهناك قوى مكنونة تكشف كل يوم وهي كانت مجهولة بالأمس. والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية ، وهم يعلنون في تواضع قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها ، أنهم يقفون على حافة المجهول في هذا الكون ، وأنهم لم يكادوا يبدأون بعد! ألأنهم رأوا كل القوى التي استخدموها ، فلم يروا الجن من بينها؟! ولا هذه. فإنهم يتحدثون عن الكهرب بوصفه حقيقة علمية منذ توصلوا إلى تحطيم الذرة. ولكن أحدا منهم لم ير الكهرب قط. وليس في معاملهم من الأجهزة ما يفرزون به كهربا من هذه الكهارب التي يتحدثون عنها! ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الجن؟ ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمح لإنسان يحترم عقله أن يجزم بشي ء؟ ألأن هذا الخلق المسمى الجن تعلقت به خرافات شتى وأساطير كثيرة؟ إن طريقنا في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم ، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس ، بلا حجة ولا دليل! ومثل هذا الغيب(1/1348)
ينبغي تلقي نبئه من المصدر الوحيد الموثوق بصحته ، وعدم معارضة هذا المصدر بتصورات سابقة لم تستمد منه. فما يقوله هو كلمة الفصل في مثل هذا الموضوع.
والسورة التي بين أيدينا - بالإضافة إلى ما سبق - تساهم مساهمة كبيرة في إنشاء التصور الإسلامي عن حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، ثم عن هذا الكون وخلائقه ، والصلة بين هذه الخلائق المنوعة.
وفي مقالة الجن ما يشهد بوحدانية اللّه ، ونفي الصاحبة والولد ، وإثبات الجزاء في الآخرة وأن أحدا من خلق اللّه لا يعجزه في الأرض ولا يفلت من يديه ويفوته ، فلا يلاقي جزاءه العادل. وتتكرر بعض هذه الحقائق فيما يوجه للرسول - صلى الله عليه وسلم - من الخطاب : «قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً» ... «قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» .. وذلك بعد شهادة الجن بهذه الحقيقة شهادة كاملة صريحة.
كما أن تلك الشهادة تقرر أن الألوهية للّه وحده ، وأن العبودية هي أسمى درجة يرتفع إليها البشر : «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» .. ويؤكد السياق هذه الحقيقة فيما يوجه للرسول - صلى الله عليه وسلم - من خطاب : «قُلْ : إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً» ..
والغيب موكول للّه وحده لا تعرفه الجن : «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» .. ولا تعرفه الرسل إلا ما يطلعهم اللّه عليه منه لحكمة يعلمها : «قُلْ : إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً. عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ...» ..
أما العباد والعبيد في هذا الكون ، فقد علمتنا السورة أن بين بعضها والبعض الآخر مشاركات ومنافذ ، ولو اختلف تكوينها ، كالمشاركات التي بين الجن والإنس ، مما حكته السورة وحكاه القرآن في مواضع أخرى.
فالإنسان ليس بمعزل - حتى في هذه الأرض - عن الخلائق الأخرى. وبينه وبينها اتصال وتفاعل في صورة من الصور. وهذه العزلة التي يحسها الإنسان بجنسه - بله العزلة الفردية أو القبلية أو القومية - لا وجود لها في طبيعة الكون ولا في واقعه. وأحرى بهذا التصور أن يفسح في شعور الإنسان بالكون وما يعمره من أرواح وقوى وأسرار. قد يجهلها الإنسان ، ولكنها موجودة بالفعل من حوله ، فهو ليس الساكن الوحيد لهذا الكون كما يعن له أحيانا أن يشعر!! ثم إن هناك ارتباطا بين استقامة الخلائق على الطريقة ، وتحركات هذا الكون ونتائجها ، وقدر اللّه في العباد : «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ. وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً» .. وهذه الحقيقة تؤلف جانبا من التصور الإسلامي للارتباطات بين الإنسان والكون وقدر اللّه.(1/1349)